الهداية الى بلوغ النهاية

مكي بن أبي طالب

من مقدمة التحقيق

[من مقدمة التحقيق] (*) [ترجمة المؤلف] حياته (1) اسمه ونسبه: هو أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش (2) بن محمد بن مختار القيسي القيرواني القرطبي (3). مولده وأسرته ونشأته: ولد سنة 355 هـ بالقيروان ونشأ بها مثل أترابه على تلقي القرآن الكريم في الكتّاب، واختلف إلى حلقات العلم في المساجد لتلقي علوم العربية والعلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه على علماء عصره، ولا نعرف الكثير عن أسرته وإن كانت ذات مكانة اجتماعية دفعت بولدها لتلقي العلم والرحلة من أجله، ولا نعرف شيئاً عن أبويه ولا عن إخوته، ولا عن أسرته الخاصة إلا ولده محمد الذي ولد سنة 414 هـ وقد بلغ أبوه 59 سنة، وسار الولد على نهج أبيه فتتلمذ عليه، وهذا يعني أن ظروف حياة مكي الأولى في أسرته كانت تعين على الدرس والتأليف والتعليم.

_ (1) راجع ترجمته في: جذوة المقتبس ص 561، الصلة ص 632، بغية الملتمس ص 469، معجم الأدباء19/ 167، ترتيب المدارك 8/ 13، إنباه الرواة 3/ 313، العبر 2/ 273، سير أعلام النبلاء 17/ 59، معرفة القراء الكبار 1/ 394، وفيات الأعيان 5/ 274، الديباج المذهب 2/ 342، غاية النهاية 2/ 9 " 3، النجوم الزاهرة 5/ 41، شجرة النور الزكية ص 107، بغية الوعاة 2/ 298، طبقات المفسرين 2/ 337، شذرات الذهب 3/ 260، مفتاح السعادة 2/ 74. (2) تصغير محمد عند المغاربة. (3) القيسي نسبة إلى قيس عيلان من وائل كانت تقيم في اليمن، وانتشروا في بلاد إفريقيا، والقيرواني لمكان مولده، والقرطبي حيث عاش شطر عمره فيها. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نسخت هذا الجزء من مقدمة التحقيق لفائدته

رحلاته ووفاته

رحلاته ووفاته: تلقى علومه الأولى عن شيوخ وعلماء القيروان، ورحل إلى مصر سنة 368 هـ وعمره 13 سنة ودرس علوم الحساب والآداب مدة ست سنوات، ثم رجع إلى القيروان سنة 374 هـ واستكمل علوم القرآن والقراءة، ثم عاد إلى مصر ثانية سنة 377 هـ، وحج إلى بيت الله الحرام وابتدأ بعلم القراءات سنة 378 هـ إلى سنة 379 هـ، ثم رجع إلى القيروان وحفظ القرآن ورحل إلى مصر ثالثة سنة 382، ثم عاد سنة 383 هـ وأقام مقرئاً ومدرسا وعمره 28 سنة، ثم رجع إلى مكة سنة 387 هـ مقيماَّ إلى سنة 395 هـ سمع خلالها من أكابر علماء مكة، وحج أربع مرات متوالية، ثم عاد إلى بلده القيروان سنة 392 هـ مروراً بمصر. وكانت رحلته إلى الأندلس سنة 399 هـ حيث جلس بمجلس النخيلة إلى أن نقله المظفر عبد الملك إلى جامع الزاهرة، ثم نقله محمد بن هشام إلى المسجد الجامع بقرطبة، أقام في قرطبة شطر حياته إلى أن وافته منيته سنة 437 هـ ودفن بالربض. وهكذا نخلص إلى أن مكياً قضى 11 سنة بالقيروان بعد أول سفرة إلى مصر، و 10 سنوات بمصر، و 4 سنوات في الحجاز، وبقية عمره وهي 44 سنة في قرطبة. صفاته وأخلاقه (1) وعقيدته وفقهه أجمعت كتب التراجم على وصفه بالتواضع والزهد والصلاح وإجابة الدعوة، قال عنه صاحبه أبو عمرو أحمد المقرئ: "كان رحمه الله حسن الفهم والخلق جيد الدين والعقل (2) يقول عنه الذهبي: "كان مع ذلك ديّناَ فَاضلاً تقيا صواما متواضعاً عالماً

_ (1) راجع ترتيب المدارك 4/ 738، الديباج ص 346. (2) الصلة 2/ 597، بغية الوعاة 2/ 298.

قواما مجاب الدعوة، وكانت تحفظ له كرامات وإجابة دعوات (1) ومن الأخلاق التي دعا إليها في حامل القرآن: "الابتعاد عن الرياء والإخلاص لله والتوكل عليه والاستعانة به والرغبة إليه و. . " (2). ويمكن معرفة عقيدته السلفية من تفسيره لآيات الصفات، فهو يجريها على ظواهرها مع اعتقاد حقيقتها دون تعطيل أو تمثيل أو تشبيه بين الله ومخلوقاته فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (3) يقول: وأحسن الأقوال في هذه "علا" والذي يعتقده أهل السنة ويقولونه في هذا أن الله- جل ذكره- فوق سمواته على عرشه دون أرضه، وأنه في كل مكان بعلمه، وله- تعالى ذكره- كرسي وسع السموات والأرض. ومثل ذلك في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (4)، يقول: "ويجب أن نعتقد أن صفات الله جل ذكره بخلاف صفات المخلوقين، فلا نعتقد إلا أن الإتيان والمجيء من الله تبارك وتعالى صفة وصف بها نفسه لا إتيان انتقال وتغير حال تعالى الله عن ذلك" (5) أما مذهبه الفقهي فقد كان مالكياً آخذاً ذلك عن شيخه أبي الحسن القابسي في القيروان وعدّه ابن فرحون من أعيان المذهب المالكي من الطبقة الثامنة (6)، وترجم له القاضي عياض باعتباره من أعلام المذهب المالكي (7)، وفي مؤلفاته كتب ورسائل في الفقه المالكي، لكنه لم يكن فيها ولا في تفسيره الهداية متعصباً لمذهبه.

_ (1) معرفة القراء1/ 316. (2) الرعاية لتجويد القراءة. ص 84. (3) الرحمن آية 4، وراجع تفسيره الآية في سورة الحديد: (ثم استوى على العرش). (4) البقرة آية 208. (5) تفسير الهداية للآية، وراجع تفسير آية الكرسي 254 من البقرة. (6) الديباج المذهب 2/ 342. (7) راجع ترتيب المدارك 3/ 737.

مكانته العلمية

مكانته العلمية: تسنم الإمام مكي مكانة رفيعة بين علماء عصره، وكانت له الدرجة الرفيعة في التفسير والقراءات حتى عرف بصاحب التفسير: "وغلب عليه علم القرآن وكان من الراسخين فيه" (1)، ويصفه الحميدي بالإمامة في القراءات (2)، وذكره ابن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره بالمقرئ (3) ويقول القاضي عياض: "كان مع رسوخه في علم القراءات وتفننه فيه نحويا لغوياً فقيها راوية ... ومقرئا أديبا" (4)، وعدّه مع القاضي عياض اليافعي والسيوطي من رجال اللغة والنحو، ووصفه ابن الأنباري بالشهرة في النحو (5)، وهو عند الحموي والسيوطي: نحوي لغوي مقرئ (6)، ويراه الذهبي شيخ الأندلس ومقرئها وخطيبها ممن رحل إلى مصر وروى القراءات ودخل بها إلى الأندلس (7). وفضلاً عن ذلك فله نشاط في الفقه إذ ألف الهداية في الفقه وله في الحج والفرائض (8)، وله نشاط في علم الكلام والرؤيا (9)، وله حظ في الأدب، ووصل شيء من شعره في الرد على الصوفية (10).

_ (1) راجع طبقات المفسرين 2/ 231. (2) راجع جذوة المقتبس ص 329. (3) راجع التسهيل 1/ 10. (4) ترتيب الندارك 4/ 737. (5) نزهة الألباء ص 254. (6) معجم الأدباء 19/ 167، بغية الوعاة 2/ 298. (7) العبر 3/ 187 (8) راجع إنباه الرواة 3/ 317، معجم الأدباء19/ 168. (9) راجع وفيات الأعيان 5/ 276، هدية العارفين 2/ 471. (10) راجع طبقات المفسرين 2/ 231، وأورد قصيدته القفطي في إنباه الرواة 3/ 319.

شيوخه

شيوخه: درس على عدد كبير من العلماء في موطنه القيروان، ثم في مصر ومكة وقرطبة. من شيوخه في القيروان (1): 1 - أبو الحسن علي بن محمد القابسي، ت 453 هـ، وعنه أخذ الفقه المالكي. 2 - أبو عبد الله محمد بن جعفر القزاز، ت 412 هـ. 3 - أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني الفقيه، ت 386 هـ. ومن شيوخه في مصر (2): 1 - أبو بكر محمد بن علي الأدفوي المصري المقرئ، ت 388 هـ. 2 - عبد المنعم بن عبيد الله بن غلبون الحلبي المقرئ، ت 389 هـ. 3 - عبد العزيز بن علي بن محمد أبو عدي المصري، ت 381 هـ. 4 - أبو الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون، ت 399 هـ. ومن شيوخه بمكة المكرمة (3): أ- أبو بكر أحمد بن إبراهيم الروزي. 2 - أحمد بن فراس العبقسي، ت 456 هـ. 3 - أبو الطاهر محمد بن محمد العجيفي. 4 - أبو القاسم عبيد الله السقطي. 5 - أبو الحسن بن زريق البغدادي.

_ (1) راجع وفيات العيان 3/ 320، بغية الوعاة 1/ 71، الصلة 632. (2) راجع طبقات القراء2/ 198، 1/ 470، 394، 399. (3) راجع الصلة ص 631 - 632، ترتيب المدارك 8/ 13، غاية النهاية 1/ 115.

ومن شيوخه بقرطبة

6 - أبو العباس السوي. 7 - أحمد بن محمد بن زكريا البسري. ومن شيوخه بقرطبة (1)، 1 - عبد الرحمن بن عثمان بن عفان القشيري، ت 395 هـ. 2 - سعيد بن رشق الزاهد ت 415 هـ. 3 - يونس بن عبد الله بن مغيث قائد الجماعة، ت 420 هـ. تلاميذه (2): اجتمع حول الإمام مكي بقرطبة في مسجد النخيلة والزهراء والمسجد الجامع طلاب العلم وحفت المجالس به فانتفع به عدد كبير من الطلاب في فروع العلم المختلفة، وخاصة القراءات والتفسير، وهذه أسماء من ذكروا في كتب التراجم والطبقات، وأهمها كتاب الصلة لابن بشكوال: 1 - إبراهيم بن محمد الأسدي المقرئ، ت 462 هـ. 2 - أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الحق الخزرجي المقرئ، ت 511 هـ. 3 - أحمد بن محمد بن خالد الكلاعي المقرئ، ت 432 هـ. 4 - أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني، ت نحو 558 هـ. 5 - أيمن بن خالد بن أيمن الأنصاري، ت 432 هـ.

_ (1) راجع الصلة ص 305، 215، 684. (2) راجع في أسماء تلامذته بحسب ورودهم: الصلة ص 96، 74، 48، 73، 113، 116، 115، 172، 179، 129، 200 271، 281، 263، 285، 286، 290.540، 343، 368، 360، 363، 445، 423، 421، 438، 463، 548، 538، 546، 541، 564، 554، 555، 552، 614، 580. 670.

6 - بقي بن قاسم بن عبد الرؤوف. 7 - بكر بن عيسى بن سعيد الكندي الزاهد، ت 454 هـ. 8 - جعفر بن محمد بن مكي بن أبي طالب، وهو حفيد مكي، ت 535 هـ. 9 - حازم بن محمد بن حازم المخزومي، ت 496 هـ. 10 - خلف بن عمر بن خلف التجيبي ابن أخي القاضي أبي الوليد الباجي، أبو القاسم، ت 485 هـ، 11 - سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الباجي المالكي الحافظ، أبو الوليد، ت 474 هـ. 12 - عاصم بن أيوب الأديب، ت 494 هـ. 13 - عبد الله بن سعيد بن حكم الزاهد، ت 552 هـ. 14 - عبد الله بن سهل بن يوسف الأنصاري، ت 485 هـ. 15 - عبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي ابن العسال، ت 487 هـ. 16 - عبد الله بن محمد بن سليمان ابن الحاج، ت 419 هـ. 17 - عبد الله بن محمد بن عباس ابن الدباغ، ت 463 هـ. 18 - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن القيسي، ت 436 هـ. 19 - عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الصنهاجي ابن اللبان، ت 480 هـ. 20 - عبد العزيز بن أحمد اليحصبي، ت 450 هـ. 21 - عبد الملك بن زيادة الله بن علي، ت 455 هـ. 22 - عبد الملك بن سراج، ت 489 هـ. 23 - العلاء بن أبي المغيرة الفارسي، ت 454 هـ. 24 - علي بن أحمد بن أبي الفرج الأموي.

25 - علي بن عبد الله الجذامي المقرئ، ت 483 هـ. 26 - عيسى بن خيرة أبو الإصبغ، ت 487 هـ، 27 - عيسى بن سهل الأسدي، أصله من جيان، محدث فقيه قاض، ت 486 هـ. 28 - فرج بن عبد الملك الأنصاري، من جيان، ت 478 هـ. 29 - محمد بن أحمد المعارفي المقرئ، ت 469 هـ. 35 - محمد بن أحمد بن مطرف الكناني المقرئ، ت 454 هـ. 31 - محمد بن جوهر بن محمد بن جوهر، ت 462 هـ. 32 - محمد بن الحبيب بن طاهر الغافقي، ت 459 هـ. 33 - محمد بن شريح الرعيني، من إشبيلية، ت 476 هـ. 34 - محمد بن عيسى بن فرج التجيبي المقرئ، ت 485 هـ. 35 - محمد بن فرج مولى محمد بن يحى البكري، ت 497 هـ. 36 - محمد بن محمد أصبغ الأسدي، ت 477 هـ. 37 - محمد بن محمد بشير المعافري، ت 481 هـ. 38 - محمد بن مكي بن أبي طالب (ابنه)، ت 474 هـ. 39 - معاوية بن محمد بن أحمد العقيلي، ت 469 هـ. 45 - موسى بن سليمان اللخمي، ت 494 هـ. 41 - يحيى بن إبراهيم المقرئ، ت 496 هـ. وهناك عدد آخر ورد ذكرهم في مصادر أخرى (1) وهم:

_ (1) راجع طبقات القراء 1/ 175، ترتيب المدارك 4/ 738، الصلة ص 171، 377، 335،

آثاره ومؤلفاته

الأكري، وحاتم بن محمد الطرابلسي، ت 469 هـ، وخلف بن رزق أبو القاسم الأموي، ت 485 هـ، وعبد الرحمن بن خلف أبو المطرف القرطبي، ت 454 هـ، وعبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، ت 472 هـ، وعبد الرحمن بن محمد بن عتاب، ت 525 هـ، وعبد الله بن سعيد ابن الحكم الأنصاري، ت 485 هـ، وعبد الله بن يوسف الرهوني، ت 435 هـ، ومحمد بن عتاب أبو عبد الله القرطبي، ت 462 هـ، ومحمد بن المفرج بن إبراهيم ت 494 هـ. آثاره ومؤلفاته: كان واسع المعرفة كثير التأليف في العلوم المختلفة لكنه كان متميزاً في التفسير والقراءات في المقام الأول، وقد ذكر عنه ذلك من ترجموا له، فهو المفسر والمقرئ، وله حظ كبير في العلوم الإسلامية الأخرى، وهذه قائمة مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة: المطبوعة: وهي في علوم القرآن القراءات والتفسير: 1 - الإبانة عن معاني القراءات. تحقيق د. محيي الدين رمضان سنة 1979 م. 2 - اختصار الوقف على "كلا وبلى ونعم". تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات سنة 1978 م. 3 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ومعرفة أصوله واختلاف الناس فيه. تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 974 ام. 4 - التبصرة في القراءات. تحقيق د. محيي الدين رمضان سنة 1985 م. 5 - تفسير المشكل من غريب القرآن العظيم. تحقيق د. محيي الدين

_ = فهرس ابن خير الإشبيلي ص 44، الصلة ص 290، 270، ترتيب المدارك 4/ 810، طبقات القراء 2/ 265.

غير المطبوعة

رمضان سنة 1985 م. 6 - تمكين المد في "أتى" و "آمن" و "آدم". تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1984. 7 - الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة. تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1973 م. 8 - شرح "كلا وبلى ونعم" والوقف على كل واحدة منهن في كتاب الله عز وجل. تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1976 م 9 - الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها. تحقيق د. محيي الدين رمضان سنة 1981 م. 10 - مشكل إعراب القرآن. تحقيق د. حاتم صالح الضامن سنة 1973. 11 - الوقف على "كلا وبلى، ونعم". تحقيق د. أحمد حسن فرحات سنة 1978 م. غير المطبوعة في علوم القرآن والتفسير (1): 12 - اتفاق القرّاء جزء. 13 - اختصار أحكام القرآن. أربعة أجزاء. 14 - اختصار الإدغام الكبير على ألف، باء، تاء، ثاء، جزء. 15 - اختصار الألفات. جزء.

_ (1) وردت في المصادر التي ترجمت له ومنها: الصلة 1/ 523، إنباه الرواة 3/ 315 - 318، ترتيب المدارك 4/ 738، طبقات القراء 2/ 310، معجم الأدباء 19/ 169، وفيات الأعيان 5/ 276، نزهة الألباء ص 255، فهرسمة ابن خير ص 41، كشف الظنون 1/ 174، 404، هدية العارفين 2/ 471.

16 - الاختلاف القراء في ياءات الإضافة وفي الزوائد. جزء. 17 - الاختلاف بين أبي عمرو وحمزة. جزء. 18 - الاختلاف بين قالون وابن عامر. جزء. 19 - الاختلاف بين قالون وابن كثير. جزء. 20 - الاختلاف بين قالون وأبي عمرو. جزء. 21 - الاختلاف بين قالون وحمزة. جزء. 22 - الاختلاف بين قالون وعاصم. جزء. 23 - الاختلاف بين قالون والكسائي. جزء. 24 - الاختلاف في الرسم من "هؤلاء" والحجة لكل فريق. جزء. 25 - الاختلاف في عدد الأعشار. جزء. 26 - لاختلاف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) جزء 27 - الإدغام الكبير. جزء. 28 - الاستيفاء في قوله: (خالدين فيها ما دامت. . . إلا ما شاء ربك)، جزء. 29 - إصلاح ما أغفله ابن مسرة في قراءات شاذة. جزء. 30 - الإمالة. جزء. 31 - انتخاب نظم القرآن للجرجاني. أربعة أجزاء. 32 - الانتصاف في الرد على أيي بكر الأدفوي فيما زعم من تغليطه في كتاب " الإمالة" ج 1 - 3 33 - الإيجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه. جزء.

34 - البيان عن وجوه القراءات في كتاب التبصرة. ألفه سنة 424 هـ. 35 - بيان إعجاز القرآن. جزء. 36 - التبيان في اختلاف قالون وورش. جزء. 37 - التذكرة في اختلاف القراء السبعهّ. جزء. 38 - تسمية الأحزاب. 39 - التنبيه على أصول قراءة نافع وذكر الاختلاف عنه. جزآن. 49 - دعاء خاتمة القرآن. 41 - شرح اختلاف العلماء في الوقوف على قوله تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) 42 - شرح الاختلاف في قوله: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) 43 - شرح اختلاف العلماء في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون. . .) 44 - شرح الإدغام الكبير في المخارج. جزء. 45 - شرح الوقف التام. أربعة أجزاء. 46 - شرح رواية الأعشى عن أبي بكر عن عاصم. جزء. 47 - شرح الراءات على قراءة ورش وغيره. جزء. 48 - شرح الفرق لحمزة وهشام. جزء. 49 - شرح قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ. . . فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ. . . ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا. . .) جزء.

50 - شرح قوله تعالى: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، جزء. 51 - شرح قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ. . . وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ. . .) جزء. 52 - شرح قوله تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ. . .)، جزء. 53 - شرح قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. . .) 54 - شرح معنى الوقف على قوله تعالى (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ. . .)، جزء. 55 - شرح وجوه كشف اللبس التي لبس بها الأنطاكي في المد لورش. ثلاثة أجزاء. 56 - علل هجاء المصاحف. جزء. 57 - فرش الحروف المدغمة. جزآن. 58 - الكافي في القراءات. 59 - المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره. عشرة أجزاء. 60 - مشكل غريب القرآن. ثلاثة أجزاء. وقد ألفه بمكة سنة 389 هـ. 61 - مشكل المعاني والتفسير 15 جزءا. 62 - المنتخب في اختصار الحجة للفارسي. 30 جزءا. 63 - منع الوقف على قوله تعالى (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ. . .)، جزء.

في علوم اللغة والأدب

64 - الموجز في القراءات. جزءان، ألفه بقرطبة سنة 394 هـ. 65 - الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره. 70 جزءاً، وهو هذا التفسير. 66 - الهداية في الوقف على كلا. 67 - الياءات المشددة في القرآن الكريم. جزء. في علوم اللغة والأدب: 68 - التذكرة لأصول اللغة العربية ومعرفة العوامل. جزء. 69 - دخول حروف الجر بعضها مكان بعض. جزء 75 - الرياض مجموع. خمسة أجزاء. 71 - اللمع في الإعراب. أربعة أجزاء. 72 - شرح حاجة وحوائج وأصلها. جزء. 73 - شرح العارية والعرية. جزء. 74 - مسائل الأخبار بالذي وبالألف واللام. أربعة أجزاء. 75 - معاني السنين القحطية والأيام. جزء. 76 - منتخب كتاب الإخوان لابن وكيع. جزءان. 77 - المنتقى في الأخبار. أربعة أجزاء. 78 - الوصول إلى تذكرة كتاب الأصول، لابن السراج في النحو. جزء. في العقيدة والفقه وعلم الكلام والوعظ: 79 - اختلاف العلماء في النفس والروح. جزء. 80 - إسلام الصحابة. جزء.

81 - بيان الصغائر والكبائر. جزء. 82 - بيان العمل في الحج من أول الإحرام إلى الزيارة لقبر النبي- صلى الله عليه وسلم -. جزء. 83 - تحميد القراَن وتهليله وتسبيحه. 84 - الترغيب في الصيام. جزء. 85 - الترغيب في النوافل. جزء. 86 - تعدلة التجزئة بين الأئمة في شهر رمضان في قراءة القرآن في الإشفاع. جزء. 87 - تنزيه الملائكة من الذنوب وفضلهم على بني آدم. 88 - التهجد في القرآن. أربعة أجزاء. 89 - الرد على الأئمة فيما يقع في الصلاة من خطأ واللحن في شهر رمضان وغيره. جزء. 90 - شرح إيجاب الجزاء على قاتل الصيد في الحرم خطأ على مذهب مالك والحجة في ذلك. جزء. 91 - فرض الحج على من استطاع إليه سبيلاً. جزء. 92 - ما أغفله القاضي منذر ووهم فيه في كتاب "الأحكام". جزءان. 93 - المبالغة في الذكر. جزء. 94 - المدخل إلى علم الفرائض. جزء. 95 - مسألة الذبيح. جزء. 96 - مناسك الحج. جزء. 97 - منتقى الجوهر في الدعاء. جزء. 98 - الممتع في تعبير الرؤيا.

توثيق نسبة التفسير

99 - الموعظة المنبهة. جزء. 100 - الهداية في الفقه. جزء. 101 - برنامجه الذي جمع فيه مؤلفاته ومروياته يقول: "سمعت على أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز كتاب "الظاء" من تأليفه من ثلاثة أجزاء وسمعت عليه أكثر "الحروف في النحو" من تأليفه ". 102 - فهرسته: وهي جامعة لرحلته، مشتملة على مروياته وتراجم شيوخه وأسماء تآليفه. توثيق نسبة التفسير: يؤكد صحة نسبة التفسير (الهداية) لمكي أمور: 1 - إجماع الصادر التي ترجمت له على نسبة كتاب الهداية إلى مكي، وإن اختلفوا قليلاَ في ذكر عنوان الكتاب إيجازا وتفصيلا، فاقتصر القاضي عياض والسيوطي والداودي وابن مخلوف (1) على اسم (الهداية)، وسماه ابن حزم وياقوت (2): الهداية إلى بلوغ النهاية، وورد مفصلا باسم: (الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأنواع علومه) في المصادر الأخرى عند ابن خير والقفطي واليافعي وابن خلكان وابن العماد وحاجي خليفة (3)، ويرد أحيانا منسوباً لمؤلفه (تفسير مكي) (4). 2 - إحالة مكي نفسه في تفسيره على كتبه الأخرى مثل: الكشف عن وجوه

_ (1) راجع مصادرهم توالياً: ترتيب المدارك 4/ 738، طبقات الداودي 2/ 331، بغية الوعاة 2/ 298، شجرة النور الزكية ص 107. (2) معجم الأدباء19/ 169. (3) راجع مصادرهم توالياً: فهرسة ما رواه ابن خير ص 49، إنباه الرواة 3/ 315، مرآة الجنان 3/ 58، وفيات الأعيان 5/ 275، شذرات الذهب 3/ 261، كشف الظنون 2/ 2041. (4) كشف الظنون 1/ 459.

القراءات في تفسيره لقوله تعالى: (مالك يوم الدين) حيث يشير إلى أنه بيّن وجوه القراءات فيها "فأغناه ذلك عن الكلام فيها في هذا الكتاب" (1)، وكتابه مشكل إعراب القرآن في إعرابه كلمة (غَيْرِ) من سورة الفاتحة قائلا: "وقد شرحت هذا في كتاب مشكل الإعراب بأشبع من هذا" (2)، وكتابه الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه عند بيانه لمعنى النسخ في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) (3). والعكس في إحالته في كتبه الأخرى على تفسيره الهداية حيث يشير في كتابه مشكل إعراب القرآن (4) في سياق إعرابه لقوله تعالى: (علمها عند ربي) (5) إلى تفصيل ذلك في تفسيره، ومثل ذلك إحالته في كتابه الكشف عن وجوه القراءات إلى تفسيره الهداية لقوله تعالى: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) (6). 3 - نَقْلُ كتب التفسير المتأخرة عنه ومنها: المحرر الوجيز لابن عطية والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7)، وخاصة في آرائه واجتهاداته وتوجيهاته. 4 - اتفاق أسلوبه في تفسيره الهداية مع أسلوبه في كتبه الأخرى مثل الكشف والمشكل في عرض الآراء ومناقشتها واختيار الراجح منها.

_ (1) الكشف 1/ 25، وأحال عليه في إعراب كلمة (غَير المغضوب. .) من الفاتحة. (2) مشكل الإعراب 1/ 72. (3) راجع الإيضاح في ناسخ القرآن ص 43، 47. (4) راجع مشكل الإعراب ص 464. (5) راجع تفسيره الهداية للآية 52 من سورة طه. (6) الكشف 1/ 384، والآية 19 من سورة النساء. (7) راجع المحرر الوجيز 1/ 66، 362، ومواضع أخرى، والجامع لأحكام القرآن 1/ 151، 292، ومواضع أخرى.

تاريخ تأليف الهداية

تاريخ تأليف الهداية: لا نجد تاريخاً محدداً وسنهَ بعينها موعدا لتأليف الكتاب، ولكن يستفاد من مقدمته للهداية أنه جمعه في مرحلة شبيبته بين سنة 367 هـ وسنة 392 هـ، يقول في مقدمته: "فما أخرجت هذا الكتاب. . . عملته في صدر العمر وجمام الفهم. ." (1) والأرجح أنه عكف عليه بالتنقيح والتصحيح وأخرجه للناس بعد تحريره في أواخر عمره بعد سنة 424 هـ وذلك بالاعتماد على الإشارة التي وردت في كتابه الكشف الذي ألّفه سنة 424 هـ كما يشير إلى ذلك في مقدمته حيث يقول: "ثم تطاولت الأيام وترادفت الأشغال عن تأليفه وتبيينه ونظمه إلى سنة 424 هـ (2) ... " فإذا كان قد أحال في تفسيره لسورة الفاتحة على كتابه الكشف الذي ألفه سنة 424 هـ فهذا يعني أن كتاب الهداية انتهى من تأليفه بعد هذا التاريخ.

_ (1) راجع مقدمة الهداية صفحة 75. (2) راجع الكشف 1/ 4.

مقدمة المؤلف

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على [محمد وعلى آله وسلم تسليماً] قال أبو محمد مكي بن أبي طالب [القيسي المقرئ]: نحمد الله جل ذكره بجميع محامده، ونثني عليه بتواتر آلائه ونعمه ونشكره على ما خوَّل وفهَّم من المعرفة به، ونرغب إليه في المزيد من مننه مع حسن التوفيق المؤدي إلى رضوانه، ونستهديه طريق الصواب في القول والعمل بمننه ونسأله العصمة من الخطأ، والعفو عن الزلل بفضله. ونصلي على خير خلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى أهله. ونقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، عليه توكلت، وهو حسبي ونعم الوكيل.

قال أبو محمد: هذا كتاب جمعته فيما وصل إلي من علوم كتاب الله [جل ذكره]، واجتهدت في تلخيصه وبيانه واختياره، واختصاره، وتقصيت ذكر ما وصل إلي من مشهور تأويل الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في التفسير دون الشاذ على حسب مقدرتي، وما تذكرته في وقت تأليفي له. وذكرت المأثور من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وجدت إليه سبيلاً من روايتي أو ما صح عندي من رواية غيري، وأضربت عن الأسانيد ليخف حفظه على من أراده. جمعت فيه علوماً كثيرة، وفوائد عظيمة؛ من تفسير مأثور أو معنى مفسر، أو حكم مبين، أو ناسخ، أو منسوخ، أو شرح مشكل، أو بيان غريب، أو إظهار معنى خفي، مع غير ذلك من فنون علوم كتاب الله جل ذكره؛ من قراءة غريبة، أوإعراب غامض، أو اشتقاق مشكل، أو تصريف خفي، أو تعليل نادر، أو تصرف فعل مسموع مع ما يتعلق بذلك من أنواع علوم يكثر تعدادها ويطول ذكرها. جعلته: هداية إلى بلوغ النهاية في كشف علم ما بلغ إلي من علم كتاب الله تعالى ذكره مما وقفت على فهمه ووصل إلي علمه من ألفاظ العلماء، ومذاكرات الفقهاء ومجالس القراء، ورواية الثقات من أهل النقل والروايات، ومباحثات أهل النظر والدراية.

قدمت في أوله نبذاً من علل النحو وغامضاً من الإعراب، ثم خففت ذكر ذلك فيما بعد لئلا يطول الكتاب، ولأنني قد أفردت كتاباً مختصراً في شرح مشكل الإعراب خاصة، ولأن غرضي في هذا الكتاب إنما هو تفسير التلاوة، وبيان القصص والأخبار، وكشف مشكل المعاني، وذكر الاختلاف في ذلك، وتبيين الناسخ والمنسوخ وشرح وذكر الأسباب التي نزلت فيها الآي إن وجدت إلى ذكر ذلك سبيلاً من روايتي، أو ما صح عندي من رواية غيري. وترجمت عن معنى ما أشكل لفظه من أقاويل المتقدمين بلفظي ليقرب ذلك إلى فهم دارسيه، وربما ذكرت ألفاظهم بعينها ما لم يشكل/. وسميت هذا الكتاب: "الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه". أعني بقولي: بلوغ النهاية: أي إلى ما وصل إلي من ذلك لأن علم كتاب الله لا يقدر أحد أن يبلغ إلى نهايته إذ فوق كل ذي علم عليم.

جمعت أكثر هذا الكتاب من كتاب شيخنا أبي بكر الأدفوي رحمه الله وهو الكتاب المسمى بكتاب (الاستغناء) المشتمل على نحو ثلاثمائة جزء في علوم القرآن. اقتضيت في هذا الكتاب نوادره وغرائبه ومكنون علومه مع ما أضفت إلى ذلك من الكتاب الجامع في تفسير القرآن، تأليف أبي جعفر الطبري وما تخيرته من كتب أبي جعفر النحاس، وكتاب أبي إسحاق الزجاج، وتفسير ابن عباس، وابن/ سلام.

ومن كتاب الفراء، ومن غير ذلك من الكتب في علوم القرآن والتفسير والمعاني والغرائب والمشكل. انتخبته من نحو ألف جزء أو أكثر مؤلفة من علوم القرآن مشهورة مروية. أسأل الله ذا الفضل والمن ألا يحرمنا أجره، وأن يبارك لنا في ذكره، وأن ينفع به، إنه ولي ذلك والقادر عليه لا إله إلا هو. فواجب على كل ذي دين ومروءة كَتَب كتابنا هذا أو قرأه أن يغمض عن زلل كاتب أو وهم ناسخ إن وجده فيه، ويشكر الله على ما يستفيده منه ويسمح في وهم أو غلط إن وقع منا فيه، فالعصمة لا يدعيها أحد بعد الأنبياء صلوات الله عليهم. أسأل الله التوفيق لما يُزلف لديه ويقرب منه، وأرغب إليه جل ذكره أن يجعله [لوجهه خالصا] (7)، وأن يغفر لمن ترحم علينا ودعا لنا بالمغفرة. فما أخرجت/ هذا الكتاب وبذلته للناس بعد أن كنت عملته في صدر العمر وجمام الفهم لنفسي خاصة ولمذاكرتي مفرداً، إلا طمعاً أن يترحم علينا مع طول الزمان مترحم، أو يستغفر لنا من أجله مستغفر، أو يذكرنا بالخير عليه ذاكر، مع ما

[نرجو من ثواب الله]، عليه في انتفاع دارسيه واكتفائهم به عن سائر كتب المفسرين، وأهل المعاني، وسائر أكثر علوم كتاب الله تعالى.

الفاتحة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفاتحة تفسير سورة الحمد سورة الحمد مكية في قول ابن عباس. وقيل: بل هي مدنية. وهو قول مجاهد. واستدل من قال: إنها مكية، أن بمكة فرضت الصلوات بإجماع، ومحال أن تفرض الصلوات، ولا ينزل ما هو تمامها وبه قوامها. وهي سورة الحمد، لقول النبي [- عليه السلام -] من الخبر الثابت: "كُل صَلاةٍ لا يُقرَأُ فِيهَا بِأُمّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ". قالها ثلاثاً. والخَدْج النقص.

فغير جائز أن تفرض علينا الصلوات، ولا ينزل ما يزيل عنها النقص. ويدل على ذلك أيضاً ما ذكر أهل التاريخ في حديث طويل لخديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ورقة بن نوفل أن جبريل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما خاطبه بالوحي: "قل: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال له: قل: الحمد لله رب العالمين، حتى انتهى إلى آخرها، ثم قال له: قل آمين. فقالها النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا يدل على نزولها بمكة. وهو قول سعيد بن جبير أيضاً وعطاء.

وقال مجاهد: "نزلت الحمد بالمدينة"، وقال: "لما نزلت رن إبليس اللعين". يريد رن من عظيم ثوابها وجلالة قدر ما خص الله به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من إنزالها على نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف عن ابن/ عبالس في نزولها؛ فروي عنه بالمدينة، وروي عنه بمكة. وحديث ورقة يدل على أنها أول ما نزل من القرآن. وأكثر المفسرين على أن أول ما نزل من القرآن: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى قوله تعالى: (مَا لَمْ يَعْلَمْ). وقيل: أول ما نزل المدثر، والله أعلم بأي ذلك كان. وسورة الحمد تسمى فاتحة الكتاب لأن بها تستفتح الصلاة، وتستفتح المصاحف، وبها يستفتح المبتدئ بعد ختمه القرآن. وتسمى أيضاً أم القرآن لأنها ابتداء القرآن، وأم كل شيء ابتداؤه وأصله.

ولذلك قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. وقيل: إنما سميت الحمد أم القرآن لتضمنها معاني القرآن مجملاً، لأن فيها الثناء على الله جل ذكر، والإقرار له بالربوبية وذكر يوم القيامة، والإقرار له بالعبادة، وأن المعونة من عنده، والقدرة له. وفيها الدعاء والرغبة إليه في الهداية إلى الإسلام والثبات عليه. وفيها ذكر النبيين الذين أنعم الله عليهم بالهداية والإسلام. وفيها ذكر من غضب الله عليهم -وهم اليهود-، وذكر من ضل عن الدين وهم النصارى، وفيها من مفهوم الإشارة إلى أمور/ الديانة والقدرة والتذلل والخضوع لله والتسليم لأمره، والرجوع إليه ما يكثر ذكره ويطول شرحه. وكتاب الله كله إنما نزل، في هذه المعاني التي ذكرنا أنها موجودة في الحمد. لكن ذلك في الحمد مشار إليه مجمل يفهمه من وفقه الله وشرح له / صدره، وهو كله مشروح مبين مكرر مبسوط في سائر القرآن، فالحمد لله أصل مجمل وباقي القرآن مفسر لما أجمل في الحمد، فهي على هذا المعنى أم القرآن، أي أصله. / وتسمى الحمد السبع المثاني، وهو مروي عن النبي [- عليه السلام -].

ومعناه السبع الآيات من المثاني أي من القرآن. والمثاني هو القرآن؛ يسمى بذلك، لأن القصص تثنى فيه وتكرر للإفهام وتسمى الحمد أيضاً السبع المثاني؛ سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، أي تعاد. وقال ابن جبير عن ابن عباس: "إنما سميت الحمد السبع المثاني [لأن الله] استثناها لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يعطها أحد قبل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وقد قيل: إن "مِنْ" زائدة، في القول الأول فيكون معناه كمعنى هذا القول. وعن النبي [- عليه السلام -] أنه قال لأُبَيِّ بن كعب: إنَّها السَّبْعُ المَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ". فهي على هذا الحديث السبع المثاني وهي القرآن العظيم، أي هي أصله على ما ذكرنا.

وروي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم قسموا فصول القرآن إلى خمسة فصول: الأول: السبع الطوال. والثاني: المئين. والثالث: المثاني. والرابع: آل حميم. والخامس: المفصل. وتفسير ذلك أن السبع الطوال من البقرة إلى براءة، كانوا يرون براءة والأنفال سورة [واحدة، لأنهما نزلتا في مغازي] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لم يفصل بينهما في المصاحف بـ "بسم الله الرحمن الرحيم". والسور التي تقرب من الطوال تسمى المئين؛ وهي من يونس فما بعدها مما هو مائة آية فأكثر، وما يقرب من المائة. والذي يلي المئين من السور/ يسمى المثاني، سميت بذلك لأنها ثانية للمئين. فكان المئين مبادئ وما يليها مثاني.

وقولهم: "آل حاميم": يروى أن: حاميم اسم من أسماء الله جل ذكره أضيفت [إليه هذه السور]، فكأنه في المعنى سور لله تعالى ذكره وهي ديباج القرآن. وسمي ما بعد ذلك مفصلاً لكثرة فصوله بـ "بسم الله الرحمان الرحيم". وليست "بسم الله الرحمن الرحيم" بآية من الحمد عند أهل المدينة، وأهل العراق. ويدل على ذلك من الخبر الثابت الذي لا مدفع لأحد فيه أن أنساً قال:

"صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وخلف عمر، فكلهم يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين". ومن الخبر الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأنساً قالا: "كان النبي [- عليه السلام -] يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين". وزاد فيه أنس: - "وأبو بكر وعمر وعثمان"، يعني في خلافتهم. وقال جبير عن أنس: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فما

سمعت أحداً منهم يقرأ في صلاته (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ". وجاء من الخبر الثابت الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأيي بن كعب: "لأعلِمَنَّك سُورَةً [ما أُنْزِلَ] فِي التَّوْرَاةِ ولا فِي الإنْجِيلِ وَلاَفي الزَبُورِ مثْلُهَا. فلمَّا دَنَا النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الخْروجِ مِنَ المَسْجِدِ: قالَ لَهُ أبَيٌّ: يَا رَسُولَ الله [السُّورَةُ] (3) التي تُعَلِمُنِي؟. قالَ: كَيْفَ تَقْرأ أمَّ الكتابِ؟ قلتُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتِّى خَتَمْتُها، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: هيَ هَذه، وَهيَ السَّبع المَثَاني وَالْقرْآنُ الْعَظيمُ الَّذِي أوتيتُ". ويدل على ذلك أيضاً ما لا مدفع في حد فيه أن أهل المدينة بأسرهم/ نقلوا عن آبائهم التابعين عن الصحابة المرضيين استفتاح الصلاة بالحمد رب العالمين دون تسمية؛ نقل كافة عن كافة لا يجوز عليهم الخطأ فيما نقلوه ولا التواطؤ على الكذب فيما رووه واستعملوه. ويدل على ذلك أيضاً من الخبر الصحيح ما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بيْنِي وَبَينَ عَبْدِي شَطرَيْنِ ولعَبْدِي مَا سَأَل". فَإذا قالَ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .. الحديث" فلو كانت (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية من الحمد لابتدأ بها. وفي قوله: "قَسَمْتُ" وعَدُّه لآياتها ولم يذكرها دليل واضح على أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ليست منها. ويدل على ذلك أيضاً من طريق النظر الذي لا مدفع لأحد فيه أن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد، إنما يثبت بالإجماع، أو ربما يقطع على مغيبه من أخبار التواتر. ولا إجماع نعلمه ولا تواتر نعقله في أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية من الحمد، وإذا لم يصح/ إجماع ولا ثبت تواتر في أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) آية من الحمد لم

1

ذلك، إذ فيما ذكرناه كفاية لمن أنصف. قال أبو محمد: نذكر في هذا الموضع جملة من علل النحويين في {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ}، ونستقصي إن شاء الله ذلك في سورة النمل إذ هي بعض آية هناك بإجماع. فمن ذلك أن في كسر الباء قولين: - أحدهما: إنها كسرت لتكون حركتها مشبهة لعملها. القول الثاني: إنها كسرت ليفرق بين ما لا يكون إلا " [حرفاً وبين ما] قد يكون اسماً نحو الكاف، وكذلك لام الجر. وأصل الحروف التي تدخل للمعاني أن تكون مفتوحة لخفة الفتحة نحو حروف العطف وألف الاستفهام وشبهه. ولكن خرجت الباء واللام عن الأصل للعلة التي ذكرنا.

وقيل: إنما كسرت لام الجر للفرق بينها، وبين لام التأكيد في قولك: " إن هذا لزيد " إذا أردت أن المشار إليه هو زيد، وإذا أردت أن المشار إليه في ملك زيد كسرت اللام. ويدل على أن أصلها الفتح أنها تفتح مع المضمر إذ قد أمن اللبس لأن علامة المجرور خلاف علامة المرفوع. تقول: " هذا له وهذا لك "، وأيضاً فإن الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها. هذا أصل مجمع عليه في كلام العرب، وسترى منه أشياء فيما بعد إن شاء الله. ومن ذلك أن " اسما " فيه أربع لغات: " اسم " بكسر الألف وبضمها، و " سِم " بضم السين وبكسرها. فَمن ضَم الألف في الابتداء جعله من " سما يسمو " إذ ارتفع " كدعا يدعو ". ومَن كسرها جعله من [سَميَ يَسْمَى] " كرَضِيَ يَرْضَى ".

قال ابن كيسان: " يقال: " سموت وسميت كعلوت وعليت، وأصله سُمْوٌ أو سِمْوٌ على [وزن] فُعْلٌ أو فِعْلٌ، ثم حذفت الواو استخفافاً لكثرة الاستعمال. فلما تغير آخره غير أوله بالسكون، فاحتيج إلى ألف وصل ليوصل بها إلى النطق بالساكن وهو السين المغيرة إلى السكون ". واختلف في كسرة الألف المجتلبة. فقيل: اجتلبت ساكنة وبعدها ساكن فكسرت لالتقاء الساكنين. وقيل: بل اجتلبت مكسورة، وإنما ضمت إذا كان الثالث من الفعل مضموماً لاستثقال الخروج من كسر إلى ضم /، وضمت الألف إذا كان الثالث من الفعل مضموماً ليخرج الناطق من ضم إلى ضم، نحو: " أُقْتل، أُخْرج "، فذلك أسهل من الخروج من كسر إلى ضم.

وقيل: بل أصلها السكون لكن لا بد من حركتها إذ لا يبدأ بساكن فأتبعت ثالث الفعل، فكسرت إذا كان الثالث مكسوراً نحو " إضرب ". وضمت إذا كان الثالث مضموماً نحو " أُقْتُل ". ولم تفتح إذا كان الثالث مفتوحاً لئلا تشبه ألف المتكلم فكسرت، وكان الكسر أولى بها / والثالث مفتوح لأن الخفض والنصب أخوان، وذلك نحو: " اصنع ". و" اسم " عند البصريين مشتق من السمو؛ يدل على ذلك قولهم في التصغير " سمي ". فرجعت اللام المحذوفة إلى أصلها، ورجعت السين إلى حركتها لأن التصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. وقال الكوفيون: " هو مشتق من السمة وهي العلامة لأن صاحبه يعرف به، وليس يسمو به، كما ذكر البصريون أن اشتقاقه من السمو وهو العلو ". قال أبو محمد: وقول الكوفيين قول يساعده المعنى ويبطله التصريف

لأنهم يلزمهم أن يقولوا في التصغير " وُسَيْمٌ "، لأن فاء الفعل واو محذوفة فيجب ردها في التصغير، وذلك لا يقوله أحد. وقد شرحنا هذه المسألة بأشبع من هذا في غير هذا الكتاب. والباء من {بِسمِ الله} متعلقة بمحذوف. ذلك المحذوف خبر ابتداء مضمر قامت الباء وما اتصل بها مقامه، فهي وما بعدها في موضع رفع إذ سدت مسد الخبر للابتداء المحذوف، تقديره: " ابتدائي ثابت بسم الله " أو " مستقر بسم الله "، ثم حذف الخبر وقامت الباء وما بعدها مقامه، وهذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: " الباء متعلقة بفعل محذوف، وهي ما بعدها في موضع نصب بذلك الفعل "، تقديره عندهم: " ابتدأت بسم الله ". والاسم هو المسمى عند أهل السنة. قال أبو عبيدة: " معنى باسم الله:

بالله ". وقال: " اسم الشيء هو الشيء ". ودل على ذلك قوله: " {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} [الأعلى: 1] أي سبح ربك، أي نزه ربك. واختلف النحويون في علة حذف الألف من الخط في {بِسمِ الله}؛ فقال الكسائي والفراء: " حذفت لكثرة الاستعمال ". وقال الأخفش " حذفت لعدمها من اللفظ. ويلزمه ذلك في كل ألف وصل لأنها معدومة أبداً في اللفظ في الوصل، لكنه قال: " مع كثرة الاستعمال بجعل حذفها لاجتماع العلتين ".

وقيل [بل] حذفت لأن الباء دخلت على سين مكسورة أو مضمومة. حكى ابن زيد أنه يقال: " سِمٌ " و " سُمٌ "، ثم أسكنت السين إذ ليس في الكلام فعل على مذهب من ضم السين وأسكنت على مذهب مَن كسر السين استخفافاً. وقيل: حذفت الألف للزوم الباء هذا الاسم في الابتداء، فإن كتبت " بسم الرحمن " أو " بسم الخالق " و {اقرأ باسم رَبِّكَ} [العلق: 1]، فالأخفش والكسائي يكتبان هذا وما أشبهه بغير ألف " كبسم الله ". والفراء يكتبه بألف إذ لم يكثر استعماله، ككثرة استعمال " بسم الله ". ولا يحسن الحذف للألف من الخط عند جميعهم إلا مع الباء. لو قلت: " لاسم الله حلاوة " أو قلت: " ليس اسم كاسم الله "، لم يجز حذف الألف مع غير الباء من حروف الجر،

إلا على قول مَن قال: " سِمٌ " أو " سُمٌ " فأما مَن قال " اسم " بألف في الابتداء بكسر الألف أو بضمها فلا يجوز حذف الألف من الخط مع غير الباء عند أحد من النحويين إذ لم يكثر استعماله. والحمد لله معناه الثناء الكامل. والشكر الشامل لله يكون لأفعاله الحسنة وفضائله الكاملة، والحمد أعم من الشكر وأمدح. ورفعه بالابتداء، " وَلِلَّهِ " في موضع الخبر تقديره: " الحمد ثابت لله " أو " مستقر لله ". فاللام متعلقة بهذا المحذوف الذي قامت اللام وما بعدها مقامه. والنصب جائز في الحمد في الكلام على المصدر، لكن الرفع فيه أعم لأن معناه إذا رفعتَه جميع " الحمد مني ومن جميع الخلق لله " وإذا نصبت فمعناه: " أحمد الله حمداً "، فإنما هو حمد منك لله لا غير. فالرفع يدل على أن الحمد منك ومن غيرك لله، فهو أعم وأكمل، فلذلك أجمع القراء على رفعه في جميع ما وقع في القرآن من لفظ {الحمد للَّهِ}، إذ لم يكن قبله عامل فإذا كان " الحمد " مبتدأ، و " لله " خبر، وهو في اللفظ بمنزلة قولك: " المال لزيد " في حكم الإعراب، وليس مثله في المعنى لأنك إذا قلت: " الحمد لله " أخبرت بهذا، وأنت معتمد أن تكون حامداً لله داخلاً في جملة الحامدين طالباً للأجر على قولك، مقراً إذا رفعته أن جميع الحمد منك ومن غيرك لله

متقرباً بذلك إلى الله، متعرضاً لعفوه مظهراً ما في قلبك بلسانك، شاهداً بذلك لله. ولست تخبر أحداً بشيء يجهله، فأنت غير مخبر على الحقيقة بشيء استقر علمه عندك، وليس ذلك العلم عند غيرك. وإذا قلت: " المال لزيد "، فأنت مخبر بما استقر علمه عندك مما ليس علمه عند غيرك. فاعرف الفرق بينهما. فأما علة حذف الألف الثانية من " الله " في الخط ففيها أيضاً اختلاف. قال قطرب: " حذف استخفافاً إذ كان طرحها من الخط لا يلبس. وقيل: إنما حذفت الألف على لغة مَن يقول قال: " الله بغير مد، كقول الشاعر: أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الله. ... وقيل: حذفت الثانية لأن الأولى تكتفي عنها، وتدل عليها. وقيل: إنما حذفت لئلا يشبه خط " اللات " في قول من وقف عليه بالهاء.

فأما حذف ألف {الرحمن} من الخط فلكثرة الاستعمال والاستخفاف، ولأن المعنى لا يشكل بغيره. وقدم {الرحمن} على {الرَّحِيمِ} لأن " الرحمن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك. وقيل: الرحيم، ولم يقل: الراحم، لأن فعيلا فيه مبالغة أيضاً تقارب مبالغة الرحمن، فقرن بالرحمن دون الراحم إذ الراحم لا مبالغة في بنيته لأنه يوصف بالراحم مَن رحم مرة في عمره، ولا يوصف بالرحيم إلا مَن تكررت منه الرحمة. وقيل: إنما قدم الرحمن على الرحيم لأن النبي عليه السلام كان يكتب في كتبه " باسمك اللهم " حتى نزل: {بِسْمِ الله مجراها} [هود: 41] فكتب {بِسمِ الله}، حتى نزل: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110]، فكتب {بِسمِ الله}، فسبق نزول الرحمن. ثم نزل: {وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30]. فكتب ذلك على ترتيب ما أنزل عليه A.

وقال ابن مسعود " كنا نكتب زماناً باسمك اللهم " حتى نزلت: {أَوِ ادعوا الرحمن}، فكتبنا " بسم الله الرحمن " فلما نزلت " التي في النمل كتبناها ". ومعنى {الرحمن}: الرفيق بخلقه، ومعنى: {الرَّحِيمِ} العاطف على خلقه بالرزق وغيره. وقيل: إنما جيء بالرحيم ليعلم الخلق أن {الرحمن الرَّحِيمِ} على اجتماعهما لم يتسم بهما غير الله جل ذكره، لأن الرحمن على انفراده قد تسمى به مسيلمة الكذاب لعنه الله، و {الرَّحِيمِ} على انفراده قد يوصف به المخلوق. فكرر الرحيم بعد الرحمن، وهما صفتان لله أو اسمان، ليعلم الخلق ما انفرد به الله تعالى ذكره من

2

اجتماعهما له، وما ادعى بعضه بعض خلقه. وهذا القول هو معنى قول عطاء لأنه قال: " لما اختُزِلَ الرحمن من أسمائه - أي تسمى به غيره -، صار لله الرحمن الرحيم ". والألف واللام في {الرَّحِيمِ} للتعريف، وإنما اختيرا للتعريف، لأن الهمزة تختل بالتسهيل والحذف والبدل وبإلقاء حركتها على ما قبلها، واللام تدغم في أكثر الحروف وكلاهما من الحروف الزوائد. في وصل {الرَّحِيمِ} بـ {الحمد}، عند النحويين ثلاثة أوجه: - أحدهما: أن تقول " الرَّحِيْمِ. الحَمْدُ لله " فتكسر الميم وتقف عليها وتقطع ألف الحمد. وهذا مستعمل عند القراء حسن، وهو مروي عن النبي

A روته أم سلمة. - والثاني: أن تقول: " الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لله "، فَتَصِل الألف وتعرب الرحيم بحقه من الإعراب فتكون الكسرة خفضاً، وإن شئت قدرت أنك وقفت على الرحيم بالإسكان، ثم وصلت فكسرت الميم لسكونها وسكون لام الحمد بعدها، ولا يعتد بألف الوصل لسقوطها في درج الكلام. وهذان الوجهان حسنان مستعملان في القراءة. - والوجه الثالث: حكاه الكسائي سماعاً من العرب، أن تقول: " الرَّحِيمَِ الحَمْدُ " فتح الميم ووصل الألف وذلك أنك تقدر أنك أسكنت الميم للوقف عليها وقطعت ألف الحمد للابتداء بها، ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفتها فانفتحت الميم. ولا يقرأ بهذا. وقد ذكر الفراء هذا التقدير في قوله تعالى: {الم * الله} [آل عمران: 1 - 2] وذكره غيره.

وستراه إن شاء الله ومثله قياس وصل " نَسْتَعِينُ " بِ " اهْدِنَا ". والألف الأول من اسم " الله " تحذف من الخط مع اللام، تقول: " لله الحجة، ولله الأمر "، فإن قلت: " بالله أتق "، و " ليس كالله أحد "؛ لم يجز حذف الألف من الخط، وعلة حذفها من الخط مع اللام، دون سائر حروف الجر، أنَّ اللام مع الألف يصيران حرفاً واحداً في رأي العين. والألف مع اللام الثانية بمنزلة " قَدْ " لأنهما زيدا معاً للتعريف لا يفترقان. فلو أثبتت الألف مع اللام الأولى، كنت قد فصلتها مع اللام الأولى من اللام الثانية. وقيل: إنما حذفت الألف من الخط مع اللام، لئلا تصير " لا " فتشبه النفي. فإن كانت الألف مقطوعة لم تحذف الألف مع اللام، ولا مع غيرها من حروف الجر في الخط نحو قولك: " لألواحك حُسْنٌ، ولألواحِك بياض "، وإنما ذلك، لأن الألف في هذا ليست مع اللام للتعريف إذ اللام أصلية فجاز انفصالها من اللام الثانية مع اللام الأولى.

قوله: {رَبِّ العالمين}. الرب المالك. فمعناه: مالك العالمين. وقيل: الرب السيد. وقيل: المصلح، يقال: " رَبَّه يَرُبُّه رَبّاً " إذا أصلحه. ويقال على التكثير: رَبَّتَهُ وِرَِبَّاهُ ورَبَّبَهُ. فالذين يقولون: " رَبَّتَه " بالتاء، أصله عندهم رَبَّبَهُ ثم أبدلوا من الباء الثالثة " ياء "، كما يقال، تقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ " ثم أبدلوا من الياء تاء. كما أبدلوا من الواو تاء في " تُراتٍ "، و " تُجاهٍ " و " تولج " وأصله " وولج " على " فوعل، من " ولجت ". وبدل التاء من الياء قليل شاذ، وهو في الواو كثير. و {العالمين} جمع عالم. والعالم هو جميع الخلق الموجود في كل زمان. وروى

3

عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه في قول الله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}. قال: " العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي الأرض الأربع، في كل ناحية أربعة آلاف ملك وخمسمائة ملك مع كل ملك منهم عدد الجن والإنس، فبهم يدفع الله العذاب عن أهل الأرض ". قد تقدم الكلام عليه في التسمية. وإنما كرر، وقد تقدم ذكره في التسمية، لأن الأول ليس بآية من الحمد، وهذا آية، فلذلك وقع التكرير في آيتين متجاورتين. وهذا مما يدل على أن {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} ليس بآية من الحمد، إذ لو كانت آية كما يقول المخالف لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين متكررتين بمعنى، وهذا لا يوجد في كتاب الله جل ذكره إلا بفصول تفصل بين الأولى والثانية، أو بكلام يعترض بين الأولى والثانية. - فإن قيل: قد فصل في هذا بـ {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}. - فالجواب إن " الرحمن الرحيم " في الحمد مؤخر يراد به التقديم، وإنما تقديره: "

4

الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين "، فلا فاصل بين " الرحمن الرحيم " الأول والثاني. فإن كان ذلك كذلك، دل على أن التسمية ليست بآية من الحمد إذ لا نظير لها في كتاب الله جل ذكره، وإنما حكمنا على أن المراد " " بالرحمن الرحيم " في " الحمد " التقديم، لأن قوله: {مالك يَوْمِ الدين} مثل قوله: {رَبِّ العالمين} في المعنى، لأن معناه أنه إخبار من الله أنه يملك يوم الدين، و {رَبِّ العالمين} هو إخبار من الله أنه يملك العالمين فاتصال الملك بالملك أولى في الحكمة ومجاورة صفته بالرحمة صفته بالحمد والثناء أولى. فكل واحد مرتبط إلى نظيره في المعنى فدل على أن {الرحمن الرحيم} في " الحمد لله " متصل به، يراد به التقديم. و {مالك يَوْمِ الدين} متصل بِ {رَبِّ العالمين} إذ هو نظيره في المعنى، وذلك أبلغ في الحكمة. والتقديم والتأخير كثير في القرآن. الدين الجزاء في هذا الموضع. وقد يكون الدين التوحيد، نحو قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19]. ويكون الدين الحكم، نحو قوله: {رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2] أي في حكمه. ويكون

الدين الإسلام نحو قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33]، و {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19]. وقال مجاهد، " الدين الحساب "، كما قال: {غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86]. أي غير محاسبين. ويكون الدين العادة، ولم يقع في القرآن. وقد روى الزهري أن النبي A قرأ (مالك) بألف. وأبو بكر، وعمر، وعثمان، كذلك قرأوها وبذلك قرأ علي، وابن مسعود، وأُبي، ومعاذ بن جبل وطلحة، والزبير.

5

وبذلك قرأ عاصم والكسائي. وقد بَيَّنا كشف وجوه القراءات في كتاب: " الكشف عن وجوه القراءات "، فأغنانا ذلك عن الكلام فيها في هذا الكتاب. فأما من قرأ، {مالك يَوْمِ الدين}، فهم الأكثر من القراء وشاهده إجماعهم على {مَلِكِ الناس} [الناس: 2] بغير ألف. اختلف النحويون في " إياك وإياه وإياي "؛ فللبصريين فيها قولان: - أحدهما: أن " إيا " اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف. ولا يعرف في كلام العرب اسم مضمر مضاف إلى ما بعده غير هذا. وحكى الخليل عن العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ". فأضاف " إيا " إلى الشواب للبيان.

- والقول الثاني: مروي عن المبرد قال: " إن " إيا " اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، ولا يعرف في كلام العرب اسم مبهم أضيف إلى ما بعده غير هذا ". وللكوفيين في هذا أيضاً ثلاثة أقوال. - حكى ابن كيسان وغيره. عنهم أن " إياك " بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، فتقول: " إياه وإياك وإياي ". - والقول الثاني: إن الكاف والهاء والياء، هن الاسم المضمر في " إياك وإياه وإياي "، لكنه اسم لا يقوم بنفسه ولا ينفرد ولا يكون إلا متصلاً بما قبله من الأفعال، فلما تقدم على الفعل لم يقم بنفسه فجعل " إيا " عماداً له ليتصل به، ولو أخرت لا تصل المضمر بالفعل واستغنيت عن " إيا " فقلت: " نعبده "

و " نعبدك ". وهو اختيار ابن كيسان. - والقول الثالث: حكاه أيضاً ابن كيسان؛ وهو أن " إيا " اسم مبهم يكنى به عن المنصوب وزيدت إليه الكاف والهاء والياء في: إياك وإياه وإياي ". " ليعلم المخاطب من الغائب من المُخْبِر عن نفسه ولا موضع للكاف والهاء والياء من الإعراب، فهي كالكاف في " ذلك " وأرأيتك زيداً ما صنع ". ذكر معنى جميع ذلك ابن كيسان في كتابه في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه. والعبادة في اللغة التذلل بالطاعة والخضوع. فمعنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: نذل لك ونخضع بالعبادة لك ونستعين بك على ذلك. وإنما قدم {نَعْبُدُ} على {نَسْتَعِينُ} وقد علم أن الاستعانة قبل العبادة، والعمل لا يقوم إلا بعون الله، لأن العبادة لا سبيل إليها إلا بالمعونة، والمعان على العبادة لا يكون إلا عابداً. فكل واحد مرتبط بالآخر: لا عمل إلا بمعونة ولا معونة إلا تتبعها عبادة، فلم يكن أحدهما أولى بالتقديم من الآخر، وأيضاً فإن الواو لا توجب ترتيباً عند أكثر النحويين. وأما علة تكرير {إِيَّاكَ} فمن أجل اختلاف الفعلين إذ أحدهما عبادة والآخر

استعانة. وقيل: كرر للتأكيد كما تقول: " المال بين زيد وعمرو، بين زيد وبين عمرو "، فتعيد " بين " للتأكيد. قوله: {نَسْتَعِينُ}. أصله " نَسْتَعْوِنُ " على وزن " نَسْتَفْعِلُ " من العون. والمصدر منه استعانة، وأصله استعواناً، فقلبت حركة الواو على العين، فلما انفتح ما قبل الواو - وهي في نية حركة - انقلبت ألفاً، فالتقى ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. فقيل: المحذوفة الثانية لأنها زائدة، والأولى أصلية. وقيل: بل المحذوفة الأولى لأن الثانية تدل على معنى ولزمته الهاء عوضاً من الألف المحذوفة. والنون الأولى في {نَسْتَعِينُ} يجوز فيها الكسر لغة مشهورة وكذلك التاء والهمزة في قولك: " أنْتَ تَسْتَعِين وأنا أسْتَعينُ ". وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو مما يأتي من الثلاثي على " فَعِلَ، يَفْعَلُ " بفتح العين في المستقبل،

6

وكسرها في الماضي نحو: " أنت تعلم وأنا أعلم ". معناه ثبتنا، لأنهم كانوا مهتدين، وإنما هو رغبة إلى الله أن يثبتنا على ذلك حتى يأتي الموت ونحن عليه. وقيل: معناه ألهمنا الثبات على الصراط المستقيم، وهو دين الإسلام، وهو مروي عن ابن عباس. و" هَدَى " يكون بمعنى: " أَرْشَد "، نحو قوله: {واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} [ص: 22]، أي أرشدنا. ويكون بمعنى " بَيَّنَ " كقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]، أي بينّا لهم الصواب من الخطأ، فاستحبوا الخطأ. ويكون بمعنى " أَلْهَمَ " كقوله: {ثُمَّ هدى} [طه: 50]، أي ألهم الذَّكَر من الحيوان إلى إتيان الأنثى.

وقيل: معناه ألهم المصلحة ويكون هدى بمعنى " وَفَّقَ " كما قال " {لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] أي لا يوفقهم. والصراط المستقيم كتاب الله. وهو مروي عن النبي [عليه السلام]. وقال ابن عباس: " هو الطريق إلى الله D ". وعن جماعة من الصحابة أنه الإسلام. وقال جابر بن عبد الله: " هو الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض ". وعن أبي العالية أنه: " رسول الله A وصاحباه ابو بكر

وعمر ". وهو قول الحسن. وأصله الطريق الواضح. وقال ابن الحنفية: " هو دين الله تعالى ". وسمي مستقيماً لأنه لا عوج فيه ولا خطأ. وقيل: سمي بذلك لاستقامته بأهله إلى الجنة. وأصل {المستقيم}: " الْمُسْتَقْوِم "، فألقيت حركة الواو على القاف وبقيت الواو ساكنة فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. كما قالوا ميزان، وهو من الوزن. وأصله " مِوْزَان "، ثم قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وكذلك يقلبون الياء واواً

7

إذا انضم ما قبلها نحو " مُوقِنٍ " و " موسِرٍ " لأنه من اليقين واليسار. قوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. صراط بدل من الأول. والذين أنعم عليهم هم الأنبياء صلوات الله عليهم والصدِّيقون والصالحون بدلالة قوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69]. وقيل: هم أصحاب النبي [عليه السلام]، قاله الحسن. وقيل: هم المؤمنون من بني إسرائيل الذين لم يغيروا ولا بدلوا، بدليل قوله: {يابني إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]. فلذلك قال هنا: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. وقيل: هم المسلمون. وقال أبو العالية: " هم محمد [عليه السلام] وأبو بكر وعمر ".

وقال قتادة: " هم الأنبياء خاصة ". وقال ابن عباس: " هم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا ". وهذا دعاء أمر الله D رسول الله A والمؤمنين أن يدعوا به وألا يكونوا مثل المغضوب عليهم - وهم اليهود -، ولا مثل الضالين - وهم النصارى -، ولا على صراطهم. ودخلت " لا " في قوله: {وَلاَ الضآلين} لئلا يتوهم أن {الضآلين} عطف على {الذين} في قوله: {صِرَاطَ الذين}. فبدخول " لا " امتنع أن يتوهم متوهم ذلك إذ لا تقع " لا " إلا بعد نفي أو ما هو في معنى النفي. وقيل: " لا " زائدة. وقيل: هي تأكيد بمعنى: " غير ".

ولم يجمع {المغضوب}، لأنه في معنى الذين غضب عليهم / فلا ضمير فيه إذ لا يتعدى إلا بحرف جر. فلو قدرت فيه ضميراً، كنت قد عديته إلى مفعولين أحدهما بحرف جر / وهذا ليس يحسن فيه. إنما تقول: " غضبت على زيد " و " غضب على زيد ". فالمخفوض يقوم مقام الفاعل. وكذلك {عَلَيْهِم} في موضع رفع يقوم مقام المفعول الذي لم يسم فاعله. والهاء والميم يعودان على الألف واللام. والغضب من الله البعد من رحمته. والضلال الحيرة. " و {غَيْرِ المغضوب} " خفض على النعت " للذين " من قوله {صِرَاطَ الذين}، وحَسَنٌ ذلك لأنه شائع لا يراد به جمع بعينه فصار كالنكرة، فجاز نعته " بغير "، و " غير " نكرة وإن أضيفت إلى معرفة. ويجوز أن تخفض " غير " على البدل من [الذين. وقد قرئ] بالنصب على الحال أو على الاستثناء، وقد شرحت هذا في كتاب: " مشكل الإعراب " بأشبع من هذا. ويقول المأموم إذا سمع {وَلاَ الضآلين}: آمين. ويقولها وحده. واختلف في قول الإمام إياها عن مالك.

و (آمين)، قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: هو دعاء بمعنى: " اللَّهم استجب ". وقال ابن عباس والحسن: " معنى " آمين ": كذلك يكون ". وهي تمد وتقصر لغتان. والمؤمن داع. فقد قال الله لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. وموسى كان هو الداعي، وهارون يؤمن، والمؤمن إذا قال: " اللهم استجب " فهو داع بالإجابة، وهو مبني لوقوعه موقع الدعاء / وبني على حركة لالتقاء الساكنين وكان / الفتح أولى به لأن قبل آخره ياء. وروى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام] قال: " إِذَا قَالَ الإمَامُ {غَيْرِ

المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين}، فَقُولُوا: آمينَ، فإنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ "، أي من وافقه في الإجابة.

البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البقرة مدنية روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُعْطيتُ البَقَرَةَ مِنَ الذِكْرِ الأَوَّلِ وأعْطِيْتُ طَهَ وَالطَوَاسِينَ من ألْوَاحِ مُوسى. وأعْطِيْتُ فَاتِحَةَ الكِتَاب وَخَواتيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، وأُعْطِيْتُ المُفَصَّلَ نَافِلَةً ". وروي عنه أنه قال: "تَجيءُ الْبقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنهما غَمَامَتَانِ أوْ غَيَايَتَانِ ". والغياية والغمامة واحد. فبهذا الحديث وأمثاله، استجاز الناس أن يقولوا: سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا. وهذا إضافة لفظ، لا إضافة ملك، ولا إضافة نوع إلى جنسه، وهو بمنزلة قولك. "باب الدار وسرج الدابة" ومثله قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ). فأضاف القول إليه لأنه هو ينزل به، وهو جبريل - عليه السلام -. وهذا من اتساع لغة العرب.

وروى أبو هريرة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لِكُل شَيْءٍ سَنام، وسَنَامُ الْقرآنِ سُورةُ الْبقَرَةِ، فيهَا آية سَيِّدَةٌ آي القُرْآنِ/ لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فيهِ شَيْطَان إِلا خَرَجَ مِنْهُ وهي آيَةُ الكُرْسِي ". ومعنى سيدة آي القُرآن، عظيمة آي القرآن. وكل آي القرآن عظيم جليل، لا يفضل بعضه بعضاً لكن يعطي الله من الأجر والثواب على بعض ما لا يعطي على بعض، يفعل ما يشاء. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلا: "مَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ؟ فَقالَ: سُوْرَةُ الْبَقَرَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: وأَي الخَيْرِ أَبْقَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ؟ " وقال الحسن: قال رسول الله [- عليه السلام -]: أيُّ الْقُرآنِ أعْظَمُ؟ قَالُوا: اللهُ ورَسولُهُ اعْلَمُ/ قَالَ: سُورَةُ البَقَرةِ. قَالَ فَأَيُّهَا أعْظَمُ؟، قَالُوا: اللهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: آيةُ الْكُرْسي ".

1

واختلف العلماء في معاني أوائل السور: فعن ابن عباس أقوال، منها: أنه قال: " الاما؛ أنا الله أعلم، الارا؛ أنا الله أرى ". فالألف: يؤدي عن " أنا "، واللام: يؤدي عن اسم الله. والميم: تؤدي عن " أعلم "، والراء: يؤدي عن " أرى ". وعنه [أن] أوائل السور مأخوذة من أسماء الله. فيقول في {كهيعص} [مريم: 1]: " إن الكاف: من كاف، والهاء: من هاد ". وعنه أيضاً " أنها أقسام، أقسم الله بها، وهي من أسماء الله جل ذكره ". وقد قال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من العلماء. وروى عنه عطاء أنه قال في {الم}: " الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد A " [ وكذلك] روى الضحاك عنه.

وقال قتادة: " الم، اسم من أسماء القرآن ". وروي مثله عن مجاهد. وعن مجاهد أيضاً أنه قال: " هي فواتح السور ". وقال أبو عبيدة والأخفش: " هي افتتاح كلام ". وقال زيد بن أسلم: " هي أسماء السور ". وروى ابن جبير عن ابن عباس: " {كهيعص} [مريم: 1]: كبير، هاد، عزيز، صادق ". وقال محمد بن كعب: {حم* عسق}: الحاء والميم: من الرحمان، والعين: من العليم، والسين: من القدوس، والقاف: من القهار ". / وقال في {المص}: " الألف واللام: الله، والصاد: من الصمد ". وقال بعض أهل النظر: " هي تنبيه ".

وقال قطرب في معناها: " كان المشركون ينفرون عند قراءة القرآن. فلما سمعوا " {الم} و {المص} وقفوا ليفهموا ما هو وأنصتوا، فاتصلت تلاوة القرآن بها / فسمعوه، وثبتت عليهم الحجة، وجحدوا بعد سماع ما هو حجة عليهم. وهذه حكمة بالغة من الله، والله أعلم بذلك ". وعن قطرب أيضاً أنه قال: " هي حروف ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة ". وقال أبو العالية: " هي الحروف من التسعة وعشرين حرفاً دارت بها الألسن كلها، ليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه ونعمائه، وليس منها (حرف) إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. الألف: مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح / اسمه: لطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد. الألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والميم: مجده. الألف: سنة، واللام: ثلاثون سنة، والميم: أربعون سنة ".

وقال جماعة: " هي مما لا يعلمه إلا الله، ولله في [كل كتاب] سر، وهذه الحروف سره في كتابه ". وقيل: هي اسم الله الأعظم. رواه السدي عن ابن عباس. ويروى أن اليهود لما سمعت / {الم}، قالوا: " الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، وهي مدة ملك محمد. أفتدخلون في دين، إنما مدة ملكه إحدى وسبعون سنة. فلما سمعوا {المص} [الأعراف: 1] قالوا: هذا أثقل وأطول؛ الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون والصاد ستون فذلك إحدى وثلاثون ومائة سنة، فلما سمعوا {الر} [يونس: 1] و {المر} [الرعد: 1] و {حم* عسق} [الشورى: 1 - 2]، قالوا: قد لبس علينا الأمر، فما

ندري ما يقيم ملكه. فأنزل الله D: { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]. فهذا الذي اشتبه عليهم في هذا التأويل والله أعلم. وهذه الحروف تسمى حروف المعجم، وإنما سميت بذلك لأنها مبينة للكلام فاشتق لها هذا الاسم من قولهم: " أعجَمْتُ الِكتَابَ " إذا بَيَّنْتَهُ. وقيل: إنما اشتق لها هذا من قولهم: " عَجَمْتُ الْعُودَ " إذا عَضَضْتَهُ لِتَخْتَبِرَهُ. فيكون " المعجم " من هذا أتى على توهم زيادة الهمزة، كما أتى " لواقع " على توهم حذف الهمزة من " ألْقَحْتُ "، وكان الأصل " ملاقح ". كذلك كان الأصل " المعجوم "، إذا جعلته من " عَجَمْت ". وقد قالوا: / " مسعود "، على تقدير حذف الهمزة من " أسعده الله "، وقرئ: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} [هود: 108]- بضم السين - على ذلك التقدير. فكذلك المعجم من " عجمت " على تقدير حذف الهمزة من " أعجمت "، فيكون معناه حروف الاختبار، وهي موقوفة مبنية على السكون أبداً، إلا أن تخبر عن شيء منها، أو تعطف بعضها على بعض، فتعربها، تقول: هذه جاء وياء ". وهي تؤنث وتذكر.

2

قوله D: { ذَلِكَ الكتاب}. أكثر أهل التفسير على أن " ذلك " بمعنى " هذا ". كما تقول للرجل وهو يحدثك: " ذلك، والله الحق "، أي هذا والله الحق. قال الله جل ذكره: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]. أي هذا ما كنت منه تحيد. وقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، أي هذه عشرة كاملة. وقال: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196]. أي هذا الحكم لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقال: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ} [ص: 64] أي إن هذا وهو كثير في كلام العرب والقرآن. وقيل: إن {ذلك} / على بابها للإشارة إلى شيء / معلوم. واختلف في ذلك المشار إليه. ما هو؟ فقيل: إن {ذلك} إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل سورة البقرة.

وقال الكسائي: " {ذلك} إشارة إلى الرسالة والقرآن وعمّا في السماء ". وقيل: إشارة إلى اللوح المحفوظ. وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: " {ذلك}: إشارة إلى التوراة والإنجيل ". وقيل: {ذلك}: إشارة إلى ما وعد به النبي A من أنه سينزل عليه كتاب فوقعت الإشارة على ما تقدم من الوعد. وجيء باللام في {ذلك} للتأكيد في بعد الإشارة. وقال الكسائي: " جيء بها لئلا يتوهم أن {ذلك} مضاف إلى الكاف ". وقيل: جيء بها عوضاً عن المحذوف من " ذا "، لأن أصل " ذا " أن يكون على ثلاثة أحرف، لأن أقل الأسماء ما يأتي على ثلاثة أحرف. وقال علي بن سليمان: " جيء باللام لتدل على شدة التراخي، وكسرت لئلا تشبه لام الملك. وقيل: كسرت لأنها بدل من همزة مكسورة لأن أصل " ذا " " ذاء " على ثلاثة

أحرف بهمزة مكسورة، ومن العرب من يقول في " ذلك " " ذاءك " بالهمز حكاه الفراء وغيره، قال: " وإنما أبدلوا من الهمزة لاماً لأن " ذاء " خرج عن لفظ المضاف، وليس بمضاف، واللام من أدوات المضاف، فأبدلوا من الهمزة لاماً وكسرت لأن الهمزة كانت مكسورة لالتقاء الساكنين ". كان أصل ذا / أن يكون بألفين ليكون على ثلاثة أحرف إذ هي أقل أصول الأسماء فأبدلت الألف الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون الألف قبلها. وقد قال الكسائي: " إنما أبدلوا من الهمزة لاماً لئلا تشبه المضاف " وقيل: إنما كسرت اللام لالتقاء الساكنين لأنها اجتلبت ساكنة، وقبلها الألف من " ذا " ساكنة، وكسرت اللام لالتقاء الساكنين. والاسم من " ذلك "، ذا وقيل: الاسم الذال، وزيدت الألف للتقوية.

ولا موضع للكاف من الإعراب، إنما هي للخطاب، ولو كان لها موضع من الإعراب لكانت في موضع خفض بالإضافة على ظاهر اللفظ. و" ذا " لا يضاف في شيء من كلام العرب، لأنه معرفة، ولأن اللام تفصل بينهما، ولأن المعنى على غير معنى الإضافة. والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الخيل المجتمعة، يقال: " تَكتَّب القَوْمُ " إذا اجتمعوا. فسمي المكتوب كتاباً لاجتماع بعض الحروف إلى بعض. ومنه قول العرب: " كُتِبَتْ القِرْبَة " إذا جُمِعَتْ خُرَزاً إلى خُرَز، وكَتَبْتُ البَغلَةَ " إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَيْهَا بِحَلْقَة. قوله D: { لاَ رَيْبَ فِيهِ}. / الهاء تعود على (الكتاب) /. وقيل على {ذلك}. وقيل: على {الم} على أن تكون {الم} إسماً من أسماء القرآن.

وقيل: هي راجعة على {هُدًى} مقدمة عليه، يراد به التقديم. أي ذلك الكتاب هدى لا ريب فيه، أي في الهدى. ورجوعها على {الكتاب} أبينها. والكتاب القرآن هو نفي عام نفى الله جل ذكره / أن يكون فيه شك عند من وفقه الله، وقد ارتاب فيه من خذله الله ولم يوفقه، ولذلك قال: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23]. معناه: وإن كنتم على زعمكم في شك من ذلك فأتوا ببرهان على ذلك، فقد أتيناكم بما لا ريب فيه لمن وفق. والريب مصدر " رَابَني الأَمْرُ رَيْباً ". وحكى المبرد: " رَابَني الشيء تبينت فيه الريبة، وأَرَابَنِي إذا لم أتبينها فيه ". وحكى غيره: " أَرَابَ الرجل في نفسه، ورَابَ غيره ". وقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}. الهدى الرشد والبيان.

3

والتقى: اسم جامع لكل خصلة محمودة العاقبة، ومن اتقى الشرك فهو من المتقين، وهو أعظم التقى، وأصله من التَّوقّي وهو التستر، فكأن التقي يستر على جميع ما يذم عليه. وقد فسرنا إعراب هذا وما شابهه في كتاب " تفسير مشكل الإعراب "، فأخلينا هذا الكتاب من بسط الإعراب لئلا يطول إلا أن يقع نادر من الإعراب فنذكره على شرطنا المتقدم. فاعلم ذلك. وقوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} الآية. " الذين ": اسم مبهم ناقص لا بد له من صلة وعائد، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف، ولأنه بعض اسم، فإن ثَنَّيْتَهُ أَعْربتَه، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف إذ الحروف لا تثنى. فإن قيل: فأعربه في الجمع إذ الحروف لا تجمع. فالجواب: إن الجمع مشبه بالواحد، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد، فجرى مجرى الواحد في البناء، والتثنية لا تختلف

أبنيتها، ولا يقع إعرابها في آخرها، فخالفت الواحد والجمع فأعربت، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب. ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ الحروف لا تجمع، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض. فلما دخلته الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين، وكتب " الذي " بلام واحدة، وأصلها لامان، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال. وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة / المتقدمة الذكر، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء إلا على نظام واحد. فلما جرت على أصلها، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط. وأصل الإيمان: التصديق، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه، فالله جل ذكره مؤمن، ولا يقال: بكذا، والعبد مؤمن بكذا. وقد قيل: إن المؤمن مأخوذ من الأمان، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب الله بإيمانه. والله مُؤَمِّن: أي: يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه. والهمز في " يؤمن " الأصل، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن

فصيح. والغيب: كل ما استتر عنك. وهو في هذه الآية البعث، والحساب، والجنة، والنار، وشبهه. قاله سفيان وغيره. وقيل: معنى {بالغيب}: بالقدر. وقال عطاء: " {بالغيب}: بالله جل ذكره ". وقيل: بالقرآن. وقال بعض المتصوفة: " الغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لأن المنافق يؤمن بلسانه لا بقلبه ". فالإيمان الصحيح / النافع ما اعتقده القلب. وقال بعض العلماء: {يُؤْمِنُونَ بالغيب}، أي: يؤمنون إذا غابوا عن الناس، كما يؤمنون إذا حضروا، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة، ويكفر بالغيب. وقوله: {وَيُقِيمُونَ الصلاة}.

معناه يديمون أداءها / بفروضها في أوقاتها. وقال الضحاك: " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها ". وأصل " يُقيمُونَ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها. / كما قالوا: ميزانٌ وميعادٌ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها. والعرب تسمي الشيء باسم [ما لابَسَه وقاربه]. والصلاة من الله: الرحمة لعباده، ومن الملائكة. والأنبياء: الدعاء، وكذلك هي من الناس. وروى أبو هريرة أن النبي [ A] قال: " إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وإنْ كَانَ صَائِمَاً فَلْيُصَلِّ " أي: فليدع.

وقال الأعشى لابنته لما دعت له في قولها: . . . . . . . . . . . . ... " يا ربِّ جَنِّب أَبي الأوصَابَ والْوَجَعَا. عليك مثل / الذي صليت فاغتمضي ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً. أي: دعوت. وقيل: إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف، ينحنيان في الصلاة. / وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها، لأن أصل الألف الواو، وأصلها صلوة. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت في اللفظ ألفاً؛ دليله قولهم في الجمع: " صَلَواتٌ ". وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا: إن أصل " ماء ": مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو، والهمزة بدل من الهاء. ودل على ذلك قولهم في الجمع: أمْوَاءٌ، فرد إلى أصله. وقيل: إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو.

والقول الأول والآخر، به يعلل ما كتبوه من " الزكوة " و " الحيوة " وشبهه بالواو، فأعلمه. وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم، بدلالة قوله بعد ذلك: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} يريد من آمن من اليهود والنصارى. وقيل: [بل الأربع] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وقيل: بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام. إذ لم يؤمن [أحد به] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي A والكتاب. واختار الطبري القول الأول. وقال مجاهد: " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و [ثلاث عشر] آية بعد ذلك في المنافقين ". وقوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}. معناه: يتصدقون ويزكون.

وقيل: " هي نفقة الرجل على عياله ". قاله السدي. وأصل " ما " في قوله: {وَممَّا} أن تكتب منفصلة، لأنها بمعنى " الذي ". والهاء محذوفة من {رَزَقْنَاهُمْ}، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه. فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم. فإن كانت " ما " بغير معنى " الذي "، وإنما هي صلة، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171]، {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الحج: 49] وشبهه. وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط، وهي بمعنى " الذي "، وأصلها الانفصال، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد، وذلك نحو " مما " و " عما ". وأيضاً فإنه / لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار بالمجرور مع كثرة الاستعمال. وقيل: إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ / لم يثبت في الخط في مواضع وثبت في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ. واعلم أن " كل ما "، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى "، وصلتها مع " ما "، فإن

4

كانت على غير ذلك فصلتها من " كل "، تقول: " كلما جاءني زيد أكرمني. أي " إذا جاءني زيد "، فتصل " ما " " بكل ". وتقول " يسرني كل ما يسرك " فتفصل " ما " من " كل " لأنها بمعنى " الذي ". وقد كتبت " بِئْسَما " و " نِعِمّا " مَوْصُولةَ وأصلها أن تفصل " ما " مما قبلها في الخط لأن " ما " اسم، وليست بصلة / وكذلك وصلت " حينئِذٍ " و " يؤمَئِِذٍ ". وأصل " إذا " الانفصال مما قبلها، لكن وصلت لكثرة الاستعمال والاختصار والإيجاز. وقوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي: بالقرآن. {وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ}. أي: بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وبجميع ما أنزله الله على أنبيائه. وقوله: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}. أي: بالبعث والحشر والجنة والنار يصدقون. وسميت الآخرة آخرة لأنها بعد الأولى وهي الدنيا. وقيل: سميت بذلك لتأخرها عن الناس.

5

وقوله: {يُوقِنُونَ} أي: يصدقون بالبعث / والحشر والجنة والنار. وقوله: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أي على هداية ورشد وبيان. قال محمد بن إسحاق: " على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم ". و" أولاء " جمع " ذا " المبهم من غير لفظه، وهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين. وعلة بنائه مشابهته للحروف، وإنما شابه الحروف لمخالفته لجميع الأسماء إذ لا يستقر على مسمى، فلما خالف جميع الأسماء والحروف أيضاً مخالفة لجميع الأسماء إذ لا تفيد معنى في نفسها، إنما تفيده في غيرها، والأسماء تفيد المعاني بأنفسها، فاتفقا في مخالفة الأسماء فبنيت هذه الأسماء لذلك. وحق البناء السكون، لكن اجتمع في آخر " أولاء " ألفان فأبدل من الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون ما قبلها والكاف لا موضع لها، إنما هي للمخاطب ككاف " ذلك ". وقوله: {هُمُ المفلحون}. {هُمُ}: مبتدأ و {المفلحون}: الخبر، والجملة: خبر عن {أولئك} ويجوز أن تكون {هُمُ}: فاصلة لا موضع لها من الإعراب وهي وأخواتها يدخلن فواصل

بين الابتداء والخبر دخل عليه عامل أم لم يدخل، ولا تكون إلا إذا كان الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة، فإن كان الخبر نكرة أو فعلاً أو جملة لم تكن إلا مبتدأة. فهذا أصل الفاصلة فاعرفه، وهي تكون فاصلة على أحد ثلاثة أوجه: - إما أن تكون فصلاً بين المعرفة والنكرة، فيكون دخولها يدل على أن الخبر معرفة أو ما قرب من المعرفة. - والثاني: أن تدخل فصلاً بين النعت والخبر، فدخولها فاصلة يدل على أن ما بعدها خبر لما قبلها، وليس بنعت لما / قبلها، فإذا قلت: " إن زيداً هو الظريف " علم بدخول " هو " أن " الظريف " خبر، وليس بنعت لزيد. - والثالث: أن تدل بدخولها مع " كان "، على أن " كان " هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر، وليست بـ " كان " التامة التي لا تحتاج إلى خبر، ولا تكون الفاصلة إلا وهي الأولى. في المعنى تقول: " كان زيد هو العاقل ". " فهو ": هو / زيد في المعنى، ولو قلت: " كان زيد أنت الضارب إياه "، لم تكن " أنت " فاصلة، لأنها ليست هي الأولى في المعنى، ولا تكون هنا إلا مبتدأة.

6

وأصل الفلاح البقاء في الخير، فالمعنى: وأولئك هم الباقون في النعيم المقيم، والمؤمن مفلح لبقائه في الجنة، ثم اتسع فيه، فقيل لكل من قال خيراً: مفلح. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ}. هذه الآية نزلت في قوم سبق في علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون، فأعلم الله نبيه A أن الإنذار لا ينفعهم لما سبق لهم في علمه، وَثَمَّ كفار أُخَر نفعهم الإنذار فآمنوا لما سبق لهم في علم الله سبحانه من الإيمان به، فالآية عامة في ظاهر اللفظ يراد به الخصوص، فهي في من تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن خاصة، ومثله {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]. وذلك أن رسول الله A كان حريصاً على إيمان جميع الخلق، فأعلمه الله D في هذه الآية أن من سبق له في علم الله [سبحانه الكفر والثبات عليه] إلى الموت لا يؤمن ولا ينفعه الإنذار، وأن الإنذار وتركه سواء عليه. وهذا مما يدل على ثبات

القدر بخلاف ما تقوله المعتزلة. وقيل: نزل ذلك في قادة الأحزاب، وهم الذين نزل فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين / بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] الآية. وهم الذين قتلوا يوم بدر، قال ذلك الربيع بن أنس. وقال ابن عباس: " نزلت في اليهود الذين جحدوا بمحمد A استكباراً وحسداً مع معرفتهم أنه نبي A ". وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مع أصحابهما من رؤساء اليهود الذين دخلوا على النبي [عليه السلام] وسألوه عن {الم * ذَلِكَ الكتاب} ". وقيل: هي عامة في كل كافر تقدم له في علم الله أنه لا يؤمن. وأصل الكفر التغطية. ومنه قيل لِلّيل: كافر، لأنه يستر بظلمته ما فيه.

ويقال للزراع: كفّار، لأنهم يسترون الحب في الأرض، ومنه قوله {يُعْجِبُ الزراع} {الفتح: 29]. ومنه قولهم: " كَفّارَةُ اليمين ". لأنها تستر الإثم عن الحالف، ومنه سمي الكافر لأنه يستر الإيمان بجحوده. ومعنى لفظ الاستفهام في / {ءَأَنذَرْتَهُمْ} للتسوية، وهو في المعنى خبر، لكن التسوية تجري في اللفظ مجرى لفظ الاستفهام، والمعنى [على الخبر]، تقول: " سواء عليَّ أقمت أم قعدت. وإنما صار لفظ التسوية مثل لفظ الاستفهام للمضارعة التي بينهما، وذلك أنك إذا قلت: " قد علمت أزيد في الدار أم عمرو "، فقد سويت علم المخاطب فيهما، فلا يدري أيهما في الدار، وقد اسْتَوَى علمك في ذلك، وتدري

أحدهما في الدار ولا تدريه بعينه. فهذا تسوية. وتقول في الاستفهام: " أزيد في الدار أم عمرو؟ "، فأنت لا تدري أيهما في الدار، وقد استوى علمك في ذلك وتدري أن أحدهما في الدار، ولا تدري عينه منهما، فقد صار الاستفهام كالتسوية في عواقب الأمور، غير أن التسوية إبهام على المخاطب وعلم يقين عند المتكلم، والاستفهام إبهام على المتكلم. ويجوز أن يكون المخاطب مثل المتكلم في ذلك، ويجوز أن يكون عنده يقين ما سئل عنه. فاعرف الفرق بينهما. وقوله: {ءَأَنذَرْتَهُمْ}، فيه عشرة أوجه. - الأول: تحقيق الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف. وهي لغة قريش وكنانة، وهي قراءة ورش عن نافع وابن كثير.

- والثاني تحقيق الأولى وبدل الثانية بألف، وهو مروي عن ورش وفيه ضعف. - والثالث: تحقيق الهمزيين وهي قراءة أهل الكوفة، وابن ذكوان عن ابن عامر. - والرابع: حذف الهمزة الأولى وتحقيق الثانية. وهو مروي عن الزهري، وهي قراءة ابن محيصن، وذلك لأن " أم " تدل على الألف المحذوفة.

- والخامس: تحقيقهما جميعاً وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ ابن أبي إسحاق. - والسادس: تحقيق الأولى، وتخفيف الثانية بين الهمزة والألف، وإدخال ألف بينهما. وبذلك قرأ أبو عمرو، وقالون، وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وهشام بن عمار عن ابن عامر.

- والسابع: ذكره أبو حاتم قال: " يجوز أن تدخل بينهما أيضاً، وتحذف الثانية "، فيصير لفظ هذا الوجه كلفظ الوجه الثاني المذكور. - والثامن: ذكره الأخفش قال: " يجوز أن تخفف الأولى منهما وتحقق الثانية "، ولم يقرأ بهذا أحد، وهو بعيد ضعيف لأن الاستثقال لا يقع في أول الكلام، ولأن الهمزة المخففة بين بين، لا يبتدأ بها إلا أن تريد أن تصل الهمزة بما قبلها وتلقي حركتها على الميم الساكنة قبلها، فهو قياس، وليس عليه عمل. - والتاسع: ذكره أبو حاتم أيضاً قال: " يجوز أن تخفف الهمزتين ". وهو بعيد، ولم يقرأ به أحد، وله قياس إذا وصلت كلامك، فتلقي / حركة الأولى على الميم الساكنة قبلها، وتخفف الثانية بين بين، وهو بعيد جداً. - والعاشر: ذكره الأخفش أيضاً؛ قال: " يجوز أن تبدل من الأولى هاء، فتقول: " هانْذَرْتَهُمْ ". ولم يقرأ به أحد ومخالف للخط، وقياسه في العربية جيد. ويجوز مع

7

بدل الأولى " بهاء " أن تحقق الثانية وأن تخففها، وتدخل بين الهمزة والهاء ألفاً، وأن تحقق الثانية وتدخل بينهما ألفاً، فتبلغ الوجوه إلى أربعة عشر وجهاً. قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ}. معناه طبع الله عليها مجازاة لهم بكفرهم. وقيل: معناه: حكم الله عليهم بذلك لما سبق في / علمه من أنهم لا يؤمنون. وقيل: معناه: أنهم [لما تجاهلوا عن] قبول أمر الله D وفهمه، وَصَمُّوا عن أمر الله سبحانه، جعل الله تعالى ذلك منسوباً إليهم عن فعلهم، كما يقال: " أهلكه المال " أي هلك به. وقيل: معناه: أن الله تعالى جعل ذلك علامة تعرفهم بها الملائكة. وأصل الختم الطبع. والرين على القلب دون الطبع، والقفل أشد من الختم. قال مجاهد: " القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد قبض عليه - وأشار بقبض الخنصر تمثيلاً - ثم إذا أذنب قبض عليه، ومثل بقبض البنصر هكذا حتى ضَمَّ

أصابعه كلها. ثم يطبع عليه أي يختم ". وقال ابن عباس: " إنما سمي القلب قلباً لأنه يتقلب ". وروى أبو موسى الأشعري أن النبي [عليه السلام] قال: " الْقَلْبُ مِثْلُ رِيشَةٍ فِي فَلاَةٍ يُقَلّبُهَا الرّيحُ ". وعنه في حديث آخر: " تُقَلِّبُهَا الرِّيحُ بِأرضِ " فضاءِ ظَهْر البَطْنٍ ". قوله: {على قُلُوبِهمْ}. تكتب " على " " وإلى " و " لدى " بالياء دون سائر الحروف مثلها لأنها أخف من الأفعال، وكثر استعمالها، ولأن ألفها يرجع إلى الياء مع المضمر دون سائر الحروف فكتبت مع المظهر بالياء لذلك. وتقع " على " بمعنى الباء، تقول: " آركب على اسم الله " أي باسم الله. وتقع بمعنى " مع " نحو قولك: " جئت على زيد " أي معه. وتقع بمعنى " من " نحو قوله: {عَلَى الناس / يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] أي من الناس. وتقع أيضاً في مواضع

حروف أخر قد ذكرناها في كتاب مفرد للحروف. وقوله: {وعلى سَمْعِهِمْ}. إنما وُحِّد السمع لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. وقيل: وُحِّد لأنه يؤدي عن الجمع. وقيل: التقدير: " وعلى مواضع سمعهم "، ثم حذف المضاف وإنما أعيدت " على " في قوله: " {وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم} للتأكيد في الوعيد. وقيل: أعيدت لأجل مخالفة السمع للقلوب في أنه أتى / بلفظ التوحيد، وأتت القلوب بالجمع. وقيل: أعيدت لأن الفعل مضمر مع الحرف تقديره: " وختم على سمعهم ". فأما إعادة الحرف في {وعلى أبصارهم}، فلِلعِلَلِ التي ذكرنا، ولأنه حرف متصل بفعل مضمر غير الأول فقويت فيه الإعادة، والتقدير: " وجعل على أبصارهم غشاوة ". وهذا، إنما هو على قراءة من نصب غشاوة، وهو مروي عن عاصم. فأما من رفع، فإنما أعيد الحرف لأنه مخالف للأول، لأنه خبر ابتداء.

8

ومعنى الغشاوة الغطاء، ومنه: " غاشية السيف والسرج " أي غطاؤه. وفي {غِشَاوَةٌ}، لغات قرئ بها، وهي فتح الغين؛ وبه قرأ أبو حيوة، وضم الغين؛ وبه قرأ الحسن. وقرأ الأعمش " غَشْوَة " على فعلة. وقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الآية. أصل نون " مِنْ " أن تكسر لالتقاء الساكنين كنون " عَنْ " إذا لقيها ساكن، لكنها فتحت استثقالاً لاجتماع كسرتين / في حرف على حرفين. والهاءات من قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} تعود على الكفار كلهم على من سبق في علم الله منهم أنه لا يؤمن.

9

وقيل: تعود على كفار اليهود الذين عاندوا النبي A بالمدينة، والسورة مدنية. وقيل: عني بهذه الآية المنافقون؛ يظهرون الإيمان ويضمرون الكفر. قوله: {يُخَادِعُونَ الله}. الخداع: إظهار خلاف الاعتقاد. وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم}. أي وباله يرجع عليهم. واختار جماعة من العلماء: (وَمَا يَخْدَعُون) - بفتح الياء وسكون الخاء - من غير ألف، وهي قراءة ابن عامر وأهل الكوفة، وإنما اختاروا ذلك لأن الله جل ذكره أخبر عنهم أولاً أنهم {يُخَادِعُونَ الله}. ولفظ قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم}، نفي ذلك، فيصير في ظاهر اللفظ قد أوجب شيئاً ثم نفاه بعينه، فوجب أن يختاروا {وَمَا يَخْدَعُونَ}

ليكون المنفي على معنى مخالفاً للموجب. [فأما وجه] قراءة من قرأ الثاني " {وَمَا يَخْدَعُونَ} بألف فهو على معنى: وما يخادعون تلك المخادعة المذكورة عنهم إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم. و" خادع " في اللغة، يجوز أي يكون معناه / معنى " خدع " من واحد. ومعنى " خدع " بلغ مراده. فلذلك أجمع القراء على {يُخَادِعُونَ} في الأول لأنه ليس بواقع، وفي الثاني {يُخَادِعُونَ} بغير ألف لأنه أخبر تعالى أنه واقع بهم وراجع عليهم. وذكر القتبي أن معنى الأول: يخادعون بالله الذين آمنوا / وهو قولهم إذا لقوا المؤمنين: آمنا ". وأصل المفاعلة أن تكون من اثنين، لكن قد أتت من واحد، قالوا: " عَاقَبْتُ اللِّصَّ "، " وَطارَقْتُ النَّعْلَ " و " جَازَيْتُ فُلاناً وَحَادَيْتُهُ وََوَادَعْتُهُ وَدارَيْتُهُ ". والمخادعة في هذا المعنى إنما هي للنبي / A وأصحابه، أي يخادعون نبي الله وأولياءه. و " خدع " فعل واقع، و " خادع " فعل يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع،

10

فلذلك اختار بعض العلماء، {وَمَا يَخْدَعُونَ} إلا أنفسهم لأنه فعل واقع بهم بلا شك، " فَيَخْدَعُون " أولى من " يخادعون " الذي يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع. وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ}. أي ليس يشعرون، أي يعلمون أن ضر مخادعتهم راجع عليهم. وقوله: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي مؤلم. وجمع " أليم " فيه ثلاثة أوجه: إن شئت: " إلام " كَكَريم وكِرَامٍ، وإن شئت: أُلَماء كَظَريفٍ وَظُرَفَاء وإن شئت " أَلاْمٌ " كَشَرِيف وأَشْرافٍ. و" فعيل " يأتي على ضربين: اسم وصفة؛ فإذا كان اسماً، فجمعه في أقل العدد على " أَفْعِلة "، وفي أكثره على " فَعُل " كَرَغِيفٍ وأَرْغِفَةٍ ورُغفٍ. وقد يأتي في الكثير على " فُعْلانٍ "، قالوا: " رُغْفَانٌ وقُضْبَانٌ وكُثْبَانٌ "، وقد أتى على " أفْعِلاَء "، نصيبٌ وأنصباءٌ، وخميسٌ وأخْمِساءٌ ".

فإن كان " فَعيلٌ " صفة، فهو على نوعين: سالم ومعتل: - فالسالم يجمع على " فُعَلاء " نحو " كرماء "، و " عُلَماء " وقد قالوا: كِرامٌ وشِرافٌ. - والمعتل يجمع على أفعلاء نحو " أَوْلِياء " و " أَصْفِياءَ ". وكذلك المضاعف نحو " أَشِدَّاء " و " أَشِحَّاء "، وقد قالوا: أَنبياءٌ يجمع على أفعلاء على تقدير لزوم تخفيف الهمزة فيصير " كَتَقي وأَتْقِياء ". ومن همز قال: نَبِئاء على " فُعلاَءَ " ويجوز على مذهب من همز أنبياء [بجعله نادراً] " كخميس وأخمساء ". وقد قالوا: [في جمع] جليل: جلّة، وهو نادر استغنوا به عن " أَجِلاّء ". وقوله: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. أي: شك ونفاق.

{فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً}. الزيادة هنا هي نزول القرآن بالفروض فلا يتبعونها، فيزدادون شكاً، ويزداد المؤمنون بعمل الفرائض إيماناً كما قال: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً} [التوبة: 124 - 125]. وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}. أي بتكذيبهم الرسل. وقيل: بتكذيبهم محمداً A. وهذا التفسير يدل على صحة قراءة من قرأ {يَكْذِبُونَ} بالتشديد، ويدل على قوة التشديد أن الكذب لا يوجب العذاب الأليم، إنما يوجبه التكذيب. وأيضاً فإنه تعالى أخبر عنهم بالشك في أول الكلام، ومن شك في شيء فقد كذب به، فالتكذيب أولى بآخر الآية على هذا القول. ومما استدل به من قرأه {يَكْذِبُونَ} / بالتخفيف؛ أن الله جل ذكره أخبر أنهم يقولون: {آمَنَّا} وقال: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}. فأخبر عنهم بالكذب في قولهم: {آمَنَّا}. وتوعَّدهم عليه بالعذاب الأليم، وهو من الكذب أولى من أن يكون من التكذيب إذ لم يتقدم في صدر الآية إلا الإخبار عنهم بالكذب، لا بالتكذيب.

11

والقراءتان قويتان متداخلتان حسنتان لأن المَرَض الشك ومن شك في شيء فقد كذب به. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ}. كل النحويين على أن " إذا " ظرف زمان مستقبل. وقال المبرد: " هي في المفاجأة ظرف مكان إذا قلت: " خرجت فإذا زيد ". واستدل على ذلك بأنها قد تضمنت الجثة، وظروف الزمان لا تتضمن الجثة، لو قلت " اليوم زيد " لم يجز إلا على حذف مضاف تقديره /: اليوم حدوث زيد. وقال أكثر النحويين: " إذا ": في المفاجأة ظرف زمان على أصلها والتقدير: " خرجت فإذا حدوث زيد وظروف الزمان تتضمن المصادر كظروف المكان. وأصل " قيل ": " قول " فألقيت حركة الواو على القاف وانقلبت الواو ياء لسكونها / وانكسار ما قبلها. وكذلك " بِيعْ " أصله " بِيِعَ "، فألقيت حركة الياء

على الباء، فصارت ذوات / الواو والياء بلفظ واحد، وهي اللغة المشهورة المستعملة. ولك أن تشم القاف والياء بالضم الذي هو أصلها، وقد قرئ به. ولك في غير القرآن أن تقول: " قُوْل ": فتسكن الواو استثقالاً للكسر عليها، وتترك القاف على ضمتها، وكذلك يجوز لك فيما كان عينه ياء، نحو: " بُوع المتاع "، فيصير ذوات الواو والباء بلفظ واحد، كما صار في اللغة الأولى المستعملة بالياء فيهما. قوله: {لاَ تُفْسِدُواْ}. أي: لا تعبدوا إلا الله، وعبادة غير الله من أعظم الفساد. وحكى الكسائي " اللَّرض " بتشديد اللام وعوض من الهمزة لاماً، وإدغامها في لام التعريف. وقال الفراء في هذه اللغة: " إن لام التعريف لما ألقي عليها حركة الهمزة استكره ذلك فيها إذ أصلها السكون، فزيد بعدها لام أخرى وأسكن الأولى فردها إلى أصلها وأدغمها في اللام المزيدة، فرجعت لام التعريف إلى

أصلها وهو السكون ". قوله: {قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}. هذا قولهم على دعواهم وليسوا كذلك، لأن من أبطن الكفر وأظهر الإيمان فهو من أعظم المفسدين. وهذا كله خبر عن المنافقين. قال مجاهد وغيره: " أربع آيات من أول سورة البقرة / نزلت في نعت المؤمنين وآيتان بعد ذلك في نعت الكافرين، [وثلاث عشرة] آية بعد ذلك في نعت المنافقين. وقال مقاتل بن سليمان: " الآيتان الأوليان من سورة البقرة اللتان آخرهما {يُنْفِقُونَ} نزلتا في المؤمنين من أصحاب رسول الله A المهاجرين. والآيتان اللتان آخرهما {المفلحون} نزلتا في المؤمنين من أهل التوراة، والآيتان اللتان بعدهما، اللتان آخرهما {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} نزلتا في الكفار. [وثلاث عشرة] آية بعدهما نزلن في

المنافقين من أهل الكتاب ". قوله: {نَحْنُ}. هو اسم مضمر يقع للواحد الجليل القدر، وللاثنين وللجماعة. وحقه البناء على السكون لأنه مضمر، والمضمرات كلها مبنية؛ وإنما بنيت لأنها مشابهة للحروف، إذ لا تخص شيئاً بعينه، ولأنها تكون على حرف واحد، وحرف واحد لا يعرب. وإنما حرك " نحن " وحقه السكون لأن قبل آخره ساكن يحرك الآخر لالتقاء الساكنين. واختير لها الضم في قول المبرد لأنها مشبهة بِ " قَبْلُ " و " بَعْدُ "، وذلك لأنها تتعلق بالإخبار عن اثنين فأكثر. وقال هشام الكوفي: " أصل " نَحْنُ ": نَحُن، فردت حركة الحاء على النون بعدها ".

وقال أحمد بن يحيى: " ضمت " نحن " لقوتها لأنها تضمنت التثنية [والجمع]، وقد تكون للواحد فأعطيت أقوى الحركات وهي الضم ". وقيل: إنما ضمت لتضمنها تثنية وجمعاً، فصارت مشبهة بـ " حيث " لانها تضمنت مكائن. وقال الزجاج: " لما كانت الواو من علامات الجماعة واحتيج إلى حركة النون من " نحن " لسكونها وسكون ما قبلها، حركت بما يشبه الواو وما هو منها، وهي الضمة. ولهذا ضموا واو الجمع إذا احتاجوا إلى حركتها في نحو قوله: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16]. وقال علي بن سليمان: " نحن " من علامات المضمر المرفوع فلما احتيج إلى

حركته حركوه بأخت الرفع وهو الضم ". ومعنى قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي هذا الذي تسمونه / فساداً هو صلاح عندنا. وقيل: إن معناه: [أنهم قالوا]: نريد الإصلاح بين المؤمنين وأهل الكتاب. وعن سلمان الفارسي أنه قال: " لم يجىء هؤلاء بعد ". وأكثر المفسرين على أن هذا نزل في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله A. وقيل: معنى قول سلمان: " لم يجئ هؤلاء بعد " أي لا يأتون لأنهم قد انقرضوا.

فإن قيل: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، فقد أخبر الله عنهم أنهم لا يعلمون أنهم مفسدون / فالجواب أن القوم كانوا يبطنون الفساد وهم يعلمون به، ويظهرون / الصلاح الذي ادعوا، وهم لا يشعرون أن الله يظهر ما يبطنون، فإنما معنى {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ}: أي لا يعلمون أن الله يظهر ما يبطنون من النفاق والكفر. والهاءات من: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} إلى {يَشْعُرُونَ} يعدن على " من " في قوله: {مَن يَقُولُ آمَنَّا} وهم المنافقون. وعلى هذا أكثر الناس. ودخلت الألف واللام في (المُفْسِدينَ)، لأنه جواب كلام سبق منهم إذ قالوا: محمد وأصحابه مفسدون في الأرض. فأخبر الله أنهم هم المفسدون، ولو كان على غير جواب لم يدخله الألف واللام. ألا ترى لو أنك قال لك قائل: " أنت ظالم "، فأردت أن ترميه بغير الظلم لقلت: " أنت كاذب أنت فاسق "، ولا تقوله بالألف واللام، لأنه غير جواب قوله. فإن أردت أن ترميه بمثل ما رماك به، قلت له: " أنت الظالم "، ولو أضمرت / لقلت: " أنت هو ". ولو رميته بمثل ما رماك به لم يجز الإضمار في جوابك،

13

إنما تضمر إذا رميته بمثل ما رماك به، لأنه معرفة، فالجواب معرف أبداً إذا كان رد اللفظ / الأول. قوله: {كَمَآ آمَنَ السفهآء}. أصل السفه قلة الحلم، فقيل للجاهل سفيه لقلة حلمه يقال: ثوب سفيه، أي بال رقيق. قول: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء}. ردَّ الله عليهم قولهم وأعلم المؤمنين أنهم أحق بهذا الاسم، ولا عذر لهم فيما وصفهم الله به من السفه لأنهم إنما لحقهم ذلك إذ عَابوا الحق وخالفوه، وسفهوا المؤمنين واستحقوا هذا الاسم لفعلهم، وكانوا به أولى من المؤمنين. قوله: {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ}. معناه [أنهم لا يعلمون] أنهم أولى بهذا الاسم وهو السفه، وأن الله يطلع المؤمنين على ما يبطنون. قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ} الآية.

أصل " لَقُوا ": " لقيُوا "، فألقيت حركة الياء على القاف، وحذفت الياء لسكونها وسكون الواو بعدها. [وهذه] صفة المنافقين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ}. يعني أصحابهم، وقيل: رؤساؤهم في الكفر قال الله: {شياطين الإنس} [الأنعام: 112] فسمى أهل الفسق من الإنس شياطين. وقيل: الشياطين هنا الكهان. وقيل: هم الكفار والمنافقون إذا لقوهم قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ} أي على دينكم. و" إلى " بمعنى " مع "، كما قال: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]، أي مع أموالكم.

وقيل: إلى على بابها. [والعرب] تقول: " خلوت به "، و " خلوت إليه ومعه "، لكن الباء يجوز أن تدل على أن معنى " خلوت به " من السخرية و " إلى " لا تدل إلا على " خلوت إليه " في أمر ما. والآية ليست / على معنى السخرية، فلذلك لم يأت بالباء لما فيها من الإشكال إذ هي تحتمل معنى " إلى "، وتحتمل السخرية. وأيضاً فإن معنى " إلى " أنه على معنى: [وإذا صرفوا] إلى شياطينهم / قالوا: إنا معكم، أي على دينكم [فالجالب لِ إلى "] الانصراف الذي دل عليه الكلام، والباء لا تدخل مع الانصراف الذي دل عليه الكلام، فلذلك أيضاً لم تدخل مع " خلوا ". وفي اشتقاق " شيطان " قولان: - قيل: هو فعلان من " شيط " فلا ينصرف إذا سميت به في المعرفة للتعريف

والزيادتين كعثمان، وينصرف في النكرة، وذلك المستعمل فيه في الكلام والقرآن. أعني النكرة على أنه واحد من جنسه كَسِرْحَان اسم واحد " الذِّئَاب ". - وقيل: هو (فَيْعَال) من الشطن وهو الحبل، فيكون معناه أنه ممتد في الشر، ومنه " بِئْر شَطُونٌ "، إذا كانت بعيدة الاستقاء. وهو عند القتبي فَيْعال " من شطن " أي بَعُدَ من الخير يقال: " شطنت داره "، أي بعدت. فهو ينصرف على هذين القولين في المعرفة والنكرة. وتصغيره على القول الأول في المعرفة شيطان، ولا يجمع على شياطين إلا أن تجعله نكرة فيجمع على شياطين. " كسرحان، وسراحين، ووزنه فعالين على مذهب من جعله مِنْ " شَيَّطَ " ووزنه (فياعيل) على مذهب من جعله من " شطن " وتصغيره على القولين الآخرين " شييطين " في المعرفة والنكرة. قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}. أي نستهزئ بالمؤمنين في قولنا / لهم: " آمنا ". وهمزة " مستهزئون " يجوز في تخفيفها وجهان: أحدهما: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والواو

15

الساكنة، وهو قول سيبويه. والوجه الثاني: أن تجعلها بين الهمزة المضمومة والياء الساكنة لأجل انكسار ما قبلها وهو قول الأخفش. وحكى بدلها بياء مضمومة وليس بقياس. قوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}. معناه: الله يجازيهم على قولهم. والعرب تسمي جزاء الذنب باسمه. قال الله جل ذكره: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. وقال: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. فالأول من هذا استهزاء وسيئة، وعدوان، والثاني: جزاء عليه، فسمي باسمه اتساعاً لأن المعنى قد علم. وقيل: معنى {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}: أي يقطع عنهم نورهم يوم القيامة إذا أخلوا على الصراط [ويديم نور] المؤمنين وهو قوله: {فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13]، فهو يعطيهم يوم القيامة نوراً لا يتم لهم، ولا

ينتفعون به / لانقطاعه عنهم. وقال الحسن: " إن جهنم تجمد كما تجمد الإهالة في القدر، فيقال لهم: هذا طريق، فيمضون فيه فيخسف بهم إلى الدرك الأسفل من النار. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " يقال لأهل النار يوم القيامة: أخرجوا من النار. وتفتح لهم أبواب النار فإذا رأوا الأبواب قد فتحت أقبلوا إليها، يريدون الخروج منها، والمؤمنون ينظرون إليهم من الجنة - وهم على الأرائك - فإذا انتهى أهل النار إلى أبوابها يريدون الخروج منها غلقت [أبوابها دونهم]، فذلك قوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ}، قال: ويضحك المؤمنون عند ذلك، وهو قوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34]. وقيل معنى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} أي يظهر لهم من أحكامه في الدنيا في حقن دمائهم وسلامة أموالهم خلاف ما يظهر لهم من عذابه يوم القيامة جزاء على إظهارهم للمؤمنين في الدنيا خلاف ما يبطنون. وقيل: معناه: يُمْلي لهم، كما قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44].

16

/ قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. أي يطيل لهم في الأجل المكتوب لهم، وهم في طغيانهم يتحيرون. والطغيان والعتو والعلو بغير الحق، والعمه التحير. / وقيل: معنى {يَعْمَهُونَ} يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون رشدهم كما قال: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ} [الملك: 22] وهذا كله من صفات المنافقين عند أكثر المفسرين. وقال الضحاك: " هو في اليهود ". قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} الآية. أي هؤلاء الذين تقدمت صفاتهم هم الذين باعوا الهدى بالضلالة لأنهم لَمَّا مَالُوا إلى الضلالة وتركوا الهدى، كانوا بمنزلة من باع شيئاً بشيء، فوصفوا بذلك. وأصل الضلالة الحيرة، ويسمى الهالك التالف ضالاً نحو قوله: {أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] أي هلكنا وتلفنا. ومنه قوله: {أَضَلَّ أعمالهم} [محمد: 1]، أي أتلفها

وأهلكها وأبطلها. ومنه قوله: {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] أي لن يبطلها ويتلفها ويهلكها. فكأن هؤلاء لما أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى كانوا بمنزلة من لم يربح في تجارته، وأضاف الربح إلى التجارة لأن المعنى مفهوم وهو من اتساع العرب ومجازه. وهو كثير في القرآن أي في كتاب الله، إذ هو من كلام العرب، والقرآن نزل بكلامهم فلا ينكر أن يأتي القرآن بما هو في كلام العرب معروف مشهور إلا من عدم حسه وفارق فطنته، ومثله قولهم: " نَهَارُكَ صَائِمٌ وَلَيْلُكَ قَائِمٌ "، / ومنه قوله: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33]. وهو كثير في الكلام والقرآن. وحركت الواو في " اشْتَرُوا " لسكونها، وسكون لام التعريف بعدها، وكان الضم أولى بها لأنها واو جمع، ولأن الضمة عليها أخف من الكسرة، ولأن لام الفعل المحذوفة قبلها كانت مضمومة. وأصله " اشتريوا " فقلبت / الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحذفت الألف لسكونها وسكون الواو بعدها. وبقيت الفتحة تدل على الألف، ولم ترد الألف عند حركة الواو لأن حركتها عارضة ليست بلازمة. ويجوز في الواو الكسر والفتح. ويجوز الهمز، وهو بعيد جداً.

17

وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}. أي لم يكونوا في علم الله السابق ممن يهتدي فيؤثر الهدى على الضلالة. قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} الآية. معناه مثل هؤلاء المنافقين في حقنهم دماءهم بما أظهروا من الإيمان وَسِتْرِهم على غير ذلك، كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنورهم. فضياء ما حولهم هو ما حقن إقرارهم من دمائهم ومنع من أموالهم في الدنيا. وقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ}. هو ما يجدون يوم القيامة من عدم نورهم لأنهم لا ينتفعون بما أظهروا من الإيمان إذ كان باطنهم خلاف [ما أظهروا]. وقوله: {استوقد نَاراً}. أي استوقدها من غيره. وقيل: معناه: أوقد، أي أوقدها هو. واستفعل في كلام العرب يأتي على وجهين: - يكون بمعنى استدعى الفعل من غيره نحو قوله:

{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60]. أي استدعى أن يسقوا. - ويكون بمعنى فعل، نحو قوله: {واستغنى الله} [التغابن: 6] فلم يستدع غني من واحد، وبعده: {والله غَنِيٌّ} [التغابن: 6] يدل على ذلك. و" ما " في قوله: {أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ} في موضع نصب بِ " أَضَاءَتْ ". وقيل: هي زائدة / لا موضع لها من الإعراب. والمعنى: " فلما أضاءت النار، الموضع الذي بحوله. " فما " غير زائدة. قال قتادة: " هي لا إله إلا الله، قالوها بأفواههم فَسَلِمُوا بها من القتل حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم ". قال مجاهد: " هو إقبالهم على المؤمنين والهدى. وذهاب النور، هو إقبالهم على الكفار. وقيل: ذهب الله بنورهم، أي أظهر المؤمنين على ما أبطنوا من الكفر والنفاق.

فبعد أن كان لهم عند المؤمنين نور بما أظهروا من الإيمان صاروا لا نور لهم عندهم، لما أعلمهم به من سوء / ما أبطنوا. والقول الأول عليه أكثر المفسرين؛ أن ذهاب نورهم إنما يكون يوم القيامة وهو الذي ذكره الله في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13]. والهاء والميم تعود على " الذي " لأنه بمعنى " الذين كما قال: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون} [الزمر: 33]. وفي هذا اختلاف ستراه في موضعه إن شاء الله. ومنه قول الشاعر: إنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلَّ الْقَوْمِ يَا وأُمَّ خَالِدِ وقيل: تعود على المنافقين المتقدمي الذكر. وجواب " لما " محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ذهب الله بنورهم. قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ}. هذا تمثيل للكفر الذي هم فيه يسيرون.

18

وقيل: هو شيء يكون في الآخرة، وهو قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13]. فظلمات جمع ظلمة، ويجوز إسكان اللام من " ظلمات " استخفافاً، ومن العرب من يبدل من الضمة فتحة، فيقول ظُلَمَات. وقال الكسائي: " من قال: ظُلَمَات بفتح اللام فهو جمع " ظُلَم "، و " ظُلَم " جمع " ظُلْمَة ". ولا يجوز الفتح في مثل هذا في الحرف الثاني مما لامه واو ونحو خطوات. إنما / يجوز الإسكان لا غير. فإن كان اللام ياء لم يجز فيه إلا الإسكان نحو [كُلْيَةٍ وَكُلْيَاتٍ]. قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. أي هم صم عن الحق وسماعه، وهم بكم عن قول الإيمان وهم عمي عن النظر / إلى الآيات الدالات على الإيمان بالله ورسوله. وإنما وصفوا بذلك، ولم يكونوا صماً ولا بكماً وعمياً، لأنهم لَمَّا لم ينتفعوا بهذه الجوارح كانوا بمنزلة من عُدِمها، / فلم ينتفع بها. وقوله: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون عن ضلالتهم.

19

قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} الآية. الصَّيِّب: المطر، وأصله " صَيْوِبٌ " عند البصريين من " صابَ " يَصُوبُ "، والصَّوْبُ: نزول المطر. يقال: " صَابَ المطر " إذا نزل. وقال الكوفيون: " أصله صَوِيب على فعيلٍ كَرَغِيفٍ، ويلزمهم ألا يعلوه كما لم يعلوا " طويلاً ". واعتل عند البصريين لأن الياء إذا أسكنت وأتت بعدها واو، قلب من الواو ياء وأدغمت الأولى في الثانية " كَمَيِّتٍ " و " هَيِّنٍ ". وقيل: الصَّيِب: السحاب الذي فيه المطر، لا المطر، روي عن ابن عباس. ومعنى: صاب: نزل وقصد. والمعنى أن الله جل ذكره أباح للمؤمنين

أن يمثلوا المنافقين بالذي استوقد ناراً أو بالصيب. و " أو " للإباحة. وجمع " صيب ": صيائب. والرعد: مختلف فيه، فقال مجاهد: " هو ملك يزجر السحاب بصوته، فالمسموع صوته ". وقال شهر بن حوشب: " الرعد ملك يتوكل بالسحاب / يسوقه كما يسوق الحادي الإبل يسبح كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه فهي الصواعق ". وقال ابن عباس: " الرعد ريح "، قيل: إنها تختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منه ذلك الصوت. وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: " الرعد اسم ملك، وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره بالسحاب، اضطرم السحاب من خوفه فيحتك، فتخرج الصواعق

20

من بينه ". ومعنى الآية عند ابن عباس أنه مثل ضربه الله في المنافقين، فالظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على ما أبطنوا. ومعنى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} أي يكاد الحق الذي دعوا إليه فخالفوه أن يهلكهم. وقوله: {مُحِيطٌ بالكافرين} أي جامعهم بقوة. قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ}. هو مثل لما أظهروا من الإيمان الذي حقن دماءهم ومنع من أموالهم. {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}: أي ثبتوا على ما أبطنوا من كفرهم. وقال ابن مسعود: " كان رجلان من المنافقين هربا من النبي A إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، واشتد عليهم البرق والصواعق وأيقنا بالهلاك، فقالا: ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمداً A، نضع بأيدينا في يده،

فأصبحا فأتياه، وحسن إسلامَهُما. فضرب الله شأنهما وما نزل بهما مثلاً للمنافقين الذين كانوا بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي A جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً مما ينزل على النبي A فيهم من نفي أو قتل كما فعل الرجلان خوفاً من صوت الصواعق ". ودل على ذلك قوله تعالى: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ} [التوبة: 64]. وعن ابن مسعود أيضاً في الآية أن قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} معناه: إذا كثرت أموالهم وغنموا ودامت سلامتهم قالوا: إن دين محمد A دين صدق وتمادوا على إظهار الإيمان وهو قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} أي تمادَوْا على حالهم، فإذا أحربوا وهلكت أموالهم، قالوا: هذا من أجل دين محمد A، وهو قوله: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي رجعوا إلى كفرهم ونفاقهم.

وقال الحسن: " معنى المثل الأول في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} أنه تعالى مثل المنافقين كمثل رجل يمشي في ليلة مظلمة وفي يده شعلة من نار فهو يبصر بها موضع قدميه، فبينا هو كذلك أحوج ما كان إلى الضياء طُفئت ناره / فلم يبصر كيف يمشي. وإن المنافق تكلم بـ " لا إله إلا الله " فناكح بها المسلمين وحقن دمه وأحرز ماله. فلما كان عند الموت والحاجة / إليها سلبه الله إياها إذ لم تكن حقيقة، فبقي لا شيء معه كما بقي ذلك الرجل في ظلمة لا ضوء معه ". وقيل: هي مثل في اليهود إذ في كتابهم ذكر محمد [عليه السلام] وصفته، فرأوه وعلموه فلم ينفعهم ذلك وكفروا به على علم منهم أنه نبي حق ". وعلى أن الأمثال ضربها الله في المنافقين أكثر أهل التفسير. قال الربيع بن أنس: معنى ذلك مثلهم كمثل قوم صاروا في ليلة مظلمة فيها رعد ومطر وبرق على جادة ظلماء، فإذا [أبرق أبصروا] ومشوا، / وإذا أظلم

تحيروا وشكوا في الجادة. وكذلك المنافق؛ إذا تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له الأمر، وإذا شك تحيَّر وانتكس فصار في ظلمة من أمره ". قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} الآية. / خص الله جل ذكره ذكر السمع والبصر [لتقدم ذكرهما] قبل ذلك، ووحَّد السمع لأنه مصدر يدل على القليل والكثير من جنسه. وقيل: معنى الآية: " لو شاء الله لأطلع نبيه A على نفاقهم وكفرهم فيستحلَّ دماءهم وأموالهم وأولادهم، وفيه تهديد ووعيد. واختلف في البرق؛ فروي عن علي Bهـ أنه قال: " هو مخاريق الملائكة ". وعنه أنه قال: " يحدث من ضرب الملك السحاب بمخراق من حديد " وقال " الرعد صوت الملك ".

وعن ابن عباس: " أن البرق سوط من نور يزجي به الملك السحاب " يريد أن البرق نور السوط إذا ضرب به. وقال مجاهد: " البرق مصع الملك " والمصع الضرب، والمصاع عند العرب المجالدة بالسيوف والمخاريق السياط، واحدها مخراق وهو السوط. وروى مجاهد عن ابن عباس " أن البرق ملك يتراءى ". وفي يَخْطَفُ " أوجه وقراءات أفصحها " يخطف " بفتح الطاء مخففاً. ولغة أخرى بكسر الطاء مخففاً، وبه قرأ علي بن الحسين وابن وثاب، فدل ذلك على أنه يقال: خَطَفَ، يَخْطَفُ، وَخَطِفَ يَخْطِف لغتان فيه.

- ووجه ثالث: قرأ به الحسين وقتادة وعاصم الجحدري وهو كسر الخاء والطاء والتشديد، وأصله، " يَخِطِّفُ "، فأدغم التاء في الطاء بعد أن أسكنها وكسر الخاء لالتقاء الساكنين. - ووجه رابع: وهو فتح الخاء وكسر الطاء مشدداً وأصله أيضاً " يَخْتَطِفُ "، ثم ألقى حركة التاء [على الخاء]، وأدغم التاء في الطاء، وهو مروي أيضاً / عن الحسن. وحكى الفراء إسكان الخاء، والتشديد عن بعض أهل المدينة. كأنه أدغم التاء في الطاء، وترك الخاء على سكونها في " يختطف "، وهو بعيد، لأنه جمع بين ساكنين ليس أحدهما حرف لين. - ووجه سادس: ذكره الأخفش والكسائي والفراء، وهو كسر الياء والخاء والتشديد، وهو كالوجه الثالث إلا أنه كسر الياء للاتباع. - ووجه سابع: قرأ به أُبَيٌّ، وهو " يَتَخَطَّفُ " على " يَتَفَعَّلُ " مثل

21

" يَتَغَسَّلُ ". ومعنى يخطف يأخذ بسرعة. وفي " أضاء " لغتان: ضاء وأضاء بمعنى حكاهما الفراء. قوله: {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} الآية. قال ابن مسعود: " كل شيء في القرآن، {يا أيها الناس} فهو مكي، وكل شيء في القرآن: {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} فهو مدني ". وقاله عروة بن الزبير والضحاك. قال أبو محمد: وهذا القول إنما هو على الأكثر وليس بعام، لأن البقرة والنساء مدنيتان وفيهما {يا أيها الناس}. وفي كثير من السور المكية {يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 104] ومعنى الآية يا أيها الناس، أخلصوا العبادة لربكم الذي خلقكم، وخلق الذين كانوا من قبلكم، وإنما خاطب الله الكفار بهذا لأنهم كانوا مقرين بأن الله

خالقهم، دليل ذلك قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. فقيل لهم: إذا كنتم مقرين بأن الله خالقكم فاعبدوه، ولا تجعلوا له شركاء، ومعنى الخلق الاختراع. وقيل: هو التقدير، تقول: " خلقت الأديم " إذا دبرته وقدرته. / والخلق الذي هو الاختراع والابتداع على أربعة أوجه: - الأول: خلق ما لم يكن كخلق الله العالم من غير شيء. - والثاني: قلب عين إلى عين، كقلب الله النطفة علقة والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً / فالثاني غير الأول. - والخلق الثالث: تغيير العين وهي موجودة كرد الله الصغير كبيراً، والأبيض أصفر، فالعين قائمة والصفة تغيرت. - والرابع: تغير الحال والعين كما هو، نحو كون القائم قاعداً، والعاجز قادراً، فلم تتغير العين ولا الصفة، إنما تغيرت الحال.

22

قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. أي تتقون ما نهاكم الله عنه. وقيل: معناه لعلكم تتقون " الذي جعل ". " فالذي " في موضع نصب بـ {تَتَّقُونَ}. و " لعل " مردودة إلى المخاطبين. والمعنى اعبدوه واتقوه على رجائكم وطمعكم. وحكى الزجاج: أن " لعل " بمعنى " كي " في هذا الموضع، وهو بعيد. قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فراشا}. أي بساطاً، وإنما سميت الأرض أرضاً لارتعادها عند الزلازل. يقال: " رجل ما روض " إذا / كانت به رعدة، " وأرض ماروضة " إذا كانت كثيرة الزلازل. وقوله: (مهاداً) هو خصوص مهد الله من الأرض ما بالناس إليه حاجة ومنفعة. وإلا ففيها السهل والوعر والجبال والأودية والهبوط والصعود. قوله: {والسماء بِنَآءً}. أي مرتفعة عليكم. والسماء تذكر وتؤنث. وقال المبرد: " السماء هنا جمع [سماوة] (*) [كتمرة وتمر]، ودليله قوله:

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في الأصل [السماوات]، وفي الهامش كتب المحققون: في ح: سماوة. قال أبو مالك العوضي: ما في المتن الخطأ والصواب ما في الهامش. . من الواضح هنا أن السماء لا يمكن أن تكون جمع السماوات، والتمثيل المذكور بعد ذلك واضح في المراد. . (ذكره في ملتقى أهل التفسير)

{فسواهن} [البقرة: 29]. ولم يقل " فسواها ". وتجمع السماء / إذا كانت واحدة على ستة أبنية: - جمعان مسلمان، تقول: سماوات وسماءات. - وجمعان مكسران لأقل العدد، تقول: سماء واسم وأسمية. - وجمعان مكسران لأكثر العدد، تقول سماء وسمايا وسمي، وإن شئت كسرت السين في " سمي ". وقد جاء في الشعر " سَمَاءِيَا ". وفيه اتساعات ثلاثة. قال: / الشاعر: سَمَاءُ الإلهِ فوقَ سَبْعِ سَمَاءِيَا. ... فعلى هذا يجوز أن تجمع سماء على سماء كصحار. فالشاعر شبه سماء برسالة لأن السَّمَاءَ فَعَالٌ، ورِسَالَةٌ فِعَالَةٌ، وهما أختان في عدد الحروف والحركات. - والثالث فيها ألف بعدها كسرة، فكان يجب أن تقول " سمايا "، كما تقول: " رَسائِلٌ " و " خطايا "، فأتى به على الأصل، فقال " سمائي "، ثم لحقته ضرورة أخرى

فأجرى المعتل مجرى السالم فقال: سمائي، وكان [حقه إذ] أتى به على الأصل أن يقول " سماء " كجوار وقاض لكنه أجراه للضرورة مجرى ما لا ينصرف من السالم ففتح، ثم أطلق الفتحة فصارت ألفاً، فقال " سماءيا ". ففيه ثلاثة اتساعات. وفي الوقف على السماء المنصوبة خمسة أوجه: -[أولها: أن تَقِفَ] على همزة ساكنة بعد مدة. - والثاني: أن تروم حركة الهمزة وتمد. - والثالث: أن تجعل الهمزة بين بين، وتروم الحركة وتمد. - والرابع: أن تبدل من الهمزة أيضاً ثم تحذفها لسكونها وسكون الألف التي قبلها ولا تمد. - والخامس: أن تبدل أيضاً وتحذف وتمد لتدل المدة على الأصل لأن الحذف عارض. وفي الوقف على بناء المنصوب أوجه: - " بناء " بهمزة مفتوحة بعدها ألف، وقبلها ألف، فتمد قبل الهمزة مداً مشبعاً، وبعدها مداً ممكناً، وعليه أكثر القراء. - والثاني: أن تجعل الهمزة بين بين، وتمد. وهو مذهب حمزة في الوقف. - والثالث: أن تحذف الهمزة، وتحذف الألف لالتقاء ألفين، ولا تمد، فيصير بلفظ المقصور لغة للعرب، لم يقرأ به أحد. - والرابع: أن تحذف الهمزة والألف على ما ذكرنا، وتمد لتدل على أن أصله المد.

- والخامس: أن تبدل من الهمزة ياء، فتقول " بنايا " لغة للعرب لم يقرأ بها أحد / حكى عن العرب: " اشتريت مايا "، يريدون ماء يشبهونه بـ " خطايا ". وقد كان أصل خطاياءا، منقول من خطائي، ثم أبدلوا من الهمزة ياء. وقد قال ابن كيسان: " لا يكتب هذا المثال إلا بألفين، وإن شئت بثلاث ألفات وهو الأصل فيها. وكتب في المصاحف بألف واحدة اختصاراً ". وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض فراشا}. أي مهاداً، لا حزنة كلها، ولا جبال كلها. وقال بعض الصحابة في قوله: {والسماء بِنَآءً}، " بني السماء على الأرض / كهيئة القبة، فهي سقف على الأرض ".

وقوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء} الآية. في الوقف على " السماء " المخفوض و " ماء ". كالذي في الأول. " وبناء " مثل " ماء " في النصب. وقوله: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات}. " مِنْ " للتبعيض. و " السماء " في هذا الموضع يراد بها السحاب، لأن الماء منها ينزل كما قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14]. والمعصرات السحائب وكل ما علا فوقك فهو سماء. وسقف البيت سماؤه، وهو سماء لمن تحته. وقوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً}. أي أمثالاً. ونِدُّ الشيء مثله، والند خلاف الضد. وقيل: شركاء. وقيل: أشباها. وقيل: أكفاء. وروى ابن مسعود " أنه سأل النبي [عليه السلام] أي الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: [أنْ تجعلَ] للهِ نِداً وَهُوَ خَلَقَكَ " الحديث.

23

وقال عكرمة: " هو قولهم: لولا كلبنا لدخل علينا اللص ". وقال أبو عبيدة: " الند الضد ". وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض. وقيل: معناه: وأنتم تعلمون أن الله لا شبيه له في التوراة والإنجيل، فيكون الكلام مخاطبة لأهل الكتاب على هذا التأويل. وعلى القول الأول هو مخاطبة لجميع الكفار. ومعنى العلم الذي نسبه إليهم أنه علم تقوم به عليهم الحجة، وليس بالعلم الذي هو ضد الجهل؛ دليله قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} [الزمر: 64]. فثبت جهلهم لأنهم علموا أن الله خالقهم، وجعلوا له أنداداً. فأما قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]. فهذا هو العلم الذي هو ضد الجهل. قوله: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية. أي إن كنتم أيها الناس في شك من القرآن أنه ليس من عند الله فأتوا بسورة

من مثل القرآن. وقيل: من مثل محمد A في صدقه وأمانته. وقال ابن كيسان: " معناه أنهم زعموا أن محمداً شاعر وأنه ساحر، فقيل: إيتوا بسورة من مفترٍ أو من شاعر أو من ساحر. وقيل: معنى: " من مثله " من مثل التوراة والإنجيل. والاختيار / عند الطبري أن يكون معناه من مثل القرآن في بيانه، دليله قوله تعالى في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38]. ولا يحسن هنا إلا مثل القرآن. فحمل الآيتين على معنى واحد أولى. ولم يعن بقوله: {مِّن مِّثْلِهِ} إذا جعلت / الهاء للقرآن في التأليف والمعاني لأنه لا مثل للقرآن إنما عني {مِّن مِّثْلِهِ} في البيان لأن الله أنزله

بلسان عربي مبين. فقيل لهم: كلامكم فيه البيان، وهذا القرآن فيه البيان فأتوا من كلامكم بسورة مثل القرآن في البيان، فأما التأليف والمعاني والرَّصف، فهي معان، بَايَن القرآن فيها المخلوقات، فلا مثل له في ذلك، يضاف إليه فاعلمه. وفي اشتقاق السورة أربعة أقاويل: - قيل: / سميت سورة لأنها يرتفع بها من منزلة إلى منزلة، ويشرف فيها / قارئها وحافظها على ما لم يكن عنده من العلم كإشرافه على سور البناء، فهي [منزلة رفعة]. كما قال: ألَمْ تَرَ أنَّ الله أعْطَاكَ سورة. أي منزلة في الشرف. - والثاني: إنما قيل لها سورة: لتمامها وكَمَالِهَا. يقال للناقة التامة: السورة. - والثالث: إنما سميت سورة لشرفها وارتفاعها في القَدْرِ، كما يقال لما ارتفع من البناء على هيئة سور.

- والرابع: إنما سميت سورة لأنها بقية من القرآن وقطعة منه: يقال: " أَسْأَرْتُ في الإناء سُؤراً، أي أبقيت فيه بقية، " ودخل فلان في سائر الناس " أي في بقاياهم. فيكون أصله على هذا القول الرابع الهمز. قوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم}. أي ادعوا آلهتكم للمعونة على الإتيان بسورة من مثل القرآن. وقيل: شهداءكم. معناه: أعوانكم على ما أنتم عليه. وقيل: معناه: ادعوا شهداءكم إذا أتيتم بالسورة يشهدون لكم أنها مثل القرآن. ومعنى ادعوهم: استعينوا بهم. وقيل: الشهداء / العلماء، أي استعينوا بهم على ذلك، وواحد الشهداء شهيد، وواحد الشهود شاهد، وواحد الأشهاد شهيد وشاهد أيضاً، وهو من نوادر الجموع. فإن قيل لك: قد قال الله تعالى لهم في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} [هود: 13]

وهم قد عجزوا عن الإتيان بسورة، وإنما يطالب من عجز عن الشيء بأقل منه لا بأكثر. - فالجواب عن ذلك أن قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} [هود: 13]، نزل قبل: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} لأن الأول مكي وهذا مدني، فلما عجزوا عن عشر سور، قيل لهم: فأتوا بسورة. وقيل: إنما طولبوا في البقرة بسورة من مثله غير محدودة / في مدح و [لا] ذم ولا تعظيم ولا غيره، بل تجمع معاني كما تجمع ذلك سور القرآن، وكلفوا في العشر السور أن تكون مفتريات، ومن كلف معنى واحداً أخف ممن كلف معاني لا تحصى ولا تدرك. فالتكليف في سورة البقرة أثقل وأضعف، وإن كانت سورة واحدة،

24

وهو في هود أخف، وإن كان بعشر سور لأنها في معنى واحد وقع بها التكليف في هود، وفي معان كثيرة وقع بها التكليف في البقرة. قوله: {وَلَن تَفْعَلُواْ}. أعلمهم الله أنهم لا يقدرون على ذلك، فهو رد ونفي لما كلفوا، أي إن كنتم صادقين. {وَلَن تَفْعَلُواْ} أي لن تطيقوا ذلك أبداً. فعلى هذا التأويل لا يحسن الوقف على " صادقين ". قوله: {التي وَقُودُهَا الناس والحجارة}. و" الوقود " بفتح الواو: الحطب، وبضم الواو: التوقد. وحكى الأخفش عن بعض العرب أن الفتح والضم معاً بمعنى الحطب. وقال الكسائي: " الفتح هو الحطب، والضم هو الفعل "، يعني المصدر. فعلى هذا لا تحسن القراءة إلا بفتح الواو لأنه تعالى أخبر أن الذي تتوقد

به النار هو الناس أعاذنا الله منها ووفقنا لما ينجينا منها، وختم لنا بخير يبعدنا منها. {والحجارة}. قيل: يعني حجارة الكبريت. وقيل: هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض. وعن النبي [عليه السلام] أنه قال: " هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ أَسْوَدَ فِي النَّارِ ". وروى أصبغ بن الفرج " أن عيسى بن مريم عليه السلام بينما هو في سياحته إذ سمع أنيناً فمضى إليه يؤمه حتى انتهى إليه، فإذا هو حجر يبكي، فقال له عيسى: ألا أراك تبكي وأنت حجر؟ قال: نعم يا روح الله إني أسمع الله يقول:

25

{نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6] / فادع [لي الله] يا روح الله ألا يجعلني منها ". وعلى ذلك أكثر أهل اللغة أن " الوَقُود " بالفتح الحطب، وبالضم التلهب. وقد روي عن الحسن وطلحة بن مصرف ومجاهد أنهم قرأوا بالضم فيكون ذلك على اللغة التي حكاها الأخفش أن الفتح والضم بمعنى الحطب. قوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ}. البشارة والبشرى في اللغة من البشرة؛ فإذا قيل: استبشر فلان، فمعناه ظهر أمر في بشرته. وسميت الجنة جنة لأنها تجن من دخلها، أي تستره أشجارها وثمارها. والجنة عند العرب البستان ذو النخل والشجر. وقوله: {مِن تَحْتِهَا}.

أي من تحت شجرها ومساكنها، أي من دونها. يقال: داري / تحت دارك، أي دونها، أي بجوارها. / قوله: {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ}. معناه: أنهم لما أتوا بِثِمارِ الجنة شبهوها بثمار الدنيا في المنظر، وهي مخالفة لها في الطعم والرائحة، فمعنى {مِن قَبْلُ} أي في الدنيا. وقيل: المعنى: قالوا: هذا الذي رزقنا وعدنا به في الدنيا. وقيل: معناه: إنهم أتوا بثمار في الجنة فأكلوا، ثم أتوا بمثلها في المنظر ومخالفاً في الطعم، فقالوا عند نظرهم إلى الثانية: هذا الذي أكلنا من قبل، أي من قبل هذا الوقت في الجنة. فيخبرون أن الطعم مختلف. قوله: {وَأُتُواْ بِهِ متشابها}. أي يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في الطعم والرائحة، وذلك

أَجَلٌّ في الملك والنعيم. وهذا القول مروي عن ابن مسعود وابن عباس. وهو مرفوع إلى النبي A. وقيل: معنى {متشابها} أي أنه خيار حسن لا رذل فيه؛ يشبه بعضه بعضاً في الطيب والحسن. وهو قول الحسن. واحتج بأن ثمار الدنيا فيها الحسن والرذل والوسط، وثمار الجنة خيار كله. وقيل: معنى {متشابها}: أي يشبه اسمه اسم ثمار الدنيا، إلا أنه لا يشبهه في الطعم ولا في اللون ولا في الرائحة، وهو قول مروي عن عبد الرحمن بن زيد وعن ابن عباس. قوله: {وَلَهُمْ فِيهَآ أزواج مُّطَهَّرَةٌ}.

26

أي مطهرة من أوساخ بني آدم؛ لا يحضن ولا يتمخطن ولا يتغوطن ولا يبلن، فهن سالمات من جميع الأقذار ولا يلدن. قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً}. حكى الطبري أن " يستحيي " بمعنى " يخشى "، كما وقع " يخشى " بمعنى " يستحيي " في قوله: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]. أي وتستحيي من الناس. و" تستحيي " فعل عينه ولامه حرفا علة صحت عينه واعتلت لامه، فتقول في الاسم: " هو مُسْتَحِي " بحذف لام الفعل في الرفع والخفض كقاض، وإثبات عينه. وتثبت اللام مع الغين في النصب، وتقول في التثنية: " رأيتهما مسْتَحْيِيَيْن " بثلاث ياءات فإن جمعت قلت: " هَؤُلاَءِ مُسْتَحْيُونَ "، بياء واحدة في الرفع. وفي

النصب والخفض، " مُسْتَحْيينَ " بياءين. فالأولى عين الفعل، والثانية ياء الجمع، ولام الفعل محذوفة في الجمع المنصوب والمرفوع والمخفوض لأن العلة لحقتها، بأن استثقلت عليها الحركة وهي كسرة لأن أصلها " مُسْتَحْيُونَ ". فلما سكنت حذفت لسكونها وسكون الحاء قبلها. وبنو تميم يحذفون لام الفعل، ويعلون العين في الجمع، فيقولون: / هُمْ مُسْتَحُونَ ". ومن العرب من يحذف إحدى الياءين في الفعل / فيقول: " يَسْتَحِي "، فيلقي حركة الياء الأولى على الحاء، فيكسرها ويحذف الياء لالتقاء الساكنين. وقوله: {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً}. معناه: إن الله جَلَّ ذكره لما ضرب المثل بالصيب وبالذي استوقد ناراً، قال المنافقون: " الله أعظم من أن يضرب مثلاً بهذا "، فأنزل الله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} الآية. قال الربيع: " هو مثل ضربه الله للدنيا، وذلك أن البعوضة تَحْيَا ما جاعت، فإذا شبعت ماتت، فكذلك الكافر إذا امتلأ من الدنيا أخذه الله، كما قال: {فَلَمَّا نَسُواْ

مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44]. وقال قتادة: " معناه إن الله لا يستحيي أن يذكر شيئاً من الحق قَلَّ أوْ كَثُرَ ". وقيل: إن هذا المثل مردود على " ما " في غير هذه السورة، وذلك أن الله جَلَّ ذكره لما ضرب المثل بالعنكبوت والذباب تكلموا وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلاً، كما حكى الله تعالى عنهم فأنزل الله {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} الآية. واختار الطبري أن يكون مردوداً على إنكارهم للأمثال في هذه السورة دون غيرها. وقوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}. " ما " و " ذا " اسم واحد للاستفهام في موضع نصب بـ " أراد " تقديره: أي شيء أراد الله. {مَثَلاً}: نصب على التفسير. ويجوز أن [تكون " ما "] استفهاماً في موضع رفع بالابتداء. و" ذا " بمعنى " الذي "، " وهو " الخبر وصلته ما بعده. وأراد " واقع على هاء محذوفة، أي

أراده الله. ومعنى {فَمَا فَوْقَهَا} أي دونها في الصغر. وقيل: معناه: فما أكبر منها، وهو اختيار الطبري، لأن البعوضة متناهية في الصغر، وإن كان ثم ما هو أصغر منها. قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ}. أي يعلمون أن هذا المثل حق. قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً}. أي يضل بهذا المثل خلقاً كثيراً، وهذا من قول المنافقين. وقيل: هو من قول الله جَلَّ ذكره، ودَلَّ عليه قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً}، وهذا لا يكون من قول المنافقين لأنهم لا يقرون أن هذا المثل / يهدى به أحد، فهو من قول الله بلا اختلاف. وكذلك قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} هو من قول الله؛ إذ لا يجوز أن يكون من قول المنافقين، لأنهم قد ضلوا به، ولا يقرون على أنفسهم بالفسق. فكذلك يجب أن يكون الذي قبله. / ويدل على أنه كله من قول الله D / قوله في

27

موضع آخر: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [المدثر: 31] يعني المنافقين {والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ} [المدثر: 31]. فقوله: {كَذَلِكَ} يعني به مثل ما قالوا في سورة البقرة، كذلك قالوا في هذا. وقال القتبي: " لما ضرب الله المثل بالعنكبوت والذبابة، قالت اليهود: ما هذه الأمثال التي لا تليق بالله، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} / الآية، فقالت اليهود: ماذا أراد الله بمثل ينكره الناس، فيضل به فريقاً، ويهدي به فريقاً، فقال الله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين}. فذكر الضلال والهدى في هذا القول من قول اليهود حكاه الله لنا عنهم. وأصل الفسق الخروج عن الشيء؛ يقال: " فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ " إذا خرجت عن قشرها. وقوله: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه}. العهد هاهنا، هو ما أخذه الله عليهم إذ أخرجهم من ظهر آدم وبنيه

كالذر، ودليله قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]. / وقيل: العهد هاهنا هو ما أخذه الله على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بمحمد A ودليله قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81]. قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}. معناه: يقطعون أمر دينه لئلا يتبع فيوصل الإيمان به. وقيل: معناه: يقطعون الرحم والقرابة التي بينهم وبين النبي A وأصحابه، لأنهم إذا كذبوه فقد قطعوه. فَ " أَنْ " في موضع خفض على البدل من الهاء في " به " أو في موضع نصب على البدل من " ما " أو على أنه مفعول من أجله. قوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض}. الفساد في الأرض في هذا الموضع عبادة غير الله تعالى: [وهي أعظم الفساد]. وقوله: {أولئك هُمُ الخاسرون}.

28

أصل الخسران النقص. والخاسر الناقص نفسه حظها من رحمة الله [ D] بمعصيته كما يخسر الرجل في تجارته. وقيل: معنى " الخاسرين " الهالكون. قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} الآية. أي من أين يتجه لكم الكفر بالله مع نعمه عليكم إذ كنتم أمواتاً فأحياكم. أي لم تكونوا شيئاً فأوجدكم. وفي " كيْفَ " معنى التعجب من فعلهم وليست باستفهام، ولكنها توبيخ / وتعجب. والعرب تسمي الشيء الممتنع ميتاً؛ يقولون: " هَذَا أَمْرٌ مَيِّتٌ " إذا كان ممتنعاً. وقيل: معناه كنتم تراباً، يعني به آدم A فجعلكم ذوي حياة. وقيل: معناه فأحياكم يعني في القبر للمساءلة ثم يميتكم في القبر بعد

المساءلة، ثم يحييكم يوم القيامة. ويلزم قائل هذا أن تكون الآية إنما خوطب بها أهل القبور، وذلك بعيد إلا أن يحمل على أنه [خطاب لمن حضر]. والمراد به آباؤهم وأسلافهم. ويكون " تكفرون " بمعنى في موضع " كفرتم " وفيه بعد. و " قد " مضمرة مع " كنتم " لأنه حال مما قبله. وقيل: المعنى أنهم كانوا أمواتاً في أصلاب الآباء ثم أحياهم في الأرحام، ثم يميتهم في الدنيا عند انقضاء آجالهم، ثم يحييهم يوم القيامة. وقيل: المعنى أنه أحياهم إذ أخرجهم من ظهر آدم لأخذ الميثاق، وقد كانوا أمواتاً لا حياة فيهم. وقيل: أيضاً: الموتة الأولى هي موتة النطفة في وقت خروجها من الرجل إلى الرحم لأن كل ما في الحي فهو حي حتى [يفارقه فيكون] في عداد الأموات،

وكذلك الأعضاء إذا فارقت الحي فهي ميتة، فكل ما في الإنسان من أعضائه وما يلزم جسده حي حتى يفارقه فيكون ميتاً. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: " أماته ثم أحياه في قبره - يعني لِلْمُسَاءَلَةِ - ثم أماته، ثم أحياه يوم القيامة ". وهذا قول قد تقدم نظيره. وقال ابن مسعود: " هي مثل قوله: {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] ". وسترى تفسير هذا في موضعه. / وقد قيل: إن معنى الآية: وكنتم أمواتَ الذِّكْرِ، فأحياكم حتى ذكرتم، ثم يميتكم، أي يردكم رفاتاً لا تذكرون، ثم يحييكم للحساب والجزاء فتذكرون. وهو مروي / عن ابن عباس. وهو اختيار الطبري. والهاء في {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تعود على الله D. وقيل: تعود على الأحياء للخلود في الجنة، أو في النار، أي ثم إلى الأحياء

29

ترجعون. والأول أحسن. قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء}. معناه: أقبل عليها. تقول العرب: " فلان مقبل على فلان، ثم استوى إليَّ يمشي "، أي أقبل إليّ. وقيل: معناه / تحول أمره وفعله إلى السماء. وقال القتبي: " استوى، عمد إليها ". وقال ابن كيسان: " استوى قصد ". قال غيره: " معناه قصد إلى خلقها بالإرادة لا بالانتقال ". يقال: " لما استويت إلى موضع كذا، ظهر لي كذا "، / أي لما قصدت بإرادتي إلى أمر كذا، ظهر لي كذا. وقيل: استوى: استولى. تقول العرب: " استوى فلان على المملكة ". أي استولى عليها واحتوى عليها.

واختار الطبري وغيره أن يكون " استوى " بمعنى " علا " على المفهوم في لسان العرب. قال أبو محمد: وليس: " علا " في هذا المعنى أنه تعالى علا من سفل كان فيه إلى علو، ولا هو علو انتقال من مكان إلى مكان، ولا علو بحركة تعالى الله ربنا عن ذلك كله، لا يجوز أن يوصف بشيء من ذلك، لأنها صفات توجب الحدوث للموصوف بها، والله جَلَّ ذكره أول بلا نهاية / لكن نقول: إنه علو قدرة واقتدار ولم يزل تعالى قادراً له الأسماء الحسنى والصفات العلا. فإنما دخلت " ثمَّ " في قوله: {ثُمَّ استوى} بمعنى القصد لخلق ما أراد أن يخلق على ما تقدم في علمه قبل، بلا أمد. والهاء في {فسواهن} تعود على السماء لأنها جمع سماوة. وقيل: السماء تدل على الجمع. وقيل: لما كانت السماء واسعة الأقطار، يقع على كل قطر منها اسم سماء جمع على هذا المعنى. والمعنى فَسَوَّى منهن سبع سماوات.

وقيل: سبع سماوات بدل من الهاء والنون، فلا تقدير حرف جر على هذا محذوف منه. وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهم في تفسير ذلك: " أن الله جَلَّ ذكره كان عرشه على الماء كما أخبرنا به في كتابه. قالوا: ثم أخرج من الماء دخاناً، فارتفع الدخان فوق الماء، فسما الدخان على الماء فَسَمَّاه سماء. ثم إنه تعالى بقدرته أيبس الماء، فجعله أرضاً واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين وذلك في يوم الأحد ويوم الاثنين، وجعل الأرض على حوت وهو النون، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفا، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة على الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان، فهي ليست في الأرض، ولا في السماء، فتحرك الحوت واضطرب، فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال، فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]. وخلق الجبال في الأرض وجعل فيها أقوات أهلها وشجرها ومصالحها في يومين، الثلاثاء والأربعاء، ودل على ذلك قوله: {خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10]- يعني اليومين الأولين والآخرين -، ثم قال:

{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]. فجعل / الدخان سماء واحدة، ثم فتقها سبع سماوات، وذلك في يومين الخميس والجمعة، ولذلك سمي يوم الجمعة لأنه اجتمع فيه تمام خلق السماوات والأرضين ". وقال مجاهد: " خلق الله الأرض قبل السماء، فثار منها دخان، فخلق منه السماوات ". وقد ذكر الله خلق الأرض قبل السماء في سورة السجدة، ثم ذكر في " والنازعات " دحو الأرض بعد السماء، فقال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]، فقال ابن عباس في معنى ذلك: " إنه تعالى خلق الأرض بأقواتها قبل السماء غير أنه لم يدحها، ثم خلق السماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك ". وقال ابن سلام: " بدأ الله الخلق يوم الأحد /، فخلق الأرضين يوم الأحد

30

والاثنين، وخلق الأقوات والجبال في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة وخلق آدم A في آخر ساعة من يوم الجمعة ". قال أبو محمد: ولو شاء تعالى ذكره لخلق ذلك كله في أقل من طرف عين، يفعل ما يشاء لا إله إلا هو، لا معقب لحكمه. قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} /. أي عليم بكل شيء قبل خلقه له، وقبل حدوثه، لا أنه علم محدث مع حدوث المعلومات تعالى عن ذلك، قد علم المعلومات كلها قبل حدوثها وكونها. قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة}. معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك. وقيل: معناه: ابتدأ خلقكم {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} لأنه ذكر معنى ذلك قبل / هذا فقال: {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] أي خلقكم إذ قال ربك. ودخلت الواو في " إذ " عطفاً على ما قبلها لأنه تعالى ذكر خلقه نعمه في إحيائهم بعد الموت، وأنه [خلق لهم] ما في الأرض جميعاً، وسوى لهم السماوات وغير ذلك من نعمه فعدد على خلقه نعمه. ثم قال: واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلت للملائكة اسجدوا له

تفضيلاً له وابتلاء للملائكة. وإلى هذا المعنى ذهب الطبري في هذه الواو، [وفي و " إذا "]. وقوله: {للملائكة}، اختلف في اشتقاق " ملك " وتقديره ومعناه. فقيل: واحدها مَلَكٌ، وأصله " ملأك " على وزن " مَفْعَل "، والهمزة بعد اللام وهي عين الفعل فجمع على الأصل على مفاعل، فقيل: " مَلائِكٌ " وزيدت الهاء للمبالغة. وقيل لتأنيت الصيغة. وقال ابن كيسان: " هو مشتق من " ملكت "، والهمزة في " مَلأْك " زائدة كزيادتها في شَمْأَلٍ، إذ هو من " شملت الريح " أي عمت ".

وقال غيره: هو مشتق من الأُلُوكَةِ، وهي الرسالة بالهمزة بالفعل لكن قلبت همزته وهي فاء، فصارت عيناً فأخرت بعد اللام وأَصْلُها " مَأْلَكٌ " ثم نقلت الهمزة بعد اللام فصارت " مَلَكاً "، وجمع على ذلك، ولم يرد إلى أصله وكان حقه / أن يرده الجمع إلى أصله، [فخرج عن الأصل في الجمع]. وقيل: هو مشتق من المَلأَكَةِ وهي الرسالة أيضاً حكاها أبو عبيد، يقال: " لأَكَ إِليهِ يَلأَكُ مَلأَكَةً " إذا أرسل إليه رسالة. ويقال في لغة أخرى: " أَلَكَْتُ إِلَيْهِ أَألْكُ مَأْلَكَةً " إذا أرسلت. فعلى / القول الأول من هذين القولين يكون " مَلَكٌ " مخفف الهمزة، ألقيت حركة الهمزة على اللام وأصله " مَلأَكٌ "، وجمعه " مَلاَئِكَةٌ ". والهمزة عين الفعل ولا قلب فيه، إنما فيه في الواحد تخفيف الهمزة [بنقل

حركتها] إلى الساكن قبلها وهو اللام. وعلى القول الثاني يكون " مَلأَكٌ " مقلوباً وأصله: " مَأْلَكٌ "، والهمزة فاء الفعل، ثم قلبت الهمزة، فصارت بعد اللام، ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام قبلها كالأول فصار ملكاً، فجمع على قلبه، ولم يرده الجمع إلى أصله لقلة استعماله بالهمز في الواحد. ولو جمع على أصله لقال: " مَآلِكَة "، ولكن لم يسمع جمعه على الأصل. قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}. معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم. وقيل: معناه: إني جاعل في الأرض خلقاً يخلفون من كان فيها ممن هلك، وذلك أن أهل التفسير ذكروا أنه روي أن الأرض كان فيها خلق من الجن فأفسدوا فيها فأهلكهم الله. والهاء في " خليفة " للمبالغة. وقيل: دخلت لأنه بمعنى داهية في المدح والذم، بمعنى بهيمة. قاله الفراء. وقيل: الهاء / [لتأنيث الصيغة]، وهي بمعنى فاعلة على هذا القول كرحيم بمعنى راحم. وعلى القول الأول يكون خليفة: فعيلة، بمعنى مفعولة أي مخلوقة؛

أي يخلف بعضهم بعضاً لا بقاء لهم، فكل واحد مخلوف، لأن من يأتي من بعده يخلفه، فهو كجريح وقتيل، بمعنى مجروح ومقتول. ومعنى " جاعل " خالق ومستخلف. قال ابن عباس: " أخرج الله آدم A من الجنة قبل أن يخلقه، وقرأ {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}. يريد أنه [قدَّر ذلك وعلمه وشاءه] قبل أن يخلق آدم. قوله: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية. روى كثير من المفسرين أن الملائكة علمت بفساد من سكن الأرض من الجن وسفكهم للدماء، فقالوا على طريق الاسترشاد وطلب الفائدة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ}؛ أي أيكونون مثل أولئك الذين أفسدوا؟، فسألوا مسترشدين لا منكرين، إذ لا علم عندهم بما يكون من أمر الخليفة التي أعلمهم الله أنه خالقها. وقيل: إنهم قالوا ذلك / على طريق التعجب كما تقول العرب " أتحسن إلى فلان وهو يسيء إليك! ".

وقيل: إن الله جَلَّ ذكره أذن لهم في السؤال عن ذلك. وقيل: إن الله تعالى ذكره / أعلمهم أنه يجعل في الأرض خليفة فسألوا على طريق الاسترشاد: ما يكون ذلك الخليفة؟ فقال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا عند ذلك على طريق الاستعظام والاستثبات لا على طريق الإنكار: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية. [قيل: قالوا] ذلك على التعجب مما أعلمهم الله به من إفساد ذرية الخليفة في الأرض وسفكهم للدماء. والله أعلم بأي ذلك كان. فالألف في {أَتَجْعَلُ} لفظها لفظ الاستفهام ومعناها الاسترشاد أو التعجب على قول من رأى ذلك على ما ذكرنا. وعن ابن عباس أنه قال: " كان إبليس من / حي من أحياء الملائكة، يقال لهم الجن وهم من الملائكة. خلق الله ذلك الحي من نار السموم، وخلق سائر الملائكة غير هذا الحي

من نور، وخلقت الجن غير هذا الحي الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، والمارج هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وخلق الإنسان من طين. فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين في الأرض فقتلوا وطردوا حتى لحقوا بالبحار وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اعتدَّ في نفسه وقال: قد صنعت ما لم يصنع غيري، وكان من خزان الجنة. فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة. فقالت الملائكة غير إبليس وحيه: أتجعل فيها من يفسد فيها كأولئك، على طريق الاسترشاد. أي هل يكونون مثل أولئك المفسدين أو يكونون مصلحين ". وقيل: " قالوا ذلك على طريق التعجب، فقال الله لهم: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، أي إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا أنتم عليه. فخلق آدم A من طين لازب، واللازب اللزج الملتصق من الحمأ المسنون، والمسنون ذو الرائحة صار حمأ

حمأ بعد أن كان طيناً لزجاً. فلما خلقه تعالى مكث آدم أربعين ليلة جسداً ملقى، فكان إبليس اللعين يأتيه فيضربه برجله فيصلصل ويصوت، فهو قول الله D: { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14]. ثم كان إبليس اللعين يدخل في في آدم [عليه السلام] ويخرج من دبره، ثم يقول: لشيء ما خلقت، لئن سلطت عليك لأهلكنك. فلما نفخ فيه الروح، أتت النفخة من قبل رأسه فلا تصل إلى شيء، إلا صار لحماً ودماً /. فلما انتهت النفخة إلى سرته، نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] و {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] /. فلما تمت النفخة في بدنه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، بإلهام الله له. فقال له الله: يرحمك ربك يا آدم، ثم قال الله تعالى لإبليس وحيِّه من الملائكة خاصة دون غيرهم: اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس تكبراً وعزة فأبلسه الله، أي

أيأسه من الخير كله، وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة له بالمعصية، ثم عَلَّم الله آدم الأسماء كلها. قال المفسرون: عَلَّمه اسم كل شيء حتى الضرطة. وقال الله للملائكة - جند إبليس -: أنبئوني بأسماء هؤلاء: فقالوا لا علم لنا. فقال يا آدم: أنبئهم بأسمائهم، فأنبأهم آدم بأسمائهم. وقيل: إنما عني بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الملائكة الذين كانوا في الأرض بعد هلاك من كان فيها دون غيرهم من ملائكة السماوات. والله أعلم بأي ذلك كان، واللفظ على عمومه حتى [يأتي دليل تخصيصه]. قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]. معناه: أعلم ما أسر إبليس في نفسه من الكِبَرِ والعزة. وهذا التأويل يدل على أن الخطاب الذي تقدم في قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} إنما كان من هذا / النوع من الملائكة الذين حضروا مع إبليس قتال المفسدين في الأرض دون غيرهم من الملائكة. وهو قول الطبري.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: " إن هذه القبيلة من الملائكة سميت الجن لأنهم كانوا من خزان الجنة ". وهو من الاستجنان؛ وهو الاستتار. وإنما سميت الجنة جنة لأنها تَجن مَنْ دَخَلَها؛ أي تستره بشجرها وثمارها وعروشها. وروي عنه أيضاً أنه قال: " إن إبليس كان ملك سماء الدنيا، وكان خازناً للجنة مع ذلك. فلما تمكن دخله العجب والكبر، وقال: لم أُعط هذا إلا ولي مزية على الملائكة. فاطلع الله على ما في سرِّه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، فسألت الملائكة عن الخليفة فقال: تفسد ذريته في الأرض فتعجبوا وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء}. فبعث الله جبريل ليأخذ من طين الأرض، فاستعاذت منه فرجع ولم يأخذ شيئاً إجلالاً لحق من استعاذت به، ثم بعث الله ميكائيل فاستعاذت، فرجع ولم يأخذ شيئاً. فبعث الله ملك الموت فاستعاذت منه، فاستعاذ هو منها، وأخذ ما أراد من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك بنو آدم مختلفو الألوان ".

ثم مضى الحديث كالأول أو قريب منه، غير أن فيه: " فكان آدم جسداً من طين أربعين سنة، ففزعت منه الملائكة وكان أشدهم فزعاً إبليس / وفيه: أن آدم عليه السلام لما دخل الروح رأسه، قال: الحمد لله. فقالت له الملائكة / رحمك ربك يا آدم. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى الجنة، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه ". وهذه الرواية تدل على أن المخاطبين المأمورين بالسجود لآدم A هم الملائكة كلهم، وهو ظاهر القرآن. وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم أنه سيكون من ذرية آدم أنبياء ورسل وصالحون وعباد وأخيار وساكنو الجنة. قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}. معناه: نعظمك بالحمد والشكر.

وقيل: التسبيح الصلاة. وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِنَّ للهِ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْع / مَلاَئِكَةً يُصَلُّونَ، وإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله: مَا صَلاتُهُمْ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ A شَيْئاً، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: يا نَبيَّ الله: سَأَلَكَ عُمَرُ عَنْ صَلاَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ. قَالَ: نَعَمْ، فَقال لهُ: أَقْرِئْ عَلَى عُمَرَ السَّلامَ وأخْبِرْهُ أنَّ أَهْلَ السَّماءِ الدُّنْيَا سُجُودٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي المُلْكِ وَالمَلَكُوتِ. وإنَّ أهْلَ السَّماءِ الثَّانِيَةِ رُكُوعٌ إِلَى يَوْمِ القِيامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذي العِزَّةِ وَالجَبَرُوتِ، وأَهْلِ السَّماءِ الثَّالثَةِ قِيَامٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحَانَ الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ". وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه والتبرئة له سبحانه من إضافة ما ليس من

صفته إليه. وقوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ}. أصل التقديس التطهير. ومعناه نطهر أنفسنا لك. وقيل: التقديس الصلاة. وروي ذلك عن قتادة. وروي عن أبي صالح: " ونقدس لك، نعظمك ونمجدك. قوله: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. قد تقدم بيانه. وقد قيل فيه: إن معناه إني اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطّلعوا عليه، إني علمت ما أضمر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم A [ ومن] عداوته له ولذريته. وقيل: معناه إني عليم من آدم المعصية ثم التوبة عليه / وإهباطه إلى

الأرض، وما يكون من ذريته إلى يوم القيامة ومن هو سعيد، ومن هو شقي منهم. وروي أن إبليس اللعين لما رأى صورة آدم وحسنها قال للملائكة: إني أرى صورة مخلوق يكون له نبأ. أرأيتكم إن فضل عليكم ماذا تفعلون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا، ونفعل الذي يأمرنا به. فهذا قوله: {مَا تُبْدُونَ}. وقال إبليس في نفسه: " لئن فُضِّل علَيّ لا أطيعه، ولئن فُضِّلتُ عليه لأهلكنَّه، وهذا قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، فلما نفخ الله D / في آدم A الروح جلس فعطس، فقال آدم: الحمد لله رب العالمين فكان ذلك أول ما تكلم به آدم / عليه السلام فردَّ الله عليه: يرحمك الله لهذا خلقتك "، فهو قوله: {ولذلك خَلَقَهُمْ} [هود: 119]، أي للرحمة خلقهم. وقال مجاهد: " علم الله من إبليس المعصية وخلقه لها ". تم الجزء [الأول]

31

قوله: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء} الآية. اختلف في اشتقاق آدم؛ فقال فيه ابن عباس: " سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ". وقال قطرب: " آدم أفعل من الأدمة ". وقيل هو أفعل من " أدمت بين الشيئين " أي خلطتهما. وقال الطبري: " هو فعل ماض رباعي سمي به الشخص ". وقال قطرب: " من قال هو من أديم الأرض، يلزمه صرفه لأنه فاعل ". وذكر النحاس أنه أفعل من أديم الأرض وأدمتها، وهو ظاهر وجهها، ومنه سمي الإدام لأنه وجه الطعام وأعلاه والعرب تسمي الجلد الظاهر أدمة، والباطن بشرة. وحكي عن الأصمعي أن باطنه الأدمة وظاهره البشرة، وهو أولى من

الأُولى. ويجمع آدم إذا كان صفة كحُمْر، وأوادم إذا كان اسماً " كأحامدٍ ". قوله: {الأسمآء}. قيل: " وعلمه أسماء كل شيء حتى القصعة والفسوة ". قاله قتادة. وقيل: " علمه أسماء الملائكة خاصة " قاله الربيع بن خثيم. قال مجاهد: " علمه الله اسم كل شيء: هذا جبل، هذا بحر، هذا كذا، هذا كذا، لكل الأشياء ". قال ابن جبير: " علمه اسم كل شيء حتى البعير والبقرة والشاة ". قال عكرمة: " علمه اسم الغراب والحمامة وكل شيء ". وقال غيرهم: " علمه أسماء الأجناس والأنواع ".

وقال ابن زيد: " علمه أسماء ذريته كلهم ". واختار الطبري أن يكون علمه أسماء ذريته والملائكة لقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ولم يقل " عرضها " ولا " عرضهن " / الذي هو لما لا يعقل. وقيل: علمه اسم كل شيء ومنفعته ولماذا يصلح. وقال القتبي: " علمه أسماء ما خلق في الأرض ". وفي قراءة أُبي: " ثُمَّ عَرَضَها "، " يريد عرض الأسماء ". وقوله " عَرَضَها " ولم يقل " عرضهم " يدل على أن الاسم هو المسمى، وهو مذهب أهل السنة. وفي قراءة عبد الله " ثُمّ عَرَضَهُنَّ " على التأنيث لما لا يعقل من الموات والأجناس. / وقال ابن عباس: " إنما عرض الأسماء على الملائكة ". وعن ابن مسعود: " أنه إنما عرض الخلق ".

فعلى الأول يكون " عرضها ". وعلى الثاني يكون " عرضهم ". قال مجاهد: " عرض أصحاب الأسماء على الملائكة ". وقال ابن زيد: " عرض أسماء ذريته كلها، أخذهم من ظهره، ثم عرضهم على الملائكة ". وقال ابن الأنباري: الهاء في " كلها " تعود على / الأسماء، والهاء في " عَرَضَهم " تعود على الأشخاص. والهاء في " أنبِئهم " وفي " بأسمائهم "، وفي " أنبأهم " وفي " بأسمائهم " كلها تعود على الملائكة على قول من قال: إن الله تعالى علمه أسماء الملائكة، ويعود على الأشخاص على القول الآخر. قوله: {إِن كُنْتُمْ صادقين}. جوابه عند المبرد محذوف، معناه: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في

الأرض ويسفكون الدماء فأنبئوني. قوله: {إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات}. هو ما غاب عن الملائكة مما سبق في علمه مما ذَكَرَهُ في كتابه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. قوله: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}. هو قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}. و {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}: هو ما أضْمَر إبليس في نفسه من الكبر والعز. روي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة والتابعين. وقال سفيان: " {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} هو ما أسر إبليس في نفسه من ترك السجود لآدم [والكبر] ". وقال قتادة: " كتمانهم هو قولهم فيما بينهم: يخلق الله ما يشاء، فلن يخلق خلقاً إلا ونحن أكرم منه ".

وقيل: إنهم قالوا ذلك عند رؤيتهم لخلق آدم. وعن ابن عباس " أنه عام فيما يظهرون وما يكتمون ". وإبليس إفعيل من " أبلس " إذا يئس كأنه يئس من الرحمة، لم يصرف لقلة. وقيل: هو أعجمي، ولذلك لم يصرف في المعرفة. قال أبو عبيد: " لم يصرف لأنه لا نظير له في الأسماء "، وهو عنده " فِعْلِيل " أو " إِفْعِيل ". قوله: (أَبَى): أتى مستقبله على " يفعل " على التشبيه بِ " قرأ، يقرأ "، لأن الهمزة تبدل منها الألف، وهي من حروف الحلق / مثلها. وقالوا: " جبى، يجبي " من الجباية بالفتح، " وقلى يقلى " بالفتح على التشبيه أيضاً. وإبليس [في قول] ابن عباس: كان من حي من أحياء يقال لهم الجن، خلقوا

/ من نار السموم، وكان اسمه الحارث، وكان من خزان الجنة. وروي عنه أيضاً أنه قال: " كان إبليس من الملائكة واسمه عزرائيل، وكان من سكان الأرض وكان شديد العبادة وواسع العلم، فدعاه ذلك إلى الكبر ". وإنما سمي من الجن لأنه كان خازناً للجنة، فكأنه منسوب إليها، كما تقول: مكي وبصري وشامي. وقيل: سمي من الجن لأنه لا يرى، كما سمى الله الملائكة جناً، فقال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158]. وأصله كله الاستتار. وقال شهر بن حوشب: " كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض / حين أفسدوا فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء ". وهذا

غير معروف. وقال / سعد بن مسعود: " سما إبليس من الأرض وهو صغير، فكان مع الملائكة فتعبد، فلما أمر بالسجود لآدم امتنع فذلك قوله {كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50]. وقال ابن زيد: " إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس ". وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله خلق خلقاً فقال: " اسجدوا لآدم فأبوا فأحرقهم، ثم [خلقَ خَلقاً] آخر فأبوا فأحرقهم ثم خلق هؤلاء فسجدوا إلا إبليس كان من أولئك الذين أبو السجود لآدم ". والسجود الذي أمروا به إنما هو على جهة التحية، لا على جهة العبادة. وقيل: أمروا بذلك إكراماً له. وقيل: معناه: اسجدوا إليه كما يسجد إلى الكعبة فجعل قبلة إكراماً له.

35

وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن آدم A استوحش في الجنة قبل أن تخلق حواء بعد لعن إبليس وخروجه من الجنة، فنام نومة فاستيقظ، فوجد امرأة عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه من شقه الأيسر فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولِمَ خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. فقالت له الملائكة - ينظرون مبلغ علمه -: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولِمَ سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. فكان أصلها " حيّاء "، ثم أبدل من الياء واو ". قوله: {رَغَداً} إلى قوله: {مِمَّا كَانَا فِيهِ}. قوله: {رَغَداً} أي واسعاً. وقيل: هنيئاً. وقال مجاهد: " رغداً لا حساب عليهما فيه "، وهو من السعة في المعيشة. قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه: " الشجرة شجرة العلم، فيها أنواع

الثمار كلها ". وعن ابن جريج أنه قال: " هي التينة ". وعن ابن عباس أيضاً وأبي مالك: " الشجرة السنبلة لكن الحبة منها ككلى البقر ألين من الزبد وأحلى من العسل ". وروى عن ابن مسعود أنها الكرمة. وذكر ذلك أيضاً عن ابن عباس، وعليه أكثر المفسرين، ولذلك حرم الله الخمر في قول بعضهم. قال / أبو هريرة: " هي العنبة نهي آدم عنها، وجعلت فتنة لولده من بعده ".

وتزعم اليهود عليها اللعنة أنها الحنطة. قوله: {فَأَزَلَّهُمَا}. أي استزلهما، ومن قرأ: (فَأَزَالَهُمَا) وهو حمزة فمعناه نحّاهُما. والهاء في " عَنْها " تعود على الشجرة، يعني حسدهما إبليس اللعين على ما كانا فيه، فاستزلهما وتكبر عن السجود لآدم A. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: " بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح: حسد إبليس وتكبر على آدم، وشح آدم، فقيل له: كُلْ من شجر الجنة إلا التي نهى / عنها فشح فأكل منها ". قال وهب بن منبه: " لما أراد إبليس من آدم عليه السلام ما أراد دخل في جوف الحية، وكان لها أربع قوائم كالبختية، فدخلت الجنة، وخرج إبليس إلى الشجرة وأخذ منها، وجاء إلى حواء فقال لها: انظري ما أطيب هذه الشجرة وأحلاها وأحسن ريحها.

فأكلت منها ثم مضت إلى آدم A فقالت له مثل ما قال إبليس، فأكل منها، فبدت له سوأته عند ذلك، وقام فدخل في جوف الشجرة. فقال الله تعالى: يا حواء أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملتيه كرهاً، ولا تضعين ما في بطنك إلا أشرفت على الموت مراراً. ثم لعن الحية لعنة تحولت قوائمها في بطنها، ولا [رزق لها] إلا التراب، وجعلها عدوة لبني آدم، تهلكهم إذا لدغت أحدهم ويقتلونها إذا ظفروا بها ". وقال ابن عباس: " أتى إبليس اللعين ليدخل على آدم A / فمنعته الخزنة فقال للحية وهي كأحسن الدواب: أدخليني في فقمك، أي في جانب فمك، حتى أدخل الجنة ففعلت ومرت بالملائكة وهم لا يعلمون ما صنعت، فخرج إلى آدم /

فقال: {ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} [طه: 120]، كما حكى الله جل ذكره. وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها / كنت ملكاً مثل الله سبحانه أو تكون من الخالدين، وحلف لهما بالله إني لكما من الناصحين فأبى آدم عليه السلام أن يأكل، فتقدمت حواء فأكلت ثم قالت: يا آدم، كُلْ، فإني قد أكلت فلم تضرني، فلما أكل بدت لهما سوآتهما ". وروي أنهما لما أكلا من الشجرة سقط عنهما لباسهما وهو النور الذي كان ألبسهما الله إياهما، فهرب آدم من ربه D مستتراً بورق الجنة، فناداه ربه: أفراراً مني يا آدم؟ قال: بل حياء منك يا رب. ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً، فقال له الله جل ذكره: أما خلقتك بيدي؟ أما أسجدت لك ملائكتي؟ أما نفخت فيك من روحي؟ أما أسكنتك في جواري؟ فَلِمَ عصيتني؟ أخرج من جواري، فلا يجاورني من عصاني، فقال آدم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله أنت رب، عملتُ

سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين. سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني، إنك أرحم الراحمين. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ربي عملت سوءاً، وظلمت نفسي فتب علي / إنك أنت التواب الرحيم ". فهذه الكلمات التي ألهمها الله D. قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ}. وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " لَمْ يَحْزَنْ حُزْنَ آدَمَ أَحَدٌ قَطْ؛ بَكَى أرْبَعينَ عاماً، وسَجَدَ أرْبَعينَ عاماً تائِباً حَتَّى قَبِل اللهُ مِنْهُ ". وقال الحسن: " بكى آدم عليه السلام على الجنة ثلاثمائة ". وقال ابن زيد: " لو أن بكاء داود وبكاء جميع أهل الأرض عدل ببكاء آدم على الجنة ما عدله ".

وقال ابن إسحاق: " لما دخل إليهما إبليس بكى وناح عليهما كيداً منه، فقالا له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما تموتان، وتفارقان ما أنتما فيه، فوقع ذلك في أنفسهما، ثم وسوس إليهما وحلف لهما فأكلا منها "، قال: و " ذهب آدم عليه السلام في الجنة هارباً لما أكل، فقال له [ربه: يا آدم] أمني تفر؟ قال: لا يا رب، ولكن حياء منك. قال الله: يا آدم: إنه أوتيتَ مِن قِبل حواء. قال: أي رب. قال الله: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة، وأن أجعلها سفيهة وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً ". وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل،

ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل. وقال جماعة من أهل التأويل: " لم يدخل إبليس الجنة وإنما وسوس إليه شيطانه الذي جعله الله ليبتلي به آدم وذريته ويأتي ابن آدم في يقظته ونومه، وعلى كل حال. وقد قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20]، وقال: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة} [الأعراف: 27] فأخبرنا أن الذي أخرج أبانا هو الذي يوسوس في صدورنا ". وعن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إنّ الشّيْطانَ يَجْري مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم ". قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. يعني آدم وحواء / والحية / وإبليس. فنزل إبليس أولاً نحو الأبُلَّة في المشرق،

ونزل آدم على جبل من جبال الهند ونزلت حواء بجَدة، ونزلت الحية بأصبهان. وروي أنه لما خرج آدم إلى شقاء الدنيا أتاه جبريل عليه السلام فعلمه كيف يحرث فحرث، ثم زرع، ثم حصد، ثم درس، ثم خبز ثم أكل، فلما عرض له الخلاء جاء وذهب وتردد، وهو لا يدري ما حدث به ولا ما يصنع، فقعد وتعصر فخرج منه الحدَث مُنتِنا، فقال: يا رب ما هذا النتن؟ فقال: هذه ريح خطيئتك ". قوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ}. أي قرار إلى حين، وقيل: / القرار في القبور، وروي ذلك عن ابن عباس. قوله: {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}، أي إلى الموت. وقيل: إلى قيام الساعة فتخرجون من القبور. وقيل {إلى حِينٍ}: إلى أجل قد علمه تعالى. وقال أبو موسى الأشعري: " إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض، علمه صنعة كل شيء، وزوَّده من ثمار الجنة، فثمركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه

تتغير، وتلك لا تتغير ". قوله: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات}. أي أخذها وقبلها. وقيل: ألهمها فانتفع بها إذا رفعت، ومَن نصب " آدم " فمعناه أن الكلمات رحمة من ربه أدركتْه قاستنقذته. فالكلمات فيما روي عن ابن عباس [قول آدم]: أي رب: ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، ثم قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. ثم قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ / قال: بلى، ثم قال: أي رب. أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. فذلك تَلَقّيه ". وزاد قتادة أنه قال: " وسبقت رحمتك إلي قبل غضبك، قيل له: بلى. قال: رب هل كتبت هذا علي قبل أن تخلقني؟ قيل له: نعم. قال / رب إن تبت

وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم ". وقال الحسن: " هو قولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} الآية ". وقال قتادة: " هي قول آدم عليه السلام: يا رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذاً أدخلك الجنة ". وقال عبيد بن عمير: " قال آدم: يا رب خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني؟ [أو شيء أنا ابتدعته] من قبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفرْهُ لي، فذلك الذي تلقى آدم ". وقال عبد الرحمن بن زيد بن معاوية: " قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فتب علي إنك أنت التواب الرحيم، فذلك

الذي تلقى ". وروي عن مجاهد أنه قال: " هو قول آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ". وروي عنه أنه قال: " هو قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} الآية ". وروى عنه ابن جريج أنه قال: " هي قول آدم: رب أتتوب عَلَيَّ إن تبت؟ قال: نعم. فتاب عليه ربه ". / روي أن آدم رأى كَلِماً في الجنة مكتوب: لا إله إلا الله محمد عبدي ورسولي، فعلم آدم أن محمداً A أكرم الخلق عليه، فقال حين أخطأ: اللهم بحق

38

محمد اغفر لي خطيئتي، فغفر الله له ". وكانت كنيته أبا محمد، وقيل: أبا البشر. فذلك قوله: {فتلقىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات}. قال ابن عباس: / " تاب الله على آدم يوم عاشوراء ". قوله: {قُلْنَا اهبطوا}. يريد آدم وإبليس وذرية آدم. وقيل: آدم وإبليس وحواء والحية. وقيل: آدم وحواء فقط، وجمعا كما يخاطب الواحد بلفظ الجمع لشرفه. قال مجاهد: " أهبط آدم بأرض الهند فحج البيت على قدميه أربعين حجة، فقيل له: ولم تكن معه دابة تحمله؟ فقال: وأي دابة تطيقه؟ كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام، وموضع قدميه كالقرية ". روى ابن وهب عن مالك أنه قال: " إن آدم لما أهبط إلى الأرض بالسند والهند، قال: يا رب أهذه أحب الأرض إليك أن نعبدك فيها؟ فقال: بل مكة، فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيْت، ويعبدون الله،

40

فقالوا: مرحَباً بآدم، أبي البشر، إنا منتظروك هنا منذ ألفي عام ". قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}. أي رسل وأنبياء مخاطبة لذرية آدم. وقيل: هُدى بيان من أمري. وقيل: الهدى محمد A. { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} أي من أطاعه وآمن به فلا خوف عليه في الآخرة. وبنو إسرائيل هم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن A. و " إسرا ": بمعنى عبد. و " إيل ": هو الله [ D] بالعبرانية، وهو مخاطبة لبني قريظة والنضير ثم عام في جميع بني إسرائيل. قوله: {نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}. " هو أن جعلت منكم الرسل / والأنبياء، وأنزلت عليكم الكتاب ". قال ذلك أبو العالية.

وقال مجاهد: " النعمة تفجر الحجر وإنزال المن والسلوى عليهم، وإنجاؤهم من آل فرعون ". وقال ابن زيد: " نعمته الإسلام، ولا نعمة أعظم منها، وما سِواها تبع لها ". قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. العهد هنا عن قتادة قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12]. من كل سبط شاهد على سبطه، إلى قوله: {الأنهار} [المائدة: 12]. وعن ابن عباس: " هو ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل من التصديق بمحمد A وطاعته واتباع أمره ". {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}: الجنة والتجاوز عن الصغائر. / واختيار الطبري أن يكون هو ما أخذ عليهم في التوراة من أن

41

يبينوا للناس أمر النبي A كما قال تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]. أي أمْر محمد A وقال: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]. فالمعنى آمنوا بمحمد A وانصُروه كما عهدت إليكم في التوراة؛ أوف لكم بما عهدت لكم من دخولكم الجنة. وروي أن في التوراة: " هو أحمد الضحوك القتول يركب البعير ويلبس الشمْلة ويجتزي بالكسرة، سيفه على عاتقه ". ومعنى {فارهبون} أي خافون واخشوني أن أنزل بكم ما أنزلت بمن / كان قبلكم من النقمات. قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ}. أي هذا القرآن يصدق التوراة والإنجيل لأن فيها الأمر باتباع / محمد A، وكذلك في القرآن. فمن لم يتبعه فقد كفر بالجميع؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وكذلك حكى الله عنهم، فإذا جحدوا به فقد جحدوا ما هو مكتوب عندهم، ومَن جحَد حرفاً واحداً من كتاب الله فهو جاحد للجميع. قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}. أي أول من كفر. وقيل: أول فريق كافر.

وقيل: معناه: لا تسبوا الكفر وأنتم علماء فيُقتدى بكم. وقيل: معناه: [ولا تكونوا] أول من كفر به من أهل الكتاب؛ يريد قريظة والنضير خاصة، لأنه قد كفر به المشركون قبل ذلك / بمكة، وليس نهيه أن تكونوا أول كافر يبيح لهم أن يكونوا ثانياً أو ثالثاً فما بعده، لأن النهي عن الشيء لا يكون دليلاً على إباحة أضداده. وذلك في الأمر جائز، يكون الأمر بالشيء دليلاً عن النهي عن أضداده. والهاء في " به " تعود على محمد A. وقيل: على كتابهم لأنهم إذا كفروا بمحمد A، فقد كفروا بكتابهم. وقيل: الهاء تعود على القرآن لأنه جرى ذكره في أول الآية، ولم يجر ذكر محمد A ولا التوراة والإنجيل باللفظ، ولكن جرى ذلك بالمعنى في قوله: {لِّمَا مَعَكُمْ}.

42

وقيل: إن هذا خطاب لقريظة والنضير لأن رسول الله A قدم عليهم فعصوه فكانوا أول من كفر به من اليهود. قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً}. كان لأشراف اليهود مأكلة يأكلونها من أموال الناس كل عام على الدين فخشوا أن يؤمنوا فتذهب مأكلتهم. قوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل}. أي: [لا تخلطوا الحق بالباطل، وهو إظهار] المنافق الإيمان بلسانه وجحوده بقلبه. وقيل: هو قول بعض اليهود: " محمد نبي مرسل مبعوث إلا أنه لم يبعث إلينا "، / فيقرون ثم يجحدون. وقال مجاهد: " لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ". وقال ابن زيد: " الحق التوراة، والباطل [ما كتبوه وغيروه] بأيديهم ".

43

قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي تكتمون أمر محمد وأنتم تعلمون أنه نبي مبعوث A إلى الخلق كافة، تجدونه مكتوباً عندكم كذلك في التوراة والإنجيل. قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}. إنما أمروا بهذا لأنهم كانوا يأمرون الناس به ولا يفعلونه، دل عليه قوله: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون أنفسكم ". والزكاة النماء والزيادة. سميت بذلك لأنها تنمي المال وتثمره. وروى أنس بن مالك أن النبي A قال: " رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رجالاً تُقْرضُ شِفاهُهُمْ بِمَقَاريضَ مِنْ نارٍ، فَقُلْتُ: يا جِبْريلَ مَنْ هَؤُلاءِ؟ فقالَ: هؤلاءِ خُطَباءٌ يأْمرونَ النّاسَ بالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ ". وقيل: كانوا ينهون الناس عن الكفر بشيء من التوراة والإنجيل ويقولون: تمسكوا بما فيهما، وهم يكفرون بما يجدونه فيهما من أمر محمد A وينقضون ما

45

عهد إليهم في ذلك. وقيل: إنهم كانوا يخبرون الأنصار بصفة محمد A، ويأمرونهم بالإيمان به، وهم يؤمنون به قبل مبعثه، فلما بعث آمنت به الأنصار، وكفرت به اليهود. ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. أي أفلا تعقلون / أن وبال ذلك راجع عليكم. وأصل العقل المنع. يقال: " عَقَلْتُ نَفْسي عَنْ كَذا " أي مَنَعْتُها، " وَعَقَلْتُ البَعيرَ " إذا ربَطْتَهُ "، وعَقَلْتُ عَنِ الرّجُلِ " إذا لَزِمَتْهُ دِيَّةً فَأَعْطَيْتَها عَنْهُ. فهذا فرق بين عَقَلْتُهُ و " عَقَلْتُ عَنْهُ ". قوله: {بالصبر والصلاة}. الصبر الصيام. وأصل الصيام الحبس. وقيل: معناه اصبروا على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: " معناه بالصبر على أداء الفرائض،

وبالصلاة على تمحيص الذنوب ". وقال مقاتل: " معناه استعينوا بهما على طلب الآخرة ". وقال مجاهد وغيره: " الصبر الصوم ". وقيل: معناه: أصبروا أنفسكم عن المعاصي، أي أحبسوها. وذكر الصلاة ها هنا لما فيها من الذكر والخشوع. وكان رسول الله [ A] " إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَزَعَ إِلى الصَّلاةِ " وقال الله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] فهي مما / يستعان بها على / ترك المعاصي وفعل الخير / كله. وكان ابن عباس إذا أصيب بمصيبة توضأ، وصلى ركعتين ثم قال: " اللهم قد فعلنا ما أمرتَنا فأنجز لنا ما وعدتَنا ". وقال أبو العالية: " معناه واستعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، فإنهما من

طاعته ". قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}. إنما وُحِّد، وأتى بضمير الصلاة لأن المعنى قد عرف، وكانت الصلاة أولى لقربها و " لجمعها الخير "، ولأنها أقرب إلى الضمير. وقيل: المعنى: وإن إجابة محمد A لكبيرة، فالهاء تعود على إجابته / لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه ويأمر به. ومعنى " كبيرة " ثقيلة شديدة، إلا على الخاشعين وإلا على الذين هدى الله. والخاشع الخائف من الله. وأصله التواضع، والتذلل، والاستكانة. وقيل: الهاء في " إنها " تعود على تولية الكعبة. وقيل: تعود على الاستعانة ودل عليه " استعينوا ". قوله: {عَلَى العالمين}.

أي على عالم [أهل ذلك الزمان] وذلك أنه فضلهم بالرسل والكتب. قوله: {يَظُنُّونَ}. معناه: يوقنون. والهاء في " إليه " تعود على اللقاء. وقيل: على الله جل ذكره. قوله: {لاَّ تَجْزِي}. أي لا تقضي، " جزى عني الشيء "، قضى، و " أجزأني، كفاني، مهموز. وقيل: هما بمعنى واحد. وأصل الجزاء القضاء والتعويض. قوله: {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ}. أي لا تقضي ولا تغني. وهي خاصة لقول النبي [عليه السلام]: " شَفاعَتي لأَهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتِي ". ولقوله: " لَيْسَ مِنْ نَبِيّ، إلاّ وقَدْ أُعْطِيَ دَعْوَةً، وإِنّي اخْتَبأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً

لأِمَّتِي وَهِيَ نائِلَة مِنْهُم مَنْ لا يُشْرِكُ بِالله شَيْئاً ". فألفاظ الآية عامة، ومعناها الخصوص، هي في الكفار خاصة، وفي هذه الآية رد على اليهود لأنهم زعموا أنهم لا يعذبون يوم القيامة لأنهم أبناء الأنبياء، وأن آباءهم يشفعون لهم عند الله، فرد الله ذلك عليهم في هذه الآية. قوله: {مِنْهَا عَدْلٌ}. أي: فداء. وعن ابن عباس: " عدل: بدل ". وعن النبي A: " العَدْلُ: الفِدْيَةُ ". وقولهم: " لا يقبل منه، صرف ولا عدل ". وقيل: العدل: الفدية، والصرف: الحيلة. قاله ابن السكيت. وقال المازني: " العدل: الفريضة، والصرف: النافلة ".

وقيل: للفدية: عدل، لأنها مثل الشيء، وأصل " عدل الشيء " مثله. والعِدل - بكسر العين - ما حُمل على الظهر. يقال: " عِنْدي غلامٌ عِدْلُ غُلامِكَ، وَشاةٌ عِدْلُ شاتِكَ "، بِكسر العين، إذا كان أحدهما يعدل الآخر. وكذلك يفعل في كل شيء يماثل الشيء من جنسه فإن أردت أن عندك / قيمته من غير جنسه فتحت العين فقلت: " عِنْدي عَدْلُ غُلاَمِكَ وَعَدْلُ شاتِكَ ". أي قيمتها بفتح العين. وروي في " العدل " الذي بمعنى الفدية كسر العين لغة. والضمير في " ولاَّهُمْ " يعود على الكفار لأن النَّفْسَين [المذكورتين تدلان] على ذلك. وقيل: تعود على النفسين لأنهما بمعنى الجمع لم يقصد بهما قصد نفسين بأعيانهما ولأن التثنية أول الجمع، فهي جمع.

قوله: {وآلِ فِرْعَوْنَ}. أصله: أهله، وترجع الهاء في التصغير. وجمعه آلون. وجمع " آل " الذي هو السراب " أَأْوالٌ " كمالٍ وأمْوالٍ. و" آل " المختار فيه ألا يضاف إلا إلى الأسماء المشهورة نحو آل هشام وآل محمد A فإن أضفته إلى البلدان والأرضين لم يجز عند جماعة من أهل العربية واللغة / لا يقال: آل المدينة ولا آل مصر، وإنما يقال بالهاء، حكاها الكسائي. وسمع الأخفش آل المدينة وآل مكة نادران لا يقاس عليهما. واسم فرعون الوليد بن مصعب. وقيل: مصعب بن الريان، وهو اسم كانت ملوك العمالقة تتسمى به. وكانت ملوك الروم تتسمى قيصراً وهِرقلاً، وملوك فارس تتسمى كسرى،

وملوك اليمن تُبَّع ". قال مجاهد: " فرعون موسى فارسي من أهل اصطخر قدم مصر فكان بها ". قوله: {يَسُومُونَكُمْ} أي: يوردونكم. وقيل: يذيقونكم. وقيل: يولونكم. وقيل: يصرفونكم في العذاب مرة كذا، مرة كذا. والعذاب هنا هو استخدام القبط الرجال من بني إسرائيل وقتل الأبناء؛ روي عن ابن عباس أنه قال: " ذكر فرعون ما وعد الله خليله إبراهيم A أنه يجعل من ذريته / أنبياء ملوكاً، فأجمع رأيه مع أصحابه على أن يذبح / كل مولود ولد في بني إسرائيل ففعل ثم رأى أن الكبار يموتون بآجالهم والصغار يذبحون فخاف أن يضطر إلى أن يتولى الخدمة بنفسه ويغني الناس فأمر أن يقتل الصغار سنة ويدعوهم سنة، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا ذبح فيه، فولدته علانية، [وحملت] في العام المقبل بموسى A.

وذكر عكرمة عن ابن عباس قال: " قالت الكهنة لفرعون: إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكك. فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل، وعلى كل مائة عشرة وعلى كل عشرةٍ رجلاً، وأمرهم بذبح الذكور إذا وضعن. وقال السدي: " كان ذلك من فرعون لرؤيا رآها، فعُبِّرت له أن يكون من بيت المقدس مولود يكون خراب مصر على يديه. فأمر بذبح الغلمان / واستخدام الآباء تحت أيدي القبط، فأسرع الموت في مشيخة / بني إسرائيل، فدخل كبراء القبط على فرعون فقالوا له: إن هؤلاء القوم يسرع فيهم الموت فيوشك أن تبقى بغير خدمة، فأمر بذبح الذكور سنة وبتركهم سنة ". قوله: {بلاء مِّن رَّبِّكُمْ}. أي نعمة إذ نجاكم مما كنتم فيه. وقيل: معناه اختبار لكم من ربكم.

50

قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر}. أي جعلناه اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط. ولما أتى موسى A البحر كناه أبا خالد وضربه، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، أي كالجبل العظيم. {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}. قيل: إنهم كانوا ينظرون إلى آل فرعون يغرقون وهم ينجون. وقيل: أخرجوا لهم حتى رأوهم. وقيل: كانوا ينظرون انفلاق البحر لهم. وقال الفراء: " تنظرون: تعلمون "، واستبعد أن ينظروا إليهم في ذلك الوقت لأنهم كانوا في شغل عن ذلك. وكان فرعون قد خرج في طلب موسى A في سبعين ألفاً من دُهْم الخيل خاصة، وموسى A بين يديه حتى قابله البحر، فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]. قال

موسى A: كلا إن معي ربي سهديني للنجاة قد وَعَدني ذلك، وهو لا يخلف الميعاد. وكان قد أوحى الله إلى موسى A أن أضرب بعصاك البحر، وأمر البحر أن ينفلق إذا ضربه موسى A فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقاً من الله تعالى، فضربه موسى A بالعصا فانفلق، فسلك موسى A / ببني إسرائيل وأتبعه فرعون وجنوده. ولما أتى فرعون في أثر موسى A وهو على حصان فأراد الدخول فهرب الحصان من البحر فعرض له جبريل على فرس أنثى فقربها منه فشمها ثم تقدم معها [الحصان عليه فرعون حتى دخل، ثم دخل آل فرعون في أثره، وجبريل A أمامه]، وميكائيل من وراء القوم على فرس يستحثهم حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس قدامه أحد. وبقي ميكائيل من الناحية الأخرى ليس خلفه أحد طبق عليهم البحر. فلما رأى فرعون ما رأى نادى: {لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] وكان ذلك يوم عاشوراء. وروي عن ابن عباس أن موسى A سرى ليلاً كما قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً}

[الدخان: 23]، فأتبعه فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، وكان موسى A في ستمائة ألف فاحتقرهم فرعون، وقال حين اطلع عليهم: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] [الثلاث الآيات]، ولما دخلوا البحر وتفرق كل سبط على طريق، قال السبط الذين مع موسى A لموسى: أين أصحابنا؟ قال: سيروا / فإنهم على طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم. قال موسى A: اللهم أعِنِّي على أخلاقهم السيئة. فأوحى الله إلى موسى A أن يزيد عصاه على البحر في الحيطان فصار فيه كوى ينظر بعضهم إلى بعض. وموسى اسم أعجمي، أصله فيما ذكر السدي: ماء وشجر، فهو ماء. وسمي بذلك لأن أمه / حين ألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون فوجده جواري آسية امرأة فرعون، فسمي باسم ذلك المكان الذي

51

أصيب فيه. فأما موسى فمؤنثة عربية، مشتقة من أسوت إذا أصلحت، ويكون أصله الهمز. وقيل: هي من " أَوْسَوْتُ " إذا حلقت. وهذا أشبه بها، وكلاهما قريب من الآخر. و [الأصل] للواو في الهمز على هذا. قوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}. أي: تمام أربعين ليلة. وقيل: معناه أربعين ليلة بتمامها. فالأربعون داخلة في الميعاد. قوله: {اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ}. أي إلهاً، والأصل، اتَّخَذَ، يَتَّخِذُ، وهو " افْتَعَل " من الأخذ، وكثر في كلامهم فجعلوه بمنزلة ذوات الواو والياء التي تكون في موضع الفاء من الفعل. وهي تكون تاء في " افتعل " وما تصرف منه، وتدغم في تاء " افتعل ". فأصل التاء الأولى همزة

/ وقد قيل: أصلها تاء من " تخذت ". وقال الأخفش: " أصلها همزة حملت على ذوات الواو. لأن الهمزة قد تدخل على الواو فيبدل كل واحدة من الأخرى ". وقد قيل في لغة: " أخَذْتُهُ وأَخَذَهُ الله بذلك، وَوَاخَذَهُ ". فصارت " اتخذ " مثل " اتعد ". قال ابن عباس: " لما امتنع فرس فرعون أن يدخل به البحر، تمثل له جبريل عليه السلام على فرس أنثى فتقحم خلفها ودخل بفرعون، وكان السامري قد عرف جبريل لأن أمه خافت عليه الذبح، فخلَّفته في غار فانطبقت عليه الغار. فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغدوه بأصابعه، فيجد في إحدى أصابعه لبناً وفي الأخرى / عسلاً وفي الأخرى سمناً. فلم يزل يغدوه حتى نشأ، فلما رأى جبريل عليه السلام عرفه، / فأخذ من أثر فرسه قبضة من تراب، ورفعها عنده، وكان موسى A إذ أمر بني إسرائيل

أن يخرجوا من أرض. مصر، أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط ويخرجوا به معهم. فلما تجاوز البحر وغرق آل فرعون استخلف موسى هارون على بني إسرائيل، ومضى لوَعْدِ ربه D، فقال لهم هارون: اجمعوا الحلي وادفنوه حتى يأتي موسى، فإن أحلَّها لكم أخذتموها. فجمعوا الحلي في حفرة، وألقي [في روع] السامري / أنه لا يلقي تلك القبضة على شيء فيقول: كن كذا إلا كان، فقذفها في الحفرة وقال: كن عجْلاً جسداً له خوار، فصار الحلي كذلك، تدخل الريح من دبره وتخرج من فيه، يُسمع لها صوت، فقال لهم السامري: {هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} [طه: 88]؛ أي نسي موسى A إلهه عندكم، ومضى يطلبه كأنه قد نسي. فعكفوا على العجل يعبدونه فنهاهم هارون A وقال: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني} [طه: 90]. فأبوا حتى يرجع موسى [ A] ". وقيل: إنه كان يمشي ويخور.

واسم السامري: موسى بن ظفر، واعتزل هارون بمن معه ممن لم يعبد العجل فلذلك قال له موسى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ} [طه: 94]. قال ابن عباس: " إن موسى A لما قطع البحر وأغرق الله آل فرعون، قالت بنو إسرائيل لموسى: إئتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر. فاختار موسى سبعين رجلاً لينطلقوا معه، فلما تجهزوا، قال الله لموسى: أخبِر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين تمت بعشر، وهي عشر من ذي الحجة مع ذي القعدة. والهاء [في] من " بعده " تعود على موسى A. وقيل: تعود على انطلاق موسى إلى الجبل.

52

قوله: {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}. " ذلك " إشارة إلى اتخاذهم العجل إلهاً. قيل: إنهم عبدوا العجل، فلذلك قال: اتخذتم العجل يعني إلهاً. وعن قتادة: " إن السامري هو الذي اتخذ العجل إلهاً، ورضي بذلك بنو إسرائيل، فلذلك نسبه إليهم ". قوله: {الكتاب والفرقان}. الكتاب: التوراة، والفرقان: انفراق البحر، قاله ابن زيد. و " يوم الفرقان: يوم التقى الجمعان " هو يوم بدر فرق الله بين الأمرين بين الحق والباطل. وقيل: الفرقان: الفرق بين الحق والباطل / من الكتاب. وقيل: الفرقان القرآن، والتقدير على هذا: وآتينا محمداً الفرقان. قاله الفراء وقطرب، وهو بعيد في العربية، لا يجوز مثل هذا الإضمار، وقد ردَّه جماعة. وقال الزجاج: " الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره بغير لفظه للتأكيد، وسمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل ".

54

وقيل: الفرقان هو التفريق بينهم وبين قوم فرعون؛ غرق قوم فرعون ونجا قوم موسى. قوله: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ} الآية. قال السدي: " لما رجع موسى A إلى قومه قال: {ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه: 86] إلى قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} [طه: 87]، ثم أخذ العجل فحرقه [فأبرده] بالمبرد فذراه في اليم، ثم أمرهم موسى A أن يشربوا من اليم فشربوا. فمن كان في قلبه محبة من العجل خرج على / شاربه الذهب، وهو قوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]. فلما / علموا أنهم قد ضلوا ندموا، فلم يقبل الله توبتهم إلا أن يقتل بعضهم بعضاً، فذلك قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} إلى {التواب الرحيم}. فصفوا صفين، ثم اجتلدوا بالسيوف والخناجر، فكان من قتل شهيداً. قال علي بن أبي طالب: " كان الرجل يقتل أباه وأخاه حتى قتل منهم سبعون

ألفاً، فأوحى الله إليه: (مرهم فليرفعوا) القتل فقد رحمتُ من قتل وتبت على من بقي ". وروي أنهم قالوا لموسى A: كيف يَقْتُلُ الرجل أخاه وقريبه؟ فقال موسى: إن الله [تعالى يأمر الذين عبدوا] العجل أن يجثوا، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل السيوف. وقال الله جل ذكره لموسى عليه السلام: إني سأنزل سحابة سوداء حتى لا يبصر بعضهم بعضاً، ثم أمر الذين لم يعبدوا العجل أن يضربوا بالسيوف ففعلوا فقتلوهم أجمعين /. فلما ارتفعت السحابة اشتد على موسى وعليهم ما صنعوا، فقال الله جل ذكره: يا موسى أما يرضيك أني أدخلت القاتل والمقتول الجنة؟ قال: بلى يا رب ". وقال ابن شهاب: " لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف والخناجر، وموسى A رافع يديه يدعو، حتى إذا فتر أتاه بعضهم فقال: با نبي الله: ادع الله لنا. وأخذوا بعضديه يسندون يديه، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى قبل الله توبتهم وقبض أيديهم / فألقوا السلاح. وأحزن

55

موسى A و [بني إسرائيل الذي] كان من القتل منهم، فأوحى الله جل ذكره إلى موسى: ما يحزنك؟ أما من قتل، فحَيّ عندي يُرزَق، وأما من بقي فقد قبلت توبته، فسُرّ بذلك موسى A وبنو إسرائيل. قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} الآية. قوله: {جَهْرَةً}: يجوز أن يكون حالاً من قولهم، على معنى: أرنا الله علانية. ويجوز أن يكون حالاً منهم؛ أي قالوا ذلك مجاهرين به أي: معلنين. والصاعقة الموت. وقيل: الفزع. وقيل: [العذاب الذي] يموتون منه. وأصل الصاعقة كل شيء هائل من عذاب أو زلزلة أو رجفة؛ قال الله تعالى: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143]، أي مغشياً عليه ولم يمت. والرجفة التي أخذت من معه كانت موتاً وأنتم تنظرون إلى الصاعقة.

56

قوله: {ثُمَّ بعثناكم}. أي: أحييناكم. وأصل البعث إثارة الشيء من محله؛ تقول العرب: " بَعَثْتُ ناقتي " أثرتها. " وبَعَثْتُ فلانا في كذا "، أي: أثرتُه للتوجه فيه. ويوم القيامة يوم البعث لأنه [يثار فيه الناس] للحساب. ومعنى ذلك أن موسى A لما أحرق العجل وذراه في اليم اختار من قومه سبعين / رجلاً وقال: انطلقوا إلى الله D، وتوبوا إليه مما صنعتم وتطهروا وطهروا ثيابكم، وكان ذلك عن أمر الله له، فخرجوا معه فقالوا لموسى: اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلامه فقال: أفعل. فلما دنا موسى A من الجبل وقع عليه عمود من نور حتى تغشى الجبل كله فدخل فيه. وقال للقوم: ادنوا وكان موسى A إذا كلمه ربه D وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم حتى إذا

دخلوا / في الغمام، وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى / A يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة عند ذلك فماتوا أجمعون. فقال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ يريد موسى A أن مُضِيِي إلى بني إسرائيل بغير من اخترت منهم [هلاك لهم] لأنهم بعد ذلك لا يأمنوني على أمر ولا يصدقوني. فلم يزل موسى - يطلب إلى ربه - A حتى رد عليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لهم من عبادتهم العجل، فقال الله تعالى: لا. إلا أن يقتلوا أنفسهم. ذكر جميع ذلك عن السدي، قال: " فالذين أخذتهم الصاعقة هم السبعون الذين اختارهم موسى A للميقات ". قال قتادة: " بعثهم الله D إلى بقية آجالهم ليستوفوها،

57

ولو تمت آجال القوم ما بعثوا ". وقال ابن زيد: " لما أتاهم موسى A بكتاب الله D، وقال لهم: خذوه، قالوا: لا نأخذه حتى نرى الله جهرة، فيقول: خذوه. فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقوا أجمعين، ثم أحياهم الله بعد موتهم. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله D فأبوا أن يأخذوه. فرفع فوقهم الجبل فأخذوا الكتاب، وأخذ موسى عليهم الميثاق، وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 83] الآية. قوله: {[وَ] ظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام}. قيل: الغمام سحاب. وقال مجاهد: " هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة وليس بسحاب ". وروي ذلك عن ابن عباس، وهو الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر،

وذلك أنهم كانوا في التيه، [فشكوا حر] الشمس، فظلّل الله عليهم الغمام وهو أبرد من السحاب وأطيب. وسمي الغمام غماماً لأنه يَعُمّ ما حل به، أي يستره، وسمي السحاب غماماً، لأنه يغم السماء، أي يسترها. وقيل / للسحاب سحاب لأنه ينسحب بمسيره. والمن عن مجاهد: " صمغة ". وقال قتادة: " كان ينزل، عليهم مثل الثلج ". / وقال الربيع. بن أنس: " المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه ". وقال ابن زيد: " المن عسل كان ينزل عليهم من السماء ". ورواه ابن وهب عنه.

وقال وهب: " المن خبز رقاق الذرة أو مثل النقي ". وقال السدي: " المن الزنجبيل ". وقيل: " هو الترنجبين ". وعن ابن عباس: " المن هو الذي " يسقط من الشجر، فيأكله الناس ". وقال قتادة: " كان يسقط عليهم في مجلسهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كسقوط الثلج فيؤخذ منه بقدر ما يكفي ذلك اليوم / فإن تعدى إلى أكثر فسد، إلا يوم الجمعة فإنه يؤخذ ما يكفي فيه للجمعة وللسبت، لأن يوم السبت عندهم

يوم عبادة ". وقيل: " المن: الترنجبين ". وقيل: " المن أصمغة ". وقال النبي [عليه السلام]: " الكَمْأَةُ مِنَ المَنّ وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ " قال أهل المعاني: " معنى: " مِنَ المَنّ " أي مما منَّ الله به على خلقه بلا زرع ولا تكلف سقي ". والسلوى: طائر يشبه السُّمانَى كانت الجنوب تحشره عليهم. والسلوى والسمانى واحِدُه وجمعه بلفظ واحد. والمن: جمع لا واحد له مثل الخير والشر. / وكان من قصة المن والسلوى أن الله D أمر

موسى إلى بيت المقدس فيسكنها ويجاهد فيها من الجبارين، فأبوا القتال معه وقالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا، فغضب موسى A لذلك فدعا عليهم وقال: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} [المائدة: 25]، فقال الله D: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} [المائدة: 26]. فندم موسى عليه السلام على دعائه عليهم فأوحى الله D إليه: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} [المائدة: 26] أي لا تحزن. فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بالطعام؟ فأنزل الله D عليهم المن والسلوى. فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن وجده سميناً ذبحه، وإلا تركه، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر الله D موسى A أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط عين. فقالوا: فأين الظل؟ فظللهم الله بالغمام فقالوا: فأين اللباس؟ [فجعل الله] ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب ولا يتوسخ. قوله: {مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. أي من مشتهيات رزقنا وقيل: من حلاله.

58

قوله: {وادخلوا الباب سُجَّداً}. أي ركعاً. والباب باب حطة، معروف في بيت المقدس. ومعنى حطة عند الحسن وقتادة وأكثر المفسرين: " احطط عنا ذنوبنا / وحط عنا خطايانا ". وعن ابن عباس وعكرمة قالا: " حطة: لا إله إلا الله. وسميت بذلك لأنها تحط الذنوب ". وقيل: كلمة أمروا بما تحط بها عنهم ذنوبهم. وقيل معناه: قولوا قولاً تحط به عنكم ذنوبكم. وقيل: حطة بمعنى الاستغفار. وهو مثل الأول. قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ}.

روى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام] أنه [قال]: " قال الله تعالى لبني إسرائيلَ: ادْخُلوا البَابَ سجَّداً، وقُولُوا حِطَّةٌ يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ، فَبَدَّلُوا ودَخَلُوا البَابَ يَزْحُفُون على أسْتاهِهِم، وقالوا: حَبَّةٌ في شَعِيرة ". وقال ابن عباس عن النبي [عليه السلام] إنهم قالوا: " حنطة في شعير ". وقيل: إنهم تكلموا بكلام بالنبطية على جهة الاستهزاء والخلاف. وقال ابن مسعود: " قالوا حنطة حمراء فيها شعير ". وعن ابن عباس أنه قال: " إنهم دخلوا الباب من قِبلِ أستاههم، وكان باباً صغيراً ويقولون حنطة ". قال الفراء: " قال ابن عباس: " أمروا أن [يستغفروا الله فخالفوا] الكلام بالنبطية.

والزجر العذاب، والرجس النتن. وقال أبو العالية: " الرجز الغضب ". وذلك أنهم لما بدلوا نعمة الله، نزل عليهم الطاعون فلم يبق أحداً، فهو الرجز. قاله ابن زيد. وقال الأخفش: " الرجز هو الرجس ". كأن الزاي عنده بدل من السين كما يقال: " السَّرْعُ والزَّرْعُ، والزِّرَاطُ والصِّرَاطُ، وليس مثله في القياس. والرُّجْزُ - بالضم - صَنَم كانوا يعبدونه. وذكر يحيى أن الرجز: الطاعون، نزل بهم حين بدلوا، فمات منهم سبعون ألفاً، وقال قوم منهم: لا إله إلا الله، فهم المحسنون الذين ذكرهم الله في

60

قوله: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} [البقرة: 58]، فقوم منهم بدلوا وقوم لم يبدلوا. وروي أن الذين بدلوا إنما قالوا بالعبرانية: " حبة سمراء "، يعنون الحبة. وقال ابن عباس: " لما بدلوا، نزل بهم طاعون فمات منهم أربعة وعشرون ألفاً ". قال مقاتل: " هلك منهم / بفعلهم سبعون ألفاً ". قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ}. أي لا يشتد فسادكم وهو أشد الفساد. يقال: عَثَا يَعْثُو عُثُوّاً. وعَثِيَ يَعْثَى عَثّاً. وعَاثَ يَعِيثُ عيثاً وعِياثاً. ولغة القرآن عَثِيَ يَِعْثَى. قوله: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر}. لما اشتكوا إلى موسى A الظمأ في التيه، / وكانوا يحفرون الآبار حيثما نزلوا، فشق ذلك عليهم، فأتى موسى [بحجر مربع] من الطور، وأمر موسى A أن يضربه بعصاه، فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه / موسى A فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً من كل ناحية [ثلاث عيون]، لكل سبط عين

61

معلومة. قال ابن زيد: " سقوا من حجر مثل رأس الشاة يلقونه في جانب [الجَوالق/ إذ] ارتحلوا بعد أن يستمسك ماؤه عند رحلتهم فإذا نزلوا قرعه موسى بعصَاه، فعادت العيون بحسبها ". قال مقاتل والكلبي: " انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً على عدد الأسباط، وكانوا إذا أخذوا حاجتهم زالت العيون وانسدت مواضعها. فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت العيون ". قوله: {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} الآية.

لما فقدوا أطعماتهم التي كانوا يأكلون بمصر، ولزموا شيئاً واحداً [ملّوا وقالوا] ذلك. ومن قال إن المن [خُبْز الحُوّارَى]، كان قوله: " أدنى " بمعنى أقرب. وقال عطاء ومجاهد: " الفوم: الخبز ". وقال قتادة والحسن: " الفوم: الحب الذي يختبز الناس ". وعن ابن عباس قال: " الفوم: الحنطة والخبز ". وروي عن مجاهد قال: " هو الثوم ". وهو اختيار ابن قتيبة، وهو في مصحف ابن مسعود: " وثُومِهَا " بالثاء. فهذا يدل على أنها الثوم. وذكر ابن قتيبة: " أن الفوم: الحبوب ". والعرب تبدل الثاء [من الفاء] يقولون: جَدَفٌ وجَدَثٌ، ومَغَافِيرٌ

وَمَغَاثِيرٌ. [فهذا] يدل على أنه الثوم. وروي أن الفوم: القمح والعدس وسائر الحبوب؛ وذلك أنهم لما سلكوا التيه مع موسى شكوا الحر، فظلل الله عليهم الغمام يقيهم الحر، وجعل لهم عموداً من نار بالليل يضيء لهم مكان القمر، وأنزل الله عليهم المن والسلوى، فيأخذون منه قوتهم للغذاء والعشاء، فمن زاد على ذلك فسدت عليه الزيادة. وكانوا يأخذون يوم الجمعة للجمعة والسبت إذ لا يأتيهم يوم السبت، وكانوا يخبزون المن قرصاً، فيأكلون طعاماً مثل الشهد المعجون بالسمن. وروي أنهم نزل عليهم المن أولاً، فملوه لحلاوته، وسألوا لحماً فأنزل الله عليهم طيراً تجلبه عليهم ريح الجنوب، وأمر ألا يدخروا من لحمه فخالفوا فادخروا، فخنز عليهم وفسد. فيروى أنه لولا ذنوب بني إسرائيل ما فسد الطعام المدخر. وقيل: كانت السلوى تقع في مجالسهم كهيئة السماني، فملوا ذلك وسألوا القمح

والحبوب والبصل، فأمروا أن يهبطوا مصر وهي الشام، لأنهم من مصر خرجوا، فهبطوا إلى الشام بعد انقضاء الأربعين عاماً التي عوقبوا بها في التيه لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم لموسى A: { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. ولم يدخل الشام أحد ممن أمر بقتال الجبارين، بل كلهم مات في التيه، وإنما دخلها أبناؤهم. قوله: / {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ}. هو من قول موسى A. و " أدنى " بمعنى أقرب أي أقل قيمة. وقال علي / بن سليمان: " أدنى من ذوات الهمز من قولهم: " دَنِيءٌ بَيِّنُ الدَّنَاءَةِ "، أبدل من الهمزة ألفاً ". وقيل: معنى " أدنى ": أقرب لكم في الدنيا مما هو لكم في الآخرة، فيكون

من " دنا يدنو ". وقد قرئ بالهمز. وقال مجاهد: " أدنى بمعنى: " أَرْدَأَ ". وقيل: أصله " أدون " من الدون [ثم قلبت] اللام في موضع العين، وانقلب الواو ألفا لتطرفها. قوله: {اهبطوا مِصْراً}. قال مجاهد وقتادة وغيرهما: " مصراً من الأمصار ". وقال أبو العالية: " مصر هي التي كان بها فرعون ". وقاله الكسائي، وفي قراءة أُبَيّ وابن مسعود: " اهْبِطُوا مصر " بغير صرف معرفة. وقيل: هي الشام.

وروى أشهب عن مالك أنه قال له: " هي مصر قريتك في رأيي؛ هي بلاد فرعون ". قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة}. أي فرضت ووضعت من قولهم: " ضَرَبْتُ عَلَى عَبْدِي الخَرَاجَ، وَضَرَبَ عَلَيَّ الأَمِيرُ الخَرَاجَ " أي [فَرَضَهُ وَوَضَعَهُ] عَلَيَّ. وَضَرْبُ الذلةِ عليهم هو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون. والمسكنة الخشوع والذلة. وقيل: الحاجة. وقيل: الفاقة والفقر. فلست ترى يهودياً إلا وعليه الذلة والمسكنة، وإن كان معه قناطير الذهب والفضة. قوله: {وَبَآءُو بِغَضَبٍ}. أي: رجعوا به.

وقال الضحاك: " استحقوا غضباً ". قال أبو عبيدة: " يقال بُؤْتُ بالذنب أي: احتملته ولزمني، وتَبَوَّأتُ الدار لزمتها، وبُؤْتُ بالشي اعترفت به، وبَوَّأْتُ القوم منزلاً إذا أنزلتهم إلى سند جبل أو عند نهر. فالاسم المباءة ". قوله: {بِآيَاتِ الله}. الآية طائفة من القرآن وجماعة /، يقال: " جئنا بآيتِنَا " أي: بجماعتنا. وقيل: سميت آية لأنها علامة الانفصال مما قبلها. ووزن آية عند الخليل / وسيبويه: " فَعْلَةٌ "، وأصلها " أيِيَةٌ، فقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وهو نادر، لأن أصله أن تعتل اللام وتسلم العين، فاعتلت العين وسلمت اللام. وقال الكسائي فيما حكى أبو بكر: " أصلها " آيِيَةٌ " مثل " مَاضِيَة "، فكان يلزم

62

الياءين الإدغام فتصير " آيَّة " مثل " دَابَّة "، فتثقل، فحذفوا الياء الأولى ". وقال الفراء: " أصلها فعلة، وأصلها " آيَّة " استثقلوا التضعيف فأبدلوا الياء ألفاً كما أبدلوا في التضعيف من " دِوَّانِ " و " قِرَّاطٍ " ياءً ومثله دِنَّار ". وقد حكى غير أبي بكر عن بعض الكوفيين أن أصلها فعلة فاستثقل التضعيف فأعلت الأولى لانكسارها، وتحرك ما قبلها فقلبت ألفاً. قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية. قال سفيان: " الذين آمنوا / هنا هم المنافقون الذين آمنوا في الظاهر، يدل على ذلك قوله: {مَنْ آمَنَ / مِنْهُمْ بالله}؛ أي مَن صدق منهم بقلبه ووافق ظاهره باطنه ". وقال غيره: " بل هم المؤمنون، وإنما أراد " بمن آمن "، من ثبت على الإيمان كما قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ [آمَنُواْ]} [النساء: 135] أي اثبتوا على تصديقكم.

وقيل: المراد بهم: من كان يؤمن بموسى A، وعيسى A، والنصارى على هذا القول من خالف عيسى منهم، واليهود من خالف موسى، والصابئون قوم بين اليهود والنصارى، فيهم اختلاف قد ذكرناه. قوله: {مَنْ آمَنَ بالله}. أي جمع مع إيمانه المتقدم إيمانه / بمحمد A وبما جاء به. روي ذلك عن السدي. وقال السدي: " نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي ". وذكر قصة طويلة معناها أن سلمان كان قد تنسك مع قوم من الرهبان قبل مبعث النبي A فأخبروه أنه سيبعث نبي، فإذا لحقته فصدق به. فلما بعث النبي A وأتى المدينة أتاه سلمان فنظر إلى الخاتم الذي هو علامة النبوة، وقد كانوا قالوا له: علامته خاتم بين كتفيه وهو لا يقبل الصدقة ويقبل الهدية. فلما رأى سلمان الخاتم مضى واشترى لحماً وخبزاً، وشوى اللحم وأتى به النبي A، فقال له: ما هذا؟ فقال له: صدقة. قال: لا آخذه، أعطه للمسلمين. ثم مضى [فاشترى شيئاً آخر فأتى] به النبي A، فقال

له: ما هذا؟ قال له: هدية. فقال له: اجلس فكل، فأكل مع النبي A فسأله سلمان عن أولئك الرهبان ما حالهم في الآخرة وقد كانوا يقولون: لو لحقناك لآمنا بك، فأنزل الله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} الآية. أي من مات على دين موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم فله أجره عند ربه. وروي عن ابن عباس، وسعيد بن عبد العزيز أنها منسوخة نسختها: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. أي من لحق بمبعث محمد A فليس يقبل منه غير الإيمان. وسميت اليهود يهوداً لقولهم: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي تبنا ورجعنا.

وقيل: سميت بذلك لانتسابهم إلى يهودا. والنصارى: جمع نصران ونصرانة. وقيل: سموا نصارى لأنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة. وقيل: سموا نصارى لقوله تعالى: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52]. وقيل: سموا نصارى، لأن قرية عيسى [عليه السلام] كانت تسمى ناصرة، وكان أصحابه يسمون الناصرين، وكان يقال لعيسى A الناصري. وقيل: سموا بذلك لأنهم نزلوا موضعاً يسمى ناصرة. والصابئين: قوم خرجوا من دين إلى دين. وقيل: هم قوم لا دين لهم. وقيل: الصابئين: قوم بين المجوس واليهود.

63

وقال الحسن: " هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلّون للقبلة، ويقرأون الزبور ". ومعنى: {وَعَمِلَ صَالِحاً}. أي آمن بمحمد [عليه السلام]. قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} الآية. / وقال ابن زيد: " لما رجع موسى A من عند ربه بالألواح، أمرهم باتباع ما فيها وقبوله والعمل به. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت، لا والله حتى نرى الله جهرة وحتى يطلع علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه. قال: فجاءته غضبة من الله فصعقوا فماتوا جميعاً، ثم أحياهم الله من بعد ذلك. فقال لهم موسى A: خذوا كتاب الله قالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أُمتنا ثم حُيينا. فقال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم فهو تأويل. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} فلما صار فوقهم، قيل لهم: خذوا، وإلا طرح عليكم. فأخذوه بالميثاق /،

فهو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] إلى {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144]. ولو أخذوه أول مرة لأخذوه بغير ميثاق، ولكن عسروا فشدد الله عليهم ". والطور: الجبل. وقيل: هو اسم جبل بعينه معروف كلم الله سبحانه عليه / موسى A. وقيل: هو ما أنبت دون ما لم ينبت من الجبال. وقال السدي: " لما نظروا إلى الجبل فوقهم خروا سجّداً على شق، ونظروا إليه [بالشق الآخر فرحمهم] الله وكشف عنهم فهم يسجدون لذلك على شق ". / فقوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171] وقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} واحد.

ومعنى: {بِقُوَّةٍ} أي: بجد وعزيمة ورغبة وعمل، وهو التوراة. وروي أنهم قالوا: لا نقبل التوراة، فرفع الله فوقهم الطور كأنه ظلة، فأيقنوا أنه واقع عليهم، وبعث الله ناراً من قِبلِ وجوههم، وأتاهم بالبحر من خلفهم، فقال لهم موسى A: " إن أنتم لم تقبلوا التوراة بما فيها أحرقكم الله بهذه النار، وغرقكم في هذا البحر، وأطبق عليكم هذا الجبل ". فأخذوها كارهين، وعاهدوا الله ليعملن بما فيها وسجدوا لله وهم ينظرون إلى الجبل بعين واحد مخافة أن يقع عليهم فصارت سنة فيهم لا يُصَلّون إلا هكذا. ثم عصوا بعد ذلك وخالفوا العهد، فهو قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} لعاجلهم بالعقوبة، فيخسرون دنياهم وآخراهم. قوله: {واذكروا مَا فِيهِ}. أي أتلوه. وقيل: معناه: اذكروا ما فيه من أمر الآخرة وهو الثواب والعقاب لعلكم تتقون ما تعاقبون عليه.

65

وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت}. قال ابن عباس: " لم يبعث الله قط نبياً إلا عرفه فضل الجمعة وعظمها في السماوات وأن الساعة / تقوم فيها، وتشريف الملائكة لها. وبلغت الرسل أممها ذلك، فسمع أكثرهم وأطاع وعرف فضلها. فلما كان موسى أخبر بني إسرائيل بفضلها على الأيام فقالوا: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام، والسبت أفضل لأن كل شيء سبت لله مطيعاً يوم السبت، وخلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة. ويوم السبت كمل الأمر؟ وقالت النصارى لعيسى A إذ أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والله واحد، والواحد الأول، والأحد أول؟ فأوحى الله D إلى عيسى A أن دَعْهُم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا فلم يفعلوا. وقال لموسى A كذلك في السبت. وأمرهم أن لا يصيدوا فيه سمكاً ولا غيره، ولا يعملوا فيه عملاً. فكان يوم السبت تظهر فيه الحيتان على وجه الماء فهو قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] ثم إنهم تناولوها في السبت فلم ينكر بعضهم على بعض، ثم كفوا فلما رأوا العقوبة لا تنزل بهم عادوا وأخذوا. وكان موسى قد حذرهم

العقوبة إن تعدوا في السبت، فلما رأوا لا تنزل عليهم عقوبة ظنوا ما قال لهم موسى A باطلاً، فمسخوا قردة وحيوا ثلاثة أيام وماتوا ". قال ابن عباس: " لم يعش مسخ قط أكثر من ثلاثة أيام ولا يأكل ولا يشرب ولا ينسل. وكان الله تعالى قد خلق القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة [الأيام التي ذكر، فمسخ أولئك في صور] القردة ". قال الحسن: " كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت / فتبطح بأفنيتهم كأنها المخاض ثم تذهب فلا ترى ". قال ابن عباس: " لما طال عليهم أمر الحيتان وإتيانها يوم السبت ولا تأتي في غيره، عمد رجل منهم فأخذ حوتاً يوم السبت فحزمه بخيط وأرسله في الماء وتّدَ له وتداً في الساحل فأوثقه، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله، فلما كان السبت الآخر فعل مثل ذلك، فوجد الناس ريح الحيتان، ثم علموا بما فعل ذلك الرجل ففعلوا مثل

ما [فعل وأكلوا زمناً طويلاً، ولم] يعجل الله عليهم بالعقوبة حتى صادوا علانية وباعوها في الأسواق. فقالت طائفة من أهل التقوى: " ويحكم اتقوا الله " ونهوهم عما يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم يصنعوا مثل ما صنع أولئك: / {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [الأعراف: 164]، فنجى الله الذين ينهون عن السوء ومسخ الفاعلين ". واختلف في الذين / لم يعملوا ولم ينهوا وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ} الآية. قيل: إنهم نجوا مع الناجين. وقيل: مُسِخُوا مع مَن مسخ. [والسبت أصله] الراحة والهدوء. والسبت ضرب من السير. والسبت [الحلق؛ / يقال سَبَتَ رَأسَهُ] حَلَقَهُ. والسبت القطع. وجمعه: " أَسْبُتٌ " و " سَبَتَاتٌ " بالتحريك لأنه اسم. وفي الكثير السبوت والسبات. وقال السدي: / " كان الرجل منهم من شهوة الحوت يحفر الحفرة ويجعل نهراً إلى البحر، فيدخله الماء يوم السبت بالحوت، ثم لا يقدر الحوت أن يرجع إلى

البحر لقلة الماء، فيصبح يوم [الأحد ويأخذه]. فنهوهم علماؤهم عن ذلك فلم ينتهوا ". وروي عن مجاهد أنه قال: " مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفاراً ". وجميع أهل التفسير على خلاف ذلك لأنهم مسخوا قردة حقيقة. وقوله: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً}. هو أمر، وتأويله الخبر. أي: فكوناهم قردة، وهذا هو الأمر الذي يكون به الخلق، فحولهم من خلقة إلى خلقة أخرى، فهو مثل قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. {خَاسِئِينَ}. أي: مبعدين، أي مطرودين. هذا قول أهل اللغة. وقال مجاهد وقتادة: " خاسئين: صاغرين ".

66

وقال الربيع: " أذلة صاغرين ". وروي عن ابن عباس: " خاسئاً ذليلاً ". قوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً}. أي: فجعلنا العقوبة نكالاً وهي المسخة، وعليه أكثر أهل التفسير. وقيل: الهاء للقردة. وقيل: للأمة الذين اعتدوا. وروي عن ابن عباس أنه قال: {جَعَلْنَاهَا} [الحج: 36]. أي: جعلنا الحيتان نَكَالاً لأن العقوبة من أجلها كانت. فدل الكلام عليها نكالاً لا عقوبة " عن ابن عباس. ومعنى " نَكَّلْتُ به " عند أهل اللغة: فعلت به ما ينكل غيره أن يفعل مثله فيصيبه مثل ما أصابه. قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} أي: من بعدهم ليحذر ويتقي.

67

{وَمَا خَلْفَهَا} لمن بقي منهم عبرة. قاله ابن عباس. وقال الربيع: " لما خلا من ذنوبهم: أي عوقبوا [من أجل ما] خلا من ذنوبهم، {وَمَا خَلْفَهَا}: أي: عبرة لمن بقي من الناس ". وروى عكرمة عن ابن عباس: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا}: من / القرى ". وقال قتادة: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا}: مِن ذنوبها التي مضت، {وَمَا خَلْفَهَا}: تعديهم في السبت وأخذهم الحيتان ". وكذلك قال / مجاهد. وقال السدي: " {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} ما سلف من ذنوبها، {وَمَا خَلْفَهَا}: للأمم التي بعدها ألا يعصوا فيصنع بهم مثل ذلك ". قوله: {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}. أمة محمد A أن لا ينتهكوا ما حرم الله عليهم فيصيبهم مثل ذلك. قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}. قالوا: إنما جاء الجواب بغير فاء لأنه تعالى إنما أذكرهم هذا الذي كان، فجعل

" قالوا " كالجواب لقوله على انقطاع الكلام وتمامه. فهو حكاية كانت من كلامين: أحدهما جواب للآخر، وليس أحدها محمولاً على الآخر. ولو أتى بالفاء لحسن. ولو قلت: " قُمْتُ قامَ زيْدٌ "، لم يجز إلا بالفاء، لأنه كلام واحد، الثاني محمول على الأول، فلم يتصلا إلا بحرف فاء أو واو، وليس مثل الآية فافهمه. قوله: {قَالَ أَعُوذُ بالله}. ذكر السدي أنه كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال وله ابنة، وله ابن أخ فقير من المال، فخطب إليه، فأبى أن يزوجه، فعمل على قتله، وقال: والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته. فلما قتله ليلاً جعله في بعض السكك وأصبح يطلب عمه، فوجد أهل ذلك الموضع قياماً عليه فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا ديته وجعل يبكي [فرفعهم إلى موسى A] فقضى عليهم بالدية، فقالوا: يا نبي الله ادع لنا ربك يبين لنا مَن صاحبه. فقال: اذبحوا بقرة. فقالوا: نحن نسألك عن القتيل، وأنت تأمرنا بذبح البقرة أتهزأ بنا؟ فقال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ".

68

قال ابن عباس: " فلو اعترضوا بقرة ما، فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ". وقيل: [إنه أخو المقتول كان]. وقيل: كانوا جماعة ورثة استبطوا موته ليرثوه فقتلوه. وقال مقاتل: " كان القاتلان اثنين قتلا ابن عم لهما وطرحاه بين قريتين، فطولب أهل القريتين بالدية فحلفوا أنهم ما قتلوه ". قوله: {لاَّ فَارِضٌ}: أي: لا هرمة. {وَلاَ بِكْرٌ}: أي: لا صغيرة. {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك}: أي: هي بين الصغيرة والكبيرة. {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا}: أي: صاف تعجب من ينظر إليها. و" ذلك " موحد يراد به بين ذلك الوصف الذي / ذكرنا.

والصفراء السوداء عند أبي عبيدة، ومثله: {جمالت صُفْرٌ} [المرسلات: 33] أي: سود. وقال الحسن: " صفر الظِلف والقرن ". وقال ابن زيد: " هي صفراء كلها ". وقال / القتبي: " لا يقال صفراء بمعنى سوداء في البقر. إنما يقال ذلك في نعوت الإبل ". قوله: {فَاقِعٌ} يدل على أنها غير سوداء لأنه لا يقال أسود فاقع ويقال أصفر فاقع. وقيل: كانت صفراء كلها حتى الظلف والقرن ".

71

وقرأ يحيى بن وثاب: " إن الباقر " بألف. " يشَّابه " بالياء والرفع والتشديد؛ جعله فعلاً مستقبلاً. قال الأصمعي: " الباقر جمع باقرة "، قال: " ويجمع بقر على باقورة ". وقيل: كانت صفراء كلها حتى / القرن والظلف. {لاَّ ذَلُولٌ} لم يذللها العمل فتثير الأرض، ولا تعمل في الحرث. {مُسَلَّمَةٌ}: أي: من العيوب. {لاَّ شِيَةَ فِيهَا}: أي: لا بياض. ولولا قولهم: {إِن شَآءَ الله} ما اهتدوا إليها أبداً، فوجدوا البقرة عند عجوز عندها يتامى فأضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى A فأخبروه. فقال لهم: أعطوها / رضاها، ففعلوا وذبحوها. وأمرهم موسى A بعضو منها يضربوا به القتيل ففعلوا. فرجع إليه روحه وسمَّى قاتله ومات فقُتل قاتله، وهو الذي أتى إلى موسى A يشتكي ويطلب الدية. وروي أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ابن صغير وله عجلة فأتى

بالعجلة إلى غَيْضةٍ وقال " اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر. فشبت العجلة في الغيضة. وكانت ترعى فيها فلا يقدر عليها أحد؛ تثب على من رامها [فيهرب منها]. فأتى ابن الرجل الصالح بعد موت أبيه ومعه حبل إليها، فخوفه الناس منها، فأقبلت البقرة إليه مذعنة فساقها إلى أمه وكان براً بها. فلم يجد بنو إسرائيل صفة البقرة التي أمروا بذبحها إلا تلك البقرة فاشتروها منه بملء جلدها دنانير. وعن ابن عباس قال: {لاَّ شِيَةَ فِيهَا}: لا بياض فيها ولا سواد، ولا حمرة " أي: لونها واحد لا لمعة فيها تخالف لونها وهو الصفرة. قيل: كانت صفراء حتى ظلفها وقرنها أصفران. قال: " وطلبوها فلم يقدروا عليها، وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وأن رجلاً مر به ومعه لؤلؤ. يبيعه، وكان أبوه نائماً تحت رأسه المفتاح. فقال الرجل المار للولد البار: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفاً؟ قال له الفتى: كما أنت، حتى يستيقظ والدي، وأنا آخذه بثمانين ألفاً.

قال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفاً، فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفاً. وزاد الحدث على أن يصبر حتى يستيقظ أبوه حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه حلف ألا يشتريه منه وأبى أن يوقظ أباه، فعوضه الله D من ذلك اللؤلؤ أن جعل تلك البقرة عنده. فسألوه بيعها فأبى فرفع في سومها فمضوا به إلى موسى، فقالوا: قد أعطيناه ثمنها وأبى أن يبيع. فقال: يا نبي الله: أنا أحق بمالي؟ قال له: نعم أنصفوه، واشتروا منه. فاشتروها منه بوزنها عشر مرات ذهباً ". وقيل: ضرب بفخذ البقرة الأيمن. وقيل: ضرب بعظم من عظامها. وقيل: بذنبها.

وقيل: بلسانها. وقوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى}. في الكلام حذف واختصار، والتقدير: فضربوه فحيي فقيل لهم: كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته فاعتبروا. واستدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب عنه على تصحيح الحكم بالقسامة [بهذا القتيل المذكور / ضربوه] ببعضها فحيي وقال: " فلان قتلني "، فَقُتِلَ، بقوله. قال مالك: " فهذا مما يبين القسامة وأن يقبل قول الميت فيقسم عليه ".

وروي أنه قال: " ابن أخي قتلني " ومات، فَقُتِلَ به ولم يرث عمه. قال عبيدة السلماني: " فسقط ميراث القاتل عمداً ممن قتل [من حينئذ] ". وهذه الآية عند مالك تدل على القسامة وعلى قبول قول المقتول: " فلان قتلني "، ويقسم على قوله الأولياء. قوله: {الآن جِئْتَ بالحق}: أي: بينت لنا. وقيل: إنهم عرفوا عند من البقرة لما وصفها، وعلموا أنه ليس يجدون ما وصف لهم إلا في موضع بعينه، فقالوا: الآن جئت بالحق. ولم يريدوا أنك لم تأت بالحق من أول كلامك إلا الساعة، إنما معناه: الآن جئتنا بغاية البيان، لأنهم كانوا مذعنين للذبح ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم.

قوله: {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}. أي: كادوا أن يضيعوا فرض الله D لغلائها وكثرة قيمتها. وقيل: أرادوا / أن لا يفعلوا خوف الفضيحة وهم قاتلوا المقتول على قول من قال: كانوا ورثة. وقيل: لعزة وجودها على تلك الصفة. وروي عن ابن عباس أنه قال: " مكثوا في طلب البقرة أربعين سنة " وقال طلحة بن مصرف: " لم تخلق تلك البقرة من نتاج، إنما نزلت من السماء ". قوله: {فادارأتم فِيهَا}. أي: اختلفتم وتدافعتم في الحكومة. وقيل: في النفس. وقيل: في القتلة. ورجوعها على النفس أولى لتقدم

ذكرها. / قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك}. روي عن ابن عباس أنه قال: " لما أخبر / المقتول بمن قتله مات، فأنكروا أنهم فعلوا بعد إخباره عنهم، فكذبوا ما رأوا. فذلك قساوة قلوبهم ". قوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. " أَوْ " [للتخيير أي: شبهوهم بقساوة] الحجارة / أو بأشد منها، لأنهم جحدوا بعدما عاينوا، فأنتم مخيّرون في تشبيههم. وقيل: معنى {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، أي: هو أقسى من الحجارة لأن الحجارة ليس لها ثواب ولا عليها عقاب، وهي تخاف الله D. روي أن عيسى ابن مريم مر بجبل فسمع منه أنيناً فقال: " يا رب ائذن لهذا الجبل حتى يكلمني ". فأذن الله للجبل فكلمه، فسأله عيسى [ A] عن أنينه فقال: سمعت الله يقول: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] فخفت أن

أكون من تلك الحجارة ". وقيل: معناه: فقلوبهم مثل الحجارة أو أشد أي: منها ما هو مثل الحجارة، ومنها ما هو أشد كأنها لا تخرج من هذين القسمين. وقيل: " أو " بمعنى الواو. وقيل: بمعنى: " بل ". قوله: {لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار}. هو حجر موسى A الذي [انفجرت منه] [اثنتا عشرة] عيناً. قوله: {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله}. هو الجبل الذي جعله الله دكاً إذ تجلى إليه، خرَّ لَهُ. قوله: {لَمَا يَشَّقَّقُ}. هو العيون التي تخرج من سائر الجبال. قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}. يعني ما أراهم من إحياء الميت ومن العصا والحجر والغمام والمن والسلوى

75

والبحر والطور وغير ذلك. فلم يكونوا قط أعمى قلوباً، ولا أشد قسوة وتكذيباً لنبيهم منهم في ذلك الوقت. قوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ}. يخاطب المؤمنين بمحمد. والذين لا يؤمنون هم اليهود أعداء [الله. وهو استفهام فيه معنى الإنكار فأيأسهم من إيمان] اليهود ثم أخبر عن أسلافهم وما كانوا يفعلون كأنه يقول تعالى: إن كفر هؤلاء فلهم سابقة في ذلك؛ وهو أن فريقاً منهم كانوا {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} الآية. يريد به أسلافهم وما فعلوا على عهد موسى A. قال السدي: " هي التوراة حرفوها فيجعلون الحلال حراماً، والحرام حلالاً برشوة ". وقال الربيع: " كانوا يسمعون من الوحي ما يسمع النبي A ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ". وروى محمد بن إسحاق أنهم خرجوا مع موسى A يسمعون كلام الله، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى A بالسجود فسجدوا، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم وعقلوا ما سمعوا، فلما رجعوا حرف فريق منهم ما سمع ".

76

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: يعلمون أنهم مبطلون فيه تحريفه. وقال مقاتل: " هم السبعون الذين اختارهم موسى A. / قوله: {قالوا آمَنَّا}. أي: بأن صاحبكم نبي إليكم خاصة. وروي عن ابن عباس: " أي: إذا لقوا محمداً. قالوا: آمنا، وإذا خلوا كفروا، وهم المنافقون من اليهود ". قوله: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ}. كانوا يستفتحون بمحمد / A، فقالوا: لا تقروا بأنه نبي، وقد كنتم تستفتحون به، أي: تنظرون إذ سألتم الله به نصركم على عدوكم فقد علمتم أنه نبي، فإذا أقررتم لهم بنبوته حاجوكم بذلك عند ربكم. وقال أبو العالية: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} يعني ما أنزل عليكم في التوراة من ذكر

محمد A. وقال قتادة: " بما مَنّ الله عليكم في التوراة من ذكر محمد A فيحتجون عليكم بذلك ". " وروي أن النبي [عليه السلام قال لهم: يا إخْوَةَ القِرَدَةِ] والخَنَازِيرِ، فقالوا: مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا مُحَمَّداً؟ مَا جَرَى هَذَا إلاّ مِنْكُمْ. أَفَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ؟ ". وقال السدي: " كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين بما مر على أسلافهم من العذاب، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب ليحاجوكم به. أي: يقولون لكم: نحن أحب إلى الله منكم وأكرم منكم؟ ". وعن ابن زيد قال: " كانوا إذا قيل لهم: أتعلمون أن في التوراة كذا وكذا؟ قالوا: نعم. فيقول لهم رؤساؤهم: لا تخبروهم بالذي أنزل عليكم، فيحاجوكم به عند

78

ربكم. وقال النبي [عليه السلام]: " لا يَدْخُلُ عَلَيْنَا قَصَبَةَ المَدينَةِ إِلاّ مُؤْمنٌ ". فقال رؤساؤهم: اذهبوا فقولوا: آمنا وادخلوا. فإذا رجعتم اكفروا، وهو قوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} [آل عمران: 72] الآية. فكانوا يؤمنون بالبكرة ويكفرون بالعشي ". قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}. أي: ومن هؤلاء أميون. فهم أبعد من الإيمان من غيرهم. وقال ابن عباس: " هم قوم لم يصدقوا رسولاً ولا آمنوا بكتاب، فكتبوا كتاباً وقالوا للعوام: هذا من عند الله ". وإنما سماهم أميين لجحودهم الكتاب إذ صاروا بمنزلة من لا يحسن شيئاً.

وقيل: الأمي هنا الذي لا يكتب كأنه نسب إلى أمه كأنه على طبعها وجبلتها لا يحسن كما لا تحسن. وقيل: / الأميون / في هذا الموضع نصارى العرب. قاله عكرمة والضحاك. وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب أحدثوها فصاروا أميين [لا كتاب] لهم. وهم المجوس فيما روي عن علي بن أبي طالب Bهـ. وقيل: هم طائفة من اليهود. / قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب}. أي: التوراة أي هم مثل البهائم. قوله: {إِلاَّ أَمَانِيَّ}.

قال قتادة: " يتمنون على الله ما ليس لهم ". وعن ابن عباس: " إلاَّ أمَانِيَّ: إلا أحاديث]. وقال مجاهد: " هم ناس كانوا لا يعلمون شيئاً، يقولون على التوراة ما ليس فيها، كأنهم يتمنون أن يكون ما قالوا فيها ". وقال ابن زيد: " يقولون نحن من أهل الكتاب وليسوا منهم تمنياً " وقال الفراء وأبو عبيدة: [إلا أماني]: إلا تلاوة ". ومنه قوله: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي إذا تلا ألقى في تلاوته. فهم لا يعلمون منه إلا التلاوة ولا يفهمونه ولا يعملون به. وقال جماعة: [إلاّ أمَانِيَّ]: إلاَّ كذباً ". ومنه قول عثمان Bهـ: " ما تمنيت منذ أسلمت " أي: ما كذبت.

79

قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}. أي: يجحدون نبوتك، وما جئتم به ظناً لا يقيناً. وقيل: معناه: لا يعلمون الكتاب إلا تخرصاً وإن هم إلا يشكون فيه. قوله: {فَوَيْلٌ}. قال سفيان وأبو عياض: " ويل ماء يسيل من صديد في أسفل جهنم ". وروى عثمان بن عفان " عن النبي [عليه السلام أنه قال /: الوَيْلُ] جَبَلٌ في النَّار ". وروى عنه عليه السلام أبو سعيد الخدري أنه قال: " ويلٌ وَاد في جهنَّمَ يَهْوِي فِيهِ

الكَافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ ". ومعنى " ويل " عند أهل اللغة: قبوح. وويح ترحم، وويس تصغير. وهذه مصادر لا أفعال لها. والاختيار فيها الرفع على كل حال بالابتداء. ويجوز فيها النصب على معنى: ألزمه الله ويلاً. فإن كانت مضافة [حسن فيها] النصب، قال الله تعالى: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ} [طه: 61]. فأما ما كان من المصادر جارياً على الفعل، فالاختيار / فيه الرفع إذا كان معرفة على الابتداء نحو: الحمد. ويجوز النصب على المصدر. فإن كان نكرة، فالاختيار في النصب على المصدر ويجوز الرفع على الابتداء، أو على معنى ثبت ذلك له. فإن كان مضافاً لم يجز إلا النصب كالأول. قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ}. هم اليهود الذين غيروا التوراة وبدلوا اسم محمد A فيها وصفته لئلا يؤمن به

العوام، وأخذوا على ذلك الرشا. وقيل: هم قوم من اليهود كتبوا كتباً من عند أنفسهم وقالوا: هذا من عند الله ليعطوا عليها الأجر. وقال ابن عباس: " بل فعل ذلك قوم أميون لم يصدقوا رسولاً، ولا آمنوا بكتاب فكتبوا بأيديهم للجهال كتاباً ليشتروا به ثمناً قليلاً ". قال ابن اسحاق: " كانت صفة محمد A في التوراة أسمر ربعة فبدلوا وكتبوا آدم طويلاً ". / وقوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ}. تأكيد ليعلم أنهم تولوا ذلك بأيديهم ولم يأمروا به غيرهم. ففي الإتيان بلفظ " الأيدي " زوال الاحتمال، إذ لو قال: " يكتبون الكتاب " لجاز أن يأمروا بكتابته وأن يتولوا ذلك بأنفسهم لأن العرب تقول: " كَتَبْتُ إلى فلان "، وإنما أمر من كتبه له " وكتب السلطانُ كتاباً إلى عامله " ولم يكتبه بيده، وإنما أمر من كتبه له.

ففي ذكر " الأيدي رفع الاحتمال وبيان أنهم تولوا ذلك بأيديهم عن تعمد منهم. وقال ابن عباس: " هذا، كما تقول: حملتُ إلى بلد كذا قمحاً، وإنما أمرت من حمله ". وقال تعالى في التابوت: {تَحْمِلُهُ الملائكة} [البقرة: 248] وإنما حمل بأمر الملائكة، ولم تحمله الملائكة [بأنفسها ولا ظهرت] للقوم في ذلك الوقت. ومن هذا قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167]. إنما أكد بذكر الأفواه لأن القول قد يترجم به عن الإشارة وعن الكتاب. تقول العرب: " قال الأمير كذا " للفظ سمعه من كتاب أمر بكتابته الأمير. وقريب منه قوله تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} [الصافات: 93] لأن اليمين تدل في كلام العرب على الشدة والقوة والبطش، فدل بذكر اليمين على شدة الضرب. ولو لم يذكر اليمين لجاز أن يكون ضرباً شديداً أو غير شديد فذكر اليمين يرفع الاحتمال ويدل على الشدة.

80

ومن ذلك قوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ومنه: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46]. وقوله: {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}. أي قالوا: " لن نعذب إلا الأربعين ليلة التي عبدنا فيها العجل ثم لا نعذب ". قاله قتادة. وقال السدي: " قالوا: نمكث في النار أربعين ليلة حتى إذا أكلت النار خطايانا واستنقينا، نادى / مناد: أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، ولذلك أمرنا أن نختتن ". وقال أبو العالية: " قالت اليهود: أقسم ربنا ليعذبنا أربعين ليلة ثم يخرجنا، فأكذبهم الله ". وقال ابن عباس: " قالت اليهود: وجدنا في التوراة أن ما بين طرفي جهنم مسيرة

أربعين سنة إلى أن ينتهوا / إلى شجرة الزقوم، فإنما نعذب حتى ننتهي إليها ". وروى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس " أن اليهود قالت: إنما عُمْر الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذب الناس يوم القيامة سبعة أيام، لكل ألف سنة يوم ". ولم يُحَدِّدْ / الله تعالى الأيام لأنها عندهم معلومة على قولهم، فترك ذكر عددها وبيانه لما تقدم عندهم. قوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً}. أي: هل تقدم لكم عند الله ميثاق وعهد / بهذا التحديد الذي قد حددتم، فإن الله لا يخلف وعده، فأتوا بما تدعون، أم قلتم ما قلتم تخرصاً وكذباً. هذا تأويل أكثر الناس. وروى الضحاك عن ابن عباس: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً}. أي: هل قلتم لا إله إلا الله لم تشركوا ولم تكفروا ولم تبدلوا ولم تغيروا، فيكون ذلك ذخراً لكم عند

الله ولا يخلف الله وعده لمن يفعل ذلك. أو قلتم ذلك تخرصاً وإفكاً، ولم يتقدم لكم إيمان تدخرونه عند الله فيوفي لكم به ". وروى ابن أبي فروة " أن النبي [ A] قال [لناس من اليهود]: مَن أصْحَابُ النَّارِ غَداً؟ قالوا: نَحْنُ، سَبْعَةُ أيَّامٍ، ثُمَّ تَخْلِفُونَنَا فِيهَا، فَنَزَلَ: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} إلى {خَالِدُونَ} "، من حديث ابن وهب. وقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ}. وزنه " افتعلتم " فيجوز / أن يكون من " تخذ يتخذ "، ويجوز أن يكون من "

81

أخذ "، وأصله " ايتخذتم " ثم أبدل من الياء تاء وأدغمت في الأخرى، وإنما فعل ذلك لاستثقال الياء بعد كسرة الهمزة. وقيل: فعل ذلك لما يلزم من تغيير الياء وكونها ألفاً في المستقبل في " يأتخذ " وكونها واواً في المفتعل تقول: " موتخذ " فأبدلوا من الياء حرفاً جلداً لا يتغير في جميع الأحوال، وكانت التاء أولى بذلك، لأنها قد تبدل من الواو، فالواو أخت التاء. وقيل: كانت أولى لأن بعدها تاء فأبدلت للتجانس وليصح الإدغام، والمدغم أخف من المظهر. قوله: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} الآية. أي: من عمل بمثل ما عملتم، وكفر بمثل ما كفرتم وقال ما قلتم، {فأولئك أَصْحَابُ النار} قاله ابن عباس. وقال مجاهد وقتادة: " السيئة هنا الشرك ". وهو قول ابن جريج وعطاء

والربيع. وقد قال الله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90]. وهي الشرك بلا اختلاف في ذلك. وقال الربيع بن خثيم: (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ): مات على كفره ". وعنه: " مات على معصيته ". وقال السدي: " هي الذنوب ". أي الكبائر. والأول أولى لأن الله لم يتوعد في النار بالتخليد إلا أهل الشرك. وقال النبي [عليه السلام]: " أهْلُ الإيمَانِ لاَ يُخَلَّدُونَ في النَّارِ، وَيُخَلَّدُ الكُفَّارُ ". و" خَطِيئاتُهُ ": الذنوب، أي مات ولم يتب منها ولا أسلم.

82

وقال ابن عباس: " أحاطت الخطيئة هو أن يحبط ما له من حسنة بكفره ". وقال قتادة: " الخطيئة هنا الكبيرة الموجبة للنار ". وقال عطاء: " الخطيئة الشرك ". وهذا القول يدل على أن السيئة الذنوب، فيصح أن يتوعد الله مَن أذنب الكبائر أو الصغائر ثم أضاف إلى ذلك الشركِ /، وهي الخطيئة بالتخليد في النار. ومن قرأ {خطيائته} بالجمع فهي الكبائر بلا اختلاف، والسيئة الشرك. وهذا الخطاب لليهود / مرتبط بما قبله. قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. أي: آمنوا بمحمد A وعملوا بما جاء به، فهي عامة في جميع أمة محمد A. قاله ابن عباس وغيره. وقال ابن زيد: هي خاصة في محمد عليه السلام وأصحابه.

83

قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}. مَن قرأه بالضم، فمعناه عند الزجاج قولاً ذا حسن. وقال الأخفش: " الضم والفتح بمعنى واحد بمنزلة البُخْلُ والبَخَلُ والسُّقْمُ والسَّقَمُ ". وقيل: إن مَن قرأ بالفتح فهو نعت لمصدر محذوف. واستقبح المبرد: " مَرَرْتُ بِحَسَنٍ " على إقامة الصفة مقام الموصوف. وقد جاء هذا في القرآن بإجماع، قال الله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} [فصلت: 10]، ولم يقل جِبَالاً رَوَاسِيَ. وقال {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11]، ولم يقل: " دُرُوعاً سَابِغاتٍ ". واختار بعض المتعقبين الضم لأن " الحُسْنَ " الاسم الذي يحوي ما تحته ويعمه، و " الحَسَنُ " إنما هو الشيء الحَسَنُ لا يعم غير ما هو نعت له، والعموم أكمل في المعنى هنا، لأنها وصية بالخير. فَفِعلُه كله، والأمر به أولى مِن فِعل بعضه،

والأمر ببعضه دون بعض. وحكى / الأخفش: " حُسْنَى "، بغير تنوين. وهو لحن لا يجوز لأنه لا يقال إلا بالألف واللام. وقوله: {وبالوالدين}. معطوف على المعنى لأن المعنى: " بأن لا تعبدون " ثم حذفت " أن " مع الحرف، ودل على ذلك إعادة الباء فيما بعده. وهذا الميثاق هو الذي أخذ عليهم إذ أخرجهم كالذر. واليُتْم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم، قاله الأصمعي. {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ}: معطوف على المعنى في {لاَ تَعْبُدُونَ}، فلذلك أتى بلفظ الأمر لأن صدر الكلام مبني على النهي. ومعنى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}: " مروهم بقول لا إله إلا الله ". رواه الضحاك عن ابن عباس.

وقال ابن جريج: " معناه: قولوا صدقاً في أمر محمد A. وقال سفيان الثوري: " مرورهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ". وقال قتادة وغيره: " قولوا لهم حسناً من القول ". وقال أبو عبيدة: " قولوا حسناً من القول للمسلم والكافر ". وقال قتادة: " هي منسوخة بآية السيف ". ولا يجوز أن تكون منسوخة إلا على قول مَن قال: إن المعنى: قولوا للجميع حُسْناً من القول. وباقي الأقوال لا يمكن أن تكون فيه منسوخة لأن الأمر بالمعروف لا ينسخ /، والأمر بإظهار / الصدق في النبي عليه السلام لا ينسخ. قوله: {وَآتُواْ الزكاة}. هي زكاة كانت عليهم تأكلها نار من السماءِ ومن لم تأكل النار زكاته فهو غير مقبول. قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ}.

84

قال ابن عباس: " أعرضوا عما جاء به محمد A من الفروض إلا قليلاً منهم ". وهو خطاب لمن بحضرة رسول الله [عليه السلام]. وقيل: هو إخبار عن أسلافهم، فمعناه: ثم تولى أسلافكم إلا قليلاً منهم، وأنتم الآن معرضون خطاب لمن بالحضرة أي: وأنتم مثل أولئك الذين تولوا من أسلافكم. ودل على هذا التاويل ما بعده من ذكر سفك الدماء أنه إخبار عن أسلافهم ومخاطبة لمن بالحضرة، ولم يسفك من بالحضرة الدماء، ولا أخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، إنما ذلك فعل أسلافهم، فكون الكلام كله على سياق واحد أولى وأحسن. ومعنى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} / الآية أي يقتل بعضكم بعضاً، ويخرج بعضكم بعضاً. {مِّن دِيَارِهِمْ} يريد به أسلافهم. وقيل: المعنى: لا تقتلوا فيجب عليكم القصاص فتُقتلوا فتكونوا سبباً لقتل أنفسكم. ولا تفسدوا فيجب عليكم النفي فتكونوا سبباً لإخراجكم من دياركم. قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}. أي: اعترفتم أن هذا قد أخذ عليكم. ومعناه: أقَرَّ أوائلُكم بذلك. وأنتم يا هؤلاء تشهدون على إقرارهم لأن في

[كتابكم أخذي للميثاق] عليهم فأنتم شهود. وقيل: الخطاب من أوله لهم وهم المقرون، وذلك من بالحضرة من اليهود. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}. لأوائلهم، وأوائلكم يشهدون بأخذي للميثاق عليهم ودل على ذلك قوله {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء}، فَوَبَّخَ من بالحضرة، وأشار إليهم بهاء التشبيه بعد أن مضى ذكر أسلافهم، ورجع إلى ذكرهم. ومخاطبتهم بقوله لهم: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} هو أنهم كانوا قد افترقوا فرقتين: فرقة مع الأوس وفرقة مع الخَزْرَجِ. فإذا جرى بين الأوس والخزرج قِتَال أعانت كل فرقة منهم أصحابهم، فيقتل بعضهم بعضاً، ويجلي بعضهم بعضاً في الحمية وهم في أيديهم التوراة يعرفون ما عليهم، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك لا كتاب لهم يعبدون الأوثان، فإذا وضعت الحرب فَدَوْا أسراهم تصديقاً لما

في التوراة، كل ذلك مظاهرة لأهل الشرك، فذلك قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، يستحلون دماء بعضهم بعضاً، فذلك كفرهم. ويتحَرجون أن يبقى الأسرى في أيديهم فيتفادوا؛ فذلك البعض الذي يؤمنون به، وكان فرض عليهم أن لا يستعبدوا أحداً من بني إسرائيل / وفرض عليهم ألا يقتلوا أحداً، ولا يخرجوا أحداً من ديارهم، فحللوا القتل والإخراج، ولم يحلوا ترك الفداء والإخراج من الديار، ويؤمنون بالفداء وترك الاستعباد. يعني بذلك كله بني [قينقاع وأعدائهم قريظة وبني] النضير وكانت الخزرج حلفاء بني قينقاع، والأوس حلفاء قريظة والنضير. وكان بين الأوس والخزرج عداوات وحروب، وهم مشركون، وبين بني قينقاع وقريظة والنضير عداوات وحروب، فيعاون كل قوم حلفاءهم إذا تحاربوا. قوله: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى}. في موضع الحال، والأكثر أن يكون على " أَسْرى " كقراءة حمزة، كقتيل

وقتلى، وجريح وجرحى. ومن قال: {أسارى} شبهه بـ " سكارى "، كما قالوا " سكرى " على التشبيه " بأسرى "، فكل واحد مشبه بالآخر في بابه، ولم يُجِز أبو حاتم " أسارى ". وإنما يقال " فَعْلاَن " فيما كان آفة تدخل على العقل كما قال سيبويه. والفتح في " سُكَارَى " الأصل، والضم داخل عليه كأنه لغة، ويقال أُسَرَاءُ كَظُرفَاءَ. وَفَرَّقَ أبو عمرو / بين أَسْرَى وأُسَارَى: فقال: " ما صار في أيديهم فهو أسارى كأنه آفة دخلت عليهم " كسَكْرَانَ "، وما أتى مستأسراً فهم الأسرى. وواحد " الأسرى " و " الأسارى " أسير؛ بمعنى مأسور، كجريح وقتيل. / قوله: {مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ}. هو راجع إلى الإخراج، دل عليه: " تَخْرُجونَ ".

وقيل: هو مجهول كناية عن الأمر أو الشأن. وقال بعض الكوفيين: " هو فاصلة "، وذلك لا يجوز لأن حذفها يخل بالكلام، والفاصلة يجوز / حذفها. قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. كفرهم هو قتل بعضهم بعضاً ومعاونة الأوس والخزرج لهم، وهم يعلمون أن ذلك محرم عليهم. وإيمانهم هو أنهم افترض عليهم ألا يستعبدوا أحداً من بني إسرائيل وأن يفدوهم. وكانوا إذا فرغوا من الحرب فدوا من أسر منهم بعضهم [من بعض]. قوله: {إِلاَّ خِزْيٌ}. هو أخذ الجزية عن يد. وقيل: هو أخذ القاتل بمن قتل.

87

وقيل: هو إجلاء رسول الله [عليه السلام] بني النضير عن ديارهم لأول الحشر إلى الشام. وقيل: هو قتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم. وأصل الخزي الذل والصغار. وروي أن بني قينقاع من اليهود كانوا أعداء قريظة والنضير من اليهود، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء قريظة والنضير. وقريظة / والنضير كانا أخوين من أهل الكتاب، والأوس والخزرج أخوان افترقا، وافترق أيضاً قريظة والنضير. فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس، فإذا اقتتل الأوس والخزرج [أعانت النضير الخزرج / وقريظة الأوس]، فقتل بعضهم بعضاً فعيرهم الله بذلك. قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب}. لام (لَقَدْ) حيث وقعت لام تأكيد، وقد تقع جواباً للقسم، وعيسى لا

ينصرف لأنه أعجمي معرفة. وقيل: هو عربي من " عَاسَهُ يَعُوسُهُ " إذا ساسه وقام عليه ولا ينصرف على هذا للتعريف والتأنيث. (القُدُسُ) أصله الطهر. وفيه لغة نادرة وهي فتح القاف والدال. والكتاب هو التوراة. {وَقَفَّيْنَا}: أردفنا وأتبعنا بعضهم بعضاً على منهاج واحد، وشريعة واحدة، لأن كل من بعث بعد موسى A إلى زمان عيسى A فإنما يأمر بني إسرائل بلزوم التوراة والعمل بما فيها، فلذلك قال: {مِن بَعْدِهِ بالرسل}. أي: على منهاجه وطريقته. ثم قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات}. ابتداء كلام آخر. وأصل " قَفَوْت " من القَفَا " يقال: " قَفَوْتُ فُلاناً " إذا صرت خلف قفاه. " ودَبَرْتُهُ " إذا صرت خلف دبره. والبينات التي أوتيها عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه وخلق

الطير. وغيره من الحجج والبينات. {وَأَيَّدْنَاهُ}: قويناه وأعناه ونصرناه [والأيد والأد] القوة. وقرأ ابن محيصن: " وأيدناه " بالمد. و" روح القدس ": جبريل. قاله قتادة والسدي والضحاك والربيع بن أنس. وروي ذلك عن النبي [عليه السلام]. وقاله ابن عباس. وقال ابن زيد: " هو الإنجيل سمي روحاً كما سمي القرآن روحاً، فقال تعالى: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. ويرد هذا القولَ قولُه تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} [المائدة: 110]، ثم قال تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} {المائدة: 110]. فدل هذا [على] أن روح القدس غير الإنجيل /. فإن حُمل على أنه أعيد للتأكيد كما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، وقال:

88

{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98]، فهو وجه. وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: " روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى A الموتى ". وقال مجاهد: " القدس: الله جل ذكره، وسمي جبريل روحاً لأنه كان بتكوين الله له من غير ولادة كما سمي عيسى A / روحاً، فقال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء: 171]. وقال السدي: " القدس هنا البركة ". وقال الربيع: القدس هو الله، ويدل عليه قوله: {الملك القدوس} [الحشر: 23]. والقدوس والقدس واحد ". ورواه ابن وهب عن مجاهد أيضاً. قوله: {أَفَكُلَّمَا}. معناه: التقرير والخبر، ولفظه لفظ الاستفهام. قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.

هو جمع أغلف كأنها في غلاف وغطاء. يقال: " سيف أغْلَفُ إذا كان في غلافه ". وقال قتادة: " معناه قلوبنا لا تفقه ". وقال ابن عباس وغيره: " معناه: قلوبنا في غطاء وغلاف فليس نفهم ما تقول كما قال: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا} [فصلت: 5]. ويجوز أن يكون " غُلْفٌ " جمع " غلاف "، لكن أسكن تخفيفاً. ومعناه: قلوبنا أوعية للعلم لا تحتاج إلى / علم محمد A. وعلى ذلك قراءة من قرأ بِضَمِّ اللام، وهي قراءة الأعرجِ / وابن محيصن ورويت عن أبي عمرو وابن عباس. قوله: {بَل لَّعَنَهُمُ الله}. أي أبعدهم الله وطردهم وأخزاهم. وأصل اللعن الطرد والإبعاد والإقصاء.

{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} نصبه على أنه نعت لمصدر محذوف أو لظرف محذوف. وقيل: هو منصوب بـ " يؤمِنُونَ "، و " ما " زائدة. ومعناه أنهم يقرون بالله ويوحدونه، ويكفرون بالنبي [عليه السلام] كما قال {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم يؤمنوا البتة، تقول العرب " قَلّ الشَّيء " إذا لم يوجد. ويُقال: " قَلَّما رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا " أي: ما رأيت مثله. وحكى الكسائي عن العرب: " مَرَرْتُ بِبِلاَدٍ قَلَّ مَا تُنْبِتُ إلاَّ الكُرَّاثَ والبَصَلَ " أي: ما تنبت سواهما. وحكى سيبويه: " قلّ رجلٌ يقُولُ ذَلكَ إلاّ زَيْداً ". وقال أهل التفسير: " معناه: فقليلاً منهم من يؤمن، لأن الذين آمنوا من

89

المشركين أكثر كثيراً ممن آمن من اليهود ". وهذا مروي عن قتادة ويلزم منه رفع " قليل ". وقيل: المعنى: ليس يؤمنون مما في أيديهم إلا بقليل ". والاختيار عند أكثرهم قول من قال: " إنهم قليلوا الإيمان بما أنزل على النبي [عليه السلام]. قوله: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله} الآية. جواب " لما " محذوف، كأنه قال: كفروا، أو نحوه، كما قال: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ} [الإسراء: 7]. أي: خليناكم وإياهم، فحذف، ومثله قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} [يس: 45] أي: أعرضوا، ثم حذف جميعه لعلم السامع، وهو كثير في القرآن. والكتاب هنا؛ القرآن، أي: يصدق التوراة والإنجيل.

90

قوله: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} الآية. قال ابن عباس: " كانت العرب في الجاهلية يمرون على اليهود / فيؤذونهم، واليهود يجدون صفة محمد A في التوراة فيسألون الله أن يعجل ببعثه فينصروا به على العرب لِما وصل إليهم من أذى العرب /. فلما جاءهم محمد A الذي قد عرفوه وسألوا الله في بعثه كفروا به ". وقال مجاهد: " كانوا يقولون: " اللهم ابعث لنا هذا النبي يفصل بيننا وبين الناس، فلما بعث كفروا به ". وقيل: إنهم كانوا يرغبون إلى الله في النصر عند حروبهم / بمحمد [عليه السلام] ويستشفعون به فينصرون فلما جاءهم بنفسه كفروا به حسداً وبغياً وهم يعلمون أنه رسول. وبمثل هذا القول قال السدي وعطاء وأبو العالية. وهذا من أدل ما يكون [على أنهم جحدوا نبوة] محمد A على علم به وصحة أنه نبي مبعوث إلى الخلق حسداً وبغياً. قوله: {بِئْسَمَا اشتروا}.

أي: باعوا أنفسهم بالكفر من أجل ما أنزل الله على عبده محمد [صلى الله عليه سلم] حسداً وبغياً إذ لم يكن من بني إسرائيل. والعرب تقول: " شَرَيْتُ " و " اشْتَرَيْتُ " بمعنى بعت. والأكثر " شريت " بمعنى " بعت "، و " اشتريت " بمعنى " ابتعت ". وربما استعمل كل واحد في موضع صاحبه. قوله: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ}. أي: لجحودهم بما قد تيقنوا أمره، وعلموا صحة نبوته فحسدوه وبغوه إذ لم يكن من ولد إسرائيل، وكان من ولد إسماعيل. {على غَضَبٍ} متقدم، وهو بعبادتهم العجل [وكفرهم بعيسى عليه السلام]. وقال ابن عباس: " الغضب الأول [لتضييعهم لما] في التوراة، والثاني بجحودهم بمحمد A ".

91

وقال عكرمة: " الأول بكفرهم بعيسى، والثاني بكفرهم بمحمد [ A] ". وقال مجاهد: " الأول بكفرهم بعيسى [ A] والإنجيل. والثاني بكفرهم بمحمد A والقرآن ". قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}. أي وللجاحدين بمحمد A عذاب مهين. وسُمي مهيناً لأنه يذل الكافر فلا يخرج من ذلته أبداً. فأما العذاب الذي يعذب به أهل الكبائر فليس بمهين لأنه يتخلص منه برحمة الله وشفاعة النبي A. ووصف الله العذاب بالمهين يدل على أن ثم عذاباً غير مهين، وهو ما ذكرنا. قوله: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ}.

معناه أنهم إذا قيل / لهم: آمنوا بالقرآن، قالوا: نؤمن بالتوراة، ويكفرون بغيرها من جميع الكتب. [" ووراء " هنا بمعنى: " سِوَى "]. وقيل: هي بمعنى " بعد ". {وَهُوَ الحق}. أي والذي بعد التوراة الحق مصدقاً للتوراة، وهو القرآن [لأن] كُتُب الله يصدق بعضها بعضاً، وفي كل واحد منها الأمر / بالتصديق بغيره من الكتب. قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله}. أي: إن كنتم تؤمنون بالتوراة كما زعمتم، فَلِمَ قتلتم الأنبياء؟. قال كعب: " كانت بنو إسرائيل يقتلون سبعين نبياً في يومهم، وتقوم

سوق بقلهم في آخر النهار ". فقال: فلم تقتلون أنبياء الله، وهو محرم عليكم في التوراة إن كنتم في / ادعائكم أنكم تؤمنون بالتوراة صادقين. والمراد بهذا آباؤهم، كل ذلك تكذيب لهم وتعيير. " وتَقْتُلُونَ " بمعنى " قتلتم "، أي: فلم قتل أسلافكم ودل على ذلك قوله: {مِن قَبْلُ} [البقرة: 25]. وقال في موضع آخر: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ / إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183]. فأتى بلفظ الماضي على معنى: فلم قتلتم أسلافكم إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله كما زعمتم. وقيل: إنَّ " إنْ " بمعنى " ما " والمعنى ما كنتم مؤمنين إذ فعلكم هذا ورضاكم به مُتماد. وإنما جاز أن يخاطبوا بذلك وهم لم يفعلوا لأنهم

92

مقيمون على ما كان عليه أسلافهم من سفك الدماء وتغيير التوراة، فخوطبوا بما يخاطب به الفاعل لأنهم مثلهم وإن لم يفعلوا، إذ كان اعتقادهم لا يختلف فهم مشاركون لهم في الفعل راضون بما صنع أسلافهم. فألزموا ما لزم أسلافهم من التقريع والمخاطبة. قوله: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات} أي بالآيات الواضحات. {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ} أي إلها. والهاء في {مِن بَعْدِهِ} تعود على موسى A. وقيل على المجيء. قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} الآية. أخذ الله ميثاق بني إسرائيل بأن يعملوا بما في التوراة بقوة أي: بجد وعزم ونشاط وكان ذلك إذ رفع فوقهم الطور.

قوله {واسمعوا}: أي: استمعوا ما أمرتم به، وتقبلوه بالطاعة. {قَالُواْ سَمِعْنَا}: أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك. وخرج في هذا من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة كما قال: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]. وقد يخرج من الغيبة إلى الخطاب كما قال تعالى: {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 2]، ثم قال بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]. قوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ}. أي: حب العجل من أجل كفرهم. وقيل: المعنى إنهم سقوا من الماء الذي ذري فيه براية العجل. وقال السدي: " إنهم شربوا من الماء الذي ذري فيه سحالة العجل بأمر موسى A / لهم. فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب فذلك قوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل}. وأولى هذه الأقوال قول من قال: حب العجل. لأن الماء لا يقال فيه: أشربته بمعنى " سقيته ". وروي أنهم قالوا لموسى A: " إن عبادة العجل أسهل علينا من عبادة الرحمن، لأن العجل إن عصيناه لم يعذبنا، والرحمن إن عصيناه / عذبنا ". فأنزل الله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}.

94

قوله: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}. معناه أي: قل يا محمد: بئس الإيمان إيمان يأمركم بالكفر بمحمد A، لأن التوراة تنهى عن الجحود بمحمد A، وتنهى عن القتل وعن تبديل ما أنزل الله وأنتم على ذلك مصرون. {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ}: أي: في قولكم إن كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم. وقيل: معناه: ما كنتم مؤمنين. قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت}. معناه: إن كانت لكم الجنة على قولكم وأنتم إليها صائرون، فتمنوا الموت فإن ذلك لا يضركم. ففضحهم الله تعالى في كذبهم ودعواهم، وَعَلِم الناس أن تأخرهم عن التمني يدل على كذبهم، وكذلك امتنع النصارى إذ دعاهم النبي [عليه السلام] إلى المباهلة في عيسى A فافتضحوا، وعلم أنهم كاذبون في دعواهم.

95

قال النبي [عليه السلام] " لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا وَلَرَأَوْأ مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ لَرَجَعُوا / لاَ يَجِدُونَ أهْلاً وَلا مَالاً "، رواه ابن عباس عن النبي A. وإنما دعوا إلى تمني الموت لأنهم كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. ويقولون: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111]. فقال الله لنبيه A: قل لهم: إن كنتم صادقين / فيما تقولون، فتمنوا الموت فلم يفعلوا فَبَانَ كذبهم. قال ابن عباس: " [قيل لهم]: ادعوا بالموت على أي: الفريقين أكذب فأبوا ". وقوله: {مِّن دُونِ الناس}. أي: من دون جميع الناس. وقيل: من دون محمد A وأصحابه. قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً}. أي: لا يتمنونه لما يعلمون من ظلمهم وكذبهم وإنكارهم [لنبوة محمد] عليه السلام.

وهو عندهم في التوراة [فلو يتمنوا الموت] لهلكوا، فهم لا يفعلون ذلك أبداً. قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}. أي: من تكذيبهم للنبي A [ وتبديلهم للتوراة وعبادتهم للعجل] وغير ذلك مما سلف لهم، فأضيفت الجناية إلى اليد، وإن كانت تكون بغير اليد من لسان واعتقاد لأن معظم الجنايات باليد تكون، فجرت الإضافة في كلام العرب إلى اليد في جميع ذلك من أجل أن بها يكون أعظم الجنايات. قوله: {عَلِيمٌ بالظالمين}. أي: عليم بمجازاتهم / على ما فعلوا. تم الجزء [الثاني]

96

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ}. أي لتعلمنّهم يا محمد حريصين على الحياة لما يعلمون ما لهم في الآخرة من الخزي، لأنهم يعلمون أنك نبي ويجحدون ذلك. قوله: {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} الآية. أي: وأحرص من الذين / أشركوا وهم المجوس. وقيل: هم قوم يعبدون النور والظلمة. {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}: إخبار عن أحد الذين أشركوا لو يعمّر ألف سنة، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تَحِيَّتَهُمْ: " عِشْ أَلْفَ سَنَةٍ "، حرصاً على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون أن لهم الجنة خالصة، هم أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء الذين أدّاهم [حرصهم على الحياة أن جعلوا تحيتهم]: عِشْ ألف سنة " وذلك لما قد علموا من سوء ما قدموا لأنفسهم. وقيل: " إن [معنى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}: أي: أحد اليهود] الذين قيل لهم تمنوا الموت.

97

والأول أشبه بالآية. قال قتادة: " حببت إليهم الخطيئة طول العمر ". قوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} الآية. أي: وما أحدهم بمباعده. ومنجيه من العذاب التعمير. وقيل: المعنى وما التعمير بمباعده من العذاب (وَأَنْ يُعَمَّرَ)، بدل من التعمير. وقيل: " التقدير: وما الحديث، أو ما الأمر بمزحزحه من العذاب أن يعمر ". وهو مذهب الكوفيين من النحويين. ولا يجيزه البصريون، لأن الباء لا تدخل على الجملة التي تفسر المجهول وهو الأمر أو الحديث أو الخبر ونحوه. قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} الآية. قال ابن عباس: " جبرائيل وميكائيل مثل عبد الله وعبد الرحمان ".

قال عكرمة: " جبر " و " ميك " و " إسراف " [عبد و " إيل ": الله D] . ومعنى الآية فيما قال ابن عباس: " إن عصابة من اليهود سألوا النبي [عليه السلام] عن مسائل، منها أن قالوا: أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه، وعن ماء الرجل وماء المرأة، وعن الذكر والأنثى، وقالوا أخبرنا من هذا النبي الأمي في التوراة؟ ومن وليُّه من الملائكة؟ فأخذ [عليهم النبي عليه السلام عهوداً] أنهم يؤمنون إن أخبرهم وناشدهم الله على ذلك فأخبرهم أن إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً فَنَذَرَ إِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحُومَ الإِبِلِ، وأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانَهَا، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ A: " اللَّهُمّ اشْهَدْ، ثُمَّ نَاشَدَهُمْ اللهَ وَقالَ: " هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُل أَبْيَضٌ غَلِيظٌ، وَمَاءُ المَرْأَةِ أَصْفَرٌ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلاَ كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ / الله D، وَإذَا عَلاَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ / الوَلَدُ ذَكَراً، وَإِِنْ عَلاَ مَاءُ المَرْأَةِ / كَانَ أُنْثَى؟ قَالُوا: اللُّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ نَاشَدَهُمْ اللهَ، وَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ [هَذَا النَّبِيَّ الأُمِّيَّ

تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ؟] قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ: [قَالُوا: وَأَنْتَ] الآنَ، فَحَدِثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ وَنُجَامِعُكَ. / فَقَالَ: إِنَّ وَليِّي جِبْرِيل وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيّاً قَطْ إِلاَّ وَهُوَ وَلِيُّهُ. قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ؛ لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ المَلاَئِكَةِ تَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} إلى {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ". وروى الشعبي أن عمر بن الخطاب جرت بينه وبين اليهود مناظرة طويلة، فأقسم عليهم: هل تعلمون أن محمداً نبي فأقروا به. فقال: ولمَ أهلكتم أنفسكم، وأنتم تعلمون أنه نبي؟ فقالوا: إنه قَرَن بنبوته عدونا من الملائكة وهو

جبريل، ولو قرن بها ميكائيل لآمنا به. فسألهم عمر عن هذه العدواة فقالوا: إن جبريل ينزل بالعذاب والسخط والشدائد والغلظة، وإن ميكائيل ينزل بالرأفة والرحمة والتخفيف. فقال لهم عمر: وما منزلتهما عند الله؟ قالوا: أحدهما على يمينه، والآخر على يساره. فقال عمر: فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما - والذي بينهما - لَعَدُوٌّ لمن عاداهما، وسِلْمٌ لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل. ثم انصرف [عمر عنهم، فوجد النبي [عليه السلام] خارجاً من خوخة [لبني فلان، فقال لعمر]: ألا أقرئك آيات نزلت قبل؟ فقرأ عليه: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} إلى {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. فقال عمر: وَالذي بعثك بالحق، لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك، فأسمع اللطيف الخبير سبقني إليك بالخبر ".

وروي عن عمر هذه القصة بغير هذه الألفاظ إلا أن المعنى يؤول إلى شيء واحد. ومعنى ما في هذا الحديث من ذكر اليمين واليسار، إنما يراد به القرب في المنزلة من الله D على التمثيل فلا يحل لأحد أن يتمثل في هذا، وفيما شابهه جارحة إذ ليس كمثله شيء. قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} الآية. أي: نزل الفرقان من عند الله على قلب محمد، ولو قال قلبي لكان جيداً، والعرب / تقول: " قل يا زيد للقوم عندي الخبر " " وقل لهم عندك الخبر ". كل ذلك حسن جيد. ولا يقرأ إلا بما في المصحف.

98

قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما سلف من الكتب والرسل. ثم قال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته} الآية. روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: " لقي يهودياً عمر Bهـ فقال له اليهودي: إن الذي يذكره صاحبك هو عدو لنا. فقال له عمر: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} الآية، قال: ونزلت على لسان عمر. وكُرّر ذكر جبريل وميكائيل على معنى التأكيد. وقيل: لمعنى التفضيل والتخصيص. وقيل: كرر لأن من أجلهما نزلت الآيات، فكرر ذكرهما للإفهام، ولئلا يقولوا: إنهما غير داخلين في الملائكة المذكورين. وكرر إظهار اسم " الله " لما في الإضمار من الاحتمال إذ لو قال: (فإنه عدوٌ للكافرين) لجاز لكافر أن يقول: إن المعنى الذي يعادي هؤلاء عدو

99

للكافرين / فينقلب المعنى. ويجوز أن يُقال: إن الهاء تعود على أحد المذكورين جبريل أو ميكائيل فيشكل ذلك وظهر الاسم لارتفاع الاحتمال. وميكائل بالسريانية، وهو بالعربية عبيد الله، وإسرافيل بالسريانية واسمه بالعربية عبد الرحمن، وجبريل بالسريانية واسمه بالعربية عبد الله. هكذا وقع في كثير من التفاسير، والله أعلم بذلك. قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. روي عن ابن عباس " ان رجلاً من اليهود قال للنبي A: يا محمد، ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها. فأنزل الله D: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: علامات واضحات، {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون}.

100

ثم قال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً} الآية. عهدهم هاهنا ما عقدوا على أنفسهم من اتباع التوراة، والعمل بما فيها، وإظهار أمر محمد A والإيمان به. ثم نقض ذلك فريق منهم، وهم الأكثر بدلالة قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. وفي قراءة عبد الله: " نَقَضَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ". قوله: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله} الآية. معناه: لما جاءهم محمد A يصدق التوراة / وتصدقه. {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله}. نبذوا التوراة إذ جحدوا ما فيها من صفة النبي والأمر باتباعه، لأن من جحد آية من كتاب الله فقد جحد الجميع. وقيل: إنهم نبذوه مرة واحدة، واتبعوا ما تتلو الشياطين من السحر. {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: لا يعلمون أنه نبي صادق في قوله، فهم / يعلمون ذلك، ولكنهم جحدوا به عن علم وكفروا بذلك عن قصد.

102

قوله: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} الآية. قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}. يجو أن تكون " ما " نافية فيحسن الابتداء بها. وأن تكون بمعنى " الذي " أي: واتبعوا الذي أنزل على الملكين، فلا يبتدأ بها. وقيل: " ما " في موضع نصب بـ " يعلمونَ "، أي: ويعلمون ما أنزل على الملكين فيتعلمون أي فهم يتعلمون. وقال الفراء: هو معطوف على {يُعَلِّمُونَ الناس / السحر} {فَيَتَعَلَّمُونَ} وأجاز أن يكون مردوداً على قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} على إضمار تقديره. " فيأتون فيتعلمون ". ويجوز أن يكون مردوداً على {فَلاَ تَكْفُرْ} لأن معناه: " فلا تتعلم السحر ". فيكون تقديره: " فلا تتعلم فيأتون فيتعلمون ". قوله: {على مُلْكِ سليمان}. أي: في حين ملكه، " فعلى " بمعنى " في " كما وقعت " في " بمعنى " على " في قوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي على: جذوع النخل.

ومعنى " تَتْلُو " تقرأ، وقيل: تروي. قوله: {لَمَنِ اشتراه}. " من " بمعنى " الذي "، وأجاز الفراء أن تكون للشرط ولا يجوز ذلك عند البصريين. والضمير في {واتبعوا} يعود على اليهود الذين وصفهم الله قبل، بنبذ الكتاب والكفر والجحود وغير ذلك، وهم اليهود الذين هم بحضرة رسول الله [عليه السلام] لأنهم تركوا كتابهم واتبعوا السحر. {على مُلْكِ سليمان}: أي: على عهده. قال السدي: " كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتسمع ما أُخْبِرَ به الملائكة مما يحدث في الأرض / من موت أو جدب أو غير ذلك فيخبرون به الكهنة، فتحدث الكهنة الناس ويزيدون فيه مع كل كلمة سبعين كلمة من الكذب. فاكتتب الناس ذلك في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فجمع سليمان تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين

يدنو من كرسيه إلا احترق. وانتهى الناس عن إضافة الغيب إلى الشياطين. فلما مات سليمان A وانقرض العلماء، تمثل الشيطان في صورة الإنسان، وأتى نفراً من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال: إن سليمان إنما كان يملك الجن والإنس والطير بهذا السحر. ثم ذهب عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، فطلب بنو إسرائيل السحر، فلما بعث النبي A خاصموه / بها، فأنزل الله D: { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ} ". وقال الربيع في خبر رفعه إلى النبي A: " أن اليهود سألوا النبي A عن السحر فقال لهم النبي [عليه السلام]: إِنِّما عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ إِلَى السِّحْرِ وَالكَهَانَةِ فَوَضَعَتْهُ فِي كُتُبٍ وَدَفَنَتْه تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجُوا الكُتُبَ وَخَدَعُوا بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاتَّبَعوهَا ".

وقال ابن جريج: " عني بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان ". وقال ابن إسحاق: " إنما كتبت الشياطين ما كتبت حين علمت بموت سليمان A؛ / كتبت: من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا. فكتبوا أصنافاً وختموا عليه وعنونوا: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصِّديق للملك سليمان بن داود. ثم دفنوه تحت الكرسي. فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل واتبعته، / وقالوا: ما ملك سليمان إلا بهذا. فأفشوا السحر في الناس، فليس السحر في أحد أكثر منه في اليهود. وقد سحروا النبي A ". وبابل: موضع يقال الملكان فيه في سرب من الأرض معلقين في ضوء كضوء النهار. وقيل: إنما سمي بابلاً لأن الألسنة فيه تبلبلت، وافترقت الأمم من ذلك المكان في الآفاق لاختلاف ألسنتها.

وقيل: إن ذلك إنما كان على عهد فرعون إذ جمع الناس لبنيان الصرح، ومن ذلك الوقت لا تدع الريح بنياناً يبلغ ذراعاً إلا دمرته. وقال ابن عباس: " إن سليمان لما ذهب ملكه ارتد فئام من الناس من الجن والإنس وأحدثوا سحراً، واتبعوا الشهوات. فلما رجع سليمان إلى ملكه، أخذ تلك الكتب ودفنها. فلما مات ظهرت الإنس والجن على تلك الكتب، وقالوا: هذا كتاب من عند الله أخفاه عنا سليمان فجعلوه ديناً ". ومعنى {تَتْلُواْ}: تحدث وتروي وتتكلم. وقيل: معناه تتبع. قوله: {على مُلْكِ سليمان}. أي: في ملكه وعهده. قال ابن عباس: " كان سبب محنة سليمان A أن أهل امرأة له يقال لها جرادة اختصموا إليه مع خصماء لهم / فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحداً. وكان سليمان A إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يقضي حاجة أعطى خاتمه لجرادة، فلما أراد الله منه ما أراد جاء الشيطان يوماً في

صورة سليمان إلى جرادة فقال: هاتي الخاتم. فأخذه فلبسه فدانت له الشياطين والجن والإنس. فلما جاءها سليمان يطلب الخاتم، قالت له: كذبت لست سليمان فعرف سليمان أنه ابتلي، فعند ذلك كتبت الشياطين سحراً ودفنوه تحت الكرسي، وأخرجوه بعد موته، فضل الناس به، وتبرأ كثير منهم من سليمان A. قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}. " ما " في موضع نصب عطفاً على " ما " في قوله: {واتبعوا مَا}. وإن شئت عطفاً على السحر أي: {يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}. وقيل: ما جحد قاله ابن عباس /. أي لم ينزل على الملكين السحر. ومعنى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي يخبرانه بالسحر ليتجنبه ولئلا يقع فيه وهو لا يدري فيقولان: " السحر هو كذا وكذا، فاجتنبه فإنه كفر ".

وتقدير قول من جعل " ما ". [نفيا أن يكون في] الكلام تقديم وتأخير على ترتيب: " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمان الناس السحر ببابل هاروت وماروت ". وقيل: يعني بالملكين هنا: جبريل وميكائيل عليهما السلام، لأن سحرة اليهود تزعم أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله بذلك وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأن تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذي يعلمه رجلان اسمهما هاروت وماروت. فهو رد على الشياطين. وقيل: الذي يتعلمه من الناس هاروت وماروت. فهو رد على الناس. وقال قتادة والزهري عن عبد الله: " كانا ملكين أهبطا إلى الأرض للحكم

بين الناس فحاكمت إليهما امرأة فحافا، فأتيا ينهضان إلى السماء فلم [يقدرا، وخُيّرا] بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحداً حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}. وذكر ابن الأعرابي في " الياقوتة " أن معنى " يُعَلِّمَان ": " يُعْلِمانِ " مخففاً. قال: والعرب تقول: " تعلم مني " أي: اعلم. قال: ومعناه: أن الساحر يأتي الملكين فيقول: أخبراني عما نهى الله عنه [فننتهي عنه]، فيقولان: نهى عن الزنا، فيقول: وما الزنا؟ فيصفانه له. ويقولان: نهى عن اللواط ويصفانه. ونهى عن السحر ويصفانه له / لينتهي عنه، فينصرف ويخالف ويكفر.

فالمعنى: وما يعلمان من أحد حتى يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ [فَلاَ تَكْفُرْ]} " أي: اختبار من الله فلا تكفر، فتعمل بما ينهاك عن العمل به. وروي عن ابن عباس في قصة الملكين: " أن الله تعالى أطلع الملائكة على أعمال بني آدم، فقالوا: يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، و [أسجدت له] ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء يعملون بالخطايا. فقال الرب لهم: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك، ما كان ينبغي لنا. قال: فأمروا أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأحل لهما كل شيء إلا الشرك والسرقة والزنا وشرب الخمر، وقتل النفس. قال: فما أشهرا حتى عرض لهما بامرأة، قد قسم لها / بنصف الحسن، فلما أبصراها تعرضا لها، قالت: لا، إلا أن تشركا بالله شيئاً /، وتشربا الخمر وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم. قالا: ما كنا لنشرك بالله شيئاً. فقال

أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا، إلا أن تشربا الخمر، فشربا حتى ثملا، ودخل عليهما سائل فقتلاه. فلما وقعا فيما وقعا من الشر، أفرج الله لملائكة السماء لينظروا إليهما فقالوا: سبحانك أنت أعلم. فأوحى الله تعالى [إلى سليمان] بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا ". وروي عن ابن عباس أنه قال: " نزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس، وكانت الملائكة من قبل يستغفرون للذين آمنوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] فلما وقع الملكان في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض ". وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: " كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس، فلما أراداها قالت: لا، إلا أن تعلماني الكلام الذي إذا تكلم به عرج إلى السماء. فعلماها فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً ".

قال كعب: " والله ما أمسيا في الأرض من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا فعل جميع ما نهيا عنه ". وقال السدي /: " إن هاروت وماروت طعنا في بني آدم وأحكامهم. فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات فيها يعصون. فقالا: لو أعطينا تلك الشهوات ونزلنا لحكمنا بالعدل. فأعطيا ذلك، ونزلا ببابل. فكانا يحكمان إلى المساء، ثم يصعدان، فإذا أصبحا نزلا. فأتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها [فكلماها في نفسها]، فقالت: لا، حتى تقضيا لي على زوجي، فحكما لها عليه، ووعدتهما قرية خربة فأتياها. فلما أرادا منها الحاجة، قالت: لا، حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان، فأخبراها، [فتكلمت فصعدت وأنساها الله] الاسم الذي تنزل

به، فبقيت مكانها وجعلها الله تعالى كوكباً وهي الزهرة. فخُيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا ". وكان ابن عمر يلعن الزهرة. رواه نافع عنه. وكل هذه الأخبار تدل على أن " ما " في قوله: {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين} ليست بنفي. وروى ابن وهب أن خالد بن أبي عمران ذُكر عنده هاروت وماروت أنهما يعلمان السحر، فقال: " ننزههما عن هذا ". فقرأ بعض القوم {وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين}

فقال خالد: لم ينزل / عليهما. وقرأ الحسن " المَلِكَيْنِ " بكسر اللام، وقال: " هاروت وماروت علجان من أهل بابل، وكذلك قرأه عبد الرحمن بن أبزى، لكنه قال: " هما داود وسليمان ". قال السدي: " إذا أتى الملكين أَحَدٌ يتعلم السحر يقولان له: " لا تكفر إنما نحن فتنة ". فإذا أبى قالا له: " إئت هذا الرماد فبل فيه. فإذا بال عليه خرج منه نور ساطع فيسطع حتى يدخل السماء، فذلك الإيمان. ثم أقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه فذلك غضب الله. فإذا أخبرهما بما رأى وبما / فعل علماه ". / ومعنى {إِنَّمَا نَحْنُ [فِتْنَةٌ]}: أي اختبار وابتلاء. وروي أن الله جل ذكره أخذ على هاروت وماروت الميثاق ألا [يعلما

أحداً] السحر حتى يقولا له: " إنما نحن فتنة فلا تكفر بفعل السحر ". وهذا يدل على قتل الساحر إذا سحر وظفر به من غير استتابة، لأنه شيء يخفيه فلا يُعلم بصحة توبته منه لو تاب. ويقال: إنهم كانا يعلمان من السحر ما يفرق به بين الزوجين خاصة كما ذكر الله. وقوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}. أي: بعلمه وقضائه لا بأمره لأن الله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، فلا تقع الفحشاء من فاعلها، إلا بعلم الله وقضائه وقدره. هذا مذهب أهل السنة والجماعة. وتعليمهم السحر هو فتنة أختبر بها الخلق. وقيل: هو تعليم إنذار منه وتحذير منه، لا تعليم دعاء له ورغبة في العمل به.

قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}. أي: بقضائه المتقدم أنهم يفعلونه ويضرون به. وقيل: معناه بعلم الله. وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ}. قوله: {لَمَنِ اشتراه}. أي: لمن استحبه وقبله وعمل به، ما له في الآخرة من خلاق. / أي: علمت يهود في التوراة أن من اشترى السحر ما له في الآخرة من خلاق. أي: من نصيب وحظ. وقيل: من دين. وقيل: من قوام. وقيل: إن (علموا) يراد به الشياطين لأنه لو رد إلى اليهود لكان قوله:

{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} نفى عنهم العلم، وقد أخبر أنهم علموا. وقيل: علموا هو للمَلَكَين لأنهم يقولون: لا تكفر، فقد علموا أنه لا خلاق لمن اشتراه في الآخرة، وثُني كما يقال: " الزَّيدان قاموا ". وقال الزجاج: " علموا ": هم علماء اليهود ". وقوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}. قيل لهم ذلك لأنهم صاروا في محل من لا علم عنده إذ لم ينتفعوا بعلمهم، فصاروا بمنزلة الجاهل بهذا الأمر، فنفى عنهم العلم بعد أن أخبر أنهم علموا من أجل ذلك. وهذا مشابه لقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] لأنهم لما لم ينتفعوا بهذه الأعضاء كانوا بمنزلة من عَدِمَها، فوصفوا بذلك وهم غير صم ولا بكم ولا عمي. {وَشَرَوْاْ} هنا بمعنى باعوا. وتقدير الكلام عند الطبري: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "، أي: يَعْلَمون أنه يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم. يريد به الذين

يتعلمون السحر للتفريق بين المرء وزوجه. ثم قال: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه}. يريد به علماء اليهود. فإيجاب العلم لعلماء اليهود ونفيه هو عن الذين يتعلمونه للتفريق. وقتل الساحر عند مالك واجب بهذه الآية إذا سحر بنفسه لأنه كفر لقوله تعالى: {فَلاَ تَكْفُرْ}. والكافر إذا ستر كفره [قتل إلا أن] يأتي قبل أن يُعرف به، فيخبر بما كان سَتَر، فإن توبته تقبل. ومثله الزنديق عند مالك يقتل إذا قدر عليه ولا يستتاب. فإن أَظْهَره قبل أن يُظهر عليه استتيب، فإن تاب وإلا قتل. وهو والزنديق سواء. / والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويُسِر الكفر، فلا تقبل توبته لأنا لا ندري ما في ضميره، وقد قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. فلا تنفع الساحر، [و] الزنديق توبتهما إذا ظفر بهما، وتنفعهما إذا أتيا قبل أن يُقدر عليهما، كما كان هؤلاء تنفعهم توبتهم قبل / إتيان العذاب، ولا ينفعهم ذلك عند رؤية العذاب. وهو قول عثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة، وجماعة من الصحابة

والتابعين. ولا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك، ولكن يعاقب إلا أن يقتل بسحره فيقتل أو يُحدِث حَدثاً فيؤخذ منه بقدر ذلك. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: " لا يقتل ساحر أهل العهد إلا أن يدخل بسحره ضرراً لم يعاهد عليه على مسلم ". وكذلك روى ابن القاسم: قال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها. قال: " ينكل بها ولا تقتل ". وقال الشافعي: " لا يقتل الساحر ولكن يسأل عن سحره، فإن كان كفراً / استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل، وكان ماله فيئاً ".

103

قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا}. أي: لو أن الذين [يتعلمون السحر آمنوا أي: بمحمد A، وما أنزل الله، {واتقوا}] أي اتقوا الكفر وعمل السحر - لوجب لهم عند الله الثواب على ذلك. فهو خير لهم لو كانوا يعلمون قدر ذلك. وقيل: {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}: أي لو علموا مبلغ ثواب الله / ورضاه ومقدار ذلك. وقيل: معنى: {لَمَثُوبَةٌ}: لرجعة إلى الله خير. وقيل معنى {لَمَثُوبَةٌ}: أي: لأثيبوا على ذلك، فَاسْتُغْنِيَ بالمثوبة عن الثواب، لأن المثوبة مصدر يشتمل على الماضي وغيره. " ولو " تحتاج إلى جواب يكون ماضياً، ودلت المثوبة على الماضي. وقال ابن إسحاق: " معنى {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}، أي: يعملون بعلمهم.

104

وقيل: يعلمون حقيقة الفضل في ذلك. قوله: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}. أي: خلافاً. وقيل: معناه أرعنا سمعك، أي: اسمع منا ونسمع منك. قال الضحاك: " كان الرجل من المشركين يقول: " أرعني سمعك " ". قال قتادة: " هي كلمة كانت اليهود تقولها على الاستهزاء، فنهى الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم ". وقيل: إنها لغة كانت في الأنصار فنهوا عن قولها تعظيماً للنبي A وتبجيلاً له، لأن معناها: " أرعنا نرعك "، فكأنهم لا يرعونه حتى يرعاهم، بل يرعى A على كل حال. ولا يعرف أهل اللغة: " راعيت " بمعنى " خالفت " كما روى مجاهد. وقرأ الحسن " راعنا " من " الرعونة " منوناً ونصبها على المصدر: كأنه قال:

105

رُعُونة. وقيل: بالقول انتصبت. وقرأ الأعمش: " أنظِرنا - بقطع الألف وكسر الظاء - أي: أخرنا، وذلك بعيد لأنهم لم يؤمروا بالتأخير /، إنما أمروا بالقرب منه والتلطف في الخطاب. وقيل: معنى قراءة الأعمش: أمهلنا. وقوله: {واسمعوا} أي: واستمعوا ما يقال لكم، وَعُوه. ثم قال: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية. يعني بها اليهود والنصارى أنهم لا يحبون أن ينزل على المؤمنين خير من الله. {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}. أي: بنبوته ورسالته فيرسلها إلى من يشاء، ويهدي من يشاء. قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ}. أي: من حكم آية، قرأ ابن عامر: ما نُنسِخْ - بضم النون الأولى وكسر السين، بمعنى: " ننسخك ".

قال أبو غانم: " يقال: نسخته وأنسخته مثل قبرته وأقبرته، [فقبرته دفنته، وأقبرته جعلت له] قبراً ". قوله: {أَوْ نُنسِهَا}. من ضم / النون الأولى وَكَسَر السين، فمعناه: نتركها لا نبدلها. وهو مروي عن ابن عباس على معنى: نأمرك بتركها. ويلزم على هذا المعنى فتح النون ليصح معنى الترك إذ هو غير معروف في اللغة: أَنْسَيْتُ الشيء تركته، إنما يقال: " نسيت "، كما قال {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، أي: تركوه فتركهم. / وهذا إنما يصح على قراءة من قرأ " نَنْسِهَا " بالفتح.

والصواب في معنى: " نُنْسِها " بضم النون أن يكون من النسيان على معنى: " ننسكها " يا محمد فتذهب من حفظك ". وعن ابن عباس أن في الآية: [تقديماً وتأخيراً]، والتقدير: ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها أي بأنفع منها لكم أو مثلها. ثم قال: {أَوْ نُنسِهَا} أي نؤخرها فلا ننسخها ولا نبدلها. وقيل: معناه: نأمرك بتركها كأنه: " أو ننسكها "، أي: نجعلك تتركها. وقيل: معناه: ننسكها من النسيان أي: نزيل ذكرها من قلبك فلا تذكرها.

والفرق بين إباحة الله تعالى لنبيه A النسخ، وبين إباحته الترك، أن النسخ أن تنسخ آية / بآية أخرى كنسخ قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] لقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. والترك هو ترك الآية من غير آية تنسخها كإباحة الله / للمؤمنين ترك امتحان من أتاهم بعد أن قال: {فامتحنوهن} [الممتحنة: 10]. فأما قراءة من قرأ " نَنْسَأَهَا " بالهمز، فمعناه أو نؤخرها فلا ننزلها البتة. وقيل: معناه نؤخرها بعد إنزالها وتلاوتها فلا تتلى. وقيل: معناه نؤخر العمل بها [وننسخه ويبقى لفظه متلواً غير معمول] به. ولكل واحد من هذه المعاني أمثلة في كتاب الله D قد بيناها في كتاب:

" الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ". فالنسخ يكون فيما نزل، والنَّسْءُ فيما لم ينزل فيؤخر. يقال: " نسَّأَ الله في أجلك وأَنسأَ " أي: أخر فيه. وقيل: معنى هذا القول: ما ننسخ من آية من اللوح المحفوظ فننزلها على محمد A " أو ننسأها " أي نؤخرها في اللوح فلا ننزلها، فالمنسوخ جميع القرآن، والمنسوء ما أخر، فلم ينزل هذا على هذا التأويل. وفيها قول ثان: وهو أن يكون معناه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أي: نرفعها، " أو ننسأها ": أي نؤخرها فلا نرفعها. وفيها قول ثالث: وهو أن يكون " ننسأها " [معناه نؤخرها عن] التلاوة ويبقى الحكم بها نحو آية الرجم. وفيها قول رابع: وهو أن يكون " ننسأها " معناه نؤخره إلى وقت ما، نحو ما

روي في قوله، {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105]. وقرأ الضحاك بن مزاحم " أو تُنْسَها " - بالتاء مضمومة وفتح السين - على ما لم يُسَمَّ فاعله، أي: " ينسكها الله أو الشيطان " بدلالة قوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} [الأنعام: 68]. / وقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا}. معناه عند أبي إسحاق وقطرب: / " نأت منها بخير " وهو غلط عند النحويين. لأن من حقها أن تكون بعد " أفعل " لا قبله " وخير " أفعل فإن جعلت " خيرا " فعلاً الذي هو ضد الشر، ولم تجعله أفعل، جاز ذلك. وقيل: المعنى: نأت بخير منها لكم، إما في تخفيف وإما في زيادة أجر في الآخرة. وقيل: معنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي: بأنفع لكم منها في زيادة الأجر إذا صح من الأصل إذا [عملتم بها]. وقوله: {أَوْ مِثْلِهَا}. أي: مثلها في الآخرة، لكنها أحب إليكم من المنسوخة نحو نسخ القبلة إلى بيت المقدس، نسخت بالتوجه إلى الكعبة فهي مثلها، وهو أحب إليهم من بيت المقدس

فلذلك قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]. فنسخت القبلة بمثلها، والناسحة أحب إليهم من المنسوخة. وقيل: المعنى نأت بأنفع لكم منها في الوقت الثاني، وأصلح لِحَالِكُم في النفع وصلاح الحال. وقال السدي وغيره: " {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} أي: من التي نسخنا، {أَوْ مِثْلِهَا}: أي: مثل التي تركنا فلم ننزلها ". وقيل: بخير من هذه أو هذه. ولا يجوز لذي علم ودين أن يتأول بهذا النص تفضيل بعض القرآن على بعض لأن القرآن كلام الله جل ذكره / ليس بمخلوق وإنما يقع التفضيل بين المخلوقات فاعلمه. قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}. معناه أن النبي [عليه السلام] قد كان عالماً بذلك فضلاً من الله عليه، فخرج هذا الكلام مخرج التقرير على عادة العرب. تقول العرب للرجل: " ألم أكرمك، ألم أفضل عليك " يخبره بذلك، وينبهه عليه، وهو عالم به. ومعناه: قد علمت ذلك، فكذلك هذا.

ومعناه: قد علمت يا محمد أن الله على كل شيء قدير وعلمت أن الله له ملك السماوات والأرض. وقال الطبري: " حرف الاستفهام في هذا داخل لمعنى الاستثبات والتنبيه لأصحاب النبي [عليه السلام] الذين قيل لهم: لا تقولوا راعنا. ويدل على صحة ذلك قوله بعد ذلك: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله}، فأتى بلفظ / الجماعة. وقد قال تعالى: {يا أيها النبي} [الطلاق: 1]، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1]. وقال: {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1]. ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1]. ومعنى ذلك: " أَلَمْ تعلموا أن الله قادر على تعويض ما ينسخ من أحكامه وفرائضه للتخفيف عليكم أو لزيادة أجر لكم ". وهذا كله إنما هو تنبيه لليهود على أن أحكام التوراة جائز أن [تُنسخ على يدي] نبي، أو بكتاب آخر لأنهم أنكروا ما

108

أتى به A مما ليس في التوراة، فنبهوا على أن التوراة يجوز نسخها على لسان نبي / غير موسى كما كانت التوراة ناسخة لما تقدمها من الكتب. ومعنى " يَنسخ بعض كتب الله بعضاً ": أنه إنما ينسخ بعضها بعضاً في الشرائع لا غير، كما قال: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. فالدين في الكتب كلها واحد وهو التوحيد، وهو دين الإسلام. والشرائع / مختلفة يتعبد / الله جل ذكره أهل كل كتاب بما شاء وبما أراد لا معقب لحكمه لا إله إلا هو. قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ}. " أم " تقع منقطعة بعد الخبر والاستفهام تقول: " جاءني زيد " ثم تقول: " أم جاءني عمرو "، وتقول: " هل عندك زيد أم [عندك عمرو]، " و - أزيد عندك أم لا؟ " كأنه في هذا كله أدركه الشك، بعد أن مضى صدر الكلام فاستدرك بـ " أم ".

وتكون " أم " عاطفة بعد الاستفهام خاصة، تدل على ثبوت أحد الشيئين غير معين وعن عينه يسأل بها. فهي بمنزلة أيهما عندك " فتسأل عن العين بعد أن يستقر عندك أن ثمّ شخصاً ولا تدري من هو، ولا يكون الجواب إلا بالعين. يقول المجيب: " قلان أو فلان " ولا يجوز أن يقول: " لا، ولا نعم. وإنما لا ونعم جواب. أو إذا قلت: " أذا عندك أو ذا؟ ". وتقول " سواء علي أقمت أم قعدت "، فبالتسوية أجريته مجرى الاستفهام لأنك سويت الأمرين في علمك، كما استوى علمك في قولك: " أزيد عندك أم عمرو؟ ". فالتسوية تُجري هذا على حروف الاستفهام، كما أجرى الاختصاص ما ليس بمنادى على حروف النداء. قال بعض النحويين في {أَمْ تُرِيدُونَ}: " معناه: أتريدون ". وقيل: هي منقطعة مما قبلها بمنزلة قول العرب: " إنها لإبل أم شاء ". وهذا القول بعيد لأنه لا يصح في أكثر كلام العرب إلا على حدوث شك دخل المتكلم، وذلك لا يليق بالقرآن.

وقيل: إنها مردودة على الاستفهام الذي قبلها وهو {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لأنه بمعنى: " ألم تعلموا "، ثم قال: {أَمْ تُرِيدُونَ}. قوله: {كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ}. قال ابن عباس: " [أتى رجلان من] اليهود إلى النبي [عليه السلام] فقالا له: إئتنا بكتاب نقرأه، وفَجِّر لنا أنهاراً نتبعك. فأنزل الله D: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} الآية. ومعنى {سُئِلَ موسى}، هو قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً}. وقال مجاهد: " سألت قريش [النبي عليه السلام] أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: نعم، هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل. فأبوا ورجعوا، فأنزل الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} الآية ". وقال أبو العالية: " جاء رجل إلى النبي / [عليه السلام] فقال: لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل. فقال النبي [عليه السلام لا نبغيها]: مَا أَعْطَاكُمُ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا أَعْطَى

بَنِي إِسْرائِيلَ؛ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمْ الْخَطِيئَةَ وَجَدَهَا مَكْتُوبَةً عَلَى بَابِهِ وَكَفّارَتَها، فَإِنْ كَفَّرَهَا كَانَتْ لَهُ خِزْياً في الدُّنْيا. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، كَانَتْ لَهُ خِزْياً فِي الآخِرَةِ. فَقَدْ أَعْطَاكُمُ الله خَيْراً مِمّا أَعْطَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قال: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} و " الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ كَفَّارَات لِمَا بَيْنَهُنْ ". و " مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ [لَهُ حَسَنَةٌ، فَإنْ] عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عشْر أَمْثَالِهَا " ثم أنزل الله بعقب ذلك: {أَمْ تُرِيدُونَ} / الآية. قوله: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان}. / قال أبو العالية: " الشدة بالرخاء ". وقيل: الجحود بالإيمان، وهو أولى. قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل}. أي: ذهب عنه وزاغ.

109

والسواء هنا قصده ومنهجه. وأصل السواء الوسط. قوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}. قيل: " كثير " هنا واحد، وهو كعب بن الأشرف /. قاله الزهري. وقيل: هما ابنا أخطب. قاله ابن عباس. وقيل: هو عام في أكثرهم. وفي الآية تقديم وتأخير، معناها: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً ". ومعنى: {مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي: لم يؤمروا به، ولا وجدوه في كتاب إنما اخترقوه واخترعوه من قبل أنفسهم. {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} أي: من بعد ما ظهر لهم أمر محمد A في التوراة

110

[وصفته وعلاماته] فكفروا به وأحبوا أن تكفروا معهم به بعد إيمانكم حسداً وبغياً. ثم قال: {فاعفوا واصفحوا}. أمر الله D المؤمنين بالعفو عنهم إلى وقت يأتي فيه أمر الله تعالى بترك العفو. فالآية منسوخة بالأمر بقتالهم وقتلهم وهو قوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] وقوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآيتان. وقوله: {واقتلوهم} [البقرة: 191]. وقوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}. إقامة الصلاة هو أداؤها بفروضها لوقتها وهي الخمس الصلوات المفروضة. قال أنس بن مالك: " فرضت الصلاة على النبي A ليلة الإسراء خمسين، ثم نقصت حتى جعلت خمساً تخفيفاً من الله، ثم نودي يا مُحَمَّدُ: إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ القَْولُ لَدَيَّ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذَه الخَمْسِ خَمْسِين ".

ويجمع أوقاتها قوله: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} / [الروم: 17]. يريد المغرب والعشاء الآخر / {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] يريد الصبح. {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]. يريد الظهر {وَعَشِيّاً} [الروم: 18]. العصر. فأما قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78]. فقال علي بن أبي طالب " دلوكها غروبها ". وهو قول ابن مسعود. وروي عن ابن عباس: " دلوكها زوالها ". وقاله ابن عمر وأبو هريرة. {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] صلاة الصبح. وقال قتادة: " {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130]: هي صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] صلاة العصر. {وَمِنْ آنَآءِ الليل} [طه: 130] صلاة المغرب والعشاء الآخرة. وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر الزوال.

وقال مالك: " آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثله بعد الزوال ". وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور. وقال عطاء: " لا تفريط في الظهر حتى تصفرّ الشمس ". وقال طاوس: " لا تفوت حتى الليل ". وقال النعمان: " آخر وقتها ما لم يصر الظل قامتين " وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ". هذا قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وأبي / ثور. وقال النعمان: " أول وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال، ولا تجزئ الصلاة قبل ذلك ".

وآخر وقتها أن يصير ظلك مثليه. وقال أحمد وأبو ثور: " آخر وقتها ما لم تصفرّ الشمس على وجه الأرض ". وقال إسحاق: " آخر وقتها أن يصلي منها ركعة قبل غروب الشمس لقول النبي عليه السلام " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ العَصْرِ رَكْعَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَدْ أَدْرَكَهَا ". وهذا عند الشافعي وغيره إنما هو لأهل العذر. وروي عن ابن عباس: " أن آخر وقتها غروب الشمس ". " ووقت المغرب غروب الشمس وقتاً واحداً "، وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: " وقتها إلى أن يغيب الشفق ". ووقت العشاء مغيب الشفق. وهو الحُمرة في قول ابن عمر وابن عباس ومالك وسفيان وابن أبي ليلى والشافعي.

وروي عن أبي هريرة " أنه البياض "، وهو قول زفر. وآخر وقتها عند النخعي ربع الليل. وروي عن عمر Bهـ وأبي هريرة، وعمر بن عبد العزيز " إلى ثلث الليل " وهو قول مالك. وقال الثوري وابن المبارك وإسحاق " إلى نصف الليل ". وروي ذلك عن عمر أيضاً. ووقت صلاة الصبح انصداع الفجر إلى طلوع الشمس، ووقت الجمعة بعد الزوال، ومن صلى الجمعة قبل الزوال لم تجزه عند الجميع إلا أحمد بن حنبل فإنه أجازه قبل الزوال. ومعنى قولهم في التشهد: " التحيات "، قال أبو عبيد " التحيات الملك،

111

والصلوات هي الصلوات الخمس لله، والطيبات هي الأعمال الزكيات لله ". قوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى}. معناه / قالت اليهود ذلك، وقالت النصارى ذلك، فأخبرنا الله أن ذلك هما يتمنون، فقيل لهم: هاتوا برهانكم على ذلك، أي حجتكم وبيّنتكم إن كنتم صادقين. وقد [أكذب الله تمنيهم وقولهم] ذلك بقوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94]، إي إن كنتم من أهل الجنة كما زعمتم، فتمنوا الموت لأنكم تنتقلون إلى ما هو خير لكم. فلما / لم يفعلوا عُلم أن قولهم / ذلك شيء لا حقيقة له وكذب وبهتان. ثم قال: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ}. أي: أخلص عمله ونيته بالطاعة والإيمان. وخص الوجه بالذكر دون سائر الأعضاء لأنه أشرف أعضاء بني آدم وأعظمها حُرمة. فإذا خَضَّع وجهه الذي هو أكرم الأعضاء كان ما سواه أحرى أن يخضع. قوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ}. نزلت في قوم من أهل الكتابين تخاصموا عند النبي [عليه السلام] فكفر بعضهم بعضاً، فأخبرنا الله أنه قد فعل هذا من كان قبلهم ممن لا يعلم، وأنهم فعلوا ذلك وهم يجدون في كتبهم كذبهم فيما يقولون لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً، فلذلك قال تعالى:

{وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب}. فهؤلاء قالوه وهم يعلمون أنهم كاذبون لأن في كتاب كل واحد منهم الأمر بالإيمان بالآخر وبمن جاء به. و {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أمم كانت قبلهم. وقيل: عني بذلك الجاهلية في العرب، قالوا: ليس محمد على شيء. وقيل: قالوا: ليست اليهود على شيء ولا النصارى على شيء. وقيل: إنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فالذين من قبلهم قالوه وهم غير عالمين، وهؤلاء / قالوا عن علم لأن ما قالوا كذب. ومعنى قولهم: {لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ}، {لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ}: إنما أرادوا أنهم ليسوا على شيء [مذ دانوا]، ولم يريدوا ليسوا على شيء الساعة لأنهم لو أرادوا ذلك لكانوا صادقين في قولهم، إذ كل فريق منهم قد جحد / نبوة محمد A وهو يعلم أنه نبي ويجده في كتابه، فهو في ذلك الوقت ليس على شيء لأن

من جحد آية من كتاب الله فقد جحده كله. فإنما أراد: قال كل فريق منهم: ليس هؤلاء على شيء منذ دانوا، ومنذ أنزل عليهم الكتاب [لا أنهم] أرادوا في الوقت الذي وقع فيه التنازع خاصة لأن ذلك لو كان لكانوا صادقين فيما قالوا، ولأنهم لو أرادوا ذلك لكفر كل واحد نفسه على لسانه، لأن جميعهم جاحد لنبوة محمد A، فإذا قال فريق: ليس هؤلاء على شيء، واعتقادهم / واحد في محمد A. فكأنه قال: ليس نحن على شيء. إلى هذا يؤول الكلام لو حمل على أنهم أرادوا الوقت الذي تخاصموا فيه، وإنما أرادوا من تقدم قبل محمد [ A] فأكذبهم الله D لأن أوائلهم قد كانوا على شيء. ولو أرادوا الزمان الذي بعث فيه محمد A لم يكذبهم الله في ذلك لأنهم كانوا على غير شيء إذ جحدوا ما عرفوا وبدلوا وغيروا وأنكروا ما في كتابهم، وجعل الله تعالى هذه الآية تحذيراً لئلا يُختلف في القرآن، لأن اختلافهم أخرجهم إلى الكفر، فحُذِّر المسلمون من ذلك. قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}: أي: يفصل.

114

وقيل: معناه يريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً. وسميت الآخرة القيامة لأن فيها يقوم الخلق كلهم من قبورهم. قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} الآية. عني بذلك النصارى منعوا الناس من بيت المقدس وكانوا يطرحون فيه الأوساخ قاله ابن عباس وغيره. وقال قتادة: " حمل بُغض النصارى لليهود أن أعانوا عدو الله بُخْتُنصر المجوسي البابلي على تخريب بيت المقدس ". وقال السدي: " أعانت الروم بختنصر على خراب بيت المقدس عداوة منهم لليهود إذ قتلوا يحيى بن زكريا ".

وقال ابن زيد " عني بذلك مشركي العرب إذ منعوا رسول الله A من المسجد الحرام يوم الحديبية حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم. وكانوا قد قالوا له: لا تدخل علينا وقد قتلت أباءنا يوم بدر، [ومنا طارف يطرف] وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده عن البيت فَصُدَّ النبي A عن البيت ". وقوله: {أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ}. قال قتادة: " هم اليوم لا يوجد أحد منهم في بيت المقدس إلا عوقب ". وقال السدي: " لا يدخل رومي بيت المقدس إلا خائف أن تضرب عنقه مع أنهم / أخيفوا بأداء الجزية ". وقال ابن زيد: " معناه أن رسول الله A نادى: أَلاَّ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، فخاف المشركون وانْتَهَوُا ".

115

ومعنى {وسعى فِي خَرَابِهَآ} أي: في هدمها ونقضها. وقيل: هو خلاؤها أي: المنع من ذكر الله فيها من الصلاة وذكر الله فيها. وقال / ابن زيد: " هو منع المشركين المسلمين من الحج والعمرة ". والخزي أخذ الجزية منهم وهم صاغرون، أي: من اليهود والنصارى. وقال السدي: " الخزي هو قتل الروم عند قيام المهدي وفتح القسطنطينية ورومية ". قوله: {وَللَّهِ المشرق والمغرب}. معناه: إنَّ له / ما بين مشرقها / كل يوم، ومغربها كل يوم، وإنما خص الله تعالى ذكره ذا أنه له وإن كان كل الأشياء له لأنه نزل في أمر معين، وذلك أن اليهود كانت تصلي نحو بيت المقدس، وصلى النبي A معهم إليها ستة عشر شهراً، ثم رجع إلى الكعبة. فاستعظم اليهود ذلك، وقالوا: ما ولاّهم عن قبلتهم

التي كانوا عليها؟ فقال الله جل ذكره لنبيه A: قل يا محمد، لله المشرق والمغرب يصرف من يشاء إلى أين يشاء، فحيثما تولوا فثمّ وجه الله. فهذا أول ناسخ في القرآن لأنه نسخ التوجه إلى بيت المقدس. وكان النبي A يصلي إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى، وكان يحب قبلة إبراهيم [عليه السلام]، وكان يدعو أو ينظر إلى السماء فأنزل الله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] فارتابت اليهود من ذلك فأنزل الله D: { وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية. وقال قتادة: " هذا منسوخ، وذلك أن الله تعالى أباح لهم أولاً التوجه حيث شاءوا، وأخبرهم أنه أينما تولوا وجوهكم فثمَّ وجه الله، لأن له المشارق والمغارب، ثُمَّ نسخ ذلك بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}. وقال ابن زيد: " لما أنزل على النبي A { وَللَّهِ المشرق والمغرب} وأباح له التوجه أين

شاء. قال: هؤلاء يهود يستقبلون بيتاً من بيوت الله، فاستقبله النبي A معهم فبلغه أنهم قالوا: ما درى محمد ولا أصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. فكره ذلك النبي / A ورفع وجهه إلى السماء فأنزل الله {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} الآية، فاستقبل الكعبة ". وقال ابن عمر: " الآية نزلت في التطوع، وكان يصلي حيثما توجهت به الراحلة ويقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ". وقيل: " نزلت في قوم عميت عليهم القبلة، فصلوا إلى جهات مختلفة، فأعلموا أن صلاتهم ماضية ". وروى عامر بن ربيعة عن أبيه أنه قال: " كنا مع رسول الله [ A] في سفر فتغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة. قال: فصلينا وعَلِمْنَا، فلما طلعت

الشمس، إذا نحن صلينا لغير القبلة، وذكرنا ذلك لرسول الله [ A] ، فأنزل الله هذه الآية: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ". وقيل: إنها نزلت في أمر النجاشي؛ قال قتادة: قال النبي A لأصحابه: " إنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِي قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ. فَقَالُوا: نُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ. فَأَنْزَلَ الله D: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ}. فقالوا: وإنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله {وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية " /. وقد أفردنا كتاباً للناسخ والمنسوخ مبسوطاً / بأشبع من هذا. ومعنى: {وَجْهُ الله}. أي جهته التي أمرتم باستقبالها. وقيل: معناه فثمَّ قبلة الله.

116

وقيل: معناه: فثمَّ الله جلَّ ذكره. وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ}. أي: تستقبلوا بوجوهكم. وقيل: معناه: تستدبروا من " وَلَّيْتُ عَنْهُ ". وهو قول غريب. وقوله: {وَاسِعٌ} أي واسع الرحمة، {عَلِيمٌ} بكم / وبما في قلب النجاشي من الإيمان. ثم قال: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً}. أي: وقال الذين منعوا الذكر في مساجد الله وسعوا في خرابها: اتخذ الله ولداً. {سبحانه}: أي: براءة له من ذلك وتنزيهاً له. قال أبو إسحاق: " يريد به النصارى واليهود والمشركين من العرب، لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله ". وروي عن ابن عباس " أن النبي A قال: قَال اللهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ

آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. أَمّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَيَزْعُمُ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ. وَأَمّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ، [فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ] وَلَداً ". قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}. أي: مطيعون. وقيل: مطيعون يوم القيامة. وقيل: مقرون بالعبودية. وقال الفراء: " هو خصوص يراد به أهل الطاعة ". وأصل القنوت في اللغة الطاعة، والقنوت القيام الطويل. وقال الحسن: " يعني اليهود والنصارى ومشركي العرب؛ كل [له قائم] بالشهادة بأنه عبد له ".

117

قال يحيى: " إنما خص الحسنُ اليهود والنصارى ومشركي العرب، لأنهم هم الذين كانوا بحضرة النبي [عليه السلام] يومئذ ". وقال في آية أخرى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. من تفسير ابن سلام. قوله: {بَدِيعُ السماوات والأرض} [البقرة: 117]. {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101]. أي: كيف يكون له ولد وهو خلق السماوات والأرض بمن فيهما وابتدعهما من غير مثال. والمبدع المخترع للشيء، وبديع /: بمعنى مبدع. ثم قال: {وَإِذَا قضى أَمْراً}. أي: إذا حتم أمراً، أو أحكم أمراً. ومنه قيل للقاضي: حاكم، لأن أصل كل قضاء الإحكام له، والفراغ منه.

قوله: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. زعم [قوم أن] هذا مخصوص في إحياء الميت ومسخ الكافر ونحوه لأن الأمر لا يكون إلا لموجود ولا يكون لمعدوم. وهذا قول مرغوب عنه. ومعنى الآية: أنه تعالى عالم بالأشياء التي ستكون وكانت فقوله لها: " كن " إنما هو قول لموجود في علمه ليخرجه إلى العيان لنا. وقد قيل: إن المعنى: فإنما يقول من أجله كن. ف " لَهُ " بمعنى من أجله. وهذا أيضاً قول لا يمتنع وهو عام، لا يقتضي الأمر لموجود، لأن القول من أجله وقع لا له. وقال الطبري: " أمره للشيء " يكن "، لا يتقدم الموجود ولا يتأخر عن الموجود، بل هو في حال يكون ذلك، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلا وهو موجود بالأمر. ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ". قال: " ونظير ذلك قيام الأموات من قبورهم لا يتقدم / دعاء الله D ولا يتأخر عنه، وقد قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25]. فمعنى الآية أن الله

118

مبدع الأشياء ومالكها، قد ابتدع المسيح A وأنشأه إذ أراد خلقه من غير ذكر ". والهاء في " له " تعود على الأمر، و " له " بمعنى من أجله. وقيل: تعود على القضاء الذي دل عليه " قضى ". / وقيل تعود على المراد الذي عليه الكلام. قوله: {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} الآية. قال مجاهد: " عني بذلك النصارى ". / وعن ابن عباس قال: " قال رافع [بن حريملة] من اليهود لرسول الله صلى الله عليه سلم: إن كنت رسولاً من عند الله، فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله}، أي: هلا يكلمنا. وقال السدي والربيع وقتادة: " هم مشركو العرب، قالوا ذلك ". قال مجاهد: " الذين من قبلهم هم اليهود لأنهم سألوا موسى A مثل ذلك من كلام الله ورؤيته سبحانه، فدل على أنهم النصارى ".

119

وهو اختيار الطبري أن يكون الذين عنوا بالآية هم النصارى. وقال قتادة: " الذين من قبلهم اليهود والنصارى ". فعلى هذا يكون الذين عنوا بالآية مشركي العرب، وعلى هذا الاختيار يقع الاختلاف في {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}. قيل: هم اليهود والنصارى. وقيل: هم العرب واليهود والنصارى. وقيل: {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} و {الذين مِن قَبْلِهِمْ}: هم قوم نوح وعاد وثمود وفرعون وجميع الأمم الماضية المكذبة الكافرة. قوله: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم}. معناه التعظيم لما هم فيه كما تقول: " لا تسال عن فلان " أي قد بلغ فوق ما تظن. وقيل: هو نهي نهى الله D نبيه A عن ذلك لما روي أن النبي [ A] . قال: " لَيْتَ شِعْري مَا فَعَلَ أَبَوَايَ "، فأنزل الله D، { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} / فما سأل

عنهم [ A] حتى مات. ومن قرأ بالرفع، فهو في موضع الحال، تقديره: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً} وغير مسؤول عن أصحاب الجحيم ". وقيل: هو نفي، ولا " بمعنى " ليس كأنه قال: " ولست تسأل " كأنه أخبره أنه لا يسْأَلُ عن ذلك. واختار جماعة الرفع لأن الكلام المتقدم يدل عليه، لأنه تعالى قال بعد الذكر اليهود والنصارى وما صنعوا: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً}. أي: بشيراً لمن اتبعك، ونذيراً لمن كفر بك، " غير مسؤول عمن كفر بك. ولم يجر ما يوجب النهي. فجري الكلام على أوله أولى من جريه على خبر آحاد يقطعه

120

مما قبله لأن أوله قد ثبت نصه وصحته، وخبر الآحاد لا يحكم على / صحة مغيبه. فرده على ما يقطع على صحته في الغيب أولى. ومع ذلك فقراءة أُبي وعبد الله تشهدان للرفع، لأن قراءة أبي، " وما تُسْأل "، وقراءة عبد الله: " ولن تُسْأل " وذلك يشهد أن الرفع بمعنى النفي. وقال المحتج للجزم: إن الجزم إذا حمل على التعظيم لأمر من تقدم كان مردوداً على ما قبله فيصير مثل الرفع، ويزيد الجزم مزية، وهو أن يحمل على الخبر. فالجزم محتمل لمعنى الرفع وزيادة. قوله: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى} الآية. دعت كل فرقة منهم النبي A إلى ما هم عليه فأخبر الله تعالى أنهم لا يرضون عنه إلا أن يتبع ملتهم. ثم قال له: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ}. هذا خطاب للنبي A يراد به أمته.

121

وقيل: / إنهم سألوا النبي A الهدنة. وطمعوه أن يتبعوه / إن هادنهم وأمهلهم، فأنزل الله D: { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} الآية. قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ}. قال ابن مسعود: " ومعنى {حَقَّ تِلاَوَتِهِ}، أي: يحل حلاله ويحرم حرامه، ويضعه على مواضعه. فمن قرأ منه شيئاً كان له بكل حرف عشر حسنات ". وعني بذلك من آمن بالنبي [عليه السلام]، فيكون " يتلون " الخبر. وإن شئت " أولئك " الخبر، و " يتلون " حال. وقيل: عني بذلك من آمن بالنبي [عليه السلام] من بني إسرائيل والنصارى، فيكون " يتلون " الخبر، وهو اختيار الطبري. فيكون مردوداً على ما قبله

من ذكرهم ولم يجر لأصحاب محمد A ذكر فيرد إليهم، ولآلهم ذكر بعدها، فتجعل الآية مبتدأة فيهم، ولا جاء أثر بأن ذلك فيهم. فردها إلى ما قبلها أولى وهو ذكر بني إسرائيل والنصارى. وأجاز ابن كيسان أن يكون: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} خبراً عن " الذين " على أن يكون " الذين " يراد بهم المرسلون والأنبياء صلوات الله عليهم. وأجاز أن يراد " بالذين " العاملون بالكتاب خاصة منهم؛ فيكون " يتلون " الخبر أيضاً. ويجوز وجوه أخرى أيضاً. وروي أنها مخصصة نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران بعضهم، ومن الحبشة بعضهم، ومن الروم منهم ثمانية؛ وهم الملاحون أصحاب السفينة الذين أقبلوا إلى النبي A مع جعفر بن أبي طالب أثنى الله تعالى عليهم إذ آمنوا بكتابهم

وبالنبي A، فأثنى الله D عليهم في غير موضع من كتابه، فيكون " يتلون " خبراً عنهم. . وإن جعلته عاماً كان " يتلون " حالاً لا غير، لأنك إن جعلته خبراً أوجبت أن كل منْ أوتي الكتاب من النصارى ومن بني إسرائيل يتلونه حق تلاوته، وليسوا كذلك. قوله: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}. أي: بمحمد A لأنهم إذا تلوا / التوراة حق تلاوتها وجدوه مكتوباً فيها. فهم يؤمنون بمحمد A ضرورة / إذا أنصفوا في التلاوة. ومعنى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي: يتبعونه حق اتباعه. كذلك رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي A قاله. أي: يتبعون ما فيه حق اتباعه. وقيل: معناه: يقرأونه حق قراءته. وقد قيل: إن الهاء في " به " عائدة على الكتاب كالهاء في " يتلونه " والهاء في " ومن يكفر به ".

122

قال ابن زيد: " تعود على محمد A ". وقيل تعود على الكتاب. قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين}. أي: على عالم زمانكم، وقد تقدم / ذكر النعم وما فضلوا به، ومن أجَلّ نعمة أنعم بها عليهم أن موسى [عليه السلام] أخبرهم بعيسى وبمحمد A وأمرهم باتباعهما، فلم يحتاجوا إلى آية لو كانوا موفقين لأنهم قد سبق عندهم خبر / الصادق بذلك، ففضلوا على سائر الخلق بما عندهم من العلم في أمر عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ولم يتبعوهما، واتبعهما من لم يكن عنده مقدمة ولا خبر عنهما. كل ذلك بخذلان الله تعالى لهم وتوفيقه لغيرهم. قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}. قيل: فاعل " أتمهن ": الله D، أي أكملهن الله له. وقيل: الفاعل إبراهيم A أخبره الله D بما سبق في علمه فيه ليكون الامتحان موجوداً معقولاً فتقع عليه المجازاة والثواب، إذ لا يقع جزاء على ما في علم الله تعالى

دون ظهوره من العبد. أخبر الله D أنه أتمهن هنا، وقال في غير هذا الموضع: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37]. واختلف في الكلمات؛ فقال ابن عباس: " هي ثلاثون سهماً، عشر منها في براءة {التائبون العابدون} [التوبة: 112]. وعشر في الأحزاب. {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35]. في (المؤمنين) إلى قوله: {يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] وعشر في {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1] إلى {حَافِظُونَ} [المعارج: 29]. أيضاً. وقيل: هي عشر خمس في الرأس، وخمس في البدن، فالتي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الشعر. وروي في موضع الفرق: إعفاء اللحية. وفي الجسد تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، وغسل المخرجين بالماء، والختان. وعن ابن عباس أيضاً قال: " هي عشرة: ستة في الإنسان وهي: حلق العانة،

والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربع في المشاعر وهي: الطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة ". وعن مجاهد قال: " هي أن الله تعالى قال لإبراهيم A. إني مبتليك بأمر، فما هو؟ قال: / تجعلني للناس إماماً؟، قال الله: نعم. قال إبراهيم: ومن ذريتي؟ قال الله [ D] /: لا ينال عهدي الظالمين. قال إبراهيم: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وأمنا؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: [تجعلنا مسلمين لك] ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وترينا مناسكنا وتتوب علينا؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال الله: نعم. قال إبراهيم: وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال الله: نعم ".

وقال جماعة: " تلك الكلمات مناسك الحج خاصة ". وقال الحسن: " الكلمات هي الخلال الست التي ابتلي بها، وهي: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، ابتلي بهن فصبر عليهن ولم يزغ ". وقيل: من ذلك الذبح. وقال السدي: " الكلمات: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}، {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً}. وروي عن النبي [ A] أنه قال: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] " عَمَلُ يَوْمِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ فِي النَّهَارِ ". ورُوي عنه A أنه قال: " أَلاَ أُخْبِرُكُم لِمَ سَمَّى اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ {الذي وفى} الآية. قال: كَانَ يَقُولُ كُلَّمَا أَصْبَحَ، وَكُلَّمَا أَمْسَى:

{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ". وروي أن الله جلَّ ذكره أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أوحى الله / إليه أن تطهر فاستنشق. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فاستاك. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فأخذ شاربه. ثم أوحى الله إليه أن تطهر ففرق شعره، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فاستنجى. ثم أوحى الله إليه أن تطهر فحلق عانته، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فنتف إبطه، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أوحى الله إليه أن تطهر فأقبل بوجهه على جسده ينظر ما يصنع، فردد البصر، فاختتن بعد عشرين ومائة سنة، فأوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماماً؛ أي: يقتدي بك

الصالحون من بعدك. فأعجب ذلك إبراهيم صلى الله عليه سلم فقال: ومن ذريتي، أي: اجعل يا رب منهم أئمة، فقال له الله: لا ينال عهدي الظالمين، أي: من كان من ولدك ظالماً فلا يكون إماماً. / قوله: {لِلنَّاسِ إِمَاماً}. أي يقتدي بك من في عصرك ومن يأتي بعدك. قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين}. قال ابن عباس: " عهدي. نبوتي ". وقال مجاهد: " العهد هنا: الإمامة، / لا يستحق الظالم الإمامة ". وقيل: " معناه. لا عهد لظالم عليك أن تطيعه في ظلم، وإن عاهدته فانقضه ". وقيل: " العهد الأمان. أي: لا أُؤَمِّنُ الظالم من الانتقام منه "، قاله قتادة. / قال: " ذلك يوم القيامة، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم ".

125

وقيل: عهد الله هنا دينه. أي: لا ينال ديني الظالمين. وقيل: العهد هنا الطاعة. أي: لا ينال طاعتي ظالم. والظالم هنا المشرك عن مجاهد. وقد أخبر الله D بذلك فقال: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] يريد إبراهيم وإسحاق. وقال الضحاك: " معناه: طاعتي لا ينالها [عدو لي] ولا أَنْحَلُهَا إلا وَلِيّاً لي يطيعني ". وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت}. " إذ " في موضع نصب عطف على " إذ " في قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ}. و " إذ " في: {وَإِذِ ابتلى} معطوفة على النعمة في قوله {اذكروا نِعْمَتِيَ} أي واذكروا إذ ابتلى، واذكروا إذ جعلنا. والهاء في " مثابة " دخلت للمبالغة عند الأخفش مثل نسَّابة وعلاَّمة.

وقال الكوفيون: " أُنِّثَ " لأنه أريد به البقعة التي يثاب إليها، أي: يرجع إليها، كما قالوا: المقامة على تأنيث البقعة، والمقام على تذكير المكان. ومعنى: {مَثَابَةً}: " لا يقضون منه وطراً ". قاله مجاهد: وقال السدي: " إذا أتاه مرة لا يدعه حتى يعود إليه ". وقيل: معناه: لا ينصرف عنه منصرف إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً. قوله: {وَأَمْناً}. هذا كان في الجاهلية لأنهم كانوا إذا لقي أحدهم قاتل أبيه وأخيه في الحرم لم يؤذه حتى يخرج منه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. ويروىَ أن عمر قال: " قلت يا رسول الله، لو اتّخذت المقام مصلى، فأنزل الله

D: { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. فهذا على قراءة من كَسَر الخاء، كأنه أمر من الله D بذلك. فأما مَن فتح فهو خبر معطوف على النعمة عند الأخفش كأنه قال: اُذكروا نعمتي، واذكروا إذ اتخذوا ". وقال غيره: " هو معطوف على {جَعَلْنَا} ". والمقام هو الذي يصلى إليه اليوم. وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم A حين ارتفع بناؤه / وضعف عن حمل الحجارة، فكان إسماعيل A يُناوِله الحجارة ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}. قاله ابن / عباس. وروي عن ابن عباس أيضاً أن المقام هو الحج كله. وكذلك قال مجاهد وعلماء. وقيل: هو عرفة والمزدلفة، والجمار. روي ذلك عن عطاء.

وقيل: مقامه عرفة. وعن مجاهد أنّ " مقامه الحرمُ كله ". وقال الربيع بن أنس: " المقام هو الحجر الذي وضعت زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه، فوضع رجله عليه وهو راكب، فغسلت شقه ثم رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحَجَر، فوضعته تحت الشق الآخر / فغابت رجله أيضاً فيه ". وقال عمر بن الخطاب: " وافقني ربي في ثلاثة، قلت يا رسول الله، لو اُتخذت [مقام] إبراهيم مصلى. فأنزل الله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} وأشرت على النبي A بالحجاب، فأنزل الله سبحانه آية الحجاب، ووعظت نساء النبي فقلت لهن: لئن لم تنتهين ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله D: { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5].

ومعنى {مُصَلًّى}: " مدعى يدعون عنده ". قاله مجاهد. وقال قتادة: " مصلى يصلون إليه ". قوله: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ}. أي: من الشرك والأوثان. وقيل له بيت ولم يكن ثَمَّ بيت، لأنه كان بيتاً في عهد نوح A فأمره أن يطهره قبل بنيانه من الأوساخ؛ من الأصنام وغيرها. وقيل: معناه أنهما أمرا ببنيانه مطهراً من الشرك. و {لِلطَّائِفِينَ} هم الغرباء. وقيل: هم كل من يطوف حوله، وهو أبين. و {والعاكفين}؛ قال عطاء: " هم الجالسون من غير طواف ".

126

وقال مجاهد: " العاكفون المقيمون به، المجاورون له من الغرباء ". وقال سعيد بن جبير: " العاكفون هم أهل البلد ". وقال ابن عباس: " العاكفون المصلون ". وقوله: {والركع السجود} يمنع من هذا القول. والاختيار عند جماعة أن يكون العاكف المجاور للبيت بغير / صلاة ولا طواف. وهو قول عطاء وغيره. قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً}. قيل: إِنّ إِبراهيم A سأل الله أن يحرم مكة فحرمها، واحتج من قال ذلك بقول النبي A: " إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدُ اللهِ وَخَلِيلُهُ وإني عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا ".

وقال قائلون: " لَمْ تُحَرَّم بسؤال إبراهيم A، بل كانت حراماً، [واحتجوا بقول النبي عليه السلام] يوم افتتح مكة /: " هَذِهِ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ: لَمْ تَحِلّ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي. . أُحِلَّتْ لِي سَاعَةَ مِنْ نَهَارٍ " واحتجوا بقول إبراهيم A { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37]. وكان الطبري يجمع بين الخبرين، ويقول: " إن الله D حرّم مكة وقضى ذلك، ولم يتعبد الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم / أن يتعبد الخلق بذلك فأجابه. فإبراهيم كان سبب تعبد الخلق بتحريمها والتعبد بذلك، والله تعالى قد حرّمها يوم خلق السماوات والأرض ". وقوله: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37]. معناه الذي حرمته عندك، ولم تتعبد الخلق به. وروي أن إبراهيم A / لما دعا فقال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} أجاب الله D دعاءه: فبعث جبريل عليه السلام إلى الشام، فاقتلع منها الطائف من موضع الأردن ثم

طاف بها حول الكعبة أسبوعاً، ولذلك سميت الطائف. ثم أنزلها تهامة ولم يكن يومئذ بمكة غير إسماعيل A، ثم نزلت جرهم مع إسماعيل A بمكة، فلم يزالوا على الإسلام حتى نشأ عمرو بن [لحي الجرهمي فَغَيَّرَ] دين إبراهيم A وعَبَدَ الأصنام، وسَيَّبَ السوائب، وبَحَّرَ البحيرة وحَمَى الحامي، وَوَصَلَ الوصيلة، وغلب مكة، وقهر أهلها. وهم ولد إسماعيل A - وهو [الذي قال فيه النبي عليه السلام]: " رَأَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ يَجرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ " أي: أمعاءه. قوله: {قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً}. ذلك إخبار من الله D لنبيه A قاله أبي بن كعب. أي: أنا أرزق البر والفاجر فأمتع الفاجر قليلاً. وقال ابن عباس: " هو من قول إبراهيم A سأل ربه D أن يرزق من كفر فيمتعه قليلاً ".

127

ويجب على هذا التأويل وصل ألف " أَضْطَرُّهُ "، وفتح ألفَ أُمتِّعُهُ ". ويجب أيضاً بناء الفعلين / على السكون لأن طلب كالأمر، ولأنه؟ سؤال من إبراهيم A لله D. وإن كان الخبر من عند الله سبحانه كانت الألف في " أمتعه " ألف المتكلم، وكذلك هي في " أضطره "، ويرتفع الفعلان لأنهما إخبار عن الله جل ذكره. ومعنى: {أَضْطَرُّهُ} أكرهه وألجئه إلى ذلك. قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت}. القواعد أساس البيت. قال عطاء: هي قواعد آدم A كانت قد اندرست وخفي أثرها فبوأها الله [إبراهيم. قال عطاء: قال آدم] حين أهبط: ربي إني لأسمع أصوات الملائكة. قال: بخطيئتك، ولكن اُهبط إلى الأرض فابْنِ لي بيتاً، ثم احفُف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فبناه من خمسة أجبل، من حراء، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وأبي قبيس ". وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " أهبط الله مع آدم A من السماء إلى الأرض بيتاً يطاف به كما يطاف بعرشه في السماء. ثم رفعه أيام الطوفان، فرفع إبراهيم

A قواعد ذلك البيت. فكانت الأنبياء عليهم السلام يحجونه ولا يعلمونه حتى بوأه الله إبراهيم فأعلمه مكانه ". وقال عطاء: لمَّا أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض، وأهبط طوله أي: نقص، شكا أنه استوحش لِفَقْدِ أصوات الملائكة، فَوُجه إلى مكة / فكان موضع قدمه قَرْية، وما بين / القدمين مفازة، فأنزل الله D عليه ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت في موضع البيت. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الطوفان، فرفعت إلى أن بعث الله إبراهيم A فبناه ". / وقال مجاهد: " لما أراد الله خلق الأرض علا الماءَ زبدةٌ حمراء أو بيضاء كهيئة القبة، ثم دحا الأرض من تحتها، وبقيت تلك الزبدة ربوة حتى بوأها الله إبراهيم A فبناه على أساسه، وأساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة ". وقال ابن عباس: " وضع البيت على أركان الماء؛ أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت ".

وفي حرف ابن مسعود: " وإسماعيل يَقُولاَنِ: رَبَّنَا " فدل على أنهما جميعا دَعَوا. وقيل: القائل هو إسماعيل A وحده. والمعنى إذ يقول إسماعيل " ربنا ". قال ابن عباس، " كان إبراهيم يبني، وإسماعيل ينقل الحجارة، فلما انتهى إلى موضع الحجر قال لإسماعيل: جئني بحجر حسن يكون عَلَماً للناس. فذهب إسماعيل فأتى بحجر فقال له: جئني بأحسن من هذا. فمضى إسماعيل A يطلب فنادى أبو قبيس: " يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فَخُذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان قد نزل به آدم عليه السلام من الجنة ". وروي أن أبا قبيس جبل هاجر من خراسان إلى مكة. وقال النبي [عليه السلام] " الحَجَرَ يَاقُوتَةٌ / مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ [بَيْضَاءٌ، وَلَولاَ مَا لاَمَسَهُ] مِنْ أَجْنَاسِ المُشْرِكينَ وَأَرْجَاسِهِمْ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلاَّ شَفَاهُ اللهُ D ".

وقال عليه السلام: " الحَجَرُ يَمينُ اللهِ يُصَافِحُ بِهِ عِبَادَهُ وَلَيَأْتِيَنِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالمَقَامُ، وَلَهُمَا لِسَانَانِ وَشَفَتَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ وَافَاهُمَا بِالوَفَاءِ ". وذكر السدي أن إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لما أرادا البناء لم يدريا أين البيت. فبعث الله D ريحاً يقال لها الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، فوضعا المعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26]، فلما بلغا في البناء إلى الركن قال إبراهيم لإسماعيل: اطلب لي حجراً حسناً أضعه هنا. قال: يا أبت. إني كسلان تعب. قال: على ذلك. فانطلق يطلب [حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا، فانطلق [يطلب حجراً] وجاء

جبريل [عليه السلام] بالحجر الأسود / وكان ياقوتة بيضاء مثل الثغامة وكان آدم A هبط به من الجنة فاسودّ من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل A بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا؟ فقال: جاء به من هو أنشط منك فبنياه ". وقال عبيد بن عمير الليثي: أتى إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام / يَبْرَى نبلاً قريباً من زمزم، فلما رآه [قام إليه]، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله [جل وعز] أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني / هاهنا بيتاً - وأشار إلى الكعبة مرتفعة على ما حولها - قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت،

128

فكان إسماعيل صلى الله على محمد [و] عليه وسلم يأتي بالحجارة وإبراهيم A يبني، حتى ارتفع البناء، فجاء بهذا الحجر يعني المقام، فقام [عليه إبراهيم] يبني، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}. فمعنى الآية: أنها خبر من الله D عن إبراهيم وإسماعيل صلى الله على محمد و [عليهما وسلم] وما كانا يفعلان في بناء البيت، وما كانا يقولان وهما يبنيان. وقوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ}. أي: خاضعين لأمرك، مستسلمين لك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً، فالمسلم الذي قد استسلم لأمر الله [ D] . والمؤمن هو الذي أظهر القبول لأمر الله سبحانه فأضمر مثل ذلك. فأما قوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فمعناه ولكن

قولوا: خضعنا وأظهرنا الإسلام. فالمسلم على ضربين: مسلم أظهر مثل ما أضمر / فهذا مؤمن مسلم، ومسلم يظهر غير ما يبطن، فهذا غير مؤمن. إنما هو مستسلم في الظاهر ولذلك قال لهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] أي: إنما أظهرتم الإسلام خشية القتل، ولم يدخل في قلوبكم منه شيء. وقوله في الدعاء: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}. دخول " مِنْ " يدل على التخصيص لبعض الذرية، لأن الله تعالى قد أعلم إبراهيم A أن من ذريته من لا يناله عهده لظلمه وفجوره. فخص إبراهيم عليه السلام بدعوته، ولم يعم لما تقدم عنده من الخبر عن الله تعالى. والأمة هنا عني بها الجماعة. وتكون الأمة الإمام كقوله في إبراهيم A { كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120]، أي: إماما يقتدى به. وتكون الأمة السنين كقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ} [هود: 8]، أي: إلى سنين. وتكون الأمة الملة كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. أي: على ملة ودين.

وقيل: الأمة هنا محمد وأمته A. [ قوله] / {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}. يعني [محمداً عليه السلام]. وقول إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} يدل على أن الإسلام والإيمان سواء، إذ لم يسألا إلا أعلى الرتب وأشرف المنازل، وهو الإيمان الذي هو الإسلام. [قال] مالك: " لما وقف إبراهيم على المقام أوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك وهو قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ} إلى قوله: {لَمِنَ الصالحين}. معناه أظهر لأعيننا مكان المناسك ان جعلته من رؤية العين. وقيل: معناه عَلِّمناها وعَرِّفناها. والمناسك: مناسك الحج ومعالمه. وقال قتادة: " فأراهما / الله مناسكهما بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات، ومن جمع، ورمي الجمار حتى أكمل لهما الدين ".

/ قال السدي: " لما فرغ إبراهيم A وعلى محمد من بنيان البيت، أمره الله [أن] ينادي، فقال: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} [الحج: 27]، فنادى بين أخشبي مكة: يا أيها الناس، إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل شيء سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك، لبيك - أجابوه بالتلبية -: لبيك اللهم لبيك، فأتاه من أتاه. وأمره الله D أن يخرج إلى عرفات، ونعتها الله له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، فطار اللعين فوقع على الجمرة الثانية [أيضاً فصده]، فرماه وكبّر فطار اللعين فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر. فلما رأى أنه لا يطيقه

انطلق حتى أتى ذا المجاز، ولم يدر إبراهيم A أين يذهب فلما أتى إبراهيم A ذا المجاز لم يعرفه فجازه، فسمي ذا المجاز. ثم انطلق، حتى وقع بعرفات فلما نظر إليها إبراهيم A عرف النعت، فقال: قد عرفت، فسمى ذلك المكان عرفات. فوقف إبراهيم A بعرفات حتى إذا أمسى ازدلف بجمع، فسميت المزدلفة. فوقف بجمع ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أولاً فرماه بسبع حصيات، سبع حصيات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج ". وقيل: المناسك المذابح. فالمعنى على هذا: وأرنا كيف ننسك لك يا رب نسائكنا، فنذبحها لك. قال عطاء: " مناسكنا ذبحنا ". وعنه: " مذابحنا ". وكذلك قال مجاهد. وقيل: مناسكنا متعبداتنا. ومنه قيل للعابد ناسك. / قال ابن عباس: " لما قال إبراهيم A: " { رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}، أتاه [جبريل A]

وعلى محمد بهذا الحجر من الجنة الذي يقال له المقام - وهو ياقوتة بيضاء - فأقامه عليه. ثم رفعه إلى السماء حتى أشرف به على البلاد كلها. فأراه أعلام الحرم وجميع مناسك الحج كلها / عرفات، والمزدلفة، ومنى، وجميع المناسك. ثم قال له: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج}. وواحد المناسك منسك مثل " مسجد ". / وقيل: منسك وكان يجب أن يكون على " مَنْسُك " بالضم لأنه من " فَعَلَ يَفْعُلُ " إلا أنه ليس في الكلام " مَفْعُلُ ". وقيل: المنسك الموضع الذي ينسك فيه لله D، ويتقرب فيه إليه سبحانه بما يرضيه من الأعمال الصالحة. وأصله الموضع الذي يعتاده الإنسان يفعل فيه الخير، ولذلك [قيل: مناسك الحج لأنها مواضع] قد اعتادها الناس لفعل الخير. ثم قال: {وَتُبْ عَلَيْنَآ}. التوبة الرجوع من مكروه إلى محبوب، فتوبة العبد / إلى ربه رجوعه مما هو عليه من المكروه بالندم عليه والإقلاع عنه والعزم على ترك العمود فيه.

وتوبة الرب سبحانه على عبده عوده عليه بالعفو عنه عن جرمه وذنبه. - فإن قيل: وهل كانت لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟. - فالجواب: أنه ليس أحد من خلق الله D إلا وله من العمل فيما بينه وبين ربه D ما يجب عليه الإنابة [منه والتوبة، فخصا] الموضع الذي كانا فيه بالدعاء ليستجاب لهما على طريق التبرك به، وليكون دعاؤهما في ذلك المكان سُنة لمن بعدهما، وليتخذ الناس بعدهما تلك البقعة موضع تنصل من الذنوب ورجوع عن المكروه. وقيل: عَنَيا بقولهما: {وَتُبْ عَلَيْنَآ}: وتب على الظلمة من ذريتنا الذين أعلمتنا أن منهم ظالماً. وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم}. معناه إنك أنت العائد في الفضل على عبادك، المتفضل بالغفران لذنوبهم، الرحيم بهم. ثم قال: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ}.

هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم لنبينا محمد A. وكان النبي [عليه السلام يقول]: " أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْراهيمَ وَبُشْرَى عِيسَى ". قال قتادة: " [فأجاب] الله دعوتهما، فبعث الله فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو محمد A " قال الربيع: / " فقيل لإبراهيم: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان ". وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك}. من نعت الرسول. أي: يقرأ عليهم كتابك، وكذلك {وَيُعَلِّمُهُمُ} {وَيُزَكِّيهِمْ}، كله من نعت الرسول A. والكتاب القرآن. قال قتادة: " الحكمة: السنة ".

وقال ابن وهب: " قلت لمالك: ما الحكمة؟ فقال: المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له ". وقال ابن زيد: " الحكمة. العقل في الدين ". ومعنى {وَيُزَكِّيهِمْ}: ويطهرهم من الشرك بك ويكثرهم بطاعتهم لك. ثم قال: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}. أي: أنت القوي الذي لا يعجزه شيء المنيع الغالب. وأصل العزة المنع والغلبة، والعرب / تقول: " مَنْ [عزّ بَزّ] "، أي: من غلب استلب. وقولهم: " أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ "، أي: غلبتك وظفرك. والحكيم الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل. وقال الطبري: " الحكيم ذو الحكمة ". وقيل: " الحكيم الحاكم ".

وقيل: " الحكيم: معناه المحكم، أي المحكم ما خلق ". وقال ابن عباس: " العليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ". ثم قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}. أي: ومن يزهد في دين إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه ورغب عن ملته. واتخاذ اليهودية والنصرانية بدعة ليست من عند الله، هذا معنى قول قتادة والربيع. وقيل: المعنى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها. قال ابن زيد: " {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}: معناه من أخطأ حظّه ".

ومذهب الفراء أن " نفسه " منصوب على التفسير مثل " ضِقْتُ بهِ ذَرْعاً ". قال: وهو من المعرفة كالنكرة، ولا يجوز أن يكون التمييز / معرفة عند البصريين ومثلها عنده: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]. ولا يجوز عند الفراء التقديم. وقال الكسائي وهو أحد قولي الأخفش - / المعنى: إلا من سفه في نفسه، فلما حذف الحرف نصب. ويُجيزان التقديم. ومذهب أهل التأويل أن معناه: سفه نفسه. فهو مفعول به.

وقال يونس: " أراها لغة ". وقال أبو عبيدة: " معناه: [أهلك نفسه ". ومذهب] البصريين أنه مثل: " ضرب فلان الظهر والبطن " أي: في الظهر [والبطن] فلا حذف في نصبه. كذلك معناه: سفه في نفسه، ثم نصب لما حذف " في ". " وقال الزجاج ": معناه: جهل نفسه ". فهو مفعول به عنده بجهل " أي: لم يفكر في نفسه. فالسفه والجهل سواء.

131

وقيل: التقدير إلا من جهل رأي نفسه وقول نفسه، ثم حذف، مثل: / {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقيل: التقدير، إلا من جهل قولُه نفسه، ثم حذف المؤكد وأقام التوكيد مقامه. ثم قال {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا}. أي اخترناه للخلة والإمامة. [ثم قال]. {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين}. أي: وإن إبراهيم A لمن المؤدين حقوق الله. وتقدير تعلق حرف الجر: " وإنه صالح، في الآخرة، لمن الصالحين "، ثم حذف. وقيل: إنه متعلق بالصالحين، والألف واللام ليستا بمعنى " الذي "، ولكنه اسم على حدته كالرجل والغلام. قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} إلى قوله {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.

أي واذكروا إذ قال له ربه أسلم، أي أخلص لي العبادة والطاعة. {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين}: أي قال إبراهيم A [ و] على محمد مجيباً لربه D: خضعت بالطاعة وأخلصت العبادة لِمالِك جميع الخلق. ومدبرهم. ويجوز أن يكون العامل في: {وَلَقَدِ اصطفيناه} أي ولقد اخترناه في الدنيا إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت، وهذا كان منه حين قال: {ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً} [الأنعام: 78 - 79]. قال الطبري: " وذلك في الوقت الذي قال له ربه فيه: أسلم، من بعد ما امتحنه بالكوكب والقمر والشمس ". ثم قال تعالى: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}. أي: وأوصى بقوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} إبراهيم - A [ و] على محمد - بنيه، وأوصى بها يعقوب A [ و] على محمد [بنيه].

والهاء في " بها " تعود على كلمة الإسلام وهي قوله: {أَسْلَمْتُ}. وقيل: تعود على الملة، وكلمة الإسلام أقرب إليها. [وقيل: بل] أوصاهم باتباع الملة، ف " يعقوب " على هذا معطوف على " إبراهيم ". وقيل: إن يعقوب مرفوع بإضمار فعل. والتقدير " وقال يعقوب: يا بني إن الله ". والمعنى في " أَوْصَى " عهد إليهم بذلك، وأمرهم به. قال ابن عباس: " وصّاهم بالإسلام ". وفي التشديد في " وصَّى " معنى تكرير الوصية. وقوله: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين}. معناه: اختاره لكم. ودخلت الألف واللام في " الدين " لتقدم علمهم به

وتكرير الوصية عليهم. ثم قال: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ}. أي: فاتقوا الله أن تموتوا إلا على الإسلام. والمعنى: لا تفارقن هذا الدين أيام حياتكم لأن أحداً لا يدري متى تأتيه منيته، فلذلك قال لهم: لا تموتن إلا وأنتم مسلمون، لأنكم لا تدرون متى يأتيكم الموت، ولم ينههم عن الموت / لأن ذلك ليس إليهم. وقيل: المعنى: الزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين. وعرف المعنى كما عرف في قول العرب / " لا أَرَيَنَّكَ هَا هُنَا ". فالنهي في اللفظ للمتكلم، وفي المعنى للمتكلم أي: لا تكن ها هنا، فإنه من يكن ها هنا أراه. قال الأخفش: " {بَنِيهِ}، قطع، ثم يبتدئ: {وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ}، أي: وقال يعقوب: يا بني ". وقال أبو حاتم وغيره: " الوقف {وَيَعْقُوبُ}، ثم يبتدئ {يَابَنِيَّ} ". أي:

وقال كل واحد منهما: {يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين}. ثم قال: " D { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت}. {أَمْ} بمعنى الألف، أي: أكنتم حاضرين يا معشر اليهود والنصارى المكذبين بمحمد A / إذ نزل بيعقوب الموت حين قال لبنيه: ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وهو جده - وإسماعيل - وهو عمه - وإسحاق - وهو أبوه - صلوات الله عليهم [و] على محمد. وقدم إسماعيل لأنه أكبر من إسحاق. {إلها وَاحِداً}؛ أي: معبوداً واحداً، لا نشرك به شيئاً. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: أي: خاضعون متذللون بالعبادة له. وروي أنه لم يقبض الله نبياً قط حتى يخيّره بين الموت والحياة، فلما

خيّر يعقوب عليه السلام قال: أنظرني / حتى أسأل ولدي، وأوصيهم ففعل الله ذلك. فجمع يعقوب ولده وهم إثنا عشر - وهم الأسباط -، وجمع أولادهم فقال لهم: إنه قد حضرتْ وفاتي، وأنا أريد أن أسألكم وأوصيكم: فما تعبدون من بعدي؟ فأجابوه بما حكى الله تعالى عنهم، فدعا لهم ثم قبضه الله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين وعلى محمد. فمعنى الكلام: إنكم يا أهل الكتابين لم تحضروا ذلك - ولا شاهدتموه فكفرتم بغير علم ولا يقين فادَّعَيْتُمْ على أنبياء الله الأباطيل ونحلتموهم إلى اليهودية والنصرانية، وإنما بعثهم الله [بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصّوا بنيهم] فلو حضرتم ذلك وسمعتموه لعلمتم أنهم على غير ما تنحلونهم من الدين. وهذه الآيات نزلت تكذيباً من الله لليهود والنصارى في دعواهم إبراهيم / ويعقوب أنهما كانا على ملتهم.

وقرأ يحيى بن يعمر والحسن وأبو رجاء والجحذري " وإله أبيك " بلفظ التوحيد. فيحتمل أن يكون جمعاً مسلماً، فيكون كالقراءة التي عليها الجماعة. ويحتمل أن يكون موحداً وإبراهيم بدل منه وإسماعيل وإسحاق عطف على الأب وهما في القول الأول بدل الجمع الذي قبلهما. وجمع " إبراهيم " وإسماعيل " عند سيبويه والخليل: " بَرَاهيمُ " و " سَمَاعِيلُ ". وحكى الكوفيون " بَرَاهِمَةٌ " و " سَمَاعِلَةٌ "، فالهاء بدل من الياء كزنادقة وزناديق. وجمعهما عند المبرد: " أَبَارِهٌ " و " أَسَامِعٌ " و " أَبَارِيهٌ " و " أَسَامِيعٌ ". قال: لأن الهمزة ليس هذا موضوع زيادتها.

وأجاز أحمد بن يحيى: " بِرَاهٌ " / كما يجوز في التصغير " بُرَيْهٌ ". وجمع إسحاق أَسَاحِيقٌ. وحكى الكوفيون أَسَاحِقَةٌ وأَسَاحِيقٌ وَيَعْقُوبٌ وَيَعَاقِيبٌ، وَيَعَاقِبَةٌ وَيَعَاقِبٌ ". ولا يجوز عند أحد حذف الهمزة من " إسرائيل "، ويقال في جمعه: " أساريل ". وحكى الكوفيون " أَسَارِلَةٌ " و " أَسَارِلٌ "، وجمعه كله مسلماً أحسن. وقوله: {إلها وَاحِداً}. نصب على الحال أو على البدل من " إله " الأول. فإذا كان حالاً كان تقديره: نعبد إلهك في حال انفراده ووحدانيته. وأجاز يعقوب الوقف على {آبَائِكَ} ويبتدئ: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}، ينصب

ذلك على إضمار فعل. ومن قرأ (أَبِيكَ) بالتوحيد وقف على (إِسْحَاقَ). ثم قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}. أي: قد مضت، أي: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم وعلى محمد، وولدهم / قد مضوا، فَدَعُوا ذكرهم والكذب عليهم يا معشر اليهود والنصارى، ولا تنحلوهم الكفر واليهودية والنصرانية. والأمة الجماعة هاهنا. وإنما قيل لمن مضى وانقرض: " قد خلا " لتخليه من الدنيا وانفراده من الإنس والبشر. وأصله: من " خَلاَ الرَّجُلُ " إذا صار بالمكان الذي لا أنيس به. ثم قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي: عملت. {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. أي: لا تؤاخذون بذنوبهم ولا يؤاخذون بذنوبكم، فدعوا ما تنحلونهم من الأديان.

قال الأخفش: " {قَدْ خَلَتْ} وقف التمام ". وقال أبو حاتم: " {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذا الوقف الكافي الحسن ". ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ}. أي: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا. وقال بعض العلماء: " أو " هذه [يقال لها المصنفة] ليست التي للتخيير ولا للإباحة ولا للشك ". والمعنى: " وقال صنف: كونوا هوداً، وقال صنف: كونوا نصارى. وروي أن ابن صوريا الأعور قال لرسول الله [عليه السلام] ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتّبِعنا يا محمد تهتدي. وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله D هذه الآية، ثم قال

لرسوله عليه السلام: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}، أي: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً لأن معنى {كُونُواْ هُوداً}: اتّبعوا دين اليهودية]. والتقدير: بل نتبع أهل ملة إبراهيم. وقال أبو عبيدة: " هو نصب على الإغراء، و {حَنِيفاً} نصب على الحال ". وقيل: على " أعني "، لأن الحال لا يكون من المضاف إليه. وقوله: {هُوداً} جمع هائد كحالٍ وحُولٍ. وقيل: هو مصدر يؤدي عن الجمع كقولك: " قوم صُومٌ "، و " قوم عدلٌ "، فيكون / المعنى ذوي هود. وقيل: الأصل يهود ثم حذفت الياء. ومعنى {حَنِيفاً} / مائلاً عن الكفر إلى الإيمان. وقيل: الحنيف الحاج. وقيل: الحنيف المخلص. ثم قال: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.

أي: لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان. قال ابن / مسعود: " سميت اليهود يهوداً لقول موسى A { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]. وسميت النصارى نصارى لقول عيسى A: { مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52]. تم الجزء [الثالث]

136

قوله {قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} إلى قوله {عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} معناه: قولوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا: " آمنا بالله "، أي: صدقنا به، وصدقنا بما أنزل إلينا وهو القرآن، وبما أنزل إلى إبراهيم وإلى إسماعيل وإلى إسحاق وإلى يعقوب وإلى الأسباط، وهم اثنا عشر ولداً ليعقوب أنبياء كلهم، ولد كل واحد منهم أمة من الناس فسموا الأسباط. والسبط في اللغة الشجرة. أي: هم في الكثرة مثل الشجر. قال ابن عباس: " كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح وهود وصالح ولوط وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمد A وعيسى صلى الله عليهم / أجمعين ". ثم قال: {وَمَآ أُوتِيَ موسى وعيسى}. أي: وصدقنا بما أوتي موسى وعيسى، يعني: التوراة والإنجيل، وصدقنا بما أوتي النبيون من ربهم يعني: من [الكتب، كل ذلك حق] {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} أي: لا نفرق بين أحد من النبيين فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن

بالكل وبما جاء به الكل. وقال ابن عباس ووهب بن منبه: " الأنبياء كلهم مائة وأربعة وعشرون ألف / نبي كلهم من بني إسرائيل إلا عشرين نبياً. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم أجمعين. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر كلهم من بني يعقوب إلا عشرين رسولاً ". وقال غير ابن عباس مثل قوله وزاد، فقال: " عدد الأنبياء صلوات الله عليهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، أولهم آدم وآخرهم محمد A وعليهم أجمعين. والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، ذكر الله منهم في القرآن ستة وعشرين وهم: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون والأسباط واليسع وإلياس ويونس / وأيوب وداود وسليمان وزكرياء وعزير ويحيى وعيسى ومحمد A وعليهم أجمعين. ومنهم خمسة لم تذكر أسماؤهم وذكروا بغير أسمائهم وهم: الذي مرّ على القرية قيل هو أرميا، وصاحب موسى وهو الخضر، وقيل

إنه ليس بنبي، وثلاثة ذكرهم الله في سورة " يس " ولم يذكر أسماؤهم، فأما ذو القرنين، فأكثر الناس على أنه ليس بنبي. وكذلك اختلف في ذي الكفل. ثم قال {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. أي: خاضعون بالطاعة لله. وروى ابن عباس أن النبي [عليه السلام] سأله نفر من اليهود: بمن تؤمن من الرسل؟ فقرأ عليهم الآية. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن بعيسى، فأنزل الله جل ذكره: {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله} [المائدة: 59] إلى {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]. [ثم قال]: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا}. إي: إن صدقوا بجميع الأنبياء وبجميع الكتب التي أنزلها الله كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الحق، يعني به اليهود والنصارى. {وَّإِن تَوَلَّوْاْ}: أي: إن لم يؤمنوا بذلك وأعرضوا، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}: أي: في مشاقة ومباعدة من الحق وفراق له ومحاربة له.

وقيل: المعنى: قد صاروا في شق غير شق المسلمين. والمماثلة في الآية إنما وقعت بين التصديقين، أي: إن صدقوا بمثل تصديقكم وأقروا بمثل إقراركم. ولم يقع التمثيل بين المؤمن به وهو الله D وسبحانه وتعالى؛ هذا كفر لا يجوز. فإن قيل: وهل للإيمان مثل، هو غير الإيمان فتصح المماثلة به؟ فالجواب: أنه محمول على المعنى، والتقدير: فإن أتوا بتصديق مثل تصديقكم فقد اهتدوا: أي: صاروا مسلمين. وهذا من كلام العرب، يقول الرجل لمن يتلقاه: " بشر استقبل مثلي بهذا ". وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وتقول: " ليس كربنا شيء "، " وليس كمثل ربنا شيء ". والمعنى سواء. هذا قول أبي حاتم وغيره. ثم قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} /. أي: فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء المخالفين لك من اليهود والنصارى إما بقتل وإما بجلاء عن جوارك.

{وَهُوَ السميع العليم}: أي يسمع ما يقولون بألسنتهم ويعلم ما يبطنون لك ولأصحابك من البغضاء والحسد. فأنجز الله لرسوله وعده في اليهود وفي غيرهم وكفاه إياهم وسلَّطه عليهم وخذلهم، فقتل بعضاً، وأجلى بعضاً، وأذل بعضاً بالجزية. ثم قال تعالى: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله}. " صبغة " منصوب على البدل من {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} / فيكون المعنى: " بل صبغة الله "، وذلك / أن النصارى إذا أرادت / أن تنصر أطفالها جعلتهم في ماء لهم يزعمون أن ذلك تقديس " لهم بمنزلة الختانة لأهل الإسلام، ويقولون: إن ذلك صبغة لهم في النصرانية. فلما قالوا للمسلمين: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} قال الله لنبيه A: قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، صبغة الله التي هي أحسن الصبغ وهي الحنيفية المسلمة، لا ما تغمسون فيه أبناءكم. وأجاز الكسائي نصبه على الإغراء والتقدير: الزموا تطهير الله بالإسلام لا ما تفعله اليهود والنصارى. وقيل: هو محمول على المعنى لأن معنى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ونحن متبعون صبغة الله.

وقال قتادة: {صِبْغَةَ الله}: " دين الله ". وكذا قال ابن عباس وغيره. قال قتادة: " إن اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى، وإن صبغة الله الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام / ولا أطهر، وهو دين الله الذي بعث به نوحاً والأنبياء بعده صلوات الله عليهم ". وقال مجاهد: " صبغة الله: فطرة الله؛ وهي فطرة الإسلام التي فطر الناس عليها ". والفطرة ابتداء ما خلق عليه الخلق وهو الإسلام، ثم غيّروا دين أنبيائهم بدين آخر. وأصل الصبغ حدوث شيء فكأنهم أحدثوا ديناً غير ما خلقوا عليه. وقوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ}، أي: خاضعون في اتباع أمره وتصديق كتبه ورسله. ثم قال تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}، أي: قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى: أتخاصموننا في دين الله وهو معبودنا ومعبودكم وإلهنا وإلهكم واحد،

ونحن له مخلصون العبادة والطاعة، وأنتم قد عبدتم معه غيره، عبدت اليهود العجل، وعبدت النصارى المسيح. فكيف تخاصموننا وتزعمون أنكم أولى به منا وقد عبدتم غيره ونحن أخلصنا العبادة له. ثم قال: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} إلى قوله: {أَوْ نصارى}. أي: أتقول اليهود: إن هؤلاء الأنبياء كانوا هوداً؟ أو أتقول النصارى: إن هؤلاء الأنبياء كانوا نصارى؟ قل لهم يا محمد: أنتم أعلم أم الله؟ فإن الله قد أعلمنا أنهم على الملة الحنيفية المسلمة. ومن قرأ بالتاء، جعله خطاباً لهم. ومن قرأه بالياء أجراه على الإخبار عنهم. ثم قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله}. أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة / عنده من الله. أي: لا أحد أظلم منه.

وقيل: عني بذلك كتمانهم نبوة محمد A وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم. قاله قتادة وغيره. وقيل: إنما كتموا ما في كتبهم من اتباع ملة إبراهيم A ومن ذُكِرَ معه، وقد علموا أنهم كانوا حنفاء مسلمين فكتموا ذلك. وادّعت اليهود أنهم كانوا يهوداً، وادّعت النصارى أنهم كانوا نصارى، وهم مع ذلك قد علموا أن اليهودية والنصرانية إنما حدثت بعد موت [هؤلاء] الأنبياء صلى الله عليهم وسلم. والهاء في {عِندَهُ} تعود على الظالم ودل عليه {أَظْلَمُ}. والأسباط من ولد يعقوب كالقبائل من ولد إسماعيل A وهم اثنا عشر سبطاً من اثني عشر ولداً ليعقوب عليه السلام. ثم قال تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. أي: ليس الله بغافل عن فعلكم وكتمانكم / ما قد علمتموه، بل يحصيه عليكم ويجازيكم به. ثم قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}.

142

أي: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء صلوات الله عليهم أمة قد مضت بعملها. لها ما عملت، ولكم ما عملتم. {وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: أي: لا يسأل أحد عن ذنب أحد. قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} إلى قوله: {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. أي: سيقول الجهّال / من الناس وهم اليهود والمنافقون: ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ما حملهم على [ترك التوجه إلى بيت المقدس وما صرفهم] عن ذلك، وذلك حين ترك النبي عليه السلام التوجه نحو بيت المقدس وتوجه إلى الكعبة. وقيل: هم كفار أهل مكة أعلم الله تعالى نبيه A ما هم قائلون عند تحويل القبلة إلى الكعبة، وأعلمه ما يقول لهم وما يجاوبهم به، فقال: قل يا محمد [إذا قالوا ذلك]: {للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، وذلك أن النبي A صلّى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، وكان يتمنى أن يصرف إلى الكعبة ثم أراد الله

جل ذكره صرف قبلته إلى نحو المسجد الحرام فأخبره عما سيقول المنافقون واليهود وأخبره [ما الذي] ينبغي أن يرد عليهم من الجواب. فلما رده الله تعالى إليها، أتاه نفر من اليهود فقالوا: " يا محمد، ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك / على ملّة إبراهيم ودينه، ارجع إلى قبلتك ونصدقك " يريدون فتنته عن دينه. وقيل: إنه صلّى إلى بيت / المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة قبل بدر بشهرين. قاله ابن المسيب. وكان أول صلاة صرف فيها إلى الكعبة العصر، فلما صلاها إلى الكعبة خرج من عنده رجل، فمرّ بقوم يصلون فقال: أشهد، لقد صليت مع رسول الله A قِِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت. وروى أنس بن مالك " أن النبي [عليه السلام] صلّى نحو بيت المقدس تسعة أشهر وعشرة أيام بعد هجرته. قال: فبينما هو قائم يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى

ركعتين نحو بيت المقدس، اُنصرف بوجهه إلى الكعبة فقال السفهاء: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}. وقال معاذ بن جبل: " صلّى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهراً ". وروي / عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: " صلّى النبي A بعد هجرته نحو بيت المقدس اختياراً منه من غير أن يفرض ذلك عليه طمعاً من أن يستميل اليهود إذ هي قبلتهم، فأنزل الله D: { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]. وقال أبو العالية: " ان [نبي الله عليه السلام] خُيِّر أن يُوجِّه وجهه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألف أهل الكتابيين [وهو في ذلك يقلب وجهه في السماء، ثم وجّهه الله D إلى البيت] الحرام ". وروي أنه صرف في رجب بعد مقدمه المدينة لسبعة عشر شهراً وكان بمكة والمدينة يصلي نحو بيت المقدس. فلما رجع سأله اليهود أن يرجع إلى قبلتهم يريدون فتنته، وقال كفار مكة: قد برد / أمر محمد وهو راجع إلى دينكم عاجلاً. فأنزل الله في

الجميع: {سَيَقُولُ السفهآء}، الآيات إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وروي " أن الأنصار صلّت قبل قدوم النبي عليه السلام إلى المدينة نحو بيت المقدس حولين. فلما قدم النبي A المدينة صلّى معهم نحو بيت المقدس بضعة عشر شهراً، ثم نقله الله D إلى الكعبة. وقال ابن عباس: " لما هاجر [النبي عليه السلام إلى المدينة وكان أكثر أهلها] اليهود، أمره الله D أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها بضعة عشر شهراً. وكان A يحب قبلة إبراهيم A، وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله جلّ ذكره: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} الآية. ورجع النبي A يصلي إلى الكعبة فارتاب [من ذلك اليهود]. وقالوا: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}، فأنزل الله D: { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ} الآية. وقال ابن جريج: / كان النبي عليه السلام يصلي إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس، وصلّت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه المدينة بثلاث سنين، وصلّى

بعد قدومه ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة. ثم قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}. أي: عدلاً. أي: كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد A وبما جاءكم به من الحق وفضلناكم بذلك، كذلك خصصناكم فجعلناكم أمة عدلاً خياراً. والأمة القرن من الناس. {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس}. أي: تشهدون / للأنبياء الذين أخبر الله بخبرهم محمداً A. فهو عام معناه الخصوص، إذ لم يطلع الله D نبيه A على [جميع النبيين وأخبارهم] بدلالة قوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] فإنما تشهد أمة محمد A على الأمم الذين أخبر الله نبيه بهم وبكفرهم وجحودهم دون من لم يطلع الله نبيه على خبرهم من أمم الأنبياء صلوات الله عليهم الذين لم يطلع الله نبيه عنهم، ولا أخبره

بهم. فأمة محمد A تشهد للأنبياء الذين أخبر الله بهم النبي A على أممها أنها قد بلَّغت ما أرسلت به إلى الأمم. {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. بإيمانكم وبما جاءكم به من عند الله. وقيل: " عليكم " بمعنى " لكم " مثل قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] أي: للنصب. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي A قال: " يُدْعَى بِنُوحٍ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لِقَوْمِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيُقالُ لَهُ: مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} ". وفي حديث آخر رواه أبو هريرة: " فَيَقولُ قَوْمُ نُوحٍ A: كَيْفَ يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَوَّلُ الأُمَمِ وَهُمْ آخِرُ الأُمَمِ؟ فَيَقولونَ: نَشْهَدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولاً وَأَنْزَلَ عَلَينَا كِتَاباً وَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْنَا خَبَرَكُمْ ".

وهذا المعنى: أيضاً / مروي عن زيد بن أسلم. وروي أن أمة محمد [عليه السلام] تقول لهم: " كان فيما أنزل علينا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ / المرسلين} [الشعراء: 105] إلى قوله: {العالمين} [الشعراء: 109]، فكذلك نشهد أنكم كذبتم الرسل. فتشهد للرسل أمة محمد A بالتبليغ. وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِذَا جَمَعَ اللهُ عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَانَ أَوّلُ مَنْ يُدْعَى إسْرَافِيلُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَا فَعَلْتَ فِي عَهْدِي؟، هَلْ بَلَّغْتَ عَهْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبّ، قَدْ بَلَّغْتُ جِبْرِيلُ، فَيُدْعَى / جِبْريلُ فَيَقُولُ: قَدْ بَلَّغْتُ الرَّسُلَ. فَتُدْعَى الرُّسلُ، فَيَقُولونَ: قَدْ بَلَّغْنَا الأُمَمَ، فَتُدْعَى الأُمَمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ الرُّسُلَ، فَيَشْهَدُ لِلّرُّسُلِ أمَّةَ مُحَمَّدٍ A / بِالتَّبْلِيغ ". وروى أشهب عن مالك أنه قال: " ينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله D. فإن عُصِيَ كان شهيداً على من عصاه ". قال الله D: { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. وروى أبو عامر " أن أول مَنْ يسأل يوم القيامة من الرسل عن البلاغ

نوح A، فيقال له: هل بلغت قومك الرسالة؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلّغكم نوح الرسالة؟ فيجحدون؛ فيقولون: لم يبلغنا الرسالة. فيتنحى نوح من بين يدي الله D. فيكون بفناء العرش كئيباً حزيناً، وأمة محمد A غرّ محجلون من أثر الوضوء، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: ما لك يا شيخ، من أنت؟ فيقول: أنا نوح. فيقولون: ما لَكَ كئيباً حزيناً؟ فيقول: كذبني قومي، فيقولون له: ارجع إلى ربك فنحن نشهد لك بأنك قد بلّغت الرسالة، فيقول لهم: ومن أنتم؟ فيقولون: نحن أمة محمد A. فيقول: كيف تشهدون لي وأنتم آخر الأمم؟ فيقولون: إن نبيّنا أتانا بذلك فيقرأون عليه: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] إلى آخرها، فيرجع نوح إلى الله، فيقول: رب، إن أمة محمد يشهدون لي بالبلاغ. ثم يسأل نبياً نبياً فتجحده أمته فتشهد له أمة محمد A بالبلاغ، فماذا سئل محمد عن البلاغ شهدوا بأن محمداً قد بلّغ الرسالة ". ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ}.

قال ابن عباس: " إلا ليتميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة ". والتقدير: وما جعلنا صرفك عن بيت المقدس إلى الكعبة إلاّ لنعلم علم عيان تجب عليه المجازاة، من يتّبع الرسول على قبلته ممن يرجع عن إيمانه فيخالف الرسول. وقيل: المعنى: إلا لنُعْلِم / رسولي وأوليائي ذلك. ومن شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس وحزبه إليه، يقولون: " جبى الأمير الخراج وهزم العدو، وإنما فعله حزبه وأنصاره. ومثله في المعنى قول النبي A عن الله D: " مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي " يريد به عباده. وقيل: " علم " هنا بمعنى " رأى "، فالمعنى: إلا لنرى من يتبع. وقيل: إنهم خوطبوا على ما كانوا يسرون؛ كان اليهود والمنافقون والكفار ينكرون أن يعلم الله D الشيء قبل كونه، فيكون المعنى /: إلا لنبين لكم أنّا نعلم

الأشياء قبل كونها. وقيل: إنما قال: " لنعلم " على طريق الرفق بعباده، واستمالتهم إلى الطاعة كما قال: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى} [سبأ: 24]. وقد علم أن محمداً A على هدى /، وأن الكفار على ضلال. فالمعنى: إلا لتعلموا أنتم إذ أنتم جهال به، فأضاف الفعل إلى نفسه، والمراد خلافه رفقاً به. وقال الضحاك: " قالت اليهود للنبي [عليه السلام]: إن كنت نبياً كما تزعم، فإن الأنبياء والرسل كانت قبلتهم نحو بيت المقدس، فإن صلّيت إلى بيت المقدس، اتبعناك، فابتلاهم الله بذلك. وأمره أن يصلي إلى بيت المقدس فصلى إليه سبعة عشر شهراً، فلم يتّبعوه، ثم صرفه الله D إلى البيت الحرام فذلك قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} يعني بيت المقدس. {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول}: إلى أي ناحية شاء. {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ}: أي: لنعلم من يؤمن بالرسول من اليهود ومن لا يؤمن. وقيل: المعنى: وما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن، وهي الكعبة، إلا لنعلم من يتبع الرسول عليها. فكُنْتَ " بمعنى " أنت "، مثل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] أي: أنتم خير

أمة. فروي أنه لما استقبل الكعبة أظهر المنافقون نفاقهم [و] قالوا: ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى ها هنا ومرة إلى ها هنا، وقال المسلمون في أنفسهم وفيمن مضى من إخوانهم المسلمين: بَطَل أعمالنا وأعمالهم، / فأنزل الله تعالى ذكره: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم نحو بيت المقدس. وقالت اليهود: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}، وكذلك قال المنافقون، فأنزل الله D، { قُل للَّهِ المشرق والمغرب} الآية. وقيل: إن اليهود قالت للنبي [عليه السلام: إن كنت في القبلة] على هدى، فقد حوّلت عنه، وإن كنت على ضلالة، فقد مات أصحابك على ذلك. فأنزل الله D: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاة من مات منكم وهو يصلي إلى بيت المقدس. وقال المشركون من أهل مكة؛ تحيّر محمد في دينه. فكان ذلك فتنة للناس واختباراً وتمحيصاً للمؤمنين. قال قتادة: " صلّت الأنصار حولين نحو بيت المقدس قبل هجرة النبي عليه السلام، ثم هاجر النبي A فصلّى نحوها ستة عشر شهراً. ثم وجّهه الله / نحو الكعبة، فقال قائلون من الناس: {مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا}، وقالوا: لقد اشتاق الرجل إلى

مولده. فابتلى الله D عباده بما شاء من أمره فأنزل الله تعالى في اليهود والمنافقين /: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} إلى قوله: {مُّسْتَقِيمٍ}، وأنزل في المؤمنين: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} إلى {رَّحِيمٌ}. قال ابن جريج: " بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا عن الإسلام حين استقبل النبي الكعبة، وقالوا مرة ها هنا ومرة ها هنا. فأظهر الله لخلقه من يرتد فينافق ويخالف الرسول في القبلة ممن اتبعه وآمن بما جاء به " ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي وإن كانت التولية لكبيرة. وقيل: المعنى: وإن كانت القبلة لكبيرة: وإن كانت التحويلة لكبيرة. وقيل: المعنى: وإن كانت الصلاة إلى بيت المقدس لكبيرة، أي: لعظيمة في صدور الناس حين قالوا: ما لهم صلّوا إلى هاهنا ستة عشر / شهراً ثم انحرفوا،

فعظم على قوم ذلك حتى نافقوا وارتدوا وحتى أظهر أهل النفاق نفاقهم. وقوله: {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله}. أي الذين وفق الله إلى الحق، فإنهم ثبتوا على إيمانهم، وقبلوا ما جاءهم به الرسول A. وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. قال ابن عباس: " لما توجّه النبي A إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وهم يصلون نحو بيت المقدس؛ فأنزل الله D: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وهذا معنى قول قتادة وغيره. وإنما أتى الجواب على الخطاب لهم دون الأموات، لأن الأموات غُيَّبٌ والسائلون عن ذلك مخاطبون. والعرب تغلب المخاطب على الغائب، فلذلك قال: {لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. ولم يقل إيمانهم. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنه قال في قول الله D: { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}: " هي الصلاة إلى بيت المقدس قبل أن تصرف القبلة إلى

الكعبة ". ثم قال: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. أي: إن الله بجميع عباده لذو رأفة ورحمة، فكيف يضيع أعمالهم التي عملوها فلا يثيبهم عليها وكيف يؤاخذهم على ما لم يفترض عليهم. والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة. وتسمية الله [جل ذكره الصلاة إيماناً في هذه الآية] ردّ على المرجئة الذين يقولون إن الصلاة ليست من الإيمان. وقال أشهب: " وإني لأذكر بهذه الآية الرد على المرجئة وعلى أن الإيمان في هذه الآية يراد به الصلاة نحو بيت المقدس ". وقاله البراء بن عازب، رفعه إلى

144

النبي A، وهو قول قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن المسيب وزيد بن أسلم / ومالك وغيرهم. / قوله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء}. إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. أي: قد نرى يا محمد تصرف نظرك نحو السماء. روي أنه A كان قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله الأمر بالتحويل إلى الكعبة. قال قتادة: " كان النبي [ A] يقلّب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله تعالى إلى الكعبة حتى صرفه الله D إليها ". وهذا يدل على أنه لم يصلِّ إلى بيت المقدس إلا بوحي، فكان ينتظر متى يؤمر

بترك ما أمر به. ولو كان إنما صلّى إلى بيت المقدس باختياره لم ينتظر الأمر فيه، ولرجع إلى الكعبة باختياره أيضاً. وقد قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]. فكيف يأمرهم بالصلاة إلى بيت المقدس من عند نفسه. هذا بعيد. وقال بعض العلماء: " إنما أحب النبي [عليه السلام] أن يُرَدَّ إلى الكعبة لأن اليهود كانوا يقولون: يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا! / فلما ردّه الله إلى الكعبة انقطع قول اليهود ". وقال ابن زيد: " قال الله D لنبيه A: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} فقال النبي [عليه السلام] " هَؤُلاَءِ قَوْمٌ يَهُودٌ يَسْتَقبلُونَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِ الله D، فَلَوْ أَنَّا اسْتَقْبَلْنَاهَا " فَاسْتَقْبَلَ النبي [عليه السلام] معهم بيت المقدس ستة عشر شهراً، فبلغه أن اليهود تقول: والله / ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم. فكره ذلك النبي A، ورفع وجهه إلى السماء. فأنزل الله عليه {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} الآية ".

فهذا يدل على أنه استقبل بيت المقدس من غير أمر أتاه من عند الله، وأنه إنما أتاه من الله الإباحة باستقبال أي موضع شاء. ثم نسخ الله فعله لأنه كان A يتبع آثار الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، فلذلك صلّى نحو بيت المقدس / مع ما طمع به من استمالة اليهود أن يؤمنوا به. وقال ابن عباس: " كان النبي عليه السلام لما هاجر إلى المدينة - وكان أكثر أهلها اليهود - أمره الله [جلَّ وعزَّ] أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله A بضعة عشر شهراً. فكان رسول الله A يحب قبلة أبيه إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله D: { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} إلى {صراط مُّسْتَقِيمٍ}. فهذا يدل على أن الله سبحانه أمره باستقبال بيت المقدس ثم نسخها بالكعبة. " وروي أن النبي [عليه السلام] كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس مع استقباله

الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة صلى نحو بيت المقدس أيضاً / سبعة عشر شهراً، ووقع في نفسه الصلاة نحو الكعبة، فأقبل يقلّب وجهه إلى السماء كيف يستقبل الكعبة. فأتاه جبريل عليه السلام، فقال له النبي A: " لَوَدِدْتُ يَا جِبْريلُ أَنَّ اللهَ صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُودِ إِلَى غَيْرِهَا "، فقال له جبريل عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على الله، فادعه وسله، ثم ارتفع جبريل، وجعل النبي يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل، فأنزل الله جل ذكره: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} الآية ". وقال إبراهيم بن اسحاق: " أول أَمْر الصلاة أنها فرضت ركعتين بمكة في أول النهار، وركعتين في آخره. فلما كانت ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، أسري به A وفرض عليه خمسون صلاة، ثم نقصت إلى خمس صلوات، فأتاه جبريل A فأمَّهُ عند البيت، فأول ما صلّى به الظهر نحو بيت المقدس مع استقبال الكعبة. ثم قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فصلى إلى بيت

المقدس تمام سنة إحدى عشرة وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر ثم حوّلت القبلة في رجب. وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن القبلة صرفت في جمادى. وقال الواقدي: " في النصف من شعبان صرفت ". فوقع الاختلاف على مقدار اختلافهم في عدة الأشهر التي صلى في المدينة إلى بيت المقدس. وقيل: إنما نسخ الله باستقبال الكعبة قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]. فأباح له أن يستقبل إلى أي ناحية شاء. ثم نسخ ذلك بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}.

وقال ابن عباس: " أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة ". قال الله D لنبيه: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله}. فصلى نبيه عليه السلام نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} /. ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: " بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال لهم: إن رسول الله A قد نزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم / إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ". وحدث مالك عن ابن المسيب أنه كان يقول: " صلى النبي A بعد أن قدم

المدينة / ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس، ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين ". وذكر البراء في ذلك كله نحوه. وقال أنس: " مرّ بهم رجل وهم ركوع نحو بيت المقدس، فنادى: " ألا إن القبلة قد صرفت إلى الكعبة ". فمالوا كما هم ركوعاً ". قال الواقدي: " صرفت / يوم الثلاثاء للنصف من شعبان سنة اثنتين ". وقال ابن شعبان: " صرفت إلى الكعبة في رجب ". وقال: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. يعنون بيت المقدس، فأنزل الله: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة Bها أنها قالت: " إن الصلاة أول ما فرضت، إنما فرضت ركعتين، ثم أتمّ الله صلاة الحضر، وأُقِرَّت صلاة

السفر على حالها ". قال ابن شهاب: فقلت لعروة: فما حمل عائشة على أن تصلي في السفر أربع ركعات؟ فقال عروة: تأولت عائشة في ذلك ما تأول عثمان [بن عفان] في إتمام الصلاة بمنى ". قال أبو عبيد: تأول عثمان في إتمام الصلاة بمعنى ثلاثة أوجه: فيقال: إنه اتخذ أهلاً بمكة. ويقال: إنه تأول: إني الخليفة فحيثما كنت فهو عملي. والوجه الثالث: أنه بلغه أن أعرابياً صلّى معه ركعتين فظن أن الفريضة ركعتان فانصرف إلى منزله فلم يزل يصلي ركعتين السنة كلها، فلما بلغه ذلك أتم الصلاة. / وأما عائشة Bها. فتأولت أنها أم المؤمنين فحيثما كانت فكأنها مع ولدها مقيمة ". " وروي أن أول من صلى إلى الكعبة من المسلمين بالمدينة البراء بن

معرور من بني سلمة، وذلك أنه كان قد بايع النبي [عليه السلام] على العقبة وكان نقيباً، فقال له النبي A: " إِنِّي رَمَقْتُكَ فَأُحِبُّ أَنْ تَعُودَ إِليَّ حَتَّى تُهَاجِرَ مَعِي فَتَكُونَ لَكَ مَعَ النَّصْرَةِ هِجْرَةٌ ". فلما توجه إلى المدينة مع السبعين الذين بايعوا رسول الله A من الأنصار على العقبة، مرض بالمدينة فكان يصلي إلى الكعبة لموعدة النبي صلى الله عليه سلم. فلما حضرته الوفاة، قال: اجعلوا مالي ثلاثة أثلاث: ثلثاً لله وثلثاً لرسوله وثلثاً لوليي، وإذا مت فحوّلوا وجهي نحو محمد A لموعدي معه. فكان أول من صلى إلى الكعبة، وأول من دفن نحوها، وأول من أوصى بثلثه. فلما قدم النبي A المدينة أخبر بوفاته وبالوصية،

فقال: " أَمَّا ثُلُثِي فَرَدٌّ عَلَى وَلَدِهِ، وَأَمَّا / [ثُلُثُ الله] فَأُنْفِقُهُ فِي سَبيلِ اللهِ D ". وكان له ابن صالح من خيار النقباء اسمه بشر بن البراء، وفيه قال النبي A: " هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلَمَةَ " وهو الذي أكل من الشاة التي سمّت للنبي A ومن ذلك مات يوم خيبر. / وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}: أي: فلنصرفنك إلى قبلة ترضاها وهي الكعبة. ومعنى ترضاها: تهواها وتحبها. ثم قال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}. أي: نحوه وقصده وتلقاءه. قال عبد الله بن عمر: " صرفت قبلته حيال ميزاب الكعبة ". وكان يجلس في المسجد الحرام حيال الميزاب، فإذا سئل عن ذلك تلا هذه الآية. وقال ابن عباس: ولّى وجهه نحن [البيت] كله "، وهو قول أكثر

العلماء. وقد قال أسامة بن زيد: " رأيت النبي [عليه السلام] حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب فقال: " هَذِهِ القِبْلَةُ هَذِهِ القِبْلَةُ ". " وروي عنه A أنه صلى ركعتين مستقبلاً باب الكعبة وقال: " هَذِهِ القِبْلَةُ "، مرتين. " ثم قال: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}. أي: وأينما كنتم أيها المؤمنون فولّوا وجوهكم بصلاتكم نحو المسجد الحرام. فالهاء في " شَطْرِهِ " عائدة على المسجد الحرام. فأوجب الله بهذه الآية على المؤمنين فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث ما كانوا من الأرض. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ}. أي: وإن أحبار اليهود وعلماء النصارى ليعلمون أن التوجه نحو المسجد

الحرام الحق الذي فرض الله على إبراهيم [عليه السلام] وذريته وسائر عباده بعده، فرض ذلك عليهم. قال قتادة والضحاك: " يعرفون أن القبلة هي الكعبة ". قال الضحاك: " كمعرفتهم أبناءهم ". والهاء في " أنه " تعود على التولية إلى الكعبة، ودل على التولية قوله: {فَوَلِّ}. وعن الكسائي أنه قال: " الهاء تعود على الشطر ". ثم قال: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}. من قرأ بالتاء رده على الخطاب في قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}. ومن قرأه بالياء رده على الإخبار / عن الذين أوتوا الكتاب لتقدم ذكرهم. ثم قال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ}.

أي: ولئن جئت يا محمد اليهود والنصارى بكل برهان وحجة بأن الحق ما جئتهم به من فرض التحول إلى المسجد الحرام، ما صدقوا به ولا اتبعوه مع قيام الحجة عليهم. وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}. أي: ما لك من سبيل يا محمد إلى / اتباع قبلتهم لأن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، والنصارى تستقبل / المشرق. فمن أين يكون لك يا محمد السبيل إلى اتباع قبلتهم مع اختلاف وجوهها، فالزم ما أمرت به من استقبال المسجد الحرام. ثم قال: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}. أي: وما اليهود بتابعين قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعين قبلة اليهود. قاله السدي وغيره. وقيل: معناه: وما الذين اتبعوك من اليهود بتابعين قبلة من لم يتبعك، ولا الذين لم يتبعوك بتابعين قبلة من اتبعك منهم. وقال السدي: " أنزل الله تعالى هذه الآية من أجل أن النبي A لما حوّل إلى الكعبة قالت اليهود: إن محمداً اشتاق إلى قبلة إبراهيم ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو / صاحبنا الذي ننتظره، فأنزل الله D: { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} إلى قوله: {لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

وهو قول ابن زيد. ثم قال: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}. أي: ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك: {كَانَ / هُوداً أَوْ نصارى}، فاتبعت قبلتهم من بعد ما جاءك من العلم أنهم على باطل وعلى عناد للحق، وأنهم يعرفون أن الحق ما أنت عليه إنك إذاً لمن الظالمين لنفسك. وهذا خطاب للنبي [عليه السلام] ولسائر أمته. وقيل: المراد به أمته. ثم قال: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب}. يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى. {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} أي: يعرفون أن البيت الحرام هو قبلة إبراهيم A ومَن قبله مِن الأنبياء كما يعرفون أبناءهم. هذا قول قتادة وهو قول ابن عباس والربيع والسدي وابن زيد وابن جريج. وعن قتادة أيضاً: {يَعْرِفُونَهُ} أي: يعرفون محمداً A أنه نبي كما يعرفون

147

أبناءهم. وهو قول الزجاج. والهاء في {يَعْرِفُونَهُ} على القول الأول تعود على الشطر أو على التولية. وعلى القول الثاني تعود على محمد A ويكون التأويل: " يعرفونك يا محمد ". لكن صرف الكلام من المخاطبة إلى الغيبة على مذهب العرب. وقال مقاتل: " الهاء في (يَعْرِفُونَهُ) تعود على البيت الحرام ". ثم قال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. أي وإن / طائفة من اليهود والنصارى ليكتمون أن القبلة هي المسجد الحرام وهم يعلمون أنها حق. وقال قتادة وغيره: " يكتمون أمر محمد A وهم يعلمون أنه حق يجدونه في التوراة والإنجيل ". قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} إلى قوله: {وأولئك هُمُ المهتدون}. أي: هذا الحق من ربك. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي: لا تكونن من الشاكين أن القبلة التي وجهت إليها هي الحق وهي قبلة إبراهيم والأنبياء غيره صلوات الله عليهم.

وهذا خطاب للنبي [عليه السلام] والمراد به أمته. ثم قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}. " هو " يرجع إلى " كُلٍّ ". والهاء في " مُوَلِّيها " ترجع إلى القبلة. وقيل: " هُوَ " يرجع إلى الله جل ذكره. فأما من قرأ " هو مُوَلاَّها "، فهو يرجع إلى " كُلٍّ " لا غير. قال مجاهد: " معناه: ولكل صاحب ملة قبلة ". يعني لليهود قبلة وللنصارى قبلة. قال ابن عباس: " يعني بذلك أهل الأديان؛ لكل أهل دين قبلة يرضونها. ووجهة الله D حيث توجه المؤمنون ".

وقال الضحاك: " معناه ولكل صاحب ملة قبلة، وصاحب القبلة يولِّيها وجهه ". وقال السدي: " المعنى ولكل قوم قبلة قد ولّوها ". والمعنى عند أهل العربية، هو موليها نفسه / أو وجهه. فأما من قرأ: " مُوَلاَّهَا " فالضمير على هذه القراءة لواحد، أي: ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها، أي: مصروف إليها. وقال الأخفش: " المعنى: موليها الله إياه على ما يزعمون " / يريد على قراءة موليها. وقال علي بن سليمان: " المعنى هو متوليها، والوجهة والجهة والوجه واحد ". وعن قتادة في قوله: {هُوَ مُوَلِّيهَا}، قال: " هي صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة ".

فيكون التقدير على هذا: ولكل ناحية وَجَّهَكَ إليها ربُّك يا محمد قبلةُ الله مولِّيها عباده ". وهو قول الأخفش الذي تقدم. ومعنى " مولِّيها " مول وجهه إليها ومستقبلها. وقال الطبري: " التولية في الآية للكل، ووُجدت للفظ " كل "، قال: " فمعنى الكلام: ولكل أهل ملة وجهة، الكل موليها وجوههم. قال: وأما قراءة ابن عامر فمعناه: هو موجَّه نحوها، ويكون الكل حينئذ غير مسمى فاعله، ولو سمي فاعله لكان الكلام: ولكل ذي ملة وجهة، الله موليها إياه بمعنى موجهه إليها. ورويت قراءة شاذة بإضافة " كل " إلى " وجهة "، وهي قراءة / لا تجوز لأنه لا فائدة في الكلام إذا لم يتم الخبر ". ولو ثَنيتَ على قراءة الجماعة لقلت: " هُمَا مُوَلِّياهَا "، وفي الجمع [هُمْ مَوَلُّوهَا]

وعلى قراءة ابن عباس / في التثنية " هُمَا مُوَلَّياهَا ". وفي الجمع [هُمْ مُوَلَّوْهَا]. فإن جئت بالمفعول الثاني في قراءة الجماعة، قلت في التثنية: " هُمَا [مُوَلِّياهَا هُمَا] وفي الجمع: " هُمْ مُوَلُّوهَا هُمْ ". ثم قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}. أي: بادروا إلى عمل الصالحات واستقبال ما أمركم الله D باستقباله وهو المسجد الحرام. ثم قال: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً}. أي: في أي مكان تكونون بعد موتكم يأت بكم الله جميعاً يوم القيامة. {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: على جمعكم بعد مماتكم وغير ذلك قدير. ثم قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} الآية. وقد تقدم شرحه ووقع التكرير للإفهام، ولئلا يصل ذلك إلى بعض دون بعض فكرر الله التأكيد ليصل إلى الجميع. ثم قال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. الناس هنا: مشركو العرب. والمعنى: عرفناكم أن لكل وجهة موليها لئلا

يكون لمشركي العرب حجة أي: خصومة / ودعوى باطل [إلا لمشركي] قريش فإن [لهم عليكم] دعوى باطلة وخصومة بغير حق لقولهم لكم: رجع [محمد إلى] قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا. هذا معنى قول مجاهد. وقال قتادة: " هم مشركوا العرب، قالوا لمشركي قريش حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم ". قال الله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني}. وعن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب النبي [عليه السلام] أنه لما صرفت القبلة نحو الكعبة قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلاً، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله فيهم: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني}. وهو قول عطاء والسدي وغيرهما. فهو على هذا التاويل استثناء صحيح،

وهو مذهب الطبري، قال: " نفى الله جل ذكره أن يكون لأحد من الناس حجة على النبي A وأصحابه في استقباله الكعبة إلا مشركي قريش فإن لهم قِبَلَكُم خصومةً باطلة بأن يقولوا: إنما توجهتم إلى قبلتنا لأنا كنا أهدى منكم سبيلاً وأنكم كنتم على ضلالة في استقبالكم بيت المقدس ". وقال بعض النحويين: " هو استثناء ليس من الأول، / و " إلا " بمعنى " لكن ". قال أبو عبيدة: / " " إلا " بمعنى الواو ". وهو قول بعيد من الصواب لأنه يفسد المعاني ويغير ما بني عليه الكلام. و " إلا " إذا كانت بمعنى " لكن "، فإنما هي إيجاب لشيء بعدما تؤكده. وقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني}. أي: لا تخشوا هؤلاء الذين سفهوا عليكم بالحجج الباطلة، واخشوا عقابي

إن خالفتم أمري. وهذا تحضيض من الله تعالى للمؤمنين على لزوم الصلاة إلى الكعبة وترك التوجه إلى غيرها. وقال السدي: " معناه: فلا تخشوا أن أردكم إلى دينهم ". ثم قال: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}. قال الأخفش: " هو معطوف على {لِئَلاَّ يَكُونَ} أي: لئلا يكون، ولأتم نعمتي عليكم. فالمعنى: / ولّوا وجوهكم حيث كنتم من الأرض إلى نحو المسجد الحرام كي لا يكون لأحد من الناس عليكم حجة سوى مشركي قريش، فإن لهم حجة باطلة، وكي أتم نعمتي عليكم بإتمام شرائح الملة الحنيفية. وقال ابن جبير: " {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}: " أي: ولأدخلكم الجنة ". قال: " ولن تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة ". وقال الزجاج: " اللام متعلقة بمحذوف والتقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتكم، وأنه لا حجة لأحد عليكم إلا الذين ظلموا فإنهم [سيحتجون

عليكم] بالباطل ". وقيل: التقدير: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير. وهو قول الأخفش المتقدم الذكر. ثم قال تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ}. تقديره: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا إليكم رسولاً منكم تالياً عليكم الكتاب ومطهراً لكم من الذنوب ومعلماً لكم ما لم تكونوا تعلمون. فكل ما بعد " رسول " نعوت له مكررة. وقال الزجاج: " الكاف متعلقة بما بعدها، أي: فاذكروني كما أرسلت فيكم رسولاً منكم ". وهذا قول مردود لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه؛ تقول: " كما أحسنتُ إليك فأكرمني ". فتكون الكاف من " كما " متعلقة بـ " أكرمني " إذ لا جواب له. فإن قلت: " كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك "، لم تتعلق الكاف من " كما " بـ " أكرمني " بأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر أو

بمضمر. فكذلك قوله: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ} / هو أمر له جواب، فلا [تتعلق " كما " به ولا] يحوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، نحو قولك: " إذا أتاك فلان فأته ترضه "، فتكون " كما " و " أذكركم " جوابين [للأمر. والأول أفصح] وأشهر. وقيل: هي متعلقة بقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} أي: " ولأتم نعمتي عليكم إتماماً كما أرسلنا ". وقيل: الكاف في موضع / نصب على الحال، أي: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال. وقيل: المعنى: ولأتم نعمتي عليكم بإتمام شرائع دين الحنيفية ملة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم تالياً عليكم آياتي، ومطهراً لكم ومعلماً لكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون. وكل ذلك بدعاء إبراهيم A [ في قوله]: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] وقوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة/ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [البقرة: 129].

فدل هذا المعنى على ان الكاف متعلقة بقوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فتلخيص المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم. ومعنى " يزكيكم " / يطهركم من دنس الذنوب. {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب} أي: القرآن، والحكمة والسنن والفقه في الدين. {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}. أي أخبار الأنبياء والأمم قبلكم، وما هو كائن من الأمور. ومعنى {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ}. قال ابن عباس: " إذا ذكر الله العبدُ وهو على طاعته ذكره برحمته، وإذا ذكره وهو على معصيته ذكره بلعنته ". وقال عكرمة: " يقول الرب: يا ابن آدم اذكرني بعد صلاة الصبح ساعة وبعد صلاة العصر ساعة، وأنا أكفيك ما بينهما ". وقال ابن جبير: " اذكروني بالطاعة أذكركم بالمغفرة ". وقال الربيع في الآية: " إن الله ذاكر من ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره ".

وكان بعضهم يتأوله من الذكر والثناء والمدح. وقيل: المعنى: اذكروني واذكروا نعمتي عليكم شكراً لها، أذكركم برحمتي والزيادة من النعمة. وقال السدي: " ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله جل وعز، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب ". والذكر فيما روي عن عمر Bهـ ذكران. أحدهما أفضل من الآخر وهما: / ذكر الله عند أوامره ونواهيه، وذكر الله بلسانه بالثناء عليه. فالأول أفضل، وكلاهما فيه فضل وأجر وثواب، إلا أن ذِكْر الله عند أمره ونهيه - فيفعل ما أمر به وينتهي عما نهى عنه - أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه. والفضل كله والشرف والأجر والثواب في اجتماعهما من الإنسان. وهو ألا ينسى ذكر الله عند أمره فيأتمر، وعند نهيه فينتهي، ولا ينساه من ذكره بلسانه. وكذلك الصبر صبران. وهما: الصبر على الطاعة وعن المعصية، / والصبر على المصيبة. والأول أفضل.

وقوله: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}. أي اشكروه على نعمة الإسلام والهدى ولا تجحدوا إحسانه إليكم ونعمه عندكم. والشكر معناه الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة. ومعنى الكفر التغطية للشي. ثم قال: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة}. هذه الآية حض من الله تعالى للمؤمنين على طاعته، واحتمال المكروه في الله D. فالمعنى: استعينوا على طاعة الله بالصبر والتسليم لأمره في جميع ما يأمركم به، واستعينوا على ذلك أيضاً بالصلاة لأن بها تتقربون إلى الله سبحانه، فيجيب دعاءكم ويقضي حوائجكم. قال قتادة: " احتجوا على رسول الله A في انصرافه إلى الكعبة: [وقالوا: سيرجع محمد] إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا بالصبر

والصلاة ". وقيل: الصبر هنا الصوم، لأنه يقطع عن اللذات. وقيل: الصبر هنا الصبر عن المعاصي. {إِنَّ الله مَعَ الصابرين}: أي: ناصرهم وراض بفعلهم يظهر دينه على سائر الأديان لأن من كان الله معه فهو الغالب. ثم قال / تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}. هذا يدل على أنه لا يقال للشهيد ميت، إنما يقال: شهيد وقتيل. فالمعنى: هم أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. قاله مجاهد. قال قتادة: " كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارَف في طير [خضر تأكل من ثمار] الجنة، وأن مساكنهم السدرة، وأن للمجاهد في سبيل الله D ثلاث خصلات: من قتل في سبيل الله D منهم صار حياً مرزوقاً، ومن غلب آتاه الله أجراً

عظيماً، / ومن مات رزقه الله رزقاً حسناً ". قال الربيع: " هم أحياء في صور طير خضر يطيرون في الجنة حيث شاءوا. منها يأكلون، من حيث شاءوا ". وقال عكرمة: " أرواح الشهداء في طير بيض في الجنة ". وروى ابن عباس عن النبي [ A] أنه قال: " الشُّهَدَاءُ عَلَى نَهْرٍ بِبَابِ الجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ ". ويُرْوى أنهم بباب الجنة في روضة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً. [فنهى الله المسلمين أن يسموهم] أمواتاً وأمرهم أن يسموهم شهداء.

وعن النبي [ A] أنه قال / في شهداء أحد: " هَؤُلاءِ الشُّهَدَاءُ، وَأَنَا عَلَيْهِمْ شَهِيدٌ، جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ في طَيْرٍ خضرٍ تَرْتَعُ فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ ". وقيل: المعنى: لا تقولوا: " هم أموات في دينهم، بل هم أحياء في دينهم ". والقول الأول عليه أهل العلم. ثم قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات}. أي: لنختبرنكم ولنمتحننكم بشدائد الأمور فيظهر من هو في الصبر والاحتساب على اتباع الرسول A باقٍ، ممن ينقلب على عقبيه كما ابْتَلَيْتُكُمْ بتحويل القبلة. وقد عدهم الله بذلك الامتحان في آية أخرى فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين / خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214] الآية إلى {قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. قال ابن عباس: " أخبر الله D المؤمنين أن الدنيا دار بلاء وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر وبشّرهم، فقال: {وَبَشِّرِ الصابرين}. وأخبر في الآية الأخرى أنه هكذا فعل بأوليائه قبلهم لتطيب أنفسهم فقال: {مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ} [البقرة: 214].

وقوله: {بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف}. يعني خوف العدو. {والجوع}: يعني القحط. ثم قال: {وَبَشِّرِ الصابرين}: أي: الصابرين على الامتحان، ثم بيّنهم فقال: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. أي نحن وأموالنا له، ونحن إليه راجعون. وقيل: معناه: ونحن مقرون بأن نبعث ونعطى الثواب على تصديقنا والصبر على ما ابتلينا به. ثم قال: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}. أي: مغفرة من ربهم. وقيل: ترحم من ربهم ورحمة. {وأولئك هُمُ المهتدون}. قال الليث في قوله: {إِنَّا للَّهِ} الآية " معناها: نحن والذي أصبنا به لله ونحن وإياه إلى الله راجعون ".

158

/ قال ابن جبير: " لم يعط هذه الآية أحد من الأمم قبلنا ولا نبي قبل نبينا. ولو علمها يعقوب عليه السلام لم يقل: {يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84]. وقال عكرمة: " انطفأ مصباح / النبي [عليه السلام] ليلة فقال: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. فَقِيلَ: يَا نَبِيَّ اللهِ: أَمُصِيبَةٌ هَذِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُلُّ شَيْءٍ آذَى المُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيبَةٌ، / وَلَهُ فِيهِ أَجْرُ المُصِيبَةِ ". وروي أن النبي [ A] قال: " مَا مِنْ أَحَدٍ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَاسْتَرْجَعَ إِلاَّ اسْتَوْجَبَ مِنَ الله ثَلاثَ خِصَالٍ؛ كُلُّ خَصْلَةٍ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ". قَال أبو عبيد: يعني قوله: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون}. قوله: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله}.

إلى قوله: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. الصفا والمروة جبلان متحاذيان بمكة معروفان، ولذلك دخلت الألف واللام فيهما للتعريف. وجمع الصَّفَا أَصْفَاء كَرَحَا وأَرْحَاء. ويجوز في جمعه: صُفِيٌّ وصِفِيٌّ، كَعَصَا وَعُصِيُّ وعِصِيٌّ. وجمع مَرْوَة مَرْو [كَتَمْرَةٍ وَثَمْرٍ]، وإن شئت مَرَوَاتٍ كَتَمَراتٍ. والصفا في اللغة الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً. والمروة الحصاة الصغيرة. وقوله: {مِن شَعَآئِرِ الله}. أي: من معالم الله التي جعلها لعباده مشعراً يعبدونه عندها إما بالدعاء وإما بالصلاة، وإما بأداء ما افترض عليهم من العمل عندهما. وقيل: شعائر الله من أعلام الله التي تدل على طاعته من موقف ومشعر ومذبح، والواحدة شعيرة من " شَعَرْتُ بِهِ ".

وكان مجاهد يرى أن الشعائر جمع شعيرة من إشعار الله تعالى عباده ما يجب عليهم من طاعته، قال: " أَشْعَرْتُهُ بِكَذَا "، أي: أعلمته به. وقال الطبري: " إنما أعلم الله عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنّها الله تعالى لهم، وأمر بها خليله إبراهيم A إذ سأله أن يريه مناسك الحج، وهو [خبر يراد به] الأمر لأن الله سبحانه قد أمر نبيه A والمؤمنين باتباع ملة إبراهيم. ثم قال: {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. هذه الآية نزلت في سبب أقوام من المؤمنين قالوا في سبب أصنام كانوا يطوفون بها في الجاهلية قبل الإسلام تعظيماً لها: كيف [نطوف بها، وقد] علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كانوا يعبدون من دون الله D / شرك بالله سبحانه؟ فلا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله D. فأنزل الله تعالى في ذلك {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} من أول الآية.

والجناح الإثم، مأخوذ من قولهم: " جَنَحَ عَلَيْه " إذا مال، و " جَنَحَ عَنِ الحَقّ " إذا مال عنه. ومنه سمي جناح الطائر لأنه مائل في ناحية، وقوله {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32]: معناه يدك لأنها في موضع الجناح. والهاء في (عَلَيْهِ) تعود على (مَنْ). و " من " تصلح للحاج أو المعتمر. قال السدي: " ليس عليه إثم، ولكن له أجر ". قال الشعبي: " كان على الصفا في الجاهلية صَنَم يسمى " إِسافٌ "، وعلى المروة وثن يسمى " نَائِلَةٌ "، فكانوا في الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوَثَنيْن. فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام امتنع المسلمون من الطواف بالصفا / والمروة لأجل الصنمين، فأنزل الله D { إِنَّ الصفا والمروة} الآية. وذُكر الصفا لأن الصنم / الذي كان عليه مذكر - يعني إسافاً - وأُنِثَ المروة

لأن الوثن التي كانت عليه مؤنثة - يعني نائلة -. وقال أنس بن مالك: " كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الجاهلية حتى نزلت هذه الآية ". وقال عروة: " قلت لعائشة Bها - وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله D: { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما أُرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما ". قالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت: " فلا جناح عليه ألا يطوف بهما " إنما نزلت هذه الآية في الأنصار؛ كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا [رسول الله] A عن ذلك فأنزل الله [جل ذكره]: {إِنَّ الصفا والمروة} الآية. وهو قول مجاهد وابن زيد.

وعن ابن عباس أنه قال: " كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة. فلما جاء الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله: لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شرك / كنا نضعه في الجاهلية، فأنزل الله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وقال قتادة: " كان حي تهامة في الجاهلية لا يسعون بين الصفا والمروة، فأخبرهم الله D أن الصفا والمروة من شعائر الله ". والحج في اللغة القصد. يقال: " حججت إليه " بمعنى قصدت / إليه. وقيل: الحج التكرر في الإتيان مرة بعد مرة. فمن أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج. فعلى هذا إنما قيل للحجاج حاج لإنه يتكرر إلى البيت وقت الدخول ووقت الإفاضة وفي غير ذلك. وقيل للمعتمر متعمر، لأنه إذا طاف انصرف بعد زيارته. فمعنى الاعتمار الزيارة، وكل من زار إنساناً فهو له معتمر، يقال: " اعْتَمرْتُ فُلاَناً "، أي: قصدته. والطواف بين الصفا والمروة عند مالك والشافعي فرض، فمن نسي ذلك رجع

وسعى، وإن بَعُد، فإن كان قد أصاب النساء، فعليه عمرة وهدي مع تمام سعيه إذا رجع. ومذهب الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف أن يجزيه دم إن نسي السعي بينهما، ولا عودة عليه إلا أن يشاء ذلك. وقال عطاء: " هو تطوع ولا شيء عليه إذا نسي ذلك ". واحتج بأن في قراءة ابن عباس: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وكذلك هي في مصحف ابن مسعود. وكذلك روي عن أنس بن مالك أنه قال: " هو تطوع ". وروي ذلك عن مجاهد.

والعمل على القول الأول لإجماع المصاحف المعمول عليها، المجتمع على ما فيها من إسقاط " لا " منها كلها. وإيجابها عن ابن عباس أشهر وأوضح. والإسناد عن أنس ضعيف. وجميع من قرأ على مجاهد من الأئمة المشهورين لم ينقل عنه إلا بغير " لا ". وقد روى جابر عن النبي [ A] أنه: " لَمّا دَنَا مِنَ الصَّفَا فِي حَجَّتِهِ قَالَ: " إنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ "، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ ". ثم قال: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. أي: شاكر له على تطوعه، عليم بما تطوع. وقال ابن زيد: " معناه: فمن تطوع خيراً فاعتمر، فإن الله شاكر عليم، والعمرة / تطوع، والحج فرض ". ثم قال: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى}.

يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى كتموا أمر محمد A ونبوته وتركوا اتباعه مع كونه مذكوراً عندهم في التوراة والإنجيل موصوفاً. وذكر عن ابن عباس أن معاذ بن جبل سأل بعض أحبار اليهود عن ما في التوراة من ذكر النبي عليه السلام فكتموه إياه، فأنزل الله A: { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ}. إلى: {اللاعنون}. وهو قول مجاهد. وقال قتادة: " هم أهل الكتاب كتموا الإسلام، وهو دين الله سبحانه وكتموا محمداً وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ". / وقوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب}. يعني بالكتاب هنا: التوراة والإنجيل. وهذه الآية وإن كانت خاصة لبعض الناس فإنها عامة لكل من سئل عن علم يعلمه فكتمه. وقال النبي [ A] " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجَامٍ

مِنَ النَّارِ ". ثم قال: {أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}. أي: أولئك الذين كتموا أمر محمد A يلعنهم الله D بكتمانهم، أي: يبعدهم الله من رحمته ويطردهم. وقوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}. قيل: معناه: ويسأل ربَّهم اللاعنون أن يلعنهم لأن كل لاعن إنما يقول: " اللهم العن هذا ". وقيل: اللاعنون البهائم؛ إذا أسْنَتَتِ السَّنَةُ، قالت البهائم: " هذا من أجل عصاة بني آدم، لعن الله عصاة بني آدم ". وقال عكرمة: " يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقارب / يقولون: منعنا

القطر بذنوب بني آدم ". وإنما جُمِعَ جَمْعَ السلامة على هذا القول، وهو ما لا يعقل لأنه لما أخبر عنهم بمثل ما يخبر عن بني آدم جمعهم كما يجمع بني آدم. وقال قتادة: " اللاعنون هنا: " الملائكة والمؤمنون ". وقاله الربيع. قال مقاتل " اللاعنون كل ما على وجه الأرض إلا الثقلين: الجن والإنس، وذلك أن الكافر إذا أدخل قبره ضربته / الملائكة بمقمعة حين تقول له: من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيصيح صيحة يسمعها كل ما على وجه الأرض من غير الجن والإنس، فلا تَقِر تلك الصيحة في سمع شيء إلا لعنه ". قال مجاهد: " اللاعنون البهائم ". ولما وصفت باللعنة: جاز جمعها بالواو والنون، وإن كانت لا تعقل. وله نظائر كثيرة. وقيل: / اللاعنون الملائكة الذين يسوقون أهل الكفر إلى النار. والهاء في {خَالِدِينَ فِيهَا} تعود على اللعنة.

واللعن أصله الطرد والبعد من الرحمة. قال مقاتل: " اللعنة النار ". وحسن ذلك عنده لما كانت عاقبة اللعنة المصير إلى النار. وقال السدي: " اللاعنون ما عدا بني آدم والجن ". وروي عن البراء بن عازب: " أن الكافر إذا وضع في قبره أتته دابة كأن عينيها قدران من نحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شيء إلا سمع صوته إلا الثقلين: الجن والإنس ". / وهو قول الضحاك. ويروى عن ابن مسعود أنه قال: " اللاعنون: الاثنان إذا تلاعنا ألحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود ". وقيل: هذه اللعنة إنما تكون يوم / القيامة كما قال تعالى:

{وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]. ثم قال تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ}. أي تابوا من الكفر وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين الله D، وبيّنوا للناس أمر النبي A الذي هو عندهم في كتابهم موصوف. وقيل: المعنى: وبيّنوا التوبة بإخلاص العمل. ثم قال: {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}: أي: أقبل توبتهم. {وَأَنَا التَّوَّابُ}: أي على من تاب. {الرَّحِيمُ} أي رحيم بالخلق أن أعذبهم بعد توبتهم من كفرهم. ثم قال: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله}. أي: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته. {والملائكة}: أي ولعنة الملائكة.

{والناس}: يعني قول الناس: {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله}. وعني بالناس أجمعين هنا المؤمنون خاصة. قاله قتادة والربيع. وعن أبي العالية أن ذلك يكون يوم القيامة، قال: " إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون ". وهو اختيار الطبري واحتج بقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18]. وقال السدي في قوله: {والناس أَجْمَعِينَ}: " أنه لا يتلاعن إثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: " لعن الله الظالم " إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنه ظالم، فكل واحد من الخلق يلعنه ". ثم قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}. أي: خالدين في جهنم باللعنة، لا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ولا هم ينظرون لمعتذرة يعتذرون بها كما قال: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36].

قاله أبو العالية. [و] إنما جاء لفظ {والناس أَجْمَعِينَ} بلفظ العموم، وقد علم أن أهل دينهم لا يلعنونهم لأنهم وإن كانوا لا يقصدون باللعنة أهل دينهم فلا بد لهم أن يقولوا: " لعن الله الظالم " أو " الظالمين " فيدخل في ذلك كل كافر كائناً من كان. ثم قال: {وإلهكم إله وَاحِدٌ}. أي: معبودكم أيها الناس واحد، لا معبود غيره يستحق العبادة. {الرحمن الرحيم} / أي: الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بأوليائه. ومعنى " واحد " في صفته ونعته وأنه لا شبيه له ولا نظير. وليس معناه واحداً في العدد لأن كل مفرد من المخلوقات واحد في العدد، فالمعنى أنه من فرد واحد في الألوهية والقدرة والصفات [لا ثاني] له. ثم قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} الآية. هذه الآية فيها تنبيه من الله D لخلقه على قدرته ونعمه. والآية دالة على

توحيده المقدم ذكره في الآية الأولى. والمعنى: إن في رتبة هذه الأشياء وحدوثها وإحكام صنعتها لعلامات بينة، ودلالة واضحة على توحيد خالقها وإيجاب العبادة له دون غيره لقوم يعقلون. وروي أن قوله: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} الآية، لما نزلت، قال المشركون: " ما البرهان على ذلك ونحن ننكر ذلك، ونزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية، احتجاجاً عليهم فيما ادّعوا. هذا قول عطاء. والمعنى بهذه القدرة والآيات تعلمون أن الإله إله واحد لا تجب العبادة إلا له. وقال أبو الضحى: " لما نزلت: {وإلهكم إله وَاحِدٌ} الآية، قال المشركون: إن كان هذه هكذا، فليأتنا بآية. فأنزل الله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية. وروى ابن جبير " أن قريشاً سألت / اليهود عما جاءهم به موسى / من الآيات

165

/ فحدثوهم بالعصا وبيده بيضاء، وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى A من الآيات، فحدثوهم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش للنبي A: " ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزداد يقيناً ونتقوى به على / عدونا ". فسأل النبي A ربّه، فأوحى الله D إليه: " إني أعطيهم أن أجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كذبوا بعد، عذبتهم عذاباً لم أعذبه أحداً من العالمين ". فقال النبي A: " دَعْنِي وَقَوْمِي فَأَدْعُوهُم يَوْماً بِيَوْمٍ فَأَنْزَلَ الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} " الآية. أي: إن في ذلك لآية لهم إن كانوا يريدون أن أجعل لهم آية. وقاله السدي وغيره. قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً} إلى قوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. أي: ومن الناس من يعبد آلهة / وأصناماً من دون الله، يحبون الأصنام كحبهم لله. أي يُسوّون بين الله وبين الأصنام في المحبة، والمؤمنون أشد حباً لله من الكفار لآلهتهم. وجاءت الهاء والميم للأصنام وهي لا تعقل لأنها كانت عندهم ممن يعقل ويفهم، فخوطبوا على ما كان في ظنهم فأجريت مجرى من يعقل بالهاء والميم.

قال ابن مسعود: " قال رسول الله [عليه السلام]: " مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لله نِداً، أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ "، وأنا أقول: " من مات لا يجعل لله نداً، أدخله الله الجنة ". وقيل: المعنى: يحبون الأصنام كحبكم أنتم الله، وأنتم أشد حباً لله من الكفار لآلهتهم. وقيل: جاء ضمير الأصنام بالهاء والميم، وهي لا تعقل لأنهم لما عبدوها أنزلوها منزلة من يعقل. وقال السدي: " الأنداد هنا ساداتهم الذين كانوا يطيعونهم كما يطيعون الله. ثم قال: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب}. أي: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وظلموا أنفسهم حين يرون عذاب الله لرأيت أمراً عظيماً، ولعلمت أن القوة لله جميعاً.

فجواب " لو " محذوف، وفتح " أن " على تقدير فعل محذوف وهو جواب " لو ". وقيل: إن " أنْ " فتحت بـ " تَرَى ". وهو قول المبرد والأخفش. و" ترى " بمعنى تعلم، التقدير: " ولو يعلم الذين ظلموا جميعاً لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة دون الله ". وهذا إنما يكون على قراءة من قرأ بالياء. وقيل: معنى: " ترى " تنظر، وأن التقدير: ولو تنظر يا محمد الذين ظلموا حين يرون العذاب لأقروا أن القوة لله. وقيل: فتحت " إن " على تقدير اللام أي: لأن القوة لله، والجواب أيضاً محذوف تقديره: لعلموا مبلغ عذاب الله ونحوه. ومن كسر " إِنّ " كسرها على الابتداء، وجواب " لو " محذوف أيضاً.

وقيل: إنَّ كسرَها على إضمار القول أي: " يَقولونَ: إِنَّ القُوَّةَ للهِ ". ثم قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا}. والمعنى: وإِن الله شديد العذاب حين تبرأ الذين اتُّبعوا - وهم سادات الكفار وأهل الرأي منهم الجبابرة - من الذين اتَّبعوا - وهم أتباع السادات. {وَرَأَوُاْ العذاب}: أي: ورأى الجميع / عذاب الله وذلك كله في القيامة. {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب}. يعني القرابات التي كانت بينهم في الدنيا والصداقات فلم ينتفعوا. هذا قول قتادة وعطاء والربيع. والهاء في " بِهِمْ " ترجع على التابعين والمتبوعين. وكذلك الهاء في " يُرِيهِمْ " و " أعْمالِهمْ ". وقال السدي: " الذين اتبعوا هم / الشياطين تبرأُوا في القيامة ممن اتبعهم من الإنس ". وقيل: الآية عامة في كل من اتبع على شرك تبرأوا في الآخرة ممن اتبعهم. قال مجاهد: " الأسباب: الوصايل والمودة ". وقاله ابن عباس.

قال قتادة: " صارت مواصلتهم في الدنيا عداوة يوم القيامة ". قال تعالى ذكره: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]. وقال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67]. وعن ابن عباس أيضاً: " أن الأسباب هي المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا ". وعنه أيضاً: " الأسباب: الأرحام ". وقال السدي: " الأسباب الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا ". وقاله ابن زيد. {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب}: أعمال أهل التقوى. وقيل: أعطوا [أسباب أعمالهم السيئة، وتقطعت بهم أسباب] أعمال أهل التقوى. وأصل " السبب " الحبل يتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا

بالتعلق، ثم يقال لكل ما هو سبب إلى حاجة: سبب وإن لم يكن حبلاً. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}. أي: وقال الأتباع: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا فنبرأ من هؤلاء القادة الجبابرة الذين اتبعناهم في الدنيا على الشرك كما تبرأوا منا الآن. ثم قال {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} /. أي: كما أراهم الله العذاب وتبرأ بعضهم من بعض كذلك يريهم / أعمالهم حسرات عليهم: أي ندامات. والمعنى: كذلك يريهم الله عذاب أعمالهم السيئة ليتحسروا على عملها. قاله الربيع وابن زيد. وهو اختيار الطبري. وقيل: المعنى: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم التي افترضها الله عليهم في / الدنيا فضيعوها، ولم يعملوا بها ليتحسروا على تركها. قال السدي: " يرفع الله لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله، ثم تقسم بين المؤمنين فيريهم الله

ذلك، فذلك حين يندمون ". وقال ابن مسعود: " ليس من نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة؛ فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة فيقال لهم: لو عملتم، فتأخذهم الحسرة. ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال لهم: لولا أن الله مَنَّ عليكم ". فالمعنى على هذا: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم التي كانت / تلزمهم في الدنيا فتركوها وضيعوها حسرات عليهم. والحسرة في اللغة: أشد الندامة. ثم قال: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}. أي: ليسوا يخرجون من النار أبداً، يعني به القوم الذين تقدمت صفتهم وتبرأ بعضهم من بعض، وتمنى بعضهم الرجعة إلى الدنيا. وهذه الآية تدل على فساد قول من زعم أن عذاب الله D للكفار له نهاية. وقوله: {يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً}. أي: كلوا مما أحل الله لكم من الأطعمة على لسان محمد A.

قوله: / {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}. قال ابن عباس: " خطواته: عمله ". وقال مجاهد: " خطاياه ". وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد. أي: خطاياه التي يأمر بها ويدعو إليها. وقال السدي: " خطوات الشيطان: طاعته ". وقال أبو مجلز: " هي النذور في المعاصي ". قوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}. أي: ظاهر العداوة، فالمعنى: النهي عن اتباع ما يدعو إليه الشيطان مما هو خلاف لطاعة الله D. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسوء}. أي بما يسوؤكم، ولا تسركم عاقبته. {والفحشآء}: أي: ما فحش ذكره مثل الزنا والكفر.

170

قال السدي: " السوء: المعصية، والفحشاء: الزنا ". ثم قال تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. أي ويأمركم أن تقولوا ذلك، وهو تحريم البحائر والسوائب والوصائل والحوام التي كانت أهل الجاهلية تحرمه، ولم يأمر الله بذلك. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله}. إلى قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. الهاء والميم في " لهُمُ " تعودان على " من " في قوله {مَن يَتَّخِذُ}. وقيل: تعودان على " الناس " من قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ}. وهو اختيار الطبري. وذكر ابن عباس أن النبي [عليه السلام] دعا نفراً من اليهود إلى الإسلام، ورغبهم وحذرهم عذاب الله. فقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} أي: وجدنا.

فأنزل الله D في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا} الآية. والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتبعوا ما أنزل الله؛ أي: اتبعوا ما حرم الله عليكم فحرموه وما [أحل الله] لكم فحللوه، ولا تحدثوا تحريم ما أحل الله لكم مثل البحائر والوصايل والسوائب والحوام التي قد حرمتم من عند أنفسكم، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأبوا إلا الكفر واتباع الكفر. قال الله تعالى: / {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}. أي: لا يعقلون شيئاً من الدين، ولا يهتدون إلى شيء من الخير تتبعونهم. فالمعنى: كيف تتركون ما أمركم به الله D وتتبعون طريق من لا يهتدي للحق ولا يعقل الخير. ثم قال: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ}. أي: مثل الكافر في قلة فهمه لما يتلى عليه من عند الله D وما يدعى إليه ويوعظ به، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها، ولا تعقل ما يقال لها. قال عكرمة: " معناه: مثلهم كمثل البعير أو الحمار تدعوه فيسمع الصوت، ولا

يفقه ما تقول له ". قال ابن عباس: " معناه: مثل الكافر كمثل البعير أو الحمار أو الشاة، إذا قلت لبعضها: كُلْ، لم تعلم ما تقول، غير أنها تسمع الصوت. كذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك ". قال مجاهد: " هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر يسمع / ما يقال له، ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النهيق ولا تعقل ". وعلى هذا المعنى فسره كل المفسرين. وقوله: / {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً}. أي: لا تعقل البهيمة ما يقال لها، إنما تسمع دعاء ونداء، كذلك الكافر. والذي ينعق هو الراعي للغنم، فكما أن الغنم تسمع صوت الراعي إذا دعا بها ولا تفقهه، كذلك الكفار يسمعون ما يقول / لهم محمد A وما

يدعوهم إليه ولا يفهمونه ولذلك قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}. أي: حالهم حال الأصم الأبكم الأعمى، إذ لا ينتفعون بذلك فيما يدعون إليه. فالمعنى: صم عن سماع الحق [بكم عن قول الحق، عمي عن النظر إلى الحق]. وإنما قدم " صُمّ " في هذا الموضع وفي أول السورة على ما بعده لأنه أشد بلاء مما بعده لأنه يذهب به السمع والعقل. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] فذكر ذهاب السمع [مع الصّمّ]، وذكر بعده ذهاب البصر مع العمي لا غير. وعن ابن عباس أن التقدير: " مثل وعظ الذين كفروا وواعظهم، كمثل الناعق بالغنم، والمنعوق بهم ". فأضيف المثل إلى الذين كفروا، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام عليه. وقيل: التقدير: ومثل الذين كفروا في تخلف فهمهم عن الله D ورسوله / كمثل / المنعوق بهم من البهائم.

وقال ابن زيد: " معنى الآية: مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع ويجيبه بما لا نفع فيه ولا حقيقة ". وقيل: المعنى: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وهي لا تفهم عنهم، كمثل الناعق بالغنم ينعق بما لا يفهم عنه قوله. فكما لا ينتفع الناعق بالغنم بأن تفهم عنه، كذلك الكافر مع آلهته. قال سيبويه: " تقديره: " مثلكم ومثل [الذين] كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. قال: فلم يشبهوا بما ينعق، إنما شبهوا بالمنعوق به ". وكذا قال أبو عبيدة. وقال قطرب: " معناها: مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يعقل ولا يسمع، كمثل الراعي إذا [نعق بغنمه، وهو أن يصوت] بها، وهو لا يدري أين هي ". وهذه الآية عند الطبري نزلت في اليهود. وهو قول عطاء. ومعنى

ينعق: يصوت. ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. أي من حلال الرزق الذي أحله الله لكم، وذروا ما حرم عليكم. {واشكروا للَّهِ}. أي: اثنوا عليه بما هو أهله على نعمه عندكم. {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}: أي: إن كنتم منقادين لأمره سامعين له مطيعين. ثم قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله}. أي: لم يحرم عليكم شيئاً مما حرمتموه على أنفسكم من البحائر والوصائل والسوائب والحوام التي حرمتموها على أنفسكم، إنما حرم عليكم أكل لحم الميتة ولحم الخنزير وأكل الدم وأكل ما ذبح لغير الله مثل ما يذبح للأصنام والأوثان، وما ترك ذكر اسم الله عليه متعمداً، فإنْ تَرَكَه ناسياً فلا شيء عليه. وهذا المحرم لفظه عام وفيه تخصيص لأن الميتة من الجراد وصيد البحر والدم المخالط للحم الذي هو غير جار وما نسي عليه التسمية كله حلال أكله.

ومعنى: {وَمَآ أُهِلَّ}: ما ذبح لغير الله، يعني للأصنام. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. ف " ما " للأصنام. . . وقيل: هي للذبائح، للأصنام. وقيل: للصياح؛ النداءُ الذي ينادى به لغير الله على الذبائح. وأصل الإهلال رفع الصوت. وقيل: المعنى ما ذكر عليه غير اسم الله. ثم قال: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}. أي / فمن لحقته ضرورة من جوع وجهد وخوف على نفسه من الهلاك، {غَيْرَ بَاغٍ} على المسلمين، ولا متعمد للأكل، {وَلاَ عَادٍ}، أي متعد على الناس. وقيل: {وَلاَ عَادٍ} معناه: ولا عائد لأكْلة أخرى لغير ضرورة فيكون / من المقلوب، أخرت الياء فصار كقاض. قوله: {فلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. أي: لا حرج عليه في أكل ما يرد به روحه.

وقيل: " معناه: من أكره على أكل شيء من هذا المحرم فلا إثم عليه إنْ أكَله مكرهاً ". قاله مجاهد. وقال ابن عباس: " من أكل شيئاً من هذا وهو مضطر فلا حرج عليه، ومن أكله غير مضطر فقد بغى واعتدى ". قال ابن جبير في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}، قال: " هو أن يقطع الطريق فلا رخصة له إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشرب الخمر ". وهو قول قتادة وعكرمة. وقال ابن زيد: " لا يأكل ذلك بغياً ولا تعدياً من الحلال إلى الحرام ". وقال النخعي: " غير باغ على المسلمين ". / قال مجاهد: {وَلاَ عَادٍ}: ولا متعد عليهم: من خرج يقطع السبل ويقطع الرحم فلا يحل له شيء من ذلك وإن اضطر ". فذهب إلى أن الباغي قاطع الطريق. والعادي قاطع الرحم.

قال الحسن: " غير باغ فيها، ولا متعد فيها يأكلها، وهو عنها غني ". وقيل: المعنى: غير باغ ما حرم الله، ولا عاد. وله في تركها وجه. وأجاز بكر القاضي لقاطع الطريق أن يأكل منها إذا اضطر، لأن قتله لنفسه معصية أخرى / فلا يأمره بها. قال مسروق: " ومن اضطر إلى الميتة فأبى أن يأكل حتى مات، دخل النار ". وقال مالك: " من اضطُر، أَكَل شِبَعه منها ".

174

وقال غيره: " إنما يأكل منها ما يقيم به الرمق ". وقيل: {غَيْرَ بَاغٍ}: غير خارج على المسلمين بسيفه باغياً عليهم ولا عادياً عليهم بحرب ظلماً. {فلا إِثْمَ} أي: فلا حرج، إن الله غفور رحيم. قوله: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب}. [إلى قوله: {المتقون}. هذه الآية عند قتادة وغيره نزلت في أهل الكتاب. كتموا ما أنزل الله D في كتابهم من أمر محمد A. قال ابن عباس: " هم اليهود كتموا اسم محمد A وأخذوا عليه طمعاً قليلاً ". وهو قول السدي والربيع. وقال عكرمة في هذه الآية وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77]: نزلت جميعاً في يهود ".

قال ابن مسعود: / " قال النبي A: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْطَعُ بِها مالاً لَقِيَ اللهَ، وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانٌ " وتصديقه في كتاب الله D: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}. ومعنى {يَشْتَرُونَ} يبتاعون به. والهاء في: " به " تعود على الكتمان، أي: وابتاعوا بكتمانهم ما أنزل الله D في كتابهم / من ذكر محمد A. { ثَمَناً قَلِيلاً}: أي: أخذوا عليه طمعاً قليلاً، أي: أخذوا الرشوة وكتموا ما أنزل الله D وبدلوه وحرفوه. ثم قال تعالى: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار}. أي: ما يأكلون في بطونهم من الرشا إلا ما يؤديهم إلى النار، ومثله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] أي: ما يوردهم النار. فاستغنى في الآيتين بذكر

النار لفهم السامعين المعنى لأنه لما كان ما يأكلون من الطيبات بالرشا يوردهم النار كانوا كأنهم يأكلون النار. وإنما قال {فِي بُطُونِهِمْ}، وقد علم أن الأكل لا يكون إلا في البطن لأن العرب تقول: " جُعْتُ فِي غَيْرِ بَطْنِي " و " شَبِعْتُ في غَيْرِ بَطْنِي ". فقيل في الآية: {فِي بُطُونِهِمْ} / للفرق والتأكيد. وقوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة}. أي: لا يكلمهم بما يحبون ولا بما يشتهون، ويكلمهم بما يكرهون لأنه قد أخبر بأنه يقول لهم {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وقيل: معنى {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ}: يغضب عليهم. يقال: " فُلانٌ لا يُكَلِّمُ فُلاناً " إذا غضب عليه. وقيل: المعنى: لا يسمعهم كلامه لأن الأبرار يسمعون كلامه. وقيل: معناه: لا يرسل لهم الملائكة بالتحية. وقوله: {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ}: أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي موجع. ثم قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}.

أي: أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يوجب لهم عفوه. فاستغنى بذكر العذاب والمغفرة عن ذكر السبب الذي يوجبهما لفهم سامعي ذلك. ثم قال تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}. قال ابن عباس: " معناه: ما الذي صبرهم على النار ". وقال أبو عبيدة: " معناه: ما الذي أصبرهم على النار، ودعاهم إليها، وليس بتعجب ". وهو قول السدي. فَ " ما " استفهام في القولين جميعاً. وقال مجاهد والحسن وقتادة: " هو تعجب ". ومعنى التعجب في هذا أن الله جل ذكره يعجب خلقه منهم، ومن جرأتهم على عمل يوردهم النار. وقال مجاهد: " معناه: / ما أعملهم بأعمال أهل النار ". أي: ما أشد جرأتهم

على عمل يوجب لهم النار. وقيل: معناه: ما أبقاهم في عذاب الله. وقيل: معناه: ما أصبرهم على الأعمال التي توجب لهم النار. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق}. أي: بالواجب. وحيثما ذكر الحق فمعناه الواجب. أي: ذلك فعلهم، لأن الله نزل الكتاب بالحق. وقيل: المعنى: ذلك العذاب المذكور لهم، لأن الله نزل الكتاب بالحق. فَ " ذلك " في موضع رفع في القولين. وقيل: المعنى: فعلنا ذلك لأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به، فَ " ذَلِكَ " في موضع نصب في هذا القول. ثم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. يعني به اليهود والنصارى؛ اختلفوا في الكتاب فكفرت اليهود بما قص الله فيه من قصص عيسى A وأمه، وصدقت النصارى ببعض ذلك. [و] كفروا جميعاً بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق / محمد A.

/ والمعنى: [وإنهم لفي] منازعة ومباعدة للحق، بعيدة مِنَ الصواب والرشد. قال السدي: " {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}: لفي عداوة بعيدة ". ثم قال تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب}. أي: ليس البر الصلاة وحدها، ولكن البر الجمع لفعل هذه الخلال المذكورة بعده. قال ابن عباس: " هذا حين نزلت الفرائض وحدت الحدود ". وقاله الضحاك وغيره. وهو اختيار الطبري، وهو قول الربيع بن أنس. وقال قتادة: " كانت اليهود / تصلي قبل المغرب، والنصارى تصلي قبل المشرق، فأعلموا أن البر ليس هو كله ما يصنعون، ولكن البر عمل هذه الخصال التي بيَّنها بعد ". وقد قيل: إن هذه الآية خصوص في الأنبياء وحدهم صلوات الله عليهم، لأن هذه الأشياء التي وصفت في الآية لا يؤديها بكليتها على حق الواجب فيها إلا

الأنبياء صلوات الله عليهم، ولكن الله قد أمر جميع الخلق بالعمل بجميع ما فيها. وقوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ}. أي: على محبته إياه وشحه عليه. فالهاء في " حبه " تعود على المؤمن، أي: على حبه إياه، يعني المال. وقيل: هي راجعة على المال، أي: على حب الرجل المال. فأضيف الحب إلى المال فهو المفعول به. كما تقول: " أَعجبني أكلُ الخبز وشربُ الماء "، أي: أكلُ الرجلِ الخبزَ وشربُ الرجلِ الماءَ. وقيل: الهاء ترجع على الإيتاء، ودل عليه: " وَآتَى "، والتقدير: على حب الإيتاء أي: على حب الرجل الإيتاء. وقيل: / الهاء تعود على المؤمن، وتنصب " ذَوِي الْقُرْبَى " في هذا الوجه بالحب، أي: على حب المؤمن ذوي القربى. وتنصب " ذَوِي " في الوجوه المتقدمة بـ " آتَى ".

وقيل: الهاء ترجع على الله جل ذكره؛ أي: على حُبِّ / الله "، وتنصب ذوي بـ " آتَى ". قال ابن مسعود: " هُوَ أنْ يُؤْتِيَهُ وَهُوَ صَحيحٌ شَحِيحٌ يَأْمَلُ العَيْشَ وَيَخَافُ الْفَقْرَ ". ورواه ابن مسعود عن النبي [عليه السلام]. وروي عنه A أنه قال: " فِي المالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكاةِ " وتلا هذه الآية. قوله تعالى: {ذَوِي القربى}: أي ذوي الأرحام. وسئل النبي [عليه السلام] عن أفضل الصدقة فقال: " جُهْدُ المُقِلِّ عَلَى ذِي القَرَابَةِ الكاشِحِ ".

وقوله: {وابن السبيل}. قال قتادة: " هو الضيف ". وقيل: " هو المسلم يمر عليك من بلد إلى بلد ". قاله مجاهد وقتادة. وقيل للمسافر: " ابن السبيل "، لملازمته السبيل وهي الطريق، كما يقال لطير الماء: ابن الماء لملازمته الماء. ويقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: هو ابن الأيام والليالي. وعلى هذا يُتأول حديث النبي [عليه السلام] في قوله: " لا يَدْخُلْ الجَنَّةَ وَلَدُ زِنا "، معناه اللازم للزنا، جعل ابن زنا لملازمته له، كما قيل: ابن السبيل، وابن ماء، وابن الأيام. وقوله: {والسآئلين}. يعني به المعترضين الطالبين للصدقة. وقوله: {وَفِي الرقاب}.

يعني: يعان به المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودية. وقوله: {وَأَقَامَ الصلاة}. أي: أدام العمل بها بحدودها في أوقاتها. قوله: {وَآتَى الزكاة}. أي أعطاها على ما فرضها الله تعالى عليه. وقوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ}. رفعت {والموفون} على العطف على " مَنْ " في قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ}، أي: " ولكن البارُّ من آمن " على قراءة من خفف أو شدد. وبعده: {والصابرين} هو نصب على المدح. وقيل: {والموفون} رفع على إضمار مبتدأ " وهم الموفون "، تجعله مدحاً للمضمرين داخلاً في صلة " من ". وتنصب " الصابرينَ " على العطف على {ذَوِي القربى} أو على " أعني ". وأجاز الكسائي رفع {والموفون} / على العطف على " مَنْ " في قوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ}

على ما تقدم. وتنصب {والصابرين} على العطف على {ذَوِي القربى}. وهو خطأ لأنه يفرق بين الصلة والموصول، فيعطف على الموصول، ثم / يعطف بعده على ما في الصلة، فيفرق بين الصلة وهي: {والصابرين} والموصول وهو: " مَنْ "، بِ " المُوفُونَ ": وليس بداخل في الصلة. إنما هو معطوف على الموصول. وقيل: إن " المُوفُونَ " عطف على المضمر في " آمَنَ "، و " الصَّابِرِينَ " عطف على " ذَوِي القُرْبَى " أو على " أَعْنِي " على المدح. وقيل: إن " الصَّابِرِينَ " عطف على " السَّائِلِينَ "، ومعنى الكلام: والذين لا ينقضون عهد [الله] بعد المعاهدة، ولكن يوفون به.

وقوله: {والصابرين فِي البأسآء والضرآء}. أصل الصبر الحبس عن الشيء. فالمعنى: والحابسين أنفسهم عن ما يكرهه الله D في البأساء وفي الفقر، والضراء وهي السقم. قاله ابن مسعود. وعنه: " أن البأساء: الجوع، والضراء: المرض ". وعنه: " البأساء: الحاجة ". وقال قتادة: " كنا نحدث أن البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم " / وهو قول الربيع. وقال قتادة أيضاً: " البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد ". قال الضحاك: " البأساء: الفقر، والضراء: المرض ". وقوله: {وَحِينَ البأس}.

قال ابن مسعود: " وحين القتال ". والضُّراء - بالضم - في اللغة الزمانة والمرض. والضَّراء بالفتح ضد النفع. و " البأْساءُ " و " الضَّرَّاءُ " جاءا على " فَعْلاءَ " وليس لهما " أفْعَلُ " لأنه اسم وليس بصفة، كما جاء " أَفْعَلُ " في الكلام وليس له " فَعْلاءُ " نحو " أَحْمَدَ ". وقد قالوا في الصفة: " أَفعَلَ "، ولم يأت منه " فَعْلاءُ "؛ قالوا: " أنْتَ مِنْ ذَلِكَ أوْجَلُ "، ولم يقولوا: " وَجْلاءَ ". وقد قيل: البأساء والضراء اسمان للفعل بمعنى المصدر، فهما بمعنى البؤس والضر، يقعان " لمؤنث ولمذكر ". ثم قال: {أولئك الذين صَدَقُواْ}. أي: صدقوا الله في إيمانهم به وحققوا قولهم بفعلهم، لا مَن ولى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف أمره ويكتم وحيه ويُكذِّب رسله.

178

ثم قال: {وأولئك هُمُ المتقون}. أي هم الذين اتقوا عقاب الله، فتجنبوا معاصيه، ولم يتعدوا حدوده. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى}. إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. معناه: فرض عليكم القصاص في قتلاكم. ف " كتب " بمعنى " فرض "، ومنه قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} [النساء: 77] أي: فرضته. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. ويكون " كَتَبَ " بمعنى " قَضَى ". من قوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51]. / أي: قضى علينا. ويكون " كتب " بمعنى جعل كقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22]. وكقوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53]. و {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. ويكون " كَتَبَ " بمعنى " أَمَرَ " كقوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]. والمعنى: فرض عليكم أن تقتصوا ممن قتل أولياءكم إن شئتم ذلك، وليس

القصاص بفرض عليهم، إنما هو مباح لهم، وإن شاء الولي عفا وإن شاء أخذ الدية. قال ابن عباس: " كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، ثم بين تعالى كيف القصاص، فقال: {الحر / بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}، أي: يقتل هذا بهذا. ولا يقتل حر في عبد عند مالك والشافعي. وهذه الآية عند ابن عباس / منسوخة بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المادة: 45]، لأن آية البقرة توجب ألا تقتل امرأة قتلت رجلاً، ولا رجل قتل امرأة، ولا عبد قتل حراً، وآية المائدة توجب قتل النفس بالنفس، فيلزم منها يقتل الحر بالعبد. لكن فيها تخصيص. قال ابن عباس: " كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فأنزل الله {النفس بالنفس} فجعل الله الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد، - رجالَهم ونساءَهم - في النفس وفيما دون النفس ".

وتأول أبو عبيد على ابن عباس أن مذهبه: أن آية المائدة ليست بناسخة لآية البقرة، وكأن آية المائدة مفسرة لآية البقرة، فبينت آية المائدة أن أنفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكوراً كانوا أو إناثاً، وأن أنفس المماليك متساوية أيضاً فيما بينهم وأنه لا قصاص للمماليك على الأحرار، فالآيتان محكمتان عنده إحداهما مبينة للأخرى مفسرة لها. وقال الشعبي: " نزلت آية البقرة في قوم اقتتلوا فقتل بينهم خلق كثير، فقالت الغالبة العزيزة من القبيلتين المتقاتلتين: " لا نقتل بالعبد منا إلا الحر منهم ولا بالأنثى منا إلا الذكر منهم " فأنزل الله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}. وقال السدي: " نزلت في فريقين وقعت بينهما قتلى، فأمر النبي [عليه السلام] أن يقاص بينهما، ديات النساء بديات النساء، والرجال بالرجال ". فالآية على هذا محكمة مخصوصة. / وقال الحسن: " الآية على التراجع: إذا قتل رجل امرأة، كان أولياء المرأة

بالخيار، إن شاؤا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا نصف الدية. وإذا قتلت امرأة رجلاً؛ فإن شاء أولياء الرجل قتلوا المرأة وأخذوا نصف الدية، وإن شاؤا أخذوا الدية كاملة. وإذا قتل حر عبداً؛ فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية الدية بعد قيمة العبد. وإذا قتل عبد رجلاً حراً، فإن شاء أولياء الرجل قتلوا العبد، ويأخذون بقية الدية ". وقال مالك: " أحسن ما سمعت في هذه الآية يراد بها الجنس: الذكر والأنثى

فيه سواء "، يعني الأحرار وأعاد ذكر الأنثى إنكاراً لما كان في الجاهلية. ولا يقتل الحر بالعبد عنده، ولكن عليه قيمته. ولا يقتل المسلم بالذمي، وعليه الدية في العمد والخطأ. وبذلك قال عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة وابن دينار والشافعي. ودليل ذلك إجماعهم أنه لا يقتص للعبد من الحر / فيما دون النفس، فكانت النفس كذلك. / فأما قوله: {النفس بالنفس} فإنما هو إخبار عما فَرَضهُ الله على بني إسرائيل. وقد أجمع على القصاص بين الأحرار، فدخل في ذلك قتل الأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى من الأحرار. وقد قال ابن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأصحاب الرأي: " يقتل الحر بالعبد بدليل قوله: {أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45]، ولقول النبي [عليه السلام]: " المُؤْمِنونُ تَتَكافَأُ دِماءُهُمْ وَلِيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْناهُمْ "، والعبد المؤمن كالحر، وقالوا: لما لم يكن قوله: (الأُنْثَى بالأُنْثَى) بمانع من قتل الأنثى بالذكر والذكر

بالأنثى، كذلك لا يمنع قوله: (العَبْدُ بالعَبْدِ) مِن قتل الحر بالعبد. وهذا باب واسع يستقصى إن شاء الله في كتاب الأحكام. ثم قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}. أي فمن ترك له ولي المقتول من الدية شيئاً. {فاتباع بالمعروف} أي فليتبع العافي القاتل بالمعروف. وقوله: {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. أي: وليؤد القاتل إلى الولي ما قَبِله من الدية بإحسان. وهذا قول مروي عن ابن عباس. [فَالهاءُ في " لَهُ " تعود على هذا القول] للقاتل. والهاء في " أخيه " للقاتل أيضاً. والهاء في " إِلَيْهِ " لولي المقتول العافي. و" مَنْ " اسم القاتل، و " الأخ " ولي الدم. / قال ابن عباس: " كان القصاص في بني إسرائيل، ولم تكن الدية، فأباح الله

لهذه الأمة أخذ الدية تخفيفاً ". وقيل: المعنى: " فمن قبل منه ولي المقتول في العمد الدية فلْيَتْبعْ الولي أخذَ الدية بمعروف، وليؤد القاتل إلى الولي الدية بإحسان إذا قبلها منه في العمد، ولم يُطالبه بالقصاص ". وهو أيضاً مروي عن ابن عباس، وعن جابر بن زيد، وهو أبين في نص الآية، والهاءات على حالها. قال مجاهد: " هو أن يعفو الولي عن الدم ويأخذ الدية ". وهو القول الذي قبله. وقال الحسن: " على هذا الطالب أن يطلب بمعروف، وعلى المطلوب أن يؤدي بإحسان ". وهو قول الشعبي وقتادة وعطاء وغيرهم، وقالوا كلهم: " العفو أن يأخذ الدية في العمد ".

/ وقيل: المعنى: فمن عفي له من الواجب له على أخيه من قصاص وَليِّه شيء، فاتباع من الولي بمعروف وأداء من القاتل إلى الولي بإحسان. وهو قول مالك. فالهاء في " لَهُ " على هذا القول تعود على ولي المقتول، والهاء في " أَخيهِ " للولي. و " مَن " اسم ولي الدم، و " الأخ " اسم القاتل. وفي هذه الآية نظر يطول تقصيه. وجملة الاختلاف فيها أن المعفو له عند مالك وغيره ولي الدم، والعافي القاتل، وعفى عنده بمعنى يسر، والمعفو له [عند غير مالك القاتل، والعافي ولي] الدم. وعفا بمعنى ترك. هذا اختصار معنى الاختلاف في الآية فافهمه. و" الأخ " عند مالك القاتل، وهو عند غيره ولي الدم. و" مَنْ " على قول مالك اسم ولي الدم. وعند غيره اسم القاتل.

قال أبو محمد: انظر كيف سمّى القاتل عمداً أخا الولي، ولم يُخرجه بالقتل عن أخوة الإسلام. ثم قال تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}. أي: ذلك الذي حكمنا به في هذه الآية من إباحتي الدية في العمد ولم أبح ذلك لغيركم من الأمم تخفيفٌ من ربكم عليكم، خصصتُكم به دون غيركم من الأمم، ورحمة من ربكم لكم. وذكر ابن بكير أن العافي هو القاتل، وأن أولياء المقتول مخيرون في قبول الدية أو القتل. قال: " ألا تراه قال: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة}. وقيل: إن هذه الآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير دية. ثم قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. أي: مَن قتل بعد أخذ الدِّية فله / عذاب مؤلم في الآخرة، وحكمه أن يقتل

180

ولا تقبل منه الدية. وقيل: العذاب الأليم هنا القتل. / وقيل: هو شيء إلى السلطان يعاقبه بما شاء. وقال الحسن: " تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يقتل ". وروي عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " نُقْسِمُ أَلاّ يُعْفَى عَنْ رَجُلٍ عَفَا عَنِ الدَّمِ، وأَخَذَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَدَا فَقَتَلَ ". وقيل: أمره إلى الإمام يفعل به ما رأى. ثم قال: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة يا أولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. أي إذا عَلِم من يريد أن يقتل أنه يقاصَص فيُقتل، أَمْسَك عن القتل فصارت معرفته بالقصاص فيها حياته، وحياة من أراد قتله. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. أي: تتقون القتل فلا تتعدون إليه لعلمكم بالقصاص. قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} إلى قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

معناه: فرض/ علكيم الوصية إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً - أي: مالاً -/ للوالدين والأقربين، كان الله D قد فرض علينا أن نوصي عند الموت للوالدين والأقربين، ثم نسخ ذلك بآيات الميراث في النساء. وقيل: هي محكمة واجبة لمن لا يرث من الوالدين والأقربين. وهو اختيار الطبري. وروي عن الضحاك أنه قال: " من مات ولم [يوص لذي] قرابته فقد ختم عمله بمعصية ". وقال الحسن: " إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثلثه فلهم ثلث الثلث وباقي الثلث لقرابته ". وقاله طاوس.

وكونها منسوخة قول ابن عباس وقتادة. وعن قتادة والحسن أنه " إنما نسخ منها الوالدان، وبقي الأقربون الذين لا يرثون بالوصية لهم فرض ". وقال ابن زيد: " نسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض ". وهو قول ابن عمر وعكرمة ومجاهد والسدي. واختلفوا في نسخها فقال أكثرهم: " نسختها آيات النساء في المواريث. وقال بعضهم: " نسخها قول النبي [عليه السلام]: " لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وجواب الشرط عند الأخفش فاء محذوفة، والتقدير: " فالوصية ". فعلى هذا

يبتدأ بها لأنها مرفوعة بالابتداء. ويجوز أن تجعل {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} جواب الشرط، وتقدر به التقديم لأن الشرط إذا كان فعلاً ماضياً جاز تقدم الجواب عليه، فيكون التقدير: " الوصية لِلوالدين والأقربين إن ترك خيراً، فيحسن رفع الوصية / أيضاً بالابتداء، ويحسن رفعها على ما لم يسم فاعله. وكلهم على أن {خَيْراً} في الآية: المال. قال قتادة: " الخير: ألف دينار فما فوقه ". وروى هشام بن عروة عن عروة، أن علي بن أبي طالب Bهـ دخل على ابن عم له يعوده فقال: إني أريد أن أوصي، فقال: لا توص، فإنك لم تترك خيراً فتوصي. قال: فكان ما ترك من السبعمائة إلى التسعمائة ".

وقالت عائشة Bها لرجل معه أربع مائة دينار وله ولد كثير: " لا توص ". وقال النخعي: " هو ما بين الخمسمائة درهم إلى الألف ". وقال الزهري: " الوصية حق مما قل أو كثُر ". وهو اختيار الطبري. ويروى عن علي أنه قال: " أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ". ومعنى {بالمعروف}: أي لا يضار الورثة مما يوصي فيما يوصي، فيوصي بأكثر من الثلث. وقوله: {حَقّاً عَلَى المتقين}: أي: على من اتقى الله فاتبع ما أمره. ثم قال تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ}. أي: فمن بدل الإيصاء ولمن أوصى به بعدما سمعه من الميت فإنما إثمه / على [من بدله]. {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

أي: يسمع ما يوصي به الموصي / ولمن يوصي وغير ذلك. عليم بما تعملون وما تبدلُون وغير ذلك. " والهاء " في " بدَّلَهُ " تعود على الإيصاء والموصى له، وإن لم يجر له ذكر. لكن الكلام الأول يدل عليه ويتضمنه لأن الوصية تدل على الإيصاء والإيصاء يتضمن موصياً وموصى له. والوصية عند أكثر أهل العلم غير واجبة، إنما هي مندوب إليها إلا الزهري فإنه قال: " هي واجبة على من ترك خيراً ". وكلهم أجمعوا على أن مَنْ قِبَلُه أماناتٌ وودائعٌ وديون ونحو ذلك الوصية فرض. ثم قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ}. أي: فمن حضر مريضاً يوصي بوصية لا تجوز له في الدين، فلا حرج عليه أن يصلح بينه وبين ورثته ويأمره بالعدل في وصيته، وينهاه عن منعه مما أذن الله له فيه

وأباحه له. وقيل: المعنى: فمن خاف جنفاً من الموصي فأصلح بين الورثة والموصى لهم فرد الوصية إلى العدل والحق فلا حرج عليه. قال ابن عباس: " إذا أخطأ الميت في وصيته وخاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب ". وهو معنى قول قتادة والنخعي. وقال عطاء: " معناها: من خاف من موص جنفاً في عطيته عند موته بعض ورثته / دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين الورثة ". وقيل: معناه: من خاف من موص جنفاً في وصيته لمن لا يرثه بما يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه. وهو معنى قول طاوس، قال: " جنفه توليجه بوصيته لبني ابنه ليكون

المال إلى أبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها، فيصلح بينهم الوصي والأمير، ويوعظ هو في حياته ". وقال السدي: " نزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين ". فمعناها: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض فأصلح بين الآباء والأقربين، فلا إثم عليه. واختيار الطبري أن يكون معناها: من خاف من موص جنفاً أن يحيف في وصيته / فيوصي بأكثر مما يجب له في وصيته، فلا حرج على الذي حضر أن يصلح بين الموصي والورثة بأن يأمر الميت / بالمعروف والحق. والضمير في " بَيْنَهُمْ " يعود على الورثة والموصى لهم. أو على الورثة والموصى على الاختلاف المتقدم.

183

وجاز إضمارهم، ولم يجر لهم ذكر، لأن معناهم في الخطاب وفحوى الكلام مفهوم، لأن الميت وذِكرَه يدل على الورثة، والوصية تدل على الموصى له والموصى والموصي إليه. قال ابن عباس: " جنفاً: خطأ ". وقال عطاء: " ميلاً ". وقال الضحاك: " الجنف: الخطأ، والإثم: العمد " وهو قول النخعي. ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. أي: " غفور " للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والإثم العمد إذا ترك ذلك ورجع إلى الحق، " رحيم " بالمصلح. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} إلى قوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي: فرض عليكم أن تصوموا أياماً معدودات كما كتب على الذين من قبلكم الصيام، يعني / النصارى.

وقال الشعبي: " فرض على النصارى شهر رمضان كما فرض علينا، فحوَّلوه إلى الفصل، وذلك أنهم ربما صاموه في القيظ فعدّوا ثلاثين يوماً، ثم أتى قوم من بعدهم، فأخذوا بالشقة لأنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً. ثم لم يزل الآخر يستن بسنة القرن الذي قبله ويزيد يوماً أولاً ويوماً آخر. حتى صار إلى الخمسين يوماً، وقال: لو صمت السنة كلها لأفْطَرْتُ اليوم الذي يشك فيه، فيقال من شعبان، ويقال من رمضان ". وقال السدي: " {الذين مِن قَبْلِكُمْ} هم النصارى كتب عليهم رمضان وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء في شهر رمضان، فاشتد عليهم شهر رمضان وجعل يصعب / عليهم في الصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا على صيام في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: " نزيد عشرين يوماً. نكفر بِهَا ما صنعنا ". فجعلوا صيامهم خمسين يوماً، فلم يزل

المسلمون يتركون الأكل بعد النوم وقرب النساء في ليل رمضان حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب Bهما ما كان، فأحل الله D لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر ". وقال قتادة: " كان قد كتب الله D على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر ثم فرض شهر رمضان ". وقال جابر بن سمرة: " نسخ صوم رمضان صوم يوم عاشوراء، لأن النبي [عليه السلام] كان أمر بصومه قبل أن يفرض رمضان. فمن شاء الآن صامه ومن شاء أفطره. ". وروى [أبو] قتادة أن النبي [عليه السلام] قال: " صَوْمُ يَوْمِ عاشوراءَ يُكَفِّرُ سَنَةٌ

مُسْتَقَبَلَةً ". قالت عائشة Bها: " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية. وكان رسول الله يصومه. . فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه فنزل صوم رمضان /، فكان رمضان هو الفريضة فمن شاء صام عاشوراء، ومن شاء ترك ". وقال تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} قال: " كان كتب عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر ". والآية ناسخة لصيام ثلاثة أيام من كل شهر على هذا القول. وقال أبو العالية والسدي: " هذه الآية منسوخة لأن الله تعالى كتب على من كان قبلنا إذا نام بعد المغرب لم يأكل ولم يقرب النساء، ثم كتب علينا ذلك في هذه الآية " فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} ثم نسخه بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] الآية ".

وذكر الحسن عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " كانَ عَلَى النَّصَارَى صَوْمُ شَهْر، فَمَرِضَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقال لَئِنِ اللهُ شَفاهُ ليَزيدَنَّ عَشْراً، ثُمَّ كانَ آخرُ فَأَكَلَ لَحْماً فَأَوْجَعَ فاهُ، فقالَ: لَئِنِ اللهُ شَفاهُ لَيَزيدَنَّ سَبْعاً، ثُمَّ كانَ مَلِكٌ آخَرٌ فَقالَ: " لَتَتِمَّنَ هَذِهِ السَّبْعَةُ عَشْراً، وَلأَجْعَلَنَّ صَوْمَنا في الرّبيعِ "، قالَ: فصارَ خمْسينَ يوْماً " يعني: بِ " الرجال ": ملوكاً سنوا سنناً وزادوا وبدلوا الأوقات. واختار الطبري قول من قال: " فرض على من كان قبلنا من أهل الكتاب صوم شهر رمضان ففرضه علينا ". وقال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ}. واستدل على ذلك أن مَنْ بعدَ إبراهيم - عليه السلام - من الأنبياء / كانوا مأمورين بالاتباع له؛ وذلك أنَّ الله تعالى جعله [إماماً للناس] وأخبرنا أن دينه كان [الحنيفة المسلمة]، وأمر نبينا عليه السلام باتباعه فدل على أن إبراهيم A ومن كان بعده من الأنبياء صلوات الله عليهم فرض / عليهم صوم شهر / رمضان كما فرضه / الله تعالى علينا الآن، فوقع التشبيه على الوقت.

وقيل: إنما فرض الله علينا شهراً، كما فرضه على من كان قبلنا شهراً، وفرض علينا ترك الأكل والوطء بعد النوم، ثم أباحه لنا إلى الفجر. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. أي تتقون أكل الطعام وشرب الشراب، وجماع النساء فيه. وهو معنى قول السدي وغيره. وقيل: معناه: إن الصيام وصلة إلى التقى. فكأنه " صوموا ليقوى رجاؤكم في التقوى ". ثم قال تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ}. قال عطاء: " كان على الناس صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم فرض الله على المسلمين صوم شهر رمضان ". فهذا القول يدل على أن أياماً منصوبة بـ " كُتِبَ "، وهو قول الفراء. قال ابن عباس: " كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخه الله بصوم شهر

رمضان ". وهو قول قتادة. وقيل: [الأيام المعدودات] هي أيام رمضان بعينها. فيكون نصبٌ: " أيام " بالصيام على هذا القول، وهو قول الأخفش، فتكون ظرفاً. ولا يكون نصبها على المفعول لأنك تفرق بين الصلة والموصول بالنعت وهو الكاف. وحسن ذلك في الظرف لأن الظرف تعمل فيها المعاني إلا أن تجعل الكاف مفعولاً للصيام، فيحسن أن تنصب " الأيام " على أنها مفعول بها. والكاف من " كما يجوز أن تكون نعتاً لمصدر محذوف أي: [كَتْباً كَمَا]، ويجوز أن يكون " صَوْماً كَمَا "، فلا يدخل في الصلة على القول الأول، ويدخل على القول الثاني. ويجوز أن تكون الكاف نصباً على الحال من الصيام، أي: مشبهاً لصيام من

كان قبلكم. ويجوز أن يكون في موضع رفع نعتاً للصيام. ثم قال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. أي: فمن لم يقدر على الصوم لمرض به أو لسفر فليفطر، وعليه أن يصوم مثل ما أفطر من أيام أخر. فمن الفقهاء من يرى أن الصوم في رمضان في السفر أفضل، ومنهم من يرى الإفطار. وكان أنس بن مالك يرى الصوم في السفر في رمضان، فقيل له: أين هذه الآية: {أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فقال: " إنها نزلت يوم نزلت، ونحن نرتحل جياعاً، وننزل على غير شبع، واليوم نرتحل شباعاً، وننزل على شبع ".

و " أُخَرَ " لا تنصرف لأنها معدولة عن الألف واللام عند سيبويه، وذلك أن " فُعَلَ " سبيله أن يأتي بالألف واللام نحو " الكُبَر " و " الفُضَل ". وقال الكسائي: " هي معدولة عن " أُخْرَاء " كما تقول " حُمْرَاءَ " و " حُمَرَ " / فامتنعت من الصرف لذلك ". وقيل: منع من الصرف لأنه على وزن " جُمَع "، والعرب لا تقول " يوم أُخْرَى "، إنما تقول: " يوم أُخَر "، وإنما جاء " أَيَّامٍ أُخَر " لأن نعت " الأيام " مؤنث، فلذلك نعت بأخرى. وقيل: " أُخَر " جمع " أُخْرَى "، كأنه قال " أيام أُخْرَى "، ثم كثرت الأيام فجمع " أُخْرَى " على " أُخَرَ ". ثم قال تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. قال معاذ بن جبل:

" قدم النبي A المدينة، فصام يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إن الله فرض شهر رمضان وقال: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً. ثم إن الله D أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام على الكبير إذا أفطر ولم يستطع الصوم، فأنزل الله D: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} الآية. / وهو قول عكرمة / والحسن. وقال علقمة: " نسخها: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} ". وكذلك روى نافع عن ابن عمر. وهذه الآية في رواية ابن وهب عن مالك محكمة. قال ابن وهب: " قال لي مالك: " إنما ذلك في الرجل يمرض فيفطر ثم يبرأ فلا يقضي ما أفطر حتى يدركه رمضان آخر من قابل، فعليه أن يبدأ برمضان الذي

أدركه فيصومه، ثم يقضي الذي كان أفطر من رمضان الأول، ويطعم عن كل يوم مسكيناً / مداً من حنطة. ولو اتصل به المرض إلى أن دخل عليه رمضان آخر، فليس عليه إطعام إذ لم يفرط ". فالمعنى على هذا القول: وعلى الذين يطيقونه القضاء لما عليهم فلا يقضون حتى يأتي رمضان آخر فدية طعام مساكين مع القضاء. يعني يطعم مداً لمسكين عن كل يوم فرط في قضائه. وقال ابن أبي ليلى: " دخلت على عطاء وهو يأكل في رمضان فقال: إني شيخ كبير، وإن الصوم نزل فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً حتى نزلت هذه الآية: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} الآية، قال: فوجب الصوم على كل أحد إلا مريضاً أو مسافراً أو شيخاً كبيراً مثلي يفتدي ". وهو قول ابن شهاب. [وقال ابن عباس]: " جعل الله في الصوم الأول فدية طعام مساكين، فمن شاء [من مسافر أو مقيم أن يفطر ويطعم مسكيناً] كان ذلك رخصة لهم، ثم أنزل الله في

الصوم الأخير: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ولم تدخل فيها الفدية، وثبت الصوم الآخر ". وروى / ابن سيرين عن عبيدة أنه قال في قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قال: " نسختها التي تليها: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ} الآية ". وقال الضحاك: " فرض الله الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة؛ [وإذا صلى الرجل العتمة، حرم عليه] الطعام والشراب والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخر بإحلال الطعام والشراب والجماع في الليل كله، وهو قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} الآية، وأحل الجماع بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} الآية. وكان في الصوم الأول فدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكيناً

عن كل يوم ويفطر فعل ذلك. ولم يذكر الله D في الصوم الآخر الفدية لكن قال: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فنسخ هذا الصوم الآخر الفدية ". وقال ابن جبير: " كانت الفدية للشيخ الكبير والعجوز إذا أفطر وهما يطيقان الصوم ثم نسختها الآية التي بعدها قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ}، فنسخت الإطعام عن الكبيرَيْن إذا كانا يطيقان الصوم وأوجب عليهما الصوم، وثبت للشيخ والعجوز الفدية إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا. وكذلك قال عكرمة والربيع. وقال السدي: " الآية محكمة ومعناها: " وعلى الذين كانوا يطيقون الصوم في صحتهم إذا مرضوا أو كبروا أو عرض لهم مانع من المقدرة على الصوم كالحامل والمرضع، الفدية إطعام مسكين لكل يوم، وإن تكلف الصيام على ضره فصام / فهو خير له ". قال ابن عباس: " إذا خافت الحامل والمرضع [أفطرتا

وأطعمتا] ولا تقضيان صوماً ". وقرأ ابن جبير وعطاء وعكرمة: " يُطَوَّقُونَهُ " بواو مشددة، أي: يكلفون صومه ولا يقدرون. يعني الشيخ والعجوز والحامل. وهي قراءة تروى عن عائشة. وكان إسماعيل القاضي يضعف هذه القراءة ويقول: كيف [يقرأ: " يُطَوَّقُونَهُ " على معنى " يُكَلَّفُونَهُ "]، وهم لا يقدرون على صومه وبعده: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وكيف يقال لمن لا يقدر على الصوم: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}؟ هذا معنى كلامه. وقد قرأ مجاهد به، أعني بالتشديد للواو. وروي أيضاً عن عكرمة: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} بالتشديد في الياء والطاء على معنى:

" يَتَطَيَّقُونَهُ ". وعن ابن عباس أنه قرأ: " يُطَيَّقُونَهُ " بضم الياء الأولى وتشديد الثانية. قال ابن [الأنباري: في هاتين القراءتين] لحن، لأن الفعل من الواو مأخوذ من الطوق، فلا معنى لقلب الواو ياء بغير علة / ولا أصل ". وروي أيضاَ عن مجاهد: " يَطَوَّقُونَهُ " بفتح الياء وتشديد الطاء والواو بمعنى " يَتَكَلَّفُونَهُ ". يعني الشيخ الكبير والعجوز لا يقدران على ذلك، فتكون الآية على هاتين القراءتين محكمة في الشيخ والعجوز والحامل ومن لا يقدر على الصوم لعذر يعرض له، وتكون الآية الثانية لجميع الأصحاء، فهما محكمتان. قال مالك: " إذا خافت الحامل على نفسها أفطرت ولا إطعام عليها لأنه مرض،

وعليها القضاء إذا صحت وقويت ". وروي عنه أنه قال: " تفطر وتطعم لكل يوم مداً بمد النبي عليه السلام. وذكره عن ابن عمر. وتفطر المرضع إذا خافت على ولدها ولم تجد من يرضعه لها وتطعم وتقضي. فمالك يفرق بين الحامل والمرضع، فيلزم المرضع الإطعام ولا يلزمه الحامل، لأنها مريضة. وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما. وقيل: بل يفطران ويقضيان، [ولا إطعام] عليهما، وهو قول الحسن وعطاء / والضحاك والزهري وربيعة والأوزاعي وأهل العراق. وقيل: بل يفطران / ويطعمان

ويقضيان. وهو قول مجاهد والشافعي وأحمد بن حنبل. وأجمع أهل العلم على أن الشيخ الكبير والعجوز يفطران إذا لم يقدرا على الصوم. ولا إطعام عليهما عند مالك. وهو قول ربيعة ومكحول وأبي ثور. وقال ابن جبير وطاوس والأوزاعي والشافعي وأهل الرأي: " يطعم كل واحد منهما عن كل يوم أفطره مسكيناً واحداً ". والهاء في " يُطِيقُونَهُ " تعود على الصيام. وقال بعضهم: " تعود على الإطعام "، وليس بشيء. ثم قال تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}. أي: فمن زاد فأطعم عن كل يوم أكثر من مسكين فهو خير وأجر

185

مُدَّخَرٌ له. قاله ابن عباس وغيره. وعن مجاهد أن معناه: " فمن أطعم المسكين أكثر من مد، فهو أجر مدخر له، إنما عليه مد ". وقال ابن شهاب: " معناه من صام مع الفدية فهو خير له في أخراه ". ثم قال: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: والصيام خير لكم من أن تفطروا وتفتدوا. قال السدي: " معناه: من تكلف الصيام فصام، فهو خير له من الفدية والإفطار ". وقال من جعل الآية الأولى غير منسوخة: هذا للشيخ الكبير / والعجوز: اعلموا أن التكلف في الصيام خير لهم من الإفطار والفدية ". ثم قال: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي: إن علمتم أنكم تقدرون / على الصوم، فالصوم خير لكم. وقيل: معناه: إن كنتم تعلمون أيها المؤمنون خير الأمرين. قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

أي: المفترض عليكم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن إلى سماء الدنيا وذلك ليلة أنزل الله جل ذكره القرآن من اللوح المحفوظ جملة إلى سماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك نجوماً على ما شاء الله. كذلك أتت الرواية عن النبي [عليه السلام]. قال ابن عباس: " أنزل الله القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من شهر رمضان فجعل في بيت العزة ". وروى واثلة عن النبي A أنه قال: " نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَنَزَلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ. [وَنَزَلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاَثِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ. وَنَزَلَ الزَّبُورْ لِثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَنَزَلَ القُرْآنُ لأَرْبَعٍ

وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ]. وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِ الْقُرْآنِ وآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً ". وقيل: معناه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن بفرضه على الناس. فأما إعرابه على هذا المعنى، فيكون فيه معدّى إليه الفعل بحرف جر، لا ظرفاً. وعلى القول الأول، يكون فيه ظرفاً للنزول. وروى جابر بن عبد الله أن النبي [عليه السلام] قال: " أَنْزَلَ الله أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُحُفَ [إبْرَاهِيمَ، وأنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَى مُوسَى] لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الزَّبورَ عَلَى داوُدَ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَنْزَلَ الإنْجِيلَ عَلى عِيسَى لِثمَانِي عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِنْ رَمَضانَ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين

[ليلة خلت من رمضان ". / وأكثر الناس على أن القرآن أنزل] ليلة القدر من رمضان، والله أعلم أي ليلة كانت، وذلك كله إلى سماء الدنيا، ثم نزل متفرقاً على ما ذكرنا. فأما إعراب {شَهْرُ رَمَضَانَ}؛ فيجوز أن يكون " شَهْرُ " رفع بالابتداء، و (الَّذِي أُنْزِلَ) الخبر. ويجوز أن يكون التقدير: الأيام التي تصام شهر رمضان وشبهه. وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب: " شَهْرَ. " بالنصب. ورويت عن عاصم ونصبه عند البصريين على الإغراء، وعند الكوفيين بالصيام، وهو قبيح للتفرقة بين الصلة والموصول. وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته ودخوله وخروجه، ومنه " شَهَرَ فُلانٌ سَيْفَهُ "

إذا أخرجه من غمده. فمن قال: " شَهْرُ رمضان " قال في التثنية " شهرَا رمضان " / وفي الجمع " أَشْهُرَ رمضان "، و " شَهْرَات رمضان ". ومن قال: " رمضان " بغير شهر قال في الجميع " رَمَضَاناتٍ ". وحكى الكوفيون " رماضين "، وحكوا " أَرْمِضَة "، وحكي " رُمَاضٌ ". ولم ينصرف لأن فيه ألفا ونوناً زائدتان، وهو معرفة. قال قطرب: " سمي رمضان رمضان لأنهم كانوا يصومونه في الحر. فهو مشتق من الرمضاء، والرمضاء الرمل الحامي من الشمس ". وكره مجاهد أن يقال رمضان للشهر، ولا يقال إلا " شهر رمضان "، كما قال الله. وقال: " لعل رمضان اسم من أسماء الله ". / وقاله عطاء. / وقد أتت الآثار عن النبي عليه السلام بذكر رمضان من غير لفظ شهر.

روى مالك أن ابن عباس قال: " إن رسول الله ذكر رمضان، فقال: " لا تَصُومُوا حَتَى تَرَوُا الهِلالَ ". وقال أنس بن مالك: " سافرنا مع رسول الله [عليه السلام] في رمضان كثيراً ". وإنما سمي القرآن قرآناً لأنه يجمع السور الكثيرة من قولهم: " قَرَاْتُ الماءَ في الإناءِ "، أي جمعته وضممته. وقيل: إنما سمي بذلك لأنهم يقولون: " قَرَأَتِ المَرْأَةُ "، و " قرأت " إذا حاضت وإذا ولدت، فكأنها / تظهر شيئاً كان مستوراً. والقارئ إذا أظهر شيئاً وبيَّنه، فهو من إظهار الشي وتبيينه. وقوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ}. أي رشاد للناس إلى طريق النجاة. وقوله: {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان}.

أي: والقرآن أيضاً آيات واضحات من الرشاد، والفرق بين الحق والباطل. ثم قال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشهر فَلْيَصُمْهُ}. أي فمن شهد منكم الشهر في المصر وهو صحيح فليصمه. و " شَهِدَ " بمعنى " حضر ". ومن كان مريضاً في المصر أو على سفر، فليفطر إن شاء، وعليه عدة من أيام أخر. وقيل: المعنى: فمن دخل عليه الشهر وهو مقيم في المصر لزمه الصوم [سافر بعد ذلك أو أقام]. رواه الضحاك عن ابن عباس قال: " إذا شهدت أوله في المصر فصم وإن سافرت ". وكذلك قال السدي. ورواه أيضاً قتادة عن علي Bهـ، وقاله عبيدة. وروي أيضاً / عن عائشة Bها. وعلى القول الأول كل العلماء: إن للمسافر الإفطار، وإن أخذه أول الشهر في المصر، ولا يجزي صيام إلا بتبييت قبل الفجر. ومذهب [مالك أنه إذا بيت الصيام] في أول الشهر أجزأه عن أن يبيته في

كل ليلة من بقية الشهر. وقال الشافعي وأحمد بن حنبل: " لا بد من تبييت الصوم في كل ليلة " وثبت عن / حفصة أنها قالت: " لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِع الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ " وأسندته إلى النبي [عليه السلام]. ثم قال تعالى: {[وَمَن كَانَ] مَرِيضاً}. أي مريضاً بمرض يشق عليه الصوم ويشتد عليه أفطر، وكذلك المسافر، لهما أن يفطرا ويقضيا جميعاً، ولا إطعام عليهما. ومن أكل أو شرب ناسياً في رمضان فعليه القضاء ولا كفارة عليه. وهو قول مالك وربيعة بن عبد الرحمن وأهل المدينة. وعن علي وأبي هريرة وابن عمر أنه: " لا قضاء عليه ".

و [به] قال عطاء وطاوس والنخعي والثوري والأوزاعي وابن أبي ذيب والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأصحاب الرأي. ومن وطىء نهاراً في رمضان ناسياً فعليه القضاء عند مالك ولا كفارة عليه، وهو قول عطاء والليث بن سعد والأوزاعي. وقال مجاهد والحسن والثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي: " لا قضاء عليه ولا كفارة ". وقال أحمد بن حنبل: " عليه القضاء والكفارة ". وأجمعوا على أن من أكل ناسياً فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامداً أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. ومن أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة كالمجامع عامداً.

وهو قول مالك والزهري، وبه قال الحسن وعطاء. وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال ابن المسيب: " عليه صوم شهر ". وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: " عليه صوم اثني عشر يوماً على عدة الشهور ". وعن عطاء أنه " لا قضاء عليه، وعليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة، أو بقرة، أو عشرون صاعاً طعاماً للمساكين ". وعن النخعي أن " عليه ثلاثة آلاف يوم ". وعن ابن عباس / أن " عليه عتق رقبة، أو صوم شهر، أو إطعام ثلاثين مسكيناً ". وروي عن علي Bهـ أنه قال: " مَن أفطر يوماً في رمضان متعمداً لم يقضه أبداً طول الدهر ". وروي ذلك عن ابن مسعود. وعن الزهري أيضاً أنه قال: " إن كان فعل ذلك ابتداعاً لدين غير الإسلام، ضربت عنقه، وإن كان فعل ذلك فسقاً جلد ".

ومن استقاء فقاء، فعليه القضاء ولا كفارة عليه. وهو قول علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم، وابن عمر وعلقمة، وهو قول الزهري ومالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. وقال عطاء وأبو ثور: " عليه الكفارة مع القضاء ". فإن دَرعه القيء فقاء فلا شيء عليه عند الجميع. ثم قال: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}. أي يرخص الله عليكم إرادة التيسير، ولا يريد بكم العسر في دينكم. ثم قال: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة}: أي تكملوا عدة ما أفطرتم / فتقضوه في أيام أخر. ثم قال: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ}.

186

قال ابن عباس: " حق على المسلمين أن يكبروا إذا نظروا إلى هلال شوال ". وقيل: هو التكبير في العيد عند الغدو إلى المصلى. قاله علي بن أبي طالب، وزيد بن أسلم. وكذلك كان النبي [عليه السلام] يفعل إذا خرج إلى المصلى. فهو سنة عند الزهري وغيره. يقول الرجل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر. ثم قال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي [تشكرون على تسهيله عليكم وهدايته] لكم. قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قال الحسن: " هذه الآية نزلت في سائل سأل النبي [عليه السلام] فقال: أين ربنا؟ فأنزل الله D: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} الآية ".

وروي أن / سائلاً سأل [النبي عليه السلام] فقال: يا محمد: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله [جل ذكره]: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. الآية. وروي أن المشركين قالوا: كيف يكون الله قريباً وبيننا وبينه سبع سماوات غلاظ، كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين كذلك؟ فأنزل الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. الآية. وقال عطاء: " لما نزلت: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، قالوا: يا رسول الله، في أي ساعة؟ قال: فنزلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}. الآية. قال السدي: " ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به رَزقه في الدنيا، وإن لم يكن له رزقاً في الدنيا، ادُّخِر له إلى يوم القيامة أو دفع [به عنه] مكروه. وكذلك قال ابن عباس. وعن النبي عليه السلام: أنه قال: " ما أُعْطِيَ أَحَدٌ الدُّعاءَ فَمُنِعَ الإِجَابَةَ لأنَّ اللهَ يقُولُ: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ".

والمعنى عند الطبري: " فإني قريب في كل / وقت أجيب دعوة الداعي إذا دعان ". وقال مجاهد: " لما نزلت: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115]. ". وقال قتادة: " لما نزلت: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، قال قوم: كيف ندعو يا رسول الله؟ فنزلت: {وَإِذَا سَأَلَكَ} " الآية. وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ}. فمعناه: إذا شئت كما قال: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} [الأنعام: 41]. وقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}. أي فليستجيبوا إلى طاعتي، يقال: " استَجبْتُ لَهُ واسْتجَبْتُهُ " بمعنى أجبته. وقال أبو عبيدة: " معناه: فليجيبوني ".

وتحقيق اللفظ عند / أهل العلم: فليستدعوا الإجابة، / كما يقال: " استنصر "، إذا استدعى النصر. وعن أبي رجاء الخراساني أنه قال: " {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} فليدعوني ". وقيل: هو التلبية. وقوله: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}: أي وليصدقوا بي إذا هم استجابوا لي بالطاعة أني لهم من وراء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزال الكرامة عليها. وقال أبو رجاء: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي}: معناه: و " ليصدقوا بي " أني أستجيب لهم. وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. معناه: لعلهم يهتدون. و " لعل " من الله واجبة. وقيل: معنى الإجابة هنا، هو الإجابة بالثواب على الأعمال [والطاعات]، فمعنى الدعاء هنا مسألة العبد ربه، إتمام ما وعده إياه من الجزاء على الطاعة. وروي عن النبي [عليه السلام]. أنه قال: " " الدُّعَاءُ هُوَ العبادَةُ " ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] ".

وقيل: معناه: أجيب دعوة الداعي إن شئت. وقال الحسن في قوله تعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}: " اعملوا وأَبشروا فإنه حق على الله أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ". وقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}. وقْف عند يعقوب. وقال نصير: الوقف " دعانِ " و " يَرْشُدُونَ ". والفعل من " يرْشُدونَ ": رَِشَدَ يَرْشُدُ رُشْداً، ويقال: رَشَدَ يَرْشَدُ رَشَداً، فيقال: الرُّشْدُ وَالرَّشَدُ، كما يقال: البُخْلُ والبَخَلُ، والشُغْلُ والشَّغَلُ، وَالسُّقْمُ وَالسَّقَمُ، وَالعُدْمُ والعَدَمُ، وَالحُزْنُ وَالحَزَنُ، وَالسُّخْطُ وَالسَّخَطُ، وَالخُبْرُ وَالخَبَرُ، وَالعُرْبُ وَالعَرَبُ، وَالْعُجْمُ والعَجَمُ. ثم قال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ}. أي أبيح لكم أيها المؤمنون أن تجامعوا نساءكم في ليالي الصيام قبل النوم وبعد

النوم ما لم / يطلع الفجر. وحَدُّ [الليل من مغيب الشمس] إلى طلوع الفجر الثاني. وَحَد النهار من طلوع الفجر الثاني إلى مغيب الشمس. والرفث هنا كناية عن الجماع. قال ابن عباس: " الرفث الجماع ولكن الله كريم يكني ". وهو قول جميع المفسرين. وقال الزجاج: " الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من امرأته ". والرفث في غير هذا الموضع الإفحاش في المنطق، ومنه قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197]. قوله: {فالآن باشروهن}. المباشرة في هذا الموضع الجماع بدليل قوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}، يريد الولد

بإجماع من المفسرين. وقد تكون المباشرة في غير هذا الموضع غير الجماع، وذلك المماسة / ويدل [أيضاً على ذلك] أن الرفث عند جميع المفسرين كناية عن الجماع. ثم قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}. سمَّى كلَّ واحد لباساً لصاحبه لتجردهما عند النوم وتضامهما واجتماعهما في ثوب واحد، حتى يصير كل واحد منهما في التصاقه إلى الآخر بمنزلة الثوب الذي يلبسه الإنسان. وقال الربيع: " معناه: هن لحاف لكم، وأنتم لحاف لهن ". وقد [سُمي الفرش] لباساً والخاتم لباساً، وتقلد السيف لباساً. وهذا يدل على تحريم استعمال الحرير في الوطئ لتحريم النبي [عليه السلام] لباس الحرير. وقيل: إنما / جعل كل واحد منهما لصاحبه لباساً لأنه يسكن إليه، كما قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ / اليل لِبَاساً} [الفرقان: 47]، أي سكناً تسكنون فيه، فكذلك زوجة

الرجل سكنه [يسكن إليها كما قال] {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. فيكون كل واحد منهما لباساً لصاحبه لسكونه إليه. وهو معنى قول مجاهد. والعرب تقول لما يستر الشيء ويواريه عن أبصار الناظرين: " هو لباسه وغشاؤه " فيكون قد قيل لكل [واحد] من الزوجين لباس للآخر لأنه يستر له فيما يكون بينهم من الجماع عن أبصار الناظرين. قال مجاهد وقتادة: " معناه: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن ". وقال ابن عباس أيضاً. وقوله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}. أي علم الله أيها المؤمنون أنكم كنتم تريدون أن تجامعوا النساء بعد النوم وتأكلوا وتشربوا بعد النوم، وذلك محرم عليكم فتاب مما [أضمرتم من مواقعة] الذنب / وعفا عنكم. وذلك أن الله قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] يعني أهل الكتاب. وكانوا لا يجامعون في ليالي الصيام ولا يأكلون ولا يشربون بعد النوم، فصعب ذلك على المسلمين؛ حتى إن عمر بن الخطاب

Bهـ جاء يريد امرأته فقالت له: قد كنتُ نمتُ. فظن أنها تعتل، فوقع بها، وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالت له امرأته: نسخن لك شيئاً. فغلبته عينه فنام، فلما انتبه امتنع من الطعام لنومه فجعل يُغشى عليه، فنزلت هذه الآية ناسخة لذلك، فأبيح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصيام ما لم يطلع الفجر. وقال معاذ بن جبل: " كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا لم يحل لهم شيء من / ذلك. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صرمة يعمل في أرض له، فلما كان عند فطره نام فأصبح صائماً قد جهد، فلما رآه النبي [ A] قال: ما لي أرى بك جهداً؟. فأخبره بما كان من أمره. واختان رجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} الآية.

وقال ابن عباس في الآية: " كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرم عليهم الطعام والنساء إلى مثلها من القابلة. ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا الطعام [والنساء] في رمضان بعد النوم، منهم عمر بن الخطاب Bهـ، فشكوا ذلك إلى النبي A فأنزل الله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية. وقال كعب بن مالك: " كان الناس في رمضان إذا صام الرجل منهم فأمسى فنام، / حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. وإن عمر بن الخطاب رجع من عند النبي [عليه السلام] ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها، فقالت: [إني قد نمت، فقال: ما] نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي [ A فأخبره فأنزل الله D: { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الآية.

وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: " كان الناس أول ما أسلموا يصوم أحدهم يومه، حتى إذا أمسى طعم من الطعام، وجامع فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صُليت العتمة حرم ذلك عليهم إلى الليلة القابلة وإن عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ليقضي حاجته، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيت من الملامة، ثم أتى رسول الله A فقال: يا رسول الله، إني أعتذر إلى الله وإليك مع نفسي هذه الخاطئة؛ فإنها زيَّنت لي فواقعت أهلي. هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ [قال: لم تكن حقيقاً] بذلك يا عمر، فلما بلغ بيته أرسل إليه [فأنبأه الله بعذره] في آية من القرآن، وأمره الله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة وهي قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} الآية ". وبهذه المعاني فسرها مجاهد وعكرمة وقتادة.

وقال قتادة: " [كان بدء الصيام أنهم] أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتين غدوة، وركعتين عشية، ثم افترض عليهم رمضان وخمس صلوات، وكان الأكل والشرب والجماع [لهم مباحاً] ما لم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم ذلك عليهم / إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم يأكلون ويشربون ويغشون نساءهم بعد النوم، ثم أباح الله D ذلك لهم إلى طلوع الفجر ". وقال السدي: " كتب الله على النصارى صوم شهر رمضان، وكتب عليهم ألا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا النساء بعد النوم. وكتب على المؤمنين مثل ذلك، فوقع قوم من المؤمنين في الأكل والشرب والجماع بعد النوم فشكوا ذلك إلى النبي A فنسخ الله D ذلك عنهم فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} الآية. قال أبو العالية وعطاء: " هذه ناسخة لقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وقوله: {فالآن باشروهن}. أي جامعوهن في ليل / الصيام ما لم يطلع الفجر إذا شئتم. فباشروهن كناية عن الجماع.

وقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}. هذا لفظه لفظ أمر، ومعناه التأديب والندب. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ}: هو الولد ". وقاله أنس بن مالك. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " وابتغوا ما كتب الله لكم من ليلة القدر ". وقال قتادة: " معناه: وابتغوا ما رخص الله لكم وأحل لكم، يعني الجماع ". وقيل معناه: " ابتغوا الذي كتب الله لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح / لكم وهو الوطء بعد النوم في ليالي الصيام. والولد هو [مما كتبه الله في اللوح] المحفوظ أيضاً. وقوله: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر}.

أي بياض النهار من سواد الليل بطلوع الفجر. وقال الحسن: " معناه: حتى يتبين لكم النهار من الليل ". وقاله ابن عباس أيضاً. وهو مروي عن النبي [عليه السلام]. ويروى " أن عدي بن حاتم أخذ / خيطين أسود وأبيض فنظر فيهما عند الفجر فرآهما سواء، فأتى النبي [عليه السلام] فقال له: يا رسول الله: فتلت خيطين من أسود وأبيض فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء. فضحك رسول الله A حتى رأى نواجذه، ثم قال له: " ألَمْ أَقَُلْ لَكَ مِنَ الفَجْرِ، إنّما هُوَ ضوءُ النَّهارِ مِنْ ظُلْمَةِ الليلْ ". وقال سهل بن سعد. " نزلت هذه الآية: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود}،

ولم ينزل {مِنَ الفجر}. قال: فكان رجال إذا أراد أحدهم الصوم ربط في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له أحدهما من الآخر، / فأنزل الله D بعد ذلك (من الفجر) فعلموا أنه إنما عني بذلك من الليل والنهار ". وفي الكلام حذف وتقديم وتأخير / والتقدير: " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل ". وفي هذا دليل بالنص على أن الصائم إذا أصبح جنباً لا يضر ذلك صيامه. لأن له الوطء ما كان له الأكل والشرب، فإذا وطىء إلى الفجر أصبح جنباً ضرورة لا شك فيه، وصيامه تام بهذا النص من القرآن والسنة. والفجر فجران: فجر [أول وهو الضوء] الساطع في السماء، يقال له الصبح الكاذب، فلا يمنع ذلك أكلاً ولا جماعاً. والفجر الثاني هو المنتشر الذي يملأ ببياضه وضوئه الطرق، فذلك يمنع الأكل والجماع، يسمى الفجر الصادق.

والفجر الأول يذهب في السماء طولاً كأنه ذنب السرحان مستدق صاعد في غير اعتراض. والثاني يضرب إلى حمرة، وينتشر ضوؤه على الجبال، يقال له: المستطير أو المنتشر في الأفق وهو معترض. وكل شيء انتشر فقط استطار، ومنه قوله تعالى: {يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7]: أي منتشراً فاشياً. والفجر في اللغة مصدر، " فجر الماء، يفجر فَجْراً " إذا بعثه وأجراه فكأنه اسم للمصدر، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: " فَجْرٌ "، لانبعاث ضوئه ونوره عليهم. والخيط في اللغة: اللون. وقوله: {مِنَ الفجر} معناه الذي هو من الفجر، وليس هو جميع الفجر. وقال التيمي: " هو ضوء الشمس من سواد الليل ".

وحكي عن حذيفة أنه كان يتسحر بعد طلوع الفجر. وحكى سالم مولى أبي حذيفة عن أبي بكر الصديق Bهـ أنه كان يتسحر بعد طلوع الفجر. وكذلك ذكره البراء عن ابن مسعود قال: " تسحرت أنا وابن مسعود ثم خرجنا والناس في صلاة الصبح ". وليس العمل عند جميع الفقهاء على شيء من هذه الأقوال. وعن التيمي أنه قال: " الوتر بالليل والسحور بالنهار ". وعنه: " السحور بالليل والوتر بالليل ". وبهذا العمل عند فقهاء الأمصار.

وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل}. إلى النهاية وليس بحد وإذا كانت نهاية، انتهى العمل إلى ما بعدها، ولا يدخل ما بعدها فيما قبلها، ولا صوم في شيء من الليل. والذي عليه / أهل النظر أن " إلى " إذا كان الذي بعدها من صنف ما قبلها، دخل في حكم ما قبلها كقوله: {إِلَى المرافق} [المائدة: 6] و {إِلَى الكعبين} [المائدة: 6]. والمرفقان والكعبان داخلان في الغسل. وإذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، لم يدخل في حكم ما قبلها نحو: {إِلَى الليل}. وقد بينا هذا / في المائدة بأشرح من هذا. وقوله: {وَلاَ تباشروهن وَأَنْتُمْ عاكفون فِي المساجد}. أي لا تجامعوا أو تلامسوا وأنتم معتكفون. فهذا يدل على جواز الاعتكاف. وفيه دليل عند قوم على أنَّ الاعتكاف جائز في كل مسجد تقام فيه الصلاة وفي كل وقت، مفطراً كان أو صائماً، لأن الخطاب خرج مطلقاً. ولا يعتكف عند مالك وغيره إلا صائم، ولا يعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة.

ثم قال: {تِلْكَ حُدُودُ / الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا}. أي لا تقربوا ما نهاكم عنه من حدوده. ثم قال: {كذلك يُبَيِّنُ الله ءاياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. أي يبين لهم ما حرم عليهم مما أحل لهم لعلهم يتقون حدوده ويخافون عذابه. ثم قال: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل}، أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل. {وَتُدْلُواْ بِهَا} أي: وتخاصموا بالأموال إلى الحكام. {لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس} أي: من طائفة من أموالهم. {بالإثم} أي: بالحرام. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون أنكم ظالمون وأنه حرام عليكم. قال ابن عباس: " هذا في الرجل يكون عليه مال، ولا بينة عليه فيجحد المال ويخاصم صاحبه وهو يعلم أنه إثم ". ويقال: من مشى مع خصمه وهو ظالم فهو آثم / حتى يرجع إلى الحق. وقال عكرمة: " هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معه دراهم ". يقال: أدلى فلان إلى فلان بمال: خاصم. كأنه جعله كالرسالة.

189

ويقال: " أدلى فلان بحجته " إذا بيَّنها كأنه يرسلها إرسالاً. وأصله من إرسال الرجل الدلو في حبل؛ يقال: " أدليت الدلو " إذا أرسلتها، و " دَلَوْتُها " إذا رفعتها وأخرجتها. قوله: {يَسْأَلُونَكَ / عَنِ الأهلة}. الهلال مشتق من استهلال الصبي إذا بكى، فقيل له: هلال لأن الناس حين يرونه يرفعون أصواتهم بذكره. ويقال: أهَلَّ الهِلالُ واسْتَهَلّ. وسمي هلالاً لليلتين. وقيل: إلى الليلة السابعة. ومعنى الآية أنها سؤال من المشركين للنبي [ A] سألوه عن نقصان القمر وزيادته ما هو، فقيل له: قل يا محمد: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}. معناه عند الطبري: يسألونك يا محمد عن الأهلة واختلافها وتغيرها في

محاقها وسرارها وتمامها واستوائها واستسرارها، وما المعنى الذي خالف له حالها حال الشمس التي لا تغير ولا تنتقل من حال إلى حال. فقيل يا محمد: فعل الله ذلك تعالى لتعلم عدة الآجال لمن استوجر وتصرم عدة النساء ووقت الصوم والإفطار وحلول ديونكم وأشباه / هذا. فهذا معنى قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج}. ومعنى: " والحج " أي وهي مواقيت للحج تعرفون بها وقت حجكم ونسككم وإحرامكم وغير ذلك. فمن أجل هذا خالف الله بين القمر والشمس. وكان ذلك لسؤال سائل سأل النبي [عليه السلام] عن الأهلة. قال ابن جريج:

" سأل الناس: لم خُلقت هذه الأهلة، فأجيبوا بذلك ". وكذلك / قال ابن عباس وقتادة. وقوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا}. قال البراء: " كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار، فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية إنذاراً لهم أن الدخول من ظهر البيت ليس من البر. فانتهوا عن ذلك ". وقال إبراهيم النخعي: " هم ناس من أهل الحجاز كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب البيوت، فنهوا عن ذلك ". وقال مجاهد: " كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة في ظهر بيته وجعل سلماً، ولم يدخل إلا من الكوة فنهوا في الإسلام عن ذلك ". وقال الزهري: " كان الناس من الأنصار إذا أحرموا لم يحل بينهم وبين السماء

شيء، يتحرجون. وكان الرجل تبدو له الحاجة بعد خروجه فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقيفة الباب أن تحول بينه وبين السماء، فيفتح في الجدار من وراء الحجرة ثم يدخل من ذلك الفتح. وكان الحمس لا يفعلون ذلك، فدخل النبي [عليه السلام من الباب وهو محرم، ودخل في إثره أنصاري]، فقال له النبي A: إني أحْمَسٌ، فقال [الأنصاري: وأنا] أحمس أي على دينك. فأنزل الله الآية ". وقال السدي: " كان أولئك الذين يفعلون هذا يسمون الحمس ". وقال قوم من أهل اللغة: كان قوم من قريش وجماعة من العرب إذا توجه الرجل في حاجة فلم يقضها ولا تيسرت له، تطير بذلك ورجع، فلم يدخل من باب بيته، فنهوا عن ذلك. وقال جماعة من أهل التفسير: " الحمس هم قريش وبنو عامر بن صعصعة وثقيف، وكان أحدهم إذا [أحرم لم يسأل السمن] ولم يبع الوبر ولم يدخل من باب بيته. وسموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا ".

190

والحملة الشدة في الغضب وغيره. فأعلمهم الله أن ذلك ليس من البر، وأن البر التقوى. وذكر ابن الأنباري أن بعض الناس فسر البيوت بإتيان النساء في الأدبار مُنعوا من ذلك، وقيل لهم: إئتوا البيوت من أبوابها، أي ائتوا المرأة من الباب / المحل لكم الذي منه يكون الولد، ولا تأتوها من غير هذا الباب فتجوروا وتعصوا. وهو قول شاذ. وقال أبو عبيدة: " {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا}: اطلبوا الخير من بابه ومن أهله ولا تطلبوه من الجهال المشركين ". وأكثر الناس على القول الأول. وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ}. هذه أول آية نزلت في القتال أمروا أن يقاتلوا من/ يقاتلهم

{وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين}. أي لا تقاتلوا من لم يقاتلكم. وقد ن سخ الله ذلك في براءة بقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36]، وبقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] و {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً}. قال ابن زيد. وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز/ وغيرهم: " الآية محكمة غير منسوخة ". وقوله: {وَلاَ تعتدوا} أي: لا تقتلوا الشيخ/ الكبير والنساء والذرية، ولا من ألقى إليكم السلام، فإن فعلتم اعتديتم. ومعنى {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} على قولهم: أي الذين فيهم مقدرة على قتالكم ومَن عادتُهم القتال. ولا تقاتلوا من ليس ذلك من شأنه كالرهبان [ومن أدى] / الجزية، ولهذا نهى عن قتل الرهبان.

191

وقد قال بعض الفقهاء: ولا تؤخذ من الرهبان الجية، وكذلك لا يحل قتل من أدى الجزية. قوله: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} أي: في أي مكان تمكنتم بهم. ومعنى " الثقافة بالأمر ": الحذق به والبصر. ومعنى " التَّثْقيفِ ": التقويم. ثم قال: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}. هذا خطاب للمهاجرين أُمروا أن يُخرجوا الكفار من مكة، وهو الموضع الذي هاجروا - هم - منه، وأُخرجوا. {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل}. أي الشرك الكفر. هذا قول قتادة؛ أي أن يُقتل أحب إليه من أن يكفر. وأصل الفتنة الاختبار والابتلاء. فمعناه الاختبار الذي يؤذي إلى الكفر أشد من القتل.

قوله: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} الآية. وجه قراءة حمزة والكسائي: " وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ " بغير ألف، من القتل حتى [يقتلوكم مثله، فإن قتلوكم] مثله، أنهم أمروا ألا يقتلوا أحداً عند المسجد الحرام حتى يُقتلَ بعضهم فقال: [ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم] أي يقتلوا بعضكم. والعرب تقول: " قد قُتل بنو فلان " ولم يُقتل إلا الأقل منهم. " ومات الناس " ولم يمت إلا الأقل منهم. فأمام عنى قراءة الجماعة بالألف في الثلاثة من القتال، فهو أمروا ألا يبدأوا بالقتال في المسجد الحرام حتى يبدأوهم، فإن بدأوهم به، قاتلوهم وقتلوهم. وقال قتادة: " أمروا ألا يقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى

يبدأوهم/ ثم نسخ ذلك قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ} {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لا يكون شرك {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} أي يقال: " لا إله إلا الله محمد رسول الله ". وروي عن قتادة أيضاً أنها منسوخة بقوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، [التوبة: 5]. فأمروا بالقتال، {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] عند [انسلاخ الأشهر في الحل و] الحرم حتى يشهدوا [أن لا إلا الله وأن] محمداً رسول الله ". وقال مجاهد: " الآية غير منسوخة، ولا يحل لأحد أن يقاتل في الحرم أحداً إلا أن يبدأه بذلك فيقاتله "، واحتَجَّ بحديث النبي A يوم فتح مكة: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ لَمْ تَحِل لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدي ". وأكثر الناس على أنها منسوخة، وأن المشركين يُقاتلون في كل موضع بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} - وبراءة نزلت بعد البقرة - وبقوله:

{وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36]، والحجة بما ثبت نصه وتلاوته أولى من غيره. قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، أي: شرك. الدين العبادة والطاعة. قوله: {فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي: لا يُجازى إلا هم. وسيمت مجازاتهم عدواناً لأنها جزاء للاعتداء، وهو مذهب العرب. ومنه: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. ومنه: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15]، ومنه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، ومنه: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79]. ومعنى: {فَلاَ عُدْوَانَ}، أي لا يُقاتَل إلا من قاتل. قال الأخفش: " المعنى: فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلا على الذي لم ينته، وهو الظالم منهم ".

194

قوله: {الشهر الحرام بالشهر الحرام}. هو ذو القعدة وذلك أن النبي A صده المشركون عام الحديبية في ذي القعدة وهو محرم بعمرة، وذلك ي سنة ست/ من هجرته، فرجع من الحديبية ونحر - ثَم - هديه وحلقوا وقصر واثَم، وصالحهم في تلك السنة على أن يعود من الام المقبل، وهو سنة سبع من هجرته. فخرج النبي معتمراً في العام المقبل، وأخلى له المشركون مشكة، فأتم عمرته، وأقام ثلاثة أيام، فقال الله له وللمسلمين: هذا الشهر الحرام الذي قضيتم فيه عمرتكم عِوَضٌ عن ذلك الشهر الذي صدكم فيه المشركون. {والحرمات قِصَاصٌ}: بعضها قصاص لبعض؛ شهر حرام بشهر حرام. وإنما جمع في قوله: {والحرمات} وليس ثم الأشهر بدل من شهر لأنه أراد الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الحرم، فصارت حرمات/ قضاء الوقوف بها/ في عام سبع عوض من حرمات، صدوا عنها في عام ست. وقال ابن عباس: " معناه: أن الله أطلق للمسلمين أن يقتصوا ممن اعتدى عليهم ". فتقديره: والحرمات منكم - إذا تعدي عليكم فيها - قصاص. وكان الإنسان حراماً ضربُه وشتمه وجَرحُه وغير ذلك، فأبيح لهم القصاص.

قال: ثُمَّ نسخ ذلك، وصير الحكم إلى السلطان، فليس لأحد أن يقتص دون أن يرفع إلى السطان ". قوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ}. قال ابن عباس: " أمروا/ في/ أول الإسلام أن ينتقموا ممن آذاهم مثل ما صنع بهم، ثم نسخ ذلك، فرد الأمر إلى السلطان ". وقال أكثر أهل التفسير: " الآية في القتال: أي: فمن قاتلكم في الشهر الحرام فقاتلوه بدلالة ما قبله من الأمر بالقتال، والنهي عنه في المسجد الحرام، وهو نظير قوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ}. والآية منسوخة بالأمر بالقتال في الحرم وإن لم يبدأوا، بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، وبقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}. وبهذه الآية ونظيرها أجاز الشافعي أن يأخذ الرجل من مال من خانه بقدر ما خانه من غير رأيه. وقاله أصحاب الرأي. ولم يجزه مالك.

195

قوله: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ}. قال النبي [عليه السلام]: " مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً في سَبِيلِ الله كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِمائة ضِعْفٍ ". و" إِلَى " متعلقة بـ {تُلْقُواْ}. والباء متعلقة بالمصدر عند المبرد، وهي زائدة عند الأخفش. والتهلكة: الهلاك. حضّ الله المسلمين على النفقة في سبيله والجهاد لئلا يقوى العدو، فتصير عاقبة أمرهم إلى الهلاك. والتهلكة عند سفيان: ترك النفقة في سبيل الله D. وقال ابن عباس: " التهلكة الإمساك عن النفقة في سبيل الله تعالى " وقال ابن زيد وغيره: " معناه: لا تخرجوا إلى الغزو بغير نفقة، أمروا أن ينفقوا في سبيل الله وأن لا يخرجوا بغير نفقة، فيهلكوا أنفسهم ".

وقال زيد بن أسلم: " كان رجال يخرجون إلى البعوث بغير نفقة، فإما أن يقطع بهم، وإما أن يكونوا عالة على الناس، فأمروا ألا يخرجوا على تلك الحال ". وقال البراء بن عازب: " {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}: هو الرجل يصيب الذَّنْبَ فيلقي بيده إلى التهكلة، يقول: " لا توبة لي ". فأمروا ألا ييأسوا من رحمة الله عزو جل ". وقال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنوب، فيقول: " لا توبة لي "، فينهمك في المعاصي، [فأمر/ ألا ييأس] من رحمة الله سبحانه ". وقال أبو أيوب الأنصاري:

" فينا نزلت هذه الآية، وذلك أنا/ معشر الأنصار لما أعز الله دينه قلنا سراً: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها نصلحها ". فأنزل الله D يرد علينا ما قد هممنا به من التخلف عن الجهاد ". فمعناه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} أي: لا تتأخروا عما هو أنفع لكم وهو الغزو. والعرب تقول: " ألْقَى فلان بيديه " إذا استسلم. قوله: {وأحسنوا}. قيل: معناه: أحسنوا الظن بالله D في المغفرة لمن تاب. هذا على قول من قال: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}. معناه في الذنوب، وألا ييأس من رحمة الله D. وقيل معناه: أحسنوا الإنفاق. وقيل: معناه: أداء الفرائض.

196

وقيل: معناه: أحسنوا الظن بالله تعالى أنه يضاعف الحسنات ويخلف النفقة. قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}. " ما " ي موضع رفع، أي: فعليه ذلك. وقيل: فوجب عليه ما استيسر. ولمعنى واحد. وقيل: هي في موضع نصب تقديره: " فَليُهدِ ما استيسر من الهدي. قال أبو عمرو: " الهدي جمع. واحده: هَدْيَةٌ، كَتَمْرَةٍ وتَمْرٍ ". وقيل: هو مصدر لا واحد له كرجال صَومٍ. فهو يقع للواحد والجمع والتأنيث كأنه مصدر " هدى إلى البيت هدياً " وبنو تميم يُثقلون ياء الهدي.

وقال الفراء: " لا واحد له ". قوله: {فَفِدْيَةٌ} أي فعلهي فدية. ويجوز النصب على معنى: فليُفد فديةً، وفليأت فدية. قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}. الثاني يجوز فيه ما جاز في الأول. قوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ} أي ذلك الفرض على من هذه حالته. قوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة}. أي: أتموا الحج إلى أقصى مناسكه، والعمرة إلى البيت، وفي قراءة عبد الله: " وأَتِمُوا الحَجّ والعُمْرَةَ إلَى البَيْتِ لله D ". وقرأ الشعبي: " والعُمْرَةُ لله " بالرفع/ وكأنه تأول أن النصب يوجب فرض العمرة، وليس كذلك عند أكثر العلماء، وإنما معنى النصب هو الفرض بإتمام ما قد دخل فيه الرجل. فالعمرة ليست بفرض، وإتمامها إذا دخل فيها الداخل فرض. فالقراءة بالرفع تخرج وجوب إتمام العمرة عند الدخول فيها أن يكون فرضاً بالآية.

ومعنى النصب: " أتموا الفرض والتطوع. والفرض قد بُيِن بقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97]. قال ابن عباس: " مَن أحرم بحج أو عمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما ". وقال مجاهد: " إتمامهما ان يقضي مناسكهما ". وقال علي بن أبي طالب: إتمامها أنتحرم من دويرة أهلك ". ويرد هذا فعل النبي [عليه السلام] إذا لم يحرم إلا من الميقات. وقال طاوس: " إتمامها أن تفرد/ ولا تقرن ". وقال قتادة: " إتمام العمرة/ أن يحرم بها في غير أشهر الحج ". وإتمام الحج: أن تأتي بمناسكه حتى لا يلزمك دم القِران ولا متعة لأن

من أحرم من غيرها بعمرة في أشهر الحج، ثم حج عامة فهو متمتع وعليه دم. وقال سفيان: " إتمامها أن تخرج من بيتك لا تريد غيرهما، وتهل من الميقات. ليس أن تخرج لتجارة أو لحاجة/ حتى إذا صرت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت ". وروي عن عثمان أنه قال: " إتمامها ترك الفسخ وأن تكون النفقة حلالاً. وليست/ العمرة بواجبة عند مالك وأبي حنيفة، وهي واجبة عند الشافعي. وقال عطاء وطاوس ومجاهد: " العمرة فرض كالحج ". وهو قول ابن جبير وعلي بن الحسين. وروي ذلك عن ابن عباس وعن ابن عمر. وروى جابر أن النبي [ A] سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ فقال: " لا، وأنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك ". وعنه أنه قال: " الحجُّ جِهادٌ، وَالْعُمْرَةوُ تَطَوُّعٌ ". وهو قول نافع، والقاسم بن محمد. وقال ابن مسعود: " الحج فريضة، والعمرة تطوع ".

وليس في هذا دليل على فرض الحج، ولا العمرة، إنما افترض في قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97]. إنما في هذه الآية فرض إتمام ما دخل فيه من حج أو عمرة. وهو داخل تحت قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} {المائدة: 1]. فمن عقد عقداً من حج أو عمرة أو غير ذلك من الطاعات فعليه إتمامه فرضاً من الله بآية العقود. فبان من هذا أن العمرة غير فرض إذ لم تأت بذلك آية، كما أتت في الحج. ومعنى " اعتمر ": قصد، كأنه افتعلمن " عَمَرَ ". والحج القصد. وقيل: اعتمر، معناه: زار.

والإحصار عند مجاهد الحبس بمرض. وهو عند عطاء الحبس من كل شيء مرض أو خوف أو غيره. وقال ابن عباس: " هو منع العدو لا غير ". وإنما أنزل الله الآية في إحصار العدو لرسول الله [عليه السلام] ومنعهم إياه أن يتم عمرته حين رجع، و [أحل في موضعه وعاد] في العام المقابل. وأكثر الناس على أن العلل العارضة المانعة من الحج غير داخلة في الإحصار، وحكمها حكم من فاته الحج، وليس حكم من منعه العدو حكم من فاته الحج. قوله: فَمَا استيسر مِنَ الهدي}. " هو شاة " قال ذلك علي وابن عباس. وقال قتادة: " أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة ".

وقال ابن عمر: " هو البقرة دون البقرة في السن، والبعير دون البعير ". وهو قول ابن الزبير وعائشة. فمعنى ذلك أن حبسه شيء عن إتمام حجة أو عمرته، فعليه إذا أراد أن يحل شاة/ أو بقرة أو بعير على مذكرنا من الاختلاف. ومذهب مالك أن الشاة تجزي. ولا هدي عند مالك على من أحصر بعدو، ولا قضاء لحجه ولا لعمرته إلا أن يكون ضرورة فعليه الحج. فإن كان الإحصار بمرض ونحوه فلا يحله إلا البيت، وعليه الهدي، إذا فاته الحج ويفسخ حجه في عمرة، وعليه حج قابل يكون معه الهدي الذي لزمه لفوات الحج. قوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ}. أي من أراد أن يحل، فلا [يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي] محله لأن حلقه إحلال.

وبلوغ الهدي محله هو نحره أو ذبحه في أي موضع كان، إذا أحصر بخوف أو عدو، لأن النبي [عليه السلام] حل بالحديبية ونحر بها حين صد، وحلقوا رؤوسهم. والحديبية ليست من الحرم. فالنحر مقدم على حلق الرأس بهذه الآية. قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي بمرض أو نحوه، فمحله بعد الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا/ والمروة. وليس على من أحصر بعدو أو خوف قضاء ولا هدي، ويحل في موضعه، [وينحر في مضعه من حل] أو حرم إذا فاته الحج بحصر العدو بخلاف حصر المرض ونحوه الذي يلزم/ فيه القضاء ولا يحله إلا البيت، ويلزمه الهدي عند قضاء ما فاته من حج أو عمرة؛ هذا مذهب مالك. إنما القضاء على من فاته الحج من غير إحصار عدو بمرض أو فوات. فإن كان الذي أحصر لم

يحج فعليه الحج لازم، وإن كان الذين أحصر بمرض لا يقدر على الوصول، ويخاف على الهدي أن يعطب، أرسله يُنحر بمكة، ويبقى هو على إحرامه حتى يطوف ويسعى وإن أقام سنين. قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ}. أي شقيقة أو وجع أو كثرة قلم. " وهذه الآية نزلت في كعب بن عَجُرَة إذ شكا إلى النبي [عليه السلام] كثرة قمله وذلك عام الحديبية، فأمره النبي [ A] بحلقه، وأمره بالهدي، فقال: لا أجد، فقال النبي A: " صُمْ ثلاثَةَ أيامٍ أوْ [أطْعِمْ سَتَّةَ مَساكينَ]. لكل مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ "، ففي ذلك نزلت الآية ". وقال الحسن: " عليه صوم عشرة أيام، أو إطعام عشرة مساكين ". وقاله

عكرمة قياساً على المتمتع. قوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج}. ومعنى التمتع عند الفقهاء المدنيين والكوفيين أن يعتمر الرجل الذي ليس من أهل مكة، ويحل من عمرته في أشهر الحج ثُمّ يجج من عامة ولم يرجع إلى أُفقه، أو أُفق مثل أفقه/ بين الحج والعمرة. فمن حصل له ذلك فهومتمتع، وعليه شاة. وقيل: بقرة، وقيل: / بدنة. فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى بلده، وهو معنى قوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} أي هذا الحكم يجب على الغرباء إذا حلوا من عمرتهم في أشهر الحج ثم حجوا من عامهم. يعني من ليس بقاطن من الغرباء بمكة/ يلزمه ذلك، خاصة على ما فسرنا. قال ابن عباس: " الثلاثة الأيام ما بين إحرامه إلى عرفة ".

وعن ابن عمر: " هن [يوم قبل] التروية، ويوم التروية ويوم عرفة ". وروي ذلك عن علي. وروي عن علي أنه قال: " أخرها انقضاء أيام منى ". وقالت عائشة Bها: " يصوم أيام منى ". وقال مالك: " يصوم ثلاثة أيام قبل النحر، فإن لم يصم صام أيام التشريق و [هي ثلاثة أيام] بعد يوم النحر، فإن لم يصبها صام بعد ذلك ". ولا اختلاف بين الفقهاء أن يوم النحر ويوم الفطر لا يجوز صومهما لأحد. وقال ابن عباس: " إذا فاته الصوم في العشر، فعليه دم ". وهو قول سعيدي بن جبير. وهو قول أصحاب الرأي.

وقال ابن عباس: " صيامه الثلاثة الأيم ما بين إحرامه إلى يوم عرفة وليس له صوم، قبل إحرامه. وقال مالك: " يصومهن إذا أهلّ متى ما أهل ". وقال مجاهد وطاوس: " له صومهن في أشهر الحج متى صام، وإذا دخل في الصوم ثُم وجد هدياً، وتمادى على الصوم أجزأ ". واستحب مالك أن يهدي إذا وجد قبل أن يتم قبل الصوم، إن كان صام يوماً أو يومين. فإذا صام أكثر من ذلك استحب أن يهدي. فإن لم يفعل فلا شيء عليه. وروي عنه إيجاب الهدي إذا وجده، وقد صام يوماً أو يومين، ويصوم السبعة متى شاء؛ إن شاء أخرها حتى يعود إلى مصره، وإن شاء عجل صيامها. وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}. إما قال تعالى: " عَشَرَةٌ " لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة فبيّن إيجاب العددين بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.

وقال المبرد: " إنما قيل: {تِلْكَ عَشَرَةٌ} / لأنه يجوز أن يظن السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبعة، فأزال اللبس ". فأما قوله: {كَامِلَةٌ}، فقال الحسن: " معناه: كاملة من الهدي ". أي قد كملت في المعنى الذي جعلت بدلاً منه. وقيل: معناه الأمر، كأن معناه: " تلك عشرة فأكملوا صومها ولا تقصروا فيها. وقيل: معنى " كاملة " التوكيد، كما تقول: " سمعته بأذني، ورأيته بعيني "، وكما قال: / {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]. وقيل: معناه: تلك عشرة وافية للهدي. وقيل: إنه قد كان جائزاً أن يقول: " وعليكم عشرة من قابل ونحوها " فلما قال: {كَامِلَةٌ}، علم أنه لا فرض بعد ذلك، كما تقول في آخر الحساب: " فذلك كذا وكذا " لتدل على أنه لم يبق شيء. وقيل: لما كانت العشرة/ تتركب من عددين عَيَّنَ الثلاثة والسبعة، ولو صامها أحد على غير [ثلاثة وسبعة] لم يكن يمكن بمكمل لما أراد الله D من الترتيب، فقال: {كَامِلَةٌ}، أي إذا صامها أحدهم على هذا الترتيب كانت كاملة. وإن لم يفعل،

فليست بكاملة في الفرض، وهي كاملة في العدد. ف " كاملةٌ " ليس بتأكيد للعشرة، وإنما هو تأكيد للكيفية في صومها وترتيبها. وقيل: لما كانت الواو قد تقع بمعنى " أو "، فتكون مخيرة في صيام سبعة أو ثلاثة. أتى بـ {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ليبين أن الواو ليست بمعنى " أو "، وأن السبعة والثلاثة يلزم صيامها، فبين بِ " عشرة " ذلك، وأزال اللبس والاحتمال. وهذا مبني على مذهب الكوفيين في إجازتهم لوقوع الواو بمعنى " أو "، وليس هو مذهب البصريين، لا تقع عندهم الواو بمعنى " أو " لاختلاف مَعْنيهما وحكميهما. قوله: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام}. قيل: اللام بمعنى " على " أي ذلك الحكم على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما قال: {لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] أي [و] عليهم. ومنه قول النبي [عليه السلام لعائشة]: " اشتَرِطِي لَهُمْ الوَلاءَ " أي عليهم. وقيل: اللام على بابها، وأن المعنى: أن التمتع لم هو من غير أهل مكة

ليس بقاطن بها، لأنهم تمتعوا بأحد السفرين إذا اعتمروا وحجوا في سفر واحد وانتقال واحد في أشهر الحج. وقيلأ: يراد بذلك أهل الحرم كلهم، لا متعة عليهم. وقال مالك: " هم أهل مكة وأهل ذي طوى لا متعة عليهم، وليس أهل منى منهم، بلا يكونون متمتعين كغيرهم من غير أهل مكة والحرم ". وقيل: هم مَن منزلُه دون الميقات في حرم أو غيره. رواه ابن جريح عن عطاء. وقال الزهري: " هو الذي بينه وبين مكة اليوم واليومان لا متعة عليه ". وكان الطبري يقول: " هو الذي ليس بينه/ وبين مكة ما تقصر فيه الصلاة ". وقيل: التمتع لبس الثياب وأخذ الطيب فيما بين العمرة والحج. وفعله، فعليه ما استيسر من الهدي، وذلك إذا كانت عمرته في أشهر الحج، فتمتع؛ فلبس الثياب وأخذ الطيب، ثم حج/ من عامة، فهو متمتع إذا كان من غير أهل مكة. وهو خلاف

197

قول أهل المدينة. قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}. فرق أبو عمرو بين الجدال والرفث والفسوق فجعل " لا " مع الجدال للتبرئة، وفتح وجعلها مع الرفث والفسوق، بمعنى " ليس " / فرفع/ وذلك لأن الجدال أتى على غير معنى ما قبله، لأن معنى الأول النفي الذي ليس بعام إذ قد يقع فيه الرفث والفسوق من أهل الخطايا، فجعلت " لا " بمعنى " ليس ". ومعنى الثاني أنه نفي عام إذ قد استقرت معالم الحج وثبت فرضه واستقام أداؤه، فلا جدال في إيجابه لأحد من الناس، ففتحه على ذلك. وقيل: المعنى: ولا جدال في كون الحج في ذي الحجة لأنهم كانوا يقدموا فيحجون في غير أشهر الحج ويؤخرون مثل ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قال: " الجدال أن تماري صاحبك ". فهذا التفسير يوجب أن تجري الثلاثة مجرى واحداً. ويجوز في الكلام النصب في الثاني والثالث والتنوين، [تعطفه على موضع لفظ

لا]، وما عملت فيه. ويجوز فتح الأول ورفع الثاني والثالث والتنوين؛ تعطفه على موضع " رفث " قبل دخول " لا ". وقرأ أبو جعفر يزيد برفع الثلاثة والتنوين، أجراها مجرا واحداً. قوله: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}. معناه: أشهر الحج أشهر معلومات ثم حذف، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وقيل: ذو الحجة كامل. وهما مرويان عن مالك. قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} أي من أوجبه. وقيل: من أحرم فيهن. والرفث هو الإفحاش للمرأة بالكلام في الجماع. وقال ابن عمر: " الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال

والنساء ". وهو مروي عن ابن عباس. وقال مالك: " الرفث إصابة النساء "، قال: " والفسوق: الذبح للأصنام، والجدال هو تخاصم في المواقف ". قوله: {وَلاَ فُسُوقَ}. لا معاصي فيما نهى عنه من قتل صيد أو أخذ شعر أو تقليم ظفر، ونحوه. وروى مجاهد عن ابن عمر: " {وَلاَ فُسُوقَ}: لا سباب ". وكذلك روى عن ابن عباس. وقال ابن زيد: {وَلاَ فُسُوقَ} لا ذبح للأصنام، وقرأ: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله} [الأنعام: 145]. وقوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}: أي لا يماري المحرم أحداً. وقيل: لا مراء فيه، أنه في ذي الحجة.

وقيل: معناه: لا يقال: / حجي أتم من حجك. وقيل: نهو أن يختلفوا في اليوم الذي يكون فيه الحج. وقيل: إنهم نهوا أن يتماروا في المناسك، فيقول هؤلاء: هذا موقف [إبراهيم ويقول الآخرون]: بل هذا. وقيل: بل ذلك إخبار من الله أن الحج/ قد استقامت أوقاته لا تتقدم ولا تتأخر وأن [النسيء باطل لا نسئ] فيه، قد استقام وثبتت أوقاته. فهذا على قراءة أبي عمرو حسن لأنه مخالف لما قبله في المعنى فخالف بين إعرابه. والأقاويل الأول تجري على قراءة فتحها كلها. أو من نوَّنها كلها، لأنها منهاج واحد. قوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}.

نزلت هذه الآية في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بضعهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد، فأمروا بالزاد. قال ابن جبر: " هو الكعك والسويق ". وقال الشعبي: " هو التمر والسويق ". وقال ابن جبير: " هو الكعك والزبيب ". وقال سفيان: " حجوا فسألوا في الطريق، فنهوا عن ذلك وأمروا بالزاد ". وقال ابن عباس: " كان ناس يخرجون ولا يتزودون، ويقولون: نحج ولا يطعمنا الله كأنهم يمتحنون الأمر، فأمروا بالزاد ". وقيل: هم قوم كانوا يخرجون بلا زاد، يقولون: نتوكل. فأمروا بالزاد ". قوله: {يا أولي/ الألباب}. أي أولي العقول. [يقال: " لَبَبْتُ] أَلُبُّ، وليس في كلام العرب فعل يفعل في المضاعف غير هذا الحرف.

198

قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}. أي لا حرج ولا ضيف في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده. ونزلت هذه الآية في القوم كانوا لا يتجرون إذا أحرموا، يرونه من البر، فأعلمهم الله أنه لا حرج فيه وليس من البر. وقيل: إن قوماً كانوا يزعمون أنه ليس لتاجر ولا جَمَّال ولا أجير حج، فأعلمهم الله أن ذلك مباح. قوله: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عرفات}: أي اندفعتم. وسميت عرفات بهذا الاسم، لأن نعتها كان عند إبراهيم A. فلما رآها عرفها، فقال: " قد عرفت " فسميت " عرفات ". وق السدي: " لما أذَّن [إبراهيم في الناس بالحج] أجابوه بالتلبية، فأمره الله D أن يخرج إلى عرفات، ونعتها له فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله

الشيطان يرده فرماه بسبع حصيات/ يكبر مع كل حصاة فطار، فوع على الجمرة الثانية وهي [عقبة الثنية] فصدوه فرماه وكبر، فطار، فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر، فلما رأى أنه لا يطيقه ذهب، فلم يدر إبراهيم أين يذهب حتى أتى ذا الجاز رآه. فلما انظر إليه، لم يعرفه وهو مكان، فسمي ذلك " المجاز ". ثم انطلق حتى وقف بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، فقال: قد عرفت فسمي " عرفات "، فوقف بها حتى إذا أمسى ازدلف إلى " جمع "، فسمي " المزدلفة " / فوقف " بِمَجمع ". وقال ابن عباس: " كان جبريل يُعَلِّمُ إبراهيم المناسك، وإبراهيم A يقول: قد عرفت، فلذلك سميت عرفات. وسمي الموسم موسماً لأن الناس يسم فيه بعضهم بعضاً أي يعرف ". والمشعر هو ما بين جبلي المزدلفة من حد منتهى مأزمي عرفة إلى محسر، وليس مأزماً عرفة من المشعر. وموضع المصلى اليوم في بطن عرفة، فإذا خرج الإنسان عرفة فإذا خرج الإنسان منه صار بعرفة.

199

قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين}. معناه: وما كنتم من قبل الهدى إلا من الضالين، " فَإنْ " بمعنى " ما " واللام بمعنى " إلا ". وقد قيل: إنَّ " إنْ " بمعنى " قد " ذكره الطبري، وليس بجيد في اللغة. قوله: / {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. أمر الحمس وهم قريش أن يفيضوا من حيث أفاض جميع الناس لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة افتخاراً وتعالياً، ويقولون: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه إلى عرفات. فأمروا أن يقفوا مع الناس. ويفيضوا من حيث أفاض الناس أي من عرفة. قالت عائشة Bها: " كانت قريش ومَن دانها يفقون بالمزدلفة، ويقف الناس بعرفة فأمروا أن يقفوا مع الناس ". وقال الضحاك: " معنى الآية: أن الله تعالى أمر جميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس قبلهم ".

والناس هم إبراهيم A ومن كان معه وذلك/ من جمع. وتقدير {ثُمَّ أَفِيضُواْ}: ثم أمرهم بذلك على معنى التأكيد لما أمر الله به أوّلاً، لأنه تعالى قد ذكر المعشر والإفاضة من عرفات قبل ذلك ثم قال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. فإن كان/ عرفات فليس الإفاضة من عرفات بعد الذكر في المشعر الحرام، فالمعنى هو التأكيد لا أنه اتباع حكم لحكم تقدم. وروي أن قريشاً كانت قد اتبدعت أشياء منها أنهم امتنعوا أن يَقِفُوا بعرفات لأجل أنها في الحل، فقالوا: لا ينبغي لنا أن نعظم إلا الحُرُم، فكانوا وحلفاؤهم يقفون يوم عرفة بمزدلفة، ويقف سائر العرب بعرفات وسما أنفسهم ومَن وَالاَهم على ذلك الحمس، وابتدعوا ألا يأتقطوا الأقِط ولا يسألوا السمن وهم محرمون، ولا يدخلوا بيتاً من شعر وهم حرم، ولا يستظلوا وهم حرم إلا في بيوت الأُدْم، ولا يأكلوا وهم حرم من طعام جيء به في من الحل، وابتدعوا ألا [يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب] الحمس، فإن لم يجد ذلك طاف عرياناً. فإذا تم طوافه أخذ ثيابه، فإن

طاف أَحَدٌ بثيابه ألقاها إذا فرغ/ من طوافه، فلا يأخذها أبداً هو ولا غيره. وكانت العرب تسمي لك الثياب اللُّقى، وسمحوا للمرأة أن تدع عليها درعها. فلم يزل الأمر ذلك حتى بعث الله محمداً A فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. يعني قريشاً إذ كانت تفيض من مزدلفة. وقيل: يعني سائر العرب، إذ كانوا يفيضون من عرفات، فيكون في الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، وفي ذلك أنزل: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ واشربوا} [الأعراف: 31] فأباح لهم ما حرموا على أنفسهم من لبس الثياب، والطعام والشراب. وقد قيل: إن " ثُمَّ " بمعنى الواو في هذا. فأما المعنى على قول الضحاك: فثم على بابها، لأنه يقول: أمرهم أن يفيضوا من جمع، والإفاضة من جمع لا شك أنها بعد الوقوف بمزدلفة وبعد الإفاضة من عرفات. وقد قال الطبري: " إن من قال: إنه عرفات، ففي الكلام تقديرم وتأخير، وتقدير. ومعناه: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}، {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}، قال: " ولولا الإجماع من أهل التأويل على أن المراد بقوله {ثُمَّ أَفِيضُواْ} من عرفات، لكان قول الضحاك هو لوجه

200

البين؛ إن المراد به " جمع " لأنه على ترتيب الكلام وسياقه ولا تقديم فيه ولا تأخير ". ويدل على أن المراد به " جمع " قوله: {واستغفروا الله} وذلك أن النبي [عليه السلام] قال: " دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لأُمَّتِي ذُنُوبَهَا، فأجَابَنِي: أَنِّي قَدْ غَفَْتُ إِلاَّ ذُنُوبَهَا/ فيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَلْقِي، فَأعْدَتُ الدُّعَاءَ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ أُجَبْ شَيْئاً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ المُزْدَلِفَةِ قُلْتُ: يَا رَبّ، إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُعَوِّضَ هَذَا الْمَظْلُوم مِنْ ظَلامَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمَ، فأَجَابَنِي أَنِي قَدْ غَفَرْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ A فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَحِكْتُ مِنْ عَدُوِّ اللهِ إِبْلِيسَ لَمَّا سَمِعَ مَا سَمِعَ، أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَىَ رَأْسِهِ ". فأمر/ المسلمون أن يستغفروا في ذلك الموضع الذي غفر الله [لهم فيه] التبعات فيما بينهم وهي أعظم من التبعات فيما بينهم وبين الله. ومعنى: {واستغفروا الله}. استدعوا المغفرة. قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ}. أي أهراقة الدماء. قاله مجاهد. وقيل: متعبداتكم التي أمر بها في الحج/ وكان القوم في الجاهلية إذ فرغوا

من حجهم وقفوا فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمروا أن يكون ذلك الثناء على الله أو أشد منه، والخلاق: النصيب. وقال عطاء: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ}، هو قول الصبيان: " أبا، أبا " يلهج بذكر أبيه ". قوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا}. قال مجاهد غيره: " كانوا يسألون الله لأمر دنياهم والظفر على عدوهم، ولا يسألونه إلى الآخرة شيئاً ". قوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ}. أي عافية في الدنيا، وعافية في الآخرة. قاله قتادة.

وقيل: " الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة. وفي الآخرة: الجنة ". قاله الحسن وسفيان. وقال ابن زيد: " الحسنة في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة "، وقاله السدي. ومعنى: {سَرِيعُ الحساب}. أي يحصي ما يحصيه بغير كلفة ولا تكلف، وليس مثل ما يتكلف له بنو آدم من العقد/ وغيره. وقيل: معناه: يحاسبه بغير تذكر ولا كتاب. وقيل: معناه: مجاز للفريقين على أعمالهم. وقيل: معنى: " السرعة ": أنه يغفر السيئات ويضعف الحسنات بلا حساب على من فعل به ذلك ولا كلفة. قوله: {واذكروا الله/ في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}.

هذه الآيام هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وهي أيام منى عند مالك. وقال زيد بن أسلم: " المعلومات: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، والمعدودات: أيام التشريق ". وعن مجاهد وابن عباس: " المعلومات: " العشر. والمعدودات: " أيام التشريق ". وإنما سميت أيام التشريق لأن الناس يشرحون فيها للحم ويقددونه، فالتشريق التشريح. فكأنها سميت أيام التشريح، فأمروا بالذكر فيها عند رمي الجمار وغيرها. وقال النبي [عليه السلام] في أيام منى - وهي أيام التشريق -: " هِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ ". والأيام المعلومات هي: يوم النحر، ويومان، بعده. فيوم النحر معلوم، ويومان

بعده معلومان معدودات، واليوم الثالث بعد يوم النحر معدود. قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ}. أرخص الله تعالى أن ينفر الناس اليوم الثاني من الأيام المعدودات وأعلمهم أن من تأخر إلى اليوم الثالث أنه لا إثم عليه، أي لا حرج ولا ضيق في تركه الرخصة، ومن تعجّل فلا إثم عليه في تركه الاتمام إلى اليوم الثالث. وروي عن ابن مسعود وابن عمر: " لا إثم عليه: أي قد غفر له، ومن تأخر قد غُفر له ". وقل/ ابن عباس: " لا إثم عليه: أي رجع مغفوراً له "، وقال: " إن العمرة لتكفر ما معها من الذنوب، فكيف بالحج ". واستبعد جماعة تأويل من قال: " لا حرج عليه "، لأن من جلس إلى الثالث

فقد أتى بالغاية، فليس يقال لمن أدى فرضه: " لا حرج عليك فيما صنعت ". وقيل: معناه: لا حرج عليك في تركك الرخصة. ومن قال: " غفر له " معناه. فهو أبين وأحسن/ وعليه [أكثر] الناس. وقال مجاهد: " معناه: لا إثم عليه إلى الحج القابل ". {وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. أي لا حرج عليه إلى الحج القابل، أي مغفور له إلى ذلك الوقت. وقال أبو العالية: " معناه: غفر له ما تقدم "، وفي مصحف عبد الله: " لمن اتقى الله ". قال ابن عباس: " معناه: لا حرج عليه لمن اتّقى المعاصي فيما يستقبل، أي

غفر له ". وقيل: معنى {لِمَنِ اتقى} أي: اتقى قتال الصيد في الحرم. وقال ابن مسعود أيضاً: " {إِثْمَ} أي: مغفور له إن اتّقى ما حرم عليه في الحج ". وروى أبو حازم عن أبي هريرة أن النبي [عليه السلام] قال: " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهِ ". وروي أن عمر قال لما سمع الآية: " خرج القوم من ذنوبهم، وربّ الكعبة ". وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي A قال: " الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ/ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةَ. والعُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا " ومعنى اللام في {لِمَنِ اتقى}: أي: هذا لمن اتّقى. وقيل: المعنى: قلنا فلا إثم عليه لمن اتّقى. واللام متعلقة بالقول. وقال

الأخفض: " ذلك لمن اتّقى ". وقيل: معنى: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: لا يقل المتعجل للمتأخر: أنت آثم، ولا المتأخر للمتعجل: أنت آثم. تم الجزء الرابع

204

قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياوة الدنيا} الآية. نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، واسم الأخنس أبي، وأمه ضبيعة عمة عثمان Bهـ، كان حليفاً لبني زهرة، وكان قد أتى مع قومه بني زهرة إلى بدر مع المشركين يريدون قتال النبي A فلما أتوا الجحفة، أشار على بني زهرة بترك القتال فأطاعوه، فأخنس بهم من المشركين، ورجع فسمي الأخنس فلما بلغ النبي [عليه السلام] قوله وما أشار به على بني زهرة عجب من ذلك، ففيه نزلت: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} الآية. ثم إنه قعد ذلك قدم على النبي [عليه السلام] فأظهر المحبة للإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، وأنه صادق في قوله، فأعجب النبي [عليه السلام] منه ذلك وكان يبطن الغش والنفاق، فلما خرج أفسد زَرْعَ/ الناس بالنار وأهلك مواشيهم، فذلك قوله: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث} أي: بالنار والنسل. وري أنه

عقر حمراً، وفيه نزلت: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ/ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]. وفيه نزلت: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] إلى {الخرطوم} [القلم: 16]، لأنه حلف أنه ماقدم إلا رغبة في الإسلام وأنه صادق في يمينه، فقال الله D: { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} أي أنه صادق فيه قوله. وقوله: {أَلَدُّ الخصام}. أي شديد الخصومة. وقيل: معناه أنه كاذب في قوله. والخصام مصدر " خاصم ". وقال الزجاج والقتبي: " هو جمع خصم. يقال: خصم، وخصوم، وخصام ". وعن ابن عباس أنه قال: " نزلت في السرية التي أصيبت للنبي عليه السلام تكلم قوم من المنافقين فيها، فأخبر الله عن اختلاف سريرتهم وعلانيتهم ". وقيل: إن الآية عامة في كل منافق أخبر الله أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد بقلبه. وقد

قال في موضع آخر، {وَإِذَا/ لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} [البقرة: 14]، وقال: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119]. فأخبر الله أنه يشهد على ما في قلبه. يريد أنه يقول ما يقول، ويستشهد بالله أنه صادق في قوله؛ يقول: الله يشهد أني صادق فيما أقول وهو كاذب. فأخبرنا الله تعالى أنه شديد الخصومة، وأنه إذا تولى سعى في الأرض بالفساد الذي هو سبب هلاك زرع الناس لأنه إذا أفسد اشتغل بالحرب والقتال عن الزرع، وإذا لم يكن زرع لم تجد البهائم ما تأكل، فيذهب النسل/ وقوله: {وَيُشْهِدُ الله}. أي يقول: اللهم إنك تشهد أني صادق: " وهو كاذب ". وقرأ ابن محيصن: " ويَشْهَدُ اللهُ " بفتح الياء، ورفع الاسم على معنى: [والله] يشهد أنه كاذب في قوله. وقيل: معنى، {وَإِذَا تولى} إذا غضب، فعل ذلك.

207

وقال مجاهد: " إنه إذا أفسد وتعدى، كان ذلك سبب إمساك الله القطر، وإمساكه هلاك الحرب والبهائم، وقرأ مجاهد: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} [الروم: 41]. وقرأ الحسن وقتادة: {وَيُهْلِكَ} بالرفع عطفاه على يُعْجِبُكَ. وقال أبو حاتم: " عطف على {سعى}، أي يسعى ويهلك، وقال الزجاج: " معناه: وهو يهلك ". وعن ابن كثير أنه قرأ: " ويهلك " بتح الياء والنصب، الحرب والنسيل بالرفع. ومثل الجماعة أشهر عنه. قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية. أي يبيع نفسه من أجل مرضاة الله، ونزلت في المهاجرين والأنصار

المجاهدين منهم. وقال عكرمة: " نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر الغفاري وهو جندب ابن السكن خرجوا/ مهاجرين وطلبهم أهلوهم، فأما أبو ذر فانفلت منهم، وأما صهيب فأخذوه أهله، وافتدى بأهله وماله من مولاه وكان مملوكاً لزيد بن جدعان. وروي أنه كان يعرف بالرومي وأصله من العرب، وإنما سمي بذلك لأنه سبي وهو صغير، فسار إلى الشام، فتغير لسانه ثم صار مملوكاً لزيد بن جدعان، فلما أمر النبي [عليه السلام] بالهجرة آمن وافتدى من مولاه بماله كله، وخلى سبيله/، فخرجت بنو تميم في طلبه، فلما أدركوه أخذ

قوسه وخوفهم من قبله، وتواعدهم، فخافوا رميه ونبله وكان رامياً مجوداً فرجعوا وتركوه، فلما وصل المدينة قال له عمر: " ربح بيعك لا تقيل ولا تقال ". وشهد بدراً، ففيه نزلت {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء} الآية. فيشري على هذا القول بمعنى يشتري، وعلى القول الأول بمعنى " يبيع ". وقال الربيع: " نزلت في رجل منع الخروج إلى النبي [ A] فافتدى منهم بداره وماله، وخلوه فخرج إلى النبي عليه السلام فلقيه عمر في رجال فقال: ربح بيعك، قال: وبيعك، فلا خَسِر، فما ذاك؟ قال له: أنزل فيهك كذا وكذا ". وقيل: نزلت الآية في رجل مسلم حمل على المشركين، بسيفه غضباً لله إذ

سمع الكفر به من رجل من المشركين، فقاتل حتى قتل. فيشري على هذا بمعنى/ يبيع. وقيل: نزلت في رجل مسلم قال لمشرك: قل: لا إلا الله. فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشربن نفسي من الله ". أي لأَبِيعَنَّهَا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل C. وقال ابن المسيب: " أقبل صهيب مهاجراً فاتَّبعه نفر من المشركين. فنزل عن راحلته وانتشر ما في كنانته، وقال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وأَيْمُ الله، لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فعادهوه على أن يدلهم على بيته ماله بمكة ويدعوه

208

ففعل، وقدم على النبي [عليه السلام] فقال له: أبا يحيى، رح البيع، فأنزل الله {وَمِنَ الناس} الآية. وقيل: إنه عني بها كل من باع نفسه من الله، روي ذلك عن عمر وغيره. وهو أولى بظاهر الآية عند الطبري وغيره. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم}. / قال ابن عباس: " السِّلْمُ - بالكسر - الإسلام " وهو قول أبي عمرو.

وَالسَّلْمُ - بالفتح - المسالمة والصلح. فعلى هذا يكون الكسر هنا أقوى وأحسن لأن الخطاب للمؤمنين، فليس للصلح وجه. وأهل اللغة يسوون بينهما، / قاله الكسائي وغيره، ومعنى أمره إياهم بالدخول في الإسلام وهم مؤمنون على قول الضحاك، إنه إنما خاطب من آمن بالأنبياء أن يؤمنوا بمحمد [عليه السلام]. وقال عكرمة: " نزلت في ابن سلام وابني كعب: أسد وأسيد، قالوا بعد إسلامهم لرسول الله [عليه السلام]: إن السبت كان مفروضاً فأذن لنا أن نسبت وإن التوراة كتاب الله، فأذن لنا أن نحكم بها فأنزل الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم}، أي في الإسلام. {كَآفَّةً}: أي في جميعه، فيكون " {كَآفَّةً} " على هذا القول حالاً من السلم.

وقيل: هي مخاطبة لجميع من آمن بمحمد A، ومعناها: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام وحدوده. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام كان يقيم شرائع التوراة وشرائع القرى،، فأنكر ذلك [عليه المسملون]، فقال: أنا أقوى على هذا، فنزلت الآية فترك ما كان عليه ورجع إلى شرائع الإسلام وما في القرآن. واختار الطبري قراءة الكسر في السلم. ويختار أن يكون مخاطبة للمؤمنين بمحمد [عليه السلام] وأن الصلح لا معنى له على هذا، واختار {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] لأنهم دعوه إلى الصلح، وليس في القرآن موضع أمر الله فيه المؤمنين بأن يبتدئوا بالصلح، إنما أمرهم بذلك إذا بدأهم به المشركون ورغبوا فيه، فلذلك يختار الكسر في البقرة لأنا لو فتحنا لأوجبنا أن الله أمر المؤمنين أن يبدأوا

المشركين بالصلح، ويختار الفتح في " الأنفال " لأنه قلا: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] / أي ابتدأوا وطلبوا ذلك منك، فافعل ما سألوا وتوكل على الله. وإذا كان التأويل أن المؤمنين بمحمد A أمروا بذلك أو بضعهم، فيكون {كَآفَّةً} حالا من السلم على معنى: " ادخلوا في الشرائع كافة "، أي في جميعها. وإذا كان التأويل أن المؤمنين بالأنبياء - صلوا الله عليهم - الذين لم يؤمنوا بمحمد A، أمروا بالإيمان لمحمد A، فيكون " كافة " حالاً من المأمورين، أي ادخلوا جميعاً. وقال ابن عباس: " هم أهل الكتاب أمروا بالإيمان بمحمد A بالدخول في شرائعه ". ومعنى " كافة " الإحاطة والعموم، من " كَفَفْتُ فلاناً عن/ كذا "، منعته، ومنه " رجل مَكْفٌوفٌ " أي ممنوع من النظر، ومنه " كَفَّهُ الميزان لأنها تَكُفُّ الأخرى، أي تمنعها من أن تميل بها. ومنه سمي الْكَفُّ لأنه يمتنع بها. فمعناه على هذا إذا جعلت حالاً من الضمير: لا يمتنع منكم أحد أن يكف بعضهم بعضاً من الامتناع.

209

وجعله حالاص من " السلم "، فمعناه: تمنعكم هذه الشرائع من اتباع غيرها. قوله/: {خُطُوَاتِ الشيطان}. أي آثاره. وقال الضحاك: " هي الخطايا التي يأمر بها ". قوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ}. أي أخطأتم. وقيل: ضللتم. وقال ابن عباس: " هو الشرك ". والبينات محمد A والقرآن. وقوله: {عَزِيزٌ} أي ذو عز لا يمنعه من الانتقام منكم مانع {حَكِيمٌ} فيما يفعله بكم من العقوبة على زللكم بعد إقامة الحجة وظهور البراهين. قوله: {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة}. مَن خَفَضَ " الملائكة " عَطَفَ على " {ظُلَلٍ} ".

وقال أبو إسحاق: " هي عطف على الْغَمَامِ "، وهي قراءة أبي جعفر، وقراءة الجماعة [الرفع على العطف] على الاسم المرفوع بعد " يَأتِيَهُمْ ". وقرأ أبو جعفر " في ظُلالٍ وَقَضَاءِ الأَمْرِ " بالمد والخفض. وفي قراءة أبي: " إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ وَالْغَمَامُ فِي ظلل مِنَ المَلاَئِكَةِ ". وهذا الإتيان عند أكثرهم يوم القيامة يكون. وقال قتادة: " ذلك عند الموت ". وهو قول شاذ. وقيل: معنى {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام}، " بظلل "، ففي بمعنى " الباء ". وهذا قول حسن بَيِّن.

قال عكرمة: {ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} " طاقات منه والملائكة حوله ". وأكثر أهل التفسير على أن في الكلام تدقديماً وتأخيراً في قراءة من رفع الملائكة، والمعنى: إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام. قالوا: والرب يأتي كيف شاء، و {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} من حال الملائكة. وجماعة منهم على أنه تعالى يأتي في ظلل من الغمام، وتأتي الملائكة/ كيف شاء. وهذا اختيار الطبري. وروى ابن عباس عن الن بي [عليه السلام] أنه قال: " إن الغمامة [طاقات يأتي الله جل وعز] فيها محفوفاً ". قال أبو محمد Bهـ: [ويجب] أن تعتقد أن صفات الله جل ذكره بخلاف صفات المخلوقين، فلا تعتقد إلا أن الإتيان والمجيء من الله تبارك وتعالى صفة وصف بها نفسه لا إتيان انتقال وتغير حال، تعالى الله عن ذلك.

211

وقد قدره قوم على حذف كأنه " إلا أن يأتيهم أمر الله ". وقيل: معناه: ثواب الله وعقابه. وهذا كله توعد لمن تقدم ذكره من التاركين للدخول في الإسلام ولسعيهم بالفساد في الأرض. ومعنى: {وَقُضِيَ الأمر}: فرغ منه. قوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}. أعلمنا تعالى برد الحساب والعقاب إليه والأمور الآن وفي كل وقت إليه مصيرها، وبيده تصرفها، وعن مراده كونها. وإنما خص ذلك الوقت بالذكر لأنه وقت لا يدعي فيه أحد أمراً ولا نهياً ولا ملكاً ولا مقدرة، والدنيا يها الجبارون والكافرون يدعون ذلك لأنفسهم، والآخرة لا يدعي فيها أحداً شيئاً، فلذلك خص الله رد الأمور إليه/ في الآخرة مع كونها مردودة إليه في الدنيا. قوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} الآية.

كتبوا في المصحف {نِعْمَةَ الله} هاهنا بالهاء، وكذلك في سائر القرآن إلا أحد عشر موضعاً كتبت بالتاء: في البقرة: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} [الآية: 231]. وفي آل عمران {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ} [الآية: 103]. وفي المائدة: {اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ} [الآية: 11]. وفي إبراهيم: {نِعْمَةَ الله كُفْراً} [الآية: 28]. وفيها: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]. وفي النحل: {وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} [الآية: 72]. / وفيها: {نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل: 83]. وفيها {واشكروا نِعْمَتَ الله} [النحل: 114]. وفي لقمان: {تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله} [الآية: 31]. وفي فاطر: {نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ} [الآية: 3]. وفي: والطور: {فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الآية: 29]. والأصل في جميعها التاء، ولكن من موقف بالهاء فإنما ذلك للفرق بين الأفعال

والأسماء نحو " قامت " و " شجرة ". [وقال] سيبويه: فعل ذلك للفرق بين التاء الأصلية والملحقة والزائدة في " العنت " و " ألفت "، و " عفريت "، و " ملكوت " و " شجرة ". وهذه هي التاء الزائدة. ولغة طيء الوقف بالتاء. وقال الفراء: " من وقف بالتاء، أراد الوصل، ومن قف بالهاء أراد الوقف الصحيح ". وأنكر ذلك ابن كيسان وغيره. [وكل ما] كتب منه بالتاء، فمذهب المدنيين الوقف بالتاء على ما في المصحف. ومذهب أبي عمرو والكسائي وخلف وابن كيسان الوقف بالهاء على الأصل المشهور وقد قال ابن كيسان: " من وقف بالتاء فإنما نوى أصلها لأن أصلها التاء ". وقوله: {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}. يعني العصا وانفجار الحجر وانفلاق البحر ونحوه، ثم كفروا بعد ذلك وبدلوا هذه النعم، فأمر الله نبيه عليه السلام/ بالصبر وأخبره بفعل من قبله في سالف الدهر، وقال

212

له: سلهم كم أعطوا من الآيات ثم لم ينفعهم ذلك. ومعنى {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} أي: من يغير ما عاهد الله عليه من قبول/ ما جاء به محمد A من الإسلام فيكفر، فإن الله يعاقبه. قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ}. أخبرنا الله تعالى أنه زين لهم حب الدنيا واتباعها، وأنهم يسخرون ممن اتبع الآخرة، وذلك أ، هم قالوا: " لو كان محمد نبياً لا تبعه أشرافنا، وما نرى اتبعه إلا أهل الحاجة ". وقال الزجاج: " معنى {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي زينها لهم إبليس لأن الله تعالى قد زهد فيها ". وقيل: معناه خلق الأشياء الحسنة المعجبة، فنظر إليها الكفار بأكثر من مقدارها، ومثله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ/ حُبُّ الشهوات} [آل عمران: 14]. قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

213

قال قطرب: " معناه يعطي العدد، لا من عدد أكثر منه، فيوجب بذلك بقاء الكثير ". وقيل: معناه أن ثمة أشياء لا يحاسب بها ويغفرها. وقيل: معناه: ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، والكافر على قدر كفره، أي ليس يرزق في الدنيا على قدر العمل. وقيل: معناه: نحو محاسبة أي ما يخاف أحداً/، يحاسبه عليه. وقيل: معناه: بغير حساب للمعطي. أي يعطيه من حيث لا يحتسب. قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة}. الآمة هنا قول ابن عباس وعكرمة: من كان بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، وكانوا على دين من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال ذلك ابن عباس وغيره. وول من بعث الله نوحاً عليه السلام.

والأمة هنا معنها الأمم، ودل الواحد على الجماعة. وأصل الأمة الجماعة [تجتمع على دين] واحد قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] أي على دين واحد. وقيل: معناه: كان آدم وحواء عليهما السلام أمة واحدة في الطاعة. وسيما بالجماعة لأنهما أصل لها. وقال ابي بن كعب: " معناه كان جميع الخلق أمة واحدة إذا استخرجهم من [صلب آدم] وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]. فأقروا كلهم فكانوا كلهم أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا/ إذ ظهروا إلى الدنيا فبعث الله النبيين مبشرين من أقام على عهده بالجنة. ومنذرين من خالف ما عهدَهُ إليه بالنار ".

وقال ابن زيد عن أبيه " لم يكن الناس أمة واحدة قط، إلا حين أخرجهم الله من ظهر آدم A ". وقيل: الناس هنا: نوح ومن كان معه في السفينة. وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: " كانوا على الكفر فبعث الله النبيين ". قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ}. أي لم يختلف في التوراة إلا الذين نزلت عليهم. {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} الآية. أي الحجج أنه من عند الله، فكان خلافهم تعمداً للبغي بينهم لحب الدنيا وملكها والتنافس فيها فبغى بعضهم على بعض، وقتل بعضهم بعضاً على ذلك. وقال زيد بن أسلم: " اختلفوا في يوم الجمعة؛ فاتخذ اليهود السبت، / والنصارى الأحد فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق،

واليهود بيت المقدس، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه [وسلم] للقبلة. واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنه من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ويتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم A؛ فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً، وجعله الله حنيفاً مسلماً، فهدى الله أمة محمد A للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى A؛ فكفرت به اليهود، وقالوا في أُمِّهِ بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الليه عليه وسلم للحق من ذلك ".

والبغي: الاعتداء والطغيان، يقال للبحر إذا فاض وكثر ماؤه: " بَغَى الْبَحْرُ " أي طغى. وتقدير الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغياً بينهم من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر هذا قوم لأن المصدر لا يتقدم عليه ما تعلق به، وهذا الا عتراض لا يلزم لأن " من " متعلقة " بأُوتُوهُ " لا " بالبغي ". ومعنى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أي الكتب. قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس}. وقرأ الجحدري. " لِنَحْكُمَ " بالنون. وقالوا أبو إسحاقَ: " معنى {وَمَا/ اختلف فِيهِ}. أي في النبي محمد A { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ}، أي أعطوا علم نبوته، فعلوا ذلك للبغي. قوله: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ}.

أي هداهم الله لمعرفة ما اختلفوا فيه من الحق إذ هداهم للإيمان بما اختلف فيه الأولون من الحق. قال النبي A: " نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُون/ يَوْم الْقِيَامَةِ؛ نَحْنُ أَوَّلُ/ النَّاسِ دُخُولاً الجَنَّة بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُو الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وأُتينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهَدَانَا اللهُ لِمَا/ اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإِذْنِهِ " فَهَذا اليّوْم الذِي هَدَانتَا اللهُ لَهُ وَالنَّاس لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، غداً لليهود، وبعد غَدٍ لِلنَّصَارى ". وهذا الاختلاف الذي هدى الله المؤمنين إليه، ووفقهم لإصابته وهي الجمعة ضلوا عنها، وقد فرضت عليهم كما فرضت علينا فجعلوها السبت، وجعلها النصارى الأحد. وقال ابن زيد: " اختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من صلى إلى المشرق، ومنهم من صلى إلى بيت المقدس، فهدانا إلى الكعبة. واختلفوا في الصيام؛ فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من/ يصوم بعض ليلة، فهدانا الله له. واختلفوا في الجمعة؛ فأخذ اليهود السبت،

وأخذ النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم A؛ فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً، فهدانا الله إلى إنه كان حنيفاً مسلماً، وكذلك اختلفوا في عيسى A؛ فهدانا الله لجميع ذلك على الحق بمحمد A ". وهذا عند أكثر أهل العلم فيه قلب، والمعنى: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، كما قال: كَانَ الزِّنَا فَرِيضَةَ الرَّجْمِ ... فالهداية إنما هي للحق ولم يهدهم للاختلاف. وظاهر الآية يعطي الهداية للاختلاف لأنه قال: {فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق}. ولكن الكلام فيه قلب أتى على لغة العرب وعادتها في كلامها. وهذا قول الطبري واختياره.

214

وقد قيل: إن المعنى: إن الله هداهم للاختلاف أنه باطل، فآمنوا بما كفر به غيرهم. قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة}. " أم " للخروج من حديث إلى حديث. وقال الطبري: " أم " للاستفهام، ومعنى اللام " أحسبتم ". قال: وإنما تكون " أم " للاستفهام إذا تقدمها كلام، فإن لم يتقدمها كلام لم تقع كذلك ". قوله: {حتى يَقُولَ الرسول}. النصب فيه على الغاية كأنك قلت: " وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ". فيكون الفعلان قد مضيا. ويجوز النصب في غير القرآن على أن تجعل الثاني من أجله وقع الأول،

كأنك قلت: " كي يقول "، فالأول حدث كي يكون الثاني، ولا يحسن هذا في الآية. والرفع في الآية على أن يكون ما بعدها جملة لا تعمل " حتى " فيه، أي " زلزلوا، فقال الرسول "، ويكون الفعلان أيضاً مضيا أي حتى هذه حال الرسول، ويجوز الرفع في الكلام على أن يكون الأول قد مضى، والثاني في الحال؛ تقول: " سرت حتى أدخلها " أي حتى أنا الآن أدخلها، فالسير مضى، والدخول الآن، ولا يجوز هذا في الآية. وقال أبو عمرو: " لما اختلف الفعلان في الآية، كان الوجه في الثاني النصب ". قوله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ}. يجوز في " قريب " النصب على أنه نعت لظرف محذوف. ولا يثنى قريب

ولا يجمع ولا يؤنث إلا أن يكون للنسب والقرابة، فيجوز ذلك فيه. ومعنى الآية: أحسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم يصبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم من اتباع الأنبياء من الشدائد والخوف حتى قال الرسول والذين معه: {متى نَصْرُ الله}، كأنهم استبطأوا النصر فأخبرهم الله تعالى أن/ نصر الله قريب. وقيل: إن في الآية تقديماً وتأخيراً وحذفاً للاختصار والتقدير: وزلزلوا حتى يقولوا؟ {متى نَصْرُ الله}، ويقول لهم/ الرسول: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} اسبتطأوا النصر وزاد عليهم الخوف، فقالوا: متى نصر الله؟ فقال لهم الرسول: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ}. فقوله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} من قول الرسول، وقوله: {متى نَصْرُ الله} من قول المؤمنين من أمة الرسول. وهذه الآية في قول السدي وقتادة نزلت يوم الخندق حين اشتد على المؤمنين أمر الأحزاب وآذاهم البرد وضيق العيش، وفيه نزل: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا

نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9 إلى {قَدِيراً} [الأحزاب: 27]. قال السدي: [اشتد على/المؤمنين الأمر] حتى قال قائلهم: {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب: 12]. يريد قاله بعض المنافقين. {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [الأنفال: 49]. أي شك. قالوا ذلك أيضاً/ كذلك حكى الله عنهم في سورة الأحزاب. وقيل: " إنها نزلت في المهاجرين إذ تركوا أموالهم ودورهم بمكة، فحكم فيها المشركون، فضاقت بهم الحال في المدينة فَآخَى النبي [عليه السلام] بينهم وبين الأنصار فَوَاسَوْهُمْ فنزلت الآية تعزية لهم وتصبيراً. وذكر وهب بن منبه: " أن سبيعن نبياً دفنوا في مسجد الخيف، كلهم ماتوا

من الجوع والقمل وقال النبي [ A] : " سأل نبي من الأنبياء سعة الرزق فأوحى الله إليه: (أَمَا يَكْفِيكَ أَنِّي عَصَمْتُكَ مِنَ الْكُفْرِ) ". فلو رضيَ اللهُ الدنيا لأحد من أوليائه ما نال منها الكافر جرعة ماء، ولكن الله لم يجعلها ثوباً لمؤمن ولا عقاباً لكافر. قوله: {البأسآء والضرآء} الفقر والمرض. وقيل: القتل والفقر. وقال القتبي: " البأساء: الشدة والضراء: البلاءً ". ومعنى {وَزُلْزِلُواْ} خوفوا وحركوا. وأصله من " زال الشيء من مكانه ". ومعنى " زلزلته " كررت زلزلته.

215

قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}. سأل/ أصحاب النبي [عليه السلام] على من ينبغي أن يفضلوا، فأنزل الله الآية، وهذا قبل أن تفرض الزكاة. وقيل: هي منسوخة بالزكاة. وقيل: هي محكمة فيها صفة أين يوضع التطوع، والزكاة مفروضة على بابها. وهذه الآية تدل على أن النفقة على الوالدين من الصدقة. قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال}. أكثر العلماء على أن الجهاد فرض يحمله الإمام ومن معه عن الناس، وليس على كل رجل ذلك فرض. ومعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} فرض عليكم، وهو كالصلاة على الموتى ودفنهم، دليله قوله: {فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95]. فأخبر أن الكل له الحسنى وهي الجنة، وأن المجاهدين أفضل له. وقال ابن جبير: " هو فرض على جميع المسلمين ".

وقد قيل: هي ناسخة واجبة لما أمروا به من العفو والصفح بمكة. وقيل: هي منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122]. وقيل: هي على الندب لا على الوجوب. وقد قال عطاء: " هي فرض على الصحابة خاصة ". وهو قول مطعون فيه. قوله: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}. الكره بضم الكاف ما كان من نفسك، وبالفتح ما أُكْرِهْتَ عليه فيه. وقال معاذ بن مسلم: " الكُره المشقة، والكَره الإجبار ". وقيل: هما لغتان: كالضُّعف والضَّعف.

217

وقيل: الكره بالضم الاسم، وبالفتح المصدر. قوله: {وعسى أَن/ تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. معناه: إن كرهتم القتال فهو خير لكم، لأن فيه الظفر والغنيمة والشهادة. {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}. أي إنكم إن تحبوا القعود عن الجهاد فهو شر لكم لأنكم تحرمون الظفر والغنيمة و [الأجر. أو] الشهادة. {والله يَعْلَمُ}: أي يعلم ما هو خير ممّا هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتب عليكم من جهاد عدوكم فإنكم لا تعلمون. قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ}. قال السدي: " بعث رسول الله A سرية في سبعة نفر فبينما هم سائرون إذا بنفر من المشركين ببطن نخلة فاقتتلوا، فأسر المسلمون منهم وقتلوا وغنموا،

وكانت أول غنيمة غنمها أصحاب النبي [عليه السلام. وكان] ذلك في الشهر الحرام فتكلم الناس في القتل في الشهر الحرام. وروي أن النبي A قال لهم: " ما أمرتكم أَن تَقْتُلُوا فِي الْشَهْرِ الْحَرَامِ " فسقط في أيدي القوم [وأخذوهم الناس باللائمة]، فأنزل الله D: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ [كَبِيرٌ]} " فأخبرهم أنه منكر عظيم. ثم ق ل: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله}. أي وصدكم أيها المشركون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكفركم بالله تعالى وأخراجكم أهل المسجد الحرام منه. يريد الله النبي A وأصحابه ذلك كله من فعلكم أكبر عند الله من القتل، أي الشرك الذي أنتم عليه أكبر من القتل في الشهر الحرام. / وكذلك قال ابن عباس. وقال الضحاك: " لما قتل عمرو بن الحضرمي في سرية بعثها رسول

الله [عليه السلام] إلى بطن نخلة وأمر عليها عبد الله بن جحش، عَيَّرَ المشركون المسلمين بالقتل في الشهر الحرام فأنزل الله الآية فأخبرهم/ أن ذلك كبير، وأن صد المشركين محمداً A وأصحابه عن سبيل الله D وعن المسجد الحرام والكفر بالله تعالى أكبر عند الله سبحانه من القتل الذي أنكروه. والآية عند أكثر العلماء والصحابة منسوخة لأنه تعالى قال: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي عظيم فأخبر أنه شيء عظيم منكر في الشهر الحرام وأنه محظور ثم نسخته آية/ السيف في براءة: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. فأبيح ذلك في الحرام وغيره، ونسخه أيضا قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36]. والأشهر الحرم المذكورة في براءة ليست المعلومة، إنما هي أشهر كان فيها عَهْدٌ بينهم وبين النبي [عليه السلام] فأمر بقتلهم حيث وجدوا إذا انسلخت تلك الأشهر وهي أربعة أشهر بعد يوم النحر لمن كان له عهد، ومن لم يكن له عهد فإلى انسلاخ

218

الحرم عهده. وقال عطاء: " الآية محكمة، والقتال محظور في الأشهر الحرم ". ورويى ابن وهب أن النبي [ A] رد الغنيمة والأسى وودى القتيل. قوله: {يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله}. كتبت " رحمت " بالتاء وذلك في سبعة مواضع؛ هذا، وفي الأعراف: {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ} [الآيه: 56]، وفي هود: {رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ} [الآية: 73]، وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} [الآية: 1]، وفي الروم: {إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله} [الآية: 50]. وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الآية: 32]. وفيها {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [الزخرف: 32] وما عداها كتبت بالهاء.

/ قوله: {إِنَّ الذينءَامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا} الآية. نزلت هذه الآية حين قتلت السرية عمرو بن الحضرمي وأنكر عليهم القتل في الشهر الحارم الحرام، وقال بعض المسلمين في السرية، قد أصابوا وزراً، فأعلم الله أن من هاجر وجاهد فهو يرجو رحمة الله، وأنه غفور لما وقع منهم من القتل في الشهر الحرام ورحيم بهم. وروي أن عبد الله بن جحش وأصحابه قالوا: يا رسول الله، أنطمع أن يكون خروجنا [غزوة نعطى] فيها أجر المجاهد، فأنزل الله: / {إِنَّ الذينءَامَنُواْ

219

والذين هَاجَرُواْ}، الآية. قوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ}. من قرأ بالثاء فقراءته مختارة، لأن الكثرة تشتمل على العظم واكبر، والكبر والعظم لا يشتمل على الكثرة فبالثاء أعم وأولى. وكل ما كثر فقد عظم وليس كل ما عظم بكثير، فوصف الإثم بالكثرة أبلغ من وصفه بالعظم، وقد قال تعالى: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] وأيضاً فإن الإثم الأول بمعنى الأثام لقوله: " ومنافع " ولم يقرأ " ومنفعة ". والآثام فالبكثرة توصف أولى من العِظم. وأما الثاني فهو إجماع بالباء لأنه يراد به التوحيد لا الجمع. ومن قرأ بالباء فحجته إجماعهم على {أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} بالباء، أي

أعظم. وقوله: {حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2]، وقول العرب: " إِثْمٌ صَغِيرٌ "، يدل على جواز " كبير " وحُسْنِه وترك استعمالهم " الإثم قليل "، يدل على بعد " كثير ". وأجماع المسلمين على قولهم: " صغائر وكبائر "، يدل على حسن " كبير ". ونزلت الآية جواباً لمن سأل النبي [عليه السلام] عن الخمر والميسر. / والخمر: ما خامر العقل أي ستره، فكل شراب ستر العقل وأحاله فهو خمر، يقال: " دخل فِي خِمَارِ النَّاسِ " أي هو مستتر في الناس، ويقال للضبع: " خَامِرِي أُمِّ عَامِر "، أي استتري. وخمار المرأة قناعها لأنه يسترها. وقوله: " اخْتَمَرَ الْعَجِينُ "، أي غطى فطورته الاختمار. والميسر القمار سمي بذلك لما كانوا ييسرون من الجزور وغيرها للقمار عليها. وقال مجاهد: " كل القمار من الميسر حتى لغب الصبيان بالجوز ". وقال عطاء: " حتى لعب الصبيان بالكعاب ".

وقال القاسم: " كل ما أنهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر ". قال ابن عباس: " كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله، فأيهما قامر صاحبه ذهب بأهل الآخر وماله ". وأشعار العرب: تدل على أن الميسر كان قماراً بينهم في الجزور خاصة. وقيل: سمي ميسراً لأنهم كانوا يجزرون الجزور. وكل/ شيء جرزته فقد يسرته والياسر الجازر. وفقيل للضاربين بالقداح: ياسرون، لأنه سبب لتجزئة الجزور. ويقال للضارب بالقداح " يَسَرٌ وأَيْسَارٌ ". وقيل: إن " يَسْراً " جمع " لِيَاسِرٍ "، ثم يجمع " يَسَرٌ " على " أَيْسَارٍ " وكانت العرب أهل المقدرة منهم يقامرون على الإبل في الشدائد، ويجعلون لحومها للفقراء/ منهم لتعدل

أحوال الناس، ولذلك قال: {ومنافع لِلنَّاسِ} ". والقداح التي كانوا يقامرون بها عشرة: منها سبعة ذوات خطوط، على كل واحد علامة يعرف بها، وهي: الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى. ومنها ثلاثة لا خطوط فيها، يقال لها: " الأغفال/ والغفل من الدواب الذي لا سمة له؛ وهي: السفيح والمنيح، والوغد وليس لها سهام. والسبعة الأول للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمبسل ستة، وللمعلى سبعة، وعلى كل واحد من العلامة على قدر ما له من الأنصباء. وقوله: {ومنافع لِلنَّاسِ}. هي أثمانها وما كانوا يصيبون من الجزور. {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}. أي الإثم فيهما بعد التحريم أكبر من النفع قبل التحريم. قال سعيد بن

جبير " لما نزلت: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنافع وهو الفرح الذي فيها حتى نزلت {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43]، فتركوها عند الصلاة حتى نزلت/ {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فحرمت ". فهذا يدل على أنها منسوخة بما في " المائدة ". وروي أن عمر Bهـ كان يقول: " اللهم بيّن لنا في الخمر "، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر} الآية، فقرئت ع ليه، فقال: [اللهم بين لنا في ال خمر بياناً شافياً، فإنها تذهب العقل والمال]، فنزلت {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى}، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت: {إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية التي في المائدة فقال عمر: انتهينا، انتهينا ". فالخمر محرمة بنص القرآن لأن الله جل ذكره أخبرنا في هذه

السورة أن فيها إثماً كبيراً، وحرم تعالى اكتساب الإثم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم} [الأعراف: 33] أي واكتساب الإثم. فهذا النص ظاهر في التحريم مع قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]. فهذا تهدد ووعيد؛ وذلك لا يكون إلا في المحرمات مع قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43]، فتحريم المسكر منصوص بَيِّنٌ في كتاب الله [جل وعز]، وكل ما أسكر فهو خمر، لأن كل مسكر يخامر العقل، وكل ما خامر العقل فهو خمر وهو مسكر. وإنما سميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل، أي تخالطه. وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر، أي تغطي من الخمار الذي تغطى به. وقيل: سميت بذلك لأنها تخمر العقل، أي تستره من الخمار الذي يغطى به الرأس.

قوله: {قُلِ العفو}. أي تتصدق بما فضل عن أهلك. قال السدي: " كانوا يعملون كل يوم فيما فيه، فإن فضل في ذلك اليوم فضْلٌ عن العيال قدموه ". وقال ابن عباس: " العفو ما لا يتبين/ خروجه من المال ". وقال طاوس: " العفو اليسير من كل شيء ". وقال اليزيدي: العفو هو ما أطلقته من غير أن تجهد فيه نفسك ". وقيل: ما فضل عن أهلك. وروي أن هذه الآية {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} نزل في رجل أتى إلى النبي [ A] فقال: " إن لي ديناراً "، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ. فقال: إن لي دينارين. فقال: أَنْفِقْهُمَا عَلَى أهْلِكَ، فقال: إن لي ثلاثة، قال أَنْفِقْهَا عَلَى

خَادِمَكَ. [قال: إن] لي أربعة، قال: أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ، قال: إن لي خمسة. قال: أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قال: إن لي ستة، قال أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ ". يريد لي بالدينار غير الدينار، ولي اثنان غير الاثنين// وثلاثة غير الثلاثة، وكذلك ما بعده. وقيل: العفو ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً. قاله عطاء والحسن وقال مجاهد: " العفو الصدقة عن ظهر غنى ". وروي عن ابن عباس في حد العفو: " أمر النبي A [ أن يأخذ] ما أتوا به من قليل أو كثير. وقال الربيع: " العفو/ ما طاب من المال ". / وقال قتادة: " العفو أفضل المال، وأطيبه أفضله ".

قال ابن عباس: " هي منسوخة بالزكاة ". وقيل: إنما هي الزكاة، وليست منسوخة. وقيل: إنما في التطوع، سألوا عنه فأجيبوا، فهي محكمة وليست بغرض. قوله {كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدنيا والآخرة}. معناه: مثل ما بيك لكم الخمر والميسر وما فيهما يبين لكم الآيات لعلكم تتفكرون في نفاذ الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ونعيمها فتعملون للباقية منهما. وقيل: معناه: لعلكم تتفكرون في فضل ما بينهما. وقيل: / في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: " يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة "، أي في أمرهما لعلكم تتفكرون. قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}.

كان سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10]، انطلق من كان معه يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فكان يفضل الشيء من طعام اليتيم فيحبس له حتى يفسد فاشتد عليهم ذلك، فذكروا ذلك للنبي [عليه السلام]، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. قاله ابن عباس وغيره. وقيل: إنه لما نزل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، اجتنب الناس مخالطتهم فنزلت {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، فخالطوهم. {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح}. أي يعلم حين تخلط مالك إلى مالك بماله، أتريد بذلك إصلاح ماله أو إفساده يريد الجنسين. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ}. أي: لحرم عليكم مخالطتهم

221

فتتبعون ويشق ذلك عليكم. وقيل: معناه: لأَوْيقَكُمْ فأهلككم بما قد أصبتم من أموالهم. قال أبو إسحاق: " معناه: لكلفكم ما يشتد عليكم، فتعنتون ". وأصله من: " عَنِتَ البَعِيرُ " إذا حدث في رجله كسر بعد جبر. قوله: {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209]. أي: عزيز في سلطانه، حكيم في فعله وأحكامه وتدبيره. قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ}. قال ابن عباس: " عَمَّ تحريمُ كل مشركة ثم استثنى منهن أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5]. وقال عكرمة والحسن: " نسخ من ذلك نساء أهل الكتاب ".

وكذلك قال مالك: " هي منسوخة "، وهو قول سفيان. وقال ابن جبير: " الآية عامة محكمة مخصومة في مشركات العرب، لم يع ن بها/ غيرهن ". وقد قيل: هي ناسخة للتي في النساء والمائدة روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وعن عمر Bهـ. والإجماع على خلاف ذلك، وطرق الأسانيد عنهم فيها ضعف. وروي أن عمر فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية، وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية، وأراد أن يبطش بهما على نكاحهما. وقال/ ابن عمر: " حرم الله المشركات في كتابه على المؤمنين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى ". وقد سمى الله اليهود والنصارى مشركين في كتابه في " براءة " وغيرها؛ قال: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31]. فهذا هو الشرك بعينه.

وأكثر الصحابة والفقهاء على جواز نكاح الكتابيات وهو نص القرآن، ولم يختلف الفقهاء في منع نكاح المسلم إماء أهل الكتاب إلا أبا حنيفة فإنه أجازه. وأصل النكاح في اللغة الوطء. تقول العرب: " أَنْكَحْتُ الأَرْضَ الْبُرَّ " إذا بذرته فيها، ومن هاهنا ثبت أن قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] يراد به الوطء دون العقد، وبذلك أتت السنة، وقد كثر حتى استعمل اسماً للعقد إذ هو سبب الوطء. وجاز أن تقول: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ}، والمشرك لا خير فيه، كما تقول العرب: " الآباء أحق بالميراث من الخال ". ولا حق للخال في الميراث. وحكى نفطويه في كتاب " التوبة " له أن العرب تأتي بأفعال على ضربين: أحدهما تفضيل أحدهما على الآخر وفي الآخر فضل. / والثاني أن يكون إيجاباً

للأول ونفياً عن الثاني كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] فهو نفي عن أن يكون في النار خير. وقيل: / المعنى: وَلإِنْكَاحُ عبد مؤمن خير من إنكاح حر مشرك. وهذه الآية نزلت في رجل نكح أمة فعذل عن ذلك وكان الذين [عذلوه يريدون] تزويج نساء أهل الشرك لحسبهن ومالهن وجمالهن، فأخبر الله تعالى أن " أمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجتكم "، أي ولو أعجبكم حسنها وحسبها. ثم أخبرنا بمنع نكاح المشرك المسلمة من أهل الكتاب كان أو من غيرهم، فأعلمنا أن عبداً مؤمناً خير من مشرك. وبهذا يحتج من جعل الأول عاماً في الكتابية وغيرها.

ثم قال تعالى: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار}. أي يعملون بأعمالهم. {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ}. أي بإعلامه الطريق [التي بها يتوصل] إلى الجنة والمغفرة كل من عنده. وروي أن هذه الآية نزل في كناز بين الحصين/ [الغنوي أبي] مرثد بعثه/ رسول الله [ A] إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من أصحابه أسر، وكان له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها: عناق. فقل لها: إن الإسلام قد حرم ما كان في الجاهلية. فقالت له: تزوجني. فقالظ: لا، حتى آتي رسول الله فسأله. فلما قدم بالأسير إلى رسول الله A سأله هل يحل له تزويج تلك المرأة، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} الآية، فهي في غير أهل الكتاب مخصوصة على هذا التأويل. قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض}.

كان أصحاب النبي [عليه السلام] في بدء الإسلام لا يساكنون النساء في المحيض ولا يواكلونهن، فسألوا النبي [عليه السلام] عن ذلك، فعرفتهم الله تعالى في الآية أن [الذي يجتنب] من الحائض هو جماعها حتى تطهر، وأن ما سواء ذلك حلال. ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}. أي: في الفرج خاصة. فهذا يدل على منع إتيانهن في الأدبار. وقيل: معنى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} طهراً غير حيض. ومعنى: {قُلْ هُوَ أَذًى}. قال السدي: " قل يا محمد: قل هو قذر/ "، وكذلك قال قتادة. وقال مجاهد: " {قُلْ هُوَ أَذًى} قل هو دم ".

والآية ناسخة لما كان عليه بنو إسرائيل من شريعتهم لأنهم كانوا لا يجتمعون مع الحائض فبي بيت ولا يواكلونها، فنسخت الآية ذلك. فقالت اليهود عند نزولها: " ما يدعمحمد شيئاً من أمرنا إلا خالفنا فيه ". فللرجل أن يستمتع [من الحائض] بما دون الفرج غير الدبر. وهو قل عائشة وأم سلمة وابن عباس والحسن وعطاء والشعبي والنخعي والثوري وغيرهم. وهو قول الشافعي الصحيح. ويروى عن ميمونة وسعيد بن المسيب أنها تعتزل فيما بين السرة والركبة، ويستمتع بها فيما دون ذلك، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وقال عكرمة والشعبي: " لا بأس بإتيانها دون الفرج " [يريدان الفخذ].

وقال الثوري: " لا بأس أن يباشرها إذا اتقى موضع الدم ". فإن أتاها وهي حائض؛ فقال ابن عباس: " يتصدق بدينار أو بنصف ". وقيل: إن كان في فور الدم وقوته يتصدَّق بدينار، وإن كان في آخره وضعفه تصدق بنصف. قاله النخعي وغيره. وقال الأوزاعي: " إن كان وطئها في الدم تصدق بدينار، وإن وطئها بعد انقطاع الدم وقبل الطهر بالماء، تصدق بنصف دينارً ". وقال سعيد بن جبير: " عليه عتق رقبة ". وقال الحسن: " عليه مثل الذي على من وطئ في رمضان ". وجماعة/ الفقهاء التابعين يقولون: لا شيء عليه ويستغفر الله من ذلك ولا يعد، وقد أخطأ. قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وهو قول الشعبي والزهري وربيعة وأبي الزناد والليث بن سعد الثوري.

وقال مالك والشافعي وابن حنبل وغيرهم: " لا يطأها حتى تغتسل بالماء، فإن فعل قبل ذلك، وقد انقطع الدمع، لم يكن عليه شيء، وقد أخطأ ويستغفر الله ". وهو قول سالم/ بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والثوري. وقال عطاء وطاوس ومجاهد: " إذا احتاج إلى وطئها قبل أن تغتسل، أمرها أن تتوضأ، ثم أصاب منها ما شاء ". وهو معنى قراءة من قرأ: " حتى يَطْهُرْنَ " مخففاً، أي ينقطع عنهن الدم. وفي مصحف أبي وابن مسعود: " حتى يتطهرن " بالتاء أي بالماء

{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي اغتسلن. هذا قول الجماعة. وقال مجاهد وطاوس: " إذا تطهرن للصلاة ". فليس يجب للقارئ أن يقف على " يطهرن " في قراءة من خففه لئلا يبيح وطء الحائض إذا انقطع عنها الدم ولم تتطهر بالماء. فأما من قرأه بالتشديد، فالوقف عليه حسن لأن معناه: " يتطهرن بالماء " وقربها بعد التطهر بالماء إجماع. قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}. أي: من الوجه الذي نهيتهم عنه وهو الفرج. وقال مجاهد: " {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أمروا أن يأتوهن من حيث نهو عنه ". يعني ياتونهن بعد التطهر في الموضع الذي أمروا أن يتعتزلوه في الحيض وهو الفرج.

فهذا نص من الله على إتيان النساء في طهورهن في/ الفرج دون غيره. وقيل: معناه: من قبل طهرهن، لا من قبل حيضهن. وقيل: معناه إيتوهن من قبل النكاح الذي أمرتم بهن وحل لكم لا من قبل الزنا الذي نهيتم عنه، وحرم عليكم. قوله: {يُحِبُّ التوابين}. أي الراجعين/ عن الذنوب، والمتطهرين بالماء للصلاة. وهو/ ظاهر اللفظ، وعليه أكثر أهل التأويل. وقال مجاهد: " {وَيُحِبُّ المتطهرين}: أي الذي لا يأتون النساء في أدبارهن ". وقيل: معناه: ويحب المتطهرين من الذنوب أن يعودا بعد التوبة. و {المتطهرين} يعني به النساء والرجال، غلب المذكر على المؤنث، ولم يقل المتطهرات، لأنه يخص النساء خاصة إذ لا يغلب المؤنث على المذكر.

وقيل: عني بالمتطهرين اللواتي يتطهرن من الحيضة بالماء، وهذا يدل على أن الحائض لا توطأ إلا بعد التطهر بالماء/ لأن من وطئها قبل التطهر بالماء، فقد وطئ من لا يحبه الله، وذلك ممنوع. ومن وطئ بعد التطهر بالماء، فقد وطئ من يحب الله. وذلك حسن لأن الله إنما أحبهن على فعلهن وهو التطهر بالماء، ولم يحبهن على غير فعلهن، وهو انقطاع دم الحيض، فشكر الله لهن تطهرهن بالماء. وأتى " المتطهرين " بلفظ التذكير لأنه يكون من الرجال والنساء، فغلب المذكر. وقوله: {أنى شِئْتُمْ}. أي مقبلة ومدبرة في الفرج. ومعنى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}. أي هُنَّ مزدرع للولد، بمنزلة الأرض هي مزدرع للحب فتقديره: " نساؤكم موضع حرِث لكم ".

وأكثر أهل التفسير على أن الآية نزلت لما كان اليهود يجتنبون، وذلك أنهم يقولون، من أتى امرأته في فرجها من دبرها، خرج ولدها أحول، فأنزل الله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}. أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرج. ورواه مالك عن ابن المنكدر عن جابر. [وروى] ابن وهب عن ابن المسيب أنه قال في قوله: {أنى شِئْتُمْ}: هو العزل، إن شئت عزلتم وإن شئت لم تعزل، وإن شئت سقيته، وإن شئت أظميته ". وروي عن ابن عباس أنه قال: " كانت قريش تتلذذ بالنساء مقبلات ومدبرات في الفرج، فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فامتنعن عليهم من ذلك، وقلن: [لا نعرف] هذا، فبلغ ذلك النبي [عليه السلام]. فأنزل الله الآية وأصح الوجوه في

العربية أن يكون {أنى شِئْتُمْ} بمعنى من أي وجه شئتم. قال أبو محمد مكي: يجب لأهل المروءة والدين والفضل ألا يتعلقوا في جواز إتيان النساء في أدبارهن بشيء من الروايات، فكلها مطعون فيه ضع يف. وإنما ذكرناها لأن غيرنا من أهل العلم ذكرها، وواجب على أهل الدين أن ينزهوا أنفسهم عن فعل ذلك، ويأخذوا في دينهم بالأحوط فإني أخاف من العقوبة على فعله، ولا أخاف من العقوبة على تركه، وقد روي في ذلك أخبلار كثيرة، وأضيف جوازه إلى مالك وروي عنه وليس ذلك بخبر صحيح ولا مختار عند أهل الدين والفضل. وقد أضر بنا عما روي فيه لئلا يتعلق به متعلق، وأسقطنا ذكر ما روي فيه من كتابنا لئلا يستن به جاهل أو يميل إليه غافل وأسأل الله التوفيق في القول والعمل بمنه. وقد قال مسروق: " قلت لعائشة Bها: " ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً فقالت: كل شيء إلا/ الجماع ". ويدل على منعه قوله: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ/ أنى شِئْتُمْ} والحرث للولد يكون لأنه كالبذر للزرع، والولد لا يكون/ إلا جهة الفرج والإباحة إنما هي في الفرج لا غير، لذكره الحرب الذي به يكون الولد. فهذا نص ظاهر.

وقد روى يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أنه قال: " سألت مالك بن أنس فقلت: إنهم قد ذكروا عنك أنك ترى إتيان النساء في أدبارهن. فقال: معاذ الله، أليس أنتم [قوماً عرباً]. فقلت: بلى فقال: قال الله D: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}، وهل يكون الحرب إلا في موضع الزرع أو في موضع المنبت ". وكذلك روى الدارقطني عن رجاله عن إسرائيل بن روح أنه قال: سألت مالكاً، فقلت: يا أباع عبد الكله ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: أما أنتم قوم عرب؟ هل يكون الحرب إلا في موضع الزرع؟. أتسمعون الله يقول: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} قائمة فقاعدة وعلى

جنبيها لا تتعدى الفرج. قلت يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول بذلك، فقال: " يكذبون علي، يكذبون علي، يكذبون علي ". قال أبو أحمد مكي: " [وهذا] الأشبه بورع مالك، وتحفظه بدينه ". وروى الدارقطني أيضاً عن رجاله عن محمد بن عثمان أنه قال: حضرت/ مالكاً، وعلي بن زياد يسأله، فقال: عندنا يا أبا عبد الله قوم بمصر يتحدثون عنك أنك تجيز الوطء في الدبر. فقال مالك: " كذبوا علي، عافاك الله ". وقد روي في منعه آثار كثيرة؛ فمنه ما روي عن عكرمة أنه قال: " أنى شئتم من قبل الفرج ". قاله ابن جبير ومجاهد. وعن/ ابن عباس أن النبي عليه السلام قال في حديث له طويل: " يَأْتِي الرّجُلُ امْرَأتَهُ

مُقْبلَةً وَمُدْبرَةً إذَا كَنَ ذَلكَ فِي الْفَرْجِ ". وروى عمارة بن خزامة بن ثابت عن أبيه أن البي [عليه السلام] قال: " إنّ الله لاَ يَسْتِحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَلاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ ". وقال أبي بن كعب: " من أتى امرأته في دبرها فليس من التوابين ولا من المتطهرين ". وقال ابن مسعود: " محاش النساء عليكم حرام ". وروى عبد الله بن أبي الدرداء عن أبيه أنه قال: " الذي يطأ امرأته في دبرها هو أعظم الفواحش ".

قوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}. يدل على منع الإتيان في الدبر لأن الله لا يأمر بالفحشاء وقد سمى الله الإتيان في الدبر فاحشة بقوله: {أَتَأْتُونَ الفاحشة} [الأعراف: 80]، فكيف يبيح الفاحشة؟ / وإنما معناه في الفرج الذي أبيح لطلب الولد. وفي قول الله تعالى لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165 - 166] دلالة على المباح الإتيان في الفرج دون الدبر وفي الآية دليل على منع الإتيان في الدبر من الرجال والنساء لأن قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} يراد به الفرج، لأن " ما " بمعنى " الذي ". " والذي " لا يقع إلا على معهود مشار إليه، وهو الفرج الذي خلقه في النساء. ولو قال: " من خلق لكم، لكان المراد النساء لأن " من " لمن يعقل فلما جاءت " ما " وهي تقع لما لا يعقل علم أنه شيء في: النساء خاص/خلق الأزواج وهو الفرج. وقد قال ابن عباس في قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} " معناه: من حيث أمركم الله أن تعتزلوهن ".

224

وقد كثرت الروايات عن النبي A بالنهي عن ذلك. وقوله: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ}. قال ابن عباس: " اذكروا الله عند الجماع ". وقيل: معناه طلب الولد. وقيل: معناه أنهم أمروا بتقديم الأعمال الصالحة. وهو الخير هو المفعول الثاني " لقدموا ". فهو مردود على ماقبله من قوله، {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215] الآية. قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}. معناه: أن يقول الرجل إ ذا سئل في خير أو صلاح: عَليَّ يمين أن لا أفعل. فيجعل اليمين علة لترك فعل الخير. فأمرهم الله بأن يبروا أيمانهم ويتقوه في فعل الخير ويصلحوا بين الناس، قاله ط طاوس وغيره.

وقال ابن عباس: " هو الرجل يحلف ألا يكلم قرابته، ولا يتصدق عليهم، أو يكون بينه وبين رجل مغاضبة فيحلف ألا يصلح بينه وبين خصمه، فأمر أن يُكفِّر ويفعل ما حلف عليه ". وقال الضحاك: " هو الرجل يُحَرِّمُ ما أحل الله له على نفسه ويحلف، فأمره الله أن يُكفِّر ويأتي الحلال ". وقال السدي: " {عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}: هو أن يعرض بينك وبين الرجل أمر فتحلف ألا تكلمه/ ولا تصله ". وقال مالك: " بلغني أنه حيلف بالله في كل شيء. قال ابن عباس: " معناه لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن لا تصنعوا الخير، ولكن كفِّروا إيمانكم واصنعوا الخير ". وقوله: {أَن تَبَرُّواْ} هو الرجل يحلف ألا يبر رحمه. ثم قال: {وَتُصْلِحُواْ} هو الرجل يحلف ألا يصلح بين اثنين/ إذا عصياه، غضباً عليهما في مخالفته، فأمر أن يكفر ويأتي ما حلف عليه. وجامع القول في هذا ما روي عن ابن عباس أنه قال: " هو الرجل يحلف على

225

شيء من الخير والبر ألا يفعله، فأمر أن يفعل ويكفّر ". وقالت عائشة Bها: " لا تحلفوا بالله وإن بررتم ". وقال ابن جريح: " نزلت الآية في أمر أبي بكر حيث حلف ألا يتصدق على مسطح ولا يعطيه شيئاً ". والعرضة في كلام العرب القوة والشدة؛ يقال: " هذا الأمر عرضة لك " أي قوة لك على أسبابك. فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم في ترك فعل الخير. وقال السدي: " نزلت هذه الآية قبل نزول الكفارات ". وقال غيره: " نزلت بعد نزولها ". قوله: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}. قال ابن عباس: " هو ما سبق به اللسان على عجلة كقولك: " لا والله، بل

والله ". وكذلك قالت عائشة Bهـ. وقال مجاهد: " هما الرجلان يتبايعان فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا. ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا وكذا، فهو اللغو ". وقال أبو هريرة: " لغو اليمين أن يحلف الرجل على الشيء يظن أنه هو يقين منه، ثم يظهر له خلاف ظنه ". وهذا القول أحسن الأقوال في لغو اليمين المعفو/ عنها. وروي مثله عن ابن عباس. وروي عنه أيضاً أنه قال: " هو الرجل يحلف على الشيء فيرى الذي هو خير منه فأمره الله أن يكفر عن يمينه ويفعله/، وأعلمه أنه لا يؤخذه على ذلك ". فهذه ثلاثة أقوال عن ابن عباس.

وقال عطاء بن يسار: " هو الخطأ في اليمين ". وقال الحسن وغيره: " هو الرجل يحلف على الشيء، وهو يظن أنه صادق، ثم يظهر له خلاف ذلك، فلا كفاركة عليه ولا إثم "، وهو قول أبي هريرة المختار. وقال طاوس: " هو الرجل يحلف في الغضب، فلا كفارة عليه ولا إثم "، وذكر قول النبي [عليه السلام]: " لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ ". وقال: ابن جبير: " هو الرجل يحلف أن يعفعل ما نهى الله عنه أو يترك ما أمر الله به، فيمينه لغو، ولا كفارة عليه ". وقد قال ابن المسيب وابن الزبير: " لا كفارة في معصية ". وكذلك قال ابن عباس. وقال الشعبي: " كفارة من حلف على المعصية أن يتوب منها ".

وقال: [زيد بن] أسلم: " هو الرجل يقول: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، وأخرجني الله من مالي إن لم أصنع كذا، وشبهه مما يدعو به على نفسه. فهو لغو ولا كفارة/ فيه ". وقال: ابن زيد: " هو قول الرجل: " أنا كافر إن فعلت كذا، وجعلت مع الله إلاهاً إن صنعت كذا، وشبهه، فلا كفارة فيه ". وقال الضحاك: " اللغو من الأيمان، هي اليمين المكفرة يحلف ألا يفعل فيكفر ويفعل، ولا يؤاخذه الله بذلك، ولكن يؤاخذه بما يحلف عليه وقلبه يتيقن أن يمينه كذبة. فتلك اليمين لا كفارة فيها، وهي اليمين الغموس، وهي أعظم من أن تكفر ". وقيل: لغو اليمين الحنث، لا يؤاخذ الله من حنث في يمينه وكفر، لأن التكفير يسقط الإثم ". وقال إبراهيم: " هو الرجل يحلف ألا يفعل الشيء، ثم ينسى فيفعله، فيمينه لغو ".

واللغو في كلام العرب ما لا يحتاج إليه. قال نفطويه: " اللغو في نفس اللغة الشيء المطرح يقال: ألغيت هذا، أي طرحته ". واللغة في الأيمان ما لم تكن النية معتقدة له، إنما في عرض الكلام. وهو معنى قول ابن عباس وعائشة. والسهو داخل في هذه الآية بغير نية، ويدخل فيه أيضاً ما ليس بيمين نحو قول الرجل: " لا وحياتك " وشبهه، وهذا يرجع إلى قول أبي هريرة وقول الحسن المتقدمي الذكر. وكان ابن عباس لا يرى الكفارة إلا في الإيمان التي تكون لغواً. فأما ما كسبت القلوب، وعقدت اليمين فيه وهي تعلم أنها كاذبة، فلا كفارة فيه، والله يؤخذ على ذلك بما شاء إن شاء.

وتقدير الآية التي في المائدة على هذا القول: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم فكفارته إطعام عشرة/ مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فيصام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ". أي حلفتم وأنتم تعلمون أنكم كاذبون. [كذلك التقدير] عند ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم. وقال قتادة: " المؤاخذة هنا في الإيمان الفاجرة إنما هي الزام الرجل الكفارة على يمينه؛ فمن حلف وهو يعلم أنه كاذب وجبت عليه الكفارة، وهي المؤاخذة التي ذكر الله. ومن حلف وهو يظن أنه/ صادق، فهو لغو يمين ولا كفارة فيه، ولا إثم ". وروي عن الربيع مثله. وهو قول عطاء والحكم. وقال السدي مثل ذلك إلا أنه قال: " يؤخذه في الدنيا بالكفارة على يمينه

الفاجرة ويؤاخذه في الآخرة إن شاء الله عليها إ ذ حلف وهو يعلم أنه كاذب ". والأيمان/ عند أكثر الفقهاء ثلاثة: - اللغو؛ وهو قوله: " لا والله وبلى والله فلا شيء فيها ". - والثانية: العمد؛ وهو أن يحلف متعمداً ألا يفعل الشيء، ثم يريد أن يفعله ويرى أن ذلك خير فيكفر ويفعل ولا شيء عليه. وهي التي في قوله: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89]. - والثالثة: الغموس؛ وهو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كذاب فلا كفارة فيها لعظمها، والله يفعل بفاعلها ما شاء. وهي التي في قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}. وقل زيد بن أسلم: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}. قال: " هو الشرك

بالله والكفر لا اليمين ". يريد قول الرجل: أنا كافر بالله إن فعلت وأنا مشرك إن فعلت، يؤاخذ عليه إن اعتقده بقلبه. فإن لم يعتقده بقلبه، فهو اللغو الذي قال فيه: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ}. ومن قال: " أقسمت ألا أفعل "، فإن أراد بالله وفعل كفر، وإن لم يرد ذلك فلا شيء عليه، وكل/ أسماء الله يجب فيها الكفارة، وكذلك صفاته. وإذا حلف بالقرآن وحنث، فقال ابن مسعود: " عليه لكل آية كفارة "، وبه قال الحسن البصري. وأكثر الفقهاء على أن: فيه كفارة يمين، ومنهم من قال: " لا كفارة فيه لعظمه، وجلالة قدره ". والعهد والميثاق والكفالة إذا أضيف ذلك إلى الله جلّ ذكره وحلف به، فيه كفارة يمين عند مالك وغيره. ومن قال: " حلفت " ولم يحلف، فإن أراد اليمين كفر. وإن أراد الكذب لم يكن عليه شيء.

هذا قول مالك وغيره. ومن حلف بصدقة ماله أو بهديه أن يجعله في سبيل الله؛ فقال عطاء والشعبي وغيره: " لا شيء عليه ". وروي عن عمر Bهـ، وعائشة أن عليه كفارة يمين وهو قول جماعة من التابعين. وقال مالك: " يخرج ثلث ماله " وهو قول الزهري وغيره. وروي عن ابن عمر وابن عباس أنه: يتصدق من ماله بمقدار الزكاة. وقد قبل: يعني بما جعل على نفسه. روي ذلك عن ابن عمر. وقال قتادة: " يهدي بدنة ". وقال/ جابر بن زيد: " إن كان ماله كثيراً نحو ألفين فعشرة، وإن كان وسطاً نحو ألف، فسبعة، وإن كان قليلاً نحو خمسمائة فخمسه. ومن حلف بالمشي إلى بيت الله فحنث فلا شيء عليه عند أبن المسيب والقاسم بن محمد.

وقال الحسن وجابر بن زيد وطاوس والنخعي وعطاء وقتادة/ وغيرهم/ " عليه كفارة يمين ". وهو قول الشافعي. وقال الشعبي ومالك وأبو حنيفة: " يمشي كما حلف ". وقال ابن شبرمة: " يحرم من يومه ". وقال مالك Bهـ: " إن حنث في غير البلد الذي حلف فيه فعليه أن يأتي إلى ذلك البلد، فيمشي منه ". ومن حلف بعتق رقبة فحنث، فأكثر الناس [على أن عليه] كفارة يمين، وهو قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة، وحفصة وقاله الحسن. وقال عطاء: " يتصدق بشيء من حنث في العتق ". وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وجماعة من الفقهاء: " يعتق من حلف إذا حنث ". وقوله: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}. أي غفور لأهل اللغو في الأيمان، حليم [في تركه]. العقوبة على أهل

226

اعتقاد الأيمان/ الكاذبة فلا يعاجلهم بها. وقوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} الآية. الإيلاء عند ابن عباس هو: أن يحلف الرجل في الغضب ألا يجامع امرأته. وكذلك روي عن علي Bهـ، وهو قول النخعي وقتادة والحسن. فإن حلف في غير غضب، فليس بمولي لأنه إصلاح. وقد ق ل مالك Bهـ: " من حلف ألا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها فليس بمولي ". وقال ابن مسعود: " يكون مولياً إذا حلف في الرضا والغضب ألا يطأ ". وبه قال الثوري وأهل العراق والشافعي وابن حنبل، وهو قول

مالك. كما أن سائر الأيمان من طلاق وغيره سواء في الرضا والغضب. وروي عن ابن عباس أنه قال: " لا يكون مولياً حتى يحلف ألا يطأها أبداً ". وقال مالك Bهـ والشافعي: " إذا حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، وتمت الأربعة أخذ بالوطء أو الطلاق؛ يطلق طلقة بائنة تملك بها نفسها، وله مراجعتها إن شاء بعقد مجدد وصداق ". وقد قال جماعة: " إن الطلاق يقع بمضي الأربعة أشهر ولا يوقف بعدها "، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وجماعة معهما. وإيجاب توقيفه بعد الأربعة الأشهر هو قول عمر وعثمان وعلي وابن عمر وعائشة وأبي الدرداء وغيرهم من الصحابة، وعليه أكثر الفقهاء: مالك والشافعي وغيرهما.

والإجماع على أن الطلاق بكلام يسمع يدل على تمام الأربعة أشهر لا يكون طلاقاً حتى يتكلم به، وهو قول عمر وأبي الدرداء. وكل يمين عند مالك لا يقدر صاحبها عند الوطء من أجلها فهو مول بها/ لو حلف لغريمه ألا يطأ امرأته حتى يوفيه حقه فهو مول عند مالك. فكل يمين منعت من الوطء فصاحبها مول عند مالك والشافعي والشعبي والنخعي وسفيان وأصحاب الرأي/، وأبي ثور وأبي عبيد، وهو مروي عن ابن عباس. إلا أن مذهب مالك أنه إذا حلف ألا يطأ فتمضي أربعة أشهر من يوم حلف، يوقف، فإما فاء، و [إما طلق]، سواء رفع إلى السلطان بعد الأربعة أشهر وقبلها، إنما يحسب من يوم حلف، وإذا حلف على أمر يفعله بالطلاق منع من الوطء حتى يفعل ودخل عليه الإيلاء، لكن لا يوقف إلا بمضي الأربعة الأشهر من يوم يرفع إلى السلطان، ولا يحسب له من يوم حلف.

227

ومن قال لامرأته: " [إن قربتك فأنت] علي كظهر أمي "، فهو مول عند مالك. فإذا انقضت أربعة أشهر، فإما أن يطلق وإما أن يكفر ويطأ. وقوله: {يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}. قيل/ معناه: على وطء نسائهم، " فمن " بمعنى " على " وفيه حذف مضاف معناه: " على وطء نسائهم "، ثم حذف الوطء كما قال: {مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] أي " ألسنة وسلك "، ثم حذف الألسنة. وقوله: {فَإِنْ فَآءُو}. أي رجعوا إلى الوطء، وكفّروا عن عن إيمانهم، فإن الله غفور لهم على يمينهم، رحيم بهم أن يعاقبهم بعد كفارتهم. قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق}. أي إن لم يكفروا ولا فاءوا إلى الطوء؛ أي رجعوا إليه وأرادوا الطلاق، فإن الله سميع لقولهم، عليم باعتقادهم وعزيمتهم. قوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قروء}.

ومعناه: المطلقات المدخول بهن ذوات الحيض - غير الحوامل - يتربصن عن التزويج ثلاثة أطهار، وقيل: ثلاثة حيض. والقرء في اللغة: الوقت، فيصلح للطهر، ويصلح للحيض. والحيض عند أبي حنيفة وغيره أولى به. وهو يقول أحد عشر من الصحابة وجماعة من التابعين والفقهاء. وهو عند مالك الطهر، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين. فإذا طلقها وهي طاهر في طهر لم يمسها فيه فهو قرء تعتد به، وإن لم يبق منه إلا أقله. فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج، وهو قول عائشة. وابن عمر وزيد بن ثابت والقاسم وسالم وسليمان بن يسار/.

وبه قال الشافعي وغيره من الفقهاء. ويدل على أن المراد/ بالأقراء في هذه الآية الأطهار قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، فلهن أن يعتدن بما يطلقن فيه وهو الطهر الذي لم تمس فيه. والطلاق في الحيض عند أهل العلم مكروه، فدل ذلك على أن الطلاق إنما يكون في الطهر لا في الحيض: [وهو قول النبي عليه السلام]: " فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ " فإذا طلقت/ في الطهر اعتدت به قرءاً. ودخول الهاء في ثلاثة يدل على أنه الأطهار، لأن الطهر ما ذكر والحيض مؤنث، فلو أريد به الحيض لم تدخله الهاء. قال ابن عباس: " استثنى الله من هذه الآية اللواتي لم يدخل بهن والحوامل ". وقال قتادة: " هو نسخ ". وقال غيرهما: " هو تبيين، لأن هذه الآية يراد بها الخصوص فبين المراد في

" الأحزاب " وسورة الطلاق، فهي مبينة لا منسوخة. قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ}. / أكثر أهل التفسير على أن الذي نهين عنه أن يكتمن هو الحيض والولد وذلك أن تقول: " إني قد حضت الثلاثة، وهي لم تحض لتذهب ما يجب لزوجها من الرجعة، أو تكتم الولد ليذهب حقه من الرجعة حتى تلد وهو لا يعلم، فلا يكون له في الرجعة بعد الولادة حق. وقيل: هو الحمل خاصة؛ وذلك أنهن كن في الجاهلية يكتمن الولد خوفاً ألا يراجعهن أزواجهن، فيتزوجن وهن حوامل، فيلحقن الولد بالزوج الثاني،

فحرم ذلك عليهن. قال ذلك قتادة وغيره. وقال السدي: " كان الرجل في الجاهلية إذا أراد الطلاق سأل امرأته هل بها حمل خوف أن يطلقها وهي حامل، فتلحق ولده غيره، فإن كانت تكرهه كتمت حملها ليطلقها، فتلحق الولد غيره، فحرم ذلك. وهذا القول يدفعه قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ} بعد ذكر الطلاق ووقوعه، فإنما ظاهر القرآن يدل على النهي أن يكتمن ذلك في العدة ليذهب حق الرجل من الرجعة؛ إما أن تقول: " قد حضت "، ولم تحض، وأما أنو تقول " لست بحامل "، وهي حامل، فَتَجْحَدُ حتى تضع فتذهب رجعته. وهذه الآية تدل على أن المرأة مؤتمنة على عدتها وحملها. ومعنى: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر}. أي: يحجزهن إيمانهن عن فعل ذلك، وليس ذلك يجوز أن يفعله من لا يؤمن. قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ/ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}. أي: أزواج المطلقات أحق بردهن في العدة إن أرادوا بالرد الإصلاح. فإن أراد المضارة، لا يحل له ذلك. قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف}.

أي للزوجات على الأزواج من الأحسان والصحبة الجميلة مثل ما للأزواج على الزوجات. وقيل: معناه: يتزين الرجل للمرأة كما تتزين له. روي ذلك عن ابن عباس. قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}. أي في الميراث والجهاد والشهادة ونحو ذلك، وأن فراقهن بيد الأزواج. وقال الشعبي: " الدرجة هو ما ساق إليها من الصداق، وأنها إذا قذفته حُدَّتْ، وإذا قذفها لم يُحد، وَلاَعَنَ. وعن ابن عباس: (دَرَجَةٌ): أداء/ حقها إليها ومؤنتها وتركه الواجب له عليها إحساناً ". وقيل: " الدرجة هو ما زين الله به الرجل من اللحية ". رواه عبيد بن الصباح عن حميد.

229

وقال ابن إسحاق: " المرأة تنال من اللذة مثل ما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه، وما ساق من الصداق فهي الدرجة ". قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي: فعليكم إمساك، هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه؛ وذلك أن الرجل كان يطلق امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل راجعها، فنسخ الله ذلك بأنه إذا طلق ثلاثاً، لم تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر. وقيل: إنها منسوخة بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقيل: هي محكمة، وقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} تبيين لقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ}. ومن قال: إنها محكمة منهم، قال: " لا ينبغي أن يطلق إلا اثنتين، ثم إن شاء طلق الثالثة أو أمسك لقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ}. قاله عكرمة. وقال الشافعي: " يطلقها في كل ظهر لم يجامعها فيه ما شاء ".

وقال أكثر الناس: " يطلقها في كل طهر طلقة واحدة ". ومعنى {الطلاق مَرَّتَانِ}: أي: الطلاق الذي يجوز معه الرجعة وتملك المرأة بعده مرتان، فهو تبيين للعدد. / [وقوله]: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}. هي الثالثة التي لا أملك للرجل على المرأة بعدها، روي ذلك عن النبي [عليه السلام]. وقيل: / معنى {تَسْرِيحٌ بإحسان}: يتركها فلا يراجعها حتى توفي عدتها. وعن ابن عباس: {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}: " لا يظلمها من حقها شيئاً ". قال ابن عباس: " {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] هو {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}، أي صحبة حسنة، أو {تَسْرِيحٌ بإحسان}، لا يظلمها من حقها شيئاً ". قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}.

أي مما أعطيتموهن إذا أردتم/ فراقهن. قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}. اختار أبو عبيد الضم في {يَخَافَآ} على قراءة حمزة، واحتج بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ}، فجعل الخوف لغيرهما، ولم يقل: " فإن خافا " وفيه حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان ". والخوف هنا عند إبي عبيدة بمعنى اليقين. وهذا النص إنما هو في الخلع الذي يكون بين الزوجين، فيأخذ منها ما اتفقا عليه، ويتركها لقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}. ولا يحل للزوج أن يأخذ من المرأة شيئاً على طلاقها إذا كانت المضارة من قبله، وإنما يأخذ منها على الطلاق إذا كانت هي التي كرهته، وأحبت فراقه من غير مضارة منه لها.

وهذه لآية عند بعضهم منسوخة، ولا يجوز أن يأخذ منها شيئاً نسخها قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20]. وأكثر الناس على أنها محكمة، وأن له أن يأخذ منها ما اتفقا عليه، وتلك الآية في النساء إنما هي لمن أراد الاستبدال، وهذه لمن خيف منهما ألا يقيما حدود الله، فهما محكمتان. " وروي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي [بن] سلول وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه ويحبها، فأتت أباها فردها ولم يشكها، فصارت إلى النبي A وقالت: " إن ثابتاً [يظلمني ويضربني]. فأحضر رسول الله A ثابتاً فقال: " والله يا رسول الله ما على وجه الأرض أحد أحب إلي منها سواك ". فقال للمرأة: " مَا تَقُولينَ؟. فقالت: " يا رسول الله، ما كنت لأخبرك بخبر ينزل عليك الوحي بإبطاله، هو كما وصف، وفرق بيني وبينه ". فقال ثابت: " فترد إلي الحديقة التي جعلتها لها ". فأمرها النبي A بردها، ثم طلقها " ، كان ذلك أو خلع كان في الإسلام. والخلع

جائر بغير سلطان، وإنما يكون الخلع والافتداء إذا كان النشوز من قبل المرأة. قال ابن عباس: " هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة للرجل، فله أن يأخذ ما أعطته ويفارقها، فإن كانت راضية به، فلا يحل له أن يضارر بها حتى تفتدي منه، فإن فعل كان ما أخذ حراماً ". وإنما الخلع إذا كان الشيء المنكر من قبلها؛ / فتقول: " لا أغتسل لك من جنابة، ولا أَبَرُّ لَكَ قسماً " ثم افتدت منه وخالعها، فذلك جائز حسن. وقال القاسم بن محمد: " لا يحل الخلع حتى يخافا جميعاً ألا يقيما حدود الله في العشرة الواجبة بينهما ". وقال زيد بن أسلم: " إذا خافت المرأة ألا تؤدي حق زوجها/ وخاف الرجل ألا يؤدي حق زوجته، فلا جناح في الفدية ". قال مالك: " الأمر عندنا أن الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم تُؤتَ من قبله وأحبت

فراقه فحلال ما افتدت به ". قال: " ولم أرَ أحداً ممن/ يُقتدى به، يكره أن يفتدى بأكثر من صداقها ". وقال أبو حنيفة: " لا يكون بأكثر مما ساق إليها ". والخلع طلقة بائنة عند جماعة من الصحابة والتابعين، وهي قول مالك والشافعي وغيرهما من الفقهاء. وعدتها عدة المطلقة عند مالك والشافعي وغيرهما. وهو مروي عند جماعة من الصحابة والتابعين. ولا سبيل لزوج المختلعة إليها إلا بخطبة ونكاح جديد عند مالك والأوزاعي. وهو قول عطاء وطاوس والحسن النخعي والثوري. وقال ابن المسيب: " يَرُدُّ عليها ما أخذ منها، وليشهد على رجعتها ". وكذلك

قال الزهري. قال مالك: " عليها أن تكمل بقية عدتها ". وكذلك قال الحسن وعطاء، ثم بعد ذلك يراجعها بنكاح جديد إن شاء. وقوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. أي لا جناح عليها فيما أعطت إذا كان النشوز من قبلها. ولا جناح عليه فيما أخذ إذا كان الضرر من قبلها. وقيل: {فَلاَ جُنَاحَ/ عَلَيْهِمَا}: هو مخاطبة للزوج وحده فيما أخذ منها ليتركها، وهذا كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من الملح لا من العذب. وكما قال: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61]، وإنما الناسي صاحب موسى. وتقول: " عندي دابتان أركبهما وأسقي عليهما "، وإنما تركب إحداهما. وقوله: {فِيمَا افتدت بِهِ}. قيل: من صداقها الذي كان أعطاها، لقوله: {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} والذي أعطاها هو الصداق فرجع آخر الآية على أولها وكان ذلك أبين وأليق بالكلام. قال ذلك الأوزاعي.

230

وكره الشعبي أن يأخذ منها إلا ما ساق أو دونه " (روي) ذلك عن علي Bهـ. وأكثر الناس على أنه له أن يأخذ ما رضيت به من قليل كان أو كثير لعموم الآية. وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة. قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله}. أي هذه حدوده. " وتلك " إشارة إلى الآيات التي تقدمت/ من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} إلى {فِيمَا افتدت بِهِ}. فمعنى: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أي لا [{تجاوزنها إلى ما لم يأمركم به، ومن تجاوزها}] فهو ظالم. وقد قال الضحاك: " معناه: من طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم " وأنكر ذلك غيره. قوله: / {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الآية.

231

قال ابن عباس: " إن طلقها ثلاثاً لم تحل إلا بعد زوج ونكاح جديد ". وقال الضحاك: " وغيره - كل الفقهاء -: " إن طلقها واحدة بعد اثنتين لم تحل له إلا بعد زواج ". قوله: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. يريد الوطء بالعقد الصحيح لقوله A: " حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ " ومعنى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} أي من بعد الثالثة، ولذلك بنيت " بعد " للحذف والذي بعدها. وعن ابن المسيب: " أنها إذا نكحت نكاحاً صحيحاً لا يراد به تحليل حلت [به له]، وإن لم يقع وطء ". / وهو شاذ. قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الآية.

هذا مخاطبة للأزواج، ويكون البلوغ المقاربة. وقيل: هو خطاب للأولياء، ويكون البلوغ التمام. وكونه خطاباً للأزواج أولى لقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وهذا لا يكون للأزواج. ومعناه إذا كان للأزواج: وإذا طلقتم النساء فبلغن ميقاتهن من انقضاء العدة، أي قربن منها كما تقول: " إذا بلغت مكة فاغتسل " أي إذا قربت منها. أي إذا قربن منها فأمسكوهن. ومن قال: هو مخاطبة للأولياء قال: نزلت في أخت معقل بن يسار عضلها معقل عن مراجعة زوجها بعد انقضاء عدتها، وكان قد طلقها طلقة واحدة ". وقيل: هو خطاب للزوج يطلق امرأته طلقة واحدة. فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم يطلقها ليطول عليها، فنهى عن ذلك، وأصل العضل الحبس والمنع. وظاهر الآية يدل على أنه مخاطبة للأزواج. وبلوغ الأجل المقاربة؛ نهى الزوج أن

يراجعها إذا قرب تمام عدتها، ثم يطلقها ليضار بها ويطول عليها، وهو ظاهر الخطاب. وأكثر المفسرين على أنها مخاطبة للأولياء؛ ويكون بلوغ الأجل تمامه. وملك المرأة لنفسها، إذا جعلته خطاباً للأولياء. وإن جعلته خطاباً للأزواج فبلوغ الأجل المقاربة. فالمعنى: فراجعوهن إن أردتم مراجعتهن. {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} أي اتركوهن حتى تتم العدة. {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}. أي: لا يحل لكم أن تراجعوهن مضارة لتطول العدة عليها فيضرّ بها. وقال الضحاك وغيره: " {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}: " هو أن يطلقها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها راجعها، فإذا كادت أن تنقضي راجعها مضارة، وهو لا يريد / إمساكها، فنهى الله عن ذلك ". وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.

وقال السدي: " نزلت في رجل من الأنصار وهو ثابت بن يسار، طلق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها. ففعل ذلك حتى مضت لها تسعة أشهر مضارة، / فأنزل الله الآية ". قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. أي من يضارر برجعته فإنما يضر / نفسه لأنه يأثم. قوله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}. قال الحسن: كانوا على عهد النبي A يُطَلّق الرجل أو يعتق، فيقال له: ما صنعت؟ فيقول: " إنّي كنت لاعباً "، فأنزل الله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}. وروى أبو هريرة عن النبي [عليه السلام]: أنه قال: " ثَلاَثٌ جِدُّهُّنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَلاَقُ وَالعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ ".

232

وقالت عائشة Bها: " كان الرجل يطلق امرأته ويقول: " والله لا أُؤْوِيكِ وَلاَ أَدَعُكِ؟ قالت: وكيف ذلك؟ قال: إذا كِدتِ تقضين عدتك راجعتك. فنزلت: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}. قوله: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ}. يعني الإسلام. {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة}. يعني القرآن. {يَعِظُكُمْ بِهِ}: أي بالقرآن. {واتقوا الله} أي خافوه فيما أمركم به مما أنزل عليكم ووعظكم به. قوله: / {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} الآية. نزلت في رجل كان له أخت، زوجها من ابن عم له، فطلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فأراد أن يتزوجها المطلق لها وهي فيه راغبة، فمنعها أخوها من ذلك.

ولما نزلت هذه الآية دعا النبي [عليه السلام] معقلاً فنهاه عن ذلك وتلاها عليه، فترك الحمية وزوّجها من زوجها الأول على التراضي، كما قال: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف}. فقيل: إن أخا المرأة كان جابر بن عبد الله الأنصاري. وقيل: معقل بن يسار. وقيل: ابن سنان. وقيل: إن جابر بن عبد الله كان أبا المرأة المطلقة فمنعها من أن ترجع إلى زوجها بعد انقضاء العدة أنفة، فنزلت الآية. وقال ابن عباس: " نزلت في أولياء المرأة يمنعونها من مراجعة زوجها بعد

انقضاء العدة ". وقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}. أي لا تحبسوهن. وقيل: لا تضيقوا عليهن. وحكى الخليل: دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ؛ إذا احتبس بيضها. وأصل العضل الضيق والمنع، ومنه الداء العضال، وهو الذي لا يطاق لضيقه عن العلاج. وهذه الآية تدل على أنه لا نكاح إلا بولي، إذ لو جاز أن تنكح نفسها لم يخاطب الله الأولياء في المنع لها من الزواج. قوله: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ}. أي هذا المذكور في الآية. و " ذلك " محمول على معنى الجمع ولو قال: " ذلكم " لجاز وهو الأصل. وقيل: إن ذلك / خطاب للنبي [عليه السلام] فلذلك وُحِّدَ، ثم رجع إلى مخاطبة /

المؤمنين فقال {مِنكُمْ} وقال في آخر الآية: {ذلكم أزكى لَكُمْ}. ومعنى: {وَأَطْهَرُ}، أي أطهر للقلوب من الريبة لأنه إذا كان في قلوب الزوجين كل واحد من صاحبه شيء، ثم منعا من النكاح الذي هو حلال لهما، لم يُؤْمِنْ أن يتجاوزا إلى ما لا يحل أو يُتّهَمَا بذلك. {والله يَعْلَمُ}. أي يعلم أسراركم، وما فيه حسن العاقبة لكم، وأنتم لا تعلمون ذلك. وقوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}. هذا خطاب للأولياء بلا اختلاف، فلا يكون البلوغ في هذا إلا تمام العدة. ولو كان على معنى المقاربة، لم يكن للولي حكم في منعها من المراجعة إلا أن يكون الطلاق بائناً فيحتمل البلوغ الوجهين: المقاربة والتمام. فإنما هو في هذا الخروج من العدة، فعند ذلك يقدر الوالي على منع المراجعة. وبهذا علمنا أنه لا نكاح إلا بولي؛ إذ لو كان لها أن تراجع زوجها بغير إذن وليها لم يخاطب الله الأولياء في ترك المنع، فعلم أن للأولياء المنع من المراجعة والإجازة في الطلاق البائن وبعد إتمام العدة في الطلاق الرجعي بهذه الآية. [ولو] كان قوله: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يريد به المقاربة لكان الحكم للزوج، يردها

233

إذا شاء، وكان الطلاق رجعياً، ولا يسأل عن وليها أجاز، أو لم يجز. فلا بد أن يكون بلوغ الأجل تمام العدة إذا جعلت الخطاب للأولياء. قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} الآية. قرأ مجاهد وحميد بن قيس، وابن محيصن / " لِمَنْ أَرَادَ أَنْ تُتِم الرضاعة " بالرفع بالتاء. وقرأ أبو رجاء / " الرِّضَاعَةَ " بكسر الراء. وقرأ: " لاَ تَكَلَّفُ " بفتح التاء أراد تَتَكَلَّفُ. قوله: {لاَ تُضَآرَّ}. من رفع فهو خبر عن الله، معنى الأمر، ومعناه: / لا تضار والدة

في علم الله، ولا تكلف نفس إلا وسعها. والفتح أبين على النهي. ويجوز الكسر، لالتقاء الساكنين والفتح أخف. وروى أبان عن عاصم " لاَ تُضَاررْ " بالجزم والإظهار، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس، غير أن ابن مسعود يفتح الراء الأولى. وإجماع المسلمين أن تحريم المضارة للطفل من أبويه يدل على الجزم على النهي. كان اليزيدي يقول: " الرفع فيه معنى النهي " كأنه يريد أن الضمة ليست بإعراب، إنما هي لالتقاء الساكنين. وهذا بعيد لأنه يشبه النهي بالنفي.

ومعنى الآية / أن لفظها لفظ الخبر، ومعناها الإلزام، كما تقول: " حَسْبُكَ دِرْهَمٌ ". فلفظه لفظ خبر، ومعناه الأمر، فكذلك: {والوالدات يُرْضِعْنَ} هو على الإلزام ولفظه لفظ الخبر. وقوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}. أَكّدَ " بكاملين " لجواز أن يكون " حولان " معناه حولٌ وبعضُ آخر، لأن العرب تقول: " أَقَامَ فُلاَنٌ شَهْرَيْنِ "، وإن كان أقام شهراً أو بعض آخر. وهذا كما قال: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. والمتعجل إنما يتعجل في [يوم ونصف]، وكذلك اليوم الثالث. والعرب تقول: " لم أرك مذ يومان "، تقوله في اليوم الثاني، وهو لم يتم يومان. ومعنى ذلك: " لا ينزع الولد من أمه وهي تحب رضاعه وتأخذ كغيرها، فيكون " تُضَارَّ " فعلاً لم يسم فاعله، ويجوز أن يكون فعلاً سمي فاعله.

ومعناه: لا تترك رضاع ولدها وأخذ الأجرة، والصبي لا يقبل غيرها فتضارر بالأب والصبي. قوله: {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ}. معناه: لا يضارر الوالد فيلقى إليه الطفل بعد ما عرف أمه وَأَلِفَها؛ تفعل ذلك لتقرب عدتها فتتزوج، لأنها إذا كانت ترضع، أبطأ عندها المحيض فتلقي الصبي، وهو لا يقبل غيرها فتضارر بالوالد والولد في ذلك. فنهى الله النساء عن ذلك. فيجوز أن يكون أيضاً " مَوْلُودٌ " رفع على ما لم يسم فاعله على هذا التفسير. ويجوز أن يكون فاعلاً، ويكون المعنى: ولا يضارر الوالد بولده فيمنعه من أن يرضع أمه، وقد ألفها ولا يقبل غيرها، وهي تأخذ كما يأخذ غيرها فنهى الأب عن ذلك. قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا}. أي إن أرادا أن يفطما قبل الحولين عن تراض من الأبوين فلا جناح عليهما

في ذلك، وليس لأحدهما فعل ذلك حتى يرد الآخر عند الثوري. قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ}. أي على الأب رزق المرضعة وكسوتها بالمعروف، ورزق الولد على قدر الجدة، لا يكلف فوق ما يطيق. {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}. أي لا [تمتنع من رضاعه]، وتقذفه [إلى أبيه] لتنكي به الأب. {وَلاَ مَوْلُودٌ / لَّهُ بِوَلَدِهِ} لا يمنع أمه من أن ترضعه ليحزنها. قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}. أي على وارث الصبي مثل الذي على الأب لو كان حياً، أي عليه ألا يضارر بها

كما كان على الأب. قال السدي وقتادة. قال الحسن: " على عصبته نفقته إن لم يكن له أب ولا مال ". وقال الضحاك: {وَعَلَى الوارث} " هو الصبي المرضع، عليه نفقة أمه من ماله إن لم يكن له أب ". وهو اختيار الطبري وغيره. وقال ابن عباس: " على وارث / الصبي من أجر الرضاع مثل ما كان على الأب إذا لم يكن له مال ". وقال الشعبي ومجاهد وسفيان: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}: أي: وعلى وارث الصبي ألا يضار بالأم. وهو مروي عن ابن عباس. فلا يكون {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} على هذا القول إلا " تُفَاعِلَ " بكسر / العين لأن: {وَعَلَى الوارث} معطوف عليه، وهو فاعل، ولا تكون {وَالِدَةٌ} إلا فاعلة.

فأما على القول الآخر، فيحتمل {تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} أن يكون: " تُفَاعَلْ "، و " تَفَاعَلَ "، لأن، {وَعَلَى الوارث} ليس بمعطوف عليها إنما هو معطوف على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وعلى الوارث مثل ذلك "، فهو عطف جملة على جملة كلاهما من ابتداء وخبر، فيحسن على هذا في {تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} الوجهان جميعاً. ولا يحسن في الآخر إلا أن تكون فاعلة. وقال مالك: " هو منسوخ لا يلزم عصبة نفقة صبي / ولم يبين الناسخ لها. حكاه ابن القاسم في " الأَسَدِيّةِ " عن مالك. وعن مالك أيضاً أن المعنى: " وعلى الوارث ألا يضار " فهو محكم، وهي رواية ابن وهب وأشهب عن مالك. وقيل: إن ورثة الصبي ينفقون عليه على قدر / ميراثهم منه لو مات. قاله قتادة، وهو قول أبي حنيفة.

قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ}. أي إن أبت أمه أن ترضعه أو انقطع لبنها، فأردتم أن ترضعه أجنبية فلا حرج. قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم} أي إذا سلمتم للأم ما [فرضتموه] عليه من الأجرة بالحساب. وقيل: معناه: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة من الأب والأم، قاله قتادة. وقيل: معناه: وإذا سلمتم إلى الأم الذي أعطيتموها على الأجرة بالمعروف. وقال سفيان: " إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرونها حقها بالمعروف، فليس عليكم جناح فيما صنعتم من الاسترضاع إذا أبت الأم رضاعه أو انقطع لبنها ". وقيل: معناه: إذا سلمت أم الولد، فرضيت برضاعه من غيرها، لتعتد

234

هي وتتزوج ورضي الأب بذلك. قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الآية. هي ناسخة لقوله: {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول} [البقرة: 240] قاله عثمان بن عفان وابن الزبير، فنسخ أربعة أشهر وعشر الحول. وأما الوصية فنسخها آية الميراث. وروي عن ابن مسعود أنه قال: " نسخ منها الحوامل ". قيل: ليس هو بنسخ، وإنما هو بيان أن الذي في " البقرة " لغير الحوامل وغير المدخول بهن، وزيدت العشرة / على الأربعة أشهر لأن في ذلك يتبين الحمل. وقال سعيد: " في العشر ينفخ فيه الروح ". قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.

235

أي إذا تمت العدة فلها أن تتزوج من شاءت. / {بالمعروف} أي بولي وصداق. قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء}. هو أن يعرض لها في العدة، فيقول: " إنك لجميلة، وإن النساء من حاجتي، وإني فيك لراغب حريص، ولأحسنن إليك " ونحوه. قوله: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ}. أي أخفيتم الخطبة ولم تبدوها، لا حرج في جميع ذلك. قال جابر بن زيد: " {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}: قال: هو الزنا ". وقاله الحسن وقتادة والضحاك. وقال ابن جبير: " سراً نكاحاً ". وأصل السر الغشيان من غير وجهه. وقال ابن عباس: لا تواعدوهن سراً، ألا ينكحن غيركم، ولا تعاهدوهن

على ذلك. وقال مجاهد وعكرمة: " لا تعاهدها على النكاح و [تأخذ ميثاقها ألا] [تتزوج غيرك، تفعل ذلك معها] سراً ". وقال ابن زيد: " {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}: لا تنكحوهن وتخفوا النكاح، فإذا خرجت من العدة، أظهرتموه ". واختار الطبري أن يكون السر الزنا. قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}، هو التعريض المذكور. قال ابن زيد: " نسخ هذا كله بقوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}. وأكثر الناس على أنه محكم، وأنه كله نهي عن عقد النكاح في العدة، ثم أرخص في التعريض الذي [ليس هو] بوعد ولا عقد.

236

ومعنى {يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ}: تنقضي العدة. وقال السدّي: " حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر وهو الكتاب الذي ينقضي ". وقاله قتادة، وهو قول ابن عباس والضحاك. قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية. رفع الله الحرج عمن طلق المفروض لها الصداق قبل أن يدخل بها. ومعنى {تَمَسُّوهُنَّ}: تجامعوهن. قاله ابن عباس وغيره. ومعنى: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ}: رفع الجناح أيضاً عمن طلق التي لم يفرض لها قبل الفرض، فمعناه: أو توجبوا لهن فريضة. قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ}. قال ابن عباس وغيره: " هو واجب للتي لم يفرض لها؛ يمتع الموسر

بخادم، والوسط بالورق، ودون ذلك بالكسوة والنفقة ". وقاله قتادة. وقال أبو حنيفة: " يمتع التي لم يفرض لها، إذا طلق قبل الدخول بنصف مقدار صداقها ". وبه قال الشافعي، ولم يجد / نصفاً من غيره. وأوجب علي بن أبي طالب Bهـ المتعة لكل مطلقة. وبه قال الحسين فرض لها أو لم يفرض دخل بها أو لم يدخل. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: " لكل مطلقة متعة إلا التي سمى لها صداقاً ولم تمس، فحسبها نصف ما فرض لها ". ومذهب مالك أنه لا يجبر على المتعة أحد من المطلقين إنما هو ندب، وبه قال شريح.

وقال ابن المسيب: / " كانت المتعة واجبة بالآية التي في الأحزاب لقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ / سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49]، قال: " ثم نسختها التي في البقرة لقوله: {حَقّاً عَلَى المحسنين} ولم يقل: " حقاً عليكم " ولا " واجباً عليكم ". وقد أجمعوا / أن المطلقة قبل الدخول لا تضرب بالمتعة مع الغرباء كان قد فرض لها أم لم يفرض، فدل على أنها غير واجبة، فصارت المتعة في البقرة ندباً لمن أحسن واتقى لا فرضاً. وروي عن ابن عباس أنه قال: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} أي على قدر يسره، {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ}: أي على قدر عسره للتي لم يسم لها صداقاً، ولم يدخل بها خاصة ". ومعنى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، أي الجناح مرفوع / عنكم في الطلاق قبل المسيس لأنه يجوز أن يقع بعد المسيس الجناح على المطلق، وذلك الذي يتزوج للذوق. قال النبي A: " إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلاَ الذَّوَّاقَاتِ " فَرَفْعُ الجناح في الطلاق قبل المس يدل على أنه قد يقع في الطلاق بعد المس وهو ما ذكرنا. وقيل: إنما رفع الجناح عن طلاق التي لم يدخل بها، لأن الرجل يطلق متى شاء

237

[حائضاً كانت أو طاهراً]، ولا عدة ولا سنة في طلاقهن، وليس ذلك في المدخول بها، لأنه إن طلق وهي حائض وجب عليه مراجعتها، ولحقه ضيق وإثم إن تعمد مخالفة السنة، ولزمت العدة. قوله: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الآية. بيّن الله في الآية التي قبلها حال من لم يفرض لها، وحض على المتعة لها على قول من قال: هو ندب، وفرضها على قول من قال: هو فرض، ثم بين في هذه الآية حال المطلقة قبل الدخول التي قد فرض لها فرضاً أن تعطى نصف الطلاق الذي فرض لها. وهذه الآية تبيين لصدر الآية التي قبلها لأن قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} هي المفروض لها. وقوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. أي أو لم تفرضوا لهن فريضة، فهي غير المفروض لها، فكرر هذه الآية في

التي قد فرض لها للبيان والتأكيد. وقال قتادة: هذه الآية/ نخست التي قبلها لأنه لم يفرض لها أولاً شيئاً، وجعل لها متعة، ثم فرض لها الآن نصف الصداق ولا متعة لها ". وهو قول الربيع وجماعة معه. قوله: {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ}. يريد إلا أن تعفو الثيب أو البكر التي زوجها غير أبيها التي لا ولي لها عن أخذ نصف الصداق. قال ذلك ابن عباس، وهو قول الجماعة من التابعين والفقهاء. قوله: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}. قال ابن عباس: " هو ولي البكر إذ كانت لا يجوز أمرها في مالها فله أن يعفو عن النصف إن شاء، فإن أبت جاز فعل الولي ".

وهو قول الحسن وعطاء وإبراهيم وعكرمة وطاوس وربيعة وزيد بن أسلم ومحمد بن كعب القرظي ويشريح وأصحاب ابن مسعود والشعبي وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الزهري وغيره: " هو الأب في انبته البكر، أو السيد في أمته لهما أن يعفوا، وإن أبت ". وهو قول مالك. قال مالك: " هو الأب في ابنته البكر، أو السيد في أمته ". وليس له أن يعفو ولم يقع طلاق، إنما العفو طلاق، وكل ذلك في التي لم يدخل بها. وقاله علي بن أبي طالب ومجاهد وسعيد بن جبير. وروي أيضاً عن ابن عباس: " أن الذي بيده عقده النكاح هو الزوج المطلق ".

ومعنى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}: أي يعفو الزوج فيعطي الصداق كله. والذي يرد هذا أن العفو إنما هو ترك ما يجب للعافي. هذا أصله في اللغة. وليس هو موضوعاً على إعطاء الرجل ما لا يلزمه فإضافته إلى الولي أولى به وأبين في الخطاب، لأنه ندب إلى أن يترك ما وجب لوليته. ومن كلام العرب: " عفا ولي المقتول عن القاتل "، أي ترك له حقه من الدية. وليس/ يقال: " عفا القاتل "، إذا أعطى أكثر من الدية التي تلزمه ولو كان العافي الزوج يعطي الصداق كله، لكانت الترجمة عن هذا بالهبة أولى منه بالعفو لأنه إذا أعطى الصداق كله فهو واهب، وليس بعافٍ إنما العافي من يترك حقه، ليس هو من يهب ماله. وأيضاً فإنه قال: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يريد الزوجات المالكات لأنفسهن، ثُمَّ قال: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}، فهذا ثالث غير الأول والثاني ولا ثالث إلا الولي. وأيضاً فإن الله إنما ذكر العفو بعد/ وقوع الطلاق، فكيف يقال لمن طلق ولا

شيء في يديه/ أنه هو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الآن [لا] عقدة في يديه إذ قد طلق. وقيل: إنما هو مخاطبة للأزواج الذين دفعوا الصداق/ كله، ثم طلقوا قبل الدخول فندبوا [إلى أن يعفوا] عن نصف الصداق ولا يرجعون به على الزوجات. وهذا القول يدل على أن الآية خاصة في بعض الأزواج، وليست الآية كذلك، إنما هي عامة اللفظ. ويدل على أيضاً على أن المراد به غير الأزواج قوله: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}، والمطلق لا عقدة بيده من إثبات نكاح التي طلق قبل الدخول/ إنما عقدة نكاحها بيد الولي، فهو المراد. وكذلك غير المطلق لا عقدة بيده، إنما عقدة النكاح للولي، وإنما بيد الزوج عقدة نكاح نفسه، وبيد الولي عقدة نكاح المرأة. وأيضاً فإن معنى: {عُقْدَةُ النكاح} أي نكاحها. والألف واللام عوض من الهاء كما قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النزعات: 41]. أي: مأواه، فكان رد الضمير المحذوف إليهن، لأنهن أقرب ذكر في قوله:

238

{إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} أولى به. قوله: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى}. هذا مخاطبة للأولياء والمطلقات المالكات أمرهن. وقيل: خوطب بذلك أزواج المطلقات في أن يتركوا الصداق كله إن كان قد ساقوه قبل الطلاق إلى الزوجة. قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل}. أي لا تتركوا فعل الخير فيما بينكم؛ يتفضل الزوج على المرأة بإعطاء الصداق كله فإن لم يفعل فتنفصل برد نصف الصداق الذي وصل إليها، أو تترك الكل فذللاك فضلها. قال مجاهد: " هو إتمام الزوج الصداق كله، أو ترك المرأة النصف الذي لها واجب ". وقال السدي وعكرمة وسفيان وابن زيد مثله. قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى}.

قال ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد وغيرهم: " الوسطى صلاة العصر " وروي ذلك عن النبي [ A] . وقال زيد بن ثابت وابن أبي ذئب: " هي الظهر ". وروي ذلك عن ابن عمر. وروي أن النبي عليه السلام كان يصلي في الهاجرة والناس في هاجرتهم، فلا يجتمع إليه أحد، فتكلم في ذلك فأنزل الله: {والصلاة الوسطى}، يريد الظهر. وقال قبيصة بن ذؤيب: " هي المغرب لكونها بين الليل والنهار ".

وقال جابر بن عبد الله وعطاء وعكرمة: " هي الصبح/ لكونها أيضاً بين الليل والنهار ". ولقوله: {وَقُومُواْ للَّهِ قانتين}. والقنوت إنما يكون في الصبح. وهو [أيضاً مروي] عن ابن عباس [وعلي بن أبي طالب] / وهو قول الربيع وعبد الله بن شداد بن الهاد، وروي ذلك عن مجاهد، وهو قول مالك. وهو قول أبي أمامة الباهلي وزيد بن أسلم وعبد الله بن عمر. وقد تظاهرت الأخبار عن النبي [عليه السلام] أنها العصر. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح.

قال مالك: " الظهر والعصر في النهار، والمغرب والعشاء في الليل، والصبح فيما بين ذلك ". قال مالك: " والصبح لا تجمع إلى غيرها، وقد يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ". قال مالك: " وهي كثيراً ما تفوت الناس ويتلهون عنها ". قلت: وصلاة الصبح أفضل الصلوات، ولذلك أكد الله في المحافظة عليها، يدل على ذلك قول النبي عليه السلام: " مَنْ شَهِدَ الصُّبْحَ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَةً، وَمَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ لِيْلَةٍ ". وقال: " بَيْنَنَا وَبَيْنَ المُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعَتْمَةِ والصُّبْحِ، لاَ يَسْتَطِيعونَهُمَا ". وقال: " لَوْ يَعْلَمُوَ مَا فِي الْعَتْمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً ". ففضل العتمة والصبح على سائر الصلوات، ثم فضل الصبح على العتمة

فدل على أنها أفضل الصلوات، فهي الوسطى. وقد قال عمر: " لأن أشهد صلاة أحب إلي من أن أقوم ليلة ". وقد قرأ الرؤاسي: {والصلاة الوسطى} بالنصب، بمعنى: وألزموا الصلاة، وقد روي عن عائشة Bها أنها أثبتت في المصحف: " والصلاة الوسطى، وصلاة العصر "، بالواو. وكذلك روى نافع أن حفصة أمرت أن يكتب ذلك في مصحفها، وقالت سمعت رسول الله A يقرأها كذلك ". وليست هذه الزيادة توجب أن تكون الوسطى/ غير العصر، لأن سيبويه قد حكى: " مررت بأخيك وصاحبك " والصاحب هو الأخ، فكذلك الوسطى هي العصر، وإن عطفت بالواو.

الصلاة الوسطى هي أفضل الصلوات إعادتها بلفظها بعد أن دخلت في جملة الصلوات كما قال: {وملائكته} [البقرة: 98]. ثم قال: {وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98]، وكما قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ/ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]. فأعاد " جبريل وميكائيل " وقد دخلا في جملة الملائكة، وأعاد " النخل والرمان "، وقد دخلا في جملة الفاكهة، وذلك لفضل فيهما، فأعيدا للتنبيه على الفضل، فكذلك الصلاة الوسطى أعيدت لأنها أفضل الصلوات. وقد بينا أن صلاة الصبح أفضل الصلوات فهي هي بغير شك. وقرأ ابن عباس: " والصلاة الوسطى صلاة العصر " على التقدير. وذكر ابن حبيب عن بعضهم أنها صلاة الجمعة، وهو قول شاذ. وأصل القنوت/ الطاعة، وهو أيضاً طول القيام. وقيل: هو هنا السكوت لأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة.

239

قال زيد بن أرقم: " كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُواْ للَّهِ قانتين}، فأمرنا بالسكوت. وقيل: القنوت هنا الدعاء. وقيل: هو الركوع/ والخشوع في الصلاة. وقال مجاهد: " هو غض البصر/ في الصلاة وضم الجناح وطول الركوع وأصله كله يرجع إلى الطاعة ". قوله: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}. نصبهما على الحال. والمعنى: فصلوا في هذا الحال. والرجال جمع راجل، والمعنى: " فرجالاً " أي مشاة على أرجلكم " أو ركباناً " وهو جمع راكب. وزذلك في الخوف من العدو، وقال: يصلي كيف قدر ماش وراكب. فمعناه: وإن خفتم من العدو أن تصلوا قياماً في الأرض فصلوا ماشين وركباناً،

وكيف قدرتم إيماء وغير إيماء، وذلك على قدر شدة الخوف والمسايفة. قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله}. أي إذا أمنتم من عدوكم فاشكروا الله كما خفف عنكم وعلمكم ما لم تعلموا من أحكامه. وقال ابن زيد: " معناه إذا أمنتم من العدو فصلوا كما افترض عليكم. تم الجزء الخامس.

240

قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً} الآية. في هذه الآية نسخان، نسخت آية المواريث الوصية. وقيل: الوصية منسوخة بقول النبي A: " لاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ "، ونسخت {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} الحول. وقد قيل: إن هذا ليس بنسخ، إنما هو تخصيص ونقص؛ وذلك أن المرأة كانت إذا توفي زوجها سكنت، وأنفق عليها حولاً إن شاءت. فنسخ ذلك آية الميراث. مقاله الربيع وغيره. وقال مجاهد: " الآية محكمة، ولها السكنى والنفقة من مال زوجها إن شاءت ". ومعنى {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي لا تخرج إلا أن تشاء الخروج، فيبطل حقها بخروجها وهو قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} أي ليس لها شيء إذا خرجت، وكان ذلك المقام عليها إباحة وندباً ولمي يكن فرضاً، فلها الخروج متى أحبت.

241

قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف}. عني بهن اللواتي دخل بهن لأن الآية الأولى عني بها من لم يمدخل بهن وهي ندب لا فرض عند أكثر العلماء. وهو مذهب مالك والشافعي. وقال عطاء: " عني بها كل مطلقة أن لها متاعاً حقاً على المتقين كالثياب والنفقة والخادم ونحوها على قدر الطاقة ". وقال ابن زيد: " هذا يوجب المتعة/ لكل مطلقة ". هذا معنى قوله. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت}. قال ابن عباس: كانوا أربعة ألاف خرجوا فراراً من الطاعون ". وقيل: فراراً من الحمى، حتى إذا كانوا بموضع شاء الله فيه موتهم أماتهم، فمر بهم نبي فدعا ربه أن يحميهم فأحياهم.

وروي أن نبياً من أنبياء الله أمر قومه أن يخرجوا إلى عدوهم فجبنوا وكرهوا الخروج، وقالوا: إن الأرض التي تخرجنا إليها فيها الطاعون، وكانوا سبعين ألفاً، ففروا من الطاعون أن يأتيهم في بلادهم، فلما توسطوا البلاد أماتهم الله، فسمي ذلك الموضع واسطاً، وهي واسط العراق، فخرج نبيهم في طلبهم فوجدهم بعد ثمانية أيام موتى قد أنتنوا فتضرع إلى الله وبكى، وقال: يا رب، كنت في قوم يحمدونك ويكذرونك فبقيت وحيداً. فأوحى الله إليه أني قد جعلت/ حياتهم إليك. فقال: / أحيوا بإذن الله، فحيوا. فتلك الرائحة فيهم. وقيل: إن اسم ذلك النبي حزقيل. وقال وهب بن منبه: " أصاب ناساً من بني إسرائيل بلاء وشدة فشكو ما أصابهم إلى نبيهم وتمنوا الموت لما هم فيه. فأوحى الله إليه: أي راحة لهم في الموت، أيظنون أنني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت، فاطلق إلى جبانة كذا، فإن فيها أربعة

آلاف وهم الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، فقم فيهم [وناجهم. / وكانت] عظامهم قد تمزقت وتفرقت، فنادى النبي على نبينا وعليه السلام: يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل إنسان منهم، ثم نادى: أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم، فاكتست اللحم، وبعد اللحم الجلد. ثم نادى: يا أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك، فقاموا فكبروا تكبيرة واحدة ". وقال الضحاك: " هم ألوف كثيرة أمروا أن يقاتلوا في سبيل الله ففروا من الجهاد، فأماتهم الله ثم أحياهم، وأمرهم أن يعاودوا الجهاد، ودل على ذلك قوله: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وقيل: كانوا أربعة آلاف من بني إسرائيل عصوا الله، وصرفوا عن

الجهاد، وقالوا: البلاد التي تقصدها بلاد طاعون. فأماتهم الله عقاباً لهم، ثم أحياهم بدعاء نبيهم وتضرعه إليه. وقال السدي: " كانت قرية عند واسط وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية، وهلك أكثر من بقي في القرية، فلما ارتفع الطاعون/ رجع الهاربون إلى القرية. فقال الذين بقوا من أهل القرية: لو صنعنا مثل ماصنع أصحابنا بقينا ولئن وقع الطاعون مرة أخرى لنخرجن معهم، فوقع من قابل، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً ثم نزلوا بواد أفيح فناداهم ملَك من أسفله، وآخر من أعلاه أن موتوا، فماتوا. فمر بهم نبي، فوقف عليهم، وجعل يفكر في أمرهم، فأوحى الله تعالى إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، وقيل له: فنادِ فيهم. فنادى: يا أيتها العظام: إن الله يأمركِ أن تجتمعي فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض، فاجتمعت، ثم/ ناداها فاكتست اللحم ثم ناداها فقامت ".

وقد قيل: إن معنى ألوف مؤتلفون. قوله: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. قيل: هو أمر مراد للذين أحياهم الله بعد موتهم لأنهم فروا من الجهاد فماتوا. وقيل: هو عام لجميع الخلق. قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ} الآية. قال ابن زيد: " هذا في الجهاد يضاعف له بالواحد سبعمائة. ولما نزلت الآية، قالت اليهود: " هو فقير يستقرض "، يُمَوِّهُونَ بذلك على الضعفاء، فأنزل الله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181].

وقال السدي: " هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو؟ ". " وروي أن هذه الآية نزلت في أبي [الدحدح الأنصاري كان من أفاضل الأنصار رحمه/ الله. ولما حض الله المؤمنين على الصدقة، قال: يا رسول الله، ربنا يستقرض منا؟ قال رسول الله [عليه السلام]: نعم، ليعظم بذلك ثوابك، فقال يا رسول الله، والله ما أَمْلِكُ غير حائطي، وقد جعلته لله D وأرضى بثوابه. ثم مضى إلى الحائط وفيه امرأته وصبيانه، فصاح من خارج بامراته: خذي بيد الصبية فاخرجي، فإني سمعت الله يستقرض خلقه ليعظم بذلك ثوابهم فأقرضته حائطي. فقالت له امرأته: لا تقيل ولا تقال، ربح بيعك. وأخذت بيد الصبية، وخرجت والنخيل موقورة رطباً وزهواً. فقال رسول الله A: " كم من غدق مذلل في الجنة لأبي الدحداح ".

وقالت اليهود: " إنما ربنا فقير يستقرض منا، ولم نر غنياً يستقرض من فقير. فأنزل الله، {لَّقَدْ [سَمِعَ الله قَوْلَ] الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] الآيات. وعن الحسن أنه قال في حديث له طول: " لما نزلت الآية أتى أبو الدحداح النبي A وقال: يا نبي/ الله إني قد أقرضت الله حائطي. فقال له رسول الله A /: أَيُّ أَحَدِهِمَا يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ؟ قال: اختر خيرهما. قال: أَبْشِرْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، فَإِتنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَ لَكَ ذَلِكَ فِي الجَنَّةِ بِأَلْفِ أَلْفٍ. قال: فمضى أبو الدحداح وأخرج أولاده من الحائط وجعل يخرج التمرة من فم هذا ومن حجر هذا، ومن كم هذا، ويلقيها في الحائط وأنشأ يقول: " يَا أُمَّ دَحْدَاحِ هَدَاكِ الهَادِي ... إِلَى سَبِيلِ الخَيْرِ وَالرَّشَادِ بيني مِنَ الحَائِطِ وَسْطَ الوَادِي ... فَقَدْ مَضَى قَرْضاً إِلَى التَّنَادِ أَقْرَضْتُهُ الهَ عَلَى اعْتِمَادِ ... طَوْعاً بِلاَ مَنٍّ وَلاَ ارْتِدَادِ

إِلاَّ رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ ... فَوَرِّطِي الحَائِطَ قَبْلَ الغَادِ وَارْتَجِلي بالْفَقْرِ وَالأَوْلادِ/ ... قَبْلَ تَدَاعِيهِمْ إِلَى الجَدادِ وَاسْتَبْقِي وُفقْتِ لِلرَّشَادِ ... إِنَّ التُّقَى وَالبِرَّ خَيْرُ زَادِ قَدَّمَهُ الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَادِ ... " فأجابته أم الدحداح: " بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ وَفَلاَحْ ... مِثْلُكَ أَجْرَى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ وَانْتَهَزَ الحَظَّ إِذَا الحَظُّ وَضَحْ ... قَدْ مَتَّعَ اللهُ عِيَالِي مَا صَلَحْ بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَهْوِ الْبَلَحْ ... وَاللهُ أوْلَى بِالَّذِي كَانَ مَنَحْ

246

مَعْ عَاجِلِ التَّضْعِيفِ فِيمَا قَدْ شَرَحْ ... وَالمَرء يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ طُولَ اللَّيالِي وَعَلَيْهِ مَا أجْتَرَعْ ... " فبلغ ذلك رسول الله A، فقال: " إِنَّ اللهَ قَدْ أَضْعَفَهُ لَهُ فِي الجَنَّةِ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ ". ومعنى {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} - بالصاد - أي يقبض الأرزاق فيضيقها على من يشاء ويبسطها فيوسعها على من يشاء. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. أي إليه مرجعكم في معادكم. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ/ مِن بَعْدِ موسى} الآية. معنى أَلَمْ تَرَ، في جمع القرآن: ألم تعلم، ألم يبلغك خبرهم يا محمد. والملأ هنا أشرف القوم ووجوهم، جمع لا واحد له من لفظه. والنبي، قال

السدي: اسمه سمعون، سمي بذلك لأن الله سمع دعاء أمه وأجابها في أن وهبها إياه فسمته سمعون إذ قد سمع دعاءها. وقال وهب: اسمه إسمويل. وقيل: هو يوشع بن نون، قاله قتادة: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما وذلك بعد موت موسى. قال السدي: " كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة/ وكان ملك العمالقة جالوت، فظهرت العمالقة على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية فسألوا الله أن يبعث إليهم/ نبياً يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلك من عندهم، فلم يبق إلا أمرأة حبلى من شيخ من سبط النبوة، فأخذوها وحبسوها في بيت خوفاً أن تلد جارية فتبدلها بغلام لما ترى من رغبتهم في ولد ذكر منها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يزرقها غلاماً، فولدت غلاماً، فسمّته سمعون إذ قد سمع الله دعاءها فيه فكبر وتعلم التوراة فأتى جبريل عليه السلام، والغلام نائم إلى جنب الشيخ فدعاه بلحن الشيخ،

فقام الغلام وقال: يا أبتاه، أنت دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول: لا، فيفزع الغلام. فقال با بني، أرجع فننم. فدعاه جبريل الثانية. فأتى الغلام الشيخ فقال: دعوتني؟ فقال له: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كان الثالثة ظهر جبريل عليه السلام، فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك نبياً. فأتاهم فكذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة، وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آية نبوتك. فقال لهم سمعون: عسى إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا. فقالوا وكيف لا نقاتل، وقد غلب علينا وأخرجنا من ديارنا وأبنائنا ". أي أسر منهم من أسر فأخرج من دياره وأبنائه، وهم في وقت قولهم قد كانوا في ديارهم وأبنائهم، ولكن المعنى: أن من أسر منهم قد فُعِلَ به ذلك، فأُخبروا عن أنفسهم والمراد به بعضهم، فهو عام يراد به الخصوص. فأما قوله: {عَسَيْتُمْ}، فقد ضعف قراءة من كسر السين لأنه يلزم أن يجيز " عَسِيَ أَنْ أَقُومَ "، وذلك لا يقال.

247

قال أبو حاتم، " لا وجه للكسر، ويلزم منه فَعَسِيَ {أَن يَأْتِيَ بالفتح} [المائدة: 52]. وقد حكى أهل اللغة؛ يعقوب وغيره/، " أن الكسر مع المضمر خاصة، لغة ". قال أبو غانم: " هي لغة أهل الحجاز يكسرون مع المضمر خاصة ". قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}. قال لهم ذلك سمعون بأمر الله له، [فلم يرضوا] به، وكان طالوت هو من سبط ابن يامين بن يعقوب، فقالوا: أنى يكون له الملك علينا، وهو من سبط ابن يامين، ولا ملك فيه. {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك}. لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب. {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال}: عابوه/ بفقره. قيل: طالوت كان سقاءً وكان دباغاً.

قال وهب بن منبه: " لما سألوا نبيهم أن يبعث الله إليهم ملكاً يقاتلون معه سأل نبي الله في ذلك، فأمره أن ينظر إلى قرن في بيت فيه دهن، فقيل له: هذا الدهن/ إذا نشَّ عند دخول رجل فهو الملك، فَأَدْهِنْ رأسه منه ومَلَّكْهُ عليهم، فأقام النبي ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه. فخرج طالوت يوماً في طلب دابة له، ومعه/ غلام له فمر ببيت النبي فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن دابتنا ليرشدنا إليها، ويدعو لنا بخير، فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران شأن دابتهما ويسألانه الدعاء، إذ نش الدهن الذي في القرن، فأخذه النبي وقال لطالوت: قَرِّبَ رأسك فَدَهِّنْهُ من الدهن، [ثم قال] له: أنت ملِك بني إسرائيل. فشاع الأمر في بني إسرائيل [وأتت] عظماء بني إسرائيل لنبيهم وقالوا: ما لطالوت يُمَلَّك علينا ونحن أحق بالملك منه لأنك قد علمت أن الملك والنبوة في آل لاوي وآل يهوذا فقال لهم: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ}: أي اختاره وزاده بسطة في العلم والجسم ".

وقال السدي: " لما سألوه ملكاً يقاتلون معه أتاهم بعصا، وقال: إن صاحبكم طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها، فقال لهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا ما كنت قط أكذب منك الساعة ". قال ابن عباس: " كان من بني إسرائيل سبط نبوة وسبط خلافة، ولم يكن طالوت من أحد السبطين، فلذلك قالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي من أين له ذلك؟، وليس هو [من أحد] السبطين {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ}، لأنا من أحد السبطين ". وقال غيره: " [كان طالوت من سبط قد أتوا] ذنباً فنزع منهم الملك، فلذلك أنكروا أن يكون ملكاً إذ هو من سبط قد أتوا ذنباً، ونزع منهم الملك ". قال وهب بن منبه: " كان طالوت يطول بني إسرائيل من منكبيه إلى فوق؛

248

يزيد ذلك على أطولهم ". قوله: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ}. أي: يضعه حيث يشاء. {والله وَاسِعٌ}. أي: يوسع من فضله على من يشاء. {عَلِيمٌ} بمن هو أحق بالمملكة، وبما فيه حسن العاقبة وهذه الآية تدل على جواز إقامة المفضول لأن نبيهم كان أفضل من طالوت فقد قدم المفضول على الفاضل. قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية. دلت هذه الآية على أن في الكلام حذفاً واختصاراً كأنهم قالوا: ما آية ملكه وما علامته؟ فقال: آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة. وهذا التابوت كان عندهم من عهد موسى A وهارون/، فسلبهم إياه ملوك من أهل الكفر، فجعل الله رده عليهم آية لملك طالوت.

قال ذلك/ قتادة والربيع، قالا: " كان التابوت في البرية، وكان موسى A / خلفه عند فتاة يوشع بن نون، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. وقال أهل التفسير: كان بنو إسرائيل ينبهون بالتابوت ويستنصرون به على الأعداء، ويقدمونه أمامه إذا قاتلوا أهل الكفر. فلما عصوا الله D وخالفوا أنبياءه، أظهر الله عليهم أهل الكفر، فسلبوهم التابوت وجعلوه في مخرأة عناداً وتصغيراً له. فلما تقذر الموضع الذي هو فيه، ابتلاهم الله بالواسير، فضاقوا بها ذرعاً وعلموا السبب الذي من أجله ابتلوا بها، فأجمع رأيهم على أخراج التابوت، فأخرجوه وجعلوه على بقرة ذات لبت، فحملته الملائكة حتى وضعته بين بين إسرائيل، فرضوا بطالوت ملكاً. وكان لهم في هذا التابوت آية عظيمة كانوا يهزمون به العدو ويظهرون به على الكفار. فقالوا: إن جاءنا التابوت آمنا وسلمنا، وكان العدو الذين أخذوه أسفل

الجبل - جبل إيلياء عبدة أوثان - وكان ملكهم/ جالوت، وكان طالوت قد أعطاه الله شجاعة وقوة وشدة وبطشاً، وكان الكفار قد جعلو التابوت في كنيسة لهم فيها أصنام، فكانت الأصنام تصبح مكنسة رؤوسها، وبعث الله D على أهل تلك القرية فأراً يبيت الرجل الفأرة فيصبح ميتاً قد أكلت ما جوفه، فاستشأموا بالتابوت، وقالوا: هذا بلاء قد أصابكم مذ كان هذا التابوت بين أظهركم، قد رأيت أصنامكم تصبح كل غداة منكسة،، ولم تكن تصنع هذا إلا مذ كان التابوت معها فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحلموا التابوت عليها ثم علقوها بثورين ثم ضربوا على جنوبها. فمرت الملائكة تسوق الثورين حتى وقفوا على بني إسرائيل فكبروا، وحمدوا الله وجدوا في الحرب ". وقال ابن عباس: " لم يبق من الألواح إلا سدسها، وكانت العمالقة

أخذت التابوت وهم فرقة من عاد، فحملت/ الملائكة التابوت بين السماء والأرض وهم ينظرون حتى وضعته عند طالوت، فسلموا له الأمر وملكوه. وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموا بين أيديهم التباوت ". قال ابن عباس: " بلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة ". قال وهب: " كان نحو ثلاثة أذرع في ذراعين ". / قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ}. قيل: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان. قال ذلك على بين أبي طالب. وروي عنه أنه قال: " هي ريح خجوج ولها رأسان ".

وقال مجاهد: "السكينة لها رأس كرأس الهر، وجناحان وذنباً كذنب الهر ". وقال السدي: " هي طست من ذهب من الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء، وفيها رضاض الألواح. وكانت الألواح من درر وياقوت وزبرجد ". وروي عن وهب بن منبه " أن السكينة روح/ من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء، بين لهم ما يريدون ". وقال ابن جريج: " سألت عطاء عن السكينة فقال: هي ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها ". وقال الربيع: " السكينة الرحمة ". وقال قتادة: " السكينة الوقار ". وروى الضحاك عن ابن عباس أن السكينة دابة مثل الهرّ

لعينيها إشعاع، فإذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم، فنهزم ذلك الجيش من الرعب. وقال بعض بني إسرائيل من علمائهم: " السكينة رأس هرة ميتة كانت إذ صرخت في التابوت صراخ الهر، أيقنوا بالنصر ". واختار الطبري أن تكون السكينة ما يسكنوه إليه من الآيات، وهو قول عطاء، وكل ما ذكرنا من الأقوال فهي آيات تسكن إليها النفوس، فهي داخلة تحت هذا القول. وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى}. قيل: هي عصا موسى، ورضاض الألواح لأن موسى A حين ألقى

الألواح تكسرت، فوقع منها رضاض، فجعل في التابوت. قاله عكرمة وقتادة والسدي. وروي عن ابن عباس. وقال مقاتل: " البقية رضاض الألواح، وصر في طست من ذهب وعمامة موسى وعصاه ". وعن السدي أنه قال: " هي التوراة ورضاض الألواح والعصا ". وقال أبو صالح: " هي لوحان من التوراة وثياب موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم وعصاهما وكلمة الفرج، لا إله إلا الله الحليم الكريم، وسبحان الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين ". وقيل: هي عصا موسى وعصا هارون ورضاض الألواح. قاله أبو صالح وعطية بن سعد.

وقال الثوري: " هي العصا والنعلان ". وقيل: " هي العصا وحدها. وقال القتبي: " هو من المَنِّ الذي كان ينزل عليهم ورضاض الألواح. قوله: {تَحْمِلُهُ الملائكة}. قيل: حملته إليهم عياناً حتى وضعته بين أظهرهم. وقيل: حملته حتى وضعته في دار طالوت. وقيل: حمل إليه التابوت بأمر الملائكة، كما تقول: " حَمَلَ السلطان الأمير إلى بلد كذا "، وإنما/ أمر بحمله ولم يحمله هو/ بنفسه، فلما وصل إليهم التابوت أقروا غير راضين، وخرجوا للقتال ساخطين. قال ابن زيد. وقيل: معنى {تَحْمِلُهُ} تسوقه علجة تجرها بقر. وقد ذكرنا ذلك.

249

ومعنى {إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}. إن كنتم تصدقون إذا جاء التابوت، ولم يكونوا مؤمنين قبل مجيء التابوت لأنهم كذبوا بنبيهم/ فيما قال لهم وسألوه أن يبين صدقه بآية. قوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} الآية. أي مختبركم، وذلك أنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين العدو [وكان قد أخرجوا] في ثمانين ألفاً، ولم تخلف منهم إلا ذو عذر. والنهر بن الأردن وفلسطين، امتحنهم الله به على عطش كانوا فيه. فقال: " من شرب منه فليس مني:، أي ليس من أهل ولايتي ". {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} سمح الله لهم في الغرفة. / {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ}، أي من تركه، ولم يشرب منه فهو مني. فلما جاوزوا النهر شربه أكثرهم، ولم يقنعوا بغرفة، فكان من شرب عطش، ومن اغترف غرفة روى. وجعل الكفار منهم يشربون فلا يروون، والمؤمن يغترف

بيده فترويه. فعبر معه منهم أربعة آلاف، وهم الذين اغترفوا، ورجع ستة وسبعون ألفاً "، وهم الذين شربوا. وقال ابن زيد: " قال طالوت حين فصل، لا يصحبني إلا من نية في الجهاد، فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يصحبه منافق رجعوا كفاراً، وأخذ من بقي منهم غرفة، ومنهم من لم يمسه ". وكان البراء يقول: " إن أصحاب النبي عليه السلام يوم بدر، على عدة من جاز مع طالوت النهر، وذلك ثلاثمائة وبضعة عشر ". وقال السدي: " عبر/ النهر معه أربعة ألاف، ورجع ستة وسبعون ألفاً، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، قال المنافقون منهم: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}، فرجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وخلص طالوت في ثلاثمائة وبضعة عشر، - عدة أهل بدر -، وهم الذين قالوا: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.

ومعنى {يَظُنُّونَ} يوقنون، ويجوز أن يكون " يشكون " أي يشكون هل يقتلون [في تلك الغزاة، أو يسلمون، ليس هو شك في البعث. قال أكثر المفسرين: واختبرهم الله بالنهر، وامتحنهم/ بالعطش الشديد فشربوا إلا قليلاً منهم اغترفوا ولم يكثروا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان جالوت في مائة ألف. قوله: {والله مَعَ الصابرين} أي إذا صبروا في طاعته. وذكر ابن وهب أن ابن عباس قال لكعب: أخبرني عن ست آيات في القرآن لم أكن علمتهن، ولا تخبرني عنهم إلا بما تجد في كتاب الله المنزل: ما سجين؟ [المطففين: 8] وما عليين؟ [المطففين: 18] وما سدرة المنتهى؟ [النجم: 14]، وما جنة المأوى؟ [النجم: 15] وما بال أصحاب الرس ذكرهم الله في الكتاب؟ [ق: 12]

وما بال طالوت رغب عنه قومه؟، وما بال إدريس ذكره الله فقال {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57]. قال كعب: " والذي نفسي بيده لا أخبرك عنهن إلا بما أجد في كتاب الله المنزل. أما " سجين "، فإنها صخرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها اسم كل شيطان. فإذا فبضت نفس الكافر، عرج بها إلى السماء، فغلقت أبواب السماء دونها ثم رمي بها إلى سجين فذلك سجين. وأما " عليون "، فإنه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، حتى تنتهي إلى العرش، فتخرج كف من العرش فتكتب له: نزله وكرامته فذلك " عليون ". وأما سدة المنتهى، فإنها سدرة عن يمين العرش، انتهى إليها علم العلماء فلا يعلم العلماء ما وراء تلك السدرة. وأما " جنة المأوى "، فإنها جنة تأوي إليها أرواح المؤمنين. وأما " أصحاب الرسّ "، فإنهم كانوا قوماً مؤمنين يعبدون الله في ملك جبار لا يعبد الله فخيرهم أن يكفروا أو يقتلهم، فاختاروا/ القتل على الكفر، فقتلهم ثم

250

رمى بهم في قليب فلذلك سموا اصحاب الرس ". وأما " طالوت "، فإنه كان من غير السبط الذي الملك فيه فلذلك رغب عنه قومه. وأما " إدريس "، فإنه كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله على جميع أهل الأرض، فاستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه فأذن الله له أن يؤاخيه. . الحديث " وهو مذكور في مريم بتمامه والله المستعان. / قوله: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} الآية. أي أنزل علينا الصبر لقتالهم وانصرها عليهم. قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك}. أي أتى داود، وذلك أن جالوت برز وقال: من يبرز فيقتلني، فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم، فأتى بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، وأن يحكمه في ماله فألبسه/ طالوت سلاحاً، فكره داود أن يقاتله بسلاح، وقال: إن الله إن لم ينصرني عليه، فلا تغني السلاح شيئاً، فخرج بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار، ثم

برز إليه. فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ فقال داود: نعم. فقال جالوت: ويحك ما خرجت/ إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة، لأُبَدِّدَنَّ لحمك ولأطعمنك اليوم الطير والسباع ". فقال له داود: " بل أنت عدو الله شر من الكلب ". فأخذ داود حجراً فرماه بالمقلاغ، فأصاب بين عينيه حتى نفذ في دماغه، وصرع جالوت وانهز من معه، وأخذ رأسه. ورجع الناس إلى طالوت، فادَّعَوْا قتل جالوت، فأتى بعضهم بسيف وبضعهم بشيء من جسده، والرأس مع داود. فقال طالوت: " من جاء بالرأس فهو الذي قتله. فجاء داود به، وطالب طالوت بما وعده. فندم طالوت على ما جرى بينهما من الشرط، فقال طالوت: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاجعل صداقها ثلاثمائة غلفة من أعدائنا - يرجو بذلك أن يتقل داود -: فغزا معه داود، وأسر ثلاثمائة وقطع غلفهم وجاء بها، فلم يجد بداً من تزويجه وأدركته الندامة، فأراد قتل داود حتى

هرب منه إلى الجبل، وحاضره طالوت، فلما كان ذات ليلة تسلط عليهم النوم فنزل داود/ فأخذق إبريق طالوت الذي كان يشرب فيه، وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من هدبة ثيابته ورجع إلى كانه، وناداه: أن تعهد حرسك، فإني لو شئت قتلتك البارحة، وهذا إبريقكم وشيء من شعر لحيتك، وشيء من هذبة ثيابك، وبعث به إليه. فعلم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه وعاهده ألا يرى بأساً ثم انصرف ". قال ابن إسحاق: " إن داود كان له أربعة إخوة خرجوا مع طالوت، وبقي داود في الغنم يرعاها لهم، وكان أصغرهم، فأمره أبوهأن يحمل إليهم زاداً ويرجع، وفخرج داود ومعه زاد إخوته ومخلاته فيها حجارة، ومقلاعه الذي يرمي به فمر بحجر فناداه يا داود، خذني فاجعلني في مخلاتك/ تقتل بي جالوت، فإني حجر يقعوب، فأخذه [وجعله] في مخلاته ومضى فناداه حجر أخر مثل ذلك، وقال: أنا حجر إسحاق، فأخذه ومضى، فنادي ثالث مثل ذلك، وقال: أنا حجر إبراهيم فأخذه/ ووصل إلى الوقوم فدفع إليهم أزودتهم، فسمع داود خوض الناس في العسكر وتعظيمهم لأمر

جالوت فقال لههم: " إنكم لتعظمون من أمره، والله لو أراد الملك لقتلته فأدخلوني على الملك طالوت. / فأدخل عليه فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون أمر هذا العدو ووا لله لو أردته لقتلته. فقال له طالوت: يا فتى، ما عندك من القوة على ذلك، وفيمن جربت نفسك؟ قال داود: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه وآخذ برأسه فأفك لحييه عنها، فآخذها من فيه، فادع لي بدرعك حتى ألبسها، فدعا بالدرع فلبسها. فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت فلما التقى الناس، قال داود: أروني جالوت. فأروه إياه على فرس، فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تتواثب في مخلاته [ويقول] هذا: خذني، وهذا خذني. فأخذ أحدها وجعله في مقلاعه، ثم أرسله فصك به بين عينيه، ورفعه، وتنكس عن دابته فقتله. وانهزم وقال الناس: قتل داود جالوت، وخلع طالوت حتى لم/ يسمع له ذلك ". {وَآتَاهُ الله الملك والحكمة}. أي داود. والحكمة: النبوة.

قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية. أي بدفع أهل الطاعة عن أهل المعصية، وبالبر عن الفاجر. {لَفَسَدَتِ الأرض}. أي بهلاك أهلها. وروى ان عمر عن النبي [عليه السلام] أنه قال: " إِنَّ الله لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مَائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلاَءَ " ثم قرأ ابن عمر {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}. وعن جابر بن عبد الله، قال: قال [النبي عليه السلام]: " إِنَّ اللهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاَحِ المُسْلِمِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتِ جِيرَانِهِ. وَلاَ يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مَا دَامَ فِيهِم ".

252

وأكثر أهل التفسير على أن المعنى: لولا أن الله يدفع بمن يصلي عن من لا يصلي، وبمن يتقي عن من لا يتقي لأهلك الناس بذنوبهم. وقيل المعنى: لولا أن الله أمر بحرب الكفار، لكان إفسادهم في الأرض أكثر، ولولا أمره في الحرب لَعُمِلَ بالكفر، فيهلك الناس بذنوبهم. قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}. أي هذه آيات الله، أي علاماته تتلى عليك يا محمد. {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}. أي ما تلي عليك من إماتة من ذكر وإحيائه، وبعث طالوت ملكاً وقتل داود جالوت، وشبه ذلك مما تقدم من الآيات/ التي لا يخبر بمثلها إلا نبي، وإنك إذ جئتهم بهذه الآيات والحجج وأنت أمي لا تقرأ الكتاب لمن المرسلين إذ لا يأتي بهذه الآيات المعجزات إلا مرسل. قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا/ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}.

" تلك " إشارة إلى ما تقدم ذكره من الرسل: موسى وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل وإسحاق وداود ممن تضمنه ما تقدم. قال أبو العزم " {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هو موسى، ورفع بعضهم درجات: هو محمد A أرسله إلى الناس كافة، وكلمته الشجرة، وأنشق له القمر وأطعم الخلق الكثير ومن اليسير من الطعام في أشباه لهذا لا تحصى، رفع الله بها درجة محمد صلى الله عليه [وسلم]. وروى أبو موسى الاشعري أن النبي A قال: " أُعْطِيتُ خَمْساً/ لَمْ يُعْطَهُنَّ [أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً وَأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِل لِنَبيٍّ كَانَ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ سَأَلَ الشَّفَاعَةَ وَإِنِّي أَخَّرْتُ شَفَاعَتِي فَجَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً ".

قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات}. أي أعطيناه الحجج والدالة على نبوته، وهي: إبراء الأكمة، وأحياء الموتى ونفخه في الط ين فيكو طائراً، وشبه ذلك. {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس}. أي قويناه بجبريل، وقد تقدم الاختلاف في روح القدس. وهو جبريل عند الضحاك وغيره. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم}. أي من بعد الرسل. وقال قتادة: " من بعد [عيسى وموسى صلى الله على محمد وعليهما [وسلم خاصة. " وهو قول الربيع. {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا}.

254

أي لحجزهم عن القتال ومنعهم منه. {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. أي يوقفق من يشاء فيطيع، ويخذل من يشاء فيعصي. قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ}. أي يأتي يوم هذه صفته، أنه لا بيع يه ولا خلة ولا شفاعة. أي يأتون يوم هذه صفته. وعني بالنفقة هنا الزكاة [و] التطوع. أمرهم تعالى أن يدخروا لأنفسهم من ذلك من قبل أن يأتي يوم صفته أنه {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ}: أي لاتباع [فيه] الأعمال فلا كسب {وَلاَ خُلَّةٌ}: أي لا صداقة. {وَلاَ شَفَاعَةٌ}: أي لا شفاعة للكافرين.

255

فالآية عامة، أي لا صداقة ولا شفاعة للكافرين. فالآية عامة الظاهر خاصة، قد بينت أنها خاصة/ للكافر السنة. ويجوز أن يكون/ المعنى: ولا شفاعة إلا بإذن الله بدليل قوله بعد هذا: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. وفي القرآن جواز الشفاعة لمن شاء الله لأنه قد قال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]، وقال D: { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. فهذا كثير يدل على جواز الشفاعة يوم القيامة/ ممن شاء الله عزو جل ولمن شاء الله سبحانه فالآية مخصوصة [في الكفار]، لا شفاعة لهم ولا فيهم. قوله: {والكافرون هُمُ الظالمون}. كما تقدم في أول الآية/، ذكر صنفين كافرين ومؤمنين في قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ}. صرف آخر الآية إلى الكفار بعد أن خص ذكر أهل الإيمان في وسط الآية بما ذكر تعالى. قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} الآية. أجاز النحاس: لا إله إلا إياه على الاستثناء.

وروي عن أبي ذر أنه سأل النبي [عليه السلام] فقال له: أي ما أنزل عليك من القرآن أعظم "، فقال النبي A: { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} ". وقال ابن عباس: " أشرف آية في القرآن الكرسي ". نبه الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية ألا يعبد غيره، وأن يحذر مما وقع فيه من تقدم ذكره، في قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} واختلفوا فاقتتلوا وشبهه. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أنه قال: قال رسول الله A: " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِي إِذَا نَامَ، لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ الله حَتَّى يَنْتَبِهَ. وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا انْتَبَهَ، لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ الله حَتَّى يَعُودَ، وَمَنْ قَرَأَهَا إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَمْ يَزَلْ فِي أَمَانِ اللهِ D حَتَّى يَعُودَ. وَمَنَ قَرَأَهَا عِنْدَ حِجَامَةٍ كَانَتْ لَهُ مَنْفَعَتَانِ: مَنْفَعَةٌ لِلْحِجَامَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَمَنْفَعَةٌ لِلْحِجَامَةِ

الَّتِي تَكُونُ بَعْدَهَا. وَمَنْ قَرَأَهَا كُلِّ صَلاَةٍ، أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ ". وروى أبو هريرة أن النبي [عليه السلام] قال: " لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وَسَنَامُ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ، مِنْهَا آيَةٌ لاَ تُقْرَأُ فِي بَيْتٍ فِيهِ شَيْطَانٌ إِلاَّ خَرَجَ مِنْهُ، وَهِيَ آيَةُ الكُرْسِي ". وقوله: {الحي القيوم}. الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا يزول. وقيل: بل هو اسم من أسمائه تسمى به، فقلناه تسليماً لأمره. وقوله: {القيوم}. قال ابن عباس: " معناه: الذي لا يزول ". وقال مجاهد: " معناه القائم على كل شيء ".

وهو " فَيْعُولٌ " من " قَامَ "، ولا يحسن أن يكون " فَعُولاً " لأنه يلزم منه أن يقال: " قَوُومٌ ". وقال ابن كيسان: " ليس في كلام العرب، فعول من الواو ". وروي عن عمر أنه/ قرأ " الْقَيَّامُ " ووزنه " فَيْعَالٌ " من " قَامَ ". وقرأ علقمة " الْقَيِّمُ "، ووزنه عند البصريين " فعيل "، ثم أدغم فكان أصله قيوماً، وأصل عند الكوفيين " قويم " مثل فعيل، ويلزمهم ألا يعل كما لم يعل " طويل " وشبهه. وصفات/ الله مطلقة في غاية الكمال والتمام، لا يجوز عليها حوالة ولا تغيير، بخلاف صفات المخلوقين. قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ}. أي نعاس. قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وغيرهم. ولا نوم فيستثقل. وأصل " سنة " وسنة، كزنة وعدة.

قال السدي: " السنة ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان ". وقال الربيع: " السنة هو الذي كون به الإنسان بين النائم واليقظان، وهو الوسنان، والنوم الاستثقال ". نفى الله تعالى عن نفسه الآفات التي تدخل على المخلوقين، فتذهب حسهم تعالى عن ذلك. وقد روى أبو هريرة أن النبي A قال: " وَقَعَ نَفْسِ مُوسَى A: هَلْ يَنَامُ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؟ فأَرَسَلَ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكاً فأَرَّقَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ أَعْطَاهُ قَرُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ يَدٍ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ بِهِمَا. فَجَعَلَ يَنَامُ وَتَكَادُ يَدَاهُ/ تَلْتَقِيَانِ ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَنْ الأُخْرَى، حَتَّى نَامَ نَوْمَهُ فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ فَانْكَسَرَتْ القَارُورَتَانِ، فَجَعَلَ اللهَ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً "، أي أن الله لو كان ينام لم تمتسك السموات والأرضون

كما لم تمتسك القارورتان في يدي موسى عليه السلام. قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. أي من يشفع لمن أراد الله عقوبته إلا بأمره لهم بالشفاعة. وهذا دليل على جواز الشفاعة بإذنه لمن شاء من رسله وأوليائه. وقيل: معناه: من ذا الذي يذكر الله بقلبه حتى يأذن له، لا إله إلا هو. قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. قال ابن جريج: " يعلم ما مضى أمامهم من الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} ما يكون بعدهم من أمر الدنيا والآخرة ". وهذا يدل على/ قدم علم الله تعالى، وأنه لم يزل/ عالماً ولا يزال. {إِلاَّ بِمَا شَآءَ}. ما شاء هو أن يعلمه. قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض}. قال ابن جبير عن ابن عباس: " كرسيه: علمه "، ودل على ذلك قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}. قال أبو هريرة: " الكرسي بين يدي العرش ".

قال مجاهد: " ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ". قال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه ". قال ابن زيد: " حدثني أبي، قال: قال رسول الله A /: " مَا السَّمَوات السَّبْع فِي الكُرْسِيِّ إِلاَّ كدرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ ". وقال أبو ذر: سمعت النبي [عليه السلام] يقول: " مَا الْكُرْسِيُّ فِي العَرْشِ إِلاَّ كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ". وروى ليث عن مجاهد أنه قال: " ما السموات والأرض في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ". وروى الأعمش عن مجاهد أنه قال: " مثل السموات تحت الكرسي كحلقة ملقاة في الفلاة ". وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: " الكرسي الذي وسع السموات والأرض موضعه من العرض موضعه من السرير، ولا يقدر قدر العرش إلا

الذي خلقه ". وقال الحسن: " الكرسي هو العرش نفسه ". وقال الضحاك: " كرسيه الذي يوضع تحت العرش ". وقيل: " كرسيه: قدرته ". اختار الطبري أن يكون علمه لقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}، ولقوله: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7]. وفيه لغتان: ضم الكاف وكسرها. قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ}. أي لا يثقله ولا يشق عليه. يقال: ما آدَكَ هو لي آئِدٌ ". وقال القتبي:: يقال: آدَاهُ يَؤُودُهُ، [وَأَدَهُ] يئده، والوأد الثقل ". والهاء في

{يَؤُودُهُ} لله جل ذكره. وقال أبو إسحاق: " يجوز أن تكون للكرسي ". وقوله: {حِفْظُهُمَا}. أي حفظ السموات والأرض. {وَهُوَ العلي}. أي ذو الارتفاع عن شبه خلقه بقدرته. {العظيم}. أي لاشيء أعظم منه جلالة وهيبة وسلطانا. ولا يحسن أن يكون بمعنى العلو في المسافة والارتفاع من مكان إلى مكان تعالى الله عن ذلك - إنما هو علو قدرة وجلالة وهيبة وسلطان، لا علو ارتفاع من مكان إلى مكان، ليس كمثله شيء. لا يجوز عليه الحركة ولا الانتقال ولا التغير من حال إلى حال، فافهمه. وقيل: معنى {العلي}: العلي عن النظراء والأشباه، لا علو مكان. وقيل: إن {العظيم} هنا بمعنى المعظم، الذي يعظمه خلقه لم يزل على ذلك. ولا يحسن أن يتأول أن تعظيمه محدث. / بل لم يزل معظماً قبل كون الخلق كما

256

لم يزل قادراً وعالماً قبل كون المعلوم والمقدور، ولا يزال معظماً بعد فناء الخلق. وقد طعن/ في هذا القول. وقيل: يلزم ألا يكون معظماً قبل الخلق ولا بعدهم، إلا معظم له. فالجواب عن ذلك ما ذكرنا أنه لم يزل ولا يزال كذلك كالعلم والقدرة وشبههما. تقول العرب: " هذه خمر عتيقة "، بمعنى معتقة. وقيل: معنى " العظيم ": أن له عظمة هي صفة له/ لا تكيف. قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}. أكثر الناس على أن هذه الآية مخصوصة نزلت في أهل الكتاب ألا يكرهوا على الدين، إذا أدوا الجزية. فأما أهل الأوثان فلا تؤخذ منه الجزية ويكرهون على الدين. قاله ابن عباس؛ قال: " كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَهُ، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع

أبناءنا، فأنزل الله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} الآية، فمن شاء لحق، ومن شاء لم يلحق ". وقد قيل: إن الآية منسوخة منسخها: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} [التوبة: 73]. وأكثر الناس على أن هذه الآية نزلت في غير عبدة الأوثان، ومن [لاكتاب له]، ومن لا يؤدي الجزية من أهل الكتاب. والألف واللام في " الدِّين " عوض من ضمير يعود على الله. والمعنى: " وهو العلي العظيم لا إكراه في دينه ". وقيل: هما للتعريف. والدين: الإسلام. قوله: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي}. قرأ أبو عبد الرحمن " الرَّشَدَ " بفتحتين، وهما لغتان، كالبُخْل والبَخَل والشُّغْل والشَّغَل والسُّقْم والسَّقَم والعُدْم والعَدَم/ والعُرْب والعَرَب، والعُجْم والعَجَم، والسُّخْط والسَّخَط، والحُزْن والحَزَن، والوُلْد والوَلَد.

والرشد إصابة الحق، والغي ضده. وهو مصدر غَوِيَ يَغْوِ غَيّاً، وأصله " غَوْياً ". وبعضهم يقول: غَوَى، يَغْوى بالفتح فيهما. وقال بعضهم: غَوَى يَغْوِ/ إذا عدا الحق فضل، فمعناه: استبان الإيمان من الكفر. قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} أي بالشيطان، والجبت: السحر. وقيل: الكاهن. وقال مجاهد في قوله {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} [النساء: 60]، هو كعب بن الأشرف، وهو مشتق من " طغى " مقلوب وأصله طَغَوُوتٌ مثل جَبَرُتٌ. وقيل أصله طَيَغُوتٌ لأنه يقال: طَغَوْتُ وَطَغَيْتُ. وقيل: هو في معنى الطغيان وليس بمشتق منه، إنما يؤدي عن معناه، كما

قيل: رجل لآلٌ من اللؤلو، يؤدي عن معناه، وليس بمشتق منه. قوله: {بالعروة الوثقى}. أي تمسك بأويثق ما يستوثق به ويتمسك به. وقيل: الجبت والطاغوت كل ما يعبد من دون الله. قال سيبويه: " الطاغوت واحد مؤنث يقع على الجميع ". وقال المبرد: " هو جماعة "، ويريد الشياطين. وقال أنس: " العروة الوثقى: القرآن ". ذكره عنه ابن أبي شيبة. / وقيل: العروة الوثقى: العهد الوثيق. وقال ابن عباس: " العروة الوثقى: لا إله إلا الله. قوله: {لاَ انفصام لَهَا}. أي لا انكسار لها. وقال/ السدي: " لا انقطاع لها ".

257

{والله سَمِيعٌ}. أي يسمع إيمان المؤمن وكفر الكافر. {عَلِيمٌ}. أي عليم بمن وافق قلبه في الإيمان لسانه وأخلص في قوله. قوله: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ}. أي يتولاهم بتوفيقه فيخلصون ويثبتون على الإيمان ويعينهم على عدوهم ويتولى ثوابهم. قوله: {مِّنَ الظلمات إِلَى النور}. أي: من الكفر إلى الإيمان. نزلت هذه الآية في قوم كانوا قد كفروا بعيسى فلما جاءهم محمد A آمنوا به، فكانوا في ظلمة ثم صاروا في نور، وهم العرب وعبدة الأوثان والجاهلية، كلهم من آمن منهم، وكان قوم آخرون آمنوا بعيسى فكانوا في نور، فلما جاءهم محمد كفروا به فصاروا في ظلمة وهم النصارى. روى ذلك عن ابن عباس ومجاهد. قوله: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت}. أي الشياطين. وهذا مما يدل على أن الطاغوت جمع.

258

قوله: {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات}. أي من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين كفروا بمحمد A يعني قريشاً وكفار العرب. وقيل: هم اليهود. وقيل: هم النصارى كانوا مؤمنين بعيسى صلى الله على محمد وعليه وسلم. هذا قول مجاهد وغيره. وإنما مثل الكفر بالظلمة، لأن الظلمة تحجب البصر عن إدراك الأشياء، كذلك الكفر يحجب القلب عن إدراك الحقائق، حقائ الإيمان. {أولئك أَصْحَابُ النار}. هو إشارة إلى الكفر. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}. ألِف {أَلَمْ} ألِف توقيف لفظها. لفظ الاستفهام، وفيها معنى التعجب والتنبيه على ما يتعجب منه. والهاء في {رَبِّهِ} تعود على {الذي}، أو على إبراهيم A. ومعنى: ألم تعلم، ألم تر بقلبك يا محمد.

قوله: {أَنْ آتَاهُ الله الملك}. الهاء تعود على [الكافر الملك] وعليه أكثر الناس. وقيل: هي تعود على إبراهيم A. / والذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن كنعان بن كوشب بن سا بن نوح. قاله مجاهد. قال قتادة: " نمروذ، صاحب الصرح، وهو أول من تجبر في الأرض ببابل ". أخبر الله D نبيه A بهذه القصص ليكون ذلك عبرة وتعجباً مما كان، وليكون حجة على أهل الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يعلمه إلا من قرأ الكتب ودرسها، أو من يوحى إليه، فلما لم يكن محمد عليه السلام عندهم/ ممن

يقرأ [الكتاب فينقل منهان وجب أن يكون ذلك] بوحي، فيجب قبول قوله، والإيمان به ضرورة لمن وفق. قال مجاهد: " نمروذ، هو أحد الأربعة الذين ملكوا الأرض كلها: كافرَيْن ومؤمنَيْن، فالمؤمنان: سليمان بن داود A، وذو القرنين عليه السلام. والكافران: نمروذ، وبخت نصر البابلي ". قوله: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}. أي حين قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت: أي يملك ذلك ولا يملكه أحد غيره، قال نمروذ: " أنا أحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله وأقتل آخر ". قال له إبراهيم: " فإن الله يأت بالشمس من مشرقها، فأت بها/ إن كنت صادقاً من مغربها ".

قال الله: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ}. أي الكافر، أي انقطع وعجز عن الجواب. وقرىء: " فَبَهَتَ الَّذِي كَفَرَ " أي فبهتَ إبراهيمُ الكافرَ ف " الذي " في موضع نصب، على هذه القراءة. قال قتادة: " دعا نمروذ/ برجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر، وقال: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. / فبهت الذي كفر " فلم يجب لأنه لو ادعى أنه [هو الذي يأتي] بالشمس من المشرق لكذبه جميع أهل مملكته، لأنهم يعرفون أنه محدث، والشمس كانت على حالها قبل حدوثه، فليس يقدر أن يقول: " أنا أتيت بها من المشرق قبل حدوثي، ولو ق ل: أنا آتي بها من المغرب لعجز عن ذلك. فلما رآى أنه لا مخرج له سكت وانقطع فبهت.

قال زيد بن أسلم: " كان الناس يمتارون من عند نمروذ طعاماً، وكان أول جبار في الأرض، فخرج إبراهيم يمتار مع الناس فكلما مر بنمروذ ناس قال لهم: من ربكم؟ قالوا: أنت. حتى مر به إبراهيم عليه السلام، فقال له نمروذ: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت. قال: أنا أحيي وأميت. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر، ورد إبراهيم بغير طعام. فرجع إبراهيم عليه السلام إلى أهله، فمر على كثيب أعفر - يعني من رمل - فقال: ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم. فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام. فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رأى أحد، فصنعت له منه، فقربته إليه. وكان قد عهد أهله ليس عندهم طعام، فقال من أين هذا؟ قالوا: من الطعام الذي/ جئت به. فعلم أن الله D قد رزقه [فحمد الله

تعالى]، ثم بعث الله جل وعز ذكره إلى نمروذ ملكاً يقول له: أن آمن بي [وأتركك] على ملكك، قال: وهل رب غيري؟، فجاء الثانية فقال له فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه. فقال له الملك: أجمع جموعك إلى ثلاثة أيام. فجمع الجبار جمعه، وأمر الله D الملك ففتح عليهم باباً من البعوض، فطلعت الشمس ولم يروها من كثرتها، فبعثها الله سبحانه عليهم، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ولم يبقى إلا [العظام، والملك كما هو لم يصبه] من ذلك شيء، فبعث الله D عيه بعوضة فدخلت في منخره، فمكمث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، فأرحم الناس به من جمع يديه ثم يضرب بهما رأسه، وكان قد تجبر أربعمائة سنة فعذبه الله بها أربعمائة سنة وأماته. وقال السدي: " لما أخرج إبراهيم A من النار، أدخل على الملك، ولم يره

259

قبل ذلك، فقال له: من ربك؟ قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. فلما قال له إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب فبهت وقال: إن هذا إنسان مجنون، فأخرجوه، ألا ترون أنه اجترأ على ألهتكم، وأن النار لا تأكله. وخشي الملعون الفضيحة من قومه فأخرجوه، وهو قوله {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتيناهآ إبراهيم على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]. قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. أي لا يهديهم للحجة عند الخصومة لما هم/ عليه من الضلالة قاله ابن اسحاق. وليس (الظالمين) بوقف، لأن (أو كالذي) معطوف عليه. / قال الفراء والكسائي: " معنى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ}: هل رأيت كالذي حاج، أي كالذي مر على قرية، فهو معطوف عليه ". وقيل: الكاف زائدة، والمعنى: " الم تر إلى الذي حاج أو الذي مر على قرية. قوله: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}.

قال ابن عباس وقتادة وعكرمة والربيع والسدي: " وهو عزير ". وقيل: هو أرميا. وروي أن اسمه أرميا، وهو الخضر. وقال مجاهد: " هو رجل من بني إسرائيل ". وقال وهب بن منبه: " القرية بيت المقدس. لما خربت وحرقت، وقف أروميا على ناحية الجبل، فقال: أَنَّى يحُيْى/ هذه الله بعد موتها ". على معنى: التطلع على مشاهدة قدرة الله، لا على الإنكار لإحياء الله إياها فأراه الله ذلك. والذي خربها بخت نصر البابلي. وكذلك قال قتادة/ وعكرمة والضحاك غير أنهم قالوا: " وقف عليها عزير ". وقال ابن زيد: " هي القرية التي خرج منها ألوف حذر الموت، فقال [لهم]

الله: موتوا. قال: فمر بها رجل وهي عظام تلوح، فنظر وقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها ". {وَهِيَ خَاوِيَةٌ}. أي خالية من أهلها. {على عُرُوشِهَا}. [أي على أبنيتها]، سقوفها وبيوتها. وسميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها من قولهم: " قَرَبْتُ الماءَ " إذا جمعته. وقال السدي: معنى {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}: ساقطة على سقفها. وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها. قال وهب بن منبه: " أوحى الله إلى أرميا، وهو بأرض مصر بعد أن خرب بخت نصر بيت المقدس: أن الحق بأرض الشام، فركب حماره حتى كان ببعض الطريق ومعه سلة من تين وعنب، وكان معه سقاء جديد فَمَلأَهُ ماء، فلما بدا شخصُ

بيت المقدس وما حوله نظر إلى خراب لا يوصف، قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم سار حتى تبوأ منزلاً، فربط حماره بحبل جديد، وعلق سقاءه، وألقى الله عليه السبات، فلما نام نزع الله روحه مائة عام. فلما مرت من المائة سبعون عاماً أرسل الله ملَكاً إلى ملِك من ملوك فارس عظيم، فقال: إن الله يأمرك أن تسير بقومك فتعمر بيت المقدس إيليا وأرضها، حتى تعود أَعْمَرَ ما كانت. فقال له الملِك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب/ لهذا العمل. فأنظره، فانتدب ثلاثة آلاف قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل وما يصلحه من أداة العمل، فسار إليها قهارمته، فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عين أرميا خاصة، وأخر جسده ميتاً، فنظر إلى إيليا وما حوليها تعمل وتعمر وتجدد حتى صارت كما كانت بعد ثلاثين سنة تمام المائة، فرد الله إليه روحه، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنه؛ أي لم يتغير. ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، أحياه الله له وهو يرى. ونظر إلى الحبل لم يتغير، وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها، فعندها قال له: كم

لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة/ عام ". وإنما قال: يوماً أو بعض يوم، لأنه فيما ذكر قتادة وغيره: أميت ضحى، وبعث آخر النهار، فظن أنه يومه الذي كان فيه ". قوله: {فانظر إلى/ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا}. من قرأ " نُنْشِرُهَا " بالراء، فمعناه كيف نحييها، من: " أَنْشَرَ اللهُ المَيِّتَ: أَحْيَاهُ ". ومن قرأ بالزاي، فمعناه: كيف نرفع بعضها إلى بعض من النَّشْزِ، وهو المرتفع، ومنه نشوز المرأة وهو ارتفاعها عن موافقة زوجها. ومنه قوله:

{وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11]، أي ارتِفعوا وانْضَموا. قال وهب بن منبه وغيره: " معناه: وانظر إلى إحياء حمارك وإلى عظامه كيف أنشرها ثم أكسوها لحماً. قال وهب: " كان ينظر إلى حماره يتصل بعضه ببعض، ثم كسي لحماً ثم جرى فيه الروح فقام [ينهق. ونظر إلى عنبه] وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه. فلما عاين ما عاين، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير ". قال السدي: " كانت الطير قد ذهبت بعظام الحمار إلى كل سهل وجبل فبعث الله ريحاً، فجاءت بها واجتمعت/ وهو ينظر. فركب بعضها في بعض فصار حماراً من عظام لا لحم فيه ولا دم، ثم كسى اللحم والدم، ثم أقبل ملك يمشي فأخذ بمنخر

الحمار فنفخ فيه فنهق. فقال عندما عاين: أعلم أن الله على كل شيء قدير ". ومن قرأ [بوصل ألف " أعلم " جعل الفعل] لله والقول لله، والله هو القائل له بعدما أراه من البراهين: " اعْلَمْ يا أرميا أن الله على كل شيء قدير ". قال الضحاك: / " أول ما نفخ الله الروح، ففي رأسه وبصره، وبقي جسده ميتاً، فرأى حماره قائماً كهيئته يوم تركه وطعامه وشرابه كهئته، فقال له الله جل ذكره: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا} أي عظامك، فأراه التئام عظامه، وكون اللحم عليها، ونفخ الروح في باقي جسده. [والعبرة] في نفسه أعظم. فلما رأى ذلك وحيي كله قال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ". وكذلك قال قتادة.

وقال: ابن زيد: " أراه إحياء جسده، والتئام عظامه وهو ينظر، والحياة في عينيه ورأسه فقط ". قال ابن زيد: " جعل الله الروح في بصره ولسانه، فنظر إلى خلقه والتئام عظامه، وأمره أن يدعو بلسانه إلى عظامه وأعضائه أن تلتئم فنادى بلسانه ليلحق كل عضو بآلِفِه فجاء كل عظم إلى صاحبه حتى اتصلت وهو يراها، / حتى إن الكسرة من العظم لتأتي إلى الكسرة الأخرى فتتصل بها، ثم شدت بالعروق والأعصاب وهو يرى. ثم التحمت وهو يرى، ثم كسيت بالجلد وهو يرى، ثم جرى [فيها الروح، فقال عند ذلك]: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ". وقال الله له ذلك يأمره به. ويجوز أن يكون الأمر منه لنفسه فتستوي القراءتان. وقد قاله الطبري.

فالعطف في قوله: {أَوْ كالذي} مردود على معنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ} لأن معناه: هل رأتي مثل الذي حاج إبراهيم. فعطف على المعنى فقال: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ}، تقديره: " أو رأيت مثل الذي مر ". [و] العطف على المعنى كثير كما قال: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ} [آل عمران: 86]، ف " شهدوا " معطوف على معنى إيمانهم لا على كفرهم، تقديره: " بعد أن/ آمنوا وشهدوا ". وقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ}. قال الأعمش: " جاء شاباً وولده شيوخ ". وقال السدي: " جاء فوجد داره قد بيعت وبَلِيت، وهلك من كان يعرفه. فقال: اخرجوا من داري، قالوا: من أنت؟ قال: أنا عزير. قالوا: هلك عزير منذ كذا وكذا سنة. فأخبرهم بما جرى عليه، فخرجوا له من الدار ".

وروي أن عزيراً كان ممن سباه بخت تنصر ومضى به إلى إرض بابل فرأى عزير دير هرقل قد خرب، ومضى عليه حين من الدهر، فقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وقد عمر الدير وذلك كله بأرض بابل. وعلى [أن] القرية بيت المقدس أكثر أهل التفسير. وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} من أثبت الهاء في الوصل، فهو من سانَهْتُ فسكون الهاء عَلَم الجزم، والهاء أصلية، وهو أحسن. ومعناه: أنه مأخوذ من " السَّنَةَ "، أي لم تأخذه السِّنُونَ وتحله. ومن قرأ " يتَسَنَّه " فأصله يتسنن، من " سَنَّ المَاءَ " إذا تغير. فمعناه لم يتغير

فأبدلوا من النون/ الآخيرة ياء، فقالوا: يتسنى كما قالوا: " تَقَضَّيْتُ " في " تَقَضَّضْتُ "، ثم حذفت الألف للجزم [و] زيدت الهاء في الوقف لبيان الحركة. وقرأ طلحة من مصرف: " لَمْ يَسَّنَّ " أدغم التاء في السين. وقد قال بعض أهل اللغة: " لَمْ يَتَسَنَّ " من أَسِنَ الماء إذا أنتن. ويلزمهم من هذا " يَتَأَسَّنْ ". وقال الشيباني: " هو من قولهم: " حَمَأٌ مَسْنُونٌ ". ومعنى " يَتَسَنَّ ": يتغير. ولا يجوز عند أأبي إسحاق أن يكون من " مَسْنُونٍ " لأن معنى " مَسْنُونٍ "، مصبوب. والصحيح أنه من السَّنَةِ، فتكون الهاء أصلية/ تقول في تصغيرها: " سُنَيْهَةٌ " على قول من قال: " يَتَسَنَّه ". و " سُيينةٌ " على قول من

260

قال: " يتسن ". قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}. " إذا " في موضع نصب بمعنى: " واذكر ". وقيل: هو معطوف على ما قبله لأن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ}: " ألم تر بقلبك يا محمد، فتذكر الذي حاج، وتذكر إذ قال إبراهيم ". قال قتادة: " مر إبراهيم عليه السلام على دابة قد تقسمتها السباع والدواب والطير والرياح، فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ ". وكذلك قال الضحاك. وقال ابن زيد: " مر إبراهيم بحوت نصفه في [البر، ونصفه في البحر]، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان في البر فدواب البر تأكله. فقال له الخبيث الشيطان/ يا إبراهيم: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}؟، ليرى ذلك/ عياناً ". ومعنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: أي ليطمئن إلى ما تَاقَ إليه من العيان لا أنه شك

دخل عليه. وقال السدي: " لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه D أن يأذن له فيبشر إبراهيم عليه السلام بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس هو في البيت فدخل داره. وكان إبراهيم A أغير الناس يغلق بابه إذا خرج، فلما جاء وجد في داره رجلاً ثانياً، فبادر إليه ليأخذه، / وقال له: من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال له ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار فقال إبراهيم: صدقت، وعرف أنه ملك، قال له: من أنت؟ ق ل: ملك الموت، جئت أبشرك أن الله قد اتخذك خليلاً، فحمد الله تعالى، وقال: يا ملك الموت. أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار، فقال: [يا إبراهيم، لا تطيق] ذلك، قال: بلى. فعرض عليه فإذا هو برجل [أسود ينال] رأسه السماء، يخرج من فيه لهب النار، وليس من شعرة في جسده إلا صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار. فغشي على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق، وقد تحول ملك الموت في الصورة

الأولى فقال: يا ملك الموت، لو لم يلق الكافر من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ذلك، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين، قال: فَأَعْرِضْ. فَأَعْرَض إبراهيم عليه السلام ثم التفتَ فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً في ثياب بيض. قال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمني عند ربه D من قرة العين والكرامة إلا صورتك/ هذه لكان يكفيه. فانطلق ملك الموت وقام إبراهيم صلى الله " عكلى محمد " وعليه وسلم يدعو ربه، يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حين أعلم أني خليلك. قال: أو لم تؤمن بأني خليلك؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي بذلك ". وقال ابن عباس: " ما في القرآن آية أرجى عندي منها "، يريد أن إبراهيم دخل قلبه الشك، فنحن آكد أن يعترضنا ذلك. وقال عطاء بن أبي رباح: " دخل قلب إبراهيم A بعضُ ما يدخل

قلوب الناس ". وروى مالك عن الزهري أن ابن المسيب وأبا عبيدة أخبراه عن أبي هريرة أن النبي A قال: " رَحِمَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ، نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْهُ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهيِمُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}، وَقالَ: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ". واختار الطبري هذا القول لرواية أبي هريرة لهذا الخبر عن النبي [عليه السلام] لأن الشيطان يعرض لجميع الخلق. وقد قال النبي [عليه السلام]: " ذَلِكَ مِنْ مَحْضِ الإِيمَانِ ". وهذا القول من نبي الله A إنما هو على التواضع والتذل لله، ونفى التكبر كما قال: " لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ " ويعيذه الله من الشك الذي يدخل في قلوب المذنبين المؤمنين. ويجوز أن يكون قوله: " نَحْنُ أَحَقُّ بَالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيم "، يعني به أمته، كأنه

A يعذرهم فيما يوسوس [به إليهم الشيطان]. وقد عفا الله عما يوسوس به الشيطان في قلوب المؤمنين إذا لم يبدوه ولم يعتقدوه. وقال قال سعيد بن جبير: " معنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}: ليزداد يقيناً ". وعن ابن عباس: " ليطمئن قلبي " في إجابتك إياي إذا دعوتك بأمرٍ وسألتك فيه ". ولم يرد أن إحياء المتى يطمئن به. قال أبو إسحاق: " ولم يكن شاكاً، ولكن أراد مشاهدة ذلك عياناً ليزداد يقيناً، فليس الخبر كالمعاينة ". قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير}. قال مجاهد/ وابن جريج وابن زيد: " أخذ طاووساً وديكاً وغراباً وحمامة ".

وجعل ابن عباس الكُرْكِيَّ في موضع الغراب. قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}. من ضم فمعناه: أضممهن إليك ووجههن إليك، يقال: / " صُرْ وَجُهَكَ إِلَيَّ " أي أقبل به إلي، ووجهه إلي. قال ذلك الكسائي. وفي الكلام حذف: " وقطعهن بعد الضم ". وقال مجاهد: " {فَصُرْهُنَّ}: انتفهن بريشهن ولُحُومِهِنَّ ". وقال أبو عبيدة: " صِرت [بالكسر: قطعت، وصُرْت] بالضم: جمعت ". وقيل: الكسر والضم بمعنى واحد، وهو ما ذكرنا. وقيل: معنى الكسر: قطعهن.

/ قال أبو حاتم: يقال: صار، إذا قطع. ويكون في الكلام تقديم/ وتأخير على هذا التفسير. ومعناه: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، أي فقطعهن. وقد قال عطاء: " {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}: / أضممهنَّ إليك ". وقال ابن زيد: " أجمعهن ". وقال قتادة: " أمر أن يذبحن ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ثم يجزئهن على أربعة أجبل ". قال ابن جريج: " جعل لُحُومَهُنَّ وريشهن على سبعة أجبل وهي الأجبال التي رأى الطير والسباع [ذهبت فيها، وهن] اللواتي أكلن من لحم الجيفة التي كانت سبب سؤاله، وأمسك إبراهيم [ A] عند نفسه رؤوسهن ثم دعاهن بإذن الله D، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الآخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة

261

الأخرى، وكل بضعة وكل عظم بعضها إلى بعض. فلما تتامت عليه في الهواء انقضت عليه فوصلت كل جثة إ لى الرأس الذي [في يده] ". قوله: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. أي لا يمتنع [عليه ما أراد، حكيم في تدبيره. قوله: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله}. قال الطبري: " هذه الآية مردودة إلى قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وإلى الآيات التي بعدها ". قال السدي: " نزلت في الذي ينفق على نفسه في سبيل الله D ويخرج ". والمثل في هذه الآية إنما هو للنفقة لا للمنفق، وفي الكلام حذف، والتقدير: " مثل نفقة الذين ينفقون "، ودل " ينفقون " على النفقة فحسن حذفها. وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: " لما نزلت: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله

كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية، قال النبي عليه السلام: " اللَّهُمَّ زِدْ أُمَّتِي "، فنزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}. فقال رسول الله A: " رَبِّ زِدْ أُمَّتِي " فنزلت: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ". قال مالك في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] " هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها ". قال مالك: " وبلغني أن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ". قلت: والصبر على طاعة الله D وعن محارم الله تعالى أفضل من الصبر على المصائب والفجائع. كذا، قال عمر وغيره. ثم قال: {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ}. أي ممن أنفق في غير سبيل الله، يضاعف أيضاً إن شاء. وقيل: {لِمَن يَشَآءُ} هو المنفق في سبيل الله D، يزيد على سبعمائة ضعف إلى ألفي ألف ضعف إن شاء. روي ذلك/ عن ابن عباس. قوله: {والله وَاسِعٌ}.

262

أي يزيد من يشاء من خلقه على السبعمائة ما شاء. {عَلِيمٌ}. أي عليم بما ينفق المنفقون في سبيله. وقيل: عليم بمن يزيده على السبعمائة ضعف ومن لا يزيده. / قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ}. قال الكلبي وغيره: " أصل نزول هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن ابن عوف، أتى عبد الرحمن بن عوف إلى النبي صلى عليه السلام بأربعة آلاف دينار. وقال: يا رسول الله، اجتمع عندي ثمانية آلاف فعزلت لنفسي وعيالي نصفها،

263

وجعلت لله نصفها، فجزاه رسول الله A خيراً. وقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، عليّ تجهيز كل عاجز عن النهوض معك لفقره إلى تبوك، واشترى رومة يبرأ بوقفها للمسلمين ". ثم " الآيات لكل " من فعل مثل فعلهما. وهذه الآيات فيما قال ابن زيد:: هي لمن ينفق، وليس يجاهد، ولم يقل للمجاهدين شيئاً ". وقيل: هي عامة، علم الله D أقوماً يمنون بعطيتهم فقدم في ذلك. قال زيد بن أسلم: " إن ظننت أنه يثقل عليه سلامك، فكي سلامك عنه ". يعني الذي تصدق عليه. قوله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى}. " قول " مبتدأ، و " معروف " نعته، والخبر محذوف كأنه " أمثل " و " أولى ". و " مغفرة ": مبتدأ و " خير من صدقة " الخبر.

264

قال الضحاك: " إن تمسك مَالَكَ خير من أن تنفقه، ثم تتبعه المن والأذى ". قوله: {والله غَنِيٌّ}. أي عنى عن ما يتصدق به بالمن والأذى. {حَلِيمٌ}. لا يعجل بالعقوبة على من يتبع صدقته المن والأذة، وقيل: المعنى: قول جميل، ودعاء للسائل خير من أن تعطي صدقة [يتبعها أى ومَنٌّ ". قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم} الآية/. أمروا أن يكفوا عن المن والأذى اللذين يبطلان ثواب الصدقة، كما يبطل الرياء صدقة المتصدق المافق/ الذي يوهم بصدقته أنه مؤمن فيرائي. والمراد في قوله: {وَلاَ يُؤْمِنُ بالله}.

هو المنافق، وإنما ذلك لأنه أضاف إليه الرياء. وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره. فأما الكافر فليس عنده رياء، لأنه مناصب للدين مجاهر بذلك. وقيل: المراد به الكافر المجاهر. وذلك أن الكافر قد ينفق ماله، ليقول الناس: " ما أكرمه! ما أفضله "، ولا يريد بإنفاقه إلا الثناء، لا غير. فنهاهم الله أن يكونوا مثله إذا منوا أو آذوا. وقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ}. الصفوان: الحجر الأملس. وقرأ ابن المسيب والزهري: " صَفَوَانٍ " بفتح الفاء. وحكى قطرب " صِفْوَانٍ " بكسر الصاد. قال الأخفش: " صَفْوَانٌ، جماعة صَفْوَانَةٍ ". وقال غيره: " هو واحد والصلد هو الذي لا شيء عليه من نباته

265

ولا غيره ". مَثَّلَ الله المنافقين وأعمالهم بالحجر الأملس عليه تراب، وأصابه مطر وابل؛ وهو العظيم القطر، فتركه لا شيء عليه. فكذلك صدقات المنافقين للرياء. ومعنى: {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ}. أي لا يقدرون يوم القيامة على وجود شيء مما كسبوا، أي من ثواب ما كسبوا في الدنيا لأنه كان لغير الله. {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}. أي لا يسددهم لإصابة الهدى في فعلهم وقولهم. وهذا يقوي قول من ق ل: أراد بما تقدم الكافر لا المنافق. قال معنى ما ذكرنا: قتادة والربيع/ وغيرهما. قوله: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ [أَمْوَالَهُمُ] ابتغآء مَرْضَاتِ الله}. ضرب الله الآية الأولى مثلاً لأعمال الكافرين يوم القيامة، وشبه صدقة أهل الرياء والكفر بالصفوان الذي عليه تراب فأصابه مطر شديد، ثم ضرب هذه الآية

مثلاً لأعمال المؤمنين وصدقاتهم. فمعنى قوله: {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ}، أي يقيناً وثقة. قاله السدي وقتادة وأبو صالح. وقال مجاهد: " يثبتون: أين يضعون أموالهم ". قال الحسن: " يعني زكاتهم ". وروي عن قتادة: " {وَتَثْبِيتاً}: احتساباً من أنفسهم ". وعن الحسن أنه قال: " يثبت إذا أراد أن ينفق، فإن كان لله أنفق وإلا أمسك ". قوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ}. شبه فعل هؤلاء في صدقاتهم بجنة بربوة، وهي الترعة أصابها وابل وهو المطر الشديد العظيم القطر، فإن أخطأها الوابل أصابها الطل وهو الندى.

وقال الضحاك: " هو الرذاذ من المطر، يعني اللين منه ". والهاء في {أَصَابَهَا} تعود على الجنة أو على الربوة، وكذلك الهاء في " يصبها ". قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}. أي فهي لا تخلف؛ لابد من إتيان الأكل. فكذلك عمل المؤمن لا خلف لخيره. وسميت الربوة ربوة لأنها ربت على وجه الأرض. / أي ارتفعت من: " ربا " إذا زاد. قال مجاهد: " الربوة المكان الظاهر المستوي ". وكذلك قال الحسن. وقال الضحاك: " الربوة المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار ". وقال السدي: " {بِرَبْوَةٍ}: برابية من الأرض " يريد المنخفض. وقال ابن عباس: " الربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه

266

الأنهار " / وتقدير الكلام عند المبرد: " فطل يكفيها ". وعلى ذلك يستحسن الوقف على {فَطَلٌّ}. وقدَّره غيره. " فهو طل " أو " أصابها طل ". قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} الآية. قوله: {وَأَصَابَهُ الكبر}. على تقدير: " وقد أصابه الكبر "، ولذلك عطفه على " أَيَوَدُّ " وهو مخالف له. وقيل: هو محمول على المعنى، تقديره: " أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر ". وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي. ينفقانهما رياء الناس، فهو يحمد على ما ظهر منه في الدنيا ولا حاجة به إلى ذلك في الآخرة كالرجل الذي له جنة من نخيل وأعناب ولا كبر معه ولا ذرية. فلما كبر، وصارت له ذرية ضعفاء. وضعف عن الكسب والتصرف، ولا طاقة لذريته على التكسب لضعفهم وصغرهم، فعند ذلك

احترقت جنته، فانطقع في أحوج ما كان إليها، ولم ينتفع بها في شيببته وقلة عياله إذ كانت سالمة. كذلك المنافق أو المرائي، إذا أتى في الآخرة لم يجد شيئاً من عمله، وهو أحوج ما يكون إليه، ولم ينفعه حمد الناس على ما ظهر لهم من عمله. فحاجته إلى العمل الصالح، كحاجة هذا الكبير الذي له ذرية ضعفاء إلى جنته. قوله {إِعْصَارٌ}. أي ريح فيها سموم فاحترقت، وهي ريح عاصفة تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود/ والجمع أعاصير، وهي التي تسميها الناس: الزوابعة. وقال الحسن: " {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ}: ريح فيها برد شديد ". {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ}. أي هكذا البيان المُتَقَدم في الصدقة، والجهاد، وقصة إبراهيم، وجميع ما سلف.

267

{يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي العلامات. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. قال/ ابن عباس: " تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها ". وقال مجاهد: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: أي تطعون ". قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}. قال علي Bهـ: " من الذهب والفضة، الجياد منها ". أي زكوا من ذلك. وقيل: من الحلال. وقال مجاهد: " ما كسبتم من التجارة، {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض}: يعني ما فيه زكاة مما بينته السنة ". {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث}: أي الرديء، اي لا تعمدوا إلى الرديء تتصدقون به فتجعلوه

زكاتكم. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، علق قِنوا من حشف للصدقة وكانوا يعلقون في أيام الجداد في مسجد النبي [عليه السلام] / بين كل أسطوانتين أقناء يأكل منها المهاجرون والأنصار، فعلق هذا الرجل قنوا من حشف فنهوا عن ذلك، وهو الخبيث يراد به الرديء. وقال علي: " كان الرجل يعزل الرديء من التمر للصدقة، فنزلت الآية ". وهو قول الحسن ومجاهد وعطاء. وقال ابن زيد: " الخبيث: / الحرام ". أي لاتتدصقوا من الحرام. وتصدقوا من الحلال.

قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ}. أي لستم بآخذين الرديء من المال من غرمائكم إلا عن إغماض منكم؛ أي كراهية، فتأخذونه كأنكم قد أغمضتم أعينكم، فلا ترونه كراهة فيما أعطيتم. وقرأ الحسن " أن تُغْمَضُوا " بفتح الميم وضم التاء. أي لستم تأخذونه حتى تنقصوا من سعر غيره. وكذلك قرأ قتادة. قيل: معناه: لستم تأخذونه إلا أن يهضم لكم من ثمنه أي ينقص. وقرأ الزهري: " تَغْمِضُوا " بفتح التاء، وكسر الميم. وعنه أيضاً بضم التاء، وتشديد الميم.

268

وقال علي: " لستم ممن يأخذ الرديء حتى يهضم لكم "، أي يرخص عليكم من ثمنه، فيقول تعالى: " ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم إلا عن تغمض وترخص في أخذه وكراهة ". وقال ابن زيد: " لستم ممن يأخذ الحرام حتى يغمض لكم في من الإ ثم ". قوله: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ}. أي غني عن أن تتصدقوا بالرديء والدنيء، وتأخذوا لأنفسكم الجيد. / {حَمِيدٌ} لمن تصدق بطيب ماله. قوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر}. أي يخوفكم به ويوسوس إليكم، فلا تخرجون الزكاة. {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} أي [بترك الصدقة فتكونون عاصين]. {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً} أي يجازيكم على صدقاتكم بالمغفرة. وقال ابن عباس: " الشيطان يقول: " لا تنفق مالك، أمسكه

269

عليك "، والله يعدل مغفرة على تركك هذه المعاصي، وفضلاً في الرزق ". وقال قتادة: " والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً لفقركم ". {والله وَاسِعٌ} يعطيكم من سعته، ما شاء لمن شاء. {عَلِيمٌ} بمن [يطيعه فيتفضل] عليه، ومن يعصيه فيغفر له أو يعاقبه. وروي أن في التوراة مكتوباً: " عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك من فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة ". وفي القرآن نظير/ هذا، {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [سبأ: 39]. قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ}. قال ابن عباس: " الحكمة علوم القرآن/ مقدمة ومؤخرة وناسخة ومنسوخة،

ومحكمة ومتشابهة ". وقال قتادة: " الحكمة: الفقه في القرآن ". وقال مجاهد: " الحكمة: الإصابة في القول ". وقال ابن زيد: " الحكمة: العلم بالدين ". قال مالك: " الحكمة: المعرفة بدين الله، والفقة فيه، والاتباع له ". وروى عنه ابن القاسم أنه قال في الآية: " الحكمة: التفكر في أمر الله والاتباع له ". وعنه أيضاً أنه قال: " الحكمة: طاعة الله والاتباع له، والفقه في الدين والعمل به ". وقال مالك: " إنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه في الدين يدخل الله في القلوب من رحمته وفضله ".

270

وقال الربيع بن أنس: " الحكمة: الخشية ". وقال السدي: " الحكمة: النبوءة ". وقال زيد بن أسلم: " الحكمة: الفهم عن الله في أمره ونهيه ". وقال ابن زيد بن أسلم: " الحكمة: العقل في الدين ". وقال مجاهد أيضاً: الحكمة: القرآن ". وقاله الضحاك. قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}. أي لا يتذكر ولا يتعظ بهذه الآيات إلا أولوا العقول وهم المؤمنون. قاله ابن سلام. قوله: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ}.

الهاء " في {يَعْلَمُهُ} تعود على الإنفاق أو على النذر. أي ما تصدقتم من صدقة لم تعقدوها على أنفسكم أو نذرتم من نذر، فعقدتموه على أنفسكم، فإن الله يعلم ذلك، أي يعلم من تصدق ونذر لوجه الله، ومن فعل ذلك للرياء. و" ما " لمن ظلم نفسه فتصدق لغير الله، ونذر لغير الله. قال الحسن: " قال رسول الله A: " مَا أَنْفَقَ النَّاسُ/ مِنْ نَفَقَةٍ أَعْظَمُ إِلَى اللهِ مِنْ قَوْلٍ ". وقال الحسن أيضاً عن النبي عليه السلام أنه قال: " مَا أَنْفَقَ النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلاَ إِلَهَ إِلاَ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، وَقِرَاءَةُ القُرْآن ". وقَال: " أَفْضَلُ النَّفَقَةِ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَالِدَيْكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى وَلَدِكَ وَزَوْجَتِكَ وَعِيَالَكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى قَرَابَتِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ الله " هذا معنى الحديث.

271

قوله: {مِنْ أَنْصَارٍ}. أي ما للظالم من نصير ينصره يوم القيامة. قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ} الآية. قال الربيع: " كل مقبول، إذا كانت النبية خالصة، والسر أفضل ". وكذلك قال ابن جبير وغيره. وهذا في التطوع. قال [ابن عباس: " صدقة التطوع في السر أفضل من العلانية، يقال: بسبعين ضعفاً. وصدقة الفريضة في العلانية/ أفضل من السر بخمسة وعشرين ضعفاً ". وكذلك جميع الفرائض والنوافل على هذا القياس. ومن قرأ: " يُكَفِّرْ " بالياء، فمعناه: ويكفر الإعطاء. وقيل: معناه: ويكفر الله، و " مِنْ " للتعبيض. ومعنى {سَيِّئَاتِكُمْ} أي يكفر منها ما شاء لمن يشاء، ليكون العباد على وَجَلٍ

272

من الله، لئلا يتكلوا على الصدقات أنها تكفر الذنوب كلها. وقيل: " من " زائدة، فتكون الكفارات للسيئات كلها. قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. أي خبير بما تصنعون في صدقاتكم من أخفائها وإعلانها. ومعنى {خَبِيرٌ} / ذو خبر. قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ}. هذا مثل/ {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119]، على قراءة من رفع، أي ليس عليك سوى البلاغ المبين، ولست عليهم بمسيطر. {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ}، أي يوفقه للهداية. وهذا الآية نزلت في المشركين لأن المؤمنين كانوا لا يتصدقون عليهم ليدخلوا في الإسلام، فنزلت: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله}.

وقيل: " نزلت في أسماء بنت أبي بكر امتنعت مِن بِر جدها [أبي قحافة] إذ لم يسلم/ وغيره، فتصدق عليهم ". قال ذلك ابن عباس وابن جبير، قالا: " كان ناس من الأنصار لهم قرابة ضعفاء مشركون فلا يتصدقون عليهم، فنزلت الآية، فتصدقوا عليهم ". وروى ابن جبير أن النبي A " كان لا يتصدق على المشركين حتى نزلت هذه الآية فتصدق عليهم. وقال ابن زيد: " لك ثواب نفقتك، وليس علكيم من عمله شيء ". وهذا إنما هو في التطوع، فأما في الواجب فلا يعطى منه إلا المسلمون. قال مالك: " يتصدق على اليهود والنصارى من التطوع، ولا يعطون من الواجبات لا من الزكاة ولا من صدقة الفطر، ولا مما أشبههما ". قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ}.

273

أي ما تتصدقوا من مال - والخير المال - فإنه لأنفسكم تجزون به. [روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إِذَا تَصَدَّقَ الْعَبْدُ بِالْصَدَّقَةِ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْسَّائِلِ فَيُرْبِيهَا لأَحَدِكُمْ كَمَا يُرْبِي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مَثْلَ أُحُدٍ ". وتصديق ذلك في كتاب الله: {َيَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276]، وقال: {وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104]. قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله}. اللام متعلقة بقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} للفقراء الذين من حالهم وقصتهم - {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}. وعني به فقراء المهاجرين بالمدينة. ومعنى {أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله}: منعوا أنفسهم من التصرف وحبسوها على جهاد عدوهم. قاله قتادة وغيره. وقال ابن زيد: " كانت الأرض للعدو، فلا يستطيعون تصرفاً فهم محصرون ".

وقال السدي: " معناه: حصرهم المشركون بالمدينة ". {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض}. أي تقلباً ولا تصرفاً في المعاش والتجارات. وقال ابن جبير: " نزلت في قوم أصابتهم جراحات في سبيل الله، فصاروا زمنى من أجل عدوهم، أو من أجل حرصهم على الجهاد والغزو. قوله: {يَحْسَبُهُمُ}. بكسر السين وفتحها لغتان، ونظيره " نَعِمَ " و " يَئِسَ "، يأتي المستقبل بالفتح والكسر. وحكى أبو إسحاق أن مثله عهد، يقال: " يَعْهِدُ وَيَعْهَدُ. ومعنى: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل}. أي الجاهل بأمرهم وحالهم، أغنياء من تعففهم عن المسألة والتعرض لها. تعرفهم يا محمد بعلاماتهم وهي السيماء وهي أثر السجود.

وقيل: هي الخشوع والتواضع. قاله مجاهد. وقيل: هي أثر الفاقة والحاجة. قال السدي. وقال ابن زيد: " هي رثاثة ثيابهم، / لأن الجوع خفي ". ومن العرب من يمد السيماء، ومنهم من يقول سيماء بالمد وزيادة ياء بعد الميم. قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً/}. أي إلحاحاً، أي لا يشملون الناس بالسوال، ومنه اللحاف. والمعنى: لا يكون منهم سؤال فيكون إلحافاً. وهو كقول امرئ القيس:

274

" عَلَى لاَ حِبٍ لاَ يَهْتَدِي لِمَنَارِهِ ". أي ليس فيه منار فيهتدي به. ويقال: قد ألحف السائل إذا ألح. ويقال: " أَلْحَفَ الرجل " و " أَلَحَّ " و " أَخْفَى "، بمعنى واحد. قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً}. قال ابن عباس: " نزلت في علي بن أبي طالب Bهـ؛ كانت معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً. وبالنهار درهماً، وسراص درهماً، وعلانية درهماً ". وقيل: " إنها نزلت في علف الخيل في سبيل الله ". ذكر ذلك أيضاً عن ابن عباس، وعن أبي ذر الغفاري.

275

/ وقال أبو أمامة: " نزلت في أصحاب الخيل ". وكذلك قال الأوزاعي: " هي في الذين يربطون الخيل في سبيل الله ينفقون عليها بالليل والنهار " وروي ذلك عن أبي الدرداء. وعلى أنها في الخيل أكثر أهل التفسير. قوله: {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا لاَ يَقُومُونَ}. معناها: الذين يأكلون الربا في الدنيا لا يقومون في الآخرة إذا بعثوا من قبورهم إلا مثل قيام المجنون. والمس: الجنون. قاله مجاهد وقتادة وابن جبير وغيرهم؛ قاوا: " يقوم الخلق من قبورهم مسرعين كما قال تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} [المعارج: 43] إلا أكله الربا، فإن الربا يربو في بطونهم فيقومون ويقسطون، يريدون الإسراع فلا يقدرون، فهم بمنزلة المتخبط من الجنون ". قال ابن جبير: / " يبعث أحدهم حين يبعث، وشيطان يخنقه ".

والقصد بالنهي في هذه الآية: كل من أخذ الربا أكله أو لم يأكله. وكان أهل الجاهلية إذا حل أحدهم الأجل في دين/ عليه، يقول الذي عليه الدين: " زِدْنِي في الأَجَل وَأَزيدُكَ فِي دَيْنِكَ "، فنهى الله عن ذلك، وقال: {اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279]. وأصل الربا الزيادة، وهو في التجارة والبيع والشراء جائز إذا كان على وجهه الذي قد بينته السنة والكتاب. فأصل الربا المحرم أن يقول الذي عليه الدين: " أَخِّرْنِي وَأَزِيدَكَ فِي دَينك "، ثم جرى مجراه كل ما شابهه في البيوع والدين، وغير ذلك ما قد أحكمته السنة وفسره العلماء. وقد روى محمد بن كعب القرظي أن النبي A قال: " كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبَا ". قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}. أي ما أكل وأخذ قبل مجيء الموعظة فذلك مغفور له.

276

{وَأَمْرُهُ إِلَى الله}. أي في المستقبل، إن شاء ثبته وإن شاء رده إلى ما نهاه عنه. والموعظة: القرآن. ومن عاد فعمل بالربا حتى يموت فأولئك أصحاب النار. قال ذلك سفيان. وقال غيره: " من عاد فقال: إنما البيع مثل الربا، وتمادى عليه، فهو من أصحاب النار ". قوله: {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات}. معناه: ينقص الله الربا ويذهبه، ويضاعف الصدقات وينميها. قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. أي إن الذين تابوا من أكل الربا فآمنوا بما أنزل عليهم، وانتهوا عما/ نهو عنه وعملوا الصالحات، فهم أصحاب الجنة. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرباوا}. معناه: / يا أيها الذين صدقوا محمداً: ذروا ما بقي لكم من الربا زيادة على رؤوس أموالكم. ونزلت هذه الآية في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوا عليهم فقبضوا بعضاً، وبقي بعض، فعفا لهم عما كانوا قبضوا وحرم عليهم ما بقي

مما زاد على رأس المال. قال ابن المسيب: " لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما [يكال و] يوزن مما يؤكل ويشرب ". يعني في المبايعة. وفسره بعض العلماء فقال: " ما كان مما يكال أو يوزن من نوع من الطعام، فلا تأخذ إلا وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، يداً بيد، وكذلك الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، فإن اختلف النوعان فَزِدْ واستزد يداً بيد ". قال عبد الله بن سلام: " أكل الربا يعدل سبعين فجرة، أدنى فجرى منها مثل أن يضطجع الرجل مع أمه ". وروى الحكم بن عتيبة عن علي Bهـ أنه قال: " درهم ربا أشد من/ ست وثلاثين زنية ". وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " الرِبَا سَبْعُونَ حُوباً، أَيْسَرُهَا مِثْلَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ ".

279

قال ابن مسعود: " الربا بضع وسبعون بابا ". قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله}. أي فأيقنوا بحرب. وقال الأصمعي: " معناه: كونوا على علم ". ومن قرأ بالمد فمعناه: فأعلموا أصحابكم بالحرب. {وَإِنْ تُبْتُمْ}. أي تركتم الربا. {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أموالكم}. بلا زيادة. {لاَ تَظْلِمُونَ}. فتأخذون ما ليس لكم. {وَلاَ تُظْلَمُونَ}. فتنقصون من رؤوس أموالكم. وروى المفضل عن عاصم: " لا تُظْلَمُونَ وَلاَتَظْلِمُونَ "، المفعول قبل

280

الفاعل. قوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}. أي إن وقع ذلك. ولا خبر ل " كان "، هي " كان " التامة تستغني باسمها عن الخبر. فليست بالداخلة على الابتداء والخبر، تلك هي الناقصة التي تحتاج إلى خبر. وقد قيل: إن الخبر محذوف، والتقدير: " وإن كان ذو عسرة في الدين فظرة إ لى ميسرة ". وفي مصحف عبد الله: " وَإِنْ كَانَ ذَا " بالألف على تقدير: وإن كان الذي عليه الدين ذا عسرة، فهي " كان " الناقصة على هذا. وقرأ مجاهد: " فَنَاظِرْهُ إِلَى مَيْسُرِ هِي "، بضم السين، وصلت الهاء بياء. وهو لحن عتد أهل العربية: ليس في الكلام مفعل بتغيير هاء التأنيث.

قال الأخفش: / " ولو قرأوا بفتح السين لكان حسناً، لأن " مفعلاً " في الكلام كثير ". وقوله: {فَنَظِرَةٌ}. هو من التأخير. ورفعها على معنى: " فعليكم نظرة ". / وحكى أبو إسحاق: " فناظرة " من التأخير. وقيل: [هو من أسماء المصادر كقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]. ورد أو حاتم ذلك وقال: " إنما يجوز هذا في نظر العين، مثل الذي في النمل قوله: {بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35]. والمعنى: " إن كان الذين لكم أن ترجعوا عليهم برؤوس أموالكم ذوي عسرة، فعليكم أن تنظروهم إلى مسيرة ". وفتح السين وضمها لغتان. وأجاز النحاس النصب على

المصدر. وهذه الآية ناسخة لما كان في أول الإسلام. كان الرجل إذا اتبع في دين ولم يكن معه ما يقضيه بيع في الدين. روي عن النبي عليه السلام: " أنه أمر أعرابياً ببيع رجل له عليه دين، ولا مال معه ". وقال قوم: " إنما هذا الإنظار في الربا خاصة، وليس لمن عليه دين لا يؤديه إلا السجن حتى يؤديه كان معه أو لم يكن لقوله: {إِنَّ الله/ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. قال ابن عباس: " نزلت في الربا ". / وأكثر الفقهاء على أن الآية عامة في كل من عليه دين، ولا شيء معه، ينظر إلى يسره إذا صح فَقْرُهُ وثبت.

قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}. أي وصدقه رؤوس أموالكم على المعسر خير لكم إن كنتم تعلمون الفضل. وقال قتادة: " ندبوا أن يتصدَّقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير ". وقال غيره: " ذلك على المعسر خاصة ". قال عمر بن الخطاب رضي لله عنه: " آخر ما نزل من القرآن آية الربا، وإن نبي الله قبض من قبل أن يفسرها ". قال ابن عباس: " آخر آية نزلت: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله}. كذلك قال السدي وعطية وابن جريج. واليوم في هذا يوم القيامة.

282

وقيل: هو يوم موت الإنسان لأنه وقت قدومه على الله. ويروى أن النبي عليه السلام قال: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقَالَ: اجْعَلْهَا عَلَى رَأْسِ ثُمَانَينَ وَمَائَتَيْنِ مِنَ البَقَرَةِ ". ومعنى الآية: التحذير والتخويف في أخذ الربا وارتكاب ما نهي عنه. وروي أنها نزل على النبي عليه السلام قبل موته بثلاث ساعات فقال النبي عليه السلام: " اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الرِّبَا ". وقال مقاتل: " نزلت قبل/ وفاته بتسع ليال ". قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ}. قال ابن عباس: " نزلت في السلم خاصة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم ". يريد بثمن نقد معلوم من غير أن يكون طعام في طعام.

وروي عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري " أنه واجب أن يكتب إذا باع بدين ". وهو قول ابن سيرين وأبي قلابة والضحاك وجابر بن زيد ومجاهد. / وقال عطاء: " أشهد إذا بعت، وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو بثلث درهم أو أقل من ذلك، فإن الله يقول: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وهو مذهب الطبري. وقال أبو سعيد الخدري: " كان ذلك فرضاً ثم نسخه {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283]. وبه قال الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد والشعبي. وأكثر الفقهاء على أنه ندب وإرشاد لا على الحكم. وهو قول مالك والشافعي.

وقال الطبري: " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على أنها ندب وإرشاد ". وقال: " من جعل الإشهاد فرضاً، لا يجوز أن يكون هذا منسوخاً لأنه يلزم منه رفع حكم الإ شهاد. والإشهاد جائز بإجماع. وفي تركه وقع الاختلاف فلو كانت منسوخة لم يجز الإشهاد لأن حكم المنسوخ ألا يبقى حكمه ولم تأت آية فيها/: " لا تكتبوا ولا تشهدوا ". بل لك حسن جائز بإجماع وواجب عندنا. وإنما معنى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} عند عدم الكاتب والشهود ". قال أبو محمد Bهـ: وهذا الاعتراض لا يلزم لأنه يجب منه ألا يعمل بما نسخ البتة. وقد نسخ فرض صوم عاشوراء وفرض صوم ثلاثة أيام من كل شهر. ونسخ فرض قيام الليل، وفعل ذلك حسن مُرَغَّبٌ فيه. كذلك فرض الإشهاد، هو منسوخ، وفعله حسن جائز. وقول الطبري: " الآية على الأمر حتى يأتي دليل يدل على الندب ". جوابه: أن الدليل على أنه صار ندباً قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً}. ولا يحمل

على معنى عدم الكاتب والشهود إلا بدليل. قوله: / {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ}. قيل: هو واجب عليه أن يكتب إذا دُعي إلى ذلك. قال الضحاك: " نسخها: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ}. وقال السدي: " لا يأب كاتب أن يكتب إذا كان فارغاً ". {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً}. أي لا يظلم ولا ينقص من حق الرجل/ الذي له الحق شيئاً. قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق}. أي من عليه الدين. {سَفِيهاً}. أي جاهل بالصواب الذي يمليه عليه الكاتب. {أَوْ ضَعِيفاً}. أي أخرق. قاله ابن عباس، وقاله مجاهد وغيره. وقال السدي: " السفيه الصغير ".

وأصل " السفيه " الخفيف العقل من قولهم: " تَسَفَّهَتِ الْرِّيحُ الشَّيْء " إذا استخفته فحركته. قال السدي: " الضعيف الأحمق ". {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل}: أي ولي السفيه والضعيف. قاله الضحاك. وقال ابن عباس: " ولي الدين هو الذي هو عليه " أي فَلْيُقِرْ وَلَيُّهُ بِمَا عَلَيْهِ وَلْيَشْهَدْ. وقيل: ولي الدين هو العيي واليتيم. فالهاء في {وَلِيُّهُ} تعود على الدِّين أو على صاحب الدَّين أو على المطلوب. قوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ}. اختير " فَعِيلٌ " لأنه للتكثير، فمعناه: استشهدوا من عُرف بالشهادة والشاهد يقع لغير التكثير، يقال: " فُلاَنٌ شَهِيدِي وَشَاهِدِي ".

قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} أي من الأحرار المسلمين. قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان}. قال ابن بكير: " هذا مخاطبة للحكام "، أي إن لم يأت صاحب الحق برجلين أتى برجل وامرأتين، فليس معناها أنه لا يشهد الرجل والامرأتان إلا عند عدم الرجلين. لأن فاعلاً لو فعله وهو واحد الرجلين لتم إشهاده ". ومعنى الآية/ عند غيره أنها مخاطبة لصاحب الدين، أي فاستشهدوا [من حضر]؛ رجلين، أو رجلاً وامرأتين. ومعنى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء}. أي من العدول المرضيين، وإنما تجوز شهادة النساء عند مالك، ومن قال بقوله في الأموال خاصة؛ لأنه المكان الذي تكون فيه لا يتعدى إلى غيره. قوله: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى}. أي فتصير إحداهما ذكراً باجتماعهما. تقول العرب " اذَّكَرَتِ المَرْأَةُ " إذا

ولدت ذكراً، قال ذلك ابن عيينة. وليس هو عنده من الذِّكر بعد النيسان. وأكثر الناس على أنه من الذكر بعد النسيان لقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} أي إن تنسى فتذكرها الأخرى ما نيست. قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ}. أي لا يتخلفوا عن أداء الشهادة إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق. قاله قتادة والحسن. وقيل: معناه: لا يتأخروا إذا دُعُوا ليؤدوا ما قد شهدوا عليه، وذلك إذا لم يجد غيره، فإن وجد غيره فهو مخير/ فأما إذا دعيت إلى شهادة لم تشهد بعد بها، فأنت مخير في ذلك. هذا/ قول مجاهد وعطاء وغيرهما. وهو قول مالك.

والألف واللام في {الشهدآء} يدلان على أنه لشهادة متقدمة إذا دعوا [ليوصلوها إلى] حكم، فلا يتخلفوا إذا لم يوجد غيرهم. وعن عطاء أنه إذا دعي ليشهد لزمه ذلك. قوله: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ}. أي لا تملوا أن تكتبوا صغير حقوقكم وكبيرها إلى أجله، فإن الكتاب أحضر للأجل والمال. {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ} أي أعدل. {وَأَقْومُ} أي أصوب. {وأدنى أَلاَّ ترتابوا}. أي أقرب ألا تشكوا في الدين والأجل. ثم أرخص في التجارة الحاضرة التي هي يداً بيد غير أن يكون طعام في طعام متفاضلاً ألا تكتبوها.

ثم قال: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. قال الضحاك: " ما كان من بيع حاضر، فإن شاء أشهد وإن شاء ترك. وما كان من بيع إلى أجل فليشهد ". قال مالك: " هو مخير في الإشهاد، وتركه ". / ويروى عن ابن عمر أنه قال: " الشهادة واجبة في كل ما يباع من قليل أو كثير بقوله D: { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}. وهذا عند جماعة منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ}، وهو نسخ/ فرض إلى ندَب، كنسخ رمضان ليوم عاشوراء؛ من شاء صامه، ومن شاء تركه. وكالامتحان؛ من شاء امتحن، ومن شاء ترك، بعد قوله: {فامتحنوهن} [الممتحنة: 10]. فكان الإشهاد واجباً ثم صار ندباً بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً}. ففي هذا الحكم ثلاثة أقوال: الأول: أنه محكم يعمل به، والثاني: أنه منسوخ، والثالث: أنه ندب وترغيب. تم الجزء السابع

قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}. قال الحسن وغيره: " معناه لا يضار كاتب فيزيد ما لم يملل عليه في الكتاب أو يُحرّف، ولا شهيد فيكتم الشهادة أو بغيرها ". وقال ابن عباس وغيره: " معناه لا يضارا فيتخلفا عن الكتابة والشهادة ويقولان: علينا شغل ولنا حاجة ". وقيل: المعنى: لا [يضار فيما قد شهدا] فيه فيتخلفا عن أدائه إلى الحاكم. وفي كل هذه الأقوال يرتفع [الكاتب والشهيد/ معاً بفعلهما]. وروي عن عمر Bهـ أنه كان يقرأ: " وَلاَ يُضَارَر " برأءين ظاهرتين الأولى مفتوحة.

وكذلك روى الضحاك عن ابن مسعود. وكذلك روى ابن كثير عن مجاهد. وتأويله: أن يضارا في أن يدعيا وعنهم غنى، ويشغلا عن أشغلالهما، ويعنفا تعمداً. وقال الضحاك: " هو أن يكونا على حاجة مهمة فيقولان: اطلب غيرنا، فيقول: إن الله أمركما بذلك، ليؤثمهما ". وكذلك قال السدي وطاوس، وهو اختيار الطبري، لأن الخطاب من أول الآية إنما هو للمكتوب له والمشهود له، وليس للكاتب والشاهد خطاب تقدم فيرد هذا عليه، ويبين هذا قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}، ولم يقل: " وإن تفعلا "، فيرد على الكاتب والشاهد، إنما رده على أهل الكتابة/ والشهادة فالنهي لهم أبين، ألا يضاروا الكاتب والشهيد فيشغلوهما عن شغلهما وهم يجدون غيرهما.

ومعناه: وإن تضاروهما فإنه إثم حال بكم. فيكون الكاتب والشهيد على هذا التأويل مرفوعين على أنهما مفعولان لم يسم فاعلهما. وكان الزجاج يختار أن يكون النهي للكاتب ألا يزيد في كتابته ولا يحرف، و [للشهيد ألا] يتخلف ولا يغير، ويكون قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} رداً إلى الكاتب والشهداء؛ أي إن حرفتم أو زدتم أو تخلفتم من غير عذر فإنه إثم وخروج عن الحق. والهاء في {فَإِنَّهُ} عائدة على الضرار. وقيل: على الفعل، أي فإن هذا الفعل فسوق بكم. وقيل: الفسوق هنا الكذب في الشهادة والكتاب. قوله: {واتقوا الله}. أي في ترك المضارة، وفيما تقدم ذكره من حدوده. قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله}. أي يبين الله لكم الواجب لكم وعليكم لتعمَلُوا به.

283

{والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. أي علم جميع ما تعملون ويحصيها عليكم ليجازيكم بها، فاحذروا المخالفة. قوله: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} الآية. قوله: {فرهان} هو جمع رهن، كبَغْلٍ وبِغَالٍ وكَبْشٍ وكِبَاشٍ. ومن قرأ: " فَرُهُنٌ " فهو جمع الجمع. هو جمع " رِهَانٍ ": ك " كِتَابٍ ": و " كُتُبٍ "، / و " حِمَارٍ " و " حُمُرٍ ". وقيل: هو جمع " رَهْنٍ "، ك " سَقْفٍ " و " سُقُفٍ ". ومن قرأ " فَرُهْنٌ " بالإسكان/ فإنما أسكن الضمة لثقلها. وقرأ ابن عباس " كِتَاباً "، وقال: " قد لا توجد الصحيفة "، وكذلك قرأ

أبو العالية وعكرمة والضحاك ومجاهد. وهو واحد الكتب. وقيل: هو جمع " كَاتِبٍ "، كما يقال: " قَائِمٌ " و " قِيَامٌ ". وروي أيضاً عن ابن عباس: {وَلَمْ تَجِدُواْ} " كُتَّاباً "، على وزن " فُعَّالٍ " وهو جمع " كاتب "، " كضَارِبٍ " و " ضُرَّابٍ ". وهذه الآية أرخص الله فيها في قبض الرهان عند عدم الكاتب، والرهن لا يكون رهناً حتى يقبض من مالكه بقوله: {مَّقْبُوضَةٌ}، سواء قبضه المرتهن عنده أو جعله على يدي عدل عند مالك. قوله: / {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن}. أي إن ترك صاحب الدين، أخذ الرهن، وأمن الذي عليه الدين، فليؤد ما عليه لأنها أمانة، وليتق الله ربه فيما قد اؤتمن به.

284

وقال الضحاك: " هذه الأمانة التي فسخ فيها إنما في السفر، دون الحضر ". قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة}. هو نهي للشهداء وتحذير لهم. {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}. أي فاجر قلبه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}. أي يعلم ما تصنعون في شهاداتكم من أحالتها، والإتيان بها على وجهها فيحصي ذلك عليكم/ ويجازيكم به. قوله: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}. قال ابن عباس: " قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}، منسوخة بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}. ومعنى قول: " إنها منسوخة "، أي نزلت على نسختها لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ.

وقيل قي: إن الآية محكمة، وإن المؤمن والكافر يحاسبان بما أبديا وأخفيا، فيغفر للمؤمن، ويعاقب الكافر. وقيل: إن الآية مخصوصة في كتمان الشهادة خاصة وإظهارها. روي ذلك عن ابن عباس. وروي عن عائشة أنها قالت: / " ما هَمَّ به العبد من خطيئة عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا ". قال ابن عباس " إذا جمع الله الخلائق يقول: أنا أخبركم بما أكننتم في أنفسكم. فأما المؤمنون فيغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من شكهم وتكذيبهم، فذلك قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}. قال ابن عباس: " لما نزلت هذه/ الآية وقع في قلوبهم شيء، فقال لهم النبي عليه السلام: " قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا "، فَأَلْقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَنْزَلَ:

{ءَامَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون} إلى {أَوْ أَخْطَأْنَا}. قال " قَدْ فَعَلْتُ " {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً}، قال: " قَدْ فَعَلْتُ "، {واعف عَنَّا} إلى آخر السورة. قال: قَدْ فَعَلْتُ ". وقال السدي: " وقعت عليهم شدة عند نزول: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} حتى نسخها ما بعدها ". أي أزالت الشدة، من قولهم: " نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ " أي أزالته. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي يقدر على العفو لما أخفته نفس المؤمن، وعلى العقاب فيما أخفته نفس الكافر من الكفر والشك في الدين. وقال حذيفة: " سمعت النبي عليه السلام يقول: " أُعْطِيتُ آيَاتٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهَا نَبِيٌّ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَاهَا أَحَدٌ مِنْ بَعْدِي، ثم قرأ: {للَّهِ ما فِي السماوات

وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} حتى ختم السورة ". وروى أبو هريرة أنه: " لما نزلت على النبي عليه السلام هذه الآية: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}، وسمعوا فيها: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} أتوا النبي A فجثوا على الركب فقالوا: " لا نطيق، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع، فأنزل الله: {ءَامَنَ الرسول} إلى آخرها. وقال محمد بن كعب القرظي: " ما بعث الله نبياً إلا أمره أن يعرض على قومه، {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} إلا قالوا: لا نطيق أن نؤاخذ بما نوسوس في قلوبنا، فلما بعث الله محمداً A أنزلها عليه فآمن بها، وعرضها على قومه، فآمنوا بها، وقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}، قال: فخفف الله عنهم، فأنزل: {ءَامَنَ الرسول}. وحكى عنهم " أنهم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وأنزل الله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}، فنسخ المؤاخذة بالوسوسة. وقاله ابن مسعود. وقالت عائشة: هو الرجل يهم بالمعصية، ولا يعملها، فيرسل عليه من الهم

والحزن بقدر ما همَّ به من/ المعصية، فذلك محاسبته ". وروي أنها لما نزلت قال النبي [عليه السلام]: " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " يعني نفسه. " وروي أنهم شكوا إلى النبي A شدة ما يلقون من قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}، / فقال لهم النبي [عليه السلام]: " لَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرائِيلَ. بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " فأنزل الله ذلك من قول النبي A ". وقرأ ابن عباس وابن مسعود: " لاَ يُفَرِّقُ " بالياء، رد على (كُلٌّ) أي " كُلٌّ لاَ يُفَرِّقُ ". وقوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي سترك علينا. وروي أن النبي A لما أنزل عليه: {ءَامَنَ الرسول} / إلى {وَإِلَيْكَ المصير}. قال له

جبريل: " إن الله قد أَجَلَّ الثناء عليك/ وعلى أمتك، فَسَلْ تُعْطَهُ ". فسأل إلى آخر السورة: " رَبَّنا رَبَّنا ". قوله: {إِلاَّ وُسْعَهَا}: أي طاقتها فيما تعبدنا به. فهذا توسيع ورخصة من الله وهو/ مثل قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ومثل: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} [البقرة: 185]، ومثل: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16]. قوله: {إِن نَّسِينَآ}. أي: نسينا فرضاً فرضته علينا، فلم نفعله. {أَوْ أَخْطَأْنَا}. أي: في فعل شيء نهيتنا عنه، ففعلناه على غير قصد إلى معصيتك. قال النبي A: " تَجَاوَزَ اللهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَنْ نِسْيَانِهَا وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ". وكان النحاس يقول: النيسان هنا الترك لأن الله تعالى لا يوصف بأن يعاقب

على النيسان فيسأل في العفو عنه، لأنه ليس من تعمد العبد. إنما هي آفة تدخل عليه. وهو قول قطرب. قوله: {إِصْراً}. أي: عهداً. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم. وقال غيره: " لا تحمل علينا ذنوبنا، فتعاقبنا بمسخ أو عذاب كما كان من قبلنا ". وقال الضحاك: في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله}، قال: " إذا دعي الناس ليوم الحساب أخبرهم الله بما كانوا يسرون في أنفسهم، فيقول: " إِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنِّي شَيْءٌ وَإِنَّ كُتَّابِي مِنَ المَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُونُوا يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا تُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَإِنِّي لاَ أُحَاسِبُكُمْ بِهِ الْيَوْمَ ". قال الضحاك: هذا قول ابن عباس. وعن ابن عباس أن الله جل ذكره نسخ هذه الآية بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، قال: لما نزلت: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} الآية، وجدوا في أنفسهم منها وجداً

شديداً فنسخ الله ذلك وأجارهم. منها، ثم علمهم أن يقولوا إذا عملوا سيئة: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى قوله: {مِن قَبْلِنَا}. قال: " وكان الذين من قبلهم، إذا عملوا سيئة حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، وذلك قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ/ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. وقال للمؤمنين: قولوا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إلى قوله: {الكافرين}. قال: " فهذا شيء أعطاه الله أمة محمد A لم يُعْطِهِ أحداً ممن كان قبلهم من الأمم ألا يؤاخذوا بنسيان ولا خطأ غيرَهم ". وقال الحسن: " قال النبي A: " تَجَاوَزَ اللهُ لاِبْنِ آدَمَ عَمَّا نَسِيَ وَعَمَّا أَخْطَأَ وَعَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَعَمَّا غُلِبَ عَلَيْهِ ".

وروى عبد الله بن أبي أوفى أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ بِهِ ". وروي أن ابن عمر قرأ هذه الآية وبكى بكاءً شديداً، ثم ق ل: " والله لئن آخَذنا اللهُ بهذا لنهلكن "، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: " يرحم الله أبا عبد الرحمن؛ لقد وجد المسلمون منها مثل ما وجد حتى أنزل الله بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}. قال ابن جبير: " لما نزل: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ}، شق ذلك على الناس حتى نزلت بعدها: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} ". قال مجاهد: " معنى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}: يعني من الشك واليقين ".

قال ابن جبير: " نسخت {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} أو تخفوه الآية ". وقاله إبراهيم/ والشعبي. قال الضحاك: " لما نزلت {ءَامَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ}، إلى آخر/ السورة، قال الله جل ذكره: " قَدْ فَعَلْتُ ". وروي عن الحسن والضحاك - أو عن أحدهما - أنه قال في قوله تعالى: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: " معناه: سمعنا القرآن أنه جاء من عند الله وأطعنا ". يقول: " أقروا على أنفسهم بالطاعة لله فيما أمرهم به ونهاهم عنه ". وروى حذيفة أن النبي عليه السلام قال: " أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ [آخِرِ سُورَةِ] البَقَرَةِ مِنْ بَيْتٍ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ، لَمْ يُعْطَ أحَدٌ مِنْهُ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ مِنْهُ بِعْدِي ".

وروى النعمان بن بشير أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ الله تَعَالَى كَتَبَ كِتَاباً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ مِنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ وَلاَ تُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ ". وقال علي بن أبي طالب Bهـ: " إن خواتم سورة البقرة وفواتحها من كنز تحت العرش ". وروي أنها لما نزلت قال النبي A: " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ يُؤْمِنَ " يعني نفسه. وذكر ابن الأنباري في هذه الآية ثلاثة أقوال: قال: إن الله تعالى يعاقب الذي يحدث/ نفسه بالمعصية، ولا يعلمها، بِهَمٍّ أو حزن وبشبهه، ثم لا يحاسبه على

ذلك يوم القيامة وهو معنى قول عائشة Bها. / والقول الثاني: إن الله يُقبل على العبد يوم القيامة فيخبره بما حدث به نفسه من خير وشر، ثم لا يجزيه بما لم يظهر منه من عمل، وهو معنى قول الضحاك. والقول الثالث: إنه منسوخ بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. فالوسوسة وحديث النفس لا يملك الإنسان صرفه، ولا قدرة له على دفعه. قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا}. روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قال النبي A: / " أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، اللهُ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنِّي قَدْ تَجَاوَزْتُ لَكَ عَنْ أُمَّتِكَ الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ". وقال ابن زيد: " {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً}، اي ذنباً لا توبة منه ولا كفارة فيه ". وقال ابن وهب عن مالك: " الإصر: الأمر الغليظ ". وقال أهل اللغة: " الإصر: الثقل ".

وقيل: معناه: لا تحمل علينا فرضاً يصعب علينا أداؤه، كما حملت على بني إسرائيل بعضهم يقتل بعضاً، وشبهه. قوله: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق. وقال قتادة: معناه: لا تشدد علينا كما شددت على] من كان قبلنا. ومعنى: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي: ما لا نستطيعه إلا بمشقة شديدة وكلفه عظيمة. فإنما سألوا دفع ما في طاقاتهم لو كلفوه، ولكن له مشقة كلفة. ولم يسألوا دفع ما لا يطيقونه لو كلفوه، لأن ذلك لا يوصف به الله D فيجوز أن يسألوا في دفعه عنهم. قوله: {واعف عَنَّا}: أي امح ذنوبنا. والعافي الدارس. {واغفر لَنَا}: أي حط عنا ذنوبنا. {أَنتَ مولانا}: أي ولينا. وروت أم سلمة أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لَكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ الْخَطَأ

والنِّسْيَانِ وَالاسْتِكْرَاهِ ". وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ ".

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 347 هـ المجلد الثاني آل عمران - النساء 1429 هـ - 2008 م

آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم سورة آل عمران وهي مدنية قوله: {الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ}. قد تقدم ذكر {الم} في أول البقرة، وذكر {لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} عند ذكر آية الكرسي. وأجاز الأخفش كسر الميم في {الم * الله} لالتقاء الساكنين.

ومن أسكن الميم وقطع فعلى نية الوقف، وكذلك إسكان الميم في {الم * ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1 - 2] و {الم * غُلِبَتِ الروم} [الروم: 1] وشبههما. ومن فتح فإنه حرك الميم لسكونها وسكون الياء قبلها، ولم يكسر لاستثقال الكسر بعد الياء وقد قال الفراء: " من فتح ألقى حركة الهمزة على الميم ".

3

وفي " القيوم " من القراءات والمعاني مثلما ذكر في آية الكرسي. وأحسن ما قيل فيه: إنه القائم على كل شيء، الذي لا يزول، الدائم. قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} يعني القرآن. {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما تقدمه من كتب الله. وقوله: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} أي: من قبل نزول القرآن. وقوله {هُدًى لِّلنَّاسِ}: يعني اليهود والنصارى، وهذا كله رد على من جحد القرآن. وكان سبب هذه السورة في نزولها بالتوحيد، وذكر يحيى وعيسى: أن طائفة من النصارى قدموا على النبي A من نجران فحاجوه في عيسى وألحدوا، فأنزل الله في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفاً وثمانين آية من أولها، احتجاجاً عليهم، ودعاهم النبي عليه السلام إلى الإسلام فقالوا: قد أسلمنا فقال A: كذبتم.

يمنعكم من الإسلام ادعاؤكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، فأبوا إلا المقام على كفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك وسألوه أخذ الجزية فقبلها، وانصرفوا إلى بلادهم. وكان من أول ما سألوه أن قالوا: من أبو عيسى عليه السلام؟ فسكت النبي A. فأنزل الله صدر السورة بتوحيده وتعظيمه رداً عليهم، ووصف نفسه بالحياة تقريعاً لهم، لأنهم يعبدون عيسى وهو عندهم قد مات وقال: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6]. وقال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} [آل عمران: 59]. وكان ممن قدم عليه ثلاثة رؤساء (لهم) منهم: أحدهم العاقب، وهو

عبد المسيح. والآخر: السيد، وهو الأيهم. والثالث أبو حارثة بن علقمة، أخو بكر بن وائل. والإنجيل " الأصل من: نجلته " الشيء: أخرجته، ويقال نجله أبوه أي: جاء به وجمعه أناجيل، وهو إفعيل وجمع التوراة: توار. قوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، (أي) لما قبله من كتاب ورسول ". قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان}. هو ما يفرق به بين الحق والباطل في أمر عيسى.

5

وقيل: في أحكام الشرائع، وقيل: فيهما. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. أي: إن الذين حجدوا بآيات الله وقالوا: إن عيسى ولده واتخذوه إلأهاً {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}. معناه: من كان بهذه الحال يا محمد كيف يخفى عليه ما يضاهي به هؤلاء في عيسى. قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ}. أي: يجعل هذا ذكَراً وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر فلذلك خلق عيسى لا من رجل كيف شاء، ولو كان إلهاً ما اشتملت عليه الآرحام، وانتقل من حالة إلى حالة. قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}. قال ابن عباس: [هي]:

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث آيات، وفي بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين} [الإسراء: 23]، قال: والمتشابه نحو: آلَم، والروح وشبهه. وقال مجاهد وعكرمة، ويحيى بن يعمر: المحكمات: الحلال والحرام والأمر والنهي، وما سوى ذلك فمتشابه يصدق بعضه بعضاً. وقال الضحاك: المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات. وأهل المعاني على (أن) المحكم ما قام بنفسه، وفهم في ظاهر لفظه، ولم يحتمل إلآ ذلك، والمتشابه ما احتاج إلى تأويل وتفسير واحتمل المعاني.

وسمى المحكمات أم الكتاب لأنهن معظمه، وأكثره. وقيل: سماهن أم الكتاب لأن فيهن الدين من: حلال وحرام وأمر ونهي وفرض وغير ذلك، فهذا الأصل الذي تعبدنا به. وإنما وحد الأم لأن معناه: هن أصل الكتاب. وقيل: المعنى هن الشيء الذي كل واحدة منهن أم الكتاب. قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}. قيل معناه: اشتبهت على اليهود إذ سمعوها وهي أوائل السور: حروف التهجي، متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني. وقال ابن عباس: متشابهات: هو المنسوخ، والمقدم والمؤخر.

وقال قتادة وغيره: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات المنسوخات. وقيل: المحكمات ما حكمت في ألفاظ قصص الأنبياء والأمم، والمتشابهات ما حكمت فيه ألفاظ القص والأخبار، قاله، قاله ابن زيد. [قال:]: نحو {فاسلك فِيهَا} [المؤمنون: 27]، {احمل فِيهَا} هود: 40]، {اسلك يَدَكَ} [القصص: 32]. . . . . . . [ادخل يدك]، {حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20]، {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 32]، ونحوه، فهذا المتشابه. وقيل: المحكم ما علم تأويله العلماء، والمتشابه ما لم يعلم تأويله أحد، وقد أفردنا الكلام على هذه الآية في كتاب مفرد متقصى فيه

الاختلاف فيها وموضع الوقف. قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}. أي: ميل عن الحق وهو الشك {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} وهو ما احتمل التأويلات " يبتغون بذلك الفتنة " أي: الكفر. قال ابن عباس: يحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم يلبسون على الناس. وقال السدي: يعترضون في الناسخ والمنسوخ فيقولون: ما بال هذه وما بال هذه. وعنى بهذا الوفد من نصارى نجران ومن هو مثلهم. لأنهم خاصموا النبي A في عيسى. وقال قتادة: إن لم يكونوا الحرورية فما أدري من هم؟.

وروت عائشة أن النبي A قال: " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنوا بقوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ". قال السدي والربيع {ابتغاء الفتنة} أي: الشرك وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات. قال ابن عباس معنى: {ابتغاء تَأْوِيلِهِ} هو طلب الأجل في مدة محمد وأمته من قبل الحروف التي في أوائل السور وذلك أنهم حسبوها على حروف الجمل بالعدد فقالوا: هذه مدة محمد وأمته. قال السدي: أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن وهو تأويله متى ينسخ منه شيء.

وقيل معناه: وابتغاء تأويل المتشابه على ما يريدون من الزيغ. قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}. أي: ليس يعلم متى تقوم الساعة وتنقضي مدة أمة محمد عليه السلام إلا الله. {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. أي: يسلمون ويقولون صدقنا، وهو قول ابن عباس وعائشة وابن مسعود، وجماعة من التابعين، وهو قول مالك. وروى عن نافع ويعقوب والكسائي، إن الوقف {إِلاَّ الله} وهو قول

الأخفش والفراء وأبي حاتم، وأبي إسحاق، وابن كيسان، وهو اختيار الطبري. ومعنى التأويل: التفسير وهو عند أكثرهم قيام الساعة لأنه ما تؤول إليه الأمور. ومعنى: {والراسخون فِي العلم} الذين قد أتقنوا علمهم، وأًله من: رسخ إذا ثبت.

وروي عن ابن القاسم أن مالكاً سئل عن الراسخون في العلم: من هم؟ فقال: العامل بما علم، المتبع له. (وقال في رواية ابن وهب عنه: العالم العامل بما علم المتبع له). وعن أسامة أن النبي A سئل عن الراسخون في العلم فقال: " من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعَفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم ". وقيل: الراسخ في العلم من وقف حيث انتهى به علمه. قوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}. أي: ما نسخ وما لم ينسخ من عند الله.

8

وقول أكثر العلماء: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه. قال عروة بن الزبير: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله ولكن يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}. قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب}. أي ما يتذكر فيعلم الحق فيؤمن به إلا أولو العقول. قوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}. أي: لا تملها عن إيمانها بالمتشابه والمحكم فأنت هديتنا. قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس. . .}. أي: ويقولون أيضاً مع قولهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ}، ومع قولهم {آمَنَّا بِهِ}: {رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}. لا شك فيه. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ. . . .}.

11

يعني: من حاجَّ محمداً ( A) في عيسى لا تغني عنهم الأموال والأولاد يوم القيامة في شيء. قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}. أي: كعادتهم، وقيل كصنعهم: وقيل كشأنهم. وقيل: كسنتهم في التكذيب والكفر، أي: تكذيب هؤلاء (كتكذيب هؤلاء) وصنعهم كصنعهم، وسنتهم كسنتهم والدأب: العادة قوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ}. من قرأ بالتاء فعلى الخطاب لهم لقوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} كأنه قال: [قل] يا محمد للذين

(يتبعون) ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} يعني اليهود، فهم المغلوبون. ومن قرأ بالياء فعلى معنى، قل لليهود سيغلب المشركون. فمن قرأ بالتاء كان المعنى: إن الله أمر النبي A أن يقول لهم هذا القول بعينه. [ومن قرأ بالياء فالمعنى: إن الله أمر النبي A أن يقول لغيرهم هذا القول وهم اليهود. واحتج] من قرأ بالتاء أن النبي عليه السلام جمع يهود بعد وقعة بدر، فقال لهم: أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً يوم بدر، فأبوا، وقالوا: لا تغرنك نفسك أنك قاتلت قريشاً وكانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت ما نحن عليه فأنزل الله [تعالى] {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} إلى قوله {الأبصار}.

13

وحجة من قرأ بالياء ما روي أن اليهود تضعضعوا، وخافوا مثل يوم بدر وقالوا: هذا لا تزيح له راية فقال بعضهم لا تعجلوا بتصديقه حتى تكون وقعة أخرى فلما نكب المسلمون يوم أحد كذبت اليهود وفرحت فأنزل الله: قل يا محمد لليهود سيغلب المشركون ويحشرون إلى جهنم قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا. . . .} الآية. قرأ الحسن {فِئَةٌ}، {كَافِرَةٌ} بالخفض فيهما على البدل، من {فِئَتَيْنِ}. ومن رفع فعلى إضمار مبتدأ.

وقال أحمد بن يحيى: يجوز النصب على الحال. وقال الزجاج: النصب بمعنى أعني. ومن قرأ {يَرَوْنَهُمْ} بالتاء فعلى المخاطبة لليهود، أي ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين. ومن قرأ بالياء جعل الرؤية للمسلمين، أي: يرى المؤمنون المشركين مثلي أنفسهم. وكان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً. وقيل ثلاثة عشر، والمشركون تسعمائة وخمسون. وقيل: كانوا ألفاً.

وقيل: كانوا ما بين ألف إلى تسعمائة. وقد وعد الله المؤمنين بأن الرجل منهم يغلب الرجلين فأراهم الله المشركين مثليهم لتقوى نفوسهم، وكانت تلك آية أن رأوا الكثير قليلاً كما قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]. وأنكر أبو عمرو قراءة من قرأ بالتاء وقال لا يلزم أن يقرأ مثليكم، هذا الرد إنما يلزم لو كانت الرؤية تنصرف على المسلمين، ولا يمكن إلا ذلك. وقراءة التاء تنصرف على اليهود الذين تقدم ذكرهم. والمعنى: قد كانت لكم أيها اليهود علامة في صدق محمد A وصحة ما دعاكم إليه بنصر (الله) تعالى إياه يوم بدر وأعداؤه مثلا من معه.

وقيل: [المعنى] على قراءة التاء في ترونهم أيها المؤمنون مثلي أصحابكم. وقال ابن كيسان: الضمير في {يَرَوْنَهُمْ} يعود على {أخرى كَافِرَةٌ}. والهاء والميم في {مِّثْلَيْهِمْ} يعودان على فئة. وقال الفراء: معنى " مثليهم " ثلاثة أمثالهم. قال ابن كيسان: كأنه جعل ترونهم يرجع إلى الكل أي: ترون الكل ثلاثة أمثال أصحابكم: هذا على [معنى] من قرأ بالتاء ". [ومن قرأ بالياء فعلى معنى يرى المؤمنون الكل ثلاثة أمثالهم، وتكون التاء مخاطبة لليهود فيكون المعنى ترون أيها اليهود الكل ثلاثة أمثال المؤمنين] وهذه كله يوم بدر. {والله يُؤَيِّدُ} اي: يقوي {بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ}.

14

وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء} الآية. هذا توبيخ لليهود إذ آثروا الدنيا على الآخرة، فنبذوا اتباع محمد A خوف أن تذهب رياستهم. وروي عن عمر أنه قال لما نزلت هذه الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات}: " الآن يا رب حين زينتها " فنزل {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} الآية. فالمعنى: زين الله للناس ذلك ابتلاءً واختباراً منه كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7]، فأخبر بالعلة التي من أجلها جعل ما في الأرض زينة لها. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية ".

وقيل عنه: " القنطار ألف دينار ومائتان ". وقال ابن عباس: القنطار اثنا عشر ألف درهم. وقال ابن المسيب: القنطار ثمانون ألفاً. وعن أبي هريرة: أنه اثنا عشر ألف أوقية. وعن ابن عباس أنه قال: " هو دية أحدكم " وعنه: ثمانون ألف درهم [وعنه سبعون] ألفاً. وقال قتادة: القنطار ثمانون ألف درهم. وقيل: هو مائة رطل من ذهب، وهو قول قتادة. وعن مجاهد: القنطار سبعون ألف دينار.

وقيل: هو المال الكثير. وقيل: [هو] أربعون أوقية من ذهب أو فضة. وقال القتبي وغيره: هو ملء مسك ثور من ذهب، والمقنطرة المكملة. وقال الفراء: المقنطرة: المضعفة. وقال ابن كيسان: لا تكون المقنطرة أقل من تسعة قناطير. وقال السدي معنى المقنطرة: المضروبة دراهم ودنانير. وواحد الخيل عند أبي عبيدة: خايل. سمي بذلك لأنه يختال في مشيته وهو

كطير وطائر. وقيل: هو اسم للجمع لا واحد له من لفظه. والمسومة: الراعية، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة ومجاهد. وعن مجاهد أيضاً: هي الحسان المطهمة الحسنة الصورة. وعن ابن عباس أيضاً: المسومة: الممرجة، يريد الراعية في المروج. وقال ابن زيد: المسومة: المعدة للجهاد.

15

وواحد الأنعام: نَعَم ونِعَم، لا واحد [له من] لفظه قوله: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا}: أي: هذا الذي ذكر متاع الحياة الدنيا {والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} أي: حسن المرجع للذين اتقوا ربهم، وهي الجنة والخلود فيها. والمآب: المفعل، من آب يؤوب، وأصله المأوب، ثم نقلت فتحة الواو على الهمزة، وانقلب [الواو] ألفاً كالمقال والمجال. قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} الآية. (رفع {جَنَّاتٌ} على) الابتداء. ويجوز الخفض على البدل من {بِخَيْرٍ}.

ويجوز النصب على إعادة الفعل ويكون للذين متعلق بـ {أَؤُنَبِّئُكُمْ}. وقوله: {وَرِضْوَانٌ} أي زيادة الرضا بعد دخول الجنة. وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: أعطيكم أفضل من هذا؟ فيقولون أي ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: أحل لكم رضواني ". وهذه الآية نزلت تعزية للمهاجرين الذين أخرجوا وتركوا ديارهم وأموالهم [فأعلمهم الله أن خيراً مما تركوا من الدنيا الجنة للذين اتقوا. قوله: {والله بَصِيرٌ بالعباد} أي: ذو بصر بمن يتقيه ويخافه ممن

16

لا يتقيه ويتبع الشهوات. وروي أن هذه الآية نزلت تعزية وتصبيراً للمهاجرين إذ فارقوا ديارهم وأموالهم] قدموا بلداً لا مال لهم فيه [ولا] ديار، فأُعلموا أن خيراً مما تركوا من الدنيا: الجنة، ثم مدحهم الله فقال: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ. . . .} الآية. قوله: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ. . . .} الآية. في هذه الآية صفة من يتقيه ويخافه. ومعنى {فاغفر لَنَا}: استر علينا ذنوبنا. ثم وصفهم فقال: {الصابرين والقانتين}. الآية. ومعنى {الصابرين} الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس أي: في القتال. وقال قتادة: صبروا عن محارم الله، وصبروا على طاعة الله ( D) . وقيل: الصابرون هم الصائمون، يقال لشهر رمضان شهر الصبر.

وقيل هم الذين يصبرون على طاعة الله D ويصبرون عن المعاصي وهو قول قتادة. ومعنى {والصادقين} في قول قتادة: هم قوم صدقت نياتهم. وعنه (هم) قوم صدقت أفواههم واستقامت قلوبهم وألسنتهم. والقانتون: المطيعون، وقيل: المصلون. والمنفقون: الذين يزكون كما أمر الله. ومعنى: {والمستغفرين بالأسحار}. قال قتادة: هم الذين يصلون بالأسحار. وروي عن ابن مسعود أنه الاستغفار بعينه. (و) عنه: أنه سمع رجلاً بالسحر يقول: أمرتني فأطعتك وهذا سحرك،

18

فاغفر لي. قال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة. وقال زيد بن أسلم: " والمستغفرون بالأسحار " هم الذين يشهدون صلاة الصبح. وقيل: هو الاستغفار بعينه. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن الله يتنزل في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا يقول من يدعوني أستجب له من يستغفرني أغفر له ". قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ. . .} الآية. نفى الله D بهذه الآية ما أضافته إليه النصارى الذين حاجوا النبي عليه السلام - في عيسى - وغيرهم، أنه إله فأخبرهم أنه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، وأن ذلك شهد به هو،

19

وملائكته وأهل العلم من خلقه. قال أبو عبيدة: معنى شهد الله: قضى الله، أي: علم. وأنكر ذلك جماعة، ومعنى {قَآئِمَاً بالقسط} أي: بالعدل. وقرأ أبو المهلب: " شهدآء الله " رده على ما قبله، ونصبه على الحال. وروى عنه: شهداءَ الله على الحال أيضاً. وعنه: شهداءُ الله، رفع بالابتداء. قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام. . .} الآية. {بَغْياً بَيْنَهُمْ} منصوب بفعل دل عليه (اختلف) كأنه: اختلفوا بغياً بينهم، وقال الأخفش: [نصبه] باختلف، هذا الظاهر تقديره: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم).

وهو حال عند الجميع. وقيل: مفعول من أجله. ومن كسر إن فعلى الابتداء، ومن فتح رده على شهداء أي: ويشهد بأن الدين. وقال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى، لأن الإسلام تفسير بمعنى [الدين] الذي هو التوحيد. وعن ابن عباس: شهد الله إنه، بالكسر فجعله خبراً وتفتح أن الدين برفع الشهادة عليها. وقد ألزم من قرأ بالفتح في أن الدين أن يقرأ: أن الدين عنده الإسلام،

لأن الإظهار يستغنى عنه، وقد منع النحويون: شهدت أن زيداً عالم، وأن زيداً بصير، والثاني هو الأول. وقال المحتج للكسائي: وقع الإظهار هنا للتعظيم والتفخيم كما قال: لا أرى الموت يسبق الموت (شيء). على التعظيم للموت. والذي هو أحسن من هذا، أن النحويين إنما منعوا الإظهار [فيما يمكن أن يتوهم أن الثاني غير الأول فيخاف الالتباس عند الإظهار]، والآية لا يمكن ذلك فيها، لأن هذا الاسم ليس هو إلا لواحد لم يتسم به غيره، لا إله إلا هو، فإظهاره مرة بعد مرة لا يوهم أن الثاني غير الأول، وإظهار زيد مرة [بعد

مرة] يوهم أن الثاني غير الأول. فليست الآية تشبه ما يقع في الكلام من غلإظهار بعد الإظهار، إذ زيد وغيره يصلح لكل أحد، وأما الموت فإنما ظهر في الثاني لأنه لا لبس فيه، إذ ليس ثم غير موت واحد، فليس يتوهم أن الثاني غير الأول وفي الإظهار مع زوال الالتباس معنى التعظيم والتفخيم كما تقدم. والدين: الطاعة ومعنى الإسلام: شهادة أن لا إلأه إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله. وأصل الإسلام: الخشوع والانقياد. وروى ابن عمر عن النبي عليه السلام أنه قال: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ".

وفي هذه الآية دلالة على ضعف قول من يفرق بين الإسلام والإيمان، ويجعل الإيمان أفضل من الإسلام، إذ أخبر الله جل ذكره {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} فهو الإيمان بعينه، إذ لا يرضى الله من خلقه بما هو أدون، ويدل على ذلك قوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. فالإسلام: هو الإيمان إذا استوى الباطن والظاهر، فإن خالف الظاهر الباطن فيهما فليسا بدين يتقبله الله، نحو قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ونحو قوله {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] لم يحصلوا على شيء لما خالف باطنهم ظاهرهم. وقد قيل: " إن الإسلام أعم من الإيمان، لأن الإيمان ما صدق به الباطن، والإسلام ما صدق به الباطن ونطق به الظاهر. ومعنى {الذين أُوتُواْ الكتاب} أي: الإنجيل، وهم النصارى الذين اختلفوا في محمد A. وقيل: في عيسى للبغي من بعدما جاءهم العلم، فعلوا ذلك طلباً للرياسة والدنيا، قوله: {سَرِيعُ الحساب} أي: أحصى كل شيء بلا معاناة ولا عدد.

20

وقال الربيع: {الذين أُوتُواْ الكتاب} هم اليهود، و {الكتاب}: التوراة، وذلك أن موسى على نبينا وعليه السلام، لما حضرته الوفاة دعا سبعين حَبْراً من أحبار " بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، واستخلف عليهم يوشع بن نون، فلما مضت ثلاثة قرون بعد موسى A وقعت الفرقة والاختلاف بين أبناء أولئك السبعين تنافساً في الدنيا، وطلباً للملك والرياسة. قوله: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ. . .} (أي): فإن حاجك يا محمد، النفر من نصارى نجران في أمر عيسى، فقل: أخلصت وجهي لله، أي: عبادتي لله، {وَمَنِ اتبعن} أخلص أيضاً، " من " في موضع رفع عطف على التاء في {أَسْلَمْتُ} أي ": أسلمت أنا ومن تبعني وجوهنا لله. وقيل: هي موضع خفض عطف على " الله " ومعنى الكلام أخلصت نفسي لله ول: " من اتبعني "

قوله: {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} يعني: اليهود والنصارى و {الأميين} يعني: " الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب، كأنهم نسبوا إلى الأم لجهلهم بالكتابة كالأم. وقيل: نسبوا إلى مكة، وهي أم القرى. أسلمتم أي: أقررتم بالتوحيد، {فَإِنْ أَسْلَمُواْ} أي: انقادوا وخضعوا لله ولدينه {فَقَدِ اهتدوا} والكلام يراد به الأمر وأخرج مخرج الاستفهام. والمعنى: قل لهم أسلموا، ولذلك دخلت الفاء في الجواب وهي مثل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا. [قوله: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} هذا منسوخ. بالأمر بالقتال].

21

قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية. قال أبو العالية: جاء النبيون إلى ناس من بني إسرائيل يدعونهم إلى الله فقتلوهم، فقام ناس من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم. وعن عبد الله: إن بني إسرائيل كانت تقتل في اليوم سبعين نبياً، ثم تقوم سوق بقلهم في آخر النهار. وروي أن النبي عليه السلام قال: " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من (أول) النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل منهم، واثنا عشر رجلاً من عبادهم، فأنكروا عليهم، فقتلوا جميعاً في آخر النهار في ذلك اليوم " ثم تلا الآية. دخلت الفاء في الخبر من أجل: إن الذي فيه إبهام فدخل به في حيز المجازات، فجاز دخول الفاء في الخبر وحسن مع " إن " لأنها للتأكيد لا تغير

24

معنى الابتداء، ولو دخلت لعل، أو ليت، أو كأن، لم يجز دخول الفاء في الخبر مع الذين لأن الكلام يتغير معناه بهن. وخوطب من كان بالحضرة بالآية، وهم لم يقتلوا، وإنما ذلك لأنهم على مذهب من فعل ذلك في آبائهم، راضون بفعلهم، مصرون على ذلك إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فلو وجدوا إلى قتل النبي A ما تركوه، فخوطبوا بذلك لأنهم وآباؤهم سواء. قوله: {أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت، فلا ثناء عليهم في الدنيا ولا محمدة، ولا خير لهم في الآخرة ولا رحمة، وما لهم من ينصرهم من عذاب الله، وعقابه. وقرأ أبو السَمّال: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، بالفتح وهي لغة شاذة. قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [أي إنما أبوا أن يحكم بينهم كتاب الله،

25

لأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات "] وهي أربعون يوماً، عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل. {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، أي: غرهم افتراؤهم وهو كذبهم وهو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ}. قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ}. أي: فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت، وقد قدموا الافتراء والكذب والكفر، والتبديل واتباع المتشابه، وفضلوا الدنيا وزينتها على الآخرة. والمعنى: جمعناهم لحساب يوم لا شك فيه. وقال الكسائي: اللام بمعنى: في، والمعنى عنده: في يوم. قوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} الآية. ذُكِرَ أن النبي عليه السلام سأل الله أن يجعل مُلك فارس والروم لأمته، فأنزل الله:

قل يا محمد: {اللهم مَالِكَ الملك} الآية. وروي أن النبي عليه السلام، بشر أصحابه بفتح الشام وملك قيصر وكسرى، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: هيهات، هيهات، فعظموا ما صغر الله من ملك الكفار، فقال الله لنبيه A: قل يا محمد {اللهم مَالِكَ الملك} الآية. فلما سمعوا بذلك ذلوا، (طلبوا الموادعة)، فكانوا في رفاهية من العيش حتى بغوا، فرد الله بغيهم عليهم، فقُتِلوا، وأُجْلُوا. قال مجاهد: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: النبوة وقيل: الملك، والمال، والعبيد. وقيل: هو الغلبة.

27

{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} " أي: بالغلبة، يقال: عزه إذا غلبه. قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل. . .}. قال ابن عباس: ما ينقص في (ذا) يزيد في ذا ومعنى تولج: تدخل قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت}. قال مجاهد: الإنسان الحي من النطفة الميتة (ويخرج الميت من الحي): النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك قال: الضحاك والسدي: وقتادة وغيرهم. وقيل المعنى: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة والسنبل من الحب والحب من السنبل، والبيض من الدجاج والدجاج من البيض، قال ذلك عكرمة والسدي. وقال الحسن: معنا: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن روي ذلك

28

عن ابن مسعود ورفعه الزهري إلى النبي A. فالمؤمن حي القلب والكافر ميت القلب. قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: ليس يخاف نقصاً فيخرج الأشياء بالحساب والتحصيل. قوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ. . .}. قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار يتخذوهم أولياء، إلا أن يكون الكفار لهم القوة والغلبة، فيظهر لهم اللطف بالقول لا غير وهو قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة}. قال الضحاك: التقية أن يحمل على أمر يتكلم به بلسانه من معصية الله فيفعل

وهو مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه. قال الحسن: ذلك في المشركين يكرهون المؤمنين على الكفر وقلوبهم كارهة. وقال قتادة: التقاة: أن تصل رحمك من الكفار من غير أن توليهم على المؤمنين فتصله لقرابة منك ولا تواليه في الدين. ويقال: إنها نزلت في عمار بن ياسر، وحاطب بن أبي بلتعة، أما عمار فخاف أن يقتله المشركون فكلمهم ببعض ما أحبوا، وأما حاطب فكتب إلى المشركين يعلمهم بأخبار النبي عليه السلام ليحفظوه في أهله بمكة وهو مطمئن بالإيمان. وقرأ مجاهد وجابر بن زيد وحميد والضحاك: تقية

29

وهي فعلية، وتقاة: فعله، وهما مصدران. {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} (أي) من نفسه، أي: تركبوا ما نهيتم عنه. قوله: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} الآية. معناه: قل يا محمد للذين نهوا أن يتخذوا الكافرين أولياء {أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين}: إن تخفوا ما في أنفسكم من ولاية الكافرين أو تبدوه فذلك سواء، الله يعلم الجميع فيجازيكم عليه، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء ". قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} الآية. أي: هو على كل شيء قدير ذلك اليوم. وقيل المعنى: واذكر يوم تجد. وقيل (المعنى): ويحذركم الله نفسه يوم تجد.

31

ومعنى {مُّحْضَراً}: موقرا، {أَمَدَاً بَعِيداً} " قال السدي: مكاناً بعيداً ". وقال ابن جريج: أجلاً بعيداً. وقال الحسن: لا يسر أحدكم أن يلقى عمله أبداً. وقال الزجاج معناه: ويحذركم الله إياه، ثم استغنوا عنه بالنفس. وقال غيره: المعنى: عقابه، ثم حذفت. قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} الآية. قال الحسن: قال قوم على عهد النبي A إنا نحب ربنا فأنزل الله: " قل (يا محمد) {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} (كما زعمتم) {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله}. وقيل إنها نزلت في نصارى نجران، وذلك أنهم ادعوا في عيسى A ما

33

اخترقوا، وقالوا: نقوله حباً لله وتعظيماً له فقيل لهم: إن كنتم صادقين في قولكم فاتبعوا محمداً A فيحببكم الله. ثم قال: قل [يا] محمد اطيعوا الله في اتباعي، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به، كله مخاطبة للنصارى من وفد نجران. وعن مالك أنه قال: معناه من أحب طاعة الله أحبه وحببه إلى خلقه. " قوله: {إِنَّ الله اصطفىءَادَمَ وَنُوحاً} الآية. نصب {ذُرِّيَّةً} عند الأخفش على الحال، وعلى القطع عند الكوفيين. وأجاز الزجاج نصبها على البدل مما قبلها فيعمل فيها {اصطفى} والذرية

35

هنا الجماعة، ويقع للواحد، قال الله تعالى: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] فهو واحد كما قال: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5]. فذكر الله في هذه الآية رجلين، وأهل بيتين، وفضلهم على العالمين فمحمد A من آل إبراهيم، وآل الرجل قد يكون أتباعه. قال مالك: [آل محمد A: أهل الاتباع له. وعنه أنه قال]: آل محمد A كل تقي، وهو مروي عن النبي A. ومعنى، بعضها من بعض أي: في الدين والمعاونة على الإسلام والنية والإخلاص. وقيل معناه: متقاربون في النسب مجتمعون. قوله: {إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ} الآية.

المعنى سميع عليم إذ قالت. وقيل: واذكر إذ قالت. وقال أبو عبيدة: {إِذْ} زائدة، وأنكر ذلك جماعة النحويين. وقال الزجاج: المعنى: اصطفى آل عمران إذ قالت. واسم امرأة عمران حنة، وزكريا هو ابن آذر، وعمران هو ابن ماتان وكلاهما من ولد داود النبي من سبط يهود بن يعقوب صلى الله عليهم ويلم أجمعين. وذلك أن زكريا وعمران تزوجا اختين، فكانت أم مريم عند عمران، وأم يحيى عند زكريا، فهلك عمران، وأم مريم حامل بها وكانت في حياة عمران قد أمسك عنها الولد حتى يبست، وكانوا أهل بيت [لهم] عند الله مكان، فبينا هي ذات يوم

في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخاً، فتحركت له نفسها للولد، فدعت الله أن يهب لها ولداً، فحملت ثم مات عمران، فلما علمت أن في بطنها جنيناً حسبته ذكراً فنذرته ليكون حبيساً لخدمة الكنيسة، وقيل: خدمة بيت المقدس. قال الكلبي: لما وضعتها لفتها في خرقتها ثم أرسلت بها إلى بيت المقدس، فوضعتها فيه، فتنافست الأحبار بنو هارون. فقال زكرياء: أنا أحقكم بها عندي خالتها، فذرها لي. فقالت الأحبار: لو تركت لأفقر الناس إليها لتركت لأمها، ولكنا نقترع عليها، فاقترعوا عليها بأقلامهم [التي]، يكتبون بها الوحي، فقرعهم زكريا عليه السلام، واسترضع لها حتى إذا شبت بنى لها محراباً في المسجد على الباب فلا يرقى إليها إلا بِسلم. ومعنى {مُحَرَّراً} عتيقاً لعبادتك لا ينتفع به لشيء من أمور الدنيا.

وقال مجاهد " محرراً خادماً للكنيسة. ونصب {مُحَرَّراً} على أنه نعت لمفعول محذوف أي: غلاماً محرراً. وكانوا إنما يحررون الغلمان، فظنت أنه تلد غلاماً فلما وضعت أنثى قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} تريد أنه إنما يحرر الغلمان للخدمة. وقيل المعنى إن الأنثى تحيض فلا تصلح لخدمة بيتك. ثم دعت لها فقالت: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} فاستجاب الله لها وأعاذها وذريتها منه. وأصل المعاذ: الملجأ والمفعل، والهاء في " وضعتها لما على المعنى. وقيل: لمريم ولم يجر لها ذكر ولكن المعنى مفهوم فحسن. ومن قرأ {وَضَعَتْ} بإسكان التاء ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} فهذا من كلامها، ثم قال تعالى إخباراً منه {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}.

ومن قرأ بضم التاء فليس فيه تقديم ولا تأخير وهذا كله من كلام أم مريم. وقرأ ابن عباس: " وضعتِ " بكسر التاء ومعْناه إنه خطاب من الله لها. قال ابن عباس: ما ولد مولود إلا قد استهل سوى عيسى ابن مريم A فإنه لم يسلط عليه الشيطان لأن الله أجاب دعاء أم مريم في قولها: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} الآية. قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى A أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد انكسرت رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث، فقال: مكانكم، وطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً، ثم طار ثانية فوجد عيسى A قد ولد عند مدوذ حمار، والملائكة قد حفت به، فرجع إليهم فقال لهم: إن نبياً قد ولد البارحة مت حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها

إلا هذه، فيئسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة. وقال النبي عليه السلام " كل آدمي طعن الشيطان في جلده إلا عيسى ابن مريم وأمه جعل بينها وبينه حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ إليهما شيء ". وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من لمس الشيطان إياه إلا مريم وابنها " (ثم) يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}. قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا}: أي: رضيها مكان المحرر {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} من غذائه. وقرأ مجاهد: وتقبلْها بالإسكان، {رَبُّهَا} بالنصب عن النداء و " أنبتها " بكسر الباء والإسكان، و " كفلْها " بالإسكان " زكرياءَ " بالنصب. وقوله: {بِقَبُولٍ} أتى مصدراً على غير المصدر، وكان القياس ضم القاف

كالجلوس، ولكن أتى بالفتح فلا نظير له عند سيبويه. وقال غيره، قد أتى منه الولوع والوجود والسعوط كل مصدر على فعول بالفتح. قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} المد في زكرياء لغة، وزكري لغة، وزكر، وحكى أبو حاتم بغير صرف، وهو غلط عند النحويين لأن ما كانت في هذه الياء. والتخفيف في كفلها على أن زكريا الفاعل. ومن شدد فمعناه كفلها الله زكرياء لأنه تعالى أخرج قلمه إذ ساهم مع أحبار بني إسرائيل عليها من يكفلها. وكان زكريا زوج خالتها. وقيل زوج أختها كان. وامرأة زكريا بني امرأة عمران، فهي أخت مريم.

وروي أن زكرياء كان ابن عم مريم أيضاً. فلما همت بالبلوغ فكانت تخدم في صغرها (مسجد) بيت المقدس، أراد زكريا، أن يكفلها، وقال: هي ابنة عمي، وأختها زوجتي، فلم يتركها له جماعة الأحبار والأنبياء، فتساهموا عليها، وأتوا بسهامهم إلى عين، فطرحوها فيها فغرقت سهامهم كلهم، إلا سهم زكرياء، فضمها زكرياء لنفسه فكانت عنده في غرفة بسلم. وقوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}. قال الضحاك: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وقال ابن إسحاق: كفلها زكرياء بعد هلاك أمها [و] ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، فأصابت بني إسرائيل ضدة، فضعف زكرياء عن حملها فتقارع بنو إسرائيل عليها: من يقوم بها؟ وكلهم يشتكي من الشدة ما يشتكي زكرياء، ولكن لم يكن لهم بد من حملها، فخرج السهم لحملها على رجل نجار من بني إسرائيل يقال له جريج، [فعرفت مريم في وجهه شدة مؤونة ذلك عليه،

فقالت: يا جريج]، أحسن بالله الظن، فإن الله سيرزقنا، فجعل جريج يرزق بمكانها عنده فيأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها، فينميه الله ويكثره، فيدخل عليها زكريا، فيرى عندها فضلاً من الرزق ليس بقدر ما يأتيها به جريج، فيقول: {يامريم أنى لَكِ هذا} أي: من أي وجه لك هذا؟ فتقول: {هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قد تقدم في البقرة تفسير قوله {بِغَيْرِ حِسَابٍ} والاختلاف في ذلك. والمحراب: هو مقدم كل مجلس ومصلاه. وهو أيضاً: المكان العالي. فلما رأى زكرياء من الله لها ما رأى، طمع بالولد مع كبر سنه من المرأة العاقر فدعا الله في الولد من ذلك الوقت، وهو قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فبشر وهو يصلي بالمحراب. وقيل: بشر يحيى بعد أربعين سنة من وقت دعائه ولذلك قال عند البشارة: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} لأنه نسي دعاءه لطول المدة التي بين الدعاء والإجابة.

والمحراب: المسجد، وهو الآن مقام الإمام في المسجد. وقال الطبري: المحراب: " مقدم كل مجلس ومصلى " وهو سيد المجالس وأشرفها وأكرمها. والذرية في هذا الوضع: الولد، ويكون في غيره للجميع. قوله: {مِن لَّدُنْكَ} أي: من عندك. ومعنى: {طَيِّبَةً} زكية مباركة. {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} أي: تسمع من دعاك. قوله: {فَنَادَتْهُ الملائكة}. قال قتادة وغيره: جبريل ناداه. وأكثر الناس على أن الجماعة من الملائكة نادوه.

ومن أنَّثَ فلتأنيث الجماعة ومطابقة اللفظ. ومن ذَكَّر فعلى المعنى، ولتذكر الجمع. ومن كسر (إن) أجرى النداء مجرى القول. [وفي قراءة عبد الله: يا زكريا إن الله، فهذا يدل على إضمار القول]. ومن فتح: أعمل النداء لأنه فعل. وسمي بيحيى لأن الله أحياه بالإيمان. قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}، أي: بعيسى ابن بنت خالته ". وقيل: بابن خالته هو.

قال الضحاك وغيره، كان أول من صدق بعيسى يحيى. قال ابن عباس: كانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، فذلك تصديقه بعيسى وتقدمه في ذلك، ويحيى أكبر من عيسى. وقال أبو عبيدة: {بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله}، أي: بكتاب من الله وأكثر المفسرين على أن الكلمة عيسى. وسمي كلمة لأن الناس يهتدون به. ويجوز أن يكون سمي كلمة لأنه من غير ذكر بقوله: " كن " أي: فهذه الكلمة. والسيد: الشريف في العلم والعبادة. وقال الضحاك: السيد الحليم التقي. وقال مجاهد السيد: الكريم.

وقال عكرمة، وابن زيد: (السيد) الذي لا يغلبه الغضب {وَحَصُوراً} ممتنعاً من جماع النساء لا يشتهيهن. وقيل: الحصور الذي لا يولد له، وليس له ماء. وقيل: الهيوب. وقال ابن عباس: هو الذي لا ينزل الماء. وقال ابن المسيب: كان يحيى حصوراً معه مثل الهُدْبَة. وقيل: الحصور هنا هو الذي لا يأتي الذنوب كأنه محصور عنها أي: ممنوعاً منها.

قال مالك: بلغني أن يحيى إنما قتل في امرأة، وأن بختنصر لما دخل بيت المقدس بعد زمان طويل، وجد دمه يفور لا يطرح عليه تراب ولا شيء إلا فار فسأل بني إسرائيل عن ذلك فقالوا: لا علم لنا، هكذا وجدناه، وأخبرنا آباؤنا بأنهم هكذا وجدوه، فقال بختنصر: هذا دم مظلوم، ولأقتلن عليه، فقتل عليه سبعين ألفاً من المسلمين والكفار، فهدأ بعد ذلك. وروي أن امرأة كانت طلبته فامتنع، فاشتكت إلى صاحبها أنه طلبها فقتله. وروي أن جباراً من الجبابرة استفتاه: هل يتزوج بنت أخيه؟ فمنعه من ذلك، فسعت ابنة أخيه في قتله فقتل بها. قال ابن شهاب: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى. قال مجاهد: كان طعام يحيى العشب، وإن كان ليبكي من خشية الله ما لو كان القار على عينيه يحرقه، ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في خدِّه. وقال أبو عبيدة، الكلمة هنا: الكتاب يعني التوراة، ولا يجوز أن يكون

عيسى كلمة الله على الحقيقة لأنه مخلوق، وكلمة الله غير مخلوقة. قوله {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي: من أي وجه وأنا كبير {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} أي: بلغته {وامرأتي عَاقِرٌ}. والعلة التي من أجلها سأل زكريا فقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} فإنه روي أنه لما سمع نداء الملائكة بالبشارة أتاه الشيطان فقال: إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان، فسأل عندما لبس عليه ليتثبت لا على طريق الإنكار بقدرة الله ولا لاعتراض لما يورد الله سبحانه وتعالى عن ذلك. وقال: لما سأل (عن ذلك) ليعلم هل من زوجته العاقر يكون ذلك، أو من غيرها؟. وقيل: إنما سألأ عن ذلك عن طريق التواضع والإقرار فكأنه يقول: بأي منزلة أستوجب هذا عندك يا رب. . .! وقيل: إنما سأل: هل يرزق ذلك وهو شيخ وامرأته عاقر، أو يرد شاباً، وامرأته

41

كذلك سالمة من العقم؟ أم يرزقان ذلك على حالتهما؟ فأجابه الله فقال {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}، أي: يولد العاقر والشيخ فلا يتعذر عليه شيء أراده. وقيل: إنما سأل لأنه نسي دعاءه بأن يهب له غلاماً، وكان بين دعائه والبشارة بيحيى أربعين عاماً. قوله: {قَالَ رَبِّ اجعل [ليا] آيَةً}. . . الآية. معناه: قال زكريا: رب كان هذا الصوت من عندك فاجعل لي علامة تدل على أن ذلك من عندك، فجعل الله آيته أن منعه من الكلام ثلاثة أيام إلا إيماء أو إشارة. قال قتادة: عوقب بذلك لسؤاله بعد مشافهة الملائكة بالبشارة فسأل الآية على ذلك. ويروى أن لسانه ربا في فيه حتى أطلقه الله بعد ثلاث. وأكثرُ أهل التفسير على أن الله جعل احتباس لسانه عن الكلام علامة يعلم بها الوقت الذي يهب له فيه الغلام، وليس بعقوبة.

والرمز: الإشارة بالعينين والحاجبين. وقيل: هو تحريك الشفتين من غير صوت. وقال الضحَّاك: هو تحريك اليدين. وقرأ علقمة بن قيس " إلا رُمُزا " بالضم فيهما. وقرأ الأعمش " رَمَزا " بفتحتين، وهما اسمان. وقراءة الجماعة على المصدر. وقيل: إنما منعه الكلام وهو يقدر على ذلك، وأباح له الإشارة باليد، أو بالرأس، ثم نسخ الله ذلك بقول النبي " لا صمت يوماً إلى الليل " وهذا على قول

من أجاز النسخ القرآني بالسنة. وقيل: إنما منع النبي الصمت عن ذكر الله، فأما عن الهدر، وما لا فائدة فيه' فالصمت عنه حسن. ودل على هذا القول أمره تعالى [زكرياء] بالذكر والتسبيح فلو منعه الكلام كافة لم يأمره بالذكر والتسبيح اللذين لا يكونان مع الآفة. وقد قال: إنها آفة دخلت عليه في الثلاثة الأيام، جماعة من المفسرين. وقيل: فعل به ذلك عقوبة له إذ سأل فقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} وهذا قول مرغوب عنه. ومعنى: " [و] سبح " نزه ربك من السوء بالعشي والإبكار. وقرىء {بالعشي والإبكار} جمع بكر. والكسر مصدر أبكر.

42

وفي زكريا أربع لغات " زكرياء ممدود ومقصور وقد قرئ بهما وزكري مشدد الياء معرب، وزكري مخفف الياء. قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم. . .} الآية (إذ) عطف على ما تقدم. وقيل: المعنى واذكر إذ قالت. {اصطفاك} اختارك، {وَطَهَّرَكِ} " أي: طهر دينك من الريب والشكوك، وقاله مجاهد وقيل معناه: طهرك من الحيض والنفاس. {واصطفاك على نِسَآءِ العالمين} أي اختارك على نساء عالم زمانك. وقيل {على} جميع العالم وذلك بعيسى إذ ولدته من غير ذكر. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين ".

44

وروي عن أنس بن مالك أنه قال " خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ( A) . ومعنى {اقنتي}: أخلصي الطاعة. وقيل معناه: أطيعي القيام والركوع. وقال النبي عليه السلام " أفضل الصلاة طول القنوت " أي: القيام. وقال مجاهد: لما قيل لمريم ذلك قامت حتى ورم قدماها. قوله: {" ذلك " نُوحِيهِ إِلَيكَ} الآية. أي هذه الأشياء التي أخبرناك بها من الغيب الذي كنت لا تعلمه، وهو أدل ما يكون على نبوتك، إذ لست ممن يقرأ الكتب وتخبر بما فيها، ولا صاحبت أهل الكتاب فتنقل عنهم، إنما ذلك عندك بوحي من عندي.

45

قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. معناه ينظرون أيهم كما تقول: اذهب، فانظر أيهم قائم {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} أي: سهامهم على مريم من يكفلها. وقال ابن عباس: اقترعوا بأقلامهم التي [كانوا] يكتبون [بها] الوحي، فقرعهم زكرياء، فما كنت يا محمد عندهم في جميع ذلك فإخبارك بما لم تشهده دليل على صدقك في النبوة وأنه وحي من عندي. وقال عكرمة: ألقوا أقلامهم في الماء فذهب [ت] أقلامهم مع الجرية، وأصعد قلم زكرياء يغالب الجرية فذهب [ت] بأقلامهم غير قلم زكرياء، فكفلها. وقيل: هي أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة. وقيل: هي السهام التي يقترع بها. قوله: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم} الآية معناه: لم تكن يا محمد عندهم إذ

يختصمون في أمر مريم من يكفلها حين قالت الملائكة. وقيل: المعنى وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة كذا وكذا إذ يختصمون، فلم تكن يا محمد عندهم وقت بشارة الملائكة لمريم، وما قالت وما قيل لها، فإخبارك به يصحح دعواك في نبوتك. ومعنى {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} هو بشارته التي بشرت بها مريم. وقيل: {بِكَلِمَةٍ [مِّنْهُ]} هو قوله {كُنْ} فسماه كلمة لأنه عن كلمته (كان). وقال ابن عباس: الكلمة هو عيسى اسم له. والهاء في {اسمه} تعود على الكلمة لأنها عيسى في المعنى. وفي الظاهر على قول ابن عباس. والمسيح: فعيل: فنقول في مفعول: أصله ممسوح أي: مسحه الله فطهره من الذنوب. وقيل: مسحه بالبركة.

47

وقيل: مسح بدهان كانت الأنبياء تمسح به، فيعلم أنها أنبياء. وقال النخعي: المسيح الصّدِّيق وقيل: سمي المسيح لأنه كان إذا مسح بيده على أهل العاهة أفاقوا كما ذكر الله فيكون فاعلاً غير منقول عن مفعول. وذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه قال: المسيح تفسيره الملك. وفسره ابن حبيب فقال: سمي ملكاً لأنه ملك إبراء الأكمه والأبرص وأحيى الموتى، وغير ذلك من الآيات. قوله: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}. أي: من أين يكون لي ولد؟ أمن بعل أتزوجه، أم تبتدئ [خلقه] من غير بشر أتزوجه؟، فأعلمها الله أنه يخلق ما يشاء، فيعطي الولد من غير فحل لك، ويحرم ذلك نساء العالمين، وإذا أراد أمراً {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، والهاء في " له " تعود على الأمر. [وقيل المعنى: فإنما يقول (له) من أجله {كُنْ فَيَكُونُ} أي: من أجل، الأمر]

الذي يقضي به ويريد. قال ابن عباس: وضعت مريم عيسى عليه السلام لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من (ولد) لثمانية أشهر. قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} أي: يكتب بيده، {والحكمة}: السنة التي توحَى إليه، {والتوراة}: هي التي أنزلت فبله على موسى عليه السلام و {والإنجيل} أي: الكتاب الذي أنزل عليه، ولم يعطه أحد قبله، وتعليمه إياه إلهام منه إليه بذلك، و {رَسُولاً} أي: ويجعله رسولاً، فالابتداء به حسن وقيل المعنى: ويكلمهم رسولا وقيل: هو معطوف على وجيه، فالابتداء به على ذلك. ومن فتح {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} فهو متعلق برسول، أي: فإني قد جئتكم بآية تصدقني أني رسول.

والآية بمعنى الآيات، وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وإحداث الطير من الطين. وغير ذلك من: الإنجيل وغيره. قوله: {أني أَخْلُقُ} من فتح أني جعلها بَدَلاً من (أن) الأولى، وإن شئت بدلاً من (آية)، (و) إن شئت على إضمار هي فتكون أن في موضع رفع. وقرأ يزيد بن القعقاع (أخلق لكم من الطين كهيأة الطائر) فيكون طائراً. وقال ابن اسحاق: حبس [عيسى] عليه السلام يوماً مع غلمان في الكتاب [فأخذ طيناً]

ثم قال: أجعل لكم هذا الطين طائراً؟ قالوا: وتستطيع ذلك؟ قال: نعم، بإذن الله ربي، قال: ثم هيأه حتى إذا صار في هيأة الطائر نفخ فيه، ثم قال كن طائراً بإذن الله، فخرج يطير بإذن [الله] بين كفيه فذكر الغلمان ذلك لمعلمهم فأفشوه في الناس، وترعرع، فعمت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمير ثم خرجت به هاربة. قال ابن جريج وغيره: قال لهم: أيُّ الطير أشد خلقاً؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم، ففعل مثله من الطين، وقال في هذه الصمورة {فَأَنفُخُ فِيهِ} رده على الطير، وفي المائدة {فَتَنفُخُ فِيهَا} [المائدة: 110] رده على الهيأة، ويجوز رد الهاء في هذه السورة] على الهيأة لأنها

(بمعنى) المثال والشبه، وتأنيثها غير حقيقي ولا سلطت لا في نسخ. ولا يجوز في سورة المائدة رجوع الهاء على الطير لأنه اسم جمع. وقوله: {وَأُبْرِىءُ الأكمه}. قال مجاهد: هو الذي يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار. وقال الأوزاعي: هو الذي لا يبصر بالليل، وهو الذي به عشى. وقال قتادة: هو الذي ولد أعمى، وكذلك قال أكثر المفسرين. وعن ابن عباس وغيره: هو الأعمى حَدَث به ذلك، أو ولد [به] وقال عكرمة: هو الأعمش. وقال وهب: كان عيسى عليه السلام قد هربت [به] أمه إلى أرض مصر من قومها

فلما بلغ اثني عشر سنة أوحى الله D إليها أن انطلقي إلى الشام، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة، جاءه الوحي على رأس الثلاثين فكانت نبوته ثلاثين سنة، ثم رفعه الله إليه. وقد روي عن النبي E: " أنه نعى نفسه لفاطمة حين بلغ سنّة ستين سنة وقال: " ما من نبي إلا يعمر مثل نصف عمر من قبله (و) أن عيسى عمّر مائة سنة وقد بلغت ستين سنة وما أراني إلا ميتاً في هذا العام " أو كلام هذا معناه " ". قال وهب: ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفاً من أطاق أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، فكان عيسى يداويهم بالدعاء وكان يُحْيي الموتى.

قوله {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ}. أصل تدخرون: تفتعلون من ذخرت، فلما اختلف الحرفان، بأن كانت الذال حرفاً مجهوراً، والتاء حرفاً مهموساً أبدل من التاء حرفا مجهوراً يشبه الدال في الجهر، ويقرب منها في المخرج وهو الدال، ثم ادغمت الذال في الدال. قال ابن إسحاق: لما بلغ [عيسى] تسع سنين أو عشراً، أدخلته أمه الكتاب، فلا يذهب المؤدب يعلمه شيئاً إلا بادره عيسى A قبل أن يعلمه إياه، فيقول المؤدب ألا تعجبون لابن هذه الأرملة، أذهب أعلمه شيئاً إلا وجدته أعلم به مني. قال ابن جبير وغيره: كان يخبر الصبيان بما صنع في بيوتهم وبما صنع آباؤهم، ويقول يا فلان: إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من طعام، ويقول للصبي: انطلق فإن أهلك يأكلون كذا وكذا، ويقول: إنطلق فقد خبأ لك أهلك كذا وكذا. فينطلق

الصبي يبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء، فيقولون له: من أخبرك بهذا فيقول: عيسى. فلما رأى ذلك بنو إسرائيل قالوا لأولادهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر، وحبسوا أولادهم عنه، فجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام (يطلبهم فقالوا: ليس هم هنا، فقال عيسى عليه السلام): وما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير! فقال عيسى عليه السلام: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير، فذلك قوله (تعالى): {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78] قال قتادة: معنى قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} ذلك في أمر المائدة التي نزلت عليهم كانت خواناً تنزل أين ما كانوا بثمر من ثمار الجنة، وأمروا ألا يخونوا فيه ولا يدخروا لغد، ابتلاهم الله بذلك فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئاً، وادخروا لغد انبأهم عيسى A به، فهو قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ} أي: من المائدة التي نهوا عن ادخار ما

ينزل عليهم فيها. وقرأ مجاهد والزهري تدخرون، بدال مخففة. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً}، أي: في جميع ما ذكر آية، أي: في نبوة عيسى. وقوله {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} أي: ما قبلي من التوراة إيماناً بها، وتصديقاً بما فيها، وإن كانت شريعته تخالفها فإنه، ونحن مؤمنون بما صح منها، ولم يبدل ولم يغير على أن عيسى A كان عاملاً بالتوراة لم يخالف فيها شيئاً إلا ما خفف الله أشياء كانت حراماً فيها وهو قوله {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} وذلك أنه حلل لحوم الإبل والثروب وأشياء من الطير والحيتان كانت في التوراة محرمة. واللام متعلقة بفعل محذوف والمعنى، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم. وكان أبو عبيدة يجيز أن يكون البعض هنا بمعنى الكل، وهذا يوجب أن يحل لكم القتل والسرق والزنى وغيره لأن كل ذلك كان محرماً عليهم في الوراة، فلا يجوز

52

ما قال، ولا وجه له في العربية ولا في المعنى. وقد قيل: إنما أحل لهم عيسى A أشياء حرمتها عليهم الأحبار لم تكن محرمة في التوراة، فهو غير مخالف للتوراة. وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم ذنوب اكتسبوها ولم يكن في التوراة تحريمها نحو: أكل الشحوم وكل ذي ظفر. قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} أي: بعلامة تعلمون بها أني صادق فيما أقول لكم {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}. قوله: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر. . .} الآية معناه: فلما (علم) عيسى A أنهم يريدون قتله وأحس بمعنى: وجد وعلم برزية أو غيرها. يقال: أحس الأمر إذا علمه، وحس القوم قتلهم، والحس حس الدابة من الغبار، والحس ضد البرد.

وقيل معناه: فلما علم عيسى A الجحود به، والتكذيب له. {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي: من أعواني على هؤلاء (مع الله). وإلى بمعنى: " مع ". وكان من قصة عيسى A ما حكاه السدي في حكاية طويلة نذكر معناها مختصراً، قال: كذبت بنو إسرائيل عيسى A، وأخرجته حين دعاهم إلى الإيمان به، فخرج هو وأمه، فنزل على رجل، فأضافهما وأحسن إليهما، وكان على تلك المدينة جبار معتد (فجاء) صاحب البيت يوماً وعليه، حزن وهم، فقالت مريم لزوجته: ما شأن زوجك؟ أراه حزيناً؟ فأبت أن تخبرها بشيء، فقالت لها مريم: أخبريني لعل الله D يفرج كربته، قالت المرأة لمريم: إن لنا ملكاً جباراً يجعل على كل رجل منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وقد بلغت نوبته اليوم علينا [وليس معنا سعة، فقالت مريم لها: فقولي له: فلا يهتم فإني آمر لبني [أن] يدعو له، فَيُكْفَى]. فقالت مريم لعيسى A في ذلك، فقال عيسى A: " يا أمه إني إن

فعلت كان في ذلك شر، قالت: فلا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا، فقال عيسى A فقولي له: إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني، فلما ملأهن أعلمه فدعا عيسى A الله D فحول ما في القدور لحماً ومرقاً وخبزاً وما في الخوابي خمراً لم ير مثله، فلما جاء الملك أكل وشرب فقال: من أين لك هذا؟ وتقصى عليه حتى أخبره فقال: عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه وأنه دعا الله حتى جعل الماء خمراً، وكان قد توفي للملك ابن، فقال: إن رجلاً دعا الله حتى رد الماء خمراً ليستجيبن له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى A، فكلمه وسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه - فقال عيسى A: " لا تفعل [فإنه إن] عاش كان شراً، فقال الملك: لا أبالي أراه فقط، فاشترط عليه عيسى A أن يحيي ولده، ويتركه هو وأمه يخرجان فشرط له ذلك فدعا الله تعالى، فقام الغلام، وانصرف عيسى A. فلما رأى أهل المملكة الغلام عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: قد أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه، فاقتلوه. ومر عيسى A وأمه فصحبهما يهودي وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى A رغيف فقال له عيسى A: تشاركنا؟ فقال اليهودي: نعم، فلما رأى اليهودي أن ليس مع عيسى إلا رغيف ندم فلما نام جعل اليهودي يأكل الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى A: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء حتى

فرغ [من] الرغيف كله، فلما أصبحا قال له عيسى A: طعامك فجاء برغيف، فقال له عيسى A: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد. ثم انطلقوا حتى مروا براعي غنم فقال عيسى A: يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك، قال الراعي: نعم، أرسل صاحبك يأخذها: فأرسل عيسى A اليهودي فجاءه بالشاة، فذبحوها وشووها ثم قال لليهودي: كل ولا تكسر عظماً. فأكلوا حتى شبعوا فرد عيسى A العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه، وقال: قومي بإذن الله. فقامت الشاة، فقال: يا صاحب الغنم: خذ شاتك فقال له الراعي: من أنت؟ قال: أنا عيسى إبن مريم، قال له: أنت الساحر، وفر منه، فقال عيسى A لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدما أكلناها، كم كان معك رغيفاً؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد. فمروا بصاحب بقر، فسأله عيسى A عجلاً فأعطاه عجلاً فذبحه، وشواه وأكله، وصاحب البقر ينظر، ثم جمع عيسى A العظام في الجلد وقال: قم بإذن الله، فقام وله خوار، فقال: يا صاحب البقر، خذ عجلك فقال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى، قال: عيسى الساحر، ثم فر منه، فقال عيسى A لليهودي: بالذي أحيى الشاة بعدما

أكلناها، والعجل بعدما أكلناه، كم كان معك رغيفاً؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. ثم انطلقا حتى أتيا قرية، فنزل عيسى A في أسفلها واليهودي في أعلاها، فأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى A وقال: أنا أحيي الموتى وكان يملك تلك القرية مرض شديد فانطلق اليهودي ينادي من يبتغي طبيباً؟ حتى أتى باب الملك، فأخبر بمرض الملك فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، فدخل عليه فأخذ برجله، وضربه بالعصا كما كان عيسى A يفعل، فمات الملك من الضربة فأخذ اليهودي ليصلب فبلغ عيسى A الخبر، فأتى ووجده قد رفع على الخشبة [فقال]: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركو لي صاحبي؟ قالوا: نعم، فأحيى عيسى A الملك، وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة، والله لا أفارقك أبداً، قال له عيسى A: أنشدك بالذين أحيى الشاة والعجلة بعدما أكلناها وأحيى هذا بعد [ما] مات، وأنزلك من الجذع بعدما رفعت عليه كم كان معك رغيفاً؟ فحلف اليهودي بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا حتى مرَّا على كنز قد حفرته السباع فقال اليهودي: يا عيسى هذا المال؟ فقال له عيسى A: دعه فإن له أهلاً يهلكون عليه وجعل اليهودي يتشوق إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى A، فانطلقا.

ومر بالمال بعدهما أربعة نفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه فقال اثنان لصاحبهما: انطلقا فابتاعا لنا طعاماً ودواباً نحمل عليها هذا المال، فانطلق الرجلان فابتاعا ذلك فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن تجعل لصاحبينا في طعامهما سماً؟ فإذا أكلا ماتا، فيصير المال بيني وبينك، فقال الآخر: نعم، ففعلا، وقال الآخران الباقيان مع المال: إذا أتى صاحبانا فليقم كل واحد منا إلى صاحبه فيقتله فيكون الطعام والمال بيننا، فاتفقا على ذلك. فلما جاء صاحباهما، قتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا، فرجع عيسى A إلى المال فوجد القوم عليه موتى، فقال لليهودي: أخرجه حتى نقسمه، فأخرجه اليهودي فجعل عيسى A يقسمه على ثلاثة، فقال اليهودي: اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت، ما هذه الثلاثة؟ فقال له عيسى A: هذا لي، وهذا لك، وهذا لصاحب الرغيف، قال اليهودي: وإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال؟ قال [عيسى] A: نعم، قال: أنا هو، فقال له عيسى A: خذ حظي وحظك، وحظ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة، فلما حمله مشى [به] شيئاً

فخسف به. وانطلق عيسى A فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك فأعلمهم بنفسه فآمنوا به وانطلقوا معه فذلك قوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله}. وقيل: إنما سموا حواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين. وقيل: سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب. وقيل: كانوا غسالين يغسلون الثياب. وقال قتادة: " الحواريون خاصة الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة. وقال الضحاك: الحواريون الأصفياء الأنبياء صلوات الله عليهم. وروي أن مريم دفعت عيسى A في صغره في أعمال شتى، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يبيضون الثياب، ويصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألأواناً شتى من ماء واحد فآمنوا به واتبعوه.

وروي أنه أدخل ثياباً كثيرة بيضاء في خابية واحدة وخرجت مختلفة الألوان كما أرادوا، فعجبوا من ذلك، وأيقنوا أنه ليس بسحر فآمنوا [به] واتبعوه. قوله: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} هذا قول الحواريين لعيسى A، فدل ذلك أن عيسى A كان على ذلك، لا على اليهودية ولا على النصرانية ولكن كان مسلماً وكذلك برأ الله إبراهيم A من سائر الأديان إلا من الإسلام. قول: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي: أثبت أسماءنا مع أسماء من يشهدون بالحق، وأقروا بالتوحيد، واجعلنا في عددهم وهذا كله احتجاج على أهل نجران الذين خالفوا النبي A في أمر عيسى A، فأخبروا أن قول من اتبع عيسى كان خلاف قولهم. وقال ابن عباس: (اكتبنا مع الشاهدين)، قال مع محمد A، وأمته الذين شهدوا له أنه ققد بلغ الرسالة، وشهدوا للرسل عليهم السلام أنهم قد بلغوا. وقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله}: هذا إخبار عن الذي أَحَسَّ عيسى منهم الكفر وهو ما اجتمعوا عليه من قتل عيسى A، وتكذيبه فيما أتى به، فمكرهم هو ما نووا من قتله، ومكر الله سبحانه ما ألقى من الشبه على بعض أتباع عيسى A حتى قتله الماكرون يظنونه عيسى A، ثم رفع الله عيسى A.

وقيل المكر من الله جل ذكره الاستدراج والإمهال، وذلك أن بني إسرائيل حصروا عيسى A، ومعه تسعة عشرة رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه، من يأخذ صورتي فيقتل وله جنة؟ فأخذها رجل منهم ورفع الله عيسى إلى السماء ثم خرج الحواريون فأخبروا أن عيسى A رفع إلى السماء فجعلوا يعدون القوم فيجدونهم ينقصون رجلاً من العدة ويرون، صورة عيسى A فيهم فشكوا فيه، فقتلوه وصلبوه يرون أنه عيسى A، ويروى أن اليهود كفروا بعيسى A، وهموا بقتله، وكان مع عيسى رجل من اليهود آمن بعيسى فدل على عيسى فحوله [الله] في صورة عيسى، فأخذه بنو إسرائيل، فقتلوه، وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى A، فذلك قوله: {ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}. والمكر: الحيلة، المكيدة، والمكر من الله سبحانه عقوبة، وجزاء من حيث لا يعلم العبد. قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} قيل هي وفاة نوم.

{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في نوم قال ذلك الربيع. وقيل معناه إني قابضك من الأرض حياً ورافعك إلي، وذلك أن عيسى لما رأى كثرة من كذبه، وقلة من اتبعه شكا ذلك إلى الله D، فأوحى الله إليه {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}. وقال النبي عليه السلام: كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها. وقال كعب: (يبعث) عيسى A على الأعور الدجال فيقتله ثم يعيش بعد ذلك أربعاً وعشرين سنة ثم يموت ميتة الحي. وحكي أن الله تعالى أوحى ذلك إلى عيسى A مع قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقال ابن زيد في قوله: {تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً} أن كلامه وهو كهل حين ينزل

بقتل الدجال. وقيل معنى {مُتَوَفِّيكَ}: قابل عملك ومتقبله منك. وقال ابن عباس، معنى {مُتَوَفِّيكَ} هي وفاة موت (يعني) بعد نزوله من السماء. وقال وهب بن منبه: توفي عيسى A ثلاث ساعات ثم أحيي ورفع. والنصارى يزعمون أنه توفي سبع ساعات من النهار، ثم أحياه ورفعه. وقيل: 'ن الكلام تقديماً وتأخيراً. والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك. وذلك إذا نزل لقتل الدجال في الدنيا، والواو يحسن فيها ذلك.

وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: الأنبياء أخوات لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى لأنه لم يكن بيني [وبينه] نبي وأنه خليفتي على أمتي، وأنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن شعره يقطر وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب، ويقتل الخنزير ويقبض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله الملل كلها، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذَّاب، وتقع في الأرض الأمنة حتى ترتع الأسد مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان مع الحيات، لا يضر بعضهم بعضاً، يلبث في الأرض [أربعين سنة] ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ}: هذا خطاب لعيسى A وأمته، جعلهم الله تعالى فوق اليهود: في النصر والحجة والإيمان بعيسى والتصديق به وقول الحق فيه. وقيل: هو خطاب لمحمد A. قوله: {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا} هو القتل والسبي وأداء الجزية {والآخرة} هو

عذاب النار. قوله: {ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ}: الإشارة إلى ما تقدم من ذكر قصص الأنبياء والحجج {والذكر} القرآن {الحكيم} المحكم أي: ذو الحكمة. قوله {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ. . .} (و) هذا احتجاج على نصارى نجران، الذين خاصموه في عيسى وقالوا للنبي: بلغنا أنك تذكر صاحبنا، وتأول أنه عبد، قالوا له: هل رأيت عيسى؟ فأنزل الله {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} الآية. . أي: خلق هذا من غير ذلك وهذا كذلك. وقيل: إنهم قالوا للنبي A: كل إنسان له أب فما شأن عيسى A ليس له أب فأنزل الله D هذه الآية: وقوله {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} ابتداء المماثلة، وليس بمتصل بآدم A إنما هو تبيين قصة آدم A، لأن الماضي لا يكون حالا. قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} قال بعض أهل المعاني: إن هذا الكلام أتى على خبرين منفصلين، ولو كان على

خبر واحد لكان خلقه له من تراب بغير {كُن} ويكون خلقه بـ {كُن} بعد خلقه له من تراب، وليس الأمر كذلك إنما أخبر تعالى أنه خلق آدم عليه السلام من تراب ثم أخبر آخر أنه قال له: {كُن} فكان، أي: قال له: كن خلقاً من تراب فكان ما أراد لأنه خلق من تراب بغير كن، فما يصنع بقوله تعالى {لِمَا خَلَقْتُ [بِيَدَيَّ]} [ص: 75]، ثم قال له {كُن} بعد خلقه له من تراب على ما أراد بعد قوله كن، ولهذا نظائر كثيرة. وأبين هذا أن يكون المعنى: قد قدر خلقه من تراب فلما أراد تعالى ذكره إظهار ما قدر قال: {كُن} فكان ما قدر بقوله {كُن}. قوله: {الحق مِن رَّبِّكَ} أي: هو الحق، أي هذا الذي أنبأتك به هو الحق {فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} أي: الشاكين ومعناه: قل يا محمد للشاكين في ذلك (لا تكن من الممترين).

وقيل: هو خطاب لجميع الناس، وظاهر الخطاب للنبي A والمراد غيره. قوله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ} أي: في عيسى وقيل في الحق الذي ذكر، {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} أي من بعدما بين لك فادعوهم إلى المباهلة، ومعنى نبتهل أي نجتهد في الدعاء باللعنة {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله} على من كذب في أمر عيسى A. قوله: {وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} أي: أهل ديننا ودينكم فرضوا بالجزية وبأشياء شرطها عليهم يؤدونها. وروي أنهم قالوا: نباهلك فأخذ النبي A بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، فلما رأوا ذلك نكصوا وعلموا أن اللعنة عليهم واقعة، فرضوا بالجزية ولم يباهلوا. وروي أن رئيسهم العاقب قال لهم: قد علمت أنه نبي وما لاعن نبي قوماً فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن فعلتم فهو استئصال، فوادعوا محمداً وانصرفوا إلى بلادكم فرضوا بالجزية، وبعث معهم النبي A أبا عبيدة بن الجراح ولم يباهلوه.

64

قال ابن عباس: لو باهلوه لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا ولداً. قوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} أي: إن الذي أنبأتك به في أمر عيسى A أنه رسول، وكلمته ألقاها الله D إلى مريم: هو الحق {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} هذا رد على من جعل عيسى إله من أهل نجران وغيرهم. قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب تَعَالَوْاْ} الكلمة {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وما بعده. وقيل: الكلمة لا إله إلا الله والسواء: النَصَفَة والعدل والقصد. ونزلت هذه الآية فيمن كان حول المدينة من اليهود، وهم الذين حاجوه في إبراهيم A. وقيل: نزلت في الوفد من نصارى نجران لأنه دعاهم فأخبرهم بالقصص الحق في أمر عيسى A، فأبوا أن يبلوه، فأمر أن يدعوهم إلى المباهلة فأبوا، فأمر أن يدعوهم إلى ما ذكر آخراً فأبوا، فأمر الله المؤمنين أن يقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون.

65

وإن في موضع خفض على البدل من (كلمة). وقيل: هي في موضع رفع، وذلك على التأويل الأول أي: هي ألا نعبد، ولا نفعل، ولا نصنع. {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً}: هو طاعة العوام الرؤساء فيما يأمرونهم به من المعاصي كما قال {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] يأمرونهم بالمعصية وينهونهم عن الطاعة فيسمعون ويطيعون. وقيل {أَرْبَاباً}: هو سجود بعضهم لبعض قاله عكرمة. وقيل معناه: لا نعبد عيسى من دون الله كما عبدت النصارى، ولا عزيراً كما عبدت اليهود، ولا الملائكة كما عبدت جماعة المشركين، ولا نقبل من الرهبان تحريمهم علينا ما لم يحرمه الله كما فعلت اليهود والنصارى والمشركون. قوله: {يا أهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} هذا خطاب لليهود والنصارى ولأنهم ادعاه كل فريق منهم، وأنه على دينهم فرد الله ذلك عليهم، وأراهم المناقضة فيما يدعون لأن اليهود تدعي أنه على ما في التوراة دينه، والنصارى تدعي أنه على ما في الإنجيل دينه، وفي الكتابين إنما أنزل بعد إبراهيم A فهذا تناقض أن يكون دينه على شيء لم يكن بعده.

66

وذلك أن نصارى نجران وأحبار يهود اجتمعوا على النبي A فتنازعوا في أمر إبراهيم A، فادعاه كل فريق منهم، فأنزل الله ذلك يعلمهم أن اليهودية والنصراينة إنما حدثت بعد إبراهيم فكيف يكون على دين لم يكن، ولا أوله أن يكون، فذلك جهل عظيم، ولذلك قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. قوله: {هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ. . .}. معناه: أنتم القوم الذين خاصمتم فيما لكم به علم من أمر دينكم، وما لحقتم من زمانكم، وجاز ذلك بينكم، فلم تخاصمون فيما لا علم عندكم فيه؟ وهو دين إبراهيم A، ولم يكن في زمانكم. {والله يَعْلَمُ} أي: يعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك فتخاصموه فيه. قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً. . .}. ذلك رد لقولهم وادعائهم {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً} أي: حاجاً وأصل

الحنف: (إقبال صدر الرجل على الأخرى إذا كان ذلك خلقة)، فالحنيف: المائل إلى الإسلام. والمسلم: المتذلل لأمر الله D. فأما معنى قوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} [المائدة: 44] {الذين أَسْلَمُواْ} [المائدة: 44] ولا يكون نبي إلا مسلم فإنه يريد النبيين الذين استسلموا أو سلموا لما في التوراة من أحكام الله D التاركون التعقب وكثرة السؤال عما فيها. وروي أن عزيراً أكثر السؤال عن القدر، فمحي من ديوان النبوة. ومن هذا قول ابراهيم A: { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ} [البقرة: 128]. أي: مسلمين لأمرك،

68

منقادين لحكمك بالنية والعمل وكذلك {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 128] أي: [انقدت لأمره]. قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه}. أي أخفهم بولايته ونصرته من اتبع دينه {وهذا النبي} هو محمد A { والذين آمَنُواْ} أي: الذين صدقوا محمداً A، وقال النبي A: " لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليلي إبراهيم A " ثم قرأ الآية " ". قوله: {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب}. أي: جماعة من أهل نجران ومن اليهود لو يصدونكم عن الإسلام فتهلكوا، وما يُهلكون إلا أنفسهم أي أتباعهم وأنفسهم وكلهم يود ذلك، و [من] ليست للتبعيض، وإنما هي للإبانة والجنس. ومعنى {وَمَا يَشْعُرُونَ} (ليس هو أنهم يجهلون ما يفعلون فيكون ذلك عذراً لهم

70

وإنما معناه وما يشعرون) أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين. وقيل: معناه، وما يشعرون بصحة الإسلام. وقيل: عنى به قريظة، والنضير، وبنو قينقاع. قوله {يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} أي بالتوراة والإنجيل {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، هذا توبيخ لهم، لأنهم جحدوا نبوة محمد A، وهم يعلمون أنه نبي مكتوب عندهم في كتابهم في التوراة والإنجيل، فهو قوله {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي: تشهدون أنه نبي حق، ثم تكفرون حسداً وبغياً. وقيل: المعنى: وأنتم تشهدون أن آية الله حق وأن ما جاء به حق. قوله: {يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل}. أي تظهرون من الإقرار بمحمد A خلاف ما تعتقدون فتخلطون الحق بالباطل. وقيل: [لم] تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن الدين الذي لا يقبل غيره: الإسلام.

72

وقال ابن زيد: الحق: التوراة، والباطل: ما كتبوه بأيديهم {وَتَكْتُمُونَ الحق} هو أمر النبي عليه السلام يجدونه في كتبهم ويكتمونه {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه نبي حق، وأن ما جاء به من عند الله حق. قوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ} الآية. معناها أن اليهود قال بعضهم لبعض: آمنو بالنبي وما أنزل إليه أول النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون معكم. وقال ابن عباس: نظر اليهود إلى النبي A يصلي الصبح إلى بيت المقدس، فأعجبهم ذلك، ثم حولت القبلة في صلاة الظهر إلى الكعبة، فقالت اليهود: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} أي بصلاة الصبح إذا صلوها إلى بيت المقدس {واكفروا آخِرَهُ} أي: بصلاة الظهر لأنهم صلوها إلى الكعبة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إلى قبلتكم. وقال السدي: قالت اليهود لضعفائها: آمنوا بمحمد أول النهار، فإذا كان بالعشي قولوا: قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء لعلهم يرجعون عن دينهم ويشكون فيه.

73

قوله {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} الآية. قال المبرد: فيها تقديم وتأخير، وتقديرها عنده: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى مثلما أوتيتم {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} وقيل تقديرها: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم إلا لمن تبع [دينكم] واللام زائدة. ومعنى ذلك أنهم قالوا لضعفائهم: لا تصدقوا أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم من علم ورسالة وشرف، إلا لمن تبع دينكم، فصدقوا أن يؤتى مثلما أوتيتم. وقيل معناها على هذا التقدير: ولا تصدقوا أن تكون الرسالة إلا فيكم. وقيل: تقديرها قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أي كراهة أن يؤتى كأنه بعد أن يؤتى اليهود مثلما أوتي المؤمنون، فتكون على هذا المخاطبة للنبي A وأمته.

وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى بن عمرو، وابن كثير أن يؤتى بالاستفهام معناه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا يؤمنون؟ مثل {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 14 - 15] أي: من أجل هذا قال كذا وكذا. وقرأ الأعمش (إن يؤتي بكسر إن فجعلها بمعنى " ما " على معنى ما يؤنى أحد مثلما أوتيتم. وقد زعم قوم أنه لحن لحذف النون من يحاجوكم وليس هو لحن عند أهل النظر لأن (أن) تضمر مع أو، فهي مضمرة ناصبة للفعل، ومن جعل في الكلام تقديماً

وتأخيراً فاللام زائدة، ومن في موضع نصب استثناء ليس من الأول. ومن قدر الآية على وجهها، ولم يقدر تقديماً ولا تأخيراً جعل اللام أيضاً زائدة أو متعلقة بمصدر، كأنه: لا تجعل تصديقكم إلا لمن تبع دينكم بأن يؤتى أحد. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله " دينكم " ثم قال لمحمد A: { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} أي: البيان بيان الله {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ}، أو: لا يؤتى أحد، " وإن عنده بمعنى لا، ولذلك دخلت " أحد " في الكلام هنده. وقوله: {إِنَّ الهدى هُدَى} معناه: الهدى إلى الخير بيد الله يؤتيه من يشاء، فلا تتنكروا أيها اليهود أن يؤتى أحد سواكم مثلما أوتيتم، فإن أنكروا وهو معنى " يحاجوكم عند ربكم " فقل يا محمد: {إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ}. وقال الأخفش: {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} معطوف على {تؤمنوا} معناه ولا تصدقوا أن يحاجوكم، أي: قالت اليهود لضعفائها: لا تصدقوا بأن يحتجوكم أحد عند ربكم فيما أنكرتم من نبوة محمد A. وقال الفراء: أو بمعنى حتى (و) إلا: أن.

وقال مجاهد: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} اعتراض في الكلام وسائر الكلام متصل. فالأول خبر عن اليهود ومعناه {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ}، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثلما أتيتم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم، أي: ليس يحاجوكم أحد عند ربكم ثم قال تعالى بعد ذلك: قل يا محمد: {إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ}. وقوله {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ}. قيل: هو إخبار عما قالت اليهود لضعفائها، أي: لا تكون النبوة إلا فيكم. وقيل معناه: لا يكون العلم والشرف إلا فيكم. وقيل: هو إخبار من الله تعالى للنبي A معناه: لا يؤتي أحد من الأمم مثلما أوتيت يا محمد وأمتك من الإسلام والهدى، وهذا قول السدي. ومعنى: {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} إلا أن يحاجوكم، وهذا التأويل لا اعتراض فيه، ولا تقديم ولا تأخير، وأن في موضع رفع خبر عن الهدى، والتأويل الأول يقع فيه التقديم والتأخير وأن في موضع نصب على ما ذكرنا، وذلك حسداً، قالوا لضعفائهم من

74

اليهود: لا يكون نبي مثل نبيكم ولا كتاب مثل كتابكم. وقال الزجاج: معنى الآية: أن اليهود قالت لا تجعلوا تصديقكم لنبي في شيء مما جاء به إلا اليهود، ولا تقولوه للمشركين، فإن ذلك إن قلتموه لهم كان عوناً لهم على تصديقه. وقال أكثر المفسرين: معناه لا تصدقوا أن يعطى أحد مثلما أوتيتم من علم، ولا تصدقوا أن يحاجوكم أحد: لا يكونوا لأحد حجة عند الله إلا من كان مثلكم. قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ}. بمعنى: النبوة، وقيل: الإسلام والقرآن. قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} الآية. وجه من قرأ بالإسكان في يؤده وشبهه أنها لغة العرب يسكنون الهاء كما

يسكنون الميم في أنتم، ورأيتم، وأنشد الفراء: " فيصلح اليوم ويفسده غداً " وأنشد الأخفش وغيره: بيت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتقاقان له ارقان وبعض النحويين لا يجيزه إلا في الشعر، وبعضهم يمنعهم البتة. وعد المبرد إسكان الهاء لحناً. وقيل: اسكنت الهاء على التوهم أن الجزم عليها وقع.

وقد روي عن أبي عمرو: الاختلاس، وهو اختيار أهل النظر. ومعنى الآية أن الله أخبر أن من أهل الكتاب المؤتمن ومنهم الخائن، والناس لا يميزون الخائن منهم، فصارت الفائدة أنها تحذير من الله للمؤمنين أن يأتمنوهم لأن منهم الخائن وغيره، وهم لا يميزون ذلك فاجتنابهم أخلص. ومعنى {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً}: إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة. والباء في بقنطار " و " بدينار بمعنى على، وهما يتعاقبان في مثل هذا. وقيل: معنى {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} أي: يقر بالأمانة ما دمت قائماً على رأسه في وقت عطائها، فإذا ذهب ثم جئت تطلبها كابرك وجحدك. وقيل: قائماً بمعنى ثابتاً لازماً له، حكى سيبويه: قام بمعنى ثبت.

قوله [ذلك] لأنهم قالوا: أي: فعلهم ذلك (و) أمرهم ذلك ومعناه، فعلوا ذلك لأنهم يقولون: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب لأنهم على غير حق، قال ذلك قتادة. وقال ابن جريج: كان لرجل من المسلمين على اليهود ديون داينهم بها قبل أن يسلموا، فلما أسلموا طالبوهم بها فقال اليهود: ليس لكم علينا أمانة، ولا قضاء لأنكم تركتم دينكم الذي (كنتم) عليه، وإنما كان حقوقكم واجبة علينا في الأمانة، وغيرها قبل أن ترجعوا عن دينكم، فلما تركتم دينكم ورجعتم إلى الإسلام لم تلزمنا لكم حقوق ولا أداء أمانة، وادعوا أنهم يجدون ذلك في كتابهم، فرد الله عليه قولهم بقوله عقب الآية: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وعنوا بالأميين العرب، نسبوا إلى ما عليه الأمة قبل أن يتعلموا الكتابة. وقيل: نسبوا إلى الأم لأنها لا تعرف تكتب.

76

وقيل: نسبوا إلى أم القرى، وهي مكة. قوله: {بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} الآية. معناها ليس الأمر كما يقول هؤلاء من أنه ليس في أموال الأميين حرج لكن من أوفى بعهد الله وهي وصيته إياهم في التوراة من الإيمان بمحمد A وما جاء به. فالهاء في {بِعَهْدِهِ} تعود على الله جل ذكره. ومعنى {وَاتَّقَى} أي: واتقى الشرك قاله ابن عباس وقيل: المعنى، واتقى الله ولم يكذب. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله}. . . الآية. معنى الآية: إن الذين يستبدلون بعهد الله الذي عهد إليهم في كتابهم وبإيمانهم الكاذب عوضاً قليلاً أي: خسيساً من عرض الدنيا، {لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} أي: لا حظ لهم فيها أي: لا نصيب {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} معناه: لا يكلمهم بما يسرهم.

وقيل: لا يسمعهم كلامه بلا سفير. وقيل معناه: غضب عليهم كما يقال: فلان لا يكلم فلاناً أي: هو غاضب عليه. {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}، أي: لا يعطف عليهم بخير، كما يقال: انظر إلي نظر الله إليك أي: اعطف علي عطف الله عليك. ما زالت هذه الآية في أحبار اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بم الأخطب. وقيل: " إنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له اختصما في أرض، فقال النبي A لليهودي: احلف، فقال الأشعت: إذن يحلف فيذهب حقي "، فأنزل الله الآية، وقال النبي عليه السلام بعقب ذلك: " من حلف بيمين كاذبة ليقطع بها حق أخيه

لقي الله D ( وهو عليه غضبان) ". وروي عن مجاهد أنه قال: نزلت في رجل أقام سلعة في أول النهار، فلما كان آخره جاء رجل يساومه فيها، فحلف لقد منعها أول النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها بهذا العطاء فأنزل الله الآية. وقال ابن المسيب: اليمين الفاجرة من الكبائر وتلا هذه الآية. وقال قتادة: من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها حق أخيه فليتبوأ مقعده من النار، ثم تلا هذه الآية. وقال ابن مسعود: كنا نرى ونحن مع رسول الله A أن من الذنب الذي لا يغفر: يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها. وعن مجاهد أنه قال: هو الرجل يقول أعطيت بسلعتي كذا وكذا كذباً.

78

وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود ضاقت عليهم معاشهم، فخرجوا إلى المدينة، فلما رجعوا رؤساءهم سألوهم عن النبي عليه السلام فقالوا: هو الصادق لا شك فيه، فقال الرؤساء: الآن حرمْتُم أنفسَكم بِرَّنَا ونَفْعَنَا. فانقلب القوم، إلى منازلهم، وأخرجوا كتبهم فحكوا صفة النبي A وأثبتوا صفة غيره، وراحوا إلى رؤسائهم فقالوا: إنا فتحنا كتبنا فرأينا الأمر فيها على ما تصفون في محمد A فنفعوهم وأعطوهم، فأنزل الله D هذه الآية فيهم. وروى ابن مسعود بأن النبي عليه السلام قال " من حلف بيمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} الآية ". قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} الآية. ومعناها وإن من اليهود الذين جرى ذكرهم لفريقاً يحرفون ألسنتهم بالكتاب لتظنوا أنه من الكتاب وما ذلك من الكتاب أي: وما ذلك الذي حرفوا من الكتاب، ويزعمون أن الذي حرفوا من عند الله: أي ما نزل على أنبيائه {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} وإنما

79

أحدثوه من عند أنفسهم فيكذبون على الله وهم يعلمون أنهم كاذبون. يقال: لويته عدلته عن قصده. وقال القتبي: يلوون: يقلبون ألسنتهم بالتحريف والزيادة قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة} أي: ما ينبغي لبشر أن ينزل الله عليه الكتاب ويعطيه الحكم، وهو الفقه في الدين، ويعطيه النبوءة ثم يدعو الناس إلى عبادته، بل يدعوهم إلى الله وإلى عبادته. وروي أنها نزلت في النفر من اليهود والنصارى الذين دعاهم النبي A إلى الإسلام. " وروي أن اليهود قالت له: تريد يا محمد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ وقال الرئيس من نصارى نجران: ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال النبي A: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثت فأنزل الله جل ذكره {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية ".

ثم قال: {ولكن كُونُواْ ربانيين} أي. . . حكماء علماء {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ} من شد فهو مشتمل على معنى التخفيف لأن من علمنا شيئاً فقد علم. قال الضحاك: لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده، فإن الله تعالى يقول: {ولكن كُونُواْ ربانيين} فقهاء علماء بعلم الكتاب ودرسكم إياه. هذا على قراءة من خفف. (ومن شدد فمعناه: بتعليمكم الكتاب وبدرسكم إياه ") وكل معلم عالم، وليس كل عالم معلماً، فالتشديد أعم وأبلغ وأمدح. " ونزلت هذه الآية حين قالت اليهود من أهل نجران وغيرهم: أتريد يا محمد أن نعبدك فقال النبي A: معاذ الله أن

نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " أو كما قال فأنزل الله D { مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية ". ومعنى {ولكن كُونُواْ ربانيين} أي: ما ينبغي لبشر أن يفعل ذلك مع الناس وأن يقول لهم ذلك، ولكن يقول لهم كونوا ربانيين " . أي حكماء علماء. وقيل: فقهاء علماء فتركوا القول لدلالة الكلام عليه. وقال ابن زيد: الربانيون ولاة الأمر، وقرأ {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون}، وقال: هم ولاة الأمر. والألف والنون في " ربانيين " دخلت للمبالغة كجماني للعظيم الجمة، وكذلك غضبان للمتلئ غيظاً ومعنى الرباني العالم بدين الرب، وكأنه في الأصل الربي منسوب إلى الرب ثم دخلت الألف والنون للمبالغة، وجمع جمع السلامة بالياء والنون والألف والنون. قال مجاهد: الربانيون، فوق الأحبار.

80

قال النحاس: الأحبار العلماء، والربانيون الذين جمعوا مع العلم السياسة والصلاح. من قولهم: ربَّ فلان الأمر إذا أصلحه. وقد قيل في {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} أي: الفقه. والأحسن أن يكون مردوداً على ما قبله فتكون الدراسة للكتاب الذي جرى ذكره، ولم يجر ذكر للفقه. والكتاب هنا القرآن، قاله عاصم. قوله {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين} الآية من نَصَبَ يأمركم عطفه على الأول على {يُؤْتِيهُ} كأنه وما كان لبشر أن يأمركم. ومن رفع قطعه من الأول وتقديره عند سيبويه: ولا يأمركم الله، وعند الأخفش: وهو لا يأمركم.

81

والتفسير يدل على النصب لأنهم قالوا للنبي A: أتريد أن نعبدك، فأنزل الله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أن يفعل كذا وكذا، ولا أن يأمركم بكذا فنفى عنه ما أسندوا إليه، ثم قال: ولكن له أن يقول ويأمر {كُونُواْ ربانيين}. ثم قال: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} أي أيأمركم نبيكم بالكفر فهذا ظاهر الآية والتفسير، وهو تابع لقراءة النصب في المعنى. وقيل المعنى أيأمركم الله بالكفر فهذا رد على قراءة من قراء بالرفع. قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم}. أي: واذكر إذ أخذ الله. واللام في " لما " لام تأكيد " وما " بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء، و (من) لبيان الجنس والهاء محذوفة من آتيناكم و، {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الخبر هذا مذهب الخليل وسيبويه.

وأجاز الأخفش أن يكون الخبر {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} وهذا لام قسم كأنه قال: والله لتؤمنن به. وقال الكسائي: ما للشرط وهي في موضع نصب، واللام لام تأكيد كما تقول والله لئن زيد ضربت لأضربنك به. ومن كسر اللام في " لما " فهي لام الجر أي: أخذ الميثاق الذي أتاهم من كتاب وحكمة، ويكون {لَتُؤْمِنُنَّ} من أخذ الميثاق وكأن تقول: أخذت ميثاقك لا تفعلن. وفي قراءة ابن مسعود {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين}، وكذلك قرأها أبي بن كعب، ودليله قوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} وهو محمد A ولم يأتِ إلا لأهل الكتاب، وغيرهم دون النبيين، ثم {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} فليس في هذا أمر من نبيين، إنما هو أمر لمن أخذ الله عليه الميثاق، وهم أهل الكتاب، وهذا المعنى مروي عن مجاهد وغيره قالوا: إنما أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب في الإيمان بالأنبياء والنصر لهم، ولم يؤخذ على النبيين نصر لقومهم، ولا إيمان بقومهم. وقال ابن عباس: المعنى وأخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وقال طاووس: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.

وقال علي بن أبي طالب Bهـ: لم يبعث الله نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد A لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه بذلك. وقال قتادة: أخذ الله على النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً وأن يبلغوا كتاب الله D ورسالته إلى قومهم ففعلوا وأخذوا على القوم أن يؤمنوا بما بلغت إليهم رسلهم، وكان فيما بلغت إليهم الرسل الأمر بالإيمان بمحمد A والتصديق به، والنصر له. وقال السدي: لم يبعث الله نبياً من لدن نوح A إلا أخذ ميثاقه أن يؤمن بمحمد A وبنصره إن بعث وهو حي وأن يأخذ الميثاق على قومه بذلك إن بعث وهم أحياء. وقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ} أي: بالميثاق على نحو ما تقدم " {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} أي: عهدي {قالوا أَقْرَرْنَا}. قيل: الضمير يعود على الأنبياء أي قال الأنبياء: أقررنا بما التزمنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدقين لما معنا من كتب. {قَالَ فاشهدوا} أي: اشهدوا أيها النبيون بما أخذت به ميثاقكم عليكم، وعلى

أممكم {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} أي: أشهد عليكم وعليهم بذلك. وقيل: إن الضمير راجع إلى الذين أوتوا الكتاب على تقدير الاختلاف المذكور. {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك}: أي من أعرض بعد العهد الذي أخذ عليه، فهو فاسق أي خارج من دين الله. وفي هاتين الآيتين تذكير - لمن كان على عهد رسول الله A من أهل الكتاب - وتخويف. قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} أي: أفغير طاعة الله يا أهل الكتاب تطلبون، وهو الذي خضع له من في السماوات والأرض، وأسلم طائعاً، وهم: الملائكة، والنبيون والمؤمنون {وَكَرْهاً} وهم الذين آمنوا بالتوحيد، وأشركوا عن علم كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. وقيل: إسلام الكاره هو حين أخذ عليه الميثاق. وقال مجاهد: إسلام الكاذب سجود ظله. والطائع: المؤمن.

وقيل: إسلام الكاره تقلبه في مشيئة الله، واستكانته لقضائه. وقال قتادة: إسلام الكاره هو حين لا ينفعه إسلامه، وذلك في الآخرة، وحين رأى الموت، قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. وقيل المعنى: له خضع الجميع طائعين، وكارهين لأنه جبلهم على ذلك، وخلقهم كذلك. وفي تفسير الحسن {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات} انقطع الكلام. ثم قال: {والأرض} طوعاً أو ركهاً أي أسلم من في الأرض طوعاً وكرهاً، فالكاره المنافق لا ينفعه إيمانه. وقيل: إن أهل الأرض أسلموا كلهم حين أخذ الله عليهم الميثاق واستخرجهم من ظهر آدم، فالتأويل: أفغير طاعة الله تريدون وهذه صفته. ثم أمر الله تعالى محمداً عليه السلام وأمته أن يقولوا: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ} ومن ذكر بعده [وأن] لا يفرقوا بين أحد منهم، وأعلمهم الله تعالى أنه لا يقبل ديناً غير الإسلام، وأن من ابتغى غيره فهو خاسر في الآخرة. أي: يخسر نفسه وذلك الخسران المبين.

86

ولما نزلت {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ادعى كل قبيل، وكل أهل ملة انهم هم المسلمون فأنزل الله [ D] { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97]، فحج المسلمون وقعد الكافرون، فظهر فساد دعوى كل من ادعى الإسلام إلا المسلمون. قوله {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} الآية. قال ابن عباس: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، وهو الحارث بن سويد فأرسل إلى قومه أن يسألوا النبي A: هل لي من توبة؟ فأنزل الله D { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ثم أنزل الله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأرسل إليه قومه وأسلم. وقال مجاهد: نزلت الآيتان بعد ارتداد الحارث بن سويد فحملهما إليه رجل فقرأ عليه الآية الأولى ثم قرأ عليه الآية {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} الآية فقال الحارث: إنك - والله ما علمت - لصدوق، وإن رسول الله A أصدق منك. وإن الله سبحانه لأصدق الثلاثة ثم رجع فأسلم وحسن إسلامه. قال السدي: نزلت في الحارث بن سويد حين ارتد ثم نسخها الله بقوله:

{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ}. وروي أنه كان يظهر الإسلام فلما كان يوم أحد قتل المجذر بن زياد بدم كان له عليه، وقتل قيس بن زيد، وارتد ولحق بمشرك، فأمر رسول الله A عمر أن يقتله إن ظفر به، ففاته، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة، فأنزل الله D { كَيْفَ يَهْدِي الله} الآيتين. وقال كثير من المفسرين: إنما نزلت في اليهود لأنهم وجدوا في التوراة إن الله جل ذكره ناجى موسى عليه السلام وكان في مناجاته " يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني، فقال موسى عليه السلام: جعلت وفادتي لغيري "، وذلك قوله تعالى لمحمد A: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] " أي: إذ ناجينا موسى بهذا أن: يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني إلى آخر القصة. وقيل: نزلت في قوم ارتدوا. وقيل: نزلت في أهل الكتاب لأنهم عرفوا محمداً A وصفته، ثم كفروا به عن

87

علم بصحة نبوته. وقال القرظي: [كان] ناس من أهل مكة أتوا النبي A فآمنوا، فمكثوا ما شاء الله في المدينة، ثم خرجوا وارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله ذلك فيهم ثم تعطف عليهم فأنزل الله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ} الآية. قوله: {وشهدوا أَنَّ الرسول حَقٌّ}: معطوف على الفعل الذي تضمنه المصدر وهو إيمانهم، تقديره بعد أن آمنوا وشهدوا ولا يجوز عطفه على {كَفَرُواْ} لفساد المعنى. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى عرفوا صفة محمد A عندهم وشهدوا أنه حق قبل مبعثه فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك وكذبوه وأنكروا حسداً وبغياً، وقلوبهم تشهد أنهم مبطلون في ذلك. قوله {أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} الآية. معناه: جزاء من هذه حاله بعنة الله، أي: يبعده من الرحمة ولعنة الملائكة والناس أي: يلعنهم كل من خالفهم يوم القيامة من المخلوقين كما قال: {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]: ويجوز أن يكون الناس يراد بهم من كان مؤمناً. ويجوز أن يكون أراد بهم: لعن

بعضهم بعضاً في الدنيا لاختلاف أديانهم فيها. {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} أي: لا ينقص عنهم: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: لا يؤخرون عن الوقت. وقيل: لا ينظرون لمعذرة يعتذرون بها. وكل ما في القرآن من اللعنة فالخط فيها في المصحف بالهاء إلا في موضعين كتبت بالتاء: في آل عمران {فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} [آل عمران: 61] و [في] النور {والخامسة أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} [النور: 7] هذان بالتاء لا غير. قوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي: استثنى من تاب ممن ذكر قبله. وقيل: هو ناسخ ل {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ} الآية وقد ذكرناه. ومعنى: {وَأَصْلَحُواْ} أي: أصلحوا أعمالهم، وقيل: معناه وعملوا الصالحات. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} عنى بها من كفر ببعض الأنبياء قبل محمد A ثم

كفروا بمحمد A فلن تقبل توبتهم عند الموت ومعاينته. قال قتادة: عنى بها اليهود لأنهم كفروا بالإنجيل - وبعيسى عليه السلام {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد A - والقرآن. وقيل: عنى بها اليهود والنصارى كفروا بكتابهم، فبدلوه، {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد عليه السلام. وقيل: كفرهم الأول هو حجدهم بمحمد A وازدادوا كفراً [أي: ذنوباً]. وقيل: هم اليهود والنصارى كفروا بمحمد A، [ وازدادوا كفراً] لم يتوبوا مما فعلوا في الصحة لم تقبل توبتهم عند الموت. وقيل: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} ماتوا على الكفر. [و] اختار الطبري أن يكون المعنى: ثم ازدادوا كفراً بما أصابوا من الذنوب، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم

91

بمحمد A والآية عنده عنى بها اليهود. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ} الآية. معناه: لن يقبل ممن كان بهذه الصفة جزاء ولا فدية ولو كانت ملء الأرض ذهباً، روى أنس بن مالك أن النبي A كان يقول: " يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت ما هو أيسر من ذلك ". وقال الزجاج معناه: لو عمل من الخير فتصدق بملء الأرض ذهباً - وهو كافر - لم ينفعه ذلك مع كفره. قوله: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. قال ابن مسعود وغيره: البر هنا الجنة.

{لَن تَنَالُواْ} حتى تتصدقوا {مِمَّا تُحِبُّونَ} أي: تهوون، ومثله {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الإنسان: 8] [وقوله] {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. ولما نزلت هذه الآية " جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فحمل النبي (عليه السلام) [عليها] أسامة بن زيد وهو ولده فوجد زيد في نفسه فلما رأى ذلك النبي A قال: أما إن الله قد تقبلها منك ". وقيل: إن البر العمل الصالح الذي يدهو إلى الجنة. وفي الحديث " عليكم بالصدق فإنه يدعوا إلى البر، والبر يدعو إلى الجنة، وإياكم والكذب، فإنه يدعو إلى الفجور والفجور يدعو إلى النار ".

93

قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ} أي: فتصدقوا بشيء فإنه محفظ لكم. وقال الحسن: النفقة هنا يعني بها الزكاة الواجبة. قوله: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} الآية. إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم A أخبرنا الله تعالى أن الأطعمة كلها كانت حلالاً لولده يعقوب إلا ما حرم يعقوب على نفسه قبل نزول التوراة، وحرمه وُلْدَه على أنفسهم من غير فرض من الله تعالى عليهم، وكان بيعقوب A عرق يسمى النساء، فيأخذه بالليل ويتركه بالنهار فحلف: إن الله عافاه منه ألا يأكل عرقاً أبداً، فحرَّم الله عليهم لبغيهم فنزلت التوراة بتحريم ما كانوا حرَّموه على أنفسهم، فذلك قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ثم قال: إن أنكرتم ذلك فاتوا بالتوراة فاتلوها فإنكم تجدون ذلك فهذا قول السدي. وقيل: إن الذي حرموه على أنفسهم إنما تبعوا فيه يعقوب A، ولم تنزل التوراة بشيء منه، ولكنهم ادعوا أنه في التوراة فقال الله: قل يا محمد ايتوا بالتوراة فإنه لا شيء فيها مما يقولون. وقال ابن عباس: حرم إسرائيل على نفسه وعلى ولده العرق وليس

94

بمكتوب في التوراة. فمجاهد وقتادة وابن عباس وغيرهم يقولون: الذي حرم إسرائيل على نفسه هو العرق لعرق كان به يؤذيه. [وقال عطاء] وابن جريج: حرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، وهو قول الحسن. " ويروى أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله A فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أي شيء حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال النبي A: أنشدكم بالذي أنزل التوراة هل تعلمون أن إسرائيل - يعقوب - مرض مرضاً شديداً، فطال سقمه منه، فنذر لله نذراً لئن عافاه الله منه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فقالوا: اللهم نعم ". وروي انه حرم على نفسه أحب الطعام إليه إن برئ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وشحومها، وشحوم الضأن والبقر والمعز، فحرم ذلك على نفسه. قوله: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} الآية. أي: فمن ادعى بعد قراءة التوراة - وعدم ما ادعيتم من تحريم العروق ولحوم

95

الإبل وألبانها فيها -: إن ذلك في التوراة، وأن الله أنزل تحريم ذلك فيها فهو ظالم. قوله: {قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} معناه: قل يا محمد صدق الله في جميع ما أخبرنا به وأن إسرائيل حرم لحوم الإبل وألبانها من غير تحريم من الله في كتابه، فإن كنتم أيها اليهود على حق في قولكم {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} فإنه لم يكن مشركاً. والوقف على قوله {قُلْ صَدَقَ الله} حسن. قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ. . .} الآية. أخبر الله تعالى: أن أول بيت وضع للناس مبارك وهدى للعالمين هو الذي ببكة، وكان قبله بيوت إلا أنه ليس لهن هذه الصفة، هذا قول علي بن أبي طالب Bهـ فهو على قوله أول بيت وضعت فيه البركة والهدى مقام إبراهيم. وقال الحسن: هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض. وقال ابن عمر: هو أول بيت وضع في الأرض، خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان إذ كان عرشه على الماء على زبد وبيضاء فدحيت الأرض من تحته. وقال مجاهد: أو بيت خلق الله: الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، وقال السدي. وقيل: إن موضع الكعبة موضع أول بيت وضعه الله في الأرض. وقال قتادة:

هبط البيت مع آدم حين هبط، يطوف حوله كما يطاف حول العرش ثم رفعه الله في الطواف فصار معموراً في السماء، ثم إن إبراهيم تتبع منه أساساً حين أمره تعالى ببنائه فبناه على أساس قديم. ومعنى وضع للناس [أي]: لعبادة الله. وسئل النبي عليه السلام عن أول مسجد وضع؟ فقال: " المسجد الحرام، ثم مسجد بيت المقدس وكان بينهما أربعون سنة ". وبكة: حول البيت مع الطواف (من) قولهم بكة: إذا زحمه، فسميت بذلك البقعة للازدحام [الذي يكون] فيها وما عدا ذلك في خارج المسجد: مكة. قال ابن شهاب: بكة البيت والمسجد، ومكة الحرم كله. وقال مالك: بكة موضع البيت، ومكة غيره من المواضع. قال ابن القاسم: يريد القرية. وروي عن ابن وهب أنه قال: بكة موضع البيت، ومكة ما حول البيت

97

من المواضع. وقيل: إنما سميت مكة لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها. قال مقاتل: بكة ما بين الجبلين، ومكة الحرم كله وإنما سميت بمكة لأنها تمك المخ من العظم أي تمحقه لما يحتاج (إليه) الإنسان من السعي والطواف والعمل. يقال: مككت العظم إذا أخرجت ما فيه. وقيل: سميت مكة لأن الناس كانوا يمكون، ويضجون فيها من قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] يقول: تصفيق وصفير. وقال الضحاك: بكة هي مكة، وعلى ذلك أهل اللغة أن الميم بدل من الباء كما يقال: لازب، ولازم وسبل شعره وسمله إذا استأصله. وسميت بكة لأن الناس يتباكون حولها الرجال والنساء يعني يزدحمون، وقيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة. قوله {فِيهِ ءايات بينات. . .} الآية. هي: مقام إبراهيم، المشعر الحرام {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}. وقال مجاهد: مقام إبراهيم الحرم كله، وهي آيات كثيرة. منها: الصفا والمروة والركن والحطيم والملتزم والحجر وغير ذلك، ومنها: أن الطائر لا يعلو البيت صحيحاً ويعلوه مريضاً للتشفي [به] ومنها: أن الجارح يتبع

الصيد فإذا دخل الحرم تركه. ومنها: أن الغيث إذا كان من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان من ناحية الشامي كان الخصب بالشامي، والعراقي كذلك، وإن عم الأركان عم الخصب الدنيا. ومنها: أن الجمار تزداد فيه كل عام لا يحصى كثرة وهي ترى على قدر واحد. وأمثال ذلك كثيرة لا تحصى. وعلى هذا القول يكون {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} خبر مبتدأ. وقد قرأ " فيه آيات بينة " على أنها المقام الموجود الساعة ويكون أيضاً ما بعد مبتدأ. ومعنى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} كان أهل الجاهلية من جنى منهم جناية ثم لجأ إلى حرم الله لم يطلب، ولم ينتصف وأما في الإسلام فليس يمنع من حدود الله D مانع. وعن يحيى بن جعدة {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} قيل: كان آمناً من النار. وأهل التفسير على أن المعنى: ومن دخله فاراً من غيره مستجيراً به أمن ممن يطلبه. وقيل: [المقام] هو الحجر الذي فيه أثر رجلي إبراهيم عليه السلام.

وروي أن الله D أمره أن يؤذن بالحج كما قال تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج} [الحج: 27] فوقف على المقام وهو الحجر، فأعطاه الله في صوته ما يسمعه كل من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأعطاه من القوة حتى رسخت رجلاه مقر الحجر فنادى يا عباد الله، أجيبوا داعي الله، والحج إلى بيته الحرام يخرجك من النار، ويسكنكم الجنة " فالناس اليوم يلبون دعوة إبراهيم فمن أجابه مرة حج مرة ومن أجابه مرتين حج مرتين، وكذلك (أكثر) من ذلك. قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً. . .}. هذا فرض من الله واجب علينا مع وجود الاستطاعة. قال ابن الخطاب وابن عباس Bهـ: الاستطاعة: الزاد والراحلة، وهو قول ابن جبير والحسن. وعن ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل. وقال الضحاك: إن قدر [أن] يؤاجر نفسه ويمشي فهو مستطيع.

وروي عن النبي A أنه قال: " السبيل الزاد والراحلة ". وعن علي Bهـ أنه قال: من ملك زاداً وراحلة يبلغانه إلى بيت الله D فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً. وقال عكرمة: السبيل: الصحة. وقال ابن زيد: السبيل القوة في النفقة والجسم والحملان. وقيل السبيل الطاقة بأي وجه. وهو اختيار (الطبري) وجماعة من العلماء، وهو مذهب مالك وأصحابه. والهاء في " إليه " تعود على البيت " وقيل على الحج ".

قوله: {وَمَن كَفَرَ} أي: من لم يحج وهو يقدر عليه. وقيل: معناه من لزمه فرض الحج فأنكره فإن الله غني عن حجه. وقال ابن عباس: من كفر من قال الحج ليس بفرض. وقيل: معناه من اعتقد أنه لا أجر له في سعيه وحجه، ولا إثم عليه في تأخيره قاله مجاهد. " وسأل رجل من هذيل النبي A قال: " يا نبي الله من تركه كفر؟ قال النبي A: " من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذلك " أي: كافر. وعن مجاهد أيضاً أنه قال: معنى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} أي: وكفر بالله واليوم الآخر، ويروى أن النبي A جمع الناس عند نزول فرض الحج، وخطبهم وأمرهم بالحج وأنه فرض عليهم. فحج البيت هو ملة واحدة وهي: من آمن بالله، وتركه خمس ملل، وهم الذين لم يؤمنوا بالنبي A فأنزل D: { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين}. وعن ابن عباس أنه قال لما نزلت: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} الآية، قالت: الملل كلها نحن مسلمون فأنزل الله {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} فحج المؤمنون وقعد الكافرون. قال ابن زيد معناه ومن كفر بهذه الآية يعني التي تقدم ذكرها وهي: مقام

98

إبراهيم {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}. قال عطاء: {وَمَن كَفَرَ} بالبيت. وقال السدي: {وَمَن كَفَرَ} معناه: من وجد ما يحج به ثم لم يحج فهو كافر. ويروى عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار فينظرون إلى كل رجل لم يحج وهو واجد فيضربون عليه الجزية ما هم بمسلمين. وعنه أنه قال: لو أن ناساً تركوا الحج لقاتلناهم عليه كما قاتلناهم على الصلاة والزكاة. واختار بعضهم أن يكون المعنى: ومن كفر فأنكر فرض الله ووجوبه. قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله}. هذا خطاب لليهود والنصارى وتوبيخ لهم لأنهم كفروا بمحمد وهم يشهدون أنه حق يجدونه عندهم في التوراة مكتوباً والله يشهد عليهم بأنهم على باطل في إنكارهم له وهم يعلمون أنه نبي حق. قوله {قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ} الآية. هو أيضاً لليهود والنصارى، ومعنى صدهم عن سبيل الله هو جحدهم

100

بمحمد وما جاء به من الدين، والسبيل: الطريق. {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} " أي يبغون لها أي: السبيل أي: يطلبون السبيل المعوج وهو الميل عن الحق في الدين. العوج بالفتح يكون في الحائط والعود ونحوه. قال السدي: وكانوا إذا سألهم أحد هل يجدون محمداً A في التوراة؟ قالوا: لا، فيصدون عن الإيمان به، والإيمان بمحمد A هو السبيل إلى الله سبحانه. قوله {يا أيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً} الآية. نزلت هذه الآية في قوم من اليهود أرادوا أن يحدثوا الفتنة بين الأوس والخزرج، وقد كان بين القبيلتين فتنة فذهبت بالنبي عليه السلام، فأراد قوم من اليهود أن يحدثوها بينهم، فنهى الله D عن ذلك وأخبرهم أنهم إن أطاعوهم كفروا، ثم قال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [معناه: وعلى أي حال تكفرون أيها المؤمنون وآية الله تقرأ عليكم ورسوله] بين أظهركم يدعوكم إلى الحق ويبينه لكم، فليس لكم عذر في ارتدادكم عن الحق {وَمَن يَعْتَصِم بالله} أي: يمتنع

102

به {فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. قال ابن جريج: {وَمَن يَعْتَصِم بالله}: من يؤمن بالله. قال ابن العباس: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ}، ونزلت {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}. وروي أن شاس بن قيس كبير اليهود دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب والدعاء طمعاً أن يقرف إلفتهم، فلما ذكروا بذلك ثار بينهم سر حتى أخذوا السلاح، فخرج النبي A وأصحابه ووعظهم وذكرهم بالله والإسلام، فرجع القوم، وعلموا أنها نزعة من الشيطان، فبكوا وتعانقوا [وانصرفوا] مع النبي A، فنزلت الآيات في توبيخ أهل الكتاب على فعلهم وتذكير الأنصار ووعظهم. قوله {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}. هذا خطاب للمؤمنين، ومعنى {اتقوا الله} راقبوه ودوموا: على طاعته. ومعنى {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: حق خوفه وهو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر،

103

قال السدي وطاووس وقتادة، وغيرهم. {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}: لربكم. وعن ابن عباس {حَقَّ تُقَاتِهِ}: أن يجاهد في الله حق جهاده ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وعن قتادة إنها منسوخة بقوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} وكذلك قاله الربيع ابن أنس، وقاله السدي وابن زيد. وأهل النظر على أن هذا لا نسخ فيه لأن الأمر بالتقوى لا ينسخ ولكنه خفف بالآية الأخرى. ومعنى {وَلاَ تَمُوتُنَّ} أي: كونوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت، وليس ينهاهم عما لا يملكون ولكن هذا معناه. وحكى سيبويه: لا أرينك هاهنا، وهو لم ينه نفسه، وإنما المعنى لا يكن ها هنا، فإنه من يكن ها هنا أراه. قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.

أي: تعلقوا بأسباب الله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي: تمسكوا بدين الله. والحبل في اللغة الذي يتوصل به إلى البغية. قال ابن مسعود: حبل الله الجماعة. وعن النبي A أنه قال: " كتاب الله حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ". وقيل: حبله، عهده وأمره، وأكثر المفسرين على أنه القرآن، وقال أبو العالية حبل الله الإخلاص والتوحيد. وقال ابن زيد: حبل الله: الإسلام. وقال القتبي: حبل الله: دينه. وروى ابن مسعود عن النبي A، أنه قال: " أيها الناس عليكم بالطاعة، والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الطاعة والجماعة هو خير مما

تحبون في الفرقة " وهذا تذكير للأنصار إذ كانوا يقتتلون في كل شهر فلما أتى الإسلام واجتمعوا عليه ألف الله بينهم وزالت العداوة التي كانت بينهم عشرين ومائة سنة، وقد كانوا بني عم. ومذهب البصريين أن {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} تمام الكلام، ومذهب الكوفيين أن {إِذْ كُنْتُمْ} متصل بـ {واذكروا}. {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار}، هذا مثل لما كانوا عليه من الكفر، أنقذهم الله من ذلك بالإسلام. وشفا الحفرة: طرفها. وقيل: {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} بمحمد A قاله السدي، فالآية للأنصار خاصة لما أزال الله عنهم من القتل الذي كان بينهم. وقيل: هي لقريش لأن بعضهم كان يغير على بعض فلما دخلوا في الإسلام حرمت عليهم الأموال والدماء فأصبحوا إخواناً. والهاء في {مِّنْهَا} تعود على النار، وقيل على الحفرة.

104

قوله {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} الآية. معناها: ولتكن منك أيها المؤمنون جماعة مستقيمة يدعون [الناس] إلى الخير، وهو الإسلام، ويأمرونهم بالمعروف أي: باتباع محمد عليه السلام. وما جاء به، وينهونهم عن المنكر، وهو التكذيب لمحمد A وما جاء به أولئك الذين يكونون هكذا من المفلحين. وقيل: إن [من] هاهنا لبيان الجنس، ولأن المعنى ولتكونوا كلكم أمة مستقيمة يدعون إلى الخير. [ومن] مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ومثله {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] فلم يأمرهم باجتناب بعض الأوثان وإنما المعنى: فاجتنبوا الأوثان فإنها رجس، فكذلك لم يأمر بعض المؤمنون بالدعاء إلى الخير دون البعض إنما أمرهم كلهم، ودل على ذلك قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110]. وقال من زعم أن [من] للتبعيض، إنما أمر الله بعض المؤمنين بالدعاء إلى الخير، لأن الدعاء ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون الناس إليه، وليس كل الخلق علماء، فالأمر واقع لمن فيه علم، وهو بعض الناس، فمن للتبعيض على أصلها. والأمة: الجمعة، والقائمة: المستقيمة، الطريقة الصحيحة: الديانة.

105

وقرأ عثمان بن عفان Bهـ: [وينهون عن المنكر ويستعينون بالله [على] ما أصابهم " زاد خمس كلمات، وما يقرأ بذلك اليوم لأنه خلاف لخط المصحف المجمع عليه] ". قوله: {(وَلاَ تَكُونُواْ) كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا} حذر الله المؤمنين أن يكونوا مثل اليهود الذين اختلفوا في كتابهم وتفرقوا فرقاً. أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالجماعة، وينهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالاختلاف والمراء والخصومات في دين الله. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى اختلفوا في دينهم فنهانا الله عن مثل ذلك. ثم أخبر أن هؤلاء المختلفين لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه أي: عذاب عظيم في هذا: اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه. ويجوز في غير القرآن كسر التاء في {تَبْيَضُّ} و {وَتَسْوَدُّ}.

ومعنى تبيض: تشرق كما قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39] فهي تشرق لما تصير إليه من [النعيم، وتسود وجوه من أجل ما تصير إليه] من العذاب. قوله {أَكْفَرْتُمْ} معناه: فيقال لهم أكفرتم؟ قال جماعة من العلماء: عنى بهذا بعض أهل القبلة من المسلمين وروي أن النبي A قال: " والذي نفسي بيده ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي. فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ". قال أبو أمامة {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ}: (هم) الخوارج. وعن أبي بن كعب أنه قال صاروا يوم القيامة فريقين: يقال لمن اسود وجهه:

أكفرتم بعد إيمانكم وذلك الإيمان هو الذي كان قبل الاختلاف حين أخرجهم من ظهور آدم وأخذ منهم عهدهم وميثاقهم، فقال الله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] فأقروا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الإسلام، ثم لما خرجوا إلى الدنيا كفروا، فيقال لهم يوم القيامة: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فالآية عنده للكفار خاصة. قال: والآخرون فقاموا على إيمانهم المتقدم فهم في رحمة الله خلوداً. وقال الحسن: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} هم المنافقون أظهروا الإيمان وأسروا الكفر. واختار الطبري قول أبي بن كعب أن يكون للكفار، ويكون الإيمان هو الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهم من ظهور آدم كالذر فأقروا بأنه ربهم ثم كفروا بعد ذلك. وذكر النحاس في قوله: {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} قال: عنى بها اليهود بشروا بالنبي A واستفتحوا به قبل بعثه فكان ذلك منهم إيماناً، فلما بعث كفروا به هذا معنى قوله. قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} أي: في ثواب رحمة الله وهي الجنة وتأولها مالك في أهل الأهواء. وروى أبو أمامة: أنها في الحرورية، سمعته من رسول الله A غير مرة، ولا

اثنتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، حتى بلغ سبعاً. وروى عبد الملك بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، قال: قال رسول الله A: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله تبارك وتعالى: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية مسودة وجوههم زرقاً عيونهم قد دلعوا ألسنتهم يسيل لعابهم على صدورهم يقذرهم كل من في القيامة فيقولون: ما لنا؟ ما عبدنا شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً، فيأتيهم النداء من عند الله صدقتم ما عبدتم شمساً ولا قمراً ولا وثناً ولكن جاءكم الكفر من حيث لا تحتسبون ". قوله {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي: هذه آيات الله تتلى عليكم يا محمد بالحق. . .

109

وليس يريد الله أن يظلم أحداً من خلقه. أعيد ذكر الاسم في الآية لأنه أفخم ولأنه لا يقع فيه أشكال إذ هذا الاسم إنما هو للرب لا يشركه فيه أحد. وقال الكوفيون: إنما أعيد ظاهراً، لأن كل واحد من الاثنين في قصة مفارق معناها للأخرى وليس مثل قول البيت في قول الشاعر: " لا أرى الموت يسبق الموت شيء ". ... لأن الثاني من تمام الأول وإنما أظهر في البيت اضطراراً وليس كذلك الآية. قوله {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية. قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقيل: هو خطاب لأصحاب رسول الله A كلهم. وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ ابن جبل. وقال الحسن وغيره: الخطاب لأمه سيدنا محمد عليه السلام كلهم وكانوا يقولون نحن آخرها وأكرمها على الله. وعن الحسن أنه قال: معناها كنتم خير الناس للناس.

وقال أبو هريرة في معناها: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعماقهم حتى يدخلوا في الإسلام، وروي أن النبي عليه السلام قال " ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله " وقال يوماً وهو مسند ظهره إلى الكعبة: " نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها ". وقيل: كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة بمنزلة قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} [البقرة: 142] أي: أنت عليها وبمنزلة {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} [النمل: 142]، وقد ذكر هذا كله في مواضعه وفي بعضه اختلاف. وقيل: المعنى كنتم في اللوح المحفوظ خير أمة، ومثله {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: 85] أي إذ أنتم. وقيل المعنى: كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف أي: إذا كان هذا حالكم

111

فأنتم خير أمة. ومعنى: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} تشهدون ألا إله إلا الله وتقرون بما أنزل الله وتنهون عن المنكر تقاتلون على ذلك. والمنكر: هو التكذيب بمحمد A وبما جاء به هذا قول ابن عباس. وأصل المعروف هو فعل كل ما كان مستحسناً جميلاً غير مستقبح. قوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} الآية هذا خطاب للنبي A معناه لم يضروكم أيها المؤمنون أهل الكتابين {إِلاَّ أَذًى} بألسنتهم لا غير يسمعونكم تكذيب نبيكم A وقوله البهتان في عيسى وعزير صلى الله عليهما وسلم، وهو استثناء منقطع.

112

وإن قاتلوكم ولُّو الأدبار وانهزموا {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ}، فهذا وعد من الله أن أعداء [هم] لا ينصرون، وأنهم هم المنصورون. قوله {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} الآية. معناها: ألزم الله المكذبين بمحمد الذلة وهي الصغار حيثما وجدوا، فهم تحت أقدام المسلمين لا منعة لهم فهم في ذلة وخوف {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} [أي بسبب من الله]. أو بسبب من المؤمنين، فإنهم يأمنون على أنفسهم، وذرياتهم، والذلة لا تفارقهم، والسبب هو العهد إذ عوهدوا. وتقدير الآية عند الكوفيين إلا أن يعتصموا بحبل من الله وحبل من المؤمنين، ولذلك دخلت الباء وهي متعلقة بهذا الفعل المحذوف. وقال بعض الكوفيين - أيضاً -: هو استثناء من الأول محمول على المعنى لأن المعنى ضربت عليهم الذلة بكل مكان إلا بموضع من الله. وقال بعض البصريين: هو استثناء ليس من الأول.

113

وقوله: {أَيْنَ مَا ثقفوا} تمام، ثم قال: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} أي: لكنهم (يعتصمون) بحبل من الله. قوله: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله}، أي: تحملوا وانصرفوا ورجعوا به، وحقيقته: لزمهم ذلك، يقال: تبوأت الدار أي: لزمتها. (تم السفر الأول من كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية والحمد لله الذي بعونه. .). قوله: [ D] { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} أي: تبوءهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، فكأنهم ألزموا الذلة، والغضب لفعلهم هذا، ثم قال: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي: فعل بهم ذلك بعصيانهم واعتدائهم كذلك في موضع نصب وهو ذلك الثاني. قوله: {لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب}. هذا مردود على [قوله] {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} ثم قال: {لَيْسُواْ سَوَآءً} أي: ليس المؤمنون والفاسقون سواء وتم الكلام، ويعني بذلك من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن.

والفراء يقدره بمعنى ليست تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة من حالها كذا وأمة على غير ذلك، وهو غلط من وجوه: أحدها أنه يقدر محذوفاً ولا يحل التمام سواء، وترتفع أمة بسواء، وإذا فعل ذلك لم يعد على اسم ليس ذكر وساء ليس بجار على الفعل فيرفع الظاهر، والمضمر الذي يضمر لا يدل على شيء من الكلام. وأبو عبيدة يجعل {لَيْسُواْ} على لغة من قال: أكلوني البراغيث، ويجعل {أُمَّةٌ} اسم ليس و {سَوَآءً} الخبر ويقدر محذوفاً، وهو ذكر الكفار من أهل الكتاب، وهو بعيد لأن ذكر أهل الكتاب قد تقدم، فليس [هو] مثل أكلوني البراغيث لأنه لم يتقدم [له] ذكر. وتصغير {آنَآءَ} أوينا تبدل من الألف التي هي فاء الفعل واواً كما تقول: أويد في آدم، ومعنى الآية: أنه تعالى أعلمنا أنه ليس أهل الإيمان من أهل الكتاب والكفر سواء، والضمير في {لَيْسُواْ} يعود على ما تقدم من ذكر المؤمنين والفاسقين (من أهل الكتاب فقال): من أهل الكتاب {أُمَّةٌ} شأنها بالمدح والثناء هذا

مذهب البصريين. والكوفيون يجعلون أمة مرفوعة بسواء والكلام عندهم متصل، وقد تقدم ما يدخل عليهم كأن تقديره عندهم لا يستوون من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة، قالوا: وترك ذكر الأخرى لدلالة ذكر المؤمنة عليها ومن مذهبهم ألا يجوز سواء [علي] قمت حتى تقول أم قعدت، وأجازوا هنا الحذف، ويجيزون الحذف إذا كان الكلام مكتفياً بواحد نحو ما أبالي، وما أدري لاكتفاء ما أبالي بواحد، أجازوا ما أبالي أقمت، وما أدري أجليت يريدون أم فعلت كذا ويحذفونه، ويلزمهم الا يجيزوا الآية على تأويلهم لأنهم لا يجيزون الحذف مع سواء لنقصانه، وقد أجازوه في الآية، وهذا تناقض لأنهم أجازوا في الآية ما لا يجوز في الكلام. روى ابن وهب عن مالك: أمة قائمة أي قائمة بالحق وهو قول مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس وروي مثله عن ابن عباس. ونزلت هذه الآية في قول عكرمة وابن جبير وابن عباس في عبد الله بن سلام

وثعلبة بن سعية، وأسيد بن عبيد وهم أخيار أهل الكتاب في الوقت، وأسلم معهم غيرهم فقال: من بقي من أحبار يهود: ما آمن بمحمد - A - إلا شرارنا فأنزل الله الآية يفضل فيها من آمن منهم على من لا يؤمن. وقال الحسن: إن قوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يريد ما بين المغرب والعشاء. وقال ابن مسعود: معناها ليس أهل الكتاب سواء وأمة محمد A، القائمة يتلون آيات الله ويؤمنون بالله، ويفعلون كذا وكذا. قال مجاهد: قائمة عادلة. وقال قتادة: قائمة على كتاب الله D وفرائضه وحدوده. وقال ابن عباس: قائمة أي: مهتدية على أمر الله سبحانه مستقيمة. وقال السدي: قائمة مطيعة. وقال الأخفش: من أهل الكتاب أمة (أي: ذو أمة) بمعنى: ذو طريقة حسنة. وواحد آناء الليل اني: كقُنو وأقناء، وقيل واحد أني كمعي وأمعاء وحكى

الأخفش أني. وقال قتادة: آناء الليل ساعاته أي: يتلون في ساعات الليل. وقال السدي: هي جوف الليل. وقال ابن مسعود: [آيات الله] آناء الليل صلاة العتمة يصلونها، وما سواهم لا يصليها وروى ابن مسعود " أن النبي A خرج عليهم ليلة، وقد أخر الصلاة قال: فجاء النبي عليه السلام ومنا المصلي ومنا المضطجع فبشرنا، وقال: إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب: فأنزل الله D { لَيْسُواْ سَوَآءً} الآية ". وروى الثوري عن منصور أنه نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء. ومعنى يتلون آناء الليل: يتبعون بعضها بعضاً، (ومعنى) {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي: يصلون.

115

وقيل: المعنى يتلون الآيات في الصلاة، وهم مع ذلك يسجدون في الصلاة يعني السجود المعروف في الصلاة. ثم وصفهم الله فقال: {يُؤْمِنُونَ بالله} أي: يصدقون به وبما أنزل على أنبيائه من غيب الآخرة {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} أي: بالإيمان بالله ورسوله {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي: ينهون الناس عن الكفر بالله، وبمحمد A، ودل هذا من وصفهم على أن غيرهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. قوله: {مِنَ الصالحين}. أي: من عداد الصالحين. قوله: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} الآية. من قرأ بالتاء رده على المخاطبة في {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} تفعلون وتصنعون. ومن قرأ بالياء رده على الإخبار في قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله} ويفعلون كذا وكذا ثم قال {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ}. والياء فيها تخصيص لهؤلاء المذكورين. والتاء فيها عموم لجميع الأمة واختار الطبري وغيره التاء.

116

ومعنى [فلن تكفروه] فلن يغطى عليه، فتتركوا بلا مجازات عليه، وقال قتادة: " فلن تكفروه " فلن يضل عنكم. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الآية. هذه الآية وعيد بالأمة الفاسقة من أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم، ومعنى الكفر هنا تغطية ما أتى به محمد A وجحوده، ومعنى (ذلك) أن أموالهم لم تمنع عنهم ما ينزل بهم من العذاب في الآخرة شيئاً. قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا} الآية. المثل هنا بمعنى الشبه ومعناها: شبه ما يتصدق به الكافر يا محمد كشبه ريح فيها صر، وهو البرد الشديد {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} أي: زرعهم الذي أملوا إدراكه كما أمل الكفار وجود عملهم في الآخرة. ومعنى {ظلموا أَنْفُسَهُمْ}: عصوا الله ورسوله فأهلكته فصدقة الكافر كزرع هذا الظالم لنفسه، ونفقة الكافر هنا: صدقاتهم على أقربائهم تقرباً إلى الله D. وقيل: نفقتهم هو ما ينفقون على قتل النبي A وأذاه. وقيل: هي نفقة الكافر في الدنيا.

118

وقيل: هي قوله بلسانه ما ليس في قلبه فهو لا ينفعه [كما لا ينتفع] بالزرع الذي أصابته الريح التي فيها برد شديد. ومعنى {كَمَثَلِ رِيحٍ} أي: كمثل مهلك ريح، فتحقيق المثل إنما هو للحرث. والتقدير: مثل نفقة هؤلاء كمثل حرث أصابته ريح فيها صرٌ فأهلكته، فهو بمنزلة قوله: {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً} [البقرة: 171] والمعنى: [كمثل] المتعوق به أي: مثلهم في أنهم لا يعقلون ما يقال لهم كمثل الغنم لا تعقل بما يقال لها. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ. . .}. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين والمنافقين أولياء في هذه الآية. والبطانة: الدخيلة الذين يطلعهم الرجل على سره لأنهم كانوا لا يبقون غاية في التلبيس على المؤمنين، فأمر الله المؤمنين ألا يداخلوهم. وقيل: البطانة: الأصدقاء، وقيل: للأخلاء، والمعنى في ذلك متقارب ومعنى {مِّن دُونِكُمْ} أي: من دون أهل دينكم كما قال: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي: على أهل دينكم {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي: لا يقصرون في السوء والشتات بينكم، وهي البطانة

المنهي عنها. {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي: يتمنون لكم العنت والشر في أنفسكم ودينكم. وقيل: " ودوا عَنَتكم، أي: ما شق عليكم، وما نزل بكم من مكروه وضر. وأصل هذا أن يقال: أكمة عنوت: إذا كانت طويلة شاقة. ويقال: عنت العظم: إذا انكسر بعد جبر، ومنه قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت [مِنْكُمْ]} [النساء: 25] أي: المشقة. ونزلت هذه الآية في قوم من المسلمين كانوا يخالطون حلفاءهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودة قال ذلك ابن عباس. فنهاهم الله أن يصادقوهم دون المؤمنين وأن يستهجوهم في شيء من أمر دينهم فإنهم لا يقصرون في الخبال والشر لهم. وأكثر أهل التفسير على أنها نزلت في النهي عن مصافاة اليهود والمنافقين

119

ومخالطتهم ومصادقتهم وإنشاء الشر إليهم وأخبرهم أنهم يودون كفرهم وإضلالهم وما ينزل بهم من شر. وقوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} هو خبر مستأنف وليس بحال من البطانة. وقد قيل: إن {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} صفة ثانية للبطانة والصفة الأولى {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً}. {قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: ظهرت بألسنتهم وهو إقامتهم على الكفر، أو النفاق، والذي تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة لكم مما بدا لكم بألسنتهم {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} أي: العبارات من أمر هؤلاء {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} عن الله آياته ومواعظه. {هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} الآية. معناها: " أنتم أيها المؤمنون تحبون الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين. وقيل [هم] المنافقون نهى الله المؤمنين عن محبتهم لأن المؤمنين أحبوهم لما أظهروا الإيمان، فأخبر الله بما يسرون من العداوة والبغضاء لهم، ولأنهم لا يحبونهم، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ فقال: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: بل يبطنون لكم

العداوة والغش. وأولاء عند الطبري بمعنى: الذين، وهي على بابها عند غيره وأنتم: ابتداء، وأولاء: الخبر. وذهب القتبي إلى أنه نداء والمعنى: أنتم يا هؤلاء. وقيل: الضمير للمنافقين بدليل قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا} وقوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} الكتاب هنا بمهنى: الكتب كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس، يريد الدراهم. وقال ابن عباس: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} أي: بكتابكم وبكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك. وهذا يدل على أن الآية التي قبلها في اليهود دون المنافقين لأنهم أهل كتاب، ولا كتاب للمنافقين. قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} أي: عضوا على ما يرون من ائتلاف المؤمنين، واجتماع كلمتهم - والأنامل أطراف الأصابع - {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} أي: بالغيظ

120

الذي بكم أي: اهلكوا به، وهو دعاء في لفظ الأمر. [قوله] {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ}. معناها أي: إن تنالوا سروراً، [وظفر] بعدوكم وزيادة الناس في الدخول في الإسلام، وتصديق النبي A ساء ذلك اليهود. وقيل: يعني المنافقين - وإن يصبكم ضرر من عدوكم واختلاف بينكم فرح بذلك اليهود. وقيل: هم المنافقون. {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً}. من قرأ بكسر الضاد، والتخفيف، فهو من ضاره يضيره، وجزمه لأنه جواب الشرط. ومن قرأ يضركم فهو يحتمل ثلاثة أوجه: يجوز أن يكون ضم لالتقاء الساكنين مع الإدغام، وأصله يضرركم من ضره يضره فيم على لغة من قال: مد يا في كمن قال مديا.

وأهل الحجاز يظهرون في مثل هذا التضعيف، وقوله {إِن تَمْسَسْكُمْ} أظهر على لغة أهل الحجاز، ولا يضركم أدغم على لغة غيرهم. وقال الكسائي والفراء: رفعه على إضمار الفاء على معنى فليس [يضركم]. وقيل: هو مرفوع على تقدير التقديم والمعنى لا يضركم كيدهم إن تصبروا كما قال: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع وإجماعهم على الأخير يدل على قراءة من قرأ بالتخفيف. وروى المفضل عن عاصم لا يضركم بالتشديد والفتح، وهو أحسن من

121

الضم لأن الضم فيه إشكال. قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين} الآية. معناه واذكر إذ غدوت. واليوم الذي عنى به ذلك: يوم أحد عند مجاهد، وهو قول ابن عباس والسدي. وقال الحسن: هو يوم الأحزاب. واستدل من قال يوم أحد بقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} ولم يختلف المفسرون، وأهل السير أن الطائفتين هم بنو سلمة وبنو حارثة، وأن الذي ذكر من أمرهما إنما كان يوم أحد. واحتج من قال هو [يوم] الأحزاب بأن أهل الأخبار والتواريخ يقولون: إنما راح النبي A إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعدما صلى الجمعة بالناس في المدينة والله يقول: {وَإِذْ غَدَوْتَ} ولم يقل: وإذ رحت. وقيل: " إنما أمرهم النبي A يوم الجمعة غدوة أن يفتقدوا مواضع لنفسهم وجلس حتى صلى عليه السلام ثم خرج، فتبوؤه كان بالغداة بأمره لهم ومشورته إياهم ". و" لما شاورهم النبي A فيما يصنع أتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله، لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق، لأدخلن الجنة. فقال: بم؟ قال: يا

122

نبي الله بأني أشهد ألا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله وأني (لا) أفر من الزحف، قال: " صدقت " فقتل يومئذ. وقالت: الأنصار: يا رسول الله، ما علمنا عدواً لنا أتانا في دارنا قط فكيف وأنت فينا؟ وسألوه الخروج إليهم وكان رأي عبد الله هذا اسم أبيه أُبي واسمه عبد الله بن أُبي بن سلول ألا يخرج ويدعهم يدخلون وأكثر عليه الأنصار بالخروج إليهم فدعا رسول الله A بدرعه فلبسها فلما رأوه قد لبسها ندموا وقالوا: كيف نشير على رسول الله A، والوحي يأتيه، فقاموا، واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت؟ فقال رسول الله A: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته، فيضعها حتى يقاتل " ". قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}. معناه: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ}. والعامل في " إذ " ما قبله. والفشل: الجبن والضعف. والطائفتان هم بنو حارثة وبنو سلمة وذلك يوم أحد هموا بأمر فعصم الله منه، وهم خيار الأنصار.

123

وقد قال مجاهد: أما بنو سلمة فهو نحو سلع يوم الخندق قال السدي: خرج النبي A يوم أحد في ألف رجل فلما خرج رجع عبد الله بن أُبي بن سلول في ثلاثمائة فهمَّ بنو حارثة، وبنو سلمة بالرجوع حين رجع عبد الله فعصمهم الله، وبقي رسول الله في سبعمائة وبنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس. قال جابر بن عبد الله: نحوهم بنو سلمة وما يسرنا أنها لم تكن. فمعنى: إذ همت طائفتان منك أن تفشلا [لقول الله] والله وليهما. قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. . .}. هذا تذكير من الله لنبيه عليه السلام وللمؤمنين بنصره لهم في بدر، فالمعنى: فكذلك ينصركم فيما بقي.

ومعنى {أَذِلَّةٌ}: قليلون، فقد نصركم الله وأنتم قليلون فهو إلى نصركم وأنتم كثيرون أقرب، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، ويوم أحد ثلاثة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفاً. وكانت بدر في سبع عشرة ليلة خلت من رمضان لثمانية عشر [شهراً] من الهجرة بعد تحويل القبلة بشهرين، كذلك رواه مالك وكانت أحد على رأس واحد وثلاثين شهراً من مقدم النبي A المدينة في شوال يوم السبت للنصف من شوال من سنة ثلاث. قال مالك: فقتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ومن الأنصار سبعون. قال مالك: " بلغنا أن رسول الله A - يوم أحد كسرت رباعيته وأصيبت وجنته، وجرح في وجهه وتهشمت البيضة على رأسه وأنه أتى بماء في جحفة فكان يغسل به عنه الدم، وأحرق له حصير فأتى به فقال النبي A: اشتد غضب [الله] على قوم أدموا وجه رسوله " فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية ".

وقال أنس: كان يمسح الدم عن وجهه ويقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم " فأنزل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ}. قال أبو سعيد الخدري: " رمى عتبة بن أبي وقاص يومئذ رسول الله [ A] فكسرت رباعيته اليمنى وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب شجه في جبهته، وأن ابن قميئة جرح وجنته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله A في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، وأخذ علي بن أبي طالب بيده ورفعه طلحة حتى استوى

قائماً، ومص ما لك بن سنان، ابو أبي سعيد الخدري الدم عن وجهه ثم ازدرده، فقال النبي A: " من مس دمه دمي لا تصيبه النار " ". وسمي الموضع بدراً لأنه كان لرجل يسمى بدراً، فسمي الموضع باسم صاحبه. وقيل: كان هناك بير يسمى صاحبه بدراً، فسمي الموضع باسم صاحب البير، وقيل هو اسم للموضع وهي قرية بين المدينة والجار، وهو أول قتال قاتله النبي عليه السلام، اجتمع فيه مع المشركين على غير تواعد. وقوله: {فاتقوا الله} أي: قد كنتم قليلين فنصرتم بلزومكم الطاعة، وقد نزل بكم ما نزل يوم أحد وأنتم كثرة، وذلك لمخالفتكم لأمر نبيكم A وهو ما فعل الرماة جعل الله D " ما أصيب من المشركين يوم أحد عقوبة لما فعل الرماة، إذ عهد إليهم النبي عليه السلام ألا يبرحوا من مكانهم فمضوا للنهب وظنوا أن المشركين قد فرغ منهم، وقد كان قال لهم النبي عليه السلام: " لا تبرحوا، فلن يزال النصر لنا ما ثبتم في مكانكم " فلما رأوا المشركين قد انهزموا اطمأنوا وزالوا من مكانهم طمعاً في النهب فرجعت الهزيمة على المسلمين، فأصيب خلق كثير كل ذلك بذنوب الرماة ومخالفتهم ما أمر به نبيهم A فذلك قوله: {فاتقوا الله} أي: لا تعصوا النبي A في أمره لكم.

124

قوله {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ}. إذ متعلقة بتشكون. والمعنى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم، وذلك كله يوم بدر، وذلك أن المسلمين حُدِّثوا أن كرز بن جابر الحارثي بمد المشركين فاغتنموا لذلك، فقيل لهم {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} {بلى إِن تَصْبِرُواْ} على عدوكم {وَتَتَّقُواْ} أمر دينكم {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} ثم لم يأت كرز، ولم يمددهم الله بخمسة آلاف. وقال أبو أسيد مالك بن ربيعة وكان شاهد بدر وقد ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم [ببدر] ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، فعلى هذا يكون الله قد أمدهم وفعل بهم ما وعدهم به. وقال ابن عباس: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من تكون. قال: فبينما نحن على الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم قال: أما ابن عمي فأكشف قناع فلبه فمات مكانه، أما أنا فكدت

أهلك، وتماسكت. وقال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر وإنما كانوا في غيره من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون. وحكى أبو داود المازني وكان شهد بدراً قال: إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري. وحكى ابن عباس عن أبي رافع أنه قال: كنت أسلمت مع العباس بمكة، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان قد خرج مع القوم وكنت أجلس في حجرة زمزم أنحت القداح، فوصل إلينا خبر أهل بدر وما نزل بهم، فسرنا، فدخل أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة، ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب: هلم يا ابن أخي فعندك الخبر، فجلس إليه، والناس قيام عليه، فقال له: أخبرني كيف كان أمر

الناس؟ قال: لا شيء، والله إن كان إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا، ويأسروننا كيف شاؤوا! لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، وما تلين شيئاً، وما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة. ثم قلت: تلك الملائكة. قال ابن عباس: " أسر أبو اليسر كعبُ بنُ عمرو العباسَ وكان أبو اليسر رجلاً مجموا وكان العباس رجلاً جسيماً فقال رسول الله A: كيف أسرت العباس؟ فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك، ولا بعده هيأته كذا وكذا، فقال رسول الله A: لقد أعانك عليه والله ملك كريم ". وقيل: إن قوله: {إِذْ تَقُولُ} وما بعده في قصة يوم أحد هو كله وإنما وعدوا يوم بدر بأن يمدهم الله بألف من الملائكة مردفين. قال قتادة: قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليلون. ثم رجع إلى قصة أحد فقال: إذ تقول للمؤمنين الآيات ووعد الله [تعالى] المؤمنين يوم أحد أنهم إن ثبروا واتقوا بعد هذا اليوم أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسمين ففروا يوم أخد، ولم يتقوا النبي A [ في أمره، فلم يمدهم بشيء.

وقال ابن زيد: " سألوا النبي A] فقالوا يا رسول الله: هل يمدنا كما أمدنا يوم بدر؟ وذلك يوم أحد، فقال لهم النبي A: { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} " قال الشعبي وغيره: وعدهم بخمسة آلاف، إن جاءوا من ذلك الفور، فلم يجيئوا ولم يمدهم بخمسة آلاف وأمدهم يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، يوم أحد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين فهم أربعة آلاف وهم اليوم في جنود المسلمين. ومعنى {مِّن فَوْرِهِمْ هذا} أي: من وجههم هذا. وقيل: من غضبهم هذا لأنهم غضبوا يوم بدر. واستدل من قال أنه تعالى قد أمدهم بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}. وقال مجاهد: معنى مسومين " معلَّمين مجززة أذناب خيلهم ونواصيها [فيها] الصوف العهن، وذلك التسويم. وقال قتادة: ذكر لنا أن سيماهم يومئذ الصوف بنواصي خيلهم وأذنابها وأنهم

كانوا على خيل بلق وقد سوم النبي A أصحابه بالصوف. وقيل: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق عليها عمائم صفر، وكذلك كانت عمامة الزبير. وهذا كله يوم بدر، على كسر الواو لأنها سومت أنفسها، ومن فتح أضاف تسويمها إلى الله [تعالى ذكره. ومن فتح الواو أيضاً احتج بقوله {مُنزَلِينَ} بإضافة النزول إلى الله] سبحانه فكذلك التسوم، كانوا أنزلوا مسومين. وقيل: معنى مسومين: مرسلين من سومت الخيل: أرسلتها إلى السائمة. وحكى بعض النحويين سوم الرجل غلامه أرسله، وخلا سبيله فيكون المعنى على هذا مرسلين إلى الكفار وكذلك (قال) الأخفش معناه: مرسلين. وأكثر الناس على أن معنى مسومين معلمين: من السومة.

126

وقال مجاهد: لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وقال: مسومين معلمين بالصوف في أذناب خيلهم. قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ} الآية. أي: ما جعل الله النصر والمدد والوعد بذلك إلا بشرى لكم ولتسكن إليه قلوبكم. وقال مجاهد: لم يقاتلوا معهم يوم أحد، ولا قبله ولا بعده إلا في يوم بدر. {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله}. قال ابن زيد: لو شاء أن ينصركم بغير الملائكة فعل لأنه عزيز في انتقامه حكيم في تدبيره. فالهاء في {جَعَلَهُ} تعود على الإمداد، ودل عليه {يُمِدَّكُمْ} وقيل: تعود على المدد، وهم الملائكة لدلالة يمددكم على الملائكة الين يُمَدُّ السلمون بهم، وقيل: تعود على التسويم. وقيل: تعود على الإنزال لدلالة [منزلين] على ذلك. وقيل: تعود على العدد لأن خمسة آلاف عدد، فرجعت الهاء على المعنى. قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا} الآية. المعنى: ليقطع طرفاً من الذين كفروا

نصركم، فبهذا تتعلق اللام. ويجوز أن تكون متعلقة بـ " يمددكم ". والطرف: الطائفة [من الكفار بمحمد A] . [ وتقدير الآية {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} فيهلك من الذين كفروا بمحمد A] . قال قتادة: قطع الله بدر طرفاً من الذين كفروا، وقتل صناديد رؤسائهم في الشر. وقال السدي: عنى بذلك يوم أحد قتل منهم ثمانية عشر رجلاً، فذكرهم الله في قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً}، ثم ذكر الشهداء فقال بعد ذلك {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} [آل عمران: 169] ومعنى: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أو يخزيهم بالخيبة مما رجوا من الظفر {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ}. وقيل: معناه: أو يصرعهم لوجوههم سُمِعَ من العرب كبته الله لوجهه بمعنى صرعه. ذكره أبو عبيدة، وعن أبي عبيدة أيضاً، الكبت: الهلاك، وقيل: معناه: يغيظهم ويخزيهم ومنه {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]. والأصل فيه عند أهل النظر يكبدهم من أصاب كبده بشر وحزن وغيظ، ثم أبدل من الدال تاء لقرب مخرجهما كما قال: هرت التوب وهردت إذا حرضه يقال قد

128

أخرق الحزن كبده، والخائب الذي لم ينل ما أمل. قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية. هذا معطوف عند الطبري وغيره على {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، والمعنى عنده: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} ففي الكلام في قوله تقديم وتأخير. وعند غيره أو بمعنى إلا، فهي الناصبة بإضمار إن، ولا تقديم ولا تأخير في الكلام. ومعنى الآية: ليس لك يا محمد من الحكم في عبادي شيء، أو أتوب عليهم برحمتي إن شئت، فيؤمنوا أو أعذبهم فيموتوا على كفرهم {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي: قد استحقوا العذاب بظلمهم. وكان سبب نزول هذه الآية " أن النبي عليه السلام لما أصابه بأحد ما أصابه قال كالآيس منهم أن يؤمنوا: " كيف يفلح قوم فعلوا [هذا] بنبيهم " وقد كانوا كسروا رباعيته، وشج، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول " كيف يفلح قوم خضبوا نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم "؟ فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} الآية فكف رسول الله A عن الدعاء حين نزلت عليه الآية، وكان قد دعا عليهم قبل الآية وقال، في عتبة بن أبي وقاص حين كسرت رباعيته، ووشاء وجهه فقال

" اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً " فما حال عليه [الحول] حتى مات كافراً ". وقال ابن عمر: كان النبي A يقول: " اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية ". وروى أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام " أن النبي A صلّى الفجر فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم انجِ عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم اشدد وطأتك

129

على مضر اللهم سنين كسني يوسف فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} الآية " وروى ذلك أبو هريرة أيضاً - عن النبي A غير أنه قال: " واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، وزاد فيها الدعاء على قوم آخرين "، فلما نزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} ترك ذلك. وروى ابن وهب عن رجاله يرفعه إلى النبي عليه السلام " أنه كان يدعو على مضر إذ جاء جبريل A فأومأ إليه أن اسكت، فسكت فقال يا محمد: إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً، وإنما بعثك رحمة، ولم يبعثك عذاباً {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} قال: ثم علمه القنوت " اللهم إنا نستعينك. . . إلى آخره ملحق ". وقال بعض الكوفيين: إن هذه ناسخة للقنوت الذي كان النبي عليه السلام جعله في صلاة الصبح، وأكثر الناس على أنه ليس بمنسوخ. قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}. هذا تأكيد لما قبله أن الله له كل الأشياء يفعل ما يريد ويحكم ما يريد فيغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء ويعذب من يشاء. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرباوا أضعافا مضاعفة} [أضعافاً]: حال من الربا.

133

قال النحاس: هو مصدر، وهو غلط منه، وهذا نهي من الله D للمؤمنين أن يأكلول الربا بعد إسلامهم. ومعنى {أضعافا} أي: تضعفون الدين إذا أخرتم الأجل، كان الذي عليه الدين يقول: أخرني، وأزيدك فإذا حان قال: أخرني وأزيدك، فيتضاعف الدين عليه. {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تنجون. والمفلح الذي أدرك ما أمل ونجا مما خاف. {وَأَطِيعُواْ الله والرسول} أي: أطيعوه فيما نهاكم عنه من أكل الربا، وأطيعوا الرسول أن تخالفوه كما خالفتموه يوم أحد فهذه معاتبة من الله D للذين عصوا يوم أحد، قال ابن عباس. قوله: {سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} الآية. معناه: بادروا بالأعمال الصالحات، أي: إلى ستر ذنوبكم من ربكم، والمغفرة الستر - ومنها المغفر. وسارعوا أيضاً إلى جنة هذه صفتها. ومعنى {عَرْضُهَا السماوات والأرض}.: أي عرضها كعرض السماوات السبع، والآراضين السبع إذا ضم بعضها إلى بعض. قال ابن عباس: تقرن السماوات السبع، والآرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذلك عرض الجنة ولا يصف أحد طولها لاتساعه، والله أعلم بذلك. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: لو أن السماوات بسطن، ثم وصل بعضها إلى بعض ما كُنَّ في سعة خلق الله إلا بمنزلة

134

الحلقة في المفازة. وكم لله من عالم أعظم من السماوات والأرض! [وروي أن لله تعالى اثني عشر عالماً السماوات والأرض] منها عالم واحد. قال أبو محمد Bهـ: والله أعظم من ذلك كله، ويقدر على أكثر من ذلك كله لا إله إلا هو. وقد قيل معنى {عَرْضُهَا السماوات والأرض} أي: سعتها كسعتهن ومن قول العربي أرض عريضة أي: واسعة، وليس يريد العرض الذي هو خلاف الطول. قال أنس بن مالك: يعني بالمسارعة: التكبيرة الأولى. وسئل النبي عليه السلام وقيل له: " هذه الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال: هذا النهار إذا جاء فأين الليل؟ " وروي أن بعض أهل نجران سألوا عمر عن ذلك فأجابهم بذلك فقالوا: لقد نازعت بمثل ما في التوراة. قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} الآية. هذه صفة المتقين الذين أعدت لهم الجنة ينفقون أموالهم في الله في حال السرور. والسراء مصدر سرني مسرة وسروراً. والضراء مصدر، قد ضُرَّ فلان إذا أصابه الضر، وهو الضيق والجهد. قال ابن

عباس: في السراء والضراء في اليسر، والعسر. {والكاظمين الغيظ} أي: الذين يتجرعون غيظهم عند امتلاء أنفسهم. وقيل الكظم: الحبس، فمعناه: والحابسين غيظهم {والعافين} أي: الصافحين عن جنايات الناس وذنوبهم وهم على الانتقام قادرون. قال أبو العالية: {عَنِ الناس} أي: عن المماليك. وقال النبي صلى الله عليه سلم " من كظم غيظاً، وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً " وقال ابن عباس: هذا كقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى 34] {والعافين عَنِ الناس} مثل قوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} [النور: 22]. . . إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22] الآية. وروي عن النبي A أنه قال: " ما تجرع عبد جرعة خير له من جرعة غيظ ".

135

وقال " أفضل أخلاق المسلمين العفو ". {والله يُحِبُّ المحسنين} أي: يحب من عمل بهذه الصفات. وعن الحسن أنه قال: {والكاظمين الغيظ} عن الأرقاء {والعافين عَنِ الناس} إذا ما جهلوا عليهم. قوله: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية. هذا كله من نعت المتقين الذين أعدت لهم جنة عرضها السماوات والأرض. وروي عن جابر أنه قال: الفاحشة هنا: الزنا وكذلك (قال) السدي. وقيل: هي كل فعل قبح [في] الشر [ع]. ومعنى {أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ}: فعلوا غير الذي ينبغي. قال النخعي: الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم. ومعنى {فاستغفروا} أي: استدعوا الغفران من الله D وهو الستر على فعلهم {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} أي: من يسترها على فاعلها إلا الله. وقال عطاء بن أبي رباح: قال أصحاب النبي A: " يا نبي الله، بنو إسرائيل

أكرم على الله منا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه [على بابه] مكتوبة: أجدع أنفك، افعل كذا، فسكت رسول الله A، فنزلت {سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. . . إلى قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فقال النبي A: ألا أخبركم بخير من ذلكم؟ ثم قرأ الآيات. فقيل: إنها خصوص أمة محمد A، لأن بني إسرائيل كانت تمتحن على ذنوبها، وتعاقب عليها في الدنيا ". قال ثابت البناني لما نزلت. {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية: بكى إبليس فزعاً منها، قال: وبلغني أنه بكى حين نزلت {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} الآية. قال علي بن أبي طالب: كنت إذا سمعت من رسول الله A حديثاً ينفعني الله منه بما يشاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر قال: " سمعت رسول الله A يقول: ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، فيحسن الطهور، ثم يستغفر الله إلا غفر له " ثم تلى هذه الآية {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً}. وروي عنه زيادة في هذا الحديث وهو أنه قال: ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر.

وروي أن هذه الآية نزلت في نبهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه ثمراً فضرب على عجزها فقالت: والله ما حفظت غيبة أخيك، ولا نلت حاجتك؟ فأُسقط في يده، فذهب إلى أبي بكر فقال له: إياك أن تكون امرأة غازٍ. ثم قال له عمر مثل ذلك، وقال النبي عليه السلام مثل ذلك، فذهب يبكي فنزلت في اليوم الرابع {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية. وقال النبي عليه السلام: " إن الله يغضب للغزاة كما يغضب للمرسلين ويستجيب لهم كما يستجيب للمرسلين ". وروي أن نبهان التمار أقام ثلاثة أيام صائماً حزيناً يبكي على ذنبه، فلما نزلت الآية أعلمه النبي A بها فشكر الله، ثم قال: يا نبي الله هذه توبتي قبلها الله مني، فكيف حتى يتقبل شكري؟ فأنزل الله {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] الآية. ومعنى {ذَكَرُواْ الله} [أي]: ذكروا نهي الله عما ركبوا وما أحدثوا فاستغفروا {لَمْ يُصِرُّواْ} أي: لم يتمادوا ولم يثبتوا على ما فعلوا. وقيل {لَمْ يُصِرُّواْ} أي: لم يسكتوا عن الاستغفار قاله السدي. والمعنى عند أكثر المفسرين، وأهل اللغة لم يقيموا متعمدين على الذنب، وترك التوبة منه.

136

وقال الحسن: المعنى لم يواقعوه إذ هموا به، جعل الآتي للذنب مصراً في حال إتيانه، وهو بعيد عند أهل اللغة، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ". وقال السدي: معنى {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: لم يقيموا على ترك الاستغفار وهم يعلمون [أنهم اذنبوا. وقيل: المعنى يعلمون أن الذي أتوا معصية. وقيل المعنى {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}] أنهم إن تابوا تاب الله عليهم. وقيل المعنى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إني معاقب على الإصرار. وقيل: المعنى: وهم يذكرون ذنوبهم. قوله {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ} الآية. المعنى: أولئك الذين مضت صفتهم جزاؤهم مغفرة أي: ثوابهم مع ما ذكر مما أعد لهم {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي: ثواب المطيعين. قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض}.

138

المعنى: قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم يا أصحاب محمد سنن وسير نحو: إهلاك عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم فتركتهم عبراً {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} للرسل الجاحدين للكتب. وهذا إعلام من الله تبارك وتعالى للمؤمنين أنه سيهلك من أدال له على المسلمين للمشركين يوم أحد، وأنه إنما فعل لهم ذلك استدراجاً منه لهم، وإمهالاً حتى يبلغ الكتاب أجله. وأصل السنة الطريقة المستقيمة. وقيل: {سُنَنٌ} هنا أمثال فيمن كان قبلكم. قوله: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} الآية. وقال الحسن: {هذا} إشارة إلى القرآن، وقاله قتادة. وقال الربيع: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} عامة وهو القرآن {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} خاصة. وقال ابن اسحاق: {هذا} إشارة إلى قوله {قَدْ خَلَتْ} الآية. وقال الشعبي: {وَهُدًى} من الضلال {وَمَوْعِظَةٌ} من الجهل وذلك لمن اتقى المحارم. قوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} الآية هذه الآية تعزية لأصحاب محمد A فيما

140

أصابهم يوم أحد من الجراح، والقتل فعزَّاهم الله، وبشّرهم أنهم الأعلون. ومعنى {وَلاَ تَهِنُوا}: لا تضعفوا عن قتال عدوكم {وَلاَ تَحْزَنُوا} على ما فات، فإلى النعيم المقيم صار، وأنتم مع ذلك الظافرون فيما تستقبلون {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين لمحمد A وما أتى به. قال ابن جريج: " لما انهزم أصحاب النبي عليه السلام يوم أحد في الشعب قالوا: ما فعل فلان، ما فعل فلان؟ فنعى بعضهم بعضاً، وتحدثوا أن الرسول A [ قتل، فكانوا في هم وحزن على النبي A] فبينا هم كذلك إذ علا خالد بن الوليد [الجبل] بخيل من المشركين فلما رأى المسلمون النبي A فرحوا، وثاب قوم من الرماة [من المسلمين فصعدوا الجبل فرموا المشركين حتى انهزموا وعلا المسلمون الجبل فنزل {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} فقال النبي A " اللهم لا قوة إلا بك وليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر " ". قال ابن عباس: لما أتى خالد بن الوليد يريد أن يعلو الجبل بخيل معه، قال النبي عليه السلام: " اللهم لا يعلون علينا " فأنزل الله: {وَلاَ تَهِنُوا} الآية. قوله {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ} الآية. هذا تعزية للمسلمين فيما أصابهم من الجراح والقتل يوم أحد وأنهم إن كان

أصابهم ذلك فقد أصاب المشركين مثله يوم بدر، ثم قال: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أي: إن ظفرتم يوم بدر فكانت لكم دولة، ثم كانت الدولة للمشركين يوم أحد غليكم بمعصيتكم أمر نبيكم A كل ذلك ليبتلي الله المؤمنين، وليبلغ الكتاب أجله. وروي أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل من المسلمين يوم أحد سبعون، وكثر الجراح في الباقين حتى شج رسول الله A، وكسرت رباعيته والقَرح والقُرح لغتان عند الكسائي والأخفش وقطرب كالضُعف والضَعف. وقال الفراء: الفتح اسم الجرح، والضم اسم الألم. ولم يعرف أبو عمر الضمن. وقال يعقوب الحضرمي: المفتوح ما كان بسلاح، والمضموم الجهاد كذا وقع عنه. قال ابن عباس: " لما كان يوم أحد وأصاب المسلمين ما أصاب صعد النبي A الجبل فجاء أبو سفيان فقال يا محمد: الحرب سجال يوم لنا، ويوم لكم فقال النبي عليه السلام: أجيبوه فقالوا له: لا سواء لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في الناؤ. فقال له أبو سفيان: لنا عزى ولا عزى لكم، فقال النبي A أجيبوه. فقالوا: الله مولانا ولا مولى

لكم [فقال أبو سفيلن: أعل هبل أعل هبل، فقال النبي A: قولوا: الله أعلى وأجل]. فقال أبو سفيان: موعدنا، وموعدكم بدر الصغرى، فنزلت {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} ". قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين} أي: داوها ليعلم الله المؤمنين من المنافقين علم مشاهدة، وهو عالم بهم قبل أن يخلقهم الله ولكن أراد العلم الذي يقع عليه الجزاء {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} أي: يكرم من أراد بالشهادة. والشهداء جمع شهيد، وسمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة. قال ابن جريج: كان المسلمون يسألون الله أن يريهم مثل يوم بدر، فيقاتلون ويلتمسون فيه الشهادة، فابتُلوا بيوم أحد، فخالف الرماة، فقتل من المسلمين، واتخذهم الله شهداء، فبلغهم أملهم الذي كانوا قد أملوا وسألأوا. وقال ابن عباس: يسألون الشهادة فقتلوا يوم أحد. تم الجزء التاسع

141

قوله: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ}. المعنى: داول الله [الأيام] بين الناس، فيعلم المؤمنين من المنافقين، وليمحص ذنوب المؤمنين. يقال: محصه إذا خلصه فمعناه على هذا: وليخلص الله المؤمنين من ذنوبهم داول الأيام بين الناس، ومنه قولهم: اللهم محص عنا ذنوبنا أي خلصنا من عقوبتها. وقيل: معنى ليمحص ليبتلي. ومعنى: {وَيَمْحَقَ الكافرين} أي: يستأصلهم. وقيل يمحق أعمالهم. وقيل: ينقصهم ويفنيهم. يقال: محق فلان الطعام إذا نقصه وأفناه. وقال مجاهد: وليمحص وليختبر. قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ} الآية. قرأ الحسن ويحيى بن يعمر {وَيَعْلَمَ الصابرين} عطفاً على {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله}. ومن نصب في ظهر " أن " عند الخليل وسيبويه، وعلى الصرف عند الكوفيين،

143

ومعنى الصرف عندهم أن يكون في أول الكلام جحد، أو استفهام أو نهي، ولا تمكن إعادته مع حرف العطف فإذا لم تمكن إعادته لم يعطف بالثاني على الأول، ولكن يصرف على العطف على النصب. والمعنى: أم حسبتم أيها المؤمنون أت تنالوا الكرامة، ولم تختبروا بالشدة والبأساء، فيعلم منه صدقكم وصبركم واقعاً وقد كان تعالى ذكره، علمه غيباً، ولكن لا تقع المجازاة إلا على ما خرج من الأفعال إلى الوجود. قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} الآية. المعنى: لقد كنتم يا أصحاب محمد تتمنون الموت، وذلك أن أناساً فاتهم حضور بدر، وما أ'طي أهل بدر من الفضل، فكانوا يتمنون الموت أن يجاهدوا، فيبلوا العذر في القتال في الله D. ومعنى: {تَمَنَّوْنَ الموت} أي: القتل الذي هو سبب الموت {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: رأيتم سبب الموت {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} أي: بصراء تشهدون ذلك عن قرب. قال القتبي {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}: يعني أسباب الموت وهي السيف والسلاح. وقيل: الهاء في رأيتموه تعود على محمد A. فلما كان يوم أُحد حضروا القتال، فولى قوم وأبلى [قوم] العذر، وأوفوا بما

144

عاهدوا، وهم الذين قال الله فيهم: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23] أي: استشهد فقتل، {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} أي: الشهادة {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أي: ما بدلوا العهد الذي عاهدوا الله عليه من ابتلاء العذر في الجهاد في الله D. وقيل: إنهم كانوا يتمنون الشهادة في القتال فقتلوا يوم أحد. قال الحسن: لما سألوا، ابتلوا بيوم أحد [فلا] والله ما كلهام صدق. قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية. معنى الآية أن الله أخبرهم أن محمداً كبعض رسله المتقدمين في الرسالة والدعاء، الذين قد مضوا وخلوا، فلما حضرت آجالهم ماتوا فمحمد A مثلهم ميت عند انقضاء أجله، وهذا إنما هو معاتبة من الله للمؤمنين على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل فب أحد إن محمد A قد قتل، ومقبحاً لهم انهزام من انهزم منهم حين سمع ذلك. ومعنى: {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} أي: ارتددتم عن دينكم لو مات، وهل هو إلا مثل من تقدمه من الرسل ميت عند انقضاء أجله؟ فلو مات أكنتم تكفرون؟ {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} أي: من يرتدد عن دينه {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} سبحانه ارتداده. وفي

لفظ الاستفهام تقديم وتأخير، وذلك أنهم إنما وبخوا وعوذلوا على الانقلاب على العقبين، فهم لم ينكروا موت محمد A فيقع عليه لفظ الاستفهام الذي يدل على التوبيخ، ولا أنكر عليهم ذلك، إنما أنكر عليهم انقلابهم، فحق الاستفهام الذي للتوبيخ أن يقع على ما أنكر عليهم وهو انقلابهم، ومثله {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] لم يستفهم عن الموت وإنما استفهم عن خلودهم بعد موت محمد A؟ أيكون أم لا؟ فحق الاستفهام أن يقع عليهم، فيكون: أفهم الخالدون إن مت؟ وكذلك هذا حقه. أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل؟ ففيه اتساع معروف في كلام العرب مشهور قد علم معناه. والأصل في ذلك أن كل استفهام دخل على حرف الجزاء، فالاستفهام في غير موضعه وحقه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط داخلاً على الجواب، فهذا تقديره حيث وقع. أو قولهم {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} أي: وسيثيب الله D من شكره على هدايته له، وتوفيقه إياه. قال علي بن أبي طالب Bهـ: أبو بكر أمير الشاكرين، فالآية إنما نزلت فيمن انهزم من أصحاب النبي A. قال قتادة: لما كان يوم أحد من الشناعة ما

كانت في قتل النبي A قال ناس: لو كان نبياً ما قتل. وقال ناس من عليه أصحاب النبي A: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله، أو تلحقوا به، فأنزل الله تبارك وتعالى في عتاب من قال: لو كان نبياً ما قتل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}. وذكر الربيع أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمداً A قد قتل؟ فقال الأنصاري: وإن كان محمد A قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. قال السدي: " لما برز رسول الله A إليهم يوم أحد بعد صلاة لجمعة يوم الجمعة، أمر الرماة فقاموا في أصل الجبل في وجوه خيل المشركين. وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات، ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن لأسود على المشركين فهزموهم وحمل A وأصحابه فهزموهم وهزموا أبا سفيان.

فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة من المسلمين، فانقطع، فلما نظر الرماة إلى رسول الله A وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينهبونه بادروا الغنيمة، فقال بعضهم لبعض: لا تتركوا أمر رسول الله A، وانطلق عامتهم فلحقوا بالمعسكر فلما رأى خالد قلة من بقي من الرماة صاح فيه خيله، ثم حمل فقتل الرماة، وحمل على أصحاب محمد، فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل شدوا على المسلمين وتنادوا فقتلوا من المسلمين عدداً، وأتى ابن قميئة الحاري فرمى [رسول الله A بحجر فكسر رباعيته، وشجه في وجهه، وتفرق عن النبي A أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وصعد بعضهم الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها وجعل] رسول الله A يدعوا الناس ويقول: [إلي عباد الله] فاجتمع إليه ثلاثنون رجلاً، وجعلوا يسيرون بين يديه، ولم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف، وأقبل أبي بن خلف الجمحي وقد حلف ليقتلن النبي A فقال له النبي A: بل أنا أقتلك فقال: يا كذاب، أين تفر؟ فحمل عليه فطعنه النبي A طعنة في الدرع، فجرحة فوقه يخور خوار الثور، فحماه المشركون وقالوا: ليس بك بأس، فما

145

يجزعك؟ فقال: أليس قال: لأقتلنك، لو كانت الضربة لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم فلم يلبث حتى مات [و] فشا في الناس أن محمداً A قد قتل فقال بعض أحصاب الصخرة: ليتنا أخذنا من المشركين أماناً، وضعفوا، وقال بعضهم: يا قوم إن كان محمد A قد قتل، فإن رب محمد A لم يُقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم A اللهم إنا نعتذر إليك مما قال هؤلاء ". ويروى " أن الذي قال ذلك واعتذر: أنس بن النضر، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وانطلق رسول الله A يدعو حتى أتى أصحاب الصخرة فلما رأوه أراد رجل منهم أن يرميه، ولم يعرفه فقال: أنا رسول الله، ففرحوا وفرح رسول الله بهم، وذهب عنهم الحزن وأنزل الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية ". وقال الضحاك: نادى منادٍ يوم أحد: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول فأنزل الله {وَمَا مُحَمَّدٌ} الآية. قوله {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الآية معناه: لا تموت نفس إلا بإذن الله، وليس هو نهي للنفس، لأن ذلك ليس هو في يديها وهو بمنزلة

146

{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] أي: كونوا مسلمين حتى يصادفكم الموت عليه، وليس هو نهي عن شيء لأن ذلك ليس إليهم ليس الموت في أيديهم، وله نظائر كثيرة ليس معناها النهي عن المذكور إنما معناها النفي، كأنه قال: لا تفارق الإسلام حتى يأتيكم الموت، وأنتم عليه كذلك. هذا نعنى لا تموت نفس إلا بإذن الله، أخبرهم الله في هذه الآية أن محمداً A وغيره لا يموت إلا بإذن الله، وإذا أتى أجله. " وكتاباً " منصوب على المصدر أي كتب الله ذلك كتاباً. قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من يرد بعمله أعراض الدنيا دون ما عند الله يعطه ما قسم الله منها يرزق أيام حياته، ولا حظ له في الآخرة، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة}، أي ما عند الله من الكرامة {نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} أي: سنتيب من أطاعني وقبل أمري، لأن اتباع أمر الله والعمل بطاعته من أعظم الشكر. قوله: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ} الآية.

قال الخليل: من قرأ كأين بهمزة بعد ألف وهي قراءة أهل مكة فإنما قدم الياء قبل الهمزة ثم جعلها ألفاً وسكنت الياء الثانية لأنها بعد همزة مكسورة. وأما من قرأ وكأي فإنها عند الخليل (أي): دخلت عليه كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم، فيجب على قوله أن تقف بغير نون في قراءة الجماعة كما تقف على (أي): وهو مذهب سيبويه وكذلك حكى عن أبي عمرو، والكسائي، وروي عنهما الوقف على النون. فمن وقف بالنون في هذه القراءة، فإنما ذلك لأنه اتبع السواد وهو في المصحف بالنون على قراءة من قدم الألف قبل الهمزة وهي قراءة ابن كثير ومن قرأ: " قتل ": فالمعنى عند عكرمة أن القتل إخبار عما فعل بالأنبياء عليهم السلام، وأنهم قتلوا فيما مضى، وأن من كان معهم لم يضعف بعده ولا تضعضع. ثم أخبر عن قولهم بعد نبيهم A، وثباتهم على دينهم، فيكون التمام على هذا قتل وفيه بعد لأن ما بعده من صفة نبي ويكون معنى الآية: أن الله وبخ بذلك

أصحاب النبي الذين ضعفوا يوم أحد حين قيل: قتل محمد! فأخبرهم أن كثيراً من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان معهم ليتأسوا بهم. وقيل: المعنى أن الله D أخبر أنه قد قتل مع الأنبياء عليهم السلام {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} فما وهن من بقي ولا ضعف ولا ذل، فيتأسى المسلمون بهذا، فلا يضعفون لما أصاب أصحابهم من القتل يوم أحد، فلا يكون التمام على هذا قتل لأن " الربيون " مرفوع بقتل، والأول أحسن لأن كعب بن مالك قال: أول من عرف رسول الله A يوم أحد أنه لم يقتل: أنا، رأيت عينيه تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله A فأومأ إلي النبي A أن: اسكت. وكان قد صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد فانهزم المسلمون إلا قليلاً منهم، فأنزل الله D { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ} أي: كثير من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان بعده ولا ذل، فكيف اردتم أيها المؤمنون أن تضعفوا حين سمعتم الشناعة بأن محمداً A قد قتل، فتأسوا أيها المؤمنون بمن كان قبلكم من أصحاب الأنبياء صلوات الله عليهم، الربيين.

وعلى تأويل اختار قوم من العلماء قراءة من قرأ قتل لأنهم عوقبوا على ضعف بعضهم لما سمعوا لقتل النبي A. ومن قرأ قاتل حمله على معنى أنهم وهنوا لقتل أصحابهم وجراحم، فأنزل الله D عليهم يعلمهم أن كثيراً من الأنبياء قاتل مع أصحابه وأتباعه، فلم يضعفوا لما أصابهم من قتل وجراح فتأسوا بهم. واختار بعض أهل اللغة قاتل لأنه أبلغ في المدح من قتل لأن الله تعالى إذا مدح من قاتل كان من قتل أدخل في المدح لأنه لم يقتل إلا بعد القتال، فالقاتل والمقتول ممدوحان في قراءة من قرأ قاتل وهو إذا مدح من قتل فليس من قاتل، ولم يقتل بالممدوح، فقاتل أبلغ في المدح للجميع. " والربيون " الذين يعبدون الرب نسبوا إليه لعبادتهم إياه وإقرارهم له، وهو معنى مروي عن الحسن وغيره. واحدهم ربي منسوب إلى الرب ولكن كسرت الراء اتباعاً للكسرة التي بعدها كما قالوا: نسي وعصي فكسروا الأول للاتباع، وقيل: الربانيون الجماعات. وقيل: هم العلماء الألوف.

قال ابن عباس: ربيون جموع كثيرة. وقال ابن جبير: علماء كثير. وقال الحسن: فقهاء وعلماء. وقال ابن المبارك: أتقياء صُبُر. وقال ابن زيد: الربانيون الأتباع، والربانيون الولاة. وقيل الربانيون: منسوب إلى الرب أيضاً واحد ربي وزيدت الألف والنون للمبالغة كالنسبة إلى الجهة: جهاتي ثم جمع بعد الزيادة وقد مضى ذكره. وقال ابن زيد: هذا عتاب من الله D لأصحاب النبي عليه السلام حين صاح إليهم الشيطان يوم أُحد أن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم. وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء: رقبيون بضم الراء غُير أوله بالضم كما قالوا في النسب إلى الدهر دهري. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} أي: ما ضعفوا، ولا عجزوا لما أصابهم من آلام الجراح، وقتل أصحابهم: وقيل: لم يعجزوا لما أصابهم من قتل نبيهم A ولا آلام جراحهم، ولم يعجزوا عن القتال في سبيل الله تعالى بعد نبيهم A.

147

والوهن أشد الضعف. وكان سعيد بن جبير يقول: لم أسمع بنبي قتل في الحرب، فلا يكون الوقف على قوله: قتل البتة. قوله: {وَمَا استكانوا} أي: ما خشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم، ولكن مضوا على بصيرتهم في نصر دينهم وصبروا. قال ابن اسحاق: ما وهنو لفقد نبيهم، وما ضعفوا عن قتال عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الحرب. قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا}. حكى الله D للمؤمنين قول الربيين الذين ذكرهم ليتأسوا بهم، فأخبرهم أنهم لم يعتصموا إلا بالصبر ومجاهدة عدوهم، ومسألة ربهم المغفرة والنصرة على عدوهم. ومعنى: {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} أي: خطايانا وظلمنا لأنفسنا. وقال الضحاك: هي الكبائر وسألوه المغفرة فيها. قوله: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا} الآية]، المعنى: فأعطى الله المؤمنين الربيين ثواب الدنيا أي: النصر على عدوهم والظفر والغنيمة {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} أي: خير

149

جزاء الآخرة وهو الرضوان من الله: {والله يُحِبُّ المحسنين} أثنى عليهم أنهم محسنون وأن الله يحبهم. قوله {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} الآية. هذه الآية تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يطيعوا المنافقين والكافرين بمحمد في أمر، أو يقبلوا منهم نصيحة، وأ'لمهم أنهم إن قبلوا منهم ردوهم كافرين مثلهم، فيخسرون دنياهم وآخرتهم. قوله {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} أي: بل الله وليكم ينقذكم من طاعة الكافرين التي ترديكم فأطيعوه ولا تستنصروا بغيره فهو خير من استنصرتم به. قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} الآية. بشر الله تعالى المؤمنين بما صنع بالمشركين، ويصنع بهم. قال السدي: " ارتحل المشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة إذا بلغوا بعض الطريق ندموا فقال لهم أبو سفيان: بئس ما صنعنا، قاتلناهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله D في قلوبهم الرعب وانهزموا، فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً فقالوا له: إذا لقيت محمداً، وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم. كذباً منهم لما قد جعل في قلوبهم من الرعب، وأعلم الله D نبيه A بأمرهم ورعبهم، فخرج النبي A في طلبهم فلم يلحقهم، وقال النبي A " نصرت بالرعب " ".

152

قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} الآية. أعلم الله D المؤمنين أنه قد صدقهم وعده الذي أتاهم على لسان نبيه، وهو قوله للرماة بأحد: اثبتوا مكانكم ولا تبرحوا، وإن رأيتمونا هزمناهم، فإن لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره. وقال لمن معه غير الرماة: إذا هزمناهم فلا تتبعوهم فقام الرماة بأصل الجبل. ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم من أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار، فقام إليه علي بن أبي طالب Bهـ فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط، وانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم ابن عم، فتركه وكبّر النبي A، وقال لعلي أصحابه: ما منعك أن تجيز عليه؟ فقال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه، [ثم شد الزبير بين العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزمهم، وحمل النبي A وأصحابه وهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فنقمع، ثم أيقن الرماة بأن المشركين انهزموا، وأن

رسول الله A [ وأصحابه] ينهبونهم، فلحق أكثرهم بالعسكر من نهب وثبت [الأقل] لأمر رسول الله A. فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل على من بقي من الرماة فقتلهم، وحمل على أصحاب محمد A، فلما رأى المشركون خيلهم تقاتل تراجعوا فشدوا على المسلمين فهزموهم، وقتلوا وجرحوا فأصيب من المسلمين سبعون رجلاً، وكان أبو سفيان أقبل إلى المدينة في ثلاث خلون من شوال، فنزل بأحد، وكانوا في ثلاثة آلاف معهم مائتا فارس، فخرج إليهم النبي A [ في سبعمائة رجل، فمعنى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} أي: الذي وعدكم على لسان نبيه A] من النصر إذا ثبت الرماة حق، وكان النبي A أخبرهم [أنهم] سيهزمون المشركين، فكان ما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيهم A حق، فهو الوعد الذي صدقهم الله تعالى. فلما (فشلتم وتنازعتم وعصيتم) طلباً للغنيمة يعني ما فعله الرماة والذين اتبعوا الهزيمة {بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} وهو هزيمة المشركين. ومعنى {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي: تقتلونهم بعلمه، والحسن: القتل الذريع وذلك في أول الهزيمة التي كانت على المشركين قبل أن يزول الرماة من مكانهم.

وقيل: بإذنه بحكمه. وقيل: بتسليطه إياكم عليهم. ومعنى: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} هو اختلاف الرماة قال قائلون: نمضي للغنيمة. وقال آخرون: لا نبرح ولا نخالف أمر رسول الله A فمضى الأكثر وكان ذلك سبب قتل من بقي. ومعنى: {فَشِلْتُمْ} جبنتم، وتخاذلتم، وعصيتم النبي A فيما أمركم به وقد كان الله تعالى: صدقكم وعده الذي أخبركم به نبيكم A { أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من النصر إذ هزم عدوكم ولكنكم اخترتم الدنيا وهي الغنيمة. قال مالك: لما نزلت يوم أحد: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} قال عبد الله بن مسعود: والذي بعث محمداً A بالحق ما ظننت أن فينا أحداً يريد الدنيا. ومعنى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} أي: يريد الغنيمة، وأخذ الأموال وقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد أن استوليتم عليهم، ورأيتم ما تحبون من هزيمتهم، وقتل صاحب رايتهم فعل ذلك بكم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يختبركم {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} هذا لمن عصى من الرماة خاصة. وقال ابن جريج: معنى

153

{وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} إذ لم يستأصلكم بالقتل، وقاله غيره. قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} الآية. العامل في إذ عفا، كأنه قد عفا الله عنكم أيها المؤمنون {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: تلوون منهزمين في الوادي والرسول يدعوكم إليّ عباد الله، فالهرب في مستوى الأرض وبطون الأودية اصتعاد، وفي الجبل صعود لأنه كالسلالم والدرج. وقرأ الحسن " إذ تَصعَدون " بفتح التاء والعين على تأويل إنهم صعدوا الجبل منهزمين، وقد روي أن بعضهم صعد الجبل. قال السدي: " لما وقعت الهزيمة على المسلمين دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل النبي A يقول: إلي عباد الله إلي عباد الله ". وقال القتبي: {إِذْ تُصْعِدُونَ} تبعدون في الهزيمة يقال: اصتعد في الأرض إذا أمعن

في الذهاب. {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي: لا ترجعون ولا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً من عدوكم {فأثابكم غَمّاًً بِغَمٍّ} أي: جزاكم بفراركم عن نبيكم A، وفشلكم عن عدوكم، ومخالفتكم غماً على غم، الباء في موضع على. ومعنى: {فأثابكم} جعل ما يقوم مقام الثواب لكم غماً بعد غم مثل: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، التوبة: 34، والانشقاق: 24]. فالغم الأول: ما لحقهم على نبيهم A حين سمعوا أنه قتل. والثاني: ما لحقهم من الجراح، وقتل أصحابهم لأنه قتل يومئذ ستة وستون من الأنصار وأربعة من المهاجرين. قوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} أي: من الغنيمة {وَلاَ مَآ أصابكم} من ألم الجراح والقتل. وقيل: الغم الأول: ما صاحبهم على قتل أصحابهم، وجراحهم. والثاني: ما أصابهم حين سمعوا أن محمداً A قتل. وقيل: الغم الأول: أسفهم على ما فات من الغنيمة. والثاني: اطلاع أبي سفيان عليهم في الجبل، فخافوا حين أتاهم، فرموه، فرجع عنهم وقد كانوا فزعوا منه أن يميل عليهم فيقتلهم فهو الغم الثاني. وكان من قتل يومئذ ستة وستون من الأنصار وأربعة من المهاجرين.

154

قوله: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} الآية. النعاس: بدل من أمنة. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله. وأمنة مصدر في الأصل. وقيل: هو اسم فاعل. أخبرهم الله تعالى أنه جعلهم طائفتين طائفة أمنة حتى نعست، وطائفة أهمتها نفسها حين ظنت بالله غير الحق: أي ساء ظنها بالله سبحانه. وسبب ذلك فيما ذكر السدي: " أن المشركين انصرفوا [من أحد] بعدما كان منهم، واعدوا النبي A بدراً من قابل فقال لهم: نعم، فتخوف المسلمون أن ينزل المشركون المدينة فبعث النبي A رجلاً: أنظر، فإن رأيتهم قعوداً على أثقالهم، وجنبوا خيلهم، فإن القوم ينزلون المدينة، فاتقوا الله، واصبروا وَوَطَّنهم على القتال، وإن رأيتهم سراعاً عجالاً، فليس ينزلون المدينة، فلما أبصرهم الرسول - قعود على الآثقال - سراعاً عجالاً نادى بأعلى صوته بذهابهم، فلما رأى المؤمنون ذلك أمنوا وناموا، وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتوهم فطار عنهم النوم، ولم يركنوا إلى قول النبي A وما أخبرهم به: أنهم لا ينزلون المدينة ".

قال أبو طلحة: كنت أنعس حتى يسقط سيفي من يدي. ثم أخبر D نبيه A أن هؤلاء المنافقين يخفون في أنفسهم ما لا يبدون للنبي A، وأن الذي يخفون منه قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا} وأمر نبيه A أن يقول لهم: {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين} قدر الله عليهم القتل إلى مضاجعهم التي سبق في علمه أنهم يقتلون بها. ومعنى: {لَبَرَزَ الذين} [أي]: لصاروا إلى براز من الأرض، وهو المكان المنكشف. وقرأ أبو حياة: لبُرِّز الذين. مشدداً على ما لم يسم فاعله. قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} يعني به: المنافقون يبرزون من بيوتهم إلى مضاجعهم التي يموتون بها. وقيل المعنى: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} فرض عليكم القتال. وقال الطبري: معناه وليختبر الذي في صدوركم من الشك فيميزكم بما يظهر للمؤمنين من نفاقكم، فيميزكم المؤمنون.

155

{وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: يكفر عنكم سيئاتكم إن كنتم على يقين من دينكم {والله عَلِيمٌ} بما في صدوركم. قوله: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان} الاية. هذه الآية إعلام من الله تعالى أنه قد غفر لهم انهزان بوم أحد من أصحاب النبي A، وأخبرنا تعالى أنهم إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان ببعض ما تقدم لهم من أمرهم فانهزموا. قيل: إنه ذكرهم بذنوب لم يتوبوا منها، فكرهوا أن يلقوا الله - D - على غير توبة، فانهزموا لئلا يقتلوا قبل التوبة، فغفر الله لهم فرارهم. وقال السدي: عنى بذلك من دخل المدينة منهزماً خاصة دون أن يصعد الجبل. وقيل: " نزلت في رجال لأعيانهم فروا، منهم: عثمان بن عفان وغيره، فروا وأقاموا على فرارهم ثلاثاً، ثم رجعوا إلى رسول الله A فقال لهم: لقد ذهبتم في أرض عريضة، فاعلمنا الله D أنه عفا عنهم ". قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} الآية. نهى الله المؤمنين أن يكونوا مثل المنافقين {كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض} أي: إذا خرجوا إلى سفر في تجارة {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} أي: خرجوا لغزو، فهلكوا في سفرهم أو غزوهم، {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُو} في سفرهم {وَمَا قُتِلُواْ} في غزوهم، جعل الله قولهم ذلك حسرة في قلوبهم. روي أن المنافقين قالوا في من بعثه النبي A من السرايا إلى بئر معونة، فقتلوا رحمة الله

عليهم {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} وهم عبد الله بن أبي بن سلول، وأصحابه قالوا ذلك، وأصل الضرب في أرض الإبعاد. وأصل الكلام أن يكون في موضع (إذا): (إذ) لأن في الكلام معنى الشرط، إذ فيه الذين، وإنما وقعت إذا موضع إذ كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل، فتقول إن تزرني زرتك. أي: أزورك، فكذلك وقعت إذا وهي للمستقبل موضع إذ، ومثله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} [الحج: 25] وقع [كفروا] موضع يكفرون لأن الذي فيه معنى الجزاء، فجاز فيه ما يجوز في الجزاء، ودل على يكفرون قوله: {وَيَصُدُّونَ}. ثم أخبر تعالى [أنه] يحيي من يشاء ويميت من يشاء ليس جلوسهم عندهم بمنجيهم من الموت، ولا مسيرهم لسفر أو غزاة بمقرب لما بعد من آجالهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: بعمل هؤلاء المنفقين بصير، فهذا على قراءة من قرأ بالياء، فذكر المنافقين أقرب. ومن قرأ بالتاء رده على أول الكلام في قوله {لاَ تَكُونُواْ كالذين} وكان الياء أقوى لأن الذين وضع عليهم الدم أولى بالتهديد من غيرهم، وكلا الأمرين حسن.

157

قوله {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ} الآية. هذا خطاب للمؤمنين خاصة، لأنهم إن ماتوا في سبيل الله أوم قتلوا فإنهم يصيرون إلى مغفرة ورحمة، وذلك خير مما يجمع المنافقون هذا على قراءة من قرأ يجمعون بالياء. ومن قرأ بالتاء، رده على المخاطبة، وأن المغفرة والرحمة خير مما تجمعون أيها المؤمنون من حطام الدنيا الذي يمنع من الجهاد. وقال ابن اسحاق معناها: إن الموت كائن لا بد منه، فموت في سبيل الله خير لو علموا وأيقنوا. وتأويل الكلام: ليغفرن الله لكم وليرحمنكم. ثم أعلمهم أن الرجوع إليه في كل حال من موت، أو قتل فقال: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهذا الأمر خطاب للمؤمنين والمشركين أعلمهم أن مصير الجميع إليه، فيجازي كل صنف بعمله. قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} الآية. هذا خطاب للنبي A، والمعنى: فبرحمة من الله لنت للمؤمنين حتى آمنوا بك فسهلت عليهم الأمر، وبينت لهم الحجج، وحسنت خلقك، وصبرت على الأذى {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} أي: لتركوك {فاعف عَنْهُمْ} أي: تجاوز عنهم، واصفح فيما نالك منهم، ثم قال: {واستغفر لَهُمْ} أي: ادع ربك لهم بالمغفرة. وقوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} أَمَر الله تعالى نبيه A أن يشاور أصحابه عند الحرب ولقاء العدو،

وتطييباً لأنفسهم، وتأليفاً لهم على دينهم. قال أبو اسحاق: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} معناه: ليريهم أنه يستعين بهم، ويسمع من آرائهم، فيكون أطيب لأنفسهم وقد كان عنهم غنياً لتوفيق الله D له بالوحي. وقيل: إنما أمره بذلك لما فيه من الفضل وليتأسى أمته A بذلك بعده. روى ابن وهب أن مالكاً قال: ما تشاور قوم قط إلا هُدوا. و " سئل النبي A عن الحزم فقال " تستشيروا الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى أمرك به " ويقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد بتوحيد رأي. وقال النبي عليه السلام " المستشار بالخيار ما لم يتكلم، فإذا تكلم فحق عليه أن ينصح ". قال الحسن والله ما تشاور [قوم] قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم. قال أبو هريرة Bهـ: ما رأيت من الناس أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله A. قال ابن شهاب: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: واستشر في أمرك الذين يخشون الله.

160

وعن النبي A أنه قال: " ما شقي عبد بمشورة ولا سعد عبد باستغناء رأي ". وقال الشعبي: مكتوب في التوراة من لم يستشر يندم. أنس بن مالك قال: قال رسول الله A " ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار ". وقال ابن عباس: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} أبو بكر وعمر Bهـ. وقيل: إنما أمر أن يشاورهم فيما لم يكن عنده علم فيه وحي لأنه قد يكون عند بعضهم فيه علم، والناس قد يعرفون من أمور الدنيا ما لا تعرف الأنبياء صلوات الله عليهم. {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي: إذا ثبت الرأي على أمر {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فيه، وامض فيه، إن الله يحب من يتوكل عليه ويفوض الأمر إليه. قوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} الآية. هذا خطاب للمؤمنين أن الله تعالى إن نصرهم لم يغلبهم أحد، وإن خذلهم لم ينصرهم أحد، فجميع الأمور إليه ترجع، والهاء في {مِّنْ بَعْدِهِ} تعود على الله D ذكره. وقيل: تعود على الخذلان لدلالة يخذلهم عليه. قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} الآية.

من قرأ بضم الياء فهو على معنى ما كان لنبي أن يوجد خائناً كما يقال أحمد الرجل وجدته محموداً، وأحمقته وجدته أحمق. وروى الضحاك أنهم قالوا: بادروا الغنائم لئلا تؤخذ فقال الله D: ما كان لنبي أن يوجد خائناً أي: ما ينبغي ذلم ولا يكون. وقيل: المعنى: ما ينبغي لنبي أن يغل منه أي: يخان منه. وقد قيل: إن المعنى: أن يخون، وهذا لا يصلح لأنه يلزم أن يكون يغل. وقد قيل: إنه لما اجتمعت ثلاث لامات حذفت الواحدة. ومن قرأ بفتح الياء فمعناه أن يخون: أي: لا ينبغي أن يخون النبي A أصحابه ولا يكون ذلك. قال محمد بن كعب معناه: ما كان له أن يكتم شيئاً من كتاب الله D، وما أمر به. وقيل: إن قوماً من المنافقين اتهموا النبي A في شيء من المغنم، فأنزل الله جل ذكره ذلك، وعليه أكثر المفسرين. فالقراءة [على الفتح] بمعنى: لا ينبغي أن يخون هو، وبالضم: ما كان لنبي أن يوجد خائناً، ولا يمكن ذلك مثل أحمدته. أو يكون المعنى: ما كان لنبي أن يخون، فيتهم

بما لا يليق بالأنبياء صلوات الله عليهم، أو يكون المعنى: ما كان لنبي أن يخان منه. وقد قوى قراءة الضم بأن الآية نزلت في قوم غلوا فنفى الله أن يخان النبي A، وأنه لا ينبغي أن يخان. وقوى آخرون قراءة الفتح بأن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت من الغنائم يوم بدر فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله أخذها، وأكثر في ذلك فأنزل الله D { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: يخون أصحابه. وقال سعيد بن جبير القراء [ة] {يَغُلَّ} بفتح الياء قال: وأما يُغل فقد كان، والله يغل ويغتل. وروي عن ابن عباس Bهـ وغيره أنه قال: نزلت الآية في طلائع كان رسول الله A وجههم في أمر فلم يقسم لهم، فأعلمه الله D في هذه الآية أنه ليس له أن يقسم لطائفة دون آخرين فيخون في أنفسهم. وقال الضحاك: يغل بالفتح معناه أن يعطي بعضاً، ويترك بعضاً وبالفتح كان يقرأ. وقال ابن اسحاق: نرى ذلك في النفي عن النبي A أنه لا ينبغي له أن يكتم من الوحي شيئاً فالفتح أولى به على هذا. {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} أي: من يخن من غنائم المسلمين شيئا يأتي به يوم القيامة. قال ابن عباس Bهـ قال رسول الله A: " لا أعرف أحدكم يأتي يوم القيامة

162

يحمل شاة لها ثغاء فينادون: يا محمد، يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً فقد بلغتك " ثم قال في الجمل مثل ذلك، وفي الفرس مثل ذلك غير أنه قال: جمل له رغاء، أو فرس له حمحمة. قوله: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} الآية. معناها أفمن ترك الغلول، فاتبع رضوان الله بذلك كمن غل فرجع بسخط، من الله على غلوله قال معناه الضحاك، وقيل الآية عامة في كل من عمل خيراً، ومن عمل شراً. قوله: {هُمْ درجات عِندَ الله والله} الآية. قيل المعنى: أن الغال، وغير الغال، والصالح وغير الصالح، أصحاب درجات عند الله، رداً على ما قبله. والدرجات: الجنة والنار. وقيل المعنى: {هُمْ درجات عِندَ الله}: يعني من اتبع رضوانه خاصة قاله مجاهد والسدي. وقيل: المعنى هم طبقات عند الله أي: أهل الرضوان طبقات. وقيل: المعنى: هم ذوو درجات، يعني المؤمنين، وذلك في الفضل بعضهم أرفع من بعض، كذلك قال القتيبي وغيره. قوله: {والله بَصِيرٌ} أي: بما يعمل الجميع، فيوفي كلاً بقسطه.

164

قوله: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} الآية. {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} منهم، والكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، قاله قتادة وغيره، وقيل: معنى {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ}: بشر مثلهم يظهر البراهين، فيعلم أنه نبي إذ هو بشر مثلهم يأتي بما لا يمكن أن يأتوا بمثله هم، وما كانوا من قبله إلا في ضلال مبين أي: في جهالة وحية ظاهرة. فإن بمعنى: ما، واللام في {لَفِي} بمعنى: إلا هذا قول الكوفيين. ومذهب سيبويه أن أن مخففة من الثقيلة، واسمها [مضمر] والتقدير على قوله: وأنهم كانوا من قبل محمد A لفي ضلال مبين أي: أنهم لفي ضلال مبين كانوا قبل محمد A، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن على نحو هذا الاختلاف من تقدير أن وتقدير الكلام، فاعرف الأصل فيها إن تركنا ذكرها اكتفاء بما ذكرنا. قوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ}. المعنى: أحين أصابكم أيها المؤمنون مصيبة، وهي ما قتل يوم أحد - وأنتم قد أصبتم مثليها أي: مثل المصيبة يعني يوم بدر إذ قتل المسلمون للمشركين سبعين،

وأسروا سبعين وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد سبعسن، فالذين ظفر بهم المسلمون مثلاً، ما ظفر به المشركون، فمن أين قلتم كيف هذا؟ ومن أي وجه هذا؟ أي: من أين أصابنا هذا؟ كل هذا توبيخ للمؤمنين لقولهم: كيف أصابنا هذا القتل يوم أحد " فقيل له: أتقولون هذا، وأنتم قد أصبتم يوم بدر مثلي ما أصابكم يوم أحد " ثم قال تعالى لمحمد A: كل الذي أصابكم يوم أحد هو من عند أنفسكم. أي: بذنوبكم، ومخالفتكم أمر النبي A إذ ترك الرماة أمر النبي A، ومضوا في طلب النهب. قال قتادة: " لما قدم أبو سفيان بالمشركين رأى رسول الله A رؤيا، رأى بقراً تنحر، فتأولها قتلى في أصحابه، ورأى سيفه ذا الفقار انقسم، فكان قتل عمه حمزة، كان يقال: أسد الله، ورأى أن كبشاً أغبر قتل، فكان قتل صاحب لواء المشركين: عثمان ابن أبي طلحة أصيب يومئذ وكان معه لواء المشركين وهو منهم، فقال النبي A لأصحابه بعد هذه الرؤية: إنا في جُنَّة حصينة يعني المدينة فدعوهم يدخلون نقاتلهم، فقال أناس من الأنصار: يا نبي الله إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع

من العرب في الجاهلية، والإسلام أحق نمتنع فيه فأبرز بنا إلى القوم، فمضى النبي عليه السلام ولبس لامته وندم القوم على ما كسروا به على النبي A فيما أشاروا به فاعتذروا إليه فقال: " إنه ليس للنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل ستكون فيكم مصيبة، قالوا: يا رسول الله خاصة أو عامة؟ قال سترونها " ". فقتادة يذهب إلى [أن] الذنب الذي عدده الله عليهم في قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} هو ما أشاروا به من رأي أنفسهم على النبي A في الخروج وكان قد قتل من الأنصار يومئذ ستة وستون، ومن المهاجرين أربعة. " وروى ابن سيرين أن النبي A قال للمؤمنين في أسارى بدر: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، وتقووا به على عدوكم، فإن قبلتموه قتل منكم سبعون، أو تقتلوهم، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، ويقتل منا سبعون، فأخذوا الفدية وقتل منهم يوم أحد سبعون. فيكون المعنى على هذا: قل يا محمد ما أصابكم يوم أحد من القتل فمن عند أنفسكم أي باختياركم أخذ الفدية من السبعين الذين أسرتم ببدر، ورضاكم أن يقتل فيكم بعددهم وتركتم قتلهم ". وقال علي بن أبي طالب - Bهـ: " إن جبريل أتى النبي A فقال: يا محمد، إن الله

166

قد كره ما فعل قومك في أخذه الأسارى، وقد أمرك أن تخبرهم بين أمرين: إما أن يقدموا، فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا منهم الفدية على أن يقتل من المؤمنين مثل عدة من أخذت الفدية منه من المشركين، فقال لهم النبي A ذلك، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا، بل نأخذ منهم الفدية فتتقوى بها على عدونا، ويستشهدوا منا بعدتهم، فليس في ذلك ما نكره فأخذوا الفدية وقتل منهم سبعون يوم أحد، فذلك قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} " أي: باختياركم، ورضاكم، وفي ذلك نزلت. {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} [الأنفال: 67] [أي]: ليس له إلا القتل حتى يتمكن في الأرض، ثمّ وبخ الله المؤمنين في أخذ الفدية فقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة}. قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله} الآية. هذا خطاب للمؤمنين والمعني: الذي أصابكم أيها المؤمنون من القتل والجرح يوم أحد فبإذن [الله] [أي]: بقدره وقضائه وقيل: بعلمه. قوله: {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين}. أي: ليظهروا إيمان المؤمنين من نفاق المنافقين في قلة الصبر، وتحقيق معناها: أنه قد دار عليهم ما

167

أصابهم يوم أحد ليميز المؤمن من المنافق. قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} يعني به عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين رجعوا من خلف رسول الله عليه السلام حين خرج إلى أحد فقال لهم المسلمون حين رأوهم راجعين: تعالى قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثير سوادنا {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ} إنكم تقاتلون لسرنا معكم، ولكن لا نرى أن يكون بينكم وبين القوم قتال فأظهروا من كلامهم ما ليس يعتثدون، وكان عبد الله بن أبي بن سلول انخذل عن النبي A لما خرج إلى أحد بنحو ثلث الناس، واتبعهم عبد الله بن عمرو ابن حزام وهو يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم، وقومكم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولك لا نرى أن يكون قتالاً فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، وسيغني الله عنكم، ومضى مع النبي A. [ وقال السدي: رجع] عبد الله بن أبي " بن سلول " من وراء النبي A ومعه

168

ثلاثمائة. {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: يعلم ما يكتمون من النفاق، وأن قولهم خلاف ما يسرون. قوله: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ} الآية. أي: وليعلم الله الذين نافقوا، وقالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين {وَقَعَدُواْ} أي: قالوا ذلك وهم قعود عن الحرب مع النبي عليه السلام {لَوْ أَطَاعُونَا} (أي): لو تأخروا معنا ما قتلوا هناك، قال الله D لنبيه A: قل لهم يا محمد: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} " في قولكم إن إخوانكم لو قعدوا عندكم ما قتلوا " أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت، وهذا أقرب لأن من قدر أن يدفع الموت عن غيره فهو إلى دفعه عن نفسه أقرب. قال قتادة: نزلت في عدو الله عبد الله بن أبي بن سلول قال ذلك فيمن قتل مع النبي A بأحد من قرابته وأهل معرفته. قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله}. معناها: ولا تظنن أن من قتل بأحد من أصحابكم أمواتاً لا يلتذون، ولا يحسون شيئاً بل هم أحياء بما آتاهم الله من فضله مستبشرين بثوابه وعطائه.

وقال ابن عباس Bهـ، قال النبي A: " " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش معلقة يجاوب بعضها بعضاً عملوا مثل الذي عملنا، فيسارعوا إلى مثل الذي سارعنا فيه، فإنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا، وأرضانا، فوعدهم الله D ليخبرن نبيه A بذلك، فيخبرهم فأنزل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} الآية وقيل: إنهم لما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب قال الله تعالى: أنا أبلغكم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات. قال النبي A لجابر بن عبد الله Bهـ وكان قد قتل أبوه عبد الله بأحد: " يا جابر ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله فقال: ما تحب يا عبد الله بن عمر أن أفعل بك؟ فقال: يا رب أحب أن تردني في الدنيا، فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى ". ولما أتى جابر بن عبد الله Bهـ النبي A حزيناً قال له النبي A: أتحزن على رجل نظر الله إليه كفاحاً؟ ثم عاد فأقعده بين يديه فقال له: سلني ما شئت؟ فقال:

أسألك يا رب أن تعيدني إلى الدنيا حتى أقاتل في سبيلك فأقتل، قالها ثلاثاً، فقال له الله إني قضيت على نفسي ألا أرد خليقة قبضتها إلى الدنيا فقال أبو جابر: يا رب، فمن يبلغ قومي ما صنعت بي فقال الله D: أنا أبلغ قومك، فأنزل الله D { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ} الآية. ودفن عبد الله بن جابر يوم أحد مع عمرو بن الجمح بقبر واحد، فروي أنهما أخرجا بعد خمسين سنة، فإذا هما وطاب لم ينثنوا ولم يتغيروا، ويد عبد الله على جرحه في وجهه إذا نزعت يده على وجهه يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت إلى الجرح، فحبست الدم، ووجد عمرو بن الجموح ويده على رأسه إذا نزعت يشخب الجرح دماً، وإذا تركت رجعت على الجرح. قال ابن مسعود Bهـ: " أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة في أيتها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش قال: بينما هم كذلك اطلع عليهم ربك اطلاعه فقال: سلوني ما شئتم؟ فقالوا: يا ربنا ماذا نسألك " ونحن في الجنة نسرح في أيها شئنا، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من [غير] أن يسألوا

قالوا: نسألك " أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا في الدنيا حتى نقتل في سبيلك. فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا، تركوا " ". وقال قتادة: قال رجل من أصحاب النبي A: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله D { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ} الآية. قال الضحاك: [كان] المسلمون يسألون الله D يوماً كيوم بدر، فيبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم الله D في قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ} الآيات. قيل معناه: {أَمْوَاتاً} أي: في دينهم بل هم أحياء كما قال: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه} [الأنعام: 122]. وروي: أن عبد الله بن عمرو أبا جابر Bهـ قال لابنه جابر يوم أحد: يا بني كن مع أخوتك، - وكن تسعاً - فلا ندري ما يكون، فإن رزقت الشهادة كنت أنت معهن وإن سلمت رجوت أن يثيبك الله D ثواب من حضر، واستشهد C بأحد،

171

قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} أي: يفرحون بهم وبكونهم على الجهاد في ذات الله D، وأنهم إن قتلوا نالوا من الكرامة مثلما نال هؤلاء. وقال ابن اسحاق: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي: يفرحون بهم إذا لحقوهم على ما تركوهم عليه من جهاد عدوهم فهم شهداء مثلهم لا خوف عليهم ولا حزن. وروي أنهم يقول بعضهم لبعض: تركنا إخواننا فلاناً وفلاناً يقاتلون العدو، فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة والأمن ما لنا. قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} الآية أي: يفرحون لما عاينوه من وفاء الوعد، وعظيم [الثواب] ويستبشرون بأن الله تعالى لا يضيع أجر المؤمنين: أي لا يبطل جزاء أعمالهم. وقال ابن مسعود Bهـ: " أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت

172

تأوي إلى قناديل تحت العرش، اطلع عليهم ربهم اطلاعه فقال: سلوني. فقالوا: يا رب نحن نسرح في الجنة حيث شئنا، ثم اطلع عليهم ثانية فقالوا مثل ذلك ثم اطلع عليهم ثالثة فقال: سلوني: فقالوا: يا رب نحن نسرح في الجنة حيث شئنا، فلما رأوا أن لا بد لهم من الجواب قالوا: يا ربنا رد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل ثانية ". قوله: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول} الآية. المعنى: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله من بعد ما أصابه الجرح والألم، وعنى بهذا من خرج مع رسول الله A في طلب أبي سفيان، وأصحابه بعد انصؤافه من أحد وبعدما نال من المسلمين من القتل والجرح. وذلك أن رسول الله A لما رجع من أحد، وقد قتل من أصحابه سبعون، وجرح خلق كثير، أمر بلالاً أن ينادي في الناس لينفروا في طلب عدوهم، فنفروا معه على ما بهم من ألم الجراح، والحزن على من قتل منهم، وكان أخوان من بني عبد الأشهل مثخنين بالجراح، فقال أحدهما للآخر: تفوتنا غزاة مع رسول الله A فقال الأخر: والله ما بي حراك! فقال له أخوه: غفر الله لك، توكأ علي، وأتوكأ عليك حتى نبلغ، فخرجا مجروحين.

فأنزل الله D { الذين استجابوا للَّهِ والرسول} الآية إذ خرج النبي A في طلب أبي سفيان وأصحابه حتى بلغ إلى خمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها [ثلاثاً]، ثم رجع إلى المدينة، وفعل ذلك عليه السلام ليرى الناس أن به وبأصحابه قوة على عدوهم. وكان يوم أحد في قول عكرمة يوم السبت للنصف من شوال. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كانت أحد في شوال لإحدى وثلاثين شهراً من الهجرة. فلما كان يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله A في الناس بطلب العدو فقال: لا يخرجن معنا إلا من حضر بالأمس فكلمه جلبر بن عبد الله بن عمرو Bهما فقال يا رسول الله: إن أبي كان خلفني على أخواتي لي تسع وقال لي: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أترك بالجهاد مع رسول الله A فتخلف على أخواتك، فتخلفت [معهن] فأذن له رسول الله A فخرج في طلب المشركين، وفعل النبي A ذلك ليرهب المشركين، ويبلغهم أنه لم

173

يضعف وأنه خرج في طلبهم، وأن الذي أصاب أصحابه لم يُوهِنُهُم فالذين خرجوا هم الذين عُنوا في هذه الآية. قال السدي: قال أبو سفيان لأصحابه حين انصرفوا [من أحد]: بئس ما صنعتم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشديد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف الله D في قلوبهم الرعب، فهزموا، فأخبر الله عز ذكره رسوله A بذلك، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد رأس ثمانية أميال عن المدينة، فالذين خرجوا معه هم الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم الجراح بأحد. ثم قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} معناه: للذين أحسنوا، فداموا على الطاعة، وأداء الفرائض، واتقوا المحارم حتى لحقوا بالله D { أَجْرٌ عَظِيمٌ}. قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} الآية. المعنى: للذين أحسنوا أجر عظيم القائلين لهم الناس. وقيل المعنى: وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس. فالناس الأول قوم سألهم أبو سفيان أن يثبطوا النبي A وأصحابه، إذ خرجوا في طلبه لما دخله من فزع، [والناس] الثاني أبو سفيان وأصحابه.

{قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} أي: قد أعدوا للقائكم فاحضروهم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي: زاد التخويف تطريقاً لله D، ولوعده سبحانه، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي خرجوا فيه مع رسول الله A حتى صاروا إلى موضع ردهم منه رسول الله A، وقالوا عند التخويف لصحة صدقهم: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} أي: كافينا الله، ونعم القيم الحافظ والناصر الله. يقال حسبه إذا كفاه. وقيل: إن الناس الأول: نعيم بن مسعود، بعثه أبو سفيان، وأصحابه [أن يثبط النبي عليه السلام وأصحابه، ويخوفهم من المشركين ووعده بعشرة من الإبل إن هو ثبط النبي A وخوفهم. والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه]. {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} أي: فرجعوا سالمين مما خوفوا به، وهرب منهم عدوهم وأمِنُوا. وقيل: إنهم اشتروا أدَماً وزبيباً، فربحوا فيه، وأقاموا ثلاثاً بحمراء الأسد " وهي

على ثمانية أميال من المدينة ". وقال السدي: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه عن أحد ندموا إذ لم يستأصلوا أصحاب النبي A ويقتلوهم، وأداروا الرأي في الرجوع، فقذف الله D في قلوبهم الرعب، فهزموا فلقوا أعرابياً، وجعلوا له جعلاً، وقالوا له: إذا لقيت محمداً وأًحابه، فأخبرهم أنا قد جمهنا لهم، فأخبر الله D نبيه A بذلك، فخرج في طبلهم حتى بلغ حمراء الأسد، فلقوا أعرابياً هنالك فأخبرهم ما قال له أبو سفيان من الكذب والتخويف، فقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل}، أي: كافينا الله ونعم الكافي. قال ابن عباس Bهـ: كان آخر قول إبراهيم A حين ألقي في النار: [حسبي الله ونعم الوكيل] " فالناس الأول هو الأعرابي، والثاني أبو سفيان وأصحابه. وقال ابن عباس Bهما: وافى [أبو سـ]ـفيان عيراً واردة المدينة

ببضاعة لهم، فسألهم أبو سفيان ووعدهم، وقال لهم: إن لقيتم محمداً وأصحابه، فأخبروهم أني جمعت لهم جموعاً كثيرة خوفاً منه أن يتبعه النبي A، ففعلت العير ذلك، فأنزل الله D الآية. فالناس الأول [أهل] العير، والثاني أبو سفيان وأصحابه. وقال مجاهد: كان النبي A قد واعد أبا سفيان، وأصحابه من عام قابل من عام أحد: اللقاء بدر الصغرى، قال أبو سفيان: موعدكم ببدر حيث قتلتم أصحابنا. فانطلق رسول الله A بموعده حتى أتوا بدراً الصغرى فوافقوا السوق فيها، ولم يأت المشركون فابتاعوا مما كان في السوق فذلك قوله: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله} يعني الأجر {وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ [سواء]} وهي غزوة بدر الصغرى.

175

قال مجاهد: فالفضل ما أصابوا في التجارة. قوله: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} الآية. [يقال] خوفت الرجل إذا صيرته خائفاً، وخوفته أيضاً إذا صيرته بحال يخافه الناس. فالمعنى: يخوفوكموهم {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}. وقيل المعنى: إنما خوفتم به من عند الشيطان يخوفكم بأوليائه، وأولياؤه أبو سفيان وأصحابه. والمفعول الأول محذوف، والياء محذوفة كما قال: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب وقيل: أولياؤه هنا الشيطان.

176

وقيل المعنى: يخوفكم من أوليائه الكفار، أو الشياطين. ومثله في القرآن {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] أي: لينذركم [ببأس] ومن بأس ثم حذف المفعول الأول وحذف حرف الجر. وقال أبو إسحاق: أولياؤه: الرهط الذين أتوا بالرسالة والتخويف من عند أبي سفيان. وقال السدي: إنما ذلكم أيها المؤمنون الشيطان يعظمكم أولياءه في أنفسكم فتخافوهم {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين حقاً. قوله {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية. المعنى: ولا يحزنك يا محمد كفر الذين يسارعون في الكفر وهذا خطاب للنبي A ولأصحابه {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} كما أن مسارعتهم إلى الإيمان لو سارعوا لم تكن نافعة لله تعالى، قال مجاهد: يعني بذلك المنافقين. وهذه الآية نزلت في قوم أسلموا ثم ارتدوا، فاغتم النبي A وأصحابه لذلك فأنزل الله D { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية.

177

قوله {أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة} أي: يريد أن يحبط أعمالهم بالكفر. قوله: {إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً}. هذا أيضاً في المنافقين الذين ذكرهم لما استبدلوا الكفر بعد الإيمان صاروا بمنزلة من باع شيئاً بشيء، ثم كرر نفي الضرر عن نفسه تعالى [بكفرهم للتأكيد] تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قوله {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} الآية. من قرأ بالياء الذين هم الفاعلون و {أَنَّمَا} في موضع المفعولين وما مع نملي مصدر ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي، والهاء محذوفة من {أَنَّمَا}، والمعنى: ولا يحسبن يا محمد الكافرون الإملاء خيراً لهم، فلما دخلت إن قامت مقام المفعولين فارتفع خير على خبر أن. ومن قرأ بالتاء، فقد زعم أبو حاتم أنه لحن، وتابعه على ذلك غيره " لأن الذين كفروا " يكونون في موضع نصب، والمخاطب هو الفاعل وهو محمد A فلا

معنى لفتح " أن " على هذا. وقال الزجاج: " إن " بدل من {الذين كَفَرُواْ} وهي تسد مسد المفعولين كأنه قال: ولا تحسبن يا محمد أن إملاءنا للذين كفروا [خير لهم. والكسائي الفراء يقدران الكلام على حد كأنه: ولا تحسبن الذين كفروا] لا تحسبن أن ما نملي لهم، وحذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد فهو غلط منهما. وقد قرأ يحيى بن وثاب بكسر إن والياء كأنه ليبطل عمل حسب مع أن كما أبطلها مع اللام وهو قبيح. وتأويل قول النحاس فيها يدل على أن يحيى قرأه بالتاء وكسر إن وذلك قبيح

أيضاً أبعد مما قبله. قال أبو حاتم: سمعت الأخفش يذكر كسر: إن " يحتج به لأهل القدر لأنه كان منهم، ويجعلهم على التقديم والتأخير، كأنه قال: ولا تحسبن الذين [كفروا] أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي خيراً لأنفسهم. قال: ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفاً فصار: إن ما نملي لهم ليزدادوا إيماناً، فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن، فحكه. ومعنى: نملي لهم نؤخر لهم في الأجل. قال ابن مسعود Bهـ: الموت خير للكافر، ثم تلا {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً}، وقال الموت خير للمؤمن ثم تلا: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]. وقيل: إن الآية مخصوصة أريد بها قوم بأعيانهم علم الله تعالى منهم أنهم لا يسلمون أبداً، وليست في كل كافر إذ قد يكون الإملاء له مما يدخله في الإيمان، فيكون

179

أحسن له وهو الصحيح في المعاني. قوله {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الآية. معناها: إن الله تعالى ذكره أخبرهم أنه لم يكن ليدع المؤمن ملتبساً بالمنافق وما يعرف بعضهم بعضاً ولكن ميزهم يوم أحد فعرف نفاق من رجع، وإيمان من ثبت فالخبيث المنافق والطيب المؤمن. وقيل المعنى: يميز المؤمن [من] الكافر. وقيل: يميزهم بالهجرة فيعلم المؤمن من الكافر. قال السدي: قالوا إن كان محمد صادقاً، فليخبرنا بمن يؤمن [منا] ممَن يكفر به. وقيل المعنى: حتى يميزهم بالفرائض [ولا] يدعهم على الإقرار فقط. ثم قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} أي: وما كان الله ليطلع المؤمنين على الغيب فيما يريد أن يبتليكم به فتحذروا منه {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيطلعه على ذلك. وقيل:

180

المعنى ما كان الله أيها المؤمنون ليطلعكم على ضمائر عباده، فتعرفوا المؤمن من المنافق، ولكنه يميز بينكم بالمحن والابتلاء {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيطلعه على بعض ضمائر من يشاء بوحي. ومعنى يجتبي: يستخلص ويختار. وقيل المعنى: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} من يصير كافراً بعد إيمانه، ومن يثبت على إيمانه، ولكن الله يطلع على ذلك من رسله من يشاء. وقيل: إنهم قالوا ما بالنا نحن لا نكون أنبياء؟ أي: المنافقين، فأنزل الله ذلك. قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} الآية. من قرأ بالياء فالذين فاعلون، والمفعول الأول محذوف دل عليه يبخلون و " خبراً " مفعول ثان، والتقدير ولا يحسبن الباخلون [البخل] هو خير لهم، وهو فاصلة عند البصريين، وعماد عند الكوفيين، ودل يبخلون على البخل، لأنه منه أخذ.

ومن قرأ بالتاء ففي الكلام حذف مضاف دل عليه ما يتصل بالمضاف إليه، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم، فخيراً مفعول ثان، وبخل مفعول أول، ومعنى الآية: ولا يحسبن الباخلون ولا ينفقون في سبيل الله: البخل خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة. [ومن قرأ بالتاء فهو خطاب للنبي A والمعنى: ولا تحسبن يا محمد بخل الباخلين عن الإنفاق في سبيل الله خيراً لهم بل هو شر لهم في الآخرة]. وقيل: عنى بذلك الزكاة وهو إخبار عمن لم يؤد الزكاة: وقيل: إخبار عن اليهود الذين بخلوا أن يبينوا للناس ما نزل عليهم من التوراة من أمر النبي A قاله ابن عباس ومجاهد Bهـ. {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} أي: سيجعل ما بخل به المانعون الزكاة طوقاً من نار في أعناقهم يوم القيامة أي: كهيأة الطير، قال رسول الله A: " ما من ذي رحم يأتي [ذا] رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله إياه، فيبخل عليه إلا أُخرج [له] يوم

القيامة شجاع من النار يتلبط حتى يطوقه " وقرأ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} الآية " وقال ابن مسعود Bهـ: قال رسول الله A: " ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثّل له شجاع أقرع يطوقه " ثم قرأ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} الآية. قال الشعبي: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} قال: شجاع يلتوي على عنقه. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول له: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} ". وقيل: يجعل الذي بخلوا به طوقاً من نار في أعناقهم.

وقال أبو وائل: هو الرجل يرزقه الله مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل الله لهم في ماله، فيُجعل حية يطوقها، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: أنا مالك. وقال مجاهد: {سَيُطَوَّقُونَ} سيكلفون أن يأتوا يوم القيامة بمثل الذي بخلوا به. وقيل: المعنى سيطوقون جزاء ما بخلوا به وعقاب ما بخلوا به. والتطوق: إلزام الله تعالى لهم ذلك، ومنعهم من التخلص منه. وقيل: المعنى سيكلفون يوم القيامة إحضار الأموال التي بخلوا بها، وهم لذلك غير مستطيعين، قال ابن مجاهد وغيره. وقيل: المعنى: سيطوق اليهود ثم الذين بخلوا [به]، هو صفة محمد A، والنبوة فيه كتموا ذلك، وهو عندهم في كتابهم. قوله {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} أعلم الله الخلق في هذه الآية أنهم سيفنون كلهم، فصار ما بقي بعدهم بمنزلة الميراث الذي يبقى بعد الميت فسماه ميراثاً على ذلك، وإلا فكل شيء له، أولاً وآخراً، ولكن سماه هنا ميراثاً إعلاماً منه أنهم سيفنون، وأن

181

الأمور كلها ترجع إليه، والعرب تسمي كل ما بقي في يد الإنسان، فصار إلى غيره بعد موته: ميراثاً، فخوطبوا على ما يعقلون ولذلك قال (وهو خير الوارثين). قوله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله} الآية. " نزلت هذه الآية في بعض اليهود، قالوا لأبي بكر وقد عرض عليهم الإيمان وقال لهم: قد علمتم أن محمداً A مكتوب عندكم في التوراة، فآمنوا به؟ فقالوا: ما بنا إلى الله من فقر، وإنه لفقير إلينا وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً ما استقرض من أموالنا، فغضب أبو بكر Bهـ وضرب وجه رئيس لهم ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله. فذهب المضروب إلى النبي A وشكا إليه بأبي بكر فخاطب النبي A أبا بكر وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، قال: قولاً شديداً، زعم عدو الله كيت كيت، وحكى ما سمع، فجحد اليهودي ذلك وقال: ما قلت من ذلك شيئاً، فأنزل الله D تصديقاً لقول أبي بكر وتكذيباً لهم وإنكاراً لكفرهم {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ} الآية. وقال لأبي بكر [حين] اشتد غضبه مما سمع، وللمؤمنين: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ} الآية ". وقال الحسن لما نزلت {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245، الحديد: 11] الآية قالت اليهود: إن ربكم

183

يستقرض منكم، فنزلت {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا} الآية وروي أن الذي قال ذلك من اليهود حيي بن أخطب، وقيل: فنحاص. قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} أي: سنكتب قولهم، فنجازيهم عليه ونكتب قتلهم الأنبياء، فالقول كان ممن هو على عهد النبي A، والقتل كان لآبائهم، وقد مضى مثله في سورة البقرة، وإنما أضيف إليهم لأنهم راضون بما فعل آباؤهم فكأنهم فعلوا ذلك [فأضيف إليهم] لرضاهم به واتباعهم لما كان عليه سلفهم الذين قتلوا الأنبياء مثل زكرياء ويحيى وغيرهم. قوله: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي: نقول لمن قال ذلك ورضي بقتل الأنبياء: ذق عذاب النار المحرقة أي: الملهية {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: ذلك العذاب بذنوبكم المتقدمة وبأن الله عدل لا يظلم عبيده. قوله: {الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} الآية. المعنى: لقد سمع الله قول الذين قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء الذين قالوا

184

{إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا}. والمعنى: الذين قالوا: إن الله أوصانا، وتقدم في كتبه إلينا ألا نصدق رسولاً {حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} فقال الله لنبيه A: قل يا محمد {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} أي: الآيات الظاهرات {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} كما قلتم {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم الآن {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} بذلك، والمخاطبة لهم في القتال، والمراد آباؤهم وأسلافهم. روي أن بني إسرائيل كانوا يذبحون لله إذا أرادوا أن يفعلوا شيئاً، ثم يأخذون الثوب، وأطايب اللحم فيضعه على موضع لهم في بيت كبير والسقف في ذلك الموضع مكشوف ثم يقوم النبي - A - بين ذلك الموضع يناجي ربه، وبنو إسرائيل دارجون حول البيت فلا يزال كذلك حتى تنزل نار فتأخذ ذلك الثوب، واللحم فهو القربان فيخر النبي A ساجداً ثم يوحى إليه بأمر قومه يفعلوا ما سألوا. قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} الآية. هذه تعزية للنبي A أنه إن كذبه من أرسل إليه فقد كذب رسل من قبله جاؤوا إلى أممِهِم بالآيات والزبر - وهو جمع زبور وهو الكتاب وكل كتاب زبور

185

يمعنى مزبور أي: مكتوب يقال زبرت: إذا كتبت {والكتاب المنير} التوراة والإنجيل. قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}. المعنى أن الآية: تهديد ووعيد لهؤلاء المفترين. قوله {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي: نجا {فَقَدْ فَازَ} أي: نجا وظفر {وَما الحياة الدنيا} أي: لذتها وشهوتها إلا متعة متعتكموها، و {الغرور}: الخداع المضمحل. وقال ابن سابط: الدنيا كزاد الراعي تزوده الكف من التمر أو شيء من الدقيق. والغرور مصدر: غره، فإن فتحت العين فهو صفة الشيطان، لأنه يغر ابن آدم حتى يوقعه في المعصية. روى أبو هريرة Bهـ عن النبي A أنه قال: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " واقرؤوا إن شئتم {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور}. قوله: {لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية. المعنى: لتختبرن بالمصائب في أموالكم،

187

وأنفكسم وهو موت الأقارب والعشائر {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً}، الذين أوتوا الكتاب هنا: هم اليهود والمشركون هم النصارى، وأما اليهود فسمعوا منهم {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] وقولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] في أشباه لهذا، وأما النصارى فقولهم: {المسيح ابن الله} [التوبة: 30]. وقيل: إنها نزلت في كعب بن الأشرف كان يهجو النبي A، ويشبب بنساء المسلمين، ذكر ذلك الزهري. {وَإِن تَصْبِرُواْ} على أذاهم {وَتَتَّقُواْ} الله {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور}. وقيل: المعنى أنه أخبرهم بأنه قد فرض عليهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم، وفرض عليهم الزكاة فذلك ابتداؤه إياهم. قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ} الآية. من قرأه بالياء رده على ما قبله من اللفظ وهو قوله: {الذين أُوتُواْ الكتاب} ورده أيضاً على ما بعده وهو قوله: فنبذوه وراء دبورهم واشتروا فالذي قبله والذي بعده يدل على الخبر عن غائب فكانت الياء أولى به.

ومن قرأ بالتاء أجراه على الحكاية عن الميثاق، وما هو كان المعنى قلنا لهم لتبيننه، واختار الطبري وغيره الياء لقوله {فَنَبَذُوهُ} ولم يقل فنبذتموه. والمعنى اذكر يا محمد إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب من اليهود وغيرهم ليبينن أمرك الذي في كتابهم للناس ولا يكتمونه، {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} إن كتموا أمر الله D وضيعوه، ونقضوا ميثاقه {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عرضاً رخيصاً من عرض الدنيا: قبلوا [الرشا] على تركه وكتمانه، ورضوا بالرياسة في الدنيا، [وكتبوا ما كتبوا بأيديهم، وقالوا هذا من عند الله، وحرفوها بثمن قليل أخذوه عليها، وكل ما في الدنيا] قليل {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} به والذي عنى به في هذه الآية: اليهود. وقيل: عنى بها كل من اوتي علماً بأمر الدين. قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله D على أهل العلم فمن علم شيئاً، فليعلمه، وإياكم كتمان العلم فإن كتمانه هلكة.

188

قال ابن جبير عن ابن عباس Bهـ: إنه كان يقرأ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ويقول: والمعنى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم ألا يكتموهم شيئاً، فنبذه القوم وراء ظهورهم أي تركوا ما بلغت إليهم الرسل. فالذين أوتوا الكتاب هم الرسل في قوله، والضمير في {فَنَبَذُوهُ} يعود على الناس. قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} الآية. من قرأ بالتاء جعله خطاباً للنبي A و {الذين} مفعول أول {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} مكرر للتأكيد و {بِمَفَازَةٍ} المفعول الثاني لحسب الأول، وحسب الثاني مع المصدر للتأكيد، ولطول القصة. وقيل: إنه ليس بتأكيد وأن {بِمَفَازَةٍ} مفعول حسب الثاني محذوف لعلم السامع كما تقول في الكلام ظننت زيداً ذاهباً وظننت عمراً، يريد ذاهباً، ثم تحذف لدلالة الأول عليه كما قال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فحذف لدلالة الكلام على المحذوف. ومن قرأ بالياء فقوله {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} للتأكيد، والهاء والميم مفعول أول. و {بِمَفَازَةٍ} الثاني كأنه قال: لا يحسبن الكافرون أنفسهم بمنجاة من العذاب.

ومن ضم الباء أراد الجميع، وحسب وأخواتها تتعدى إلى الفاعل نفسه. ولم يقرأ أحد الأول بالتاء والثاني بالياء مكرراً للتأكيد. أجاز أبو إسحاق: لا تظن أخاك إذا أتاك بخبر، فلا تظنه صادقاً تعيد الفاعل للتأكيد. ونزلت الآية في قول أبي سعيد الخدري Bهـ في رجال تخلفوا عن رسول الله A [ وفرحوا لمقعدهم خلاف رسول الله، ثم إذا قدم رسول الله - A] أقبلوا يعتذرون إليه، ويحلفون أنهم لا يتخلفون عنه بعد ذلك، {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ}. وقال مروان لأبي سعيد الخدري Bهـ وقرأ هذه الآية: يا أبا سعيد إنا لنحب أن نحمد بما لم نفعل، ونفرح بما آتينا. فقال أبو سعيد: إن ذلك ليس كذلك، إنما ذلك أن أناساً من المنافقين كانوا يتخلفون عن النبي A، فإذا رجع على ما يحب حلفوا له ألا يتخلفوا عنه بعد ذلك، وأحبوا أن يحمدوا على هذا، وإن رجع النبي A على ما

يكره، فرحوا بتخلفهم عنه، وقاله زيد بن ثابت، وروى مثله مالك عن نافع. قال نافع: نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا واعتذروا. فقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون يقولون للنبي A: لو خرجت لخرجنا معك، فإذا خرج تخلفوا ورأوا أنهم قد احتالوا حيلة، وفرحوا بفعلهم ذلك. وقال ابن جبير: نزلت في أحبار اليهود يفرحون بما جاءهم من الدنيا من الرشا على إضلال الناس، ويحبون أن يقول لهم الناس عُلماء، وليسوا بعلماء. وقال الضحاك: نزلت في قوم من اليهود فرحوا باجتماع كلمتهم على الكفر بمحمد A وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أهل الصلاة والصيام، فأحبوا أن يحمدوا بذلك وليسوا بأهل له. وقال السدي: كتموا محمد A ففرحوا بذلك وقالوا: نحن على دين إبراهيم، ونحن أهل الصلاة والزكاة، وهم ليسوا كذلك، فأحبوا أن يزكوا أنفسهم بما لم يفعلوا.

189

وقال ابن عباس Bهـ: هم أهل الكتاب حرفوه، وحكموا بمال سفيه وفرحوا بذلك وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وروي عن ابن عباس Bهـ أيضاً: أنها نزلت في قوم من اليهود سألهم النبي A عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره ففرحوا بكتمانهم، وطلبوا المحمدة على ما أخبروه به من الكذب فقال {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} وقال قتادة: نزلت في يهود، حين أتوا النبي A فزعموا أنهم متبعوه وأخفوا الضلالة، ففعلوا ذلك ليحمدهم الله على إيمانهم بمحمد A، ويحمدهم النبي A على ذلك فأنزل الله الآية. قوله: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}. هذا تكذيب للذين قالوا {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} فأعلمهم الله أن له ما في السموات والأرض، فكيف يكون فقيراً؟ وله كل شيء. قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية. معنى الآية: أنها تنبيه لخلق أولي العقول على قدرة الله D، وإحكامه لما خلق من السماوات والأرض، وما دبر فيهما من المعايش واختلاف الليل والنهار، وأن ذلك علامات ظاهرات لأولي العقول، فكيف ينسب إلى من كان بهذه الصفة فقر أو نقص، ثم مدح أولي العقول ووصفهم فقال:

{الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} الآية. المعنى: قياماً في صلاتهم، وقعوداً في تشهدهم وغيره، وعلى جنوبهم مضطجعين. وقال ابن جريج: هو ذكر الله تعالى في الصلاة وغيرها وقراءة القرآن. قال ابن مسعود Bهـ في معنى الآية: من لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، أو مضطجعاً. وقيل: المعنى: أنهم كانوا يذكرون الله على كل حال. وفي حكاية ابن عباس Bهـ: " إذ بات عند رسول الله A: فاستوى عليه السلام قاعداً - يريد من نومه - ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات، ثم قرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار} حتى ختم السورة ". قوله: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} أي: يقولون ربنا ما خلقت هذا من أجل الباطل أي عبثاً، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} أي: في عظمة الله {سُبْحَانَكَ} أي: تنزيهاً لك من السوء أن تكون خلقت هذا باطلاً، والتفكر في عظمة الله D من أعظم العبادة.

192

وقال أبو الدرداء Bهـ: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقيل لأم الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر. وقال كعب: من أراد أن يبلغ شرف الآخرة فليكثر التفكر يكن عالماً. قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} الآية. أي: يقولون: ربنا إنك من تدخل النار فقد أبعدته من رحمتك، وهذا الكافر، ولا يخلو مؤمن فيخزى، وقال أبو الدرداء Bهـ: المؤمنون هم العجاجون بالليل والنهار والله ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجيب لهم. وقيل: عنى بذلك كل من يدخل النار من مخلدين وغير مخلدين لأن كل من عذب بالنار فقد أخزي. والخزي: هتك ستر المخزي وفضيحته، ومن عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه. يقال: أخزيته أذللته، وأشد الخزي أشد الذلة وأبلغها.

193

قوله: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} الآية. المعنى: يقولون ربنا إننا سمعنا، والمنادي القرآن. وقال محمد بن كعب: هو القرآن وليس كلهم لقي نبي الله A، وليس كلهم بلغ إليه القرآن. وقال ابن جريج: المنادي سيدنا محمد A، فالمعنى سمعنا نداء مناد، المنادي غير مسموع وإنما المسموع نداؤه. وقال قتادة: سمعوا دعوة الله D فأجابوها. قوله {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي: في عددهم، وفي زمرتهم وقيل: المعنى وتوفنا أبراراً مع الأبرار، والأبرار جمع بر وهو فعل ككتف أكتاف، وهم الذين بروا الله بطاعتهم إياه وخدمتهم له Bهم. وقيل واحدهم بربار على فاعل كصاحب وأصحاب. قوله {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} الآية.

195

أي: يقولون: ربنا آتنا ما وعدتنا على لسان رسلك: وهو الجنة وهذا سؤال وطلب، ومعناه الخبر، لأن الله تعالى منجز وعده من غير سؤال، ومعناه وتوفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا فهذا معناه، لأنهم قد علموا أن الله لا يخلف الميعاد، ولكنه خبر. وقيل: إنه خرج منهم على طريق الطلب أن يجعلهم ممن يؤتيه ما وعده من الكرامة. وقيل: إنهم سألوا الله D أن يؤتيهم ما وعدهم على لسان الرسول A من النصر على أعدائهم. {وَلاَ تُخْزِنَا} أي: لا تذلنا {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} أي: أنك قد وعدت من آمن بك ووحدك: الجنة في الآخرة والنصر في الدنيا على أعدائك. قوله: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} الآية. المعنى: فأجابهم ربهم {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} عمل خيراً، روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله D { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} أي ذكراً كان أو أنثى.

196

قال الكوفيون: دخلت {مِّن} في قوله {مِّن ذَكَرٍ} على التفسير لقوله {مِّنْكُمْ} أي: منكم من الذكور والإناث، قال: وليست من هناهنا يجوز حذفها لأنها دخلت لمعنى لا يصلح الكلام إلا بها وإنما يجوز حذفها إذا كانت تأكيداً للجحد. وقال بعض البصريين: دخلت {مِّن} هناهنا كما دخلت في قولك: قد كان من حديث فلان كذا، قال: وحرف النفي قد تقدم في قوله {أَنِّي لاَ أُضِيعُ} قد دخلت للتأكيد، والأحسن أن تكون من للتفسير كما تقدم. ومعنى: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} أن بعضكم في النصر والمذلة والجزاء من بعض أي حكم الجميع الذكر والأنثى سواء {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي لأمحونها عنهم ولأسترنها عليه {ثَوَاباً} مصدر لأنه كما قال {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِي} كان بمعنى لأثيبنهم ثواباً. قوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} الآية. المعنى: لا يغرنك يا محمد تصرف الذين كفروا في البلاد أي: بالتجارات، والأموال بغير عذاب فالخطاب للنبي A، والمراد به أمته {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: كسبهم وربحهم متاع قليل أي متعة يتمتعون بها

198

قليلاً {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} أي الفراش. قوله: {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي} الآية. لكن الذين اتقوا الله، فعملوا بطاعته لهم جنات أي: بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}، و {نُزُلاً} منصوب على التفسير. وقيل: هو في موضع إنزال، لأن الكلام يدل على أنزلتموها {وَمَا عِندَ الله} أي: ما عنده من كرتمة والرضوان خير للأبرار. قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن بالله} الآية. {خاشعين} نصب على الحال من المضمر في {يُؤْمِنُ} عند البصريين والفراء ومن {مِنْ} عند الكسائي. وقال نصير: هو حال من المضمر في إليكم أو في إليهم، وهذه الآية نزلت في الأربعين رجلاً من أهل نجران منهم: اثنان وثلاثون من بني الحارث من الحبشة، وثمانية من الروم على دين عيسى A آمنوا بالنبي عليه السلام، وقيل: نزلت في النجاشي.

وروى ابن المسيب عن جابر بن عبد الله Bهـ " أن النبي A قال: " اخرجوا فصلوا على أخيكم " فقال فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات، فقال: هذا النجاشي أصحمة فقال المنافقون انظروا كيف يصلي على علج نصراني لم يره قط، فأنزل الله D { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب} الآية ". قال قتادة: " قال لهم النبي A إن أخاكم النجاسي قد مات فصلوا عليه قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم قال فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب} قال: وقالوا فإنه كان يصلي إلى القبلة، فأنزل الله {وَللَّهِ المشرق والمغرب} الآية ". وأصحمة بالعربية: عطية. وقيل عنى بالآية عبد الله بن سلام ومن آمن معه قاله ابن جريج. قال مجاهد وغيره: عنى بذلك من آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وهو مثل القول الأول، والآية تدل على هذا لأنها عامة اللفظ في أهل الكتاب.

200

قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً} الآية. أي: لا يحرفون أمر محمد A فيقبلون على تحريفه وإنكاره - الرشا فهم يؤمنون بالله، وما أنزل إليكم وهو القرآن، وما أنزل إليهم وهو التوراة والإنجيل {خاشعين للَّهِ} أي: متذللين خائفين، و {لاَ يَشْتَرُونَ}: في موضع الحال أيضاً لأن غير مشترين بآيات الله ثمناً قليلاً {أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي عوض أعمالهم {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فهو يحتاج إلى حساب ذلك وإحصائه لئلا يبقى منه شيء. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} الآية. {اصبروا} على دينكم {وَصَابِرُواْ} عدوكم {وَرَابِطُواْ} في سبيل الله. وقيل: المعنى وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي، ورابطوا على أعدائكم حتى يرجعوا إلى دينكم، ويتركوا دينهم. وقيل المعنى: ورابطوا على الصلوات: أي: انتظروها واحدة بعد واحدة، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: لم يكن في زمن رسول الله A غزو يرابط فيه، قال: ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة.

النساء

سورة النساء بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ}. قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} يدل على أن الخنثى لا بد أن يكون رجلاً أو امرأة، إذ لم يخلق الله D من ظهر آدم A ' لاّ رجلاً أو امرأة لا ثالث. ومن قرأ " الأرحام " بالخفض، فهو غير جائز عند البصريين، وقبيح عند الكوفيين، لأنه عطف ظاهر على مضمر مخفوض.

وقد قيل: إن الخفض على القسم، وقد قيل: إن المعنى وربّ الأرحام. وفي واحد الأرحام لغات: رَحِمٌ ورِحِمٌ، ورَحْمٌ [ورِحْمٌ]. والرحم مؤنثة، ومعنى الآية: أن الله تعالى نبّه خلقه على قدرته وأمرهم بتقواه، والنفس هنا: آدم A. [ وقوله]: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} الآية. قال مجاهد: خلق حواء عن قصيري آدم وهو نائم، استيقظ فقال " أثا " بالنبطية: امرأة. قال السدي: أُسكِنَ آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله تعالى من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة، قال: ولم خُلقتِ؟ قالت: لتسكن إليّ.

قال ابن إسحاق: ألقى الله D على آدم السنة فنام فأخذ ضلعاً من أضلاعه من شقّه الأيسر، ولأم مكانه لحماً، فخلق منه حواء ليسكن إليها، فلما انتبه رآها إلى جنبه فقال: لحمي ودمي، وزوجي، فسكن إليها. وعن ابن عباس أنه قال: إن الله جلّ ذكره خلق آدم A بيده سبحانه وتعالى في جنات عدن، فرأى آدم A كل شيء يشبه بعضه بعضاً، ولم يرَ في الجنة شيئاً يشبهه، وأحبّ أن يكون معه من يشبهه ليأنس به، وأحبّ الله D أن يؤنسه بزوجته ليكون منهما النسل، فأسبته الله D، والجنة لا نوم فيها، ولا نعاس ولا سبات، فخلق حواء من ضلع من أضلاعه وهي: القصيري فلما ذهب عنه السبات رأى من يأنس به، ويشبهه فسمي إنساناً حيث أنس، فقال لها: ما أنت؟ قالت: أثا، وأثا بالسريانية أنثى، وقيل: معناه امرأة. قال جماعة من المفسرين: لما خلق الله D ( وتعالى) آدم A، ألقى عليه النوم، فلما نام خلق حواء من أحد أضلاعه، وهو لا يشعر ولا يألم، فلما انتبه فرآها قال: من هذه؟ قيل: هي زوجتك، فعطف عليها، وأحبّها ولو ألِم لخلْقها لم يحنُ عليها، ولم

يعطف أبداً، وإنما سمّيت حواء لأنها خلقت من حي. قال ابن عباس: خلق الرجل من الأرض فجعلت همّته في الأرض، وخلقت المرأة من الرجل فجعلت همّتها في الرجل، فاحبسوا نساءكم. قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا [رِجَالاً]} أي: نشر من آدم وحواء خلقاً كثيراً. ومعنى {تَسَآءَلُونَ} أي: اتقوا الله الذي إذا سأل بعضكم بعضاً سأل به وجعله وسيلة، يقول السائل أسألك بالله، أنشدك بالله وشبهه، فكما تعظمونه بألسنتكم، عظّموه بالطاعة فيما أمركم به ونهاكم عنه. وقال الضحاك: {تَسَآءَلُونَ بِهِ} أي تعاقدون به، وتعاهدون به. وقال ابن عباس: {تَسَآءَلُونَ بِهِ} فتتعاطفون به. {والأرحام} أي اتقوا الأرحام، هذا على قراءة من قرأ بالنصب. ومن قرأ بالخفض. فمعناه: تساءلون به وبالأرحام (تقولون أسألك بالله وبالرحم). قال ابن عباس والمعنى: واتقوا الله في الأرحام فصلوها.

2

{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي: حفيظاً محيصاً لأعمالكم ومجازيكم عليها. قال يعقوب: الوقف {تَسَآءَلُونَ بِهِ} على قراءة النصب و " الأرحام " على قراءة الخفض. قوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} الآية. هذه الآية عنى بها أوصياء اليتامى أن يعطوهم ما لهم إذا بلغوا الحلم وأنس منهم الرشد، ولا يقال يتيم إلاّ لمن (لم) يبلغ الحلم. قال النبي A: " لا يُتم بعد البلوغ "، وسموا يتامى في الآية وإن كان قد بلغوا الحلم على الاسم الأول. {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} أي الحرام عليكم من أموالهم بالحلال من أموالكم. قال الزهري: تعطي لهم مهزولاً وتأخذ سميناً أي: لا تأخذ الجيد من أموالهم وتعطي مكانه الرديء تقول شيئاً بشيء ودرهماً بدرهم وشاة بشاة والذي تأخذ خير من الذي تعطي والاسم واحد.

قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} معناه: لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوا الجميع فنهموا عن أكلها، وأحلّ الله لهم المخالطة بقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 218] وذلك أنهم اشتدّ عليهم عزل أموال اليتامى، فشكوا ذلك إلى رسول الله A فأنزل الله {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. وحذّرهم هنا من أكلها عند المُخالطة. (وإلى) بمعنى: مع، وقيل: (إلى) على بابها، والمعنى لا تجمعوا أموالهم إلى أموالكم (إنه كان) أي: إن أكلكم أكوال اليتامى إثم كبير. وقيل معنى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} لا تربح على يتيمك يهوى عندك دابة أو ثوباً أو غير ذلك وهو غير جاهل فتزداد عليه في الثمن. وكون (إلى) بمعنى مع أولى، وعليه أكثر الناس، وذلك أن (إلى) أصلها أن تكون نهاية أو تكون حداً نحو {إِلَى الليل} [البقرة: 187] فهذا نهاية لا يدخل [ما] بعدها فيما قبلها ونحو قوله: {إِلَى الكعبين} [المائدة: 6] فهذا حد تدخل الكعبان في الغسل ومثله (إلى المرافين) فإن خرجت إلى عن هذين الأصلين كانت بمعنى حرف آخر، فلما لم يحسن فيها في هذا

3

الموضع النهاية ولا الحد كانت بمعنى مع. والهاء في (إنه كان) قيل: تعود على الأكل. وقيل: تعود على التبدل. [وقيل: على المال]. والحوب: الإثم. وقال نافع: {بالطيب} تمام، [وقال أحمد بن موسى {إلى أَمْوَالِكُمْ} تمام]. قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى. . .} الآية. إنما جاز أن تقع (ما) لمن يعقل، لأنها، والفعل: مصدر، وهي تقع للنعوت فكأنه قال: فانحكوا الطيب من النساء أي: الحلال، {فواحدة} أي: فانكحوا واحدة. وقرأ الأعرج بالرفع على معنى: فواحدة تقنع يرفع بالابتداء

ويضمر الخبر. وهذا أيضاً خطاب للأولياء في صداق اليتامى، والمعنى: فإن خفتم يا أولياء ألاّ تعدلوا في صداقهن، فتبلغوا صدقات أمثالهن فلا تنكحوهن {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} أي: الطيب يعني الحلال من غيرهن من واحدة إلى أربع {فَإِنْ خِفْتُمْ} أن تجوروا إذا نكحتم أكثر من واحدة، فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم. قالت عائشة Bهـ: هي اليتيمة تكون في حجر وليّها يعجبه مالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة صداقها، فنهى أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا من سواهن من النساء. وقيل: معناها إنهم نهوا عن نكاح ما فوق الأربع لأن قريشاً كانت تتزوج العشرين من النساء والأكثر، فإذا صار الرجل معدماً رجع إلى مال يتيمه فأنفقه أو تزوّج به فنهوا عن ذلك. وقيل لهم: إن أنتم خفتم على أموال اليتامى ألاّ تعدلوا فيها من أجل حاجتكم إليها، فلا تجاوزوا فيما تنكحون من النساء أربعاً، فإن خفتم أيضاً مع الأربع ألاّ تعدلوا في أموال يتاماكم، فاقتصروا على واحدة أو على ما ملكت أيمانكم قاله عكرمة.

وقيل: إن معناها أنهم كانوا يتحرون في أموال اليتامى ولا يتحرون في العدل بين النساء فلا تنكحوا منهن إلاّ من واحدة إلى أربع، ولا تزيدوا على ذلك. {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} في الأربع فانكحوا واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} قاله ابن جبير والسدي، وقاله ابن عباس والضحاك وغيرهم، وهو اختيار الطبري. وقال الحسن المعنى: وإن خفتم ألاّ تعدلوا في يتاماكم إذا نكحتموهنّ، فانكحوا ما طاب لكم منهنّ: اثنين أو ثلاثة أو أربعاً {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فانكحوا واحدة، أو فاقنعوا بما ملكت أيمانكم. ومعنى: {تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} أي: في نكاح اليتامى ثم حذف. ومعنى {وَإِنْ خِفْتُمْ} عند أبي عبيدة: وإن أيقنتم. وقال القتبي معناه: وإن علمتم. ومعنى: {مَا طَابَ لَكُمْ}: ما حلّ لكم، وهذه الآية ناسخة لما كانوا عليه في الجاهلية

من تزويج ما شاء الرجل من النساء. {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أي أقرب ألاّ تجوروا، وتميلوا. يقال: عال إذا جار، يعول عولاً، ويقال: من الحاجة عال يعيل عيلة إذا احتاج، وأعال يعيل إذا كثر عياله. قال الحسن: العول الميل في النساء، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال مجاهد: ألا تعولوا: ألاّ تضلوا. وعن عائشة: ألاّ تجوروا. وعول الفرائض من هذا لأنها تميل عن وجهها وحقها.

4

وقال الشافعي: {أَلاَّ تَعُولُواْ}، ألاّ يكثر من {أَلاَّ تَعُولُواْ}، وخطأه (في) هذا جميع النحويين وأهل اللغة، وإنما كان يجب على قوله: أن تعيلوا. وأيضاً، فإنه قد أحلّ لنا ملك اليمين، وإن كثروا وهو ممّا يعال. وقوله: {مثنى وثلاث ورباع} معدول عن اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع دل عليه، ولا تتجاوز العرب في العدل إلى ما بعد الأربع. قوله: {وَآتُواْ النسآء صدقاتهن نِحْلَةً} الآية. {نِحْلَةً} مصدر لأن قوله {وَآتُواْ النسآء} بمنزلة انحلوهنّ، فعمل في نحلة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال.

قوله: {هَنِيئاً مَّرِيئاً} حال من الهاء في {فَكُلُوهُ} يقال: قد هناني ومراني، فإذا أفردت قلت: أمراني ومعناه: فكلوه دواءً شافياً. يقال قد هناني الطعام، ومراني إذا صار لي دواء، وعلاجاً شافياً. ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين أن يعطوا النساء مهورهنّ عطية واجبة. قال قتادة: {صدقاتهن نِحْلَةً} فريضة. وقيل: ديانة. وقيل: المعنى: " نحلة " من الله D للنساء دون الرجال إذ جعل على الرجل الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئاً فينحي لها ذلك. وقيل: نحلة عن طيب نفس. وواحد الصدقات: صدقة، والصداق يفتح ويكسر عند يعقوب، وقال

المازني يفتح ولا يكسر. وقال ابن زيد في معنى الآية: إنها أمر من الله ألاّ تنكح امرأة إلاّ بشيء واجب، والمخاطب بهذ الأزواج، قيل لهم: أعطوا من نكحتم صداقها [ولا] تنكحوا بغير صداق. وقيل: إن المخاطب بهذا الأولياء لأنهم كانوا لا يعطونهنّ من صداقهن شيئاً يأخذه الولي نفسه، فنهى الله D عن ذلك. وقيل: بل المخاطب الأولياء أيضاً، لأنهم كانوا يعطي الرجل منهم أخته للآخر على أن يعطيه الآخر أخته، وهذا نكاح الشغار الذي نهى النبي A عنه، وعنه نهى الله D في هذه الآية. قوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} أي: من الصداق إن تركنَ ذلك من غير

5

مضارة منكم لهن: {فَكُلُوهُ} فهو مخاطبة للأزواج، وقيل: هو مخاطبة للأولياء إن وهبن من هنّ في حجورهم شيئاً من الصداق فهو حلال لهم لهم وأن تكون الآية خوطب بها الأزواج أولى وعليه أكثر الناس. والهاء في {مِّنْهُ} تعود على المال، لأن المعنى: وآتوا النساء هذا المال الذي اسمه: صدقات فرجعت الهاء على المعنى الذي دلّ عليه الكلام. وقيل: تعود على الإيتاء. وقيل: على الصداق. وقال نافع: {صدقاتهن}، تمام. وهذا يدل على أن نحلة لا يعمل فيه ما قبله وأن المعنى أنحلهن الله D نحلة، أضمر الفعل. والأحسن في التمام أن تقف على " مريئاً ". قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} الآية. من قرأ: قياماً فهو مصدر، والمعنى الذي تصلح به أموركم فتقومون بها قياماً،

وجعله الأخفش جمع قائمة. ومن قرأ: قيماً فهو عند البصريين جمع قيمة أي: جعلها الله قيمة للأشياء. وقرأ النخعي {التي} بالجمع. قال الفراء الأكثر في كلام العرب: النساء اللواتي، والأموال التي. والسفهاء هنا: النساء والصبيان، وهو قول قتادة وابن جبير والحسن والسدي والضحاك. وقيل: هم الصبيان خاصة قاله ابن عباس. وقيل: هم الصغار ولد الرجل خاصة. وقيل: هم النساء خاصة. وقيل: هم اليتامى الذين لم يبلغوا الرشد وهذا قول حسن والمعنى: لا تسلطوهم على اموالكم التي جعلها الله قيام معاشكم، فيفسدوها ولكن ارزقوهم، واكسوهم، وإن كانوا ممن تلزمكم نفقتهم، وهذا قول من قال: السفهاء ولد الرجل وامرأته.

6

ومن قال: إن السفاهء المُولى عليهم: فمعناه أنه أضاف الأموال إلى الأولياء لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها وأمرهم أن يرزقوهم منها ويكسوهم. قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوف} أي: عدوهم وعداً حسناً من البر والصلة، وقيل: المعنى ادعوا لهم بالصلاح. وقيل: المعنى علموهم أمر دينهم. وقال ابن جريج: المعنى: قولوا لهم إن صلحتم ورشدنم سلمنا إليكم أموالكم، وخلينا بينكم وبينها. قوله: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} الآية. والمعنى اختبروهم في عقولهم وصلاحهم، وتثمر أموالهم وذلك بعد الاحتلام {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ} الرشد {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. وقد قال أبو حنيفة: لا حجر على بالغ. وعامة الفقهاء على خلافه.

ومعنى {إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} أي الحلم، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد، ومعنى {آنَسْتُمْ} وجدتم وعلمتم وأحسستم منهم الرشد، وأصل آنست في قول القتبي: أبصرت، والرشد هنا العقل والصلاح في الدين. وقيل: الرشد: الصلاح في الدين والمال، وقال مجاهد: الرشد هنا العقل. {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} هذا كلام يدل [على] أن الآية في المُولى عليهم من يتامى الصبيان الإناث والذكور، وقال الحسن: رشداً في أموالهم وصلاحاً في دينهم. قال زيد بن أسلم: وذلك بعد الاحتلام. قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أي: لا تأكلوا أموال اليتامى بغير ما أباح الله D. وقيل: لا تسرفوا في أكلها، والإسراف في كلام العرب تجاوز الحد المباح إلى

غيره بنقص أو زيادة، وهي في الزيادة أكثر إسرافاً. يقال سَرِفَ يَسْرَفُ، ويقال مررت بكم فَسَرَفْتُكم أي: فسهوت عنكم وأخطأتكم. وقوله: {بِدَاراً} أي: مبادرة أن يكبروا، وهو مصدر بادرت. أي: لا تأكلوها مبادرة منكم (بلوغهم وإيناس الرشد منهم فيأكلوها لئلاّ يرشدوا فيأخذوها منكم). قوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} أي: عن أموال اليتامى بماله. {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} أي: يستقرض من مال يتيمه، ثم يؤديه إذا

أيسر، قاله عمر Bهـ وابن جبير وعبيدة وأبو العالية. وروي أن ابن عباس والشعبي وغيرهم: أن له أن يأكل منه إذا احتاج قرضاً ويؤديه إذا أيسر مثلما أكل. وقال السدي: إذا كان الولي فقيراً أكل من يتيمه بأطراف أصابعه، ولا قضاء عليه، وقاله الشعبي، وروي مثله عن ابن عباس بأنه لا قضاء عليه. وعن عائشة: إنّ الوصي يأكل من مال اليتيم مكان قيامه عليه إذا كان فقيراً (أكل بالمعروف، ولم يذكر قرضاً ولا رداً وقال النخعي إذا كان الولي فقيراً) أخذ من مال يتيمه ما يسدّ به جوعته ويستر عورته، ولم تذكر قضاء.

وقال عطاء: يأكل إذا افتقر ولا قضاء. وقال ابن زيد: يأكل إذا احتاج لقيامه عليهم وحفظه لأموالهم ولا قضاء عليه. وقيل: المعنى أكل الولي مع اليتيم هو في التمر وشرب رسل الماشية خاصة دون غيره، ولا قضاء عليه، وقد توقف بعض أهل العلم فيها وقال: لا أدري لعلها منسوخة بقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} الآية [10]. قال أبو حنيفة: لا يأكل معه شيئاً إلاّ أن يسافر من أجله فيأخذ القوت.

7

وقد روي عن ابن عباس أنه قال {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف}: يقوت نفسه يعني من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه. وهذا نختار عند العلماء، وحكى معناه الشافعي. وقال نافع بن أبي نعيم: سألت يحيى بن سعيد وربيعة عن قول الله D: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} فقال: أنفق عليه بقدر فقره، وإن كان غنياً أنفق عليه بقدر غناه، ولم يكن للولي منه شيء. ثم أمر الله تعالى الأولياء بالإشهاد على اليتامى إذا رشدوا ودفعوا إليهم أموالهم فقال: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً} الآية. أي: كافياً من الشهود الذين يشهدون على القبض، ونصب (حسيباً) على الحال. قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} الآية.

8

{نَصِيباً} الأخير منصوب على الحال عند الزجاج وفيه معنى التأكيد كأنه قال مفروضاً، وهو نصب على المصدر عند الأخفش والفراء كأنه قال فرضاً لازماً، وما وقبله يدل على أنه فرض ذلك عليهم. وهذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية، كانوا يورثون الذكر دون الإناث، وكان الكبير من ولد الذكور (يرث) دون الصغير يقولون: لا يرث، إلا من طاعن بالرمح، فنسخ الله D ذلك، وأعلمنا أنه لكل واحد نصيب مفروض أي واجب مما قل ومما كثر من التركة. قوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} الآية. هذه الآية في قول ابن عباس، وابن حبيب، ومجاهد محكمة واجبة، يعطي الورثة للقرابة الذين لا ميراث لهم ما طابت به أنفس الورثة، كأنهم ينحون إلى أنها ندب وليس بفرض.

9

وقال السدي وابن المسيب والضحاك: هي منسوخة بالمواريث وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس أيضاً، قالوا: كان هذا فرضاً قبل نزول المواريث، ثم نزلت المواريث فنسخت ذلك. وقيل: إنها محكمة عنى بها الميت يقسم وصيته وهو حي، فيوضي بها فهو ندب أيضاً. قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي يعتذر إليهم إن لم يعطوا شيئاً، يقول الولي: ما لي في هذا المال شيء، وهو مال اليتامى، وقيل: القسمة في هذا قسمة الوصية أمر أن يعطى منها من لا يرث من القرابة على الندب لذلك. قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} الآية. لم يأت ليخش مفعول لذكره بعد ذلك الخوف، وإتيانه بمفعوله فسد ذلك مسد مفعول يخشى (لأن الخوف والخشية سواء، ومثلهما معنى الاتقاء فسد مفعول يخشى) مفعول الخوف ومفعول الاتقاء، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} [النحل: 110] فسَدَّ خبر إن الثانية مسدَّ خبر الأولى في قوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ} [النحل: 110].

وقيل: مفعول يخشى محذوف كأنه قال: وليخشى الله الذين. والمعنى: وليخف الذين يحضرون وصية الموصي أن يأمروا الموصي أن يفرق ماله على غير ولده، ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده، كما لو أنه كان هون الموصي يسره أن يحثه من يحضره على توفير ماله لولده لضعفهم وعجزهم قال ذلك ابن عباس. وقال قتادة: معناه: من حضر ميتاً فلينهه عن الحيف وليأمره بإحسان، وليخش على عيال المتوفى ما كان يخشى على عياله لو حضره الموت، وهو مثل القول الأول ومثل هذه المعنى قال السدي. وقال الضحاك قولاً قريباً من الأول: قال هذا عند الموت لا يقول أحدكم لرجل عند وصيته: اعتق وتصدق حتى يفرق ناله، ويدع ورثته عالة لعياله كما كان يحب هو أن يفعل به لو حضرته الوفاة وعنده ذرية ضعفاء. قوله: {وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أي يأمرون الميت في وصيته بما لا ضرر فيه على ورثته كما يحب هو أن يفعل في ورثته بما يأمر به نفسه. وقال مجاهد: هذا عند تفريق المال وقسمته، يقول الذين يحضرون: زد فلاناً وأعط فلاناً، فأمرهم الله D أن يقولوا مثلما كان يحبون أن يقال لولده بعدهم. وكل هذه الأقوال لا تمنع الوصية أن يوصي لقرابته بخمس ماله أو بربعه أو بثلثه كذا

10

ذكر أكثرهم. وقيل: إنهم لا يأمرونه أن يوصي لأحد البتة إذا كان له أولاد ضعفاء يخاف عليهم الضيعة كما كنتم تصنعون لو حضركم الموت أيها الحاضرون وعندكم أولاد ضعفاء تخافون عليهم الضيعة. وروي أن أصحاب النبي A كان من اجتهادهم في الخير والعمل الصالح إذا حضروا مريضاً منهم قالوا له: انظر لنفسك فليس ينفعك ولدك ولا يغنون عنك من الله شيئاً، ويقدم جل ماله ويجحف بولده، وكل هذا قبل الوصية بالثلث، وتحديدها من النبي A فكره الله سبحانه ذلك وأمرهم أن يأمروا الذي حضرته الوفاة بما يحبون أن يأمروهم به إذا حضرتهم الوفاة ولهم ذرية ضعفاء. وقد قيل: إن هذا أمر للموصي على الأيتام أن يفعل فيهم ما يحب [أن يفعل] بعده في أولاده. وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الوصية لولاة اليتامى ألا يأكلوا أموالهم كما يحبون لو ماتوا وتركوا أولاداً ضعفاء أن يحتاط على أموال أولادهم كما يحتاطون هم على مال يتاماهم، أي: لتفعلوا بهم ما تحبون أن يفعل بولدكم بعدهم. قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} الآية.

11

هذا تحذير ووعيد من الله D لمن يأكل مال يتيمه. قال السدي: إذا قام من أكل مال اليتيم من قبره بعث ولهب النار يخرج من فيه، ومسامعه وأذنيه وأنفه وعينيه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم. وقال النبي A فيما روى الخدري عنه من خبر ليلة الإسراء: " نَظَرْتُ فِإِذَا أنَا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرٌ كَمَشَافِرِ الإِبِلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأخُذُ بِمَشَافِرِهِم، ثَمَّ يَجْعَلَ في أفْوَاهِهِمْ صَخْراً مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِن أسَافِلِهِم، قُلْتُ: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء {الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} ". وقال ابن [زيد] عن أبيه: هي لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم، وإنما جاز أن يخبر عنهم بأكل الناس لأنهم لما أكلوا ما يؤديهم إلى النار كانوا بمنزلة من يأكل النار، وإن كان يأكل الطيب في الدنيا. قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم لِلذَّكَرِ} الآية. ومعنى قوله {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} معناه: لم يزل كذلك، كأن القوم عاينوا

حكمة وعلماً، فأعلمهم الله أنه لم يزل كذلك هذا مذهب سيبويه. وقال المبرد: ليس في قوله: (كان) دليل على نفي أنه كان ذلك في الحال وفي الاستبقال. وفيها قول ثالث وهو: أن كان يخبر بها عن الحال كما قال: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29]، وقول رابع: أن الإخبار من الله D في الماضي والمستقبل واحد لأنه عنه معلوم. ومعنى {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم فلفظه لفظ الخبر، ومعناه الإلزام كما قال: -[" ذلكم وصاكم به أي فرضه عليكم ". وقيل معناه: يعهد إليكم إذا مات منكم ميت وخلف] أولاداً أن يقسم عليهم على كذا وكذا. وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} وما بعده هو تفسير ما وصاهم به، بين الله للنبي A وأمته الواجب في مواريث من مات منهم في هذه السورة ونسخ به ما كان عليه أهل الجاهلية من توريث الأولاد المقاتلة دون الصغار وتوريث الذكور دون الإناث. وقال مجاهد وغيره كانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله تعالى بما أحب

وفرض هذه السورة ما قد نص عليه. وروي أن هذه الآية نزلت لما استشهد سعد بن الربيع يوم أحد، وترك بنتين وامرأة، وأباه الربيع، فأخذ أبوه جميع ما ترك على ما كانوا عليه في الجاهلية، فأتت امرأة سعد النبي A فشكت ذلك إليه مرتين وهي تبكي، وتذكر فقر بنيها، وأنه لا أحد يرغب فيهما لفقرهما، فنزلت آية المواريث {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم}. قال أبو محمد: وقد كان هذا في علم الله D أنه سيفرضه علينا، ويجعل لإنزاله علينا سبباً، وكذلك جميع ما أنزله علينا من الفرائض وغيرها، قد تقدم علمه بذلك لا إله إلا هو. قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} أي فإن كان المتروكات نساء. وقوله: {فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (فرض الله تعالى لما فوق الاثنين من النساء:

الثلثين، وليس للاثنين فرض مسمى، فقال قوم " فوق " هاهنا زائدة والمعنى فإن كان المتروكات نساء اثنتين فلهن ثلثاً ما ترك) كما قال: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] فيكون على هذا القول لا فرض لما فوق الاثنين، والقول فيها إن فرض الاثنين غير منصوص عليه لكن يعطين بالإجماع بدليل النص (الثلثين). والدليل: هو أن الله تعالى جعل فرض الاثنين من الأخوات: الثلثين بالنص، والابنتان أمس قرابة، وأقرب من الأختين، فوجب ألا ينقص عن فرض الأختين، وأيضاً فإن الله تعالى جعل [فرض] الأختين للأم كفرض ما فوق ذلك، (فكذلك يجب أن يكون فرض الابنتين كفرض [الأختين] فما فوق). ودليل آخر وهو أنه جعل فرض الأخت كفرض البنت، فيجب أن يكون فرض البنتين كفرض الأختين، وكذلك أعطى الأخوات الجماعة الثلثين قياساً على فرض البنات المنصوص عليه، وكان المبرد يقول: إن في الاية دليلاً على أن فرض البنتين: الثلثان، وهو أنه قال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} (فأقل العدد ذكر وأنثى، فإذا كان

للواحدة الثلث دل ذلك على أن للاثنتين) الثلثين. وقيل: (إن) الابنة لما وجب لها مع أخيها في مال أبيها الثلث، كانت أحرى أن يجب لها في مال أبيها مع أختها أيضاً الثلث، ويكون لأختها معها مثلما وجب لها وهو الثلث، فوجب للابنتين الثلثان بهذا الاستدلال. والهاء في {لأَبَوَيْهِ} تعود على الميت، ولم يجر له ذكر، لكن الكلام يدل عليه، والأولى من هذا كله أن تكون الابنتان أعطيتا الثلثين لفعل النبي A فقد روي عنه أنه أعطى للابنتين الثلثين. وقيل: أُعطيتا الثلثين بالإجماع. والأولاد فيما ذكر الله تعالى هم أولاد الصلب الذكور والإناث وولد الابن خاصة وإن سفلوا الذكور والإناث، وكذلك ولد ابن الابن ابن الابن إذا نسب إلى الميت من قبل آبائه والأعلى يحجب الأسفل إلا أن يكون الأعلى أنثى، فإن لها ما للبنت، والباقي لمن هو أسفل منهما من ولد الابن إذا كان فيهم ذكر، ولهذا تبيين يطول ذكره، وهو مذكور في كتاب الفرائض، وكذلك الابنتان لهم الثلثان والباقي لمن هو

أسفل منهما إذا كان فيهم ذكر. قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} الآية. مذهب بعض الصحابة وبعض الفقهاء أن الإخوة الذين يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس هم ثلاثة فما فوق ذلك لقوله (إخوة فأتى بلفظ الجمع)، وقال أكثرهم، وكثير من الفقهاء (وإن كانوا أخوة، رجالاً ونساءً) وهو مذهب زيد الاثنان يحجبان الأم كالثلاثة والإخوة في الآية يراد بهم اثنين فما فوقهما، وإنما جاز أن يقع لفظ الجماعة للاثنين لأنهما شبها بالشيء الذي ليس في الإنسان منه غير عضو (واحد) كقولك: الزيدان صغت قلوبهما وخرجت أنفسهما، وفقئت أعينهما، فلما جمع في موضع التثنية كان هو المشهور عن العرب، وأتى به القرآن، شبه الشخصان بالأعضاء التي في كل واحد منهما عضو واحد في موضع التثنية (كما يجمع الأعضاء في موضع التثنية). والشبه الذي بينهم أن الشخصين كل واحد غير صاحبه كذلك الأعضاء كل واحد غير الآخر، فأخرج تثنيتهما بلفظ تثنية العضوين. وقال بعض النحويين:

ضمك واحد إلى اثنين كضمك واحداً، إلى واحد. وقال: [الخليل]: الاثنان جماعة، وقولهما فعلنا حقيقة، وقول الواحد فعلنا مجاز، وقد قال تعالى: {وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً} ولا اختلاف أن هذا يصلح لاثنين فصاعداً. والاثنان جماعة لأنه ضم واحد إلى واحد وجمع واحد إلى واحد وقد قال تعالى: {وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] يريد طرفيه إذ ليس له سوى طرفين، وقد قال النبي A " ( صلاة) الاثنين جماعة " وقال

تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} [الأنبياء: 78] ثم قال بعقب ذلك {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فأخبر أولاً عن اثنين ثم أتى بلفظ الجمع آخراً لأن الاثنين جماعة. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15]. أراد به موسى وهارون المتقدم ذكرهما، وقال في قوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وإنما أراد به علياً Bهـ والوليد، فجمع (يستوون). وقالوا في قوله: {وَأَلْقَى الألواح} [الأعراف: 150] أنهما كانا لوحين فجمع في موضع التثنية،

وقالوا في قوله: {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] أنهما عائشة Bهـ وصفوان ابن المعطل، فجمع، والناس يقولون: شهد الشهود على فلان وإن كان إنما شهد عليه شاهدان. ويقولون: أعط هذا لأولادك وإن كان ليس له ولدان، وأهل الحساب على تسمية الاثنين عدداً والعدد كثير في المعنى. وإنما نقصت الأم بالإخوة (وزيدت للأب) لأن على الأب مؤنتهم دون الأم. قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} الآية. " أو " هنا للإباحة، والكلام فيه تقديم وتأخير، والدين هو المتقدم على الوصية وليست " أو " بمعنى الواو، لأن الواو لو كانت لجاز أن يتوهم أن الحكم لا ينفذ إلا باجتماع الدين والوصية. قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} المعنى لا يعلمون أيهم أقرب لهم نفعاً في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أرفع درجة في الجنة، لأن الآباء يشفعون في

12

الأبناء والأبناء يشفعون في الآباء إذا كان [بعضهم] أعلى درجة من بعض رفع الأٍفل إلى الأعلى. فالمعنى على هذا لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعاً في الآخرة. وفرض الزوج والزوجة ظاهر في النص غير خفي، فلذلك لم يذكر. قوله: {فَرِيضَةً} منصوب على الحال المؤكدة لما قبلها من الفرض، وقيل: هو مصدر لأن معنى قوله {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم. ثم قال: {فَرِيضَةً} فأعمل فيه المعنى الذي دل عليه يوصيكم، وهذا قول حسن. قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة أَو امرأة} الآية. " نصب (كلالة) على أنه خبر كان عند الأخفش، وإن شئت على الحال يجعل كان بمعنى وقع " ويورث " صفة رجل، وهذا على أن الكلالة هو الميت، وهو قوله البصريين لأنهم يقولون الكلالة الميت الذي لا ولد له، ولا والد وقد روي ذلك

عن أبي بكر Bهـ، وكذلك قال علي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس وجابر ابن زيد. قال البصريون: هو كما تقول رجل عقيم: إذا لو يولد له، مشتق من الإكليل كأن الورثة غير الولد، والولد قد أحاطوا به فحازوا المال. وقرأ الحسن وأبو رجاء (يورِث كلالة) بكسر الراء جعل الكلالة مفعول به. وقرأ بعض الكوفيين (يورِث كلالة) بكسر الراء وتشديد نصب كلالة على أنه مفعول بها. والكلالة في عاتين الروايتين: الورثة أو المال.

وقال أبو عبيدة: كلالة أصله مصدر من كلالة النسب إذا أحاط به، والأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلقهما فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين كلالة كأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب. وقد قيل: الكلالة الورثة لا ولد فيهم ولا أب وهو قول أهل المدينة وأهل الكوفة، وشاهد هذا القول قراءة الحسن وأبي رجاء المتقدم ذكرهما، ويبعد هذا القول لأجل نصب كلالة لأنه يجب على هذا القول أن ترتفع على معنى يورث منه كلالة. وقال عطاء: الكلالة المال الذي لا يرثه ولد ولا والد، وهو قول شاذ، فيكون نصبها على أنه صفة لمصدر محذوف والتقدير: يورث وارثه كلالة. وقال ابن زيد: الكلالة الحي والميت الذي لا ولد له ولا والد. والكلالة مشتق من الإكليل المنعطف على جبين الملك، ومن الروضة المكللة وهي التي قد حف بها النّوْرُ، وشبه ذلك بالقمر إذا حا بالإكليل وهو منزلة من منازل القمر ذات نجوم، يقال يتكلله النسب إذا أحاط به، وإنما سمي الميت الذي لا ولد له، ولا والد كلالة لأن كل واحد من الولد والوالد إذا انفرد يحيط بالميراث كله.

13

قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} نصب غير على الحال أي: يوصي بها غير مضار. وقرأ الحسن غير مضار وصيةٍ، بالإضافة ولحن في ذلك لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر، ووجهه غير مضار بوصية أي: غير مضار بها ورثته في ميراقهم لا يقدر بما ليس (عليه) ولا يوصي بأكثر من الثلث. و" وصية " نصب على المصدر. وأكثر العلماء على أن الكلالة في أول هذه السورة يراد بها الإخوة [من الأم والكلالة في آخر السورة يراد بها الاخوة] من الأب والأم. قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} إنما وحد في أوله وقد تقدم ذكر رجل وامرأة، لأن الاسمين إذا تقدما وعطف أحدهما على الآخر بأو، جاز أن تضيف الخبر إليهما أو لأحدهما، إن شئت أن تقول: من كان عنده غلام أو جارية، فيحسن إليه، وإن شئت: إليها وإن شئت إليهما. قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله}. الآية.

15

المعنى: تلك فرائض الله. وقيل سنة الله وأمره. وقيل شروط الله، والإشارة بتلك إلى ما تقدم من الحكام في الفراض، والتقدير تلك القسمة حدود الله لكم يبين الحق والباطل تنتهون إليها، فمن يطع الله ورسوله في تنفيذها وغير ذلك يدخله الجنة، ومن يعصيه ويتعد حدوده في ترك تنفيذها يدخله النار، ويخلده فيها إذا مات مصراً على ذلك، والهاء في " حدوده " تعود على الرسول لأنه المبلغ لحدود الله. قوله: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة} الآية. " اللاتي " لا تكون إلا للنساء. والمعنى: والنساء اللاتي يأتين الفاحشة، فاستشهدوا عليهن فيما آتين أربعة رجال، فإن شهدوا عليهن بالفاحشة {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} حتى يمتن {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} أي: طريقاً إلى النجاة فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وكان هذا قبل نزول الحدود، فلما نزل: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، نسخ ذلك.

قال عطاء: السبيل: الحدود والرجم، والجلد. قال السدي: نزلت هذه الآية في التي دخل بها إذا زنت، فإنها تحبس في البيت ويأخذ زوجها مهرها. قال الله تعالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قال: هي الزنا، ثم جاءت الحدود فنسختها فجلدت ورجمت وصار مهرها ميراثاً فكان السبيل هو الحد الذي نزل. وقيل: إن حكم الزاني والزانية الثيبين والبكرين كان أن يحبسا حتى يموتا، فنسخ الله ذلك بالآية التي بعدها وصار حكمهما أن يؤذيا بالسب والتعيير لقوله " فآذوهما " ثم نسخ ذلك بالحدود، هذا قول الحسن وعكرمة وروي عن عبادة بن الصامت. وقال قتادة كان حكم البكرين الزانيين أن يؤذيا بالتعيير، وحكم المحصنيين أن يحبسا حتى يموتا، فنسخ بالحدود،: الجلد للبكرين ونفي الرجل بعد الجلد عاماً،

والرجم على الثيبين بعد الجلد، والجلد في جميعهم مائة. وقال مجاهد: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة} عام لكل ثيب وبكر من النساء {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} عام لكل من زنى من الرجال خاصة ثيباً كان أو بكراً، وهو مروي عن ابن عباس. واختاره النحاس وغيره، لأنه قال {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} ولم يقل منكم، وقال {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} أي يأتين الفاحشة منكم يريد الرجال بعد ذكر النساء، ثم نسخت الآيتان بالحدود. وقد اختلف في الحد على الثيب فقال علي Bهـ: الجلد ثم الرجم، وقال: أجلد بكتاب الله، وأرجم بسنة رسول الله A. وبه قال الحسن وإسحاق. وأكثر العلماء على ان عليه الرجم دون الجلد، وهو مروي عن عمر Bهـ وهو [قول]

مالك، والشافعي، والكوفيين والأوزاعي والنخعي، فمنهم من قال: إن الجلد منسوخ عن المحصن بالرجم جعل سنة تنسخ القرآن، ومنهم من قال هو منسوخ بما حفظ لفظه ونسخ رسمه في المصحف من قوله: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. واختلف في نفي البكر: فقال العمران ما: يجلد ولا ينفى، وكذلك قال عثمان وعلي وابن عمر Bهما وهو قول عطاء وسفيان ومالك، والشافعي، وابن أبي ليلى، وأحمد وإسحاق وغيرهم.

واختلف في المعترف في الزنا. فقال الحسن إذا اعترف (يحد) وهو قول الشافعي وأبي ثور، وروي عن مالك أنه قال: إذا اعترف من غير محنة يحد، وإن اعتذر، وذكر عذراً يمكن قُبِل منه، وإن اعترف بمحنة قبل منه الرجوع عن اعترافه. وقال قوم: لا يحد حتى يعترف أربع مرات في موضع أو في مواضع قال مالك: لا يقام عليه الحد إن كان بعذر وهو مذهب الأوزاعي. وأما الإحصان الذي يجب معه الرجم فهو الوطء للمسلمة الحرة بنكاح صحيح، فإن كان فاسداً لم يكن محصناً بذلك النكاح في قول عطاء وقتادة والليثي

ومالك، والشافعي وغيرهم، وقال غيرهم من الفقهاء: يحصن بذلك النكاح. وروي عن علي وجابر بن عبد الله في الذمية إذا دخل بها، والمسلمة سواء، وعند الحسن البصري وعطاء والزهري، وقتادة ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق يحصن (المسلم)، ولا يحصن المسلم الذمية. وروي عن ابن عمر أنها لا تحصنه (وهو قول الشعبي وعطاء والنخعي ومجاهد والثوري. والأمة يدخل بها الحر تحصنه عند ابن المسيب والزهري، ومالك، والشافعي. وقال عطاء والحسن البصري وابن سيرين، وقتادة، والثوري وغيرهم: لا تحصنه فأما الحرة تكون تحت العبد فهو يحصنها عند (ابن) المسيب والحسن البصري،

ومالك، والشافعي، وأبي ثور وغيرهم. وقال عطاء والنخعي، وأصحاب الرأي: لا يحصنها. ومذهب مالك والشافعي والأوزاعي في الصبية التي لم تبلغ (يدخل بها البالغ الحر: أنها تحصنه، ولا يحصنها، وقال أصحاب الرأي لا تحصنه الصبية، ولا المجنونة). وقال الشافعي تحصنه المجنونة إذا دخل بها. وقال مالك في الصبي: إذا جامع امرأته لا يحصنها.

16

وقال ابن عبد الحكم: لا يحفر للمرجوم ويرجم على وجه الأرض وهو قول أصحاب الرأي، وقال غيره: يحفر له، وكلهم قالوا: يرجم حتى يموت. قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} الآية. المعنى عند الطبري: الرجل والمرأة اللذان يأتيان الفاحشة منكم أي: من رجالكم {فَآذُوهُمَا}، قيل: يعني بذلك غير المحصن، وبالذي قبلها: المحصنان. وقيل: عنى بذلك الرجلان الزانيان. وقيل: هذه الآية والتي قبلها منسوخة بالحدود، وعليه العمل عند الصحابة والعلماء. وقيل: هي ناسخة لما قبلها ومنسوخة بالحدود.

17

ومعنى {فَآذُوهُمَا} فسبوهما وعيروهما، ونحوهما. وقال ابن عباس: معناها: يؤذيان باللسان ويضربان بالنعال. والسبيل في الآية التي قبلها هي الحدود التي نزلت في النور. قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بِجَهَالَةٍ} الآية. معناها عندها الطبري: أن التوبة ليست لأحد إلا الذين يعملون السوء، وهم جهال: ثم يتوبون قبل الموت، فإن الله يتوب عليهم، وأكثر الصحابة على أن كل ذنب فعله الإنسان فعل جهالة عمداً كان أو غير عمد. قال مجاهد: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى يتوب عن ذلك، وعلى ذلك أكثر التابعين وأهل التفسير. وقد قال الضحاك: إن الجهالة: العمد خاصة وروي مثله عن مجاهد. وقال عكرمة: الجهالة: الدنيا. فالمعنى على قوله: للذين يعملون السوء في

الدنيا، وقال: الدنيا كلها جهالة. وقيل معنى: {بِجَهَالَةٍ} أي: بجهالة منهم لما في الذنب من العقاب عمدوا ذلك أو جهلوه. وقيل: الجهالة أن يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية، فإن لم يعلم ذلك، فهو خطأ وليست بجهالة. قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} الآية. أي: في صحة لا مرض فيها قبل نزول إمارات الموت، قاله ابن عباس والسدي وغيرهما، وقيل: المعنى من قبل معاينة الموت (وروي ذلك عن ابن عباس، وقاله الضحاك، وقال عكرمة وابن زيد " من قريب " من قبل الموت). وقد روي قتادة عن أبي قلابة أنه قال: ذكر لنا أن إبليس لعنه الله لما لعن وأُنظْر قال: وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، قال الله D: لا

18

أمنعه التوبة ما دام فيه الروح. وقال النبي A: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ". وقال أهل المعاني: " ثُمّ يثوبون " قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله D ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} أي: يرزقهم إنابة إلى طاعته ويتقبل منهم توبتهم إليه. قال الأخفش: قال إني تبت الآن " تمام وخولف في ذلك لأن و {الذين يَمُوتُونَ} عطف على " الذين " الأول. قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} الآية.

المعنى: ليست لمن يصر على معاصي الله حتى إذا حشرج بنفسه وعاين ملائكة ربه قد أتوا لقبض روحه قال في نفسه أتوب الآن وهو موقن من الموت لا يطمع في حياة، هذا لا توبة له يضمرها، لأنه غير مستطيع لإظهارها. قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم يُسَق. وعنى بذلك أهل النفاق. وقال ابن الربيع: نزلت الأولى في المؤمنين يعني قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} ونزلت الثانية - الوسطى - في المنافقين وهي قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة} ونزلت الآخرة في الكفار يعني قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} لا توبة لهم في الآخرة إذ ليست بدار عمل. وقيل: هي في أهل الإسلام، وذكر عن ابن عباس أنه منسوخة بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 و116]، قال: فحرم الله المغفرة على من مات، وهو

19

كافر، وإرجاء أهل التوحيد إلى مشيئته ولم يؤيئسهم من المغفرة. والسيئات هنا: ما دون الكفر. ومعنى {أَعْتَدْنَا} - وهو أفعلنا - من العتاد. قولهم: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} الآية. الكَره والكُره لغتان بمعنى عند البصريين والكسائي. وقال الفراء: الكَره بالفتح أن يكون على الشيء، والكُره المشقة، هذا معنى قوله. وقال القتبي: الكره بالفتح بمعنى القهر والضم بمعنى المشقة. ومعنى الآية عند أبي بكير وغيره: أنها نهي للرجل يحبس المرأة، وليس له بها حاجة رجاء أن يرثها، ونهاه أن يعضلها حتى تفتدي منه بما أخذت منه، أو ببعضه. وقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}، معناه أن تشتم عرضه، أو تخالف أمره وتبذو

عليه، فكل فاحشة (نعتت) مبينة فهي من البَذاء باللسان، وكل فاحشة مطلقة فهو الزنا، والزنا يُسْتَر ويَخفى، فلا تكون مبينة، والنطق بالبذاء يظهر، فهو مبين من لسان فاعله، ودل (على) ذلك قوله: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: 30] عنى بذلك مخالفة (أمر) الرسول A والأذى بالنطق ونعوذ بالله من أن يعني بذلك أنه كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها كان ابنه من غيرها، أو قريبه أولى بها من غيرهما، ومنه بنفسها، فإن شاء نكحها وإن شاء منعها من التكاح وهو العضل فحرم الله ذلك على المؤمنين بهذه الآية. فمعنى الوراثة هو أن يأخذها لنفسه، ويكون بها أولى من ولي نفسها، ومن غيره، ومعنى العضل: أن ياخذها ويمنعها من تزوج غيره، كذلك قال جماعة أهل التفسير،

ولكن اختلفوا (فقبل كان ذلك سنة قريش في الجاهلية). وقيل: كان ذلك سنة الأنصار. وقيل: كان ذلك سنة الجميع يمنع امرأة قريبه أن تتزوج ويغصبها نفسها إن شاء. قال الضحاك: كان الرجل إذا مات وترك امرأته أتى حميمه، فألقى ثوبه عليها، فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحاً، فإن شاء أمسك حتى تفتدي منه، وقال ابن عباس: كان حميم الميت يلقي ثوبه على امرأته فإن شاء تزوجها بذلك، وإن شاء حبسها حتى تموت، فيرثها فذلك. قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} لأنهم يمنعونها من التزويج حتى تموت، فيرثها بذلك إلا أن تذهب إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ثوبه فتكون أحق بنفسها، كذلك حكمهم فيها. وقال زيد بن أسلم: كان الرجل إذا مات في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد. وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة (المرأة) حتى يطلقها، أو يشترط عليها ألا تنكح إلا من

أراد حتى تفتدي ببعض ما أعطاها، فنهى الله عن ذلك. وقال مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها كان نكاحها بيد ابن زوجها، يعني من غيرها، فإذا ماتت قبل أن تنكح كان ميراثها له، فكان الرجل يعضل امرأة أبيه عن النكاح حتى تموت فيرثها فنهى الله عن ذلك ونسخه. قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ} الآية. أي: تحبسوهن عن النكاح لتأخذوا من أموالهن إذا متن ما كان موتاكم ساقوا لهن من صدقاتهن، قال ذلك ابن عباس والحسن وعكرمة فهو خطاب عند هؤلاء لورثة الميت. وروي عن ابن عباس في معناها أيضاً أنها في مخاطبة الأزواج ألا يحبسوا النساء وهم كارهون لهن ليأخذوا منهن ما دفعوا إليهن. قال قتادة المعنى: لا ينبغي لك أن تحبس امرأتك وأنت كاره لها لتفتدي منك. وقال بعض أهل التفسير نزل صدر الآية في الجاهلية، وآخرها في أمر الإسلام فقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} في الجاهلية. وقوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} في الإسلام وهو ما ذكرنا من قول قتادة وما روي عن

ابن عباس. وقال الضحاك: العضل أن يكره الرجل المرأة حتى تفتدي منه قال الله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ}. وقيل: إن المنهي عن العضل هنا أولياء النساء، قاله مجاهد، وقال ابن زيد: كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة ثم لا توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيشهد بذلك عليها، فإذا خطبها الخاطب لم تتزوج حتى تعطي الأول، وترضيه فيأذن لها وإلا منعها. وقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} الآية. سمح للأزواج في المضارة إذا أتين بفاحشة ظاهرة يفتدين ببعض ما أعطوهن قال ذلك الحسن. وقال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة سلَّمَت إليه ما أخذت منه، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقال أبو قلابة: للرجل أن يضار بالمرأة إذا أتت بفاحشة، ويضيق عليها حتى تختلع منه. وقال ابن عباس: الفاحشة هنا النشوز، إذا نشزت وجاز له أن يأخذ منها

الفدية. وقيل: الفاحشة هو بذاء اللسان على زوجها، والزنى، والنشوز، فله إذا فعلت شيئاً من ذلك أن يأخذ منها الفدية ويضارر بها حتى تفتدي منه، وإذا كانت الفاحشة بالألف واللام فهي الزنا واللواط. قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} الآية. أي: صاحبوهن بالمعروف في المبيت والكلام. وقيل: المعروف إمساكهن بأداء حقوقهن التي لهن عليكم أو تسرحوهن بإحسان. قوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} الآية. {خَيْراً كَثِيراً} أي: في إمساكه {خَيْراً كَثِيراً} أي: في الصبر على إمساك ما تكرهون. فالهاء في " فيه " تعود على الإمساك. قال مجاهد المعنى: ويجعل الله في الكراهة خيراً كثيراً. قال السدي: {وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} أي: الولد. قال ابن عباس: خيراً كثيراً أي: يعطف عليها، ويرزق منها ولداً ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. فالهاء في (فيه) على قول مجاهد تعود على الكراهة.

20

قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} الآية. نهى الله المؤمنين أن يأخذوا من أزواجهم شيئاً، وإذا أرادوا طلاقهن ليستبدلوا بهن غيرهن. والقنطار: المال الكثير وفي تحديد عدده اختلاف قد ذكرناه في آل عمران، والبهتان: الباطل: {أَتَأْخُذُونَهُ} كله على طريق التحذير والتوبيخ ألا يؤخذ منهن شيء، وإن كثر ما عندهن، وهو تحذير لمن فعله ومعنى {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} الملامسة والمباشرة أي: تلامستم وتباشرتم، وأصل الإفضاء في اللغة: المباشرة والمخاطبة، يقال: القوم فوضى فضا أي: مختلطون لا أمير لهم، فالإفضاء في هذه المواضع عند أكثر العلماء

22

الجماع في الفرج. {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}: هو الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، وهذا قول عامة الفقهاء. وكان في عقد النكاح قديماً أن يقال للناكح: " الله عليك " أي: " لتمسك بالمعروف أو تسرح بإحسان ". وقال ابن زيد: رخص عليهم بعد ذلك فقال: {إِلاَّ [أَن] يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} [البقرة: 229] وهذه ناسخة لتلك في قوله. وأكثر الناس على أنها محكمة فليس له أن يأخذ منها إذا أراد أن يستبدل بغيرها شيئاً مما أعطاها، وأجاز له في البقرة أن يأخذ منها إذا أرادت هي طلاقها لتفتدي منه إذا كان كارهاً للطلاق، وليس في حكم إحدى الآيتين نفي للأخرى فكلاهما محكم، تلك يجوز أن يأخذ منها لأنها مريدة للطلاق وهو كاره، وهذه لا يجوز أن يأخذ منها لأنه هو المريد للطلاق ليستبدل غيرها. {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} الآية.

قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} إنما دخلت كان عند المبرد هاهنا زائدة، والمعنى أنه كان فاحشة على كل حال ويكون. وقال الزجاج: لا يجوز زيادة كان هاهنا لأنها قد عملت، ولكنها غير جائزة، ومعناها أنه كان مستقبحاً عندهم، والجاهلية يسمونه فاحشة فخوطبوا بما كان عندهم. وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} هو أن الأبناء كانوا في الجاهلية ينكحون نساء آبائهم وهو من الاستثناء المنقطع، المعنى لكن ما سلف دعوة فإنه مغفور، وقيل المعنى {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}. فإنكم لا تؤاخذون به. قال ابن بكير: نهى الله D أن يفعلوا (ما كان) أهل الجاهلية يفعلونه كان الرجل يخلف أباه على زوجته إذا توفي الأب، وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} معناه لكن ما قد سلف في الجاهلية و {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} فهو ذم لما كانوا عليه. ذم الله تعالى ما كانوا عليه في آخر الآية، ونهى عنه في أولها هذا معنى قول ابن بكير، ف، " ما " بمعنى من في هذه الأقوال، والمعنى: ولا تتزوجوا النساء اللواتي تزوجهن آباءكم، فحرم الله أن يتزوج الرجل المرأة التي تزوجها أبوه دخل بها أو لم يدخل، لأنه إذا عقد عليها فهو نكاح، وحرم أن يتزوج الرجل زوجة ابنه مثل قوله

تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} دخل الابن بها، أو لم يدخل تحرم على الأب بالعقد. وقيل: معنى الآية: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ}: كنكاح آبائكم الفاسد الذي لا يجوز مثله في الإسلام، لكن ما سلف فإنه معفو عنه. والمعنى عند الطبري، ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم، إلا ما قد سلف في الجاهلية، ومضى بـ {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً}، فمن متعلقة عنده بتنكحوا {مَا نَكَحَ} بمعنى استثناء منقطع، وهو قول أهل التأويل فيما ذكره الطبري لأن " ما " لا تكون لمن يعقل، فقال: ولو كان المعنى لا تنكح النساء اللواتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع (ما) من وهو معنى قوله الزجاج، فالنهي إنما وقع على ألا ينكحوا مثل (نكاح) آبائهم، ولم يقع على ألا ينكحوا حلائل الأبناء، والقول الأول يكون النهي إنما وقع على ألا ينكحوا حلائل الأبناء (فتكون)، " ما " لمن يعقل. وقيل: المعنى {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} من فعلكم ذلك، فإنه كان فاحشة ومقتاً، فلا

تفعلوه، فحرّم الله نكاح ما نكحه الآباء ومثله {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي ما سلف من فعلكم، فإنه مغفور لكم، فلا تفعلوه الآن، فهو حرام. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} أي لم يزل كذلك. وقيل: كان زائدة والمعنى إنه فاحشة. وعقد الأب على الابن، وكذلك عقد الابن يحرم على الأب بإجماع. ومعنى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أنهم كانوا يفعلونه، ويعلمون قبحه. ومعنى {وَمَقْتاً} هو أنهم كانوا إذا ولد للرجل ولد من امرأة أبيه سمي ولد مقت، وأولاده المقت معروفون عند أهل النسب يقولون: فلان مقتي النسب، والمقت أشد البغض. {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي: ساء فعلهم طريقاً، ونصبه على التفسير والبيان.

23

قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} الآية. حرم عليكم نكاح أمهاتكم، حرم الله تعالى في هذه الآية من النسب سبعاً، ومن الصهر سبعاً: فالتي من النسب: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت، والتي من الصهر: الأم من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، وأم الزوجة، وبنت الزوجة المدخول بها، وامرأة الابن من نسب، أو رضاعة، والجمع بين الأختين، والسابعة قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} والعمات وإن بعدن مثل العمات وإن قربن، وبنات الأخ والأخت وإن بعدن مثل من قرب منهن. واختلف في أمهات النساء اللوتي لم يدخل بهن إذا ماتت البنت قبل الدخول. يروى عن علي Bهـ: جواز نكاحها وعن زيد بن ثابت مثله، جعلها كالربيبة تحرم إذا دخل بأمها، ولا تحرم إذا لم يدخل بالأم وإن كان عقد. وقال جماعة من العلماء والصحابة والتابعين غير ما ذكرنا أنها تحرم، وإن لم يدخل بالبنت، وليس مثل الربيبة لأنها قد نص عليها أنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، فنعتها بقوله: {الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}. فهو نعت للنساء اللاتي خفضن " بمن " ولا يحسن أن يكون نعتاً للنساء المخفوضات بالإضافة، لاختلاف العاملين، فقد أجازه الكوفيون

وهو تأويل على قول علي وزيد بن ثابت إذ جعل أم الزوجة لا تحرم إلا بالدخول بالبنت. وقد بينا هذه المسائل مفردة في غير هذا الكتاب وفيما أشرنا إليه في هذا كفاية. وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكراً والأخرى (أنثى) ولا يحل أحدهما لصاحبه، فلا يجوز الجمع بينهما، هذا أصل جامع في تحريم الجمع بين امرأتين، ومعنى الدخول هنا الجماع، وقيل الدخول: هو التجرد للفعل، وإن لم يفعل. وقال الزهري في الرجل يلمس أو يقبل أو يباشر ينهى عن ابنتها. (وحلائل الأبناء) أزواجهم، وسميت حليلة لأنها تحل معه في فراش واحد، وكل العلماء أجمع على أن حليلة ابن الرجل تحرم عليه بعقد ولده عليها، وإن لم يدخل. ومعنى قوله: {الذين مِنْ أصلابكم} أي: الذين ولدتموهم دون الذين تبنيتموهم، فإما حلائل الأبناء من الرضاع فبمنزلة حلائل الأبناء من الأصلاب لأن الله تعالى قد جعل الأختين من الرضاعة كالأخت من النسب، والأم من الرضاعة

كالأم من النسب، وقال النبي A: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، فزوجة الابن من الرضاعة تحرم على الأب بالعقد كزوجة الابن من البنت قال عطاء: كنا نتحدث أنها نزلت في النبي A حين نكح امرأة زيد بن حارثة، وقال (كان) النبي A تبناه، فتكلم المشركون في ذلك فنزلت {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [أي] لا الذين تبنيتموهم، ونزلت {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، ونزلت {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40]. وإذا اشترى الرجل الجارية فباشرها، أو عشرها، أو قبل، ولم يجامع حرمت على ابنه، وعلى أبيه في قول مالك، وأكثر العلماء، وابن الابن وإن سفل بمنزلة الابن في هذا كله والجد بمنزلة الأب وإن علا في هذا كله فاعلمه، والوطء في النكاح الفاسد

حكمه في التحريم كحكم النكاح الصحيح يحرم ما يحرم الصحيح، هذا مذهب مالك زالشافعي وسفيان، وغيرهم من الفقهاء، والجمع بين الأختين في النكاح حرام بالنص فأما بالملك فإن عثمان قال: أحلتهما آية وحرمتهما أخرى أما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك. قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ} كل العلماء على تحريم الربيبة التي دخل بأمها كانت في حجر الزوج أو لم تكن في حجره إلا ما روي عن علي Bهـ: أنه أجاز نكاح الربيبة بعد موت أمها إذا لم تكن في حجر الزوج اتباعاً لظاهر الآية لأن الله قال: {الاتي فِي حُجُورِكُمْ} أي في بيوتكم. وسئل عمر عن المرأة وابنتها من ملك اليمين هل يطأ إحداهما بعد الأخرى، فنهى عن ذلك وحرمه. وقال علي Bهـ: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد. وكره ابن مسعود Bهـ الجمع بينهما من ملك اليمين فقال له رجل: يقول الله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} [النساء: 3] فقال له ابن مسعود: وبعيرك مما ملكت يمينك.

وأكثر العلماء على كراهة ذلك، ولم يحرموه. لكن من أراد وطأ الأخرى (فليخرج الأولى من ملكه بما يحرم على نفسه فرجها، بعتق أو بيع أو هبة، ويطأ الأخرى). هذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن علي Bهـ، وفعله ابن عمر Bهما، وقال الحسن والأوزاعي، وقال قتادة: إذا أراد أن يطأ الأخرى اعتزل الأولى، فإذا نفقت عدتها وطئ الثانية، ويضمر في نفسه ألا يقرب الأولى. وقال النخعي: إذا كانت عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما حتى يخرج الأولى عن ملكه، وقال الحكم وحماد. وقوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} أي: ما مضى في الزمن الأول فإنه كان حلالاً، وروي أن يعقوب عليه السلام تزوج أختين أم يوسف وأم يهودا، وكان ذلك لجميع المم فيما ذكر [فحر] م الله D على هذه الأمة رحمة منه لهم لما يلحق النساء من الغيرة، فيوجب التقاطع والعداوة بين الأختين. ونهى النبي A أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وقال: " يحرم من الرضاع

24

ما يحرم من النسب " فإذا أرضعت المرأة غلاماً بم يتزوج شيئاً من أولادها إلا ما ولدت قبل الرضاع لا بعده، وجائز أن يتزوج إخوته من أولاد المرأة إن شاءوا. وكذلك إن أرضعته جارية لم يحل لها أن تتزوج أحداً من أولادها، ولأخواتها أن يتزوجن أولاد المرأة المرضعة إن شاؤوا. وكره الحسن وعكرمة أن يتزوج الرجل (امرأة رجل وابنته من غير المرأة ويجمع بينهما، وكل الفقهاء على جوازه. وكره طاوس أن ينكح الرجل) المرأة وينكح ابنه ابنتها إذا كانت ولدتها بعد وطء الأب لها (وكل الفقهاء على جوازه، فإن كانت ولدتها قبل وطء الأب لها) فلم يكرهه أحد. قوله: {والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} الآية.

قال مالك في قوله {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم}: هن السبايا ذوات الأزواج، أي: وطؤهن جائز لكم يعني لهن أزواج بأرض الشرك أحلهن الله لنا، يعني بعد الاستبراء والمحصنات هنا ذوات الأزواج وقوله {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} يريد به إلا ما ملكت من ذوات الأزواج التي فرق بينهن وبين أزواجهن السباء. قال ابن عباس: وطء كل ذات زوج زنا إلا ما سبي، وكذلك قال ابن زيد وابو قلابة ومكحول والزهري. فالمعنى: حرمت عليكم النساء اللواتي أحصنهن الأزواج إلا ما ملكت أَيْمانكم من ذوات الأزواج السبايا فإنه حلال لكم، ونزل ذلك في سبي (أصاب) المسلمون بأوطاس لهن أزواج فكرهوا أن يقعوا عليه ولهن أزواج، فسألوا النبي A عن ذلك فنزلت {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} من السبايا ولهن أزواج في بلد الشرك، وإنهنَّ حلال لكم يعني: بعد الاستبراء. وقال آخرون: المعنى في {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} أي: وطئهن جائز لكم يعني بعد الاستبراء، إن الله حرم نكاح المحصنات بالأزواج، واستثنى ملك اليمين، وهي المملوكة، ذوات الزوج يبيعها مولاها سيكون بيعها طلاقها

وتحل للمشتري. قال ابن عباس وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله: بيع المملوكة طلاقها. وقال أبو العالية " والمحصنات هنا العفائف التي أحصنهن عفافهن، وهو مردود إلى أول السورة، والمعنى عنده {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3] ثم حرم ما حرم من النسب والصهر، ثم قال: (والمحصنات من النساء) أي: إنهن حرام إلا بصداق وولي وشهود، ويجب على هذا القول نصب المحصنات لأنه عطف على مَثْنَى وما بعده. وقال ابن جبير وعطاء: {والمحصنات مِنَ النسآء} حرم الله المحصنات فوق الأربع مع تحريم القرابة المذكورة. وقيل المعنى: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} بنكاح أو ملك، فحرم الله ذوات الأزواج من النساء ما حرم قبله من ذوي الأرحام، واستثنى ما ملكت اليمين بعقد نكاح صحيح أو بثمن، قال ذلك مجاهد، وقيل: المحصنات: الحرائر، وقال أبو سعيد الخدري Bهـ: إن الآية نزلت في نساء مهاجرات قدمن المدينة، فتزوجهن بعض

المسلمين، ثم قدم أزواجهن مهاجرين، فنُهِيَ المسلمون عن نكاحهن. وروي أن ابن عباس كان يتوقف في تفسير هذه الآية، قال ابن جبير: كان ابن عباس لا يعلمها. وروي عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إ'ليه أكباد الإبل يعني {والمحصنات مِنَ النسآء}. والإحصان: يكون بالحرية كقوله {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] يريد الحرائر من أهل الكتاب ويكون بالإسلام كقوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} [النساء: 25] على قراءة من فتح الهمزة يريد أسلمن، ويكون بالعفة كقوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4]، يريد العفائف، ويكون بالزوج. والفائدة في قوله: {مِنَ النسآء} أن المحصنات يقع على معنى: والأنفس المحصنات فيكون للرجال والنساء، فبين أنه للنساء بقوله {مِنَ النسآء} دليل ذلك أنه قال: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} فلولا أنه يراد به الأنفس المحصنات لم يحد من قذف رجلاً بالنص على ما ذكرنا.

قوله {كتاب الله عَلَيْكُمْ} نصب: كتاب (الله) عليكم: المصدر عند سيبويه، لأنه لما قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} على أنه كتب ذلك، فالمعنى كتب الله عليكم ذلك كتاباً، وقيل نصبه على الإغراء أي: الزموا كتاب الله، وهذا قول ضعيف مردود، وهو قول الكوفيين لأن عليكم هو الذي يقوم مقام الفعل في الإغراء، وهو لا ينصرف ولا يجوز تقديم المفعول عليه عند أحد، لا يجوز زيد عليك، ونصبه عند بعض الطوفيين على الحال كأنه قال: كتاب الله عليكم. ومعنى {كتاب الله عَلَيْكُمْ} قال عطاء والنخعي هو الأربع لا يزيد عليهن، وقاله السدي، وقال ابن زيد: معناه أمر الله عليكم، يريد ما حرم الله من هؤلاء وما أحل لهم، وقرأ {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم} الآية. ومن فتح الهمزة، فلقرب اسم الله تعالى من الفعل، فأسنده إليه، فتقديره كتاب الله ذلك عليكم، وأحل لكم. ومن ضم فإنه أجراه على أول الآية، لأنه جرى على ترك

تسمية الفاعل وهو قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} فأجرى التحليل على لفظ التحريم لتسابق الألفاظ ولئلا تختلف، فكأنه حرم عليكم كذا وأحل لكم كذا، ومعنى {مَّا وَرَاءَ ذلكم} ما دون الخمس {أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم}، على وجه النكاح، وقال السدي: ما دون الأربع وقال عطاء: {مَّا وَرَاءَ ذلكم} ما وراء القرابة التي قد حرمت عليكم أن تبتغوا بأموالكم: المحصنات من الحرائر الأربع والمماليك. وقال قتادة {مَّا وَرَاءَ ذلكم}؛ ما ملكت يمينكم " وقال الطبري: بين الله لنا المحرمات بالنسب والصهر، ثم أخبرنا أنه قد أحل لنا ما وراء هؤلاء المحرمات في هاتين الآيتين بأن نبتغيهما بأموالنا نكاحاً، وملك يمين لا سفاحاً، وقد أعلمنا أن ما زاد على أربع حرام، وما كان من الإماء ذوات الأزواج حرام ما لم ينتقل الملك. قوله: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} معناه: أعفَّاء غير مزانين والسفاح: الزنا، والإحصان هنا العفاف، وقال مجاهد: محصنين متناكحين.

قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}: يقول: فالشيء الذي استمتعتم به من النساء فأعطوهنّ أجورهنّ أي صدقاتهم فريضة معلومة، وقال ابن عباس: معناها إذا نكح الرجل المرأة مرة واحدة فقد وجب الصداق، فالمعنى فأي شيء استمتعتم به، وإن قلّ فآتوهنّ أجورهن أي صدقاتهنّ والاستمتاع النكاح، وقاله: الحسن ومجاهد. وقال السدي: وغير الاستمتاع هنا أن يتزوّجها إلى أجلٍ مسمّى بإذن وليّها، ويشهد شاهدين، فإذا تمّ الأجل أمر أن يدفع إليها ما شرط لها، وليس له عليها سبيل وتعتد، ولا ميراث بينهما. وسئل ابن عباس عن متعة النساء فقال: أما تقرؤون فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فقيل له لو قرأناها هكذا لكان الأمر على ذلك. فقال: فإنها كذلك. وفي قراءة أبي زيادة: إلى أجل مسمى، وكذلك ابن جبير. وقالت عائشة Bها كانت المتعة حلالاً، ثم نسخ الله ذلك بالقرآن، وروي ذلك

عن ابن عباس وهو قول ابن المسيب والقاسم وسالم وعروة. قال ابن عباس: نسخها {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وقال ابن المسيب: نسخت المتعة بآية الميراث يعني: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} [النساء: 12] لأن المتعة كانت لا ميراث بها. وروي عن عائشة Bها قالت حرم الله المتعة بقوله {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 والمعارج: 29]. وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل معلوم، وشرط (ألا) طلاق بينهما، ولا ميراث ولا عدة. [وقال أبو عبيدة: نسخت المتعة بالقرآن والسنة لأن النبي A حرم المتعة يوم الفتح وغيره.

ومن قال: إن المعنى إذا تزوجتم المرأة، فنكحتموها ولو مرة واحدة] فأعطوها صداقها، فهي عنده محكمة لا نسخ فيه، والتقدير: فما استمتعتم به من الدخول بالمرأة فلها الصداق كاملاً فأعطوها إياه، ودل على ذلك قوله {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تراضيتم بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} أي: إن وهبت لك النصف، أو ما كان فلا جناح، وإن وهبت لها النصف، فأعطيتها الكل، ولم تدخل بها فلا جناج. وقيل: المعنى: إن أدركتم عسرة بعد أن فرضتم لنسائكم أجورهن {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تراضيتم بِهِ}. وقيل المعنى: لا جناح عليكم إذا تم الأجل الذي اشترطتم في الاستمتاع أن يزدنكم في الأجل، وتزيدهن في الأجر قبل أن يستبرئن أرحامهن، وهو منسوخ. وقال السدي: إن شاء أرضاها بعد الفريضة بأجرة، ثم تقيم معه إلى الوقت الذي يتراضون أيضاً عليه، وهو منسوخ. وقيل: المعنى: لا جناح عليكم فيما وصعه نساؤكم عنكم من صدقاتهن بعد الفريضة.

25

قال ابن زيد: إن وضعت لكم من صداقها فهو سائغ فالمعنى على هذا لا إثم على الرجل أن تضع المرأة عليه مهرها، أو يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف الصداق، فيدفعه إليها كاملاً. قال الأخفش {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} تمام. وقال غيره {كتاب الله عَلَيْكُمْ} التمام، وهو أحسن لأن العامل فيه ما قبله من المعنى الذي دل عليه كتاب، وإنما يصح قول الأخفش إذا نصبت {كتاب الله} على الإغراء، وهو بعيد. (وفريضة) مصدر كأنه قال: فرض ذلك عليكم فريضة وهو التمام. قوله {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} الآية. قرأ الكسائي المحصنات في كل القرآن - بكسر الصاد، إلا قوله {والمحصنات مِنَ النسآء} قال: لأنه أراد به ذوات الأزواج من السبايا أحلهن الله بعد استبرائهن بالحيض، فالأزواج أحصنوهن، قال: وغير ذلك يكون المراد به غير التزوج، إما إحصان إسلام، أو عفة أو بلوغ، فتكون هي التي أحصنت نفسها بإسلامها أو بعفتها أو ببلوغها، ولا يحتمل عنده {والمحصنات مِنَ النسآء} إلا إحصان

التزويج، وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن المسيب وغيرهم. ومن فتح الصاد في جميع ذلك قال: إن الإسلام يحصنهن كما يحصنهن التزويج، وكذلك العفاف والبلوغ والحرية وشبهه. وحكى أصحاب أبي عمرو (أن العرب) لا تقول: هذا قاذف محصِنة، ولكن تفتح، ومن ضم " أحصن " أجراه على محصنات جعلهن مفعولات في الموضعين، فأما من فتح الهمزة، فحجته أن التفسير ورد على إضافة الإحصان إليهن، ولأن من قرأ بضم الهمزة يلزمه في الحكم ألا يوجب الحد على المملوكة إلا إذا كانت ذات زوج دون الأيم، وفي إجماع الجميع على إيجاب الحد (على) المملوكة الأيم دليل واضح على فتح الهمزة بمعنى: فإذا أحصن أي: أحصن أنفسهن بالعفاف أو بالإسلام. والاختيار عند أهل اللغة: الضم لأنه قد تقدم ذكر إسلامهن في قوله {أَن يَنكِحَ المحصنات} فدل على أن الثاني غير الإسلام فيكون أحصن بمعنى تزوجن، فالمعنى فإذا أحصنهن الأزواج، ويكون حدها إن زنت بالكتاب، وحَدَّ الأيم بالسنة،

ومعنى الآية: أن الطَوْل: السعة في المال عند أكثر أهل التفسير وقال ابن زيد: الطَّول أن يجد ما ينكح به حرة. وقال بعضهم: الطول الهوى قاله ربيعة، إذا هوى أمَتَه، وخشي على نفسه، وهو يقدر على نكاح الحرة فأرى أن ينكح الأمة. وقال جابر: لا يتزوج الحر الأمة إلا أن يخشى على نفسه العنت، فليتزوجها. وقال عطاء: لا يفعل ذو الطول إلا أن يخشى على نفسه البغي. وأكثر الناس على أن ذا الطول لا يتزوج الأمة وإن خشي على نفسه لأن وجود الطول إلى الحرة فيه قضاء شهوة، ولذة وليس هو كالمضطر إلى الميتة، والله D قد حرم نكاح الأمة إلا لمن (لم) يجد طولاً إلى الحرة، فلا يخرج عن التحريم فيخلص

لقضاء لذة، فمعناها: وإن لم يقدر أن ينكح الحرائر المؤمنات لقلة ما بيده، فلينكح الأمة المؤمنة إذا خاف العنت، فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها. قال الشافعي وغيره: لا ينكح الأمة حتى يعدم ما يتزوج به الحرة ويخاف الزنا، فإن لم يجتمع الأمران عليه فلا يتزوج الأمة. وإذا نكح الأمة على الحرة فإن مالكاً قال: لا يفعل فإن فعل جاز النكاح، وكانت الحرة مخيرة إن شاءت أقامت وإن شاءت اختارت نفسها. وقال الشافعي: النكاح باطل. وقال الزهري: يفرق بينه وبين الأمة، ويعاقب. وقال عطاء: لا ينكح المة على الحرة إلا بأمرها، فإن اجتمعا كان للحرة ثلثا النفقة. وكان مجاهد يقول: مما وسع الله به على هذه الأُمَة نكاح الأَمَة، واليهودية والنصرانية وإن كان هو شراً، يعني إذا خاف العنت على نفسه في الأمَّة لهوى نزل به. وقال مسروق الشعبي: نكاح الأمة لا يحل إلا لمضطر كالميتة، فإذا تزوج حرة على أمة حرمت عليه الأمة كالرجل يجد طعاماً ومعه ميتة. والمحصنات هنا العفائف (وقيل الحرائر) وهو الأشبه لذكر المماليك

بعدهن. والفتيات جمع فتاة وهن الشواب. وقوله {مِّن فتياتكم المؤمنات} يدل على أن تحريم نكاح غلإماء المشركات واجب وهو محرم عند مالك وجماعة من العلماء. قال أهل العراق: ذلك على الإرشاد، وليس بمحرم، وإنما هو ندب. فأما نكاح الحرة على الأمة فهو جائز عند ابن المسيب وعطاء والشافعي، وأبي ثور وأصحاب الرأي. وروي عن علي Bهـ جوازه، وقال: يفرض للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك والزهري: للحرة الخيار إذا علمت بذلك إن شاءت أقامت، وإن شاءت فارقته. وقال ابن عباس: نكاح الحرة طلاق الأمة، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال النخعي: يفارق الأمة إذا تزوج الحرة أن يكون له من الأمة ولد، فلا يفارقها،

ويكون للحرة يومان وللأمة يوم. وقال مالك: إذا خشي على نفسه العنت يتزوج من الإماء حتى يبلغ أربعاً، وهو قوله أصحاب الرأي. وروي عن الزهري أنه قال: يتزوج أربعاً، ولم يذكر عنتاً. وروي عن ابن عباس أنه لا يتزوج إلا واحدة، وبه قال قتادة والشافعي. وقال أحمد: يتزوج من الإماء اثنتين لا غير. وقوله: {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} أي: أنتم بنو آدم. وقيل: معناه أنتم مؤمنون كلكم إخوة. وقيل: نزل ذلك لما كانت العرب تعير ابن الأمة وتسميه هجيناً. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات}

ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات " فلينكح بعضكم من بعض " هذا فتاة هذا (وهذا) فتاة هذا وعلى هذا القول مرفوعون بفعلهم في التأويل لأن المعنى {مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} فلينكح مما ملكت فرد بعضكم على ذلك. وقوله {والله أَعْلَمُ بإيمانكم}، أي: يعلم من آمن منكم وصدق بما جاء من عند الله D ( ورسوله) A. وقوله: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي تزوجوهن بإذن مواليهن، ورضاهن {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: أعطوهن مهورهن بالمعروف على ما تراضيتم به مما أحل الله لكم أن تجعلوه مهوراً {محصنات غَيْرَ مسافحات} أي: عفائف غير زناة. {وَلاَ متخذات أَخْدَانٍ} وليس ممن لهن أصدقاء على السفاح لأنهن في الجاهلية كان لهن الخليل، والصديق يحبسن أنفسهن للفجور عليه سراً، وكانوا في الجاهلية

يحرمون الزنا ما ظهر منه، ويسمحون فيما أسر، يقولون: ما ظهر منه لؤم، وما خفي منه فلا بأس به، فأنزل الله {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 152]. وقال السدي وغيره: ولا مسافحات معلنات بالزنا. قوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} أي: صرن ممنوعات الفروج بالأزواج وهذا المعنى يدل على الضم في الهمزة. وقيل: أحصن: أسلمن قاله السدي وهذا المعى يدل على القراءة بفتح الهمزة. وقال سالم والقاسم: إحصانها عفافها، وإسلامها. وأكثر الناس على أن المعنى فإذا تزوجن. {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} معنى ذلك: إذا أتت الأمة بزنى بعدما أحصنت بالزوج فعليها {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائر الأبكار. وقيل: ذوات الإسلام التي أحصنهن دينهن غير محصنات بأزواج. وقوله

{مِنَ العذاب} أي: من الحد إذا زنيت. وسميت البكر محصنة لأنه يكون بها فيما يستقبل كما يقال: ضحته قبل أن يضحي بها، وقيل: المحصنات هنا المتزوجات، فعلى الإماء المتزوجات نصف حد الحرة وهو خمسون، والرجم لا يتبعض لأن المرجوم قد يموت بحجر واحد، وربما لم يمت بألف حجر، فنصف الرجم متعذر حده، فلا بد من الرجوع إلى نصف الجلد. وق قال النبي A: " إذا زنت الأمة فاجلدوها " وإحصان الأمة إسلامها، وقد يجوز أن يكون معنى قوله {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} يعني من الأبكار لأن إحصان الحرة قد يكون العفاف، وقد يكون الإسلام، وقد يكون التزويج، ولا يحصن الأمة لا تزويج ولا غيره إلا: الإسلام. و {العذاب} الحد غير الرجم، قال ابن عباس: على الأمة إذا زنت وهي مع حر نصف حد الحرة، وهو خمسون والمعنى فلازم لهن نصف حد الحرة. قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} معناه ذلك الذي أبيح من نكاح الأمة لمن خشي العنت، وهو الزنا. وقيل: هو الإثم. وقيل: العقوبة.

26

وقيل: الهلاك. وأصل العنت في اللغة المشقة يقال: أكمة عنوت إذا كانت شاقة، فهذا يدل على جواز نكاح الإماء إنما يكون باجتماع الشرطين المذكورين، وهما: عدم الطول، وخوف العنت وروي عن علي Bهـ أنه قال: لا ينبغي للحر أن يتزوج أمة وهو يجد الطول إلى الحرة، فإن فعل فرق بينهما وعزر. قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: عن نكاح الإماء خير لكم {والله غَفُورٌ} أي: غفور لكم عن نكاحهن على ما نصه لكم، وأذن لكم فيه قال ذلك السدي وابن عباس وطاوس وغيرهم. قوله: {رَّحِيمٌ} أي: رحيم بكم إذ أذن لكم في نكاحهن عند الاقتدار وعدم الطول للحرة. قوله {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية. المعنى يريد الله أن يبين لكم حلاله من حرامه، ويبين لكم طرق الإيمان من قبلكم لتتبعوه، {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: يرجع بكم إلى طاعته {والله عَلِيمٌ} عليم بمصلحة عباده حكيم في تدبيره فيهم. والمعنى عند النحويين يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم ومثله

27

{وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 13] أي: أمرت بهذا لأعدل بينكم، وفي هذه الآية عند أهل النظر دليل على أن ما حرم علينا قد حرم على من قبلنا لقوله {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ}، وقيل: المعنى سنن من قبلكم من المؤمنين خاصة. قوله {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} الآية. والمعنى والله يريد أن يرجع بكم إلى طاعته ليغفر لكم ما سلف لكم من ذنوبكم في جاهليتكم من نكاحكم حلائل آبائكم وأبنائكم، وغير ذلك مما ركبتموه {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ} أي: ترجعوا عن الحق وهو الزنا. قال مجاهد: يريدون أن تزنوا مثلهم. ومعنى الشهوات: شهوات الدنيا ولذاتها. وقيل: هم اليهود والنصارى قاله السدي، وقيل: هم اليهود خاصة يريدون أن تنكحوا الأخوات من الأب مثلهم لأنهم يحلون ذلك.

28

وقال ابن زيد: هم طلاب الباطل، وأهل الزنا. قوله {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} الآية. أي: يريد أن يوسع عليكم في نكاح الفتيات المؤمنات عند عدم الطول، وخوف العنت: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} أي لا يستطيع الصبر عن شهوة النساء. وقرأ ابن عباس: وخلَق الإنسانَ بالفتح أي: وخلق الله الإنسان شعيفاً، يعني ضعيفاً في أمر النساء لا يقدر على الصبر عن الجماع. قال أبو محمد Bهـ: وتخفيف الله (تعالى) عن عباده أعظم من أن يحصى، لم يكلفهم ما ليس في وسعهم ولا ما يطيقون، وضاعف حسناتهم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة مثل " وإذا همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه شيء وتكتب له حسنة، وإن عملها كتبت سيئة واحدة فإن استغفر منها محيت عنه " وفضل الله

29

ورأفته بخلقه أكثر من أن يحصى. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أموالكم بَيْنَكُمْ} الآية. {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} الأكثر في كلام العرب أن تستعمل إلا أن يكون في الاستثناء لغير ضمير فيها على معنى إلا يحدث أو يقع وإن في موضع نصب استثناء ليس من الأول واختار أبو عبيدة النصب على إضمار الأموال في تكون، وغير مختار عند أهل اللغة لأن أكثر كلام العرب في هذا لا يضمرون فيها شيئاً. ومعنى الآية إنهم نهوا عن أكل الأموال بالربا، والقمار والظلم والبخس {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} فليربح ما شاء فيها قال ذلك السدي، وغيره وهو اختيار الطبري فهي محكمة. وقيل: نزلت في ألا يأكل أحد متاع أحد إلا بشراء، أو بقيود، ثم نسخ ذلك بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61] الآية.

قال ذلك الحسن وعكرمة وغيرهما. قال الطبري: في هذه الآية دليل على فساد قوله من ينكر طلب الأقوات والتجارات، والصناعات من المتصوفة الجهلة لأنه حرم أكل الأموال بالباطل، وأباح أكلها بالتجارات عن تراض من البائع والمشتري، ومعنى {عَن تَرَاضٍ} هو الخيار فيما تبايعا فيه ما لم يفترقا من مجلسهما الذي تبايعا فيه، وهو قول الشافعي. وقيل: التراضي هو الرضى بعقد البيع والشراء، فإذا تراضيا فقد تم البيع افترقا أو لم يفترقا، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وقال القتبي {عَن تَرَاضٍ} [عن] موافقة منكم لما أحله الله تعالى وتورع عما

30

حرمه من القمار والربا والبيوع الفاسدة. وقيل: {عَن تَرَاضٍ} عن رضى من البائع والمشتري. قوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهو معنى قول النبي A " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". وقيل معناه: لا تتجروا في بلاد العدو فتغدروا بأنفسكم. وقرأ الحسن " ولا تقتّلوا " بالتشديد على التكثير. {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، أي: رحمكم الله بأن حرم دماءكم، بعضكم على بعض. قوله {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً} الآية. المعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن اعتداء وظلماً {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}. وقيل: المعنى ومن يفعل ما قد حرم الله عليه مما ذكر في أول السورة إلى {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}.

31

وقيل: المعنى من يأكل مال أخيه بالباطل {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً}. والعدوان المجاوزة للشيء {نُصْلِيهِ} نورده ناراً فيصلاها. قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية. الكبائر هي: من أول السورة إلى ثلاثين آية منها في قول جماعة من العلماء. وقال علي Bهـ على المنبر في الكوفة: والكبائر سبع فسئل عنها، فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، يريد أن يرجع الرجل أعرابياً بعدما هاجر إلى الله (تعالى) ورسوله. وقيل: الكبائر منصوصة في كتاب الله D على ما روي عن علي Bهـ وهي سبع قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} [الحج: 31] وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] وقوله: {الذين يَأْكُلُونَ الرباوا لاَ يَقُومُونَ} [البقرة: 275].

وقوله: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات} [النور: 23]. وقوله: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} قال فيمن ولي {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16] وقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً} [النساء: 92]. وقوله: {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25]. وقال عطاء: الكبائر سبع وهي: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنات، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وروي أن ابن عمر قال: تسع زاد على ما قال عطاء: السحر، والإلحاد في البيت الحرام. وقال ابن مسعود: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، قال الله D: { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} [الحج: 31]. وقال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} [الحجر: 56] وقال: {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] وقال {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].

وقال ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو (كبيرة)، وروي عنه أنه قيل له: أسبع هي، قال: هي إلى السبعين أقرب. وأنه قال هي إلى سبع مائة أقرب. وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقاله عمر Bهـ وروي عن ابن عباس أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو عذاب وهذا قوله جامع. وقال الحسن: الكبائر كل ذنب توعد الله عليه بالنار في كتابه: كالشرك، وهو أكبر الكبائر، وقتل النفس، وأكل الربا، والزنا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والإدمان على الخمخر وشبهه. وقد يكون الذنب صغيراً فإذا أصر عليه صار كبيراً بالإصرار عليه، وترك التوبة، والإقلاع عنه، فالإصرار على الذنب ذنب عظيم. (وقيل: الكبائر كل ما لا يقبل معه عمل، نحو الشرك بالله سبحانه، وقيل الأولاد، والسحر، والكفر برسول الله عليه السلام وبآبائه، وشبهه). وقال زيد بن أسلم: كل ذنب يصلح معه عمل فليس بكبيرة والله يغفر

السيئات والحسنات. وقد قال بكر القاضي: من أعظم الكبائر سب السلف وتنقصهم، وشهادة الزور عند الحكام، وعدول الحكام على الحق، واتباعهم للهوى. ومن الكبائر: اللواط، والإصرار على الصغائر من الكبائر. " والندم توبة " والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة والجماعات. وقال أبو بكر Bهـ: إن الله يغفر الكبيرة فلا تيأسوا، ويعذب على الصغير فلا تغتروا. وقال عمر: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. و " سئل النبي A عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قوله الزور (أو) قال وشهادة الزور " وروي أنه قال: " اليمين الغموس ". وروي عنه أنه قال: " من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب

الكبائر، فله الجنة، قيل: وما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف ". وقال ابن مسعود " سألت النبي A عن الكبائر؟ فقال: " أن تدعو لله نداً وقد خلقك، (وأن تقتل ولدك) من أجل أن يأكل معك، أو تزني بحليلة جارك، وقرأ علينا رسول الله A { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] ". وروي عنه A أنه قال: " هو الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف وقذف المحصنة، وقل الزور، والغلول، والسحر وأكل الربا واليمين الغموس ". ومعنى قوله {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أنه تعالى وعد أن يكفر الصغائر باجتناب الكبائر وقال النبي عليه السلام: " اجتنبوا الكبائر وسددوا وابشروا ". وقال ابن مسعود: في خمس آيات من سورة النساء لهن أحب إلي من الدنيا قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}

وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40] وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 - 116] وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] وقوله: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [النساء: 151] الآية. قال (ابن عباس): ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة لما طلعت عليه الشمس وغربت أولها {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 26]. الآية، والثانية {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] الآية، والثالثة {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] الآية ثم ذكر الخمس التي ذكرها ابن مسعود. وقيل: إن السيئات تكفرها الصلوات الخمس ما اجتنبت الكبائر. ومن فتح الميم من (مَدخلاً) احتمل أن يكون مصدر دخل، وأن يكون

32

اسماً للمكان من أدخل، والمدخل الكريم هو المكان الحسن في الجنة. قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} الآية. نهى المؤمنين أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض وأمرهم أن يسألوه من فضله، وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله: لا نعطى الميراث؟ ولا نغزو في سبيل الله تعالى فنقتل؟ فأنزل الله D { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} الآية. قال ابن عباس: هو الرجل يقول: وددت لو أن لي مال فلان، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يسألوه من فضله لأن التمني يورث الحسد والبغي. وقال السدي: نزلت في الرجال والنساء. وقال الرجال: لو كان لنا من الأجر مثلا ما للنساء كما لنا من الميراث مثلا ما لهن، وقال النساء: لو كان لنا أجر مثل الرجال الشهداء، فلو كتب علينا القتال لقاتلنا، فقال الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} وقال {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ}. وقال ابن جبير: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} العبادة. وقيل: اسألوه التوفيق، والعمل بما يرضيه.

{إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}. أي: لم يزل عالماً بما يصلح عباده، فلا يحسد بعضهم بعضاً. قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} المعنى: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الأبواب على الطاعة، والعقاب على المعصية وللنساء مثل (ذلك). وقال قتادة: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء شيئاً، فلما أنزل الله ميراثهم، قال النساء: لو جعل أنصباءنا (في الميراث كالرجال، وقال الرجال: إنَّا لنرجو أن نفضل النساء في الحسنات في الآخرة كما فُضِّلنا) في الدنيا عليهن بالميراث فأنزل الله تعالى {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} يقول: المرأة تجزى بحسنتها {عَشْرُ أَمْثَالِهَا}. وقيل: إنه لما نزل {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث فأنزل الله D { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا} أي: من الذنوب وللنساء مثل ذلك {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ}.

33

وقيل: المعنى: للجميع نصيب من موتاهم. وقيل: المعنى: للرجال نصيب من موتاهم. وقيل: المعنى: للرجال نصيب من الأجر وهو الجهاد، وخصوا به وبأجره، وللنساء نصيب من الأجر خصصن به، وهو حفظها لزوجها في السر والعلانية، ونظرها لزوجها، وطاعتها له وإصلاحها عليه كل لها فيه أجر خصت به. قوله {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا موالي مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} الآية. الموالي: الورثة، يعني العصبة، كذلك قال ابن جبير عن ابن عباس، وقال مجاهد وقتادة: فالمعنى ولكلكم جعلنا عصبة يرثون ما تركتم، ولفظ الآية عام يراد به الخصوص إذ ليس [كل إنسان له عصبة معلومة ترثه، وكل إنسان له عصبة غير معلومة. وقد قال مالك: كل] من هلك من العرب فلا يخلوا أن يكون له وارث بهذه الآية وإن لم تعرف عينه. قوله: {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} كان الرجل يحالف الرجل وليس بينه

وبينه نسب يرث أحدهما الآخر، فأمروا أن يعطوهم نصيبهم. ثم نسخ الله ذلك بالميراث بقوله {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75، والأحزاب: 6] وقال ابن عباس: " كانت الأنصار ترث المهاجرين للأخوة التي آخى النبي A بينهم حين نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا موالي مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} فنسخت ما كانوا عليه. قوله {والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} يعني من النصر والنصيحة والرفد ويوصى لهم. وقال ابن عباس وغيره: كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات قبل صاحبه ورثه، فأنزل الله D { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6] ثم قال: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ} [الأحزاب: 6] أي: إلا أن ترضوا للذين عاقدتم وصية، فهي لهم جائزة من الثلث. والمعاقدة التي كانت بينهم هو أن يقول: دمي ودمك، وتطلب بي وأطلب بك، وتورثني وأرث بك، فجعل في أول الإسلام السدس من المال، ويقسمُ الباقي في الورثة ثم نسخ ذلك في الأنفال.

34

وقيل: نزلت في الذين كانوا يتبنون في الجاهلية، فأمروا أن يوصوا لهم ونسخ فرضهم. وقال ابن إسحاق: كان الرجل الذليل يأتي العزيز فيعاقده باليمين ويقول له: أنا ابنك، ترثني وأرثك، وحرمتي وحرمتك، ودمي ودمك، وثأري ثأرك، فأمر الله D بالوفاء لهم قبل تسمية الميراث، ثم نسخ بالميراث في الأنفال. قوله: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} الآية. قال ابن عباس: الرجل أمين على المرأة تطيعه فيما أمرها به، فهو قائم عليها يقوم بنفقتها، ومؤنتها ويسوق مهرها، فهو فضله (الذي فضله) الله D عليها. وقال السدي: معنى قوله: " قوامون يأخذون على أيديهن ويؤدبوهن. وهذه الآية نزلت في رجل من الأنصار، لطم امرأته فخوصم، إلى النبي عليه السلام فقضى لها بالقصاص فأنزل الله D { الرجال قوامون عَلَى النسآء} الآية: فلم يقتص منه، قاله الحسن وقتادة.

وقيل: إن قوله {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] نزل في أمر الرجال حين جعل عليه القصاص، وعلى ذلك أهل التفسير. كان الزهري يقول: ليس بين الرجل، وامرأته قصاص فيما دون النفس. وروي أن أم سلمة Bها زوج النبي A قالت: ما بال النساء لهن نصيب وللرجال نصيبان؟ ما بال شهادة امرأتين مثل شهادة رجل؟ وذكرت أشياء في فضل الرجال، فأنزل الله D { الرجال قوامون عَلَى النسآء}. وقال معاذ بن جبل Bهـ: " قدمتُ الشام، فرأيت النصارى يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أَنَّا أحق أن نفعل هذا بالنبي فلما قدمت المدينة سجدت له، فقال ما هذا فأخبر (ته) بما رأيت فقال: " لو كنت آمراً أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي امرأة حق الله عليها حتى تؤدي حق زوجها " ". ومعنى: {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الآية.

أي: بفضل الرجل على النساء، كانوا قوامين عليهن بما فضل، هو جودة العقل والتمييز والإنفاق، وسَوْق المهر والجهاد وجواز الشهادة وغير ذلك، كله فضل به الرجل على المرأة. قوله: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أموالهم}: " فضل الرجال على النساء بما ذكرنا، {وَبِمَآ} ساققوا من أموالهم إلى النساء من مهور ونفقة {فالصالحات} هن المستقيمات لأزواجهن " {قانتات} أي: طائعات لله ولأزواجهن {حافظات لِّلْغَيْبِ} أي يحفظن أنفسهن عند غيبة أزواجهن [في فروجهن وأموال أزواجهن. وقيل: المعنى: طائعات لأزواجهن] ما غاب عنهم من سرهن وشأنهن. وقال النبي A: " " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك. وإذا أمرتها أطاهتك وإذا غبت عنها حفظتك، في مالك ونفسها " ثم قرأ رسول الله A { فالصالحات قانتات} الآية ". ومعنى {بِمَا حَفِظَ الله} أي: يحفظ الله إياهن: أي صيرهن كذلك قال سفيان:

لحفظ الله إياها إذ جعلها كذلك. ومن نصب " الله " وهي قراءة جعفر، فالمعنى: فيهن يحفظهن الله في طاعته، وأداء حقه فيما لزمهن به في حفظ غيبة أزواجهن، كقولك للرجل: ما حفظت الله في كذا وكذا والمعنى: بمراقبتهن في حفظ أزواجهن. وفي قراءة ابن مسعود: بما حفظ الله فأحسنوا إليهن وأجملوا. والرجل له الحجر على المرأة بنفسها، ومالها إذا تجاوزت الثلث ولا تفعل شيئاً إلا بإذنه إلا في الفرائض التي فرض الله عليها، فلا طاعة له غليها في ذلك من الصلوات وإخراج الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، هذا مذهب مالك، وله أن

يؤدبها تأديباً غير مبرح. قوله: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} الآية. " واللاتي " في موضع رفع بالابتداء، وتقديره عند سيبويه: وفيما يتلى عليكم الألاتي، والمحذوف: الخبر، وعند غيره: الخبر: {فَعِظُوهُنَّ}، ويجوز أن تكون " اللاتي " في موضع نصب على قول من قرأ: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] بالنصب. و {تَخَافُونَ} عند الفراء وأبو عبيدة بمعنى توقنون وتعلمون، (وهو) على بابه عند غيرهما. والنشوز هو: امتناع المرأة من فراش زوجها، والخلاف له فيما يلزمها من طاعته. وأصل النشوز الارتفاع والانزعاج، فكأنهن ارتفعن عن أداء حق الأزواج، وطاعتهم يقال: نشزت ونشصت. وقيل: النشوز البعض قاله السدي. وقال ابن زيد: النشوز المعصية والخلاف. وقال عطاء: النشوز أن تحب فراقه.

وقال ابن عباس: هو أن تستخف بحقه، ولا تطيع أمره " فعظوهن " أي: خوفوهن، وذكروهن الله. وقال ابن عباس: فعظوهن بكتاب الله وبطاعته، وهو قول الجماعة. {واهجروهن فِي المضاجع} إذا لم يرجعن مع الوعظ فاهجروهن بترك جماعهن ومضاجعتهن. وقال السدي: وغيره: " يرقد عندها ويوليها ظهره، ويطؤها ولا يكلمها ". روي عن ابن عباس أنه قال: يهجرها في المضجع من غير أن يذكر نكاحاً، وذلك عليها شديد. (وقيل: المعنى [اهجروهن في الكلام حتى يرجعن إلى مضاجعتكم كأنه قال]: اهجروهن من أجل المضاجع. وقال ابن عباس الهجران إنما هو في أمر المضجع، وأنها لو تركت لم تضاجع، وقال ابن جبير اهجروهن يأتين مضاجعكم). وقال عكرمة وغيره: إنما الهجران بالمنطق، ويلزم من قال هذا أن يقطع الألف لأنه إنما يقال في هذا المعنى الإهجار، يقال: أهجر فلان في منطقه إذا تكلم بالقبيح. وروى أبو هريرة Bهـ أن النبي A قال: " إذا باتت المرأة مهاجرة لزوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع ".

35

وقوله {واضربوهن} أي: إن لم يرجعن بالهجران في المضاجع، فيضربن ضرباً غير مبرح، كذلك قال المفسرون: وقال النبي A في خطبة له " ضرباً غير مبرح " وعنه " غير مؤثر ". واختار الطبري في الآية أن يكون المعنى: واضربوهن من أجل المضاجع. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} إلى ما يجب عليهن {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي: فلا تلتمسوا عليهن طريقاً في الظلم، وهو التعالي عليهن {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً} المعنى لا تبغوا عليهن العلل فتٌعلوا أيديكم عليهن، فإن الله ذو علم فوقكم وفوق كل شيء، فأيديكم وإن كانت عالية، فليس من أجلها علوا تبغوا عليهن، وتطلبوا العلل فإن الله أعلى يداً وأكبر من كل شيء. وقيل: المعنى: لا تبغوا عليهن سبيلاً لا تكلفوهن الحب لكم إنما لكم عليهن المساعدة في الجماع أما القلب فليس بيدها منه شيء. قوله {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية. خفتم عند أبي عبيدة بمعنى أيقنتم، ورد ذلك الزجاج وقال: لو أيقنا لم نحتج إلى الحكمين، وخفتم على بابه. والمعنى: وإن خفتم أيها الناس مشاقة أحد الزوجين لصاحبه، وهو إتيان كل واحد منهما ما يشق على الآخر فالمرأة تقصر عن أداء حقه،

والزوج أن يمسك بغير معروف {فابعثوا حَكَماً} هذا مخاطبة للسلطان الذي يرفع إليه أمرهما قال: وإذا نشزت المرأة يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها فيقول الحكم الذي من أهلها: يفعل بها كذا وكذا، ويشتكي بما تشتكي منه، ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا، فيشتكي أيضاً بما يشتكي الزوج منه، فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ عليه. وقال السدي: " المرأة تبعث حكماً من أهلها، والرجل نفسه يبعث حكماً من أهله بتوكيل كل واحد منهما، لكنها بالنظر لهما، فيعملان ما وكل به، وروي ذلك عن علي Bهـ. وروي عنه أنه قال لحكمين وَجَّه بهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما. وقال ابن عباس: (بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا

جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما) فإن عثمان قد بعثهما. قال مالك: أحسن ما سمعت من أهل العلم أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل والمرأة في الفرقة والاجتماع. وقال قتادة: يبعث السلطان الحكمين ليعرفا الظالم من المظلوم، فيحملاهما على الواجب فلا يفرقان بينهما. وقال الشافعي: لا يفرقان إلا بأمر الزوج. وقال جماعة: حكم الحكمين ماذ في التفرقة وغيره، وإنما يأتي الحكمان فيخلو حَكَم الرجل به ويسأله عما يشتكي. ويخلو حَكَم المرأة بها، ويسألها عما تشتكي؟ ثم يجتمعان، فيجتهدان، فإن رأيا التفريق فرقا، وإن رأيا الترك تركا، وأصلحا. وقيل: إنهما ينظران الظالم منهما، فإن كانت المرأة وعظها، وجبرها على طاعة زوجها، وإن كان الرجل وعظاه وجبراه أن يتقي الله تعالى فيها، فيمسك بمعروف أو يسرح بإحسان، والحكم هنا الناظر بالعدل، قاله الضحاك وغيره.

36

وقيل: هما القاضيان بينهما يقضيان بما فوض إليهما الزوجان. وقوله: {إِن يُرِيدَآ} قيل: الضمير للحكمين إن يريدا أن يصلحا بين الرجل والمرأة {يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} أي " بين الرجل والمرأة، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد. وقيل الضمير للزوجين لأنه لا يقال حكم إلا لمن يريد الإصلاح فغير جائز أن يقال: إن يرد الحكمان إصلاحاً وهما لا يسميان بهذا الاسم إلا وهما يريدان الإصلاح {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بما يريد الزوجان أو الحكمان من إصلاح خبيراً بذلك. قوله تعالى: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} الآية. قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} أي: وأحسنوا بهم إحساناً كقولك ضرباً زيداً، بمعنى اضرب زيداً، وأجاز الفراء رفع إحساناً بالابتداء، والمخفوض الخبر كأنه قال: وعليكم بالوالدين إحسان. ومعنى الآية: أن الله تعالى أمر عباده بالتذلل له والطاعة ولا

يشركوا به، وأمرهم بالإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين وإلى الجار ذي القربى، وهو ذو القرابة، والرحم منك، قاله ابن عباس وغيره. وقيل: هو الذي جمع الجوار والقرابة فله حقان، قاله الضحاك وقتادة وابن زيد. وقيل: هو الذي تقرب منك بالإسلام والجوار، لا بالرحم. {والجار الجنب} هو الذي يبعد منك لا قرابة بينك وبينه، [قاله ابن عباس، وقال قتادة ومجاهد: هو جارك الذي ليس بينك وبينه] قرابة فله حق الجوار. وقال السدي: هو الغريب يكون بين القوم، وقال: الجار الجنب: الزوجة، ذكره ابن وهب عن بعض رجاله. وقيل: هو اليهودي والنصراني. {الجنب} البعد، ومنه اجتنب فلان فلاناً إذا بعد منه، ومنه قيل للجنب: جنب لبعده من الطهر، والصلاة حتى يغتسل، ومن قيل: رجل أجنبي أي بعيد غريب، فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة أي: البعيد منها.

وسئل أعرابي عن الجار الجنب فقال: هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عليه عينك. وقال القتبي: الجيران على أربعة أقسام أحدهم: من ساكنك في الدار ولهذا سمت العرب الزوجة جارة، وقال الأعشى لامرأته: أي جارتنا بيني فإنك طالقة كذاك أمور الناس غاد وطارقة. والثاني: الملاصق منزلك، والثالث: الذي معك في المحلة، وإن لم يلاصقك وعلى هؤلاء الثلاثة وقعت الوصية من الله D والرابع: هو الذي جمعك وإياه بلد واحد يقول الله تعالى في المنافقين: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] يعني المدينة. وكان الأوزاعي يقول: الجوار أربعون دار من كل ناحية. وقيل من سمع الإقامة فهو جار. قال علي Bهـ: من سمع النداء فهو جار المسجد. وروي عن النبي A أنه قال: " الجيران ثلاثة: جار (له) عليك حق وهو

(غير) المسلم، له عليك حق الجوار، وجار له عليك حقان هو المسلم، له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له عليك ثلاثة حقوق، وهو المسلم ذو القرابة له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة ". قوله: {والصاحب بالجنب} الآية. قال ابن عباس وغيره: هو رفيق الرجل في سفره، وكذلك قال قتادة ومجاهد وعكرمة. وعن ابن عباس: هو الرجل الصالح. وكذلك روي عن علي Bهـ، والحسن بن علي: أنه امرأة الرجل. وعن ابن عباس مثله، وهو قول النخعي وابن أبي ليلى. وقال ابن جريج وابن زيد: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك ورفقك. {وابن السبيل} المسافر يجتاز بك ماراً، قاله مجاهد وقال الضحاك: هو الضعيف. والسبيل: الطريق، وابنه صاحبه الماشي فيه فله حق على من يمر به إذا كان مستقره في غير معصية، وأضيف إلى الطريق لأنه إليها يأوي وفيها يبيت.

37

قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} يعني حض الله تعالى [خلقه] بجميع ما ذكر أن يحسنوا إليهم، قوله: {مُخْتَالاً} أي: ذو خيلاء وهو المفتعل من خال الرجل يخول: " والخال ثوب من. . . . . . . . . . . " والفخور المفتخر على عباد الله D بما أنعم الله تعالى عليه من رزقه، وهو مع ذلك كفور لربه D لا يشكره، فهو مستكبر على ربه سبحانه، مستطيل مفتخر على عباد الله جلت عظمته، وقال مجاهد المختال: المتكبر. قوله: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} الآية. {الذين} " بدل مِن " مَن وقيل: هم في موضع رفع بالابتداء، والخبر {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] أي لا يظلم. وقال الأخفش: الذين في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف دل عليه ما بعده، وتقديره الذين يبخلون قرناء الشيطان ودل

على هذا قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} [النساء: 38] وقد أغفل النحاس في الإعراب هذا القول فلم يذكره وهو في كتاب الأخفش. وقيل: الذين في موضع (رفع) بدل من الضمير في فخور، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني. والبخل لغتان، وفيه [لغتان] غير هاتين، ويقال: البُخُل والبَخْل، ومعنى الآية: إن الله لا يحب المختال الفخور الذي يبخل بماله ويأمر الناس بالبخل. وقد روي أن البخل هنا: كتمان أمر محمد عليه السلام، وعنى به اليهود والنصارى وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل.

ومعنى {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} هم اليهود كتموا و {مَآ آتَاهُمُ الله} من أمر محمد A وما عندهم من علمه. وقال ابن زيد: هم اليهود بخلوا بما آتاهم الله من الرزق، وكتموا ما آتاهم من العلم في أمر النبي A وغيره. وقال ابن عباس: كان الرجل من أشراف يهود يأتون رجالاً من الأنصار، ويخالطوهم، ويستنصحون لهم، لا تنفقوا أموالكم فإنا نخاف عليكم الفقر في ذهابها، فأنزل الله D { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي: يكتمون نبوة محمد A وأمره وذلك كله في التوراة. وروي أن فيها: خاتم النبيين، وسيد العاملين، وأمته الحمادون، ويشدون أوساطهم، ويفترسون جبالهم، تسيل دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم. قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} أي للجاحدين نبوة محمد A { عَذَاباً مُّهِيناً} أي مذلاً.

38

قوله: {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية. {والذين} في موضع جر عطف على الكافرين، ويجوز أن يعطف على {الذين يَبْخَلُونَ} و {رِئَآءَ الناس} مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} حال كأنه: مرائين غير مؤمنين. ويجوز أن يكون مؤمنون مرفوعاً على القطع أي: وهم لا يؤمنون. ومعنى الآية: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} {عَذَاباً مُّهِيناً} هذا من صفة المنافقين. وقيل: هو صفة اليهود أيضاً، وهو بصفة المنافقين أليق وأحسن، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، واليهود يؤمنون بالبعث، وقد وصفهم الله تعالى أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر فهو إلى المنافقين أقرب. قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً} أي: خليلاً يعمل بطاعته، ويتبع أمره، ويترك أمر الله تعالى، فبئس الخليل خليله. قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ} المعنى: أي الشيئين على الذين يبخلون إذا أنفقوا

40

رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لو آمنوا وصدقوا وأنفقوا مما رزقهم الله لوجه الله، ولم يبخلوا مما رزقهم الله {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} أي هو ذو علم بما يعملون لم يزل كذلك ولا يزال. قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية. قوله: {يضاعفها} يدل على أضعاف كثيرة إذ لو أراد مرة لقال: يضاعفها، ومعنى الآية: إن الله تعالى لا يبخس واحداً فعل خيراً مثقال ذرة أي: قدر وزن الذرة فما فوق ذلك، والذرة في قول ابن عباس: رأس النملة الحمراء. وقال النبي A: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيعظم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة " وقال A: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان "، وقال الخدري: حين حدث بهذا الحديث عن النبي عليه السلام فإن شككتم (فَاقْرَءُوا) {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}.

وأتى رجل إلى أبي هريرة Bهـ فقال له: بلغني أنك تقول الحسنة تضاعف ألف ألف ضعف، وقال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكني قلت تضاعف الحسنة ألفي ألف ضعف. والذرة هنا عند أهل العلم النملة الصغيرة وقال يزيد بن هارون: زعموا أنه لا وزن لها. وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند الله تعالى: ألا من كان يطلب مظلمة فليجيء إلى حقه فيأخذه " قال فيفرح والله المرء أن له الحق على ولده وولده أو زوجته وأخته فيأخذه منه، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب الله {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101]. فيقال له: إيت هؤلاء حقوقاً؟ فيقول: يا رب من أين يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله D لملائكته: انظروا [في] أعمله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة، قالت الملائكة: يا ربنا - وهو أعلم بذلك منها - أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة، فيقول الله D لملائكته: ضعفوها لعبدي وأدخلوه برحمتي الجنة " ومصداق ذلك في كتابه {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ

41

حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} أي: من عنده {أَجْراً عَظِيماً} أي: الجنة يعطيها تفضلاً منه لا إله إلا هو، وإن فنيت الحسنات، وبقيت السيئات وبقي طالبون قال الله تعالى: ضعوا عليهم من أوزانهم واكتبوا له كتاباً إلى النار. قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} هذا لأهل الإيمان كلهم، وروي عن ابن عمر: أنها في المهاجرين خاصة، قال: " نزلت الآية في الأعراب {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] قال: فقال رجل: ما للمهاجرين؟ فقال النبي A: ما هو أعظم من ذلك وقرأ {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} الآية ". واختار الطبري أن تكون المضاعفة أكثر من عشرة للمهاجرين خاصة، وقال: هو في معنى حديث أبي هريرة، تضاعف بألفي ضعف أي للمهاجرين، واحتج بأن الله D قد اخبرنا أن الله يجزي بالحسنة عشر أمثالها، فلا يجوز أن يكون في خبره اختلاف، ولكن ذلك للمهاجرين وهذا لغيرهم. قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية. العامل في " كيف " " جئنا " المعنى: فكيف يكون حالهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد على أعمالهم، وجئنا بك يا محمد على أمتك شهيداً، وكان النبي عليه السلام إذا أتى على هذه الآية فاضت

عيناه، وقال ابن مسعود: أمرني رسول الله عليه السلام أن أقرأ عليه سورة النساء حتى بلغت {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} فاضت عينا رسول الله A بالدموع فسكت. قال السدي يأتي النبي يوم القيامة منهم من أسلم معه من قومه واحد والاثنان، والعشرة، وأقل وأكثر من ذلك حتى ياتي لوط صلوات الله عليه وسلم لم يؤمن معه إلا بنتاه فيقال للنبيين: هل بلغتم ما أرسلتم به؟ فيقولون: نعم فيقال له: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد عليه السلام. فتدعى أمة محمد عليه السلام فيقال لهم: إن الرسل ادعوا عندكم شهادة فبم تشهدون؟ فيقولون: يا ربنا نشهد أنهم قد بلغوا كما شهدوا في الدنيا في التبليغ، فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد A، فيشهد محمد A أن أمته قد صدقت، وأن الرسل قد بلغوا فذلك قوله {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. ومن رواية يونس عن ابن وهب عن إبراهيم عن حيان بن أبي جيلة بسنده إلى النبي عليه السلام أنه قال: " إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل فيقول الله D: ماذا فعلت في. . . هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، أي رب، قد بلغت جبريل، فيدعى جبريل فيقول له: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم يا رب، قد بلغني، فيخلى عن إسرافيل، فيقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم قد بلغته الرسل، فيدعى الرسل فيقول: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم، فيخلى عن جبريل ثم، يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلغنا أممنا، فيدعى الأمم، فيقال لهم: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب، ومنهم المصدق، فيقول الرسل: إن

لكم علينا شهداء يشهدون أنا قد بلغنا مع شهادة، فيقول الله D: من يشهد لكم؟ فيقول الرسل: أمة محمد A، فتدعى أمة محمد A، فيقول الله D: أتشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليهم؟ فيقولون: نعم، رب شهدنا أنهم قد بلغوا، فتقول تلك الأمم: (لا). كيف يشهدون علينا ولم يدركنا؟ فيقول لهم الرب: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، فقصصت علينا قصصهم، فشهدنا بما عهدت إلينا، فيقول الرب تعالى ذكره: صدقوا، فكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} الآية ". وقد مضى في هذه الآية ما فيه كفاية وهذه زيادة إن لم يتقدم لفظها وإن كان قد تقدم معناها. وفي رواية أخرى عن الأوزاعي قال النبي A: " أول من يسأل يوم القيامة عن البلاغ: اللوح المحفوظ. يقال: هل بلغت إسرافيل ما أمرت به؟ فيقول: نعم، قيل لإسرافيل: هل بلغك اللوح المحفوظ ما أمر به؟ فيقول: نعم، فما أرى شيئاً أشد فرحاً يوم القيامة من اللوح المحفوظ حين صدقه إسرافيل، ثم كذلك إسرافيل وجبريل والأنبياء ".

42

قال في الحديث: فما أرى شيئاً (أشد فرحاً) من كل واحد إذا صدقه من أرسل إليه ثم قرأ الأوزاعي: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية. قال الضحاك هو قول الله تعالى {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [الحج: 76]. قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} الآية. يوم يجيء من كل أمة شهيد يتمنى الكافرون {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} أي: يصيرون تراباً مثلها كما قال: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. ومن قرأ " تُسوى " (بالضم)، فالمعنى يتمنون لو سواهم الله والأرض سواء، ومن قرأ " تَسوى " بالفتح والتخفيف، فهو مثل المشددة، إلا أنه حذف إحدى التاءين. وقيل المعنى: لو انقسمت بهم الأرض فيصاروا في بطنها. وقال الحسن في فراءة الضم: إن المعنى " لو تسوى " بالتخفيف عليهم، والباء بمعنى على، فالمعنى

تنشق فتسوى عليهم. قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} أي: لا تكتم جوارحهم حديثاً من الله. قال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام جحدوا فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم وتكلمت (أيديهم)، وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثاً، وعنه هذا التفسير باختلاف ألفاظ. وسبب تفسيره لهذا الهذا القول من له يقول الله عن الكافرين أنهم قالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقد كتموا ويخبر أنهم لا يكتمون الله حديثاً ففسره بما ذكرنا، وقوله {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} على قول غير ابن عباس أنهم يودون لو استووا بهم الأرض، ولا يكتمون الله حديثاً لما عاينوا جوارحهم تشهد عليهم. وقيل: المعنى يومئذ لا يكتمون الله حديثاً، ويودون لو تسوى بهم الأرض، وهو

معنى تفسير ابن عباس لأن السائل سأل كيف أخبر أنهم لم يكتموا الله حديثاً، وقد أخبر أنهم كتموا في قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. وقيل: المعنى يتمنون لأو استووا مع الأرض، وليس يكتمون الله حديثاً أي هو عالم بهم وبما أسروا مما يودون ويتمنون بهم، وإن لم ينطقوا به، فليس ذلك بكتمان على الله [تعالى - كأن الكلام قد تم على قوله - لو تسوى بهم الأرض، ثم قال: وليس يخفى على الله] من حديثهم شيء وهذا جواب ثالث عن الآيتين. وقيل: المعنى أنهم يتمنون إذ عصوا الرسول أن يسووا مع الأرض ويودون لا يكتمون الله حديثاً. وكتمانهم الذي ندموا عليه هو قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وهو جواب ثالث

لمن سأل عن الآيتين. وقال قتادة: هي مواطن في يوم القيامة، فمواطن يجحدون، ومواطن يقرون. وجاء رجل إلى ابن عباس فقال له: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن، فقال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ فقال: ليس بشك، ولكنه اختلاف، فقال: هات ما اختلف عليك من ذلك، فقال: أسمع الله D يقول: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقال {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} فقد كذبوا إذا ادعوا الإسلام. فقال ابن عباس: وماذا؟ قال أسمعه يقول: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50] وقال: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} [فصلت: 9]. إلى قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] الآية. وقال في آية أخرى: {أَمِ السمآء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا * [وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا]} [النازعات: 27 - 29] {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. وأسمعه يقول: {[وَكَانَ] الله عَلِيماً حَكِيماً} الآية [النساء: 17].

فقال ابن عباس: " أما قولهم {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، يغفر لهم الذنوب جميعاً، ولا يتعاظم ذنب يغفره، ولا يغفر شركاً، جحدوا وقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} رجاء أن يغفر لهم، فختم الله D على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك {يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} يريد أنهم ندموا في جحدهم وقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. وأما قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات، ومن في الأرض إلا من شاء الله {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}. {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50]. وأما قوله {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ. . .} الآية فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخاناً فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فإنه تعالى دحاها بعد خلق السموات، وجعل فيها جبالاً وأنهاراً وبحوراً. وأما قوله: {وَكَانَ الله} فإن الله لم يزل كذلك عزيراً حكيماً قديراً لم يزل كذلك وما اختلف عليك من القرآن فهو شبه ما ذكرت لك. وقال مجاهد: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ} أي: مع ذلك.

43

قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} الآية. {جُنُباً} و {عَابِرِي سَبِيلٍ} نصب على الحال. ومعنى {سكارى} أي: من الخمر، وهذا قبل تحريم الخمر فأمرهم الله ألا يقربوها، وهو سكارى حتى يعلموا ما يقولون. وقيل: إن ناساً من أصحاب النبي A شربوا الخمر قبل تحريمها، فصلى بهم أحدهم فقرأ: {قُلْ يا أيها الكافرون} فخلط فيها، فنزلت الآية، ينهاهم عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلموا ما يقرأون ثم نسخ شربها بالتي في المائدة. وروي عن علي Bهـ أنه قال: " فِيَّ أنزلت الآية " {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} قال: دعانا رجل من أصحاب النبي A طلحة وغيره فأكلنا وشربنا. فقدموني إلى الصلاة فقرأت فيها: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما تعبدون) فكان هذا قبل تحريم الخمر. وقيل هي محكمة. ومعنى السكر هنا: " السكر من النوم "، قاله الضحاك.

وعلى القول الأول أكثر أهل التفسير والعلماء لتواتر الأخبار أنها نزلت في الخمر قبل تحريمه. قوله: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: لا تقربوها جنباً إلا أن تمروا [ب] موضعها مجتازين حتى تغتسلوا. وقيل المعنى: في {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: إلا أن تكونوا مسافرين فتتيمموا لها. وقال علي بن أبي طالب وقاله مجاهد وابن جبير قال: هو الرجل يكون في السفر تصيبه جنابة فيتيمم ويصلي. وعليه جماعة من أهل التفكير فيكون المعنى لا تصلوا وأنتم جنب إلا تكونوا مسافرين غير واجدين للماء، وقيل: معنى لا تقربوا مواضع الصلاة جنباً إلا عابري سبيل أي: أن تكونوا مجتازين في المسجد. [قال ابن عباس {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}. قال لا تقربوا المسجد إلا أن يكون

طريقك فتمر فيه مراً ولا تجلس، وقال النخعي: يمر فيه إذا لم يجد طريقاً غيره. وقال ابن زيد: نزلت في رجل من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، وكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، يريدون الماء فلا يجدون ممراً، إلا المسجد، فأنزل الله D { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} رخصة لهم. وذهب مالك والشافعي أن الجنب يمر في المسجد عابر سبيل. قال مالك: لا تدخل الحائض المسجد، وأرخص له غيره أن تمر فيه كالجنب. وقال ابن حنبل: إذا توضأ الجنب فلا بأس أن يجلس في المسجد. وكذلك قال إسحاق. والجنب هنا من أنزل في قول جماعة من العلماء دون أن يجامع ولا ينزل، روي عن النبي A أنه قال: " الماء من الماء " فلا غسل عليه إلا بإنزال الماء عند جماعة من الصحابة هو قوله

علي وابن مسعود والخدري وابن عباس وأُبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص، ورافع بن خديج، وأبي أيوب الأنصاري. قال غيرهم: والجنب في الآية من أنزل، أو التقى منه الختانان، وإن ينزل لأن في كلاهما الطهر عندهم، فمن أولج، ولم ينزل بمنزلة من أنزل في الحكم فكلاهما لا يقرب المسجد إلا عابري سبيل. وإيجاب الطهر من التقاء الختانين، وإن لم ينزل قوله عامة الفقهاء، وهو قول عمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم وهو مذهب مالك والشافعي والثوري وأهل العراق، وجماعة من الفقهاء، وقد تراترت الأخبار بإيجاب الغسل من التقاء الختانين عن النبي A.

قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} أي: بجرح أو جُدري أو غير ذلك من الأمراض المانعة من الغسل فتيمموا. قال مالك: المرض هنا هو المريض الذي به جراحه رخص له في التيمم. وقيل: المريض هنا هو الذي لا يجد من يأتيه بالماء. {أَوْ على سَفَرٍ} أي: مسافرين غير واجدين الماء وأنتم جنب فتيمموا. قوله: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} أي: من قضى حاجته فلم يجد ماء فليتيمم، والغائط: ما اتسع من الأرض، وقيل: هو الموضع المنخفض المستور وكثر ذلك حتى قيل لمن قضى حاجته متغوط. قال أبو عبيدة: " أصل الغائط المكان المطمئن من الأرض ". قةله: {أَوْ لامستم النسآء} اللمس هنا الجماع، وقيل: هو ما دون الجماع، أرخص الله لهم أن يتيمموا إذا لم يجدوا ماء، والمقيم والمسافر في جواز التيمم له عند عدم الماء سواء، وعلى من عدم الماء التيمم لكل صلاة لأنه يطلب الماء لكل صلاة وعند عدمه يتيمم. ومعنى لمستم أو لامستم واحد.

وقيل: لامستم يريد به الجماع، ولمستم: القبلة والمباشرة. وقال المبرد: " لمستم الأولى أن يكون بمعنى قَبَّلْتُم، لأن لكل واحد منهما فعلاً، ولمستم بمعنى غشيتم، ومسستم أن المرأة ليس لها في هذا الفعل شيء فلمستم بمعنى غشيتم. وقال أبو عمرو: " لامستم بمعنى: الجماع ". ومذهب الكسائي: أن اللمس بمعنى الغمز والإفضاء ببعض الجسد إليها. والصعيد: الأرض الملساء التي لا نبت فيها قاله قتادة. وقيل: هو الأرض المستوية، قاله ابن زيد. وقيل: الصعيد التراب، وقيل: وجه الأرض. والصعيد في اللغة وجه الأرض، والطيب هنا النظيف الطاهر، وقال

سفيان: " معنى طيباً " أي حلال لكم، كما تقول هنالك ذلك. قوله: {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} أي منه، ومسح الأيدي في التيمم هو إلى حد الوضوء إلى المرفقين، وهو قول ابن عمر والحسن والشعبي وسالم بن عبد الله، وهو قول مالك والليث والثوري والشافعي وعبد العزيز بن أبي سلمة وأصحاب الرأي. وقيل: التيمم إلى الكفين إلى الزندين، وهو موضع قطع السارق، وهو مذهب عكرمة، والأوزاعي وابن جبير ومكحول وعطاء، وروي ذلك عن ابن المسيب والنخعي وغيرهم. وقيل التيمم إلى الآباط، وهو قول الزهري.

44

وهذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي A نزلت بهم جنابة في سفر فلم يجدوا ماء، وشاهد هذا القول ما قالت عائشة Bها في قصة العقد فكانت الآية، والرخصة من بركتها رضوان الله عليها. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} الآية. {أَلَمْ تَرَ}: ألم تعلم، وقيل: ألم تخبر يا محمد. وقيل: ألم تر بقلبك، يا محمد إلى الذين أُعطوا حظاً من كتاب الله، والنصيب الحظ - وهو اليهود. {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} أي تعدوا عن الحق والطريق المستقيم {يَشْتَرُونَ الضلالة} أي: يختارون الضلالة على الهدى {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أي: أعلم منكم بأمرهم وبما يسرون من آرائهم، {وكفى بالله وَلِيّاً} أي: [به] فاكتفوا، وله فانتصروا على أعدائكم. قوله: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} الآية. المعنى أن " من " متعلقة بـ {الذين أُوتُواْ نَصِيباً} أي هم من الذين هادوا. وقيل: المعنى من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. وقيل: المعنى من الذين هادوا من يحرفون

الكلم. حكي هن العزيز يقول أي: من يقول ذلك. وقيل: " من " متعلقة بنصير، أي: وكفى بالله نصيراً من هؤلاء القوم، أي: ينتصر منهم في الآخرة، فاكتفوا بنصرته منهم أيها المؤمنون. واختار قوم أن يكون المحذوف من كما قال: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: من له، كما يقول له: منا يقول ذلك ومنا لا يقوله، أي: من يقوله ومن لا يقوله ومذهب سيبويه تقدير قوم كما ذكرنا أولاً. واختار أهل التفسير أن يكون " من " متعلقة بالذين أوتوا نصيباً من الكتاب ". ومعنى {يُحَرِّفُونَ الكلم} أي: يتأولونها على غير وجهها، ويعدلونها عن ظاهرها، والكلم هنا كلام النبي عليه السلام، وقال مجاهد: الكلم كلم التوراة يبدلونها، وهو جمع كلمة. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}: يقولون لمحمد A: سمعنا قولك، وعصينا أمرك،

47

يخفون العصيان، ويظهرون السمع والطاعة إذا أرادوا أن يكلموه، قال: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: يقولون في أنفسهم: لا سمعت، يقولون {راعنا} يوهمونهم أنهم يريدون: أرعنا سمعك، وهم يريدون به الرعونة في لغتهم. وقيل معنى {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع غير مقبول منك، ويلزم قائل هذا أن يقول غير مسموع منك. ومعنى {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي: تحريفاً إلى السب والاستخفاف. وقيل: كانوا يريدون بقولهم {راعنا} أي: راعينا مواشينا، ويوهمون أنهم يريدون راعنا، أي: انتظرنا وارفق بنا، وإنما يريدون الرعي رعي المواشي عن طريق الهزء والاستخفاف والمغالطة. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك {واسمع} أي: اسمع منا {وانظرنا} أي: انتظرنا نفهم عنك ما تقول لكان ذلك [{خَيْراً لَّهُمْ] وَأَقْوَمَ} أي وأعدل. قوله: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} الآية. هذا خطاب لليهود الذين كانوا حوالي رسول الله A أمرهم الله تعالى أن يؤمنوا بالقرآن الذي هو مصدق للتوراة ومحقق لها.

وروي " أنها نزلت في نفر من اليهود، خاطبهم النبي عليه السلام، ودعاهم إلى الإسلام وقال لهم: والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فتوعدهم الله جل ذكره بقوله: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ} ". وروي أن عبد الله بن سلام كان بالشام، فأقبل حتى أتى النبي عليه السلام قبل أن يدخل هلى أهله فأسلم - وقال: لقد خفت، وأنا مقبل ألا أصل إليك حتى يصير وجهي خلفي. وقيل: معنى {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} أي: آمنوا من قبل أن تمحق صورة الوجوه حتى تصير كالأفقية تذهب بالأنف والعين والحاجب وغير ذلك من أدوات الوجه ويصير كالقفا. وقيل المعنى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} أبصار الوجوه فتصير لا تنظر شيئاً كالقفا. ومعنى {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} يرجع الوجه في موضع القفى، فيصير يمشي القهقري، قال قتادة: {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} تحول وجوهها قبل ظهورها. وقال مجاهد والحسن: المعنى من قبل أن نعمي قوماً عن الحق فنردهم على أدبارهم في الصلاة والكفر. وقيل: المعنى: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} أي: نمحو آثارها، فنردها على أدبارها

أي: نجعلها منابت للشعر كوجوه القردة. واختار الطبري قول ابن عباس أن المعنى من قبل أن نعمي أبصارها، فنردها في موضع القفى، وتصير الوجوه في موضع القفى فيمشي القهقري، ولا معنى لقول من قال: معناه أن نعمي قوماً فنردهم عن الحق إلى الضلالة لأن المخاطبين بهذا هم اليهود، وهم ضالون كافرون، فلا معنى لتوعدهم أن يجعلوا ضالين كافرين وهم كذلك. وقد قيل: معناه من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها يريد مواضعهم وترددهم إلى الشام وهو بعيد، والطمس في اللغة العفو والدثور. وقال مالك: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} الآية فوضع كعب يده على وجهه ورجع القهقري إلى بيته، فأسلم مكانه وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي. قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أصحاب السبت} معناه أن نخزيهم، فنجعلهم قردة كما أخزينا أصحاب السبت الذين اعتدوا فيه. قاله قتادة والحسن والسدي وابن زيد، وهذا من الرجوع إلى الغيبة بعد المخاطبة مثل {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ} [يونس: 22].

48

وقد قيل: معناه: أو نلعن أصحاب الوجوه، فلا يكون فيه خروج من خطاب إلى غيبة على هذا. قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: كائناً موجوداً، والأمر في هذا الموضع: المأمور، وسمّي بالأمر عن الأمر كان (فمعناه): ولم يزل مأمور الله موجوداً كائناً إذا أراده وجده لا إله إلا هو، فهو مصدر وقع موقع المفعول كما قال {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] أي: مخلوقه. قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية. قال ابن عمر: كنا معشر أصحاب رسول الله A لا نشك في قاتل المؤمن، وأكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، يعني في الشهادة له بالنار حتى نزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فأمسكنا عن الشهادة. وروي عن ابن عمر أنه قال: لما نزلت {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] إلى قوله {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 50] قام رجل إلى النبي A فقال: والشرك يا رسول الله. فنزلت {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فكان قوله

49

{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} أنه ما دون الشرك. وقيل: المعنى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء بعد التوبة ولا يحسن هذا لأنه يجب منه أن يكون من تاب، ومات على توبته موقوفاً على المشيئة إن شاء غفر له وإن شاء لم يغفر له، وهذا قول لم يقله أحد، ولا يجوز اعتقاده بل الميت على توبته مغفور له بإجماع. قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله}: أي: يشرك في عبادته غيره {فَقَدِ افترى} أي: اختلق: {إِثْماً عَظِيماً}. روى جابر بن عبد الله أنه قال: " سئل النبي A عن الموجبتين، فقال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله دخل النار " ". قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} الآية. معناه ألم تر بقلبك يا محمد، إلى اليهود الذين يطهرون أنفسهم من الذنوب ويمتدحونها، وهو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فلا ذنوب لنا، قاله قتادة. وقال الحسن وابن زيد: هم اليهود والنصارى قالوا: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ}.

قال الضحاك والسدي: قالت اليهود ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون إنما نحن مثلهم ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل، وقال الله D: { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} الآية [النساء: 50]. وقال مجاهد: تزكيتهم تقديم أولادهم لإمامتهم ولدعائهم يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. وقال عكرمة: كانوا يقدمون الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم يصلون بهم، يقولون: ليست لهم ذنوب. وقال ابن عباس كانوا يقولون: إن أبنائنا إن توفوا فهم لنا قربة عند الله يستشفعون لنا ويزكوننا. وقال: ابن مسعود: " كانوا يقولون: كان بعضهم يزكي بعضاً، فقال الله تعالى: {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يزكي بعضهم بعضاً، كما قال {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 84] أي: يقتل بعضكم بعضاً. قوله: {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ}. أي: يوفق من يشاء للطاعة، والعمل بما يزكيه

50

أي: يزكي عمله. والزكاة: النماء. قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: ليس ينقصون من حقوقهم مقدار الفتيل، وروي عن ابن عباس انه قال: الفتيل ما خرج بين أصابعك من الوسخ إذا فتلتهما. وقيل: ما خرج بين الكفين إذا فتلتهما. وعن ابن عباس أيضاً: الفتيل الذي في بطن النواة، يعني في شق النواة كالخيط، ومثله عن مجاهد، وهو فعيل بمعنى: مفعول: وقيل: الفتيل ما في (بطن) النواة. والنقير: (النقرة) التي في ظهرها منها تنبت [النخلة]. والقطمير: القشرة الملفوفة عليها. قال الأخفش: يزكون أنفسهم تمام، وخولف في هذا لأن ما بعده متصل به. قوله: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} الآية. معناها: انظر يا محمد، كيف يختلقون الكذب على الله في تزكيته لأنفسهم

51

وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 20] وكفى بفعلهم {إِثْماً مُّبِيناً} أي: ظاهراً. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} الآية. معناها: ألم تر يا محمد بقلبك إلى الذين أعطوا حظاً من الكتاب يعني: علماء بني إسرائيل أعطوا في كتابهم أمر النبي A وصفته فكتموه. قال عكرمة: الجبت والطاغوت صنمان كان المشركون يعبدونهما. وقال ابن عباس: الأصنام هي الجبت والطاغوت الذين يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وروي عن عمر Bهـ وأرضاه أنه قال: الجبت الساحر والطاغوت الشيطان. وقال ابن جبير: الجبت بلسان الجبشة الساحر، والطاغوت الكاهن، وكذبلك قال أبو العالية. وقال قتادة: الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وكذلك قال السدي. وعن ابن جبير أيضاً: الجبت الكاهن والطاغوت الشيطان.

وعن ابن عباس: الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وهما رئيسان من رؤساء اليهود، وكذلك قال الضحاك والفراء. والجبت والطاغوت عند أهل اللغة كل ما عبد من دون الله [ D، وروي عن ابن وهب عن مالك أنه قال: الطاغوت ما عبد من دون الله] سبحانه، قال الله D: { اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]، قال: فقلت لمالك: وما الجبت قال: سمعت من يقول: هو الشيطان. قال قطرب: الجبت أصله عند العرب الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير فيه ولا عنده، فأبدلت التاء عن السين، وهي لغة رديئة لا يجب أن يحمل القرآن عليها. وعن عمر: أن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان. وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} أي: يقول اليهود لبعض الكفار، هؤلاء أصحابكم أهدى من المؤمنين بالله ورسوله طريقاً، يغبطونهم بتكذيب محمد A وما جاء به، وذكر أن ذلك من قول كعب بن الأشرف. وقال ابن عباس: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش: أنت خير أهل

المدينة وسيدهم، قال: نعم، ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السداة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه، فأنزل الله {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} [الكوثر: 3] وأنزل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ. . .} الآية. قال عكرمة: انطلق كعب بن الأشرف إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي A وأمرهم أن يغزوه، وقال: أنا معكم نقاتله فقالوا: أنتم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل، وقال: أنتم خير من محمد، فأنزل الله D { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب} الآية. فالجبت والطاغوت على هذا الخبر هما الصنمان. وقال ابن زيد: فاعل ذلك حيي بن أخطب. وقيل: هو كعب، وحيي ورجلان من اليهود من بني النضير لقوا قريشاً بالموسم، فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ إن أهل

53

السقاية والسدانة وأهل الحرم، فقال له: لا أنتم أهدى من محمد وأصحابه، وهم يعلمون أنهم كاذبون حملهم على ذلك الحسد، فأنزل الله D { أَلَمْ تَرَ}، الآية. قوله {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أي: أخزاهم وأبعدهم من رحمته {وَمَن يَلْعَنِ الله} أي: يخزيه ويبعده عن توفيقه ورحمته {فَلَن تَجِدَ لَهُ} من ينصره من عقوبة الله ولعنته سبحانه. قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك} الآية. أم هاهنا بمعنى: بل أي: بل لهم نصيب. وقيل: أم عاطفة على شيء محذوف قبلها تقديره: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلت أم لهم نصيب؟. والمعنى: ليس لهم حظ من الملك، ولو كان لهم لم يعطوا الناس منه نقيراً لبخلهم. وقيل: الناس هنا: محمد A. والنقير النقطة في ظهر النواة وقيل: النقير هنا نَقْر الإنسان بأطراف أصابعه، والفائدة فيها: وصفهم بالبخل وأنهم لو كانوا ملوكاً لبخلوا بالشيء الحقير اليسير. قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} الآية. المعنى: أن اليهود حسدوا قريشاً إذ كان النبي A منهم، فوبخهم الله D وقال: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إبراهيم الكتاب والحكمة} فيجب أن يحسدوهم أيضاً، {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} وهو ما أعطى سليمان A فكيف لم يحسدوا هؤلاء. وقال ابن عباس: عنى بالناس: محمد A ومن آمن به. وعنه أنه قال: نحن

الناس: يعني قريشاً، وهو قول عكرمة والسدي ومجاهد والضحاك. . . حسدوه في أمر النساء، وقالوا: قد أحل الله له من النساء ما شاء، فأنزل الله D: { يَحْسُدُونَ الناس} أي: محمداً A على ما أحل الله له من النساء، وهو الفضل فوق أربع، فأم بمعنى بل هنا، {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} قال السدي: كانت لداود مائة امرأة ولسليمان أكثر من ذلك. وقال القتبي: كانت لسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سرية. قال همام: {مُّلْكاً عَظِيماً} أيدوا بالملائكة والجنود. قال أبو عبيدة: معنى {أَمْ يَحْسُدُونَ}: (أيحسدون). وقيل الناس هنا: العرب، حسدهم اليهود إذ كان محمد A منهم فهو الفضل. وقيل: الملك العظيم النبوة. وقيل: هو تحليل النساء لهم. وقيل: هو ما

55

أعطي سليمان. وقيل: " الملك العظيم ": هو تأييدهم بالملائكة. واختار الطبري أن يكون {مُّلْكاً عَظِيماً} هو ما أوتي سليمان A من الملك وتحليل النساء. قوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} الآية. المعنى: فمن أهل الكتاب الذين قيل لهم آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم: من آمن بالله D. وقيل: بمحمد A. وقيل: بالقرآن وهو أبينها لقوله: {آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} ثم قال {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ} أي: بما نزلنا، وهو القرآن، {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي: لم يؤمن به. وقيل: {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي: عن محمد A ( أي): أعرض عنه، وقيل: {مَّنْ آمَنَ بِهِ}: القرآن. قاله مجاهد، وقيل: " به " بهذا الخبر. وذكر السدي في قصة طويلة أن إبراهيم صلوات الله عليه، كان عنده طعام كثير بورك له فيه كسبه من زرع زرعه من قمح كونه من عند الله تعالى، فكان الناس يأتونه في مجاعة يطلبون

56

منهم شراء الطعام، فيقول: هذا الطعام من آمن بالله فليأخذ منه، ومن لا يؤمن بالله فلا شيء له، وآمن بعض وأخذوا، وامتنع قوم من الإيمان فلم يأخذوا، فهو قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ}. وفي هذه الآية دليل علي أن من لم يؤمن قد أخرت عقوبته التي توعد بها في قوله: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} إلى يوم القيامة لإيمان من آمن منهم وهو قوله: {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} وإنما كان الوعيد لهم من الله جلت عظمته بالعقوبة على مقام جميعهم على الكفر، فلما آمن بعضهم خرجوا عن الوعيد الذي توعدوا به في دار الدنيا، وهو الطمس وأخرت عقوبة المقيمين على الكفر. وسعير: فعيل، مصروف عن مفعوله كما قال: كف خضيب، ولحية دهين، والمسعورة: الموقودة بشدة التوقد، والمعنى وكفى بجهنم سعيراً لمن صد عنه، أي: أعرض عن محمد A، وما جاء به. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بآياتنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} الآية. هذا وعيد من الله D لمن أقام على الكفر وأعرض عن النبي A وما جاء به {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} أي نلقيهم في النار.

وقيل المعنى: سوف نشويهم بنار. يقال أصليته: ألقيته في النار وصليته شويته، فنلقيهم أولى بالمعنى لأنه رباعي. قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي احترقت واشتوت. قال ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاء مثل القراطيس. قال الحسن: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيكونون كما كانوا. قال الربيع: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، ومنه تسعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه جبل وسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها. قال الحسن: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال: وغلظ جلد الكفار أربعون ذراعاً، والله أعلم بأي ذراع. وإنما جاز أن يبدلوا جلوداً غير جلودهم التي كانت في الدنيا فيعذبون منها

وهي لم تذنب، لأن الألم إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما تحرق النار الجلد ليصل الألم إلى الإنسان، وينعم ليصل النعيم إلى الإنسان، وليس بألم الجلد ولا اللحم وإنما يألم الإنسان، ألا ترى أنه لو مات وحرق الجلد واللحم لم يكن ألم ثابت يحس، وإنما بمنزلة الجندل إذا زالت الإنسانية منه. وقيل: المعنى: بدلناهم جلوداً غير محرقة، أي يصير الجلد (غير) محرق، وهو كما تقول: صغ لي خاتماً من هذه الفضة، فإذا تم الخاتم فهو الفضة بعينها. وقيل: المعنى: كلما نضجت سرابيلهم بدلوا سرابيل من قطران غيرها، فجعلت السرابيل لهم جلوداً لملازمتهم لها كما يقال: الشيء الخاص بالإنسان هو الجلدة ما بين عينيه لملازمته لها. وقد أخبر الله بلباسه السرابيل من قطران فقال {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] فأما جلودهم فليس تحرق لأن في احتراقها فناءها، وفي فنائها راحتها وجواز فناء غيرها من أجسامهم ولحومهم. وقد أخبر الله تعالى أنهم لا يخفف عنهم ولا يموتون.

57

والاختيار عند أهل النظر أن يكون الجلد الأول أعيد جديداً كما كان، كما تقول صغت من خاتمي خاتماً فأنت وإن غيرت المصوغة، فالفضة واحدة لم تبدلها. قوله: {لِيَذُوقُواْ العذاب} أي: فعلنا ذلك ليذوقوا العذاب أي: ألمه وشدته {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} أي: لم يزل عزيزاً في انتقامه لا يقدر على الامتناع منه أحد {حَكِيماً} في تدبيره وقضائه. قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} الآية. المعنى الذين آمنوا بمحمد A وبما جاء به وأدوا العمل الصالح فندخلهم يوم القيامة بساتين تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً أي: بغير نهاية ولا انقطاع {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي بريئا من الأدناس والريب والحيض والغائط والبول والمخاط، وغير ذلك من أقذار بني آدم {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} (أي): كثيفاً كما قال {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 32]. وقال أبو هريرة عن النبي A: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ". وقيل: معنى {ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي: يظل من الحر والبرد وليس كذلك كل ظل

58

فأعلمهم الله تعالى أن ظل الجنة لا حر معه ولا برد. قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} الآية. قال زيد بن أسلم: نزلت الآية في ولاة أمور المسلمين. قال مكحول في وقوله: {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ}: هم أهل الآية التي قبلها في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا}. وقال ابن زيد: قال أبي: هم الولاة أمرهم الله D أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقال ابن جريج: خوطب بهذا النبي عليه السلام أن يرد مفاتيح الكعبة على عثمان بن طلحة كان المفتاح لآبائه من قصي، وكان أبوه قتل يوم بدر فورثه من أبيه

طلحة. وروي أن النبي A قال: " يا عثمان خذ المفاتيح على أن للعباد معك نصيباً، فأبى أن يأخذه حتى نزلت الآية، فدفعه النبي A ولم يشرك معه أحداً، فهو اليوم في ذريته الأمثال فالأمثال. وكان النبي A قد أخذها منه يوم فتح مكة، ففتح البيت ودخله، ثم خرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفاتيح ". وقيل: نزلت لما أخذ النبي A مفاتيح الكعبة من شيبة بن عثمان. وروى أهل التفسير أن العباس عم النبي عليه السلام سأل النبي عليه السلام أن يجمع له السقاية والسدانة، وهي الحجابة، وهو أن يجعل له مع السقاية فتح البيت وإغلاقه، فنازعه شيبة بن عثمان فقال: " يا رسول الله: اردد علي ما أخذت مني "، يعني مفاتيح الكعبة فرده A على شيبة. وقال الحسن: " لما فتح رسول الله A مكة دعا عثمان بن طلحة فقال: " أرنا المفتاح "، فلما أتاه به قال عباس: " يا رسول الله اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده مخافة أن يدفعه إلى العباس، فقال رسول الله A: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم

الآخر فأرني المفتاح ". فقال: هاك في أمانة الله D، فأخذه رسول الله A، ففتح باب الكعبة، ثم دخل، فأفسدها ما كان في البيت من التماثيل، وأخرج مقام إبراهيم A فوضعه حيث وصعه، ثم طاف بالبيت مرة أو مرتين، ونزل جبرئيل عليه السلام بالآية يأمره أن يرد المفتاح إلى أهله، فدعا عثمان فقال: هاك المفتاح إن الله يقول: " أدوا الأمانات إلى أهلها وقرأ الآية كلها ". وقال ابن عباس: الآية على العموم في كل من ائتمن على شيء فعليه رده إلى أهله. واختار أهل النظر أن يكون خطاباً لولاة أمور المسلمين أن يؤدوا الأمانة. يما ائتمنوا عليه من أمور المسلمين في أحكامهم والقضاء في حقوقهم بكتاب الله، والقسم بينهم بالسوية، ويدل على صحة ذلك أن الله تعالى أمر المسلمين بطاعتهم بعد ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} فحض الولاة على العدل والإنصاف بين المسلمين، وحض المسلمين على طاعة الولاة. قوله: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: نعمه العظيمة يعظكم بها يا ولاة أمور المسلمين، في أداء ما ائتمنتم عليه من أموال المسلمين {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} أي: لم يزل

سميعاً لما تقولون وتنطقون وتحكمون في رعيتكم {بَصِيراً} بما تعملون فيما أئتمنكم عليه من الحكم والإنصاف، لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. وهذا كان لولاة أمور المسلمين ومن قام مقامهم من الحكام، وقد حض على ذلك في غير موضع من كتابه فقال: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى} [النحل: 90]. وقال: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26]. وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47]، {فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47]، و {فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45]. وقال: {كُونُواْ قوامين بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين} [النساء: 135]. وقال A " المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمان، وكلتا يديه - جلت عظمته - يمين هم الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وأموالهم ". وقال A: " إن أحب الناس إلى الله D وأقربهم إليه سبحانه وتعالى - إمام

عادل " وقال: " إن أبغض الناس إلى الله جل ذكره وأشدهم عذاباً إمام جائر " وقال A: " إن أفضل عباد الله منزلة إمام عادل رقيق، وإن شر عباد الله تعالى منزلة يوم القيامة إمام جائر ". وقال معقل المزني عند موته: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس من ولي أمة قَلت أوكثرت لم يعدل فيهم إلا كبه الله على وجهه في النار". وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من أمير عشرة إلا وهو يجيء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوبقه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام مقسط، وشاب نشأ في عبادة الله - عز وجل - حتى توفاه الله على ذلك، ورجل ذكر الله في خلا، ففاضت عيناه من خشية الله - عز وجل -، ورجل كان قلبه متعلقاً بالمسجد حين يخرج منه حتى يرجع إليه، ورجل قال أحدهما للآخر: إني أحبك في الله، وقال الآخر: إني أحبك في الله، فتصادرا على ذلك، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ".

59

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فى خطبته: "اصحاب الجنه ثلاثة: ذو سلطان مقسط ,ومصدق مؤمن , ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذى قربى ومسلم , ورجل عفيف فقير. قال ابن مسعود, إذا كان الإمام عادلا فله الأجر , وعليكم الشكر وإذا كان جائرا فعليه الوزر وعليكم الصبر. وقال بعض الحكماء انفع من خصب الزمان. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله. . .} الآية. أي: دوموا على طاعته {وَأَطِيعُواْ الرسول} في سنته، وما أتاكم به {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} أي: ولاة أموركم، وهم الأمراء، قال ذلك أبو هريرة، وابن عباس وغيرهما. وقيل: هم أصحاب السرايا على عهد رسول الله A. وقال زيد بن زيد أسلم: هم السلاطين. وقال جابر بن عبد الله " هم أهل العلم والفقه والخير، قاله مجاهد وقتادة، وأبو العالية، وروي عن ابن عباس مثله وقاله عطاء، ولذلك قيل، إن الأمر في هذا: القرآن: فمعناه: وأولي القرآن، وأولي العلم بالقرآن، ودل على أن الأمر: القرآن

قوله: {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق: 5]. وعن ابن عباس أنه قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي A في سرية. وروي عن مجاهد أنه قال: هم أصحاب محمد A. وقال عكرمة: هم أبو بكر وعمر. واختار أهل النظر أن يكون المراد أمراء مسلمين لقوله A: " سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، ويليكم الفاجر بفجوره فاسمعوا لهم، وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم ". قال A: " على المرء المسلم الطاعة ". وقال A: " لا يزال الناس بخير ما استقامت لهم هذاتهم وولاتهم " والهداة العلماء العاملون بعلمهم. قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله} الآية.

60

المعنى: إن اختلفتم في شيء من أمور دينكم فردوه إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله، وحكمه. وقيل: المعنى إن اختلفتم في شيء فقولوا: الله أعلم، على التغليظ في الاختلاف والنهي عنه، قوله: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي هذا الفعل خير لكم في دنياكم وأخراكم، وأحسن عاقبة، لأنه يدعوكم إلى الإلفة وترك الاختلاف والتنازع، والفرقة. وقال مجاهد {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}: أحسن جزاء. وقيل: أحسن ثواباً وخير عاقبة. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُو} الآية: معناه ألم تعلم بقلبك الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك من الكتاب، وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمرهم الله أن يكفروا به: أي: بما جاء به الطاغوت. والطاغوت كل ما عبد من دون الله D فهو جماعة، وهو يذكر ويؤنث، فإذا ذُكِّر ذهب به إلى [معنى] الشيطان وإذا أُنِّث ذُهب [به] إلى معنى الألوهية، وإذا جمع ذهب به إلى [معنى] الأصنام.

قال الله في التذكير: {وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} فذكر على معنى الشيطان، وقيل: هو كعب بن الأشرف. قال الله جل ذكره: {اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] فأنث على معنى الألوهية. وقال في الجمع: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ} [البقرة: 257] فجمع على معنى: أوليلؤهم الأصنام. قوله: {يُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ} أن يضلهم أي: يضل هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن الحق أي: يصدهم عنه. وروي أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلاً من اليهود في خصومة كانت بينهما، فكان المنافق يدعوه إلى اليهود لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، واصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن جهينة ليحكم بينهم، ورسول الله A بين أظهرهم، فأنزل الله هذه الآية فقوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني به المنافق {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني به اليهود {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} وهو الكاهن {وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} أمر هذا في كتابه، وهذا في كتابه أن يكفروا بالكاهن. وقيل: إنهما رجلان من اليهود تخاصما فدعا أحدهما إلى النبي A والآخر يدعو إلى الكاهن فمضيا، فأنزل الله هذه الآية.

وقال ابن عباس: كانت اليهود إذا دعيت إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أبوا، وقالوا: بل نتخاصم إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله هذه الآية. وقوله {ضَلاَلاً} مصدر لفعل دل عليه {يُضِلَّهُمْ} كأنه فيضلهم {ضَلاَلاً} مثل: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} هذا ذم لفعل المذكورين أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت، فأخبر الله تعالى أنهم إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله " أي: إلى كتابه جلت عظمته وإلى رسوله A { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ} أي: يمتنعون عنك. و {صُدُوداً}: هو اسم للمصدر عند الخليل، والمصدر عنده الصد، وهو مصدر عند الكوفيين، والصد أيضاً مصدر عندهم. ووقع الإخبار عن المنافق بالصد لأنه هو الذي دعا إلى الكاهن، ولم يمض إلى رسول الله A. وقال ابن جريج: دعا اليهودي المنافق إلى رسول الله A. وقيل: " دعا اليهودي المنافق إلى رسول الله A، فقال المنافق: بيني وبينك الكاهن، فلم يرض اليهودي بالكاهن، ومضيا إلى النبي A فحكم لليهودي على

62

المنافق، فقال المنافق: لا أرضى، وقال: بيني وبينك أبو بكر، فحكم أبو بكر لليهودي، فلم يرض المنافق، فقال: بيني وبينك عمر، فمضيا إلى عمر فأخبره اليهودي أن المنافق قد حكم عليه النبي A، وأبو بكر فلم يرض بحكمهما، فقال عمر للمنفق: كذلك؟: قال: نعم، قال عمر اصبر، فإن لي حاجة ادخل فأقضيها وأخرج إليكما، فدخل وأخذ سيفه وخرج إلى المنافق فضاربه بالسيف فقتله، فجاء أهله فشكوا إلى النبي A، فسأله عن قصته فقال عمر: رد حكمك يا رسول الله! فقال النبي A: أنت الفاروق ". ومعنى: يصدون عنك أي: عن حكمك. قوله: {فَكَيْفَ إِذَآ أصابتهم مُّصِيبَةٌ} الآية. معنى: كيف في هذا: الاستفهام، ولها معان أخرى. تكون بمعنى التحذير، والتخويف نحو قوله {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل: 51]. وتكون بمعنى الجحود فتتبعها إلى نحو قوله {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله} [التوبة: 7] ألا ترى بعده {إِلاَّ الذين} [التوبة: 7] تقديره ما يكون للمشركين عهد. وتكون كيف استفهام بمعنى التوبيخ والتعجب، نحو قوله {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أمواتا} [البقرة: 28] {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} [آل عمران: 101] وتكون تنبيهاً نحو قوله:

{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا} [الإسراء: 21]، {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الإسراء: 48]. وتكون توكيداً لما قبلها، وتحقيقاً له، نحو قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] فهذا كله من تفسير الكوفيين النحويين وهو صحيح. والمعنى كيف يكون حال هؤلاء الذين يتحاكمون إلى الطاغوت ويزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ويمتنعون أن يأتوا حكمك إذا أصابتهم مصيبة أي: نزلت بهم نقمة من الله تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: بذنوبهم التي تلفت منهم {ثُمَّ جَآءُوكَ} حالفين بالله {إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إحسانا وَتَوْفِيقاً}. أخبر الله عنهم أنهم لا يردعهم عن النفاق: والعبر والنقمات وأنهم إذا أصابتهم مصيبة بذنوبهم أخذوا يحلفون كاذبين أنا لم نرد إلا الإحسان والتوفيق أي: لم نرد باحتكامنا إلى الكاهن إلا الإحسان من بعضنا البعض، ولم يرجعوا إلى التوبة والاعتراف. وقيل: أنهم أتوا النبي A في أمر القتيل الذي قتله عمر وحلفوا، أنا أردنا بطلب الدم إلا إحساناً وموافقة الحق.

64

قوله: {أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: يعلم ما أضمروا من احتكامهم إلى الكاهن، وتركهم الاحتكام إلى كتاب الله ورسوله A، فهو يعلم ذلك منهم، وإن حلفوا أنا أردنا إلا الإحسان والتوفيق {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (أي): فدعوهم ولا تعاقبهم في أبدانهم ولكن {عِظْهُمْ} بالتخويف من الله D أن تحل بهم عقوبة منه {وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} هذا التوعد بالقتل لمن خالف حكم الله وكفر به. وقيل: قوله {في أَنْفُسِهِمْ} مؤخر عن موضعه يراد به التقديم، فكيف إذا أصابتهم مصيبة في أنفسهم بما قدمت أيديهم. وكونه في غير موضعه من غير تقديم ولا تأخير، أحسن لتمام المعنى بذلك، إنما يحسن تقدير التقديم والتأخير إذا لم يكمل معنى الآية، وتقدير التقديم والتأخير مروي عن مجاهد. قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} الآية. المعنى {وَمَآ أَرْسَلْنَا} رسولاً إلا افترضنا طاعته على أمر من أرسل إليهم، فأنت يا محمد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلته إليهم فهذا توبيخ لمن احتكم إلى غير النبي A. قوله: {بِإِذْنِ الله} أي: بعلمه، فدل هذا، أن هؤلاء الذين لم يتحاكموا إلى

65

رسول الله A وتركوا طاعته إنما ذلك لشيء سبق في علم الله D، فطاعته تكون ممن سبق في علم الله أنه يطيعه، وكذلك خلافه. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} لو أن هؤلاء المنافقين إذ تحاكموا إلى الكاهن، فظلموا أنفسهم بذلك {جَآءُوكَ} تائبين مستغفرين مما فعلوا، فسألت الله العفو عن جرمهم {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} ومعنى تواباً راجعاً عما يكرهون إلى ما يحبون، رحيماً بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم. قوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. المعنى في قوله: {فَلاَ} أي: ليس الأمر على ما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك، ثم استأنف القسم فقال: {وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: وربك يا محمد، لا يؤمنون أي: لا يصدقون بالله D ونبيه A { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، أي: يحكمونك حَكَماً بينهم في خصوماتهم. وقرأ أبو السمأل: {شَجَرَ بَيْنَهُمْ} بإسكان الجيم وهو بعيد لخفة الفتحة. قوله: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} أي: ضيقاً من حكمك أي لا تأثم أنفسهم بإنكارها حكمك، وشكها في طاعتك لأن الحرج الإثم، وكأنه قال: ثم لا

تحرج أنفسهم بإنكارها حكمك، قال: معنى ذلك مجاهد والضحاك. وقيل: الحرج: الشك وكله يرجع إ'لى الإثم. {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي: يسلموا لحكمك إقراراً بنبوتك. ويروى أن هذه الآية نزلت في الزبير بن العوام وخصم له، " ذكر عن الزبير أنه خاصم رجلاً من الأنصار وهو حاطب بن أبي بلتعة في شريج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري سرح الماء يمر، وكانت أرضه أسفل من أرض الزبير فأبى عليه، فاختصما إلى النبي A، فقال رسول الله A: اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك. فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله A، ثم قال: يا زبير اسق، ثم تحبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك، فاستوعب رسول الله A للزبير حقه في صريح الحكم وكان

أولاً أراد النبي A الرفوت والسعة لهما فنزلت الآية ". وقيل: نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تقدم ذكرهما قاله مجاهد وغيره، وهو أولى بسياق الكلام. قال الطبري: ولا ينكر أن تكون الآية نزلت في الجميع فيكون حكم المتحاكمين إلى الطاغوت، وحكم الزبير وخصمه. ومن قال إنها في الزبير وخصمه ما زالت أحسن الوقف على ما [قبل الآية، ومن قال: إنها في اليهود والمنافق ما زالت، فليس الوقوف على ما] قبلها بتمام، لأن القصة واحدة. وروي " أنها نزلت في رجلين اختصما إلى النبي A، فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه ردنا إلى عمر، فقال النبي A: انطلقا إلى عمر، فلما أتيا عمر قال الذي له الخق: يا ابن الخطاب قضى رسول الله A على هذا، فقال: ردنا إلى عمر فردنا إليك، قال: كذلك؟ قال: نعم! قال عمر: مكانكما حتى أخرج فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فاراً إلى

66

رسول الله A فأخبر النبي A: " ما كنت أطن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن "! فأنزل الله D: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية ". قوله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} الآية. فالمعنى: ولو أنا كتبنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك المتحاكمين إلى الطاغوت أي: فرضنا عليهم قتل أنفسهم، والخروج من ديارهم ما فعل ذلك إلا قليل منهم. ومعنى: قتل أنفسهم قتل بعضهم بعضاً كما أمر أصحاب موسى A، ولما نزل ذلك افتخر ثابت بن قيس ورجل من اليهود، فقال اليهودي، والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا وبلغت القتلى منا سبعون ألفاً، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله D { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} وقيل: " إن الآية لما نزلت قال رجل من أصحاب النبي A قيل: هو أبو بكر Bهـ لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي A فقال: " إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ".

69

ومعنى {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي: أثبت لهم في أمورهم وأقوى. وقال السدي: وأشد تثبيتاً أي تصديقاً. قوله: {وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً} المعنى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً، {وَإِذاً لأتيناهم مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً}، أي ثواباً في الآخرة {وَلَهَدَيْنَاهُمْ} أي لوفقناهم للصراط المستقيم وهو طريق الجنة. قولهم: {وَمَن يُطِعِ الله والرسو} الآية. المعنى من يطع الله D والرسول A بتسليم لأمرهما والرضا بحكمهما، فهو مع الذين أنعم الله عليهم لأنبيائه، وأهل طاعته في الآخرة {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} أي: وحسن الأنبياء ومن معهم رفيقاً. و {رَفِيقاً} منصوب على الحال عند الأخفش، بمعنى رفقاء، وقال الكوفيون: نصبه على التفسير، وقال بعض البصريين نصبه على التمييز. والصديقون: أتباع الأنبياء صلوات الله عليهم، صدقوهم فهو فعيل من الصدق وقد كثر ذلك عنه.

وقيل: هو فعيل من الصدقة كأنه (كثر) ذلك منه. وروي عن النبي A في حكاية أنه قال: " الصديقون المتصدقون ". وفعيل أصله المبالغة في ذم أو مدح. {والشهدآء} جمع شهيد، وهو المقتول في سبيل لله [شهد لله D بالحق، فسمي شهيداً لذلك. وقيل: سمي شهيداً لأنه يشهد كرامة الله] سبحانه وقيل: لأنه يشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة، وقيل: هم الذين قاموا وشهدوا لله بالحق. ويقال: الشهداء عدول يوم القيامة. {والصالحين} كل من صلحت سريرته وعلانيته. {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} في الجنة. والرزق لفظه لفظ واحد وهو في معنى الجمع. ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم حزنوا على فقد النبي A حذر ألا يروه في الآخرة، فأخبرهم الله D أن من أطاعه، وأطاع رسوله مع النبيين في الجنة.

وقال ابن جبير: " جاء رجل من الأنصار إلى النبي A وهو محزون: قيل: هو عبد الله بن زيد الذي رأى الآذان في منامه، فقال له النبي A: " مالي أراك محزوناً؟ " فقال: يا نبي الله، شيء فكرت فيه يقال: " ما هو؟ " فقال: نحن نغدر ونروح ننظر في وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا تصل إليك، فلم يرد عليه النبي A شيئاً، فأتاه جبريل A بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} الآية. فبعث إليه النبي A فبشره ". وقال مسروق: قال أصحاب رسول الله A له: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك لو قدمت رفعت فوقنا، فلم نرك، فأنزل الله D { وَمَن يُطِعِ الله والرسول} الآية: وروي نحو ذلك قتادة والسدي وغيرهما. وقال عطاء: " جاء رجل من الأنصار إلى النبي A وهو يبكي، فقال: " ما يبكيك يا فلان؟ " فقال: يا نبي الله والله الذي لا إله 'لاّ هو، لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، والله الذي لا إله إلا هو، لأنت أحب إلي من نفسي، وأنا أذكرك وأنا في أهلي،

71

فيأخذني الجنون حتى أراك، فذكرت موتك وموتي، فعرفت ألا اجتمع معك، إلا في الدنيا، وأنت ترفع مع النبيين وعرفت أني إن دخلت الجنة منزلتي أدنى من منزلتك، فلم يرد النبي A شيئاً، فأنزل الله D { وَمَن يُطِعِ الله والرسول} الآية ". قيل هو عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في المنام وروي أنه لما بلغه موت رسول الله A قال: اللهم اعمني حتى لا أرى شيئاً بعد حبيبي A فعمي من وقته. قوله: {ذلك الفضل} أي ذلك العطاء بأن يكونوا مع النبيين صلوات الله عليهم، فضل من الله D عليهم، بأن وفقهم للطاعة، فجعلهم من النبيين والصديقين في الجنة، فهو سابقة منه لهم، لم يطيعوا إلا بفضله، وبالطاعة التي هي بفضله وصلوا إلى فضله، فكل من عنده، وبفضل منه، لا إله إلا هو، لا خير إلا من عنده، ولا توفيق إلا به يوفق للخير ويجازي عليه بخير، فهذا الفضل العظيم الظاهر {وكفى بالله عَلِيماً} أي اكتفوا به. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ. . .} الآية. هذا أمر من الله للمؤمنين أن يأخذوا أسلحتهم وينفروا إلى عدوهم مجتمعين أو متفرقين، جماعة بعد جماعة، يعني سرايا متفرقين.

فقوله: {ثُبَاتٍ} جمع ثبة، والساقط منها اللام، وهو ياء وتصغيرها ثبية، وثبت الحوض، وهو يثوب الماء إلى الحوض أي رجع، الساقط منها العين وهو واو، لأنها من: ثاب يتوب، وتصغيرها: تويبة، والثُبات هنا: الجماعة المتفرقة. قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ}: لام " لام " تأكيد وليبطئن لام قسم، كان التقدير لمن أقسم: ليبطئن، والتشديد [في الطاء] بمعنى التكثير. وقرأ مجاهد: " ليبطئن " بإسكان الباء، وتخفيف الطاء. ومن قرأ كأن لم تكن، فلتأنيث لفظ المودة. ومن قرأ بالياء حمله على معنى الود. لأن المودة والود بمعنى واحد. وقرأ الحسن ليقولن بضم اللام على الجمع حمله على معنى من، فَضَم، لتدل على الواو المحذوفة. ومعنى الآية أن الله تعالى أعلم المؤمنين منهم من يبطئ أن ينفر معهم إلى جهاد

74

العدو، أي يتأخر وهم المنافقون، فإن أصابتكم أيها المؤمنون مصيبة. أي: هزيمة أو قتل أو جراح من عدوكم قال: {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} أي حاضر، فيصيبني ما أصابهم ولئن أصابكم فضل من الله " اللام في " لئن لام اليمين و " فضل " أي: ظفر على عدوكم أو غنيمة. {لَيَقُولَنَّ} هذا الذي أبطأ عنكم، وجلس عن قتال عدوكم: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} هذا كله صفة المنافق يشمت إذا أصاب المؤمن ضرر ويحسدهم إذا أصابوا نفعاً وظفراً، فهو غير راج ثواباً، ولا خائف من عقاب كل هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم. والتقدير في: كأن لم يكن بينكم وبينه مودة " أن يكون مؤخر المعنى " [فأفوز فوزاً عظيماً كأن لم يكن بينكم وبينهم] أي: كأن لم يعاقبكم على الجهاد. وقيل: التقدير {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة ولا أن أصابكم فضل من الله ". قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة} الآية. حض الله D المؤمنين على القتال في هذه الآية غالبين أو مغلوبين، ومعنى، {فِي سَبِيلِ الله} أي: في ذات الله ودينه، ومعنى {يَشْرُونَ} يبيعون حياتهم الدنيا بنعيم الآخرة، يقال: شربت الشيء بعته، وشريته اشتريته {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي:

75

نعطيه في الآخرة ثواباً عظيماً [ال] معظمه مقدار يبلغ إليه الخلق. قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله والمستضعفين} الآية. {المستضعفين} عطف على السبيل كأنه قال: " وفي المستضعفين أي: في خلاصهم. وقيل: المعنى: وفي سبيل المستضعفين، وهم الذين أسلموا بمكة وغلبوا على أنفسهم بالقهر، وعذبوا في أبدانهم ليرجعوا عن دينهم. حض الله D المؤمنين على القتال من أجل دين الله سبحانه [ومن أجل] المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، عذرهم الله، وأخبر أنهم يقولون {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} أي: التي ظلم أهلها. روى الحسن وقتادة: أن رجلاً من بني إسرائيل خرج من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، فاحتجت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأمروا أن يعدوا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر، فتوفته ملائكة الرحمة، وقيل: أن الله قرب إليه القرية الصالحة والقرية الصالحة هي مكة. قوله: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أي: من عندك ولياً يلي خلاصنا.

76

{واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} أي: من عندك من ينصرنا على أعدائك، وينصرنا على الخلاص منهم، والذين في موضع خفض على البدل من المستضعفين، أو نعت لهم، أو نعت للجميع المذكور من الرجال وغيرهم. قوله: {الذين آمَنُواْ يقاتلون فِي سَبِيلِ الله} الآية. أخبر الله D أن: {الذين} صدقوا بالنبي A وبما جاء به يقاتلون في سبيل الله. وأن الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت، وهو الشيطان هاهنا بدليل قوله: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} أي: الذين يتولونه ويطيعون أمره {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً}: لأولياؤه ضعاف لأنهم يقاتلون لغير الثواب، والمؤمنون يقاتلون رجاء الثواب. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ} الآية. هذه الآية نزلت في ناس من أصحاب النبي A تسرعوا إلى قتال المشركين بمكة قبل الهجرة، بما يلقون منهم من الأذى، فقيل لهم: كفوا أيديكم عن القتال وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فكانوا يتمنون القتال {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ} كرهه جماعة منهم، ومعنى كتب فرض، ومعنى {لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: إلى أن نموت

بآجالنا، ولا نتعرض للقتال فنقتل، حباً للدنيا فقال الله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى}. قال ابن عباس: هو عبد الرحمن بن عوف وأصحابه سألوا النبي A القتال ثم كرهه جماعة منهم لما فرض غليهم. وقال السدي: قوم أسلموا قبل أن يفرض القتال فسألوا القتال، فلما فرض عليهم كرهه جماعة منهم وخاف منه كما يخاف الله وأشد من ذلك. وقيل: هم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: نزلت في يهود فعلوا ذلك، فنهى الله هذه الأمَة أن تصنع صنيعهم. ويجوز - والله أعلم - أن يكون هؤلاء اليهود الذين فعلوا ذلك هم الذين ذكرهم الله في البقرة في قوله {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] ثم قال: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} [البقرة: 246] أي فرض {تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 246]. ومن قراء {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بالتاء أجراه على الخطاب لأن بعده {أَيْنَمَا تَكُونُواْ}.

78

ومن قرأ بالياء أجراه على ما قبله وهو قوله: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} وقوله {وَقَالُواْ} وقوله {لَهُمْ} وقوله {كفوا} وشبهه. {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} الآية. هذا توبيخ من الله D لهؤلاء الذين يخشون الناس كخشية الله فراراً من الموت، فقال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}. قال مالك: في قصور السماء، ألا تسمع قوله: {والسمآء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] وقيل: معناه: " في قصور محصنة قاله قتادة. وقيل المعنى: في قصور السماء، قاله أبو العالية. والمشيدة عند أهل اللغة المطولة، والمشيدة بالتخفيف المزينة، وقيل: هي المعمولة بالشيد وهو الجص. وقال بعض الكوفيين: التخفيف والتثقيل أصلحهما واحد. والتشديد يراد به الجمع كقولهم: غنم مذبحة، وقباب مصنعة، فيقال: " قصور

مشيدة " على ذلك {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] مثل: كبش مذبوح وكباش مذبحة. (ومَّشِيدٍ) مفعول: فالمشيدة على هذا المعمولة بالشيد وهو الجص وكذلك قال عكرمة. قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} أي: رضاء أو ظفر أو غنيمة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} أي: شدة وهزيمة أو جراح (يقولوا هذه من سوء تدبيرك) {قُلْ} يا محمد {كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} أي: الشدة والرخاء، والظفر والهزيمة {مِنْ عِندِ الله} أي: بقضائه وقدره {فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} أي: ما شأنهم لا يفقهون أن كلاً من عند الله سبحانه. والوقف على {فَمَالِ هؤلاء} لا يحسن، لأنه إن خالف خط المصحف لم يحسن، وإن وقف على الكلام قبح لأنه لام خفض وقد روي عن بعضهم الوقف على اللام وهو حمزة والكسائي وعاصم قياساً على أصولهم في اتباع السواد، وروي عن غيرهم من القراء الوقف على {فَمَا} على الأصل، والاختيار ألا يوقف عليه فهو

79

أسلم وأحسن، وليس بموضع تمام، وإنما تكلم فيه الناس على الاضطرار وانقطاع النفس، ووقع ذلك كيف يكون الوقف، فأما أن يتعمد الوقف على هذا فلا يجوز. قوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله. . .} الآية. قال الأخفش: {مَّآ} بمعنى الذي. وقيل: {مَّآ} للشرط. والمعنى: ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة، فبفضل الله عليك وإحسانه، وما أصابك من جدب وشدة وسقم وألم، فبذنب أتيته قوقبت به، والخطاب للنبي A، والمراد أمته، وكان النبي A يقول: " ما يصيب الرجل من خدش من عود ولا غيره إلا بذنب، وما يغفر الله D أكثر ". وقال ابن عباس: الحسنة هنا فتح بدر وغنيمتها، والسيئة ما أصابه يوم أحد عوقبوا عند خلاف الرماة لأمر النبي A، فكان ما عوقب به بذنوبهم التي اجترحوها، فهو قوله {فَمِن نَّفْسِكَ} قال أبو زيد: " وقوله في آل عمران ":

{قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] معناه بذنوبكم وهو بهذا المعنى. وقرأ ابن عباس: فمن نفسك وأنا كتبتها عليك وكذلك هي قراءة عبد الله بن مسعود. وعن ابن عباس أن الآية نزلت في قصة أحد تقول: ما فتحت عليك يا محمد من فتح فمني وما كانت من نكبة فمن ذنبك وأنا قدرت ذلك عليك. وقد ذكر النحاس: أن القول محذوف من الآية والتقدير {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} يقول ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة من نفسك [أي: بشؤمك]. وذكر ابن الأنباري قولاً ثالثاً: أن المعنى: ما أصابك الله به من حسنة فمنه،

وما أصابك من سيئة فمن نفسك] أي: بذنبك فالفعلان من الله D، وهذا يرجع إلى القول الأول. وذكر فيه قولاً رابعاً: وهو أن يقدر ألف الاستفهام محذوفة والتقدير: وما أصابك من سيئة. أفمن نفسك؟ كما قال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا (عَلَيَّ)} [الشعراء: 22] على معنى: وتلك نعمة كما قال في قوله تعالى: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 78] أي: هذا ربي لأنه لم يوجب أنه ربه وإنما قال هذا ربي على سبيل الاستخبار. قال نفطوية: أصل السيئة ما يسوؤك، فالمعنى وما أصابك من أمر يسوؤك فهو بذنبك وذلك أمر من الله. وقال الضحاك عن ابن عباس: الحسنة هنا ما أصاب المسلمين من الظفر يوم بدر، والسيئات ما نكبوا به يوم أحد. قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} الآية. رسولاً: مصدر مؤكد لأرسلناك، ودخلت " من " في قوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ}

80

كما تدخل مع حروف الشرط تقول: إن يكرمني من أحد أكرمه، فتدخل من لأنه غير واجب كما تدخل في النفي إذا هو غير واجب، ولكنها تلزم في الشرط في مثل هذا. قوله: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} الآية. هذا إعذار من الله D إلى خلقه في طاعة نبيه عليه السلام فإنه عن الله يأمر وينهى، وهو رد إلى قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ} للناس رسولاً، ثم قال: ومن يطعك فقد أطاع الله، لكنه خرج من لفظ الخطاب إلى لفظ الغيبة، كما قال: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22] ثم قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]، {وَمَن تولى} أي: من طاعتك يا محمد {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}، رجع الكلام إلى الخطاب ولو جرى على الغيبة لقال: فما أرسلناه. وقيل: معنى الآية: من يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فرائضه، وهذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين، لأن قوله فما أرسلناك عليهم حفيظاً. يدل على الإعراض عنهم وتركهم إذا تولوا عنه، وهذا مثل " {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] " ثم

81

أتى بعد ذلك الغلظة والأمر بالقتال، قال ذلك ابن زيد. وقال أبو عبيدة: معنى " حفيظاً " محتسباً. قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} الآية. " طاعة " رفعت على معنى: أمرنا طاعة، فالمبتدأ مضمر وأجاز الأخفش النصب [على] المصدر كأنهم يقولون نطيع طاعة، وهذه الآية، نزلت في الذين تقدم ذكرهم أنهم لما كتب عليهم القتال خشوا {الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]. فالمعنى: يقولون أمرنا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه يا محمد، فإذا خرجوا من عندك يا محمد {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} أي: غير جماعة منهم ليلاً الذي تقول أي: تقول الطائفة. ويجوز أن يكون المعنى غير الذي تقول يا محمد من القرآن وغير ذلك، وكل من

82

عمل عملاً فقد بيته، {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي: يثبت ما يغيرون من قولك في كتب أعمالهم التي تحصى عليهم. قال السدي: هم المنافقون يطيعون، إذا حضروا، فإذا خرجوا غيروا وبدلوا، وقال ابن عباس وغيره. وقيل معنى: يكتب ما يبيتون أي ينزله في كتابه إليك يا محمد ويخبرك به، وفي ذلك أعظم الآيات للنبي A لأنه يخبرهم بما يسرون ليلاً. قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: دعهم قال الضحاك: المعنى لا تخبرهم بأسمائهم. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فوض أمرك إليه، {وكفى بالله وَكِيلاً}، أي: حسبك ناصراً على عدوك. قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} الآية. [المعنى]: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ} المبيتون غير ما تقول {القرآن} فيعلمون حجة الله عليهم، وأنك أتيتهم بالحق من عند الله متسق المعاني مختلف الأحكام بعضه يشهد على بعض بالتحقيق وأن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، فليس من كلام آدمي إلا وفيه اختلاف، إما في

83

وصفه، وإما في معناه، وإما في بلاغته، وإما في غير ذلك، من أنواع فنونه، والقرآن لا يدخله شيء من ذلك كله. وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} معناه على قولكم ودعواكم إذ ليس يجوز أن يأتي من عند غير الله مثله، ومعنى {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} ألا ينظرون في عاقبته، يقال: " تدبرت الشيء فكرت في عاقبته ". قوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} الآية. هذا خبر من الله D هؤلاء المنافقين الذين يبيتون غير ما يقول القرآن إذا جاءهم [خبر] من سرية غزت للمسلمين أنهم آمنون من عندهم، (أو) أنهم خائفون: صحيح أو غير صحيح، لم يتوقفوا حتى يصح، ويثبت، وأفشوه في الناس. وقوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} أي: أفشوا (ونشروا) وأسمعوا به، وأعلنوه كان خيراً

أو شراً فبثوه في الناس قبل رسول الله A. وقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ} أي: ولو ردوا الأمر الذي جاءهم إلى الرسول A حتى يكون هو الذي يخبر الناس به إن كان صحيحاً، ويسكت عنه إن كان سقيماً {وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} أي: ليعلموا صحته وسقمه فيخبرون الناس بالصحيح. والهاء في {بِهِ} وفي {لَعَلِمَهُ} و {يَسْتَنْبِطُونَهُ} للأمر، وقيل: للخوف، وقيل: عليهما جميعاً، واكتفى بالتوحيد عن التثنية. ومعنى: {يَسْتَنْبِطُونَهُ} أي: يبحثون عن صحته، ويستخرجونه. والهاء والميم في " منهم " تعود على أولي الأمر أي: ليعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه أي: يبحث عن صحته ويستخرجها. يقال: استنبطت الركية: استخرجت ماءها وسمي النبط نبطاً لاستنباط الماء. أي: استخراجهم الماء، والنبط: الماء المستخرج من الأرض. وقيل: إن الذين عنوا بذلك ضعفة المسلمين كانوا يسمعون من المنافقين أخباراً غير صحيحة فيفشونها فعذلهم الله على ذلك، وأمرهم برد ما سمعوا إلى النبي A، وأولي الأمر فيعلمون صحة ما قيل من سقمه، ويعرفون كذبه من صحته

بالاستنباط. وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: لولا نعمته عليكم بأن عافاكم مما ابتُلي بـ هؤلاء المنافقون الذين وصفهم بالتبييت والخلاف {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} وهو خطاب للذين قال لهم {خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ}. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} الآية. هو استثناء من المستنبطين قاله قتادة، وهو قول الزجاج واختياره. وقال ابن عباس هو استثناء من قوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} {إِلاَّ قَلِيلاً} فهو استثناء من الإذاعة، وهو قول الأخفش والكسائي وأبي عبيدة، وأبي حاتم [وأبي عبيد] وجماعة من النحويين، وهو اختيار الطبري.

84

وقال الضحاك: هو استثناء من {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} وهم أصحاب النبي A، الذي لم يهموا باتباع الشيطان كما هم الذين استنقدهم الله. ومعنى {أَذَاعُواْ بِهِ} وأذاعواه سواء، قاله الكسائي. قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} الآية. المعنى: جاهد يا محمد أعداء الله {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي: لا يلزمك إلا أن تقاتل بنفسك {وَحَرِّضِ المؤمنين} أي: حضهم على القتال معك، وأعلمهم ثواب الله في الآخرة للشهداء، {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} أي: يكف قتاهم، وعسى من الله واجبة، {والله أَشَدُّ بَأْساً} أي: نكاية في الكفار {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي: عقوبة، وهذه الفاء في {فَقَاتِلْ} متعلقة بقوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} {فَقَاتِلْ} أي: من أجل هذا فقاتل. وقيل: هي متعلقة بقوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 75] وإنما أمره تعالى بالقتل وحده لأنه وعده بالنصر، ولما أمره الله D بالقتل بنفسه لبس يوم أحد

85

درعيم، وركب فرسه وأسكب نبله، فلما نزعه انكسرت بينية القوس من قوته، فأكب نبله، وجعل يناول سعداً سهماً ويقول: ارم فداك أبي وأمي، ولم يقلها لأحد قبله، ولا بعده، فهو من فضائل سعد، ثم أخذ النبي A رمحاً صغيراً أعطاه له قتادة ابن النعمان، فيه قتل أُبي بن خلف الجمحي. قوله: {مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} الآية. المعنى: من يشفع لأخيه شفاعة حسنة يكن له نصيب منها في الآخرة، أي: حظ {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} أي: إثم منها في الآخرة. وقال مجاهد: هو شفاعة الناس بعضهم لبعض، وقاله الحسن وابن زيد وغيرهم.

وقال الطبري: " المعنى: من يشفع وتراً لأصحابك يا محمد في جهاد عدوهم يكن له نصيب منها: حظاً في الآخرة، ومن يشفع وتراً لكافرين يكن له كفل منها أي: وزر وإثم في الآخرة. وإنما اختار ذلك لأنه في سياق الآية التي حض الله D النبي A على القتال فيهت، وحضه على أن يحرض المؤمنين على القتال معه، فصارت هذه الآية وعداً لمن أجاب تحريض رسول الله A على القتال، وكان ذلك أشبه عنده من شفاعة الناس بعضهم لبعض إذ لم يجر له ذكر قبل ولا بعد. والكفل والنصيب عند أهل اللغة سواء، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 27] أي: نصيبين، والنصيب قد يكون خيراً أو شراً. وقال الحسن: الشفاعة الحسنة ما يجوز في الذين، والشفاعة السيئة ما لا يجوز في الدين. وقال الحسن: من يشفع شفاعة حسنة كان له أجرها وإن لم يُشَفَّع. وروي أن قوله: {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} نزل في اليهود كانوا يدعون على المؤمنين في الغيبة بالهلاك، ويقولون لهم في الحضور: السام عليكم، وهو دعاء أيضاً، ثم اتْبع ذلك بقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} وهو: السلام. والمقيت: الحفيظ عند ابن عباس.

86

وقيل: الشهيد، قاله مجاهد. وقال السدي: المقيت: القدير وهو اختيار الطبري. وقال الكسائي: مقيتاً مقتدراً. وقال أبو عبيدة: المقيت: الحافظ المحيط. وقال ابن جريج: المقيت القائم على كل شيء رواه عن ابن كثير. وقال بعضهم: وَذيِ ضَغَنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عنه ... وَكُنْتُ على مُسَاءَتِه مَقِيتاً قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} الآية

المعنى: إذا دعي لأحدكم بطول الحياة والبقاء والسلامة فردوا ذلك بأحسن منه، أو ردوا التحية. وقيل: المعنى: إذا قيل لكم السلام عليكم، فقولوا السلام عليكم ورحمة الله، فهذا خير من التحية، أو يردها فيقول: السلام عليكم، كما قيل له، قال ذلك السدي، وروي عن ابن عمر أنه يرد: وعليكم السلام. وقال ابن عباس: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} على أهل الإسلام أو ردوها على أهل الكفر، وقال: من سلم عليك من خلق الله فأردده عليه، وإن كان مجوسياً، وقال ذلك قتادة. وقال ابن زيد: قال أبي: " حق على كل مسلم (حُيَّيَ) بتحية أن يُحَيِّيَ

بأحسن منها " للمسلمين {أَوْ رُدُّوهَآ} على الكفار. وروي عن ابن عباس: {أَوْ رُدُّوهَآ} يقول: وعليكم: على الكفار. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ". واختار الطبري أن يكون المعنى للمسليمن، يرد عليهم أحسن من تحيتهم بزيادة الرحمة والبركة، أو يرد عليهم تحيتهم بعينها بغير زيادة، ويكون الرد على أهل الكتاب معمولاً به بقوله النبي A ولا يزاد على ذلك. فقول النبي A: قولوا لهم: وعليكم يظن على أن يقال لهم مثل ما قتالوا، فيجب أن تكون الآية كلها في المسلمين وبين النبي A أنه لا يجوز أن يبدأوا بالسلام، والسلام عند الجماعة تطوع والرد فريضة، وقال مالك في معنى الآية: إن ذلك على المشمت في

87

العطاس. وقال: مجاهد الحسيب: الحفيظ. وقال أبو عبيدة: كافياً. وقيل معنى حسيب: محاسب كما يقال: أكيل بمعنى: مواكل. والحسيب عند أهل اللغة الكافي. يقال حسبه إذا كفاه، ومنه {عَطَآءً حِسَاباً} [النبأ: 36] أي: كافياً: ومنه {حَسْبُكَ الله} [الأنفال: 64] أي: يكفيك الله. قوله تعالى: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ}. (معنى الآية) أنه تخويف وتحقيق للبعث والحشر وأن ذلك لا ريب فيه أي لا شك فيه {يَوْمِ القيامة} يوم القيام لرب العالمين، والهاء زيدت للمبالغة، وقيل: سميت بذلك لأنه يوم يقوم الناس من قبورهم فيه، والهاء للمبالغة أيضاً. ومعنى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي: لا أحد أصدق حديثاً من الله.

88

قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} الآية. هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله A يوم أحد، رجعوا إلى المدينة، وقالوا لأصحاب النبي عليه السلام: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] فكان أصحاب رسول الله A فيهم فرقتين فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فنزلت: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} أي: فرقتين {والله أَرْكَسَهُمْ} أي: ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم، وذلك بما كسبوا من خلاف رسول الله A. وقال مجاهد وغيره: نزلت في قوم أتوا مكة: زعموا أنهم مهاجرون، ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا رسول الله A أن يخرجوا إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم، فاختلف فيهم أصحاب النبي A ففرقة تقول: إنهم منافقون، وفرقة تقول: هم مؤمنون، فأنزل الله الآية. وقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة مسلمين فأقاموا ما شاء الله، ثم استوخموا المدينة، فسألوا النبي A أن يخرجوا إلى البادية، فأذن لهم، فتكلم الناس فيهم،

واختلفوا في نفاقهم وإيمانهم فأعلمهم الله بنفاقهم وأعلمهم أنه أركسهم بما كسبوا من المعاصي: أركسهم في النفاق بذنوبهم. وقيل: {أَرْكَسَهُمْ} معناه أضلهم. ثم قال مخبراً عنهم {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} فدل على أنهم ارتدوا، وأن النفاق كفر، وقوله تعالى {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} يدل على أنهم قوم كانوا بمكة يَدَّعون الإيمان، وليسوا بمؤمنين وهو قول ابن عباس وعمر وغيرهما. وقيل: إنهم لما خرجوا يريدون البادية مضوا إلى مكة فاختلف أصحاب النبي A في أمرهم، فأوضح الله D خبرهم، وحكمهم في هذه الآية. وقال معمر: كتب ناس من أهل مكة إلى أصحاب رسول الله A يقولون لهم: إنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذباً، فلقيهم المسلمون بعد ذلك، فاختلفوا فيهم، فقالت طائفة: دماؤهم حلال، وقالت طائفة: دماؤهم حرام فأنزل الله الآية، وهم ناس لم يهاجروا وأقاموا بمكة، وأعلنوا الإيمان فاختلف فيهم أصحاب النبي A.

89

وقال ابن عباد: هم قوم كانوا بمكة فكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين على المسلمين فخرجوا من مكة في حاجة، فاختلف فيهم أصحاب النبي A فنزلت الآية. وقال ابن زيد: هذا نزل في شأن ابن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم به. وأركسهم: ردهم، وقيل: أوقعهم وقيل: أضلهم وأهلكهم. وقال القتبي: أركسهم نكسهم وردهم في كفرهم،، وحكى الفراء أركسهم وركسهم بمعنى ردهم إلى الكفر. قوله: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} الآية. هذا تبعيد لهدي من أضل الله {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي: طريقاً مستقيماً، وقيل: سبيلاً إلى الحجة. قولهم: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} الآية. المعنى: تمنى المنافقون الذين بمكة، الذين اختلفتم فيهم فرقتين لو تكفرون مثلهم، فتكونون أنتم وهم في الكفر سواء {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} أي: أخلاء {حتى يُهَاجِرُواْ} أي: يخرجوا من ديار الشرك إلى ديار الإسلام، ويكون خروجهم ابتغاء وجه الله {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ} أي: أدبروا عن الله ورسوله والهجرة إليكم، {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي: أين اصبتموهم من أرض الله، {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ}:

90

أي: خليلاً {وَلاَ نَصِيراً} أي: تناصراً في دينكم على أعدائكم فإنهم {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} الآية. المعنى اقتلوا من وجدتم من المنافقين الذين اختلفتم فيهم إن لم يهاجروا إلا أن يتصل قوم منهم بمن بينكم وبينهم عهد فيدخلون فيما دخلوا فيه، ويرضون بما رضوا، فلا يقتل من كانت هذه حاله منهم فإن لهم حكمهم. قال السدي: المعنى إذا أظهروا كفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلا أن يكون أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثلما تجرون على القوم واحكموا في الجميع بحكم واحد. ومعنى: {يَصِلُونَ} يتصلون. وقال أبو عبيدة: معنى: {يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ}: ينتسبون إليهم. وهو بعيد، لأن النبي A قد قاتل من ينتسب إلى من بينهم وبينه عهد، وليس النسب مما يمنع قتال الكفار لعهد بيننا وبين قرابتهم.

وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال قتادة: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ [مِّيثَاقٌ]} نسخ بعد ذلك، فنبذ إلى كل ذي عهد عهده، ثم أمرنا بالقتال في براءة. وقال ابن زيد: نسخها الجهاد. قوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} الآية. المعنى: إلا الذين جاؤوكم قد ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، فدخلوا فيكم، فلا تقتلوهم، {وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} أي: لسلط عليكم هؤلاء الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، والذين يجيئونكم قد {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي: ضاقت عن قتالكم، وقتال قومهم، فيقاتلوكم مع اعدائكم من المشركين، ولكن الله كفهم عنكم. وقوله: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} ليست اللام بجواب للقسم [كاللام في {لَسَلَّطَهُمْ}، وإنما دخلت للمجاءاة لا للقسم]، ومثله قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21]. ليست اللام

بجواب للقسم وإنما دخلت للمحاذاة للامين اللتين قبلها، اللتين هما جواب قسم سليمان في قوله {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ} [النمل: 21] ولهذا نظائر ستراها. قوله: {فَإِنِ اعتزلوكم} أي: اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم فلم يقاتلوكم {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم}. أي: صالحوكم، وقيل المعنى: استسلموا إليكم. {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي: ليس لكم إليهم طريق فتستحلونهم بما في أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وهذا كله منسوخ بقوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]. وقال الحسن وعكرمة: قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ} إلى قوله {سُلْطَاناً مُّبِيناً} [النساء: 91] وقوله: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين} [الممتحنة: 8] إلى {يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8] قالا: بنسخ ذلك في براءة فجعل لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر.

قال قتادة: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} إلى {مُّبِيناً} منسوخ ببراءة، وقال ابن زيد: نسخ هذا كله، نسخة الجهاد وضرب لهم أجل أربعة أشهر إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد. واختلف في {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، فقال المبرد المعنى: الدعاء، لأنه قال: {أَوْ جَآءُوكُمْ} أحصر الله صدوركم أي: ضيقها عن قتالكم، وقتال قومهم. وقال الزجاج: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، فالمعنى أو جاءكم ثم خبر بعد فقال: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}، وأكثر النحويين على أنه حال، وقد مضمرة والتقدير: أو جاؤوكم قد حصرت أي: ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. أي: جاؤوكم في هذه الحال فلا تقاتلوهم. وقال الطبري: المعنى: أو جاؤوكم قد حصرت.

91

وقرأ الحسن حصرةً بالتنوين والنصب على الحال أي: ضيقت صدورهم، واستحسن هذا المبرد، ويجوز على قراءة الحسن الخفض على النعت، والرفع على الابتداء. وقرأ أبي بن كعب: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}، وحصرت صدورهم بإسقاط أو {جَآءُوكُمْ}، ولا يقرأ به الآن. قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} الآية. المعنى: إن هؤلاء قوم كانوا يظهرون الإسلام للنبي A وأصحابه ليأمنوا منهم، ويظهرون الكفر لأهل مكة إذا رجعوا إليهم ليأمنوهم، {كُلَّ مَا ردوا} أن يخرجوا من {الفتنة} - وهي الشرك - {أُرْكِسُواْ فِيِهَا}. أي: ردوا فيها. وأصل الفتنة الاختبار فالمعنى فلما ردوا إلى الاختبار. {أُرْكِسُواْ} أي: نكسوا. قيل: هم أسد، وغطفان قدموا على النبي A، فأسلموا، ثم رجعوا إلى

92

ديارهم، فأظهروا الكفر. وقيل: نزلت في قوم من المشركين [طلبوا الأمان من رسول الله A ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين] قاله قتادة. وقال: {كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا} أي: كلما عرض عليهم بلاء هلكوا فيه. وقال السدي: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي كان يأمن في المسلمين والمشركين. قوله: {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم} أي: فإن لم يعتزلكم هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ويساسلموا [إليكم] ويعطونكم القيادة في الصلح {ويكفوا أَيْدِيَهُمْ} يعني عن القتال. {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي: اقتلوهم أين أصبتموهم أي: إن لم يفعلوا ذلك {وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي: حجة {مُّبِيناً} أي: ظاهرة. قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية.

قوله: {إِلاَّ خَطَئاً} استثناء ليس من الأول. وإلا عند البصريين في هذا النوع بمعنى لكن. وهذا كلام أوله حظر، وآخره في الظاهر إباحة، وقتل المؤمن لا يباح لكنه محمول على المعنى الباطن، ومعناه ما كان مؤمن ليقتل مؤمناً على النفي، والنفي يستثنى منه الإثبات، فهو محمول على معنى الأول وباطنه، فالمعنى أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ فهو خبر، خبر بأنه قد يقع، وليس بإطلاق ولا إباحة قتل، ومثله {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] فظاهر هذا الحظر، والله لا يحظر عليه. ومعنى الآية: أنه ليس لمؤمن قتل مؤمن البتة إلا أن يقتله خطأ، فإن قتله خطأ، فعليه تحرير رقبة في ماله، ودية مسلمة إلى أهل المقتول يؤديها عاقلة القاتل {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي: أن يتصدق أولياء المقتول على عاقلة القاتل بديته فيسقط عنهم الدية. وقرأ أبو عبد الرحمان السلمي:

{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} بالتاء أراد: تتصدقوا ثم أدغم. قال مجاهد وغيره: هذه الآية نزلت في عيا [ش] ابن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً يحسب أنه كافر، وقد كان ذلك الرجل يعذب عياشاً بمكة، أخبر عياش النبي A فنزلت: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً}. قال ابن زيد: نزلت في أبي عامر، والد أبي الدرداء خرج في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، فوجد رجلاً في غنم، فقتله، وكان يقول: لا إله لا الله، وأخذ غنمه فوجد من ذلك في نفسه، فذكر ذلك للنبي A فأنكر عليه النبي (عليه السلام) قتله، إذ قال: لا إله إلا الله فنزلت الآية: وقيل: نزلت في اليمان والد حذيفة،

واسمه حسل من بني عبس قتل خطأ يوم أحد. وروي أن حذيفة وأبا الدرداء تصدقا بدية أبويهما على من قتلهما، وكذلك قتل هشام بن صبابة الكناني خطأ فنزلت الآية في ذلك. والآية عند جماعة العلماء عامة في كل من قتل خطأ واختلف في الرقبة، فقيل: لا يُعْتَق إلا مؤمن قد صام وصلى وعقل وبلغ، وقيل: كل مؤمن يجزئ وإن لم يبلغ. ومعنى {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} أي موفرة، والدية مائة من الإبل على أهل الإبل. وروي عن عمر أن على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشرة آلاف درهم.

قال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثني عشر ألف درهم. وقيل: دية الحر مائة من الإبل لا يجزئ غيرها، وبه قال الشافعي، قال إلا ألا توجد فيُأخذ الفدية، ويجعل [الإبل] خمسة أخماس خمس جذاع وخمس حقاق وخمس بنات لبون. وخمس بنات مخاض وخمس بنو لبون، وهو قول لمالك والشافعي وغيرهما. ودية المرأة نصف دية الرجل، وهو قول جماعة الصحابة والتابعين، والفقهاء، إلا الشاذ منهم.

وأهل الذهب: الشام ومصر، وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي. وكل ما جناه جان خطأ فعلى عاقلته الدية، إلى أن يكون الذي يجب في ذلك أقل من ثلث الدية، فليس على العاقلة شيء، وذلك في مال الجاني، وتؤجل دية الخطأ في ثلاث سنين، وثلث الدية تؤديها العاقلة في سنة، ونصف الدية يجتهد فيها الإمام، فيجعلها في سنتين أو في ستة ونصف وثلاثة أرباع الدية في ثلاث سنين، وهي على الرجال البالغين دون النساء والصبيان، وليس على كل واحد شيء معلوم ولكن على كل واحد قدر يسره، فأما دية العمد فهي على القاتل خاصة إذا قبلت منه. وقوله: {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: فإن كان المقتول خطأ من قوم كفار أعداء لكم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: والمقتول مؤمن فقتله مؤمن يظن أنه كافر {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي: فعليه ذلك. قال عكرمة: هو الرجل يسلم في دار الحرب، فيقتل يظن أنه كافر، فليس فيه دية، وفيه الكفارة: تحرير رقبة مؤمنة. وروي ابن القاسم عن مالك أنه قال: إنما ذلك في حرب رسول الله عليه السلام أهل مكة، يكون فيهم الرجل المؤمن لم يهاجر، وأقام معهم فيصيبه المسلمون خطأ، فليس على المسلمين فيه دية لأنه تعالى (يقول): {والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ

أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72]، وعليهم الكفارة تحرير رقبة على كل نفس. وقال ابن عباس والسدي وغيرهما: هو أن يكون الرجل مؤمناً، وقومه كفار لا عهد لهم، فيقتل خطأ، فليس لأهله دية لأنهم كفار، وعلى القاتل الكفارة تحرير رقبة، وقاله قتادة. وقال الحسن البصري، وجابر بن زيد: هو مؤمن من قوم معاهدين، وهو قول مالك. وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه، فيقيم فيهم، وهم مشركون، فيمر بهم الجيش لرسول الله A، فيقتل فيمن قتل فلا دية فيه، وفيه الكفارة. وجماعة أهل التفسير على أن المعنى إن كان المقتول في دار الحرب مؤمناً، وهو من قوم كفار وهو بينهم فلا دية فيه وفيه الكفارة. قوله: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}. المعنى: وإن كان المقتول خطأ بين أظهرهم من قوم كفار بينكم وبينهم عهد، ففيه الدية إلى أهله، والكفارة تحرير رقبة مؤمنة. وقيل: المعنى: إن كان المقتول خطأ في دار قومه من قوم كفار بينكم وبينهم عهد

ففيه الدية والكفارة [كسائر المؤمنين، واختلف في المقتول هنا: فقيل عن ابن عباس أنه إن كان كافراً، ففيه الدية والكفارة] كالمؤمن لأن له عهداً وميثاقاً. وقال الزهري: دية الذمي دية المسلم. وقيل: المراد به إن كان المقتول مؤمناً قتل خطأ، وهو من قوم كفار بينكم وبينهم عهد ففيه الدية إلى قومه الكفار، وفيه تحرير الرقبة المؤمنة قاله النخعي ومثله روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: ذلك في الهدنة التي كانت بين النبي A، وبين المشركين أنه إن أصيب مسلم كان بين أظهركم لم يهاجر وأصيب خطأ فإن ديته على المسلمين يردونها إلى قومه الذين كان بين أظهركم الكفار، ومما يبين ذلك أن أبا جندل ورجل آخر أتيا النبي A مسلمين في الهدنة، فردهما إليهم فكما كان لهم أن يردوا

إليهم، فكذلك كانت ديته لهم إذا قتل خطأ، ودية الخطأ عند مالك والشافعي في هذا تؤدى في ثلاث سنين على كل رجل ربع دينار، وروي ذلك عن جابر بن عبد الله، وقاله الحسن. وكان الطبري يختار أن يكون المقتول من أهل الذمة لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل: " وهو مؤمن " كما قال في الأول {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وقد قال جماعة: إن دية الذمي والمسلم سواء، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود ومعاوية. وقال عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير: دية الكتابي نصف دية المسلم، وبه قال عطاء وابن المسيب والحكم وعكرمة، وهو قول الشافعي.

فأما دية المجوسي فثمان مائة درهم روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال ابن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار، والحسن وعكرمة ومالك والشافعي. وقال عمر بن عبد العزيز: دية المجوسي نصف دية المسلم. وروى عن النخعي والشعبي والثوري أن ديته مثل دية المسلم.

وإذا قَتَل العبد المؤمن حراً مؤمناً خطأ، فدمه في رقة العبد وأن لا دية فيه لأن العبد لا عاقلة له وعلى العبد الكفارة، فعتق رقبة على قول من قال: إن العبد يملك ما لم يمنعه سيده، ومن قال: لا يملك العبد، فعليه صيام شهرين متتابعين، وكذلك حكمه في الظهار لا يجزئه الصيام في قول مالك لأنه عنده يملك. قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} أي: لم يجد رقبة مؤمنة لعسرته، وقلة ما في يده، فعليه صيام شهرين متتابعين. وقال الشعبي: صوم الشهرين عن الدية والرقبة جميعاً إذا لو يجدها لفقره، وفقر عاقلته. وقال الطبري: عن الرقبة خاصة لأن الدية على العاقلة، وهو قول جماعة العلماء. قوله: {تَوْبَةً مِّنَ الله} مصدر، وقيل مفعول من أجله. {وَكَانَ الله} أي: لم يزل بما يصلح عباده {حَكِيماً} " فيما يقضي به ويأمر ". تم الجزء الحادي عشر قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} الآية.

93

قيل: معناه: من لم يجد الدية، ولا الرقبة، فليصم شهرين متتابعين. وقيل: معناه: من لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين، وهذا القول أولى لأن الدية لم تجب على القاتل خطأ فيكون الصيام يقوم مقامها، وإنما وجبت الدية في الخطأ على العاقلة، فلا يجزئ عنها صوم القاتل. قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية. وروى أبو هريرة: أن النبي A قال: " والله للدنيا وما فيها أهون على الله من قتل مسلم بغير حق ". وروى عنه أيضاً أنه قال: " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب على جبهته: آيس من رحمة الله " وعنه A أنه قال: " كل ذنب عسى [الله] أن يغفره إلا لمن مات مشركاً، أو من قتل مؤمناً متعمداً " المعنى: من يتعمد قتل مؤمن فجزاؤه جهنم.

وقتل العمد عند مالك سواء كان بحجر أو عصا أو حديدة فيه القود. وقال غيره: لا يكون قتل العمد إلا بحديد، وأثبت جماعة شبه العكد وهو قول الشافعي، وهو الضرب بالخشبة الضخمة والحجر، فجعلوا فيه ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة وأربعين خليفة. وليس عند أكثرهم في القتل غير الخطأ أو العمد، فأما شبه العمد فليس له نص في كتاب الله، ولا تواترت به الأخبار عن النبي A. .. مذهب مالك: ومن أحرق رجلاً قتل به، وهو عمد، ولو أطعمه شيئاً فقتله، وقال: لم أرد قتله إنما أردت أن أسكره، فقال مالك: يقتل، ولا يقبل منه،

وهو عمد. ومن قتل رجلاً بخنق فهو عمد، وقال محمد بن الحسن: إذا خنقه، وألقاه من ظهر جبل أو سلم (فمات) فهو خطأ. وإذا أمسكه واحد وقتله الآخر قتلا به جميعاً عند مالك، إلا أن يكون الممسك أمسكه وهو لا يظن أن الآخر يقتله، فيعاقب ولا يقتل الممسك، وإذا أمر الرجل عبده بقتل رجل فقتله العبد فيقتلان جميعاً عند مالك، وهو قول قتادة. وروي عن علي Bهـ أنه قال: أما العبد فيسجن، وأما السيد فيقتل. وقال أبو هريرة: يقتل الآمر دون العبد وكذلك قال الحسن وعكرمة، وقال الشعبي يقتل العبد ويضرب السيد. وقال الشافعي: إن كان العبد أعجمياً، أو صبياً فعلى السيد القود دون العبد، وإن كان يعقل ويفهم، فعلى العبد القود، وعلى السيد العقوبة. فإن أمره رجل بقتل آخر، فقتله فعلى القاتل القود عند مالك، والشافعي، وجماعة من التابعين. وقوله: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خالدا فِيهَا} معناه: فجزاؤه إن جازاه، قاله التميمي

وغيره، ورواه ابن جبير عن ابن عباس. وهو كما يقول الرجل لعبد قد جنى عليه: ما جزاؤك إلا كذا وكذا، وهو لا يفعل به ذلك، فمعناه هذا جزاؤك إن جوزيت على ذنبك، كذلك الآية، معناها: فجزاؤه إن جوزي على فعله جهنم، والله أكرم الأكرمين، له العفو وله العقوبة بفعل ما يشاء لا معقب لحكمه. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] يدل على جواز العفو على القاتل عمداً. وقيل: إنها نزلت في رجل بعينه أسلم، ثم ارتد، وقتل رجلاً مؤمناً، فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً مستحلاً قتله فجزاؤه جهنم، فالكافر يقتل المؤمن مستحلاً وليس كذلك المؤمن، بل إن قتل فإنما يقتل وهو يعلم أن قتله حرام. وقيل: نزلت في رجل من الأنصار قُتِل ولي له. وقبل الدية، ثم وثب على قاتل وليه فقتله وارتد، قال ذلك ابن جريج وغيره. وقال مجاهد: إلا من تاب يعني ان العفو من الله جائز للقاتل عمداً إذا

تاب، وهو قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجماعة من العلماء. وعن ابن عباس أنه لا توبة له، وأنها محكمة لم تنسخ. وقال زيد بن ثابت: نزلت {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية بعد أن نزلت {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية بأربعة أشهر. وقال ابن عباس: هذه الآية التي في النساء مدنية نسخت التي في الفرقان {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] لأنها مكية. وعن ابن عمر وزيد بن ثابت: إن للقاتل توبة وهو قول جماعة من العلماء لقوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ} [طه: 80] وقوله: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 23]. وروي عن ابن عباس أنه قال: التي في الفرقان نزلت في

94

أهل الشرك. وعن زيد بن ثابت أنه قال: نزلت سورة النساء بعد الفرقان بستة أشهر. وكان الطبري يقول: جزاؤه جهنم حقاً، ولكن الله يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيه بالخلود فيها إما أن يعفو، فلا يدخلهم النار، وإما أن يدخلهم، ثم يخرجهم بفضل رحمته لقوله {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 30]. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} الآية. من قرأ بالتاء، فمعناه: فتثبتوا حتى يتبين لكم الفاسق من غيره، والمأمور بالتثبت في فسحة أوسع من المأمور بالتبيين، لأن المأمور بالتبيين قد لا يعذر على ذلك، والمأمور بالتثبت لا شك أنه يقدر على ذلك، فهو في فسحة من أمره، ومقدرة على فعل ما أمر به، وليس كذلك المأمور بالتبين لأنه قد لا يتبين له ما يريد إذا تبين، والتثبت لا يمنع عليه من نفسه. ومن قرأ بالياء فمعناه: تبينوا الفاسق من غيره، ولا تعجلوا حتى تتبينوا، فإن العجلة من الشيطان. وقال أبو عبيدة: إحداهما قريبة من (الأخرى).

وقال النحاس وغيره: فتبينوا أؤكد لأن الإنسان قد يتثبت ولا يتبين. وهو لا يتبين إلا مع التثبت، ففي البيان يقع التثبت وليس بالتثبت يقع البيان. [فالبيان] لا بد منه فكل من تبين أمراً فبعد أن يتثبت فيه بان له، وليس كل من تثبت في أمر تبينه، فالبيان على هذا أوكد وأعلم، ولكنه أشد كلفة في التثبت. ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين إذا ضربوا في الأرض أي: ساروا في الجهاد أن يتثبتوا في القتل، إذا أشكل عليهم الأمر، فلم يعرفوا حقيقة إسلام من أرادوا قتله، وأن لا يقولوا لمن ألقى إليهم السلم، أي: من استسلم في أيديهم {لَسْتَ مُؤْمِناً} ليأخذوا ما معه. ومن قرأ السلام: فمعناه لا تقولوا لمن سلم عليكم {لَسْتَ مُؤْمِناً} لتأخذوا ما معه، فعند الله مغانم كثيرة من رزقه، فلا يغرنكم سَلَب من استسلم في أيديكم. {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} أي: كنتم من قبل مثل هذا الذي قتلتموه، وأخذتم ماله استخفى بدينه من قومه حذراً على نفسه منهم، وكذلك كنتم. وقيل: معناه، وكذلك كنتم كفاراً مثله، فهداكم الله وأعز دينكم، ومَنَّ عليكم

بالإسلام والتوبة. وقيل: معنى: {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} فقد مَنَّ الله عليكم بالتوبة من قتيلكم هذا الذي استسلم إليكم، ثم قتلتموه وأخذتم ماله، فتثبتوا أي: لا تعجلوا في قتل من التبس عليكم أمر إسلامه. وقرأ أبو رجاء: السِلْم بكسر السين. وقرأ أبو جعفر: (لست مؤمَناً) بفتح الميم أي: لسنا نؤمنك. وهذه الآية نزلت في قتيل من غطفان اسمه مرداس كان قد أسلم، فقتلته سرية لرسول الله A بعد أن قال: إني مسلم، وقيل: بعدما سلم عليهم. وقيل: بعدما قال: إني مسلم لا إله إلا الله، وكانت معه غنيمة فأخذوها. ويروى أن الذي قتله مات ودفن، فلفظته الأرض ثلاث مرات، يدفن وتلفظه الأرض فأمرهم النبي A أن يلقوه في غار من الغيران، وقال A: " إن الأرض تقبل من هو شر منه، ولكن الله جعله لكم عبرة ".

95

وقراءة من قرأ السلام يدل على أن ما روي أنه كان رجل معه غنيمة لقيه سرية من المسلمين، فقال: السلام عليكم، وكانت جُنَّة لا يقتل من قالها، فقتل الرجل وأخذ ما معه. وحجة من قرأ السلام ما روي أنه قال لهم: إني مسلم وما روي أنه قال: إني مسلم لا إله إلا الله. قوله: {[إِنَّ الله] كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: خبيراً بما تصنعون في طلبكم الغنيمة، ولم تقبلوا منه ما قال لكم. قوله: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} الآية. من قرأ: غيرَ بالنصب فعلى الاستثناء بمعنى [إلا] أولي الضرر، فإنهم يستوون مع المجاهدين، ويجوز النصب على الحال بمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم. ومن رفع على النعت للقاعدين بمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء عن

الجهاد يوم بدر والمجاهدون. وقدره أبو إسحاق: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون} الذين هم {غَيْرُ أُوْلِي الضرر}، وهو بمعنى [الصفة] التي ذكرنا وقرأه أبو حيوة غيرِ مخفوض على النعت للمؤمنين. وقال المبرد: هو بدل لأنه نكرة والأول معرفة. {دَرَجَةً} نصب على البدل من قوله {أَجْراً}. وقيل: إن فيه معنى التأكيد كما تقول علي ألف درهم عرفاً. ومعنى الآية: لا يعتدل من جاهد في ذات الله، ومن قعد عن ذلك، إلا أن يكون القاعدون من أولي الضرر، فإنه يستوي مع المجاهد. هذا على قراءة النصب، والنصب في الآية أحسن لما روى البراء Bهـ أن رسول الله A قال: " " إيتوني بكتف أو لوح فكتب " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " وعمر بن أم مكتوم خلف

ظهره فقال: هل لي من رخصة يا رسول الله؟ فنزلت {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} " على الاستثناء. وقال زيد بن ثابت: املى علي رسول الله A. { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله}. قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، قال: فأنزل الله عليه، وفخذه على فخذه، فثقلت حتى خشيت أن تسترض فخده [ثم] سرى عنه فقال: {غَيْرُ أُوْلِي الضرر}. وهذا في غزاة بدر، وقد قال ذلك عطاء وقتادة والسدي والزهري ذكروا أن الاستثناء نزل في ابن أم مكتوم. قوله: {فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً}، أي: فضيلة يريد القاعدين من أولى الضرر، فضل الله المجاهدين على القاعد للضرر درجة واحدة لجهاده بنفسه وماله {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي: المجاهد والقاعد من أولي الضرر، وعدهم الله الحسنى، وهي الجنة لأنهم كلهم مؤمنون. وذكر الأموال في هذا الموضع، وتفضيل الذين ينفقونها في سبيل الله يدل على تفضيل الغنى على الفقر، وهو في القرآن كثير، فلا يستوي في الفضل من أعطاه الله

مالاً، فأنفقه في سبيله، ومن لم يعطه الله مالاً، فود لو كان معه مال فأنفقه في سبيل الله، لا يستوي [من نوى] ففعل، مع من نوى ولم يفعل، فقد أنفق عثمان Bهـ على جيش العسرة وبان بفضل ذلك، وود أصحابه أن يقدروا على مثل فعله. وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان Bهم أيسر من كثير من أصحاب رسول الله A. وأجمع المسلمون أنهم أفضل ممن هو أفقر منهم في ذلك الوقت من الصحابة. وحديث النبي A " إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل اغنيائهم بنصف يوم من أيام الآخرة " معناه الفقراء من أصحاب النبي A يدخلون الجنة قبل الأغنياء من غير أصحاب محمد A لفضل الصحابة لا للفقر. ويدل على ذلك ما " روي عن رسول الله A أنه سئل: من أول الناس وروداً الحوض؟ فقال: " نفر من المهاجرين الشعثة رؤوسهم الدنسة ثيابهم، الذين لا

تفتح لهم السدود، ولا ينكحون المتنعمات " ". قوله: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً} يعني: على القاعدين من المؤمنين من غير أولي الضرر. وقوله: و " درجات منه " أي فضائل منه، ومنازل من منازل الكرامة. وقال قتادة: الدرجات كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الإسلام درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال [ابن] زيد: الدرجات التي فضل بها المجاهد على القاعد تسع، وهي التي ذكرها الله D في براءة، قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [التوبة: 120]. فذلك خمسة، والسادسة والسابعة قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121]. وقيل الدرجات: سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد

97

المضمر سبعين سنة. قوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} الآية. المعنى: إن الذين تقبض الملائكة أرواحهم ظالمين أنفسهم أي مكتسبين غضب الله D وسخطه {قَالُواْ}: أي: قال لهم الملائكة {فِيمَ كُنتُمْ} أي: أي شيء كنتم من دينكم؟ وقيل المعنى: قالت لهم الملائكة: أكنتم في المشركين، أم في أصحاب النبي A؟ فأجابوا الملائكة بأن قالوا: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} في أرضنا بكثرة العدو، وقوته قالت لهم الملائكة، {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} أي: تخرجوا من بين أظهر المشركين إلى أرض الإيمان. {فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم مصيرهم إلى جهنم وهي سكناهم {وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي: ساءت جهنم مصيراً لأهلها. وروي أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا أسلموا والنبي A بمكة، فلما هاجر النبي عليه السلام أقاموا بمكة، فمنهم من ارتد إلى الشرك فتنه أبوه وعشيرته حتى ارتد، ومنهم من بقي على حاله. فلما خرج المشركون لنصرة غيرهم إلى بدر خرجوا مع المشركين، وقالوا إن

كان محمد في كثرة ذهبنا إليه، وإن كان في قلة بقينا في قومنا. فلما التقوا بالنبي A، في بدر نظروه في قلة فبقوا في قومهم فقتلوا، فتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، فاعتذروا بأنهم استضعفوا بمكة، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان} وهو من عجز عن الهجرة، ولا طاقة له بالخروج قد استضعفهم المشركون {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي لا يعرفون طريقاً يخلصهم من المشركين، لا قوة لهم ولا معرفة طريق {فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ [عَنْهُمْ]} أي إن هؤلاء المستضعفين لعل الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون. {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} أي: بعباده قبل أن يخلقهم ومعناه: لم يزل كذلك. وقيل: إن (كان) من الله بمنزلة ما في الحال. فالمعنى والله عفو غفور. وروي أن هاتين الآيتين، والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا، وآمنوا، وتخلفوا عن الهجرة مع النبي A حين هاجر، وعرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المؤمنين، فلم يقبل الله تعالى معذرتهم وقولهم

" كنا مستضعفين في الأرض ". وقال ابن عباس: كان قوم من أهل مكة أسلموا وأخفوا الإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم لقتال المسلمين، فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فأنزل الله D: { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية فكتب المسلمون إلى من بقي بمكة: ألا عذر لهم بهذه الآية، فخرجوا من مكة فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] فكتب بها المسلمون إليهم، فخرجوا، ويئسوا من كل خبر فنزل فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} [النحل: 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك إن الله قد جعل لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل. ومعنى: {المستضعفين مِنَ الرجال} يعني الشيخ الكبير. قال السدي: " لما أسر العباس، وعقيل قال رسول الله A للعباس: " افْدِ

100

نفسك، وابن أخيك " فقال: يا رسول الله، ألم نصل [ل] قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: " يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم "، ثم تلا عليه هذه الآية: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} " فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجروا {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي: لا يعرفون طريقاً إلى المدينة. قال ابن عباس: كنت أنا من الولدان. وروى عنه أنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين. قال السدي: الحلية المال، والسبيل الطريق إلى المدينة. قوله: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. المعنى أن من يفارق أرض الشرك، ويمضي إلى أرض الإسلام فإنه يجد مذهباً، ومسلكاً إلى أرض الإسلام، فالمراغم: المذهب. قال مالك: المراغم الذهاب في الأرض، والسعة سعة البلاد. قال مالك: لا ينبغي المقام في أرض يسب فيها السلف، ويعمل فيها بغير الحق، والله يقول: {يَجِدْ فِي الأرض مراغما كَثِيراً وَسَعَةً}.

وقال الثوري: ومعنى " وسعة " أي: سعة من الرزق. وقال ابن عباس: المراغم: المتجول من أرض إلى أرض. وقال مجاهد: المراغم: المندوحة عما يكره. وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر. وقال أهل اللغة: المراغم: المضطرب والمذهب. قوله: {وَسَعَةً} يريد سعة في الرزق. وقال قتادة: " وسعة " أي " سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن القلة إلى الغنى. والمراغم: مشتق من الرغام وهو التراب، يقال: رغم أنف فلان: إذا ألصق بالتراب، يستعار ذلك لمن ذل وصغر. يقال راغمت فلاناً: إذا عاديته. فسمي المهاجر مراغماً، لأن المهاجر يعادي من يخرج عنه من أهل الكفر. وقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً} الآية. المعنى: إنه لما نزل {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية.

قال ضمرة بن نعيم وكان بمكة عليلاً: لي مال ولي رقيق، ولي خليلة، فاحملوني فخرج، وهو مريض أو هاجر، فأدركه الموت، عند التنعيم فدفن، ثم نزلت فيه {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ}. وقيل: اسم أبيه جندب، وقيل زنباع، وقيل العيص. وقال ابن زيد: هو رجل من بني كنانة هاجر إلى النبي A من مكة، فمات في الطريق، فسخر به قومه واستهزءوا وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه، فأنزل الله {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} الآية. ومعنى: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} قال ابن جبير: هو رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، كان مريضاً فأمر أهله أن يحملوه إلى رسول الله A على سرير ففعلوا، فأتاه الموت بالتنعيم فنزلت فيه الآية وفي من كان مثله. وقيل: نزلت في رجل من كنانة من بني ضمرة مرض بمكة بعد إسلامه،

101

فقال: أخرجوا بي إلى الروح، يريد المدينة، فخرجوا به، فلما كان بالحصاص مات قال عكرمة. وبهذه الآية أوجب العلماء للغازي إذا خرج للغزو ثم مات قبل القتال أن يعطى سهمه، وإن لم يشهد الحرب وذلك مذهب أهل المدينة فيما ذكر يزيد بن [أبي] حبيب، ذكر ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد. قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} الآية.

ذكر بعض أهل المعاني [أن الآية] في قصتين وحكمين. فقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} في الإقصار في السفر، وتم الكلام عند قوله: {مِنَ الصلاة}. ثم ابتدأ قصة أخرى في إباحة صلاة الخوف وصفتها. وقال علي بن أبي طالب Bهـ سأل قوم رسول الله A: فقالوا يا رسول الله: أنضرب الأرض؟ أي: نسير، فأنزل الله D { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول وغزا النبي A فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم هو وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله D { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} - إلى قوله - {عَذَاباً مُّهِيناً} فنزلت صلاة الخوف بكيفيتها. وقال ابن عباس: معنى القصر هنا هو أن يقصروا من ركوعها وسجودها في حال الخوف، ويصلي كيف ما أمكن إلى القبلة وإلى غيرها ماشياً أو راكباً، كما قال: {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] وهو اختيار الطبري، قال: ودليله قوله {فَإِذَا اطمأننتم} وإقامتها إتمام ركوعها وسجودها، وفرائضها من قبلة وغيرها. فقد قال جماعة من التابعين والصحابة منهم: حذيفة وجابر بن عبد الله وابن

جبير، وروى مجاهد عن ابن عباس، وقالوا: فرض الله على المقيم أربعاً، وعلى المسافر ركعتين وفي الخوف الخوف ركعة، قالوا: فقصر الصلاة في الخوف أن تصلي ركعة لأنهم مسافرون، فصلاتهم ركعتان، وقصر الركعيتن لا يكون إلى ركعتين إنما ذلك أن يصلوا ركعة واحدة، وتواترت الأخبار عن عائشة Bها أنه قالت: فرضت الصلاة ركعتين، ثم أتمت صلاة المقيم، وأُقرت صلاة المسافر بحالها. وقرأ أبي بن كعب " أن تقصُروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " بحذف {إِنْ خِفْتُمْ} على معنى كراهة أن يفتنكم. وروي عن عائشة أنها قالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما أتى النبي A المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها إلا صلاة المغرب فإنها وتر، وإلا صلاة الصبح لطول قراءتها، فكان رسول الله A إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى ركعتين. قال ابن عباس: من صلى في السفر أربعاً كمن صلى في الحضر ركعتين.

102

(وقال عمر بن عبد العزيز: صلاة السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرهما)، وروى عن مالك الإعادة على من أتم في السفر. قال ابن القاسم: في الوقت يعيد. وقال أصحاب الرأي: إذا صلى المسافر أربعاً، فقعد في الثانية قدر التشهد فصلاته تامة، وإن لم يقعد قدر التشهد، فصلاته فاسدة وقال الشافعي وأبو ثور: المسافر بالخيار في الإتمام والقصر. قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} الآية. المعنى: وإذا كنت يا محمد في الضاربين في الأرض من أصحابك، وثم خوف من عدو فأقمت لهم الصلاة {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ [مِّنْهُمْ]} معك في الصلاة وباقيهم في وجاه العدو {وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ} أي: ولتأخذ الطائفة المصلية معك أسلحتهم من سيف يتقلد به الرجل، وخنجر يشده إلى وسطه، ودرع يلقيه على نفسه (ونحوه). وقال ابن عباس: الطائفة المأمورة بأخذ السلاح التي وجاه العدو، وليست المصلية، لأن المصلي لا يحارب.

وقال النحاس: " يجوز أن يكون الجميع هو المأمور بأخذ السلام لأن ذلك أهيب للعدو، ويجوز أن يكون المأمور بذلك هو الذي وجاه العدو، لأن الذي في الصلاة لا يقاتل ". قوله: {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي: سجد الذين معك " {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} أي: فلينصرفوا بعد سجودهم خلفكم في موضع الذين لم يصلوا. فمن قال إن صلاة الخوف ركعة قال: ينصرفون بسلام فيقفون بإزاء العدو ولا قضاء عليهم، وتأتي طائفة أخرى فيصلي بهم ركعة ويسلمون بسلام الإمام، ولا قضاء عليهم، وكذلك وصف حذيفة أنه صلى مع النبي A ركعة بكل طائفة، ولم يقضوا شيئاً. وقد روى عن جابر بن عبد الله، وعمر وابن عمر أن الركعتين ليستا بقصر. وروي عن جابر أنه قال: ليست الركعتان في السفر بقصر إنما القصر واحدة عن القتال وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة وحماد في شدة الحرب قالوا: يؤمنون بها. وقال الضحاك: فإن لم يقدروا يكبروا تكبيرتين حيث كان وجهه. وروى الزهرى عن سالم عن ابن عمر أنهم يصلون ركعتين كيفما تيسر، وحيثما

توجهوا، وهو مذهب مالك، والشافعي والنخعي والثوري وأكثر الفقهاء. وصفة ذلك أن يقوم الإمام بطائفة، والأخرى وجاء العدو، فيركع بالطائفة التي معه، ركعة بسجدتيها ثم يقوم ويثبت قائماً ويتمون لأنفسهم الركعة الثانية. ثم يسلمون وينصرفون وجاه العدو والإمام قائم وتأتي الطائفة الأخرى فيكبرون مع الإمام ويركع بهم الركعة الأخرى بسجدتيها ثم يسلم، ويقومون فيأتون بركعتهم لأنفسهم بسجدتيها، ثم يسلمون وفيها أقوال غير ما ذكرنا. ولا يصلي صلاة الخوف إلا من كان في سفر عند مالك. فأما الخائفون في الحضر فإنهم يصلون أربعاً على سنة صلاة الخوف إذا خافوا العدو، ويصلى الإمام في الخوف لأهل الحضر والسفر المغرب بالطائفة الأولى ركعتين ثم يتشهد بهم، ويثبت قائماً. ويتمون لأنفسهم ويسلمون، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويتشهد ويسلم، ويقومون هم لتمام ما بقي عليهم، ويقرأون فيما يقضون بأم القرآن وسوره.

وفي حديث يزيد بن رومان: لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الأخرى لنفسها ما بقي عليها، ثم يسلم بهم. وفي حديث ابن القاسم أنه يسلم ويقومون يتمون ما بقي عليهم، وإليه رجع مالك، وقد كان يقول بحديث يزيد بن رومان ثم رجع عنه لحديث القاسم. فإن سها الإمام بنقص سجدت الطائفة الأولى قبل السلام بعد قضاء ما عليها، وإن زاد سجدت بع السلام، والإمام قائم لا يسجد، فإذا أتت الطائفة الأخرى صلى بهم الركعة الباقية. فعلى حديث القاسم يسجد ويسلم إن كان نقصاً، ولا يسجدون حتى يتموا لأنفسهم. وسجدوا بع السلام إن كان زيادة، ويسجدون هم أيضاً إذا أتموا، وعلى قول ابن رومان يثبت حتى يتموا لأنفسهم ثم يسجد بهم، ويسلم أو يسلم ويسجد. قوله: {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} الآية. معناها: تمنى الكافرون [لو] تشتغلون بصلاتكم عن سلاحكم وأمتعتكم

103

التي بها بلاغكم في أسفاركم، فيحملون عليكم حملة واحدة فيقتلونكم، فحذر الله المؤمنين وأعلم بما تمنى به المشركون وأمرهم أن يقترفوا عند الصلاة، فتقوم طائفة مع الإمام وطائفة تمنع العدو، على الترتيب الذي ذكرنا رفقاً منه تعالى بالمؤمنين وتيسيراً عليهم. قوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} الآية. (أي: ليس عليكم إثم إن نالكم ضرر من مطر، وأنتم وجاه العدو، وإن كنتم مرضى أي: جرحى أو أعلاه، {أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} أي: ضعفتم عن التمادي في حملها فأباح تعالى للمؤمنين أن يضعوا السلاح إذا وجدوا ضرراً في حملها، ولكن حذرهم عند وضعها فقال: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} لئلا يميلوا عليكم وأنتم غير مسلحين غافلين. وأصل الجناح: العدل، ومنه جناح الطائر لأنه غير معتدل والإثم غير مستو فسمي به. قوله: {عَذَاباً مُّهِيناً} أي مذلاً. وذكر ابن عباس أن قوله {أَوْ كُنتُمْ مرضى} نزل في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً. قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة. . .} الآية. المعنى: إن الله تعالى أمرهم بذكره بعد الفرائض من الصلاة التي قد بينها لهم

إرادة البركة بالذكر ليكون سبب النصر على الأعداء والفتح، ونظيره قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45]. قوله: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة} [أي: فإذا سكن خوفكم، فأقيموا الصلاة] بتمامها في أوقاتها كما فرضت عليكم. فالمعنى: عند من جعل القصر في صلاة الخوف هو النقص من تمام السجود والركوع لا من العدد: فإذا أمنتم في سفركم، فأتموا الركوع والسجود، قاله السدي وهو اختيار الطبري. والمعنى عند من لم ير ذلك: فإذا اطمأننتم في أمصاركم ودوركم، فأقيموا الصلاة التي أمرتم أن تقصروها في حال خوفكم وسفركم، قال ذلك مجاهد وقتادة. وقال ابن يزيد: المعنى: فإذا اطمأننتم من عدوكم فصلوا الصلاة، ولا تصلوها ركباناً، ولا مشاة ولا جلوساً فهو إقامتها. قوله: {كتابا مَّوْقُوتاً} أي: فريضة مفروضة قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال قتادة: {كتابا مَّوْقُوتاً} منجماً يؤديها في أنجمها أي: في أوقاتها. وقيل: معنى {مَّوْقُوتاً} محتوماً لا بد من أدائها بتمامها في أوقاتها.

وقال ابن مسعود: إن للصلاة وقتاً كوقت الحج. وقال ابن زيد بن أسلم: " كتاباً موقتاً " أي منجماً. كلما [مضى] نجم أي: كلما [مضى] وقت جاء وقت. وروي عن النبي A قال: " ليس بين العبد والكافر إلا ترك الصلاة ". وقال: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر ". وقال النخعي وابن المبارك وأحمد وإسحاق: من ترك الصلاة عامداً حتى خرج وقتها بغير [عذر] فهو كافر، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولم يسمعه مالك كافراً، ولكن قال: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك قال الشافعي. وروي أنه يستتاب ثلاثاً فإن صلى وإلا قتل. وقال الزهري: يضرب ويسجن إلا أن يكون ابتدع ديناً غير دين الإسلام، فإنه

104

يقتل إن لم يتب. قوله: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ. . .} الآية. قرأ عبد الرحمن الأعرج: أن تكونوا تالمون بفتح إن على معنى لأن تكونوا أي: لا تهنوا من [أجل] ألمكم،، أي لا تضعفوا عن عدوكم من أجل ما أصابكم من الجراح، والتعب فإنهم قد أصابهم مثل ما أصابكم، ولكم عليهم فضيلة، وهي أنكم ترجون من الله الجنة في الآخرة، والأجر والخلاص من النار، وترجون الغنيمة في الدنيا وهم لا يرجون جنة ولا أجراً، ولا يأمنون من عذاب، فأنتم أيها المؤمنون أولى ألا تضعفوا وأن تصبروا على عدوكم. وقيل: معنى ترجون هنا: تخافون.

وقيل: لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا إذا تقدمه جحد، كقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي: لا تخافون الله عظمة. والرجاء هنا بمعنى الأمل أحسن وأقوم. ومعنى: {ابتغآء القوم} في طلبهم. فقال عكرمة نزلت يوم أحد {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140] ونزلت {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ}. قال ابن عباس: " لما صعد رسول الله A يوم أحد الجبل جاء أبو سفيان فقال: يا محمد: ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال، يوم لما ويوم لكم، فقال رسول الله A: " أجيبوا- "، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: عزى لنا ولا عزى لكم، فقال رسول الله A قولوا: إن الله مولانا ولا مولى لكم.

105

قال أبو سفيان: أُعْلُ هبل، أُعْلُ هبل، فقال رسول الله A ( قولوا): [الله] أعلى وأجل ". قال أبو سفيان: موعدنا وموعدكم بدر الصغرى، وكان بالمسلمين جراح. فقاموا وبهم الجراح. قوله: {وَكَانَ الله عَلِيماً} أي: لم يزل عالماً بمصالح خلقه. {حَكِيماً} أي: حكيماً في تدبيره وتقديره. قوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} الآية. المعنى: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} أي: بما أنزلنا إليك من كتابه {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي: لا تكن لمن خان مسلماً أو معاهداً خصيماً. وقد كثرت الروايات في السبب التي نزلت فيه هذه الآية. غير أنها، وإن اختلفت ألفاظها ترجع إلى معنى واحد. واختصار القصة أن رجلاً من الأنصار اسمه: طعمة بن أبيرق وكان منافقاً، سرق درعاً لعمة كانت عنده وديعة، فلما أن خاف أن يعرف فيه قذفها على يهودي، وأخبر بني عمه بذلك فجاء اليهودي إلى رسول الله A يخبره بالدرع، وقال: والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي، فلما رأوا ذلك بنو عم طعمة جاءوا إلى

رسول الله A يبرئوا صاحبهم من الدرع، ويسألونه أن يبرئه منها، فهم رسول الله A أن يبرئه من السرقة حتى نزل {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يريد طعمة وبني عمه. وقيل: إن رسول الله A برأه بقولهم على رؤوس الناس. فقال الله D: { استغفر الله} أي: مما هممت به، ومما فعلته {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يريد طعمة ومن أعانه وهو يعلم بسرقته. وقال السدي: بل الخيانة التي ذكرها الله D هي وديعة كان قد استودعها يهودي عند طعمة بن أبيرق وهي درع، فأخفاها طعمة، وجحدها، ثم رماها في دار رجل آخر من اليهود. فأتى اليهودي إلى النبي A فأخبره أنها رميت في داره. وروي أن طعمة قال لليهودي صاحب الدرع: إنك إنما استودعت درعك عند فلان، وأنا أشهد لك عليه، ثم ألقى طعمة الدرع في دار ذلك الرجل الذي يريد أن يشهد عليه فجادل الأنصار عن طعمة أنه لم يفعل شيئاً، وأتوا النبي A، فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي، فهم النبي A أن يفعل فأنزل الله D { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} إلى رأس ثلاث آيات.

ولما نزل القرآن في طعمة لحق بقريش وارتد، ثم عاد، إلى مشربة الحجاج حليف لبني عبد الدار فنقبها فسقط عليه حجر، فوحل لحمه، فلما أصبح أخرجوه، ونفوه من مكة فخرج فلقي ركباً فعرض لهم، وقال: ابن سبيل منقطع به، فحملوه حتى إذا جن الليل عدا عليهم، فسرقهم، ثم انطلق، فخرجوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات. قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت. ومعنى: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يُخوِّنونها، أي: يجعلونها خونة أي: يلزمون الخيانة. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} أي: لا يحب من كانت هذه صفته. قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يخفون أمر خيانتهم من الناس الذين لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً. و {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} الذي هو مطلع عليهم، ويعلم ما تخفون فهو أحق أن

109

يستخفى منه {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} وذلك أنهم قالوا: تقول إن اليهودي سرقها، ويحلف طعمة على ذلك، فيقبل من طعمة بيمينه، لأنه على دين محمد A، ولا يقبل من اليهودي لأنه على غير دينه فهذا ما أعدوا في الليل. وقيل: يبيتون " يبدلون، وقيل يؤلفون ". وهذا كله في الرهط الذي مشوا إلى النبي A في شأن طعمة يبرئونه وهم يعلمون أنه سارق الدرع. وعن ابن عباس: " أن طعمة دفن الدرع فأتي جبريل النبي A، فقال له: إذا غَدوت من منزلك، فإنك سترى أثراً بيناً، فاتبعه حتى إذا انقطع، فأمر من يحفر، فإن الدرع مدفون ففعل النبي A ذلك، فاستخرج الدرع، وقال النبي A: " إنما أنا بشر فمن كان ألحن بحجته من صاحبه فقضيت له بحق ليس له، فإنما أقطع له قطعة من النار: وهرب المنافق إلى مكة ". قوله: {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} أي لم يزل محيطاً بما يصنعون وما يبيتون لها، لا يخفى عليه شيء منها حتى يجازيهم بها. قوله: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} الآية.

أم في قوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ} منفصلة من " من " في أربعة مواصع فقط في السواد. {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}. {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} [التوبة: 110]. {أَم مَّنْ خَلَقْنَآ} [الصافات: 11]. {أَم مَّن يأتي آمِناً} [فصلت: 39]. وسائره في القرآن " أمَّن " غير منفصل والانفصال هو الأصل، والاتصال استخفاف إذ وجب الأدغام، والمدغم بمنزلة حرف واحد فكتب على ذلك. و" هؤلاء " بمعنى الذين خبروا الابتداء.

110

وقيل: " هؤلاء " نداء ولم يجزه سيبويه [لأنه] لا يجيز حذف حرف من المبهم، ولا من النكرة، ويجيزه الكوفيون وكلهم أجازوا الحذف من غير هذين النوعين كقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29] وكقوله: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي} [آل عمران: 40] وحذفه من المضاف كثير في القرآن والكلام. والمعنى أنتم الذين جادلتم عنهم أي: عن بني أبيرق في الحياة الدنيا {فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} أي: فمن يخاصم الله في الآخرة؟ " أم من يكون عليهم وكيلاً "؟ أي من ذا الذي يتوكل لها، ولا الخائنين يوم القيامة في خصومتهم بين يدي ربهم، الذي يعلم الغيوب، ولا يستر عليه شيء مما بيتم وما صنعتم. قوله: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية. هذه الآية نزلت في الذين يختانون أنفسهم الذين ذكرهم الله أولاً [و] أخبر أنه من عمل سوءاً [أ] وذنباً أو ظلم نفسه بأن ألزمها ما يستحق عليه العقوبة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} أي: يستدعي المغفرة من الله فإنه يجد الله غفوراً لذنبه، رحيماً به، وهي عامة في كل من أصاب ذنباً.

111

قوله: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} الآية. المعنى: من يكسب ذنباً فإنما وباله على نفسه دون غيره، فالمعنى، لا تجادلوا عن من اختان نفسه، فإن من كسب ذنباً فإنما هو راجع عليه {وَكَانَ الله عَلِيماً} أي: عالماً بما تصنعون أيها المجادلون وجميع خلقه. و {حَكِيماً} بسياستكم وجميع خلقه. قوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} الآية. الخطيئة ما أتاه الإنسان [من ذنب] متعمداً، وغير متعمد والإثم ما أتاه متعمداً فقط. ومن أجل ذلك فصل بينهما في الاكتساب. فالمعنى: ومن يكسب خطيئة على غير عقد منه لها، أو إثماً على عمد منه، {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أي يضيف ذلك إلى بريء {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً} أي تحمل بفعله ذلك فرية وكذباً وإِثْماً عَظِيماً. وقيل: إن الخطيئة والإثم واحد، ولكن لما اختلف اللفظان جاز. وقيل: إن الخطيئة هي الصغيرة، والإثم في الكبيرة ولذلك انفصلا. وقال أبو إسحاق: سمى الله تعالى بعض المعاصي خطايا، وسمى بعضاً إثماً فأعلم أن من اكتسب معصية تسمى خطيئة، أو كسب معصية تسمى إثماً، ثم رمى

بها من لم يعملها {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}. والبهتان: الكذب. وهذا نزل في شأن طعمة وما رمى به اليهودي أو غيره من سرقة الدروع، والهاء في " به " تعود على الإثم، ولا يجوز أن تعود على الإثم والخطيئة، لأنها بمعنى الجرم والذنب، ولأن الأفعال، وإن اختلفت العبارات منها فهي راجعة، إلى معنى واحد، فرجعت الهاء على ذلك، هذا قول من قال: لما اختلف اللفظان جاز أن يكررا، والمعنى فيهما سواء. ويجوز أن تعود على الخطيئة لأنها بمعنى الذنب. وقيل: تعود على الكسب [ودب] عليه يكسب. وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ}. المعنى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بأن نبهك على الحق، وعصمك بتوفيقه، وبين لك من الخائن {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} بمساعدتهم، فتبرئ طعمة من سرقة الدروع على رؤوس الملأ، وتلحقها باليهودي لأنهم سألوه في ذلك، فهم به حتى نزلت عليه الآية، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} أي ليس يضرك هؤلاء الخائنون شيئاً، إنما يضلون أنفسهم ويضرونها.

114

قوله: D { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} الآية. المعنى: لا خير في كثير من نجوى المتناجين من الناس إلا في من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير، فنجوى على هذا اسم للناس المتناجين. والصدقة: معروف. وقوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} هو جميع فعل الخير غير الصدقة. وقد قيل: المعروف في هذا: القرض يقرضه الإنسان المحتاج فقد أتى: " أن القرض كالصدقة " وأن فيه أجراً عظيماً. وقيل: المعنى: لا خير في كثير من نجوى الناس إلا في نجوى من أمر بصدقة. فتكون على القول الأول النجوى هم الناس، ولكنه خرج على جمع جرحى،

115

وشكرى، ويكون في القول الثاني على بابها: اسم للسر لكن تقدر في الثاني حرف تقديره " إلا في نجوى من أمر بصدقة ". قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى. . .} الآية. المعنى: من يباين الرسول من بعدما تبين له أنه رسول الله A، وأن ما جاء به الحق {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غير طريقهم، ومنهاجهم، وهو التصديق بمحمد A وبما [جاء به] {نُوَلِّهِ مَا تولى} أي: نجعل ناصره من استنصر به واستعان به الأوثان والأصنام. وقال مجاهد: {نُوَلِّهِ مَا تولى}: نتركه وما يعبد. وقيل: نتركه واختياره. {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي نجزه بها. {وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي ساءت جهنم مصيراً، وهو الموضع الذي يصير إليه.

ونزلت هذه الآية أيضاً في الخائنين الذين تقدم ذكرهم لما أبى التوبة طعمة بن الأُبيرق، لحق بالمشركين من عبدة الأوثان مرتداً عن الإسلام، فهو [من] الذين شاقوا الرسول من بعد أن كان مؤمناً، واتبع غير طريق المؤمنين. ورجع إلى عبادة الأصنام، فقال الله D: { نُوَلِّهِ مَا تولى}. " وجهنم ": في قول بعض اللغويين اسم مختلق للنار، لا يعرف له اشتقاق، ومُنِع من الصرف للتعريف والعجمة. وقال أكثرهم: هو اسم عربي مشتق من قول العرب: هذه رِكية جهنام: إذا كانت بعيدة القعر، فسميت النار جهنم لبعد قعرها، ومنعت من الصرف على هذا القول للتعريف والتأنيث. ولما مات ابن الأبيرق مقتولاً من أجل السرق الذي سرق بعد ارتداده، أنزل الله D { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} معناه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك به، ومات على شركه، ولا لمن هو مثله، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} يعني أن طعمة لولا أنه أشرك ومات على شركه لكان في مشيئة الله سبحانه على ما سلف من

117

خيانته ومعصيته. {وَمَن يُشْرِكْ بالله} أي: من يجعل له في عبادته شريكاً فقد ذهب عن طريق الحق، وزال عن قصد السبيل ذهاباً بعيداً. قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً. . .} الآية. المعنى: إن الله أخبر عما يعبد الذين ذهب إليهم طعمة، وصار على دينهم وهم كفار قريش. ومعنى: {إناثا} اللات والعزى ومناة ونائلة، فسمى هذا إناثاً لأن المشركين سموها بأسماء الإناث، قاله السدي وابن زيد. وقال الحسن: الإناث هنا. المرأة حجر أو خشب. وقال الضحاك: قوله: {إناثا} هو أن المشركين كانوا يَدَّعون أن الملائكة بنات الله تعالى الله أن يكون له ولد. وقيل: إنهم كانوا يقولون لأصنامهم أنثى بني فلان، فأنزل الله ذلك كذلك على نحو تسميتهم لها. وقال مجاهد: {إناثا} أي إلا أوثاناً. وفي مصحف عائشة إلا أوثاناً. وكان ابن عباس يقرأ [أُثُنا] جمع [وثن وأصل الهمزة على هذا واو مثل

إخوة، وحقيقة هذا الجمع أنه جمع وثنا على] وثان كجمل وجمال، ثم جمع وثاناً على وُثُن كمثال ومُثُل ثم أبدل من الواو همزة. قوله: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} أي ما يدعون إلا شيطاناً متمرداً على الله سبحانه، والمتمرد الخارج عن الخير. والمريد: العاتي {لَّعَنَهُ الله} أي قد لعنه الله أي: أخزاه وأبعده من كل خير. وقال {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} أي معلوماً. قال الشيطان إذ لعنه الله: لأتخذن منهم بإغوائي إياهم عن طريق الحق نصيباً مفروضاً، أي: معلوماً، وقال الشيطان أيضاً: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} أي: عن الحق إلى الكفر {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي ولأزيغنهم بما أجعله في نفوسهم من الأماني عن طاعتك (و) توحيدك إلى طاعتي. وقيل: المعنى: أمنيهم طول الحياة وتأخير التوبة مع الإصرار على المعاصي. {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} أي: لآمرنهم أن يشرعوا غير ما شرعت لهم

فأجعلهم يقطعون [آذان الأنعام، وهي البَحيرة كانوا يقطعون] آذانها لطواغيتهم، وهو دين شرعه لهم إبليس. والبَحيرة كانت عندهم: الشاة أو الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن شقوا آذانها، ولم ينتفعوا بها. والبتك: القطع. {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} الآية. (قيل: إخصاء البهائم، قاله عكرمة وسفيان). وقال ابن عباس: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} دين الله، قاله مجاهد. وروي عن قتادة والحسن والضحاك {خَلْقَ الله} الفطرة دين الله. وقيل: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} هو: الوشم. وقيل: معنى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} هو أن الله خلق الشمس والقمر، والحجارة

للمنفعة [بها] فحولوا ذلك، وعبدوها من دون الله. وكان الطبري يختار قول من قال: المعنى دين الله، لقول الله تبارك وتعالى: {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] وقوله {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ [الله]} [الروم: 30] أي: دينه يدل عليه قوله: {ذَلِكَ الدين القيم} [الروم: 30]. قوله: {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله} أي: يطيعه في معصية الله سبحانه {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} أي: هلك هلاكاً ظاهراً. وقوله: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} أي: يعد أولياءه، ويمنيهم الظفر [على] من حاول خلافهم {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: باطلاً لأنه يقول لهم يوم القيامة {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ. .} [إبراهيم: 24] الآية. وقيل معنى: {يَعِدُهُمْ} أي: يعدهم الرياسة والجاه والمال. قوله: {فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي: أولئك الذين اتخذوا الشيطان ولياً {مَأْوَاهُمْ} أي: مصيرهم إليها {جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي: لا يجدون عن جهنم إذا

122

صيرهم إليها معدلاً يعدلون إليه، ولا محيداً. يقال: حاص فلان عن الأمر إذا عدل عنه وحاد. وحكى جاص بالجيم والصد المعجمة بمعنى جاص في الكلام لا في القرآن. قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} الآية. المعنى: إن الله يدخل المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار وعداً حقاً لا كعدة الشيطان لأوليائه، وتمنيه الذي هو غرور {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} أي: لا أحد أصدق منه قيلاً والقول والقيل سواء. وقيل: تمام إن جعلت قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} مخاطبة للمسلمين، مقطوعاً عما قبله وإن جعلته مخاطبة للكفار الذي تقدم ذكرهم لم يكن {قِيلاً} تمام وكان قطعاً. قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} الآية. قال مسروق: تفاخر النصارى والمسلمون، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم.

فأنزل الله D: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} الآية. ثم أفلح الله تعالى حجة المؤمنين فقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} ثم زاد في الفضل فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية. وقال قتادة: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أحق بالله منكم، وقال المسلمون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الآية. أي: ليس ذلك الي قلتم بأمانيكم ففي ليس اسمها في جميع هذه الأقوال. {مَن يَعْمَلْ سواءا} ابتداء شرط، وجوابه خبره وهو: {يُجْزَ بِهِ}. وقال الضحاك: تخاصم أهل الأديان: اليهود والنصارى والمسلمون فأنزل الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الآية. وقال مجاهد: عنى بذلك أهل الشرك من عبدة الأوثان، قالوا: لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111]. فأنزل الله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} يعني المشركين في قولهم: لن نبعث ولن نعذب.

{ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب} يعني قولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} خلافاً لمن أدعى الجميع. والمعنى: ليس الكائن من أمركم بما تتمنون يا أهل الشرك ولا بما يتمنى أهل الكتاب، وهو اليهود والنصارى بل {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ}. وقيل: التقدير: ليس ثواب الله بأمانيكم لأنه قد جرى ذكر ذلك في قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ} الآية {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} أي: مقدار النقير وهو النقطة في ظهر النواة وهي منبت النخلة. وقالت عائشة Bها في قوله: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} ذلك ما يصيبهم في الدنيا، وقاله مجاهد وغيره. وقال الحسن: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} الكافر وقرأ {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} [سبأ: 17]، وقال في قوله {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} [النجم: 31]: " هِمُ الكُفَّارَ " {وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31] قال: كانت والله لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم، ولم يجازهم بها. وقال ابن زيد: يعني المشركين يريد بالآية قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم

سيئاتهم. وقال الضحاك: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} يعني بذلك اليهود والنصارى، والمجوس وكفار العرب. قوله: {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}. وروي أن هذه الآية لما نزلت قال أبو بكر الصديق Bهـ: " يا رسول الله: وإن لمجزون بأعمالنا؟ قال رسول الله A: " أما المؤمن فيجزى بها في الدنيا، وأما الكافر فيجزى بها يوم القيامة " ". وقال الحسن وابن أبي كثير {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} أي يعمل شركاً يجز به بدلالة قوله: {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} وتلاها الحسن مع هذه (الاية) استشهاداً بها.

وروى عن ابن عباس أنه قال: السوء هنا: الشرك، ومعنى من يشرك: يجز به. وقال ابن جبير: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} أي: من يشرك. قالت عائشة وأبي بن كعب: إن المعنى: من عمل سوءاً من مؤمن، أو كافر جوزي به، وهو اختيار الطبري، واحتج بما روى أبو هريرة قال: " لما نزلت هذه الآية شقت على المسلمين منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى النبي A فقال: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها ". وروت عائشة عن أبي بكر Bهـ أنه قال: " لما نزلت هذه الآية: يا رسول الله {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} فقال له النبي A: " أوليس يصيبك كذا (ويصيبك كذا) فهو كفارة " ". وقال ابن عمر: سمعت أبا بكر يقول: " سمعت النبي A يقول: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} في الدنيا ". وروى عن ابن أبي بكر Bهـ أنه قال: " يا نبي الله: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال النبي A " غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك

125

اللاواء؟ فهو ما تجزون به " ". وروي أن أبا بكر قال: " لما نزلت هذه الآية، جاءت قاصمة الظهر، فقال رسول الله A: " إنما هي المضائق في الدنيا ". قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} الآية. روي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر Bهـ. والمعنى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ} أي: استسلم لله، وانقاد له {وَمَنْ أَحْسَنُ} أي: عمل بما أمر به {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} أي: دينه {حَنِيفاً} مستقيماً. وقيل: {حَنِيفاً} مائلاً عن سائر الأديان غير دين إبراهيم. {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} أي: اتخذ [هـ] يعادى فيه، ويحب فيه، ويوالي فيه، والخلة التي في إبراهيم النبي، والخلة التي في الله لإبراهيم A هي نصره له على من حاوله بشر كالذي فعل به إذ أراده نمرود بالإحراق، وكالذي فعل به إذ أعانه على ملك مصر إذ أراده عن أهله، ومن ذلك تصييره إماماً لمن بعده من عباده وشبه ذلك.

وقيل: سمي خليلاً للفظة خرجت منه A فسمي بها خليلاً. وذلك أنه أصاب أهل ناحيته جدب فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل، وقيل: من أهل مصر يمتار طعاماً من عنده لأهله فلم يصب عنده حاجته. فرجع فلما قرب من أهله مر بمغارة فيها رمل فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا أُغم أهلي بدخولي إليهم بغير ميرة، وليظنوا أني قد أتيتهم بما يحبون، ففعل ذلك فحول الله ما في غرائره من الرمل دقيقاً. فلما صار إلى منزله، نام، وقام ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقاً فعجنوا منه وخبزوا، واستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا من أين هو؟ فقالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك، فعلم ما صنع الله D له، فقال نعم. هو من عند خليلي فسماه الله D بذلك خليلاً.

والخليل في اللغة يكون للفقير كأنه به اختلال. وقد قيل: في قوله {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} معناه فقيراً محتاجاً إليه، ويكون الخليل المحب المنقطع إلى الله D الذي ليس في انقطاعه إلأيه اختلال، فيكون سمي (خليلاً) لانقطاعه إلى الله سبحانه، ومحبته له من غير خلل يدخل ذلك. ويكون الخليل أيضاً الذي يختص الإنسان فيكون سمي بذلك لأن الله D قد اختصه في الوقت بالرسالة دون غيره. وقد قال النبي A: " واتخذ الله صاحبكم خليلاً يعني نفسه "، أي: اختصه بالرسالة، وهذا القول قول مختار. وقد قال النبي A: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً " أي: لو اختصصت أحداً بشيء من الدنيا لاختصصت أبا بكر. وقد قال بعض أهل اللغة: الخليل الذي ليس في محبته خَلَل فسمي إبراهيم

127

خليلاً لذلك. قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له ما فيهن، فلم يتخذه خليلاً لحاجة إليه، لأن له ما في السموات وما في الأرض، ولكنه اتخذه خليلاً لمسارعته إلى رضاه فكذلك سارعوا أنتم إلى ذلك فيتخذكم أولياء. {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} أي: يحيط بما يعمله الخلق، لا يخفى عليه شيء. قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. . .} الآية. " ما " في قوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} في موضع رفع عطف على اسم الله D. " وما " هو القرآن. أي الله يفتيكم فيهن، والقرآن يفتيكم فيهن أيضاً، وهو قول ابن عباس وغيره. وقال الفراء، {مَا} في موضع خفض عطف على الضمير في {فِيهِنَّ} أي: الله يفتيكم في النساء، وفيما يتلى عليكم يفتيكم، وهو غلط عند البصريين لأنه عطف ظاهر على مضمر مخفوض. وقيل {مَا} في موضع رفع بالابتداء، و {مَا} القرآن أيضاً على معنى: (ما

يتلى عليكم يفتيكم). قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ}. المعنى عن أن، وأن في موضع نصب بحذف الخافض. وقيل المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن، والإعراب واحد، والمعنى مختلف معنى قول من أضمر " عن " إنهم لا يريدون نكاحهن ومن أضمر " في " فمعناه أنهم يريدون نكاحهن ويرغبون في ذلك. قوله: {والمستضعفين} عطف على يتامى النساء، أي يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين. ومعنى الآية: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام سأل المؤمنون النبي A عن ذلك، فقال الله D لنبيه A: { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} يفتيكم أيضاً يعني ما في أول السورة من الفرائض في اليتامى. قالت عائشة: " هذا في اليتيمة تكون عند الرجل لعلها أن تكون شريكته في ماله، وهو أولى بها من غيره فيرغب عنها أن ينكحها ويعضلها لما لها فلا يُنكحها غيره كراهة أن يشركه أحد في مالها ".

فهذا التفسير يحري على قول من أضمر " عن " مع " أن ". وقال ابن جبير: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، ولا يرث الصغير ولا المرأة، فلما نزلت المواريث في أول النساء توقفوا، ثم سألوا النبي A عن ذلك، فأنزل الله D { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} أي: في أول السورة، قال وكان الولي إذا كانت عنده المرأة ذات الجمال والمال رغب فيها ونكحها، وإن لم تكن ذات جمال ومال أنكحها غيره. وقال النخعي: كان الرجل إذا كانت عنده يتيمة دميمة لم يعطها ميراثها وحبسها عن التزويج حتى تموت فيرثها فنهى الله D عن ذلك {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء الاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي: عن أن تنكحوهن، وذلك كله كان في الجاهلية. وقال ابن جبير {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} هو ما أتى في آخر السورة قوله: {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 175]. روى أن عمرة بنت عمرو بن حزم، كانت تحت سعد بن الربيع، فقتل يوم أحد، فكانت لها منه ابنة، فأتت عمرة النبي A تطلب ميراث ابنتها من أبيها، فنزلت الآية في ابنتها، وكان أمرهم في الجاهلية، أن الرجل إذا مات ورث أكبر ولده ماله

كله. وقيل: المعنى: {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وفيما {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء} والذي يتلى هو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3]. فما في موضع خفض على هذا التأويل. وقيل: المعنى {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} والقرآن يفتيكم وهو قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع}. {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن وفقرهن. وقيل: المعنى وترفبون في نكاحهن وذلك لمالهن وحسنهن. واختار الطبري أن يكون المعنى: وترغبون عن نكاحهن لأنهم إنما عيب عليهم أن يأخذوا مالها ويحبسوها ولا ينكحوها، ولم يعب عليهم نكاحها إلا إذا لم يعطوها صداق مثلها، ولم يذكر هنا الصداق فالمعنى أنهم لا يعطونهم ميراثهن ويرغبون عن نكاحهن. قوله: {والمستضعفين مِنَ الولدان} أي: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء} وهي اليتيمة يأخذ مالها ولا يتزوجها ولا يزوجها، وفي المستضعفين من الصبيان كانوا لا يورثون إلا بالغاً. {وَأَن تَقُومُواْ} أي: وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط تعطوا الصغير والكبير حقه،

128

وفرضه الذي نص الله D عليه لكم هو {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] والذي أفتاهم في اليتامى قوله {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]. وقيل هو: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء: 2]. والذي يتلى عليكم في التزويج هو قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} أي: ما تفعلوا من عدل في اليتامى، فإن الله لم يزل عالماً بما هو كائن منكم من ذلك. قوله {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا [نُشُوزاً] أَوْ إِعْرَاضاً. . .} الآية. قرأ الجحدري {أَن يُصْلِحَا} بتشديد الصاد وكسر اللام. وأصله أن يصطلحا ثم أدغم الثاني في الأول أعني: دغم الطاء في الصاد.

(وصلحاً) منصوب على معنى فيصلح الأمر بينهما صلحاً. وفي قراءة عبد الله: فلا جناح عليهما [إن أصلحا]. ولذلك اعتبر الكوفيون قراءتهم فقرأ وا " يصلحا " ولقوله: " صلحاً ". والصلح الاسم، والعرب تضع الاسم موضع المصدر كقولهم المطية لمطاء. فأما من قرأ " يصلحا " فليس " صلحاً " باسم له ولا مصدر، فقراءة الكوفيين أقرب إلى {صُلْحاً} من قراءة غيرهم لأن {صُلْحاً} اسم الفعل لأصلح. ومعنى الآية فيما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " خشيت سودة أن يطلقها رسول الله A فقالت: لا تطلقني واحبسني مع نسائك ولا تقسم لي ففعل " فنزلت " {وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} الآية.

فالمعنى أنه إن علمت امرأة من بعلها ميلاً إلى غيرها وهو النشوز أو " إعراضاً " أي: إن أعرض عنها بوجهه وبمنفعته فلا جناح عليهما أن يصالحا أي: لا إثم عليهما في الصلح وهو أن ترضى المرأة أن تترك له يومها أو تسمح له ببعض ما يجب لها من المنفعة لتستديم المقام عنده وتستعطفه بذلك. {والصلح خَيْرٌ} أي: جرب تسمح فبقى في حرمتها أولى وأحسن من الطلاق والفرقة. وقيل: المعنى {والصلح خَيْرٌ} من الفرقة ولكن حذف لدلالة الكلام عليه. قال ابن عباس: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر فيريد أن يتزوجها عليها فيتصالحا على أن لهذه يوماً ولهذه يومين أو ثلاثة أو أكثر. وقالت عائشة Bها: هي المرأة تكون عند الرجل ولعله لا يستكثر منها، ولا يكون لها ولد وتكون له صاحبة فتقول له: لا تطلقني وأنت في حل من شأني. وعلى هذه المعنى في الآية جميع أهل التفسير. وروي أن هذه الآية نزلت في خولة بنت محمد بن مسلمة الأنصاري، والبعل

رافع بن خديج الأنصاري ثم هي عامة. قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} أي: أنفس النساء. حريصة في الشح على الأيام، وقيل: هو على نصيبها من الرجل، ونفس الرجل في حرصه على الميت عند من تميل نفسه إليها. وقال عطاء: [هو] في الأيام والنفقة. وقال ابن جبير: نزلت الآية في صفية زوج النبي A كانت قد كبرت، فأراد النبي A أن يطلقها، فاصطلحا على أن يمسكها، ويجعل يومها لعائشة شحاً منها على رسول الله A. وقال ابن زيد وغيره معنى: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} يعني نفس الزوجة، والزوج لا يترك أحد حقه لصاحبه.

129

قوله: {وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: إن تحسنوا أيها الأزواج إلى النساء إذا كرهتم منهن شيئاً، وتتقوا الله فيهن في الصحبة بالمعروف، فإن الله لم يزل حبيراً بما تعملون. قوله: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ. . .} الآية. المعنى: ولن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين النساء في حبهن بقاؤكم حتى تعدلوا بينهن، فلا تكون لبعضهن مزية على بعض {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فإن ذلك مما لا تقدرون عليه {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} أي: لا تميلوا على من لم تملكوا صحبته من قلوبكم فتجوروا عليها بترك أداء الواجب لها {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} أي كالتي هي لا ذات زوج، ولا هي أيم. وليس في قوله: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} دليل على جواز بعض الميل، إنما معناه لا تميلوا بما تقدرون على تركه ميل الميل فهو أمر يُغلب الإنسان عليه، ولذلك كان عمر Bهـ يقول: " اللهم أما قلبي أملك، وأما غير ذلك فأرجو أن أعدل ". وكان النبي A يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: " اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ". قال ابن أبي مليكة: " نزل ذلك في عائشة Bها. يعني كان النبي A يحبها

130

أكثر من غيرها ". قال سفين: " نزلت في الحب والجماع ". وقال السدي: {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} قال: " يجوز عليها فلا تنفق ولا تقسم ". وروى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " من كانت له امرأتان يميل [مع] إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط ". وقال قتادة: " المعلقة ": المحبوسة. وقال ابن جبير: " لا مطلقة ولا ذات بعل. قوله: {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ} أي تصلحوا أعمالكم، فتعدلوا في أزواجكم، وتتقوا الله فيهن {فَإِنَّ الله} لم يزل {غَفُوراً رَّحِيماً} لكم أي يستر عليكم ما سلف منك (رحيماً بكم). قوله: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ. . .} الآية. المعنى: وإن رأت المرأة التي مال عنها زوجها، إلا أن تفارقه، ولا تسمح له بشيء من حقها، وأبى الزوج الأخذ عليها بالإحسان، فتفرقا بطلاق الزوج إياها {يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} أي: الزوج والمرأة أن تتزوج من هو أصلح لها من الأول، ويتزوج هو من هي أصلح له منها في رزقه وعصمته. {وَكَانَ الله وَاسِعاً} أي: ذا سعة في الرزق لخلقه {حَكِيماً} فيما قضى به بينهما

131

والواسع: الكثير العطايا. وقيل: الواسع: المحيط بكل شيء، ومنه قوله تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 96] أي أحاط به. وقال أبو عمرو في " واسع كريم " قال الواسع الغني والكريم الجواد. قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} الآية. كرر تعالى ذكره، ذكر كون ما في السموات وما في الأرض أنه له، في ثلاثة مواضع متوالية، وفي كل آية معنى من أجله وقع التكرير: 1 - أما الأول فإن الله جل ذكره نبه الخلق على ملكه بعقب قوله {وَكَانَ الله وَاسِعاً}، فأخبر أن من سعته أن له ما في السموات والأرض، وفي هذا تقوية لقول أبي عمرو أن الواسع الغني، ثم رجع تعالى بعد إعلامه إيانا، وتنبيهه على ملكه إلى إعلامه إيانا أنه قد وصى من كان قبلنا بتقواه كما وصانا بالتقوى في الأزواج وغيرها، والذين من قبلنا من أهل الكتاب وصاهم بذلك في التوراة والإنجيل، وصانا نحن في القرآن بالتقوى أيضاً، فقال: {أَنِ اتقوا الله}. 2 - ثم قال: {وَإِن تَكْفُرُواْ} كما كفر أهل الكتاب {فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات [وَمَا فِي الأرض]} إنه لا يضره كفرهم إذ له كل شيء، كما لم يضره ما فعل أهل الكتاب في مخالفتهم أمره، {وَكَانَ الله غَنِيّاً} أي غني عن خلقه، فأخبرنا في هذه الآية بغناه عنا،

133

وحاجتنا إليه. 3 - [ثم] أعلمنا في الآية الثالثة بحفظه لنا، وعلمه بنا فقال {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً} أي كفى به حفيظاً. فهذا فائدة التكرير أنه تعالى نبهنا على ملكه، وسعته بعد قوله {وَكَانَ الله وَاسِعاً}. فأعلمنا أنه من سعة ملكه أن له ما في السموات وما في الأرض. وأعلمنا في الثانية بحاجتنا إليه، وغناه عنا. وفي الثالثة أعلمنا بحفظه لنا وعلمه بتدبيرنا. وتقدم قوله: {غَنِيّاً حَمِيداً} على {وكفى بالله وَكِيلاً} لأنه خاطبهم أولاً فأخبرهم أنه لا يحتاج إليهم، إن كفروا، وأنهم مضطرون إليه، إذ له ما في السموات وما في الأرض. قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ. . .} الآية. هذه الآية مردودة على وقوله: {وَإِن تَكْفُرُواْ} فقال تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالفناء {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} من غيركم وهو قادر على ذلك. وقيل: إنها ترجع على طعمة، وأصحابه الذين تقدم ذكر نياتهم توبيخاً لهم، وقد روى النبي A " لما نزلت هذه الآية ضرب على ظهر سلمان بيده وقال: " هم

134

قوم هذا " " يعني عجم الفرس. هذه الآية نزلت في المنافقين الذين أظهروا [الإيمان ليدفعوا عن أنفسهم الضرر في الدنيا، والمعنى من كان أظهر الإيمان بمحمد A من أهل النفاق لغرض {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا} يعني جزاؤه في الدنيا ما يأخذ من الغنم إذا شهد مع المسلمين، وثواب الآخرة، وهو نار يصلاها أبداً، ومثل هذا قوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} [هود: 15 - 16] الآية. وقيل: إن الآية نزلت في أمر الذين سعوا في أمر طعمة وعذروه، وهم يعلمون أنه سرق. قوله: {وَكَانَ الله} أي: يسمع قوله هؤلاء الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، ويقولون آمنا إذا لقوا المؤمنين {سَمِيعاً بَصِيراً} بهم فيما يكتمون. وقيل: إن الآية نزلت في الكفار، وذلك أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ويتقربون إلى الله ليوسع عليهم في الدنيا، ويدفع عنهم مكروهاً، فأنزل الله D: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا. . .} الآية.

135

قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُونُواْ قوامين بالقسط} الآية. قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا} وقال الأخفش: " أو " بمعنى الواو، فلذلك قال: " بهما " ولم يقل به. وقيل: المعنى: إن يكن المتخاصمان غنيين أو فقيرين. وقيل: هو مثل قوله {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} [النساء: 12]. وقيل: لما كان المعنى فالله أولى بغنى الغني، وفقر الفقير، رد الضمير عليهما. وقيل: إنما ردع الضمير إليهما لأنه لم يقصد فقيراً بغني، فجاء الرد عليهما: بالتثنية، وبالتوحيد وبالجمع. ومعنى الآية: " إن الله تعالى تقدم إلى عباده أن يقوموا بالقسط أي: بالعدل، ولو على أنفسهم أو والديهم أو قرابتهم ولا يكونوا كالذين قالوا لطعمة بغير القسط لقرابته منهم.

والقسط: العدل. وأن لا يميلوا لفقر فقير، ولا لغنى غني، فيجوروا. {فالله أولى بِهِمَا} أي أحق بهما لأنه خالقهما، ومالكهما دونكم {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} في الميل مع أحدهما. والشهادة على نفسه هو أن يقر بها عليه. وقيل: إن الآية نزلت في النبي A، تخاصم إليه غمي وفقير، فكان ميله مع الفقير يروى أنه لا يظلم الغني لفقره. وقيل: نزلت في الأمر بالشهادة بالحق، وترك الميل مع الغني لغناه، أو مع فقير لفقره. قال ابن شهاب: كان فيما مضى من السلف الصالح تجوز شهادة الوالد لولده والأخ لأخيه ويتأولون في ذلك قول الله {كُونُواْ قوامين بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين} فلم يكن يتهم أحد في ذلك من السلف الصالح ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة. ومذهب الحسن البصري والنخعي والشعبي، وشريح ومالك والثوري

والشافعي وأحمد بن حنبل أنه: لا تجوز شهادة الوالد لولده. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولاً. وروي عن عمر Bهـ أنه أجازه، وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز، وبه قال إسحاق وأبو ثور والمزني. ومذهب مالك Bهـ جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلاً [إلا] في النسب. وروى ابن وهب هنه: أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيبه مال يرثه. ولا تجوز عند مالك شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر، وأجازه الشافعي. ولا تجوز شهادة الرجل المصاحب له بصلة، أو بعطف عليه عند مالك. وكذلك لا تجوز شهادة رجل لرجل، والشاهد [في عيال] المشهود له، قوله

{وَإِن تَلْوُواْ} هي مخاطبة للحكام، فالمعنى: وإن تلووا أيها الحكام، في الحكم لأحد الخصمين على الآخر أو تعرضوا، فإن الله لم يزل خبيراً بما تعملون. وقال ابن عباس: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون لَيُ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر. وقيل: هي مخاطبة للشهداء، والمعنى أن تلووا أيها الشهداء ألسنتكم بغير الحق، أو تعرضوا عن الحق. وقيل: أو " تعرضوا " عن الشهادة فتتركوها. وقال مجاهد: {وَإِن تَلْوُواْ} تبدلوا الشهادة: {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي: تكتموها كذلك قال قتادة والسدي. قال ابن زيد: {وَإِن تَلْوُواْ} تكتموا بعضها، أو تعرضوا [تكتموها] فتأتوا الشهادة، تقول: أكتم عن هذا أنه مسكين، رحمة به، ويقول: هذا غني أتقيه، وأرجو ما قِبَلَه، فهو قوله {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا} أي: إن يكن المشهود عليه غنياً أو

فقيراً، فأقيموا الشهادة عليه لأن الله أولى به. {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} في ألا تعدلوا: {وَإِن تَلْوُواْ} تغيروا الشهادة {أَوْ تُعْرِضُواْ} تكتموها {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} مجازيكم ومن قرأ {وَإِن تَلْوُواْ} بواو فيحتمل أن تكون مثل تلوا من اللي ولكن أبدلت من الواو المضمومة همزة، ثم ألغيت حركتها على اللام على أصل التسهيل، ويكون المعنى واحداً. ويجوز أن يكون من الولاية، قال ذلك الكسائي، فيكون المعنى وإن تلوا شيئاً من الشهادة، فتبلغوه على حقه، ولا تجوروا فيه {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي: تتركوا تبليغه

136

فتكتموه، فإن الله لم يزل خبيراً بأعمالكم. قوله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ. . .} الآية. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد A من الأنبياء، والرسل وصدقوا آمنوا بمحمد A وبالكتاب الذي أنزل من قبل وهو التوراة والإنجيل. {وَمَن يَكْفُرْ بالله} أو بما جاء به محمد A من عند الله وملائكته وكتبه ورسله {فَقَدْ ضَلَّ} أي: ذهب عن الحق وجار جوراً بعيداً، فهو خطاب لمن آمن بما قبل محمد A، ولم يؤمن بمحمد A. وقيل: هو خطاب للمؤمنين بمحمد A. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد A آمنوا أي اثبتوا على الإيمان به، وبما جاء من عند الله. وقيل: هو خطاب للمنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم آمنوا بالله ورسوله، أي صدقوا به بقلوبكم إيماناً يقيناً يوافق اللسان القلب. قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ. . .} الآية. المعنى: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بعيسى يعني النصارى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفراً بمحمد A، وكفرهم بموسى وعيسى عليه السلام [هو]

تغيير ما أتى به كل واحد منهما من عند الله D، وتبديله وقبول الرشا عليه {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إذ كفروا بكتبه ورسله {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ [سَبِيلاً]} أي طريق هدى. وقيل: عُنِي بذلك المنافقون آمنوا مرتين وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك. وقيل: هم اليهود والنصارى. وقال قتادة: هم اليهود والنصارى: آمنت اليهود بالتوراة، وكفرت بالإنجيل، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا [كفراً] بكفرهم بمحمد A. وآمنت النصارى بالإنجيل ثم تركت العمل بما فيه، فكفرت بذلك، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد A { لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أي: لا يغفر لهم كفرهم الأول والآخر، وذلك أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإن رجع إلى الكفر لم يغفر له كفره الأول. وقال ابن عمر: يستتاب المرتد ثلاثاً، أي كلما ارتد يستتاب، فإن آمن، ثم ارتد استتيب، فإن تاب، ثم ارتد استتب، فإن تاب ثم ارتد قتل، فإنما يستتاب ثلاث

138

مرات قياساً على هذه الآية. وقيل: يستتاب، كلما ارتد. قوله: {بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} الآية. المعنى اجعل ما يقوم لهم مقام البشارة بالعذاب الأليم {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} أي: المنعة باتخاذهم لهم أولياء {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي: المنعة لله، والنصر من عنده. يقال أرض عزاز وعزاز إذا كانت صلبة شديدة، ومنه قولهم: عز الشيء إذا لم يوجد أي: اشتد وجوده، أي: صعب. وقال النحاس: " هذا يدل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق لأنه لا يتولى الكافرين. قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} الآية. المعنى قد أخبرتم أيها المنافقون في القرآن {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}.

فاتخذتموهم أولياء {إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} كفار، إذا جالستموهم على تلك الحال، لأن من لم يجتنبهم، فهو راض بفعلهم، فالرضا بالكفر كفر. وهذه الآية تدل على اجتناب أهل المعاصي إذ ظهر منهم منكر، ومجانبة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والقدرية وغيرهم إذا خاضوا في فسقهم. وروى إبراهيم التيمي عن أبي وائل قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكذب ليضحك بها جلساؤه فيسخط الله عليهم. وقال إبراهيم النخعي: إذ سمع هذا عن أبي وائل، صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله D { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ

141

فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} أي: يجمعهم بموالاة بعضهم بعضاً فكلهم كافر. قوله: {الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} الآية. في قراءة أبي: ومنعناكم في موضع: نمنعكم. وأجاز الفراء: ونمنعكم بالنصب على الصرف. ومعنى الآية: أنها صفة للمنفقين لأنهم كانوا يتربصون بالمؤمنين، فإن كان فتح من الله جل وعز للمؤمنين، قالوا للمؤمنين: ألم نمنعكم في جهادكم، فطلبوا الفيء من الغنيمة {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ} ظفر على المؤمنين قالوا للكافرين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي: نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين {وَنَمْنَعْكُمْ} من المؤمنين، أي: كنا عيوناً لكم نأتيكم بالأخبار في السر، ونخذل المؤمنين حتى غلبتموهم {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي: بين المؤمنين والمنافقين {وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} أي: حجة يوم القيامة. وهذا وعد من الله جل ذكره للمؤمنين يكون في القيامة فأما في الدنيا فقد يغْلِبون ويُغلَبون، ودل على ذلك قوله {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة}. وقيل: معناه: لا يجعل الله الكافرين على المؤمنين سبيلاً يوم القيامة في قتلهم لهم، وسبيهم لذراريهم، ذلك مباح للمؤمنين في الدنيا، ولا درك عليهم في

142

ذلك في الآخرة. وقال ابن جريج: معن: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم يتبين لكم أنا معكم. وأصل الاستحواذ الغلبة والاستيلاء. قوله: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله} الآية. معنى الآية أن المنافقين يخادعون الله بإحرازهم لإيمانهم دماءهم وأموالهم، {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} هو ما حكم فيهم من منع دمائهم وأموالهم بما ظهر من إيمانهم مع علمه بباطن اعتقادهم استدراجاً للانتقام منهم في الآخرة. وقال السدي: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يعطيهم الله يوم القيامة نوراً يمشون به مع المؤمنين كما كان معهم في الدنيا إيمان يمنع من دمائهم ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم ويضرب بينهم بسور. وقال ابن جريج: إخداع الله لهم هو ما ذكر من قولهم {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد: 13]. وقال الحسن: يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به حتى إذا انتهوا إلى

الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فينادونهم {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} ألم نكن معكم في المسجد والحج والغزو؟ {قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} باعتقادكم خلاف ما أظهرتم {وَتَرَبَّصْتُمْ} عن التوبة {وارتبتم} أي: شككتم في رسول الله A وثواب الله D وعقابه سبحانه. قال الحسن: فتلك خديعة الله إياهم. وقيل: المعنى: يُخادعون أولياء الله وهو أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي معاقبتهم، وسمي الثاني خداعاً لأنه مجازاة للأول، وقيل: لازدواج الكلام. وقيل: معنى: {يُخَادِعُونَ الله} أي نبيه A لأن من خادع النبي A، فقد خادع الله سبحانه كما قال {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10]. قوله: {وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى} الآية. هذا إعلام من الله تعالى أن المنافقين لا يعملون شيئاً من الفروض إلا رياء، وإبقاء على [أنفسهم، فهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، إذ ليست عندهم بفرض. إنما يقومون للناس] رياء إذ لا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً.

ثم يقال: {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا ذكراً قليلاً. والمعنى: أنهم يذكرون الله رياء لا ذكر مؤمن موقن بتوحيد الله D فلذلك سمي قليلاً، إذ هو غير مقصود به الله سبحانه، وما عنده تعالى، فمن أجل هذا وصف بالقلة، مع أنه ليس في ذكر الله D قليل، إنما قل من أجل اعتقادهم لا من أجل قلة ذكرهم. قال الحسن: إنما قل لأنه كان لغير الله سبحانه. وقال علي Bهـ " ما قل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل! يريد قوله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] فمن تقبل شيء من عمله، فهو من المتقين، ومن كان من المتقين فهو من أهل الجنة، يقول الله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ} [القمر: 54]. قوله: {مُّذَبْذَبِينَ} أي: متحيرين في دينهم مضطربين، وأصل التذبذب التحرك والاضطراب، فهم يتحيرون في دينهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، فهم حيارى. قال النبي A: " مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة،

144

وإلى هذه مرة ولا تدري لأيهما تتبع ". قال قتادة: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين. وقيل: إلى المؤمنين ولا [إلى] أهل الكتاب {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي: ومن يخذله الله {فَلَن تَجِدَ لَهُ} يا محمد {سَبِيلاً} أي: طريقاً يسلكه إلى الحق. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ} الآية. المعنى: إن الله نهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين، فيجعلون على أنفسهم الحجة لله، والسلطان: الحجة، وهو يذكر ويؤنث وبالتذكير أتى القرآن. فمن ذَكَّر ذهب إلى معنى صاحب السلطان، أي صاحب الحجة، وقيل ذهب إلى البرهان والاحتجاج. ومن أَنَّث فلتأنيث الحجة، والعرب تقول: قضت به عليك السلطان أي الحجة. قوله: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} الآية.

معنى الدرك الأسفل: القعر الأسفل والنار أدراك سبعة، فهم في القعر السابع، نعوذ بالله منها. والدَرْك والدَرَك لغتان بمعنى. والفتح: الاختيار عند بعض العلماء لقولهم: أدراك كجمل وأجمال وجمعة في الكثير: الدروك. ومن أسكن الراء جمعه في القليل على أدرك، والكثير الدروك، وقال عاصم: " لو كانت الدروك بالفتح لقيل السفلى " ذهب إلى أن الفتح إنما هو على أنه جمع دركة ودرك، كبقرة وبقر. وطبقات النار سفل سفل، يقال لها أدراك. ومنازل الجنة يقال لها درجات وهو علو علو. وقوله: {وَسَوْفَ يُؤْتِ} كتب بغير ياء على لفظ الوصل.

147

والوقف عند سائر القراء على ما في السواد. ومذهب النحويين في هذا: الوقف على الياء. ومعنى الآية: أن الله تعالى أعلمنا أن المنافقين في الطبق الأسفل من النار، وأنهم لا ناصر لهم ينقذهم منها. والعرب تقول لكل ما تسافل درك، ولكل ما تعالى درج. وقال ابن مسعود: إن المنافقين في توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار. وقال أبو هريرة: {فِي الدرك الأسفل} في توابيت ترتج عليهم. وقال ابن عباس: في أسفل النار. ثم استثنى تعالى التائبين فقال {إِلاَّ الذين تَابُواْ} أي: رجعوا عن نفاقهم وشكهم إلى اليقين بالله ورسوله A وبما جاء به وأصلحوا أعمالهم فعملوا بما أمرهم الله D { واعتصموا بالله} D أي: تمسكوا بما أمرهم الله به {وَأَخْلَصُواْ} طاعتهم له D، ولم يعملوا رياء الناس {فأولئك مَعَ المؤمنين} في الجنة {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً}. وقال الفراء: {مَعَ المؤمنين} أي: من المؤمنين. قوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ. . .} الآية. المعنى: ما يفعل الله بعذابكم أيها المنافقون إن تبتم، ورجعتم وآمنتم، بمعنى أي

148

شيء يصنع الله بعذابكم، وما حاجته إلى ذلك بل سيشكر لكم ما يكون منكم من الطاعة، والإيمان فيجازيكم عليه، بأن يعافيكم من الدرك الأسفل من النار، ويدخلكم الجنة خالدين. قال قتادة: في هذه الآية: " إن الله لا يعذب شاكراً ولا مؤمناً ". وقيل: معنى: {شَاكِراً} مشكوراً على كل حال. قوله: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} الآية. قرأ زيد بن أسلم، والضحاك وابن أبي إسحاق {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} بفتح الظاء. ومعنى الآية: لا يحب الله أن يجهر أحد بالدعاء [على أحد] إلا من ظُلم فيدعو على ظالمه. أي: لكن من ظُلم فله أن يدعو على ظالمه، ولا يكره الله ذلك. قال ابن عباس: أُرخص للمظلوم أن يدعو على ظالمه، وإن صبر فهو خير له. قال قتادة: عذر الله سبحانه المظلوم.

وقال الحسن: هو الرجل يُظلم يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج لي حقي، ونحو ذلك. و" من " في موضع رفع بالهجر، كأنه: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا المظلوم وإن شئت في موضع نصب كما قال تعالى: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23] وكقولهم: إني لا أكره الخصومة، والمراء إلا رجلاً يريد الله بذلك، فهذا محمول على المعنى وأن لم يكن قبله أسماء. وأصل الاستثناء المنقطع أن يكون منصوباً، وهذا من ذلك. وقال مجاهد في الآية: هو الرجل لا تحسن ضيافته، فيخرج فيقول أساء ضيافتي، رخص له أن يقول ذلك. وقال السدي: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحد ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظلم فليس عليه جناح. ومن قرأ بفتح الظاء، فمعناه إلا من ظلم فلا بأس أن يُجْهَر له بالقول. قيل: إن هذه الآية: نزلت في الرجل ينزل بالرجل وعند المنزول به سعة، يضيفه، فإن تناوله بلسانه في تأخره عن ضيافته فقد عذره الله D، وسمى الله سبحانه ترك

149

الضيافة ظلماً. وقال ابن زيد معنى الفتح: لا يحب الله أن يقول لمن تاب عن النفاق: ألست نافقت؟ ألست الذي ظلمت وفعلت؟ {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي: إلا من أقام على النفاق، فإنه يقال له ذلك، ودل على هذا قوله تعالى {إِلاَّ الذين تَابُواْ}. وقيل: المعنى {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فقال سوءاً، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه. وقال قطرب: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أي: إلا المكره لأنه مظلوم. {وَكَانَ الله سَمِيعاً} أي: لما تجهرون به {عَلِيماً} أي بما تسرون وبغير ذلك. قوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. . .} الآية. المعنى: إن تقولوا جميلاً لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك وتخفوه. أي: تتركوا إظهاره، فلا تبدوه {أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء} أي: تصفحوا لمن أساء إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء، أي: الذي قد أُذن لكم أن تجهروا به وهو قوله {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فإن الله كان عفواً، أي: لم يزل عفواً عن خلقه مع قدرته على الانتقام منهم. وهذا

150

التأويل يدل على خلاف قول من تأول لقوله {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} أنه في المنافق التائب، والذي لم يتب، لأن الله D لم يأمر المؤمنين بالعفو عن نفاقهم ولا نهاهم أن يسبوا من كان منهم معلناً النفاق. قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} الآية. معنى الآية أنها في اليهود والنصارى يكفرون بالله بكفرهم برسول الله A. { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} أي: يزعمون أنهم افتروا على ربهم {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} آمنت اليهود بموسى، وكفرت بعيسى، وبمحمد A، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بموسى، وبمحمد A، { أولئك هُمُ الكافرون} أي: مَنْ، هذه صفته كافر {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: طريقاً لا مع المؤمنين ولا مع غيرهم وقيل بين الإيمان والجحد طريقاً. قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} الآية. المعنى: الذين صدقوا بواحدانية الله D، وأقروا برسله [صلوات الله عليهم] {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} [أي لم يكذبوا ببعض وآمنوا ببعض {أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي من هذه صفته سوف نؤتيهم أجورهم أي يعطيهم

153

أجورهم] على تصديقهم للجميع {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: يغفر لمن فعل ذلك من خلقه أي يستر ذنوبه، وكان {رَّحِيماً} بهم أي: لم يزل كذلك. قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء. . .} الآية. قوله: {جَهْرَةً} حال من الضمير في قالوا، وهو العامل فيه، أي: قالوا مجاهرين بذلك، قال ذلك أبو عبيدة. وقيل: هو نُعت بمصدر محذوف [تقديره] رؤية جهرة. ومعنى الآية: أن اليهود سألوا النبي A أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة، قالوا له: إن موسى جاء بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب} الآية. قال ابن جريج: سألوا أن ينزل عليهم رجال منهم كتاباً من السماء بتصديقه واتباعه وهم اليهود والنصارى. وقيل: هم اليهود خاصة سألوا النبي عليه السلام أن يصعد إلى السماء وهم يرونه بلا كتاب، وينزل ومعه كتاب تعنتاً. فأعلمه الله D أنهم قد سألوا موسى عليه السلام أكبر من هذا {فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي: رؤية منكشفه {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي صعقوا بظلمهم أنفسهم، في عظيم ما سألوا موسى A مما ليس لهم أن يسألوا مثله {ثُمَّ اتخذوا العجل} أي

154

اتخذوه إلهاً بعد إحيائهم من صعقتهم {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} أي الدلالات الواضحات أنهم لا يرون الله عياناً في الدنيا، وأنه لا معبود إلا الله، فمن الآيات إصعاق الله إياهم عند مسألتهم ثم أحياؤهم. قوله: {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} أي: عفونا عن عبادتهم العجل {وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} أي: أعطيناه حجة تبين عن صدقه وصحة نبوته. قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ. . .} الآية. المعنى: ورفعنا فوقهم الجبل لما امتنعوا من العمل بما في التوراة، وقبول ما جاءهم به موسى A { بِمِيثَاقِهِمْ} أي ما أعطوا الله من الميثاق ليعملوا بما في التوراة {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} يعني باب حطة أمروا بذلك، فدخلوا يزحفون على أستاههم {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} أي لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم، وذلك أنهم أمروا ألا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يتعرضوا لها. {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} أي شديداً أنهم يعظمون ما أمرهم الله، وينتهون عما نهاهم عنه. قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله} الآية. المعنى: وينقض هؤلاء الذين تقدمت صفتهم: الميثاق - وهو كتمانهم أمر

النبي A، وقد أخذ عليهم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] وكفرهم بآيات الله أي: بإعلامه وأدلته وب {وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} وب {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: عليها غشاوة وأغطية عما يقول، فلا نفهمه عنك، فأخبر الله D بكذبهم في قولهم، وقال {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} أي: ليست بغلف، ولكن طبع الله عليها طابعاً من أجل كفرهم بالله {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} لأنهم إنما صدقوا ببعض الأنبياء، فإيمانهم قليل لأنهم قد كذبوا بأكثر الأنبياء فيما جاءوا به، ومن كذب بالبعض، فهو مكذب بالكل من جهة أن الذي صدق به من نبي وكتاب يصدق ما كذب به هو ويقرب بصحته وهذا كلام متصل بما قبله. والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم وبكفرهم، وبكذا وبكذا أخذتهم الصعقة. قال الطبري: هذا غلط لأن الذين أخذتهم الصاعقة قوم موسى A، والذين رموا مريم بالبهتان بعدهم بدهر طويل، فهؤلاء غير هؤلاء. والذي قال الطبري لا يلزم، لأن اليهود قد تأخروا، وهم الذين طالبوا عيسى A بالصاعقة، وإن لم تأخذهم بأعيانهم، فقد أخذت آباءهم. فالمراد آباؤهم على ما مضى في البقرة وفي غيرها لأنهم راضون بما كان عليه آباؤهم من الكفر فلهم من الحكم ما لآبائهم إذ هم على مذهبهم. وقال قتادة: {لَعنَّاهُمْ} محذوف من الكلام كأنه: فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم

كذا وكذا لعناهم وهو اختيار الطبري. قال: ودل على المحذوف قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} لأن من طبع الله على قلبه فقد لعنه الله وغضب عليه. وقيل: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم كذا (وقولهم كذا). طبع الله عليها. وقال الزجاج: المعنى: فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} أي: بمحمد A { وَبِكُفْرِهِمْ} هو أنهم رموها بالزنا {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح} أي: بدعواهم ذلك، فأكذبهم الله في ذلك، فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ}. قيل: إن اليهود أحاطوا بعيسى ومن معه وهم لا يشبهون عيسى بعينه فحولوا جميعاً في صورة عيسى، فأشكل عليهم أمر عيسى، فخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبون أنه عيسى.

قال وهب بن منبه: أتى عيسى ومن معه سبعة عشر من الحواريين في بيت، فأحاط بهم اليهود، فكلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا لترزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً، قال عيسى لأصحابه: من يشتري اليوم نفسه بالجنة؟ قال رجل منهم: أنا فخرج إليهم. فقال: أنا عيسى، فأخذوه وقتلوه، وهو على صورة عيسى، وصلبوه وظنوا أنه عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك، إذا الصورة مشبهة، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وقيل: إنه كان محبوساً عند خليفة قيصر، فاجتمعت اليهود إليه فتوهم يريدون خلاصه، فقال: أنا أخليه لكم، فقالوا: بل نريد قتله، فرفعه الله إليه، فأخذ خليفة قيصر رجلاً فقتله، وقال لهم: قد قتلته، خوفاً منهم، وهو الذي شبه لهم. قوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} يعني اليهود الذين أحاطوا بعيسى، ومن معه وأرادوا قتله، وذلك أنهم كانوا عرفوا عدد من كان في البيت، قبل دخلوهم فيما ذكر بعض أهل التأويل: فلما دخلوا فقدوا واحداً من العدد، ووجدوا الشبه فالتبس عليهم أمر عيسى بفقدهم واحداً من العدد، فقتلوا الذي عليه الشبه على شك. وقيل: إن شكهم فيه هو أن بعضهم زعم أنه الله وما قتل. وزعم بعضهم أنه ما قتل، فهم شاكون فيه. ودل على صحة شكهم قوله تعالى:

{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} فقتلوا من قتلوا على شك لا على يقين وعلم. {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: ما قتلوا لظنهم في المقتول أنه عيسى يقيناً، ولكنهم قتلوه على شك، فالهاء عائدة على الظن. قال ابن عباس: المعنى ما قتلوه ظنهم به يقيناً. وقال السدي: وما قتلوا أمره يقيناً أنه هو عيسى. وقال الفراء: المعنى: ما قتلوا العلم به يقيناً. وقيل المعنى: الذي شبه لهم إنه عيسى يقيناً، بل قتلوه على شك {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} أي عيسى. " ومن جعل الهاء تعود على العلم أو الظن أو النفس أو المشبه بعيسى وقف على يقيناً ". " ومن جعلها تعود على عيسى وقف على قتلوه على النفي، ويكون يقيناً نعت لمصدر محذوف المعنى: قال هذا قولاً يقيناً ". قال النحاس: إن قدرت أن يكون المعنى: " بل رفعه الله إليه يقيناً " فهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعف بل،. . . وكون الهاء تعود على عيسى قول خارج عن قول أهل التأويل. وقال بعض أصحاب حمزة ": عيسى ابن مريم تمام. لأنهم لم يقروا بأنه رسول

فليس بمتصل بما قبله. وقال نافع: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} تمام. وأجاز ابن الأنباري الوقف على " قتلوه " على أن ينصب " يقيناً بإضمار فعل هو جواب القسم، تقديره: ولقد صدقتم يقيناً، ولقد أوضح لكم يقينه إيضاحاً يقيناً، ثم تبتدئ {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} مستأنفاً. قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أدخله بعضهم في باب الاستعارة لأنه أريد به تحقيق الأمر واستيقانه. والاستعارة في كلام العرب باب، وهذا فصل نبين فيه نُبَذاً من معاني الاستعارة [فالاستعارة] معناها: أن نضع الكلمة في موضع ما هو قريب منها أو ما هو سببها، أو ما يشبه الآخر أي مقارب له بمعنى كقولك " النبات نوء " لأنه [عنه] يكون، والمطر سماء، لأنه منها ينزل، ويقولون " ضحكت الأرض " لأنها تبدي عن حسن النبات. وتفتر عنه كما يفتر الضاحك عن الثغر. ويقولون " لقيت من فلان عرق القربة " أي: شدة، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه، فاستعير عرقه في موضع. ومن ذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] أي: شدة الأمر، وذلك أن

الرجل إذا وقع في أمر يحتاج إلى معاناة، شمر عن ساقه، فاستعير الساق في موضع الشدة، وهو كثير في القرآن، وإنما هذا في أصل كلام العرب ثم خاطبهم الله على ما يعقلون في كلامهم وما اعتادوا منه. ومنه قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49] {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] إذ لم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه، إنما أراد مقدار هذين الحقيرين والعرب تقول: ما رزانه، زبالاً، فالزبال ما تحمله النملة بفيها. ومنه قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] يريد به التقليل أي ما يملكون من شيء. ومنه {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] أراد به أبطلناه، كما أن الهباء المنثور مبطل لا فائدة فيه، وهو ما سطع في شعاع الشمس من كوة البيت، والمنبث ما سطع من سنابك الخيل. ومنه: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [إبراهيم: 43] أي: لا تغني خيراً، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء لا شيء فيه. ومنه: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] أي أطلعنا، وأصله من عثر بشيء وهو غافل ثم

نظر إليه فاطلع عليه فصار العثار سبباً للتبين فاستعير مكان التبيين والاطلاع. ومنه: {حُبَّ الخير} [ص: 32] يريد الخيل سميت خيراً لما فيها من الخير وهو منافعها. ومنه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه} [الأنعام: 122] أي كافراً فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} [الأنعام: 122] أي إيماناً {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] أي في الكفر فاستعير الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهدى والنور مكان الإيمان. ومنه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] أي: إثمك وأصل الوزر ما حمل على الظهر فشبه الإثم بالحمل، وشبه بالثقل، لأن الحمل والثقل سواء فقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] أي آثاماً مع آثامهم. ومنه: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] أي نكاحاً لأن النكاح يمون سراً، ولا يظهر فاستعير له السر. ومنه: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223] كما تزرع الأرض، فشبه الولد بالزرع والبطن بالأرض. ومنه: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 266] أي ترخصوا وأصله أن يصرف المرء، بصره عن

159

الشيء ويغمضه فسمي الترخيص إغماضاً. ومنه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] جعل كل واحد لصاحبه كالثوب للإنسان يتضامان، ويلتصقان كالثوب في تضامه، والتصاقه على الإنسان، وقد قيل معنى {لِبَاساً} سكناً، كما قال {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67 - القصص: 73]. ومنه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي: نفسك من الذنوب، فجعل موضع النفس، لأنه يشتمل عليها، وشبه ذلك كثير. قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. . .} الآية. التقدير عند سيبويه، (وإن من أهل الكتاب أحد). وعند الكوفيين (وإن من أهل الكتاب إلا (من) ليؤمنن [به]) حذفوا الموصول وهو قبيح. وسيبويه إنما قدر حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، وذلك كثير في

القرآن والكلام، قال الله: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ} [سبأ: 11] أي: دروع سابغات فحذف الموصوف، فقول سيبويه أحسن واختيار جيد. وحذف الموصول وإقامة الصلة مقامه على قول الكوفيين غير جائز ولا موجود لأن الصلة كبعض الموصول، ولا يحسن حذف بعض الاسم، ولأن الصلة لا بد منها للموصول وليس الصفة كذلك فقد يستغنى عنها. والمعنى: إنهم كلهم يؤمنون بعيسى إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الأمم كلها واحدة ملة الإسلام، كذلك قال ابن عباس، والحسن وقتادة. قال ابن زيد: إذا نزل عيسى لقتل الدجال لم يبق يهودي إلا آمن، وذلك حين لا ينفعهم إيمانهم، فالهاء في " به " يعود على عيسى A في هذين القولين. وروى عن ابن عباس أنه قال: ليس من أهل [الكتاب] أحد إلا يؤمن

بعيسى قبل موته " أي موت الكتابي إذا عاين الحق ". وقال [مجاهد]: لا تخرج نفس الكتابي حتى يؤمن بعيسى قال وإن غرق، وإن تردى من حائط لا بد أن يؤمن بعيسى. وقد قرأ أُبي: " قبل موتهم " فهذا يدل على أنها لأهل الكتاب وهو قول أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: " لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وإن عجل عليه بالسلاح. وقال عكرمة: لو وقع يهودي من فوق القصر لم يبلغ الأرض حتى يؤمن بعيسى، فالهاء تعود على الكتابي على هذه الأقوال ويجوز أن تكون لعيسى. وروي عن عكرمة أيضاً، لا يموت اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد عليه السلام. فالهاء في " به " تعود على محمد A. وفي حرف أُبي ومصحفه " قبل موتهم " يعني: أهل الكتاب.

160

واختار الطبري أن تكون لعيسى، وأن يكون المعنى ليس أحد من أهل الكتاب الحاضرين عند نزول عيسى إلا ليؤمن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام. وروى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " الأنبياء أخوات لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بينه وبيني نبي، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، بين ممصرتين، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يُهلك الله D في زمانه الملل كلها غير الإسلام، ويُهلك الله في زمانه المسيح الكذاب الدجال وتقع الأمنة في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل، والذئاب مع الغنم، ويلعب الغلمان والصبيان بالحيات، لا يضر بعضهم بعضاً، ثم يلبث في الأرض ما شاء الله - وربما قال - أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه ". قوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: شاهداً على تكذيب من كذبه، وتصديق من صدقه، وأنه بلغ الرسالة وأقر بالعبودية. قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية. قال ابن إسحاق: هذا بدل من {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} والذي حرم عليهم هو قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا

كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية. والظلم هنا هو نقضهم الميثاق {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله} {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}. {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} وعلى عيسى. فهذا هو الظلم، فمن أجله حرمت عليهم الطيبات وهي كل ذي ظفر والشحوم من البقر والغنم. وقوله: {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله} أي صدوا أنفسهم، وغيرهم عن الحق {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} هو قولهم أؤخرك بديني وتزيدني {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بالباطل} هو ما يأكلون من الرشا في الحكم، وعلى تغيير الدين يأخذون أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ويقولون هذا من عند الله، فسمي ذلك باطلاً لأنه أخذ بغير استحقاق. {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} أي من هؤلاء اليهود {عَذَاباً أَلِيماً} أي موجع أي مؤلماً. قوله: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ والمؤمنون} الآية: نصب {والمقيمين الصلاة} عند سيبويه على التعظيم. وقال الكسائي: هو في موضع خفض عطف على " ما " جعل المقيمين هم الملائكة عليهم السلام، وهو اختيار المبرد، والطبري. واستبعد المبرد النصب على المدح لأن المدح إنما يكون بعد تمام الخبر، والخبر لم

يأت بعد. ومذهب سيبويه أن " يؤمنون " الخبر فقد أتى قبل الراسخون. ومذهب المبرد أن أولئك الخبر، فهو لم يأت بعد. وقيل: هو معطوف على قبلك. وقيل: على الكاف في قبلك. وقيل: على الكاف في أولئك. وقيل: على الهاء، والميم في منهم. وهذه الأقوال الثلاثة عطف فيها على مضمر مخفوض على مذهب الكوفيين، وهو لا يجوز عند البصريين. قوله: {والمؤمنون} في رفعه خمسة أقوال: رفعه عند سيبويه على الابتداء. وقيل: رفع على إضمار مبتدأ. وقيل: عطف على المضمر في المقيمين. وقيل: عطف على المضمر في " يؤمنون ".

وقيل: هو معطوف على الراسخين. ومعنى الآية: إن الله تعالى أخبر عن أهل الكتاب أنهم سألوا محمد A أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، ثم بيّن أنهم ليسوا كلهم قالوا ذلك، فأخبر أن الراسخين في العلم منهم أي: من أهل الكتاب والمؤمنون أي منهم أيضاً يؤمنون بالقرآن، والتوراة والإنجيل، وجميع كتب الله، وهو ما أنزل من قبل محمد A فهم لا يسألون ما سأل أولئك. وقوله: {والمقيمين الصلاة} هم من أهل الكتاب أيضاً. قال أبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب يعني كونه بالياء وإنما حقه الرفع بالواو وهي قراءة ابن مسعود. وقالت عائشة Bها لعروة إذ سألها عن اختلاف الإعراب في {والمقيمين الصلاة} وفي {والصابئون} [المائدة: 71] في المائدة وفي {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في طه، يا ابن أختي، هذا عمل

163

الكاتب غلطوا في الكتاب. وفي قراءة عبد الله " والمقيمون " بالرفع. وقال عثمان Bهـ أرى فيه لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها، يريد المصحف، وهذه الأحاديث مطعون فيها عند العلماء لصحة جواز المصحف على لغة العرب. وإذا كان للشيء وجه لم يجز أن يحمل على الغلط، وقد ذكرنا أن كونه بالياء له وجوه سائغة في لغة العرب، ويدل على أنه ليس بخطأ من الكاتب إن في مصحف أُبَيّ {والمقيمين} أيضاً فلو كان الرفع الصواب لم تجتمع المصاحف على تركه. قوله: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ. . .} الآية. قرأ الحسن: يونس ويوسف بالكسر جعله فعلاً مستقبلاً سمي به من آسف وآنس، وعلى هذا يجب أن يصرفا في النكرة، ويهمزا، ويكون جمعهما: يا أنس ويا أسف. ومن لم يهمز قال في الجمع: يوانس ويواسف.

وحكى أبو زيد: يونس ويوسف بالفتح لغة. ومعنى الآية إن الله أخبر نبيه A أنه أرسل إليه بالرسالة كما أرسل إلى من ذكر من الأنبياء وإلى من لم يسم. وقيل: معناه: أوحى إلى جميعهم وإلى محمد A { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13]. وكان سبب نزول هذه الآية أن النبي A لما أخبرهم بما أوحى الله إليه من سؤالهم إياه أن ينزل عليهم كتاباً فتلا ذلك عليهم وفضحهم: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية تكذيباً لهم. وقيل: إنهم قالوا عند نزول هذه الآية {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ولا على عيسى، ولا على موسى، فأنزل الله {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] الآية. وروي أن سكين بن عدي بن زيد قال للنبي A: والله، يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية.

وروى [أبو] ذر عن النبي A أنه قال: " الأنبياء مائة ألف وعشرون ألف. والرسل منهم ثلاثة مائة وثلاثة عشر منهم أربعة سريانيون وهم آدم، وشيث وإدريس، ونوح، ومنهم أربعة من العرب: هو وشعيب وصالح ونبيكم محمد A ". وأول أنبياء بني إسرائيل بعد أولاد إسرائيل وإسرافيل يعقوب موسى، وآخرهم عيسى صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وروى أيضاً عنه أنه (قال): جميع كتب الله التي أنزل مائة كتاب، وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل،

والزبور والقرآن، فكانت صحائف إبراهيم أمثالاً كلها: يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لترد عني دعوة مظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من كافر. . . " وكان فيها: " وعلى العاقل أن تكون له ساعات: [ساعة] يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنيع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. ". " وعلى العاقل ألا يكون صاحباً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. . . " وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه. ومن حسب كلامه: " من عمله قل كلامه ". قال: وكانت صحف موسى كلها عبراً. " عجبت لمن أيقن بالموت وهو يفرح ". " وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو يسخط ". " وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها ". " وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ". ويروى أن آدم عاش ألف سنة وفي التوراة عاش ألأف سنة إلا سبعين عاماً. وكان بين آدم والطوفان ألفاً سنة ومائتا وإثنان وأربعون سنة.

164

وبين الطوفان وبين موت نوح ثلاثمائة وخمسون سنة. وبين نوح وإبراهيم ألفاً سنة ومائة سنة وأربعون سنة. وبين إبراهيم وموسى سبعملئة سنة. وبين موسى وداود خمسائة سنة. وبين داود وعيسى ألف سنة ومائتا سنة. قال وهب بن منبه: كان بين آدم ونوح عشرة آباء، وبين نوح وإبراهيم عشرة آباء. قال عكرمة: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. قال القتيبي: قرأت في الإنجيل: أن بين إبراهيم وداود أربعة عشر قرناً، ومن داود إلى جالية بابل أربعة عشر قرناً، ومن جالية بابل إلى عيسى أربعة عشر قرن. قوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} الآية. [رسلاَ] نصب عطفاً على معنى {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ}، لأن معناه إنا بعثناك وبعثنا رسلاً. وقيل: هو منصوب بفعل يفسره ما بعده كأنه: وأرسلنا رسلاً قصصناهم عليك. وقيل: المعنى: وقصصنا رسلاً قصصناهم عليك، والمعنى إنها معطوفة على ما

166

قبلها. ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه محمداً A أنه أوحى إليه كما أوحى إلى من ذكر من الأنبياء، وكما أوحى إلى رسل قد قصهم عليه، وإلى رسل لم يقصهم عليه، تكذيباً لليهود إذ قالوا {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} ثم أعلمه أنه خص موسى بالكلام، وأكده بقوله {تَكْلِيماً} ليعلم أنه حقيقة لا مجاز، ولأن الفعل في كلام العرب إذا أكد بالمصدر علم أنه حقيقة لا مجاز. قال كعب: كلم الله موسى بالألسنة كلها، فجعل موسى يقول: يا رب لا أفهم، حتى كلمه بلسان موسى آخر الألسنة. وقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ} نصب على الحال من أسماء الأنبياء. {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي كيلا يقولوا: هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134 - القصص: 47]. قوله: {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ. . .} الآية. المعنى: إن جحدوا ما أنزل إليك يا محمد بأن قالوا: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} فإن الله يشهد أنه أنزله إليك بعلم منه أنك خِيرته من خلقه ويشهد بذلك ملائكته

167

{وكفى بالله شَهِيداً} أي اكتفوا به شهيداً على صدق نبيكم، أي: حسبكم ذلك. وقيل معنى: {بِعِلْمِهِ} أي وفيه علمه، كما تقول: جائنا فلان بالسيف أي ومعه. قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في جماعة من يهود دخل عليهم رسول الله A فقال لهم: إني والله أعلم، أنكم لتعلمون أني رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} ". المعنى: إن الذين جحدوا نبوتك بعد علمهم بها {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن الدين الذي بعثك الله به، وهو الإسلام وهو قولهم: لمن سألهم عن النبي A ما نجد صفته في كتابنا، وقولهم: إن النبوة لا تكون إلا في ولد هارون، وذرية داود {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} أي قد جاروا عن قصد الطريق جوراً شديداً. قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ. . .}. الآية. المعنى: إن الذين جحدوا نبوة محمد، ووضعوا الحق في غير محله، ليس يغفر لهم الله ذلك، إذا ماتوا عليه، ولم يكن ليهديهم طريقاً إلى الحق، ولكن يخذلهم حتى يسلكوا طريق جهنم فيقيمون فيها، خالدين [فيها] أبداً.

170

وقيل معنى: {[وَلاَ] لِيَهْدِيَهُمْ} أي لا يوفقهم إلى الإسلام. {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} اي الخلق خلقه، والأمر أمره يفعل ما يشاء. قوله: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ. . .} الآية. {خَيْراً لَّكُمْ} نصب عند سيبويه بإضمار فعل التقدير (وأتوا خير لكم). وهو عند الفراء: نعت لمصدر محذوف. وعند أبي عبيدة خبر كان، التقدير: يكن خيراً لكم. وقيل: نصبه على الحال. لأن التقدير: وآمنوا خيراً لكم، فلما حذف هو، الذي هو كناية عن مصدر يرتفع خير به، اتصل خبر بمعرفة قبله فنصب على الحال، وفي بعد، لأن خيراً غير جار على الفعل، ولا هو بمعنى الجار. والمعنى: أنه خطاب لمشركي العرب وسائر أصناف الكفر. والحق هو الإسلام. والمعنى: {وَإِن تَكْفُرُواْ} أي: تجحدوا، رسالة A وتردوها فعن ذلك لا يضر الله شيئاً. لأن له ما في السموات والأرضين، فلن ينقصه كفركم شيئاً، ولم يزل الله عليماً بكم، وبما أنتم إليه صائرون وعاملون حكيماً في أمره إياكم. قوله: {يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق. . .} الآية.

معنى {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ}: أي: آلهتنا ثلاثة. {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} نصب {خَيْراً} عند سيبويه على إضمار فعل دل عليه الكلام لأنه أمرهم بالانتهاء عن الكفر والدخول في الإيمان، فالمعنى: وأوا خيراً لكم. قال: لأنك إذا قلت أنتم فأنت تخرجه من شيء، وتدخله في آخر، ومثله عنده. قواعد من سر حتى ملك ... أو الربا بينهما أسهلا والمعنى: وآت أسهلا. ومذهب أبي عبيدة أنه خبر كان، والتقدير يكن خيراً لكم، ورد ذلك المبرد

لأنه يضمر الشرط وإضماره لا يحسن. ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف كأنه قال: انتهوا انتهاء خيراً لكم. قوله: {سُبْحَانَهُ} انتصب انتصاب المصدر. و {أَن يَكُونَ} إن في موضع [نضب] بحذف الخافض المحذوف، [والتقدير على أن يكون، وقد قيل: في موضع خفض بإعمال الخافض المحذوف]. ومعنى الآية: أنها خطاب للنصارى. فمعنى: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي: " لا تجاوزوا الحق في دينكم. {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله [إِلاَّ الحق]} أي: لا تقولوا في عيسى إلا الحق فإن قولكم في عيسى غير الحق إذ تقولون إنه: ابن الله، فهذا قولهم على الله غير الحق. و {المسيح} فعيل بمعنى مفعول بمعنى ممسوح وسمي بذلك لأن الله مسحه من الذنوب والأدناس. وقد قيل: إنها لفظة أعجمية أصلها مشيحا فأعرب فقيل المسيح، وقد ذكرنا

ذلك في غير هذا الموضع بأشبع من هذا التفسير. ومعنى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} الكلمة هنا الرسالة التي أمر الله ملائكته أن تأتي بها مريم مبشرة من الله لها التي ذكرها الله في آل عمران. قال قتادة: كلمة [قوله] {كُنْ فَيَكُونُ}. ومعنى: {أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} أعلمها بها وأخبرها، كما تقول: ألقيت إليك كلمة حسنة، بمعنى أعلمتك، بها. ومعنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي: ونفخ منه، وذلك أنه حدث عيسى في بطن أمه بأمر الله، وتقديره من غير ذكر من نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه، فنسبه تعالى إليه لأنه عن أمره كان. وسمي النفخ روحاص: لأنه ريح تخرج من الروح. وقيل: معنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}: أنه كان بإحياء الله إياه بقوله {كُنْ} فمعناه وحياة منه. وقيل: معنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} ورحمة منه كما قال {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] فمعنى برحمة منه أي جعله رحمة لمن تبعه وصدقه. كما قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} [مريم: 20].

172

وقال أُبي بن كعب [في قوله] {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية. قال: أخذهم فجعلهم أرواحاً، ثم صورهم ثم، استنطقهم، فكان روح عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد، والميثاق فأرسل تلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها فحملت فهو قوله {وَرُوحٌ مِّنْهُ}. وقيل: الروح في الآية معطوف على المضمر في {أَلْقَاهَا} والمضمر اسم الله، والروح اسم جبريل كان تقديره: ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم، كما قال: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعرا: 193] وهو جبريل عليه السلام. وقيل معنى: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} وبرهان منه لمن اتبعه، وذلك ما أنزل عليه من كتابه، وسمي البرهان روحاً، لأنه يحيى به من قبله قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح. . .} الآية. {أَن} في موضع نصب، أي: من إن، أو: عن إن. والمعنى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} و {لاَ الملائكة المقربون} أن يقروا بالعبودية لله والإذعان له.

و {المقربون} هم من قرب منهم من الله في المنزلة لا قرب المسافة. وقيل: هم من قرب منهم من السماء السابعة قاله الضحاك. وفي هذا اللفظ دليل على فضل الملائكة على بني آدم. ومعنى: {لَّن يَسْتَنكِفَ} لن يتعظم ويستكبر. {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} أي يتعظم من عبادته ويستكبر عنها. {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي يبعثهم، فأما المؤمنون وهم المقرون بالوحدانية {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [بعد ذلك] تفضلاً منه. [وذلك أنه تعالى [وعد] المؤمنين للحسنة عشر أمثالها، ثم يزيدهم تفضلاً منه] ما شاء غير محدود. وقيل: الزيادة إلى سبعمائة ضعف، وقيل إلى ألفين. قوله: {وَأَمَّا الذين استنكفوا} أي " تعظموا عن عبادته " {واستكبروا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي مؤلماً. {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي: يستنقذهم من عذاب الله.

174

قوله: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ. . .} الآية. المعنى: إنه خطاب لجميع الملل. ومعنى: {بُرْهَانٌ} أي حجة. ومن أجل تذكير البرهان في اللفظ قال {قَدْ جَآءَكُمْ} ولم يقل قد جاءتكم، وهو محمد A هو حجة على جميع الخلق. {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} أي القرآن. قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} أي تمسكوا بالنور وهو القرآن فالهاء تعود على القرآن. وقيل: معنى {واعتصموا بِهِ} أي اقتنعوا بكتابه عن معاصيه. {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: يوفقهم لإصابه فضله، ويهديهم لسلوك طريق من أنعم عليه من أهل طاعته. وقال بعض الكوفيين في نصب الصراط: إنه على القطع من الهاء في إليه. وقيل: معنى {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي: إلى ثوابه. والهاء في إليه تعود على الله جل ذكره. وقيل: تعود على الفضل. وقيل: على الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب والرحمة في قول مقاتل: الجنة. قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة. . .} الآية.

قوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ} أي: كراهة أن تضلوا قاله المبرد. وقال الكسائي والفراء: المعنى: لئلا تضلوا. وروى ابن عمر، أن النبي A قال: " لا يَدْعُوَنَّ أحدكم على ولده، أن يوافق من الله إجابة " المعنى: لئلا يوافق. وقيل: المعنى: يبين الله لكم الضلالة لتجتنبوه. ومعنى الآية: أن عمر بن الخطاب سأل النبي A عن الكلالة، فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ. . .} الآية. والكلالة من لا ولد له ولا والد من الموتى، فهو اسم للميت الذي لم يترك ولداً ولا والداً. وقيل: الكلالة اسم للورثة الذين لا ولد فيهم ولا والد، وقد مضى ذكر هذا بأشبع من هذا. وقيل: إنها نزلت في جابر بن عبد الله عاده النبي A في مرضه، قال جابر: فقلت يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له ولد ولا

والد، قال: فلم يجبني النبي A بشيء حتى نزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية. وقال الفراء وأنس: هي آخر آية نزلت من القرآن. وقال جابر: نزلت في المدينة. وقيل نزلت في سفر كان فيه النبي A ومعنى حكمها: أن من مات لا ولد له ولا والد {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ} إن مات وليس لها ولد ولا والد، وللاثنين فأكثر من أخيهما الثلثان. فإن ترك إخوة ذكوراً وإناثاً {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} والأخ للأب يقوم مقام الأخ للأب والأم عند عدمه، وكذلك الأخت. وقوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} فيه قولان: قال الأخفش: التقدير: فإن كان من ترك اثنتين ثم ثنى الضمير على معنى من. وقال المازني: فائدة الخبر هنا أنه لما قال {كَانَتَا} كان يجوز أن يكون الخبر صغيرين، أو كبيرين، فلما قال {اثنتين} اشتمل على الصغير والكبير فأفاد ذلك.

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 347 هـ المجلد الثالث المائدة - الأنعام 1429 هـ - 2008 م

المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة قال علقمة: ما كان في القرآن {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهو نزل بالمدينة، وما كان {يا أيها الناس} فهو نزل بمكة. وهذا قول جرى من علقمة على معنى أن الأكثر كذلك، وليس يصحب ذلك في كل القرآن، بل " قد " يكون في المدني {يا أيها الناس} وفي المكي {يا أيها الذين آمَنُواْ}.

ولكن ما كان فيه {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهو مدني، وما كان (فيه) {يا أيها الناس} ولَيْسَ فِيه {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهو مكي، وفي " النور " اختلاف. قوله {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} نصب على الحال من المضمر في {أَوْفُواْ} يراد به التقديم، وقيل: هو حال من الكاف والميم " في قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ}. وقيل: من

الكاف والميم " في {عَلَيْكُمْ}. ومعنى الآية الأولى - من هذه السورة - أن العقود: العهود التي (قد) كان عاهد بعضهم بعضاً بها في الجاهلية من النصرة والمؤازرة، أمروا في الإسلام أن يوفوا بها، قال ذلك ابن عباس ومجاهد والضحاك / وقتادة والسدي والثوري.

وروي أن النبي عليه السلام قال: " أَوْفوا بِعَقْدِ الْجاهِلِيَّةِ وَلا تُحدِثوا عَقْداً في الإِسْلامِ ". وقال الكلبي: العقود هنا الفرائض وما أُحِلَّ لهم وما حرم عليهم. وقيل: هو كل شيء عقده الإنسان على نفسه: من حج أو يمين أو هبة أو عتق أو نكاح أو طلاق أو شبه ذلك.

وكل طاعة ألزمها الإنسان نفسَه، فليس له أن يخرج منها حتى يُتِمَّها، وعليه القضاءُ إن قطعها من غير عذر. " و " قال ابن جريج: هي العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد، فهي لأهل الكتاب خاصة، وكان في كتاب رسول الله الذي بعثه إلى نجران: هذا بيانٌ من الله ورسولِه: {يا أيها الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} إلى {سَرِيعُ الحساب}.

وقال زيد بن أسلم: العقود - في هذه الآية - " سِتَّة ": " عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين ". (و) قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} " الآية. " قال الحسن: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم ". وقال قتادة والسدي والضحاك: بهيمة الأنعام: {الأنعام} كلُّها. وقال ابن عمر: بهيمة الأنعام: ما في

بطونها. قال عطية: هو بمنزلة كبدها يؤكل، وسئل ابن عمر عنه يخرج ميتاً، فأجاز أكله، يريد بعد ذكاة أمه، (لقول النبي A: " ذَكاةُ الْجَنينِ ذَكاةُ أُمِّهِ "). فأما إِن خَرجَ ميّتاً - والأم حية - فلا يؤكل أَلبتَّة، وقال ابن عباس مثل ذلك. وروي " عن " الضحاك أن بهيمة الأنعام الوحش مثل (الظباء والحمر) وشبهه.

والأنعام - في اللغة - يشتمل على الإبل والبقر والغنم، وسميت الأنعام بهيمة، لأنها أُبْهِمَت عن التمييز. وقوله {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي: فإِنَّه حرام، وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة (والدم)} [المائدة: 3] وما بعدها. وقيل: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو الخنزير. وقيل: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو الدم المسفوح، لأنه أحلها ثم حرّم دمها. {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: الحُرم جمع حرام، " وحرام " بمعنى مُحرِم.

2

وهذه الآية - على عدد المدني، من أول السورة إلى {يُرِيدُ} - فيها خمسة أحكام: - الأول قوله: {أَوْفُواْ بالعقود}. - والثاني قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام}. - والثالث قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ}. - والرابع قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. - ودل على أن الصيد حلال لغير المحرم، فهو الحكم الخامس. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية.

قوله: {شَنَآنُ قَوْمٍ} مصدر أصله الفتح، و [لكن] من أسكن جعله اسماً. وقد توهم أبو عبيدة وأبو حاتم أن من أسكنه جعله مصدراً، فأنكراه على ذلك، وليس هو عند من أسكن مصدراً، بل هو اسم " ككسلان " و " غضبان ". وقرأ يحيى بن وثاب {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بالضم.

وهي عند الكسائي لغتان: " أَجرَم " و " جَرَم "، ولا يعرف البصريون " أجرم " إلا في الجنابة. ومن قرأ {أَن صَدُّوكُمْ} بالكسر، فالمعنى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا إن صدّوكم "، فالصد لم يكن بعد. وفي حرف ابن مسعود شاهد للكسر، لأنه قرأ (إِن يَصُدّوكُم)، ومثله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ} [محمد: 22].

ومن قرأ بالفتح، احتج أن الصد قد كان، وذلك أن الآية نزلت عام الفتح، سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست /، فالصدّ كان قبل الآية. وقيل: " إِنْ " بمعنى " إذْ "، فهو صَدٌّ قد كان، فالكسر أولى به، ويدل على الكسر قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله [وَلاَ الشهر الحرام] وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} ولا كذا ولا كذا، فهو أمر للمؤمنين ألا يعتدوا إنْ صَدّ لهم، ولو كان الفتح الصواب لكان نَهْياً للمشركين ولم يقل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ}، وقد جعل النحاس هذه الحجة حجة للفتح، وهو خطأ، إنما

تكون حجة للكسر. ومعنى الآية: أن الله نهى المؤمنين أن يحلوا شعائره، وهي معالمه وحدوده التي جعلها علماً لطاعته في الحج. وقال عطاء: شعائر الله حرماته، حضهم على اجتناب سخطه واتباع طاعته.

وقال السدِّي: شعائر الله حرَم الله. وقال ابن عباس: " شعائر الله مناسك الحج ". وعن ابن عباس أيضاً: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} نهاهم أن يرتكبوا ما نهى عنه المحرمَ أن يصيبه. وواحد الشعائر: شعيرة، وقيل: هي " فعيلة " بمعنى: " مُفعَلَة ". قال أبو عبيدة: الشعائر الهدايا. قال الأصمعي: أشعرتها: أعلمتها.

ابن قتيبة: الإشعار أن [يُجَلَّلَ] ويُقلَّد ويُطعَن في سنامه ليُعلَم بذلك أنه هدي، فنهى الله أن يستحلوه قبل أن يبلغ مَحِلَّه. وقيل: الشعائر العلامات بين الحِلِّ والحَرم، فنُهوا أن يجاوزوها غير مُحرِمين، وهو مشتق من قولهم " شَعر فُلانٌ بالأمرِ " إذا علم به. قال زيد [بن] أسلم: الشعائر ست: الصفا والمروة، والبدن، والجمار، والمشعر الحرام، وعرفة، والركن. قال: والحرمات خمس: الكعبة الحرام، والبلد [الحرام]، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، والمُحرِم حتى يَحِلَّ. وقال الكلبي: كان عامة العرب لا يَعُدُّون الصفا والمروة من الشعائر، ولا

يقفون في حجهم (عليهما، وكانت الحُمْسُ لا يرون عرفات من الشعائر ولا يقفون بها في حجهم)، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وغيرها. وقوله: {وَلاَ الشهر الحرام} أي: لا تستحلوه بأن تقاتلوا فيه [أعداؤكم]، وهو مثل قوله: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]. وعنى بالشهر الحرام رَجَب مُضَر، كانت مضر تحرّم فيه القتال. وقيل: عنى به ذا القعدة. وقيل: إنهم كانوا يُحرّمونه مرة ويُحلّونه مرة، فنهوا

عن تحليله. وقوله {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد}: أما الهدي فهو ما أهداه المؤمن من بعير " أو بقرة " أو شاة إلى بيت الله، حرّم الله سبحانه أن يُغْصَب أهله عليه أو يمنعوا أن يبلغوه محلّه. وقوله {القلائد} أي: لا تحلوا الهدايا المقلدات ولا غير المقلدات، فقوله {الهدى} هو ما لم يقلد، وقوله {القلائد} هو ما قلد منها. وقيل: القلائد هو ما كان المشركون يتقلدون به - إذا أرادوا الحج مُقبلين إلى مكة - من لحاء السَّمِرُ فإذا انصرف تقلد من الشَّعَر، فلا يعرض له أحد.

وقيل: إنه كان يأخذ معه من شوك الحرم فلا يعرض له أحد. قال قتادة: كان الرجل - في الجاهلية - إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من السَّمُر فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلا يعرض له أحد. وقال عطاء وغيره: كان الرجل إذا خرج من الحرم تقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن، فأمر الله المؤمنين ألا [يحِلُّوا] من تقلد بذلك. وهو منسوخ، وكذلك / قال السدي وابن زيد. وقيل: إنما نهى الله أن يُنزع شجر الحرم فيُتَقلّد به على ما كانت الجاهلية تصنع. فالتقدير على هذه الأقوال: ولا أصحاب القلائد.

وقيل: كان الرجل إذا خرج من أهله حاجاً أو معتمراً - وليس معه هدي جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فَأمِن بها إلى مكة، وإذا خرج من مكة علق في عنقه من لحاء شجر مكة فيأمن بها إلى أهله. وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما: فأنزل الله {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} أي: لا تستحلوا ترك ذلك، {وَلاَ الهدي} أي: لا تعرضوا لهدي المشركين، {وَلاَ القلائد} أي: لا تستحلوا من قلد بعيره، وكان أهل مكة يُقَلِّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوبر، وقوله {ولا آمِّينَ البيت الحرام} أي: لا تستحلوا منع القاصدين للبيت الحرام. وقرأ الأعمش (ولا آمِّي البَيْتِ) بالإضافة.

وقيل: المعنى: ولا تستحلوا منع قصد القاصدين البيت. و" هذه الآية [نزلت] في رجل من ربيعةَ يقال له الْحُطَم " بن هند - كافرٍ، أتى حاجاً، قد قلد هديه، فأراد أصحاب النبي A أن يخرجوا إليه فنزلت الآية، فنهاهم الله (عن) ذلك. قال ابن جريج: " قدم الحُُطَمُ البكري على النبي A فقال: إني داعِيةُ قومي وسَيِّدُ قومي، فأْعْرِض عَلَيَّ ما تقول، فقال له النبي: أدعوك إلى الله أن تعبده: لا تشرك به (شيئاً) وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.

قال الحطم: في أمرك غِلظة، أَرجعُ إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرتَ، فإن قبلوا أقبلتُ معهم، وإن أدبروا كنت معهم. قال له النبي: ارْجِعْ. فلما خرج قال: لقد دخل عليَّ بِوجهٍ كافرٍ وخرج عنّي بقفاً غادِرٍ، وما الرجل بمسلم. فَمَرّ على سَرْح لأهل المدينة، فانطلق به وقَدِم اليمامة وحضر الحج، فتجهز [خارجاً]- وكان عظيم التجارة - فاستأذن أصحابُ النبي أن يتلقّوه ويأخذوا ما معه "، فأنزل الله D { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية. والحُطَم هذا هو القائل: قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطم ... ليس براعي إبلٍ ولا غَنَم

ولا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمٍ ... باتوا نِياماً وابنُ (هندٍ لَمْ) ينَمْ (بَاتَ يُقاسيها) غُلامٌ كالزَّلَم ... خَدَلَّجَ (السَّاقَيْن) مَمْسوحَ الْقَدَم وقيل: اسم الحُطم [ضُبَيْعَة] بن شرحبيل البكري، قال ذلك إذ ساق السرح وهرب به. وقال ابن زيد: جاء ناس يوم الفتح يَؤُمّون البيت بعمرة وهم مشركون، فقال المسلمون: نُغِيرُ عليهم، فنزل {ولا آمِّينَ البيت الحرام}.

قال الشعبي: هذه الخمسة الأحكام منسوخة، كأنه يريد [أنها] نسختها {[فاقتلوا] المشركين} [التوبة: 5]، قال الشعبي: ولم ينسخ من سورة المائدة غير هذه. وكذلك قال ابن عباس وقتادة في {ولا آمِّينَ البيت الحرام}: أمر ألا يمنع مشرك من الحج، ثم نسخ ذلك بالقتل. وقال ابن زيد: هذا كله منسوخ بالأمر بقتالهم كافة. (و) قال قتادة: نسخ من المائدة {لا آمِّينَ البيت الحرام}، نسخه آية القتل

في " براءة ". ومن قال: نزلت كلها في شأن الحطم، قال: هي منسوخة. ومن قال: الشعائر حدود الله ومعالمه، قال: هي محكمة. وأما (الشهر الحرام) فهو منسوخ أيضاً، لأن الجميع قد أجمعوا على أن الله تعالى قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها. (و) قوله / {وَلاَ القلائد} منسوخ، لأن المشرك لو تقلد بجميع شجر الحرم لم نؤمّنه الآن: إجماع من الأمة، فهو منسوخ.

وقد قيل: إن المائدة لم ينسخ منها شيء، لأنها آخر ما نزل فيما ذكرت عائشة Bها. وقد قال البراء: آخر سورة نزلت " براءة " وآخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} آخر النساء. وقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} قال قتادة: هي للمشركين يلتمسون فضل الله ورضوانه عند أنفسهم وفيما يُصلح شأنهم في الدنيا خاصة. قال ابن عباس: يترضون الله بحجِّهم عند أنفسهم، وقال مجاهد: يبتغون الأجر والتجارة.

وقيل: هي للمسلمين، فهي محكمة، لأن المشرك لا يبتغي رضوان الله وفضله بحجه. وكونها في المشركين أبين في أقوال المفسرين وأكثر. قوله {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} هذا إباحة (وليس بحَتْمٍ). قال عطاء بن (أبي رباح): [أربع رخصة وليس بعزيمة]: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا}، {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا} [الحج: 36]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10]. قوله {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} المعنى: لا يحملنّكم بغض قوم أن

تعتدوا من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، هذا على قراءة الفتح، ومن كسر فمعناه: إن فعلوا ذلك بكم فيما تستقبلون. والقوم - هنا - أهل مكة صدوا النبي عليه السلام ومن معه عن المسجد الحرام يوم الحديبية. وقيل: معنى {" وَ " لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم. وقوله {أَن تَعْتَدُواْ} قيل: إنها نزلت في النهي عن الطلب بِنُحول الجاهلية أمروا ألا يطالبوا بما (مضى من أجل أنهم صُدُّوا عن البيت، فيحملهم البغض [أن] يطالبوا بما) تَقدَّم في الجاهلية من قتل أو غيره. ثم أُمروا أن يتعاونوا على

3

البر والتقوى، والبِرُّ: ما أُمِرْتَ به، والتقوى: ما نُهيتَ عنه: قاله ابن عباس. وقال سهل بن عبد الله: " البر: الإيمان، والتقوى: السنة ". {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} {الإثم}: الكفر، {والعدوان}: البدعة. {واتقوا الله} أي: خافوه إنه شديد العقاب. قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} الآية. المعنى: أن الله تعالى حرم [أكَلَ كل] ما مات من الأنعام وغيرها قبل التذكية، وحرم الدم المسفوح ولحم الخنزير [مُذَكّى] أو غير [مُذَكّى] وحرم {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وهو (ما ذبح) للأصنام والأزلام وشبهها مما أريد به غير الله، ومما تُعُمِّدَ في وقت ذبحه تَركُ ذكر اسم الله عليه، وحرم {المنخنقة} وهي التي

تَخْتَنِقُ بحبل أو بين حجرين أو عودين - ونحو ذلك - فتموت قبل التذكية، وحرم {والموقوذة} وهي التي تموت من ضرب عصا أو حجر أو [غير] ذلك فتموت قبل التذكية، وحرم {والمتردية} وهي التي تسقط من جبل أو في بئر ونحو ذلك فتموت قبل التذكية، وحرم {النطيحة} وهي التي تموت من نطح شاة أخرى لها، أو من نطحها لشاة أخرى، وكانوا يأكلون ذلك في الجاهلية من غير تذكية. واختلف في {النطيحة} فقيل: (هي) " فعلية " (بمعنى " مفعولة " وقيل هي) بمعنى " فاعلة "، ولذلك ثبتت الهاء (فيها).

وقال الفراء: إنما ثبتت الهاء، لأنه ليس قبلها مؤنث فتحذف الهاء لدلالة المؤنث على التأنيث، إنما تحذف إذا كان قبلها ما يدل على التأنيث. وحرم {وَمَآ أَكَلَ السبع} وهو أن [يؤخذ] منه وقد أكل بعضها وليس مما علّم / للصيد. وكان سبب ذكر هذه الأشياء أن العرب الجاهلية كانت تضرب الشاة بالعصا حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل ما لحقت من الشاة وغيرها في فم الأسد، وكانت تخنق الشاة بالحبل حتى تموت وتأكلها، وكانت تأكل جميع ما ذكر الله تحريمهُ، فأنبأنا الله بتحريمه، وهذه حجة من أجاز أكل جميع ذلك إذا ذكى وفيه حياة على أي: حال كان.

قوله {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} اختلف العلماء في هذا الاستثناء: فأكثرهم على أنه مستثنى ذكر تحريمه، كأنه حرم علينا جميع ما ذكره إلا ما أدركنا ذكاته وفيه شيء من روح. وأكثر الفقهاء على أن ما أدرك من جميعه فذكيّ وتحركت رجله أو طرف بعينه أو علم أنه بقيت (فيه) حياة، فإنه يؤكل. ومنهم من يرى أن هذا الاستثناء إنما هو من التحريم، لاَ مِنَ المحرمات المذكورة، كأن تقديره: إلا ما أحله الله لكم بالتذكية، وهو مذهب أهل المدينة، فيكون المعنى: إلا ما ذكيتم مما ذكر مما تُرجى له الحياة لو ترك، لا ما ذكيتم مما لا ترجى (له) الحياة لو ترك، فكل ما أصيب من ذلك في مقتل، فلا تنفع فيه الذكاة وإن أدرك

وفيه حياة، هذا مذهب مالك وأهل المدينة. ويدل على صحة هذا القول أن هذه الأشياء المذكورات بالتحريم لو كانت لا تحرم إلا بالموت قبل الذكاة، لكان قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} يغني عن ذكر ما بعده، ولا يكون لِذكرِ ما بعد الميتة فائدة. وقد قال المخالف: الفائدة في ذكر ما بعد الميتة وهو من الميتة ما تقدم ذكره من أن (أهل) الجاهلية كانت تخنق الشاة حتى تموت وتأكلها وتضرب الشاة حتى تموت وتأكلها، فأعيد ذكرها بعد الميتة لهذا السبب.

وقد سئل مالك عن الشاة يخرّق بطنها وتدرك (و) فيها حياة، قال: لا أرى أن تذكى ولا تؤكل، وكذلك مذهبه في كل ما تيقن أنه لا يعيش مما نزل به: أنه لا يذكى ولا يؤكل إن ذكي وفيه بعض حياة. وأصل التذكية - في اللغة - التمام، يقال: " لفلانٍ ذَكاءٌ " أي: تمام الفهم، " وذَكَّيْتُ النار ". أتْمَمْتُ إيقادَها. وقرأ الحسن: (السَّبْع) بالإسكان، وهي لغة أهل نجد. وأجاز مالك أكل ذبيحة السارق، ومنعه غيره. ولا يؤكل ما ذبحه المُحْرِم من صيد، لا يأكله هو ولا غيره عند مالك وغيره، بخلاف ما ذبح السارق. وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} مخصوص، لأن الدم الذي هو غير مسفوح - كالكبد وما أشبهه - حلال،

" وأحل النبي A أكل الحيتان والجراد والميتة "، فالدم خصصه قوله في " الأنعام " {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145]، والميتة خصصتها السنة. وقوله {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} حرم الله ما ذبح ليقرب إلى الأصنام، وقيل: النصب حجارة يذبح عليها أهل الجاهلية ويعبدونها. قوله {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام}: أي وحرم ذلك عليكم، وهو أن أحدهم

(كان) إذا أراد سفراً أو غزواً أجال القداح - وهي الأزلام - وكانت مكتوباً على بعضها " نهاني ربي "، وعلى بعضها، " أمرني ربي "، فإذا خرج القدح الذي عليه النهي لم يسافر، وإذا خرج الذي عليه الأمر سافر. وقيل: الأزلام حصىً بيض كانوا يضربون بها. وقيل: الأزلام كعاب فارس كانوا يتقامرون بها. وقيل: هي الشطرنج. ومعنى {تَسْتَقْسِمُواْ} تستدعوا القِسْمَ، كما تقول: استسقى إذا استدعى

السقي، والاستقسام من القِسْم، كأنهم يطلبون بها النصيب من سفرٍ أو بركة على ما يريدون. وقال ابن إسحاق: كانت هبل أعظم صنماً لقريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة يروى أن إبراهيم وإسماعيل حفراها ليكون فيها ما يهدى إلى الكعبة من حلي وغيره، وكانت عند هبل سبعة أقداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه " العقل " إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه " نعم "، إذا ضربوا به فخرج " نعم " عملوا به، وقدح فيه " لا " فإذا أرادوا

أمراً فضربوا (به) فخرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك، وقدح فيه " منكم "، وقدح فيه " مُلصَق "، وقدح فيه " من غيركم "، وقدح فيه " المياه "، فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح - وفيها ذلك القدح - فإذا خرج عملوا به، وكانوا يستعملون ذلك في نكاحهم وجميع أمورهم، وكانوا إذا شكوا في نسب أحد [منهم] ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قرّبوا صاحبهم وقالوا: يا إلهنا، هذا فلان (بن فلان) أَخْرِجْ لنا الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه " منكم " كان من أوسطهم، (وإن خرج عليه " من غيركم " كان حليفاً)، وإن خرج [عليه] " ملصق " كان لا نسب له ولا حلف، وإن خرج " لا " أخّروه عامهم ذلك وأتوا به عاماً آخر: أحكاماً لم يأمر (الله بها) ولا رضيها.

قوله {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} الآية، المعنى: الآن يئس الكفار منكم أن تتركوا دينكم وترتدوا إلى دينهم، وذلك اليوم (يوم) عرفة، عام حج النبي عليه السلام حجة الوداع، بعد دخول العرب في الإسلام. وقيل: ذلك يوم جمعة، نظر النبي A إلى الناس فلم ير إلا موحداً فحمد الله على ذلك، فنزلت الآية. وقيل: المعنى: الآن، والعرب تقول: " أَنَا الْيَوْمَ قَد كَبِرْتُ عن هذا " أي: الآن. وقال الحسن: يئسوا أن تستحلوا في دينكم ما استحلوا في دينهم. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي: لا تخافوهم أن يقهروكم فيردوكم عن دينكم، وخافون أي: إن خالفتم أمري. وروي عن عائشة Bها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه.

فهذا يقوي قول من (قال): " لا منسوخ فيها "، وهو قول الحسن وغيره، وليس عليه العمل، بل فيها ناسخ ومنسوخ عند أكثر العلماء. قوله {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي: أتْممتُ فرائضي عليكم وحدودي، ونزل ذلك يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش النبي عليه السلام - بعد نزول هذه الآية - إلا إحدى وثمانين ليلة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، " ولما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي A: ما يُبْكِيكَ؟ فقال: كُنَّا في زيادةٍ من ديننا، فَأَمَّا إِذا كَمُلَ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي A: صَدَقْتَ ".

قال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة. وقيل: معنى كمال الدين: أنه منع أن يحج مشرك وكمل الحج للمسلمين ونُفِيَ المشركون من البيت الحرام والحج، قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما وقيل: المعنى: اليوم أظهرت دينكم على سائر الأديان وأهلكت عدوكم. وذكر بعض العلماء أن في المائدة (ثمان عشرة) فريضة ليست في غيرها (وهي): تحريم الميتة / والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، والاستقسام بالأزلام، وتحليل طعام أهل الكتاب، وتحليل المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، والجوارح

مكلِّبين، وتمام الطهور: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وحكم السارق والسارقة، ونفي (فرض) البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وهي آخر سورة نزلت. واختيار الطبري أن يكون المعنى أن الله أعلم نبيه أنه أكمل لهم دينهم

بانفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين حتى حج المسلمون، لا مشرك يخالطهم، فأما إكماله بتمام الفرائض فيعارضه ما روى البراء بن عازب أن آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] الآية، (و) أيضاً فإن قول من قال: " نزل بعد ذلك فرائض "، أولى من قول من قال: " لم ينزل "، لأن الذي نفى يخبر أنه لا علم عنده، والنفي لا يكون شهادة مع خبر الصادق بالإيجاب. وقوله {[وَ] أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} هو منع المشركين الحرام وانفراد المسلمين به. (وقوله) {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} أي: رضيت لكم أن تستسلموا لأمري

وطاعتي، {دِيناً}: ولم يزل تعالى راضياً به لهم، ولكن لما تَمَّ وكمُل ذكر الرضى به. وقيل: إن هذه الآية نزلت بالمدينة يوم الاثنين. وقوله {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ} أي: من أصابه ضرّ في مجاعة، فالميتة حلال له. والمخمصة: من خَمَصِ البطن، وهو ضموره من الجوع، وذكر بعضهم أنه مصدر من: " خَمَصَهُ الجوع " وقيل: هو اسم للمصدر. ومعنى {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي: غير مائل ولا متحرف إلى أكلها يريد به

التعمد - من غير ضرورة - (واتباع الشهوة) وقيل: معناه: غير مُتَعَمّدٍ لاكتساب الإثم بأكله من غير ضرورة، يقال: " جنف القوم "، إذا مالوا وكل أعرج فهو أجنف. قوله {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: له، وفي الكلام حذف، والمعنى غير متجانف لإثم فأكله. [والمعنى]: فإن الله يسترُ له عن أكله ويرحمه، ومن رحمته أنه أباح له ما حرم عليه عند الضرورة.

قال الحسن والنخعي والشعبي: إنما يأكل المضطر من الميتة قدر ما يقيمه. وقال عطاء: يأكل منها قدر ما يرد نفسه، ولا يشبع. وقال مسروق: من اضطر إلى الميتة فتحرّج أن يأكل منها حتى مات، دخل النار. قال مسروق: (و) ليس في الخمر رخصة، إذا اضطر إليها [مضطر] لأنَّها لا تروي.

4

ولا يحل أكل الميتة لمضطر خرج لفساد الطرق وقطعها، قاله مجاهد. قوله {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية. المعنى: أنهم سألوا النبي A ما الذي أحل الله لهم، فقال الله له {[قُلْ] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وهو الحلال الذي أذن فيه من الذبائح، وأعلمهم أنه أحل لهم (مع ذلك) أكل صيد ما علموا من الجوارح، وهي سباع البهائم والطير، سميت " جوارح " (لكسبها لأربابها) أقواتهم، فالجوارح: الكواسب، (و) واحدها: جارحة يقال: جرح فلان أهله خيراً "، إذا أكسبهم خيراً، و " فلان جارحة أهله " أي: كاسبهم، و " لا جارح لفلان " أي: ليس له كاسب، و " فلان يجترح " أي: يكتسب، ومنه قوله تعالى: / {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي:

اكتسبوها، ومنه قوله تعالى {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] أي: ما اكْتَسَبْتُمْ. وفي الكلام حذف، والتقدير: قل أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح. وكان النبي قد أمر بقتل الكلاب، فسألوا عما يحل اتخاذه منها وصيده، فنزل {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} فعلم أنه مباح اكتساب كلاب الصيد سلوقية أو غير سلوقية. ومعنى {مُكَلِّبِينَ}: أصحاب كلاب، قال مجاهد: الفهد من الجوارح، وكلهم على أن الصقر والبازي من الجوارح، وكذلك العقاب. والجوارح هي المعلَّمة من هذه الأنواع، إذا دعيت أجابت وإذا زجرت أطاعت،

فكل من أرسل منها شيئاً فسمى الله D فأصابت صيداً أكل، وإن قتلته فهو حلال، غير أن الضحاك قال: الجوارح: الكلاب المعلّمة دون غيرها لقوله {مُكَلِّبِينَ}، وقد " روي أن النبي A سئل عن صيد البازي، فقال: " ما أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُل " ". وما صاد غير المعلَّم لا يؤكل إلا أن تدرك ذكاته وهو حي صحيح، لم يحدث فيه ما إن ترك لم يعش. وإذا أكل الكلب المعلم من الصيد، أكل باقيه عند مالك. ومعنى {مُكَلِّبِينَ} أصحاب كلاب، ويقال: أكلب الرجل، إذا كثرت عنده الكلاب، فهو مُكْلِب.

وقد قرأ ابن مسعود (مُكْلِبين) بإسكان الكاف، يريد كثرة كلابهم، وقيل معنى {مُكَلِّبِينَ} معلّمين محرّشين. وقوله {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي: تؤدبوهنّ من التأديب الذي أدبكم الله به والعلم الذي علمكم، وهو الطاعة إذا زُجر والأخذ إذا أُمر. قال ابن عباس: التعليم: أن يمسك الصيد فلا يأكل حتى يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه فلا يؤكل، وهو قول سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وقتادة وعطاء وعكرمة والشافعي، وروي عن أبي هريرة.

وقال ابن عمر: يؤكل وإن أكل وبه قال (مالك وجماعة معه). ومن أرسل كلباً غير معلم فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ إلا أن يُدْرِكَ ذكاته فإن أرسل معلماً فأخذ ولحقه قبل أن يموت - فاشتغل عن تذكيته حتى مات - فلا يؤكل، لأنه أدركه حيّاً وفرَّط في تذكيته، فإن (كان) أدركه (حيّاً) وقد أنفذ الكلب - أو البازي - مقاتله فلم يذكه حتى مات، أكل، لأن الذكاة ليست بشيء إذ هو ميت لا محالة لو ترك.

فإن أرسل المُعَلَّم فوجد معه كلباً آخر - معلَّما أو غير معلَّم - فلا يؤكل، لأنه لا يدري لعل الآخر قتله وهو لم يرسله ولا سمى الله عليه، كذلك قال مالك والشافعي وغيرهما، وقال الأوزاعي: إن كان الثاني معلَّما أكل، وإن كان غير معلّم لم يؤكل، وكذلك قياس البازي. فإن أرسله على صيد فأخذ غيره، فإن مالكاً يكره أكله، فإن أرسله في جماعة: فأيها أخذ أكل. ولا بأس عند مالك بلعاب الكلب الصائد يصيب ثوب الإنسان، وقال الشافعي: هو نجس. فإن انفلت المعلّم من يد صاحبه - ولم يرسله - فأخذ، فلا يؤكل ما أخذ عند

مالك والشافعي، وقال عطاء والأوزاعي: يؤكل. ولا يؤكل صيد أهل الكتاب عند مالك، لأن الله تبارك اسْمُهُ قال {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] وتؤكل ذبائحهم. وأجاز الشافعي وعطاء وغيرهما أكل ما صاد كلب الكتابي المعلم. وأما صيد المجوسي فأكثرهم منعه ولم يجز أكله، فأما صيد الكتابي والمجوسي للحيتان والجراد فهو / حلال أكله عند أكثر العلماء، وكره مالك صيد المجوسي الجراد، ولم يكره الحيتان، فرق بين صيد البر والبحر، وكذلك قال النخعي.

وكل ما أصاب المِعْراض يؤكل إذا كان بغير عَرْضه عند مالك والشافعي. فأما صيد البندقة فكرهه مالك والشافعي وغيرهما. ولم ير مالك Bهـ بأساً بأكل الصيد يغيب عن عين صاحب الكلب إذا وجد فيه أثراً من كلبه، وكذلك السهم ما لم يبت عنه. ولم يجز ابن القاسم أكل الصيد إذا بات عن المرسل. وقال ابن الماجشون: إذا أنفذ سهمك - أو كلبك - مقتل الصيد

فكله. وإن بات عنك، وإذا لم ينفذ مقتله فلا تأكل إذا بات عنك، لعل غير كلبك قتله، وقاله أشهب وأصبغ. وقوله {[مِمَّآ] أَمْسَكْنَ} من: للتبعيض. وقيل: هي زائدة. ومعنى التبعيض أنه يؤكل، لحمه حلال، ويترك دمه [وفَرْثه]، لأن الدم حرام. وقوله: {واذكروا اسم الله " عَلَيْهِ "} أي: حين الإرسال. وقيل: حين

5

الأكل. ومن نسي فلا شيء عليه، فإن تركها عامداً لم [يؤكل] ما أخذ، كما لا يؤكل ما ذبح إذا ترك التسمية عامداً. قوله: {واتقوا الله} أي: اتقوه فيما أمركم به، وأن لا تأكلوا صيد غير معلم، {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: لمن حاسبه، حافظ لجميع ما تعملون. قوله: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} الآية. الطيبات - هنا - الحلال من الذبائح. وقيل: هي كل ما تلذذ به من الحلال. {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} أي: ذبائحهم، {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (أي) ذبائحنا جائز (لنا)

أن نطعمهم إياها، فتحليل ذلك هو لنا لا لهم، ومثله قوله {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} [الممتحنة: 10] أي: أعطوهم ما أنفقوا، فالأمر لنا لاَ لَهم، لأنهم ليسوا ممن يؤمن بالقرآن فيكون الأمر لهم. ومذهب الشعبي وعطاء وغيرهما أنه تؤكل ذبائحهم وإن سَمَّوا عليها غير اسم الله، وهذا عندهم ناسخ لقوله {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، ويروى ذلك عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت. ومن العلماء من قال: هذا استثناء وليس بناسخ لِما في الأنعام، تؤكل ذبائح

أهل الكتاب وإن ذُكِر عليها اسم المسيح. ومذهب عائشة Bها وعلي بن أبي طالب وابن عمر أنه لا تؤكل ذبيحة الكتابي [إذا] لم يسم عليها. و" كان " مالك يكره ذلك ولم يحرمه. وأما إن ذكر عليه اسم المسيح فلا تؤكل عند مالك. وكره مالك ذبائح أهل الكتاب لكنائسهم ولم يحرمه. فأما ذبيحة المجوسي فلا تؤكل.

وذبيحة نصارى تغلب لا تؤكل. وقال ابن عباس: تؤكل ذبائحهم، وهم بمنزلة غيرهم، وقال بذلك غيره من الفقهاء. وقال علي بن أبي طالب: لا تؤكل ذبائحهم، وبه قال الشافعي: فأما الحديث الذي يروى عن النبي A في المجوس: " سُنّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتابِ " فإنه غير متصل الإسناد، (و) أيضاً فإن الحديث إنما جرى على سبب الجزية لا غير، وقوله " سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهلِ الكتابِ " يدل على أنهم ليسوا منهم.

وقوله {والمحصنات مِنَ المؤمنات} أي: أحل لكم الحرائر من المؤمنات والحرائر من الذين أوتوا الكتاب - نصرانية أو يهودية -، إذا أعطيتها صداقها وهو {أُجُورَهُنَّ}. وقيل: المحصنات - هنا - العفائف من هؤلاء ومن هؤلاء، فأجاز قائل هذا / نكاح الإماء من أهل الكتاب وتحريم غير العفائف من الجميع، قال ذلك مجاهد، وقاله سفيان والسدي. والحربية من أهل الكتاب - وغيرها سواء - جائز نكاحها. ومن قال: المحصنات العفائف، فالحربية - من الإماء والحرائر - جائز نكاحها عنده، ومذهب مالك وغيره أن إماء أهل الكتاب لا يجوز نكاحهن. وروي أن ثواب الرجل مع الزوجة المؤمنة أفضلُ من ثوابه مع الزوجة الكتابية، وروي أن الرجل إذا قبَّل زوجته المؤمنة، كتب له عشرون حسنة، وإذا جامعها

كتب له عشرون ومائة حسنة، فإذا اغتسل منها، لم يمرّ الماء بشعرة من جسده إلا كتبت (له (عشر)) حسنات ومحي عنه عشر سيئات، وباهى الله به الملائكة فقال: انظُروا إلى عبدي قام في ليلة [قَرَّةٍ] يَغتَسِلُ من خَشْيَتي، ورَأَى أن ذلكَ (حقٌّ لي) عليه، اشهدوا يا ملائكتي أنّي قَد غَفرتُ لَه. وروي أن المرأة لا تضع شيئاً من بيت زوجها، تريد بذلك إصلاحه، ولا ترفعه إلا كتب لها عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا حملت ثم طلقت، فلها بكل طلقة كأنما أعتقت نسمة (من ولد إسماعيل) خير النسم،

فإذا أرضعت كان لها بكل مصة عشر حسنات ومحي عنها عشر سيئات، فإذا أفطمته نادى منادٍ من السماء: أَيَّتُها المرأة قد غفر لك فاستأنفي العمل. وروي عن (ابن المسيب) والحسن أنهما كانا لا يريان بأساً بنكاح إِماء اليهود والنصارى. و (قد) قيل: عنى بذلك نساء أهل الذمة من أهل الكتاب خاصة، ونساء

أهل الحرب حرام، روي ذلك عن ابن عباس. قوله {مُحْصِنِينَ} أي: أعِفّاء، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي: غير مزانين، {وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} أي: أَخِلاّءٌ على الزّنى، والخدن: الخليل للمرأة يزانيها. قوله {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي: بما جاء به محمد A، وقيل: بالإيمان بالله D وبرسوله محمد A. وقيل: بالإيمان: بما نزل من الحرام والحلال والفرائض. ونزل ذلك في قوم تَحَرَّجوا نكاح [نساء] أهل الكتاب، فأنزل الله {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}، أي من يردّ من أتى

6

به محمد A. وقيل: الإيمان - هنا - التوحيد، وهو مثل قوله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ومثل قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} [آل عمران: 85] الآية. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية. قوله {وَأَرْجُلَكُمْ}: من خفض. (فهو) عند الأخفش وأبي عبيدة على الجوار، والمعنى للغسل، شبه

الأخفش بقولهم " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ "، وهذا قول مردود، لأن الجوار لا يقاس عليه، إنما يسمع ما جاء منه ولا يقاس عليه. وأيضاً فإن الأرجل معها حرف العطف، ولا يكون الإتباع مع حرف العطف. وقيل: إنه إنما خفض لاشتراك الغسل والمسح في باب الوضوء، كما قال {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] فخفض وعطفه على الفاكهة التي يطاف بها، وهذا مما لا يطاف

به، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في التنعم بهما، وكما قال الشاعر: شرّابُ أَلْبَانٍ وتَمْرٍ وأَقطٍ. ... فعطف التمر والأقط على ما يشرب، وليس يشربان، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما في التغدي بهما، ومثله قوله: ورأيتُ زوجَكِ قد غدا ... مُتَقَلِّداً سيفاً ورُمحاً فعطف الرمح على / السيف وليس الرمح مما يتقلد به، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في الحمل وفي أنهما سلاح، ومثله: عَلَفتُها تِبْناً وماءً بارداً. ... فعطف الماء على التّبن وليس مما يوصف بالعلف، ولكن فعل ذلك لاشتراكهما

في أنهما غذاء لها. ومثله قوله: وزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيونا. ... فعطف العيون على الحواجب وليست مما يُزَجَّجَ إنما تكحّل، ولكن عطفه عليه لاشتراكهما في التزيّن بهما، فكذلك يحمل الغسل على المسح لاشتراكهما في باب الوضوء. وتقدير ما ذكرنا - عند النحويين - على حذف فعل فيه (كله) على قدر معانيه، كأنه قال [وأكّالِ تَمْرٍ]، (وحامِلاً رُمْحاً)، (وَسَقيْتُها ماءً)، (وكَحَّلنَ الْعُيُونَ) ونحو ذلك من التقدير.

وقال علي بن سليمان تقديره: وأرجِلكم غسلاً. وقيل: المسح - في كلام العرب - يكون بمعنى الغسل يقال: تمسحت للصلاة أي: توضأت لها فاحتمل المسح للأرجل أن يكون بمعنى الغسل وبغير معنى الغسل، فبيّنت السنّة أن المسح للرؤوس بغير معنى الغسل، وأن المسح للأرجل بمعنى الغسل. وقال قوم من العلماء - منهم الشعبي -: من قرأ بالخفض [فقراءته] منسوخة بالسنة. واستدل من قال: أن معنى الخفض النصب، بقوله {إِلَى الكعبين}، فحدد كما

حدد اليدين إلى المرفقين، ولما كانت اليدان مغسولتين بالإجماع وجب أن تكون الرجلان كذلك لاشتراكهما في التحديد. وقال ابن عباس: [قراءة] النصب ناسخة للمسح على الخفين وهو مذهب عائشة وأبي هريرة. قال ابن عباس: ما مسح رسول الله A على الخفين بعد نزول المائدة. وقد أجاز المسح على الخفين جماعة من الصحابة ورووه عن النبي عليه السلام أنه مسح بعد (نزول) المائدة، ومن أوجب شيئاً أولى بالقبول ممن نفى،

وعليه جماعة الفقهاء، وهو قول علي وسعد وبلال و (عمرو بن) أمية وحذيفة وبريدة وغيرهم.

وهذه الآية ناسخة لقوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43]، وهو قول جماعة. وقيل: هي ناسخة لما كانوا عليه: روي " أن النبي A كان إذا أحدث (لم يكلم أحداً) حتى يتوضأ فنسخ ذلك بالوضوء عند افتتاح الصلاة " وقيل: هي منسوخة، لأنها لو لم تنسخ لوجب على كل قائم إلى الصلاة الوضوء، فنسخها فعل النبي A وجمعه صلاتين وصلوات بوضوء واحد. وروي عن علي Bهـ أنه قال: هي على الندب، نَدَبَ كُلَّ قائم إلى الصلاة إلى الوضوء وإن كان (على وضوء) وقيل: يجب على كل من قام إلى الصلاة الوضوء -

وإن كان) متوضئاً - بظاهر الآية، وهذا قول خارج عن قول الجماعة، وهو قول عكرمة وابن سيرين. وروي أن علياً Bهـ كان يتوضأ لكل صلاة. وقال زيد بن أسلم وأهل المدينة: الآية مخصوصة فيمن قام من النوم. وقيل: الآية مخصوصة يراد بها من كان على غير طهارة، وهو قول الشافعي، قال: المعنى: إذا قمتم - وقد أحدثتم - فافعلوا كذا. ومعنى {إِذَا قُمْتُمْ}، إذا أردتم القيام، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن

فاستعذ بالله} [النحل: 98] أي: إذا أردت [قراءة] القرآن. وقوله {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ}: الباء للتوكيد / لا للتعدية، والمعنى: (و) امسحوا رؤوسكم، ولا يجزئ مسح بعض الرأس لأجل دخول الباء، كما لا يجزئ مسح بعض الوجه في التيمم لدخول الباء في قوله: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} [النساء: 43]، وهذا إجماع، فالرأس مثله. وقوله: {إِلَى المرافق}: روى أشهب عن مالك أنه قال: الغسل إليهما ولا يدخلان في الغسل، وروى غير أشهب عنه أن غسلهما واجب مثل الكعبين اللذين أجمع على غسلهما، وهو قول عطاء والشافعي.

وأصل (إلى) - في اللغة - الانتهاء، كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187]، فالليل آخر الصوم غير داخل في الصوم، وكذلك المرفقان غير داخليْن في الوضوء. ومَن أدخل المرفقين في الغسل، فإنما هو على أن يجعل " إلى " بمعنى " مع " كما قال: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أي: " مع "، وكما قال: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52، الصف: 14] أي: مع الله، هذا قول بعض أهل اللغة. ومنع ذلك المبرد وغيره من النحويين لأن اليد - عند العرب - حدها إلى الكتف فلو كانت " إلى " بمعنى " مع " وجب غسل اليد كلها إلى الكتف، لأنه آخرها، و " إلى " عنده على بابها، قال المبرد: إذا كان ما بعد " إلى "

مِمّا قبلها، فما بعدها داخل فيما قبلها كآية (الوضوء)، وإذا كان بعدها مخالفاً لما قبلها، فالثاني غير داخل فيما دخل فيه الأول، كقوله {إِلَى الليل}، فلو قلت " بِعتُ هذا الفدّان إلى هذه الدّار "، لم تدخل الدّار في البيع، لأن الدار مخالفة للفدان، ولو قلت " بعتُ هذا الثّوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف "، دخل الطرف الثاني في البيع، كذلك لمّا كانت المرفقان من جنس اليد، دخلتا في الغسل مع اليد، فإذا كان الحد من جنس المحدود دخل معه، وإذا كان من غير جنسه لم يدخل معه، هذا التفسير قول المبرد، وهو حسن جيد، ولذلك يقول الموثقون: " اشترى الدّار بحدودها "، فالحدود داخلة في البيع.

(وكان الطبري يقول): ليس غسلهما بواجب، فهو ندب من النبي A لقوله: " أمتي الغر المُحَجَّلون من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل غُرَّتَه فليفعل ". قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} أي: [ذوو] جنب، " وجُنُبٌ " مصدر لا يثنى ولا يجمع، كعدل ورضًى وصَوْم، يقال: قوم صَوْمٌ، ورجل صَوْمٌ، يقال: أجنب

الرجل وجَنَب وجَنُب. (و) قوله: {وَإِن كُنتُم مرضى} أي: جرحى أو مجدورين وأنتم جنب، {أَوْ على سَفَرٍ} أي: مسافرين وأنتم جنب. وقوله: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} قيل: اللمس: الجماع. (وقيل): هو المس دون الجماع، كالقبلة والمباشرة. ويسْأل من قال: هو الجماع، ما وجه تكريره وقد مضى حكم الجنب في قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا}؟ فالجواب: أن الأول بيَّن حكمه وأمره بالطهر إذا وجد الماء، ففَرَض عليه الاغتسال، ثم بيَّن - ثانيةً - حكمه إذا أعوزه الماء، فأعلَمه أن التيمم

بالصعيد طهور حينئذ. والتيمم: القصد والتوخي إلى الشيء. قوله: {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم (مِّنْ حَرَجٍ)} أي: ضيق في فروضكم، {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي: يطهركم بما فرض عليكم فَتَطَّهَّرونَ من الذنوب، " وروى شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله A قال: إنّ الوضوءَ يُكفِّر ما قبله، ثم تصير الصلاةُ نافلةً، قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم، / غير مرةٍ ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ". وقال ابن جبير: معنى {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}: ليدخلكم الجنة، (أي) فإنها لم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة، ولن يدخله الجنة حتى يغفر له، كذلك

7

قال لنبيه: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] فلم تتم النعمة إلا بعد المغفرة، وهو قول زيد بن أسلم ذكر جميع ذلك ابن وهب وغيره. قوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} الآية. قوله: {بِذَاتِ الصدور}: قال الأخفش والفراء وابن كيسان: الوقف بالتاء على (ذات) وهو خط المصحف، لأن التاء كأنها متوسطة. ومذهب الكسائي والجرمي أن تقف بالهاء، وهو اختيار أبي غانم، لأن هذا تأنيث الأسماء.

8

ومعنى الآية أن الله تعالى ذكرهم بنعمته أن هداهم لما فيه النجاة لهم. ومعنى {وَمِيثَاقَهُ} هو ما بايعوا عليه النبي عليه السلام من السمع والطاعة فيما (أحبوا) وكرهوا والعمل بكل ما أمرهم به، قال ذلك ابن عباس وغيره وقال مجاهد: الميثاق - هنا - ما أخذه الله D على عباده إذ أخرجهم من صلب آدم فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]، فأقروا بأن الله ربهم، وصار ذلك ميثاقاً عليهم، فمن آمن بالله وأسلم فقد تمسك بالميثاق، ومن كفر فهو نقض الميثاق. وقيل: هي بيعة الرضوان. قوله: {واتقوا الله} أي: خافوا الله أن تُضمروا لرسوله A خلاف ما تبدون، فإنه يعلم ما في الصدور. قوله: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ} الآية. المعنى: أن الله D حضّ المؤمنين أن يكونوا شهداء بالعدل في أوليائهم

9

وأعدائهم. قوله {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} أي لا يَحمِلنَّكم بغض قوم على ألا تشهدوا بالحق وعلى ألا تعدلوا في حكمكم فيهم، والمعنى: لا يحملنكم بغض المشركين على ترك العدل. وهذه الآية نزلت حين هم اليهود بقتل النبي A. ثم أمرهم بالعدل فقال: {اعدلوا} أي: اعدلوا في الأعداء وغيرهم، فالعدل أقرب إلى التقوى، أي: أن تكونوا من أهل التقوى لا مِنْ أهل الجور، وهو كناية عن العدل. قوله {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. يقال " وعدتُ الرجل " تريد: " وعدته خيراً "، و " أوعدته " تريد: " أوعدته شراً "، فإذا ذكرت الموعود قلت فيهما جميعاً " وعدته " و " أوعدته " فإذا لم تذكر الموعود قلت في الخير " وعدته "، وفي الشر " أوعدته "، هذا قول أكثر العلماء.

10

وقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} هو على الحكاية، (لأنه لا يجوز في الكلام " وعدتُ لكَ درهماً "، وإنما جاء في القرآن على الحكاية)، كأن تقديره: قال الله جل ذكره: لِلَّذين آمنوا عندي جنات، ثم أمر النبي عليه السلام أن يخبرهم، ثم أخبر ما قال فحكاه، فقوله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} يقوم مقام الموعود، وهو تفسير للوعد. قوله {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ (بِآيَاتِنَآ)} الآية. أي الذين جحدوا وحدانية الله ونقضوا ميثاقه وعهوده وكذبوا بآياته وجحدوا [أنبياءه]: (هم) أصحاب الجحيم. قوله: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} الآية.

معنى الآية: أن الله جل ذكره أمر نبيه A المؤمنين بالشكر على نعمه (إذ دفع) عنهم كيد اليهود عليهم اللعنة. وكان / سبب نزول هذه الآية أن النبي عليه السلام أمّن رجلين مشركين من بني كلاب وأعطاهما سهمين من سهامه أماناً لهما، فلقيهما عمرو بن أمية الضَّمْري وهو مقبل من بئر معونة فقتلهما ولم يعلم أن معهما أماناً من النبي A، فلما قدم عمرو على النبي عليه السلام قال له: قَتَلْتَهُما (و) معهما أماني؟! قال: لم أعلم، فَوداهُما النبي عليه السلام ومضى إلى بني النضير من اليهود ومعه أبو بكر وعمر وعلي وعثمان Bهم، يَسْتعينهم على دية الكلابِيَيْن

اللّذَيْن قتلهما عمرو فلما قَرُبَ من مدينتهم، خرجوا إليه فتلقَّوه وقالوا: مرحباً بك يا أبا القاسم، ماذا جِئْتَ له؟، فقال: رجل من أصحابي أصاب رجلين من بني كلاب - معهما أمانٌ منّي - فقتلهما فَلَزِمَني دِيَتُهما، فأريد أن تُعينوني قالوا: نعم والحُبُّ لَك والكَرامةُ يا أبا القاسم، اقْعُد حتى نجمع لك، فقعد النبي A وأصحابه تحت الحصن، فلما خلا بنو النضير - بعضهم (إلى بعض) - قالوا: لن نجد محمداً أقربَ منه الآن، فَمَن رَجُلٌ يَظهَر على هذا الجدار فَيَطْرح عليه رحىً أو حجراً فيريحنا منه؟، فقال رجل منهم: أنا، وهو عمرو بن جحاش، فأتى جبريل النبي صلى الله عليهما فأعلمه الخبر، فقام وتبعه

أصحابه، فأنزل الله جل ذكره {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} الآية، وفي ذلك نزل {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ)} [المائدة: 13]، فعند ذلك بعث (إليْهم النبيُّ) محمد بن مَسْلَمَة الأُوسي، وأمره أن يأمرهم بالرحيل والخروج من جواره، فلما أتاهم محمد بن مسلمة، تلقوه وسلموا عليه، فقال [لهم]: إني أُرسِلْتُ إليكم برسالة، ولَسْتُ أَبَلِّغكُمُوها حتّى أَسْأَلَكُم عن شيء قلتموه لي قبل اليوم، قالوا: (سَلْنا عمّا بدا لَكَ)، فقال لهم محمد بن مسلمة: أليس قد أتَيْتُكم سَنَة كذا وكذا فقلتم لي: يا ابن مَسلمةٍ، إن (شِئت هَدَيْناك وإن شئت غدّيناك)، فقلت: والله

ما لي حاجة بهداكم، فقَرَّبْتُم إليّ طعاماً في صَحْفة جَزْع - كأني انظر: إليها -، فلما فَرَغْتُ من [غذائي]، قلتم لي: ما الذي أرغبك عن التوراة؟، فقلت: ما لي بها حَاجة، فقلتم كأنك تريد الحنيفية؟، فقلت: إيهاً والله أريدها، فقلتم لي: أما إنَّ صاحبها قد [رهنك] خروجه، وأشرتم نحو مكةَ وقلتم لي: ذلك الضّحوك القتّال يركب البعير ويَلبَس الشملة و [يجتزئ] بالكسوة، سيفه على عاتقه، (لتكونن - على يديه - في هذه البلاد) ملاحم وملاحم وملاحم، قالوا: قد قلنا لك ذلك، ولكن ليس هو هذا. قال: أشهد (أن

لا) إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، هو - والله - هذا، وقد بعَثَني إليكم وقال: قد غدرتم مرةً ومرةً ومرةً، فارْتحِلوا من بَلَدي وارتحلوا من جواري، فقالوا: أخِّرنا عشرة أيام نتجهز ونخرج، ففعل، ثم أتى رسول الله A فأخبرَه، فَصَوَّبَ أمرَه، وأمرَ النّبي A بحراسة المدينة، فدبّّ إليهم المنافقون وقالوا: لِمَ ترتحلون، وإنّما أنتم أهل الثمار والأموال، وقد نَزَل بكم محمد ولم تَنزِلوا به؟، فبعثوا إلى النبي A: اصْنَع ما أنت صانع فلسنا بمُرتَحلين، فكبّر النبي A ثلاث تكبيرات ثم قال: خابَتْ يَهودُ، لا تُصَلُّوا الظُّهرَ إلاّ عندهم، فغزاهم النبي A فصالحوه / على ما حمل (الحافر والخُفَّ):

الجمل بين رجلين، والحافر لرجل واحد، وَارْتَحَلوا. قال قتادة: هذه الآية نزلت على النبي عليه السلام وهو بنَخْل في الغزوة السابعة، أراد بنو ثعلبة أن يفتكوا بالنبي عليه السلام فأطلعه الله على ذلك. وقيل: النعمة التي أمر الله بالشكر عليها - هنا - هي أن اليهود كانت همت بقتل النبي A في طعام دَعَوْهُ إليه، فأعلم اللهُ نَبيَّه بما همُّوا به، فلم يأتهم. وقيل: هي ما أطلع الله نبيه من أمر المشركين إذ هموا أن يميلوا على المسلمين - وهم في صلاتهم - ميلة واحدة، وذلك يوم بطن [نخل]، فعلَّم الله نبيَّه صلاة

الخوف والحذر منهم، وهي الغزوة السابعة. وقيل: هي ما فعل الأعرابي، وذلك " أن النبي A كان مستظلاً تحت شجرة - وأصحابه متفرقون - إذ جاء أعرابي إلى سلاح رسول الله A - وهو معلق في شجرة - فأخذ السيف وسله، ثم أقبل على النبي A فقال: مَن يمنعك مني؟، قال: الله، قال الأعرابي - مرتين أو ثلاثاً -: من يمنعك مني؟، والنبي A يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبيّ A أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه "، قال قتادة: كان قوم أرادوا أن يفتكوا برسول الله عليه السلام، فأرسلوا هذا الأعرابي. وقيل: " هم قريش بعثت رجلاً ليفتك برسول الله، فأتى وسَلَّ سيف رسول الله A ثم قال: من يمنعك مني يا محمد؟، [قال: الله]، ثم رد السيف في غمده ".

12

قوله {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} الآية. أخبر الله تعالى في هذه الآية بما كان من أسلاف هؤلاء الذين أرادوا كيد رسول الله A. ( و) قوله: {اثني عَشَرَ نَقِيباً}: النقيب - في اللغة - كالأمين والكفيل والعريف. قال قتادة: جعل من كل سبط (رجلاً شاهداً) عليهم. والأسباط: نسل (اثني عشر ولداً) ليعقوب، (فنسل كل ولد ليعقوب) سبط، (فجعل من كل سبط) رجل أمين عليهم. قال السدي: أمر الله موسى وبني إسرائيل بالسير إلى بيت المقدس - وفيها

جبارون - فلما (قَرُبوا) بعث موسى اثني عشر نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل ليأتوه بخبر الجبارين، فلقيهم رجل من الجبارين - يقال له عاج - فأخذ (الإثني عشر) فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق بهم إلى امرأته (وقال): انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يقاتلوننا، فطرحهم بين يديها وقال: (ألا أطْحَنهُم) برجلي، فقالت له امرأته: لا بلْ خلِّ عنهم حتى يُخبروا قومَهم بما قد رَأوا، ففعل ذلك، فقال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبَرْتُم بني إسرائيل خبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، ولكن اكتموه وأخبروه [نَبِييَ] الله فيكونان هما يَرَيان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ثم رجعوا،

فنكث عشرة منهم العهد، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج، وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم فأخبروهما الخبر. وقال مجاهد: أرسل موسى النقباء - من كل سبط رجلاً - إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم، ولا يَحمِل عنقود عنبِهم إلا خمسةُ أنفس، ويدخل في شطر [الرمانة]- إذا نُزِع حَبُّها - خمسة أنفس، فرجع النقباء، كلهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وآخر معه فإنهما / أمرا بقتالهم، فعصوا وأطاعوا أمر الآخرين، فعند ذلك قالوا: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا

هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. قال ابن عباس: جاء النقباء بحبة من فاكهتهم يحملها رجل، فقالوا: اقْدُروا قوة قوم هذه فاكهتهُم. {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ} أي: " ناصركم على عدوكم "، قيل: هو للنقباء. وقيل لجميعهم. (ومعنى) {(وَ) عَزَّرْتُمُوهُمْ} أي: نصرتموهم. وقيل معناه [وَقَّرْتُموهم] بالطاعة (لهم).

13

وأصل التعزير المنع. ومعنى {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي: " أنفقتم في سبيل الله ". وقوله: {قَرْضاً} خرج مصدراً على " قرض "، كما قال {نَبَاتاً} [نوح: 17] وقبله {أَنبَتَكُمْ} [نوح: 17]. وقوله تعالى {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة} وما بعده: تفسير لأخذ الميثاق كيف هو وما هو. وقوله: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ} إلى قوله {مَعَكُمْ}: اعتراض بين الميثاق وتفسيره، غير داخل في الميثاق الذي نقضه بنو إسرائيل دون النقباء، لأن الله تعالى قال للنقباء: {إِنِّي مَعَكُمْ}، ومن كان الله معه لم ينقض ميثاقه. قوله {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} الآية. (ما) زائدة مؤكدة للقصة، أو نكرة. و {نَقْضِهِم} بدل منها.

و {قَاسِيَةً} و (قسِيّة) لغتان، كعالم وعليم، ويؤيد قراءة {قَاسِيَةً} قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الزمر: 22]. ويؤيد قَرَأَةَ (قسية) أن " فعيلاً " أبلغ - في المدح والذم - من " فاعل "، فعليم أبلغ من عالم، وسميع أبلغ من سامع، فالمعنى: من أجل نقضهم للميثاق - للذي أخذ عليهم - لعنهم الله، أي: أبعدهم من رحمته، وجعل (الله) قلوبهم قسية، أي: غليظة [نابية] عن الإيمان والتوفيق بطاعة الله.

والقاسية والعاتية: واحد. وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} أخبر الله D عن فعلهم أنهم يبدلون ما في التوراة ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله، ويقولون لجهالهم: هذا كلام الله. وهذا من صفة القرون (التي) كانت بعد موسى من اليهود، ومنهم من أدرك عصر نبينا، فأخبره الله عنهم بما [يعملون]، وأدخلهم في ذكر ما كانوا قبلهم إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم. وقيل: معنى {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} يتأولونه على غير تأويله. وقيل: معنى {[وَجَعَلْنَا] قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}: (أي وصفناهم بهذا). وقوله: " {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} أي: تركوا نصيباً مما أُمِرُوا بِهِ ". قال الحسن: تركوا عُرى دينهم، أي: تركوا (الأخذ والعمل) بالتوراة.

وقوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} أي: لا تزال يا محمد تطلع من اليهود - الذين نقضوا الميثاق - على خيانة {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ}، والخائنة، الخيانة، وضع الاسم موضع المصدر، كقولهم " خاطئة " في موضع " خطيئة " و " قائلة " في " قيلولة ". وقيل: (التقدير): على فرقة خائنة. وقيل على رجل خائنة، كما يقال: رجل راوية، يريد: لا تزال يا محمد تطلع على مثل الذين هموا بقتلك. وقيل: المعنى على نسمة خائنة منهم. ويجوز أن يكون التقدير: على فرقةٍ خائنة، أو: على طائفة خائنة. وقيل: الهاء للمبالغة، وقيل: (المعنى): على خائن

14

منهم. {فاعف عَنْهُمْ واصفح}: أمر النبي A بالعفو عن هؤلاء الذين أرادوا قتله من اليهود. وقال قتادة: هي منسوخة بآية القتال في " براءة ". وقيل: هي منسوخة بقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58]. وقيل: المعنى: فاعف عنهم واصفح ما دام / بينك وبينهم ذمة وعهد. قوله {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} الآية. هذا في الإعراب كقولك " من زيد أخذت درهمه " وهو حسن، ولو قلت: " درهمه من زيد (" أخذت "، و " ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا "، و " أخذت درهمه من زيد ")، و " (ألْيَنَهَا لبِست من الثياب) "، لم يجز [لتقدم] المضمر على

المظهر. ومعنى الآية: أن الله تعالى أعلمنا أنه أخذ أيضاً من النصارى ميثاقهم، فسلكوا مسلك اليهود، فبدلوا ونقضوا وتركوا حظهم الذي ذكّروا به من الإنجيل مثل اليهود. وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة} أي: حرضنا وألقينا. وهي الأهواء المختلفة والتباغض والخصومات في الدين التي بين اليهود والنصارى. وقيل: بين النصارى بعضهم مع بعض، وبين اليهود بعضهم مع بعض. والهاء والميم في {بَيْنَهُمُ} تعود على اليهود والنصارى. وقيل: على النصارى، لأنهم قد افترقوا فرقاً منهم: النسطورية

15

واليعقوبية و [الملكانية] وغير ذلك، فالعداوة بين بعضهم مع بعض. قوله {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً} الآية. المعنى: أن الله D أعلم أهل الكتاب أنه أرسل إليهم محمداً A يبين لهم كثيراً مما أخفوا من الكتاب - وهو التوراة والإنجيل -، وكان ذلك من أدل ما يكون على نبوة محمد A إذ أعلم الناس بما فعل أهل الكتاب، فمما بينه: رجم الزانيين المحصنين - وقد أخفوه وغيروه -، وقتل النفس بالنفس وغيره.

وقال [القرظي]: أول ما نزل على النبي A من القرآن - حين قدم المدينة - هاتان الآيتان وكانت اليهود بها يومئذ، ثم نزلت السورة كلها جملة (واحدة) عليه بعرفات. ومعنى {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} أي: (و) يترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم، فلا يأمركم بالعمل به، إلا أن يأمره الله بذلك. وقيل: هو ما جاؤهم به رسول الله A من تخفيف ما كان الله شدده عليهم وتحليل ما كان حرم عليهم. قوله {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} إلى {صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. والمعنى: يا أهل التوراة والإنجيل {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} وهو محمد A. هو نور لمن استنار به، {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} هو القرآن. [وقيل: النور: التوراة، والكتاب المبين: القرآن]. {يَهْدِي بِهِ} أي:

17

بالكتاب، {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي: يهدي الله بالكتاب {سُبُلَ السلام} من اتَّبع رضى الله D في قبول ما أتاه من ربه. و [{السلام}] هنا: اسم الله جلت عظمته، أي: سبل الله. وقيل [السلام]- هنا - السلامة، أي: طرق السلامة، والرضى من الله القبول للعبد. وقيل: هو خلاف السخط. {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات} أي: من الكفر {إِلَى النور} أي: إلى الإسلام، {بِإِذْنِهِ} أي: بأمره، أي: [بأمر] الله له بذلك. قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ} الآية. معنى الآية أنها ذمّ للنصارى في قولهم واحتجاج عليهم في قولهم. ومعنى {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ} أي: (من) يقدر ويطيق رد ما أراد الله D، فلو كان

18

المسيح إِلهاً، لقدر على رد ما يأتيه من أمر الله سبحانه، وفي عجزه عن ذلك دليل على أنه ليس بإله، إذ الإله لا يكون عاجزاً مقهوراً تلحقه الآفات، فعيسى كسائر ولد آدم. قوله تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي: تصريف ما فيهما وما بينهما، فهو يهلك من يشاء ويبقي من يشاء. (ووحّد) الأرض، لأنها تدل على النوع. / قوله: {وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله} الآية. معنى الآية أن قوماً من اليهود والنصارى كلمهم النبي A وخوّفهم فقالوا: ما تُخَوِفُنَا يا محمد؟ نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال الله لنبيه: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم (بِذُنُوبِكُم)} إن كنتم كما زعمتم، وذلك أن اليهود قالت:

{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80]، فأقروا بالعذاب وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه. ثم قال: قل لهم يا محمد {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي: أنتم مثل سائر بني آدم، لا فضل لكم عليهم إلا بالطاعة. {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أي: يستر ذنوبه، وهم المؤمنون، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أي: يميته على الضلالة فيعذبه. وقال السدي في معنى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} أي: يهدي من يشاء في الدنيا فيغفر له، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} (أي يميته على الضلالة) فيعذبه. {وَ [للَّهِ] مُلْكُ السماوات والأرض} أي: تدبيرها وتدبير ما بينهما، وإليه مصيركم فيجازيكم بأعمالكم. وقوله {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم} معناه: فلم عذّبكم بذنوبكم فمسخكم قردة وخنازير؟ وإنما احتج عليهم النبي A بما قد كان وعلم، ولم يحتجّ عليهم بما لم يقع بعد، لأنهم ينكرون ذلك ويدّعون أنهم لا يعذبون فيما يستقبلون، فالماضي [أولى] به وعليه

19

المعنى. قوله {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل} الآية. قوله {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا}: {أَن} في موضع نصب أي: [كَرَاهَةَ] أن تقولوا. وقال الفراء: المعنى: (لأن لا) تَقُولُوا. ومعنى الآية أنها مخاطبة لليهود الذين كانوا بين ظهرانيْ (مُهَاجَرِ النَّبِي) A، وذلك أنهم لما دعاهم النبي إلى الإيمان به وبما جاءهم به، قالوا: ما بعث الله من نبي بعد موسى، ولا أنزل كتاباً بعد التوراة. (و) قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن

وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته، فأنكروا ما قالوا لهم، وقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده، فأنزل الله الآية. ومعنى {على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل}: على انقطاع من الرسل وسكون، وذلك أنه كانت الرسل بين موسى وعيسى متواترين. وقد اختلف في الفترة التي كانت بين محمد وعيسى عليهما السلام: فقال قتادة: هي خمس مائة سنة وستون سنة. وقيل عنه: خمس مائة وأربعون، وقيل عنه: ست مائة وزيادة سنين.

20

وقال الضحاك: هي أربع مائة سنة وبضع وثلاثون سنة. وقال ابن عباس: هي أربع مائة سنة فترة لا نَبِيَّ فيها، وكانت مائة سنة بعث الله فيها أربعة أنبياء، منهم ثلاثة رسل، وهم الذين ذكروا في " يس "، فبين ميلاد عيسى وميلاد محمد خمس مائة سنة. وقيل: هو ما جاءهم به رسول الله من تخفيف ما كان الله شدد عليهم وتحليل ما كان حرم عليهم. ومعنى {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} أي: أعذرنا إليكم برسول وكتاب كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. قوله {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} الآية. روي عن ابن كثير أنه قرأ {يَاقَوْمِ} بالرفع على معنى: يا أيها القوم، رواه

شبل بن عباد عنه. وهذه الآية إعلام من الله جل ذكره لنبيه A، / فقديم فسق اليهود وغيهم، وإن موسى A ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم، إذ أرسل (إليهم) الأنبياء يأتونهم بالوحي، وأنه حرضهم على الجهاد، وأن لا يرتدوا على أدبارهم في قتال الجبارين الذين أمرهم الله D بقتالهم. وقيل: الأنبياء - الذين جعلهم الله D فيهم - هم الذين اختارهم موسى للميقات، وهم السبعون الذين ذكرهم الله في " الأعراف ".

{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} أي: تُخْدَمُون، ولم يكن في ذلك الوقت من بني آدم من يُخْدَم سِواهم، قال قتادة: هم أول من سخر له الخدم. وروي عن النبي A أنه قال: " من كان له بيت وخادم فهو ملك ". وقيل: المعنى: جعلكم ذوي منازل لا يُدْخَلُ عليكم فيها إلا بإذن. وقيل: المعنى: (جَعلَكم تَملِكُون أمركم لا يغلبكم عليه غالب). (وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يذكر عن عبد ربه) بن سعيد أن معنى {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} هو أن يكون للرجل المسكن يأوي إليه والمرأة يتزوجها والخادم

21

تخدمه، هو أحد الملوك. وقوله: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} الذي آتاهم هم المن والسلوى والبحر والحجر والغمام، قاله مجاهد. وقيل: هو الدار والخادم والزوجة. ومعنى {مِّن العالمين} من عالَمي زمانكم. وقال ابن جبير: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً} هذه لأمة محمد A. قوله: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} الآية. قال ابن عباس: هي فلسطين والأردُنُّ (و) عنه وعن مجاهد: الأرض المقدسة: الطور وما حوله أمرهم موسى بدخولها عن أمر الله لهم. وقيل: هي

الشام، قاله قتادة. وقيل: هي دمشق (و) فلسطين، (و) قال مقاتل: هي أريحا أرض الأردن. والمقدسة: المطهرة، وقيل: المباركة. وقوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: التي كتبها الله لبني إسرائيل، وقد سكنها بنو إسرائيل ولم يسكنها هؤلاء الذين خاطبهم موسى A لقوله {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ}،

22

ولم يعن موسى A أن الله كتبها للذين خاطبهم، وإنما عنى أن الله تعالى كتبها لبني إسرائيل وقيل: معناه: التي وهب الله لكم وأعلم بها أباكم إبراهيم. وقال السدي: التي أمركم الله بدخولها. {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} أي: امضوا لأمر الله في قتالهم ولا ترجعوا القَهْقَري، {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} لِنكولكم عن قتال عدوكم الذي أمركم الله به. قوله: {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} الآية. المعنى: أن الله تعالى ذكره أخبر عن (قول) قوم موسى له إذا أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وأنهم قالوا: إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنَا بِهم.

سموا " جبارين " لشدتهم وعظم خلقهم وقوتهم. وأصل الجبار: أن يكون المصلح أمر نفسه ومن يلزمه أمره، ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعاً بباطل أو حق، حتى قيل للمعتدي: جبار وقال بعض أهل اللغة: " الجبار - من الآدميين - (العاتي) الذي يَجبُر الناس على ما يريد ". وقولهم {لَن نَّدْخُلَهَا} لم تدخل (لن) للعصيان منهم وللامتناع من أمر الله لهم، ولو كان كذلك لكفروا، إنما دخلت لتدل على امتناع الدخول للخوف من الجبارين ودل على ذلك قولهم {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}، ومن أسماء الله جل وعز: الجبار، لأنه المصلح أمر / عباده. قال ابن عباس: لما قرب منهم موسى، بعث إليهم اثني عشر نقيباً ليأتوه

23

بخبرهم، فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً (من) هيئتهم وأسجامهم فدخلوا حائطاً لبعضهم، فجاء صاحب الحائط يجتني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعها، فوجدهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الإثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم. وقال الضحاك: {اإِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} قال: سفلة لاَ خَلاَقَ لهم ". فعند ذلك قالوا لموسى {(إِنَّا) لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}. قوله: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} الآية. قرأ سعيد بن جبير {الذين يَخَافُونَ} على ما لم يسم فاعله، فأخبر الله تعالى نبيه بما

قال رجلان صالحان من بني إسرائيل وهما يوشع بن نون وكلاب بن [يافنا]- وقيل: كالب، وقيل: اسمه كالوب بن مَافِنَة - فَوَفَيَّا موسى بما عهد إليهما. وقال ابن عباس: لما نزل موسى بمدينة الجبارين بعث من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ليأتوا بخبره فصاروا فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه (فحملهم) حتى أتى بهم المدينة ونادى في قومه، فاجتمعوا إليه [فقالوا]: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بَعَثنا إليكم لنأتيه بخبركم. فأعطوهم حبة عنب [بِوِقْرِ] الرجل: فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قدر قوم هذه فاكهتهم، فلما أتوهم قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا،

{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} وهما رجلان - كانا من أهل المدينة - أسلما واتبعا موسى وهارون فقالا لموسى {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)} الآية. قال الكلبي: كانوا [بجبال] أريحا من الأردن فَجُبِنَ القوم أن يدخلوها فأرسلوا جواسيسَهم - من كل سبط رجلاً - يأتوهم بخبر الأرض المقدسة فدخل الإثنا عشر فمكثوا بها [أربعين] ليلة ثم خرجوا، فصدق اثنان وكذب عشرة، فقالت العشرة: رأينا أرضاً تأكل أهلها ورأينا حصونا منيعة، ورأينا رجالاً جبابرة ينبغي لرجل منهم مائة منا، فجبنت بنو إسرائيل وقالوا: لا ندخلها حتى يخرجوا منها، فقال يوشع بن نون وكالوب وهما الرجلان [اللذان] أنعم الله عليهما بالإيمان -:

24

نحن أعلم بالقوم من هؤلاء، إن القوم قد (مُلِئوا منّا) رعباً، ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا: يا موسى أَيُكَذِّبُ منا عشرة ويُصَدِّقُ اثنان؟ إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها. قال الله عند ذلك: فإنها محرمة عليهم أبداً، وهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة. فلم يدخلها أحد ممن كان مع موسى، هلكوا كلهم في التيه، إلا الرجلين فإنهما دخلاها، ودخلها (مع) موسى أبناء القوم الهالكين في التيه، وهذا على [قراءة] من قرأ: (يُخافون) بالضم. ومعنى / {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} أي: بطاعته واتباع نبيه. وقيل: أنعم الله عليهما بالخوف. وقال الضحاك: أنعم الله عليهما بالهدى، وكانا من مدينة الجبارين. قوله: {قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} الآية. (و) هذا أيضاً خبر من الله عن قول القوم لموسى، ومعنى (أبداً): أيام حياتنا ومقامهم.

25

ومعنى {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} أي: وليعنك ربك، لأن الله لا يجوز عليه الذهاب وإنما الذي سألوه الذهاب موسى وهذا إعلام من الله نبيه محمداً A أن بني إسرائيل لم يزالوا يعصون الأنبياء وأن [الذين] بحضرتك أسوة في العصيان. قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} الآية. المعنى: قال موسى - عند قولهم له ما حكى عنهم، ونكولهم عن قتال عدوهم -: ربِّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلا نَفْسي، وَأخي كذلك، أي: وأخي [أيضاً لا يملك] إلا نفسه. (وقيل: المعنى لا أملك إلا نفسي، ولا أملك إلا أخي، فيكون نسقاً على نفسي). فالأخ - على القول الأول - في موضع رفع، عطف على موضع {إِنِّي}، وعلى

الثاني في موضع نصب. ويجوز الرفع في الأخ من وجه آخر: وهو أن يكون معطوفاً على المضمر في {أَمْلِكُ}، كأنه قال: إني لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا. ويجوز النصب على أن [يكون] نسقاً على الياء التي هي اسم (أنّ)، بمعنى قال: إني وأخي لا أملك إلا أنفسنا. ومعنى الآية: أنه خبر من الله عن موسى وما قال عندما قال له قومه. ومعنى {فافرق بَيْنَنَا} (أي فافصل بيننا) {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} أي: افصل بيننا بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم، يقال " فرقت بين الشيئين " بمعنى: فصلت بينهما، قال ابن عباس: اقض بيننا. وقيل: المعنى: اجعل الجنة دارنا ليكون بيننا وبينهم فرق. وأجاز أبو حاتم الوقف على {إِلاَّ نَفْسِي}، قال: لأن المعنى: وأخي لا يملك إلا

26

نفسه، وهذا قول مردود، لأن كل إنسان يملك نفسه فلا فائدة في الكلام على هذا، ولو كان موسى لا يملك أخاه، لم يكن في تخصيص ذكره فائدة، لأنه أيضاً لا يملك قومه، فهم بمنزلة الأخ على هذا القول. (وقد أنكر هذا القول) المبرد وغيره. قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} الآية. {أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوب بـ {يَتِيهُونَ}، لأن موسى غضب عليهم لما قالوا، فدعا عليهم، فحرمها الله عليهم أبداً وألزمهم أن يتيهوا أربعين سنة عقوبة ولم يدخلوها. وقيل: وهو منصوب بـ {مُحَرَّمَةٌ} وأنهم عوقبوا بأن حرمت عليهم أربعين

سنة، و {يَتِيهُونَ}، حال العامل فيه {مُحَرَّمَةٌ}، ثم بعد الأربعين فَتَحَها لهم وأسكنهم إياها وكانوا يومئذ ست مائة ألف مقاتل، فلبثوا أربعين {سَنَةً} في ستة فراسخ جادين في السير، فإذا سئموا ونزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، فاشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل الله D عليهم المن والسلوى و (ظللهم بالغمام)، وانفجر لهم حجر أبيض عن اثنتي عشرة عيناً، لكل سبط منهم عين، فلما تمت الأربعون سنة أمرهم الله أن يأتوا المدينة، فقد كفوا أمر عدوهم، وقال لهم: إذا أتيتم المسجد فَأْتوا الباب واسجدوا وقولوا " حطة "، بمعنى: حط عنا ذنوبنا، فأتى عامة القوم وسجدوا على خدودهم وقالوا: حنطة. قال السدي: / لما ضرب عليهم التيه، ندم موسى فمكثوا أربعين سنة، ثم إن

موسى اجتمع بعاج، [فنزا] موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله، ولم يبق أحد ممن أبى (أن يدخل) قرية الجبارين - ممن كان مع موسى - إلاَّ مات ولم يشهد الفتح، وإنما كان معه أبناؤهم، ثم إن الله [نَبَّأ] يوشع بن نون وأمره بقتال الجبارين، فآمن به بنو إسرائيل، فهزموا الجبارين، قال: فكانت العصابة من بني إسرائيل تجتمع على عُنُقِ الرجل يضربونها لا يقطعونها. قال ابن عباس: كل من دخل التيه - ممن جاز العشرين سنة - مات في التيه، ومات موسى عليه السلام في التيه، ومات هارون قبله، وبرز يوشع [بمن بقي] معه مدينة الجبارين فافتتحها.

قال قتادة: مات موسى في الأربعين سنة ولم يدخل بيت المقدس إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. قال الطبري: ثبتت الأخبار أن موسى قتل عاج بن عناق وهو من أعظم الجبارين، وموسى A هو الذي افتتح مدينة الجبارين والرجلان على مقدمته. وروي أن طول عاج ثمان مائة ذراع، وأنه لما ضربه موسى بعصاه [في] الكعب [سقط] ميتاً، فكان جسراً للناس يمرون عليه. وروى ابن زيد عن أبيه أن النبي عليه السلام قال: " كان طول موسى عشرة أذرع، وطول عصاه عشرة أذرع، ونزا موسى عشرة أذرع (فما نال من عوج إلا العِرق) - الذي تحت الكعب - فقتله بتلك الضربة " قال زيد: فبلغني أن جيفته سدَّت بطن وادي الأردن.

قال نوف البكالي: كان طول عوج ثمان مائة ذراع، وعرضه أربع مائة ذراع. وقال وهب بن منبه: لما نظر عوج إلى عسكر موسى - وكانوا ستمائة (ألف مقاتل) ونيفاً - اقتلع من الجبل صخرة - على قدرهم من الأرض - فاحتملها رافعاً بها يديه ليرسلها على العسكر، فبعث الله D الهدهد - ومعه قطعة من ماسٍ - فأداره على الصخرة تلقاء رأسه، فما نزا موسى فأصاب عرق عوج، سقط موضع التقوير من الصخرة في عنق عوج فسقط ميتاً.

وقوله: {يَتِيهُونَ} أي: يحارون. وقوله: {فَلاَ تَأْسَ} خطاب لموسى. وقيل: لمحمد عليهما السلام. والتمام عند الأخفش وأبي حاتم ونافع ويعقوب: {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} على أن نصب " الأربعين " بـ {يَتِيهُونَ}. " قال أبو العالية: كانوا ست مائة ألف، سماهم الله " فاسقين " بهذه

27

المعصية ". قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق} الآية. المعنى: أن الله تعالى أمر نبيه A أن يتلو (خبر ابني) آدم على اليهود الذين ذكر قصتهم فيما تقدم، فيخبرهم عاقبة الظلم ونكث العهد، وما جزاء المطيع منهما وما آل إليه أمر العاصي منهما. وابنا آدم هما: هابيل وقابيل، أمرهما الله D أن يقربا قرباناً، وكان أحدهما صاحب غنم وكان له حمل يحبه - ولم يكن له مال أحبَّ إليه منه - فقربه وقبله الله منه، وهو الذي فدى به إبراهيم A، ( لم يزل يرتع في الجنة حتى فدى به الذبيح، وقرب الآخر شرَّ حرثه - وكان صاحب حرث - / فلم يتقبل منه، قال ابن عمر: وَأَيْمُ الله، لقد كان المقتول أشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرّج أن يبسط يده إلى أخيه. قال ابن عباس: كان قَبول القربان أن تأتي نار فتأكل المُتَقبَّل وتترك الذي لم

يُتقبَّل - ولم يكن في الوقت مسكين يُتصدَّق عليه، فحسد الذي لم يُتقبَّل منه المُتقبَّل منه، فقال: {لأَقْتُلَنَّكَ}، قال له أخوه: وما ذنبي؟، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين}. قال مجاهد: لما قتله عقل الله إحدى رجليه بساقها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس، حيث ما دارت [دار] عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، وفي الصيف حظيرة من نار، معه سبعة أملاك، كلما ذهب ملك جاء آخر. وقابيل هو القاتل لهابيل - فيما ذكر المفسرون -، وقابيل هو الأكبر. وذكر ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله A أن آدم كان يولد له غلام وجارية، فإذا ولد له بطنان، زوج أخت هذا لهذا وأخت هذا لهذا، وإن قابيل كان له أخت حسنة أحسن من أخت هابيل، فأبى أن يزوجها لهابيل، وقال: أنا أحق بها، فأمره آدم أن يزوّجها منه فأبى، وإنهما قَرَّبا قُرباناً إلى الله: أيّهما أحق بالجارية، وكان آدم قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، وكان قد قال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأَبَت، وقال للأرض، فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم،

فاذهب تجد أهلك كما يسرك. فلما قرّبا قرباناً، قرّب هابيل جَذَعَة سمينة، وقرّب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة فَفَرَكَها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وقد كان قابيل يفخر بأنه الأكبر وأنه وصيُّ آدم، فغضب قابيل وقال: لأقتلنّك حتى لا تنكح أختي. قال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه. وقيل: إنهما لما امتنع قابيل أن يزوج أخته لهابيل، غضب آدم وقال: اذهبا فتحاكما إلى الله وقرِّبا قرباناً، فأيّكما قُبِل قربانُه فهو أحق بها، فقرَّبا القربان بمنى - فمِن ثَمَّ صار مذبحُ الناس اليوم بمنىً - فنزلت نار فأحرقت قربان هابيل، ولم تأكل قربان قابيل، فقتله قابيل بحجر: رضخ رأسه (به)، واحتمل أخته حتى

أتى بها وادياً من أودية اليمن - في شرقي عدن - (فكَمَن) فيه، وبلغ آدمَ الخبرُ فأتى فوجد هابيل قتيلاً. قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، يلوي برقبته ويأخذ برأسه، فنزل إبليس فأخذ طيراً، فوضع رأسه على صخرة ثم أخذ حجراً، فرضخ به رأسه (وقابيل ينظر ففعل [ذلك] بأخيه فرضخ رأسه). ومكث آدم مائة سنة حزيناً لا يضحك، ثم أُتِيَ (فقيل له) (حيّاك الله) وبيّاك. معنى " بيّاك ": أضحكك. وروي عن علي أنه [قال]: بكاه آدم وقال: تغيَّرتِ الْبِلادُ ومَنْ عَليْها ... فَوَجْهُ الأَرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ

تَغيَّر كلُّ ذي طَعْمٍ وَلَوْنٍ ... وقَلَّ بَشاشَةَ الْوجْهُ المُليحُ. " بشاشَةَ ": نصب على التفسير، لكن حذف التنوين لالتقاء الساكنين. ومن الناس من يرويه بخفض " الوجهِ المليحِ " على أنه [مُقْوٍ]. / و {المتقين} - هنا -: " الذين اتقوا الله وخافوه ". وقيل: هم من اتقى الشرك، قاله الضحاك وغيره. وروي أن الذي قرّب هابيلُ كان كبشاً سميناً من خيار غنمه، وأن الله تعالى

28

أدخل ذلك الكبش الجنة، فلم يزل حتى فدي به ولد إبراهيم. قوله: {لَئِن بَسَطتَ (إِلَيَّ) يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} الآية. أخبر الله - في هذه الآية - بتحرّج المقتول عن القتل، وقال ابن عمر: وأيْمُ الله - إنْ كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده. قال مجاهد وغيره: كان فرض الله عليهم ألا يمتنعوا ممن أراد قتلهم. {إني أَخَافُ (الله) رَبَّ العالمين} أي: أخافه إن خالفت أمره فمددت يدي إليك. قوله: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي} الآية. ومعنى إرادته لأن يبوأ أخوهُ بإثمه: أن المؤمن يريد الثواب ولا ينبسط إليه،

فصار في كف يده - عمن يقتله - بمنزلة من يريده، فهو مجاز على هذا، وهو قول المبرد. وقيل: هو حقيقة، لأنه لمّا قال {لأَقْتُلَكَ}، استوجب النار بما تقدم في علم الله D أنه سيفعل، فعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله. وقال ابن كيسان: إنما وقعت الإدارة بعدما بسط يده بالقتل. وقيل: المعنى: بإثم قتلي إن قتلتني. وقيل: المعنى: إذا قتلتني أردت ذلك " لك "، لأنه إرادة الله للقاتل.

ومعنى {بِإِثْمِي} أي: بإثم قتلي، ومعنى {وَإِثْمِكَ} (أي وإثمك) الذي من أجله لم يُتقبّل منك، وهو قول مجاهد. وقيل: معناه: بإثم قتلي وإثم اعتدائك عليَّ، لأنه يأثم في الاعتداء وإنْ لم يقتل. وقيل: المعنى: {بِإِثْمِي} الذي كان يلحقني لو بسطتُ يدي إليك، وإثمك في تحمّلك قتلي. وعن ابن عباس: بإثم قتلي وإثم معاصيك المتقدمة لك. وقال إبراهيم بن عرفة: (أراده عن) غير محبة ولا شهوة، لأنّه لمّا لم يكن بُدٌّ من أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، اختار - عن ضرورة وعن غير محبة لذلك - أن يُقتل، كما تقول للرجل - يحاول ظلمك -: " أريد أن أَفدي نفسي منك " وأنت لا تحب ذلك ولكن الضرورة ألجأتك إلى هذه الإرادة.

30

(و) قوله: {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} قيل: هو (من) قول المقتول. وقيل: هو إخبار من الله لنا. وهذا يدل على أن الله D قد كان أمر آدم ونهاه وولده " ووعدهم " وأوعدهم. وقال النبي A: " ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمَاً إِلاّ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ منها، ذلك بأنه أوَلُ مَن سَنَّ القتل ". ومعنى {تَبُوءَ} أي: تحمل وتلزم وتنصرف به. قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} الآية. معنى " طوّعت ": أجابته إلى ذلك وانقادت (له إلى ذلك ففعل). وقيل: معناه: زَيَّنَت. وذلك أنه وجده نائماً فشدخ رأسه بصخرة: وذلك أن

31

الغلام فَرَّ منه فطلبه فوجده نائماً عند غنم له يرعاها فشدخ رأسه. وذكر (. . .) ابن جريج أن إبليس علّمه ذلك. قوله: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً} الآية. قرأ الحسن: (أَعَجِزَتْ) بكسر الجيم، وهي لغة شاذة، إنما يقال: " عَجِزَت المَرْأةُ ": إذا كبِرت عجيزتها. ومعنى الآية: أن القاتل لم يدر ما يصنع به. قال ابن عباس: فمكث يحمل أخاه في خِوان على رقبته سنة، فبعث الله غرابين، فرآهما يبحثان. فقال: أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟. / وقيل: بعث الله غراباً حياً إلى غراب ميت، فجعل الحي يواري الميت فتعلم منه ابن آدم. وقيل: بعث الله غرابين أخوين فاقتتلا قدّامه، فقتل أحدهما الآخر،

فأقبل القاتل يواري المقتول فتعلم ابن آدمَ القاتلُ منه، فوارى أخاه. وقال مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به حتى رأى الغراب يدفن الغراب، فقال: {يَاوَيْلَتَا} أعجَزت أن {أَكُونَ} أفعل مثل ما فعل هذا؟. وهذا كله مَثَلٌ ضربه الله لابن آدم وحرصه في الدنيا. ومعنى {مِنَ النادمين} أي: من النادمين على قتل أخيه. قال نافع: {مِنْ أَجْلِ ذلك} التمام، وخالفه في ذلك جماعة العلماء باللغة، وقالوا التمام {مِنَ النادمين}، لأن الذي كُتب على بني إسرائيل إنما كان من أجل قتل ابْْنَي آدم: أحدهما الآخر. وإذا وقف على {مِنْ أَجْلِ ذلك}، صار إنما كُتب عليهم لغير علة،

32

وليس التفسير على ذلك. قوله: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} الآية. قرأ الحسن: {أَوْ فَسَادٍ} بالنصب، على معنى: أو تحمل فساداً، ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: أو أفسد فساداً. و [قراءة] الجماعة بالخفض على معنى: أو بغير فساد في الأرض. ومعنى الآية: من أجل هذا القتل كتبنا - أي: [حكمنا]- على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً ظلماً - لم تَقْتُل نفساً - أو قتلها بغير فساد كان منها في الأرض، وفسادُها: إخافة السبل. وقوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}. قال ابن عباس: معناه من قتل نبياً أو إماماً عدلاً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أعان نبياً أو إمامَ عدلٍ فنصره من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقيل المعنى: من قتل نفساً بغير ذنب فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها - أي: ترك قتلها مخافة الله

- فكأنما أحيا الناس جميعاً. وقيل المعنى: فكأنما قتل الناس عند المقتول، ومن استنقذ نفساً من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ. وقيل: المعنى: أن صاحب القتل يَصْلى النار، فهو بمنزلة من قتل الناس جميعاً، ومَن سَلِم مِن قتلها فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً. وقال مجاهد: معناه أنه يصير إلى جهنم بقتل نفس كما يصير إليها بقتل جميع الناس. وقيل: المعنى (أنّ) من قتل نفساً، يجب عليه من القصاص والقَوْد كما يجب على من قتل الناس جميعاً، قال ذلك ابن زيد عن أبيه. وقيل: معنى {مَنْ أَحْيَاهَا}: مَن عفا عمن يجب عليه القصاص، فهو مثل من عفا عن جميع الناس لو وجب (له عليهم قصاص). قال ابن زيد أيضاً: {مَنْ أَحْيَاهَا}: من عفا عنها، أعطاه الله من الأجر مثل لو عفا

عن الناس جميعاً. وعن مجاهد: من أحياها من غرق أو حرق أو هلكة. قال الحسن: وأعظم إحيائها: إحياؤها من كفرها وضلالتها. وقيل: المعنى يُعذَّب - كما يعذب قاتل الناس جميعاً - من قتل نفساً، ويُؤجَر من أحيا نفساً - أي: استنقذها - كما يؤجر من أحيا الناس جميعاً. وقيل: المعنى هو: في الجرأة على الله والإقدام على خلافه كمن قتل الناس جميعاً، تشبيهاً لا تحقيقاً، لأن عامل السيئة لا يجزي إلا بمثلها. وقوله / {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ} هذا يُعْطَى من الأجر مثل ما يعطى من أحيا الناس جميعاً، لأن الحسنات تضاعف ولا تضاعَفُ السيئات، فهذه حقيقة والأول على التشبيه لا على الحقيقة.

33

قوله: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} الآية؛ أي: جاءت بني إسرائيلَ الرسلُ بالحجج الواضحة البيّنة، {إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ} أي: بعد مجيء الرسل بالآيات البيّنات {لَمُسْرِفُونَ} أي: " لعاملون بمعاصي الله ". قوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية. معنى الآية: أنها بيان من الله عن حكم المفسد في الأرض. والقطع من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. ونزلت هذه الآية في قوم من أهل الكتاب نقضوا العهد وأفسدوا في الأرض، وقطعوا السبل، فخيّر الله D نبيّه A بالحكم فيهم، قاله ابن عباس (وغيره، قال ابن عباس): خيّر الله نبيه، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يصلب وإن شاء أن يقطع من خلاف. (و) قال الحسن: نزلت هذه الآية في المشركين.

وقيل: نزلت في قوم - من عُكْل وعُرَيْنة - ارتدوا عن الإسلام (وحاربوا رسول الله A، قاله أنس وغيره، إنهم ارتدوا " واسْتَاقُوا المواشي وقتلوا الرِّعاء، فقطع النبي أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. وقال بعض العلماء: إن هذه الآية ناسخة لما فعل النبي بالعُرَنيين إذ مثَّل بهم، فلم يعد النبي A إلى المثلة. وقيل: بل فعل ذلك النبي بوحي وإلهام لقوله:

34

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]. والسَّمْلُ: فَقْءِ العينِ بحديدة أو بشوكة. وقوله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض}: قيل: يخرجون من ديار الإسلام إلى دار الحرب، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: ينفى من البلد الذي أحدث فيه ذلك إلى غيره. وقال الكوفيون: النفي - هنا - الحبس، لأنه لا يمكن أن ينفى من الأرض كلها لو تركنا والظاهر. قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} الآية. أي: إلا الذين تابوا من محاربتهم وشركهم والسعي في الأرض بالفساد من قبل أن تملكوهم، فإن الله يغفر لهم، أي: يستر عليهم ما تقدم من فعلهم ويرحمهم.

35

وهذه الآية - عند جماعة - إنما في المشركين - وأما الرجل المسلم فليس يحرزُه من الحد إذا قتل أو أفسد الأموال توبته. وقيل: هي للمؤمنين وغيرهم إذا استأمنوا أو تابوا أو أمَّنَهُم الإمام، فليس لأحد أن يطلبهم بدم ولا بغيره، قاله السدي وغيره. وقال مالك: لا يطلب بشيء إذا جاء تائباً - المؤمن ولا غيره - إلا أن يكون معه مال يُعرف فيأخذه صاحبه أو تقوم على المسلم بينة بالقتل فيقاد منه، ولا يتبعه الإمام بشيء من الدماء التي لم يطلبها أولياؤها. وقال الشافعي: تضع توبتُه عنه حقوق الله ولا يَسقط عنه بها حقوقُ بني آدم. وقيل: إنما تضع التوبة الحقوق عمن لحق - في حرابته - بدار الكفر ثم أتى تابئاً، وأما من لم يلحق بدار الكفر، فالحقوق كلها لازمة له - تاب أو لم يتب -. قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ} الآية.

36

المعنى: خافوه فيما أمركم / به واطلبوا إليه القربة. والوسيلة: القربة. وقيل: هي المحبة. وقيل: الوسيلة درجة في الجنة. {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ}، قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} الآية. (و) معناها: أن الذين كفروا بمحمد A وبما جاء به، وماتوا على ذلك، لو ملكوا - يوم القيامة - ما في الأرض كلها وضِعْفَهُ معه، لرضوا أن يفتدوا به من العذاب وليس يُتَقبّل منهم ذلك ولا ينفعهم. وهذا إعلام من الله D لليهود والنصارى ومشركي قريش أنهم لا بد لهم من الخلود في النار، وأن قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] باطل كذب. (ثم) أخبر تعالى أنهم يريدون أن يخرجوا من النار بعد دخولها وأنهم ليسوا

38

بخارجين منها وأنهم في عذاب مقيم، (أي دائم) أبداً. قال نافع بن الأزرق لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار (و) قد قال الله D: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا}، فقال له ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها، هذا للكفار. قال الحسن: (كلما رفعتهم) بلهبها حتى يصيروا إلى أعلاها، أعيدوا فيها. قوله: {والسارق والسارقة} الآية. قال سيبويه: أبت العامة إلا الرفع، يريد بالعامة الجماعة من الرواة والقراء، والاختيار عنده النصب، لأن الأمر بالفعل أولى، فهو عنده مثل " زيداً فاضربه "،

وخولف في ذلك فقال الكوفيون: الرفع أولى، لأنك لا تقصد إلى سارق بعينه، وإنما المعنى: كل من سرق فاقطعوا يده، ولذلك أجمعوا على أن [قرأوا]: {واللذان يَأْتِيَانِهَا} [النساء: 16] بالرفع، وهو مذهب المبرد. وقال: {أَيْدِيَهُمَا} بالجمع ليفرق بين ما في الإنسان منه واحد وما فيه اثنان، هذا قول الخليل. وقال الكوفيون: أكثر ما في الإنسان - من الجوارح - اثنان " اثنان " مثل اليدين والرجلين والقدمين والأذنين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِب بالواحد منهم - إذا أضيف إلى آخر - مذهب الجمع. وقيل: فعل ذلك، لأن التثنية جمع. وقيل: لأنه لا يُشْكل.

وأجاز سيبويه جمع غير هذا مما (ليس) في الإنسان في حال التثنية وحكى (" وَضَعا رِحالَهما): يريد رَحْلَيْ راحِلَتَيْن. وقرأ ابن مسعود " والسّارق والسّارقَةَ " بالنصب، وبه قرأ عيسى بن عمر. {جَزَآءً} مفعول من أجله، ويكون مصدراً، ومثله {نَكَالاً}. وقرأ ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما). والألف واللام في {السارق والسارقة} دخلتا لتعريف النوع ك { BR الزانية والزاني} [النور: 2]،

و [ليستا] لتعريف الجنس، إنما يكونان لتعريف الجنس فيما لزمته الألف واللام (من أجل جنسه: كالرجل والدينار والدرهم، وما لزمه الألف واللام) لأجل فِعله، فهو تعريف النوع كالسارق والزاني وشبهه، وهذا يزول عنه هذا الاسم بزوال فعله، والأول لا يزول عنه أبداً. ومعنى الآية: من سرق من رجل أو امرأة فاقطعوا أيديهما. وعنى بذلك سارق ثلاثة [دراهم]، أو ربع دينار أو (ما قيمته) ربع دينار، أو ثلاثة [دراهم] فصاعداً، هكذا بيَّنَته السنة.

ولا يقطع السارق حتى يسرق من حرز وما أشبه الحرز، وهو قول أهل المدينة: مالك وأصحابه. وقد قطع النبي A في مجن / قيمته ثلاثة دراهم، وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة Bهم. وروي أن علياً قطع في ربع دينار: درهمان ونصف. وروي عن ابن مسعود أن القطع في دينار أو عشرة دراهم فصاعداً، لا فيما دون ذلك. وقال عطاء: لا تقطع يد السارق فيما دون عشرة دراهم.

وقال النخعي: تقطع يد السارق في دينار أو في قيمته. وروي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن اليد تقطع في أربعة [دراهم] فصاعداً، لا فيما دون ذلك. وقد أوجب قوم القطع على كل من سرق وإن قَلَّ ذلك، على ظاهر الكتاب. ولا قطع على السارق حتى يُخرج المتاع من حرزه أو ما يشبه الحرز، وهو قول الشعبي والزهري وعطاء، وروي ذلك عن عثمان وابن عمر، وهو قول مالك

والشافعي وغيرهما. ولو نقب بيننا فأدخل يَدَه وأخذ متاعاً فرمى به إلى الخارج ثم خرج فأخذه، فعليه - في ذلك - القطع عند مالك وغيره، لأنه قد أخذه من حرزه - وهو الحائط -، ولو ناوَلَهُ آخرَ خارجاً من البيت، كان القطع على الداخل ولم يُقطع الخارج. ولو دخل جماعة بيتاً وأخذوا متاعاً وحملوه على أحدهم وخرجوا به، فقال ابن القاسم عن مالك: لا يقطع إلا مَن حمله، وقال ابن أبي أويس (عنه): يقطعون جميعاً. ولا قطع على من سرق باب دار أو باب مسجد، لأنه ظاهر لا حرز عليه.

وإذا سرق من بيت الحمام - ومع المتاع من يُحرزه - قطع عند مالك، فإن لم يكن مع المتاع من يحرزه لم يقطع. وإذا سرق رجلان شيئاً - لو سرقه أحدهما وجب عليه القطع - قُطِعَا جميعاً عند مالك، كالرجلين يَقتُلان رجلاً، فإنهما يُقتَلان به. وقال الشافعي: لا قطع على أحدهما حتى يكون في حظ كل واحد منهما ما فيه القطع. وإذا سرق من رجلين أربعة [دراهم] فصاعداً، قطع عند مالك. وإذا سرق سارق ما يجب فيه القطع ثم سرقه منه آخر، فعليهما القطع عند مالك وغيره، ولو كانوا سبعين قطعوا. وقيل: لا قطع على الثاني.

ولو كان لرجل على رجل مائة دينار دَيْناً فسرق الذي له الدّيْنُ من مال الذي عليه الدّيْن مائة درهم، فإنه يقطع عند مالك. فإذا سرق السارق ثم رد ما سرق ورفع إلى الإمام بعد ذلك، قطع في قول مالك وإن عفا عنه صاحب المتاع. وقيل: إنّه لا يقطع إذا عفا عنه صاحب المتاع. ويقطع عند مالك [في الفواكه] إذا كان فيها قيمة ما تقطع عليه اليد. وقيل: لا قطع في ذلك. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلا كَثَرٍ " " والكَثَرُ: الجُمَّار ". ومن سرق مصحفاً قطع عند مالك والشافعي. ولا قطع على مختلس أو خائن عند جماعة العلماء.

وأوجب مالك وغيره القطع على الطرّار الذي يَطُرُّ النفقة من الكم. وقيل: إن كانت الصُرَّةُ داخل الكم قطع، وإن كانت خارجاً لم يقطع. وعلى الولد إن سرق من مال والده القطع، وهو قول مالك. وقيل: لا قطع عليه. وكلهم لم يوجبوا على الوالدين قطعاً إذا سرقا [من] مال ولدهما. فأما [ذوو] المحارم فقال الشافعي: يقطعون. / وقال غيره: لا

يقطعون. وكذلك اختلف في الزوجين، فقال مالك: يقطع كل واحد منهما إذا سرق مال الآخر. وقال غيره: لا قطع على واحد منهما. وإذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، (ثم إن سرق قطعت يده اليسرى)، ثم إن سرق قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عُزر وحُبس، هذا قول مالك والشافعي وغيرهما. وقيل: تقطع [أولاً] اليمنى ثم يده اليسرى، ثم إن سرق حبس. وقيل: تقطع يده اليمنى ثم رجله ثم لا قطع عليه، قاله الزهري وغيره.

وإذا كانت يمنى السارق شلاء قطعت يسراه عند مالك. وقيل: تقطع الشلاء. وذكر ابن القاسم أن مالكاً لم يجبه فيها بشيء، قال: ثم بلغني أنه قال: تقطع اليسرى. وقال غير ابن القاسم عن مالك: تقطع رجله، لأن يَدَهُ الشّلاء كالمقطوعة. وإذا أمر الحاكم بقطع يمينه (فقطعت يساره) أجزأ. وقال مالك: إذا كان السارق مريضاً يُخاف عليه لم يُقطع حتى يبرأ.

و (العبد والحر) في (جميع) ذلك سواء عند مالك. ولا يُحَدّ إلا بالغ، والإنبات في حد البلوغ عند جماعة من العلماء، وحد البلوغ - عند مالك - الاحتلام أو يبلغ من السن ما لا يجاوزه غلام (إلا احتلم). وأجاز جماعة من العلماء أن يُشفع في الحدود ما لم يبلغ السلطان، روي ذلك ابن عباس والزبير بن العوام، وهو مذهب الأوزاعي وابن حنبل. وروي عن ابن عمر وغيره كراهة ذلك، وقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد صاد الله في حكمه.

39

وقال مالك: من لم يُعرف منه أذى للمسلمين (و) إنما كانت منه (تلك) زلة، فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام أو الشُّرَط أو الحرس. ومعنى {نَكَالاً مِّنَ الله} أي: مكافأة بفعلهما، {والله عَزِيزٌ} أي: عزيز في انتقامه من السارق وغيره (و) من أهل معصيته، {حَكِيمٌ} في فرائضه وحدوده. قوله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} الآية. المعنى: فمن تاب من هؤلاء السراق من بعد سرقته وأصلح، {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي: يرجعه إلى ما يحب ويرضى عن ما يسخطه، {إِنَّ الله غَفُورٌ (رَّحِيمٌ)} أي: ساتر على من تاب رحيم بعباده الراجعين إليه.

40

فتوبة الكافر عن كفره تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أدْعى إلى الدخول في الإسلام. وتوبة المسلم عن السرق والزنى لا تدرأ عنه الحد، لأن ذلك أعظمُ لأجره في الآخرة وأمنع بِمَن هَمَّ أن يفعل مثل ذلك، وقال مجاهد: توبة السارق في هذا الموضع إقامة الحد عليه. " وروي أن النبي A ( أمر بقطع) امرأة سرقت حلياً فقالت المرأة: هل من توبة؟، فقال لها رسول الله: أنتِ اليومَ مِن خَطيئَتِك كيومَ ولَدَتْكِ أمّك "، فأنزل الله: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} الآية. قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية. هذا خطاب للنبي A والمراد به من كان بالمدينة وحواليها من اليهود، والمعنى: ألم يعلم هؤلاء القائلون: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه أن الله مدبر ما في السماوات وما في الأرض وأنه يعذب من يشاء / ويغفر لمن يشاء قادر على ذلك لا يمتنع عليه. قوله {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ} الآية.

هذه الآية نزلت في أبي لبابة قال: " لبني قريظة - حين حاصرهم النبي A -: إنما هو الذبح فلا تنزِلوا على حكم سعد ". وقيل: (إنّه) إنما أشار إليهم بيده إلى حلقه يريد أنه الذبح إن نزَلتم على حكم سعد. وقيل: " إنها " نزلت في عبد الله بن صوريا ارتد بعد إسلامه، وأُمِر النبي ألاّ يَحزن عليه: وقال أبو هريرة: إن أحبار اليهود اجتمعوا في أمر رجل (زنى بامرأة) وهما محصنان، فقالوا: امضوا بنا إلى محمد فَسَلوه كيف الحكم فيهما: فإنْ حَكَم بعملكم من التحميم - وهو الجَلد بحبل من ليف مطلي بِقارٍ - ثم

يُسَوَّد وجهه ثم يُحمل على حمار ويُحوَّل وجهه ما يلي دُبُر الحمار، وكذلك يُفعل بالمرأة، فاتَّبِعوه وصدِّقوه، فإنه ملك، وإن (هو) حكَم بالرجم فاحْذَروه على ما في أيديكم. فأتوا النبي، فمشى النبي عليه السلام حتى أتى أحبارهم (فقال لهم): أَخرِجوا إليَّ أعلمَكم، فأخرَجوا ابنَ صوريا الأعور - وكان أحدثَهم سنّاً - فخلا به النبي A وقال: يا ابن صوريا أُذكِّرك أيادِيَ الله عند بني إسرائيل، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه في التوراة بالرجم؟، فقال: اللهم نعم، أما واللهِ يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك! فخرج (رسول الله) فأمر بهما في جماعة - عند باب مسجده - فرُجما، ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية. وقال البراء: مُرَّ (على) النبي بيهودي مُحمَّمٍ مجلودٍ، فدعا النبي رجلاً

من علمائهم فقال: [هكذا] تجدون حد الزاني فيكم؟ قال: نعم، قال: فأُنشِدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني ما حَدّثتك، ولكن كثر الزنى في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فنضع شيئاً مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال النبي A: ( اللهم) أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه!، فأمر به فرجم، فأنزل الله {لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} الآية. وذكر ابن حبيب أن اليهود أنكرت أن يكون الرجم في التوراة فرضاً عليهم، فقال لهم النبي A: مَن أعلَمُكم يا معشر يهود؟ قالوا: ابن صوريا - وهو

غلام منهم أمرد أبيض أعور - فدعاه (رسول الله)، [فقال " له "]: أنت أعلم يهود؟، قال: كذلك يزعمون، قال له رسول الله: فماذا تجدون (في الرجم) في كتاب الله الذي أنزله على موسى؟ قال: يا محمد إنهم يفضحون الشريف ويرجمون الدني، وجعل [يَرُوغ] عما في كتابهم، فنزل جبريل عليه السلام على (رسول الله) A فقال له: اِسْتَحْلِفْه بما آمرك به، فإن حلف وكذب، احترق بين يديك وأنت تنظر، فقال له رسول الله - وهو الذي أمره به جبريل -: أُنشِدك الله الذي لا إله إلا هو القوي، إلَه بني إسرائيل الذي [أخرجكم] من مصر وفرق لكم البحر - وأحلفه بأشياء كثيرة - هل تجد في التوراة آية الرجم (على) المحصن؟، قال: نعم، والله يا محمد لو قلتُ غير هذا لاحترقتُ بين يديك

وأنت تنظر. وقال ابن جريج ومجاهد: " هم " {سَمَّاعُونَ / لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ - آخَرِينَ} - هم اليهود -. والمعنى: لا يحزنك تسرع (من تسرع منهم إلى الكفر، لأنهم آمنوا بألسنتهم ولم (يؤمنوا بقلوبهم). {وَمِنَ الذين هَادُواْ} أي: ولا يحزنك تسرع) الذين هادوا إلى جحود نبوتك، ثم وصفهم فقال: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي: هم سماعون للكذب، وهو قَبولهم ما قال لهم أحبارُهم من الكذب: أن حكم الزاني المحصن - في التوراة - التحميم - والجلد، وهو صفة لليهود خاصة، ثم أخبر أنهم سماعون لقوم آخرين لم يأتوا النبي، وهم أهل الزاني والزانية، بعثوا إلى النبي يسألونه عن الحكم ولم يأتوا النبي.

وقيل: إن السماعين يهود فَدَكٍ، و " القوم الآخرين " - الذين لم يأتوا النبي - يهود المدينة. وقيل: المعنى سماعون من أجل الكذب، أي: يستمعون منك يا محمد ليكذبوا عليك. {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} أي: يستمعون منك ليُبَلغوا ما سمعوا قوماً آخرين، فهُمْ عليك عُيون لأولئك الغيب. {يُحَرِّفُونَ الكلم}: أي يغيرون حكم الله الذي أنزله في التوراة في حكم المحصنين من الزناة، ومعنى: {يُحَرِّفُونَ الكلم} أي: حكم الكلم، {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: من بعد وَضعِ الله ذلك مواضِعَه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، مثل {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 177]. {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} أي: (إن حكم) بهذا الحكم المحرف (فاقبلوه،

يقول ذلك أحبار اليهود لهم في أمر الزانيين، [يقولون]: إن حكم محمد بينكم بهذا الحكم المحرف) - وهو التحميم والجلد - فخذوه، {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} أي: وإن لم يحكم بينكم به فاحذروه ولا تؤمنوا به. وقال السدي: يهود فدك يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا فخذوه - وهو الجلد - وإن لم تؤتوه فاحذروا - وهو الرجم -. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما حكَّموا النبي A في اللَّذَيْن زنيا، دعا رسول الله بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها - وقد وضع يده على آية الرجم - فضرب عبد الله بن سلام يد الحبر ثم قال: هذه - يا نبي الله - آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك، فقال لهم النبي عليه السلام: يا معشر يهود، ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو

بأيديكم؟ فقالوا: أما إنه قد كان فيما نعمل به حتى زنى منا رجل بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف، فمنعه الملك من الرجم، ثم زنى رجل بعده فقالوا: لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلان، (فلما فعلوا ذلك، اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التحميم وأماتوا ذكر الرجم)، فقال النبي: فأنا أول من أحيا أمر الله، ثم أمر بهما ورجما عند باب المسجد، قال ابن عمر: فكنت ممن رجمهما. وقال قتادة: الآية نزلت في قتيل من بني قريظة، قتله بنو النضير، وكانت بنو النضير إذا قتلت قتيلاً وَدَت الدية - لا غير - لفضلهم، وإذا قُتل لهم قتيل لم يرضوا إلا بالقَود تَعزُّراً، فأرادت النضير أن ترفع أمر القتيل - الذي قتلوه -

إلى النبي، فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيلُ عمد، متى رفعتموه إلى محمد خَشِيتُ عليكم القَوَد، فإن قُبلت منكم الدّية فأعطوها، وإلا فكونوا منه على حذر. وقوله: {وَمَن يُرِدِ / الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً}: هو تسلية للنبي عليه السلام ألا يحزن على مسارعة من سارع إلى الكفر من المنافقين واليهود، وفتنته: ضلالته. {فَلَن تَمْلِكَ (لَه (ُ مِنَ الله شَيْئاً}: لا اهتداء له أبداً. {أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي: بالإسلام " في الدنيا ". {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} أي: ذل وصغار وأداء الجزية عن يد، {لَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وزعمت المعتزلة والقدرية أن الله لم يرد كفر أحد من خلقه، وأراد أن يكون جميع الخلق مؤمنين، فكان ما لم يرد ولم يكن ما أراد - تعالى عن ذلك -، وقد قال

(الله): {لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] وقال: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال: {وَلَوْ شَآءَ [رَبُّكَ] مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنِّي [لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ]} [السجدة: 13]. وقال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الإنسان: 30]، وقال: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً}، وقال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ [مَن] فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99]، وقال: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} [الرعد: 31]، وقال: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [النحل: 93]، وفي كتاب الله من هذا ما لا يحصى، يخبر تعالى في جميعه أنه أراد جميع ما كان وما يكون، وأن جميع الحوادث كانت عن

إرادته ومشيئته، وأنه لو شاء لأحدثها على خلاف ما حدثت فيجعل الناس كلَّهم مؤمنين. فعَندت المعتزلة عليها لعنة الله عن ذلك وخالفته، وقالت: حدث كفر الكافر على غير إرادة من الله، وعلى إرادة من الشيطان، وقد أجمع المسلمون على قولهم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقالت المعتزلة: يكون ما لا يشاء الله، وهو كفر الكافر، معاندةً لإجماع الأمة، وقد حصلت المعتزلة في قولها على أنه ليس لله - تعالى ذكره - على إبليس مزيَةٌ، لأن إبليس شاء [ألا] يؤمن أحد فآمن المؤمنون، فكان خلاف ما شاء، وشاء الله - عندهم - ألا يكفر أحد فكفر الكافرون، فكان خلاف ما شاء، فلا فرق بينهما على قولهم الملاعين، تعالى ربنا عما قالت المعتزلة علواً كبيراً، بل كان عن مشيئته، كان يفعل (ما) يشاء: يوفق من يشاء فيؤمن، ويخذل من يشاء فيكفر، لا معقب لحكمه ولا رادّ لمشيئته، وخلق من شاء للسعادة فوفقه

42

لعملها، وخلق من شاء للشقاء وخذله عن العمل بغير عمل أهل الشقاء، " كل مُيَسَّر لِما خُلِقَ لَهُ "، هذا هو الصراط المستقيم، أعاذنا الله من الزيغ عن الحق. قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ} الآية. السحت: فيه لغتان: إسكان الحاء وضمها. وروى خارجة عن نافع: " السَّحْت " بفتح السين وإسكان الحاء، جعله

مصدر: " سحته سحتاً ". ومعنى الآية: أن الله زاد في وصف من تقدم وصفه من اليهود أنهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}، فذكر أيضاً أنهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} على التأكيد. ويجوز أن يكون الأول معناه: أنهم يسمعون " مِن " قول مَن يقول لهم: " محمد ليس بنبي "، ويقول لهم: " ليس على المحصن رجم إذا زنى / "، ويكون الثاني معناه: أنهم يستمعون إليك ليكذبوا عليك - وقد قيل ذلك في معنى الأول، وقد ذكرته -. ثم وصفهم تعالى بأنهم: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وهو الرّشا في الحكم. قال قتادة والحسن: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} هم حكام اليهود، يسمعون الكذب ويقبلون الرشا. والسحت - في اللغة -: كل حرام يسحت الطاعات أي: يذهبها، يقال: سحته: إذا أذهبه قليلاً قليلاً، ويقال للحالق: " اِسْحَتْ " أي: استأصل. وقيل: السحت: الرشا في الأحكام، وأكل ثمن الخمر، وأكل ثمن الميتة، وثمن

جلدها الذي لم يُدْبَغ، وأكل ما نهى النبي عن أكله من كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وأدخل قوم في السحت أكل (أموال الناس) بالباطل. وقوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} معناه: فإن جاءك قوم المرأة - الذين ذكر أنهم لم يأتوا بَعْدُ -، فاحكم بينهم إن شئت بالحق، وإن شئت فأعرض عنهم، أي: دع الحكم بينهم إن شئت. وقيل: نزلت في الدية في بني النضير وقريظة، كانت دية النضيري كاملة، ودية القرظي نصف دية لشرف [النضيري]، فتحاكموا إلى النبي A، فأمره الله أن يحكم بينهم بالحق، ثم خيّره في الترك، قاله ابن عباس. (و) قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب للنضيري ديتان،

43

وللقرظي دية، فلما علمت [قريظة] بحكم النبي قالوا: لا نرضى إلا بحكم محمد، فخيّر الله نبيه A في الحكم بينهم. قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} الآية. وهو الرجم على المحصن إذا زنى. (و) قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك} هو ما غيَّروا من حكم الرجم المنصوص في التوراة، وجَعلُهم عوضه التحميمَ والضربَ بحبل لِيف مفتول أربعين ضربة استحرافاً منهم [لحكم] لم يؤمروا به، والحاكم مخير إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بهذه الآية، إن شاء حكم بالحق على مذهبه، وإن شاء لم يحكم، وهو مذهب الشعبي والنخعي وعطاء وعمرو بن شعيب، وهو قول مالك، فهي محكمة على قول هؤلاء.

وقيل: إن الآية منسوخة بقوله {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه لما قدم المدينة - واليهود بها كثير - كان الأدعى لهم والأصلح أن يردوا إلى أحكامهم، فقال {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فأباح له ترك الحكم بينهم، فلما قوي الإسلام أنزل [الله] {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 49]. قال ابن عباس: نسخت من سورة المائدة آيتان: القلائد وقوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، وهو قول عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، وهو المشهور عن الشافعي، وهو قول الكوفيين. وكل العلماء أجاز للإمام أن ينظر بينهم إذا تحاكموا إليه، وإنما اختلفوا في الإعراض عنهم.

44

وقوله: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي: إن أعرضت عنهم - فلم تحكم بينهم - فإنهم لا يضرونك. {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} أي: إن اخترت أن تحكم بينهم، فاحكم بالعدل، إن الله يحب العادلين في حكمه. قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} الآية. المعنى: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك {وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا [حُكْمُ الله]} أن على الزاني المحصن الرجم، والنفس بالنفس، {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عن حكمها، أي: يتركون حكم التوراة جرأة على الله، وهذا تقريع لليهود، لأنهم تركوا حكم ما في أيديهم من كتابهم، ورجعوا إلى حكم النبي عليه السلام وهم يجحدون نبوته، ثم قال {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} أي: (ما) من فعل هذا بمؤمن. قوله: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} الآية. المعنى: أن الله أنزل التوراة فيها هدى لما سألوا عنه من حكم الزانيين المحصنين،

وفيها (نور: أي) جلاء مما أظلم عليهم من الحكم. وقيل: المعنى {فِيهَا هُدًى} أي: بيان أمر النبي، {وَنُورٌ} أي: بيان ما سألوا عنه. ومعنى قوله {النبيون الذين أَسْلَمُواْ} أي: الذين سلموا لما في التوراة من أحكام الله، فلم يتعقبوا بالسؤال عنه، وليس الإسلام - هنا - ضد الكفر، لأن النبي لا يكون إلا مسلماً مؤمناً، وإنما الإسلام هنا: الانقياد والتسليم، ومثله قول إبراهيم: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 128] أراد مسلمين لأمرك، منقادين لحكمك بالنية والعمل، وكذلك قوله {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] أي: سلمت لأمره. ومعنى {لِلَّذِينَ هَادُواْ} أي: يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار {لِلَّذِينَ هَادُواْ}، أي: عليهم، فاللام بمعنى " على "، كما قال النبي A لعائشة:

" اشترطي لهم الولاء أي: عليهم، ولم يأمرها بأن تشترط الولاء لهم، وهو لا يجوز، (فلا يأمرها بفعل ما لا يجوز)، وإنما أمرها بفعل ما يجوز، وهو أن يكون الولاء لها، فلما اشترطوا الولاء لأنفسهم قال A: ما بال قوم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ". وقيل: المعنى: للذين هادوا (و) عليهم، أي: يحكمون لهم (و) عليهم، ثم حذف لدلالة الكلام عليه. وقيل: المعنى: فيها هدى ونور للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار. (و) عني بالنبيين - هنا - محمد A ومن قبله، قاله السدي وقتادة و [غيرهما].

وروي (أن) النبي A قال - لما نزلت هذه الآية -: " نحن - اليوم - نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان ". والأحبار: [العلماء] [الحكماء]، واحدهم حَبْرٌ، وقيل: حِبْرٌ. وسموا أحباراً، لأنهم يحبرون الشيء، فهو في صدورهم مُحَبّرٌ. وسمي الحبر - الذي يكتب به - حبراً، لأنه يحبر به، أي: يكتب به. وقال الفراء: التقدير فيه: مداد حِبْرٍ، (لأن العالم يقال له " حِبْر " فإذا [قلت: " هذا] حِبْرٌ " للمداد، فالمعنى: مداد حِبْرٍ)، أي: مداد عالم، ثم تحذف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقال الأصمعي: (إنما سمي) الحبر - الذي هو المداد - حِبْراً لتأثيره، يقال:

" على [أسنانه] حبرَةٌ " أي: صُفْرَةٌ أو سَوَادٌ. {والربانيون والأحبار}: القراء والفقهاء. وقيل: الفقهاء والعلماء. و " قال ابن زيد: الربانيون ": الولاة، والأحبار: العلماء ". والرَّبَّاني - عند أهل اللغة -: رب العلم، أي: صاحبه، والألف والنون للمبالغة. وقيل: معنى {لِلَّذِينَ هَادُواْ}: للذين تابوا من الكفر، أي: يحكم هؤلاء بما في التوراة للذين " تابوا " من الكفر. وقوله: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} أي: يحكمون بما استودعوا من كتاب الله، والباء متعلقة بالأحبار، والمعنى: يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار، أي: والعلماء / بما استودعوا من كتاب الله، {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} أي: وكان النبيون

والربانيون والأحبار شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله، وقال ابن عباس: الشهداء - هنا - الربانيون والأحبار شهداء أن الذي قضى [به] محمد A حق في أمر الزانيين المحصنين وقد أخبرنا الله أنهم استحفظوا كتابهم، وأعلمنا أنهم بدلوا وغيّروا، وأعلمنا تعالى أنه يحفظ علينا ما أنزله من القرآن فقال {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فغير جائز أن يبدل أحد أو يغير ما حفظه الله علينا، فنحن أمة محمد عليه السلام برآء من التبديل والتغيير لشيء من كتاب الله، إذ الله تولى حفظه علينا، ولم يسلم أهل التوراة من ذلك، إذ الله استحفظهم عليه فخانوا، ولم يحفظه هو. وقوله {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} هذا خطاب للربانيين والأحبار، أمرهم ألا يخشوا الناس في تنفيذ حكمه وإمضائه على ما في كتابه، وأن يخشوه في ذلك، قاله السدي وغيره. وقوله {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي: لا تأخذوا [الرّشى] في الأحكام، فإنه

عِوَضٌ خسيس وثمن قليل. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} أي: من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه في الزانيين المحصنين وغيرهما من دية القتيل، {فأولئك هُمُ الكافرون} أي: الساترون الحق. وهذه في كفار أهل الكتاب. وقيل: هي في المشركين. وقيل: المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلاً له، فأولئك هم الكافرون. وقال بعد ذلك: {هُمُ الظالمون}. وقال بعد ذلك: {هُمُ الفاسقون}. فقيل: إن الأوصاف الثلاثة لمن غير حكم الله [ومن جميع الخلق.

45

وقيل: هي لليهود المغيرين حكم الله]. وقيل: الوصف الأول لليهود، والثاني والثالث للمسلمين. وقيل: نزل {الكافرون} في المسلمين إذا غيّروا حكم الله، و {الظالمون} في اليهود، و {الفاسقون} في النصارى. وهو ظاهِرُ النص. قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس [بالنفس]} الآية. قرأ الكسائي برفع (العين) وما بعده، واحتج له بإجماعهم (على الرفع) في {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، وقوله {والله وَلِيُّ المتقين} [الجاثية: 19]، فرفع [ما] بعد (أنّ)

فيهما على القطع، فكذلك (العين) وما بعدها. وقيل: هو معطوف على موضع {النفس (بالنفس)}. وقيل: هو معطوف على المضمر الذي في [النفس]. وقال بعض العلماء: من نصب جعله كله مكتوباً في التوراة، من رفع جعل {والعين بالعين} وما بعده ابتداء حكم في المسلمين، وجعل {النفس بالنفس} هو المكتوب في التوراة دون ما بعده. والرفع [قراءة] النبي عليه السلام فيما روي عنه. ومن نصب {والجروح} عطفه على ما قبله، وأعمل فيه {أَنَّ}، و {قِصَاصٌ}

الخبر. ومن رفع قطعه مما قبله، [واختير قطعه مما قبله] لمخالفة خبره خبر ما قبله، ولمخالفة حكمه حكم ما قبله، ولمخالفة إعراب خبره (إعراب) خبر ما قبله، فلما خالف ما قبله، من هذه الوجوه قوي القطع، فرُفع على الابتداء. والمعنى: وكتبنا على هولاء اليهود الذين يحكمونك - وعندهم التوراة - في التوراة أن يحكموا بالنفس [في النفس] والعين " بالعين " وما بعده. قال ابن عباس: لم يجعل الله لبني إسرائيل دية، إنما هو النفس بالنفس أو العفو. فهذا استوى فيه أحرار المسلمين: الرجال والنساء فيما بينهم في النفس، وفيما دون النفس / إذا كان عمداً، ويستوي فيه العبيد: رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس، وفيما دون النّفس.

والقصاص من العين هو ظاهر النص، وبه علي بن أبي طالب والشعبي والنخعي والحسن ومالك والشافعي وغيرهم و [قراءة] الرفع توجب ذلك، لأنه حكم مستأنف للمسلمين، وليس بحكاية عما في التوراة. والنصب إنما هو حكاية عما في التوراة، فيجوز ألا يكون (حكماً لنا). ويكون القصاص في الأنفس عندنا من قوله تعالى: [{الحر بِالْحُرِّ} الآية، ويجوز أن يكون (حكماً لنا) أيضاً بنص آخر وهو]: {العبد بالعبد}، فيكون هذا بيان أن ذلك حكم لنا. وأحسن ما روي في صفة الاقتصاص من العين ما فعل " علي " بن أبي طالب: وهو أنه أمر بِمِرْآةٍ فَأحْمِيَتْ، ثم وضع على العين الأخرى قُطناً، ثم أخذ المِرآة

بكلبتين. فأدناهما من عينه حتى سال إنسانُ عينه. وإذا ضرب رجل عين رجل فأذهب بعض بصره وبقي بعض، فالحكم فيها - على ما فعل علي بن أبي طالب -: أن تُعْصَب عينُه الصحيحة، ويعطى رَجُلٌ بيضة ويذهب " بها "، فحيث ما انتهى بصر المضروب عُلِّمَ، [ثم يرجع فيغطّي] عينه، وتكشف الأخرى، ثم يذهب الرجل بالبيضة فحيث ما انتهى بصر المضروب علم]، ثم يحوّل المضروب فيفعل به من ناحية أخرى في عينيه جميعاً مثل ذلك، ويكال الموضعان فإذا استويا نظر ما بين امتداد نظر الصحيحة والسقيمة، فيعطي من مال الضارب بقسطه، وبذلك قال مالك والشافعي.

ولو فقأ أَعْورُ عين صحيح: فقيل: لا قود عليه، وعليه الدية. روي ذلك عن عمر وعثمان. وقيل عليه القصاص، وهو قول علي بن أبي طالب، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن شاء فقأ عينه، وإن شاء أخذ دية عين أعْوَر كاملة. وإذا أُوْعِبَ جَدْعُ الأنفِ، ففيه الدية، وهو قول سائر العلماء. ولو كسره

عمداً لكان فيه القود عند مالك، وإذا كسره خطأ - فبرأ على غير عثم - فلا شيء فيه عند مالك، وإن برأ على عَثْمٍ، ففيه اجتهاد الإمام. وكذلك قال: (ابن) القاسم إن خَرّم أنفه: وإذا قطع من أصله - أو من العظم - ففيه الدية كاملة عند مالك -. وإذا أفسد الخياشيم فانكسرت حتى " لا " يتنفس، ففيها الاجتهاد. وأما السن: فجاء من الخبر من أنه أقاد من السن، وأنه قال: (و) في السن

خمس من الإبل. وظاهر النص " القصاص ". ورُوي عن علي بن أبي طالب وابن عباس في السن بخمس من الإبل أي: سن كانت، وبه قال عروة بن الزبير والزهري وقتادة ومالك والشافعي والثوري وغيرهم. وروي عن عمر أنه حكم فيما أقبل من الفم - الثنايا والرباعيات والأنياب - بخمس فرائض في كل سن. كل فريضة: عشرة دنانير، فذلك خمسون ديناراً في كل سن.

وقضى في الأضراس (ببعير بعير)، وقضى معاوية في الضرس بخمس فرائض. فالدية تزيد إذا أصيب الفم كله عند معاوية، وتنقص عند عمر. وإذا اسودت السن من ضربة أو جناية، فقد تم عقلها عند مالك وغيره، لأن جمالها قد ذهب، فإن طرحت بعد ذلك، كان فيها عقلها، لأن منفعتها قد ذهبت. وروي عن عمر أنها إذا اسودت ففيها ثلث ديتها. وقيل: فيها حكومة إذا اسودت، وبه قال الشافعي. (وإن) قلعت سن الصبي، فنبتت، فلا شيء فيها، إلا أن تنبت ناقصة

الطول (عن ما) هو مثلها، / فيؤخذ من الجاني بقدر ما نقصت، هذا مذهب مالك والشافعي وغيرهما. وقال مالك: لأولياء الصبي أن يضعوا عقلها، فإن نبتت ردوها على أهلها. وقيل: في ذلك حكومة. وإذا أخذ الكبير دية سنه ثم نبتت، فلا يرد ما أخذ عند مالك، لأنه أخذه بحق. وقال أصحاب الرأي: يرد ما أخذ. واختلف في ذلك قول الشافعي. ولو جنى عليها آخر فسقطت، أخذ صاحبها إرشها تاماً.

ولو قلعت سن قوداً ثم أخذها صاحبها فردها فالتحمت، فلا شيء عليه عند ابن المسيب، وهو قول عطاء، وقال: ليس له أن يردها ثانية، وإن ردها، أعاد كل صلاة صلاها وهي عليه، ويَجْبُره السلطان على قلعها مرة أخرى. وكذلك قول الثوري وغيره: تقلع ثانية، لأن القصص للشَّيْن، فلا بد من قلعها. وقال مالك في قصاص الأسنان: " الثنية بالثنية "، والرباعية بالرباعية والسفلى بالسفلى. ولا [تقاد] سن إلا بمثلها في موضعها، فإن لم يكن له مثل الذي طرح، رجع ذلك إلى العقل.

ولو قلعت سن رجل فداواها وردها [فالتحمت]، فلا شيء فيها على الجاني عند مالك إذا عادت كهيئتها. وقال الشافعي: لا يسقط عن الجاني شيء مما وجب عليه. وفي السن الزائدة إذا قلعت - عند مالك - حكومة، وهو قول الثوري والشافعي. وقال زيد بن ثابت: فيها ثلث السن. فإن كسر بعضها أعطى صاحبها بحساب ما نقص منها، وهو قول الجماعة. [وأما] الأذنان: فإذا ذهب سمعهما ففيهما الدية، فإن قطعتا ولم يذهب

السمع ففيهما الاجتهاد، هذا قول مالك. فإن ضرب رجل رجلاً فادعى المضروب أن سمعه ذهب، اغتفل المضروب وصيح به، فإن أجاب جواب من يسمع، لم يقبل قوله، وإن لم يجب، أحلف بالله: لقد صممت وما وجدت الصمم إلا منذ ضربت، فإذا حلف أعطي عقله كاملاً. وفي اللسان الدية. فإن قطع بعضه، نظر ما نقص من مخارج الحروف من ثمانية وعشرين حرفاً، فيكون على الفاعل - من الدية - بمقدار ما ذهب من كلامه. وليس في اللسان قود عند مالك، وروي عنه أنه قال: فيه القود إن كان

يستطاع القود منه. وفي لسان الأخرس حكومة عند مالك والشافعي وأهل العراق وغيرهم. وقال النخعي: فيه الدية كاملة، وقال قتادة: فيه ثلثا الدية. وفي ذهاب الصوت الدية عند جماعة من الفقهاء، وقيل: فيه حكم. وفي كل اثنين من الإنسان الدية كاملة: في الأذنين والشفتين واليدين والرجلين ونحو ذلك. وعن زيد بن ثابت أن في الشفة السفلى ثلثي الدية، وفي العليا الثلث، وهو

قول ابن المسيب والزهري. وفي اللحية حكومة عند ابن القاسم. وقال غيره: إن أنبتت فلا شيء فيها، وإن لم تنبت ففيها الدية. وفي نتف الحاجبين وأشفار العينين حكومة عند مالك " وإن لم تنبت ". والأصابع إذا زالت من الكف ففيها عقل اليد. وفي اليد من المنكب دية اليد لا غير. وما كان من ذلك خطأ، حملته العاقلة، وما كان عمداً ففيه القصاص. / وإذا شلت اليد أو الرجل فقد تم (عقلها)، فإن كان الضرب: عمداً، ضرب الضارب مثل ما ضرب.

/ وإذا شلت [الأصابع] تمت ديتها، فإن قطعت الشلاء (أو) [الأصبع] الأشل، فإنما في ذلك حكومة في مال الجاني. ومن قطع يد رجل - ناقصة منها أصبع - قطعت يده ولا يسأل عن نقص [الأصبع]، أي: أصبع كانت. فإن كانت اليد تنقص أصبعين أو ثلاثة، لم يقطع يد الجاني، ولكن عليه العقل في ماله. ومن قطع (من) يد رجل أصبعين وما يليهما من الكف (في ضربة) واحدة، وجب عليه خمساً دية الكف. ومن قطع كفاً لا أصابع فيها، ففيها حكومة. ومن قطع يمين رجل - ولا يمين له -، فعليه العقل مثل عقل العمد - إذا قُبلت

- من ماله. ومن أصيب أصبعه خطأً، أو ذهبت بأمر من الله، ثم قطع كفه خطأ، فإنما له أربعة أخماس الدية على العاقلة. وكذلك إذا ذهبت الأنملة، ثم قطع الكف، إنما له حساب ما بقي. وفي الظفر الاجتهاد إذا برأ على عثم، وإن كان عمداً ففيه القصاص. وروي عن النبي A أنه " جعل في الأصابع عشراً عشراً ". وأصابع اليد والرجل سواء، لا فضل لبعضها على بعض.

وروي عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلاثة عشر، وفي التي تليها باثني عشر، وفي الوسطى بعشرة، وفي التي تليها بتسعة، وفي الخنصر بست. والأشهَر أنها سواء (عشر عشر) لكل واحدة. وفي كل أنملة ثلث دية الأصبع إلا الإبهام ففيها الثلثان، في كل أنملة نصف دية [الأصبع]. وروي عن مالك أنه قال: في الإبهام ثلاثة أنامل: الثالثة مع الكف، ففي كل واحدة ثلث دية الأصبع كسائر الأصابع. وروي عنه أنه قال: الإبهام مفصلان: في كل مفصل نصف دية أصبع، وفي

الثالثة التي تلي الكف حكومة، بمنزلة باقي الكف إذا قطعت بعد الأصابع. وعن عمر أنه جعل في اليد الشلاء والرجل الشلاء ثلث ديتها. وقال ابن شهاب: فيها نصف ديتها، ومثله الأصبع الأشل، وقال الشافعي: فيها حكومة. وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي A. وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية. وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره.

وفي الذّكَر الديةُ كاملة عند جميع العلماء، وهو مروي عن النبي A. وفرق قتادة: فجعل في الذي لا يأتي النساء ثلث الدية، وفي الذي يأتي الدية. وفي الحشفة: الدية كاملة عند مالك إذا قطعت خطأ، وهو قول الشافعي وغيره. فإن قطع القضيب بعد الحشفة ففيه اجتهاد عند مالك، وينتظر به حتى ينظر ما يحدث عليه من قطعه. فإن قطع من طرف الحشفة، قيس مقداره فيما بقي وكان بحساب ذلك، ولا يقاس ما بقي القضيب، لأن في الحشفة الدية كاملة.

وفي الأنثيين - في خطأ - الدية كاملة، وفي العمد القصاص. وفي بيضة واحدة نصف الدية. وقال سعيد بن المسيب: في اليسرى ثلثا الدية، لأن الولد منها، وفي اليمنى الثلث. وإن قُطع ذكر رجل وأنثياه، ففي ذلك ديتان، وكذلك إن قطعا في وقتين، ففي كل واحد الدية. وفي ذكر الخَصِيّ حكومة عند مالك، وفي الدية " كاملة " عند الشافعي. وقال قتادة: فيه ثلث الدية.

وفي كسر العظام إذا [كسرت] القصاص عند مالك: الساق بالساق، ولا قصاص فيما فوقه، ولا في كسر ظهر ولا فخذ. ويجتهد الإمام في اللطمة عند مالك. و " قد " قيل: / فيها القصاص. وفي الموضحة - وهي الضربة التي توضح العظم - خمس من الإبل. وهي تكون في الرأس والوجه قال مالك: إنْ كانت التي في الوجه تَشِينهُ، زِيدَ على الجاني بقَدْر شَيْنِها. وليس موضحة البدن مثل موضحة الرأس والوجه. ولا يعجل

بأخذ الدية من صاحب الموضحة حتى ينظر (إلى) ما يصير إليه أمرُها، فإن مات منها كان في ذلك قسامة. وقال مالك: يقاد من العمد، ولا يعقل جراحات الخطأ إلا بعد البرء، وإن اقتص من الجارح عمداً فبرأ، فإن كان جرحُه مثلَ جُرح المَجروح أوّلاً أو أكثر فلا شيء (عليه) للأول، وإن كان في الأول عثل وبرأ المقتص منه على غير عَثَلٍ، أو على عثل دون عثل الأول، اجتهد الإمام في الحكومة على قدر ما زاد شَيْنُ المجروح الأول.

والموضحة في الوجه - عند مالك - من اللَّحْيِ الأعلى فما فوقه خاصة. و [لا] تكون الموضحة في الأنف عند مالك. وفي الموضحة - في سائر البدن - حكومة عند مالك والشافعي. وروي عن أبي بكر وعمر أن فيها نصف عشر دية ذلك العضو الذي وقعت فيه، وسند ذلك إليهما ضعيف. وفي الهاشمة القودُ عند مالك إلا أن يخاف منها فلا يقتص منها، وفيها

عشر من الإبل. وفي المُنَقّلة خمسَ عشرة من الإبل عند مالك وجماعة العلماء، ولا قود فيها عند مالك والشافعي وغيرهما. والمُنَقِّلَة: (التي ينقل منها) العظام. وفي المأمومة - وهي التي تصل إلى أم الدماغ - ثلث الدية، وهو قول مالك

وجماعة العلماء، ولا قود فيها عند مالك وأكثر العلماء. والشجاج - التي دون الموضحة - ست: أولها: الدامية: وهي التي تَدْمَى ولا يسيل دمها. ثم الدامعة: وهي التي يسيل دمها. ثم الخارصة: وهي التي تَحرِص الجلد (أي) تشقه قليلاً، ومنه قيل: حَرَصَ الثوبَ القَصَّارُ: إذا شَقّهُ.

ثم الباضعة: وهي التي تشق الجلد وبعض اللحم. ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم أكثر من الباضعة. ثم السمحاق: وهي التي لم يبق بينها وبين العظم إلا قشرة " رقيقة " وكل قشرة رقيقة فهي سمحاقة، ويسميها أهل المدينة: المِلْطاة، وفي جميع ذلك - عند مالك والشافعي وغيرهما - حكومة. وقد حد غيرهم في كل نوع حدا: قضى زيد بن ثابت (ببعير في الدامية)، وفي الدامعة بنصف بعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة أبعرة، وفي

السمحاق بأربعة أبعرة. وروي عن علي في السمحاق مثل ذلك، وروي أن فيها نصف دية الموضحة، وروى مالك أن عمر وعثمان قضيا في [الملطاء]. وفي السمحاق بنصف الموضحة، وكان يرى فيها حكومة كسائرها. ورأى مالك: القصاص فيما دون الموضحة، مما ذكرنا إذا كان عمداً.

وفي الْجَائِفَة ثلث الدية، قضى به رسول الله A، وبه قال مالك وغيره. ولا فرق بين العمد والخطأ في الجائفة. وفي الجائفة [النافذة] ثلثا الدية. وفي ثدي المرأة نصف الدية، وفيهما جميعاً الدية كاملة، هذا مذهب الجميع. وفي الحُلْمة - إذا انقطع لبَنُها - نصف الدية عند مالك. وفي ثدي الرجل حكومة عند مالك. وعن زيد بن ثابت أن فيها ثمن

الدية. وقال الزهري: خمس من الإبل. وقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} أي: من تصدق بجرحه، هدم عنه ذنوبه مثل ما تصدق به، [قاله] جابر بن زيد. وروى الشعبي عن / رجل من الأنصار قال: سئل النبي عليه السلام عن قوله تعالى {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال: هو الرجل تُكسَرُ سِنُّه، أو يُجْرح في جَسَدِه فَيَعْفو عنه فَيُحَط من خَطاياه بقَدْر ما عفا: إن كان نصف الدّية فنصفُ خَطاياهُ، وإن كان ثُلثُ الدية فَثُلُث خَطاياهُ، وإن كان رُبُع الدية فَرُبُع خطاياه، وإن كانت الدية كلها فخطاياه كلها. وقال قتادة: " {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} يقول: لولي القتيل الذي عفا ". فالهاء المجروح،

أو لولي القتيل. وقيل: الهاء للجارح، والمعنى: إن تَصَدَّق المجروح على الجارح بإِرْش جُرحِه، فالصدقة كفارة للجارح، ليس يبقى عليه ذنب من الجرح. قال زيد بن أسلم: " إِنْ عَفا عنه، أو اقتص منه، أو قَبل منه الدية فهو كفارة له "، أي: للفاعل، وفي هذا القول بُعْدٌ، لأنه لم يَجْرِ ذكر للجارح، وإنما جرى ذِكرُ المجروحِ في (" مَنْ ")، فالهاء تعود عليه أَوْلى، وهو اختيار الطبري، قال: ولأَنّ المعهود أن التكفير إنّما يكون للمتصدِّق دون المتصدَّق عليه. وقيل: الهاء في (بِهِ) لإرش الجرح، وفي (لَهُ) للجارح، أي: مَن تصدق بما وجب له من الإرش والدية {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}، أي: فذلك الفعلُ كفارةٌ للجارح والقاتل في

46

حُكم الدنيا، و (مَن) اسم للمجروح (أو لولي) المقتول. وقيل: (" مَن ") اسم للقاتل والجارح، والهاء في (به) تعود على القتل أو الجرح، والهاء في (له) تعود على القاتل أي: من تصدق بِبيان أنه هو القاتل وهو الجارح، فذلك الإقرار كفارة للمُقِرّ، لأنه قد أباح نفسه بإقراره لأخذ الحدّ منه، ورفع التُّهم عن الناس: قال مجاهد: إذا أصاب الرجلُ الرجلَ بأمر، ولم يعرف الفاعل، فاعترف الفاعل، وأقرّ، فهو كفارة له، وقد روي أن عروة بن الزبير أصاب عين رجل خطأً عند الركن فقال: أنا عروةُ، فإن كان بعينك [بأس فأنا] بها. قوله: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} الآية. المعنى: و " أَتْبَعْنا عيسى بنَ مريم على آثارِ النبيين الذين أسلموا من قبلك ".

47

{مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة} أي: مصدقاً لما أتى به موسى " قبله ". {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} أي: أعطيناه كتاباً اسمه الإنجيل، {فِيهِ هُدًى} أي: بيانُ ما جهِله الناس من حكم الله في زمانه، {وَنُورٌ} أي: وضياء من عمى الجهالة، {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: وجعلنا الإنجيل مصدقاً لما قبل عيسى من التوراة وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه قبل عيسى، {وَهُدًى} أي: هدى إلى صحة ما أنزل الله على أنبيائه من الكتب، {وَمَوْعِظَةً} أي: [زجراً] لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبه من الأعمال، {لِّلْمُتَّقِينَ} أي: للذين خافوا الله واتقوا عقابه. قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ} الآية. مَن كسر اللام ونصب الفعل في {لْيَحْكُمْ}، جعلها لام " كي "، والمعنى:

48

أعطيناه ذلك كي يحكم أهل الإنجيل، فخالفوا حكمه. ومن أسكن اللام، جعلها لام الأمر، والمعنى: وأمرْنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه، فلم يفعلوا ما أُمِروا به. قال ابن زيد: كل شيء في القرآن " فاسق " فهو بمعنى " كاذب " إلا قليلاً، فالفاسقون هنا الكاذبون. قوله: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق} الآية. المعنى: أنه خطابٌ للنبي A، والكتاب - هنا -: القرآن، ومعنى {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما قبله من كتب الله أنها حق من الله، {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي: شهيداً على الكتب / أنها حق، وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، يقال للرجل إذا حفظ الشيء وشَهِدَه: " قد هَيْمَنَ، يُهَيْمِنُ هَيْمَنَةً ". قال ابن عباس: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}

أي: شهيداً " عليه، وهو قول السدي. وقال قتادة: مهيمناً: [أي]: أميناً وشاهداً. وقال ابن جبير: {وَمُهَيْمِناً} ([أي] مؤتمناً)، القرآن مُؤتمن على ما قبله من الكتب، وكذلك (روي أيضاً) عن ابن عباس والحسن وعكرمة. وقال عبد الله بن الزبير: المهيمن: القاضي على ما قبله من الكتب. وقال المبرد: الأصل " مُؤَيْمن "، ثم أُبدِل من الهمزة هاء. قال أبو عبيد: يقال: هيمن على الشيء، إذا حفظه.

وقرأ مجاهد وابن محيصن: {وَمُهَيْمِناً} بفتح الميم. قال مجاهد: " محمد عليه السلام مؤتمن على القرآن ". فيكون على قول مجاهد {وَمُهَيْمِناً} حالاً من الكاف في {إِلَيْكَ}. وعلى قول غيره حال من الكتاب، مثل: {مُصَدِّقاً}. والهاء في {عَلَيْهِ} - في قول مجاهد - تعود على الكتاب (الأول الذي هو القرآن. وعلى قول غيره تعود على الكتاب) الثاني الذي هو بمعنى الكتب

المتقدمة التي القرآن يصدقها ويشهد عليها بالصحة أنها من عند الله. وقد طعن قوم في قول مجاهد من أجل الواو التي مع " مهيمن "، لأن الواو توجب عطفه على " مصدق "، و " مصدق " حال من الكتاب الأول، والمعطوف شريك المعطوف عليه، قال: ولو كان حالاً من الكاف التي للنبي A في {إِلَيْكَ}، لم يؤت بالواو، فالواو تمنع من ذلك. ولو تأول متأول أن {مُصَدِّقاً} حال من الكاف في {إِلَيْكَ}، {وَمُهَيْمِناً} عطف عليه، لَبَعُد ذلك، من أجل قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، ولم يقل " يديك ". وهو جائز على بُعدِه على التشبيه بقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] بعد قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك}. فإن تأولته على هذا، كان " مصدق " و " مهيمن " حالين من

الكاف التي هي اسم النبي A، فهو المصدق للكتب المتقدمة، والمؤتمن على الكتاب، وهو القرآن. وقوله: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله} أي: إذا أتوك فاحكم بينهم بشرائع الله التي [أنزلها] عليك، {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق} إذ قالوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} [المائدة: 41] أي: إن حَكَم بينكُم (في المحصنين) بالتَّحْميم والجَلْدِ بِحَبْل ليف فاقبلوا منه، وإن لم يحكم بذلك فاحذروا أمره ولا تتبعوه، وذلك قول يهود فَدَك ليهود المدينة، فأمر الله نبيَّه ألا يتبع أهواءهم في ذلك، وأن يحكم بما أنزل الله أي: بحدوده. قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً [وَمِنْهَاجاً]} أي: شريعة، {وَمِنْهَاجاً} أي: طريقاً واضحاً.

قال قتادة: معناه أن للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويُحرِّم ما يشاء لِيَعْلَم أهل طاعته، والإخلاصُ واحد، والتوحيدُ واحدٌ لا يختلف، ولا يقبل غيره، وهو الإسلام، فالإسلام دين الأنبياء كلهم وشرائعهم في (الحلال والحرام) والصلاة والصوم وغير ذلك من العبادات مختلِفٌ على ما أراد الله من أمة كل نبي، لِيبلوَ الجميع بما يشاء من أحكامه، فَيَجْزِي الطائعَ ويعاقب العاصي، لا إله إلا هو. وقال مجاهد: معناه: لِكُلِّكُم جعلنا القرآن شِرعةً ومنهاجاً، أي: شرعة وطريقاً واضحاً، عنى بذلك أمة محمد A خاصة، هذا معنى قوله. واختار الطبري القول الأول، وهو أن يكون: لكل أمة جعلنا شريعة

وطريقاً، / واستدل بقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي يجعلكم (كلكم) - أيها الأُممُ - على شريعة واحدة، قال: ولو عنى بذلك أمة محمد A لم يكن لقوله {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فائدة، لأنهم أمة واحدة - أمة محمد - قد فعل بهم ذلك. ويدل على أنه أراد به الأمم (أنه قد جرى) ذكر الكتب التي قبل القرآن، وذكر عيسى وغيره، فرجع الكلام على ذلك. وقال ابن عباس (شرعة ومنهاجاً): سبيلاً وسنة، وكذلك قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: إن الشرعة السبيل، والمنهاج السنة. {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على دين واحد وعلى شريعة واحدة. قوله تعالى: {ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم} في الكلام حذف، والمعنى: ولكن جعل شرائعكم مختلفة ليختبركم فيما آتاكم من شرائعه. وهذا خطاب للنبي A،

49

والمراد به النبي ومن معه ومن مضى من الأمم. {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي: فبادروا إلى عملها قبل أن تعجزوا عنها بموت أو هرم أو مرض، فإن (مرجعكم إلى الله)، فيجازيكم بأعمالكم، ويخبر كل فريق بعمله، ويبين المحق من المبطل، (وتنقطع الدعاوى، لأن الأنبياء قد أخبرت بالمحق من المبطل) في الدنيا، ولكن الدعاوى لم تنقطع، ففي الآخرة تنقطع الدعاوى وتقع الحقائق. قوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} الآية. هذا معطوف على {الحق} [المائدة: 48] أي: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم بينهم. وهذا - عند جماعة - ناسخ للتخيير الذي تقدم في الحكم بينهم، أمره الله

بالحكم بينهم وأن لا يتبع أهواءهم في الأحكام التي قد أحدثوها في القتيل من بني النضير ومن قريظة، وفي التحميم الذي جعلوه على المحصن من عند أنفسهم، حذّره منهم أن يفتنوه عن الحكم الذي أنزل الله فيردوه إلى [حكمهم]. {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن الاحتكام إليك والرضا بحكمِك، فاعلم أن ذلك إنما هو من الله ليعجل لهم عقوبة ذنوبهم السالفة في عاجل الدنيا. {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ} يريد به اليهود، إنهم لتاركون العمل بكتاب الله وخارجون من طاعته: ذكر ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا: امضوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: قد علمت أننا علماء يهود وأشرافها، وإنا

50

إذا اتَّبعْناك [اتّبَعَنا] يهود، فنؤمن بك كلنا، وبيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن بك ونصدقك. فأبى ذلك النبي A، فأنزل الله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} الآية. قال ابن زيد: معنى {أَن يَفْتِنُوكَ}: أن يقولوا لك كذا وكذا في التوراة بخلاف ما فيها، قد بين الله له ما في التوراة، فقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45]، يعني: كتب ذلك في التوراة. قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} الآية. قرأ الحسن وقتادة والأعمش {أَفَحُكْمَ الجاهلية}، والحَكَم والحاكم سواء، والعامل فيهما [(يبغون)]، والحُكْم في الجاهلية: الكاهن.

51

ومن قرأ بالتاء في (تبغون) فمعناه قل لهم يا محمد، أفحكم الجاهلية تبغون، على المخاطبة، ومن قرأ بالياء، فعلى الخبر من الله عنهم. ومعنى (تبغون) تطلبون، وهو خطاب وتوبيخ لهؤلاء اليهود الذين لم يرضوا بحكم رسول الله، ثم وبخهم أيضاً فقال: / {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} أيها اليهود عند من كان يؤمن بالله، فأي حكم أحسن من حكم الله؟!. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} الآية. أكثر العلماء على أن المأمور بذلك جميع المؤمنين. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، كان بينهما وبين بني قَيْنُقاع عهد وحلف، فلما حاربت بنو قينقاع النبي عليه السلام، قام دونهم عبد الله بن أبيّ و [حاجّ] عنهم، ومضى

عبادة بن الصامت إلى النبي عليه السلام [وتبرأ] من حلفهم وعهدهم وقال: أنا أتولى الله ورسوله والمؤمنين. وقال الزهري: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال بعض اليهود: غركم أن أصبتم رهطاً من قريش لاَ عِلْمَ لَهُمْ بالقتال، أما أنّا لو عزمنا عليكم واستجمعنا لم يكن لكم يَدان بقتالنا، فتبرأ عبادة بن الصامت عند رسول الله من أوليائه من يهود، فقال عبد الله ابن أبي: لكن أنا لا أبرأ من ولاء يهود، أنا رجل لا بد لي منهم، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} الآية.

وقيل نزلت في قوم من المؤمنين (هموا - حين) نالَهم بأُحُدٍ ما نالهم - أن يأخذوا من اليهود والنصارى عُصَمَاء، فنهاهم الله D عن ذلك. وقال السدي: لما كانت وقعة بأُحُدٍ، اشتد على قوم ذلك، فقال رجل لصاحبه: [أما أنا] فأَمُرُّ بذلك اليهودي فآخُذُ منه أماناً، فإِنِّى أخاف أن يِدَّال علينا، وقال آخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني فآخُذُ منه أماناً، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} الآية.

وقال عكرمة: بعث رسول الله عليه السلام أبا لُبابة - من الأوس - إلى قريظة حين نقضت العهد، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حُلقِه: الذَّبح (الذبح)، فأنزل الله الآية فيه. وقيل: نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يخبرون اليهود والنصارى بأسرار المؤمنين ويوالونهم. والاختيار عند الطبري أن يكون نهياً عاماً لجميع المؤمنين. وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي: اليهود بعضهم أنصار بعض، وكذلك النصارى ففيه معنى التحريض للمؤمنين: أن يكون أيضاً بعضهم أولياء بعض. قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} أي: من والاهم فهو منهم، لأنه لا [يواليهم] إلا وهو بدينهم راض، فهو منهم. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: " لا يُوَفِّقَ " من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم لله ورسوله ".

52

قوله: {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [يُسَارِعُونَ فِيهِمْ]} الآية. هذه الآية بيان لما في الآية التي قبلها، والمعنى: ترى قوماً في قلوبهم مرض يسارعون في ولاية اليهود والنصارى، {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي: تكون الدائرة علينا، فيوالون اليهود والنصارى لضُعْفِ إيمانهم. وقيل: يعني بذلك عبد الله بن أبي بن سلول المنافق. وقال مجاهد: كان المنافقون يَصَانِعُونَ اليهود ويَسْتَرْضُونَهم ويستعرضون أولادهم يقولون: نخشى أن تكون الدائرة لليهود، وفيهم نزلت الآية، وكذالك قال قتادة. قال ابن عباس: معنى قولهم: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} (أي): نخشى (ألا يدوم) الأمر لمحمد ويغلب علينا المشركون. وقيل: يراد بها عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه، لأن النبي A لم يزل في طلب بني / قَيْنُقاع حتى أسرهم، ولم يزل عبد الله بن أبي يسأل فيهم حتى خلاهم له وقال:

خذهم لا بارك الله لك فيهم، فماتوا حتى بقي منهم نافخ النار. وقيل: المعنى: نخشى أن يصيبنا قحط فلا يفضلوا علينا، فيوالونهم لذلك. والأول أحسن لقوله: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} أي: بالنصر. (و) قال ابن عباس: فأتى الله بالفتح، فَقُتِلَتْ مُقَاتِلَة قُريظَةَ، وسُبِيَت ذراريهم، وأُجْليَ بنو النضير. ومعنى {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} يخبر بأسماء المنافقين الذين يوالون اليهود والنصارى. {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ (في أَنْفُسِهِمْ)}. (من) موالاة اليهود والنصارى {نَادِمِينَ}.

53

وقيل: {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} إيجاب الجزية على اليهود والنصارى. وقيل معنى: {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} بالخصب. ومعنى: (بالفتح): فتح مكة، فيصبحوا نادمين إذا رأوا النصر. وقيل: الفتح: القضاء، ومن قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89]. قوله: {يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله} الآية. من نصب (يقولَ) عطفه على (أن يأتي)، وهو بعيد جداً، لأنك (لو قلت): " عسى زيد أن يقوم ويأتي عمروا " لم يجز، كما لا يجوز: " عسى زيد أن يقوم عمرو ". ولو قلت: " عسى أن يقوم زيد ويأتي عمرو " حَسُنَ، كما يَحسُن " " عسى أن

يقوم عمرو ". فلو كان نص الآية: " فعسى أن يأتي الله بالفتح "، حَسُن العطف، وإنما تجوز الآية على أن تحمل على المعنى، لأن قولك: " عسى أن يأتي الله بالفتح " و " عسى الله أن يأتي بالفتح "، سواء فيجعل النصب على المعنى، ويكون مثل قول الشاعر: مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً ... ومعنى الآية أنها متعلقة بما قبلها، والمعنى: {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} إذا رأوا النصر، {يَقُولُ الذين آمَنُواْ} بعضهم لبعض، تعجّباً منهم ومن نفاقهم: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} مؤمنين والمعنى - على [قراءة] من أتى بالواو - مثل ذلك وهو أبين.

54

ومن قرأ بالنصب فمعناه: وعسى أن يقول الذين آمنوا كذا وكذا. وقال مجاهد: المعنى: {فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [حينئذ] {يَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ} إنهم مؤمنون. قال الكلبي: فجاء الله بالفتح، فأمر الله نبيه بقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وإجلاء [بني] النضير، فندم المنافقون حين أُجلِيَ أَهْلُ وَدِّهِمْ، وظهر (نفاقهم)، فعند ذلك قال المؤمنون - بعضهم لبعض - {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ}. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} الآية.

هذه الآية وَعيدٌ لمن يرتد فيما يُستقبل، لأن الله تعالى قد علم أنه سيرتد بعد وفاة نبيه قوم. وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}: قال الحسن والضحاك وغيرهما: هم أبو بكر الصديق وأصحابه، رَدُّوا من ارتد بعد النبي وقال: لا نؤدي الزكاة إلى [أهل] الإيمان. وقيل: هم أهل اليمن. وقيل هم آل أبي موسى الأشعري، " روي أن النبي A أَوْمَأ إلى أبي موسى الأشعري عند نزول هذه الآية، وقال: هم قوم هذا، وهم أهل اليمن " وعن مجاهد أنه قال: " هم قَوْمُ سَبَإٍ ". وقال السدِّي: هم الأنصار.

وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} (أي) جانبهم لين للمؤمنين / {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أي: جانبهم خشن على الكافرين. وقيل: (أعزة) بمعنى أشداء عليهم ذوي غلظة. وقال علي بن أبي طالب: أذلة: ذوي رأفة " وأعزة: ذوي عنف. وقال ابن جريج: أذلة: رحماء، أعزة: أعداء. {يُجَاهِدُونَ} أي: يجاهدون من ارتد ولم يؤمن، {وَلاَ يَخَافُونَ} في جهادهم ذلك {لَوْمَةَ لائم}. وهذا مما يدل على صحة خلافة أبي بكر، لأنه جاهد بعد النبي من ارتد لم يرجع لقول قائل، وقد كان كسر عليه جماعة عن قتال أهل الردة فأبى إلا قتلهم، فقاتلهم حتى رجعوا إلى الإسلام وأداء الزكاة، فرأى كل من كسر عليه أولاً

55

أن الذي فعل هو الصواب، Bهم أجمعين. قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} الآية. هذه الآية راجعة إلى ما تقدم من تحذير الله المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، فأعلمهم في هذه [الآية] أن الذي هو وليهم الله ورسوله والذين آمنوا. وقيل: نزلت في عبادة بن الصامت حين تبرأ من ولاية يهود. وقال: الكلبي: " بلغنا أن عبد الله بن سلام ورهطاً من مسلمي أهل الكتاب أتوا النبي عند صلاة الظهر، فقالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية، ولا نجد متحدثاً دون المسجد، وإنَّ قومنا لَمَّا رأونا صَدَّقْنا الله ورسوله وتركنا دينهم، أظهروا لنا العداوة، وأقسموا ألا يخالطونا ولا يجالسونا، فشق ذلك علينا. فبينما هم يشكون ذلك إلى النبي حتى نزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ} الآية، فلما قرأها رسول الله A عليهم

56

قالوا: رضينا بالله ورسوله والمؤمنين أولياء، وأذن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله والناس يصلون بين قائم وراكع وساجد، وإذا هو بمسكين يسأل، فدعاه رسول الله A فقال له: هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: خاتم من فضة، قال: مَن أعطاكَ؟ قال: ذلك الرجل القائم، فإذا هو عليّ، قال: على أي: حال أعطاك؟ قال: أعطانيه وهو راكعٌ. فزعموا أن رسول الله كبَّر عند ذلك ". قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ}، قيل: هو علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. قال السدي مرَّ به سائل - وهو راكع - فأعطاه خاتمه. وقيل: عنى به جميع المؤمنين. قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ} الآية. المعنى: أن الله أعلم أن من [تبرأ] من يهود - الذين هم حزب الشيطان -

57

ووالى الله ورسوله والذين آمنوا، هم حزب الله، {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون}، والحزب: الأنصار. قوله: {اأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} الآية. ومعنى الآية: أن الله حذر المؤمنين ألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ووصفهم تعالى بأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعباً، وهم (قد) أوتوا الكتاب من قبلنا، يعني التوراة والإنجيل. و [حذرهم] ألا يتخذوا الكفار أولياء، وهم مشركو قريش. فمن نصب (الكفار) فالمعنى فيه: أنه تعالى نهانا عن اتخاذهم أولياء ولم يخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كأهل الكتاب. ومن خفض فمعناه أنه تعالى

58

نهانا عن اتخاذهم أولياء، وأخبرنا أنهم اتخذوا ديننا هزواً ولعباً كما فعل أهل الكتاب. ومعنى اتخاذهم ديننا هزواً ولعباً: / هو إيمانهم: ثم كفرهم وإظهارهم خلاف ما يبطنون أخبر الله عنهم أنهم {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. {واتقوا الله} أي: اتقوه (في اتخاذهم) أولياء، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين بالله. قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية. المعنى: أنه إخبار عما يفعل اليهود والنصارى، أنهم كانوا إذا نودي بالصلاة سَخِرُوا ولعِبوا من ذلك، لأنهم قوم لا يعقلون، ما في إجابتهم إليهم لو فعلوا، وما عليهم إذا سخروا من العقاب على ذلك. قال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع في النداء " أشهد أن

محمداً رسول الله " (قال): " حُرِّقَ الكَاذِبُ " فدخلت خادم - ذات (ليلة من الليالي) - بنار - وهو نائم - فسقطت [شرارة] من النار فأحرقت البيت واحترق هو وأهله. وقال ابن عباس: ضحك قوم من اليهود والمشركون من المسلمين وقت سجودهم فأنزل الله (هذه). الآية. قال الكلبي: كان إذا نادى منادي رسول الله للصلاة، قالت اليهود والمشركون:

59

قد قاموا، لا قاموا، وإذا ركعوا سخروا (و) استهزأوا بهم وضحكوا. قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} الآية. المعنى: قل يا محمد لليهود والنصارى: هل [تكرهون] منا وتجدون علينا شيئاً من الأشياء إلا إيماننا بالله وإقرارنا به، وبما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبل أي: التوراة والإنجيل وجميع الكتب؟ {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} أي: وهل تنقمون منا إلا أن أكثركم فاسقون؟، كأنه: هل تنقمون إلا إيماننا وفسقكم؟. ومنع بعض العلماء حمل {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ} على {تَنقِمُونَ}، وقال: كيف يجوز " هل تنقمون (منا) إلاَّ فسقكم "، والفسق منهم، فغير جائز أن ينقموا على غيرهم فسقهم، قال: وإنما هو مردود على (بالله) أي: هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وبأن أكثركم

60

فاسقون. وذكر ابن عباس أن ناساً من يهود أتوا النبي A [ فسألوه] عمن يؤمن به من الرسل، فقال: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَآ أُوتِيَ موسى [وعيسى]}، وما أوتي النبييون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: " لا نؤمن (بمن آمن) به "، فأنزل الله {قُلْ يا أهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} الآية. قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً} الآية.

{مَن لَّعَنَهُ (الله)} [من]: في موضع رفع، كما قال: {شَرٌّ}: النار. والتقدير فيه هو: لَعْنُ مَن لَعَنَهُ الله ويجوز أن تكون {مَن} في موضع نصب {أُنَبِّئُكُمْ}، ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من {شَرٌّ}. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا [دينكم] هزواً ولعباً م الذين أوتوا الكتاب والكفار -: هل أنبئكم بشر من ثواب ما تنقمون هو لعن {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير}، وهم أصحاب السبت من اليهود.

وقرأ حمزة {وَعَبَدَ الطاغوت} بضم الباء وخفض الطاغوت، بإضافة " عبد " إليه، ومعناه: وخَدَمُ الطَّاغُوتِ. {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً} أي: شر من هؤلاء الذين نَقَمتُم عليهم لإيمانهم بالله وبما أنزل من قبل، {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} أي: أجْوَرُ / عن قصد الحق، وهذا كلام فيه تعريض لليهود الذين نقموا إيمان المؤمنين، فهم [المُعْنيون] بذلك. وقيل: المعنى: أولئك الذين نقموا عليكم - أيها المؤمنين - شرُّ مَكاناً عند الله من الذين لعنهم الله، وجعل منهم القردة والخنازير. وقيل: المعنى أولئك الذين آمنوا شرّ؟ أم مَن لعنه الله؟، (ويعني به المقول) لهم ذلك من اليهود.

61

قوله: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا} الآية. المعنى: وإذا جاءكم - أيها المؤمنون - هؤلاء المنافقون من اليهود، قالوا: " آمنا "، وقد دخلوا عليكم بالكفر إذا جاؤكم، وخرجوا به أيضاً كما دخلوا، لم يحولوا عما يعتقدون، وإنما كذبوا بألسنتهم وقالوا ما لا يعتقدون، {والله أَعْلَمُ بِمَا [كَانُواْ] يَكْتُمُونَ} من كفرهم، قال السدي: هؤلاء ناس من المنافقين - كانوا يهود - دخلوا كفاراً (وخرجوا كفاراً)، إذ لم ينتفعوا بما سمعوا. قوله: {وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ} الآية. المعنى: ترى يا محمد كثيراً من هؤلاء اليهود يسارعون في الأثم، [أي] في الكفر، والعدوان، وهو مجاوزة حدود الله، فمعنى ذلك أنهم يسارعون في معاصي الله وترك حدوده، ويسارعون في أكلهم السحت، وهو الرشا في الأحكام.

63

{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [في الكلام معنى القسم، والمعنى: أقسم بالله لبئس ما كانوا يعملون] في مسارعتهم في الإثم والعدوان وأكلهم السحت. قوله: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} الآية. المعنى: هلاَّ ينهاهم عن ذلك الربانيون، وهم أئمتهم وعلماؤهم. وقيل: وُلاتهم. (والأحبار) (و) هم الفقهاء والعلماء. {عَن قَوْلِهِمُ الإثم} وهو الكفر. وقيل: {وَأَكْلِهِمُ السحت} وهو الرشوة في الأحكام. {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي: لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لا ينهون عامتهم عن ذلك.

64

وهذه الآية أشد آية وُبِّخ فيها العلماء، قال ابن عباس: ما في القرآن آيةٌ أَشَدُّ توبيخاً من هذه، والمعنى: أقسم [لبئس ما] كانوا يصنعون. وقرأ أبو الجراح (الرِّبِّيُّون) وهم [الجماعات]، مأخوذ من الرِّبَّة، والرِّبَّةُ: الجماعة، ونُسب إليها فقيل: رِبِّيٌّ، ثم جُمع فقيل: رِبِّيُّونَ. قوله: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} الآية. هذه الآية من أدل دليل على صحة نبوة محمد A، إذ أخبرهم بمكنون سرهم وخفي اعتقادهم. ومعنى قولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}: " خير الله مُمسَك " وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم واليد - هنا - بمنزلة قوله تعالى في تأديب نبيه: {وَلاَ تَجْعَلْ

يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أي: لا تقتر في النفقة حتى تضر بنفسك وبمن معك، {(وَ) لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] أي: لا تسرف في الإنفاق والتبذير، فتبقى لا شيء لك. وإنما خصت اليد بأن جعلت في موضع الإمساك والإنفاق، لأن عطاء الناس وبذلهم مَعْروفهم، الغالب عليه باليد، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضاً بالكرم أو بالبخل بأن أضافوه إلى اليد التي بها يكون العطاء والإمساك، فخوطبوا بما يتعارفونه في كلامهم، فحكى الله عن اليهود أنهم قالوا {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي: أنه يبخل علينا بالعطاء كالذي يده مغلولة عن العطاء، تعالى الله عما قال أعداء الله علواً كبيراً.

وقال بعض المفسرين (في) معنى الآية: نعمة الله مقبوضة عنا. لأنهم كانوا إذا نزل بهم خير، / قالوا: يد الله مبسوطة علينا، وإذا نزل بهم ضيق وجدْبٌ، قالوا: يد الله مقبوضة عنا، أي: نعمته وأفضاله. وقد قيل: في قوله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}: أنهما مطر السماء ونبات الأرض، لأن النعم (بهما ومنهما) تكون. قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي: من الخير، {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} أي: أبعدوا من رحمة الله D لقولهم ذلك. وقيل: غلت في الآخرة، وهو دعاء عليهم. ثم قال تعالى - راداً لما حكى من قولهم -: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: بالبذل

والإعطاء، {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: يعطي: فيحرم هذا ويُقَتِّرُ عليه، ويُوسِّع على هذا. قال عكرمة ومجاهد والضحاك: قولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} معناه: أنه بخيل ليس بالجواد. وكذلك معنى قول ابن عباس وغيره. قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} قيل: معناه: نعمتاه الظاهرة والباطنة على خلقه مبسوطتان. وقيل: معناه: نعمتاه، يعني نعمته في الدينا ونعمته في الآخرة. والعرب تقول: " لفلان عند فلان يد "، أي: نعمة. وقيل: عنى بذلك القوة، كقوله: {أُوْلِي الأيدي والأبصار} [ص: 45] أي: أصحاب القوة والبصائر في الدين. وقد قيل في معنى قولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي: عن عذابنا، [أي يده مقبوضة عن

عذابنا، و] معنى {مَبْسُوطَتَانِ} أي: [مطلقتان]. واليد - عند أهل النظر والسنة في هذا الموضع وما كان مثله - صفة من صفات الله، ليس بجارحة، فعلينا أن نصفه بما وصف به نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فلا يحل لأحد أن يعتقد الجوارح لله، إذ ليس كمثله شيء، و (أن ما) وقع من ذكر هذا وشبهه، وذكر المجيء والإتيان، صفات لله، لا أنها فيها انتقال وحركة وجارحة، فسبحان من ليس كمثله شيء من جميع الأشياء، فلو أنك أثبت له حركة أو انتقالاً أو جارحة لكنت قد جعلته كبعض الأشياء الموجودة، وقد قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فاحذر أن يتصور في عقلك أن البارئ جل ذكره يشبه شيئاً من الأشياء التي عقلت وفهمت، ومتى فعلت شيئاً من هذا فقد ألحدت، وأهل السنة يقولون: ان يديه غير نعمته.

وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي: ليزيدنهم ما أطلعناك عليه من خفي اعتقادهم، وسوء مذهبهم، {طُغْيَاناً} عن الإيمان بك، {وَكُفْراً} بما جئت به. {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة} أي: بين اليهود والنصارى. وهو مردود إلى قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ} [المائدة: 51]. {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} أي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء شتته الله وأفسده عليهم. قال قتادة: (لن تلقى) يهودياً ببلد إلا وجدته (من) أذل أهل ذلك البلد، ولقد جاء الإسلام - حين (جاء - وهم) تحت أيدي المجوس أبغض خلق الله إليه.

65

وهو كلام تمثيل، وتحقيقه: كلما تجمعوا لتفريق المؤمنين وحربهم، شتتهم الله و [محقهم]. {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} أي: يسعون في إبطال الإسلام، والكفر برسوله وآياته، {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} أي: " من كان عاملاً بمعاصيه ". قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتابءَامَنُواْ واتقوا} الآية. المعنى: لو أن اليهود والنصارى آمنوا بالله و [رسوله]، واتقوا مخالفتهما، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ [سَيِّئَاتِهِمْ]} أي: لغطينا ذنوبهم وسترنا / عليها. {ولأدخلناهم جنات النعيم} أي: بساتين يتنعمون [فيها] في الآخرة.

66

قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة [والإنجيل]} الآية. أي: لو أن اليهود أقامت التوراة، أي: عملت بما فيها وأقرت بما فيها من صفة النبي ونبوته، ولو أن النصارى أقامت الإنجيل، أي: عملت بما فيه وأقرت بصفة النبي ونبوته التي هي فيه، {وَ [مَآ] أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} يعني القرآن، أي: وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، والمعنى في ذلك: التصديق بجميع الكتب. (و) قوله: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} أي: من قطر السماء، {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}: من نبات الأرض. وقيل: معناه التوسعة عليهم في الأرزاق كما يقول القائل: " هو في خير من قرنِهِ إلى قدمه ". {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}: أي مؤمنة بمحمد. وقيل: مقتصدة في القول في عيسى أنه

67

{رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ}. قال مجاهد: هم مسلمو أهل الكتاب. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} أي: عملهم مذموم. قوله: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} الآية. والمعنى: أن الله تعالى: أكد على النبي في تبليغ ما أنزل إليه من ربه، لأنه كان يرفق بالناس في أول الإسلام وابتدائه، فأمر بالاجتهاد في التبليغ. وقوله: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: إن تركت آية وكتمتها، لم تبلغ رسالته، قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: إن (لم) تبلغ ذلك معلناً، غير مُتَوَقٍّ أمراً، فما

بلغت، وهو مثل قوله {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]. وقوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} أي: أمره تعالى بالتبليغ، وأخبره بالعصمة من الناس. قال ابن جبير: " لما نزلت {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، قال رسول الله A: لا تحرسوني، فإنّ ربي قد عصمني. وكان ناس من أصحابه يتعقبونه في الليل، فلما نزلت {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، قال: يا أيها " الناس " إِلْحَقُوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني من الناس " وروي " أن النبي كان إذا نزل منزلاً، اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابي فخرط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال النبي: الله،

68

فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده، وضرب برأسه الشجرة حتى (انْتَثَرَ) دماغه، فأنزل الله {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} " وقيل: " كان " النبي " صلى الله عليه يخاف قريشاًَ، فلما نزلت هذه الآية، استلقى ثم قال: من شاء فَلْيَخْذُلني، مرَّتين أو ثلاثاً ". قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ} الآية. المعنى: لستم على دين حتى تصدقوا بما في التوراة من الفروض وصفة محمّد، و [بما] في الإنجيل، وتصدقوا [بما] أنزل إليكم من ربكم، وهو القرآن الكريم. (و) قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي: ليزيدنهم ما أطْلَعْتُكَ عليه من أمرهم، {طُغْيَاناً} أي: تجاوزاً في التكذيب، {وَكُفْراً} أي: [وجحوداً

69

لنبوتك] {فَلاَ تَأْسَ} أي: لا تحزن عليهم، فإنهم كافرون. قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية. مذهب الخليل وسيبويه في [الصَّابون] أنه رفع على أنه عطف على موضع (إن) وما عملت فيه. وقال الكسائي والأخفش: هو عطف على المضمر في {هَادُواْ}. وقو قول مطعون فيه، لأنه يلزم أن يكون {الصابئون} دخلوا في اليهودية. وقال الفراء: / إنما جاز الرفع، لأن {الذين} لا يظهر فيه عمل (إن). وأجاز الكسائي: إن [زيدا وعمرو]. قائمان " قال: لضعف " إن " واستدل بقول الشاعر: فإني وقيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ. ...

وقال الفراء: لا حجة للكسائي في هذا البيت، لأن قيارا قد عطف على اسم مكنّىً عنه، والمكنّى لا يتبيَّن فيه الإعراب ك {الذين}، فهل فيه أن يعطف على الموضع. وقرأ [سعيد] بن جبير " والصَّابِينَ " بالنصب، على ظاهر العربية. ومعنى الآية: أن الذين آمنوا بألسنتهم، يعني المنافقين، واليهود والصّابين والنصارى، من آمن منهم، أي: من حقّق الإيمان بمحمد - وما أتى به - بقلبه، وباليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم. وقيل المعنى: أن الذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم، من ثبت منهم على الإيمان {وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي: لا يخافون يوم

70

القيامة ولا يحزنون. قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً} الآية. اللام في {لَقَدْ} لام قسم، " والمعنى: أقسم " لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على إخلاص التوحيد، والعمل بما أمرهم به، والانتهاء عما نهاهم عنه، وأرسلنا إليهم (بذلك رسلاً)، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسُهُم، فريقاً كذّبوا وفريقاً قتلوا، نقضاً للميثاق الذي أخذ عليهم. فالتكذيب اشتركت فيه اليهود والنصارى، والقتل هو من فعل اليهود خاصة، كانت تقتل النبيين (والمرسلين) إذا أمروا بالمعروف ونهو عن المنكر. قوله: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية. المعنى: وظن هؤلاء الذين أُخِذَ ميثاقهم أنه لا يكون لهم من الله ابتلاء " واختبار بالشدائد من العقوبات، {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} أي: عن الحق والوفاء بالميثاق الذي

أخذ عليهم. و (كثير) بدل من المضمر. وقيل: هو تأكيد كما تقول: " رأيت قومك ثلثهم " وقيل: رفعه على إضمار مبتدا، [و] المعنى: العمى كثير منهم وقيل: التقدير: العمى والصم منهم كثير. وقيل هو على لغة من قال: " أكلوني البراغيث "، فيرتفع (كثيرٌ) بـ[عَموا وصَمُّوا]. ويجوز - في غير القرآن - النصب على أنه نعت لمصدر محذوف. (و) قال مجاهد: (هم) اليهود خاصة وقيل: المعنى: وحسبوا ألا يكون اختبار. لقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، فعموا عن الحق وصموا.

72

{ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} أي: لم يعلموا بما سمعوا، ولا انتفعوا بما رأوا من الآيات فكانوا بمنزلة العُمْيِ الصُّم. وقيل: معنى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ}: ثم بعث الله محمداً يخبرهم أن الله يتوب عليهم إن تركوا الكفر وآمنوا، {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} أي: لم ينتفعوا بما قيل لهم. قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} الآية. أخبر الله عن النصارى أنه لما اختبرهم بوفاء الميثاق، كفروا وقالوا: المسيح الله، وقد عملوا أنه (ابن) مريم، والله لا يكون مولوداً، تعالى (الله) عن ذلك. وأخبر عن المسيح أنه قال لهم {اعبدوا الله} إلى آخر الآية، وهذا قول اليعقوبية من اليهود. والمسيح: الصديق.

73

وقال ابن عباس: سمي مسيحاً، لأنه كان أَمْسَحَ الرجل، لا أخمصَ له. وقيل: سُمِّيَ مسيحاً، لأنه كان لا يمسح بيديه ذا عاهة إلا برأ، ولا يضع يديه على شيء إلا أعطي فيه مراده. وقال / ثعلب: سمي بذلك لأنه كان يمسح الأرض، أي: يقطعها بالسياحة. و [قيل]: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن. وأما المسيح الدجال، فإنما سمي به لأنه أمسح العين، فهو بمعنى ممسوح، ك " قتيل " بمعنى " مقتول ". قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} الآية. أخبر الله في هذه الآية قولَ بعضهم وكفرهم، وهو قول جمهور النصارى.

74

وقوله: (منهم) تعود (على أهل الكفر) من الذين قالوا: {[إِنَّ] الله هُوَ المسيح [ابن مَرْيَمَ]} ومن الذين قالوا: {[إِنَّ] الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}، فتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قوله: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} الآية. (و) المعنى: [أفلا] يرجعون عن قولهم ويستغفرون منه، {والله غَفُورٌ} أي: ساتر: لذنوب الناس، {رَّحِيمٌ} بهم. قوله: {مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ} الآية. هذا احتجاج على فرق النصارى في قولهم في عيسى. فالمعنى: ليس عيسى

أول رسول مبعوث إلى الناس فيعجبوا من ذلك، بل قد خلت من قبله الرسل إلى الخلق، فهو واحد منهم، (فهو) مثل قوله في محمد {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} [الأحقاف: 9]، و (مثل) قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} [آل عمران: 144]. (والصدّيقة: الفعلية من الصدقٍ]. ومعنى الآية: ما المسيح في إنبائه بالمعجزات - من إبراء الأكمه وإحياء الموتى - {إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} أي: مثل الرسل التي قد خلت من قبله، أتى بالمعجزات كما أتى موسى وابراهيم، فهو أظهر الآيات، (فهو) كغيره ممن تقدم من الرسل الذين أظهروا الآيات. - ومعنى {خَلَتْ}: تقدمت -، فليس هو بأول رسول فيعجب منه.

76

قوله {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} كناية عن إتيان الحاجة، فنبه بأكل الطعام على عاقبته، وغلَّبَ المذكر على المؤنث. وقيل: المعنى: كانا يتغديان كما يتغدَّى البشر، ومن كان هكذا فليس بإله، لأن الإله لا يحتاج إلى شيء. قوله: {انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات} أي: انظر يا محمد كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى {الآيات}، وهي العلامات على بطلان ما يقولون في أنبياء الله، ثم انظر: يا محمد - مع تنبيهنا إياهم على ذلك - كيف يؤفكون، أي: من أين يصرفون عن الحق. يقال لكل مصروف عن شيء: (هو مأفوك عنه)، و (وقد أفكت فلاناً عن كذا) أي: صرفته عنه، آفِكُه أَفْكاً، و (قد أُفِكَتِ الأَرْضُ): إذا صرف عنها المطر. قوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} الآية. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء القائلين في المسيح ما ذكرت عنهم: أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، والذي خلقكم ورزقكم، فيخبرهم تعالى أن المسيح -

77

الذي زعموا أنه إلهٌ - لا يملك لهم دَفْعَ ضُرٍّ إِنْ أَحَلَّهُ الله [بهم]، ولا صَرْفَ نَفْعٍ إن أعطاهم الله إيّاه. {والله هُوَ السميع العليم} أي: أنتم أقررتم أن عيسى كان في حال لا يسمع ولا يعلم، والله لم يزل سميعاً عليماً، " وهذا من ألطف ما يكون من الكناية ". وقيل: المعنى: {هُوَ السميع} لاستغفارهم لو استغفروه من قولهم في المسيح، {العليم} بتوبتهم - لو تابوا منه - وبغير ذلك من أمورهم. قوله: {قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق} الآية. المعنى: قل يا محمد: يا أهل الإنجيل لا تغلوا في دينكم أي: لا تفرطوا في القول في أمر المسيح فتجاوزوا الحق في جعلكم إياه [إلهاً]، ولكن قولوا: {رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ [مِّنْهُ]}.

{وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} أي: أهواء اليهود الذين قد ضلوا من قبلكم عن سبيل الله الهدى {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} أي: أضل هؤلاء اليهود كثيراً من الناس عن الحق، فحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح، {وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} أي: عن قصد السبيل. وسمي (الهوى / هوى، لأنه يهوي) بصاحبه في الباطل والهوى - في القرآن - مذموم. والعرب لا تستعمله إلا في الشر، وأما في الخير فيستعملون الشهوة والمحبة.

78

وقال ابن أبي نجيح: {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} اليهود أضلوا المنافقين. قوله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} الآية. (ذلك) في موضع رفع، على معنى: ذلك اللعن بما عَصَوا، أو على معنى: الأمرُ ذلك بما عصوا، ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: فعلنا ذلك بما عصوا. والمعنى: أن الذين لعنوا على لسان داود (هم) أهل السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى (ابن مريم) هم أصحاب المائدة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين لعنوا على لسان داود مسخوا قردة، والذين لعنوا على لسان عيسى مسخوا خنازير. قال النبي A: " أول ما وقع النقص في بني إسرائيل: أن أحدهم كان يرى أخاه على

المعصيةِ فينهاهُ، ثم لا يمنعه ذلك من الغد أن يكون أكيله وشريبه ". قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد في القرآن. وقال مجاهد: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير. والمراد بذلك - والله أعلم - أنه (تعالى) حذرهم أن يقولوا في عيسى ما قالوا فلعنوا كما لعن هؤلاء. ورُوي أن داود عليه السلام دعا عليهم على عهده: وذلك أنه مرَّ على نفر وهم

في بيت، فقال: من في البيت؟ [فقالوا]: خنازير، فقال: (اللهم اجعلهم خنازير)، فأصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال: " اللهم الْعَنْ مَنْ افْتَرَى عَلَيَّ وَعَلَى أُمِّي، فَاجْعَلْهُمْ " قردة خاسئين. ذلك بعصيانهم واعتدائهم. ثم أخبر تعالى أنهم {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}. أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، والمنكر: المعاصي. {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} في الكلام معنى القسم. والمعنى: أقسم لبئس الفعل فعلهم في تركهم النهي عن المعاصي. وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن أولَ ما كان من نقض بني إسرائيل ومعصيتهم: أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، شبه تعْذير، فكان أحدهم إذَا لقي

صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله وشاربه وخالطه، كأنه لم يعب عليه شيئاً، فلعنهم الله على لسان داود وعيسى بن مريم ". وروي عنه عليه السلام أنه قال: " لا يزال العذاب مكفوفاً عن العباد ما استتروا بمعاصي الله، فإذا أعلنوها، فلم تنكر، استحلوا عقاب الله ". وقال عليه السلام: " إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أظهرت فلم تُغَيَّر ضرتِ العامة ". وقال A: " ( لا تعذب) الخاصة بعمل العامة حتى تكون الخاصة تستطيع أن تغير على العامة، فإذا استطاعت ذلك - فلم تفعل - عذبت (الخاصة والعامة) ".

80

قوله تعالى: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} الآية. المعنى: ترى يا محمد كثيراً من اليهود يوالون المشركين من عبدة الأوثان ويعادون أولياء الله قال مجاهد: يعني المنافقين. {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} ف (أَنْ) في موضع رفع، فالذي قدمت لهم أنفسهم هو سَخَطُ الله بما فعلوا. {وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ} / أي: مقيمون في الآخرة. المعنى (لعنوا) - عند أكثر المفسرين -: أبعدوا من رحمة الله فمسخوا بذنوبهم. (و) روى ابن حبيب في حديث يرفعه إلى النبي عليه السلام أنه قال: الممسوخ خمسة عشر صنفاً: الفيل، والدب، والضب، والأرنب، والعنكبوت، والخنفساء،

والوطواط، والعقرب، والقنفذ، والدعموص، و [الجريث]، والقردة، (و) الخنازير، وسُهَيْلٌ، والزهرة. قيل: يا رسول الله، فما كان سبب هؤلاء إذ مُسخوا؟، فقال: أما الفيل فكان رجلاً لوطياً، وكان ينكح البهائم، لا يدع رطباً ولا يابساً، فمسخه الله فيلاً. وأما الدب فكان (رَجُلاً) مؤنثاً يؤتى، فمسخه الله دباً. وأما الضب فكان أعرابياً يسرق الحاج فمسخه الله ضباً. وأما الأرنب: فكانت امرأة [قذرة] لا تغتسل من حيض ولا غير ذلك، فمسخها الله أرنباً. وأما الخنفساء: فكانت امرأة سحرت ضرتها فمسخها الله

خنفساء. وأما العنكبوت فكانت امرأة عاصية لزوجها معرضة عنه، مبغضة له، فمسخها الله عنكبوتاً. وأما الوطواط: فكان رجلاً يسرق الرطب من رؤوس النخيل ليلاً، فمسخه الله وطواطاً، وأما القنفذ، فكان رجلاً سيء الخلق، فمسخه الله قنفذاً. وأما العقرب: فكان رجلاً همّازاً لا يسلم من لسانه أحد، فمسخه الله عقرباً. وأما [الدعموص] فكان رجلاً نمَّاماً يفرق بين الأحبة، فمسخه الله دعموصاً. وأما [الجريث]: فكان رجلاً ديوثاً يدعو الرجال إلى حليلته فمسخه الله [جريثاً]. وأما القردة: فالذين تعدوا في السبت من بني إسرائيل. وأما

الخنازير: فالذين سألوا عيسى نزول المائدة ثم كانوا بعد نزولها أشد ما يكونوا تكذيباً. وأما سهيل: فرجل عَشَّار كان باليمن متعدّياً فمسخه الله شهاباً. - وروي أن (رسول الله A) يلعنه إذا رآه -. وأما الزهرة: فامرأة افتتن بها هاروت وماروت، فمسخها الله شهاباً. وسورة المائدة: من آخر ما نزل من القرآن. وروي أن فيها إحدى وعشرين فريضة ليست في شيء من القرآن وهي: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام، وما علمتم من الجوارح مكلبين، وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم، وطعامكم حلٌّ لهم،

81

{والمحصنات مِنَ المؤمنات} والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وتمام الطهور، والسارق والسارقة، وآية المحاربين، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، وكفارة الإيمان، وتحريم الخمر، وتحريم الصيد في الحرم، وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، وروي عن عائشة Bها أنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت جملة، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. وروي عن النبي A أنه قال: " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب وتخلصه. وقد اختلف هل فيها منسوخ (أولا)، وقد ذكرنا ذلك في [موضعه] ". قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله} الآية. المعنى: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا

82

/ {يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن طاعة الله. وقال مجاهد: المنافقون. ولم يبين. قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً} الآية. قوله: {قِسِّيسِينَ} هو جمع (قسِّيس) مسلماً، (و) تكسيره على (قساوسة)، أُبدل من إحدى السينات واواً. ويقال: (قَسٌّ) في معناه، وجمعه (قُسُوس)، ويقال للنميمة (قَسَّ).

ورهبان جمعه رهابنة ورهابين. والمعنى: لتجدن - يا مُحَمَّد - أشد الناس عداوة للذين اتبعوك، فآمنوا بك {اليهود والذين أَشْرَكُواْ}، وهم عبدة الأوثان، ولتجدن أقربهم مودة لمن آمن بك، النصارى. {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن الحق. وهذه الآية والتي بعدها نزلت في نفر من نصارى الحبشة لما سمعوا القرآن أسلموا. " وقيل: إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وَأَصْحَابٍ له أسلموا ". قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي وفداً إلى النبي، فقرأ عليهم القرآن

فأسلموا، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم. قال ابن عباس: بعث النبي - وهو بمكة، حين خاف على أصحابه من المشركين - نفراً إلى النجاشي، منهم: ابن مسعود وجعفر بن أبي طالب، فبلغ ذلك المشركين، فبعثوا عمرو بن العاصي في رهط إلى النجاشي يحذرونه من محمد، فسبق أصحاب المشركين، فقالوا للنجاشي: خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها وقد بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك بخبرهم، قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون (لي)، فقدم أصحاب النبي، فأتوا باب النجاشي، وقالوا: استأذِنوا لأَولياء الله، فقال: ائذن لهم، فمرحباً بأولياء الله. فلما دخلوا عليه، سلموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى - أيها الملك - لم يحيوك بتحيتك!

فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي. فقالوا له: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ بتحيةِ أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال (لهم): ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ [قالوا]: هو عبد الله وكلمة من الله وروح منه، ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء البتول. قال: فأخذ عوداً من الأرض (وقال): " ما زاد عيسى وأمَّه على ما قال صاحبكم قدرَ هذا العود "، فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. قال لهم النجاشي: هل تعرضون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: اقرأوا، فقرأوا، وهناك قسيسون ورهبان ونصارى، فعرفت كل قرأوا، وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فأنزل الله الآية. وقال الكلبي: كانوا أربعين رجلاً: اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام، فأسلموا حين هاجر إليهم المؤمنون وسمعوا القرآن فعرفوا الحق وانقادوا

إليه، وكانت اليهود أشد عداوة لمن آمنوا برسول الله يومئذٍ بالمدينة، وكذلك كانت قريش لمن آمن بمكة. وقيل: إن الذي قرأ على النجاشي هو جعفر بن أبي طالب، قرأ عليه أول سورة مريم. وقال السدي: بعث النجاشي اثني عشر من الحبشة: سبعة " قسيسون وخمسة " رهبان، ينظرون إلى النبي A ويسألونه، فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل الله، فبكوا وآمنوا، / وأنزل الله فيهم: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين]}، فرجعوا إلى النجاشي فآمن وهاجر بمن معه، فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله A والمسلمون واستغفروا له. وروى ابن شهاب عن أم سلمة - زوج النبي عليه السلام، وكانت قد هاجرت إلى

أرض الحبشة مع من هاجر من مكة من المسلمين حين آذاهم المشركون - فقالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار - النجاشي -، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله D، لا نُؤذَى ولا نَسمَع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَيْنِ، وأن يهدوا له هدايا مما يستظرف من متاع مكة، فجمعوا له هدايا ولم يتركوا بطريقاً من بطارقته إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاصي، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق (منهم) هديته قبل أن تُكَلِّما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سَلاَهُ أن يُسَلِّمَهُم إليكما قبل أن يكلمهم.

قالت أم سلمة: فخرجا حتى قدما على النجاشي - ونحن عنده بخير دار عند خير جار - فلم يبق من بطارقته بِطْريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق: " إنه قد صبأ إلى بلاد الملك مِنّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مُبْتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومنا لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأَشِيروا على أن يُسَلِّمَهم إلينا ولا يكلّمهم، فإن قومهم أعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هدية النجاشي فقبلها منهما، ثم كلّماه فقالا: أيها الملك، إنه قد صبأ إليك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، ابتدعوا ديناً لا نعرفه نحن ولا أَنْتَ، وقد بَعَثَنا إليك فيهم أشرافُ قومنا من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم

لنردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالت البطارقة من حوله: صدقاً - أيها الملك -، فأَسْلِمْهُم إليهما. قالت: فغضب النجاشي (وقال): لاها الله اذن، وَلاَ أُسْلِمُهُم، (ولا يكاد قومٌ جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني من سواي) حتى أدعوهم [فأسألهم] فما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما [يقولان]، أسلَمتهم إليهما ورددتُهم إلى قومهم، وإن كانوا على غَير ذلك، منعتهم

(منهم)، وأحسنت جوارهم ما [جاوروني]. قال أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو بن العاصي من أن يسمع النجاشي كلام المؤمنين، فدعا النجاشي المؤمنين، فلما جاءهم رسول النجاشي، اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون اذا جئتموه؟ قالوا: نقول - والله - ما علّمنا نبيُّنا وما أمرنا كائناً في ذلك ما كان. فلما جاءوا - وقد دعا النجاشي أساقِفَته فنشروا مصاحبهم حوله - سألهم فقال: ما هذا الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا (به) في ديني، ولا (في) دين أحد من [هذه] الملل؟، (و) قالت أم سلمة: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب Bهـ، فقال له: أيها الملك، كنَّا

قوماً، - أهلَ جاهلية - نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، نُسيء الجِوار، ويأكل القويُّ (الضعيفَ، فكنا على ذلك) حتى (بعث) الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبَه وصِدْقَه وأَمانَتَه وعافيته، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونَخْلَعُ ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا / من الحجارة والأوثان، وأَمَرنا بِصِدْق الحديث وردِّ الأمانة وصِلَة الرحم وحُسنُ الجِوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقولِ الزور وأكل (مال) اليتيم، وقذف المحصنة، وأَمَرَنا أن نعبدَ الله ولا نشرك به شيئاً، وأَمَرنَا بالصلاة والزكاة وبالصيام. - قالت أم سلمة: فَعَدَّدَ عليه أمور الإسلام - فصدّقنا وآمنّا به، واتّبعناهُ على ما جاءنا به من عند الله، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأَحْلَلنا ما أحلَّ لنا، فَعَدا علينا قومنا فعذَّبونا وفَتنونا عن ديننا

ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كُنّا نستحلُّ من الخبائث فلما قَهَرونا (وظَلَمونا) وضَيّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا (أن لا) نظلم عندك أيها الملك. قالت أم سلمة: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله (من) شيء؟، قال له جعفر: نعم، قال: فَاقْرَأْهُ عليَّ. قالت: فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} [مريم: 1]، فبكى النجاشي (وبكى أساقفته حِينَ سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي): إن هذا والذي جاء به عيسى لَيَخرُج من مِشْكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسْلِمْهم

إليكما أبداً، ثم قال لجعفر (وأصحابه): اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي - والشُّيُومُ في لسانهم: الآمنون -، من سبَّكُم [غَرِم]، من سبّكم [غَرِم]، قالها ثلاثاً، ثم قال: رُدُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، (فوالله) ما أخذ [الله] (الرشوة مني) حين رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فآخُذُ الرشوة (فيه)، وما أطاع الله الناس فيَّ فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة: فخرجا من عنده مقبوحين. ففي النجاشي وأصحابه نزل {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول [ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ

الحق]} الآيات. قالت عائشة Bها في قول النجاشي: " ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخُذَ الرشوَة فيه، وما أطاع الله الناس فيّ فأطيع الناس فيه "، قالت: إن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد غيره، وكان للنجاشي عم، له من صلبه اثنا عشر ولداً، فقالت الحبشة بينهم: لو قتلنا أبا النجاشي، وملَّكْنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه [اثني] عَشَرَ ولداً، فيتوارثوا الملك من بعده وتبقى الحبشة بعده دهراً. فغَدوا على أبي النجاشي فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا. ونشأ النجاشي مع عمه، وكان لبيباً حازماً من الرجال، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّه (ونزل) منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكَانَه من عمِّه قالت

بينهم: والله لقد غَلَب هذا الفتى على أمر عمّه، وإنا لنتخوف أن يُمَلِّكه علينا، وَإِنْ مَلَّكَه (علينا) ليقتلنا أجمعين، لقد عَرَفَ أنَّا نحْن قتلنا أباه. فَمَشَوا إلى عمه فقالوا: إمّا أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تُخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفْنا على أنفسنا. فقال: ويلكم، قَتلتُم أباهُ بالأمس وأقتُلهُ اليومَ؟ بل أُخرجُه من بلادكم، فخرجوا به إلى السوق فباعوه [من رجل] من التجّار بست مائة درهم، فقذفه في سفينة وانطلق به حتى [إذا] [العشيّ] من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة، فقتلته ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هم حمق، ليس في واحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرُها، فلما ضاق عليهم أمرهم، قال بعضهم لبعض، تَعْلَموا - والله - أن مَلِككم -

الذي لا يقيم أمركم غيرُه - الذي بعتم، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه. قالت: / فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى أدركوه، فأخذوه منه وجاءوا به، وعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملَّكوه أنفسهم، فجاءهم التاجر الذين كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك؟ فقالوا: لا نعطيك شيئاً، قال: إذن والله أكلمه. قالوا: فدونك. قالت: فجاءه التاجر، فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعتُ غلاماً من قوم بالسوق بست مائة درهم فأسلموا إليّ غلامي (وأخذوا دراهمي حتى إذا سِرْت، خرجت بغلامي، أدركوني فأخذوا غلامي مني ومنعوني دراهمي. فقال لهم النجاشي: لتُعْطُنَّه دراهمه، أو ليضعن غلامه) يده في يده، فليذهبن به حيث

شاء. قالوا: [بل] نعطيه دراهمه. قال: فلذلك قال: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه. قالت: وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه، وعدله في حكمه. وقالت عائشة Bها: لما مات النجاشي، كان يُتَحَدَّثُ أنه لا يزال نور يرى على قبره. وقال ابن جبير: هم سبعون رجلاً وجَّهَ بهم النجاشي، وكانوا ذوي فقه وسنن، فقرأ عليهم النبي {يس} [يس: 1]، فبكوا، وقالوا: {رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين} وفيهم نزل: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54] إلى آخر الآية.

وقال قتادة: هم ناس كانوا على الحق من شريعة عيسى، ثم آمنوا بالنبي عليه السلام. والرهبان يكون واحداً وجمعاً، وإذا كان جمعاً فواحده: " راهب "، وإذا كان واحداً فهو كقربان، وجمعه: رهابين، مثل قرابين. ثم نعتهم تعالى ذكره في الآية الأخرى فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع [مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق]} يعني الرهبان والقسيسين الذين أتوا من عند النجاشي، فقرأ النبي A { يس} [يس: 1] ففاضت أعينهم لما سمعوا الحق وعرفوه. ومعنى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين}: قال ابن عباس: مع محمد وأمته، لأنهم شهدوا أنه قد بلغ، وأن الرسل كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]. ثم ذكر تعالى قولهم أنهم قالوا: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق} [الآية] وهو النبي والقرآن. {وَنَطْمَعُ} أي: ونحن نطمع، {أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} أي: المؤمنين

85

المطيعين. قوله: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} الآية. المعنى: فجزاهم الله بقولهم ذلك وإقرارهم وتصديقهم، {جَنَّاتٍ} أي: دخول جنات، {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في الآخرة، {خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ المحسنين}. أخبر تعالى أن من كفر منهم ومن غيرهم، وكذب بالقرآن، أنهم أصحاب الجحيم. " {الجحيم}: ما اشتد حره من النار، وهو الجاحم " أيضاً. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} الآية. (معنى الآية): أن الله أباح أكل الطيبات التي تشتهيها الأنفس، وألا يحرمها أحد على نفسه، ثم نهاهم عن الاعتداء، وهو تعدي الحدود التي (قد)

حرمت. وهذه [الآية] " نزلت في أبي بكر وعمر (وعثمان) وعلي وابن مسعود وغيرهم، اجتمعوا في (دار) عثمان بن مظعون على أن يَجُبُّوا أنفسهم، وأن يعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحماً ولا دسماً وأن يلبسوا المسوح، ولا يأكلوا من الطعام إلا القوت، وأن يسيحوا في الأرض / كهيئة الرهبان، فبلغ ذلك النبي عليه السلام، فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده ولا [إياهم]، فقال لامرأة عثمان أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟، فقالت: ما هو يا رسول الله؟،

فأخبرها، فكرهت أن تكذب رسول الله A، وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله، إن كان عثمان أخبرك فقد صدقك، فقال لها: [قولي] لزوجك وأصحابه - إذا رجعوا -: إن رسول الله يقول لكم: إني آكل وأشرب، وآكل اللحم والدسم، وأنام وأصلي، وآتي النساء، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ثم انصرف. فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمرها (به) رسول الله، فجاء عثمان إلى النبي A، فقال: يا رسول الله [حَدَّثَتْني] نفسي فلم أحب أن أحدث شيئاً حتى أذكر لك، فقال (له النبي A: ( و) ما تحدثك به نفسك يا عثمان؟، قال: تحدثني أن أختصي. قال: مهلاً يا عثمان، فإن خصاء أمتي الصيام. فقال: (يا) رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال. فقال: مهلاً يا عثمان، فإن ترهب أمتي الجلوس في المسجد لانتظار الصلوات. فقال: يا رسول

الله (فإن نفسي) تحدثني أن أسيح [في الأرض] قال: مهلاً يا عثمان، فإن سياحة أمتي الغزو في سبيل الله والحج والعمرة. قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله. قال: مهلاً يا عثمان، فإن صدقتك يوماً بيوم، وتكف عيالك وترحم المسكين واليتيم فتعطهما أفضل لك. فقال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني أن أطلق خولة [بنت خويلد] امرأتي، قال: مهلاً يا عثمان، فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله، وهاجر في حياتي، وزار قبري بعد مماتي، أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع. قال: فإن نفسي تحدثني بأن لا أغشى النساء. قال: مهلاً يا عثمان، فإن الرجل، المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه، فإنه

لم يكن له من وقعته تلك ولد، كان له وصيف في الجنة، وإن كان (له) ولد من وقعته فمات قبله، كان له فرطاً وشفيعاً يوم القيامة، وإن مات بعده كان له نوراً يوم القيامة. قال: يا رسول الله، فإن نفسي تحدثني بأن لا آكل اللحم. قال: مهلاً يا عثمان، فأنا أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت [ربي أن] يطعمنيه (في) كل يوم لأطعمنيه. قال: يا رسول الله: فإن نفسي تحدثني ألا أمس الطيب. قال: مهلاً يا عثمان، فإن جبريل أمرني بالطيب غباً، لا ترغب عن سنتي، [فمن] رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب، ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة. فقام رسول الله A ( وغلّظ) فيهم المقالة وقال: إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم يستقم لكم " ، فنزلت:

88

{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} إلى {مُؤْمِنُونَ}. والاعتداء " ها " هنا هو ما نووا من جب أنفسهم، نهو عن ذلك، قاله السدي. وقيل: هو ما نووا من التحريم على أنفسهم. وقال الحسن: معنى: {لاَ تعتدوا} إلى {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}. وأصل الاعتداء: التجاوز إلى ما لا يحل. قال تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً} حلالاً لكم، ذلك (و) طيباً. {واتقوا الله} في أن تحرموا ما أحل (الله) لكم، أو تحلوا ما حرم الله عليكم، {الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي: مصدقون مقرون. قوله: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} الآية. معنى الآية: أن الذين ذكر أنهم أرادوا أن يحرموا الطيبات في الآية التي قبلها،

/ كانوا قد حلفوا ليفعلُن ذلك، فنهوا عن تحريم ما أرادوا تحريمه، وأُعلموا أن الله لا يؤاخذ باللغو في الأَيمان. قال ابن عباس: لما نهاهم النبي عن ما أرادوا أن يفعلوا من التحريم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع في أيماننا التي حلفنا بها؟، فأنزل الله {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} (الآية). ({ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}): من شدّد {عَقَّدتُّمُ} فمعناه: بما وكدتم الأيمان، فالتشديد يدل على تأكيد اليمين. ومن خفف فِلأَن " عقدهُ " تلزم فيه الكفارة إذا [حنث] بإجماع.

واختير التخفيف - عند من قرأ به -، لأن السامع إذا سمع التشديد سبق إليه أن الكفارة لا تكون إلا مع التأكيد وتكرير اليمين وهذا لا يقول به أحد. والتخفيف يدل على أنه إن عقده ولم يكرره لزمته الكفارة إذا حنث. وأنكر أبو عبيد على من قرأ بالتشديد، وقال: لأنه يوهم أن الحنث لا يجب إلا بتكرير اليمين، لأن " فعّل " - في كلام العرب - لتكرير [الفعل]. وهذا الاعتراض لا يلزم، وإنما يكون التشديد للتكرير مع الواحد، فأما مع الجميع فلا، لأنه قد تكرر واحد يمين عقده كقولك: " ذَبَّحتُ الكباش "، فكذلك ([عقّدتم الأيمان])، إنما وقع التكرير من أجل الجمع، ولو

كانت الآية " عقدتم اليمين "، للزم ما قال أبو عبيد، فالتشديد يكون للتكرير، (إلا أن) التكرير ينقسم قسمين: - قسم يتكرر الفعل فيه على الواحد. - وقسم يتكرر الفعل فيه على آحاد: مرة لكل واحد، وهو الذي في الآية. وقال مجاهد: {بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}: بما تعمدتم الأيمان. وقال عطاء: " بِما عقَّدتم الأيْمَانَ " كقولك " والله الذي لا إله إلاّ هو ". وروى نافع عن ابن عمر: إذا حلف من غير أن يُؤَكِّدَ اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين [مد] وإذا وكَّد اليمين أعتق رقبة. فقيل لنافع: ما معنى " وكَّد اليمين "؟، قال: أن يحلف على الشيء مراراً. ولغو اليمين: أن يحلف على الشيء يراه أنه كما حلف، ثم لا يكون كذلك، وهو

قول مالك وجماعة معه، وقيل هو قولك: " لا والله " و " بلى والله "، وهو قول الشافعي وجماعة معه. وقيل: هو تحريمك ما أحل الله لك، فلتفعله ولا كفارة عليك، قاله ابن جبير وغيره. وقال مسروق: لغو اليمين: كل يمين في معصية ليس فيها كفارة. وعن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين: أن تحلف وأنت غضبان. لا كفارة في جميع ذلك على الاختلاف المذكور. والأيمان ثلاث: - يمين تُكَفَّر، كيمينك ألا تفعل الشيء ثم تفعله. - والثانية: يمين لا تكفر لشدتها، وجرمها عظيم، وهو أن تتعمد فتحلف على الشيء وأنت تعلم أنك كاذب.

- ويمين لا تكفر، ولا جرم لها، وهي اللغو. وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ}: الهاء تعود على ما في قوله {بِمَا عَقَّدتُّمُ}، فمعناه: " فكفارة ما عقدتم منها إطعام عشرة مساكين ". وقيل: الهاء تعود على " اللغو "، وفيه ذكرت الكفارة، وأما ما عقدتم يمينه فلا كفارة له وهو أعظم من أن يكفر. والأحسن أن تعود الهاء على (ما): لأن اللغو في اللغة: المطرح، (ولو) كان اللغو يكفر لم يكن مطرحاً. وقيل المعنى: فكفارة " إثمه ". والإطعام: أن تطعم لكل مسكين مداً في قول مالك وغيره. وقيل: تطعم

لكل مِسْْكين صاعاً. ومعنى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي: من أعدل ذلك، قيل: الخبز والسمن. وقيل: الخبز والتمر. و [قيل]: الخبز و [الزيت] وقيل: المعنى: من أوسط ذلك في الشبع: / إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين، وإن كان ممن يقوتهم، قوت المساكين. وروي عن عاصم من طريق الشموني عن أبي بكر (أوسط)

بالصاد. قال مالك: إن غذاهم وعشاهم أجزأه، ولا يجزيه قيمة الطعام عند الشافعي، وهو قياس مذهب مالك، وأجازه بعض العراقيين، ولا يعطي إلا مسلماً. ولا يجزيه إلا مؤمنة إن أعتق. ولو أعتق مولوداً أو مرَضعاً من قِصَر النفقة أجزأه عند مالك. [{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} أي: إن لم يجد الإطعام ولا العتق والكسوة فعليه

صيام ثلاثة أيام، ولا يصوم إلا عند عدم الإطعام أو العتق. وفي قراءة ابن مسعود (فَصِيَامُ ثَلاثةِ (أَيَّامٍ) مُتَتَابعاتٍ). والتفريق عند مالك يجوز في كفارة اليمين، وهو قول الشافعي وغيره. والصوم للعبد أحسن وإن أذن له سيده بالعتق والإطعام، ولم يُجِز له جماعة إلا الصوم، واختلف فيه قول مالك. والكفارة قبل الحنث جائزة، وبعده أحسن. وقد قيل: لا تجزي قبله.

وروي عن النبي عليه السلام: " كَفِّر عَن يمينك و [أْتِ] الذي هو خير ". وقد بدأ تعالى ذكره في هذه الآية بالتخفيف، ثم أتى بالأشد بعده، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى (بالأخف بعده)، وذلك أن الله جل ذِكره إنما بدأ بالأخف ثم أتى بالأشد على طريق التخيير، فأتى بـ (أوْ) للتخيير، ثم أتى بالأَخف بعد ذلك عند عدم ما وقع فيه التخيير، فقال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ}، وبدأ في الظهار بالأشد، ثم أتى بالأخف عند عدم الأشد، لا على طريق التخيير في ذلك. قوله: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}: (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من الإطعام أو العتق أو الكسوة، أو الصيام عند عدم الثلاثة، ومعنى {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أي: ستر إثم

90

أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم وأنتم قد عقدتم الأيمان. {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} أي: احفظوها أن تحنثوا، ولا تكفروا. {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ}: أي: كما يبين لكم الكفارة في أيمانكم، يبين الله لكم آياته، أي: علاماته، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (أي تشكرون) على هدايته لكم وبيانه لكم. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية. أخبر الله تعالى الذين أرادوا التحريم على أنفسهم - بعد أن نهاهم عن التحريم - أن الخمر والميسر - وهو الذي يتياسرونه -، والأنصاب - وهي التي يذبحون عندها -، والأزلام التي يقتسمون بها {رِجْسٌ} أي: إثم ونتن، {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} أي: مما زيَّنه الشيطان لكم وحسنه في أعينكم، [{فاجتنبوه}] أي: فاتركوه وارفضوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

والميسر: القمار. وسئل القاسم بن محمد عن الشطرنج والنرد، (فقال): هو ميسر، وقال [كل ما] صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر. قال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار هو ما يتخاطر الناس عليه. قال الأصمعي: الميسر كان في الجزور خاصة، كانوا يقتسمونها على

ثمانية وعشرين سهماً. وقال الشيباني: على عشرة أسهم. ثم يلقون القداح ويتقامرون على مقاديرها. " والأنصاب: حجارة كانوا يعبدونها في الجاهلية، " والأزلام: القداح ". والرجس: كل عمل يقبح فعله، (وهو) النتن. (و) قوله {فاجتنبوه}: الهاء تعود على " الرجس ". وقيل: تعود على " الخمر ". / وقيل: المعنى: فاجتنبوا هذا الفعل. وقيل: المعنى: فاجتنبوا ما ذكر. وذكر ابن المنكدر أن النبي عليه السلام قال: " مَن شَربَ الخمرَ ثُمّ لم يسكر، أَعْرَضَ

91

اللهُ عَنه أربعين ليلةً، وإن أسكر لم يَقبَل اللهُ منه صَرْفاً ولا عَدلاً أربعين ليلة، فإن مات فيها، مات كعابد الأوثان، وكان حقاً على الله أن يَسْقِيَه يوم القيامة من طينة الخَبال. قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عُصارة أهل النار: القيح والدم ". قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة} الآية. (المعنى): إنما يريد الشيطان بكم شرب الخمر ليوقع بينكم العداوة والبغضاء {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله} أي: يصدكم بغلبة الخمر والميسر عليكم عن ذكر الله وعن الصلاة، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أي: عن شرب الخمر. ويقال: إن عمر ذكر لرسول الله مكروه عاقبة الخمر، فأنزل الله تحريمها. وروي أنه قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في " البقرة ": {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] الآية، فقُرِئت على عمر فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " النساء ": {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] الآية، فكان النبي يقول إذا

حضرت الصلاة: فلا يَقْرَبَن الصلاةَ سكران، (ودعي) عمر فقرئت عليه، فقال: اللهمَ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت التي في " المائدة ": {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية [إلى) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}، فقال عمر: انتهينا، انتهينا. وقيل: نزلت بسبب سعد بن أبي وقاص [لاحى] رجلاً على شراب فضربه بلَحْيَيْ جَمل ففزر أنفه فنزل ذلك. وكان الرجل في الجاهلية يقامر عن أهله وماله حتى يقعد حزيناً سليباً، ينظر إلى ما له في يد غيره، فيورث ذلك عداوة بينهم. فنهى الله عن ذلك، وهو الميسر.

92

وقال مصعب بن سعد: صنع رجل (من الأنصار طعاماً)، فدعاني وأبي - سعداً - فشربنا الخمر قبل أن تحرم فانتثينا. فتفاخرنا، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَي جزور فضرب به أنف سعد ففزره، فنزل: {إِنَّمَا الخمر والميسر} الآية. وقال ابن عباس: شرِب حيّان من الأنصار الخمر حتى سكروا، فلما سكروا جرح بعضهم بعضاً، فلما صَحَوْا، جعل (يرى الرجل) الأثر في وجهه ورأسه ويقول: فعل هذا بي أخي فلان!، وكانوا إخوة لا ضغائن بينهم، فصارت بينهم ضغائن، فنزلت الآية بالتحريم. قوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} الآية. المعنى: وأطيعوا الله D في اجتنابكم ما تقدم فيه النهي عن الخمر والميسر

93

والأنصاب والأزلام، وأطيعوا الرسول فيما بلغ إليكم. {واحذروا} أي: احذروا الخلاف لما أمرتم به، {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} (أي) إن " لَمْ " تفعلوا ما أمرتم به، {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي: ليس هو بمسيطر عليكم، إنما عليه أن يبلغكم ما أرسل به، ويوضحه لكم، والعقاب على الله المرسِل، ليس على المرسَل وهذا تهدد لمن خالف (أمر) الله. قوله: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ} الآية. المعنى: في قول ابن عباس وغيره -: أن المؤمنين قالوا لما نزل تحريم الخمر: (يا رسول) الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟، فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا} الآية. {إِذَا مَا اتقوا} أي: اتقى اللهَ الأحياء منهم في اجتناب ما حرم عليهم، {وَآمَنُواْ}

أي: وصدقوا الله ورسوله فيما أمرهم به، {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله، / {ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ} أي: " وَ " اتقوا محارمه وصدقوا فثبتوا على ذلك، {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} أي: اتقوا الله، فدعاهم تقواهم إلى الإحسان، وهو العمل بما (لم) يفرض عليهم: من الخير والنوافل. فالاتقاء الأول: اتقاء تلقي أمر الله وقبوله، والثاني: الاتقاء بالثبات على الاتقاء الأول وترك التبديل، والاتقاء الثالث: الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل. فهذه الآية نزلت - في قول الجميع - فيمن مات منهم وهو يشربها، أُعلِموا أنه لا جناح عليهم. وقال جابر بن عبد الله: صبح ناس غداة أُحد الخمر فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء، وذلك قبل تحريمها، يريد: فنزلت الآية فيهم.

وقيل: نزلت فيما أكلوا من الحرام بالميسر و (ما شربوا) من الخمر فأُعلِموا أنه لا جناح عليهم في ذلك إذا ما اتقوا فيما يستقبلون. وقيل: معنى {إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ} أي: اتقوا شرب الخمر، وآمنوا بتحريمها " {ثُمَّ (اتَّقَواْ وَآمَنُواْ)} أي: اتقوا الكبائر وازدادوا إيماناً، " {ثُمَّ اتَّقَواْ} " أي: اتقوا الصغائر، {وَّأَحْسَنُواْ} بالنوافل. وقيل: {إِذَا مَا اتقوا} الكفر، {ثُمَّ اتَّقَواْ} الكبائر، {ثُمَّ اتَّقَواْ} الصغائر. وقيل: [معنى هذا: {إِذَا مَا اتقوا} فيما مضى: على إضمار " كان " مع " إذا "، {ثُمَّ اتَّقَواْ} في الحال التي هم فيها، {ثُمَّ اتَّقَواْ} فيما يستقبلون. (وقيل: {. . . . . .} {إِذَا مَا اتقوا}: في الحال التي هم فيها [{ثُمَّ اتَّقَواْ} فيما

94

يستقبلون] {ثُمَّ اتَّقَواْ} أي: ماتوا على ذلك وهم محسنون. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد} الآية. أي: يا أيها الذين صدقوا. ليختبرنكم الله في الطاعة والمعصية بشيء من الصيد، أي: ببعضه، لأنه صيد البر خاصة، ف (مِن) للتبعيض. وقيل: هي لبيان الجنس. قوله {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يعني ما يؤخذ باليد من البيض والفراخ. {وَرِمَاحُكُمْ} كالحمير والبقر والظبا، وما يصاد بالنبل، امتحن الله عباده في حال إحرامهم لعمرتهم وحجهم، فلا [يقربوه]. {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي: كي يعلم من يتبع أمره ممن لا يتبع، {بالغيب}: في

95

الدنيا بحيث لا يراه أحد، والمعنى: ليعلم أولياء الله من يخاف الله فيتقي محارمه بحيث لا يراه أحد. وقيل: ليعلم ذلك علم معاينة يقع عليها الجزاء، وقد علمه غيباً لا إله إلا هو عَلاَّم الغيوب. قوله: {فَمَنِ اعتدى} أي: فمن تجاوز حد لله في الصيد بعد تحريمه عليه {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية. {هَدْياً} حال من الهاء في (به)، ويجوز نصبه على البيان، ويجوز نصبه على المصدر. و {بَالِغَ الكعبة} نعته، والتقدير فيه: التنوين. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا، لا

تقتلوا صيد البر وأنتم حرم لحج أو عمرة. {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} (أي) ناسياً لإحرامه، معتمداً لقتل الصيد، فإن كان ذاكراً لإحرامه وتحريمه، فمجاهد وابن زيد يقولان: لا حكم عليه و [نقمة] الله منه أعظم. ومن الناس ما قال: لا حج له. ومن قتل الصيد خطأ، فعليه ما على المتعمد عند مالك وجماعة غيره. وقيل: لا شيء عليه، إنما أتى النص في المتعمد. وقال الزهري: نص الله

على المتعمد وأتت السنة بما على المخطيء. (قال أبو محمد): (وإيجاب الجزاء على المخطئ) يحتاج إلى نظر، وقد أفردنا لذلك كتاباً لاتساع الكلام في ذلك، إذ ظاهر النص يعطي ألا شيء على المخطئ، وإيجاب الجزاء على المخطئ [أولى] لدخوله تحت عموم الابتلاء في قوله {لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} [المائدة: 94]، ولدخوله تحت عموم النهي في قوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، ولدخوله تحت عموم التحريم في قوله / {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96]، ولأنه عمل أهل المدينة، ولِمَا قال ابن شهاب: إنه السنة. ومعنى {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} هو (أن ينظر) إلى أشبه الأشياء به، فيجزيه

(به) ويهديه إلى الكعبة. فمن أصاب نعامة فعليه بَدَنَة، وفي بيض النعامة عُشر ثَمن البدنة، هذا قول مالك، كما يكون في جنين الحرة (غُرَّةٌ: عَبْدٌ أو) وليدة، وقيمة الغرة خمسون ديناراً وذلك عُشر دية الأم. وفي الظبي شاة. وفي الأرنب - عند مالك - قيمتها من طعام، وكذلك ما أشبه الأرنب، مثل اليربوع وشبهه، مثل الضب: فإن شاء أطعم كل مسكين مداً، وإن شاء صام لكل مُدٍّ يَوْماً، هو بالخيار. وفي الحَمَام - عند مالك شاة. وفي حمام الحِلّ حكومة عند مالك، وليس كحمام الحرم، وكره مالك أن يذبح الأهلي وهو محرم.

وعلى كل واحد من الجماعة - إذا اشتركوا في قتل صيد - جزاء عند مالك. وصيد الحرم حرام على الحلال عند جميع العلماء. ورخص مالك في إدخال الصيد من الحل إلى الحرم. ومنعه غيره، وكرهه ناس. وإذا نتف المحرمُ من الطيرِ ما يَضُرُّ به ويخاف منه هلاكه، فعليه جزاؤه تامّاً عند مالك. وإذا أحرم وفي يده صيد فعليه أن يرسله. ويأكل المحرم لحم

الصيد إلا ما اصطيد من أجله (عند مالك، فإن أكل منه وقد صيد من أجله) فعليه جزاء ذلك الصيد عند مالك. وكفارة الصيد في قتل الصيد ككفارة الحر. ولا يكون الجزاء إلا بمنى أو بمكة. ويحكم في الجزاء عدلان يجتهدان. ولا يحكمان في ذلك من الإبل والبقر والغنم إلا بما يجوز في الضحايا. وإذا اختلفَ الحكمان في الجزاء، ابتدأ الحكم غيرهما. ولهما أن يحكما بغير أمر الإمام، وله أن يرجع إلى غيرهما.

وعلى من قتل صيد الجزاء أن يكفر بإطعام مساكين، أو يصوم لكل مُدٍّ يَوْماً، فللحكمين أن يُقوِّما الجزاء بطعام، فإن شاء أتى بالجزاء، وإن شاء أطعم الطعام: مداً لكل مسكين، وهو قوله {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وإن شاء صام عن كلّ مُدٍّ يَوْماً، وهو قوله: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً}، هو مخير في ذلك. ولا يطعم بعضاً ويصوم بعضاً، بل يطعم الكل أو يصوم عن الكل. وقيل: يصوم عن كل نصف صاع يوماً، وهو قول من قال: يعطي

الطعام، نصف صاع لكل مسكين. والعَدْل: المِثْلُ، والعِدْلُ (نصف) الحمل. وقال الكسائي: هما لغتان في المثل. وقرأ طلحة بن مصرف والجحدري: {أَو عَدْلُ} بالكسر، وأنكر ذلك جماعة من أهل اللغة، لأن العِدل (نصف) الحمل.

وقال الكسائي: عَدل الشيء: مثله من غير جنسه، وعِدله: مثله من جنسه. وقوله: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} أي: عفا لكم عما سلف لكم في جاهليتكم من قتل الصيد وأنتم حرم، ولكن من عاد فقتله - وهو محرم - فالله ينتقم منه في الآخرة وعليه الكفارة. وقد ذكر ابن عباس أن المعنى: من عاد مرة أخرى فقتل متعمداً، فلا حكم عليه، والله (ينتقم منه)، ومن عاد خطأ حكم عليه.

96

وقال عكرمة: لا يحكم عليه، ذلك إلى الله. وقيل: المعنى عفا (الله) لكم عن قتلكم الصيد قبل تحريمه عليكم، ومن عاد لقتله بعد تحريمه عليه. عالماً بقتله وبِإِحْرامِه، فالله ينتقم منه، ولا كفارة عليه. {والله عَزِيزٌ} / (أي): ممتنع، {ذُو انتقام} أي: ذو عقوبة لمن عصاه. قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ} الآية. المعنى: {أُحِلَّ لَكُمْ} - وأنتم حرم - {صَيْدُ البحر} وهو حيتانه. و {مَتَاعاً} مصدر، والمعنى: متعتم به متاعاً، لأن المعنى {أُحِلَّ لَكُمْ}: متعتم بصيد البحر متاعاً.

وكل نهر تسميه العرب بحراً، فالأنهار صيدها داخل في هذا، حلال بإجماع. ومعنى {وَطَعَامُهُ} (أي): ما قُذِفَ ميتاً. وقيل: طعامه ما كلن مملحاً، قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقيل: طعامه ما جاء به الموج. وقيل: صيده أن يصطادوه، وطعامه أن يأكلوه، فذلك حلال لهم، وهذا قول حسن، أباح الله الصيد واللحم. وقرأ ابن عباس: (وطُعْمُهُ) بضم الطاء من غير ألف. ولم يرَ في الحوت يُطرح في النار حياً بأساً. وكرهه غيره. ودواب

البحر كلها - مثل الحيتان حلال للمحرم، وتؤكل الميتة منها. ولم يُجز جماعة أكل خنزير الماء وإنسان الماء للمحرم ولغيره. وليس في شيء يخرج من البحر ذكاة. وليس طير الماء من صيد البحر، (لأنها تعيش) في البر. قوله: {مَتَاعاً لَّكُمْ}: (أي منفعة لكم)، {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي: يأكل منها السيارةُ في أسفارهم، وهو المملح. قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي: حرم الله عليكم أن تصطادوا من البر ما

97

دمتم محرمين. وأجاز قوم للمحرم أن يشتري الصيد المذبوح من ماله، لأن النهي إنما وقع على صيده. {واتقوا الله} أي: احذروه فيما أمركم به، فإنه إليه تحشرون فيثيبكم بأعمالكم. قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} الآية. إنما سميت الكعبة كعبة لتربيعها، قاله عكرمة ومجاهد. وقيل: لتربيع أعلاها. ومعنى {قياما} أي: جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عن ظلم بعضهم بعضاً، وقيل: جعلها مصالح لأمورهم، كالرئيس الذي يصلح أمر من يتبعه، وكذلك {الهدي والقلائد} جعل ذلك أيضاً قياماً للناس. والناس - هنا -: مَن كان في الجاهلية، كان الرجل لا يخاف إذا دخل في الحرَم

ولو لَقِي من قتل أباه أو أخاه، لم يخف الفاعل في الحرَم، وإذا لَقِي الهدي لم يَعرِضْ له القاطع ولا الجائع، وكان الرجل إذا أراد الحج تقلد بقلادة من شعر، وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يعرض له ولا يؤذى حتى يصل (إلى) أهله. وقيل: الناس هنا: جميع الناس. قال ابن عباس: قياماً لدينهم ومَعْلَماً لحجهم. قال ابن زيد: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك يدفع عن بعضهم (ظلم بعض)، فجعل الله لهم البيت الحرام قياماً، يدفع بعضهم عن بعض، وكذلك الشهر الحرام لا يؤذى أحد في الحرم، ولا في الشهر الحرام وإنْ كان ذا جناية، وهذا (كله منسوخ) بالحدود (و) بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]، لا يمنع الحرم من الاقتصاص من جان، ولا من إقامة حد على من وجب عليه الحد، وهذا إجماع.

وقيل {قياما} يأتمون بها ويقومون بشرائعها. وقيل: (معنى) {قياما لِّلنَّاسِ}: أي: بالحج يَسْلَمُون من استعجال العقوبات. قال بعض العلماء لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما أنظِروا. / قوله: {ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} الآية. (ذلك) إشارة إلى ما تقدم من قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام} الآية، فالمعنى: ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما تحدثون وما تصنعون، كما يعلم ما في السموات و {مَا فِي الأرض}، ولتعلموا أن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء من أموركم. قال المبرد: كانت الجاهلية تعظم البيت الحرام و {الأشهر الحرم}، كانوا يُسَمُّون رجباً: الاصم "، لأنه (لا) يسمع فيه وقع السلاح، فأعلم الله ما يكون منهم من إغارة بعضهم على بعض، فألهمهم (الله) ألا يقاتلوا في الأشهر الحرم، ولا

98

عند البيت الحرام ولا مَن كان معه القلائد، ثم أعلمهم أن الذي ألهمهم هذا يعلم ما السماوات وما في الأرض. وفي تكرير الاسم في قوله: {وَأَنَّ الله}، ولم يقل: " وأنه "، معنى التعظيم. قال: {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} الآية تخويفاً، والمعنى: اعلموا - أيها الناس - أن الله شديد العقاب لمن عصاه، وأنه غفور لذنوب من أطاعه، أي: ساتر لها، رحيم (به). قوله: {مَّا عَلَى الرسول} الآية. هذه الآية تحذير من الله لعباده ووعيد، والمعنى: ليس على الرسول إلا أن يبلغ الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، ثم إلى الله فعل الثواب بمن أطاع، والعقاب بمن عصى، {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} أي: غير خفي عليه ما تبدون من طاعته ومعصيته، وما تخفون من ذلك.

100

وقيل: هذا مردود إلى قوله: {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، وأخبر (الله) تعالى أنه يعلم ما يبدون من ظاهر الإيمان وما يكتمون من الكفر. قوله: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث} الآية. المعنى: قل يا محمد: لا يعتدل الصالح والطالح {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي: لو كثر أهل المعاصي، فإن أهل الطاعة - وإن قَلُّوا - هم أهل رضوان الله. و {الخبيث}: المشركون، والطيب: المؤمنون. وهذا خطاب للنبي عليه السلام، (و) يراد به أمته، ودل على ذلك قوله: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي: فاتقوه فيما أمركم يا أولي العقول واحذروا أن يستفزكم الشيطان بإعجابكم بكثرة المشركين، وتضعف نيتكم بقلة المؤمنين، فإن المؤمن لا يستوي مع المشرك.

101

قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} الآية. هذه الآية: نزلت في سبب أقوام سألوا النبي مسائل امتحاناً له، فيقول له بعضهم: (من أبي)؟، ويقول بعضهم إذا ضَلَّت ناقته: أين ناقتي؟، فنهى الله عن ذلك. قال أنس: " سأل الناس النبي حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم وقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينتُ لكم. فألقى الناس ثيابهم على رؤوسهم يبكون، فأنشأ رجل كان إذا لاحى دعي بغير أبيه - فقال: يا رسول الله، من أبي؟، قال: حذافة، فقام عمر فقبّل رِجلَ رسول الله فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، أعوذ بالله من شر الفتن. فقال النبي A: أما والذي

نفسي بيده: لقد صُوِّرَت مثل (النار والجنة) آنفاً في عُرض هذا الحائط، فلم (أر كاليوم) في الخير والشر. قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة له: ما رأيت ولداً أعقَّ منك قط!، أكنت تأمن أن تكون أمُّك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية، فتفضحها على رؤوس الناس؟، فقال: والله لو ألحقني بعبد / أسود للحقته ". وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله صلى الله عليه - وهو غضبان - حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل (فقال): أين أنا؟ فقال: في النار. و (قام آخر فقال): من أبي؟، قال: (أبوك) حذافة. فقام عمر (وقال): رضينا بالله رباً

وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، فنزلت هذه الآية ". وقال علي بن أبي طالب Bهـ: " لما نزلت هذه الآية {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً}، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟، فسكت، ثم قالوا: أفي كل عام؟، فسكت، ثم قال: لا ولو قلت " نعم " لوجب، فأنزل (الله) الآية ". وروي أنه قال " لما كرر عليه السؤال: والذي نفسي بيده، لو قلت: " نعم " لوجبت، (ولو وجبت) عليكم، ما أطعتموه، ولو تركتموه لكفرتم، فأنزل الله {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} الآية ". وروي عنه أنه قال: " لو قلت " (نعم) " لوجبت، و (لو وجبت) ثم تركتم،

لهلكتم، أسكتوا ما سكتَّ عنكم، فإنما هَلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فأنزل الله الآية ". وهذه القصة فيها ثلاثة فصول من النظم مختلفة: فمن قوله: {يا أيها} إلى قوله: {تَسُؤْكُمْ}: نهى عن السؤال للنبي فيما لا يعنيهم، فهذا فصل. - والثاني: قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} إلى {لَكُمْ}، والمعنى: وإن تسألوا عن أشياء أُخَر - غير الأول - تظهر لكم، (لأن) الله قد نهاهم عن السؤال، فكيف (يبيح لهم) ذلك؟ إنما تقديره: وإن تسألوا عن غيرها حين ينزل القرآن تظهر لكم، فيكون الكلام فصلاً ثانياً (مبيناً على حذف) المضاف وهو " غير "، إذ قد امتنع أن يقول لهم: لا تسألوا عن ذلك، وإن تسألوا عنه حين ينزل القرآن يظهر

لكم، فلما امتنع هذا لم يكن بد من تقدير حذف. والفصل الثالث: قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} فهذا سؤال لغير شيء، والسؤال الأول والثاني إنما هما سؤال عن الشيء: ما هو؟ وكيف هو؟، سؤال عن حال. وعن ابن عباس أنهم سألوا عن البحيرة (والسائبة) والوصيلة والحامي، فأنزل الله الآية ينهى عن السؤال، قال: ألا ترى أن بعده {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] الآية، فهو جواب لمن سأل عنه. قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ}. أي: ولكن [إن تسألوا] عنها إذ أنزل القرآن بها، فإنها تظهر لكم، قال تعالى:

{مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فنهاهم أن يسألوا عما لم يُنْزِلْ به كتاباً ولا وحياً. قوله: {عَفَا الله عَنْهَا} أي: ما لم يكن مذكوراً في حلال ولا حرام، فهو شيء عفا الله عنه، فلا تبحثوا عنه، فإنما هي أشياء حرَّمها الله فلا تنتهكوها، وأشياء أحلها فلا تحرموها، وأشياء عفا عنها وسكت عنها، فلا تبحثوا عنها، فلعلها إن ظَهَر لكم حكمها ساءكم ذلك، وإن سألتم عنها إذا نزل القرآن بها ظهرت لكم. {والله غَفُورٌ} أي: ساتر لذنوبكم، {حَلِيمٌ} عما ترتكبون من مخالفته. ثم أخبر أن قوماً سألوا عنها من قبلنا، فلما فرض عليهم، وبيّن لهم ما سألوا عنه وأعطوا ذلك، كفروا به، وذلك كقوم صالح الذين سألوا الناقة، وقوم عيسى الذين سألوا المائدة فكفروا لما نزلت. وقيل: المعنى: أنها نزلت فيما سئل النبي بمكة من قولهم: اجعل لنا الصفا ذهباً، فلم يلتفت إلى قولهم صلى الله عليه، فكفروا.

103

قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ [وَلاَ سَآئِبَةٍ} الآية. أي: ما حرم الله ذلك. وقيل: المعنى: ما بحر الله بحيرة]، ولا وصل وصيلة ولا / سيب سائبة، ولا حمى حامياً، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك. وقد تعلق قوم من الجهلة القائلين بخلق القرآن بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً} [الزخرف: 3] أنه بمعنى فعلناه، أي: خلقناه، وهذه الآية تظهر جهلهم، وهو قوله: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ}، فإن كان " جعلنا " بمعنى " خلقنا " قد نفى عن نفسه هنا الجعل، فمن خلقها؟ (أَثَمَّ) خالق غير الله؟ ويدل على فساد قولهم: قوله تعالى:

{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} [القصص: 5]، فإن كان " جعل " بمعنى " خلق " فلم يكن القوم إذاً موجودين. وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]، فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت وقال: {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال: 37] فواجب - على قولهم - أن يكون قد ميز الخبيث من الطيب وهو غير موجود، وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} [النحل: 57] حكاية عن الكفار، (وتراهم) أيها الجهلة القدرية خلقوهم (هم)، إنما سموهم، ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين لقوله: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91]، وقوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3]، وهذا أكثر من أن يحصى. والجعل يكون بمعنى التعبير والوصف والتسمية، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالةٍ تدل عليه، نحو قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] أي: وخلق، لكن إذا كانت " جعل " بمعنى " خلق " لم تتعد إلا على مفعول واحد.

(و) روى زيد بن أسلم عن النبي A أنه قال: " قد عرفت أول من بحر البحيرة، (و) هو رجل من بني مُدْلج، كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرم ألبانهما (وظهورهما وقال: هاتان لله: ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما) وركب ظهورهما، قال: فلقد رَأيتُه في النار، يُؤذي أهل النار (ريحُ قُصبِه) ". والبحيرة: " فَعِيلة " بمعنى " مفعولة "، وهي الناقة المشقوقة الأذن، يقال: بحرت أذن الناقة. والسائبة: " فاعلة " بمعنى " مَفعِلة "، كما قيل: راضية بمعنى مَرْضِية، وهي

المُخَلاَّة من المواشي، كانت الجاهلية تفعله ببعض المواشي، فيُحرِّم الانتفاع به على نفسه. وأما الوصيلة: فإن الأنثى من نعمهم كانت - في الجاهلية - إذا أتت بذكر وأنثى، قيل: " قد وصلت أخاها "، أي: منعته من الذبح، فسموها وصيلة. وأما الحامي: فهو الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب والانتفاع بسبب تتابع أولاد [تَحدُث] في فِحْلَتِه. وقال قتادة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، نظر إلى البطن الخامس، فإن كان ذكراً أكله الرجال دون النساء، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء، وإن

كانت أنثى بحروا أذنها - أي: شقوها - وتركت، فلا يشرب لها لبن ولا [تركب]، وكانوا يسيّبون ما شاءوا من أموالهم، فلا يُمنع من ماء ولا كلأ، ولا ينتفع به. وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى البطن السابع، فإن كان ذكراً ذبح، فكان للرجال دون النساء، وإن كانت ميتة أكله الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت، وإن (كانت ذكراً) وأنثى، قيل: وصلت أخاها فمنعته من الذبح. وكان الحامي هو الفحل إذا ركب من ولده عشرة، / قيل: حمى ظهره، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق. ويقال: إن الناقة كانت إذا (تتابعت باثنتي عَشْرَةَ أنثى) ليس فيهن ذكر، سيبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها، فما نتجت - بعد ذلك - من أنثى شقَّ أذنها وخلاّها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها، كما (فعل)

بأمها، فهي البحيرة ابنة السائبة. والوصيلة: هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، وقالوا: وصلت، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله: الذكور والإناث منهم. والحامي: هو الفحل إذا نتج (له) عشر إناث متتابعات، ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك. فنفى الله جل ذكره عن نفسه أن يكون سمى شيئاً من ذلك أو صيّره كذلك، فقال: {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} أي: يخترقونه. و {الذين كَفَرُواْ}: هم اليهود، والذين {لاَ يَعْقِلُونَ}: أهل الأوثان.

وقيل: المراد بذلك أهل الجاهلية الذين سنّوا ذلك، فهم الكفار، والذين لا يعقلون: أتباعهم، أي: لا يعقلون أنه إنما سن لهم ذلك مَن تقدمهم من غير أمر (من) الله فيه، وأنه باطل كذب، وذِكْرُ أهل الكتاب - في هذا - لا معنى له، إذ ليس لهم في هذا صنع ولا سنة، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب، فهم الذين عنوا بذلك. وقيل: إنهم لا يعقلون (أن) الشيطان حرمه عليهم وسنَّه لهم. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: " قَد عَرَفْتُ أََوَّلَ مَن سَيَّب السُّيَّب، ونصَّب النُّصُب وغَيَّرَ عَهْدَ إِبراهيمَ: عمرو بنُ لُحَيّ، لقد رأيتُه وإِنَّه لَيَجُرَّ قُصَبه في النار يؤذي أهلَ النار بريحه " القُصْبُ: الأمعاء. روى مالك أيضاً عن زيد بن أسلم عن عطاء أن النبي قال: " قد عرفت

104

أول من بحر البحائر: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع [آذانهما]، وحرَّم ألبانهما وظهورهما، ثم احتاج فركبهما وشرب ألبانهما، فلقد رأيتُهما وإيّاه في النار، وإنهما لتخبطانه بأخفافهما، وتعضانه بأفواههما " وفي ذلك اختلاف كثير والمعنى متقارب. قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} الآية. المعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين قد سموا ما ذكر من البحيرة وغيرها: تعالوا إلى كتاب الله وإلى رسوله ليتبين لكم كذب قولكم فيما سننتم، {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} أي: يكفينا ما صنع آباؤنا، ويرضينا من تحليل وتحريم، ثم قال الله تعالى لنبيه: أولو كان - يا محمد - آباء هؤلاء القائلين لا يعلمون شيئاً {وَلاَ يَهْتَدُونَ} أي: ولا يهتدون، جهلوا أنهم يفترون على الله بقيلهم ما كانوا يقولون، أيتبعونهم على فعلهم،

105

وهذه حالهم في الجهل. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية. (والمعنى): عليكم أنفسكم [إذا] أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم. وقال ابن عمر: هذه لأقوام يأتون بعدنا، إن قالوا لم يُقبل منهم، وأما نحن فقد قال رسول الله: ليُبَلِّغ الشاهد / الغائبَ، فكنا نحن الشهودَ وأنتم الغيب. وحكى جبير بن نفير عن جماعة من أصحاب النبي أنهم قالوا له في هذه الآية: عسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شُحّاً مطاعاً، وهوىً متَّبعاً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يَضرُّك من ضل إذا اهتديت. وقال ابن مسعود: لمّا يجىء تأويل هذه بعد، إن القرآن أُنزل حيث أُنزل،

منه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن يَنْزِلْن، ومنه آي تأويلهن على عهد النبي، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي بيسير، ومنه آي قد وقع تأويلهن يوم الحساب، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تُلبَسوا شيعاً، ولم (يَذُق بعضكم) بأس بعض، فأْمُروا بالمعروف وانْهُوا عن المنكر. وإذا اختلفت الأقوال والأهواء، وأُلْبِستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسَه، عند ذلك جاء تأويل هذه الآية. وقيل: هي في الكفار، لا يضر المسلمَ كفُر الكافر، عليه نفسه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر. وجعلها ابن عباس وغيره عامة، وقال في معناها: إنّ العبد إذا أطاع الله فيما أمر به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده. وقال ابن المسيب وغيره: معناها: لا يضركم مَن ضل بعد أمركم إياه (بالمعروف) ونهيكم عن

المنكر. وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا أيها الناس لا تَغْتَرّوا بقول الله جل وعز {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فيقول أحدكم: " علي نفسي "، والله، لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولَتُنْهَوُنَّ عن المنكر [أو] لَيَسْتَعْمِلَنَّ عليكم شراركم فَلَيَسُومُنَّكم سوء العذاب، (وَلَيَدْعُنَّ) الله خيارُكم فلا يستجيب لهم. قال أبو بكر: سمعت رسول الله A يقول: إذا رأى الناس المنكر والظالم، فلم يأخذوا على يديه، فيوشك أن يَعُمَّهم الله بعقابه. وقال ابن جبير: معناها: لا يضرُّكُم من كَفَرَ بالله من أهل الكتاب، فإنما عليكم أنفسكم، وليس يضركم كفر الكافر.

(و) قال ابن زيد: كان الرجل إذا أسلم قال له أهل دينه الذي كان عليه: سفَّهتَ آباءك وضللتهم، وفعلت [بآبائك]. كذا وكذا، وكان ينبغي لك أن تنصر [آباءك]، فأنزل الله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} الآية، (أي) إنما عليكم أنفسكم، وليس عليكم من ضلالة آبائكم شيء. وقد قيل: إن ذلك في الأمر، أُمِروا بأنفسهم، وأُعلِموا أنهم لا يضرهم ارتداد من ارتد، ولا كفر من كفر وقيل: الآية منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والاختيار عند أهل المنظر أن يكون المعنى: لا يضرّكم من ضل بعد أمركم إياه بالمعروف ونَهيِكم عن المنكر، وإنما ذلك لأن الله أمر المؤمنين بالقيام بالقسط، وأن يتعاونوا على البر والتقوى: ومن القيام بالقسط: الأخذ على يدي الظالم، ومن التعاون على البر والتقوى: الأمر بالمعروف وليس في ذلك رخصة إلا العجز عن القيام بها. ومعنى {إِذَا اهتديتم}: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، فليس يضركم من ضل بعد ذلك. وقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 104]، وذم اليهود فقال: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] / ولعنهم على تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع أهل العلم على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يجب على الأمراء، ويُعينُ على ذلك المؤمنون إذا احتيج (إليهم)، وبعض الناس يحمله عن بعض: كالجهاد، فهذا إجماع العلماء ويجب على الإنسان - في النظر والقياس - أن يأمر

106

من ضيع شيئاً من الخير بما يأمر به نفسه، وينهى عن الشر كما ينهى عنه نفسه. وكل شيء وجب لك فعله، وجب عليك الأمر به [أو النهي عنه. والأمر بالمعروف هو النهي عن المنكر]، لأن ترك المنكر معروف وترك المعروف منكر. قوله: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي: إليه تردون فيحكم بينكم فيما أمرتم به فلم يقبل منكم، أو نهيتهم عنه، فينتقم من المتَعدِّي على محارمه، ويجازي الدال على مرضاته. قوله: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} الآية. وهذه الآية - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً! ومعنى وحكماً.

فقوله: {شَهَادَةُ} رفع بالابتداء، و {اثنان} الخبر، والتقدير: فيه شهادة اثنين، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقيل: التقدير: عدد شهادة بينكم اثنان، ثم حذف، و " ما " محذوفة مع " بينكم "، تقديره: ما بينكم، و [" ما " المحذوفة] إشارة إلى التنازع والتشاجر. وقيل: {اثنان} رفع بفعلهما، والتقدير: ليكن منكم أن يشهد اثنان.

وقيل: {إِذَا حَضَرَ} خبر الشهادة: لأنها مستأنفة ليست واقعة لكل الخلق، و {اثنان} - على هذا - بفعلهما، تقديره أن يشهد اثنان، ودل على ذلك {شَهَادَةُ} المتقدم ذكرها. قوله: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ} {آخَرَانِ}: ارتفعا بفعل مضمر، و {يَقُومَانِ} نعت، و {الأوليان} بدل من {آخَرَانِ} أو من المُضمر في {يَقُومَانِ}. روى اسحاق الأزرق عن أبي بكر عن عاصم (شهادةٌ) بالتنوين، (بينكم) بالنصب، وهي مروية عن الأعرج.

ورُوي عن أبي عبد الرحمن المقريُ {شَهَادَةَ} بالنصب والتنوين على: " ليشهد اثنان شهادةً "، فهو مصدر. (و) روى عبد الله بن مسلم {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} بالنصب فيهما وتنوين (شهادةً) على معنى: لا نكتم الله شهادةً. وقيل تقديره: ولا نكتم شهادة والله، فلما حذفت الواو تعدى الفعل [إلى] المُقسم به فنصب.

وقرأ الشعْبي (شهادةً) بالتنوين، (اللهِ) بالخفض على القسم، أعمل الحرف وهو محذوف، وقد أجازه سيبويه، ومنع ذلك غيره. وقرأ أبو عبد الرحمن {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} بالمد، جعل ألف الاستفهام عوضاً من حرف القسم، فخفض بها كالحرف. وقرأ ابن محيصن: [(إنا إذاً لملاثمين)] أدغم النون في اللام، وهو بعيد في العربية، وهو مثل (عادً [لوُلَى] في قراءة نافع، وإنما بعد، لأن اللام حكمها

السكون، والحركة التي عليها إنما هي للهمزة، والمدغم لا يدغم أبداً إلا في متحرك أصلي، وليست اللام بأصلية الحركة. ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ليشهد بينكم - إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم، (أي من المسلمين وقيل: من أهل الموصي. والأول أكثر. قال الحسن: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أي: من العشيرة، لأن العشيرة أعلم بالرجل وماله وولده، وأجدر ألا ينسوا ما يشهدون عليه، فإن لم يكن من / العشيرة أحد، فآخران من غير العشيرة، فإن شهدا - وهما عدلان - مضت شهادتهما، وإن ارتيب في شهادتهما حبسا بعد صلاة العصر فيقسمان بالله {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى

وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله}، فتمضي شهادتهما إذا حلفا، وإنما استُحلفا، لأنهما وصيان شاهدان، فإن اطلع - بعد ذلك - أنهما شهدا بزور، حلف وليان من الورثة، واستحقا ما حلفا عليه، وهو معنى قوله: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً} أي: (حلفاً) زوراً، {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} أي: مقام الشاهدَيْن، {فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} أي: لَيمَينُنا أحق من يمينهما، {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ}، أي: يأتي الشاهدان بالشهادة على حقها، ولا يغيّرانها. وهذا منسوخ عند أكثر العلماء. وقال الحسن: يحلف الشهود، وليس بمنسوخ. ومن قال: إن معنى {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} من المسلمين، (قال: أو) من غيركم: من غير المسلمين لتصح المحاذاة، لأن نقيض المسلم الكافر. ومن قال: معنى:

{ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} من قبيلتكم أو من عشيرتكم أو من أهليكم، قال: معنى: ([من] غيركم): من غير قبيلتكم أو من غير عشيرتكم أو [من] (غير) أهليكم، فهو كله (في المسلمين) لتصح المحاذاة في الطرفين، ثم يقع الاختلاف في النسخ على ما ذكرنا وما نذكر على اختلاف هذه المعاني. والشهادة (هنا) بمعنى الإشهاد على الوصية، فالاثنان يشهدان على الوصية.

وقيل: الشهادة هنا بمعنى الحضور، أي: ليشهد اثنان، أي: ليحضر اثنان حين الوصية، فهما وصيان لا شاهدان، واستدل الطبري على أنه غير الشهادة التي تؤدي للمشهود له، أنْ قال: إنا لا نعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد اليمين، فيكون جائزاً أن يصرف الشهادة في هذا، وتكون هي التي يقام بها عند الحاكم للمشهود له، (و) في حكم اله باليمين على ذوي العدل [أو] على من قام مقامهما باليمين - يقول: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله} - أَوُضَحُ دليل على أنه ليس يراد به الشهادة التي يقضى بها للمشهود له. وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال ابن المسيب: معناه: من غيركم، أي: من أهل الكتاب. وقال ابن جبير: أي: من غير أهل ملتكم، وقال الحسن: معناه: شاهدان من قومكم أو من غير قومكم. وقيل: معناه: من غير حيّكم.

قوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي: سافرتم ذاهبين وراجعين، فنزل بكم الموت. وقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: إذا ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت، فأوصيتم إلى اثنين عدلين، وفي الكلام حذف واختصار، تقديره: ودفعتم إليهما ما معكم من مال ثم متم، وذهبا إلى ورثتكم بالتركة، فارتابوا في أمرهما واتهموهما (وادعوا) عليهما خيانة، فإن الحكم في ذلك أن [تحبسوهما]، أي: تتوثقوا منهما بعد الصلاة، وفي الكلام حذف أيضاً وهو ما ذكرنا، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، (أي) لا نحلف كاذبين على عرض نأخذه من حق هؤلاء الورثة، {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} يقسمان / بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً ولو كان الذي نقسم له به ذا قرابة منا.

قال ابن عباس: إنما هذا لمن حضره الموت في سفر ولم يجد مسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين، فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر: بالله لم نشتر بشهادتنا ثمناً. فقوله: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} (- على قول ابن عباس - من صفة الآخرين، والمعنى: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة) إن ارتاب الورثة في مال الميت، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمناً، ولو كان ذا قربى. والصلاة - عند أبي موسى الأشعري وابن جبير - صلاة العصر. وقيل: هي صلاة من صلاة أهل دينهم. قال السدي وغيره: أمر الله المؤمنين أن يُشهدوا عند الموت في الحضر شاهدْين (من المسلمين) فيما عليه وله، وأمرهم أن يشهدوا في السفر شاهدين

من غير ملتهم إذا عدموا أهل ملتهم، كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً، فإذا دفع إليهما ماله، (فإن أتهمهما) أهل الميت حبسوهما بعد الصلاة وحلفا: بالله لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، وذلك صلاة أهل ملتهما، ويقولان بعد ذلك: {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين}، إن صاحبكم لبهذا أوصى، وإن هذه التركة، (ويخوفهما) الامام قبل اليمين، ف {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ}. قال ابن زيد: " لا نشتري به ثمناً " لا نأخذ به رشوة. قال: الهاء في " به " تعود على القسم، وهو اليمين، وقيل: بل تعود على الله جل ذكره. قوله: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً} أي اطلع على أنهما خانا بعد حلفهما، وأنهما حلفا كاذبين في أيمانهما (ما خنا)، فيقوم آخران من ورثة الميت حينئذ

مقامهما، فيحلفان أنه كان كذا وكذا، ويستحقون ما حلفوا عليه. وقال ابن عباس: يحلفان: إن شهادة الكافرين كانت باطلاً، وأنّا لم نَعْتَدِ في دعوانا، إذا اطلع أنهما كذبا في يمينهما وخانا، فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة المؤمنين. وقيل: إنما يحلف أولياء الميت إذا أدعى الشاهدان أنه أوصى بما لا يجوز في دين الإسلام، كقولهم: أوصى بماله كله "، فيحْلف اثنان من أولياء الميت: إن صاحبنا (ما كان يرضى بهذا ولا نرضى به، وإنهما) يكذبان. وشهادتنا أحق من شهادتهما. والأكثر على أن الأولياء يحلفون إذا وجدوا خيانة بعد يمين الكافرين، أو قيل لهم (إنهما) غير مرضيين، فيحلفان: لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإنه لقد ترك كذا وكذا، وما أوصى بكذا ونحوه. وقيل: إنما ألزم الشاهدان اليمين، لأنهما زعما أن الميت أوصى لهما بكذا وكذا، فإن عثر على أنهما كاذبان في ذلك، حلف آخران من أولياء

الميت: لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا. وجماعة من العلماء يقولون: كان هذا ثم نُسخ. ولا تجوز شهادة كافر على مسلم، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وهي منسوخة عندهم. وقيل: ذلك جائز إذا كانت وصية، وهو قول ابن عباس وغيره. وقيل: الآية كلها / في المسلمين، والآخران من المسلمين، وهو قول الزهري والحسن. وقيل: الشهادة - هنا - بمعنى الحُضور، وقد تقدم ذكره. وقيل: الشهادة - هنا بمعنى اليمين، فمعنى " شهادة أحدكم ": أي: يمين

أحدكم أن يحلف اثنان، وهو اختيار الطبري. فال ابن عباس: كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة للتجارة - نصرانيين -، فخرج معهما رجل من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم فأوصى إليهما، فوصّلا تركته إلى أهله، وحبسا جَاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب، ففقده أولياء الميت السهمي، فأتوا النبي، فاستحلفهما: " ما كتمنا ولا اطلعنا "، ثم عُرفَ الْجامُ بمكة، [فقالوا]: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي

فحلفا بالله إن هذا لَجَامُ السهمي، ولشهادتُنا أحقُّ من شهادتهما وما اعتدينا، إنّا إذاً لمن الظالمين، وأخذا الْجَامَ، ففيهم نزلت الآيات. والروايات في هذا الخبر كثيرة مختلفة الألفاظ، ترجع إلى معان يقرب بعضها من بعض. وتقدير قراءة من قرأ بضم التاء وقرأ (الأوليان) أنه أراد: فآخران من أهل الميت - الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم منهما - يقومان مقام [المُسْتَحِقَّيِ] الإثم منهما لخيانتهما. و (من قرأ) بفتح التاء، فتقديره: فآخران يقومان [مقام] المؤتمَنيْن

109

اللَّذَين عثر على خيانتهما. قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} الآية. المعنى: " واحذروا يوم يجمع الله الرسل. ومعنى {مَاذَآ أُجِبْتُمْ}: ما أجابتكم أممكم حين دعوتموهم؟، فذهلت عقول الرسل عليهم السلام لهول اليوم، فقالت: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ}، فلما سئلوا في موضع آخر ورجعت إليهم عقولهم أجابوا. وقيل: المعنى: لا علم لنا، لأنك أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. وهو اختيار الطبري، يدل على ذلك أنهم ردوا العلم إليه، فقالوا {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}.

وقال مجاهد: تنزع أفئدتهم فلا يعلمون، ثم ترد إليهم أفئدتهم فيعلمون. وقيل: معناه: لا علم لنا بما عملته أُمَمُنا بعدَنا، {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}. وقال ابن جريج: المعنى: ماذا عملت أمتكم بعدكم؟، فيقولون: لا علم لنا حقيقة، (أي لا علم لنا) بما غاب عنا، إنك أنت علام الغيوب. وَيشُدُّ هذا التأويل قول النبي عليه السلام: " يَرِد عليَّ قومٌ الحوضَ [فَيُخْتَلَجون]، فأقول: أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".

وقد طُعِن في قول ابن جريج، لأن الله لا يسأل عما غاب عن الأنبياء ولم يُعلمهم به، وقد قيل: إن الرسل لا يفزعون، لانهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والمعنى: ماذا أجبتم في السر والعلانية، ومعنى مسألة الله الرسل [عما] أجيبوا، إنما هو بمعنى التوبيخ لمن أرسلوا إليهم، كما قال: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * (بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)} [التكوير: 8 - 9]، وإنما تُسأل هي على التوبيخ (لقاتلها). وقيل: إنما سألهم الله عن السر والعلانية، فرَدّوا الأمر إليه، إذ ليس عندهم إلاّ علمُ الظاهر، والباطن عِلمُه إلى الله، لأنه يعلم الغيب، وهذا القول أحب الأقوال إليّ، لأن سؤاله لهم سؤالاً عاماً يقتضي السؤال عن سر الأمم وعلانيتها، والسر علمه إلى من يعلم / الغيوب، (وهو الله جل ذكره، فأقروا بأنهم لا علم عندهم منه، ورَدّوا

110

العلم إلى من يعلم الغيب). قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي} الآية. قرأ ابن محيصن {إِذْ أَيَّدتُّكَ}، وكذلك روي عن مجاهد، وهما لغتان. والمعنى: واحذروا يوم يجمع الله {الرسل}، فيقول كذا وكذا، إذ قال الله يا عيسى ابن مريم. (و) قوله: {(أَيَّدتُّكَ) بِرُوحِ القدس} أي: أعنتك بجبريل. وقوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} هو الخط، {والحكمة}: الفهم بمعاني الكتاب، {والتوراة}: وهو ما أنزل على موسى، {والإنجيل}، وهو الذي أنزل عليه، ومعنى {بِإِذْنِي}: أي: بعوني لك.

ومعنى {تَخْلُقُ} تعمل وقيل: تُقَدِّر. {وَتُبْرِىءُ الأكمه} هو الذي يولد أعمى، وقيل: يكون الأكمه أيضاً (الذي) يعمى بعد البصر. {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى} أي: تخرجهم أحياء من قبورهم، {بِإِذْنِيِ} أي: بعوني {وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ} أي: منعتهم إذ هموا بقتلك لما جئتهم بالبينات، وهذا كله تعديد نِعمِ الله على عيسى. والبينات: الأدلّة المعجزة الدّالّة على نبوتك. {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}: من قرأ {سِحْرٌ} فمن أجل أن بَعْدَه {مُّبِينٌ}، والسحر مما يوصف بالبيان.

111

ومعنى {سِحْرٌ} أي عمله، وما أظهره سحر. ومن قرأ: (ساحر)، فلأن المذكور في الكلام هو عيسى، وليس مما يوصف بأنه سحر، لأن الإنسان لا يكون سحراً، إنما يكون ساحراً، وكل ساحر لا يسمى بذلك حتى يعمل السحر، وكل من أضيف إليه سحر فهو ساحر فالقراءتان متقاربتان. والكهل: ابن أربعين سنة، وقيل: ابن أربع وثلاثين سنة. ومعنى النعمة على عيسى في أن يكلم الناس كهلاً: أنه مد في عمره إلى أن بلغ الكهولية. قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} الآية. المعنى: واذكر اذ أوحيت إلى الحواريين، ومعنى {أَوْحَيْتُ}: قذفت في قلوبهم،

112

قاله السدي. وقيل: ألهمتهم، والحواريون: وزراء عيسى. قوله: {إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ} الآية. روي عن ابن عامر: (الحواريون) بالتخفيف، استخفافاً، والتشديد الأصل. ومعنى الآية: أنهم سألوا ذلك ليثبتوا في صدقه، كما قال إبراهيم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260]. وقيل: إنهم إنما سألوا (هذا) قبل أن يعلموا أن عيسى يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى، فسألوه آية.

ومعنى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ}، أي: ينزل علينا ربك مائدة، كما تقول للرجل: " أتستطيع أن تنهض معي في كذا؟ "، وأنت تعلم أنه مستطيع، وإنما تريد: " أتنهض معي في كذا؟ ". وقيل: معناه: هل يستجيب لك ربك إن سألته؟. وقال الحسن: المعنى: هل ربك فاعل بنا ذلك؟. والعرب تقول: " ما أستطيع ذلك "، أي: ما أنا فاعل ذلك، وهو يستطيع. وقيل: إنهم سألوه قبل أن يكونوا مؤمنين محققين، ثم آمنوا بعد ذلك، ودل على ذلك استعظام عيسى لقولهم، وقوله لهم: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}. قال ابن شهاب: قال ابن عباس: قال عيسى لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على مَن عمل له!، [ففعلوا ثم قالوا: يا معلّم الخير، قلتَ لنا: " إن أجر العامل على مَن عمل له "]، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً

إلا أطعمنا - حين فرغ - طعاماً، فهل يستطيع ربك أن ينزّل / علينا مائدة من السماء؟ فقال عيسى: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ}، فاعتذروا بقولهم: {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} أي: بنبوتك، ونعلم صدقك، فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة (أرغفة وسبعة أحوات) حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. قال السدي المعنى: " هل يطيعك ربك إن سألته ". وقرأه الكسائي بالتاء، ونصب (ربَّك)، ومعناها: أن الحواريين لم يكونوا شاكين، إنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟. قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر على أن ينزل عليهم

مائدة. (و) روي عنها أنها قالت: كان الحواريون أعرف بالله من أن يقولوا: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}. (و) تقدير قراءة الكسائي: هل تستطيع مسألة ربك أن ينزل علينا مائدة. والمائدة فاعلة، من مادَ فلان القوم يميدهم: إذا أطعمهم. قال أبو عبيدة: (مائدة) من العطاء، وهي " فاعلة " بمعنى مفعولة وقال الزجاج: " مائدة: فاعلة من مادَ يميد: إذا تحرك "، ومنه ماد الرجل في البحر: إذا دار رأسه وقيل:

114

المائدة: المطعمة، كأنها الطاعمة. ومعنى قوله: {اتقوا الله} أي: اتقوه أن تَنزِل بكم عقوبة، فإن الله سبحانه لا يعجز عن شيء أراده، فلا تَشُكّوا في قدرته هذا على قراءة الجماعة. قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا} الآية. قوله: {تَكُونُ لَنَا}: حال بمعنى: كائنة. وقرأ الأعمش (تكُن) جعله للطلب. وقرأ الجحدري: (لأولانا وأُخرانا).

فالمعنى: نتخذ اليوم الذي تنزل فيه عيداً لما ولمن بعدنا. وقيل: معناه: نأكل منها جميعاً، قاله ابن عباس. (و) روي أن عيسى عليه السلام قام فلبس الشعر، وكان يلبس الصوف بالنهار والشعر بالليل، فلبس جبة من شعر ورداء من شعر، ووضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره، ثم صف (بين) قدميه، فألصق الكعب بالكعب، وساوى الإبهام بالإبهام، وطأطأ رأسه خاشعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فبكى حتى سالت الدموع على لحيته، فجعلت تقطر على صدره، فقال: {اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء}، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها، وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها تهوي مُنْقَضّة وعيسى صلوات الله عليه يبكي ويقول: اللهم اجعلني لك من الشاكرين، إلهي اجعلها رحمة ولا تَجعلها عذاباً، إلهي كم أسألك من العجائب فتعطيني، إلهي أعوذ بك من أن تكون أنزلتها غضباً وزجراً، اللهم اجعلها عافية وسلامة

ولا تجعلها مثلة ولا فتنة حتى استقرت بين يدي عيسى والناس حوله يجدون ريحاً طيباً، لم يجدوا مثلها قط، وخرّ عيسى ساجداً والحواريون معه، وبلغ اليهود ذلك، فأقبلوا غماً وكيداً ينظرون أمراً عجيباً، وإذا منديلٌ قد غطى السفرة، وجاء عيسى عليه السلام، فجلس وقال: من كان أَجرأَنا وأَوثَقَنا بنفسه، وأحسَنَنا يقيناً عند ربنا، فليكشف عن هذه الآية حتى ننظر ونأكل ونسمي اسم ربنا ونحمد إلهنا. فقال {الحواريون}: أنت أولى بذلك يا روح الله وكلمته /. فئوضاء عيسى وضؤاً جيداً، وصلى صلاة طويلة، ودعا دعاءً كثيراً، وبكى بكاءً طويلاً، ثم قام حتى جلس عند السفرة ثم قال: بسم الله خير الرازقين، وكشف المنديل، فإذا سمكة طرية مشوية، ليس عليها قشورها، وليس لها شوك، وتسيل سيلاً من الدسم، قدم نُضِّد حولها

البقول ما خلا الكراث، وإذا خلٌّ عند رأسها، وملح عند ذنبها، وسبعة أرغفة، على كل واحد منها زيت، وعلى سائرها حَبَّ رمان وتمر، فقال شمعون رأس الحواريين -: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، (أم من) طعام الآخرة؟، فقال عيسى صلى الله عليه: أو ما نُهيتم عن تفتيش المائدة؟، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا. فقال (شمعون): لا وإله إسرائيل، ما أردت سوءاً (يابن) الصديقة. قال عيسى: نزلت وما عليها من السماء شيء، وليس شيء مما ترون عليها من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، هي وما عليها: شيء ابتدعه الله بالقدرة الغالبة، قال (له الله): " كن "، فكان، فكلوا مما سألتم واحمدوا عليه ربكم يمددكم ويزدكم. قالوا: يا روح الله وكلمته، لو أَرَيْتَنا اليوم آية من هذه الآية. فقال عيسى: احْيَِيْ بإذن الله، فاضطربت

السمكة حية (طرية)، تدور عيناها في رأسها، ولها وبيص تتلمط بفيها كما يتلمط الأسد، وعاد عليها قشورها، ففزع القوم، فقال عيسى: ما لكم تسألون عن أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها، ما أخوفني عليكم (أن تُعذَّبوا)، يا سمكةُ عودي كما كنت بإذن الله، فعادت السمكة مشوية كما كانت، ليس عليها قشور بإذن الله. فقالوا: كن أنت - يا روح الله - الذي يأكل منها أول مرة، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، بل يأكل منها من طلبها وسألها، ففَرِق الحواريون من أن يكون نزولها سخطاً ومثلة، فلم يأكلوا منها، فدعا عيسى أهل الفاقة والزَّمانة من العميان والمجذومين والبُرْص والمُقْعدين والمجانين وأصحاب الماء الأصفر، فقال لهم:

كلوا من رزق ربكم، وادعوه يزدكم، إنه ربكم واحمدوه يكن المُهْنَأ لكم، والبلاء لغيركم، واذكروا اسم الله وكلوا. ففعلوا وصدروا عن تلك السمكة والأرغفة وهم ألف وثلاث مائة بين رجل وأمرأة، (و) من بين فقير وجائع وزَمِن، فصدروا كلهم شباعاً يَتَجَشَّؤون، فنظر عيسى صلى الله عليه فإذا المائدة كهيئتها إذ نزلت من السماء، فرفعت السفرة وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، فلم يزل غنياً حتى مات، وبرأ كل زَمِن أكل منها، وقدم الحواريون وسائر الناس ممن أبى أن يأكل منها. ثم كانت تنزل بعد ذلك، فيأتي الناس إليها من كل مكان، فزاحم بعضهم بعضاً: الأغنياء والفقراء والرجال والنساء والأصحاء والمرضى، فلما رأى (ذلك عيسى) جعلها نُوَباً بينهم، فكانت تنزل غباً، تنزل يوماً ولا تنزل يوماً،

كناقة صالح في الشرب، فأقاموا بذلك أربعين صباحاً تنزل عليهم ضحاً، فلا تزال موضوعة حتى إذا (فاء الفيء) طارت صاعدة ينظرون / إلى ظلها حتى تتوارى عنهم، وأوحى الله D إلى عيسى (أن) اجْعل مائدتي ورزقي في اليتامى والزَّمنى دون الأغنياء من الناس. فلما فعل ذلك، أعظمت (ذلك) الأغنياء، فادعت القبيح حتى شككوا الناس وشكوا، فوقعت الفتنة في قلوب الشاكين، حتى قال قائلهم: يا مسيح، وإن المائدة لحق؟، (و) إنها لتنزل من عند الله؟، فقال عيسى: ويلكم هلكتم، (فأبشروا) (بالعذاب) إلا أن يرحم الله. فأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ شرطي من الكذابين، وقد اشترطت عليهم أن أعذب من كفر منهم بعد

نزولها (عذاباً) لا أعذبه أحداً من العالمين. فقال عيسى: (رب) {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، فمسخ الله جل ذكره ثلاثة وثلاثين رجلاً منهم خنازير من ليلتهم، فأصبحوا يأكلون العذرة والخشوش، وأصبح الناس يطوفون بعيسى (فزعاً ورهباً من عقوبة الله، وعيسى) يبكي، وأهلوهم يبكون معه، وجاءت الخنازير تسعى على عيسى حين أبصرته، فأطافوا به ينظرون إليه، ويشمّون ريحه، ويسجدون له، وأعينهم تسيل دموعاً لا يستطيعون الكلام، فقام عيسى يناديهم بأسمائهم: " يا فلان "، فيومئ إليه برأسه: " نعم "، فيقول " قد كنت أحذركم عذاب الله، وكأني كنت انظر: إليكم قد مُثّل بكم في غير صوركم.

قال وهب بن منبه: كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف، فقال رؤساء القوم لقوم من ضعفائهم: إن هؤلاء يُلطّخون علينا ثيابنا، فلو بنينا (لها بناء) يرفعها. فبنوا لها دكاناً، فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله رفعها عنهم. قال ابن عباس: أكل منها آخرهم كما أكل أولهم، فكانت لجميعهم عيداً. وقوله: {وَآيَةً مِّنْكَْ}: (أي آية) على قدرتك، وعلى أني رسولك. ونزلت عليهم وعليها حوت وطعام، فأكلوا (منها)، ثم رفعت لأحداث أحدثوها. (وقيل): كان في المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.

قال ابن عباس: نزلت المائدة مرتين وعنه: نزلت مراراً. وقال سلمان كذلك. وقيل: وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً. قال الحسن: لما قال الله {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} قالوا: لا حاجة لنا إليها فلم تنزل. قال الفراء: نزلت - فيما ذكر - يوم الأحد مرتين: غدوة وعشية، فلذلك اتخذوه عيداً. وعن ابن عباس أنه قال: كانوا يأكلون منها أينما نزلوا إذا شاءوا. وقال وهب بن منبه: نزلت عليهم قرصة من شعير وأحوات. وقال مجاهد: هو طعام ينزل عليهم حيث ما نزلوا. وقال إسحاق بن عبد الله: نزلت على عيسى

سبعة أرغفة وسبعة أحوات، يأكلون منها متى شاءوا. قال فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غداً (فرفعت). وروي عن ابن عباس أنه قال: أُنزل على المائدة كل شيء غير اللحم. قال قتادة: لما صنعوا في المائدة ما صنعوا من الخيانة، حُوِّلوا خنازير، وكانوا أمروا ألا يخونوا ولا (يخبئوا ولا يدخروا)، فخانوا وخبؤوا وادخروا. (و) روى عمار / عن النبي عليه السلام أنه قال: " نزلت المائدة خبزاً ولحماً، وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا و (رفعوا لغد)، فمسخوا قردة وخنازير ".

قال عمار بن ياسر: لم يتم يومهم حتى خانوا وادخروا ورفعوا. وروي عن عمار بن ياسر أنه قال: كان عليها ثمر من ثمار الجنة. قال مجاهد: إنما هو مثل ضربه الله لينتهوا عن مسألة النبي، ولم ينزل الله عليهم شيئا. وقيل: لما قيل لهم: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} الآية، استعفوا، فلم ينزل عليهم شيء، قال ذلك الحسن. وقال مجاهد: أبوا ذلك حين عرض عليهم العذاب. والذي عليه أكثر العلماء أن الله أنزلها عليهم، لقوله {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ}، ولا يجوز

أن يخبر أنه ينزلها، ثم لا ينزلها. ومعنى {مِّنَ العالمين}: من عالمي زمانكم. وكان نزول المائدة يوم الأحد، فلذلك اتخذوه عيداً. والعذاب الذي أُوعِدوا به، قيل: هو متأخر إلى الآخرة. وقيل إنَّهم عُجِّل لهم ذلك في الدنيا بأنهم مسخوا قردة وخنازير. وروي أن المائدة لما نزلت عليهم فرقوا أن تكون عقوبة وسخطاً، فقالوا: يا روح الله، كن أنت أول من يأكل منها، ثم نأكل نحن. فقال عيسى: معاذ الله، ولكن يأكل منها الذين طلبوها. فلم يأكلوا منها خوفاً أن تكون سخطاً عليهم، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والحاجة والزمنى والعمي والبرص، وكل مَن به داء، فقال لهم: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واذكروا اسم الله. فأكلوا حتى شبعوا وهم ألف وثلاث مائة، قاله سليمان.

116

وقال مقاتل: كانوا خمسين ألفاً، وأفاقوا من كل دائهم. قوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} الآية. المعنى: واذكر إذ قال {الله}. وجماعة من المفسرين على أن الله أخبرنا أنه قال لعيسى حين رفعه إليه، قاله السدي وغيره. وقيل: هو خبر من الله عما يكون في القيامة، قال ابن جريج: يقول ذلك لعيسى والناس يسمعون، فيراجعه بالإقرار والعبودية، فيعلم من كان يقول في عيسى ما يقول أنه إنما كان باطلاً. ودَلّ قوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} على أنه يوم القيامة. و (إذ) - على هذا - بمعنى " إذا "، ويكون {قَالَ} بمعنى " يقول " كما قال: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] أي:

إذا (فزعوا) وإذ يفزعون. والمسألة في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ} إنما هي على وجه التوبيخ للذين ادعوا عليه ذلك، وهم بنو إسرائيل. واختار الطبري قول السدي أنه خبر قد كان حين رفعه الله إليه، لأن (إذ) {فِي} (الأغلب) من كلام العرب - لما مضى - فحَمْلُ الكلام على الاكثر الفاشي أولى، ولأن عيسى لا يشك - هو ولا أحد من الأنبياء - أن الله لا يغفر لمن مات على شركه، فيجوز أن يتوهم على عيسى أنه قال في الآخرة - مجيباً لربه إذ سأله عمن اتخذه (هو) وأمه إلهين {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118].

ووجه سؤال الله لعيسى عما قد علم أنه لم يفعله: هو على معنى تنبيه المسؤول على الاستعظام، كقولك للرجل: " أفعلت كذا وكذا؟ " - وأنت تعلم أنه لم يفعله - / ليستعظم فعل ما قد سألته عنه، وقيل: إنما سأله عن ذلك على وجه إعلامه أن أمته قد فعلت ذلك بعده، فأعلمه حالهم بعده. ومعنى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} أي: تعلم غيبي، ولا أعلم غيبك حتى تُطلِعَني عليه، {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} أي: علام الخَفِيّات من الأمور. وقيل: المعنى: تعلم حقيقتي ولا أعلم (غيبك) ولا حقيقتك. والنفس - في كلام العرب - يجري على ضربين: على النفس التي بخروجها يكون الموت، كقولك: " خَرَجَت نفسُ فلان " أي: مات. ويكون جملة الشيء وحقيقته، تقول: " قَتَل فلان نفسَه "، فليس المعنى (أن) الهلاك وقع ببعضه، إنما وقع بذاته كلها وحقيقته. وأجاز بعضهم الوقف على (ما

117

ليس {لِي}، ويكون {بِحَقٍّ} متعلقاً بـ {عَلِمْتَهُ} على معنى: فقد علمته بحق، ورد ذلك بعضهم، لأن التقديم والتأخير لا يجوز إلا بتوقيف أو فيما {لاَ} يمكن إلا ذلك. والتمام عند نافع وغيره {بِحَقٍّ}. وكذلك روي أن النبي صلى الله عليه وقف عليه. قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ} الآية. قوله: {أَنِ اعبدوا الله}: (أن) مفسرِّة لا موضع لها من الإعراب، بمنزلة (أَنِ امْشوا)، وقيل: هي في موضع نصب على معنى: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله.

118

قوله: {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}: (ما) في موضع نصب، {وَ} المعنى: مدة دوامي، فهو ظرفٌ عَمِلَ فيه {شَهِيداً} أي: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً}، {مَّا دُمْتُ} أي: مدة دوامي. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي: قبضتني إليك، {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: الحفيظ عليهم. قوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية. المعنى: إن تعذبهم بقولهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوبتهم عما قالوا فتستر عليهم، {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} في انتقامك، {الحكيم} في أفعالك. وقال السدي: المعنى: إن تعذبهم فتميتهم على نصرانيتهم فيحق عليهم العذاب

فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصارنية وتهديهم إلى الإسلام، فإنك أنت العزيز الحكيم، قال: هذا قول عيسى في الدنيا. وقال بعض أهل النظر: يكون هذا من عيسى في القيامة وإنما يقوله على التسليم لأمر الله، وقد أيقن أن الله لا يغفر لكافر، ولكنه سلم الأمر، ولم يكن يعلم ما أحدثوا بعده: أكفروا أم لا. قال ابن الأنباري: لم يقل هذا عيسى وهو يقدّر أن الله يغفر للنصارى إذا ماتوا مصرين على الكفر، لكنه قاله على جهة تفويض الأمر إلى ربه، وإخراجِهِ نَفْسَه من حالة الاعتراض. والمعنى: إن غفرت لهم، لم يكن {لِي} و {لاَ} لأحذ الاعتراض عليك من حكمك، وإن عذبتهم (فبعدل) منك، ذلك لكفرهم. وقيل: الهاء في {تُعَذِّبْهُمْ} للبعض الذين أقاموا على الكفر، والهاء في {(وَ)

119

إِن تَغْفِرْ لَهُمْ} للبعض الذين تابوا من الكفر. وقيل: الهاءات كلها للنصارى والكفار، والمعنى: إن تعذبهم بتركك إياهم على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لهم بتوفيقك إيّاهم للإيمان والتوبة فأنت العزيز الحكيم. قوله: {قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} آية. حكي عن المبرد أنه منع قراءة من نصب (يوماً)، قال: لأنه (خبر الابتداء) والنصب جائز عند غيره، لأن المعنى: قال الله هذا لعيسى في {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} /، ف (يوم) ظرف للقول، وهو الناصب له. وقيل: المعنى: هذا الأمر وهذا الشأن في {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} أي: في يوم

القيامة، فيكون العامل في (يوم) المضمر، وهو " الأمر " و " الشأن ". وقيل: هذا كله مقول يوم القيامة، لقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] ولقوله: {قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين}. وقال بعض أهل النظر: لم يقصد عيسى إلى (أن الله) يغفر لمن مات مشركاً، وإنما مقصده: وإن تغفر لهم الحكاية عني (التي) كذبوا علي فيها، والحكاية كذب، ليست بكفر، والكذب جائز أن يغفره {الله}. وهو - عند الكوفيين - بناء: لأنه مضاف إلى غير متمكّن، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الفعل معرب، وإنما يبنى إذا أضيف إلى غير معرب كالماضي و " إذ " وشبه ذلك، والإضافة عند البصريين في هذا إنما هي (إلى المصدر).

120

وقال أبو اسحاق: حقيقته الحكاية. ومعنى {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ}: الذي كان في الدنيا ينفعهم في القيامة، لأن الآخرة ليست بدار عمل، ولا ينفع أحداً (فيها) ما قال وإنْ أحسن، ولو صدق الكافر (وأقر) بما عمل، وقال: " كفرت " (أو أسأت)، ما نفعه. وإنما الصادق ينفعه صدقه الذي كان منه في الدنيا، (لا) في الآخرة. قوله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ} أي: لهم في الآخرة - بصدقهم في الدنيا - جنات مخلدين فيها. {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ وفّى لهم بوعده. قوله: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية. المعنى: لله - أيّها النصارى - ملك السماوات والأرض وما فيهنّ، دون عيسى

الذي جعلتموه وأمّه إلهين، وعيسى وأمُّه داخلان في المُلك، وهو يقدر على إفناء ذلك كما ابتدعه وأظهرَه قبل أن لم يكن شيئاً. وفي وصل (قدير) بـ (الحمد {للَّهِ} خمسة أوجه: الأول: المستعمل عند القراء: أن تكسر للتنوين، وتحذف ألف الوصل وتصل. الثاني: أن تحذف التنوين لالتقاء الساكنين وتصل. والثالث: أن تُلقي حركة ألف (الحمد) على التنوين فنفتحه، كأنك تنوي الابتداء بـ (الحمد). والرابع: أن تسكن الراء وتبتدئ (الحمدُ للهِ) بالقطع، وهذا مستعمل عند القراء أيضاً. والخامس: أن تنوّن وتقطع ألف (الحمد) لتدل على الانفصال.

الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنعام "قال أبو محمد": روى أنس بن مالك عن النبى - صلى الله عليه وسلم - (أن) سورة الأنعام نزلت ومعها موكب من الملائكة، سد ما بين الخافقيّن، لهم زَجَل بالتسبيح، والأرض لهم ترتج، ورسول الله يقول: (سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات. قال ابن عباس: نزلت بمكة جملةً، ومعها سبعون ألف ملك حولها.

1

بالتسبيح وعن ابن عباس: نزلت ليلا بمكة, وحولها سبعون ألف ملك (يجأرون) حولها بالتسبيح. قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية. المعنى: الحمد الخالص الكامل لله. ومُخرج الكلام مخرج الخبر، ومعناه الأمر، أي: أخلصوا الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وهي من أعظم الآيات، وأضاف إلى ذلك - من آياته - إظلام الليل وضياء النهار. قال قتادة: " خلق السماوات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار ". ومعنى: {وَجَعَلَ} هنا، خلق، وإذا كانت بمعنى " خلق "، لم تتعد (إلا)

إلى مفعول واحد. وقوله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} الآية. {ثْمَّ} لغير مُهلَة، لأن الله قد قضى الآجال كلها قبل خلق كل / شيء، وإنما {ثْمَّ} لإتيان خبر بعد خبر، لا لترتيب زمان بعد زمان. ومعناه: أن الله يعجب خلقه من هؤلاء الذين يجعلون لله عديلاً ومثيلاً ومساوياً، وهو خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، ومن جعلوه عديلاً لا يقدر على شيء من ذلك ولا من غيره، فذلك عجب من فاعله. وقيل: إنها نزلت في (المانية) الذين يعبدون النور والظلمة يقولون: الخير من النور، والشر من الظلمة، فعدلوا بالله خلقه، وعبدوا

2

المخلوقات. (و) ذكر (عن) عبد الله بن أبي رباح أنه قال: فاتحة التوراة، فاتحة الأنعام: {الحمد للَّهِ} إلى {يَعْدِلُونَ} قال: وخاتمة التوراة خاتمة هود {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. قال مجاهد: {يَعْدِلُونَ} يشركون. وهذه الآية نزلت في أهل الكتاب عند جماعة من المفسرين. وقال أكثرهم: (عني) بها المشركون من عبدة الأوثان وسائر أصنافهم. قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} الآية. المعنى: أن الله خلق آدم من طين، فخوطب الخلق بذلك، لأنهم ولده، وهو أصل لهم، قال قتادة ومجاهد والسدي. قال ابن زيد: خلق آدم من طين، ثم خُلقنا

من آدم حين أخرجنا من ظهره. وقيل: المعنى: أن النطفة من طين، لكن قَلَبهَا الله تعالى ذكره حتى كان الإنسان منها. وقوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ}. الأجل الأول: أجل الإنسان من حيث يخرج إلى الدنيا إلى أن يموت، والأجل الثاني: هو ما بين وقت موته إلى أن يُبعث، قاله قتادة والضحاك والحسن. وقال ابن جبير: الأول الدنيا، والثاني الآخرة. وكذلك قال مجاهد. وقال عكرمة: الأول: الموت، والثاني: الآخرة، كالقول الأول، وكذلك قال ابن عباس، وقاله السدي. و {ثُمَّ} - على هذه الأقوال كلها - يراد بها التقديم للخبر الثاني على الأول. كما قال الشاعر: قُل لِمَنْ ساد ثمَّ ساد أَبوهُ ... ثُمَّ قَدْ سادَ بَعْدَ ذَلَكَ جَدُّه

فالجد سابق للأب، والأب سابق للمدوح. وقيل: الأول قبض الروح في النوم، والثاني قبض الروح عند الموت، روي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقيل: معنى ذلك أن الأول هو ما أعلمنا (أَلاَّ نبَيَّ) بعد محمد A، والآخر هو القيامة. وقيل: الأول ما نعرفه من الأهِلّة وأوقات الزروع ونحو ذلك، والأجل الثاني: موت الإنسان متى يكون. ومعنى {ثُمَّ قضى أَجَلاً} لم يرد أنه قضى الأجل خلق آدم، بل الأجل قَضاهُ قبل خلق المخلوقات كلها، ولكن الكلام محمول على الخبر من الله جل ذكره لنا، كأنه قال: أخبركم أن الله خلقكم من طين، يعني آدم، ثم أخبركم أن الله قضى أجلاً قبل خلقه لآدم، ف (ثم) إنما دخلت لنسق الخبر الثاني على الأول، لا لوقت الفعلين. وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} معناه: تشكون (في من) خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وقضى أجل الموت وأجل الساعة، إنه إله واحد قادر، لا عديل له ولا شبيه.

5

وقوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً} وقف حسن عند نافع وغيره من النحويين. فسوف يأتيهم (أخبار) تكذيبهم، وهي ما حل عليهم من الأسر والسيف يوم بدر، وفتح (مكة) وغير ذلك، ومعناه: سوف يعلمون ما تؤول إليه أمورهم. قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} الآية. والمعنى: ألم ير هؤلاء المكذبون بمحمد، كم أهلكنا من قبلهم من القرون، وهي الأمم الخالية، مُكّنوا في الأرض ما لم يمكن لهؤلاء، وأرسلت السماء عليهم مدراراً، وفجرت العيون من تحتهم. ومعنى مدراراً (أي) (غزيراً دائمة)، فأعطت الأرض ثمارها، فعصوا، فأهلكوا بعصيانهم. وهذا وعظ وتخويف من الله

لمن كذب بمحمد ألا يصيبهم ما أصاب من هو أقوى منهم وأمكن في البلاد منهم وأطغى منهم. والقرن: ستون عاماً. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. وقيل: مائة. وقيل: القرن كل عالم في عصر، وهو مأخوذ من الاقتران، لأن بعضهم مقترن ببعض، فهذا يدل على أنه العصر. قوله: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً - آخَرِينَ}: أي: أحدثنا، ومعنى الخطاب في الآية في قوله: {لَّكُمْ} - وقد تقدم ذكر الغيبة في قوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ} - أن العرب إذا أخبرت خبراً عن غائب - فأدخلت فيه قوماً - وجهت الخبر أحياناً إلى الغائب وأحياناً إلى المخاطب، فيقولون: قلت لعبد الله: " ما أكرمه "، وإن شئت: " ما أكرمك "، وهو مثل:

7

{حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} الآية. قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ} الآية: معنى الآية: أن الله أعلم نبيه أن هؤلاء المكذبين لا ينفعهم شيء من الآيات، (و) لا يرجعون عن جحودهم، وأنهم لو رأوا كتاباً نزل (عليهم) من السماء في قرطاس ولمسوه بأيديهم، ورأوا فيه صدق ما جئتهم به، لكفروا به وقالوا: هذا سحر مبين. قال ابن عباس: لو نزل من السماء صُحُف فيها كتاب لزادهم ذلك تكذيباً. روي عن نافع أن الوقف على {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}، وهو بعيد عند غيره، لأن {لَقَالَ} جواب (لو). قوله: {وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} الآية. المعنى: أن الله أخبر عنهم أنهم قالوا لمحمد: هلا أنزل عليك ملك في صورته يصدقك ويخبرنا بنبوتك، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} أي: لو فعلنا فكفروا

9

وكذبوا لنزل (عليهم) العذاب، فقضى أمرهم ولا يؤخرون. وقيل: المعنى: لو رأوه / في صورته لماتوا، قاله ابن عباس. وقد قال في " الفرقان " عنهم إنهم قالوا {لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} أي: هلا كان ذلك. {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ} قوله (تعالى): {وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} الآية. المعنى: لو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لجعلناهُ في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون مخاطبة الملك على هيئته، ولا يرونه. قال ابن عباس: معنى {لَّقُضِيَ الأمر} أي: لو رأوه لماتوا من صورته، ولا يخاطبهم إلا مَن هو في صورة الآدمي، فإذا كان رجلاً كان ذلك أكثر لبساً عليهم

10

فيقولون: هو ساحر كذاب. قال أبو إسحاق: كانوا يقولون لضعفتهم: إنما محمد بشر، لا فرق بينكم وبينه، فيلبسون عليهم بهذا، فأعلم الله نبيه أنه لو أنزل ملكاً لأنزله في صورة رجل، إذ كانوا لا يقدرون على رؤية الملك في صورته كما سألوا، ولكان يقع عليهم من الّلبس ما وقع عليهم في محمد. يقال: " لَبَسْتُ الأَمرَ ": (أي) أشكلته وشبهته، أي: أدخلت فيه الشبه. ومُخرج قوله: {وَلَلَبَسْنَا} مُخرج قوله: {يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] لأنه مجازاة لفعلهم، فسمي باسمه، وليس به. قوله: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} الآية. المعنى أن الله جل ذكره سَلّى نبيه ليهُوَّن ما يلقى من المشركين، وأعلمه أن من تمادى على ذلك يحل به ما حل بالأمم الماضية الذين استهزأوا برسلهم. ومعنى " فحاق بهم ": أي: وجب ونزل وأحاط بهم ما كانوا يُنكرون، وهو العذاب.

11

والمضمر في {مِنْهُمْ} يعود على الرسل، وتقديره: فحاق بالذين سخروا من الرسل عقاب ما كانوا يستهزئون. قوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا} الآية. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله غيره، المكذبين بك: سيروا في الأرض، أي: جولوا فيها، تروا ما (صار) إليه عاقبة أشكالهم من الناس - الذين كذبوا الرسل - من العذاب والهلاك فتحذروا (أن يصيبكم) مثل ما أصابهم. قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض (قُل للَّهِ)} الآية. قوله {الذين خسروا} في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من المضمر في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ}، وهو قول الأخفش. وقيل: إن

{لَيَجْمَعَنَّكُم} بدل من {الرحمة} على معنى التفسير لها. ورد المبرد قول الأخفش، وقال: لا يجوز أن يبدل من المخاطب إلا المخاطب، لو قلت: " مَرَرْت بك زيدٍ "، و " مررت بي زيد " لم يجز، لأن هذا لا يُشكِل فيُبيَّن، ولكنه مرفوع بالابتداء، و {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} الخبر. وقال ابن قتيبة: {الذين} في موضع خفض على البدل أو النعت " للمكذبين " الذين تقدم ذكرهم. ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين المكذبين {لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} أي: لمن ملك ذلك؟، وليس لهم جواب عن ذلك، فكأنهم طلبوا الجواب من السائل، فقالوا لمن ذلك؟، فقيل لهم: {للَّهِ}، فصار السؤال والجواب من جهة واحدة في الظاهر والجواب إنما هو (جواب) لسؤال مضمر، لأنهم عجزوا عن الجواب فقالوا: لمن ذلك؟، فأجيبوا: {للَّهِ}، أي: هو للهِ، فأخبرهم أن ذلك للهِ، وأعلمهم أن الله كتب على نفسه الرحمة لعباده، فلا يعجل عليهم بالعقوبة، فتوبوا إليه. روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " كَتَب اللهُ كِتاباً قبلَ الخَلْقِ: إن رَحْمَتي

تَسْبِقُ غَضَبِي ". وعن سلمان أن الله لما خلَق السماء و (الأرض)، خلقَ مائةَ رحمة، كلُّ رحمةٍ تملأُ ما بين السّماء والأرضِ، فَعِندهَ تِسعٌ وتسعونَ رحمةً، وقَسَّمَ رحمةً بينَ الخلائقَ، (فبها يتعاطفون)، فإذا كان ذلك - يعني يوم القيامة - قَصَرها الله على المتقين، وزادهم تسعاً وتسعين. وعن سلمان قال: نجد ذلك في التوراة. وروى الحكم بن أبان عن عكرمة قال: إذا فَرَغ الله D من القضاء بين خَلْقه، أخرج كتاباً من تحتِ العرش فيه: (أن رَحْمَتِي سَبَقَت غضبي وأنا أرحمُ الراحمين). قال: فيَخْرُجُ من النار مثل أهل الجنة، أو مِثْليْ أهل الجنة، مكتوباً ها هنا - وأشار الحكم إلى نحرِهِ - " عُتَقاء اللهِ ". فقال رجل لعكرمة: فإن الله يقول: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37]. قال عكرمة: أولئك أهلها

" الذين هم أهلها ". وعن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن لله مائة رحمةٍ، أهبط منها رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجِنُّ والإِنسُ وطائرُ السماءِ، وحيتان الماء، ودوابُّ الأرض وهوامُّها، وما بين الهواء، واختزن عنده تسعاً وتسعين رحمة، حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا، فحَولها إلى ما عنده، فجعلها في قلوب أهل الجنة، (و) على أهل الجنة. فمعنى {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة}: أمهلكم إلى يوم القيامة، لأن معنى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أي: يُمهلكم حتى يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ومعنى {كَتَبَ} هنا: قضى.

وقيل: {إلى} بمعنى " في "، أي: ليجمعنكم في يوم القيامة. وقيل: المعنى ليؤخرن جمعكم إلى يوم القيامة، ف (إلى) لغير معنى " في ". واللام في {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} لام قسم، جواب لِ {كَتَبَ}، لأن {كَتَبَ} بمعنى " أوجب " والقسم إيجاب، (فاحتاج الايجاب إلى جواب، إذ هو بمعنى القسم في الإيجاب)، وله نظائر كثيرة في القرآن تقاس على هذا. والوقف على {الرحمة} حسن عند أبي (حاتم والفراء)، ويكون {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} مبتدأ على القسم على قولهما. وقيل: إن {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} بدل من (الرحمة)، فلا يوقف على (الرحمة)، ومعنى

13

البدل أن اللام بمعنى " أن "، فالمعنى: الرحمة: أن يجمعكم، أي: كتب ربكم على نفسه أن يجمعكم. ومثله على مذهب سيبويه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ (مَا) رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّه} [يوسف: 35] المعنى: أن يسجنوه، ف " أن " الفاعلة، ومثله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ} [الأنعام: 54] في قراءة من فتح (أن). قال نافع: {قُل للَّهِ} تمام. {لاَ رَيْبَ فِيهِ}: وقف حسن عند نافع وغيره. قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} الآية. المعنى: وقل لهم - يا محمد -: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} أي: ما استقر، فكيف تعدلون به وتشركون بمن له الخلق والأمر.

14

قوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} الآية. المعنى: قل (لهم) يا محمد: أغير الله أتخذ ولياً وهو فاطر السماوات (والأرض)، أي: مبتدعهما وخالقهما. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما {فَاطِرِ السماوات والأرض}، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: " أنا فطرتها ": (أي) ابتدأتها. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش: (ولا يَطعم) بفتح الياء، وقرأوا الأول مثل الجماعة على معنى: وهو يَرزقُ ولا يأكل. وقرأه الجماعة على معنى: " وهو يَرزق ولا يُرزق ". وقوله: (تعالى): {إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي: قل لهم يا محمد: إني أمرت

15

أن أكون أول من خضع بالعبودية، وقيل: (لي: لا) تكونن من المشركين. وقال بعض العلماء قوله: {أُمِرْتُ} بدل من " قيل لي: كن أول من أسلم و (قيل لي): لا تكونن من المشركين "، فالثاني محمول على معنى الأول، اجتُزئ بذكر. الأمر عن ذكر / القول، والمعنى: قل " إني قيل لي: كن أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين ". فهما جميعاً محمولان على القول لكن أتى الأول بغير لفظ القول وفيه معناه، فحمل الثاني على المعنى. والوقف على (الأرض) حسن، وعلى (يُطعَم حسن.) قوله: {قُلْ إني أَخَافُ} الآية.

16

المعنى: (قل) يا محمد لهؤلاء الذين لا يخافون: {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي: هائل شديد. قوله: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ} الآية. من قرأ {يُصْرَفْ} بضم الياء وفتح الراء، فعلى ما لم يُسمَّ فاعله. ومن فتح الياء وكسر الراء، فعلى إضمار، والتقدير: " من يَصرِف اللهُ عنه العذاب " يومئذ. والأول أحسن عند سيبويه، لأن الإضمار كلما قل كان أحسن. فتقدير من ضم الياء: من يُصرَف عنه يومئذ فَقد رحِمَه اللهُ، ففي {يُصْرَفْ} ذكر العذاب المتقدم، ويضمر الاسم بعد (رحمه)، وفي الفتح يضمر الاسم والعذاب جميعاً.

وقيل التقدير - في قراءة من فتح الياء - مَن يَصرف (الله) عنه شرَّ يومئذ، ثم حذف المضاف. وفي قراءة عبد الله وأُبيّ: (من يصرف الله عن يوم القيامة)، وهذا شاهد لمن قرأ بالفتح. واحتج بعضهم لقراءة من فتح الياء أنه قريب من اسم الله، كأن تقديره: من يَصرف ربّي (العذاب عنه) فقد رحمه، واحتج أيضاً بقوله: {فَقَدْ رَحِمَهُ} ولم يقل: (" فقد رُحم ")، فجريان آخر الكلام على أوله أحسن من مخالفته لأوله. قال: ولو قلت: " من وَهَب لك درهماً فقد أكرَمَك "، كان أحسن من أن تقول: " من وُهِبَ له درهم فقد أكرمه "، وقولك: " من يؤخذ منه ماله، فقد ظُلم " أحسن من قولك " من يؤخذ منه ماله فقد ظَلَمه "، وهو بعيد في الكلام وكذلك من قرأ: (" من " يُصرَف عنهُ يوْمَئذ فَقد رَحَمِه.

17

وقراءة الفتح اختيار أبي عبيد وأبي حاتم على معنى: من يصرف الله عنه يومئذ عذابه فقد رحمه. {وَذَلِكَ ا}: إشارة إلى صرف العذاب. و {الفوز}: النجاة من الهلاك، والظفر بالمطلوب، {المبين} (أي) الظاهر لمن وفقه الله. قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} الآية. المعنى: إِن يمسك (الله) - يا محمد - بضر، فلا يكشفه إلا هو، (و) الضر - هنا -: الشدة في العيش والضيق، {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} أي: برخاء في عيش وسَعَة، فهو على ذلك وغيره قدير. قوله {إِلاَّ هُوَ} تمام حسن. قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} الآية. المعنى: والله المُذلّل لعباده، العالي عليهم علّو قدرة وقهر،

19

لا (علو) انتقال من سفل، بل استعلى على خلقه بقدرته فقهرهم بالموت وبما شاء من أمره، لا إله إلا هو. ولمّا وصف نفسه تعالى بأنه المذل القاهر، ومن صفة القاهر أن يكون مستعلياً، قال {فَوْقَ عِبَادِهِ}، {وَهُوَ الحكيم} أي: في علوه، {الخبير} بمصالح عباده. قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة} الآية. {أَيُّ} اسم مبهم معرب، وإنما أُعرِب دون سائر المبهمات لعلتين: - إحداهما: أنه قد أُلزم الإضافة فخالف سائر المبهمات، والمضاف إليه يَحل محل التنوين فيه، إذ لزمه ما هو عِوضٌ من التنوين، وإذا قدر التنوين فيه وجب إعرابه، لأن التنوين علامة للأمكن، والأمكنُ لا يكون إلا معرباً. - والوجه الآخر: أنه مخالف لسائر المبهمات، لأنه يدل على البعض المعيّن،

فإذا قلت: " أيُّ الرجليْن أتاك "؟، فالذي تسأل عنه داخل في " الرجلين "، وليس ذلك في " ما " و " من ". ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين جحدوا نبوتك: أي: شيء أعظم شهادة؟، ثم أخبرهم بأن الله أعظم شهادة ممن يجوز عليه السهو والغلط والكذب والخطأ من خلقه. وقيل: المعنى: سلهم يا محمد: أي: شيء أكبر شهادة حتى أستشهد به عليكم؟. (و) قال الكلبي: قال المشركون - من أهل مكة - للنبي: من يعلم أنك رسول الله فيشهد لك، فأنزل الله {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أني رسوله، {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ}. والله - جل ذكره - شيء بهذه الآية، لكنه شيء لا كالأشياء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن} (أي وقل لهم: أوحي إلي هذا القرآن) لأنذركم

به عقاب الله، {وَمَن بَلَغَ}: (أي) وأنذر به من بلغه ذلك بعدي. قال محمد بن كعب القرطبي: من بلغته آية فكأنما رأى الرسول. قال ابن عباس: " من بلغه هذا القرآن فهو له نذير ". ف {من} في موضع نصب. وقيل: المعنى في {وَمَن بَلَغَ}: أي: وأنذر من بلغ الحلم، لأن من لم يبلغ الحلم، فليس بمخاطب ولا متَعَبد. والقول الأول: " إن معناه: ومن بلغه القرآن "، وهو أولى. وقال مجاهد {وَمَن بَلَغَ} أي: من أسلم. وقيل معناه: {لأُنذِرَكُمْ بِهِ} أيها

العرب {وَمَن بَلَغَ} أي: العجم، كقوله: {بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2] يعني العرب، ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} [الجمعة: 3] أي: من الذين أرسل إليهم، يعني العجم. (و) قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهءَالِهَةً أخرى}: هذا على التوبيخ لهم. ثم قال لنبيه: قل يا محمد لا أشهد بما تشهدون، إنما هو إله واحد، وإنني بريء من إشراككم بربكم. (و) روى ابن عباس " أن طائفة من اليهود قالوا للنبي: يا محمد، ما نعلم مع الله إلهاً غيره!، فقال رسول الله: لا إله إلا الله، بذلك بُعثت وإلى ذلك أدعو "،

20

فأنزل الله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. ووقف نافع: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شهادة}. والتمام عند الجماعة {وَمَن بَلَغَ}. قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} الآية. (معنى ذلك أن أهل الكتاب - هنا - (هم)) اليهود والنصارى. ومعنى {يَعْرِفُونَهُ}: أي: يعرفون أن دين الله الاسلام، وأن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم، وهو عندهم في التوراة والانجيل. وقيل: المعنى: يعرفون محمداً كمعرفتهم أبناءهم. وقد قال بعض من أسلم من أهل الكتاب: والله لنحن أَعَرفُ به من أبنائنا، لأن صفته ونعته في الكتاب، وأما أبناؤنا فلسنا ندري ما أحدث النساء فيهم.

21

وقيل: المعنى يعرفون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله. وقيل: يعرفون القرآن. وأكثر العلماء على أن الهاء تعود على النبي. وقوله: {الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: أوبقوها في النار بإنكارهم محمداً، {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بخسارتهم أنفسهم. و {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ}: تمام إن جعلت {الذين} مبتدأ. قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية. المعنى: من أشدُّ ظلما ممن اختلق على الله قول الباطل، أو (جحد آياته)

22

وأدلته، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي: لا ينجح القائلون على الله الباطل. قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الآية. المعنى: أن هؤلاء المفترين على الله الكذب لا يفلحون في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعاً (أي) ولا يوم القيامة، ففي الكلام تقدير محذوف. ومعنى: {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (أي تزعمون) " أنهم (لكم آلهة) من دون الله افتراءً وكذباً ". وقال القتبي: المعنى أين آلهتكم التي جعلتموها لي شركاء، فنسبها إليهم، لأنهم ادعوها أنها شركاء لله.

23

قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الآية. قرأ ابن مسعود وأبي (وما كان فتنتهُم) بالرفع. ومن (قرأ) تكن بالتاء، ونصب " الفتنة "، فإنما أنَّث، لأن " القول " هو " الفتنة "، فأنث على المعنى، وهو مذهب سيبويه. وقيل: إنما أنت، لأن {إِلاَّ أَن قَالُواْ} بمنزلة " مقالتهم " فأنث على ذلك. و (قد قرئ) برفع " الفتنة "، والياء في (يكن) على المعنى، لأن " الفتنة بمعنى " الفتون ".

ومعنى {فِتْنَتُهُمْ}: مقالتهم. وقيل: معذرتهم إلا أن أقسموا بالله ربهم إنهم لم يكونوا مشركين. ومعناه عند أبي إسحاق أن المشركين افتتنوا بشركهم في الدنيا، فأخبر الله عنهم أن فتنتهم التي كانت في الدنيا عادت انتفاء من الشرك، وهذا مِثْل إنسان يرى (محبّاً له) في هَلكة فيتبرأ منه، فيقال له: صارت محبتك (تبرؤا). واختار الطبري قراءة النصب في (ربَّنا)، لأنه جواب من المشركين الذين قيل لهم: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُم} [الأنعام: 22]؟، فنفوا عن أنفسهم أن يكونوا فعلوا ذلك وادعوه أنه ربهم كان فنادوه، ولذلك قال لمحمد: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الأنعام: 24]. وإنما قصدوا إلى نفي الشرك عن أنفسهم دون سائر الذنوب والكبائر، لأنهم

24

رأوا أن كل شيء يغفرُهُ الله إن شاء إلا الشرك، فنفوه عن أنفسهم رجاء أن يغفر لهم ما ارتكبوا دون الشرك، ودل على ذلك قوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] (فدل هذا) على أن ما دون الشرك مغفور إن شاء الله، ذلك: إما بتوبة وإقلاع، وإما بفضل من الله ورحمة. قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} الآية. معنى النظر هنا: هو نظر القلب " معناه: تَبيَّنْ فاعلم كيف كذبوا في الآخرة ". وقوله: {كَذَبُواْ} معناه: يكذبون، إلا أنه لما كان أمراً يقع بلا شك، أخبر عنه بمثل ما يخبر (عما) وقع. ومعنى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: وفارقتهم الأنداد والأصنام، وتبرأوا منها. وقيل: (معناه) ذهب عنهم ما كانوا يختلقون.

قال ابن عباس: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا (تعالوا) فلنجحد ما كنا فيه، فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثاً، فود الذين كفروا حين ذلك لو تسوى بهم الأرض، و {لاَ يَكْتُمُونَ} حديثاً. وقال ابن جبير: لما أمر بإخراج من دخل النار من أهل التوحيد، قال من فيها من المشركين: تعالوا فلنقل " لا إله إلا الله " لعلنا نخرج من هؤلاء. فقالوا، فلم يُصَدّقوا، فحلفوا فقالوا: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. وقال قطرب: إنهم لم يتعمدوا الكذب، ولكنهم قالوا ما قالوا وهم عند أنفسهم صادقون، لكنهم كاذبون عند الله، ولذلك قال: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ}. والذي يدل على خطأ قول قطرب قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا

25

يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]. فلم (يحلفوا للنبي) قط إلا وهم يعلمون أنهم كاذبون، وقد أخبر الله أن (اليمينين متساويتان). وقوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} يدل على أنهم تعمدوا الكذب. قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} الآية. المعنى: ومن هؤلاء المختلقين على الله الكذب من يستمع القرآن منك يا محمد - قال مجاهد: هم قريش - ويستمع كل واحد ما تدعوه إليه من الإيمان، فلا ينفعه ذلك، ولا يَعِيهِ، ولا يتدبره، ولا يعقله عنك، لأن الله جعل على قلبه كنانا، أي / غطاء، وجمعه أكنة، وجعل في آذانهم وقراً عن ما تقول لهم

وتتلو عليهم. فعل ذلك بهم مجازاة لهم على كذبهم، وليس المعنى أنهم لا يسمعون ألبتة ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، كانوا بمنزلة الذي في أذنيه وقر، وعلى قلبه غطاء. (و) قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} يريد أنهم رأوا القمر منشقاً، فقالوا: (سحر، ثم) أخبر عنهم أنهم إذا أتوا يجادلون قالوا: هذا سحر ((مبين)). قوله: {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ((و)) {وَقْراً} تمامان عند الأخفش. و {أَن يَفْقَهُوهُ} (تمام) عند غيره. و (بها) التمام الحسن عند أبي حاتم.

ومعنى {أساطير الأولين} أي: أحاديثهم. وقيل: أساجيع الأولين. وقيل: المعنى ما كتبه الأولون. ومعنى جدالهم المؤمنين أن ابن عباس قال: كان المشركون يجادلون المسلمين في الذبيحة، يقولون لهم: ما ذبحتم وقتلتهم تأكلون، وما قتل الله لا تأكلون وأنتم تتبعون أمر الله. (وواحد الأساطير " أسطورة " كأًُضْحوكة (وأُحدوثَة)، وقيل:) واحده " أَسْطار "، كأقوال، وأَسْطار جمع سَطَر، (يقال: سَطْر) وسَطَر. وقال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، كأبابيل ومذاكير وعباديد، وقد قيل: إن واحد الأبابيل " إِبيّل ". وقيل: هو " إِبّوْل "، كِعَجَّوْلِ.

26

قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية. المعنى أن الله أخبر عن المشركين أنهم ينهون الناس عن اتباع النبي والقبول منه، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يبعدون. قال ابن عباس: لا يأتونه ولا يدّعون أحداً يأتيه. فالهاء - على هذا - تعود على النبي. وقيل: المعنى أنهم ينهون [الناس عن] أن يستمعوا ما في القرآن، ويتباعدون هم عن استماعه، فالهاء للقرآن. وقيل: المعنى: أنهم ينهون الناس عن أذى محمد، (ويتباعدون هم) عنه، أي: عن اتباعه.

(و) روي عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب عم النبي عليه السلام ونفر من كفار قريش كانوا ينهون ((الناس)) عن أذى النبي ولا يؤمنون به، ولا بما جاءهم به، وكان أبو طالب ينهى أن يؤذى محمد، ويتباعد عن قبول ما جاء به. وهذا يدل على أنها في قريش. وكان الطبري يختار أن تكون عامة في المشركين، لأن أول الكلام جرى على العموم، فيكون المعنى على هذا: وهم ينهون الناس أن يتبعوه ويتباعدون عن اتباعه، وما {يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ} أي: ما يهلكون بصدهم عنك إلا أنفسهم، لأنهم يكسبونها سخط الله {وَمَا يَشْعُرُونَ} (أن) ذلك راجع عليهم. وقرأ الحسن {وَيَنْأَوْنَ (عَنْهُ)} بإلقاء حركة الهمزة على النون على

27

أصل التسهيل. قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} الآية. من قرأ برفع (نكذبُ) و (نكونُ) فعلى القطع، (أي: يا ليتنا) نرد، ثم ابتدأ على معنى: ونحن لا نكذب. هذا قول سيبويه، والمعنى عنده: ونحن لا نكذب رُددنا أو لم نُردّ، فإنما سألوا الرد وقد أوجبوا على أنفسهم أنهم لا يعودون للتكذيب ألبتة، رُدوا أو لم يُردوّا، ومثله عند سيبويه: " دعني ولا أعود ": أي: وأنا لا أعود. تركتني أو لم تتركني. ومن نصب فإنما أراد أن يكون " رد " يتبعه ترك عودة، كأنه في المعنى: إن رُددنا لم نعد للتكذيب. ومثله: " زرني وأزورَك "، (أي، لتكن

منك) زيارة وأن أزورَك، ولو رفعت لكان المعنى: وأنا أزورُك، زُرتَني أو لم تَزرْني. ووجه آخر في الرفع، وهو أن يكون معطوفاً على (نُرد)، كأنهم تمنوا أن يردوا، وتمنوا (ألا) يكذبوا / وأن يكونوا من المؤمنين. والأول أحسن، لأنهم لم يتمنوا هذا، إنما تمنوا الرد وادعوا أنهم إذا رُدوا لم يكذبوا وكانوا من المؤمنين. (والنصب) على جواب التمني، كأنه: يا ليتنا وقع لنا الردّ و (ألا) نكذب، فالواو في جواب التمني كالفاء، وقيل: المعنى في الرفع: لا نكذب واللهِ

ونكون - والله - من المؤمنين، وهو أيضاً منقطع. وأنكر جماعة النصب، وقالوا: هو خبر أخبروا به عن أنفسهم، ألا ترى أن الله كذبهم فيما أخبروا به، والكذب لا يقع إلا في جواب الخبر. وأنكر بعض النحويين أن يكون الجواب للتمني بالواو، وقالوا: إنما يكون بالفاء. وأجاز أبو إسحاق أن يكون التمني داخلاً في الخبر، قال: لأن الرجل الفاسق (يقول): " ليتني في الجنة "، فيقال له: كذبت، لو أردت ذلك لاتقيت الله. وقد قيل: إنه منصوب على الظرف، وإن معنى الكلام: أنهم تمنوا أن يوقفوا ((وهم) غير مكذبين، لأنهم وقفوا مكذبين، فتمنوا أن يوقفوا) على غير تلك الحال.

(والآية) عند أبي عمرو على التمني، ولا يجوز فيه صدق (ولا) كذب، وإنما كذب الله خبرهم، لا تمنيهم، وخبرهم هو قولهم: (ولا نكذب)، (ونكونُ)، (إن رددنا) فعلنا ذلك، فهذا خبر، فأكذبهم الله في ذلك الخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا في تمنيهم. أو يكون المعنى - على الرفع - (ولا نكذبُ)، (ونكونُ): أي: نفعل ذلك، رُددنا أو لم نُردّ، فهذا خبر منهم، فأكذبهم الله في ذلك، التكذيبُ إنما هو للخبر الذي أخبروا به عن أنفسهم، لا للتمني. وقال بعض النحويين: إنما يكون هذان الفعلان - في حال النصب - غير متمنَّيْن إذا كانا جواباً لِما في (ليتنا)، وتكون الواو الأولى بمعنى الفاء. فأما

إن كانت الواو على جهتها، ونصبت على الظرف منويا به الحال، فالفعلان متمنَّيان، والتكذيب للتمني وقع. ومن قرأ (ولا نكذّبُ) بالرفع، ونصب (ونكونَ)، فالمعنى: أنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين، وأخبرَوا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إنْ رُدُّوا إلى الدنيا. قوله {وَلَوْ ترى} فعل منتظر، وقوله و {إِذْ وُقِفُواْ}: فعلان ماضيان، وكذلك {فَقَالُواْ}، وكلها منتظرة لم تقع. وهو حسنٌ لطيف فصيح، غاية في البلاغة، لأن كل ما هو كائن - ولم يكن بعد - فهو عند الله بمنزلة ما قد كان، لصحة وقوعه على ما أخبر به عنه، ولِنفوذِ حكم الله به، وتقديره لوقوعه على ما أخبر به، فالكائن وغير الكائن سواء في علم الله. وقوله {وُقِفُواْ} بمعنى: حُبسوا، و {عَلَى النار} بمعنى " في النار "، بمنزلة قوله:

{على مُلْكِ سليمان} [البقرة: 102] أي: في ملكه. وقيل: معنى {وُقِفُواْ عَلَى النار}: أُدخلوها، كما تقول: " قد وَقفتُ على ما عندك "، أي: عَرفتُ حقيقته. وقيل: أوها. وقيل: رأوها. وقيل: جازوا عليها. و {إِذْ} بمعنى " إذا "، لأنه خبر لا بد أن يكون، فصارِ بمنزلة ما قد كان. يقال: " وقفتُ وقفاً للمساكين " و " وقفتُ أنا "، (وقِفْ) دابتك يا رجلُ. وحكي عن أبي عمرو أنه قال: ما علمت أحداً من العرب يقول: " أوقفتُ الشيء " بالألف، إلا أني لو رأيت رجلاً في مكان فقلت له: " ما أَوْقَفَكَ ها هنا؟ بالألف، لرأيته حسناً. وفي الآية معنى التعظيمِ لِما هُم فيه.

28

قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} الآية. المعنى: بل ظهر لهم في الاخرة من أعمالهم ما كانوا يخفون في الدنيا، {وَلَوْ رُدُّواْْ} إلى الدنيا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي: (لو وصل) الله لهم دنيا كدنياهم، لعادوا، {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما أخبروا به عن أنفسهم. فأعلمنا الله - في هذه الآية - أن ما لا يكون، كيف كان يكون، لو كان. وفي هذا دليل على قدم علمه بجميع الأشياء، لا إله إلا هو، لم يزل يعلم ما يكون كيف يكون، قبل كونه بلا أمد. قوله: {وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا} الآية. أي قال هؤلاء المشركون: ماَثمَّ حياة إلا حياة الدنيا، وما ثَمَّ بعث بعد الفناء، وهذه حكاية عنهم، وما كانوا يقولون في الدنيا. وقال ابن زيد: هي خبر

30

عنهم أنهم لو رُدّوا لقالوا ذلك، ولعادوا لما نهوا عنه. وقد كره قوم الوقف على {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} لقبح اللفظ بنفي البعث، ولو صح هذا، لكان الوصل كالوقف، ولوجب امتناع القراءة بهذا اللفظ، وهو قول ساقطٌ مردود، فالوقف على {بِمَبْعُوثِينَ} جائز حسن عند أهل العربية، ولا شناعة فيه، إنما هو حكاية عن قول المشركين، وقد جهل من منع ذلك واستخف به. قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق} الآية. المعنى: ولو ترى يا محمد هؤلاء القائلين: " ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين "، إذ حُبسوا (على ربهم): أي: على حكم ربهم وقضائه وعدله فيهم، فقيل لهم، أليس هذا الحشر والبعث بعد الممات - الذي كنتم تنكرونه في الدنيا - حقاً؟، فأجابوا: بلى وربنا إنه لحق، قال: فذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا جزاءً لكفركم وتكذيبكم. وقال: {وَلَوْ ترى}، فأتى بالمستقبل لأنه أمر ينتظر يوم القيامة، ثم قال: (إذ): و " إذ " لما مضى وانقضى، وقال: (وَقِفوا) ف {قَالُواْ}، فجاء بفعلين ماضيين قد كانا،

31

وإنما ذلك، لأن (كل ما) أعلمنا الله به أنه سيكون هو كالكائن الواقع، لصدق المخبِر بذلك ونفوذ علمه بكونه، فصار كالواقع الكائن، فأتى بلفظ الماضي. قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} الآية. المعنى: قد وُكس فيه بيعه من باع الإيمان بالكفر. وقيل: المعنى: " قد خسروا أعمالهم وثوابها ". ومعنى لقاء الله هنا: أنه البعث والنشور اللذان عندهما يكون لقاء الله والمصير إليه. ويجوز أن يكون معناه: كذبوا بلقاء ثوابه وعقابه - (وقد قيل) في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} [السجدة: 23] أي: في شك من لقاء موسى ربَّه وتكليمهِ له -، ولا يكون اللقاء في هذه الآية النظرَ إلى الله جل ذكره، لأنهم لم يؤمنوا بالبعث، فضلاً عن النظر إليه، وإذا لم يؤمنوا بالبعث، فأحرى ألا يؤمنوا بالنظر، لأن البعث يؤدي إلى

النظر إلى الله تعالى ذكره، يَرَاه المؤمنون يوم القيامة. وقد يكون اللقاء بمعنى القرب والنظر في غير هذا. ويكون اللقاء بمعنى السبب الذي يؤدي إلى اللقاء، مثل هذه الآية، ومنه قولهم: " اللهم بارك لنا في لقائك "، يراد به: بارك لنا في الموت الذي يؤدي إلى البعث الذي فيه لقاؤك، وقال الله: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله} [العنكبوت: 4] أي: يخاف الموت. و {بَغْتَةً} نصب على الحال، وهو مصدر في موضع الحال عند سيبويه، ولا يقاس عليه غيره. قوله: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}: هذا (حين) يرى أهل النار منازلهم من الجنة لو عملوا بعمل أهل الجنة، فيندمون على التفريط / في الدنيا، فيقولون: {يا حسرتنا} أي: تعال يا حسرة، فهذا وقتُك وإِبّانُكِ. والهاء في (فيها) عائدة على الصفقة، وهي التي ذكرت قبل في قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} أي: خسروا ببيعهم الايمان بالضلالة، ومنازلهم في الجنة

بمنازلهم في النار، فإذا جاءتهم الساعة، تبين لهم خسران بيعهم، وندموا صفقتهم فقالوا: {ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي: في الصفقة؟ ويجوز أن تعود الهاء على {الدنيا} [الأنعام: 29]، لأن فيها كان تفريطهم. وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} أي: " آثامهم وذنوبهم ". وخص " الظهر "، لأن الحمل قد يكون على غيره. وروي عن عمرو بن القيس المُلائي أن المؤمن إذا خرج من قبره، استقبله أحسن شيء صورة، وأطيبُه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟، فيقول: لا، إلا أن الله قد طيّب ريحك وحسّن صورتك. فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طال ما ركبتك في الدنيا، فاركبني، أنت اليوم، وتلا

{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} [مريم: 85]. (وإن) الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً، فيقول: هل تعرفني؟. فيقول: لا، إلا أن الله قد قبح صورتك ونتن ريحك. فيقول: كذا كنت في الدنيا، أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك. وتلا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ}. ورواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام بهذا المعنى، واللفظ مختلف. وقال السدي: (قوله): {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ}: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلاّ جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون منتن الريح، عليه ثياب دَنِسَة حتى يدخل معه في قبره. فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك!، قال: كذلك كان عملك قبيحاً. قال ما أنتن ريحك!، قال: (كذلك كان) عملك منتناً. قال: ما أدنس ثيابك! (قال كذلك) كان عملك دنساً. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك. فيكون معه في قبره. فإذا بعث يوم القيامة قال: إني كنت أحملك في الدنيا

32

باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ}. وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة، بعث الله مع كل امرئ مؤمن عمله، ويبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئاً يروعه ولا شيئاً يفزعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر بالذي يسرك، فإنك لست بالذي يراد بهذا ". ولا يرى الكافر شيئاً يفزعه ولا يروعه ولا يخافه إلا قال له عمله: " أبشر يا عدو الله بالذي يسوءك، فوالله (إنك) لأنت الذي (يراد بهذا) " ". وقوله: {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} معناه: بئس الشيء يحملون. قوله: {وَمَا الحياوة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية. هذه الآية تكذيب للكفار في قولهم: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] فأخبر الله تعالى أن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأخبر أن الدار الآخرة خير، على معنى: ولَعَمَل الدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون.

33

قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} الآية. المعنى: أن / (قد) في هذا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه، و (نعلم) بمعنى: " علمنا ". والتقدير: قد نعلم - يا محمد - إنه ليحزنك قولهم إنك كاذب، وإنك ساحر. {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} جهلاً منهم بصدقك، بل أنت - فيما يسرون - صادق، ولكنهم حسدوك فكذبوك، وهم يعلمون أنهم ظالمون لك، وأنك صادق، هذا على قراءة من قرأ بالتشديد. قال أبو عمرو: وتصديقها {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ} [الأنعام: 34]. ومعنى قراءة التخفيف - عند الفراء والكسائي -: هو من قولهم: " أكذبت الرجل "، إذا أخبرت أنه كاذب فيما قال فقط. و " كذّبته ": إذا أخبرت أنه كاذب في كل

ما يأتي به. وحكى أبو عبيدة: " أكذبت الرجل " إذا أخبرت أنه جاء بالكذب، و " كذّبته " إذا أخبرت أنه كاذب. وروي أن أبا جهل قال للنبي: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ}. ومعنى التشديد - عند غير هؤلاء - فإنهم لا ينسبونك إلى الكذب. ومعنى التخفيف فإنهم لا يجدونك كاذباً، كما يقال: " أحمدت الرجل "، إذا أصبته محموداً.

ويكون معنى التخفيف (أيضاً): لا يبيِّنون عليك أنك كاذب، يقال: " أكذبته "، إذا احتججت عليه وبيّنت (أنه كاذب)، وقال قطرب: " أكذبت الرجل ": دللت على كذبه. وروي " أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله يوماً وهو جالس حزين، فقال له: ما يُحزنك؟، فقال: كذّبني هؤلاء. فقال له جبريل: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} هم يعلمون أنك صادق، {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} ". ويروى أن الأخنس بن شريق الثقفي مر بأبي جهل (بن هشام) يوم بدر، فقال له: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، (أصادق) هو أم كاذب؟ فأنه ليس هنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا؟!، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبؤة،

34

فما يكون لسائِر قريش؟ فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} أي: عن يقين. وقيل معناه: فإنهم لا يكذبونك ولكن يكذبون ما جئت به، (وروي أن أبا جهل قال للنبي A: ما نتهمك، ولكن نتهم الذي جئت به). قوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} الآية. وهذه (الآية) تسلية للنبي A، أعلم أنه قد حل برسل من قبله مثل ما حل به، فصبروا على التكذيب والأذى، فاصبر أنت يا محمد كما صبروا حتى يأتيك الصبر كما أتاهم. (قوله): {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} أي: لما سبق في علمه، لا بد أن يكون. {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} أي: أتاك (نبأهم) أنهم كذبوا وأوذوا فصبروا

35

حتى أتاهم النصر. قوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} الآية. المعنى: وإن كان يا محمد عظُم عليك إعراض هؤلاء المشركين عنك وعن تصديقك، فلم تصبر، فعظم عليك أن يعرضوا إذ سألوا أن تنزل عليهم ملكاً، {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض} أي: سرباً فتذهب فيه، {أَوْ سُلَّماً فِي السمآء} تصعد فيه، - (في) بمعنى " إلى " -، {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}، فافعل. (و) السلم: المصعد هو مشتق من السلامة، كأنه يسلمك إلى الموضع الذي تريد. وجواب الشرط هنا محذوف، المعنى فافعل ذلك. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى}. أي على كلمة الحق، لفعل، ولكنه لم يفعل لسابق علمه أنه يهدي من

36

يشاء ويضل من يشاء، فليس الاهتداء بفعل للعبد، بل هو لله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء. {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} أي: ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه، وهذا يدل على رد (قول) من زعم أنْ ليس عند الله لطف يوفق به الكافر حتى يؤمن. وقيل: معنى الخطاب لأمة محمد، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين. ومثله في القرآن كثير. قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} الآية. المعنى: أن الله أعلم نبيه أنه إنما يستجيب لدعائه الذين فتح الله أسماعهم إلى سماع الحق، وسهل لهم اتِّباع الرشد. {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} أي: والكفار الذين هم عدد الموتى يبعثهم الله في عدد

37

الموتى الذين لا يسمعون صوتاً ولا يعقلون قولاً، {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} في القيامة. و {يَسْمَعُونَ} تمام عند الجميع. وقال الحسن: المعنى: أن الكفار مثل الموتى، والله يوفق منهم من يشاء إلى الإيمان فيكون ذلك بعثهم من موتهم. {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يوم القيامة. وقال مجاهد: معناه: حين يبعثهم الله {يَسْمَعُونَ} يعني الكفار، أي: إذا وفقهم الله يسمعون. قوله: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} الآية. أي قال هؤلاء العادلون بالله غيره: هلا نزل على محمد آية، أي: علامة، قل يا محمد: {إِنَّ الله (قَادِرٌ على) أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن الله إنما ينزل ما فيه الصلاح لعباده.

38

قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض} الآية. المعنى: أنه ليس طائر يطير ولا دابة إلا وقد أحصى الله عملها وآثارها وحركاتها، فهي تتصرف - كما يتصرفون - فيما سخرت له، ومحفوظاً عليها ما عملت من عمل، لها وعليها، حتى يجازى (به) يوم القيامة، لم تخلق عبثاً، فمن أحصى أعمال الطير وجميع البهائم هو قادر على إحصاء أعمالكم وتصرفكم أيها العادلون بالله. ومعنى {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي: يعرفون الله ويعبدونه. والأمم: الأجناس. وقال ابن جريج: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي: " أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ". قال أبو هريرة: ما من دابة في الأرض ولا طائر إلا سيحشر يوم القيامة ثم يقتص

لبعضها من بعض، حتى (يقتص للجماء) من ذات القرن، ثم يقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. وإن شئتم فاقْرَأوا: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض (وَلاَ طَائِرٍ) يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إلى {يُحْشَرُونَ}. ومعنى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} - وقد علم أنه لا يطير إلا بهما -: أن هذا كلام جرى على عادة العرب في لغاتها في التأكيد فخوطبوا بما يعلمون أنه مستعمل عند العرب، ((تقول العرب): " مشيتُ إليه برجلي " و " كلمته بفمي " فوكد الطيران ((بقوله)): (بجناحيه) على ذلك. وقيل: لما كانت العرب تستعمل لفظ " الطيران " في غير الطائر، فتقول لمن ترسله في حاجة: " طِ~ر في حاجتي "، تريد " أسرع ". ويقولون: " كاد الفرس يطير " إذا أسرع في جريه، فيعبرِّون بالطيران عما ليس له جناحان، ففرق

بذكر الجناحين بين المعنيين. ويكون " الطائر " عمل الإنسان اللازم له من خير وشر، ويكون " الطائر " من السعد والنحس، كقوله: {طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل: 47]، فبين في الآية /. أنه الطائر الذي يطير بجناحيه، لا غير. وقيل: معنى {(إِلاَّ أُمَمٌ) أَمْثَالُكُمْ} أي: خلقهم ودبّرهم ورزقهم وكتب آثارهم وآجالهم كما فعل بكم. (و) قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} أي: قد دللنا على كل شيء من أمر الدين في القرآن، إما دلالة مشروحة، وإما جملة. قال ابن عباس: " ما تركنا شيئاً إلاَّ قد كتبناه في أمِّ الكتاب "، يعني اللوح المحفوظ مما يكون وكان.

وقيل: المعنى: أن آثار هذه الأمم وآجالها وأرزاقها، كل مكتوب عند الله، فلم يفرط فيه في الكتاب الذي عنده، كل مكتوب فيه. ف (الكتاب) على هذا القول والذي قبله: هو اللوح المحفوظ و (الكتاب) في القول الأول: هو القرآن. وروي أن النبي عليه السلام قال: " إن الله قد حد حُدوداً فلا تنتهكوها، وسنَّ سُنناً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء - لم يدَعْها نِسياناً، كانت رحمة من الله - فَاقْبلَوها ". وقال A لابن عباس: " الأمور ثلاثة - يا ابن عباس - أمرَ بَانَ لك رُشُده فاتَّبِعْه، وأمر بَانَ لك غيُّه فاجتنبه، وأمرٌ غاب عنك فكِلْهُ إلى الله D ". وقيل المعنى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} مما يحتاجون إليه، يعني القرآن. وقوله {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} قال ابن عباس: " موت البهائم: حشرها ". قال الفراء:

39

" حشرها: موتها، ثم تحشر مع الناس فيقال لها: كوني تراباً، فعند ذلك يتمنى الكافر أنه كان تراباً ". وقيل: الحشر هنا: الجمع يوم القيامة. و" روي أن عنزين انتطحا، فقال النبي A: " أتدرون فيما انتطحا؟، قالوا: لا ندري. قال: لكنّ اللهَ يدري، وسيقضي بينهما " ". قوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ} الآية. المعنى: أن الله تعالى أعلمنا أن الكافرين بآيات الله {صُمٌّ} عن سماع الهدى، {وَبُكْمٌ} عن قول الحق، {فِي الظلمات} أي: في الكفر، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بما سمعوا ولا قالوا ما ينتفعون به، كانوا بمنزلة الصم والبكم، ثم أخبر تعالى أنه المضل لمن يشاء من خلقه عن الإيمان، وأنه يهدي من يشاء إلى الحق والصراط المستقيم، كل ذلك قد تقدم (في) علمه. والتمام عند بعضهم: {فِي الظلمات}. قوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} الآية.

حكى أبو (عبيد) عن ورش في " أرايت " و " أرايتكم " أنه يحقق الأولى، ويسقط الثانية ويعوض منها ألفاً. فمن أجل هذه الرواية رواه جماعة عن ورش بالمد. والذي عليه أهل العربية أنه يسهل الثانية فيجعلها بين الهمزة والألف، فلا يقع فيه إشباع مدُّ. وقد قرأنا فيه لورش بالمد على القول الأول.

واختُلف في الكاف: فقال البصريون: لا موضع لها من الإعراب، وإنما هي للمخاطبة. وقال الكسائي: هي في موضع نصب لوقوع الرؤية عليها، والمعنى: أرأيتم أنفسكم. وقال الفراء: هي في موضع رفع، لأنه لم يرد أن يوقع فعل الرجل على نفسه، لأنه يسأل عن غيره. وفرق الكسائي بين (رؤية) القلب والعين: فأسقط الهمزة من رؤية القلب، (لأن رؤية القلب) معناها: أخبروني عن كذا. وليس ذلك في رؤية العين. ففرق - بطرح الهمزة - بين المعنيين، وهو خطاب للكفار.

41

/ ومعنى الآية: أخبروني أيها العادلون بالله غيره إنْ أتاكم عذاب الله، كالذي جاء من كان قبلكم من الامم الظالمة، أو جاءتكم الساعة فبُعثتم للعرض، أغير الله تدعون في ذلك الوقت إن كنتم محقّين في دعواكم أن آلهتكم تنفع وتضر. قال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} الآية. أي إليه تستغيثون، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} (أي) فيكشف الضر الذي من آجله دعوتم. {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي: تنسون شرككم إذا أتاكم العذاب. فقوله: {إِنْ شَآءَ} مشيئة قدرةٍ، و (هو لا يشاء أن يكشف) عنهم العذاب عند نزوله، (لقوله): {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ} الآية. (هذه الآية) تحذير للعادلين بالله غيره أن يتمادوا على ظلمهم فيهلكهم الله بالبأساء والضراء، كما أهلك من كان قبلكم حين كذبوا الرسل. والبأساء: شدة

43

الفقر والضيق في المعيشة، والضراء: الأسقام والعلل في أجسامهم. وقيل: البأساء: الجوع والفقر، والضراء: نقص الأموال والأنفس. وقال القتبي: " (البأساء): الفقر وهو البؤس، والضراء: البلاء ". وفي الكلام حذف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً، فكذبوهم، فأخذناهم. ومعنى {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي: ليكونوا على رجاء من التضرع، هذا مذهب سيبويه. والتضرع: التفعل من الضراعة، وهو الذل والاستكانة. قوله: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا} الآية. " المعنى: فهَلاّ إذ جاءهم بأسنا تضرّعُوا "، أخبر الله D عنهم أنهم قد بلغ

44

(منهم - من القسوة -) ما تركوا التضرع معها، والطلبة عند اتيان العذاب. وتحقيق المعنى: لعلهم يتضرعون فلم يتضرعوا، {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} فيصرف عنهم العذاب. {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: أقاموا على التكذيب وأصروا عليه وزيّن لهم الشيطان أعمالهم. قوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الآية. المعنى: فلما تركوا العمل بما أُمروا به على ألسن الرسل. وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: استدرجناهم بالنعم التي كنا متعناهم إياها. روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إذا رأيتَ الله يُعطي العبدَ مَا يُحِبّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنّما ذلك استدراج " ثم نوع بهذه الآية {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (إلى قوله {رَبِّ العالمين}.

ومعنى: {أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: كل شيء) كان قد أَغلق عنهم من الخير، جَعل مكان الضراء الصحة والسلامة، ومكان البأساء الرخاء والسعة، حتى إذا فرحوا بما فتح عليهم من النعيم والصحة اللذين كانا قد أَغْلَقَ عنهم، {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} أي: أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا يعلمون. قال ابن جريج: أخذوا أعجب ما كانت الدنيا إليهم. {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} قال السدي: معناه، هالكون قد انقطعت حجتهم، نادمون على ما سلف منهم. وقال بعض (أهل) اللغة: معنى {فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا}: ظنوا أنهم إنّما أوتوا / ذلك استحقاقاً، قال: والمبلس: الشديد الحسرة الحزين.

45

قال ابن زيد: الإبلاس أشد من الاستكانة. وروي عن النبي عليه السلام (أنه) قال: " إذا رأيتَ اللهَ يُعطي عبدهَ في دُنياهُ، فإنّما هو اسْتِدراجٌ "، يعطي: يوسع عليه دنياهُ وهو لا يقلع عن المعاصي، يدل على ذلك الحديث الذي بعده، " ثم تلا هذه الآية {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الآية. وعنه A أنه قال: " إذا رأيتَ اللهَ يعطي العِبادَ ما يشاءون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم "، ثم تلا الآية. وقيل: الإبلاس: انقطاع الحجة والسكون. وقيل: هو الندم والحزن على الشيء يفوت. وقيل: هو الخشوع. وقال القتبي: " (مبلسون): يائسون ". قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم (الذين ظَلَمُواْ)} الآية.

46

المعنى: فاستُؤْصِل القوم الذين ظلموا، فلم يبق منهم أحد إلا هَلَكَ بغتة. والدّابِر: الآخِر. وإذا قطع دابرهم فقد قُطعوا، ولأن الآخِر لا يوصَل إليه إلا بعد أوّلٍ. {والحمد للَّهِ} أي: الثناء التام لله على نعمه على رسله وأهل طاعته بإظهار حجتهم على من خالفهم من أهل الكفر. قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ} الآية. روى ابن (عامر) عن أصحابه عن ورش: (بِهُ انظُر) بالضم للهاء، وكذلك روى ابن سعدان عن (المسيبي)، وهي قراءة

الأعرج، أتوا بالهاء على أصلها، وهو الضم. وإنما كسرت - في قراءة الجماعة - لأجل كسرة الباء قبلها، لئلا يخرج من كسر إلى ضم، وذلك ثقيل. وقيل: إنما كسرت الهاء، لأنه ليس في الكلام " فِعْلُ "، والضم هو الأصل. والمعنى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين بالله الأوثان: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ}، فذهب بها، {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ}، أي: طبع عليها، فلا تسمعون ولا تبصرون ولا تعقلون، من معبود غير الله يرد عليكم ما ذهب (عنكم)؟، وهذا (تعليم من الله) لنبيه الحجة على المشركين. ثم قال لنبيه: انظر:

47

كيف نصرف (لهم) الآيات أي: كيف نتابع لهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال، ثم هم - مع ذلك - يصدفون، أي: يعرضون قاله مجاهد وجماعة معه. وقال ابن عباس: يعدلون. وقال السدي: يصدون. وقوله: {يَأْتِيكُمْ بِهِ}: الهاء تعود على السمع، وقيل: المعنى: يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار، فوحدت الهاء لأنها مكان " ما "، وقيل: الهاء كناية عن الهدى. {يَأْتِيكُمْ بِهِ} تمام عند نافع وغيره. قوله: {قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إنأتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً} الآية. المعنى: قل يا محمد لهم: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة، أي: فجأة

48

على غَرّة، أو أتاكم جهرة، أي: وأنتم تجاهرونه، أي: تعاينونه، {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} أي: (لا) يُهلِك اللهُ منا ومنكم إلا من ظلم فعبد مَن (لا) يستحق العبادة، وترك عبادة من يستحق العبادة. قوله: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ (مُبَشِّرِينَ)} الآية. المعنى: أن الله أعلمنا أنه إنما يرسل الرسل مبشرين أهل الطاعة بالجنة والفوز، ومنذرين أهل الخلاف والكفر بالنار على فعلهم، لم يرسلهم ليقترح عليهم الآيات بل تصحبهم منها ما يدل على صدقهم مما يريد الله، {فَمَنْءَامَنَ} أي: صدق بالرسل، {وَأَصْلَحَ} أي: (عمل) صالحاً في الدنيا، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}

49

في الآخرة ولا حُزُنٌ. / قوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب} الآية. قرأ يحيى بن وثاب {يَفْسُقُونَ} بكسر السين، لغة معروفة. وقرأ الحسن والاعمش {العذاب بِمَا} بالإدغام. وقال ابن زيد: " كل " فسق " في القرآن فمعناه: الكذب ". والمعنى: والذين جحدوا ما جاءتهم به رسلهم يمسهم العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل. قوله: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} الآية. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين بالله: لست أقول لكم عندي خزائن الله أي: لست أقول: إني أنا الرب الذي بيده خزائن السماوات والأرض، ولست أعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الرب، {ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهراً بصورته لأبصار البشر في الدنيا فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك، {إِنْ أَتَّبِعُ}:

51

(أي ما أتبع)، {إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ}. و (كل هذا) تنبيه من الله لنبيه على مواضع الحجة على مشركي قريش. ثم قال: قل (لهم) يا محمد: هل يستوي الأعمى عن الحق والبصير به. و {الأعمى}: الكافر: لأنه عَمِي (عن) حجج الله. و {البصير}: المؤمن، لأنه أبصر حجج الله وآياته، فاهتدى بها، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فيما أقول لكم. وقيل: المعنى: لا أقول لكم عندي خزائن الله التي فيها العذاب، لقولهم: {ائتنا بِعَذَابِ الله} [العنكبوت: 29]. قوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا} الآية. هذه الآية أمر من الله للنبي أن ينذر بالقرآن الذين يخافون الحشر والحساب والعقاب وقد صدقوا به وآمنوا. واختص هؤلاء، لأن الإنذار ينفعهم،

52

إذْ هُم قابلوه ومصدقوه. والخوف: بمعنى العلم، أي: يعلمون ذلك ويَتَيقَّنُونَه، وقد أُرسل النبي عليه السلام لإنذار الخلق كافة. وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ}: هذا رد لقول اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (بالغداة والعشي)} الآية. قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين}: جواب النهي، و {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي. والتقدير: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء فتَطرُدهم: آخِرُ الكلامِ لأَوَّلِه، وأوسطُهُ لأِوسَطِهِ.

وهذه الآية نزلت في سبب جماعة صحبوا رسول الله - من ضعفاء المسلمين - فقالت قريش للنبي - وعنده صهيب وعمار بن ياسر وبلال وخباب، ونحوهم من الضعفاء -: يا محمد، رضيت بهؤلاء (من قومك، أهِؤُلاء) {مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} [الأنعام: 53]، أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟، اطْرُدْهم، فلعلك إنْ طَرَدْتَهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية. وروي عن خباب أنه قال: جاء ناس من المشركين والنبي A جالس مع بلال وصهيب وخباب وعمار في أناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقّروهم، فأتوا فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب

فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعْبُدِ، فإذا جئناك فَأَقْصِهِم، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال نعم. فقالوا: فاكتب (لنا عليك) / بذلك كتاباً. قال: فدعا النبي A بالصحيفة ودعا عليّاً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل بقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية، ثم قال له: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] الآية، ثم قال (له): {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] الآية. فألقى النبي الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54]، فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم

تَرَكَنا، فأنزل الله {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] (الآية)، فكان رسول الله يقعد معنا بعد ذلك، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، (قمنا) وتركناه حتى يقوم. وقال الفضيل في هذه الآية: جاء قوم إلى النبي A فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب، فاسْتَغِفر لنا، فأعرض عنهم، فأنزل الله D: { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54] الآية. وقيل: إنما أراد المشركون أن يطرد النبي A الفقراء، (فيحتجوا عليه إذ لم يتبعه الفقراء، ويقولوا: إن أتباع النبي الفقراء). فعصمه الله مما أرادوا به.

وقال الكلبي: (أبو طالب) عم النبي (هو الذي) قال للنبي: اطْردْ فلاناً وفلاناً. وإنّ ناساً من أصحاب النبي قالوا: يا رسول الله، صدق عمك فاطرد عنا سفلة الموالي. فعاتبهم الله في الآية الأولى، فجاءوا يعتذرون من قولهم " أطردهم "، فأنزل الله {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]. ومعنى: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} قال مجاهد: (هي) " الصلاة المفروضة: الصبح والعصر ". وقال ابن عباس: هي الصلوات المفروضة الخمس، وقاله الحسن. وكذلك قالوا كلهم في قوله: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} [الكهف: 28]. وقال قتادة والضحاك: هي صلاة الصبح والعصر. وعن ابن عمر قال: يشهدون المكتوبة.

53

وقيل: معنى - الدعاء - هنا -: ذِكرُهم الله غدوةً وعشياً. وقيل: الدعاء هنا: العبادة. وقيل: هو إِقْراء القرآن. وقال الحسن: يعني الصلاة التي فرضت بمكة: ركعتان غدوة وركعتان عشية، وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس. وقال عمرو بن شعيب: هما صلاة الصبح وصلاة العصر. وقد قيل: إنهم القُصَاصَ. وأنكر ذلك جماعة من الصحابة والتابعين. وروي أنهم سألوا النبي أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول. والتمام هنا: {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين}، لأنه جواب النهي، وقد قيل: {فَتَطْرُدَهُمْ} تمام، وليس بجيد. قوله: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية.

54

المعنى: وكذلك ابْتَلَيْنا بعضهم ببعض)، أي: جعل بعضا فقيراً، وبعضاً غنياً وبعضاً ضعيفاً، وبعضاً قوياً، فأحوج بعضهم إلى بعض اختباراً منه لهم. قال ابن عباس: قال الأغنياء للفقراء: {أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ} فهداهم؟، استهزاءاً منهم وسخرياً. ومعنى اللام: أنه لما آل عاقبة أمرهم إلى هذا القول، صاروا كأنهم إنما احتبروا (لِيَقولوا)، بمنزلة {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. (و) قوله: {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} أي: الموحدين. قوله: {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الآية. هذه الآية عني بها الذين تقدم / ذكرهم في النهي عن طردهم. وقيل: عنى بها قوماً أصابوا ذنوباً عظاماً، فاستفتوا النبي فيها، فلم يُؤَيّسْهم الله من

رحمته. وقيل: عنى بها قوماً من المسلمين كانوا قد أشاروا على النبي بطرد الذين نهى الله عن طردهم، فكان ذلك منهم خطيئة، فاعتذروا من ذلك، فأُخبِروا في الآية أنه من تاب قُبِل منه، هذا على قول عكرمة وابن زيد. ومعنى {سواءا بجهالة} أي: من عمل ذنباً وهو جاهل به. ومعنى {كَتَبَ}: أوجب ذلك وقيل: " كتب في اللوح المحفوظ ". والوقف فيها مفهوم، لا يحسن أن يبتدأ بـ (أن) وهي مفتوحة، ولا بالفاء في (فَإِنَّه)، كسرتَ (أن) أو فَتَحْتَها، وتبتدئ بـ (إِنْ) إذا كسرتها،

55

وهي الأَوْلَى فاعلم. قوله: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ} الآية. المعنى: و (كما) فصلنا لك يا محمد ما تقدم، نفصل (لك) الأعلام والحجج الدّالة علينا فيظهر لك طريق المجرمين، وتعلم باطل ما هم عليه. واللام متعلقة بفعل محذوف دل عليه (نُفَصِّل). والمعنى: لتستبين سبيلَ المجرمين (فَصَّلناها، وهذا خطاب للنبي والمراد به أمّته، والمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين)، فأما النبي A فقد كان عالماً بطريقهم، وأنهم على باطل. هذا على قراءة من نصب " السبيل ".

56

فأما من رفع، ففي الكلام حذف، والمعنى: ولتستبين سبيل المجرمين (والمؤمنين) فصلناها. ومعنى: {نفَصِّلُ الآيات} نأتي بها متفرقة شيئاً بعد شيء لتُفهم على مهل. قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ} الآية. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: إني نهيت أن أعبد أصنامكم الذين تقولون إنها تقربكم إلى الله زلفى، ولا أتبع أهواءكم التي عبدتم بها ما لا يجوز أن يُعبد، {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} أي: قد ضللت إن عَبدتُها، {وَ (مَآ أَنَاْ) مِنَ المهتدين}، أي: من المتّبعين الهدى إنْ فعلتُ ذلك. قوله: {قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} الآية. المعنى: {قُلْ}: لهم يا محمد: {إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}: أي: حجة ظاهرة، وهي النبوة

قد ظهرت لي. وكذبتم أنتم به: أي: بربكم. وقيل: بالقرآن. وقيل: بالبيان وقيل: بالعذاب. {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} يريد من النقم والعذاب الذي تقترحون به، أي ليس ذلك بيدي، ما الحكم إلا لله في عذابكم وإمهالكم. {يَقُصُّ الحق} أي: يقضي القضاء الحق، {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أي: الحاكمين.

58

وفي قراءة عبد الله: (وهو أسرع الفاصلين). {وَكَذَّبْتُم بِهِ} وقف، {تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} وقف. قوله: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الآية. المعنى: {قُل} يا محمد لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب: {أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب، لَجِئتُكم به، فيُقضى الأمر بيني وبينكم، ولكن ذلك بيد الله، وهو أعلم بالظالمين، أي: متى يهلكهم. وقيل: معنى {لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}: لذُبِحَ الموت، قاله ابن جريج، يريد به معنى قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر} [مريم: 38]. يروى " أن أهل الجنة والنار إذا استقر كل واحد في موضعه، أُتِيَ بالموت في

59

صورة / ما شاء الله فيُذْبَح بِمَرأَىً من الجميع، ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ لا موت، ويا أهل النار خُلودٌ لا موت " هذا معنى الحديث لا لفظه. فهو الذي قال النبي لهم: {لَقُضِيَ الأمر}، وهو التفسير في قوله {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} [مريم: 38]. {وَبَيْنَكُمْ} وقف حسن. قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} الآية. واحد المفاتح: مِفَتح، بكسر الميم وفتحها، والمعنى: وعند الله خزائن الغيب. قال ابن عباس: مفاتح الغيب خمس في آخر " لقمان ": {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34]

إلى {خَبِيرٌ} [لقمان: 34]. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: ما تغيض الأرحام، وما في غد، ومتى يأتي المطر، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأيّ أرضٍ تموت " ورواه ابن عمر عن النبي عليه السلام. {إِلاَّ هُوَ}: تمام. وقوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}: أي: ما تسقط من ورقة في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا الله يَعلَمها، {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض} أي: بطون الأودية، ولا رطبها ولا يابسها، {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ، مرسوم فيه عدده ووقته في اخضِراره ويُبسِه وسقوطه. وكل ذلك عن علم الله غيرُ خارج، وإنما أثبتت في اللوح امتحاناً لحَفَظَة الخلق. فقد روي أنهم مأمورون بكتابة

60

أعمال العباد، ثم يَعرِضها على ما أثبته تعالى في اللوح المحفوظ. قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض (من) شجرة ولا مغرِز إبرة إلا عليها (ملك) موَكّل يأتي الله بعلمها: يُبْسها إذا يَبِسَت، ورطوبتها إذا رَطُبَت. وقيل: المعنى في كَتْبِها: أنه لتعظيم الأمر، فمعناه: اعلموا أن هذا الذي ليس فيه ثواب ولا عقاب مكتوب، فكيف ما فيه ثواب وعقاب؟ قوله: {وَهُوَ الذي يتوفاكم} الآية. المعنى: قال لهم يا محمد: إن الله أعلم بالظالمين، وإن الله عنده مفاتح الغيب، وإن الله هو الذي يتوفاكم، (أي): يقبض أرواحكم من أجسادكم

بالليل، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار}: أي: ما اكتسبتم من الأعمال بالنهار. وأصل الاجتراح: عمل الرجل بجارحة من جوارحه: يَدِه أو رِجليه، فكثر ذلك حتى قيل لكل مكتسب (شيئاً بأيّ أعْضاء جسمِه كان: " (مجترح) "، ولكل مكتسب) عملاً: " جارح ". ومعنى: التوفَّي: استيفاء العدد وقوله: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظكم من منامكم في النهار. الهاء في (فيه) تعود على " النهار "، لأن الإنسان يتمادى به النوم حتى يصير في النهار فينتبه، فلذلك بَعثُهُ. وقال ابن جبير: (يَبعثُكم فيه): في المنام.

61

{ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى}: أي: ليقضي الله الأجل (الذي سماه لحياتكم، ثم يأتي الموت الذي مرجعكم منه إلى الله)، فينبئكم بما كنتم تعملون في الدنيا. و {أَجَلٌ مُّسَمًّى}: الموت. {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} بعد الموت. قوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} الآية. المعنى: وهو الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته، قد قَهَرَهم بالموت، ليس كأصنامهم (المقهورة)، المذللة، المَعْلو عليها، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} هي الملائكة، يتعاقبون بالليل والنهار، يحفظون أعمال العباد ويكتبونها، لا يفرطون في إحصاء ذلك، ويحفظونه مما لم يُقدَّر عليه، فإذا جاء أحدَهم الموت، توفته الرسل التي تقبض الأرواح، وقابض الأرواح هو ملك الموت، / إلا أن الله جعل له أعواناً، فهم

يقبضون (الأنفس) بأمر ملك الموت، فلذلك قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}، ولم يقل: " رسولنا ". قال ابن عباس: " لملك الموت أعوان (من الملائكة) ". قال قتادة: تلي الملائكة قبض النفس وتدفعها إلى ملك الموت. وقال الكلبي: ملك الموت يتولى، ثم يدفع النفس إلى ملائكة الرحمة إنْ كان مؤمناً، وإلى ملائكة العذاب إن كان كافراً. قال مجاهد: جُعلت الأرض لملك الموت (مثل الطست)، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان يتولون ذلك، ثم يقبضها هو منهم. قال مجاهد: " ما من

أهل بيت شَعَر ولا مَدَر إلا وملك الموت يطوف بهم كل يوم مرَّتين ". وروى (البراء) بن عازب أنه سمع النبي عليه السلام يقول: " إذا كان العبد عِندَ انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه (ملائكة من السماء)، بيضُ الوجوه كأنّ وجوهَهم الشمس (حتى يقعدوا) منه مَدَى البصر، ويجيء ملك الموت معهم حتى (يقعد) عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، أُخرُجي إلى مغفرة (من) الله ورضوان، فتخرج تسيل كما (تسيل القطرة) في السقاء، فيأخذها ملك الموت في يده، فإذا وقعت في يده، لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه، فيجعلونها في كفن من الجنة وحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة ".

" قال الحسن: (إذا احتضر) المؤمن (احتضره) خمس مائة ملك يقبضون روحه فيعرُجون به ". والأجساد هي التي تموت، فأما الأرواح والأنفس فهي حية عند الله، ودل على ذلك قوله: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93]، فلو كانت النفس تموت لم يكن لها نزل،

62

وقوله: {قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون: 99 - 100] أي: تقول النفس: أَرْجِعني إلى جَسَدي لعلي أعمل صالحاً، فلو كانت النفس تموت بموت (الجسد)، ما سألت الرَجعَة. قال عبد الملك: ولا يقول " إن النفس والروح يموتان بموت الجسد " إلا رجل جاهل بأمر الله، أو رجل منكر للبعث، وقد قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} [الزمر: 42]، فلو كانت النفس تموت بموت الجسد ما أمسكها، وليس يُمْسَك إلا حيٌّ. قوله: {ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق} الآية. المعنى: ثم ردت الأنفس إلى الله مولاهم الحق. وقرأ الحسن (الحَقَّ) بالنصب على " أعني ".

63

{أَلاَ لَهُ الحكم} أي: القضاء، {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} أي: أسرَعُ من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم، وقيل: معناه: يعلم أعمالكم بلا معاناة، ويحصيها بلا حساب ولا عدد، لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة أحد، فذلك غاية السرعة في المحاسبة. {الحق} تمام، و {الحك}: تمام. و {مَوْلاَهُمُ}: وقف على قراءة الحسن. قوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر} الآية. {تَضَرُّعاً}: مصدر. وقيل: هو حال على معنى: ذوي تضرع. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء العادلين: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر، أي: كروبهما، إذا ضللتم وتحيرتم فلم تهتدوا، وأخذتم في الدعاء (تقولون): لئن أنجيتنا، أي: من هذه الظلمات التي / نحن فيها، يفعلون ذلك جهرة

65

و (خفية)، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي: من المؤمنين. ثم قال: (قل) لهم يا محمد: {الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا} الآية. أي من الظلمات والهلاك، وينجيكم من كل كرب سوى ذلك فيكشف، {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} في عبادة ربكم. قوله: {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ} الآية. " {شِيَعاً}: نصب على الحال، أو المصدر ". والمعنى: قل لهم يا محمد: الله القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، جزاء لشرككم به بعد إذ (نجاكم مما) أنتم فيه. والعذاب الذي (هو) من فوقهم: هو الرجم، والذي من تحت أرجلهم: الخسف، قاله ابن جبير ومجاهد والسدي.

وقال الفراء {مِّن فَوْقِكُمْ}: المطر والحجارة والطوفان، و {مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: الخسف. وقال ابن عباس: العذاب الذي (هو) من فوق: أئمة السوء، والذي من أسفل: خدمة السوء وسفلة الناس. وقال الضحاك: {مِّن فَوْقِكُمْ}: من كباركم، {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: من سفلتكم. (و) قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (أي) يخلطكم (فرقا، من " لَبَست عليه الأمر ": أخلطته فمعناه: يخلطكم) أهواء مختلفة مفترقة.

وقال الفراء: {يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي: ذوي أهواء مختلفة. وقرأ المدني {يَلْبِسَكُمْ} بضم الياء، من " ألبس ". وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أصل هذا من " ذوق الطعام "، ثم استعمل في كل ما وصل إلى الرجل من حلاوة أو مرارة أو مكروه. (قال (ابن عباس): يعني بالسيوف. و) قال ابن عباس: " يسلط (بعضكم) على بعض بالقتل ".

وقد قيل: إنه عني بهذا المسلمون من أمة محمد. قال النبي عليه السلام: " إني سألت الله في صلاتي هذه ثلاثاً - وأشار إلى صلاة صبح كان قد أبطأ فيها - قال: سألته ألا يُسَلّط على أمتي السّنة، فأعطانيه، وسألته ألا يلبسهم شيعاً، وألا يُذيق بعضَهم بأسَ بعضٍ، فمنعنيهما ". وروى جابر أن النبي عليه السلام قال: - " لما نزل عليه {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} -: أعوذ بوجهك. فلما نزل {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال: هاتان أيْسَرُ وأَهْوَنُ ". قال الحسن قوله: {أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}: هذا للمشركين {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}: هذا للمسلمين. ثم قال: انظر يا محمد {كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، أي: يفقهون ما يقال لهم.

66

قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق} الآية. المعنى: وكذب يا محمد بما تقول وتخبر - من الوعد والوعيد - قومك، وهو الحق. فالهاء ترجع إلى القرآن. وقيل: إلى " التصريف "، أي: وكذب بتصريف الآيات قومك. وقيل: ترجع على محمد، أي: وكذب بمحمد قومه، وهو الحق. ثم قال: {قُل} (يا محمد لهم) {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: بحفيظ ولا رقيب، إنما أنا رسول. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخ هذا آية السيف. ولا يَحسُن نَسْخُ هذا عند أهل النظر والمعاني، لأنه خبر.

وقوله: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} أي: لكل خبر قرار يستقر عنده، ونهاية ينتهي إليها فيعلم حقه وصدقه من / كذبه، {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} صحة ما أقول لكم، وهو ما أوعدهم به من العذاب، فظهر ذلك يوم بدر. قال السدي: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق}، قال: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحق ". قال السدي: وأما {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب ". وكان الحسن يتأول ذلك أنها الفتنة التي كانت بين أصحاب محمد بعده. وقال النحاس: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} هو تهديد إما بعذاب الآخرة، وإما بالأمر بالخوف، والمعنى: لكل خبر توعدون به وقتٌ يحدث فيه، وأجل ينتهي إليه فيكون ذلك، والنبأ: الخبر.

68

قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فيءَايَاتِنَا} الآية. المعنى: وإذا رأيت - يا محمد - المشركين الذين يخوضون في آيات الله، وخوضهم فيها: استهزاؤهم بها وتكذيبهم لها، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: فَصُدَّ عَنْهمُ بِوجهِك، وقُمْ عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله. (و) قوله: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان}: أي: إن أنساك الشيطان نهي الله لك عن الجلوس معهم في حال استهزائهم، ثم ذكرت ذلك، فقم عنهم ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي يستمعون منه، فإذا سمعوا استهزأوا، فنهي النبي A عن مجالستهم إذا استهزأوا (إلا أن ينسى)، فإن نَسِيَ ثم ذَكَرَ، أمرُ أن يقوم عند التّذكّر. قوله: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم} الآية. المعنى: أنه ليس على من اتقى الله من حساب هؤلاء الخائضين شيء، أي:

ليس (عليه) من إثمهم شيء إذا اتقى ما هم فيه. وليس المعنى: ليس عليه شيء من إثمهم إذا جالسهم في حال خوضهم، (إنما المعنى: ليس (عليه) شيء إذا لم يجالسهم في حال خوضهم)، لأن الله قال: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]: أي: حتى يخوضوا في غير الكفر والاستهزاء بآيات الله. ومعنى: {ولكن ذكرى} أي: إذا ذكرت فقم، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (أي) الخوض فيتركونه، هذا قول السدي. وقيل: إن المعنى ليس على الذين يتقون من حسابهم (من) شيء إذا قعدوا إليهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب} [النساء: 140] الآية، روي ذلك عن ابن

70

عباس. ونَسْخُ مثلِ هذا لا يحسن، لأنه خبر. قال الكلبي: قال أصحاب النبي: إنا كنا كلما استهزأ المشركون بكتاب الله، قمنا وتركناهم لم ندخل المسجد ولم نطف بالبيت، فرخص الله للمسلمين الجلوس معهم، وأُمروا أن يُذَكِّروهم ما استطاعوا. و {ذكرى} في موضع نصب، على معنى: فأعرضوا عنهم ذكرى، وتكون في موضع رفع على معنى: لكن إعراضهم ذكرى لأمر الله. قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الآية. المعنى: أنه أمر من الله لنبيه أن يترك هؤلاء الذين هذه صفتهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف.

(و) قوله: {وَذَكِّرْ بِهِ} أي: ذكر بالقرآن (كراهة) {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}: أي: تسلم (بعملها، غير قادرة على التخلص. (وقال الزجاج): " والمُسْتَبْسِل: المُسْتَسْلِم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص ". وقال الفراء: ترتهن. وقيل: تُحبس. وقيل: تفضح، (قاله) ابن

عباس. وقيل: تُجزى، وهو قول الحسن، وبه قال الأخفش والكسائي. وأصل الإبسال: التَّحريم، يقال " أَبْسَلْت المكان ": حرَّمته. فالمعنى: ذكِّر بالقرآن من قبل / أن تُسلم نفس بذنوبها، {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} يخلصها. فالهاء في (به) للقرآن. وقيل: على التذكر. وقيل: على الدين، أي: ذكر بدينك.

71

ثم قال: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أي: تفد كل فداء لا يقبل منها، قال قتادة والسدي: لو جاءت بملء الأرض ذهباً ما قُبِل منها. {أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} أي: ارتهنوا بذنوبهم وأسلموا لها، (لهم شراب من حميم) أي: في جهنم، {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بما اكتسبوا من الأوزار في الدنيا. قال ابن عباس: {أُبْسِلُواْ}: فضحوا. وقال ابن زيد: أُخذوا. قوله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا} الآية. قرأ ابن مسعود (اسْتَهْواه الشَّيطان) وعن الحسن: (استهوته الشَّياطون بالواو، وهو لحن.

ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء العادلين، واحْتَجَّ عليهم، فقل: أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا، أي: أندعو خشباً وحجراً لا يقدر على نفع ولا ضر، {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} أي: نرجع القهقري، إن فعلنا ذلك - والعرب تقول لكل من لم يظفر بحاجته: " قد رُدَّ على عقبيه " فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين، أي: زينت له هواه، ({حَيْرَانَ} أي) في (حال) حيرته. {لَهُ أَصْحَابٌ}: أي: لهذا الحيران - الذي على غير محجة - أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا. وهذا مثل ضربه الله لمن كفر بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله، وأصحابه - الذين كانوا معه على الهدى - يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه، وهو يأبى ذلك. وقيل: (هو) في أبي بكر (الصديق) Bهـ وزوجته كانا يدعوان ابنهما عبد الرحمن إلى الإسلام.

ومعنى {ائتيا}: أطعنا، والمعنى: أَنْ ائتنا. قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا ديننا واتركوا دين محمد، فقال الله: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله} الآية، فمثلكم - إن كفرتم بعد الايمان - كمثل رجل كان مع قوم على طريق، فَضَلَّ الطريق، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق يدعونه إليهم، يقولون: " ائتنا، فإنا على الطريق "، فأبى أن يأتيهم، والطريق هو الإسلام. وروي عن ابن عباس أن المعنى: أنه مثل لرجل أطاع الشياطين، وحَادَ عن الحق وله أصحاب على غير هدى يدعونه ويزعمون أن ذلك هو الهدى، فأكذبهم الله وقال: {قُلْ} يا محمد: {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى}، وقل: أُمِرنا كي نسلم لرب العالمين، أي: نخضع له ونطيعه. {حَيْرَانَ}: تمام عند جميعهم. وقال نصير: {فِي الأرض} التمام، ورُدَّ ذلك

72

عليه، لأن (حَيْرَان) منصوب على الحال. قوله: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} الآية. {أَنْ} في موضع خفض، عطف على {الهدى} [الأنعام: 71]. أو عطف على (أَنْ) الناصبة للفعل في (نُسْلِم). ويجوز أن تكون في موضع نصب، على حذف الخافض، (و) المعنى: وبأن أقيموا. ويجوز أن تكون في موضع خفض على إضمار ذلك الخافض، والمعنى: وأمرنا بأن أقيموا الصلاة. {واتقوه} أي: واتقوا رب العالمين الذي إليه تحشرون في الآخرة. {واتقوه} تمام. / قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} الآية.

المعنى: والله - الذي أمرتم أن تسلموا له - هو الذي خلق السماوات والأرض بالحق، وهو رب العالمين. ومعنى {بالحق}: أي: حقاً وصواباً، لا باطلاً. وقيل: المعنى: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: {ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت: 11]، فالحق هنا: كلامه ودليله. (قوله): {قَوْلُهُ الحق} الآية. (ف (الحق)): كلامه، خلق به (الأشياء المخلوقة)، وما خلق به الأشياء فهو غير مخلوق. وقيل: المعنى: خلقهن (للحق)، يعني المعاد. و {قَوْلُهُ} مرفوع (ب (يكون))، و (الحق): نعته. وقيل: المعنى: فيكون

ما أراد. و {قَوْلُهُ الحق}: ابتداء وخبر. وقال الفراء: المعنى: ويوم يقول للصور: كن، فيكون، و (قولُه): ابتداء و (الحق) خبره. و {الصور} عند أبي عبيد: جمع صورة. وقيل: هو القرن الذي ينفخ فيه. وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ} بدل من {يَوْمَ يَقُولُ}. وقيل: العامل فيه: {الحق}. وقيل: العامل فيه {وَلَهُ الملك}، لأنه يوم لا منازع له في الملك، فلذلك خصه بالذكر، وأن كان هو المالك في كل الأحيان، وهو مثل: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4]. {عالم الغيب}: رفع على النعت ل {الذي} في قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ}. وقيل:

{وَهُوَ} رفع على إضمار مبتدأ. وقيل: هو رفع بالمعنى، والتقدير: ينفخ فيه عالم {الغيب}. والنفخ في الصور نفختان: واحدة لفناء من كان حياً على الأرض، والثانية لنشر كل ميت، وبذلك أتى القرآن. وقد تظاهرت الأخبار عن النبي A: " أن إسرافيل قد الْتَقَم الصور (وحَنَى) جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ، وأنه قال: الصور قرن ينفخ فيه ". قال قتادة: ينفخ فيه من الصخرة من بيت المقدس. والصور قرن فيه أرواح الخلق فينفخ فيه، فيذهب كل روح إلى جسده فيدخل فيه.

وروي عن ابن عباس: " أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور " وتكون الآية بمنزلة قول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومه ... ومعنى {عالم الغيب} أي: يعلم ما يغيب عنكم، {والشهادة} أي: يعلم أيضاً ما تشاهدون، {وَهُوَ الحكيم} في تدبيره، {الخبير} بأعمالكم. وقوله: {بالحق}: وَقْف إن نصبت {وَ} يوم على معنى: واذكر، و {كُن}: تمام، (و) {فَيَكُونُ} تمام إن رفعت {قَوْلُهُ} بالابتداء،

74

وجعلت {فَيَكُونُ} للصور، أو على معنى: فيكون ما أراد، و {قَوْلُهُ الحق}: تمام حسن إن جعلت {يَوْمَ يُنفَخُ} نصب بقوله: {وَلَهُ الملك}. (ويقف على {وَلَهُ الملك}) إن نصبت {يَوْمَ يُنفَخُ}، بمعنى: واذكر. و {فِي الصور} وقفٌ إن جعلت {عالم الغيب} على معنى {هُوَ} فإن جعلته نعتاً ل {الذي} - أو على إضمار فعلٍ يدل عليه {يُنفَخُ} -، لم تقف على {الصور}. وقد قرأ الحسن {عالم} بالخفض على البدل من الهاء في قوله {وَلَهُ}. (قوله): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} الآية. ألف {أَتَتَّخِذ} ألف تقرير وتوبيخ، لأنه كان قد علم أنه يتخذها. والمعنى: واذكر يا محمد - في محاجتك قومك في أصنامهم - حجاجَ إبراهيمَ قومَه في باطل ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، إذ قال لابيه آزر.

وآزر: اسم أبي إبراهيم في قول السدي والحسن وغيرهما، وكان رجلاً من أهل كوثي من قرية بسواد الكوفة، وهو آزر (و " تارح ")، كما يقال: " إسرائيل " و " يعقوب ". وقال مجاهد: آزر ليس بأبي إبراهيم، إنما هو / اسم صنم. وقيل: آزر صفة، وهو " المُعْوَج " في كلامهم، كأن إبراهيم عابه بزيغه واعوجاجه، كأنه قال لأبيه ذلك، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم لأبيه، ذكر

ذلك الفراء وغيره. والضم على النداء يحسن على هذا المعنى. وحكي الزجاج (أن آزر) صفة، معناه: المخطئ، فيحسن أن يكون صفة للأب، كأنه: " قال لأبيه المخطئ ". ويحسن أن يكون نداء فيضم على معنى: (يا مخطئ في دينه. وبذلك قرأ يعقوب الحضرمي، والحسن قبله. " وقال الضحاك: معنى آزر: شيخ ". وذكر أبو حاتم عن ابن عباس: (أإزرا تتخذ) بهمزتين: مفتوحة ومكسورة، من غير ألف في (تتخذ)، نصبه (ب (تتخذ)، جعله مفعولاً من أجله، يكون مأخوذاً من الأزر الذي هو الظهر. ويجوز أن يكون أصله: " أَوْزْراً "، ثم أبدل من الواو المكسورة همزة

" كإشاح ". وروى غير أبي حاتم بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الحسن (آزرُ) بالرفع على النداء، وهي قراءة يعقوب. وقد قيل: إن رفعه على إضمار مبتدأ. وفي قراءة أُبَي (يا آزرُ). (و) من جعله اسماً للصّنم: فهو بعيد، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل (فيه ما) بعده، وفتحه على النعت للأب، أو على البدل، وموضعه خفض. {إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} بعبادتكم الأصنام، أي: يتبين لمن أبصرَهُ (الله) أنه جسور وحيرة عن سبيل الحق. قوله {لأَبِيهِ} وقف على قراءة من رفع (آزرُ)، أو قرأه بهمزتين. وتقف

75

على (آزر) في قراءة من جعله بدلاً أو صفة. قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} الآية. الواو والتاء زيدتا في ملكوت للمبالغة في " الملك " وقرأ أبو السَّمَّأل: (مَلكُوت) بإسكان اللام، وهو بعيد عند سيبوبه لخفة الفتحة. والمعنى: ومثل ما أريناك يا محمد البصيرة في دينك، والحجة على قومك، أرينا إبراهيم ملك السماوات والأرض، {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.

وقيل: ملكوت - هنا - بمعنى ملك. وقيل: بمعنى خَلْق. وهو بكلام النبط " مَلْكوتاً ". وقيل: ملكوت: معناه آيات. (وقال السدي): أقيم إبراهيم على صخرة وفتحت له السماوات، فنظر فيهن إلى ملك الله، ونظر إلى مكانه في الجنة، وفتحت له الأرضون حتى نظر إلى أسفل الأرض، قال: فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} [العنكبوت: 27]، أي: أَرَيْنَاهُ مكانهُ في الجنة، وقيل: أجره في الدنيا: الثناء الحسن بعده. قال عطاء: لما رفع الله إبراهيم في ملكوت (السماوات) والأرض - تعالى الله وجل وعز -، رأى إبراهيم عبداً يزني، فدعا عليه فهلك، ثم رُفِع فأشرف، فرأى آخر، فدعا عليه فهلك. ثم رأى (آخر) فدعا عليه

فنودي: على رِِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجاب له، وإني من عبدي على (أحد) ثلاث: إما أن يتوب إلي فأتوب عليه، وإما أن أُخْرِجَ منه ذرية طيبة، وإما أن يتمادى فيما هو فيه، فأنا من ورائه. وقال الضحاك: (معنى ما) أراه الله من ملك السماوات والأرض: ما أراه من النجوم والشمس والقمر والشجر والجبال والبحار. قال ابن عباس: فُرَّ بإبراهيم من جبار من الجبابرة، فجعل في سرب، وجعل رزقه في أطراف أصابعه، فكان لا يمص أصبعاً من أصابعه إلا جعل الله D فيها رزقاً. فلما خرج من ذلك السرب، أراه الله شمساً وقمراً ونجوماً وسحاباً وخلقاً عظيماً: فذلك ملكوت السماوات، وأراه الله بحوراً وجبالاً / وشجراً وأنهاراً وخلقاً

76

عظيماً: فذلك ملكوت الأرض. قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً} الآية. المعنى: فلما ستر إبراهيم الليل بظلمته، - (يقال: جنَّ الليل (و) (جنَّه)، وأجنَّ عليه، وأجنَّه). {رَأَى كَوْكَباً}: أي: أبصر. والكوكب: الزهرة. وقال السدي: وهو المشتري. قال ابن عباس: عبد الكوكب حتى غاب، فلما غاب، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين}، وكذلك فعل بالقمر والشمس، فلما غابا {ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.

وكان بين نوح وإبراهيم: هود وصالح، وكان النمرود في زمن إبراهيم، وكان من خبر إبراهيم مع النمرود: (أن النمرود) - قبل مولد إبراهيم - أتاه أهل النجوم يخبرونه أنه يجدون في علمهم: أن غلاماً يولد في قريتك هذه، يقال له " إبراهيم "، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم، في وقت كذا يولد. فلما كان ذلك الوقت، حبس نمرود كل امرأة حبلى عنده إلا أم إبراهيم، فإنه لم يعلم بحبلها لِما أراد الله من أمره، فجعل نمرود لا تلد امرأة (غلاماً في ذلك الوقت) إلا ذبحه، فلما وجدت أم إبراهيم الطلق، خرجت ليلاًَ إلى مغارة، فولدت فيها إبراهيم، وأصلحت من شأنه ما يُصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل، فنجده حياً يمص أصابعه جعل الله له رزقاً فيها. وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر

كالسنة، وكانت أمه قالت: (لآزر أبيه): قد ولدت غلاماً فمات. فصدقها فلما بلغ إبراهيم في المغارة خمس عشرة، قال لأمه: أخرجيني أنظر. فأخرجته عشاء، فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض، وقال: " إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لَرَبّي، ما لي إله " غيره ". ثم نظر إلى السماء فرأى كوكباً، {قَالَ هذا رَبِّي}، ثم اتبعه ينظر إليه (ببصره) حتى غاب، (فلما غاب)، {لا أُحِبُّ الآفلين} أي: الغائبين، ثم فعل ذلك بالقمر، ثم بالشمس. ثم أتى إبراهيم أباه آزره وأخبرته (أمه به) فَسُرَّ (به)، وكان آزر يصنع أصنام قومه التي يعبدون، ثم يعطيها إبراهيم يبيعها، فيذهب بها إبراهيم قبل مبايعته لهم فيقول: " من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ " فلا يشتريها منه

أحد. فإذا بارت عليه مضى بها إبراهيم إلى نهر، فصوَّب (فيه) رؤوسها وقال: (اشربي)، استهزاء بقومه، حتى فشا عيبه إياها واستهزاؤه (بها) في قومه من غير أن يبلغ ذلك نمرود. وقد أنكر قوم من العلماء أن يكون إبراهيم عليه السلام عبد شيئاً من ذلك حقيقة، إنما فعل ذلك على وجه التعريض والإنكار لقومه وفعلهم، (لا أنه) (جهل) معبوده حتى عبد الكوكب والقمر والشمس، وكأنه أراهم أن الكوكب والقمر والشمس أضوأُ من الأصنام وأحسن، وهي لا تعبد، لأنها آفلة، فَتَركُ عبادة الاصنام التي لا ضوء لها ولا حسن ولا بهجة آكد، فكأنه عارض باطلاً بباطل على طريق التبكيت لهم، و (القطع) لحجتهم.

قال إبراهيم بن عرفة: كان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام والحجارة، وكانوا يجادلونه، فأراهم من خلق الله / تعالى ما هو أعظم مما يعبدون، فقال: " هذا ربي "، لو كان رباً يعبد من دون الله، لأن هذا أعظم وأعلى مما تعبدون. فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين، فأراهم أن الكوكب يغيب إذا غلب عليه ضوء النهار، والمعبود لا يكون مغلوباً. وقيل: بل كان ذلك منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه ولزوم الفرض له، وتلك حال لا يلزم فيها كفر ولا إيمان. وقيل: معنى الكلام الإستفهام الذي في معنى الإنكار، والمعنى: أهذا ربي؟، قاله قطرب وغيره، وهو قول ضعيف، لأن الألف إنما تحذف إذا كان في الكلام ما يدل عليها نحو " أم " ونحوها.

وقال أبو إسحاق: لم يقل ذلك (على اعتقاد) منه بدلالة قوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35]، وبقوله: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84]، أي: سليم من الشرك. وأنما المعنى: هذا ربي على قولكم: (لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر، ومثله قوله: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27، القصص: 62، 74، فصلت: 47] المعنى: أين شركائي على قولكم). ويجوز أن يكون المعنى: (قال): هذا ربي) أي: قال: تقولون: " هذا ربي "، ثم حذف القول، كما قال: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] أي: يقولون: سلام (عليكم). ومعنى {بَازِغاً}: طالعاً، وهو نصب على الحال. وكذلك {بَازِغَةً}. وذكر {الشمس} في قوله: {هذا رَبِّي}، على معنى: " هذا البازغ ربي "، أو " هذا الشيء

79

ربي "، أو " هذه النور ربي "، أو " هذا الطالع ربي ". قوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ (لِلَّذِي)} الآية. هذا خبر عما قال إبراهيم بعد أن أوقفهم على نقص الكوكب والشمس والقمر في الأفول، فقال الحق ولم يبال بخلافهم، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي: قصدت في عبادتي: {لِلَّذِي فَطَرَ} (أي خلق) السماوات والأرض {حَنِيفاً} أي: مائلا إلى ربي، وما أنا مشرك مثلكم. قوله: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ (قَالَ أتحاجواني فِي الله)} الآية. المعنى: وجادل إبراهيم قَومُه في الله، فقال لهم إبراهيم عليه السلام: أتحاجوني في توحيد الله وقد هداني للإيمان به، وإخلاص العمل له، ولست أخاف ما تشركون به أن ينالني بسوء ومكروه.

والهاء للضم، (وهو (ما)). وقيل: الهاء لله جل ذكره، يعني أصنامهم، وذلك أنهم قالوا له: إنَّا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء: من مرض أو خَبْلٍ لِسَبِّك لها. ثم قال لهم: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} أي: إن أراد أن يصيبني بسوء " أو خير "، فهو لاحقي لا شك. ووجه حذف النون من {أتحاجواني} أنه استثقل التشديد فحذفت النون الزائدة [لا] التي للإعراب، قال سيبويه: حذفت لكراهة التضعيف.

وقال (أبو) عبيدة: حذفت كراهة الجمع بين ساكنين. وقد أنكر أبو عمرو الحذف وقال: هو لحن، لأنه تأول أن المحذوف النون التي للإعراب. والمحذوف عند سيبويه والخليل النون الزائدة. قوله: {وَسِعَ [رَبِّي] كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي: [وسع] علم ربي كل شيء، فلا يخفى عليه شيء، وليس كآلهتكم التي لا تنفع ولا تضر، {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي: تعقلون أنها لا

81

تنفع ولا تضر. قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} الآية. هذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه بآلهتهم، فقال: {وَكَيْفَ [أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ]} أي: كيف أرهب أصنامكم التي لا تضر ولا تنفع، وأنتم لا تخافون إذا أشركتم بمن خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم، أشركتم به ما ليس معكم في عبادته حجة ولا برهان /، {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} من العذاب؟: مَن آمن برب واحد يضر ويَنْفَعَ، أو مَن آمن بأرباب كثيرة لا تضر ولا تنفع، {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} صدق ما أقول لكم. قوله: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية. يجوز أن يكون من قول إبراهيم، ويجوز أن يكون مستأنفاً من قول الله، فصل " الله " بين إبراهيم وقومه، فأخبر لمن الأمن.

83

والحجة التي أوتي إبراهيم هو قوله: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} [الأنعام: 81]. ومعنى: {وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: لم يخلطوه بشرك، ولما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب النبي، فقال لهم النبي: ليس الأمر كما تظنون، لهو كما قال لقمان: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءاتيناهآ إبراهيم (على قَوْمِهِ)} الآية. {تِلْكَ}: إشارة قول إبراهيم لقومه: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]. وقيل: إنهم قالوا " له ": إنّا نخاف أن تُخَبِّلك آلهتنا لسبك لها، فقال لهم: أفلا تخافون أنتم منها - إذ سوَّيتم بين الصغير والكبير منها، والذكر والانثى - أن تخبلكم، ثم قال لهم: أمن يعبد إلهاً واحداً يضر وينفع أحقُّ بالأمن، " أم " من يعبد آلهة كثيرة لا تضر ولا تنفع؟، فهذه حجته التي آتاه الله على قومه ولقنه إياها.

84

وفي الكلام حذف والمعنى: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، فرفعنا درجته عليهم: {نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَآءُ}، وهذا كله تنبيه لمحمد في الحجة على أمته، وتنبيه له على التأسي بمن قبله من الأنبياء. {على قَوْمِهِ}: وقف حسن. قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} الآية. قوله: {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} عطف على " كل "، أي: وهدينا داوود. وقيل: هو عطف {إِسْحَاقَ} أي: وهبنا له داوود. وقيل: هو عطف على {وَنُوحاً}. والهاء في {[ذُرِّيَّتِهِ]}: تعود على (إبراهيم). وقيل: على " نوح "، وهو قول الطبري، قال: لأن في سياق الكلام المعطوف {لُوطاً}، ولوط لم يكن من ذرية إبراهيم، إنما هو من ذرية نوح، فالمعنى: وهدينا نوحاً من قبل إبراهيم، وهدينا من ذرية نوح داود ومن بعده.

{كُلاًّ هَدَيْنَا}: وقف حسن، {وَإِلْيَاسَ}: أيضاً وقف عند أبي حاتم، ولا يحسن عند غيره، لأن بعده {وَإِسْمَاعِيلَ} معطوف عليه. واختلف " الناس " في {إِلْيَاسَ}: فقيل: " هو " من ذرية هارون أخي موسى، بينهما ثلاثة آباء. وقال ابن مسعود: إلياس هو إدريس. وإدريس جد نوح، بينهما أربعة آباء. فمحال أن يُنْسَب إلى نوح وهو جده الأعلى، والذي عليه " أهل " الأنساب: أن إلياس غير إدريس. و {اليسع}: اسم أعجمي، جرى على غير قياس. وقد قال أبو عمرو:

إنما هو " يَسَعُ " ثم أدخلت الألف واللام عليه، وليس بفعل، ولو كان فعلاً لم يجز إدخال الألف واللام عليه، (ألا ترى) أنهم أدخلوها على " يزيد " إذ هو اسم، فقالوا: " اليزيد "، كما قالوا: " الوليد "، وأنشد الفراء: وَجَدْنا الوْليدَ بْنَ الْيَزيد. (مُبارَكاً، ... ورد الكسائي هذه القراءة، وقال: لا تجوز، كما لا يجوز " اليحيى ")، وهذا لا يلزم، لأنا لو نكّرنا " يحيى " لأدخلنا عليه الالف واللام، والعرب تقول: / " اليعملة ". ومن قرأ (الَّليْسَع) فأصله " ليسع "، مثل: ضيغم وزينب، ثم دخلت

87

الألف واللام للتعريف. وأنكر " أبو " حاتم هذه القراءة، وقال: (لا يوجد) " ليسع ". وهذا لا يلزم، لأنه مثل: " ضيغم " و " زينب ". واختار الطبري أن يكون بلام واحدة، لأنه أعجمي، وقد تواترت الأخبار بهذا الاسم بهذا اللفظ، وقال: ولم يُحفظ عن أحد من أهل العلم أنَّ اسمه " ليسع "، (إنما قالوا: اسمه " اليسع "). قال زيد بن أسلم: كان يوشع بن نون خليفة موسى في قومه، وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، فشكر الله له ذلك، و [نبّأه]. بعد موسى في بني إسرائيل، وسماه " اليسع " بلسان العرب. قال ابن عباس: الأنبياء كلهم من بني إسرائيل - وهو يعقوب - إلا عشرة: نوح وهود ولوط وصالح وشعيب وإبراهيم وإسماعيل " وإسحاق " وعيسى ومحمد. قوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} الآية. المعنى: وهدينا من آباء هؤلاء المذكورين، ومن ذرياتهم، ومن إخوانهم)،

88

أي: بعض ذلك، {واجتبيناهم} أي: أَخْلَصْنَاهم، {وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: سدّدناهم وأرشدناهم إلى طريق الحق، وهو الإسلام. وهو مشتق من " جَبَيْتُ الماءَ في الحوض: إذا جمعته ". قوله: {ذلك هُدَى الله} الآية. أي ذلك الهدى الذي هُدِي به هؤلاء {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}: أي: يوفق به من يشاء، {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي: " لو " أشرك هؤلاء الأنبياء لذهب عنهم جزاء أعمالهم، لأن الله لا يقبل مع الشرك عملاً. قوله: {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} الآية. المعنى: أولئك الذين سميناهم من الأنبياء هم الذين أعطوا الكتاب، يعني صحف إبراهيم وموسى، وزبور داوود، وإنجيل عيسى، {والحكم} يعني: الفهم بالكتاب.

قال مجاهد: {الحكم}: اللب. وقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء} أي: بالآيات التي أنزلت عليك يا محمد، يريد القرآن، (هؤلاء) " أي " مَن بحضرتك من المشركين. وقيل: الإشارة إلى قريش، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني الأنصار: قال قتادة: {هؤلاء}: إشارة إلى أهل مكة، والقوم الذين ليسوا بالآيات بكافرين: أهل المدينة، وكذلك قال الضحاك والسدي، وروي عن ابن عباس ذلك. وقال: (أبو رجاء): {قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ}: الملائكة. وعن قتادة قال: هم الأنبياء المذكورون، فهم ثمانية عشر.

90

وأكثرهم قال: الإشارة في هؤلاء لكفار قريش. قوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله} الآية. المعنى: أن {أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره من النبيين، فأمر النبي A أن يقتدي بهداهم، ويسلك طريقهم، والاقتداء: الاتباع. والمراد: اتّباعهم على ما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد، لا ما كانوا عليه من الشرائع، لأن شرائعهم كانت مختلفة، وغير جائز أن يؤمر النبي باتباع " شرائع " مختلفة، ولا يمكن ذلك، لأن ما حرم " عليهم " في شريعة نبي، أُحِلَّ في شريعة نبي آخر، فكيف يَقْدِر النبي A على اتباع ذلك؟، والعمل بالشيء وضده - في حال هذا - لا يمكن ودليل ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] فهذا هو الصحيح، ليست الآية في الاقتداء بشرائعهم لاختلافها، إنما الآية في الاقتداء بهم فيما لم يختلفوا فيه، وهو التوحيد ودين الإسلام. وأما الشرائع فقد اختلفوا فيها بأمر الله " لهم " بذلك وفَرضِه على كل واحد ما شاء.

وأكثر النحويين " على " تلحين " من كسر الهاء من {اقتده} وهي قراءة ابن عامر، إلا ما قال أحمد بن محمد بن عرفة: إنه يجوز أن تكسر على التشبيه بهاء الإضمار، كما جاز إسكان هاء الإضمار على التشبيه بهاء السكت. وقال بعض النحويين: من كسر الهاء، يجوز أن تكون الهاء لغير السكت، وأن تكون للمصدر، كأنه: " فبهداهم (اقتد الاقتداء) "، " قال ": ويجوز أن تكون كناية عن الهدى، والمعنى: فبهداهم اقتد " هداهم "، على التكرير للتأكيد.

والوقف على هذه الهاء أسلم، وهو الاختيار عند أكثر النحويين، لأنه تمام، ولأنه إنما جيء بها للوقف. ثم قال تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا أسألكم على تذكيري إياكم أجراً " ولا " عوضاً، إن القرآن الذي جئتكم به {إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ}.

91

قوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. المعنى: وما عظموا الله حق عظمته {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}. وقيل: المعنى: وما عرفوه حق معرفته. والذي قال ذلك هو " رجل من اليهود، جاء يخاصم النبي، فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟، وكان الرجل حبراً سميناً، فغضب اليهودي وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فقال له: أصحابه: ويحك، ولا على موسى؟. فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء!، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية ". وقال محمد بن كعب القرظي: جاء ناس من اليهود إلى النبي فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحاً يحملها من عند الله؟، فأنزل الله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} [النساء: 153] الآية، ثم {قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}، فأنزل اللهُ: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، ثم قال الله لنبيه محتجا عليهم:

{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى " نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ "} إلى قوله: {قُلِ الله}. وقيل: إن هذا خبر عن مشركي العرب أنكروا أن يكون الله أنزل على أحد كتاباً. وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} هم يهود أخفوا من التوراة ما أرادوا، وأبدوا ما أرادوا. واختيار الطبري أن يكون ذلك خطاباً لقريش، لأنه في سياق الحديث عنهم، ولأن اليهود لم يَجْرِ لهم ذكر. قال مجاهد: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ} هو خطاب لمشركي العرب، {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} إخبار عن اليهود، {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَءَابَآؤُكُمْ} للمسلمين. فمن قرأ بالياء في (يجعلونه) و (يبدون) و (يخفون)، رَدَّهُ على الناس.

ومن قرأ بالتاء، فعلى المخاطبة لليهود، والمعنى: علمتم علماً فلم يكن لكم علم لتضييعكم إياه، ولا لآبائكم لتضييعهم إياه، لأن من عَلِمَ شيئاً وضيّعه، فليس له علم. ويجوز أن يكون المعنى: وعلمتم علماً لم تكونوا تعلمونه أنتم ولا آباؤكم، على الامتنان عليهم بإنزال التوراة عليهم، والأول: قول أهل التفسير. {وَهُدًى لِّلنَّاسِ} وقف على قراءة من قرأ بالياء في {تَجْعَلُونَهُ} وما بعده، {وَلاَءَابَآؤُكُمْ} تمام عند نافع، {قُلِ الله} التمام عند الفراء، لأن المعنى عنده: قل الله عَلَّمَكُم. وقيل: المعنى: قل يا محمد: الله أنزله، ولا جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب}.

92

وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} أي: دعهم في باطلهم، وهذا تهديد من الله لهم. قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} الآية. المعنى: وهذا القرآن - يا محمد - كتاب، - ومعنى الكتاب هنا -: مكتوب - أنزلناه إليك مباركاً، {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} أي: لتنذر عذاب الله وبأسه أم القرى. وأم القرى: مكة، (ومن حولها): شرقاً وغرباً. وسميت: {أُمَّ القرى}، لأن الأرض دُحيت منها، أي: بُسِطَت. وقيل: سميت بذلك، لأن فيها أول بيت وضع للناس. وقيل: سميت بذلك لأنها تُقصد من كل قرية. ومن قرأ (وليَنذِرَ) رَدَّهُ على (الكتاب)، ومن قرأ بالتاء فعلى المخاطبة

93

للنبي عليه السلام. وقوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي: يصدقون بالبعث، {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بهذا الكتاب والهاء في (به) للقرآن، وقيل: لمحمد. وقيل: إنه لما نزل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]، فقال له النبي A: أكُتبْها، فكذلك نُزِّلَت عليّ. قوله: {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: على الصلوات التي افترضها الله. قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية. قوله: وَ (مَن) قال في موضع جر، عطفٌ على (مَن) الأولى.

المعنى: ومن أخطأُ قولاً ممن اختلق على الله الكذب، فادَّعى أنه بعثه نبياً. وهذا تسفيه من الله D لمشركي العرب في معارضة عبد الله بن أبي سرح ومسيلمة للنبي، ادعى أحدهما النبوة، وادعى الآخر أنه جاء بمثل ما جاء به النبي. فالَّذي قال: {أُوْحِيَ إِلَيَّ} هو مسيلمة الكذاب، والذي قال: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان عبد الله هذا قد كتب للنبي، فكان يملي عليه (عزيزٌ حكيمٌ) فيكتب (غفورٌ رحيمٌ)، وقال: قد أنزل " عليّ " مثل الذي أنزل على محمد، قد كتبتُ ما لم يُمْل عليَّ. وكان يقرأ على النبي ما يكتب، فيقول له النبي: نعم سواء.

وقيل: إنه لمّا نزل {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخر القصة، عجب ابن أبي سرح من خلق الإنسان وانتقاله من حال إلى حال، فقال {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]، فقال له النبي: أكتُبها، فكذلك نُزِّلَت عليّ. فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وأخبرهم بما كان يصنع، وأن النبي A يقول له في الذي يكتب: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة. وفيه نزل: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]. وقيل: إن قائل القولين هو عبد الله هذا. وقيل: هو مسيلمة. وقال ابن عباس: الذي افترى على الله كذباً هو مسيلمة، والذي قال: " سأنزل مثل ما أنزل الله " هو عبد الله بن أبي سرح. ثم قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} / أي: لو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين المفترين على الله الكذب وقد قرب

" فناء " آجالهم، والملائكة قد بسطت أيديها، يضربون وجوههم وأدبارهم. قال ابن عباس: البسط هنا: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم. وقال الضحاك: بسطت الملائكة أيديها بالعذاب. وقيل المعنى: (باسِطو أَيْديهم) لإخراج أنفسهم {أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} أي: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم من العذاب، أي: خلصوها اليوم. قوله: {اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي: عذاب جهنم، وهو عذاب الهوان، وهذا إخبار من الملائكة للكفار " بما " يصيرون إليه في الآخرة. والهون - بالضم -: الهوان، والهَوْن بالفتح: الرفق والدَّعَة، تقول: " هُوَ هَوْنُ الْمؤوَنه "، ومنه قوله: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] يعني بالرفق والسكينة.

94

قال أبو أمامة: يقبضون [روح الكافر] ويعدونه بالنار ويشدد عليه وإن رأيتم أنه (يُهّون عليه، ويقبضون روح المؤمن ويعدونه بالجنة ويهون عليه وإن رأيتم) " أنه " يُشَّدد عليه. قوله: {فِي غَمَرَاتِ الموت} ليس يوقف، لأن ما بعده في موضع الحال. و {مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله}: وقف حسن. {أَيْدِيهِمْ}: وقف، {غَيْرَ الحق} وقف عند نافع، {تَسْتَكْبِرُونَ} تمام حسن، لأنه آخر قول الملائكة. قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} الآية. قرأ أبو حَيْوَةَ {فرادى} بالتنوين، وهي لغة تميم، ويقولون في الرفع " فُرادٌ " وحكى أحمد بن يحيى " فُرادُ " بغير تنوين مثل " رُباع ".

قال القتبي: {فرادى} جمع فَرْدٍ، كأنه جمع على " فَرْدان "، ثم جمع على " فرادى "، ككَسْلان وكُسالى. وقال الطبري: واحد {فرادى}: " فَرَدٌ "، بالفتح. ومن قرأ (بَيْنَكم) بالنصب، فمعناه: لقد تقطع (الأمر بينكم) والسبب بينكم، ونصبه على الظرف. ومن رفع، جعله غيرَ ظرف، بمعنى الوَصْل، تقديره: لقد تقطع وصلُكم.

ومعنى الآية: أنها خبر من الله عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء المشركين، يقول لهم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} أي: وُحداناً لا مال معكم، ولا أثاث، ولا شيء مما كان الله خَوَّلَكُم في الدنيا. ومعنى {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ}: قيل: منفردين لا شيء لكم، وقيل: عراة. وروي " أن عائشة Bها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله، واسوأتاه إن الرجال (والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟، فقال لها رسول الله A: { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، لا ينظر الرجال) إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شُغِل بعض عن بعض ". ومعنى {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} أي: في الدنيا، {مَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ} أي: ليس نرى معكم مَن كنتم تزعمون أنهم (لكم شفعاء) عند ربكم يوم القيامة.

95

وكان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الآلهة، لأنها تشفع لهم عند الله، و [إنها] شركاء له. قال عكرمة: قال النضر بن [الحارث]: " سوف تشفع لي اللات والعزى "، فنزلت هذه الآية. قوله: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} الآية. معنى الآية: أنها تنبيه لهؤلاء المشركين على قدرة الله، وأن ما يعبدون لا يقدر على ذلك. ومعنى فَلْقِه الحبَّ والنوى: يريد به النبات، فلق الحبة عن السنبلة، والنوى عن النخلة. وقال الضحاك: معنى {فَالِقُ الحب والنوى} خالقهما، وروي ذلك عن ابن عباس.

وقيل: معنى ذلك أنه هو الذي جعل الشق في النواة وفي الحبة، قال مجاهد: هما (الشقان اللّذان) فيهما. واختيار الطبري أن يكون المعنى: فلقهما للنبات، لأنه أتبع ذلك بقوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت}، (فخروج الحي من الميت) كخروج النبات عن الحب والنوى، قال: ولا يعرف في اللغة " فلق " بمعنى خلق. وقوله: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} معناه: يخرج السنبل الحي من الحب الميت، ويخرج " الحب " الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي. والعرب تسمي النبات والشجر ما دام لم يَيْبَس " حياً "، فإذا يبس وجف سمي " ميتاً ". فتقديره: يخرج النبات الأخضر الغض من الحبة اليابسة، ويخرج اليابس من الأخضر الغض.

96

وقال ابن عباس في معنى ذلك: يخرج النطفة الميتة من الحي، ويخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة. {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: من أين تُصْرَفون عن الحق ولا تتدبرون. قوله: {فَالِقُ (الإصباح) وَجَعَلَ الليل سَكَناً} الآية. قرأ الحسن: (فالِقُ الأَصباح) بفتح الهمزة، " و " جعله جمع صبح. وقرأ النخعي {فَالِقُ الإصباح} بالنصب في (الإصباح) وكسر الهمزة، يقدر حذف التنوين لالتقاء الساكنين، كأنه " قال " فالق الإصباح، فالإصباح: مفعول به، لكن حذف التنوين لسكونه وسكون اللام.

ومعنى {فَالِقُ الإصباح}: مضيء الصبح عن سواد الليل. {وَجَعَلَ الليل سَكَناً} أي: يَسْكُن فيه كل مُتحرك، ويستقر فيه كل متصرف. قوله {والشمس والقمر حُسْبَاناً} أي: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. قال ابن عباس: يعني عدد الأيام والشهور والسنين. وقال قتادة: {حُسْبَاناً}: ضياء. والحسبان - بضم الحاء - " و " الحِساب بكسر الحاء: جمع حسبانة، وهي الوسادة الصغيرة.

97

قال الأخفش: " حُسبان " جمع " حساب ": كشهبان وشهاب. وقال يعقوب: حسبان: مصدر " حَسِبْت الشيء حُسباناً "، والحساب: الاسم. {ذلك تَقْدِيرُ العزيز} أي: هذا الفعل الذي فعله الله: تقدير عزيز عليم، أي: عزيز في سلطانه، وعليم بمصالح خلقه. قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم} الآية. المعنى: والله " الذي " جعل لكم النجوم أيها المشركون به، جعلها أدلة في ظلمات البر والبحر لكم إذا ضللتم وتحيرتم {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: " قد " بيناها لِتَفْقَهوها وتعلموا أن الله مدبر ذلك كله، فلا تعبدوا غيره. قوله: {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة} الآية.

المعنى: والله الذي قد تركتم عبادته هُوَ الذي أنشأكم من نفس واحدة، وهو آدم. {فَمُسْتَقَرٌّ} أي في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعٌ} أي: في الصلب. وعن ابن مسعود: المستودع: المكان الذي يموت فيه، وقوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} [هود: 6] أي في الأرحام، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] أي في الأصلاب، / وقيل: حيث تموت. وقال ابن جبير: المستودع: ما كان في الأصلاب، والمستقر: ما كان في البطون وعلى الأرض وفي بطنها. وقال ابن عباس: {مُسْتَقَرَّهَا} [هود: 6]: ما كان على وجه الأرض وفي الأرض،

{وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]: في الصلب. وعن ابن عباس " أيضاً ": المستقر: في الأرض، والمستودع: " عند الله، وكذلك روي عن مجاهد. وقال الحسن: المستقر: في القبر، والمستودع ": في الدنيا يوشك أن يلحق بصاحبه. ومن قرأ بالفتح في {فَمُسْتَقَرٌّ}، فمعناه: أن الله استقره. ومن كسر، رد الفعل إلى المذكور عند الاستقرار. {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: بيّنّا الحجج والعلامات، {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} مواقِعَ

99

الحجة. {وَمُسْتَوْدَعٌ}، وقف، و {يَفْقَهُونَ} التمام. قوله: {وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء} الآية. قوله: {وجنات} قراءة الجماعة بالنصب والتاء مكسورة، عطف على {نَبَاتَ}، كأنه [قال]: وأخرجنا به جنات. وقيل: هو معطوف على {خَضِراً}. وقرأ الأعمش بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: ولهم جنات. وقيل: هو معطوف على المعنى، (فعطف) على القنوان، كأنه قال: وثم قنوان وجنات.

وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن: {وَيَنْعِهِ} بالضم: لغة، وقرأ محمد بن السَّمَيفَع {وَيَنْعِهِ} أي: مدركه. والمعنى: والله هو الذي أنزل من السماء (ماء ففعل) به ما ذكر، وأخرج به ما ذكر. ومعنى {خَضِراً} (أخضر)، أي: نباتاً أخضر، {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من الخضر، {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} وهو السنبل ونخرج من الماء من النخل من طلعها ما قنوانه دانية، أي: قريبة مُتَهَدَلة، يعني قصار النخْل التي قد لصقت عُذُوقُها بالأرض،

والقنوان طلعه. وقوله: {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه} أي: (قد) اشتبه في الخلق واختلف في الطعم. قوله: {وَيَنْعِهِ} أي: نضجه. ومن قرأ (يانعة) فمعناه: ناضجة. وقد قيل: إن {يَنْعِهِ} - بالفتح - جمع يانع، كتاجر وتَجْر. و (قد) قيل: هو مصدر " يَنِع الثمر يَنْعاً " اذا نضج. وقرأ محمد بن السَّمَيفَع اليماني (ويانعه)، وقرأه ابن أبي اسحاق (ويُنْعه) بالضم، على معنى: ونُضجه.

100

{دَانِيَةٌ} وقف إن رفعت " الجنات "، {وَيَنْعِهِ} تمام. قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} الآية. {الجن}: مفعول أول لِ (جَعَلوا)، و {شُرَكَآءَ}: مفعول ثان، ويجوز " أن يكون {الجن} بدلاً من {شُرَكَآءَ} "، والمفعول الثاني: اللام في (لله) وما عملت (فيه)، وأجاز الكسائي رفع (الجن) على معنى: هم الجن. وقرأ يحيى بن يعمر: {وَخَلَقَهُمْ} بالنصب وإسكان اللام، على معنى: وجعلوا لله خَلْقَهُم شركاء، لأنهم يخلقون الشيء، بمعنى: يقدرونه ويعبدونه.

ومعنى: {وَخَرَقُواْ لَهُ): اختلقوا كذباً. والتشديد فيه معنى التكثير. ومعنى الآية: أن المشركين جعلوا الجن شركاء لله، كما قال عنهم {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158]، ومعنى جَعلِهم الجن شركاء لله: أنهم أطاعوهم كطاعة الله. وقيل: نسبوا إليهم الأفاعيل التي لا تكون إلا لله. قال ابن جريج: هم الزنادقة. وقال القتبي: هم " الزنادقة جعلوا إبليس يخلق الشر، والله يخلق الخير ". ومعنى الآية {وَخَلَقَهُمْ}: أي: والله خلقهم، والهاء والميم تعود على الفاعلين

101

/ ذلك. {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وبنات (بِغَيْرِ عِلْمٍ)} قالت العرب: الملائكة بنات الله، وجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون، وهم البنون، وقال اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله كذباً واختراقاً منهم. {سبحانه}: أي: تنزيهاً له عما يقولون، {وتعالى} عن ذلك. قوله: {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد} الآية. المعنى: هو بديع السماوات، أي: (مبتدعها ومحدثها) بعد أن لم تكن.

102

{أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد} أي: من أي: وجه يكون له ولد {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة}؟ أي: إن الولَدَ إنما يكون للذَّكَر من الأنثى، ولا ينبغي أن تكون له صاحبة، فيكون له وَلد، لأنه خالق كل شيء. وقيل: المعنى: من أين يكون له ولد وولد كل شيء يشبهه، ولا شبيه لله. وهو خالق كل شيء، وهو عليم بكل شيء، لا يمكن أن يكون وَلدٌ لِمَن هذه صِفَته، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. قوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلِّ شَيْءٍ} الآية. والمعنى: فذلكم الذي ذكرت صفته هو الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء. وقد تعلق القائلون بخلق القرآن بقوله: {خالق كُلِّ شَيْءٍ}، قالوا: القرآن شيء، فهو داخل تحت الخلق. وقد جرت هذه المسألة بين عبد العزيز بن يحيى المكي وبين بشر

ابن غياث المريسي القدري بحضرة المأمون، اختصرت الحكاية لطولها: قال عبد العزيز: قلت لبشر: ما حجتك في خلق القرآن؟، وانظر: إلى أَحدّ سهمٍ في كنانتك فَاْرمِنِي به. قال: فقال لي بشر: تقول: إن القرآن شيء أم غير شيء؟. (قال عبد العزيز): فقلت له إن كنتَ تريد أنَّه شيء إثباتاً للوجود ونفياً للعدم، فَنَعَم هو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم لذاته وأنه كالأشياء فلا. قال له بشر: قد أَقْرَرْتَ أنه شيء وادّعيتَ أنه لا كالأشياء، فأت بنصٍ على ما زَعَمتَ. قال عبد العزيز: فقلت: قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، فبِقولِه تكون الأشياء، وليس هو كهي. وإنما تكون الأشياء بقوله وأمْرِه. فقولُه خارج

عن الأشياء المخلوقة، ألا ترى إلى قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، فجمع في لفظة " الخلق " جميع المخلوقات، ثم قال: {والأمر} يريد الذي كانت به هذه المخلوقات كلها. والأمر غير المخلوقات، وهو قوله: {كُنْ} [النحل: 40]. وقال (الله) تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل الخلق ومن بعد الخلق. وقد أخبر عن الأشياء المخلوقات في غير موضع من كتابه، وأنه خلقها بأمره وقوله، فقال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} [الأنعام: 73]، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الحجر: 85، الأحقاف: 3]، والحقُّ هو كلامُه. فأمُره، كلامُه، وكلامُه: أمرُه، وأمرُه: الحقُّ، والحقُّ: أمرُه، وكلامُه: الحقُّ، والحقُّ: كلامُه. فهذا يدل على أن كلامه لا كالأشياء المخلوقة، لأنها به كانت (وحَدَثَت). وأما ما يدل على أنه " شيء " فقوله: {إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 93]، فدل على أن الوحي شيء، ودل ما تَقدَّم على أنه لا كالأشياء. قال بشر: قد زعمت أن الله يخلق الأشياء، وادّعيتَ أنَّها تكون بقوله، وأنَّها

تكون بالحق، وأنَّها تكون بأمره، وهذا متناقض. قال عبد العزيز: إِنّ قولَه هو كلامُه، وقولَه هو الحقُّ، وأمرَه هو كلامُه: فالألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد، كما سمى كلامه: نوراً وهدىً وشفاءً ورحمةً و {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}، وكله يرجع إلى شيء واحد، [كذلك ذاك. وكما سمى نفسه: فرداً صمداً واحداً]، وهو شيء واحد لا كالأشياء. وهذا إنّما منعه بِشْر لجِهلِه بِلُغةِ العرب. قال بشر: (لَستُ) أَقْبَلُ لغةَ العرب، ولا أَقَبل إلا النص. قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} [الفتح: 15]، ثم قال: {كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} [الفتح: 15]، فسمى القرآن كلامه، ثم سماه: قوله، وقال: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، فسمى القرآن حقاً، وقال: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق} [الأنعام: 66]، وقال:

{لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ} [يونس: 94]، ومثل هذا كثير. قال بشر: قد أقررت يا عبد العزيز أن القرآن شيء على صفة ما، وقد قال تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْ} [الأنعام: 102، الرعد آية 16، الزمر آية 62، غافر آية 62]، وهذه لفظة لم تدع شيئاً من الأشياء إلا أدخلته في الخلق، ولا يخرج عنها شيء، قد تقَصَّتْ جميع الأشياءِ، فصار القرآن مخلوقاً بنص القرآن. قال عبد العزيز: فقلت: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، فهل أبقت الريح - يا بشر - شيئاً لم تدمره؟ قال بشر: لا. قال عبد العزيز: فقلت له: قد - والله - أَكْذَب الله قائل هذا بقوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، فأخبر أن مساكنهم كانت باقية وهي أشياء كثيرة، وقال تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} [الذاريات: 42]، وقد أتت على الجبال والشجر والأرض فلم تجعله رميماً، وقال D: { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، يعني بلقيس، فهل

أوتيت ملك سليمان وهو أضعاف ملكها؟. فهذا تكسير لقولك يا بشر. ولكن ما تقول - يا بشر - في قوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، وقال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، وقال: {أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} [هود: 14]. وقال: {وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11، فصلت: 47]!، فأخبر تعالى أن له علماً. أفتقرُّ - يا بشر - أن له علماً كما أخبر في كلامه أو تخالف التنزيل؟. فعلم بشر أنه (إنْ) قال: " له علم "، فيقول له: أهو داخل في الأشياء المخلوقة أم لا؟. فإن قال: " دخل "، كفر. وإن قال: لا. أجاز ما منع في الكلام. وأبى أن ينفي العلم فخالف التنزيل، فحاد، ثم قال: معنى علمه: أنه لا يجهل. قال عبد العزيز: لم أسألك عن هذا، قد علمت أن الله لا يجهل، انما سألتك:

هل تثبت له علماً كما أثبته لنفسه؟، وليس نفيك السوء - يا بشر - عن الله يوجب إيجاب المدح، لأن قولك: " هذه الأسطوانة لا تجهل " ليس هو إثباتاً أن لها علماً. ولم يمدح الله ملكاً (ولا نبياً ولا مؤمنا بِنَفِي الجهل) ليدل على (أنه) إثبات العلم، وإنما مدحهم بالعلم، فقال: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12]، ولم يقل: " لا يجهلون "، وقال لنبيه: {(وَتَعْلَمَ) الكاذبين} [التوبة: 43]، ولم يقل: " ولا تجهل "، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، ولم يقل: " الذين لا يجهلون "، فمن أثبت العلم نفى الجهل، وليس (كل) من نفى الجهل أثبت العلم، (و) على الخلق جميعاً أن يثبتوا ما أثبت الله لنفسه.

فقال بشر: أتقول: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75، لقمان: 28] وإن له (سمعاً وبصراً) كما أثبت (له عِلْماً)؟. قال عبد العزيز: فقلت: إنما على الناس أن يُثبتوا ما أثَبتَ، وينفوا ما نفى، ويُمسكوا عن ما أمسك الله. فأخبرنا تعالى أن له علماً، فقلت: " له علم "، ولم يخبرنا أن له سمعاً ولا بصراً، فأمسكنا عن ذلك. فقال بشر: قد زعمت أن لله علماً، فما معنى علم الله؟. / قال عبد العزيز: هذا ما لا يعلمه إلا الله، قد تَفرَّد بذلك، وقد أمرني بشر أن أترك قول الله وأَمرَه، واتبع أمر الشيطان، لأن الله أخبر عن الشيطان أنه (يأمرنا أن) نقول (على) الله ما لا نعلم، وحرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم بقوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169، الأعراف: 33]، فقد اتبع بشر طريق الشيطان، وارتكب ما حرم الله علينا.

قال عبد العزيز: فانقطع بشر، فقلت له: يا بشر، ألست تقول إن لله نَفْساً بقوله: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41]، وبقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28، 30]؟. قال بشر: نعم له نفس كما أخبرنا. قال عبد العزيز: فقلت له: قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ (الموت)} [آل عمران: 185]، أفتقول - يا بشر - إن نفس رب العالمين داخلة في هذه النفوس المخلوقة؟. فأبى بشر من القول بذلك، فقال له عبد العزيز: وكذلك كلام الله ليس بداخل في الأشياء المخلوقة. فسكت بشر. قال عبد العزيز ثم قلت له: القرآن نزل على أربعة أخبار: - خبر مخرجه مخرج الخصوص، ومعناه الخصوص، كقوله: {اسجدوا لأَدَمََ} [البقرة: 34، الأعراف: 11، الاسراء: 61، الكهف: 50، طه: 166]، وكقوله: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} [آل عمران: 59]: هذا خاص في لفظه ومعناه. - والثاني: خبر مخرجه مخرج العموم، ومعناه معنى العموم، كقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} [النمل: 91]، فكل شيء له، مخلوقاً كان أو غيرَ مخلوقٍ، وصفاته له، وخلقه له.

- والثالث: خبر مخرجه العموم ومعناه الخصوص، نحو قوله: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13]، و (النّاسُ) يجمع آدم وعيسى وغيرهما، ولم يكونا من ذكر وانثى. ومنه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وهي لم تَسَع إبليس والكفار، لقوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ} [ص: 85]. - والرابع: (خبر) مخرجه الخصوص ومعناه العموم، كقوله: {وَأَنَّهُ (هُو (َ رَبُّ الشعرى} [النجم: 49]، فخص " الشعرى "، والمعنى: أنه رب كل شيء: الشعرى وغيرها، ولكن خصّها الله باللفظ، لأنهم كانوا يعبدونها. فهذا اختصار بعض ما جرى بينهما، فنرجع إلى ما كنا فيه. قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: قال الفراء: الوكيل: الكافي. ومنه قولهم: "

103

{حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173]، أي: كافينا الله ونعم الكافي ". وقال قتادة: الوكيل: الحفيظ. وقيل: الوكيل: الولي. وقيل: الرب. وقيل: الكفيل. قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} الآية. قال ابن عباس: معناه: لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها. وليس معناه: لا تراه، كما زعمت المعتزلة القدرية، وقد قال الله عن فرعون: {إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90] فوصف بأن الغرق أدرك فرعون) ولم يخبر أنه رآه، لأن الغرق ليس مما يُرى، فليس الإدراك هو الرّؤيةَ، وقد يرى الشيءُ الشيءَ ولا يُدرِكه، كما حكي عن أصحاب موسى حين قرب منهم أصحاب فرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، وكان أصحاب فرعون قد رأوا أصحاب موسى، ولم يكونوا

ليدركوهم، لأن الله قد وعد نبيَّه أنهم لا يُدرَكون بقوله: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77]، ولذلك قال لهم موسى: (كَلاّ) أي: ليس يُدرِكونا، فليس (قوله): {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} بمعنى: لا تراه الأبصار. وإنما معناه: لا تحيط به الأبصار، لأنه غير جائز أن تحيط به الأبصار، ومثل هذا وصفه بأنه يُعلم ولا يحاط به. / وقيل: معناه: لا تراه الأبصار في الدنيا، قال السدي وغيره. والكلام على جواز رؤية الله جل ذكره في الآخرة يطول، وبجوازه يقول أهل السنة والجماعة، و (به) تواترت الأخبار وتتابعت الروايات عن النبي

عليه السلام، وهو معنى قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وهو المفهوم من قوله تعالى في الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فلو كان الخلق كلهم محجوبين عن ربهم، ما خص ذكر الكفار بالحجاب. وفي تخصيصه الكفار (بالحجاب) دليل على أن المؤمنين غير محجوبين عن ربهم، فأما قول من قال: إن معناه: " عن رحمة ربك " وقال في (الآية الأخرى): " إلى رحمة ربها ناظرة "، فهو قول متقاحم بالباطل، مُدَّعٍ ما ليس لفظُه في الكلام، مُخرِج للخطاب عن ظاهره، متكلِّف إضمارَ ما ليس في الكلام عليه دليل، ألْجَأَهُ إلى ذلك كله نَصْرُ باطله (بباطل مثله)، أعاذنا الله من ذلك كله.

وقيل: معنى (الأبصار) هي في هذا: أبصار العقول، كما قال: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} [الأنعام: 104]، فالمعنى: لا يدركه نفاذ العقول فتتوهمه وتُكيّفه إذ ليس كمثله شيء متوهّم محدود. قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير): (اللطيف)}: مشتق من اللطف وهو التأني يقال: " أُلطُفْ لِفُلانٍ في هذا الأمرِ "، أي: " تأن له " من وجه يَخلُص (منه) إلى بغيته، (فالله لطيف بالخلق) حتى صاروا إلى ما يصلحهم. وقيل: {اللطيف}

104

هو الذي فعل أفعالاً لطيفة، و {الخبير}: العالم بالشيء. فهو لطيف لإِحْكامهِ الخَلْقَ، وهو العظيم، لأنه خلق الخلق العظيم. قوله: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} الآية. المعنى: أن الله أمر نبيه أن يقول للمشركين ذلك. والبصائر: الهدى. وقيل: الآيات الدالة على الهدى. {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي: استدل وعرف نفع نفسه، {وَمَنْ عَمِيَ}: أي: من ضَلّ فعلى نفسه، {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: لست عليكم برقيب أحصي أعمالكم، إنما أنا مُبلِّغ.

105

وقيل: المعنى: (لست) آخذُكم بالإيمان أخذَ الوكيل عليكم، وهذا قبل الأمرِ بالقتال، فلّما أُمِر النبي بالقتال، صار حفيظاً ومسيطراً على كل من تولى. وقيل: المعنى لم أُؤْمَرْ بحفظكم عن أن تَهلكوا. قوله: {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} الآية. المعنى: وكما صرفنا لكم الحجج والعلامات فيما تقدم مثل ذلك أفعل في كل ما جهلتموه ولم تعرفوه، ومعنى (نُصَرّف): نبيّن. وقوله: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} أي: " ولئلا يقولوا درست ". وقيل: المعنى: وليقولوا درست صرفناها، لأنهم لما آل أمرهم بَعدُ - (عند تصريف الآيات) - إلى أن يقولوا لمحمد: " درست ". صار كأنه إنما صرَّفها ليقولوا ذلك، مثل {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} [يونس: 88]، و {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً (وَحَزَناً)} [القصص: 8] وشبهه، وأهل اللغة

يسمون هذه اللام لام الصيرورة، لأن السبب الذي " صيرهم ليقولوا له ": " درست "، هو تصريف {الآيات}. ومعنى (دَرَسْتَ): قَرأْتَ وتَعلَّمْتَ كتب الأولين. ومن قرأ (دارَسْتَ) فمعناه: قارَأْتَ أهل الكتاب فتعلمت منهم وتعلموا منك. ومن قرأ (دَرَسَتْ) / بإسكان التاء، فمعناه: تقادمت وَاّمَحتْ، أي: الذي

106

تتلوه علينا قد مَرَّ بنا قديماً و (تطاولت) مدته. وروى الحسن: (دَارَسَتْ) بألف وإسكان التاء. ولا يجيزها أبو حاتم، لأن الآيات لا تدارس. ومعنى الآية عند غيره: وليقولوا: دارستك أمتك. {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: صرفناها لنبين القرآن لقوم يعلمون. فالهاء (في) {وَلِنُبَيِّنَهُ} للقرآن، وقيل: للتصريف. قوله: {اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ} الآية. المعنى: أن الله أمر نبيه باتباع القرآن والإعراض عن المشركين ثم نسخ ذلك بآية القتال في " براءة ".

107

قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ} الآية. أعلم الله نبيه أنه لو شاء الله لهداهم فلم يشركوا. وقيل: المعنى: لو شاء لأنزل عليهم آية تضطرهم إلى الإيمان. ثم قال لنبيه: وما أرسلناك عليهم حفيظاً، أي: إنما أرسلناك مبلغاً، لم ترسل لتحفظ عليهم أعمالهم، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: بِقَيّم تقوُمُ بأرزاقهم وأقواتهم. وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نُسخَ الأمرُ بالقتال هذا كله. قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} الآية. {عَدْواً}: مصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله.

وفي قراءة المكيين: {عَدْواً} جعلوه واحداً يدل على الجمع، كما قال: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} [النساء: 101]، ونصبه على الحال. وقد روي عنهم: (عُدُوّاً) بضمتين، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، ونصبه على المصدر، يقال: عدا يعدو عَدْوا (وعُدُوّاً) وعُدْواناً. ومعنى الآية: أن المشركين قالوا: لتنتهن عن سَبّ آلهتنا أو نهجو ربكم، فأمر (الله) المسلمين ألا يسبوا آلهتهم لئلا يسبوا الله جهلاً منهم بخالقهم ورازقهم.

109

(ثم قال تعالى): {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} (أي) كما زيّنَا لهؤلاء عبادة الأوثان، كذلك زيَنّا لكل جماعةٍ - اجتمعت على عمل من الأعمال، طاعة أو معصية - عَمَلَهم، ثم مرجعهم بعد ذلك إلى الله فيخبرهم بأعمالهم ويجازيهم عليها. قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} الآية. المعنى: أن الله جل ذكره لمّا نزّل في " الشعراء " {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، أقسم كفار قريش: {لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا}، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربَّك أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فأنزل الله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وهو خطاب للمؤمنين السائلين النبي في ذلك. وقيل: معنى الآية: أن الكفّار سألوا النبي A أن يأتيهم بآية، وحلفوا ليؤمنن إِنْ أتت، فقال المؤمنون: يا رسول الله، سل ربك أن ينزلها (عليهم) حتى يؤمنوا،

(فأنزل الله): وما يشعركم أيُّها المؤمنون بذلك؟، أي: بصحة قولهم (ثم قال) مستأنفاً مخبراً عنهم - بما يفعلون لو نزلت -: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وهذا معنى الكسر، وهو الاختيار عند أكثر النحويين. وهذه الآية هي التي توعّدوا بها / في الشعراء في قوله: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4]، فقال الله لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} وهو القادر على إنزالها. والذي سألوه هم أنهم قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً. فسأل النبي A في ذلك،

فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك لَيُعذِبَنّهم الله، وَ (إِنْ) شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال النبي A: " بل يَتوبُ تائِبُهم "، فأنزل الله: {وَأَقْسَمُواْ بالله} الآية. ومن قرأ بالتاء، فإنما هو خطاب للمشركين الذي سألوا الآية، ويحتمل وجهين: - أحدهما: أن تكسر (إِنّ) على معنى: وما يشعركم ذلك، ثم استأنف بالإخبار عما سبق في علمه، وعِلم ما لو كان كيف كان يكون، فقال: إنها إذا

جاءت لا تؤمنون أيها المشركون. - ويحتمل أن تفتح (أنَّ)، ويكون المعنى: وما يُشعركم - أيُّها المشركون - أنها إذا جاءت تؤمنون؟، وتكون (لا) زائدة. ومن قرأ بالياء فهو خطاب للمؤمنين الذين سألوا النبي أن يسأل آية ليؤمن المشركون عند نزولها على ما سألوا، وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، ويحتمل معنيين: أحدهما: فتح (أنَّ) ويكون المعنى: وما يشعركم - أيُّها المؤمنون - أنَّها إذا جاءت يؤمنون؟، أي: (ما) يدريكم أنَّهم يؤمنون إذا نزلت الآية. وتكون (لا) زائدة. - والوجه الآخر: أن تكون (إنِّ) مكسورة، ويكون المعنى: وما يشعركم - أيها

المؤمنون - ذلك. ثم استأنف فقال: {أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُون}، يخبر بما يكون لو فعل بهم ذلك. ويجوز في القراءتين جميعاً - الياء والتاء - أن تكون (أنَّها) - إذا فتحت - بمعنى " لعلها "، وتكون (لا) غير زائدة. والياء اختيار الطبري مع فتح (أنَّ) بمعنى " لعلها ". ولو فتحت (أنَّها) ولم تقدر زيادة (لا) ولا كون (أنَّها) بمعنى " لعلها "، لكان ذلك عذراً لهم. ولا يتم فتح (أنَّها) إلا بأحد وجهين: - إمَّا أَنْ تقدرها بمعنى " لعلها " - أو تقدر زيادة (لا). فاعلم ذلك.

وقد حكى الخليل عن العرب: " ائت السوق أنَّكَ تشتري لنا "، أي: لعلك. وسمع الكسائي رجلاً يقول: " ما أدري أنه صاحبها "، أي: لعله. وسمع الفراء أبا الهيثم العُقيلي يقول: " أنَّها (تركته لفاقة حاله) "، يريد " لعلها تركته ". وفي قراءة أُبيّ {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وفي حرف عبد الله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ إِذَا (جَاءَتْ) لاَ يُؤْمِنُونَ). ومن قدر زيادة (لآ) هنا، أوقع {يُشْعِرُكُمْ} على {أَنْ} ففتحها، ويجعل (لا) صلة كهي في قوله: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]، المعنى: حرام عليهم أن

110

يرجعوا، ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]. قال الفراء: العرب تجعل " لا " صلة في كل كلام دخل في آخره (أو في أوله) جحد، أو في أوله جحد غير مصرح. وقيل: في الآية قول حسن، وهو أن يكون المعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون. ثم حذف الأخير لدلالة الأول عليه، فيِعمل (يُشْعِرُكُم) في (أَنَّها)، ويفتح (أَنَّ)، ولا يقدر زيادة / (لا)، ولا يقدر (أنَّها) بمعنى " لعلها "، ولا تكون عذرا لهم. (والوقف على (يُشْعرِكُم) في قراءة من كسر (إنّ)، وفي قراءة من فتح على تقدير " لعلها " حسن، ولا يحسن الوقف على (يُشعِركم) على غير هذين الوجهين). قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} الآية. المعنى: أنهم لما أشركوا وجَحدوا، لم يثبت الله قلوبهم على شيءٍ. قال ابن

زيد: (المعنى): نمنعهم من الإيمان كما فعلنا بهم أول مرة. وقيل: المعنى: لو جئناهم بآية ما آمنوا كما لم يؤمنوا أول مرة، لأن الله حال بينهم وبين ذلك. وقال مجاهد: المعنى: يَحُولُ بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون كما حُلْنا بينهم وبين الإيمان أولَ مرةٍ. كأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والمعنى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} كما لم يؤمنوا به أول مرة، وذلك قبل إتيان الآية: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم}، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره جعل عقوبة الإعراض عن الحق - بعد أن بين لهم - الطبعَ على قلوبهم، و (الغشاوة) على أبصارهم. والهاء في (بِهِ) للقرآن. وقيل: لمحمد. وقيل: للمسؤول، أي: كما لم يؤمن أوائلهم بما سألوا من الآيات بعد نزولها، فكذلك يفعل كفار قريش لو نزل عليهم ما سألوا من الآيات.

وعن ابن عباس: (أن المعنى): أن الله (أخبرنا ما يفعل بعباده) لو ردهم إلى الدّنيا، فقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: لو ردُّوا إلى الدنيا لَحِيلَ بينهم وبين الهدى، كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. قال الطبري: المعنى: ونُقلّبُ أفئدتهم فنزيغها عن الإيمان، وأبصارهم عن رؤية الحقِّ، كما لو لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبل مجيئها أول مرة، أي: قبل ذلك. والهاء عنده تعود على التقليب، وفيما تقدّم من الأقوال، تعود على الهدى، أو على الإيمان، وقد قيل: على الرسول، وقيل: (على القرآن). وقيل: على الله جل ذكره. وقوله: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: نتركهم في حيرتهم يترددون. قال النحاس: المعنى: نُقلّب أفئدتهم وأبصارهم على لهب النَّار كما لم يؤمنوا به في الدنيا. ثم قال: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، أي: ونمهلهم في الدنيا فلا نعاقبهم، أي: ونتركهم

111

في طغيانهم يتحيرَّون. قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} الآية. وهذه الآية من الله (إعلام) يُزيل بها طمع النبي من (أن يؤمن) هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ، الذين سألوا الآية وأقسموا إنهم يؤمنون إذا نزلت، فأخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كلُّ آيةٍ، فقال تعالى: لو نزّلتُ إليهم الملائكة، أي: عياناً {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} بأنك مُحِقٌّ فيما تقول، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: جمعنا عليهم، {كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} أي: عياناً. / وقيل: معناه: آتيناهم بما غاب عنهم من أمور الآخرة، ما آمنوا {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}، عزى الله نبيه بهذا، وأعلمه أن من سبق في علم الله ألا يؤمن، فلا ينفعه شيء. قوله: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}: أي: يجهلون ما في مخالفتك - يا محمد - وهم يعلمون أنك نبي صادق فيما جئتهم به.

وروي " أن النبي عليه السلام كان يداعب أبا سفيان بمِخْصَرَة في يده، يطعن بها أبا سفيان، فإذا أخرقته قال له: نح عني مخِصَرَتَك، فوالله لو أسلمتُ إليك هذا الأمر، ما اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النبي: أسألك بالذي أسلمت له، (عن أي: شيء كان قتالُك إيّايَ)؟. قال له أبو سفيان: تظنُّ (أنيِّ كَنْتُ) أقاتلك تكذيباً مني، والله ما شككت في صِدقك، وما كنت أقاتلك إلا حسداً مني لك، فالحمد لله الذي نزع ذلك من قلبي. فكان النبي يشتهي ذلك منه، ويَتَبَسَّم إليه " ومن قرأ (قُبُلاً) بالضم، احتمل ثلاثة أَوْجُهٍ:

- أحدها: أن يكون جمع " قبيل "، كرغيف ورُغُف. والقبيل: الضمين والكفيل، ويكون المعنى: وجمعنا عليهم كل شيء يَكتفِل الملائكة لهم بصحة هذا، لم يؤمنوا، كما قال: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الاسراء: 92] أي: ضميناً. - والوجه الثاني: أن يكون " القُبُل " واحداً، بمعنى المقابلة، تقول: " أَتَيْتُكَ قِبَلاً لا دُبُرا ": إذ أتيته من قِبَل وجهه، فالمعنى وجمعنا عليهم كل شيء من قِبَل وُجوهِهم. - والوجه الثالث: أن يكون (قُبُلاً) جمع " قبيل " أيضاً، ويكون " قبيل " بمعنى: فِرْقة وصنف. فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء صنفاً صنفاً وقبيلة (قبيلة)، فيكون (قبلاً) جمع " قبيل " و " قبيل " جمع " قبيلة ". ومن قرأ (قِبَلاً) فمعناه: عياناً، أي: معاينة.

112

وهذا (إعلام) للنبي كإعلام نوح: {أَنَّهُ (لَن يُؤْمِنَ) مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36]. وقال المبرد: (قِبَلاً) بمعنى ناحية: أي: وجمعنا عليهم كل شيء ناحية، كما تقول: " لي قِبَلَ فلانٍ مالٌ "، أي: ناحِيتَه، فكان نصبه - على هذا - على الظرف، وعلى الأقوال المتقدمة: على الحال. قوله: {وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شياطين الإنس} الآية. {عَدُوّاً} مفعول أول ل (جَعَلنْا)، و {لِكُلِّ نِبِيٍّ}: المفعول الثاني، و (شياطين) بدل من {عَدُوّاً}. ويجوز أن يكون (شياطينَ) مفعولاً ثانياً، و (عَدُوّاً) أولا. حكى سيبويه أنَّ (" جَعَلَ " بمعنى: " وَصَفَ ")، فَيَتَعدَّى إلى مفعولين،

ويكون التقدير: وكذلك جعلَّنا شياطين الإنسِ والجنِّ أعداء للأنبياء. {غُرُوراً} مصدر، أي: يَغرُّون غُروراً. ويجوز أن يكون في موضع بالحال. ومعنى الآية: أنه فيها حذف، والمعنى: وكما جعلنا لك - يا محمد - ولأمَّتِك شياطين الإِنِّسِ والجنِّ أعداء يوحي بعضهم إلى بعضٍ زخرف القول غروراً، كذلك جعلنا لكل من تقدمك من الأنبياء وأممهم، وهذا تسلِّية للنبي عليه السلام فيما لقي من (كفر) قومه. ومعنى (شياطينَ الإنس (والجنِّ): قال السدي: للإنسِ شياطينِ تضلهم، ومثله للجن، فَيَلْقى شيطان الإنسي شيطان الجنِّي، فيقول أحدهما للآخر: " إني قد أضللت صاحبي بكذا وكذا، (فأَضْلِلْ أنت) صاحبك بذلك "، فيُعَلِم بعضهم بعضاً، فشياطينِ الإِنس من الجِنِّ، وشياطين الجنِّ من الجِنِّ. وكذلك قال عكرمة.

وقيل: المعنى: أن مَرَدَة الإنس شياطينَ، ومثل ذلك من مردة الجِنِّ، يوحي بعضهم إلى بعضٍ من القولِ ما يؤذونهم به. وقال مجاهد: شيَّاطين الإنِّسِ: كفارهم /، وشياطينَ الجِنِّ: كفارهم. والشيِّطان - في اللغة - هو المتمرِّد في معاصي الله. ومعنى {زُخْرُفَ القول} هو تزيين الباطل، يُقال: " زَخرفَ باطِلَه ": إذا حسَّنه، فهو تزيين الباطل بالألسنة. قوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي لو شاء الله ما فعل هؤلاء الشياطين العداوة بالأنبياء وأممهم، ولكن لم يشأ ذلك ليبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كلُّ فريقٍ

113

منهم ما سبق له في (أم) الكتاب. والهاء في قوله: {مَا فَعَلُوهُ} تعود على الإيحاء لدلالة (يوحي) عليه، وقيل: على العداوة وذكر لأن التأنيث غير حقيقي. وقوله: {فَذَرْهُمْ} أي: دعَّهم وافتراءهم. هذا فيه معنى التهديد والوعيد. قوله: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} (الآية). يقال: صَغَى يَصْغَى، وصَغَا يَصْغُو، (وَصَغَا يَصْغَا).

114

قرأ الحسن: {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ} بإسكان اللامين. ومعنى الآية: أنَّها معطوفة على ما قبلها، والتقدير: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعضٍ المُزَيّن من القول ليَغرُّوا به المؤمنين، و (لكي تصغى) إليه أفئدة الذين لا يؤمنون [بالآخرة]. فالهاء في (إليْهِ) تعود على (زُخْرُف الْقَوْل)، وهو المُزَيَّن له. ومعنى " تصغى ": تميل إليه. ومعنى {وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} أي: وليكتسبوا ما هم مكتسبون. يُقال: خرج فلان يقترف لأهله "، أي: يكتسب. قوله: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} الآية.

115

{حَكَماً} نَصْبٌ على البيان أو على الحال. والمعنى: قل لهم يا محمد: (أأبتغي) غير الله حَكَماً؟، أي: [أأبتغي] حُكماً غير حُكمِه ولا حُكْمَ أَعْدَلُ من حُكْمِهِ، {وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} (أي القرآن)، {مُفَصَّلاً} أي: مبيّناً. {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق} يريد أهل التوراة والإنجيل المؤمنين منهم بمحمد، يعلمون أنه حق، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي: من الشاكين فيما جاءك من الأنباء، وفي {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق}. قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (الآية). حجة من قرأ (كلمات) - بالجمع - أنها في المصحف بالتاء، ولإجماع

الجميع على قوله: {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ}. ومة قرأ بالتوحيد، احتج بإجماع الجميع على التوحيد في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [هود: 119]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى} [الأعراف: 137]. وإنما كتبت بالتاء عند من وحّد، لأنها كتبت على اللفظ، بمنزلة {وَمَعْصِيَتِ الرسول} [المجادلة: 8، 9] و {فِطْرَتَ الله} [الروم: 30] وشبهه. والمعنى: أن الله سمى القرآن (كلمة)، كما تقول العرب للقصيدة: " هذه كلمة

فلان "، والموصوف هنا بالتمام هو القرآن، لا مبدل له، أي: لا مغير لما أخبر في كتابه أنه كائن، وهذا مثل قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} [الفتح: 15] والذي أرادوا أن يبدلوا هو قوله: {لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} [الفتح: 15]، فتقدم في علم الله أنهم لا يتبعون النبي، فأرادوا أن يبدلوا ذلك فقالوا للنبي: {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15]، وقد تقدم من الله أنهم لا يتبعونهم فأرادوا أن يغيِّروا ما تقدَّم في علم الله وقد كان أخبره الله في كتابه بقوله: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ (فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن)} [التوبة: 83] إلى {الخالفين} [التوبة: 83]، فكلام الله هنا: ما أخبر أنهم لن يتبعوا، فأرادوا أن يبدلوا خبر الله ويتبعوه، وكذلك قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي: أنَّه لا بُدَّ واقع كل ما أخبر به، لا يحيلهُ أحد ولا يغيره.

116

{وَهُوَ السميع} أي: السميع لما يقول العادلون الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئِّن جاءتهم آية ليؤمنن بها، وغير ذلك مما يَقولُ خَلْقهُ، {العليم} بما يؤول إليه أمرهم من صدق وإيمان أو كفر. قوله: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض (يُضِلُّوكَ)} الآية. والمعنى: أن هذه الآية نزلت في أكل الميتة، قال المشركون للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، فأنزل الله D خطاباً للنبي وأمّته: وإن تطيعوا هؤلاء وأكثر من في الأرض فيما دعوكم إليه من أكل الميتة أو أكل ذبائحهم لآلهتهم وما أهلوا به لغير الله، يضلوكم عن الحق، فإنهم ليس يتبعون في أمرهم إلا الظن، وليس ما يصنعون على يقين من أمرهم، إذ ليس عندهم به كتاب ولا رسول، {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} الكذب، ويقولون ما لا يحب الله، والله (يعذب) الكفار على ظنهم وجهلهم. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] ثم قال:

117

{ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27]. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} الآية. (مَن) استفهام، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: هو أعلم أي: الناس يضل بمنزلة {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} [الكهف: 12]. وقيل: موضعها خفض بإِضَّمَارِ الباء. وقد قيل: هي في موضع نصب، و {أَعْلَمُ} بمعنى: يعلم، وهذا بعيد، لأن بَعدَه {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}، فدخول الباء هنا يدل على أن {أَعْلَمُ} ليس بفعل، إذ لو كان فعلا لم يصل بالباء، لا يقال: " هو يعلم بزيد " بمعنى: " يعلم زيداً ".

118

فالمعنى: أن الله أعلم بأهل الإضلال عن سبيله، {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} إلى الحق من غيره. قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} الآية. هذا أمر للنبي وأمته أن يأكلوا مما ذبحوا وذكروا اسم الله عليه. وفي هذا دليل على النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه متعمداً، ثم بَيَّنَ ذلك فقال: {(فَكُلُواْ) مِمَّا ذُكِرَ اسم الله}، وقال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} الآية. المعنى: وأي شيء لكم في ترك أكل ما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم الحرام من الحلال؟ وقرأ عطية العَوْفي (وَقَدْ فَصَلَ) بالتخفيف، على معنى: (أبان لكم)،

{إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} يريد لحم الميتة للمُضطَّر. ثم قال: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ} من فتح الياء أضاف الضلال إليهم في أنفسهم، وتصديقه قوله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} [النحل: 125، النجم: 30، القلم: 7] و {قَدْ ضَلُّواْ} [النساء: 167، المائدة: 77، الأنعام: 140، الأعراف: 149] و {هُمُ الضآلون} [آل عمران: 90]. وحجة من ضم أنه أبلغ، لأنَّ كلُّ من أضلَّ غيره فهو ضَالْْ، وليس كل من ضلَّ أضلَّ غَيْرَهُ، فالضم أبلغ في الإخبار عنهم. وحجَّته أيضاً، أنَّهم قد وصفوا قبل بالكفر الذي هو الضَّلال، فلا معنى لوصفهم بذلك، فوجب وَصْفُهم بأنَّهم مع ضلالتهم يُضِلُّون غيرهم. وكذلك الحجة فيما كان مثله مثل {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} [لقمان: 6]، الضم أبلغ لأنَّ شراء لهو الحديث ضلال،

120

(فوصفه بفائدة) أخرى أولى من وصفه بما قد دَلَّ عليه الكلام الاول. فالإضلال - هنا - أمكن من الضلال. وقد أجمع الجميع / على قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس} [الأنعام: 144] أنه بالضم، وعلى {فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67]. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ (بالمعتدين)} أي: بمَنْ اعتدى حدوده فتجاوزها. قوله: {وَذَرُواْ ظاهر الإثم (وَبَاطِنَهُ)} الآية. المعنى: أن الله أمر بأن يترك الإثم، (علانيته وسرّه)، قليله وكثيره. وقيل: الظاهر هو ما نهى عنه من قوله:

121

{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 22]، والباطن: الزنى، قاله ابن جبير. وقال السدي: الظاهر: الزواني [اللاتي] في الحوانيت، والباطن: الصديقة تؤتى سراً، (و) قال الضحاك في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] قال: كان أهل الجاهلية يستسرّون بالزنى ويرونه سراً حلالاً، فحرّم الله السر والعلانية. وقال ابن زيد: الظاهر: التعري والتجرد في الطواف، والباطن: الزنا، وقال في: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)} [الأنعام: 151]: الظاهر: تعريتهم إذا طافوا، والباطن: الزنا. قوله: {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي: يعملون به، سيجزون به. قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} الآية.

المعنى: ولا تأكلوا - أيها المؤمنون - مما مات ومما ذبح لغير الله، أو ذبحه (غير) مسلم، أو مما تُعُمِّدَ ترك (ذكر) اسم الله عليه، فإن أكله فسق. قال ابن عباس: هذا جواب للمشركين حين قالوا للنبي: لا تأكل ما قتل ربك وتأكل ما قتلت. فالمعنى على هذا: إنما هو (النهي) عن أكل الميتة. ومذهب مالك وأكثر الفقهاء أن المسلم إذا نسي التسمية وذبح، أنه تؤكل ذبيحته. ومعنى التسمية - عند أكثر المفسرين - في هذه الآية: المِلّة، لأن المجوس لو سموا ذبائحهم لم تؤكل.

وتؤكل ذبائح اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بالتوراة والانجيل. (وكره) مالك ما ذبحوا لِكنائسهم ولم يحرمه. وقوله: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} يعني بذلك شياطين فارس، وهم مَرَدَتُهم من المجوس يوحون إلى أوليائهم من مردة قريش زخرف القول ليجادلوا به المؤمنين. قال عكرمة: كاتب مشركو قريش فارس على الروم، وكتبت فارس إلى مشركي قريش: " إن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، (فما ذبحه) (الله) بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه، وما ذبحوا هم يأكلون "، فكتب به المشركون إلى أصحاب محمد، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت: {(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وَإِنَّ الشياطين} الآية.

122

وقال ابن عباس: إبليس هو الذي يوحي إلى مشركي قريش، (يقول): كيف تعبدون شيئاً لا تأكلون ما قتل. قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي: في أكل الميتة، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} أي: إنكم مثلهم، وهذا يدل على من حلَّل ما حرَّم الله أنه مشرك. قال الحسن وعكرمة: حُرِمَ أكل ما لم يُذكرْ اسم الله عليه في هذه الآية، واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5]. وقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: لمعصية. وقيل: لكفر. والهاء تعود على أكل الميتة، أو على أكل ما ذبح للأصنام وشبهه. قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحييناه} الآية.

/ رَوَى المسيَّبي عن نافع (أومَنْ كان) بإسكان الواو. والمعنى: أن هذا الكلام جرى على التحذير من طاعة المشركين، والأخذ بطاعة المؤمنين، والمعنى: أطاعة من كان ميتاً فأحييناه، وهو المؤمن كان كافراً فصار مؤمناً، كطاعةِ من مَثَلُه كَمَثل من في الظلمات ليس بخارج منها، يتردَّدُ فيها، وهو الكفر يتردَّدُ فيه الكفار؟، فكان تحقيق ذلك: أطاعة المؤمنين كطاعة الكافر؟. وهذه الآية نزلت في رجلين مؤمن وكافر: فالمؤمن عمر بن الخطاب Bهـ، والكافر أبو جهل. وقيل: المؤمن عمار بن ياسر، والكافر أبو جهل. وقيل: المؤمن حمزة حيي بالإيمان بعد أن كان ميتاً بالكفر، وقيل: هو النبي حيي بالنبوة.

{كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} أي: كمن هو في الظلمات، وهي الكفر، يراد به أبو جهل، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} إلى نور الإسلام أبداً. روي أن أبا جهل رَمَى النبي بفرث - وحمزة عم النبي عليه السلام، لم يؤمن بَعْدُ - فأخبر أبو جهل حمزة بما فعل بالنبي، وبيد حمزة قوس، فَعَلا به أبا جهل غضباً للنبي، فأقبل أبو جهل يتضرع إلى حمزة ويقول: يا أبا يعلى، أما ترى ما جاء به: سفَّه عقولنا وعقول آبائنا؟. فقال له حمزة Bهـ: ومن أسفهُ منكم وأحمقُ حيث تعبدون الحجارة من دون الله؟، أشهد (أن لا) إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فحيي بالإيمان الذي وَفَّقَه الله إليه، وبقي أبو جهل في ظلمات الكفر حتى مات كافراً، وفيهما نزل {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ} [القصص: 61] يعني حمزة، {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا} [القصص: 61] يريد أبا جهل.

123

ومعنى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} قال ابن عباس: يعني بالنور القرآن يَهتدِي به وقال ابن زيد: (نوراً) هو " الإسلام الذي هداه الله إليه ". قوله: {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا}. المعنى: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون، كذلك جعلنا في كل قرية عظماء مجرميها، يعني أهل الكفر والمعصية {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا}، {وَمَا يَمْكُرُونَ} أي: ما يحيق مكرهم ذلك إلا بأنفسهم، لأن الله من وراء عقوبتهم على ما يمكرون. والأكابر: العظماء، جمع أكبر. وذكر ابن قتيبة أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير عنده: وكذلك " (جعلنا) في (كل) قرية مجرميها (أكابر) ". فَنَصَب (مُجْرمِيها بـ (جَعَلْنَا) و (أكَابِرَ) مفعول ثان ل " جَعَلَ "، كأن جعل عنده بمعنى " صَيَّرَ "، يتعدى الى

124

مفعولين. وحُكِيَ عن العرب " الأكابرة " بالهاء. وقوله تعالى: {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} هو مِثْل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} [القصص: 8]، لما كان عاقبة أمرهم فيما تقدم من علمه تؤول إلى ذلك، صار كأنهم جُعِلُوا في كل قرية ليمكروا. قوله: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} الآية. المعنى: وإذا جاءت هؤلاء المشركين آية، (أي علامة)، تدل على نبوتك - يا محمد - وصدق ما جئت به، {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} بما جئتنا به، {حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} أي: حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي موسى وعيسى، ثم قال تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} أي: إن الآيات لم يعطها الله من البشر إلا (رسولاً)، ولستم - أيها العادلون - بِرُسلٍ فَيُعْطيَكم الآيِات، بل هو أعلم من هو أولى بها. /

125

وقيل: المعنى: الله يعلم من يصلح لنبوته ويختص بالرسالة، كما قال: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32]. (ثم قال): {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} أي: ذلة، أي: هم وإن كانوا أكابر، فَستُصِيبهُم ذلَّة عند الله، ومعنى {صَغَارٌ عِندَ الله} أي: عند الله صغار. وقيل: المعنى: صغار ثابت عند الله. وقال الفرَّاء: المعنى: صغار من عند الله. والصغار: المصدر من قول القائل: " صَغَرَ صغاراً ". قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} الآية. من قرأ (ضَيْقاً) بالتخفيف، فيحتمل أن يكون مخففاً " ضَيقِ "، مثل (" ميْت، "

وميّت ")، ويحتمل أنْ مصدر " ضاقَ ضَيْقاً ". ومن قرأ (حَرِجاً) بالكسر، فهو اسم الفاعل ل " حَرِجَ يَحَرجُ، فهو حَرِجٌ "، ومن فتحه جعله مصدرا ل " حَرِجَ حَرَجاً ". ومعنى الكسر: ضَيقاً (ضيّقاً)، وهو الذي قد ضاق فلم يجد منفذاً إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. ومن فتح جعله صفة ل (ضيقاً)، كما يقال: " رجلٌ عدْلٌ " و " رضىً "، فكأنه يجعل صدره شديد الضيق. ومعنى الآية: من يرد الله أن يهديه للإيمان، {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} أي: يفسحه ويهون

عليه ويُسَهّله. قال النبي عليه السلام - وقد سُئِلَ عن هذه الآية: " إذا دخل النور القلب، انفسح وانشرح، قالوا: هل لذلك من علامة تعرف؟. قال نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و (التجافي عن) دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ". وقال ابن جريج: " {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} بلا إله إلا الله ". {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي: إضلاله عن سبيله، {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً} بخذلانه إياه، وغَلَبةِ الكفر عليه. والحرج: أشدُّ الضيق، وهو الذي لا ينفذه من شدَّةِ ضيقه شيءٌ "، وهو - هنا - الصدر الذي لا تصل إليهُ موعظة، ولا يدخله نور الإيمان، وأصل (حرجاً)

أنه جمع " حَرَجَة " وهي الشجرة الملتف بها الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء من شدة التفافها. وسأل عُمَرُ رجلاً من العرب فقال له: ما الحرجة فيكم؟ فقال: الحرجة فينا: الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيّة ولا شيء، فقال عمر: وكذلك قلب المنافق لا يصل اليه شيء من الخير. وقال مجاهد: معنى {ضَيِّقاً حَرَجاً}: شاكاً. وقال قتادة: ملتبساً وقال ابن جبير: لا يجد الإيمان إليه منفذاً ولا مسلكاً. وهذه الآية (من) أدل دليل على أن قدرة الطاعة غير قدرة المعصية، وأن كلا القدرتين من عند الله تعالى، لأنه أخبر أنه يشرح صدر من أراد (هدايته، ويضيق صدر من أراد) دَفْعَهُ عن الإيمان، فَتَضْيِيقُه للصدر منع الإيمان، ولو كان

يوصل إلى الإيمان مع تضييق الصدر عنه، لم يكن بين تضييقه وشرحه فرق. وقوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء}: هذا مثل ضربه الله لصدر الكافر في شدة ضيق صدره عن قبول الإسلام ونفوره عنه، فهو بمنزلة من تكلَّف ما لا يُطِيْقُهُ، كما أن من تكَلَّف صعود السماء تكلَّفَ ما لا يُطَاق. ومعنى التشديد - على قراءة من شدد: أنه أتى به على " يَتَفَعَّل " ثم أدغم كأنه يتكلف شيئاً بعد شيء، وكُلُّهُ لا يطيقه. / ومن قرأ (يَصّاعد) أراد " يتصاعد "، ثم أدغم، ومعناه: كأنه يتعاطى ما لا يقدر عليه، لأن الله قد خذله عن أن يقبل الإيمان، وضيّق صدره عن قبوله.

126

وتحقيق معنى {ضَيِّقاً حَرَجاً} - فيمن كسر -: ضيّقا جداً، كقولك: " مريض دَنِفٌ ". ومن فتح فمعناه: ضيقاً ذا حرج، كقولك: " رجل عدلٌ "، أي: ذو عدلٍ. (والرّجْسُ) هنا: " ما لا خير فيه "، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: " الرجس: عذاب الله ". وقال بعض البصريين: الرِّجزُ والرّجسُ: العذاب والرّجس (و) النجسُ: الشيء القذر. وقيل: " الرجس: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ". قوله: {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} الآيتان. المعنى: وهذا الذي بيَّنّا لك في هذه السورة وغيرها، {صِرَاطُ رَبِّكَ} أي:

128

طريق ربك، ودينه الذي جعله مستقيماً، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: بيّناها لقومٍ يذكرون. (و) قال ابن عباس: " يعني به الإسلام ". وقوله: {لَهُمْ دَارُ السلام} أي: للقوم الذين يذّكّرون دار السلام، والسلام: اسم من أسماء الله. فالله هو السلام، والدار: الجنة. وقيل: المعنى: دار السلامة أي: الدار التي يُسلِّم فيها من الآفات. {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} أي: والله ناصرهم بعملهم، أي: جزاء بعملهم. {مُسْتَقِيماً} تمام. قوله: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يامعشر الجن} الآية. {جَمِيعاً} نصب على الحال. والمعنى: واذكر يوم نحشر هؤلاء العادلين (و)

أولياءَهُم من الشياطين، {يامعشر الجن} أي: يقول لهم: يا معشر الجن، ومعنى {قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس} أي: قد استكثرتم من إضلال الإنس. {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم} أي: أولياء الشياطين من الإنس، {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} ومعنى الاستمتاع هنا: (أن) الرجل كان في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: " أعود بكبير هذا الوادي "، فهذا استمتاع الإنس. وأما استمتاع الجن فهو تشريف الإنس لهم واستعاذتهم بهم واعتقادهم أن الجن يقدرون على ذلك. وقيل: معنى الاستمتاع: أن الجن أَغْوَتِ الإنس، وقَبِلت الإنس منها. وقيل: المعنى: أن الإنس تلذذوا بقبولهم من الجن، (وأن الجن) تلذذوا

بطاعة الإنس لهم. وقالوا: {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} وهو الموت. (قَالَ) الله: {النار مثواكم} أي: مقامكم بها خالدين. وقوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} استثناءٌ ليس من الأول، والمعنى: إلا ما شاء الله من الزيادة في عذابكم. وسيبويه يمثل هذا بمعنى " لكنَّ ". والفراء يمثّله بمعنى: " سوى ". ومثله في " هود ": {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أي: ما شاء من الزيادة، وقال الزجاج: معنى الاستثناء هنا إنِّما هو: إلاّ ما شاء رَبُّك من محشرهم ومحاسبتهم. وقال

129

الطبري: المعنى فيه أنه استثنى مدة محشرهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم، فتلك المدة التي استثنى الله تعالى من خُلُودِهِمِ في النَّار. (و) قال ابن عباس: جعل الله أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إلى مشيئته، وروي عنه أنه قال: هذه آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، لا ينزلهم جنةٌ ولا ناراً. وقال: هذا الاستثناء لأهل الايمان. {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} العليم: هو العالم الذي كمل فيه علمه، والحكيم: / الذي قد أكمل في حكمته، ويكون " الحكيم ": الحاكم، أو بمعنى الحكم. قوله: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً} الآية. المعنى: وكما فعلنا بهؤلاء ما ذكرنا، نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر

130

بالله، استدراجاً لهم وجزاء على مخالفتهم أمر الله، وما اجترحوا من المعاصي. قال مجاهد: يجعل بعضهم ولياً لبعض. وقال قتادة: المؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أين كان وحيث كان. وقيل: المعنى: يتبع بعضهم بعضاً في النار. قال ابن زيد: المعنى: يسلط ظَلَمَةِ الجن على ظَلَمَةَ الإنس. وقيل: المعنى: يجعل ظَلَمَةَ الجن أولياء لَظَلَمَةِ الإنس جزاء بما كانوا يكسبون، وهذا كقوله: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] إلى {فَبِئْسَ القرين} [الزخرف: 38]. قوله: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ} (الآية). معنى الآية: أنها خبر من الله ما هو قائل لهم يوم القيامة، ومعنى:

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} أي: يخبرونكم بحجتي وأدلتي على توحيدي، {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي: يحذرونكم لقاء عذاب يومكم هذا، وهذا تقريع يكون لهم يوم القيامة على ما سلف منهم. قال الضحاك: أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم بدلالة هذه الآية {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ}. وقيل: معناه: أَنَّ (مِنْكُمْ) للإنس خاصة، والرسل من الإنس لا غير، وهذا كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، واللؤلؤ إنّما يخرج من الملح دون العذب. وتأول ابن عباس أن رسلُ الإنس رسلٌ من الله، ورسل الجن رسلٌ (رسلِ) الله منهم، وهم النذر، وهم الذين سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين. فهذا قول حسن.

131

وقيل: إنه لما كانت الإنس والجن تخاطب وتعقل، قيل: {رُسُلٌ مِّنْكُمْ} وإن كان من أحد النوعين، ومعنى (مِنْكُمْ): أي: منكم في الخلق والتكليف والمخاطبة. (و) قرأ الأعرج {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} بالتاء، على تأنيث المخاطبة. وقوله: {قَالُواْ شَهِدْنَا} أخبر الله عنهم بما يقولون يوم القيامة إذا قيل لهم ذلك، ومعنى الشهادة: أنهم شهدوا أن الرسل قد أتتهم بآياته وأنذرتهم عذابه، ولم يؤمنوا، {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} أي: غرتهم زينتها فلم يؤمنوا، {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ} (بالكفر). قوله: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ (مُهْلِكَ) القرى (بِظُلْمٍ)} إلى {(يَعْمَلُونَ)} [الآيتان]. {ذلك} في موضع رفع على معنى: الأمر ذلك، هذا مذهب سيبويه. وهو

عند الفراء في موضع نصب، (المعنى: فعل) ذلك. والمعنى: لم يكن ربك - يا محمد - مهلك القرى بشرك من أشرك وأهل القرى غافلون عن شرك من أشرك، فمعنى {بِظُلْمٍ}: بشرك قوم آخرين فيهم، وهذا مِثْلُ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18]. وقيل: المعنى: لم يكن الله يعاجل قوماً بالعقوبة قبل أن يرسل إليهم الرسل، ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة، [فيقولوا]: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيظلمهم. وقوله: {وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ} أي: ولكل عامل - في طاعة أو معصية - منازل ومراتب يبلغه الله إياها، إن خيراً فخيراً وإن شراً (فشراً) وليس الله بغافلٍ عما يعملون.

133

وروي عن النبي أنه قال: " الدَّرجةٌ في الجنَّةِ فوقَ الدرجةِ كما بين السماءِ والأرض، وَإِنَّ العَبْدَ - من أهلِ الجنةِ - لَيَرْفَعُ بصرَهُ فَيَلْمَع له برقٌ يكاد يَخطَف بصرَهُ، فيقول: ما هَذا؟ فيقال له: هذا نورُ أخيكَ فلان. فيقول: أخي فلان!، كنا في الدُّنيا نعمَلُ جميعاً، وقد فُضِّلَ عَليَّ هَكذا! فيُقالُ: إِنَّهُ أفضلُ منكَ عملاً. ثم يُجْعَلُ في قلبِه الرِضى فَيَرْضى بمنزلتِهِ ". قوله: {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة} الآية. المعنى: وربك - يا محمد - الغني عن عبادة من أَمَرَهُ بالعبادة، وطاعة من أمره بالطاعة؛ وهم المحتاجون إليه، لأن بيده موتهم وحياتهم ورحمتهم وعقابهم. وقوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} معناه: إن يشأ الذي خلَق خلْقَه لغير حاجة منه إليهم، يذهبهم، أي: يهلكهم، {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ} (أي) يأتي بخلقٍ غيرهم. {كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}: أي: أنشأكم مكان خَلَقٍ آخرين، لم يرد أنهم من أصلاب قوم آخرين، انما المعنى: مكانهم. كما تقول: " أعطيتك من دينارك

134

ثوباً "، بمعنى: مكان الدينار ثوباً، وليبس معناه: أن الثوب بعض الدينار. وقرأ زيد بن ثابت (ذِرِيّةِ) بالكسر، وقرأ أبان بن عثمان (ذَريَّة) بفتح الذال وتخفيف الراء. قوله: {(إِنَّ مَا) تُوعَدُونَ لآتٍ} الآية. المعنى: أن الذي توعدون به - أيها المشركون - آت، أي: واقِعٌ بكم، {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي: ليس تعجزون ربكم هرباً، (أنتم) في قبضته. قوله: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} الآية. المعنى: قل لهم يا محمد: اعملوا على مكانتكم: أي: على حيالكم وناحيتكم.

وقال القتبي: " على موضعكم ". وتحقيق معناه: اعملوا على ما أنتم عليه، كما تقول للرجل: " اثبت مكانك "، أي: اثبت على ما أنت عليه. وفي الكلام تهديد، فلذلك جاز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه، وهو الكفر، إنّما هو توعد وتهديد، كما قال: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82]، ودل على ذلك قوله: {(فَسَوْفَ) تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار}، فالمعنى: اثبتوا على ما أنتم عليه إن رضيتم بالنار، فأنا عامل بما أمرني به ربي، فسوف تعلمون غداً من هو على الحق، وتكون له العاقبة الحسنة، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}. وقوله: {مَن تَكُونُ}: (مَنْ) في موضع رفع على أنه استفهام، وفعل " العلم "

136

معلق، والجملة في موضع المفعولين. ويجوز أن تكون (مَنْ) في موضع نصب، وهي بمعنى: " الذي "، ويكون {تَعْلَمُونَ} بمعنى: " تعرفون "، (و) يتعدى إلى مفعول واحد. قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث (والأنعام نَصِيباً)} الآية. المعنى: أنه حكاية عما كان يعمل أهل الجاهلية: كانوا يجعلون لله نصيباً من حرثهم وأنعامهم، ولآلهتهم وشياطينهم (نصيباً، وهو) شركاؤهم من الأوثان والشياطين: قال ابن عباس: كانوا يجعلون الطعام حُزَماً، يجعلون منها لله، ومنها لآلهتهم، فكان إذا هبت الريح من نحو الذي

جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم /، وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، لم يردوه، فذلك قوله: {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء الحكم في حكمهم، قال: وكذلك جعلوا من ثمرهم نصيباً لله، ونصيباً للشياطين ولأوثانهم، فإن سقط من نصيب الله شيء في نصيب الأوثان تركوه، وإن سقط من نصيب الأوثان (شيء في نصيب الله) ردوه في نصيب الأوثان، وإن انفجر من سِقْيِ ما جعلوه لله في نصيب الشيطان والأوثان تركوه، وإن انفجر من سِقْي ما للأوثان في نصيب الله رَدُّوه (وسَدُّوهُ)، فهذا ما جعلوا من الحرث، وأما الأنعام: فهو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، وقد ذكر ذلك في " المائدة ". وقال السدي: كانوا يزرعون زرعاً يجعلونه لله يتصدقون به، ويزرعون آخر يجعلونه لآلهتهم وينفقونه عليها، فاذا أَجْدَبَ ما لآلهتهم، أخذوا ما كان لله فأنفقوه على آلهتهم، وإذا أَجْدَب ما كان لله، لم يأخذوا مما لآلهتهم شيئاً،

137

(و) يقولون: " لَوْ شَاءَ اللهُ لَزَكَّى الذي لَهُ ". وقال ابن زيد: كل شيء جعلوه لله من ذبح لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الآلهة، وما كان من ذبح للآلهة لا يذكرون عليه اسم الله. وفي الكلام حَذْفٌ، والمعنى: " من الحرث والأنعام نصيباً، وجعلوا لأصنامهم نصيباً "، ودل على ذلك قوله: {وهذا لِشُرَكَآئِنَا}. والفتح في " الزعم " لغة أهل الحجاز، والضم: لغة بني أسد، والكسر: لغة تميم وقيس، وقد أنكر أبو حاتم الكسر، وحكاه الكسائي والفراء. قوله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَآؤُهُمْ} الآية. روي عن ابن عامر (زُيِّنَ) بالضم، (قَتْلُ) بالرفع: اسم ما لم يسم فاعله، (أوْلادِهِم) بالخفض على الإضافة، (شركاؤُهم) بالرفع على إضمار فعل دل عليه

(زُيِّنَ)، كأنه قيل: زَيَّنَهُ شركاؤهم، وحكى النحويون أنه يجوز: " ضُرِبَ زَيْدٌ عَمْرُو "، كأنه قيل: " ضَرَبَهُ عَمْرُو "، كما قال (الشاعر): لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لخُصومةٍ. ... كأنه قال: يبكيه ضارع. وروى أبو عبيد عن ابن عامر (زُيّنَ) بالضم مثل الأول، (قَتْلُ) بالرفع، (أولادَهم) بالنصب، (شركائِهم) بالخفض على التفريق بين المضاف والمضاف اليه، وهو بعيد في الكلام، وبذلك قرأنا لابن عامر، وهي رواية الشاميين عنه، وإنما يجوز في (الظرف وحروف) الخفض. وقد روي بيت يجوز ذلك فيه وهو:

فَزَجَجْتُها مُتَمَكّناً زَجَّ القَلوصَ أبي مَزادَه وهو بعيد. ... وقد روي عن ابن عامر أيضاً مثل القراءة الأولى، إلا أنه خفض الشركاء مع خفض " الأولاد "، فهذا يجوز على أن تبدل " الشركاء " من " الأولاد "، لأن الأولاد شركاؤهم في النسب والميراث. وأما قراءة الجماعة بفتح الزاي، ونصب (قَتْلَ)، وخفض " الأولاد "، ورفع " الشركاء " فهو ظاهر الكلام ووجهه.

ومعنى الآية: (و) كما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيباً، ولآلهتهم نصيباً، فحكموا فيه بما لا يجب، كذلك زين لكثير من المشركين قتلهم: أن قتلوا أولادهم خيفة العَيْلَةٍ، وهو وَأد البنات {لِيُرْدُوهُمْ} أي: ليهلكوهم، / {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ} أي: فعلوا ذلك (بهم) ليخلطوا عليهم دينهم) فيضلوا، {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ}: أي: لوفقهم إلى الصواب، ولكن خذلهم فقتلوا أولادهم وأطاعوا الشياطين. ولم يضطرهم إلى ذلك، إنما خَذَلَهُم وحَالَ بينهم وبين التوفيق. قوله: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} هذا تهدد وتوعد من الله لهم، أي: ذرهم - يا محمد - وما يكذبون، فإني لهم بالمرصاد.

138

قوله: {وَقَالُواْ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الآية. قرأ أبان بن عثمان (حُجُر) بالضم (للحاء والجيم). وقرأ قتادة والحسن (حُجْر) بضم الحاء وإسكان الجيم. وهي لغات في (حِجْر). والحِجْرُ: الحرام، يقال: حُجُرٌ وحُجْرٌ وحِجْرٌ، وفيها لغة أخرى وهي " حِرْجٌ " بتقديم الراء، مثل: " جَبَذَ " و " جذب ". وقيل: معنى " حِرْج ": ضيق، من قولهم: " فلان يتحرَّج " أي: يُضَيِّق على نفسه. وعن ابن عباس: (وحَرْثٌ حِرْجٌ الراء قبل الجيم، وكذا في مصحف

أبُيّ، ومعناه ما ذكرنا. ومعنى الآية: أن الله حكى عن المشركين أنهم يحرمون ويحللون من عند أنفسهم تَخرُّقاً منهم وتَقُّولاً بما لم ينزل الله ولا أمر به، و " الحرث " - هنا - (هو) ما ذكر في الآية الأولى من جعلهم لله ثم يردونه إلى آلهتهم، و (الانعام: قيل) إنهم كانوا يجعلون لله أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى أكلوه، ويجعلون لآلهتهم أنعاماً، فإذا ولدت الأنثى عظموه، ويأكلون الميتة مما لله. وقيل: الأنعام هنا (هي) البحيرة وما بعدها مما ذكر في " المائدة ". والحجر: الحرام، ومنه: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 22] أي: حراماً محرماً.

{وأنعام حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} هو الحامي: وقيل: هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها. والحامي: البعير الذي يحمى ظهره، وهو الذي قد ألقح ولد ولده، فلا يركب ولا يجز (له وبر)، ولا يمنع من مرعى، وأي إبل ضرب فيها لم (يمنع منها). والبحيرة: هي التي يبحر أذنها، أي: يشق، ويحرم لحمها على الرجال والنساء. وقيل: البحيرة: ابنة السائبة. والسائبة: الناقة كانت إذا نتجت سبعة أبطن سيبت فلم تركب ولم يجز لها وَبَرٌ، وبحرت أذن ابنتها وأجريت مجراها. وقد ذكر هذا في " المائدة " بأشبع من هذا. وقوله: {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا}: هو ما ذبحوه لآلهتهم، لا يذكرون اسم الله [عليه]. وقوله: {إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} كانوا يذبحون أشياء لا يأكلها إلا خدمة

139

الأصنام. وقيل: كانت البحيرة لا تركب ولا يحمل عليها شيء ذكر عليه اسم الله. {افترآء عَلَيْهِ} أي: كذباً على الله، سيجزيهم بكذبهم. وقد روي عن الدوري عن الكسائي (افتراء) بالإمالة، والفتح أشهر، وكذلك ذكر أبو الحارث عن الكسائي، (قال الكسائي) لأنه مصدر لا أميله. قوله: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام} الآية. قوله: {خَالِصَةٌ}: أُنّثت (ما) لتأنيث (الأنْعَامِ)، لأن ما في بطونها

ملتبس بها، كما قال: (مشين كما اهتزّت رماح) تَسَفّهَتْ ... أعاليها مَرُّ الرِيّاح النواسم فأنِّث، لأن المَرُّ من الرياح، هذا قول الفراء. وقال الكسائي والأخفش: دخل التأنيث للمبالغة. وقيل: " التأنيث على معنى (ما)، / والتذكير على اللفظ "، كذا قرأ ابن عباس (خَالِصُهُ) بالتذكير، والمعنى: ما خلص منه حياً لذكورنا. {وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} يعني الإناث ". وقرأ الأعمش (خَالصٌ) بغير هاء، على التذكير على اللفظ، ولأن بعده

{وَمُحَرَّمٌ}. وهذه الآية - في قراءة الجماعة - أتت على خلاف نظائرها في القرآن، لأن ما يحمل على اللفظ مرة وعلى المعنى مرة، إنما يتقدم أولاً الحمل على اللفظ ثم يليه الحمل على المعنى، نحو: {مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 62] ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 62]، ونحو {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15] ثم قال: {وَظِلالُهُم} [الرعد: 15]، وهو كثير، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب، يتقدم الحمل على اللفظ، ثم يحمل بعد ذلك على المعنى. وهذه الآية تقدم الحمل (فيها) على المعنى فقال: (خالِصَة)، ثم حمل بعد ذلك على اللفظ فقال {وَمُحَرَّمٌ}. ومثله قوله: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]، فقال أولاً (سَيئةً) فأنث وحمل على معنى (كل)، لأنها اسم لجميع ما تقدم مما نهى عنه من الخطايا، ثم قال بعد ذلك (مَكْروهاً)، فذكّر على لفظ (كل)، وهذا إنما هو على قراءة نافع ومن تابعه.

وكذلك {مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 - 13]، فجمع " الظهور " حملاً على معنى (ما)، ووحّد الهاء حملاً على لفظ (ما). وحكي عن العرب: " ليت هذا الجراد قد ذهب فأراحنا (من) أَنْفُسِهِ "، فجمع " الأنفس " ووحّدُ الهاء وذكّرَها. ومن قرأ (يَكُن) بالياء، رده على لفظ (ما)، وردّه أيضاً على ما بعده، لأن بعده (فَهُمْ فيه)، ولم يقل: " فيها "، والمعنى: (وإن) يكن ما في بطونها ميتةً. ومن رفع (مَيْتَةٌ) جعل " كان " بمعنى " وقع "، وقال الأخفش: التقدير: " وإن تكن في بطونها ميتةٌ "، جعل الخبر محذوفاً.

ومن قرأ بالتاء، أنّث على معنى (ما). وقيل: التقدير: " وإن تكن النّسمة ميتةً ". و (هي لما) في بطون الأنعام التي يسمونها الوصيلة، وهي الشاة: كانت إذا ولدت ستة أبطن: عناقَيْن (عناقيْن)، وولدت في السابع عناقاً وجدياً، قالوا: وصلت أخاها، فكان لبنها حلالاً للرجال حراماً للنساء، فإن ماتت أحل لحمها للرجال والنساء، فعابهم (الله) بهذه الأحكام التي لم يؤمروا بها. ومعنى الآية - في قول ابن عباس - أن الذي ذكروه مما في بطون الأنعام: هو اللبن، جعلوه حلالاً للذكور، (وحراماً على الإناث. قال قتادة: هو ألبان البحائر، حلّلوه للذكور)، وحرموه على الإناث، وإنْ يَكن ميتة اشترك فيه الذكور

140

والإناث. قال ابن عباس: كانت الشاة اذا ولدت ذكراً وذبحوه، أكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، (وإن) كانت ميتة فهم فيه شركاء. قال السدي وغيره: عنى بذلك ما في بطون الأنعام من الحمل، إن ولد حياً، فهو للرجال دون النساء، وإن ولد ميتاً أكله الرجال والنساء. والأزواج هنا: نساؤهم. وقال ابن زيد: الأزواج هنا: بناتهم. {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي: سيكافئهم وصفهم، أي: على وصفهم، وهو قولهم الكذب، قال قتادة: وصفهم: كذبهم، أي: يجزيهم عليه. قوله: {قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أولادهم} / الآية. المعنى: قد هلك الذين قتلوا أولادهم وحرموا ما رزقهم الله، وهم الذين تقدم ذكرهم، وقوله {سَفَهاً} أي: جهلاً منهم، افتراء عليه، أي: كذباً عليه وتخرصاً، {قَدْ ضَلُّواْ} أي: تركوا الحق في فعلهم، {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي: لم يهتدوا إلى الحق في

141

فعلهم ذلك، ولا وقفوا له. قال قتادة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم خوف السباء والفاقة، ونسبوا البنات إلى الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقوله: {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله}: هو تحريمهم أكل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. قوله: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جنات معروشات} الآية. هذه الآية إعلام من الله وتذكير لعباده بنعمه، ومعنى {أَنشَأَ} أحدث وابتدع، الجنات وهي البساتين، والمعروشات: ما عُرِشَ كهيئة الكرم {وَغَيْرَ معروشات}: ما لم يُعرَش. وقيل: المعروشات: ما غرس الناس، وغير معروشات: ما نبت في البر والجبال من غير غرس (الناس) له من الثمرات. وقيل: معروشات:

" عليها حيطان ". {والنخل والزرع} أي: وأنشأ ذلك. {مُخْتَلِفاً} أي: مقدراً فيه الاختلاف ولم ينشأ في أول مرة مختلف، وهذا كما تقول: " لَتَدْخُلَنَّ الدَّارَ آكلِينَ شَارِبينَ "، أي: مقدرين ذلك. والمعنى: " مختلفاً ما يخرج منه مما يؤكل ". {والزيتون والرمان} أي: وأنشأ الزيتون والرمان {متشابها} ((أي)) في اللون والمنظر، {وَغَيْرَ متشابه} ((أي)) في الطعم. وقيل: المعنى: أن منه ما يشبه بعضه بعضاً في الطعم، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضاً في الطعم والمنظر. {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أي: من رُطَبِهِ

(وعنبه). قوله: {حَصَادِهِ}: بالفتح تميمية، وبالكسر حجازية. وقوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}: قال سعيد بن جبير: هذا منسوخ بالزكاة، وهو قول عكرمة، وبه يقول الطبري. و" قال الضحاك: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ". وقال ابن عباس: هو منسوخ بالسنة، بقول النبي: العشر ونصف العشر،

وهو قول السدي وابن الحنيفة والنخعي؟. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " هو ما يسقط من السنبل " والآية - على هذا - نَدْبٌ. وقال أنس بن مالك: هي محكمة، والمراد بها الزكاة المفروضة، وهو قول الحسن وابن المسيب وجابر بن زيد وعطاء وقتادة وزيد بن أسلم، وهو مروي عن مالك. واختلف فيه أصحاب الشافعي: فمنهم من تأول عنها أنَّها منسوخة، لأنه ليس في الرمان ولا في شيء من الثمار زكاة إلا في النخل والكرم. ومنهم من قال: هي محكمة على تأويل مذهبه.

وقال سفيان: الآية في شيء آخر سوى الزكاة، وهو أن [يدع] المساكين لما يسقط من الحصادين، (وهي) محكمة. و (قد) قيل: إنَّها على الندب. وقد عورض من قال: إنَّها في الزكاة المفروضة، بأنَّ هذه الآية مكية والسورة كذلك، ولم يختلف العلماء أنَّ الزكاة إنما فرضت بالمدينة، ولو كانت الزكاة المفروضة لوجب أن تعطى وقت الحصاد على نص الآية وقد جاءت السُّنَة أنَّ الزكاة لا تعطى إلا بعد الكيل. وفي / الآية: {وَلاَ تسرفوا} فلا يجوز أَنْ يكون هذا في الزكاة، لأَنَّها معلومة محدودة، ويجب أَنْ تكون الزكاة في كل الثمر ولو كانت في الزكاة المفروضة، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال أبو حنيفة: إن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة إلا الحطب

والحشيش والقَصَبِ. فخص الآية ولم يجرها على عمومها، وتفرد بذلك. وروي أن قوله {وَلاَ تسرفوا} نزل في ثابت بن قيس لما صرم نخله خلى بين الناس وبينه كله فلم يبق لأهله شيئاً منه، فنزل {وَلاَ تسرفوا}، أي: في العطاء فتبقوا لا شيء لكم. ولم يختلف العلماء أن في أربعة أشياء الزكاة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وجماعة منهم على أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة، وهو قول الحسن والشعبي والثوري وابن المبارك وابن أبي ليلى والحسن بن

صالح وابن سيرين ويحيى بن آدم وغيرهم. وزاد ابن عباس على هذه الأربعة: الزيتون (والسلت. وزاد الزهري على هذه الأربعة: الزيتون) والحبوب كلها. وهو قول عطاء وعمر بن عبد العزيز ومكحول ومالك والأوزاعي والليث، وهو قول

الشافعي بالعراق، ثم رجع بمصر. عن الزيتون فلم ير فيه زكاة، قال: لأنه أُدُمٌ وليس يُؤْكَلُ بنفسه. وهذا كله يدل على أَنَّ الآية منسوخة، إذ ليس أحد منهم أوجب ظاهر نص الآية. ومن قال: إنَّها محكمة وإنَّها في شيء غير الزكاة، احتج بحديث رواه الخدري عن النبي عليه السلام أنه فسره فقال: " ما سقط عن السنبل " وهذا الحديث، لو صح لكان منسوخاً بالإجماع، لأنه قد أجمع على أنه لا فرض في المال سوى الزكاة. فأما من قال بالندب فهو جائز، إلا أن قائله غير معروف. ومعنى

{وَلاَ تسرفوا} - عند ابن المسيب -: لا تمتنعوا من الزكاة المفروضة. وقال أبو العالية: كانوا يعطون حتى يجحفون في الإعطاء، فأنزل الله {وَلاَ تسرفوا}، وهذا قبل فرض الزكاة. قال السدي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. قال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس جَدَّ نخلاً (له)، فحلف ألا يأتيه أحد إلا أعطاه، فأمسى ليست له ثمرة فأنزل الله {وَلاَ تسرفوا}. وقال مجاهد: ((و) لا تُسْرِفوا): لا تحرموا ما حرمت الجاهلية من الحرث والأنعام.

142

وقال ابن زيد: هذا للسعاة، أي: لا تأخذوا للولاة ما لا يجب على الناس. قال أصبغ بن الفرج: (و) لا تُسْرِفوا) (أي) لا تأخذوه بغير حقه ولا تضعوه في غير حقه. قوله: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} (الآية). {حَمُولَةً} منصوبة بـ (أَنْشأَ)، أي: وأنشأ من الأنعام حمولةً وفرشاً مع ما أنشأ من الجنات. والحمولة: ما حمل عليه من الإبل، والفرش: الصغار التي لم يحمل عليها بعد، وقيل: الحمولة: الإبل والبقر التي يحمل عليها.

وقيل: هي ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك، والفرش: ما لم يحمل عليه من الصغار، وقيل: الفرش الغنم قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقال السدي: الفرش: الفصلان والعجاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو " حمولة ". قال ابن زيد: " الحمولة ": ما تركبون، والفرش: ما تأكلون وتحلبون ". وقيل: الحمولة المُذَلَّلَة للحمل، والفرش: ما / خلقه الله من الجلود والصوف مما يُتَمَهَّدُ عليه ويُتَوَطَّأُ به. ومما يدل على أَنَّها الإبل والبقر والغنم قوله: {ثمانية أزواج} [الأنعام: 143] بعده، فجعل: {ثمانية} بدلاً من {حَمُولَةً}، ثم فسرها بالإبل والبقر والغنم. فلا معنى للصوف

143

والجلود في قوله: {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} الآية: هذا (أمر للمؤمنين)، معناه: الإباحة لهم بأن يأكلوا من ثمراتهم وحروثهم ولحوم أنعامهم، ولا يحرموا ما حرم المشركون، ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} كما اتبعها هؤلاء، بحروا البحائر وسيبوا السوائب. ومعنى {خطوات الشيطان} أي: طرقه التي يتخطى فيها الحلال إلى الحرام والأنعام: الإبل. وقيل: الإبل والبقر والغنم. وقيل: هي كل ما أحله من الحيوان. قوله: {ثمانية أزواج} الآية. في نصب {ثمانية} خمسة أقوال: - قال الكسائي: (هو) منصوب بـ {أَنشَأَ} [الأنعام: 141].

- وقال الأخفش: نصبه على البدل من {وَفَرْشاً} [الأنعام: 142]- وإن شئت: على الحال. - وقال علي بن سليمان: (هو) منصوب بـ {كُلُواْ}، أي: كلوا [لحم] ثمانية أزواج. - وقيل: هو منصوب على البدل من (ما) على الموضع. وقوله: {اثنين} بدل من (ثَمانِيَةَ، وكذا {وَمِنَ المعز اثنين}. وقرأ أبان بن عثمان: (مِنَ الضَّأنِ اثْنَان) برفع " الاثْنَيْنِ " على الابتداء والخبر. ومعنى الآية: أَنَّ الله نَبَّه المؤمنين على ما أحل لهم لَئلاَّ يكونوا كمن ذكر ممن يحرموا ما أحل الله. ومعنى: {ثمانية أزواج} أي: أفراد لأن كل فرد يحتاج إلى غيره، فهو زوج، والثمانية الأزواج قد فسرها (تعالى)، وهي الضأن والمعز والإبل

والبقر، وسماها ثمانية وهي أربعة، لأن (كل) واحد: ذكر وأنثى، ألا ترى إلى قوله: {مَّنَ الضأن اثنين} أي: ذكر وأنثى، وكذلك: {وَمِنَ المعز اثنين}، وما بعده مثله. وقوله: {قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ (أَمِ) الأنثيين} أي: ما الذي حُرِّمَ عليكم فيما زعمتم: (أذكر) الضأن والمعز، أم أنثى الضأن والمعز؟، فإن كان التحريم من جهة الذكر فيجب أن تحرموا على أنفسكم كل ذكر، وأنتم تستمتعون ببعض الذكور وتأكلونه، وإن كان من جهة الأنثى فحرموا كل أنثى، أم حرم عليكم ما اشتملت عليه أرحام (الانثيين؟، فيلزمكم أن تحرموا كل ما اشتملت (عليه) الأرحام، فتحرموا الذكر والأنثى. قال الطبري: أَمَرَ الله نبيه أن يقول لهم ذلك، فإن ادعوا تحريم الذكرين أَوْجَبُوا تحريم كل ذكر من ولد الضأن والمعز، وهم لا يفعلون ذلك، بل يستمتعون بلحوم بعض الذكران وظهورها، وإن قالوا: الأنثيين، أوجبوا تحريم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم، وهم لا يفعلون ذلك، وإنما هذا إبطال لما ادعوا أن الله حرم عليهم ذلك.

145

{نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} أي: أخبروني عن علم {إِن كُنتُمْ صادقين}. ثم قال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وصاكم الله} الآية. أي: أجاءكم به نبي، أم حضرتم ربكم إذْ أَمَر بهذا، فسمعتم ذلك منه، وهذا على التبكيت لهم والقطع لحجتهم، ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله} أي: اخترق الكذب {لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: من أشد ظلماً منه. قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ} الآية. المعنى: قل لهم يا محمد: لست أجد شيئاً قد حرمه الله على / آكل يأكله - فيما أوحي إليَّ من كتاب الله - إلا الميتة، والدم المسفوح - وهو الجاري السائل - ولحم الخنزير، وما ذبح للأصنام والأوثان: وهو قوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ}

ثم قال تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ} (أي) إلى أكل هذا المحرم، {غَيْرَ بَاغٍ}: (أي يبغي) الميتة، {وَلاَ عَادٍ} في الأكل. وقيل: باغ على المسلمين، من خرج لقطع السبيل، فليس له اذا جاع أن يأكل الميتة، قال ابن جبير. قال ابن عباس: من أكل الميتة غير مضَّطَر فقد بغى واعتدى. وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة. ومن قرأ (تكون) بالتاء ونصب {مَيْتَةً} فتقديره: إلا أن {يَكُونَ} المأكولة ميتة. ومن قرأ بالتاء ورفع " الميتة " جعل " كان " بمعنى " وقع "، وعطف {أَوْ دَماً}

على (أَنْ) المستثناةِ. والرجس هنا: النجس. وفي هذه الآية خمسة أقوال: - قيل: إنها منسوخة بالسنة، لأن النبي عليه السلام قد حرّم لحوم الحَمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. والآية تدل على أنه لا محرّم إلا ما فيها. وهذا قَولٌ مَرْدودٌ، لأنه خبر، والأخبار لا تنسخ. - وقيل: إن الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها. وهو قول ابن جبير والشعبي، وبه قالت عائشة: لا حرام إلا ما في الآية. - وقال الزهري ومالك بن أنس وغيرهما. الآية محكمة، ويضم ما سَنَّهُ النبي A، فيكون داخلاً في المحرمات.

والقول الرابع: إن الآية جواب لقوم سألوا عن أشياء فأجيبوا عنها، ثم بيّن النبي عليه السلام تحريم ما لم يسألوا عنه، ودل على ذلك قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157]. فالنبي عليه السلام يحرم بالوحي الذي في القرآن، ويحرم بما ليس في القرآن، وعلى الناس اتباع ذلك لقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]: ولقوله: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور: 54]. وأكثرهم يرى الضبع صيداً، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس. قال عكرمة: رأيتُها على مائدة ابن عباس. وأجازه ابن عمر. وقال أبو هريرة: الضبع نَعْجَةُ الغنم. وكَرِهَهَا مالك.

وقال الحسن البصري والنخعي والزهري: الثعلب سبع. وبه قال مالك، وكذلك روي عن أبي هريرة. ورخص في أكله عطاء وطاوس وقتادة والشافعي وأبو ثور. وأكثرهم على منع أكل الهَرِّ. وبه قال مالك. ورخص فيه الليث. وذكره مجاهد وطاوس ثمن السنَّوِر، وبيعه، وأكل لحمه، وأنْ يُنْتَفَعَ بجلده. وكلهم على أن ما قطع من الحي مما يؤلمه فهو ميتة. ورخص مالك C في

جواز قطع أَلْيَةِ الكبش ليُكْثِرَ لحمه، ومنع من أكل ما قطع. وكره عمر بن الخطاب إخصاء الذكور، وكذلك ابن عمر، ورخص. فيه الحسن وطاوس وعروة بن الزبير. ولم ير مالك بإخصاء ذكور الغنم بأساً، لأنه صلاح للحومها. قال ابن عمر: نهى النبي A عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل. وأكثرهم على منع أكل لحم القرد. وأجاز الشعبي أكل لحم الفيل، ولم يجزه الشافعي، ومنع من الانتفاع بعظمه.

وأرخص مالك لحوم الحيات، يعمل بها الدّرْيَاقُ، وقال: تَذّكى. وكره ذلك سفيان والحسن البصري وابن سيرين. وسُئِلَ الأوزاعي عن أكل الذُبَّانِ، فقال: ما أراه حراماً. وأكثرهم / على جواز شرب أبوال ما أُكِلَ لحمه. وقال مالك C: أكره الفأر والعقارب والحيَّةَ من غير أن أراه حراماً بَيِنّاً، ومن أكل حيَّةَ فلا يأكلها حتى يذبحها.

(وسُئِلَتْ عائشة Bها عن الفأرة، فقرأت: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} إلى آخر الآية، تريد تحليلها). ولا يجوز - عند الشافعي - أكل شيء مما أبيح للمحرم قتله. وسُئِل مالك C عن أكل الغراب والحِدَإِ، فقال: لم أدرك أحداً ينهى عن أكل ذلك (ولا يأمر بأكلها. وكره جماعة أكل الخيل، وكرهه مالك)، وأجازه جابر بن عبد الله وعطاء والحسن وغيرهم، وبه قال الشافعي وابن حنبل.

146

وأكثرهم على إجازة أكل (لحم) الضَّبِّ والأرنب واليربوع، وهو مذهب مالك والشافعي، ووقف مالك في القنفد. قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية. قرأ الحسن {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} بالإسكان، وقرأ أبو السمّأل {كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} بكسر الظاء، وأنكر ذلك أبو حاتم. (و) قوله: {أَوِ الحوايآ} في موضع رفع على معنى: " أو إلاّ ما حملت الحوايا "،

فهو عطف على " الظهور "، فتكون داخلة في الذي هو حلال، وكذلك (ما) الثانية داخلة في الحلال، وقيل: هي في موضع نصب، عطف على المستثنى وهو (ما). وقيل: هو معطوف على " الشحوم "، والمعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فتكون الحوايا داخلة في التحريم على هذا، و (ما) الثانية عطف عليها. ومعنى الآية أن الله أخبر نبيه أنه حرم على اليهود - جَزاءً بِبغْيِهِمْ - كل ذي ظُفُرٍ، وهو من البهائم (و) الطير ما لم يكن مشقوق [الأصابع] كالإبل والنَّعَام والإوز والبط، وأَنَّهُ حُرَمَ عليهم شحوم ثروب الغنم والبقر. وقيل: إنَّما حرّم

عليهم كل شحمٍ غير مختلط بعظمٍ ولا على عظمٍ. وقال السدي: الذي حرّم عليهم هو شحوم الثروب و [الكلى]. {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا}: يعني شحوم الجنب والظهر ونحوه. وواحد " الحوايا ": " حاوياء "، مثل نافقاء، هذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي: واحدها " حاوية "، مثل ضاربة. وهي ما تَحَوّى في البطن ويَسْتَدير، وهي " المباعر "، فاستثنى في الحلال ما حملت الحوايا، فهذا يدل على عطف " الحوايا " على " الظهور " في موضع رفع. وأكثرهم على أن الحوايا: المباعر، تدعى عند العرب: " المرابض ". {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ}: يعني شحم الألية وشبهه حلال.

147

وقيل: واحد الحوايا " حوية ". قوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ} الآية. المعنى: فإِنْ (كذبك) - يا محمد - (هؤلاء) اليهود فيما أوحينا إليك أَنَّا حرمنا عليهم، {فَقُلْ: رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} بالمؤمنين، تَسَعُ المسيء والمحسن منهم، ولا يعاجل من كفر به بالعقوبة، {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين} إذا أراد حلوله بهم، و " المجرمون ": الذين أجرموا أي: اكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات. وكان نزول هذه الآية بسبب أن اليهود قالت: لم يحرم الله علينا شيئاً، إنَّما حرُّمَ إسرائيل على نفسه الثرب وشحم الكليتين، فنحن نحرمه. فذلك قوله: {فَإِن كَذَّبُوكَ}، أي: قالوا: لم يحرم الله علينا ذلك، فقل: ربكم ذو رحمة واسعة. / قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} (الآية).

والمعنى: سيقول المشركون من قريش وغيرهم - الذين تقدم ذكرهم - إذا تبين لهم أنُّهم على باطل، قالوا: لو شاء الله ما فعلنا ذلك، ثم أخبرنا الله أن قولهم هذا (قد) قال به من كان قبلهم حتى نزلت بهم العقوبة، وهو قوله: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي: نزلت بهم عقوبة فعلهم. وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية فقالوا: إن الله لم يشأ شرك المشركين، لأن الله لم يذكر هذه الآية إلا على جهة الذم لهم في قولهم: إن الله لو شاء ما أشركوا. فأضافوا ما هم عليه من الشرك أنه عن مشيئته كان ولو أن قولهم صحيح. ما ذَمَّهُمْ عليه. قالوا: فَدَلَّ ذلك على أن الله لم يشأ شرك المشرك. وفي قوله تعالى - بعد الآية -: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، هود: 18، الكهف: 15] ما يدل على بطلان كذلك، بل الله المقدر لكل أمر من شرك وغيره. ومعنى: {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} أي: لو شاء لأرسل إلى آبائنا رسولاً يردهم

149

عن الشرك، فنتبعهم. وقيل: إِنَّما قالوا ذلك على جهة الهُزْء واللعب والاستخفاف، ولو قالوه على يقين وحق لما رَدَّ عليهم ذلك. ثم قال لنبيه: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ}: (قل) لهم يا محمد: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} على ما تقولون وتدّعون أن الله رضي ما صنعتم من عبادتكم الأوثان وتحريمكم ما لم يأمركم به؟، {فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ} أي: فتظهروا العلم بذلك، وما تتبعون إلا الظن في عبادتكم وتحريمكم، وما أنتم إلاّ تخرصون، أي: تتقَوّلون الكذب والباطل على الله ظناً بغير علم ولا برهان. قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} الآية. والمعنى: {قُلْ} لهم يا محمد بعد عجزهم عن إقامة الحُجَّة فيما ادَّعَوا: لله

150

الحُجَّة البالغة عليكم. ومعنى {البالغة} التي تبلغ مراده في ثبوتها على من احَتَجَّ بها عليه من خلقه، {فَلَوْ شَآءَ} ربكم، {لَهَدَاكُمْ} أي: لوفقكم للهدى. وذلك أنْهم جعلوا قولهم {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] حُجَّة في إقامتهم على شركهم، جعلوا أنّ كل من كان على شيء من الأديان فهو على صواب، لأنه يجري - فيما يعتقدون - على مشيئة الله. وهذا يريدون به إبطال الرسالة، إذ لا معنى لها على هذا القول فيُقَال لهم: فالذين على خلافكم في الدّينِ، أليس هم أيضاً على مشيئة الله؟، فينبغي أن لا تقولوا إنهم ضالون، والله يفعل ما يشاء، قادر على أن يهدي الخلق أجمعين، وليس للعباد عليه أن يفعل بهم كل ما يقدر عليه، لا معقب لحكمه، ولا راد لفعله. قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ} الآية. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن الله حَرَّمَ عليهم ما ذكروا من الأنعام والحروث وغيرها: هاتوا شهداءكم يشهدون أن الله حرم عليكم ما ذكرتم،

151

{فَإِن شَهِدُواْ} أي: فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حرم ما يزعمون، {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} فإنهم كذبة. وهذا خطاب للنبي، والمراد به أصحابه. {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي: لا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب وتحريم ما لم يحرِم الله، {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون / له عديلاً، أي: ولا تتبع أهواء هؤلاء أيضاً. قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية. (ألا تشركوا): (أن) في موضع نصب على البدل من (ما). وقيل: هي في موضع نصب على معنى: " كراهة ألا تشركوا "، ويكون - على ذلك - المتلو عليهم غير الإشراك. ويجوز أن تكون في موضع رفع على معنى: " هو (أَنْ لاَ) تشركوا "

فيكون متلواً كالقول الأول، و {تُشْرِكُواْ} في موضع جزم على أَنْ (لا) للنهي، وهو اختيار الفراء، قال: لأن بعده: " ولا تفعلوا كذا ". وإن شئت جعلت {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} خبراً في موضع نصب، كما تقول: " أمرتك ألا تذهب إلى زيد "، و " ألا تذهب " بالجزم والنصب. ولك أن تجعل {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} نصباً، وما عطفته عليه جزماً على النهي. قوله: {مَا ظَهَرَ}: {مَا} في موضع نصب بدل من {الفواحش}. قوله: {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ}: " ذلك " في موضع رفع على معنى: الأَمْرُ ذلكم. ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: بَيَّنَ ذلكم.

ومعنى الآية: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المحرمين ما لم يحرمه الله عليهم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حقاً يقيناً (ووحياً) أوحي إلي، (وتنزيلاً) أنزله علي: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً} أي: وأوصى بالوالدين إحساناً، {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} أي: خشية الفقر، فإنَّ الله هو رازقكم وإيَّاهم، وعنى بالأولاد هنا: الموؤدة التي زين قتلها للمشركين شركاؤهم، والإملاق: (مصدر " أملق) الرجل من (الزاد) " إذا فني زاده وافتقر، {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي: الظاهر منها والباطن. والظاهر: هو ما كان من الزنى الظاهر، والباطن: هو ما كان منه في خفاء، قاله السدِّي وغيره. وقيل: هو كل منهي عنه وكل محرم (و) لا يأتونه ظاهراً ولا باطناً. وقيل: إنَّهم كانوا يستقبحون الزنى (الظاهر) ولا يرون بأساً

152

بالبالطن، فنهوا عن الظاهر والباطن، قاله الضَحَّاك. وقيل: الظاهر: الجمع بين الأختين وتزويج الرجل امرأة أبيه بعده، والباطن: الزنى: قاله ابن عباس. وقال ابن جبير: {مَا ظَهَرَ}: نكاح الأمهات، {وَمَا بَطَنَ}: الزنى. قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} أي: بنفس مؤمنةٍ أو مُعَاهَدَةٍ أو يزني وهو محصن، أو يرتد عن دينه الحق ولا يعود، {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ} أي: هذا الذي وصاكم به وإيانا، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تعقلون ما وصاكم به. {عَلَيْكُمْ} تمام إن جعلت (أَنْ) رفعاً. قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} الآية. والمعنى: وأوصى ألا تقربوا مال اليتيم، {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}: يعني التجارة فيه. وقال السَدِّي: يُثَمَّرُ ماله.

وقال الضَحَّاك: يبتغي له فيه الربح ولا يأخذ من ربحه شيئاً. وقال ابن زيد: أن يأكل بالمعروف إن افتقر، ولا يأكل منه إن استغنى. {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}: الحُلُم عند مالك وغيره. قال السَدَّي: {أَشُدَّهُ}: ثلاثون سنة. وروي عنه: ثلاث وثلاثون. وقيل: بلوغ الأشد: أن يؤنس مع بلوغ الحلم. وهذا قول حسن، وبه يقول أهل المدينة. ومعنى: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: فإذا بلغ فادفعوا إليه ماله إن آنستم منه

قوله رشداً، هذا المعنى محذوف من الكلام للدلالة عليه، إذ / لو تركنا والظاهر، ولم نقدر حذفاً، لكان المعنى: أن يقرب ماله إذا بلغ أَشُدَّه، لأنَّ النهي إنَّما وقع على المدة التي هي قبل الأشدِ. قوله: {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أي: لا تبخسوا الناس الكيل والميزان، ولكن اعطوهم حقوقهم، (بالقسط) أي: بالعدل، {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}: أي: لا نكلفها في إيفَاءِ الكيل والوزن إلا طاقتها، لا نُضِيّقُ عليها إلا أن تعطي الحق مبلغ طاقتها، قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} أي: إذا تكلمتم بين النَّاس فأَنْصِفُوا وقولوا الحَقَّ، ولو كان الذي يتوجه عليه الحَقَّ ذا قرابة منكم، فلا تحملنكم قرابته على القول بغير الحقِّ. وقيل المعنى: إذا شَهِدتُم فقولوا الحقَّ ولو كان المشهود عليه ذا قرابة منكم. {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي: بوصيته التي وصاكم بها أوفوا، {ذلكم وصاكم

153

(بِهِ)} أي: وصاكم الله بهذه الأمور التي في هاتين الآيتين، وأمركم بالعمل بها لا بما قد سننتم من البحائر والسوائب والوصائل والحامي وقتل الأولاد ووَأْدِ البنات وتحريم بعض الأنعام واتباع خطوات الشيطان، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: أمركم بذلك لعلكم تذكرون نعمته عليكم وما قد هداكم إليه. وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات من الآيات المحكمات. وقال كعب: - وقد سمع رجلاً يقرأ {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]-: والذي نفس كعب بيده إنّ هذا لأول شيء في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخر الآية. قوله: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً (فاتبعوه)} الآية.

قوله {وَأَنَّ هذا} من فتح، جعلها في موضع نصب عطف على {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151]، أو في موضع رفع عطف على {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151] على مذهب من أضمر الابتداء مع {أَلاَّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151]. ومذهب الفراء أنها في موضع خفض بإضمار الخافض، تقديره عنده: " ذلكم وصاكم به وبأن هذا صراطي "، وهذا بعيد، لأن المضمر المخفوض لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض عند سيبويه وجميع البصريين. ومن خفف (أن) جعلها مخففة من الثقيلة. وقيل: خففها عطفاً على أن لا تشركوا)، فخفف كما كان المعطوف

154

عليه مخففاً. ويجوز أن تكون (أن) في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن تكون مخففة حكمها حكم المثقلة. ويجوز أن تكون (أَنْ) زائدة للتوكيد. و {هذا} في موضع رفع على قراءة من خفف ومن جعل (أن) زائدة، وفي موضع نصب على قراءة من شدد. ومعنى الآية: وهذا الذي وصاكم به ربكم - في هاتين الآيتين - وأمركم بالوفاء به: هو صراطه، أي: طريقه. ودينه المستقيم، (أي) الذي لا اعوجاج به، {فاتبعوه} أي: اجعلوه منهاجاً تتبعونه، {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} أي: تسلكوا طرقاً غيره، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أي: عن طريقه ودينه، وهو الإسلام، {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ}: وصاكم بذلكم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً} الآية.

{تَمَاماً} مفعول من أجله، وقيل: مصدر، و {أَحْسَنَ} فعل ماضي صلة {الذي}، وأجاز الكسائي والفراء أن يكون (اسماً) نعتاً " للذي " في موضع جر، وأجازا: " مررت بالذي أخيك "، ينعتان " الذي " بالمعرفة / وما قاربها. وهذا خطأ عند البصريين، لأن " الذي " لم يتم بعد، فكيف ينعت بعض الاسم؟. والمعنى عند البصريين: تماما على (المحسن). وأجاز الكسائي والفراء أن يكون {الذي} بمعنى " الذين " هنا. وقال المبرد: تقديره: تماماً على الذي أحسنه (الله) إلى موسى من الرسالة، والهاء محذوفة. قال مجاهد: معناه تماماً على المحسنين، ومعناه: أنه آتاه الكتاب فضيلة له على

ما آتى المحسنين من عباده. فهذا يرد قول الكسائي والفراء: إن {الذي} بمعنى " الذين ". وروي عنه أن المعنى: تماماً على (المحسن)، فهو اسم للجنس كله من المحسنين، كما قال البصريون. قال الحسن: كان في قوم موسى محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتابا تماماً على المحسنين، وقرأ ابن مسعود: (تماما على الذين أحسنوا). وقيل: المعنى: تماماً على الذي {أَحْسَنَ} موسى من طاعة ربه. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق (تماماً على {تَمَاماً} {الذي} {أَحْسَنَ}

155

بالرفع على إضمار " هو " والمعنى: تماما على الذي هو أحسن الأشياء. قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} الآية. المعنى: وهذا القرآن - الذي أنزلناه إليك - كتاب منزل لنا مبارك، {فاتبعوه} أي: اجعلوه (إماماً) تعملون بما فيه، {واتقوا} أي: احذروا أن تضيعوا العمل (بما) فيه وتتعدوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. (فاتبعوه) وقف حسن. والتقوى: الحذر من مخالفة ما أمر الله في السر والعلانية، وحقيقة ذلك القيام بما أوجب الله لله، وترك ما نهى الله عنه (لله). قوله: {أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب} الآية.

{أَن تقولوا}: (أنْ) في موضع نصب على تقدير: كراهية أن تقولوا. وقال الفراء: المعنى: (واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب وهو متعلق بالآية التي قبلها. وقيل: المعنى:) لئلا تقولوا، أي: أنزلناه مباركاً لئلا تقولوا، أو: كراهية أن تقولوا. ومعنى الآية: أنها خطاب للمشركين أنه تعالى أنزل عليه كتابا مباركا، وأمرهم باتباعه، وإنما أنزله لئلا تقول قريش - ومن دان بدينها -: {إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا}، وهم اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا، ولا نعلم ما (يقرأون)، وما كنا عن دراستهم إلا غافلين، أي: ما نعلم ما هي، لأنه ليس بلساننا، فيجعلوا ذلك حجة لهم، فقطع الله

157

حجتهم بإنزال القرآن بلسانهم، فقال: {وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] لئلا / (يقولوا: " إنما) أُنزِلَ الكتاب على اليهود والنصارى، ولم يَنزِل علينا شيء "، وفي هذا عذر لهم في تخلفهم عن الإيمان بالتوراة والإنجيل إذ لم ينزل عليهم ولا أرسل موسى وعيسى إليهم. وفيه بيان (أن لا) عذر لهم في التخلف عن الإيمان بالقرآن إذ محمد رسول إلى جميع الخلق، وإذ القول بلسانهم. قوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} الآية. والمعنى: ولئلا تقولوا: {لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ}، (أي) من هاتين الطائفتين: اليهود والنصارى، ثم قال لهم: {فَقَدْ جَآءَكُمْ} - أيها المشركون - {بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: كتاب بلسانكم تعرفون ما يتلى عليكم فيه، فهو لا يغيب

158

عنكم كما غاب ((عنكم)) ما أنزل على الطائفتين ((من)) قبلكم، إذ هو بغير لسانكم، فهو حجة عليكم {وَهُدًى} أي: بيان للحق، {وَرَحْمَةٌ}: أي: لمن عمل به. وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا} أي: من أشد ظلماً منكم إذ كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها، أي: أعرضتم فلم تؤمنوا بها. {سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ} أي: سنثيب الذين يعرضون عن {آيَاتِنَا سواء العذاب} أي: شديده، {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي: يعرضون عن آيات الله في الدنيا. قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)} الآية. (والمعنى): هل ينظر هؤلاء المشركون {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة}، يعني عند

الموت، تقبض أرواحهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} أي: لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ} وذلك طلوع الشمس من مغربها، قاله مجاهد. ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} أي: إذا طلعت (الشمس) من مغربها، لم ينفع الكافر إيمانه. روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها "، فذلك حين {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً}. وعنه A أنه قال: " إن باب التوبة مفتوح قبل المغرب عرضُهُ مسيرة سبعين عاما، لا يزال مفتوحاً حتى تطلع من قبله الشمس "، ثم قرأ الآية.

قال عبد الله بن عمر: يمكث الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة. قال النبي عليه السلام: " وآية تلكم الليلة أن تطول كقدر ثلاث ليال " وقال ابن مسعود: بقي من الآيات أربع: " طلوع الشمس من مغربها، ودابة الأرض، والدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، والآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ". المعنى: {أَوْ كَسَبَتْ في إيمانها خَيْراً} أي (و) عملت في تصديقها بالله عملاً صالحاً، فمن عمل - قبل الآية - خيراً قُبِل منه ما يعمله بعد الآية، ومن لم يعمل - قبل الآية - خيراً لم يُقْبَل منه ما يعمله بعد الآية. ثم قال تعالى: {قُلِ انتظروا} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: انتظروا

159

إتيان الملائكة لقبض أرواحكم، أو يأتي ربكم لفصل القضاء بينكم، أو يأتي بعض آيات ربكم، أي: التي (أنا) منتظر لذلك معكم. قوله: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ (وَكَانُواْ شِيَعاً)} الآية. من قرأ (فارقوا) بألف، فمعناه تركوا دينهم / الذي أمرهم الله به، وخرجوا عنه وارتدوا. ومن قرأ (فرَّقوا)، فمعناه: تَنَصَّر بعضهم وتَهَوَّد بعضهم وَتَمَجَّس

بعضهم، وتصديق ذلك قوله: {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي: فرقاً وأحزاباً. وقيل المعنى: آمنوا ببعضه وكفروا ببعض. قال قتادة: " هم اليهود والنصارى ". وقال مجاهد: هم اليهود. قال أبو هريرة عن النبي عليه السلام: " هم أهل البدع من هذه الأمة " وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " هم أهل الضلالة والبدع و (أهل) الشبهات من هذه (الأمة) ". وروي عنه A أنه قال: " هم الخوارج ".

160

(و) قوله: {إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله} نزل هذا قبل إيجاب فرض القتال ثم نسخه الأمر بالقتال في " براءة "، قال السدي وغيره. وقيل: الآية محكمة، وإنما هو خبر من الله لنبيه أن من أمته من يُحدِثُ بعده في دينه، أي يكفر. وقال ابن عباس: نزلت بمكة ونسخها: {(قَاتِلُواْ الذين) لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29]. وقيل: المعنى: إنما أمرهم - في مجازاتهم - إلى الله فينبئهم بما كانوا يفعلون، فهي محكمة خبر من الله لنبيه. قوله: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الآية). المعنى: من جاء يوم القيامة من هؤلاء الذين فارقوا دينهم بالتوبة عماهم

عليه، فله - من الجزاء - عشرة أضعاف ما يجب له، {وَمَن جَآءَ بالسيئة} أي: (و) من وافى يوم القيامة - وهو مقيم على مفارقة دينه - فلا يجزى إلا مثل عمله {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وليس معنى {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}: " عشر أمثال التوبة "، إنما المعنى: فله ثواب عشر أمثالها. وقيل: المعنى: " فله عشر حسنات أمثالها "، أي: أمثال الحسنات العشر التي حسنة العامل موازنة لها، فالهاء في {أَمْثَالِهَا} ترجع على الحسنات المحذوفة، وفي حذف الهاء من عشر دليل على أن المعنى: فله عشر حسنات أمثال (حسنة)، وهو من باب حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إن قدرت الانفصال في (أمثالها)، أي: " أمثال لها "، وإن لم تقدر الانفصال، فهو من باب حذف المبدل منه وإقامة البدل

مقامه. وقرأ الحسن: (عَشْرٌ) منون، (أمثالُها) بالرفع على الصفة للعشر. وهي قراءة عيسى بن عمر ويعقوب. وكن حذف الهاء من (عشر) للحمل على المعنى، لأن المراد: عشر حسنات وقيل: الهاء تعود على الحسنة المذكورة والمثل المجازى به على الحسنة، هو معروف عند الله، لكنه تعالى يجازيه على

حسنته (عشرة أمثال) ذلك القدر - الذي هو معلوم عنده - جزاء على الحسنة فإنما يقع التضعيف على قدر معلوم عنده يجازي به على حسنة (حسنةً) واحدة. وقال سفيان وغيره: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك، وهو قول مجاهد والقاسم وابن عباس والضحاك والحسن. وروى قتادة أن النبي عليه السلام كان يقول: " الأعمال ستة: موجبة وموجبة، ومضْعِفَة (ومضْعِفة) ومثل (ومِثْلٌ)، فأما الموجبة والموجبة: فمن لقي الله

لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار / وأما المُضْعِفة (والمُضْعِفة): فنفقة الرجل المؤمن في سبيل الله سبع مائة ضعف، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها. وأما مِثْل (ومِثْل): فإذا هَمَّ العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (واحدة)، وإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة ". وقال أبو سعيد الخدري: هذه الآية للأعراب، وللمهاجرين سبع مائة ضعف وقال ابن عمر: هذا للإعراب، وللمهاجرين ما هو أعظم من ذلك. قال: الربيع: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، ويؤدون عُشر أموالهم فنزلت هذه الآية، ثم نزلت الفرائض - بعد - بصوم (رمضان) والزكاة.

161

قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الآية. قوله: {دِيناً} نصب عند الأخفش (ب (هدَاني). وقيل: المعنى: أنه نصب بـ " عَرَّفَني ديناً ". كما تقول: " (هو يَدَعُهُ) ترْكا ". وقيل: هو بدل من (صراطٍ) على الموضع. وقيل: هو منصوب على المصدر، والمعنى: فَدِنْتُ ديناً. وقيل: المعنى: هداني فَاهْتَدَيتُ ديناً، ودل (هداني) على " اهْتَدَيْتُ ". و {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} مثله في التقدير. وقيل: هو بدل من " دين ". وشاهد من قرأ

162

(قيّما) - بالتشديد - قوله: {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36، يوسف: 40، الروم: 30]، و {دِينُ القيمة} [البينة: 5]، و {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 3]، فأجمعوا على تشديد ذلك. ومن قرأ (قِيَماً) بالتخفيف، جعله مصدراً مثل: الصِّغَر والكِبَر. و {حَنِيفاً} حال من {إِبْرَاهِيمَ}: هو نصب بإضمار " أعني ". ومعنى الآية: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين: {إِنَّنِي هَدَانِي ربي}، أي: أرْشَدَني ودَلّني على الصراط المستقيم، أي: الطريق القويم، وذلك الحنيفية. قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} الآية.

روى أحمد بن صالح عن ورش أنه فتح {وَمَحْيَايَ}. وروى داود بن (أبي) طيبة وأبو الأزهر ويونس والأصبهاني عن أصحابه عن ورش بالإسكان. واختار ورش الفتح فيما روى هؤلاء عنه:

روى أبو بكر الأدفوي عن أحمد بن إبراهيم عن بكر بن سهل الدمياطي عن أبي الأزهر عبد الصَّمَدِ عن ورش أنه اختار من نفسه الفتح. ومعنى الآية: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء العادلين، {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} أي: ذبحي، {وَمَحْيَايَ} أي: حياتي، {وَمَمَاتِي} أي: وفاتي، {لِلَّهِ} أي: ذلك كله له خالصاً. {وبذلك أُمِرْتُ} أي: أمرني ربي، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} أي: أول من خضع وذل لربه.

164

وقرأ ابن (أبي) إسحاق وعيسى وعاصم الجحدري (ومحييّ) بياءٍ شديدة من غير ألف، ووجه ذلك أن ياء الإضافة يكسر ما قبلها، فلما لم يكن سبيل إلى كسر الألف، غُيِّرت الألف إلى الياء وأدغمت في الياء التي بعدها، جعل قلبها عِوضاً من تغييرها إلى الكسر. والنُّسُك هنا: الذَّبْحُ في الحج والعمرة. قوله: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي (رَبّاً)} الآية. (و) المعنى: {قُلْ} (يا محمد لهم): {أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً}، أي: طلب رباً {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} أي: مالك كل شيء.

165

وأصل " الرب " أنه مصدر " ربه يربه (رباً)، إذا قام بصلاحه. وإنما سمي به، كما قيل: " رجل عدلٌ " و " رضىً "، فرّبٌّ الدار، معناه: مالكها، وحقيقته ذو ملكها. {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (أي لا تجترح (إثماً إلا) عليها)، أي: لا تؤخذ نفس إلاّ بما كسبت، {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: لا يؤخذ أحد بذنب آخر، كل ذي إثم معاقب بإثمه. وحقيقة / معناه: أن الله أمر نبيه عليه السلام أن يخبر المشركين أنهم مأخوذون بآثامهم، وأنّا لسنا مأخوذين بإجرامكم ولا معاقبين بها، {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. قوله: {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض} الآية. " جعل " - هنا - بمعنى " صيّر "، فلذلك تعدت إلى مفعولين. وإذا كانت بمعنى " خلق " تعدت إلى مفعول واحد.

ومعنى الآية: أنها خطاب للنبي وأمته، والمعنى: والله (الذي) جعلكم تخلفون مَن كان قبلكم من الأمم، والخلائفُ: جمع خليفة. وقيل: هذا لأمة محمد A، لأنهم آخر الأمم، قد خلفوا في الأرض مَن كان قبلهم من الأمم، ومحمد A خاتم النبيين، وقيل: سموا (خلائف)، لأن بعضهم (يخلف بعضاً) إلى قيام الساعة. {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي: فضَّل هذا على هذا بسعة الرزق (و) بالقُوَّة، {لِّيَبْلُوَكُمْ} أي: (ليختبركم فيما) آتاكم من ذلك، فيعلم الشاكر من غيره، والمطيع من العاصي، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} أي: لمن (لم) يتبع أمره و (ينته) عن نهيه. وإنما وصف عقابه بالسرعة من أجل أن الدنيا بعيدُها قريب.

{وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} أي: غفور لمن تاب وأطاعه، و {رَّحِيمٌ} بترك عقوبته على سالف ذنوبه.

الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعراف مكية قوله: {المص}. قال الكسائي المعنى: هذا كتاب أنزل إليك.

وقال الفراء المعنى: الألف واللام والميم والصاد، كتاب. ويلزم الفراء أن يكون بعد هذه الحروف - أبداً - كتاب وليس الأمر كذلك، ويلزمه ألاّ تكرر. وقال ابن عباس معناه: أنا الله الملك الصادق. وعنه معناه: أنا الله أفصِلُ.

2

وَرُوِيَ عنه: أنه اسم من أسماء الله، أقسم ربنا به. وعن قتادة: هو اسم من أسماء القرآن. قوله: {وذكرى}. في موضع رفع على العطف على: {كِتَابٌ} عند الكسائي. و {كِتَابٌ} مرفوع بإضمار مبتدأ، أي: هذا كتاب.

وقيل: {ذكرى} مرفوعة على إضمار مبتدأ، وهو قول البصريين. وقيل: هو في موضع نصب على العطف على المعنى؛ لأن المعنى: كتاب أنزلناه إليك، فعطف على " الهاء " المقدرة، وهو قول الكسائي أيضاً. وقيل: نصبه على المصدر، وهو قول البصريين أيضاً. وقيل: هو في موضع خفض على العطف، على معنى {لِتُنذِرَ}؛ لأن معناه للإنذار وللذكرى. و" الهاء " في: {مِّنْهُ}، تعود على الكتاب.

وقيل: على الإنذار. وقيل: على التكذيب الذي دلَّ عليه المعنى. و {لِتُنذِرَ بِهِ}، يراد به التقديم؛ أن " اللام " متعلقة بـ: {أُنزِلَ}. ومعنى الآية: هذا يا محمد، كتاب أنزلناه إليك، {لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي: يذكرون به الآخرة، فلا يكن في صدرك ضيق منه.

قال قتادة، ومجاهد الحرج هنا: الشك، المراد به المرسل إليهم لا النبي، وهو قول ابن عباس، وغيره. وذكر الزجاج، وغيره: أن النبي، A، قال: " إني أخاف أن يثلغوا رأسي

فيجعلوه كالخبزة ". فالله أعلم نبيه، A، أنه في أمان منهم، فقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67]. وكان منه هذا الخوف بمكة. ومن رفع " الكتاب " بإضمار مبتدأ، أجاز الوقف على {المص}. ومن رفعه بـ: {المص}، لم يقف عليها.

3

ومن رفع الكتاب بإضمار مبتدأ، أضمر للهجاء ما يرفعه، كأنه قال: هذه الحروف، هذا {كِتَابٌ}. قوله: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية. فمعنى الآية: قل، يا محمد، [لهم]: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ}، وهو القرآن. {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}، أي: أمر أولياء يأمرونكم بالكفر. و" الهاء " في {دُونِهِ} للرب. وقيل: ل {مَّا}. ونصب قوله: {قَلِيلاً}، على معنى يذكركم تذكيراً قليلاً، أو وقتاً قليلاً تذكركم.

4

وفي هذه الآية، دليل على ترك اتباع الآراء مع النص. قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} الآية. {كَم} في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن تكون في موضع نصب، بإضمار فعل يفسره: {أَهْلَكْنَاهَا}، ولا يقدر إلا بعدها، وهو بمنزلة: أيّهم ضربته. ومعنى الآية: أنها تحذير للكافرين، أن ينزل بهم من البأس، ما نزل بمن كان قبلهم بتكذيبهم. ومعنى الكلام: أنه إخبار عن إهلاك القرى، والمراد أهلها؛ لأن القرى إنّما هي/

بأهلها، فإذا هلكت هلك أهلها، ودل على ذلك قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ}، فرجع إلى الإخبار عن الأهل. وقيل المعنى: وكم من أهل قرية. وقوله: {أَهْلَكْنَاهَا}، ثم قال: {جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} [الأعراف: 5]، إنما معناه أردنا إهلاكها، فجاءها البأس.

وقيل المعنى: {أَهْلَكْنَاهَا} بمنعنا إياها التوفيق إلى الطاعة، فجاءها البأس. وقيل: إن الهلاك هو البأس بعينه، ففي كل واحد معنى الآخر، وسواء بدأ بالبأس أو بالهلاك، وهو كقولك: " زرتني فأكرمتني "، إذا كانت " الزيارة " هي " الكرامة "، فسواء عليك ما قدمت أو أخرت. وقيل: الفاء هنا بمعنى الواو فلا يلزم الترتيب. و {أَوْ} هنا للإباحة. وكان يجب أن يقول: أَوْ وهم قائلون، إلا أنه إذا كان في الجملة عائد لم يُحْتَج

إلى الواو. وقد قال الفراء: " الواو " محذوفة. وقال غيره: حذفت " الواو " لئلا تجمع بين حرفي العطف، وهي: " واو الوقت " عند بعض النحويين. ولو جعل مكان {أَوْ} " الواو " لفسد المعنى؛ لأنه يصير المعنى: أن البأس جاءهم في الليل، وهم قائلون، وهذا لا يمكن؛ لأن القائلة إنما هي نصف النهار، والبيات فعل في الليل.

5

قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ [إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ]}، الآية. المعنى: فما كان دعوى أهل القرية التي جاءها البأس إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين. و" الدَّعْوَى " في كلام العرب، على وجهين. تكون: " الدُّعَاء "، تقول: " اللَّهُمَّ أَشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوىَ مَنْ دعاك، قال الله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ}، أي: دعاؤهم. وقال: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15]، أي:

6

دعاؤهم. والوجه الآخر: الإدعاء للحق. و {دَعْوَاهُمْ} هنا، إنما قالوه حين عاينوا البأس، لا قبله ولا بعده. وذلك أن الرسل كانت تعدهم بالسطوة من الله وتخبرهم بأمارة ذلك وعلامته ليزدجروا، فلما عاينوا علامات ما أوعدوا به، أقروا بالظلم على أنفسهم. قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الآية. المعنى: فلنسألن الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي: ماذا عملت فيما بلغتها الرسل من أمري ونهيي؟ [{وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين}، أي]: ولنسألن الرسل: هل

بلغت وأدت ما أرسلت به. فسؤال الأمم سؤال توبيخ وتقرير، وهو عالم بما عملت، (وسؤال الرسل) سؤال تحقيق على الأمم؛ لأن الأمم قالت: {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} [المائدة: 19] فأخبرت الرسل عند السؤال أنها قد بلغت، وأن الأمم التي أنكرت كاذبة في قولها. فسؤال الرسل، إنما هو على وجه الاستشهاد على الأمم. وسؤال [الأُمَمِ] المرسل إليهم على وجه التقرير بما عملوا، لا أنه تعالى يسأل مسترشداً مستثبتاً؛ لأن هذا صفة من لا علم عنده، بل هو لا إله إلا الله، عالم بتبليغ الرسل، وبما أجابتهم به الأمم. وهذا يدل على أن الكفار يحاسبون ويسألون.

7

قوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} الآية. والمعنى: فلنخبرنَّ الرسل والمرسل إليهم بعلم يقين عما عملوا في الدنيا. قال ابن عباس معنى {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ}: أنه ينطق عليهم كتاب عملهم. {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ}. أي: عن أعمالكم وأفعالكم. قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق [فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ]} الآية. والمعنى: ووزن الأعمال يومئذ الحق. {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}. أي: من كثرت حسناته. قاله مجاهد.

وقيل المعنى: فمن ثقلت موازين حسناته. وهو " ميزان " له لسان وكِفَّتَانِ، كالذي يعرفه الناس. قال عبيد بن عمير: يجعل الرجل العظيم الطويل/ في الميزان، فلا يزن جناح بعوضة. ووزن الأعمال في الميزان، هو نظير إثباتُ الله إياها في أُمِ الكتاب، واستنساخه ذلك في الكتب من غير حاجة إلى ذلك، وهو العالم بكل ذلك، وإنما فعل ذلك تعالى، ليكون

حجة على خلقه، فيحتج عليهم بما عاينوا وفهموا وعرفوا من ذنوبهم. قال تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، فكذلك وزن أعمال العباد حجة عليهم، ليعلموا التضييع الذي فعلوا، أو يفهموه عن قرب على ما عملوا. فأما وزن الأعمال وهي أعراض، فإنما يحدث الله خفة في جانب السيئات، وثقلاً في جانب الحسنات، على ما يشاء لمن أراد، كل ذلك احتجاج منه على خلقه، وتقريع لهم بما عملوا، وهذا مثل استنطاق أيديهم وأرجلهم بما عملوا في الدنيا، حجة منه عليهم، وقد تظاهرت الأخبار بذلك عن النبي A.

9

ومعنى: {[وَ] مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}. أي: من خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بالتوحيد لله، والإيمان برسوله. {فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم}. أي: غبنوا أنفسهم حظوظها من الثواب. {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ}. الظلم هنا: الجحود لآيات الله. قال سلمان الفارسي: يوضع الميزان يوم القيامة، ولو وضع في كفَّته السموات والأرض لوسعتها، فتقول الملائكة: ربنا ما هذا؟ فيقول تعالى: أَزِنُ به لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: ربنا ما عبدناك حق عبادتك.

10

وقال مجاهد، " الميزان ": هنا: الحسنات والسيئات نفسها. وقيل: " الميزان ": الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. والذي جاءت به الآثار أنه " الميزان " المعروف. {يَوْمَئِذٍ الحق}، وقف حسن. قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض}. لام {لَقَدْ} لام توكيد. روى خارجة عن نافع أنه قرأ: {مَعَايِشَ}، بالمد والهمز،

وكذلك روي عن عبد الرحمن الأعرج - ولا يجوز ذلك عند جماعة النحويين، لأن الياء أصلية، وإنما تهمز الزائدة. وروى الأصبهاني عن أصحابه عن ورش: {مَعَايِشَ} الياء ساكنة - وهو غلط؛ لأنها غير " مفاعل " والميم زائدة؛

لأنها من " العيش ". ومعنى الآية: ولقد جعلنا لكم في الأرض قراراً ومهاداً، وجعلنا لكم فيها {مَعَايِشَ} أي: ما تعيشون به. وقيل المعنى: وجعلنا (لكم) فيها ما تتوصلون به إلى المعيشة. شكراً قليلاً تشكرون على هذه النعم.

11

و {مَعَايِشَ} وقف. قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} الآية. قوله: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}. قال الأخفش، وقطرب: {ثُمَّ} هنا بمعنى " الواو ". ومنع ذلك سائر البصريين. والمعنى عندهم فيه: ولقد ابتدأنا خلق آدم، ثم

صورناه، {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا} له بعد تمام خلقه. ودليله قوله تعالى: {كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن [فَيَكُونُ]} [آل عمران: 59]. وقيل المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أيها الناس في ظهر آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، يعني ذريته، في أرحام النساء في صورة آدم. قاله ابن عباس وغيره. وقال السدي المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ}، أي: خلقنا آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} يعني: ذريته في الأرحام. وأخبر عن خلق آدم بلفظ الجماعة؛ لأنه الأصل/ للجميع، فكأن (خلقه)

خلق الجميع. والعرب تجعل مخاطبة الرجل لأبائه المعدومين، ومنه قول الله تعالى D: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} [البقرة: 63]، فالخطاب لمن كان على عهد النبي A، والمراد به من تقدم من آبائهم. فكذلك هذا الخطاب للمؤمنين، والمراد به الخبر عن أبيهم آدم، صلوات الله عليه. وكذلك قال قتادة. وقال عكرمة المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} أيها الناس نطفاً في أصلاب آبائكم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في الأرحام.

وكذلك روى سفيان عن الأعمش أنه فسره كذلك. وقال مجاهد المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} يعني: آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في ظهر آدم. وقيل المعنى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} في بطون أمهاتكم، يعنى: النطفة والعلقة، {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} بعد ذلك في البطون.

واختار الطبري، قول من قال: (معناه): ولقد خلقنا أباكم آدم ثم صورناه. قال: لأن بعده: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ}، ومعلوم أن الله (تعالى) قد أمر الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام)، قبل أن يصور أحداً من ذريته في بطون أمهاتهم. و {ثُمَّ} للتراخي فيما بين ما بعدها وما قبلها. وقال بعض أهل النظر: إن في الكلام تقديماً وتأخيراً؛ وإن ترتيبه: ولقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم. وهذا بعيد عن النحويين؛ لأن " ثم " لا يجوز أن يراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر. فقد أنكر هذا القول النحاس، وغيره.

وقوله: {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ}. فعل تعالى ذلك بعد خلق آدم (عليه السلام) ابتلاء منه لهم، واختباراً لِتَتِمَّ مشيئته التي تقدمت في إبليس، فيعلم ذلك طاهراً وظهوراً يجب عليه العقاب (لهم] والثواب، فسجد جميعهم إلا إبليس. وقال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة، وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وسلطان الأرض، فعصى، فمسخه الله (سبحانه) شيطاناً رجيماً. قال ابن جريح: ومن يقل من الملائكة إني إله من دونه، لم يقله إلا إبليس

12

دعا إلى عبادة نفسه، فنزلت هذه الآية. قال قتادة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله [مِّن دُونِهِ]} [الأنبياء: 29]، هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس (اللعين) لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيماً. قال ابن عباس: لما قتل إبليس الجن الذين عصوا الله ( D) في الأرض، وشردهم، أعجبته نفسه، فلذلك [امتنع] من السجود واستكبر على ربه [سبحانه]. قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} الآية.

هذا السؤال من الله (تعالى) سؤال تقرير وتوبيخ؛ لأنه، تعالى، قد علم ذلك منه. و" لا " زائدة مُؤكَّدة. والمعنى: ما منعك أن تسجد. وقيل: إن " لا " غير زائدة وإن في الكلام حذفاً. والمعنى: [ما منعك] من السجود وأحوجك ألا تسجد؟ فحذف " أحوجك " لدلالة الكلام عليه. وهو اختيار الطبري. وقيل المعنى: (إن) المنع هنا بمعنى " القول " و " لا " غير زائدة،

والتقدير: من قال لك ألا تسجد إذ أمرتك بالسجود: ودخلت " أن " كما تدخل في كلام هو بمعنى القول، ولفظه مخالف للفظ القول كقولهم/ " ناديت أن لا تقم "، و " حلفت ألا تجلس " فلما كان المنع بمعنى القول، وليس من لفظه دخلت " أن ". وقيل: إن المنع لما كان معناه الحول بين المرء وبين ما يريده، فالممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه، فلما كان معنى المنع هذا، كان تقدير الكلام: ما اضطرك إلى أن لا تسجد. وقوله: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}. هذا خبر من الله ( D) عما قال إبليس، إذ قال له الله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}، فقال إبليس: أنا أفضل منه؛ لأني من نار، وهو من طين، ففضل عليه كفضل النار على الطين. فجهل عدو الله الحق، وأخطأ طريق النظر، إذ كان معلوماً أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب، والارتفاع والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حمل الملعون بعد الشقاء الذي سبق له من الله ( D) على الاستكبار. وكان معلوماً أن

من جوهر الطين الرزانة والأناة، وذلك الذي حمل (آدم [عليه السلام]) بعدما سبق له عند ربه ( D) على الندم على الذنب والتوبة منه. ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان: " أول من قاس إبليس "، يعنيان أنه أخطأ في قياسه في تفضيل النار على الطين؛ وأنها أقوى من الطين. وقول إبليس: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} ليس بجواب في الظاهر لمن قال: " ما منعك أن تفعل؟ "؛ وإنما هذا جواب من قال: " أيكما خير؟ "؛ ولكنه جواب محمول على المعنى

13

لا على ظاهر السؤال؛ كأنه لما قيل له: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ}، قال: فضلي عليه أني من نار؛ وأنه من طين، فأخبر الملعون عن نفسه بخبر فيه معنى الجواب. قوله: {قَالَ فاهبط [مِنْهَا]} الآية. المعنى: قال الله ( D) لإبليس عندما صنع: {فاهبط مِنْهَا}، أي: من الجنة. {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا}. أي: ليس لك أن تستكبر في الجنة عن أمري وطاعتي. أي: لا يسكن في الجنة من يتكبر عن أمري. فأما غير الجنة فالمستكبر يسكنها، وغيره.

14

{فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين}. أي: أخرج من الجنة؛ إنك ممن نالهم الصغار، وهو: الذلة والمهانة. قوله: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، الآيتان. المعنى: إن إبليس علم ألا موت بعد قيام الساعة، فسأل النظرة إلى ذلك الوقت؛ ليصح له الخلود، وذلك لا سبيل لأحد إليه، فقال له [الله]: {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37 - 38]، وذلك اليوم هو اليوم الذي كتب الله فيه الفناء على جميع الخلائق، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت. ولم يجبه الله إلى ما سأل؛ لأنه لم يقل له: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} إلى ما سألت، أو إلى يوم البعث. قال السدي: سأل إبليس الإنظار إلى يوم يبعثون، فلم ينظر إلى يوم البعث.

16

وأنظر إلى يوم الوقت المعلوم، [وهو] يوم ينفخ في الصور النفخة الأولى، فيعصق من في السموات ومن في الأرض فيموت. قوله: {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي [لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ]}، الآيتان. المعنى: إن اللعين أقسم ليقعدن لهم، فجعل الإغواء قسماً له، كأنه قال: فبإغوائك إياي، لأقعدن لهم، ثم لأفعلن كذا. وقيل المعنى: إنه سأل ربه بأي شيء أغواه، قاله ابن عباس. كأنه قال: فبأي شيء أضللتني. وقيل المعنى: فبما دعوتني إلى شيء ضللت [به] من أجله.

وقيل المعنى: / فبما أهلكتني، من قولهم: " غَوِيَ الفَصيلُ " إذا هلك من فقد اللبن. وقيل المعنى: إنه على معنى المجازاة، أي: كما أغويتني أفعل كذا وكذا، وأضلهم كما أضللتني. قال النبي، A: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابنِ آدَمَ بِطَرِيقِ الإِسْلاَمِ، فقال له: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دينك ودين آبائك؟ فعصاه وأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال له: أتهاجر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول؟ فعصاه وهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال؟ فعصاه وجاهد ".

17

وقيل: {صِرَاطَكَ المستقيم}. (أي): طريقك (القويم)، وهو دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه. وسمي الدين " صراطاً "؛ لأنه الطريق إلى النجاة. قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، الآية. المعنى: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، من قبل الآخرة فأخبرهم أنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل الدنيا، فأزينها في أعينهم وأخبرهم أنه لا حساب عليهم فيما يعملون. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: من قبل الحق. {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: من قبل الباطل. قال ابن عباس: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، أشككهم في الآخرة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أُرغِّبهم في الدينا، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أشبه عليهم في أمر دينهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: أُشَهِّي لهم

المعاصي. وقال السدي وغيره: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، أدعوهم إلى الدنيا وأرغبهم فيها، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أشككهم في الآخرة، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: أشككهم في الحق، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: أخفف البال عندهم. وقيل: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: من قبل دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل آخرتهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}: من قبل حسناتهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}: من قبل سيئاتهم، قاله: ابن جريج، وغيره. وقال مجاهد المعنى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من حيث يبصرون، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} من حيث لا يبصرون.

18

وقيل: {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، يخوفهم في تركاتهم، ومن يخلفون بعدهم. وقيل: {لآتِيَنَّهُمْ}، من كل جهة يعملون فيها. {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}. كان ذلك ظناً منه، فكان الأمر على ما ظن، وهو قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]. وقيل المعنى: {مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، من قبل الدِّين فألبسه عليهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: من قبل الشهوات، فأحببها إليهم في الدنيا، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}، من قبل الحق، فأرده باطلاً، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ}، من قبل الباطل، فأرده في أعينهم حقاً. قوله: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}، الآية.

{مَّدْحُوراً}: حال، مثل: {مَذْءُوماً}، ويجوز أن يكون نعتاً ل: {مَذْءُوماً}. وروي عن عاصم أنه قرأ " لِمَنْ تَبِعَك " بكسر اللام، والمعنى على هذا: فعل بك ذلك من أجل من تبعك. ومعنى الآية: أنها خبر من الله، بما قال لإبليس اللعين. و {مِنْهَا}: من الجنة.

ومعنى: {مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}: معيباً. و" الذَّأمُ ": العيب. يقال: " ذَأَمَهُ ": إذا عابه، فهو مذءوم. و" الذَّأْمُ " أبلغ في العيب من الذم، يقال: ذَمَمتُهُ وذِمْتُهُ/ بمعنى واحد. قال أبو عبيدة: " ذَأَمْتُ الرجل " أشد مبالغة من: " ذَمَمْتهُ " و " المدحور ": المقصى المبعد. وعن ابن عباس {مَذْءُوماً}: ممقوتا.

19

و {مَّدْحُوراً}: مطروداً. وقاله السدي. وقوله: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ}. هذا قسم، أقسم الله أن من اتبع إبليس، أن يملأ جهنم منهم، يعني من كفر فاتبعه وصدق ظنه. قوله: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ [الجنة]}، الآية. هذه الآية مذكور معناها في تفسير سورة البقرة، واختلاف الناس في الشجرة. قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان}، الآية.

قرأ ابن عباس: ويحيى بن أبي كثير: " مَلِكَيْن " بكسر " اللام ". أي: من الملوك الذين في الدنيا. ومن فتح " اللام " فمعناه: من الملائكة. والمعنى: فالقى إليهما قولاً حملهاً على ركوب النهي. ومعنى {لِيُبْدِيَ لَهُمَا}،: ليظهر سوآتهما التي هي مستورة، وحلف لهما أني

ناصح لكما في أن ربكما إنما نهاكما عن أكل الشجرة، كراهة أن تكونا مَلَكَيْن، أو كراهة أن تخلدا في الجنة. ومعنى {[وَ] قَاسَمَهُمَآ}، حلف لهما، مثل طارقتُ النَّعْلَ وعاقَبْت اللص. وقال قتادة: حلف لهما بالله، وقال: أنا خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما.

{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}. أي: غرهما باليمين التي حلف لهما، وكان آدم، (صلوات الله [عليه])، يظن أنه لا يحلف أحد بالله كاذباً، فغره ذلك. قال ابن عباس: كانت الشجرة التي نهيا عن أكلها، السنبلة، فلما أكلا بدت سوآتهما، أي: تقلص النور الذي كان يسترهما، فصار أظفاراً في الأيدي والأرجل، وظهرت سوآتهما لهما، فعمدا يلزقان ورق التين بعضها إلى بعض، فانطلق آدم موليّا في الجنة، فأخذت برأسه شجرة من الجنة، فناداه الله: آي آدم أمني تفر؟

فقالا: لا، ولكني استحييت منك يا رب! فقال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحداً يحلف بك كاذباً. قال ابن جبير: حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله. ومعنى " وسوس ": زين وألقى، وحسس المعصية حتى أكلا. وقد تقدم ذكر دخول إبليس الجنة في فم الحية، وكانت إذ ذاك دابة لها أربع قوائم، كأنها البعير كاسية، فأعراها الله، وأزال قوائمها عقوبة لها.

و " اللام " في {لِيُبْدِيَ}: لام العاقبة، بمنزلة: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]. ولما حملها على الأكل تقدمت حواء للأكل، وأبى آدم أن يأكل، فأكلت حواء، وقالت: يا آدم كل فإنه لم يضرني فأكل، ف: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا

وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة}. قال مجاهد: يعنى: يرقعانه كهيئة الثوب. ومعنى (طَفِقَا): جعلا. وأتت الأخبار عن النبي، عليه السلام، أن الله تعالى خلق آدم يوم الجمعة، ويوم الجمعة خرج من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه قبضه. وكان مقدار مكث آدم في الجنة خمس/ ساعات. وقيل: ثلاث ساعات. وقال ابن عباس: كان مكث آدم نصف يوم من أيام الآخرة، وخرج بين الصلاتين: الظهر والعصر. قال علي بن أبي طالب، Bهـ،: أطيب أرض بالأرض ريحاً الهند، هبط آدم بها،

فعلق شجرها من ريح الجنة. وقال ابن زيد: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، فجاء في طلبها حتى أتى " جمعاً " فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت " المزدلفة "، وتعارفا بعرفات، فلذلك سميت " عرفات "، واجتمعا بِجَمْع، فلذلك سميت " جمعاً ". وأهبطت الحية بأصبهان، وإبليس بميسان. وقيل بساحل بحر الأُبُلَّة. ولما أهبط آدم إلى الأرض، أهبط على جبل يسمى: " بوذ "، وكان أطول

جبال الأرض، فكان آدم عليه السلام، رجلاه على الجبل ورأسه في السماء، فكان يسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم، وكان (آدم) يأنس لذلك، فهابته الملائكة، فخفضه الله إلى الأرض إلى ستين ذراعاً فاستوحش، فشكا إلى الله في دعائه، فوجه إلى مكة فأنزل الله ياقوتة من الجنة، فكانت في موضع البيت فلم يزل يطاف بها حتى نزل الطوفان، فرفعت حتى بعث الله إبراهيم، فبناه. وكان أصل الطيب عند جماعة من أهل التفسير: الورق الذي طفق آدم وحواء يخصفانه على أنفسهما نزلا به إلى الدنيا. وقيل: إنه خرج ومعه صرة من حنطة. وقيل: إن جبريل أتاه بها حين استطعم، أتاه بسبع حبات فوضعها في يد آدم، فقال آدم: وما هذا؟، فقال له جبريل: هذا الذي أخرجك من الجنة، فعلمه ما يصنع به.

قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر، (فكان) يحرث عليه، ويمسح العرق، وهو قوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117]. ومعنى {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}، (أي): خدعهما. واللام في (قوله): {لِيُبْدِيَ} هي مثل اللام في: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}؛ لأن إبليس لم يعلم أنهما إن أَكلا من الشجرة {[بَدَتْ لَهُمَا] سَوْءَاتُهُمَا} إنما حملهما على ركوب المعصية لا غير. فكان عاقبة أمرهما لما أكلا ظهور سوءاتهما، فجاز أن يقول: فوسوس لهما ليبدي لهما لما أل أمرهما إلى ظهور سوءاتهما، كان كأنه فعل ذلك

23

بهما لتظهر سوءاتهما. قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} الآية. المعنى: قال آدم وحواء: ربنا قد ظلمنا أنفسنا، أي: تعدينا أمرك فأكلنا ما نهيتنا عنه {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} خطيئتنا وتسترها علينا، {وَتَرْحَمْنَا} أي: تعطف علينا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}. قوله: {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية. هذا أمر لآدم، وحواء، وإبليس، والحية. وقيل: هو لآدم وذريته وإبليس وذريته، قاله مجاهد.

{وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ}. أي: قرار تستقرون به. قال ابن عباس: هو القبور. (ومعنى): {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}، أي: متاع تستمتعون به إلى انقطاع آجالكم.

25

وقيل: " الحين " هنا، قيام الساعة. قوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (الآية). المعنى: إنه تعالى أعلم من أهبط، أن في الأرض يحيون ما بقي من أعمارهم، {وَفِيهَا تَمُوتُونَ}، ومنها يخرجون في البعث. قوله: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} الآية. قوله: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً}، واللباس هو: الثياب، وهي/ غير منزلة، لكن لما كان حدوث الثياب من الكتان والقطن، والكتان والقطن إنما يكونان عن النبات بالماء، فالماء (هو) المنزل، فسمى ما يحدث عنه منزلاً أيضاً؛ لأنه عنه كان، وبه تم، ونما ونبت، وهذا يسمى: " التدريج ": لأن الثياب عن الماء اندرجت.

قوله: {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ}. من نصب " لباساً " عطفه على ما قبله، أي: وأنزلنا لباس التقوى، ويكون الوقف على {التقوى}، و: {ذلك}: مبتدأ، و: {خَيْرٌ} خبره. و: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم مما أخبر أنه أنزل، فمعناه: ذلك الذي أنزلنا خير من كشف العورة والتجرد في الطواف. ومن قرأ بالرفع، جعله مبتدأ، و: {ذلك} نعت له، و: {خَيْرٌ} خبر الابتداء.

والمعنى: ولباس التقوى ذلك [الذي علمتموه] خير من لباس الثياب والزينة. ويكون التمام: {وَرِيشاً}. قال المبرد: من قرأ بالنصب، احتمل أن يكون {ذلك} إشارة إلى اللباس خاصة، وأن يكون إشارة إلى ما تقدم، ويكون في الوجهين في موضوع رفع. ومعنى الآية: إن العرب كانت تتعرى في الطواف اتباعاً لأمر الشيطان في سلبهم من ستر الله تعالى. ويعني بقوله: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً}، أي خلقناه لكم وعلمناكم كيف تعملونه،

وهو ما يستتر به من الثياب. {يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ}. (أي): يستر عوراتكم. وسميت العورة " سوأة "؛ لأن صاحبها يسوءه انكشافها من جسده. وقوله: {وَرِيشاً}. قرأ المفضل عن عاصم، والحسن [وحسين] الجعفي عن أبي عمرو:

" ورياشاً " بألف. قال الفراء: الرياش: جمع ريش، كذِئْب وذِئَاب، وبِئْر وبِئَار. ويجوز أن يكون [رياش ك:] " ريش " كما يقال: لِبْسٌ ولِبَاس فيكونان مصدرين كاللِّبس واللِّباس. و: " الريش " و: " الرياش ": ما ظهر من اللباس والشارة. وقيل: الرياش: الأثاث.

وقد يستعمل " الرياش " في الخصب ورفاهة العيش. وقيل: الرياش: المعاش. وقال مجاهد: " الرياش "، المال. وقال ابن زيد: " الرياش ": الجمال. وقال الضحاك: " الرياش " المال. وقد (روي) عن ابن عباس ذلك.

وقوله: {وَلِبَاسُ التقوى}. فقال قتادة، والسدي، وابن جريج: هو الإيمان. وقيل: هو الحياء. وقال ابن عباس: هو العمل الصالح. وعن ابن عباس أيضاً: هو السَّمت الحسن في الوجه. وكذلك روي عن عثمان، Bهـ، أنه فسرها على المنبر كذلك.

وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله، ( D) . وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وقيل هو: لبس الصوف، والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله، ( D) . وقيل: هو استشعار النفوس تقوى الله ( D) في ما أمر به، ونهى

عنه. وهو اختيار الطبري. وقال يحيى بن يحيى: {وَلِبَاسُ التقوى}: الخشوع، والوقار، وحسن الَسّمْت، مع العمل بما يشبه ذلك، رواه عنه ابن حبيب. واختار المبرد، والطبري قراءة النصب؛ لأنه كله توبيخ للمشركين في تعريهم وكشفهم سوآتهم طاعة منهم لإبليس، ليفعل بهم ما فعل بأبيهم آدم

27

(عليه السلام)، في الجنة، وبحواء، / إذ خدعهما حتى بدت لهما سوآتهما. ودل على ذلك ما بعده، من قوله: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} [الأعراف: 27] الآية، وما بعدها من الآيات. وقوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله}. أي: ذلك الذي أنزلته عليكم، من مصالحكم آية، وحجة عليكم لعلكم تذكرون نعمه وآياته. قوله: {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان}، الآية. هذه الآية تحذير من الله ( D) لبني آدم ألا يخدعهم الشيطان كما فعل بآدم وحواء عليهم السلام. قال ابن عباس: كان لباسهما الظفر فنزع ذلك عنهما، وتركت الأظفار تذكرة وزينة.

وقال عكرمة: أدركت آدمَ التوبةُ عند ظفره، وكان لباسه الظفر. وقال مجاهد {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا}، التقوى. قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ}، أي: الشيطان. {وَقَبِيلُهُ}، جيله. وقال ابن زيد: نسله.

وقيل: جنوده وأصحابه. روي: أن الله، جل ذكره جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه [الله]، ( D) . قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}. أي: نصراء للكافرين على كفرهم، يزيدونهم في غيهم عقوبة لهم على كفرهم، كما قال: {[أَلَمْ تَرَ أَنَّآ] أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ [أَزّاً]} [مريم: 83]، أي: تحملهم على المعاصي حملاً شديداً، وتزعجهم إلى الغي.

28

وقرأ أبو عمرو (إنه يريَكم)، بالفتح. قوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} الآية. الفاحشة في هذا الموضع: طوافهم عراة. وكانت المرأة تطوف ليس عليها غير الرِّهاط، والرِّهاط جمع رَهْط، وهي: خرقة من صوف.

29

يقولون: نطوف كما ولدتنا أمنا عراة، [وإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: نطوف كما ولدتنا أمنا] وعلى ذلك وجدنا آباءنا والله أمرنا بها. ثم قال تعالى: {قُلْ} يا محمد،: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء}، أي: لا يأمر خلقه بقبائح الأمور: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. {بالفحشآء} وقف. {بِهَا} وقف. قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} الآية. المعنى: قل، يا محمد لهم: {أَمَرَ رَبِّي بالقسط}، أي: بالعدل. {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.

أي: وجهوا وجوهكم عند كل مسجد إلى الكعبة، وحيثما صليتم إليها. وقيل معناه: اجعلوا سجودكم لله ( D) . وقيل: المعنى إذا أدركتك الصلاة وأنت عند مسجد، فصل فيه، ولا تقل: أُؤْخر حتى آتي مسجد قومي. وهذا عطف محمول على المعنى؛ لأن معنى {أَمَرَ رَبِّي بالقسط}،: يقول لكم [ربي] أقسطوا وأقيموا وجوهكم، [فعطف أقيموا وجوهكم]، على أقسطوا، الذي في المعنى لا في اللفظ.

{وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}. أي: الطاعة. ثم قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}. هذا احتجاج عليهم إذ أنكروا قوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25]، وهو متصل به ومعناه: ليس بعثكم أشد من ابتدائكم. ومعنى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، أي: كما بدأكم أشقياء وسعداء، كذلك تبعثون يوم القيامة، كما قال: {[هُوَ الذي] خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وقال بعده: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة}، وهو قول مجاهد،

قال: من بدأه سعيداً بعثه يوم القيامة سعيداً، ومن بدأه شقياً بعثه يوم/ القيامة شقياً. وعن مجاهد أيضاً أنه قال: كما خلقكم تكونون كفاراً ومؤمنين. وعن ابن عباس نحوه. فلا تقف على هذا القول إلا على: {الضلالة}، لا تقف على: {تَعُودُونَ}؛ لأن {فَرِيقاً}، {وَفَرِيقاً} حالان.

وقيل: المعنى: كما خلقكم، ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون بعد الفناء، أي: كما خلقكم، كذلك يبعثكم بعد موتكم، وهو قول الحسن وقتادة. فتقف على هذا على {تَعُودُونَ}. ثم قال: {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}، أي: على هدى.

31

وقال الأخفش وأبو حاتم: {كَمَا بَدَأَكُمْ} تمام. وقيل: {تَعُودُونَ} التمام. ومن قال معنى الآية: كما خلقكم أشقياء وسعداء {تَعُودُونَ}، لم يقف إلا على: {الضلالة}، وهو قول الكسائي. قوله: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} الآية. هذا خطاب لهؤلاء القوم الذين كانوا يتعرون في الطواف، فأمروا بالكسوة

{عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}. قال السدي: " الزينة "، ما يواري العورة، قال: وكانوا يحرمون الودك ما أقاموا بالموسم، فقال لهم الله ( D) : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا}، أي: في التحريم. وقال ابن زيد: {[وَ] لاَ تسرفوا}: لا تأكلوا حراماً. [و] قال علي Bهـ: ليس في الطعام سرف.

قال ابن عيينة: ليس في الحلال سرف؛ إنما السرف في ارتكاب المعاصي. (والإسراف أن يأكل ما لا يحل أكله مما حرم الله، D، أن يؤكل منه شيء، أو تأكل مما أحل لك فوق القصد ومقدار الحاجة، فأعلم الله، D، أنه لا يحب من أسرف، ومن لم يحببه الله، D، فهو في النار، نعوذ بالله من النار). وروى قتادة عن أنس أن النبي A، " قال في قوله [تعالى]: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قال: صلوا في النعال ". فستر العورة فرض بهذه الآية على أبصار جميع الناظرين، إلا الأزواج، أو ما ملكت الأيمان.

32

وقيل معنى: {وَلاَ تسرفوا}، [أي]: لا تحرموا الحلال، كما حرم أهل الجاهلية البحيرة، والسائبة، وغير ذلك. قوله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} الآية. والمعنى: {قُلْ} يا محمد، لهؤلاء الذين يتعرون في الطواف، ويحرمون ما لم يحرم الله من طيبات رزقه: {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله}، أي: اللباس الذي يزين الإنسان بأن يستر عورته، ومن حرم {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق}، المباحة.

وقيل: عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرمه من السوائب والبحائر. قاله قتادة. وقال ابن عباس كانت الجاهلية تحرم على أنفسها أشياء أحلها الله (سبحانه) من الرزق، وهو قول الله ( D) : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} [يونس: 59] الآية. ثم قال تعالى: {قُلْ}، (لهم) يا محمد {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً (يَوْمَ القيامة)}. المعنى، قل لهؤلاء: هذه الطيبات للذين آمنوا في الحياة الدنيا، مثل ما هي للكفار خالصة يوم القيامة للمؤمنين، لا يَشْرَكُهم فيها كافر.

قاله السدي، وغيره. ووقع الجواب في هذا على المعنى، / كأنهم قالوا: [هي لنا، ما حرمها أحد، فقل لهم: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} الآية. وقيل المعنى: [قل]: هي {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} لمن آمن بي في الحياة الدنيا. وذلك

33

أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم، ثم جعلها الله (تعالى) خالصة للمؤمنين في الآخرة. قاله قتادة، وابن عباس، وغيرهما. قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} الآية. المعنى {قُلْ} لهم، يا محمد: إن ربي لم يحرم عليكم ما حرمتم على أنفسكم، إنما حرم عليكم الفواحش، الظاهر منا والباطن، والشرك بالله (سبحانه) ما ليس معكم به حجة، وقولكم على الله ما لا تعملون، وحرم عليكم الإثم والبغَي بغير الحق. والفواحش: القبائح. قال مجاهد: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: نكاح الأمهات، {وَمَا بَطَنَ}: الزنا. وقيل: {مَا ظَهَرَ}: الطواف عرياناً، {وَمَا بَطَنَ} الزنا.

{والإثم}: المعصية. {والبغي}: الاستطالة على الناس. قال السدي: {البغي}، أن يبغي على الناس بغير الحق. وأصل البغي: التجاوز في الظلم. وقد قيل: إن {الإثم}، الخمر، وهو قول غير معروف، لكن هذه الآية تدل

34

على نص تحريم الخمر؛ لأن الله (تعالى) قد أخبرنا، أن في الخمر إثماً، فقال: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219]، وحرم الله اكتساب الإثم في هذه الآية. قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} الآية. [الأمة]: الجماعة.

35

والمعنى: ولكل جماعة اجتمعت على تكذيب رسل الله، [سبحانه]، وقت لحلول العقاب بها، فإذا جاء الوقت، {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}. قوله: {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ} الآية. آدم مشتق من أَدَمَة الأرض، وهو وجهها. قال وهب بن مُنَبِّه في التوراة: إني خلقت آدم، ركبت جسده من أربعة أشياء ثم جعلها وارثهُ في ولده، تنمى في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة، رطب

ويابس وسخن وبارد، وذلك لأني خلقته من تراب وماء وجعلت فيه نفساً وروحاً، فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من قبل النفس، وبرودته من قبل الروح، ثم خلقت (في) الجسد بعد الخلق الأول أربعة أنواع من الخلق أخرى، وهي مِلاك الجسد وقوامه، لا يقوم الجسد إلا بهذا، ولا تقوم واحدة إلا بأخرى: المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم، والبلغم. ثم أسكنت بعض هذا الخلق في بعض، جعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، ومسكن الرطوبة في الدم، ومسكن البرودة في البلغم، ومسكن الحرارة في المرة الصفراء، فأيما بدن اعتدلت به هذا اللفظ الأربع، وكانت كل واحدة منهن فيه ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته، فإن زادت واحدة منهن عليهن قهرتهن، ومالت بهن، دخل على أخواتها السقم من ناحيتها بقدر ما زادت، وإن كانت ناقصة ملن بها وعلونها، وأدخلن عليها السقم من نواحيهن. قال وهب: وجعل عقله في دماغه، وتمييزه في

كليتيه، وغضبه في كبده، ومدامته في قلبه، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وحزنه وفرحه في وجهه، وجعل فيه ثلاث مائة وستين مفصلاً. ومعنى الآية: أنها تعريف من الله، تعالى، ما لمن آمن بالرسل وأطاع، وما لمن كفر وعصى، فقال: {يابنيءَادَمَ/ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}، أي: من أنفسكم، {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}، أي: يتلون، {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ}، أي: آمن، وأصلح أعماله، {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}، يوم القيامة، ولا حزن يلحقهم على ما

36

فاتهم من دنياهم، التي تركوها. قال: {والذين كَذَّبُواْ}، أي: بالرسل، وكذبوهم فيما جاؤا به، {أولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}، أي: ماكثون، لا يخرجون منها أبداً. **************قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية. المعنى: فمن أخطأ فعلاً، {مِمَّنِ افترى}، [أي]: اختلف على الله الكذب، فقال إذا فعل فاحشة: الله أمرنا بها. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}، أي: بعلاماته الدالة على وحدانيته، ونبوة أنبيائه. {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، أي: حظهم مما كتب لهم من العذاب وغيره في اللوح المحفوظ. قال السدي: هو ما كتب لهم من العذاب.

وكذلك قال الحسن، وغيره. وقال ابن جبير: ما هو سبق لهم من الشقوة والسعادة. وكذلك قال مجاهد، وقال ابن عباس. [وعن ابن عباس]. أيضاً: إن المعنى ينالهم نصيبهم مما كتب عليهم من أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وقال قتادة المعنى: ينالهم في الآخرة نصيهم من أعمالهم التي عملوها في الدنيا. وقيل المعنى: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} الذي كتبه الله D، على من افتى عليه. وعن ابن عباس أنه قال: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم}، هو ما قد كتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود. وقال القرظي المعنى إن: {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} هو رزقه، وعمله، وعمره.

وكذلك قال الربيع بن أنس. وكذلك قال ابن زيد. وقيل: المعنى: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، هو ما كتب عليهم من سواد الوجوه، وزرقة الأعين، قال تعالى: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]. وقيل: (المعنى)، هو ما ينالهم في الدنيا من العذاب، دون عذاب الآخرة، من قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى [دُونَ العذاب الأكبر]} [السجدة: 21]، الآية.

وكان الطبري يختار أن يكون المعنى: إنه ما كتب لهم في الدنيا، من خير وشر، ورزق وعمل وأجل، قال: ألا ترى أنه تعالى أتبع ذلك بقوله: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، فأخبر بآخر أمرهم بعدما نالهم من: {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، وهو الرزق، والعمر، والأجل، والخير والشر. وقيل: المعنى، إنه قوله تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} [الليل: 14]، وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 17] هذا {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}، وهو ينالهم في الآخرة، ومثله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} [غافر: 71]، ومثله: {فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145]، هذا وشبهه من: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، الذي ينالهم في الآخرة. وقوله: {نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب}. قال الحسن: هذه وفاة إلى النار. فيقول لهم الرسل: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}، هذا/ كله في الآخرة، فيشهدون على أنفسهم بالكفر حينئذ. وقيل المعنى: إن هؤلاء المفترين ينالهم ما كتب لهم في الدنيا إلى أن يأتيهم

38

{رُسُلُنَا}، يعني: ملك الموت وجنوده {يَتَوَفَّوْنَهُمْ}، أي: يستوفون عددهم من الدنيا إلى الآخرة، {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ}، أي: قالت الرسل للكفار: أين الذين كنتم تدعونهم من دون الله وتعبدونهم يدفعون عنكم الآن ما جاءكم من أمر الله ( D) ؟ { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا}، أي: جاروا، وأخذوا غير طريقنا وتركونا عند حاجتنا إليهم. ثم قال الله (تعالى): {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}، أي: عند الموت. قوله: {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} الآية. قرأ الأعمش: " (حَتَّى) إشَّا تَدَارَكُواْ (فِيهَا) "، على الأصل، على تفاعلوا.

وقرأ مجاهد: أدَّرَكوا، أي: أدرك بعضهم بعضاً، وأصله: افتعلوا. والمعنى: إنها خبر من الله (تعالى)، عما يقول لهؤلاء المفترين المكذبين بالقرآن يقول لهم: {ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ}، أي في الجماعة من أجناسكم، {قَدْ خَلَتْ} في النار، {مِّن الجن والإنس}. وقيل: معنى {في أُمَمٍ}، أي: مع أمم. وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا}. أي: كلما دخلت جماعة النار شتمت الجماعة الأخرى التي من أهل ملتها. وعني بـ " الأخت " هنا: الأخوة في الدين والملة.

39

قال السدي: يلعن المشركون [المشركين]، واليهود اليهود، والنصارى النصارى. وكذلك أهل كل ملة تلعن الجماعة، من أهل دينها التي دخلت النار قبلها. وقوله: {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا}. أي: أدرك الآخر الأول في النار، واجتمعوا، {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ}، أي: الجماعة الآخرة {لأُولاَهُمْ} للجماعة الأولى من أهل دينها، الذين أضلوا من كان بعدهم؛ لأن الأول أضل الآخر {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار}. قال السدي: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ}، الذين كانوا في آخر الزمان، {لأُولاَهُمْ}، للذين شرعوا لهم الدين. ثم أخبرنا الله (تعالى)، عما هو قائل لهم، بأن قال: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، أي:

للأولى والآخرة {ضِعْفٌ} من النار، أي: يكون عليكم العذاب، {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ}، أي: ولكنكم لا تعلمون قدر ما أعد الله لكم من العذاب، فلذلك تسألون الضعف. وهذا على المخاطبة لهم. ومن قرأ " بالياء "، فعلى الإخبار عنهم أنهم لا يعلمون قدر العذاب. [وقيل: إن معنى قراءة " التاء "، ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ما هم فيه من العذاب]. وقيل: معنى قراءة " الياء ": ولكن لا يعلم كل فريق منهم مقدار عذاب الآخرة. ومعنى " التاء ": ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من

العذاب. ثم أخبر الله، عن قول الأولى للآخرة فقال: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ}، أي: أولى كل أمة، {لأُخْرَاهُمْ}، أي: من بعدهم [وزمان]، آخر فسلكوا سبيلهم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}، أي: قد علمتم أنا كفرنا وكفرتم بهما جاءنا وإياكم به الرسل والنذر، فنحن وإياكم سواء، قد أضللناكم وأضللتم. [وقال مجاهد: {مِن فَضْلٍ}، من التخفيف من العذاب، فهو كقوله: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}]. ثم قال الله (تعالى) لجميعهم: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ} في الدنيا، {تَكْسِبُونَ}

40

، من الآثام والمعاصي. {فِي النار}، تمام. قوله: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بآياتنا واستكبروا عَنْهَا}، الآية. المعنى: إن الذين كذبوا بآيات الله وتكبروا عن الإيمان بها، {لاَ تُفَتَّحُ}، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم، {أَبْوَابُ السمآء}، ولا يصعد لهم في حياتهم [إلى الله] قول ولا عمل، قاله ابن عباس. وقال أبو موسى/ الأشعري في قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} إن روح المؤمن تخرج وريحها أطيب من ريح المسك فتصعد بها الملائكة الذين يتوفونها، فتتلقاهم ملائكة آخرون دون سماء الدنيا فيقولون: من هذا؟ فيقولون: هذا فلان كان يعمل كيت كيت، وتذكر محاسن عمله: فيقولون مرحباً بكم وبه فيقبضونه،

ويصعدون به من بابه الذي كان يعصد منه عمله، فيشرق في السموات حتى ينتهي إلى العرش، وله برهان كبرهان الشمس، ويخرج روح الكافر أنتن من الجيفة، فتصعد به الملائكة الذين يتوفونه فتتلقاهم ملائكة آخرون من دون السماء فيقولون: من هذا؟ [فيقولون: هذا] فلان بن فلان، كان يعمل كيت وكيت، تذكر مساوئ عمله، فيقولون: لا مرحباً به ردوه، قال فيرد إلى واد يقال له برهوت، أسفل الثرى، من الأرضين السبع. وعن ابن عباس نحوه. وروى البراء بن عازب: " أن النبي، عليه السلام، ذكر عذاب القبر في حديث طويل، فقال فيه: إن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، أتاه ملك الموت فينزع نفسه، كما ينزع الصوف المبلول من السُّفُود، فتأخذها الملائكة فيصعدون بها، فتستفح لها أبواب السماء فلا تفتح لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه (وسلم)،:

{لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء}، الآية. فيقول لهِم (الله)، الآية. فيقول لهِم (الله)، تبارك وتعالى،: اكتبوا كتابه في سجين، وأعيدوه إلى الأرض. قال: فيطرح روحه طرحاً [قال:] ثم قرأ رسول الله A: { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء}، الآية ". وقال السدي: إن الكافر إذا أُخذ روحه، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط إلى أسفل الأرضين. وإذا كان مؤمناً رفع روحه، وفتحت له أبواب السماء فلا يمر بملك إلا حياه وسلم عليه، حتى ينتهي إلى الله، فيعطيه حاجته، ثم يقول: ردوا روح عبدي فيه إلى الأرض، فإني قضيت من التراب خلقته، وإلى الترب يعود، ومنه يخرج. وقال ابن جبير، معناه: لا يرفع لهم عمل ولا دعاء. وأكثرهم على أن المعنى: {لاَ تُفَتَّحُ} أي: لأرواحهم ولا لأعمالهم.

وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب الجنة؛ لأن الجنة في السماء، ودل على ذلك قوله: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة}. بعقبة. وقوله: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط}. أي: لا يدخل هؤلاء المكذبون الجنة حتى يدخل {الجمل}: زوج الناقة، في ثقب الإبرة، وهو لا يدخلها أبداً، وكذلك هؤلاء لا يدخلون الجنة أبداً. وكل ثقب في عين أو أنف أو أذن أو غير ذلك. فالعرب تسميه " سَمّاً " و " سُمّاً "، بفتح السين وضمها، وجمعه " سُمُوم " وجمع السم القاتل " سِمَامٌ ". وقرأ ابن سيرين " في سُمِ الْخِيَاطِ " بضم السين.

وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وابن جبير: " الجُمَّل " بضم " الجِيم " وتشديد " الميم "، وهو حبل السفينة الغليظ. وقيل: هو الحبل الذي يصعد به في النخل. [وعن سعيد بن جبير] أنه قرأ " الجُمَل " بضم [الجيم] والتخفيف جعله جمع " جُمْلةٍ " من الحبال، ك " ظُلْمَةٍ " و " ظُلَمٍ ". ومن شدَّد فهو اسم واحد، وهو الحبل الغليظ.

41

وقرأ أحمد بن يحيى " الجُمَّل "، وهو جمع " جملة "، وهي الحبال المجموعة. فالمعنى: لا يدخلون الجنة حتى يدخل هذا الحبل الغليظ في ثقب الإبرة، فكما (أنه) لا يدخل في ثقب الإبرة، (كذلك هؤلاء لا يدخلون الجنة) أبداً. ثم قال تعالى: {وكذلك نَجْزِي المجرمين}، / نثيبهم بما اكتسبوا في الدنيا. ثم قال: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ}. . . أي: لهم ما يقعد ويضطجع عليه كالفراش والبساط. {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}.

42

وهي اللحف تتغشاهم من فوقهم وهي جمع " غاشية "، ومعنى الكلام: لهم من نار جهنم مهاد {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}، فهم بين ذلك. {وكذلك نَجْزِي الظالمين}. أي: نثيب من ظلم نفسه، وأكسبها من عذاب الله ما لا قبل لها به. {فِي سَمِّ الخياط}، وفق. و {غَوَاشٍ}، وقف. قوله: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، الآية. المعنى: والذين صدقوا بئايت الله ورسله، {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً}، من الأعمال إلا طاقتها، {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وفي الكلام تقديم وتأخير مفهوم. وقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}، الآية. روي أن النبي، A، قال: " الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل، قد نزعه

الله D، من قلوب المؤمنين ". والمعنى: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين تقدمت صفتهم، ما في صدورهم من حقد وعداوة، كانت من بعضهم لبعض في الدنيا، وأُدخلوا الجنة {إخوانا على سُرُرٍ متقابلين} [الحجر: 47]، لا يحسد بعضهم بعضاً على شيء. قال قتادة: قال علي: إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير، من الذين قال الله [فيهم] {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}. قال السدي: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو " الشراب الطهور " الذي ذكره الله في قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21]. واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبداً.

قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ}. أي: قالوا ذلك حين رأوا ما أكرمهم الله به من جنته، وما صرف عنهم من نقمته. روى [أبو سعيد] الخدري ع النبي، A، أنه قال: " كل أهل النار يرى منزله من الجنة، فيقول: " لو هدانا الله " فيكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقولون: " لولا أن هدانا الله "! [فهذا] شكرهم. وقوله: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة}، (الآية).

اعترض بعض الملحدين بهذه الآية على حديث النبي، عليه السلام، في قوله: " لا يدخل الجنة أحد بعمله، وإنما يدخلها برحمة الله " هذا غلط منهم؛ لأن رحمة الله لا تدرك إلا بالعمل الصالح. وإذا كانت الرحمة لا تدرك إلا بالعمل الصالح فالعمل الصالح الذي يدرك الرحمة يدخل الجنة. ويجوز أن يكون معنى: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يعني المنازل في الجنة، فيكون الدخول برحمة الله، كما قال النبي، عليه السلام،: " والمنازل بالأعمال "

فيصح الحديث، والآية على ظاهرها. وقوله: {أُورِثْتُمُوهَا}، وقوله: {ونودوا}، فعلان منتظران، ولفظهما لفظ ما قد مضى، وذلك حسن في آخبار الله؛ لأنها كالكائنة لصدق المخبر بها، ونفوذ القضاء، والحتم (بها) من الله. قال السدي: ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار [ودخلوا منازلهم]، رفعت الجنة لأهل النار، فنظروا إلى منازلهم منها، فقيل لهم: " هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ". ثم يقال: يا أهل الجنة {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، يعني منازل أهل النار وَرِثُوهَا بعملهم فيقتسمونها. وعن أبي سعيد الخدري قال: ينادي مناد: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً،

وأن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً. وقيل: معنى: {[و] نودوا}: قيل لهم: وذلك حين رأوها قبل أن يدخلوها، قيل: لهم: {تِلْكُمُ الجنة}. / وقال علي: رضي لله عنه: يدخلون الجنة فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيغتسلون من إحداهما، فتجرى عليهم نضرة النعيم، فلا تشعث أشعارهم، ولا تغير أبشارهم، ويشربون من الأخرى، فيخرج كل أذى وقذر وبأس في بطونهم، ثم يفتح لهم باب الجنة، فيقال لهم: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. قال: فيَستقبلهم الولدان، فيحفون بهم كما يحف الولدان بالحميم إذا جاء من غيبته. ثم

يأتون فيبشرون أزواجهم فيسمونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم. فيقلن: أنت رأيته! قال: ويستخفهن الفرح، [قال:] فيجئن حتى يقفن على أُسْكُفَّةِ الباب [قال]: فيجيئون فيدخلون، فأذا أسُّ بيوتهم جندل اللؤلؤ، وإذا سرج صفر وخضر وحمر من كل لون، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فلولا أن الله قدرها لهم لالتُمعت أبصارهم مما يرون فيها. فيعانقون الأوزاج، ويصعدون على السرر، ويقولون: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا}، أي: هدانا للإيمان، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله}، أي: الحمد لله الذي هدانا، إلى هذا وهو الإسلام.

44

وقيل المعنى: الحمد لله الذي هدانا إلى الجنة. {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}. أي: جاءتنا في الدنيا بالحق عن الله. قوله: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار}، الآية. المعنى: ونادى أهل الجنة أهل النار بعد الدخول: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا على ألسنة الرسل (حقاً، من الثواب، والنعيم والكرامة، فهل وجدتم ما وعدكم في الدنيا على ألسنة الرسل) من العقاب والثواب حقاً؟ فأجاب أهل النار: نعم، قد وجدنا ذلك حقاً، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ [الله] عَلَى الظالمين}. تَمَّ الإخبار عما يكون يوم القيامة. ثم ابتدأ بصفة من استحق هذه اللعنة، فأخبر بصفتهم في الدنيا، فقال: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، إلى {كَافِرُونَ}، فهما قصتان، إحداهما في الآخرة.

والأخرى في الدنيا، اتصلتا. {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً. أي: حاولوا أن يغيروها، ويبدلوها عما جعلها الله (عليه) من استقامتها. {وَهُمْ بالآخرة}. أي: بالبعث. {كَافِرُونَ}. أي: جاحدون. والعربتقول للميل في الطريق والدين " عِوَجٌ " بالكسر، وفي ميل الرجل على الشيء وهو العطف عليه: " عَاجَ إليه يَعُوج عِيَاجاً وَعَوَجاً وعِوَجاً "، بكسر العين وفتحه. وما كان خلقه في الإنسان، فإنه يقال فيه: " الَعَوج " بالفتح، يقال: " ما أبين

46

عَوَجَ سَاقِهِ "، بفتح العين. قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ]} (الآية). والمعنى: وبين الجنة والنار {حِجَابٌ}، أي: حاجز، وهو السور الذي ذكره الله [ D] فقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13]، وهو: الأعراف. قال مجاهد: " الأَعْرَافُ، حجاب بين الجنة والنار. قال السدي: الحجاب، وهو السور وهو: الأعراف. و" الأَعْرَافُ ": جمع، واحدها: عُرْف، وكل مرتفع من الأرض فهو: عُرْفٌ. وقيل لعرف الديك: عرف لارتفاعه.

وقال السدي: إنما سمي " الأَعْرَافُ " أعرافاً؛ لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال ابن عباس: هو جسر بين الجنة والنار، عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. وذكر الشعبي عن حذيفة: أن " أصحاب الأعراف " قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، [و] قصرت سيئاتهم عن الجنة، {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار/ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}، فبيناهم كذلك إذ اطلع عليهم ربك فقال (لهم): اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم. وروي عنه أنه قال: يوقفون هنالك على السور حتى يقضي الله بينهم. وعن ابن عباس: " الأَعْرَاف "، السور الذي بين الجنة والنار، و" الرجال ":

قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوقفوا على {الأعراف}، يعرفون أهل الجنة بسيماهم، وأهل النار بسيماهم. وعنه أنه قال أيضاً: " الأعراف " الشيء المشرف. وعنه أنه قال: [هو] كعرف الديك. وعنه أنه قال: هم رجال كانت لهم ذنوب عظام وكان حسم أمورهم لله، فوقفوا على السور. وقال ابن مسعود: من كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف " فقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا

نظروا إلى أهل الجنة نادوا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم (رأوا) أصحاب النار، {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}، [الأعراف: 47]، فيعتذرون بالله من منازلهم، فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نوراً فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطي كل عبد يومئذ نوراً وكرامة. فإذا أتوا على الصراط سلب الله D، نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافِقون، قالوا: {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8]. وأما " أصحاب الأعراف "، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع منهم، فلذلك قال: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}. وقال مجاهد، عن عبد الله بن الحارث: {أَصْحَابُ الأعراف}، يؤمر بهم إلى نهر يقال له: " الحياة " ترابه: الوَرْس والزغفران، وحافتاه: قصب الذهب مكلل باللؤلؤ، وقال: فيغتسلون [فيه اغتساله، وتبدوا في نحورهم شامة بيضاء، ثم يعودون فيغتسلون]،

فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادوا بياضاً، فيقال لهم [تمنوا] ما شئتم، [فيتمنون ما شاؤا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم]، وسبعون ضعفاً، [قال:] فهم مساكين أهل الجنة. ومثل هذا روي عن ابن عباس أيضاً. وقيل: {اأَصْحَابُ الأعراف}، قوم قتلوا في سبيل الله ( D) عصاة لآبائهم في الدنيا. قاله: شرحبيل بن سعد، قال: هم قوم خرجوا إلى الغور بغير إذن آبائهم، فيقتلون.

روي عن النبي، A، " أنه سئل عن " أصحاب الأعراف "، فقال لهم: قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم قتلهم في سبيل الله ( D) من النار، ومنعهم معصيتهم آبائهم أن يدخلوا الجنة ". وعن مجاهد، أنه قال: هم قوم صالحون فقهاء علماء. وقال أبو مجلز: هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار.

وقال ابن عباس: هم رجال أنزلهم الله ( D) تلك المنزلة، يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم، ويتعوذون بالله (سبحانه) أن يجعلهم من الظالمين. وهم يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون [بالدخول إن شاء الله]. هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف الجنة، غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها. وقال الحسن: والله ما جعل/ الله ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم. وقال ابن مسعود: أما " أصحاب الأعراف "، فإن النور كان في أيديهم، لم ينزع

من أيديهم، فهنالك يقوم الله ( D) { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}. قال ابن عباس: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، أي: في دخولها. وقيل: " طَمِعَ " هنا بمعنى " عَلِمَ "، أي: لم يدخلها أصحاب الأعراف، وهم يعلمون أنهم يدخلون. وقيل المعنى: إن " أصحاب الأعراف " يقولون لأهل الجنة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها، ولم يدخلوا بعد. وعلى هذا تأويل قول من جعل أصحاب الأعراف ملائكة، يكون الطمع للمؤمنين الذين يمرون على أصحاب الأعراف. وقيل: المعنى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}، وإنما دخلوها) وهم غير طامعين. فيكن الوقف على هذا على {يَطْمَعُونَ}.

47

{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} تمام، على قول من جعل {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} للمارين من المؤمنين. ومن جعل " الطمع " لأصحاب الأعراف لم يقف على {يَدْخُلُوهَا}. قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ}، الآية. المعنى: وإذا صرفت أبصار أصحاب الأعراف نحو أصحاب النار، فنظروا إلى حالهم {قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين}. وقال السدي: إذا مرت زمرة من أهل النار بأصحاب الأعراف، دعو ألا يجعلوا معهم. وقال ابن عباس: [إن " أصحاب الأعراف "] إذا نظروا إلى أهل النار

48

عرفوهم، واستعاذوا أن يُجْعلوا معهم. قوله: {ونادى أَصْحَابُ الأعراف}، الآية. المعنى: إن " أصحاب الأعراف " نادوا رجالاً يعرفونهم، من أهل النار {بِسِيمَاهُمْ}، أي: بسواد وجوههم، وزرقة أعينهم، قالوا لهم: أي شيء أغنى عنكم جمعكم في الدنيان واستكبارهم فيها، عن عبادة الله، D، والإيمان برسوله، A. قال السدي: مر بأهل " الأعراف " رجال من الجبارين يعرفونهم، فقالوا لهم ذلك. وقوله: {أهؤلاء [الذين] أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ}. هذا قول الله ( D) [ لأهل النار] توبيخاً لهم على ما كان من قِيلِهِمْ لأهل الأعراف في الدنيا، وذلك حين دخل [أهل] الأعراف

الجنة، فهو قول اتصل أصحاب الأعراف، فهو من قول الله، جل ذكره، إلى قوله: {تَحْزَنُونَ}، ففيه رجوع من مخاطبة كفار إلى مخاطبة مؤمنين متصل بعضه ببعض. وقد قيل: إنه من قول الملائكة لأهل النار، [ويكون] {[ادخلوا] الجنة} من قول الله ( D) ، فتكون الآية [فيها] ثلاثة أقوال: - قول أهل الأعراف إلى {تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48]. - وقول الملائكة إلى {بِرَحْمَةٍ}. - وقول الله إلى {تَحْزَنُونَ}، متصل (كله) بعضه ببعض. قال ابن عباس: " أصحاب الأعراف "، رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان

حسم أمره [الله]، يقومو على الأعراف، فإذا نظروا إلى [أهل] الجنة طمعوا فيها، وإذا نظروا [إلى] أهل النار تعوذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة، فقال الله، تبارك الله، {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ}، يا أهل النار، {لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}. وقال حذيفة: {أَصْحَابُ الأعراف}، قوم قَصَّرت بهم حسناتهم عن الجنة، وفصرت بهم/ سيئاتهم عن النار، فجعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيمهم. فلما قضي بين العباد، أذن لهم في طلب الشفاعة [فيأتون الأنبياء كلهم من الشفاعة]، ويدل على الآخر حتى يأتوا محمداً ( A) ، فيشفع لهم، فيذهب بهم إلى " نهر الحيوان " حافتاه قصب من ذهب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت، فيغتسلون فيه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة، ويصيرون كأنهم الكواكب الدرِّية، وتبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: " مساكين أهل الجنة ".

وقال أبو مِجْلَز: [بل] هذا القول خبر من الله ( D) [ عن] قول الملائكة لأهل النار، تعييراً منهم لهم ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين قد دخلوا الجنة. قوله: {ادخلوا الجنة}، وما بعده من كلام الله (سبحانه)، فالوقف على هذا: {بِرَحْمَةٍ}. ومن قال إنها خبر من الله ( D) عن نفسه (جلت عظمته) وقف على: {تَحْزَنُونَ}. وقرأ يحيى بن يَعْمَر: " أُدْخِلُوا الجَنَّة "، على ما لم يسلم فاعله بكسر الخاء.

50

وقرأ الحسن، وابن هرمز: " أَدْخِلُوا "، بفتح الهمزة وكسر الخاء، على الأمر من الله (تعالى) للملائكة أن يدخلوهم الجنة، والمفعول محذوف. قوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة}، الآية. ومعنى الآية: أنها خبر من الله ( D) عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نزول شدة العطش والجوع بهم. ومعنى: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}، أي من الطعام، فأجابهم أهل الجنة:

51

{إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين}. قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: " (قد احترقت)، أفض علي من الماء "، فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين}. {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً}. أي: سخرية ولعباً؛ لأنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزوأ به. وقوله: {وَغَرَّتْهُمُ الحياوة الدنيا}. أي: خدعتهم بعاجل ما فيها من العيش والدعة الأخذ بنصيبهم من الآخرة. {فاليوم ننساهم}. أي: نتركهم في العذاب جياعاً عطاشاً.

52

{كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا}. أي: كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، أي: بحجتنا وعلامتنا. ولا يوقف على {يَوْمِهِمْ هذا}؛ لأن {وَمَا} معطوف على {مَا} الأولى. قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ}، إلى {يَفْتَرُونَ}. لام: " لقد حيث وقعت لام توكيد، متعلق بمعنى القسم، والمعنى: والله أقسم لقد كان هكذا. و: " الكتاب " [هو]: القرآن. و: {فَصَّلْنَاهُ}: بيناه. {على عِلْمٍ}. أي: على علم منا بالميز بين الحق والباطل والضلال والهدى.

{هُدًى وَرَحْمَةً}. أي: ليُهْتَدَى [وَيُرْحَم] به قوم يصدقون به. وهذه الآية مردودة على قوله: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2]. قوله: {أَوْ نُرَدُّ}، معطوف على [قوله]: {مِن شُفَعَآءَ}، أي: أو هل نرد. وقرأ ابن إبي إسحاق: " أو نُردَّ "، بالنصب، على معنى: إلا أن نرد، كما قال:

. أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا ... وقوله: {فَنَعْمَلَ}، جواب لقوله: {أَوْ نُرَدُّ}، أو عطف عليه، على قراءة من نصب (" نرد "). وقرأ الحسن: " أو نرد فَنَعْمَلُ "، بالرفع فيهما، على (لفظ) العطف على " نُرَدُّ ". ورفع " نرد " على الاستفهام كما ذكرنا. وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ}. / أي: إلا ما وعدوا به في القرآن من العذاب.

و {يَنظُرُونَ}، بمعنى: ينتظرون. قال قتادة: {تَأْوِيلَهُ}، عاقبته. وقال مجاهد: جزاءه. {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}، أي: جزاؤه، {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ}، أي: تركوه في الدنيا، {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}. وقال ابن زيد: {تَأْوِيلُهُ}، حقيقته، أي: حقيقة القرآن فيما أوعدهم من العقاب. قال السدي: {الذين نَسُوهُ}، تركوه في الدنيا، لما رأوا ما أوعدهم أنبياؤهم، استيقنوا بالهلاك، وطلبوا الشفعاء والرجعة إلى الدنيا. {قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ}.

أي: غَبَنوا أنفسهم حظوظها ببيعهم ما ذكر لهم من نعيم الآخرة الدائم بالخسيس من عرض الدنيا الزائل. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}. أي: أولياؤهم في الدنيا. وقال بعض أهل اللغة معناه: هل ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرهم من البعث، وعلى هذا تأولوا قول الله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] أي: لا يعلم وقت البعث إلا الله، ثم قال تعالى: {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}. و" النسيان " في هذا الموضع على معنيين: - يجوز أن يكون معناه: فلما أعرضوا عنه صاروا بمنزلة من نسي الشيء. - والثاني: أن يكون بمعنى الترك.

54

قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات [والأرض]}، الآية. احتج من خفف {يُغْشِي}، بقوله: {فَأغْشَيْنَاهُمْ} [يس: 9]. واحتج من شدد بقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 54]، وبأن التشديد يوجب التكرير، وكذلك هو فعل يتكرر ويتردد، وذلك أن كل يوم دخل ليله غير ليل اليوم الآخر، فالتغشية مكررة لمجيئها يوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة. وقوله: {حَثِيثاً}. أي: طلباً حثيثاً.

والمعنى: إن سيدكم ومصلح أموركم، وهو {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة. قال مجاهد: بدأ بخلق العرش والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان جمع الخلق يوم الجمعة، فلذلك سميت الجمعمة. وقوله: {يُغْشِي اليل النهار}. أي: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب بضوئه، يطلبه طلباً {حَثِيثاً}، أي: سريعاً حتى يدركه. {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}. {الخلق}: المخلوق. {والأمر} هو: كلامه الذي به تكون المخلوقات، فهو غير مخلوق، وصفة من صفاته، كعلمه وقدرته، لايشبه كلام المخلوقين، ولا يقدر فيه صوت ولا حروف؛ إنما هو كلام له صفة ذاته، فكما أنه تعالى لا شيء يشبهه، كذلك صفاته لا تشبهها صفة.

وقال ابن عباس: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف سنة. وقال كعب: الدنيا ستة آلاف سنة. [وكذلك] قال وهب. [و] قال النبي، A،: " أجلكم في أجل من ك ان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ". وقال صلى الله عليه (وسلم) يوماً عند غروب الشمس: " (إن) مثل ما بقي من دنياكم في ما مضى، كهيئة يومكم هذا في مضى منه ". وقال: " بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه: السبابة

والوسطى ". قال ابن عباس: " سألت اليهود النبي (عليه السلام) عن خلق السموات والأرض فقال: " خلق الله الأرض يوم الأحد والأثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ومنافعها، / وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة أيام، وهو قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ}، ثم قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}. قال: وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاثة ساعات منه. وخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات من حَيِي ومن يموت، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة منه خلق آدم (عليه السلام). وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها آخر ساعة "، ثم قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: " ثم استوى على العرش " قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح، فغضب

النبي، A، غضباً شديداً، فنزل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ". واللغوب: الإعياء. واليهود، عليهم اللعنة، تتأول في السبت، أنه يوم الراحة، فلذلك جعلوه لأنفسهم راحة لا يتصرفون فيه، تعالى الله عن ذلك. قال قتادة: أوحى الله في كل سماء أمرها: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها. فَخَلْقُ الشمس والقمر كان بعد [خَلْقِ) السموات والأرض. قال النبي ( A) : " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى في تلك

الساعة بما هو كائن ". قال ابن عباس: ثم رفع بخار الماء فَفَتَقَ منها السموات والأرض. وقيل: أول شيء خلق الله النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلاً أسود ومظلماً، وجعل النور نهاراً مبصراً. فالسموات والأرض تحيط بهما البحار ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل الكرسي. قال وهب: الهيكل شيء من أطراف السموات يحدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط. وكان بين خلقه تعالى، القلم وخلقه سائر خلقه ألف عام. ولما أراد تالى أن يخلق السموات خلق أياماً ستة، فخلق واحداً فسماه الأحد، وثانياً فسماه: الاثنين،

وثالثاً فسماه: الثلاثاء، ورابعاً فسماه: الأربعاء، وخامسا فسماه: الخميس. وكان ابتداء الخلق يوم السبت خلق فيه التربة. وقيل: يوم الأحد. وقد روي أن الله تعالى خلق البيت العتيق على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحته. قاله ابن عباس. وكذلك روى مجاهد عن عبد الله بن عمرو. أي: نزرا قليلاً لا فائدة فيه مع قلته، كذلك الكافر لا يقبل الهدى/ فإن قبل شيئاً فهو قليل لا فائدة فيه؛ لأنه على شك وقلة يقين. قال ذلك ابن

عباس وقتادة. وقال السدي: هو مثل ضربه الله، تعالى للقلوب لما نزل عليها القرآن، كنزول المطر على الأرض، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة القابلة للماء الذي تنتفع بما تقبل من الماء. هذا معنى قوله: {كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58]، أي: كما فعلنا فيما تقدم ذكره، مثله نصرف الآيات في هذا. قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} [الأعراف: 59 - 61]، الآيات الثلاث. لام {لَقَدْ} لام توكيد بمعنى القسم. وقال ابن عباس: الليل خلق قبل النهار. وقيل: [كان] النهار قبل الليل. دليل ذلك أن الله عالى ذكره، [كان] ولا ليل، ولا نهار، ولا شيء غيره؛ وأن نوره كان يضيء به كل شيء خلقه بعدما خلقه، حتى خلق الليل. فالضياء قبل الظلمة.

55

قوله: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}، إلى: {المحسنين}. المعنى: ادعوا أيها الناس، ربكم مستكينين له، مخلصين متخشعين سراً في أنفسكم، {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين}. ثم قال: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}. أي: لا تشركوا. والفساد هنا: الشرك. {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}. أي: بعد إصلاح الله (تعالى) إياها لأهل طاعته، بأن

بعثت إليهم نبياً، ينذرهم ويبشرهم. {وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً}. أي: خوفاً من عقابه، وطمعاً في رحمته. / {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ [مِّنَ المحسنين]}. أي: ثواب الله قريب من المحسنين وإنما وصفه (بالقرب)؛ لأنه ليس بينهم وبينه إلا أن يفارقوا الدنيا. وفي حرف: " الهاء " في {قَرِيبٌ} ستة أقوال: أحسنها أن " الرحمة " و " الرحم " بمعنى. وقال الفراء: (إنما أتى {قَرِيبٌ}) بغير " هاء " ليفرق بينه وبين قريب من النسب.

ويلزمه ألا يجوز فيه أدخال " الهاء "، وإدخالها جائز عند جميع النحويين لو كان في كلام. وقال الزجاج: حذفت " الهاء "؛ لأنه ثأنيث غير حقيقي. ومذهب أبي عبيدة: أن تذكير {قَرِيبٌ}، على تذكير المكان. ويلزمه على هذا نصب {قَرِيبٌ}. وقيل: " الرحمة " هنا: المطر، فَذُكِّر حملاً على المعنى. وقيل: هو مذكر على النسب كما يقال: امرأة طالِقٌ وحائِضٌ.

57

قوله: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً [بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ]}، الآية. من قرأ {بُشْراً} فهو جمع " نشور "، كقولك: " صبور " و " صبر ". والريح النَّشُور: التي تأتي من هنا ومن هنا. وقيل: {بُشْراً} مصدر. ومن أسكن الشين فعلى هذا المعنى يكون، إلا أنه [أسكن] [الشين] استخفافاً.

ومن قرأ {بُشْراً} [بفتح النون]، فهو مصدر نشرت [الريح] السحاب وانتشرته نشراً، كما قال: " والناشرات نشرا "، فتقديره: وهو الذي يرسل الرياح ناشرة السحاب، فهو مصدر من موضع الحال. وقيل: " النشر ": الريح الطيبة اللينة [التي] تنشىء السحاب. ومن قرأ (بشرْاً) بالباء، فهو جمع بشير، مخفف، كرغيب ورغف.

وقيل هو: مصدر، أي: تبشر بالمطر. {سُقْنَاهُ}. " الهاء " تعود على السحاب، وهو يؤنث ويذكر، وكذلك كل شيء بينه وبين واحده " الهاء ". ومعنى الآية: وربكم الذي خلق السموات والأرض وما ذكر، {هُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً}. " والنَّشْرُ " من الرياح: الريح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب. ومن قرأ {بُشْراً}، بضمتين، أي: يرسلها تهب من كل ناحية. ومعنى الكلام: والله الذي يرسل الرياح من كل ناحية {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}. والرحمة: المطر.

{حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً}. أي: أقلت الرياح سحاباً، يقال: أقل البعير حمله إذا حمله واستقل به. {سُقْنَاهُ}، أي: سقنا السحاب إلى بلد ميت، قد أجدب أهله، وعفَّت مزارعه، {فَأَخْرَجْنَا}، بالمطر من الأرض من كل الثمرات. وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ}. " الهاء " للبلد. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ}. أي: بالماء [أو بالبلد]. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. أي: لتكونوا على رجاء من التذكر. وقوله: {كذلك نُخْرِجُ الموتى}. أي: كما نحيي هذا البلد الميت بالماء]، كذلك نحيي الموتى بعد موتهم.

قال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النخفة الأولى، مطر عليهم من ماء تحت العرش يدعى " الحيوان " أربعين سنة، فينبتون كما ينبت الزرع [بالماء). فإذا استكلمت أجسادهم نفخ فيهم الروح. قال ابن مسعود: يرسل الله ماء من تحت العرش كمني الرجال، وليس من بني آدم خلق في الأرض إلا منه شيء (قد بقي في الأرض) فتنبت جسماً له ولحماً لهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من المطر. ثم قرأ إلى قوله: {كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}. ورى أبو سعيد الخدري: " أن النبي A، قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه "، فقيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: " مثل حبة خردل منه تنشئون ".

58

قوله: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ}، الآية. هذا مثل ضربه الله لروح المؤمن، وروح الكافر، فالمؤمن يرجع روحه الطيب إلى جسده سهلاً طيباً كما خرجد إذا مات، والكافر لا يرجع روح إلى جسده إلا بالنكد كما خرج. وقيل: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فشبه المؤمن بالبلد الطيب إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن ربه، كذلك المؤمن إذا سمع الهدى قَبِلَهُ بإذن ربه، وشبه الكافر بالأرض السَّبِخَةِ المالحة وهي التي خبثت لا تخرج النبات إلا نكداً. والمعنى: أنه خبر من الله (عزوجل) أنه أرسل نوحاً إلى قومه: منذراً بأسة ومخوفاً من عقاب، فقال لمن كفر منهم: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}، تعبدونه إلا الله، فاعبدوه ولا تشركوا به، {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. قال عكرمة: إنما سمي نوح نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه، أي: يكثر ذلك.

قال ابن عباس: أرسل نوح إلى قومه بعد أربعين سنة. قال الكلبي عنه: بعد آدم بثمان مائة سنة، أرسله الله ( D) بالشريعة، بتحريم البنات والأمهات والأخوات والعمات والخالات، وسائر الفرائض. قال وهب: نوح أو نبي بعث بعد إدريس (عليه السلام)، فلبث في قومه أربع مائة سنة، قبل أن يبعثه الله ( D) إلى قومه. وعنه أيضاً أنه قال: بعثه ( D) إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثلاثة قرون من قومه لا يجيبه أحد إلا قليلاً منهم، فأوحى الله ( D) إليه: " أن اصنع الفلك "، وليكن طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين

(ذراعاً)، وارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وليكن بابها في عرضها. وادخل الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك، ومن آمن بك، ومن كل شيء اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً، فإني منزل المطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، فأُتلف كل شيء خلقته على الأرض، وأن تعمل تابوتاً فيه جسد آدم (عليه السلام)، وتجعل التابوت من خشب الشمشار، وتجعل معه زاد سِنة ففعل نوح، وأرسل الله ( D) ماء الطوفان على الأرض في سنة ألف وستمائة من عمر نوح، فأقام نوح في الماء خمسين ومائة يوم، [ثم] استقرت على الجودي، وهو جبل بأرض الجزيرة، وكان وقت استقلال السفينة في عشر خلون من رجب، وخرج إلى الأرض في عشر خلون من المحرم، وكان معه في السفينة ولده الثلاثة: سام، وحام، وثافث، ونساؤهم، وأربعون رجلاً، وأربعون امرأة ممن آمن (به).

62

وعاش نوح (عليه السلام) بعد الطوفان ثلاث مائة وخمسين سنة، فلما خوفهم نوح، قال له الأشراف من قومه، وهم الملأ، وهم الجماعة منهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، فيكف نتبعك، أي في حيدة عِن الحق. فأجابهم بأن قال لهم: {لَيْسَ بِي ضلالة}، أي: ليس ما دعوتكم إليه ضلالة، وإنما أنا {ولكني رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}، إليكم. قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ}، إلى {عَمِينَ}. والمعنى: إن الله ( D) أخبرنا أن نوحاً (عليه السلام) قال لقومه: إني {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}، أرسلني إليكم، لأبلغكم رسالاته، {وَأَنصَحُ لَكُمْ} في تحذيري إياكم عقابه، {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، / أي: أعلم أن عقابه لا يرّد عن

القوم المجرمين. وقيل المعنى: أعلم من الله أنه مهلككم ومعذبكم إن لم تؤمنوا. ثم قال ثهم موَبِّخاً: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ}، وذلك إذ قالوا (له): {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} [هود: 27]. ومعنى: {على رَجُلٍ مِّنْكُمْ}. أي: من رجل. وقيل: على لسان رجل. {لِيُنذِرَكُمْ} بأسه، والعمل بما لا يرضيه، فيرحمكم إن آمنتم وأطعتموني.

65

قال الله (تعالى) مخبراً: {(فَكَذَّبُوهُ) فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ}. أي: من المؤمنين، من أهله، وغيرهم. {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ}. أي: جحدوا بها. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ}. أي: عمين عن الحق. وهو من عمى القلب. قوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} إلى: {تُفْلِحُونَ}. المعنى: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً، وهود من ولد نوح (عليه السلام)، بينه وبينه سبعة آباء. وكان أشبه خلق الله (تعالى) بآدم (عليه السلام)، خلا

يوسف (عليه السلام)، وكانت عاد ثلاث عشرة قبيلة، ينزلون الرمل. بلادهم أخصب بلاد، فلما سخط الله ( D) عليهم جعلها مفاوز، وكانوا بنواحي عمان إلى حضرموت إلى اليمن، ولما أهلك الله ( D) قومه لحق هود (عليه السلام) ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا، وكان هود (عليه السلام) رجلاً تاجراً. فقال لهم: {اعبدوا الله}، ليس لكم إله يجب أن تعبدوه غيره. {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}. {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ}]. أي]: قال الأشراف والجماعة من قومه، وهم الملأ من كفار قومه،

{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}، أي: في ضلالة. وقيل: في جهل عن الحق والصواب. {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين}، أي: في قوله: إني {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}، كان ذلك ظناً منهم ليس على يقين، فكفروا على الشك منهم. قال (لهم): {ياقوم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}، أي: ضلالة، أي: جهل، {ولكني رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}. وأصل السفة: رقة الحلم، والطيش. وَذُكِّرَ في قوله: {لَيْسَ}؛ لأنه مصدر، وهو بمعنى السفه، وقد فرق، أيضاً، بينه وبين الفعل. ثم قال لهم: {أُبَلِّغُكُمْ رسالات رَبِّي}. أي: أؤدي إليكم أمر رببي ونهيه.

{وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}. اي: ناصح في ما آمركم به وأنهاكم عنه، أمين على وحي ربي ورسالاته. ثم قال موبخاً لهم: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ}. أي: على لسان رجل منكم. {لِيُنذِرَكُمْ}، أمر الله. ثم قال: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ}. أي: اذكروا نعمة الله عليكم إذ استخفلكم في الأرض، بعد قوم نوح. فاتقوا أ، يصيبكم (مثل) ما أصابهم، واذكروا نعمته إذ {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً}، أي: زاد في أجسامكم طولاً وعظماً على أجسام قوم نوح. وقيل: على أجسام آبائكم الذين ولدوكم.

قال زيد بن أسلم: لقد بلغني أن ضباعاً رُئِيت رابضة وأولادها في حجاج عين رجل منهم. قال: ولقد بلغني أنه كان في الزمن الأول تمضي أربع مائة سنة، وما يسمع فيه بجنازة. ثم قال: {فاذكرواءَالآءَ الله}. أي: نعمه عليكم. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. أي: لتكونوا على رجاء من الفلاح. قال السدي: كانت عاد باليمن، بالأْحقَاف. فكانوا قد قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها، وهي " صُدَاء "، و " صَمُود " و " اللهنا "، أسماء أصنامهم، فبعث الله ( D) / إليهم هوداً، وهو من أوسطهم

نسباً، فأمرهم أن يوحدوا الله (تعالى)، ولا يجعلوا مع الله إلهاً غيره، وأن يكفروا عن ظلم الناس، لم يأمرهم بغير ذلك فأبوا (تصديقه) وكذبوه وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، واتبعه منهم ناس يسير مستترون بإيمانهم. قال السدي: فبعث الله ( D) عليهم الريح العقيم، فلما نظروا إليها: قالوا: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فلما جنت منهم، نظورا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها، تبادروا البيوت، فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتمهم من البيوت، فأصابتهم في يوم نحس مستمر عليهم العذاب {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة: 7]، أي: حسمت كل شيء مرت به. فكانوا: كأعجاز نخل منقعر، أي: انقعر من أصوله، وكأعجاز نخل خاوية، أي: خوت فسقطت، فلما أهلكهم الله ( D) أرسل عليهم طيراً سوداً، فنقلتهم إلى البحر

70

وألقتهم [فيه، فذلك قوله:] {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25]، ولم يخرج ريح قط إلا بمكيال، إلا يومئذ، فإنها عتت على الخزنة فغلبلتهم، فلم يعلموا كم كان مكيالها، فذلك قِوله: {فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6]، أي: عتت على الخزنة. و" الصرصر ": التي لها صوت شديد. قوله: {قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ}، إلى: {المنتظرين}. والمعنى: قال قومه هود له: أجئتنا متوعداً بالعقاب [لنعبد الله وحده، ونذر ما كان آباؤنا يعبدون فائتنا بالعقاب] الذي توعدنان إن كنت صادقاً. قال لهم: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ}. أي: عقاب، من أجل ما تقولون. و" الرجس " و " الرجز ": العذاب، وقد يكون الرجس: الشيء القذر.

72

قال ابن عباس: الرجس: السخط. ثم قال لهم: {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ}. أي: أتخاصمونني في الأصنام التي أحدثتموها أنتم وآباءكم لا تضر ولا تنفع. {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ}. أي: من حجة تحتجون بها، في عبادتكم إياها، {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}. أي: انتظروا حكم الله فينا وفيكم، إني منتظر ذلك معكم. قوله: {[فَأَ] نجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ}، الآية. معناها: فأنجينا هوداً والذين معه {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ}، أي: استأصلناكم بالهلاك. فبما بقي منهم أحد، {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}، أي: مصدقين. قوله: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}، الآية.

المعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، وسمي أخاهم؛ لأنه بشر مثلهم. وقيل: سمي أخاهم؛ لأنه من عشيرتهم. وثمود: قبيلة. أبوهم ثمود بن غائر بن إرم بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم: الحجر، بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى [وما حوله]. قال لهم: {يَاقَوْمِ اعبدوا (الله)}، ما لكم من يجب أن تعبدوه إلا الله، {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}، أي: حجة وبرهان على صدق ما أقول لكم، {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}، أي: دليل على صدق ما جئتكم به.

وإضافة الناقة إلى الله، جل ذكره، على طريق إضافة الخلق إلى الخالق، وهو مثل قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]؛ لأن الروح خلق الله ( D) ، ولكن في إضافة الناقة إلى الله (سبحانه) معنى التشريف والتخصيص، والتحذير من أن يصيبوها بسوء. وهو في التخصيص كقولهم: " بيت الله "، و " عباد الرحمن "، فكله فيه معنى التشريف والتفضيل (والتخصيص)، إضافة خلق إلى خالق، كقولهم،: " خلق الله "، و " أرض الله "، و " سماء الله " وهو كثير. وذلك أنهم سألوه آية، [أي:] حجة على صدق ما جاءهم به، حكى الله عنهم أنهم قالوا: {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154]. رُوِيَ أنهم/ سألوا صالحاً ءاية، فقالوا: اخرج لنا من الجبل ناقة عُشَراءَ، وهي الحامل، فتضع فصيلاً، ثم تغدو إلى هذالاماء فتشربه، ثم تغدو علينا بمثله لبناً سائغاً عذباً طيباً، فأجاب الله (تعالى) صالحاً (عليه السلام) فيما سألوه. فقال لهم

صالح: اخرجوا إلى الهضبة من الأرض، فخرجوا، فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل، ثم إنها انفجرت فخرجت من وسطها الناقة، فقال لهم: {هذه نَاقَةُ [الله] لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء}، {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] فلما مَلُّوها عقروها، فقال لهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، وآية العذاب أن تصبحوا غداً حُمْراً، واليوم الثاني، صُفْراً، والثالث سُوداً. فلما رأوا علامة ذلك تَحَنَّطُواْ واستعدوا. قال السدي: كانت تأتيهم يوم شُرْبهَا فتقف لهم حتى يَحْلُبُواْ اللبن فترويهم، إنما تصب صباً وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح (عليه السلام): إنه يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم ولد للعاشر، وكان لم يولد له قط فتركه، وكان أزرق أحمر فنبت نباتاً سريعاً، فإذا مر بالتسعة قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء كانوا مثل هذا! فضغبوا على صالح؛ لأنه أمرهم بذبح أبنائهم ف: {تَقَاسَمُواْ}، أي: تحالفوا، {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل: 49]، وذلك أنهم قالوا: نخرج فيرى الناس أنا قد

خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد، أتيناه فقتلناه، ثم رجعننا إلى الغار فكنا فيه ثم رجعنا فقلنا: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}، فيصدقوننا، فخرجوا فدخلوا الغار، فلما أرادوا أن يخرجوا في الليل سقط عليهم الغار فقتلهم، وهو قوله: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} [النمل: 48]، وقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) * فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} [النمل: 50 - 51]، أي: أهلكناهمه، فكبر الغلام ابن العاشر، فجلس مع أناس يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجون شرابهم به، وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقة، فاشتد [ذلك] عليهم، وتكلموا في شأن الناقة، وقالوا: لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا، كان خيراً لنا!، فقال الغلام. ابن العاشر: هل لكم في أن أَعْقِرَهَا لكم؟ قالوا: نعم فأتاها الغلام فشدَّ عليها فلما بَصُرَت به شدت عليه، فهرب منها، فلما رأى ذلك دخل خلف صخرة على طريقها، فاستتر بها، وقال: أَحِيشُوهَا عَلَيَّ! فلما جازت به، نادوه: عليك! فتناولها فعقرها، فسقطت،

فذلك قوله: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29] فأظهر أمرهم، وقالوا: {يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} [الأعراف: 77]، وفزع ناس إلى صالح، فأعلموه أن الناقة قد عُقِرَت، فقال: علي بالفصيل! فطلبوه فوجدوه على رابية منا الأرض، فطلبوه، فارتفعت به حتى حلقت به في السماء، فلم يقدروا عليه. ثم رغا الفصيل إلى الله ( D) فأوحى الله ( D) إلى صالح (عليه السلام): " أن مُرْهُم أن يتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام. قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: ترضين؟ فتقول: نعم! وكلك الصبي حتى رضوا أجمعين فعقروها.

74

وصالح النبي [عليه السلام]، هو: صالح بن عبيد بن عابر بن إِرَم بن سام بن نوح. قال وهب: بعثه الله إلى قومه حين رَاهَقَ الحلم، وارتحل صالح بمن كان معه إلى مكة محرمين فأقاموا بها حتى ماتوا، فقبورهم بين دار الندوة والحِجْر. روي أنه كان بين موت هود وصالح، صلوات الله عليهما، أكثر من خمس مائة سنة. قوله: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ}، إلى: {جَاثِمِينَ}. قرأ الحسن: " تَنْحَتُونَ "، بالفتح، للمبالغة.

وقرأ الأعمش " تَعِثوا "، بكسر الثاء، وهي لغة. والمعنى: إن صالحاً، عليه السلام، ذكرهم نعم الله ( D) عليهم، وأنه استخلفهم في الأرض بعد عاد. {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض}. أي: جعل لكم فيها مساكن وأزواجاً. {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً}. أي: تبنون في السهل من الأرض قصوراً. {وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً}. قال السدي: كانوا ينقبون في الجبال البيوت، وذلك لطول أعمارهم. {فاذكروا آلآءَ الله}.

أي: نعمة الله عليكم. {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ}. أي: تفسدوا أشد الفساد. والعثو: أشد الفساد. ف: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ}، أي: الأشراف الذين استكبروا عن الإيمان، {لِلَّذِينَ استضعفوا}، وهم: أهل المسكنة من تُبَّاع صالح (عليه السلام)، المؤمنين منهم، {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً}، رسول الله، {قالوا إِنَّا} بالذي أرسله الله به {مُؤْمِنُونَ}، أي: مقرون أنه من عند الله ( D) ، { قَالَ الذين استكبروا}، عن أمر الله (سبحانه)، {إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ} ما جاء به صالح، {كَافِرُونَ}

، أي: جاحدون. فعقرت ثمود ناقة الله ( D) ، { وَعَتَوْاْ}، أي: تجبروا وتكبروا عن أمر ربهم. وقال مجاهد: {عَتَوْاْ}: علو في الباطل. وسألوه أن يأتيهم العذاب الذي أوعدهم به، {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة}، أي: الصيحة. قال مجاهد والسدي: {الرجفة}: هي الصيحة. يقال: رجف بفلان: إذا حرك وارتجج.

و " الرجفة " في اللغة: الزلزلة الشديدة. {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. أي: ساقطين على رُكَبِهِمْ. وأصل الجُثُومِ، للأرنب، والطير، وشبهه، وهو البروك على الركب. ومعنى {دَارِهِمْ}: عند مسكنهم، وموضعهم اجتماعهم وهي القرية. ومعنى {دِيَارِهِمْ} [هود: 67]: منازلهم.

79

قوله: {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي [وَنَصَحْتُ] [لَكُمْ]}، الآية. والمعنى: فأدبر عنهم (صالح، عليه السلام،) وخرج من بين أظهرهم حين عقروا الناقة واستعجلوه في العذاب، وأوحى الله ( D، إليه) أنه مهلكهم بعد ثلاثة أيام. ولم يهلك الله ( D) أمة ونبيها بين أظهرها. وقال لهم عند خروجه: {ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن} لستم {تُحِبُّونَ الناصحين}، فهلكوا بأجمعهم في ديارهم، إلا رجلاً كان يحرم الله (عز جل)، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.

80

قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ [أَتَأْتُونَ الفاحشة]}، إلى: {المجرمين}. نصب {لُوطاً} على " وأرسلنا لوطاً "، أي على معنى: واذكروا لوطاً. {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة}. أي: أتأتون الذكران. {مَا سَبَقَكُمْ}، لفعل هذا أحد {مِّن العالمين}. {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} هذا توبيخ لهم وتقريع. وقوله: {شَهْوَةً}: مصدر، أي تشتهون ذلك شهوة.

{بَلْ أَنْتُمْ/ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}. في فعلكم ذلك. واللوطي يرجم عند مالك، أحصن أو لم يحصن. وكذلك قال أكثر العلماء. وروي عنه أنه قال: يرجم إن كان مُحْصَناً، ويُحْبَس ويؤَدَّب إن كان غير محصن، وهو قول عطاء، والنخعي، والحسن، وابن المسيب، وقتادة.

قال الأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور: إذا أتى الرجل المرأة في دبرها حُدَّ حد الزاني، وهو مروي عن الشافعي. وقال النعمان والحكم: يُعَزَّرُ عقوبة. وهذا إنما هو في المرأة التي ليست منه بزوجة ولا ملك يمين. ثم أخبر، تعالى، عن جواب قوم لوط له إذ وبخهم، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ} قولهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، أي: قال بعضهم لبعض ذلك، أخرجوا آل لوط وابنتيه، ولذلك جمع في {أَخْرِجُوهُمْ}. وقيل المعنى: أخرجوا " لوطاً " ومن كان على دينه.

ومعنى: {يَتَطَهَّرُونَ}، أي: يتنزهون عن فعلنا. وقال السدي: معناه: يتحرجون. وقال مجاهد معناه: يتطهرون من أدبار الرجال [وأدبار] النساء. وقيل: معنى {يَتَطَهَّرُونَ}، أي: يتنزهون عن أعمالكم. قال الله ( D) : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ}، يريد ابنتيه، {إِلاَّ امرأته}، لم تنج؛ لأنها كانت خائنة للوط كافرة، {كَانَتْ مِنَ الغابرين}، أي: من الباقين

في الهالكين. وقيل المعنى: {مِنَ الغابرين}، [أي: من الغائبين] عن النجاة. قال حذيفة: إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء. وقال [أبو] عبيدة: المعنى: {كَانَتْ مِنَ الغابرين}، أي: من المُعَمَّرِينَ أي: قد هَرِمَت.

قال حذيفة: رفع جبريل (عليه السلام) مدينتهم ثم قبلها، فسمعت الوَجْبَةَ امرأَتُهُ، فالتفتت، فأهلكت معهم. ورُويَ أن جبريل، عليه السلام، اقتلع مدائنهم وهي ست فأهوى بها حتى بلغ بها السماء بجناح واحد، حتى سمع أهل السماء نُهَاق الحمير، ونُبَاح الكلاب، وصُرَاخ الديوك، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وتبعت الحجارة من كان خارج المدائن منهم. والغابر في اللغة: من الأضداد هو الباقي، والذاهب. وذَكَّرَ هذا الجمع؛ لأنه غَلَّبَ فيه المذكر [على المؤنث]. وقوله: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ}.

85

أي: أمطرت عليهم حجارة من سَجَّيلِ بعد قلب مدائنهم عاليها سافلها فأهلكت من كان خارجاً من المدينة، من مسافر وغيره، {فانظر}، يا محمد، {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين}. قوله: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، إلى: {الحاكمين}. المعنى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً. وكان شعيب زوج بنت لوط. ومدين: قبيلة. وقيل: هو اسم أرض.

وقال مقاتل: هو اسم رجل جعل اسماً للأمة. وقيل هم أمة بعث إليهم، فقال لهم: {اعبدوا الله}، ليس لكم (من يحب) أن تعبدوه إلا هو. {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الكيل والميزان}. أي: أوفوا الناس حقوقهم. {وَلاَ (تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ}}. أي: لا تنقصوهم حقوقهم) ولا تظلموهم.

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}. أي: لا تعملوا بالمعاصي في أرض الله، بعد أن أصلح الله (سبحانه) الأرض، بأن بعث فيها نبياً، يدل على الطريق المستقيم. {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. أي: مصدقين، أي: هذا الذي أمرتكم به من إخلاص العبادة لله ( D) وأداء الحقوق، وترك الفساد في الأرض، خير لكم من غيره. {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}. / أي: في كل صراط، أي: طريق. {تُوعِدُونَ}.

أي: تتهددون الناس ألا يؤمنوا، وتصدونهم عن سبيل الله، [أي: عن الإيمان]. {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}. أي: تبغون لها عوجاً، أي: لا تقعدوا بكل طريق، توعدون المؤمنين بالقتل. وكانوا يقعدون على طريق من يأتي إلى شعيب ليؤمن، يتوعدونه بالقتل ويخوفونه، ويقولون: هو كذاب، وهو قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ}،

أي: تردون عن الإيمان من يريده، {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً}، أي: تبغون للسبيل العِوَج، أي: تزيغون من أتى إليها عن الحق. وقال السدي: هم العاشرون. قوله: {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}. أي: كان عددكم قليلاً فكثركم.

88

وقيل: المعنى: (كنتم) فقراء فأغناكم. {وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين}. الذين أُهْلِكُوا من قبلكم، بعضهم أُهْلِكَ: بالصيحة، وبعضهم: بالحجارة، وبعضهم: بالغرق. ثم قال لهم: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ}، أي: جماعة وفرقة، {وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا}، أي: يقضي، {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}. قوله: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب}، إلى: {الفاتحين}.

المعنى: قال الملأ الذين استكبروا [عن الإيمان] من قومه: {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب}، ومن آمن معك، {مِن قَرْيَتِنَآ}، أو لترجعن إلى ديننا. قال شعيب لهم: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}، أي: تخرجوننا، ونحن كارهون لذلك. وقوله: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}. أي: قال شعيب لقومه إذْ دعوه إلى ملتهم، وَتَوَعَّدوه بالطرد: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً}، أي: أختلقنا على الله كذباً، وتَخَرَّصْنَا ذلك عليه، إن نحن {عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ}، أي: دينكم، بعد أن أنقذنا منها. وهذا من قول من آمن به وقد كان كافراً. فأما شعيب فلم يكن على ملتهم قط.

ثم قال: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ}،: في ملتكم فندين الله بها {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا}، أي: إلا بمشيئة الله (سبحانه)، أي إلا أن يشاء ربنا أن يَتَعَبَّدَنَا بشيء مما أنتم عليه. وقيل المعنى: إلا أن يشاء الله أن نعود، وهو لا يشاء ذلك أبداً بمنزلة قوله: {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40]. وقيل: هو استثناء من الأول. {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}. أي: أحاط به، فلا يخفى عليه شيء [كان، ولا شيء هو كائن]، فإن سبق في علمه أنا نعود في شيء منها؛ فلا بد أن يكون.

والله لا يشاء الكفر، أي: لا يُحِبُّه ولا يرضاه، وهو يشاؤه بمعنى: يُقَدِّره ويقضيه على من علمه منه. وقيل: المعنى: ملأ ربنا كل شيء علماً. ثم قال: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا}. أي: عليه نعتمد في أمورنا. {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق}. أي: احكم بيننا وبينهم.

90

{وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين}. أي: الحاكمين. قوله: {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً}، إلى قوله: {كافرين}. المعنى: قال بعض من كفر بشعيب لبعض: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}، أي لمغبونون في فعلكم. {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة}. أي: فأخذت الكفار منهم الزلزلة. {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. أي: باركين على ركبهم. وقيل: خامدون. وكان قوم شعيب أصحاب " لَيكَة "، وهي: الغَيْضَة من الشجر. وكانوا مع

كفرهم/ يبخسون الناس في الوزن والكيل، فدعاهم إلى الله ( D) ، فكذبوه، وسألوه العذاب، ففتح (الله) عليهم باباً من أبواب جهنم، فأهلكهم الحَرُّ منه، ولم ينفعهم ظل ولا ماء. ثم بعث الله سحابة فيها ريح طيبة، فوجدوا (فيها) بَرْدَ الريح، فتنادوا: " الظُّلَّة، عَلَيْكُمْ بها "،! فلما اجتمعوا تحت السحابة، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو {عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء:: 189]. ونجى الله شعيباً والذين آمنا معه، فسكنوا مكة حتى ماتوا (بها). وقوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا}.

أي: لم ينزلوا فيها، ولم يقيموا. و " المغَانِي ": المنازل؛ لأنها يقام بها. وقال المفسرون: كأن لم يعيشوا بها. {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين}. أي: الهالكين. {فتولى عَنْهُمْ}.

94

أي: أدبر وخرج عنهم، وقال: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبِّي}، فلم تؤمنوا بها، {وَنَصَحْتُ لَكُمْ}، فلم تقبلوا، {فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين}، أي: كيف أَحْزَنُ عليهم وقد كفروا بآيات الله. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف، ويحيى بن وَثَّاب، والأعمش: (إِيسى "، بكسر الهمزة، (وهي لغة تميم). قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ} إلى: {يَشْعُرُونَ}. هذه الآية تحذير لقريش، ومن كفر بالنبي ( A) ، وإعلام من الله

لنبيه ( A) ، سُنَّتَهُ فيمن خَلاَ من الأمم الكافرة. و {بالبأسآء}. البؤس وضيق العيش. {الضرآء}، النصر. {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ}، أي: فعل ذلك بهم، ليتضرعوا إلى الله ( D) ويخشعوا، وينيبوا عن الكفر. قال السدي، {بالبأسآء والضرآء}: الفقر والجوع. وقال ابن مسعود: {بالبأسآء}، الفقر، و {والضرآء}، المرض. وقيل: {بالبأسآء}، المصائب في المال، و {والضرآء}، المصائب في البدن.

وقوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة [حتى عَفَوْاْ]}. سمي [الضرر والفقر سيئة، لأنه يسوء صاحبه. و {الحسنة}: الرخاء والصحة. سمي] ذلك حسنة، لأنها تحسن عند من حلت به، فبدل الله ( D) لهم مكان الضرر والفقر، الرخاء والصحة، {حتى عَفَوْاْ} أي: تضاعف أعدادهم بالتناسل، وهو من الأضداد، يقال: " عفا ": كثر، و " عفا ": درس. ومن الكثرة قوله عليه السلام: " أَخْفُوا الشَّوَارِبَ واعْفُوا اللِّحَى "، أي: وفروا [اللحى] حتى يكثر شعرها.

فمعنى {عَفَوْاْ} على هذا، أي: كثروا. قال ابن زيد: معناه، بدلنا مكان ما كَرِهُوا ما أحَبُّوا. وعن مجاهد: {عَفَوْاْ}، كثرت أموالهم وأولادهم. وقال قتادة: {عَفَوْاْ}، سُرُّوا. أي: سُرُّوا بكثرتهم، وذلك استدراج منه لهم؛ لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا فلم يفعلوا. ثم أخذهم بالرخاء لعلهم يشكرون، استدراجاً لهم، ف: {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء}، وهو الضيق في المعاش، {والسرآء}: السرور والسعة، فنحن

مثلهم، يصيبنا مثل ما أصابهم، {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً}، أي: أخذناهم بالهلاك فجأة على غرة، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: لا يدرون بذلك. وقد كرر الله، D، قصص الأنبياء وأممها، في سور كثيرة بألفاظ مختلفة، ومعان متقاربة. ونحن نذكر علة تكرار ذلك في القرآن، بما حضرنا من أقوال العلماء، إن شاء الله.

ذكر العلة في تكرار الأنبياء والقصص في القرآن علة ذلك أن القرآن نزل شيئاً بعد شيء نُجُوماً، في ثلاث وعشرين سنة، فكانت العرب ترد على النبي A، / من كل أُفُق فيقرئهم المسلمون السورة من القرآن، فيذهبون بها إلى قومهم. وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة، بالسور المختلفة، فيبلغ إلى هؤلاء من القصص ما لم يبلغ إلى هؤلاء، فثنى الله القصص وكررها ليكون يبلغ إلى هؤلاء ما يبلغ إلى

هؤلاء إشهاراً منه لهذه القصص ليتعظ بها من بلغته، ويعلم أنها دلالة على نبوة من أتى بها، ويعيها كل قلب، ويزداد الحاضرون السامعون لتكرارها تَفَهُّماً. ولو نزل القرآن جملة واحدة لسبق حدوث الأسباب التي أنزله الله ( D) بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول في الدين ولفسد معنى النَّسْخ، فإنما نزل فَرْضاً بَعْدَ فَرْضٍ، تدريجياً للعباد وتيسيراً عليهم إلى أن يكمل دين الله ( D) . كل ذلك تثبيتاً لهم على الإسلام، قال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، وهذا جوابهم إذا قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، فإنما نزل متفرقاً ليثبتهم على الإسلام، إذ لو نزلت الفرائض مرة واحدة، لكان ذلك داعية إلى النقار

والصعوبة عليهم. فإن قيل: هلا كررت الفرائض كما كررت القصص؟ قيل: إن الفرائض كان رسول الله ( A) يبعث بها إلى كل قوم ليعلمهم بها فرض الله عليهم، من الصلاة والزكاة، فكل المؤمنين يصل إليه ذلك ببعث رسول الله (عليه السلام) إذ ذلك وجب عليه، وهو من تمام التبليغ. والقصص ليست كذلك، إنما نزلت على طريق الاعتبار، فليس يقتص بها كل من آمن، فكررت لتشتهر عند المؤمنين. فإن قيل: فلم كرر {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13، 77]، و: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي

وَنُذُرِ} [القمر: 16، 18، 21، 30]، و {قُلْ يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وشبهه؟ فالجواب أن مذهب العرب: التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذابهم: الاختصار للتخفيف، فيقولون: " عجل عجل "، و " الزم الزم "، فكررون للتأكيد، ويقولون: " الهلال والله ". [أي: هذا الهلال]، فيختصرون للتخفيف. وربما استوحشوا من الإعادة فغيروا اللفظة الثانية فيقولون: (هو) " عَطْشان نَطْشان " "، و " حَسَنٌ بَسَنٌ "، و " شَيْطَان [لَيْطان] "، أبدلوا الثاني وغيروه لئلا يعيدوه بلفظه إذ لم يكن (لهم) بد من التأكيد.

وأما التكرير في {قُلْ يا أيها الكافرون}، فإن المشركين قالوا للنبي ( A) : اعبد بعض آلهتنا، ونؤمن بإلهك، فأنزل الله ( D) : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 2 - 3] ثم أقاما مرة وقولوا (له): اعبد آلهتنا وقتاً من الزمان، ونعبد إلهك مثله، فأنزل الله ( D) : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 4 - 5]. ومن العلة في التكرار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، أن الله تبارك وتعالى، عَدَّدَ في " الرحمن " ألاءه ونعمه، ونبههم على ما أعد للمؤمنين من نعمة، فأتبع كل نعمة ذكرها الاستفهام بمعنى: التوبيخ، والسؤال لهم بأي نعمة يكذبون، لتكون فاصلة بين [كل نعمة] ذكرها وبين ما بعدها من نعمة أخرى، ليفهموا كل نعمة على

انفصالها. وهذا كقول العرب للرجل: ألم أطعمك وأنت جائع؟ أفتنكر هذا؟ [ألم أكسك وأنت عريان؟ أفتنكر هذا؟، ألم أغنك وأنت فقير؟ أفتنكر هذا؟] وشبهه. ومثل: هذا تكراره: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15، 17، 22، 32، 40، 51] في سورة: " اقترتب "؛ لأنه يذكر/ لهم آياته، وَعِبَر ما يعتبرون به، ثم نبههم على الاعتبار والادكار بذلك، فإذا ذكر آية وعِبَراً نبههم على الاعتبار بها، وكرر ذلك عليهم، ليكون أَفْهَم لهم. وقد يأتي تكرار المعنى بلفظين مختلفين، وذلك للاتساع في المعنى واللفظ، نحو قولك: " آمرك بالوفاء، وأنهاك عن الغدر "، والأمر بالوفاء هو النهي عن الغدر. ومثله: " آمرك بالتواصل، وأنهاك عن التقاطع ". وكقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، والنخل والرمان من الفاكهة، فَأُفْرِدَا عن

الجملة، لفضلهما. ومثله قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]، وهي منها، فأفردها بالذكر ترغيباً فيها، كما تقول العرب: " إيتني كل يوم (ويوم) الجمعة. ومنه قوله: {لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} [الزخرف: 80]، والنجوى هو السر. وقد يكون " السر ": ما أسروا في أنفسهم، و " النجوى ": ما تَسَارَوُا به سِرّاً، وهذا كما قال ذو الرُّمة: لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لعَسُ ... وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَب

واللَّعسُ: حُوَّة. وقريب من هذا: الزيادة للتأكيد، كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]؛ لأن الرجل قد يقول بالمجاز: كتاباً ورسالة، وعلى لسان غيره. ومنه قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79]؛ لأن الرجل قد يضاف إليه الكتاب، والكاتب غيره. يقول الأمي: كتبت إليك، وإنما كُتِبَ له، وكتب الأمير كتاباً، وإنما أمر بِكِتُبَتَهِ، فَبَيَّنَ بقوله: {بِأَيْدِيهِمْ}، أنهم بأنفسهم كتبوه على الحقيقة.

وقد قال ابن عباس في قوله: {تَحْمِلُهُ الملائكة} [البقرة: 248]، وإنما أُمِرَتْ بحمله، كقولك: " حملت إلى بلد كذا بُرّاً وقمحاً "، وإنما [تريد] أمرت بحمله. وقال تعالى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} [الصافات: 93]، فذكر اليمين؛ لأن فيها القوة وشدة البطش، فأخبر بذلك عن شدة الضرب. ومثله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، فأكد بذلك، كما تقول: رَأْيُ عَيْنِي وسَمْعُ أُُذنيِ].

96

ومنه قوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46]، هذا مثل قولهم: نفسي التي بَيْنَ جَنَبيّ. ومثله قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرىءَامَنُواْ (واتقوا)}، إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}. المعنى: ولو أن أهل القرى الذين أرسل إليهم الرسل آمنوا، لنزل مطر السماء عليهم. وأنبتت الأرض، فذلك " البركات ".

وأصل " البركة ": المواظبة على الشيء. يقال: بارك فلان على فلان، أي: واظب عليه. فمعنى: {بركات مِّنَ السمآء}. أي: ما يتتابع من [خير] السماء والأرض. {ولكن كَذَّبُواْ}، بالرسل. {فأخذناهم}. أي: عجلناهم العقوبة. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. أي: بعملهم الرديء. {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى}، [أي] المكذبون، {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا}، أي: عقوبتنا، {بياتا}، أي: ليلاً، {وَهُمْ نَآئِمُونَ}، أو يأتيهم {ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}. يقال لكل من عمل

عملاً لا يجدي عليه نفعاً، إنما أنت لاعب. {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ/ الله}. أي: أستدراج الله إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم من الصحة والرخاء، فليس بأمن استدراج الله {إِلاَّ القوم الخاسرون}، أي: الهالكون. وقيل: هو توعد لمن كذب بمحمد، (عليه السلام). وقيل: {مَكْرَ الله} ( D) : عذابه.

وحقيقة " المكر ": (الكيد)، والكيد من الله (سبحانه) عقوبة للعبد من حيث لا يعلم. قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ}، المعنى: أو لم يهد الهدى، أي: يبين لهم الهدى. وقيل معنه: أولم يهد الله، أي: يبين لهم الله، أنه لو شاء أصابهم بذنوبهمه، كما فعل بمن كان قبلهم، الذين ورث هؤلاء الأرض عنهم. {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ}. أي: نختم عليها، فلا ينتفعون بموعظة.

101

قال ابن عباس: {أَوَلَمْ يَهْدِ}، أو لم يستبن لهم. وقال ابن زيد: أو لم يتبين لهم. وأكثرهم على أن المعنى: أو لم يَبِنْ لهم؛ لأن أصل الهدى: البيان. قوله: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا}، إلى قوله: {لَفَاسِقِينَ}. والمعنى: تلك القرى، يا محمد، نقص عليك من أخبارها، وهو ما تقدم ذكره: من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب، لتعلم أنا ننصر رسلنا. ثم قال (الله) تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}. أي: ولقد جاءت أهل القرى رسلهم، بالحجج [البينات]. وقوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ}.

أي: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم، {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، أي: بما كذبوا يوم أخذ عليهم الميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم، (عليه السلام). قال مجاهد: المعنى: ليس يؤمنوا، {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ}، أي: من قبل هلاكهم، أي: لو رُدُّوا إلى الدُّنيا بعد هلاكهم لم يؤمنوا بما كذبوا من قبل هلاكهم، مثل: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28]. وقال الربيع بن أنس: كان في علمه ( D) يوم أقروا بالميثاق أنهم لا يؤمنون.

وقال السدي: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهاً، فلم يكونوا ليؤمنوا الآن حقيقة. وقوله: {كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين}. أي: كما طبعنا على قلوب هؤلاء الذين أهلكوا ولم يؤمنوا، كذلك نطبع على قلوب المعتدين من أمتك يا محمد، أي: نختم عليها فلا يؤمنوا لما تقدم في عمله منهم. وهذا إخبار [من] الله (تعالى) لنبيه (عليه السلام) عن قوم من أمته [أنهم] لا يؤمنون أبداً، كما قال لنوح (عليه السلام): {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وكما قال لمحمد A،: { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. ثم قال تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ}. أي: ما وجدنا لهؤلاء المهلكين " عهداً "، أي: وفاء بما وصيناهم به، وما

وجدنا أكثرهم فاسقين. مذهب الفراء: أنَّ {إِنْ} بمعنى: " ما "، و " اللام " بمعنى إلا. ومذهب سيبويه أنها " إنْ " المخففة [من الثقيلة)، ودخلت " اللام " لئلا تشتبه " إِنْ " التي بمعنى: ما. وقال بعض البصريين: دخلت " إنْ " و " اللام " على معنى التأكيد واليمين. وتدخل " إِنْ " هذه على الأفعال أيضاً، [تقول]: إِنْ ظَنَنْتُ زيداً لقائماً. ومعنى {لَفَاسِقِينَ}،: خارجين عن طاعة الله.

103

وقيل: العهد الذي لم يَفُوْا به، هو ما أخذ عليهم إِذْ أُخرجوا من ظهر آدم. قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا}، إلى قوله: {لِلنَّاظِرِينَ}. والمعنى: ثم بعثنا (من) بعد هؤلاء الذين ذكرنا من الأنبياء. ط وقيل: من/ بعد الأمم المذكورة، موسى. {بآياتنآ}. أي: بحجتنا. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا}. أي: فجحدوا وكفروا بها. ومات هارون (عليه السلام)، وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة، وعاش

موسى (عليه السلام) بعد ثلاث سنين، صار عمره بها مثل عمر هارون؛ لأن هارون كان أكبر من موسى بثلاث سنين، فصار عمر موسى وهارون سواء، مائة وسبع عشرة لكل واحد. وكان في وجه هارون شامة، وفي أَرْنَبَة موسى شامة، وعلى طرف لسانه شامة، وهي العقدة التي حلها الله ( D) ، له. قوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين}. أي: فانظر، يا محمد، بعين قلبك، {كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين}، يعني فرعون وملأه، إذ غرقوا في البحر جميعاً. وموسى، هو: ابن عمران بن ناهب بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن

إبراهيم عليه السلام. وفرعون موسى هو فرعون يوسف، عَمِر أكثر من أربع مائة عام. وامسه: الوليد بن مصعب. (وقوله): {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين * حَقِيقٌ عَلَى}. أي: خليق وجدير قول الحق على الله، ( D) . وقيل المعنى: {حَقِيقٌ عَلَى} ترك القول على الله (سبحانه) إلا بالحق. فمن أضاف {عَلَى} فمعناه: واجب عليَّ قول الحق على الله (سبحانه).

ومن لم يضعف فمعناه. حريص على قول الحق علىَّ الله (جلت عظمته). (وقيل) معناه: مَحْقوُقٌ عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق، وهو فعيل بمعنى مفعول، كقتيل. هذا في قراءة من لم يضف. قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}. أي بحجة. {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ}. وكان بنو إسرائيل يؤدون الجزية إلى فرعون وقومه، فسأله موسى (عليه السلام)، أن يتركهم معه قال له فرعون: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ}، فألفى موسى عصاه فإذا هي حية ظاهرة لمن يراها فَاغِرَة فَاهَا، فاستَغَاثَ فرعون بموسى، حين رآها قصدته، فَكَفَّها موسى (عليه السلام)، عنه.

وقال الكلبي: بلغنا أن موسى (عليه السلام)، قال يا فرعون، ما هذه بيدي؟ قال: هي عصا. فألقاها موسى، فإذا هي ثعبان مبين، قد ملأت الدار من عِظَمِها، ثم أهوت إلى فرعون لتبتلعه، فنادى: يا موسى! (يا موسى)! فأخذ موسى بذنبها فإذا هي عصا بيده. قال فرعون: يا موسى، هل من آية غير هذه؟ قال: نعم، قال: ما هي؟ فأخرج موسى يده، فقال: ما هذه يا فرعون؟ قال: يدك. فأدخلها موسى (عليه السلام)، في جيبه ثم أخرجها، {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ}، تغشى البصر من بياضها. قال وهب بن مُنَّبِه: أمر فرعون بموسى، فقال: خذوه! فبادره موسى (عليه السلام)، فألقى عصاه، فصارت ثعباناً، فحملت على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، قتل بعضهم بعضاً، وقام فرعون منهزماً حتى دخل البيت. وكان ما بين لَحْيَيْ الحية أربعون ذراعاً.

قال ابن عباس: وضعت فُقْماً أسفل قبة فرعون، وفُقْماً فوقها، فاستغاث بموسى فَأَجَارَهُ، وَكَفَّهَا. وقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ}. أي: أخرجها (من جيب قميصه)، (بيضاء تلوح، (تدل) على صدقه فيما يقول، بياضاً من غير/ برص. ثم أعادها إلى موضعها، فرجعت كما كانت، وكان قد أخرجها من جيبه، فأخرجها بيضاء تلوح للناظرين. قال السدي: وضعت لَحْيَهَا الأسفل في الأرض، والآخر على أعلى سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه فَذُعِرَ منها، (ووثب) وأَحْدَثَ، ولم يكن

109

يحدث (قبل ذلك)، إلا إلى مدة طويلة، فصاح: يا موسى! خذها، ونؤم بك. قوله: {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ (عَلِيمٌ)} الآيات الأربع. من قرأ {أَرْجِهْ}، بغير همز، احتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون على البدل للهمز، ثم حذف الياء؛ لأنه أَمْرٌ، كما أجازوا " أقرَ " يا هذا، بغير ألف ولا همز. والوجه الثاني: أن [يكون] على لغة من قال: " أَرْجَيْتُ "، وهي لغة: أسد،

وتميم وعامة قيس. والوجه الثالث: قاله المبرد، قال: هو من: رجا يرجو، أي: اتركه يرجو وأَطْمِعْهُ. وقد أنكر جماعة النحويين: الإسكان في الهاء. وقد ثبت ذلك عن الأئمة من القراء.

ووجه ذلك: أن " الهاء " هي الاسم، و " الياء " والواو إنما هي صلة " للهاء " وليسا من الاسم؛ وإنما زيدت عند الخليل؛ لأن [الهاء] خفية، فقويت بحرف جلد تباعد منها وهو " الواو "، لا يأتي بها فمن أسكن هذه " الهاء " أسكنها على أصلها، وردها إليه. وفيها علة أخرى، وذلك أن هذه " الهاء " صارت في موضع اللام. وكان من حق اللام لو كان من حروف السلامة أن يسكن. والهاء من حروف السلامة فسكنت، إذ حلت محل اللام، فصارت بمنزلة ميم " أكرم ". وفيها علة أخرى، وهي أن " الواو " جائز حذفها بعد " الهاء " فصارت بمنزلة

الواو في " عليهمو "، [في جواز حذفها، فلما كانت " الميم " من عليهم] تسكن إذا حذفت الواو ويحسن سكونها، كان (مثل) ذلك في الهاء، إلا أن الميم أحسن من الهاء في السكون لخفاء الهاء. وفيها علة رابعهة، وذلك أنهم قد شبهوا هاء السكت بهاء الإضمار، فأثبتوها في الوقف. وبعضهم وصلها بياء كهاء الإضمار، فلما شبهت بهاء، جاز تشبيه هاء الإضمار بهاء السكت في السكون؛ لأن من حق هاء السكت السكون فشبهت بها، فجاز إسكانها. ومعنى الآية: قال أشراف قوم فرعون من القبط: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، أي عليهم بالسحر، {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ}، أي: أرض مصر، {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، أي: أي شيء تأمرون أن يفعل في أمره؟.

وقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}، من كلام فرعون لا من كلام الملأ. فأشار عليه الملأ أن: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، أي: أحسبه وأخاه. و " الإرجاء ": التأخير. {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ}.

113

أي: مدائن مصر، من يجمع لك السحرة العلماء. قوله: {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً} الآيات الثلاث. في هذا الكلام اختصار وحذف. والمعنى: فأرسل فرعون {فِي المدآئن حَاشِرِينَ}، فحشروهم، فجاء السحرة فرعون. ومعنى الآية: قال ابن عباس: قال فرعون: لا نغالبه، يعني موسى، إلا بمن هو مثله، فأعد غلماناً من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية، يقال لها: " الفَرَمَاء "، يعلمونهم السحر، كما يعلم الصبيان في الكتاب، فعلموا سحراً كثيراً. وواعد موسى فرعون موعداً، فلما كان في ذلك/ الموعد، بعث فرعون فجاء بهم، وجاء بمعلميهم معهم فقال لهم ماذا صنعتم، قالوا قد علمناهم سحراً لا يطيقه سحر أهل الأرض، إلا أن يكون أمر من السماء، فإنهم لا طاقة لهم به، فلما جاء السحرة

قالوا لفرعون: {لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين}، أي: لكم الأثرة والقرب مع ذلك. رُوِي: أن السحرة كانوا سبعين ألفاً. وقيل: خمسة عشر ألفاً. وقال ابن المُنْكَدِرُ: كانوا ثمانين ألفاً. وقال كعب: أثنى عشر ألفاً.

116

وقوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}. إذا كان في الكلام مع " إما " معنى الأمر، فلا بد من دخول " أَنْ " بعدها، وتقديره: اختر أن تلقى، كقولك للرجل: " إِمّا أَنْ تمضي وإِمَّا أَنْ تقعد ". فإِنْ كان الكلام خبراً ليس فيه معنى الأمر، لم يجز دخول " أَنْ " البتة، كقوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 6]، وكذلك ما كان في معنى الجزاء، وهي مكسورة في كل ذلك. و" أَنْ " عند الكسائي في موضع نصب. قوله: {قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا [أَعْيُنَ الناس]}، الآية. والمعنى: قال لهم موسى: ألقوا فلما ألقوا (سحرهم) سحروا أعين الناس،

بسحرهم وخدعهم، فاسترهبوهم الناس، {وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، أي: بتخييل عظيم. ق السدي: كانوا بضعة ومائتي ألف، ليس منهم رجل إلا [معه] حبل وعصا. قال ابن إسحاق: صَفَّ فرعون خمسة عشر ألف ساحر، مع كل واحد حباله وعصيه. وخرج موسى (عليه السلام)، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع فألقوا ما في أيديهم فإذا هي حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها

117

بعضاً، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67]، أي: أحس خوفاً. قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، [الآية]. قال ابن عباس: فألقى موسى عصاه فإذا هي حية فجعلت تلقف ما يأفكون لا تمر بشيء من حبالهم وخُشُبِهم إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء، وأنه ليس بسحر فَخَرَّوا سُجَّداً، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. وقيل: إنهم ما رفعوا رؤسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما. ومعنى: {مَا يَأْفِكُونَ}، ما يكذبون.

وقيل: إنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم، خيل إلى موسى (عليه السلام) أنها حيات، فألقى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم. ثم رقوا فازدادت حبالهم وعصيهم عِظَماً في أعين الناس، وجعلت عصا موسى (عليه السلام)، تعظم، فكلما رَقَوْا ازدادت حبالهم وعصيهم عِظَماً، وتزداد عصا موسى عِظَماً، حتى نفدت رَقَاهُم وسحرهم، وصارت عصا موسى (عليه السلام)، قد سدت الأُفُق. ثم فتحت فاها فابتلعت ما ألقوا، ثم أخذ موسى عصاه بيده، فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت. قال الكلبي: فقال السحرة بعضهم لبعض: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا. فَخَرُّوا عند ذلك ساجدين.

118

قوله: {فَوَقَعَ الحق (وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)}، إلى قوله: {موسى وَهَارُونَ}. المعنى: وظهر الحق لمن شهد. وبطل سحرهم. {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ}، عند معرفتهم أن (ذلك) الذي أتى به موسى (عليه السلام)، ليس إلا من السماء، {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}، أي صدقنا بما جاء به موسى وبربه وربِّ هارون. قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ}، إلى {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. المعنى: قال فرعون لهؤلاء الذين آمنوا: {آمَنتُمْ بِهِ}، أي صدقتموه. قيل: " الهاء " لله. وقيل: لموسى، عليه السلام.

124

وفي موضع آخر: {آمَنتُمْ لَهُ} [طه: 71، الشعراء: 49]، أي: فعلتم الذي أراد، {قَبْلَ/ أَن آذَنَ} بذلك، {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ}، أي: تصديقكم إياه {لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة}، أي: خدعة خدعتم بها من في مدينتنا، {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، أي: تعلمون ما اصنع بكم. قل ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما، من أصحاب النبي، A: التقى موسى وأمير السحر، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك تؤمن بي، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غاداً بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأؤمنن بك، ولأشهدن أنك نبي حق! وفرعون ينظر إليهما، فذلك قول فرعون: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة}، إذ التقيتما لتتظاهرا فتخرجا منها أهلها. قوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [مِّنْ خِلاَفٍ]}، إلى: {مُنقَلِبُونَ}.

126

معنى: {مِّنْ خِلاَفٍ}: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى. وقال ابن عباس: أَوَّلُ من صلب، وأَوَّلُ من قطع من خلاف فرعون. قالت السحرة لفرعون إذا توعدهم بالقطع والصلب: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أي: صائرون وراجعون. قوله: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ [إِلاَّ أَنْ آمَنَّا]}، إلى: {قَاهِرُونَ}. المعنى: وما تنكر منا إلا إيماننا بربنا، إذ رأينا الآيات والحجج. ثم قالوا: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}، أي: أنزل علينا صبراً يشملنا فلا تُخْرِج عن الإيمان إلى الكفر بعذاب فرعون لنا، {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، أي: أقبلنا إليك

على الإسلام. قال السدي: فقتلهم وقطعهم. قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء. وقاله قتادة، وابن جريج. ثم قال تعالى مخبراً عنهم: {[وَ] قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ}، أي: قال جماعة من أشراف قومه،: {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ}، أي: أتدع يا فرعون، موسى وقومه من بني إسرائيل، {لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض} أي: كي يفسدوا عليك خدمك وعبيدك في أرضك من مصر، {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}، أي: ويدع خدمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك.

والنصب في {وَيَذَرَكَ} على الصرف، إن جعلت معنى الكلام: ليفسدوا في الأرض، وقد تركك وترك عبادة آلهتك. وإن جعلت المعنى {لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} على التوبيخ لفرعون عن تركه موسى (عليه السلام)، فنصبه على العطف على {لِيُفْسِدُواْ}. وقرأ ابن عباس، ومجاهد: " وَيَذَرَكَ وإلاَهَتَكَ ". أي عبادتك.

وكان فرعون إذا رأى بقرة سمينة أمرهم أن يعبدوها. وقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]، يدل على أنهم كانوا يعبدون غيره، ممن هو دونه عندهم، فهذا يدل على صحة قراءة الجماعة: {وَآلِهَتَكَ}. قال ابن عباس حجة لقراءته (" وإِلاَهَتَكَ "): كان يعبد ولا يعبد. وبذلك قرأ مجاهد على معنى: وعبادتك. وبه قرأ الضحاك.

128

ومن قرأ: " وَإِلاَهَتَكَ "، تَأَوّلَه أن فرعون لم يكن يَعْبُدُ شيئاً، إنما كان يُعْبَد من دون الله، (سبحانه وتعالى). وقيل: إن قوم فرعون لهم أصنام يعبدونها، تقربهم إليه فما ترون. فأجابهم فرعون فقال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}، أي: عالون عليهم بالملك والسلطان. {وَآلِهَتَكَ}، وقف. قوله: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله}، الآية. والمعنى: أن موسى (عليه السلام)، قال لقومه لما قال فرعون لقومه: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ}: {استعينوا بالله}، على فرعون وقومه، {واصبروا} على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم. وكان قد اتبع موسى، (عليه السلام) من بني

إسرائييل ست مائة ألف، غير السحرة. ثم/ قال لهم موسى، (عليه السلام): {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ}، أي: لعلكم إن صبرتم، ترثون أرضه، فإن الأرض لله، {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}، أي: العاقبة المحمودة لمن اتقى الله وراقبه. {مِنْ عِبَادِهِ}، [وقف]. وهذا يدل على أن ابن أدم غير مستطيع لشيء إلا بعون الله، (تعالى، له). وهو مذهب أهل السنة. ومثله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وله [في] القرآن نظائر كثيرة، تدل على أن الإنسان غير مستطيع لفعل شيء إلا بعون الله (جلت عظمته) له

129

عليه. وعونه (سبحانه) إمَّا أن يكون توفيقاً لمؤمن، أو خذلاناً لكافر. قوله: {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا}. الآية. المعنى: قال موسى (عليه السلام)، لموسى (صلوات الله عليه)، حين قال لهم: {استعينوا بالله واصبروا}: {أُوذِينَا} يقتل أبنائنا، {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} (برسالة الله D) ، { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، بما توعدنا به من القتل لأبنائنا. وقيل معنى: {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، أي: بدركنا فرعون فيقتلنا، وذلك حين تراءى الجمعان. قال ابن عباس: أَسْرى موسى (عليه السلام)، يبني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم بَرهَجِ دواب فرعون، فقالوا: يا موسى، {أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا}، أي: بذبح أبنائنا، وإحياء نسائنا، {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، هذا البحر أمامنا، وهذا

فرعون قد رهقنا بمن معه؛ {قَالَ عسى (رَبُّكُمْ) أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}، من بعدهم فيجازيكم على ما وقع منكم وقد علم كيف تعلمون. و: " الأرض "، أرض الدنيا. وقيل: أرض الجنة. و: " الثانية " أرض الدنيا لا غير. و {عسى}: تَرَجِ، وهي واجبة من الله، ( D) .

130

{وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، وقف. قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين}، إلى: {لاَ يَعْلَمُونَ}. لام {وَلَقَدْ}، لام توكيد تؤكد الكلام بمعنى القسم. والمعنى: ولقد ابتلينا تُبَّاعَ فرعون: {بالسنين}، أي: بالجدوب سنة بعد سنة، {وَنَقْصٍ مِّن الثمرات}، اختبرناهم بذلك، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون}، بتوبة أو رجوع، فيعتبرون. قيل: إِنَّ ثمارهم نقصت حتى كانت النخلة تحمل تمرة واحدة.

وقوله: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة}. أي: (إذا) جاءهم الخصب والعافية وكثرة الثمار، {قَالُواْ لَنَا هذه}، ونحن أولى بها، {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}، أي: قحط ومرض، {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ}، أي: تشاءموا بهم، فقالوا: هذا بشؤم موسى ومن معه. قرأ طلحة، وعيسى بن عمر: " تَطَيَّروا "، على أنه ماض.

وقرأ الحسن: " أَلاَ إنَّما طَيْرُهُمْ عِنْدَ الله "، بغير ألف. قال الله ( D) : { ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله}. أي: ألا إنما نصيبهم من الرخاء والجدب، وغير ذلك عند الله، D. قال ابن عباس، المعنى: ألا إن الأمر من قِبَلِ الله، ( D) . وقال مجاهد، المعنى: ألا إنما الشؤم فيما يلحقهم يوم القيامة مما وُعِدُوا به من الشر.

132

{ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط وشدة، أنه من عند الله ( D) ، بذنوبهم. {لَنَا هذه}، وقف. {وَمَن مَّعَهُ}، وقف. قوله: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ}، إلى: {مُّجْرِمِينَ}. {مَهْمَا} عند الخليل: أصلها " ما " للشرط، زيدت عليها " مَا " للتوكيد، وأبدل من ألف " مَا " الأولى " هاء ".

وقال غيره: الأصل: " مَهْ " بمعنى: أكفُفْ، و " مَا " للشرط بعد ذلك. وحكى الكوفيون: " مهما " بمعنى: " مهما ". والمعنى: وقال (آل) فرعون لموسى: ما {تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا}، فنؤمن (ربك)، وندع دين فرعون، {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}.

قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم}. " فالطوفان ": الماء. قاله الضحاك، / وأبو مالك. قال ابن عباس: هو الغرق. قال مجاهد: هو الموت. قال قتادة: سال عليهم [الماء] حتى قاموا [فيه قياماً]، فسألوا موسى، (عليه السلام)، أن

يسأل الله ( D) ، ليكشف عنهم ففعل. قال الضحاك: جاءهم من المطر شيء كثير، فسألوا موسى (عليه السلام)، أن يدعو الله ( D) ليكشفه عنهم، ويرسلوا معه بني إسرائيل، فدعا الله، فكشف عنهم وأخصبت البلاد، فعادوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فصب الله على زُرُوعهم الجراد فأكله، فسألوا موسى فدعا، فكشف عنهم. ثم عادوا إلى كفرهم. وروت عائشة عن النبي، A، أنه قال " {الطوفان}: الموت ". وعن ابن عباس قال: هو أَمْرٌ من (أمر) الله ( D) ، طاف (بهم)، وقرأ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} [القلم: 19]. و: {الطوفان}: مصدر كالنقصان، لا يجمع.

وقال الأخفش: هو جمع، واحدة: طوفانة. وقوله: {والجراد والقمل}. أرسل الله عليهم الجراد والقمل، وهو: الدَّبَى، فأكل زرعهم وثمارهم. ثم أكل الشجر والأبواب وسقوف البيوت. وابتلي الجراد بالجوع، فجعل لا يشبع. قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: إن ذلك " الجراد "، كان يأكل المسامير، فَعَجُّوا إلى موسى، (عليه السلام)، وصاحوا وقالوا: يا موسى، هذه المرة! ف: {ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز}، وهو العذاب، {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ} [الأعراف: 134]، فدعا لهم، فكشف عنهم بعدما

أقام سبعة أيام، فأقاموا شهراً، ثم عادوا لتكذيبه، ولأعمالهم السيئة. وقيل: {والقمل}: السوس الذي يخرج من الحِنْطَة. قاله ابن عباس، وابن جبير. وقال السدي، وعكرمة، وغيرهما: هو الدَّبَى الذي لا جناح له. وقال ابن زيد: هي البراغيث. وقال الحسن: هي دَوابٌ صَغَارٌ سُودٌ. وقال أبو عبيدة: {والقمل}: الحَمْنَانُ، وهو ضرب من القِرَاد،

واحدتها: حَمْنَانَةٌ. و {والقمل}: جمع واحدته: " قَمْلَةٌ ". قال سعيد بن جبير: لما أتى موسى (عليه السلام)، فرعون، قال له: أرسل معي بني إسرائيل! فأبى عليه فأرسل الله ( D) ، عليهم مطراً خافوا أن يكون عقاباً، فقالوا (لموسى): ادع لنا ربك يكشف عنا المطر، فنؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه ( D) ؛ فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم ذلك المطر تلك السنة شيئاً لم ينبت لهم قبل ذلك من الزرع والثمر والكلإ. فقالوا: هذا ما كانا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجِراد فسقط على الكلإ، فلما رأوا أثره في الكلإ عرفوا أنه لا يبقى الزرع. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنَّا الجراد

فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيلّ! فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل! فدارسوا زرعهم وأحرزوا في البيوت، فأرسل الله ( D) ، عليهم القُمّلَ، وهو السوس الذي يخرج منه، فكان الرجل (يخرج) بعشرة أَجْرِبَةٍ [إِلى] الرَّحَى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة. فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا القُمَّل، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فينما هو جَالِسٌ مع فرعون، إذ سمع نقيق ضفدع، فقال موسى (عليه السلام) ما تلقى أنت وقومك من هذه! فقال: وما عسى أن يكون مثل هذا! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى رقبته في الضفادع، ويهم أن

يتكلم فَيَثِبَ الضفدع في فيه، فقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا ونؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا فكشفه عنهم فلم يؤمنوا ولا أرسلوا معه بني إسرائيل فأرسل (الله) عليهم الدم، فكان ما استقوا من الأنهار والآبار وصار في أوعيتهم وجدوه دَماً عَبِيطاً، فشكوا إلى فرعون/ وقالوا: ليس لنا شراب! قد ابتلينا بالدم، قال: إنه سحركم! قالوا: ومن أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً؟ فأتوا موسى (عليه السلام)، وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فكشف عنهم ولم يفعلواما قالوا. قال السدي: وكان الإسرائيليُّ في كل هذا مُعَافىً من هذا كله. كان القبطيُّ

والإسرائيلي يستقيان من ماء واحد، يرفع القبطي دماً، والإسرائيل مَاءً. وعلى نحوة هذا الخبر روى أبو قتادة، وكذلك ذكر ابن عباس وغيرهما. حتى أنه رُوِيَ أن فرعون جمع (رجلين)، إسرائيلياً وقبطياً على إِناءٍ واحدٍ، فكان الذي يلي الإسرائيلي ماء، والذي يلي القطبي دماً. قال السدي: كان أحدهم يبني الأسطوانة، يرفع فقوها الطعام، فإذا صعد ليأكله وجده، (قد) ملئ دماً. قال ابن جبير: كان فرعون يجمع بين الرجلين على الإناء، القبطي والإسرائيلي، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دماً. وكان الرجل الإسرئيلي يركب السفينة مع القبطي فَيَغْرِفُ الإسرائيلي ماء،

ويَغْرِفُ القبطي دماً. وكانت المرأة القبطية، تأتي المرأة من بني إسرائيل، فتقول لها: اسقني من مائك من العطش، فتغرف لها من جَرَّتِها وتصب لها في قِرْبَتها، فيعود الماء دماً، حتى كانت تقول لها: اجعليه في فيك، ثم مُجِّيه في فِيَّ، فتأخذذ الإسرائيلية في فيها [ماء]، فإذا مُجَّتْهُ بِفِي القبطية، صار دماً، فمكثوا على ذلك سبعة أيام. قال ابن جبير، والحسن: كان إلى جنبهم كثيب أَعْفَرُ بقرية تدعى: " عَيْن شَمْس ": فمشى موسى، (عليه السلام)، إلى ذلك الكثيب، فيضربه بعصاه ضربة صار قُمَّلاً تدب إليه، وهي دواب سُودٌ صِغَار. فدبت إليهمن فأخذت أَشْعَارهم وأَبْشَارهم وأَشْفَار عيونهم، ولزمت جلودهم كالجُدَري، فاستغاثوا بموسى (عليه السلام). قالا:

وكان الرجل يضطجع فتركبه الضفادع رُكاماً حتى لا يستطيع أن ينصرف على شقه الآخر، ولا يعجن عجيناً إلا سقط فيه منه، ولا يطبخ قِدْراً إلا سقط فيه، فاستغاثوا. أرسل الله عليهم ذلك {آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ}، شيئاً، (بعد شيء) كان بين الآية والآية ثمانية أيام. ثم أخبر الله عنهم أنهم بعد هذه الآيات: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}، أي: تَعَظَّموا وتَجَبَّروا وعتوا عن أمر الله، ( D) .

134

قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز [قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ]}، الآية. قرأ ابن جبير، ومجاهد: " الرُّجْزُ "، بضم الراء. قال ابن جبير: لما ابتلي قوم فرعون بالآيات الخمس، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، قال موسى (عليه السلام) لبني إسرائيل: لِيَذْبَحْ كُلُّ رجل منكم كبشاً، ثم يُخَصِّب كفه من دمه، ثم يضرب به على بابه! ففعلوا، فقالت القبط لبني إسرائيل: لِمَ تجعلونن هذا الدم على أبوابكم؟ فقالوا: إن الله يرسل عليكم عذاباً، فنسلم وتهلكون وهكذا أمرنا نبينا، (عليه السلام)، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفاً، فأمسوا وهم لا يتدافنون. فقال فرعون ذلك لموسى (عليه السلام)،:

135

{ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ}، الآية، فالرجز: الطاعون. فدعا موسى (عليه السلام)، فكشف عنهم فوفى فرعون لموسى، وقال له: اذهب ببني إسرائيل حيث شئت، فكان أوفاهم كلهم. وقال مجاهد، وقتادة: {الرجز} /: هو العذاب الذي أرسل عليهم من الجراد والقمل وغيره، وهم في كل ذلك يعهدون إليه ثم ينكثون. ومعنى: {إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ}. أي: كشف الله عنهم العذاب في الدنيا إلى أجل هلاكهم وانقضاء أجلهم، فيغرقهم في البحر عند ذلك ويعاودهم العذاب. قوله: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ}، الآية. المعنى: فلما نكثوا انتقمنا منهم، {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم}.

137

و " الْيَمُّ ": البحر. ومعنى {وَكَانُواْ} عن آياتنا {غَافِلِينَ}، أي: لا يعتبرون صحتها، ويعرضون عنها. قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ [مَشَارِقَ الأرض]}، الآية. قوله: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا}، مفعول " بأورث ". وقال الفراء، والكسائي: هو ظرف. وتقدير الكلام عندهم:

{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} في {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} الأرض {التي بَارَكْنَا فِيهَا}، في مشارق الارض ومغاربها. ف (التي): مفعول ل: (أوْرَثْنَا). والمعنى: أورثنا بني إسرائيل، الذين كان فعرون يستخدمهم استضعافاً لهم، {مَشَارِقَ الأرض}، أي: أرض الشام، في قول الحسن، وهو ما يلي المشرق، {وَمَغَارِبَهَا} ما يلي المغرب، {التي بَارَكْنَا فِيهَا}، أي: التي جعلنا الخير فيها ثابتاً دائماً. وقال الليث: {الأرض}، هنا أرض مصر، وإِنَّ مصر هي التي بارك الله فيها. قال الليث: مصر مباركة في كتاب الله، جل ذكره، لقوله تعالى: {التي بَارَكْنَا فِيهَا}، قال: هي مصر، وهي مباركة. ومصر مشتقة من قولهم: مَصَرَ الشَّاةَ

يَمْصُرُهَا مَصْراً: إذا حلب كل شيء في ضرعها، فسميت: مِصْراً لاجتماع الخير فيها. وروي عن ابن عمر أنه قال. نيل مصرَ سَيّدُ الأنهار، وسخر الله، D له كل نهر بين المشرق والمغرب، وذلَّلَه له، فِإذا أراد الله، جل ذكره، أن يجري نيل مصر، أمر كل نهر أن يمده، فمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأنهار عيوناً، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله، سبحانه، أوحى الله، D، إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقال ابن عمر، وغيره في قوله، تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *

وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25 - 26]، قال: كانت الجنات بِحَافَتَيْ هذا النِّيل، من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً، ما بين: " أَسْوَان إلى: رَشِيد، وكان له سبعة خُلُج: خليج الإسكندرية، وخليج دِمْيَاط، وخليج سَرْدُوس، وخليج مَنْف، وخليج الفَيُّوم، وخليج المَنْهَى. وقيل: السابع، خليج سَخَا، كانت متصلة لا ينقطع

منها شيء عن شيء. وقوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، يعني المنابر. كان بها ألف منبر. وقوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا}، قل الطبري: لا يجوز أن تكون: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} نصباً على الظرف؛ لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم (أحداً) يؤمئذ إلا فرعون بمصر، فغير جائر أن يقال: {يُسْتَضْعَفُونَ} في مشارق الأرض وفي مغاربها. وقد غَلِطَ الطبري على الفراء؛ لأن الفراء لم يرد أنه ظرف: {يُسْتَضْعَفُونَ}، إنما

جعله ظرفاً مقدماً للأرض التي بورك فيها. فتقدير الكلام: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} الأرض التي باكرنا (فيها) في مشارق/ الأرض ومغاربها. وهذا أحسن في المعنى، وإن كان النصب بـ: {وَأَوْرَثْنَا} على أنه مفعول به أحسن. وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}. أي: تَممَّ الله ( D) لهم ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض ونصرهم على فرعون عدوهم، بِصَبْرِهم على عذاب فرعون لهم. وهذا يدل على أن الصبر عند البلاء أحمد من مقابلته بمثله؛ لأن البلاء إذا قوبل بمثله وُكِلَ فاعله إليه، وإذا قوبل بالصبر وانتظار الفرج من الله، جل ذكره، أتاهم الله، ( D) ، بالفرج الذي أملوه واننتظروه من الله، (سبحانه).

وقال مجاهد: هو ظهور قوم موسى على فرعون. و" الكلمة " هنا: قول موسى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض} [الأعراف: 129]. وقيل: هو قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5]، إلى {يَحْذَرُونَ} [القصص: 6]. وقوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ}. أي: أهلكنا ما عَمَّروْا وَزَرَعُوا.

{وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}. أي: (وأهلكنا) ما كانوا يبنون، أي: خَرَّبنا ذلك. والضم والكسر في " راء ": {يَعْرِشُونَ}، لغتان.

138

قوله: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر}، إلى قوله: {(بلاء) مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}. والمعنى: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعدما رَأَوا من الآيات والعِبر فلم يَتَّعِظوا بذلك ويزدجروا، حتى قالوا، إذ مَرُّوا بقوم مقيمين على أصنام لهم يعبدونها: {ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. و: {يَعْكُفُونَ}. يقيمون ويواظبون ويلازمون. والضم والكسر في " الكاف " لغتان.

فقال لهم موسى: (عليه السلام): {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}. أي: تجهلون نعمة الله ( D) ، عليكم وحقه، وتجهلون أنه لا تجوز العبادة إلا لله، (سبحانه). قال ابن جريج {على أَصْنَامٍ لَّهُمْ}، تماثيل بقر. ومن أجل ذلك شبه عليهم السامري بالعجل. يريد أنه من تلك البقر التي ريأتموها تعبد. فعبدوه أربعين يوماً. وهؤلاء القوم الذين مروا بهم عاكفون على عبادة الأصنام، قيل: هم من لخَمْ. قاله قتادة.

وقيل: بل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى (عليه السلام)، بقتالهم. قوله: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ (وَبَاطِلٌ)}. هذا خبر من الله ( D) ، عن قول موسى (عليه السلام)، لقومه. و {مُتَبَّرٌ}: مُهْلَكٌ، وباطل عملهم. وقال ابن عباس {مُتَبَّرٌ}: خُسْران. ومعنى {مُتَبَّرٌ}، عند أهل اللغة: مُهْلَكٌ ومُدَمَّر.

ثم قال لهم موسى: {أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها}. أي: أسوى أطلب لكم مَعْبُوداً، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين}، أي: عالم عصركم. ثم قال تعالى مخاطباً اليهود الذين بين ظَهْرَانيَ النبي، يقرعهم بما فعل بآبائهم: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ}، أي: واذكروا مع ما قلتم لموسى، (عليه السلام)، بعدما رأيتم من الآيات والعبر، {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب}، أي: يحملونكم على أقبح العذاب. وقيل معناه: يولونكم. ثم بينهما هو، فقال: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ

142

[عَظِيمٌ]}، (أي): اختبار من الله لكم. وقيل: معناه: نعمة عظيمة، يعني: في إنجائه لهم. ف: " الَبَلاَء " ها هنا يصلح أن يكون النِّعْمَة على إنجائهم. ويصلح أن يكون الاختيار فيما تولى منهم فرعون. قوله: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً}، الآية. قال الكلبي: لما قطع موسى (عليه السلام)، البحر ببني إسرائيل وغَرَّق الله (سبحانه)، فرعون، قالت بنو إسرائيل (لموسى) /: يا موسى، ائتنا بكتاب من ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر، فاختار موسى (عليه السلام) قومه سبعين

رجلاً لينطلقوا معه، فلما تجهزا قال الله (تعالى) لموسى: أخبر قومك أنك لن تأتيهم أربعين ليلة وذلك حين أتمت بشعر. فلما خرج موسى (عليه السلام) بالسبعين، أمرهم أن يتنظروه في أسفل الجبل وصعد موسى الجبل، فكلمه الله أربعين [يوماً وأربعين] ليلة، وكتب له فيها الألواح. ثم إن بني إسرائيل عدّوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فقالوا: قد أخلفنا موسى الوعد. وجعل لهم السامري العجل فعبدوه. وقال ابن جريج: لما نَجَّى الله موسى، (عليه السلام)، وأغرق فرعون وقومه، أمره ربه، ( D) ، أن يلقاه، فلما أراد أن يلقاه استخلف هارون على قومه، ووعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثن ليلة، ميعاداً من قِبَلِهِ، فلما تمت [ثلاثين] ليلة قال إبليس للسامري: ليس يأتيكم موسى؛ وما يصلحكم إلا إله تعبدونه! فناشدهم هارون ألا يفعلوا. وأحدث الله، تعالى، لموسى (عليه السلام) بعد الثلاثين أجلاً آخر إلى عشر ليال.

وقيل: إن السامري قال لهارون: يا نبي الله، إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حَلْيً كثيراً، وإن الجند الذين معك قد أسرعوا في الحَلْيِ يبيعونه، وإنما كان عاريةً من آل فرعون، وقد ماتوا، ولعل أخاك موسى إذا أتى يكون له فيه رأي، فإما أن يقربها قرباناً تأكلها النار، وإما أن يجعلها للفقراء دون الأغنياء! فقال له هارون: نعم ما قلت! فأمر بجمعها، وقال: يا سامري، أنت أحق من كانت عنده هذه الخزانة! فقبضها السامي، وكان صَائِغاً فصاغ منها عِجْلاً جَسَداً، ثم قذف في جوفه تُرْبَةً من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل (عليه السلام)، فجعل يخور، وقال لبني إسرائيل: إنما تخلف موسى بعد الثلاثين يلتمس هذا: {هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} [طه: 88]، يقول: إنَّ موسى نسي ربه. وقيل: إنه أمره الله أن يصوم ثلاثون يوماً، ويعمل فيها بما يقربه إليه، ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها.

وقيل: لما صام [موسى] ثلاثين يوماً ذكر خَلُوف فيه فاستاك بعود خَرُّوبٍ، فقالت [له] الملائكة: إنا كنا نستنشق من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك، وزيدت عليه العشر ليال. يقال: خلف الله عليكم بخير: إذا مات لهم من لا يُعْتَاضُ منه، مثل الوالدين. وأَخْلَفَ الله عليكم بخير: إذا مات من يُعْتَاض منه، كالزوجة وشبهها. قوله: {وَأَصْلِحْ}. أي: لا تدع العجل يعبد.

وقيل المعنى: أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله، ( D) . { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين}. أي: لا تسلك طريقهم. قال مجاهد الثلاثون ليلة: والقعدة، والعشر: عشر من ذي الحجة. وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، دل (به) على أن " العشر ": ليال، (وأنها ليست) بساعات.

143

وقيل: توكيد. وقيل: هو بمنزلة قولك إذا جملت الأعداد: فذلك كذا وكذا، أي: ليس بعد ذلك عدد. وقيل: إنما أعاد ذكر الأربعين لرفع اللَّبس؛ لأن العشر يحتمل أن تكون لغير المواعدة، فلما أعاد ذكر الأربعين مع لفظ المواعدة دل على أنها داخلة مع الثلاثين في المواعدة، وأن زمن المواعدة أربعون ليلة، ولو لم يعد ذكر الأربعين/ مع المواعدة لجاز أن يكون زمن المواعدة ثلاثين ليلة، والعشر لغير المواعدة، فبين ذلك بإعادة الأربعين. قوله: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، الآية. (ومعنى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ})، أي: أفهمه ما شاء من كلامه الذي ليس ككلام المخلوقين الي [هو] حركات اللسان وظهور الأصوات، فكلامه، D، ليس

ككلام الآدميين، إذ ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، وعلينا أن نقف حيث انتهى بنا العلم، ولا نُكَيّفُ وَنَحُدُّ، ونسلم الأمر لله، ( D) ، ونقول كما قال، ولا نشبه؛ لأنه، تعالى، قد نفى التشبيه [كله] بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. ومن لم يمد {دَكّاً}، جعله مصدر دَكَكْتَهُ: إذا كسَّرته وفتته. ومعناه: جعله مُفَتَتاً كالتراب والمَدَر. وشاهده قوله: {[إِذَا] دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} [الفجر: 21] ٍ، وقوله: {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14]، فتقديره: جعله مدكوكاً، ثم أقام المصدر مقام اسم المفعول.

وقيل: إن قوله: {جَعَلَهُ دَكّاً}، مثل: دُكَّه دُكَاً، فهو مصدر قد عمل فيه فعل من غير لفظه، فهو محمول على المعنى. ومن مد {دَكّاً}، فمعناه: جعله: " مِثْل دَكَّاء "، ثم حذف مثل، (وأجراه مُجْرى): {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وهو قول الأخفش. وقال قطرب المعنى: جعله أرضاً دكاء، ثم أقام الصفة مُقام الموصوف مثل: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83].

وقال الفراء: {دَكّاً} و {دَكّاً} مثل: " البَأْس " [والبَأْسَاء]، كأنه جعله بمعنى واحد. ومعنى الآية: قال الربيع في قوله، تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52]، حدثني بعض من لقي أصحاب رسول الله A، قال: قُرَّبه الرب، تعالى، إليه حتى سَمِعَ صَرِيفَ القَلَمِ، فقال عند ذلك من الشوق: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي}. قال السدي: لما كلمه، أحب أن ينظر إليه، فقال له: {لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}، فَحَفَّ الله حول الجبل ملائكته، وحَفَّ حول الملائكة بنار، وحَفَّ حول النار بملائكة، وحَفَّ حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل. وقال أبو بكر الهذلي: تخلف موسى بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله، سبحانه، اشتاق إلى النظر إليه فقال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي}،

(أي): ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا؛ فإن نم نظر إليّ مات، قال: إلهي، سمعت كلامك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأَن أنظر إليك ثم أموت، أحبّ إلي من أن أعيش ولا أراك: قال: فانظر {إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}. قال مجاهد: يعني أنه أكبر منك، وأشد خلقاً، فنظر موسى، (عليه السلام)، إلى الجبل لا يتمالك [و] أقبل يَنْدَكُّ على أوله. فلما رأى موسى (عليه السلام) ما يصنع الجبل، خَرَّ صَعِقاً. وقال الحسن: لما كلمه ربه دخل قَلْبَ موسى، A، من السرور من كلام الله ( A) ، ما لم يصل إلى قلبه مثله قط. فدعت موسى (عليه السلام)، نفسه

[إلى] أن يسأل ربه ( D) ، أن يريه نفسه، تبارك وتعالى، ولو كان عَهِدَ إليه قبل ذلك أنه لا يرى، ما سأله ذلك. ويروي: أن موسى عليه السلام مكث بعد أن كلمه ربه D أربعين ليلة لا يراه [أحد] إلا مات من نور رب العزة. قال وهب: كلم الله (سبحانه)، موسى في ألف مقام، فكان إذا كلمه الله، (سبحانه) رئي النور على وجهه ثلاثاً، وما قرب موسى، عليه السلام النساء مذ كلمه [الله]، جل وعز. قوله: {فَلَمَّا تجلى/ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}.

أي: اطلع (إلى) الجبل، {جَعَلَهُ دَكّاً}، أي مستوياً بالأرض {وَخَرَّ موسى صَعِقاً}، أي: مغشياً عليه لم يمت. قال ابن عباس: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر، {جَعَلَهُ دَكّاً}، أي: تراباً. وقال قتادة: {صَعِقاً}، [أي]: ميتاً. وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر. وقال أبو بكر الهذلي: انقعر الجبل فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.

وروى سفيان الثوري عن الكلبي [أنه] قال: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر الذي تحت الأرضين السَّبْع، فهو يهوي إلى يوم القيامة. وقال القُتْبي: {دَكّاً} ألصقه بالأرض. يقال: " نَاقَةٌ دَكَّاء ": إذا لم يكن لها سَنَامٌ. وقيل معنى دَكَكْتُ: دَقَقْتُ. أبدل من القافين كافان لقرب مخرجيهما. وكان الطبري يختار قراءة: (دكاء) بالمد؛ لأنه قد ثبت عن النبي، A، أنه (قال): " ساخ الجبل "، ولم يقل: " تفتت "، ولا " تحول تراباً ". وإذا ساخ

وذهب ظهر وجه الأرض، فصار بمنزلة (الناقة) التي ذهب سنامها. قوله: {فَلَمَّآ أَفَاقَ}. أي: من غشيته، {قَالَ سُبْحَانَكَ}، أي: تنزيهاً لك، يا رب، أن يراك أَحَدٌ في الدنيا، ثم يعيش، {تُبْتُ إِلَيْكَ}، عن مسألتي إياك الرؤية في الدنيا، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين}، أي: أولهم أنَّكَ لاَ تُرَى فِي الدُّنْيا. قال ابن عباس: مرت الملائكة بموسى وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحُيَّض، لقد سألت ربك شيئاً عظيماً! فقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ}، من سؤالي الرؤية في الدنيا، {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي أول من يؤمن، أي: يصدق بأنه لاَ يَرَاكَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِكَ فِي الدُّنْيا. قال ابن عباس: {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين}، أي: أول من آمن بك من بني إسرائيل. وقال مجاهد: وأنا أول قومي إيماناً.

144

قوله: {قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس}، الآية. والمعنى: اخترتك على الناس، {بِرِسَالاَتِي} التي أرسلتك بها إليهم {وَبِكَلاَمِي}، الذي ناجيتك به دون غيرك من خلقي، {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ}، أي: (خذ) ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به، واعمل به، {وَكُنْ مِّنَ الشاكرين}، على ما فضلتك به. قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ}، إلى قوله: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. المعنى: وكتبنا لموسى في ألواحه {مِن كُلِّ شَيْءٍ}، من التذكير والتنبيه على نعم الله، (تعالى)، وعظمته وسلطانه ومن المواعظ لقومه ومن الأمر بالعمل بما فيها، {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي: تبييناً لكل شيء من أمر الله (سبحانه)، في الحلال والحرام.

ومعنى: {مِن كُلِّ شَيْءٍ}، (أي): من كل شيء يحتاج إليه من أمر الدين. قال ابن عباس: إن موسى (عليه السلام)، لما كَرَبَهُ المَوْتُ، قال: هذا من أجل آدم! أنزلنا هاهنا! قال الله: يا موسى، أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله، جل وعز، آدم عليه السلام، سأله موسى، (عليه السلام)، فقال أبونا آدم (عليه السلام)،: يا موسى، سألت الله أن يبعثني إليك! قال موسى لولا أنت لم تكن ها هنا! قال له آدم (عليه السلام): [أليس] قد أتاك الله من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء أفلست تعلم أن {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كتاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22]، قال موسى: نعم، فخصمه (آدم عليه السلام).

قوله: {بِقُوَّةٍ}. أي: بِجِدَّ. وقيل: بالطاعة. ف: " الهاء " في " خُذْها " و " أَحْسَنها "، تعود على {الألواح}. وقيل: على " التوراة ". {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا}. أي: بأحسن ما يجدون فيها، وذلك أن يعملوا بما أمرهم ولا يعلموا بما نهاهم/ عنه. فمعنى {بِأَحْسَنِهَا}: ليس أنهم يتركون شيئاً من الحسن، إنما يعملون بالمعروف

ولا يعملون بالمنكر. وقيل: المعنى: {بِأَحْسَنِهَا} لهم، وهو العمل بما أمروا به، والانتهاء عما نُهُوْا. وقيل: ليس أفعل للتفضيل، إنما هو [بمعنى] اسم الفاعل، كما قيل: " الله أَكْبَرُ " بمعنى: كبير. فالمعنى: يأخذوا بالحسن من ناحيتها وجنسها وما يدخل تحتها (به). وقيل: إن المعنى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} يعملون بأحسن ما هو لهم مطلق مثل: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41]. ثم قال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]. فالانتقام جائز، (والعفو جائز)، والعفو أحسن، فكذلك أمروا أن يعملوا بأحسن ما أُبِيحَ لهم فعله. وقيل المعنى: إن التوراة كلها حسنة لكن فيها: أقاصيص الإحسان، والإساءة والطاعة، والمعصية، والفعو، والنقمة، فأمروا أن يأخذوا بأحسن هذه الأفعال التي نُصَّتْ عليهم. ومنه قوله: {يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. فإن قيل: إن فيها حكاية الكفر، والشرك، " وأفعل " يوجب التفضيل، فهل في هذا حسن دون

غيره، فذلك جائز كما قال: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221]. وقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين}. (هو) تهديد وتوعد لمن لم يأخذ بأحسنها وخالف ما فيها، والكلام، دَلَّ على ذلك. و {دَارَ الفاسقين}: النّار. وهو قول مجاهد، والحسن. وقال قتادة {دَارَ الفاسقين}: منازل الكافرين الذين سكنوا قبلهم من الجبابرة والعمالقة، وهي الشام. وقيل المعنى: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ [الفاسقين]}، فرعون وقومه، وهي مصر.

قال ابن جبير: رفعت لموسى، (عليه السلام)، (حتى) نظر إليها. قال قتادة: {دَارَ الفاسقين}، منازلهم التي كانوا يكسنونها تحت يدي فرعون. وقيل: المعنى: {سَأُوْرِيكُمْ} مصير الفاسقين في الآخرة، وما أعد لهم من أليم العذاب. وقوله: {سَأَصْرِفُ [عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض]}، [الآية]. أي: أحرمهم فهم القرآن، أي سأنزع منهم فهم الكتاب. قاله سفيان بن عُيَيْنَة.

وقال ابن جريج: سأصرفهم عن أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وأن يعتبروا بها. وقيل معناه: سأمنع قلوبهم من الفكرة في أمري. وقال أبو إسحاق المعنى: سأجعل جزاءهم، في الدنيا على كفرهم، الإضلال عن هدايتي. وقال الحسن المعنى: سأصرفهم عنها، حتى لا يؤمنوا بها. ومعنى {يَتَكَبَّرُونَ}، أي: يحقرون الناس، ويروا أن لهم فضلاً عليهم،

ويتكبرون عن الإيمان بالقرآن والنبي، ( A) . { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}. أي: وإن يروا كل حجة لا يصدقوا بها، ويقولون: هي سِحْرٌ وَكَذِبٌ. {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}. أي: وإن يروا طريق الهدى لا يتخذوه طريقاً لأنفسهم. و {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}. أي: وإن (يروا) طريق الهلاك والعطب يتخذوه لأنفسهم. ثم قال تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} آية. أي: فعلنا بهم أن صرفناهم عن آياتنا، من أجل أنهم {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ

عَنْهَا غَافِلِينَ}، أي: لا يتفكرون فيها، لا هين عنها. و (الرُّشْدُ) و (الرَّشَدُ): لغتان. وحُكِيَ عن ابن عمرو [بن العلاء] أنه قال: (الرُّشْدُ): الصلاح، والرَّشَد) في الدّينِ. ثم قال تعالى/: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة}، الآية. المعنى: وكل مكذب بالقرآن، والأدلة على توحيد الله، ( D) ، وينكر نبوة محمد ( A) ، والبعث، {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}، أي: بطلت.

148

(أعمالهم) وذهبت {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، أي: إلا ثواب عملهم في الآخرة. قوله: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ (عِجْلاً)} إلى قوله: {مِنَ الخاسرين}. قوله: {حُلِيِّهِمْ}، واحده: حَلْيٌ، مثل: فَعْلٌ. وباب " فَعْلٌ " أن يجمع في أكثر العدد على: فَعُول، فأصله: حُلُويٌّ، ك " قَلْب وقُلُوب "، ثم أدغمت الواو في الياء لسكونها قبلها، فصارت " حُلُيُّ " فاجتمع ضمان، بعدهما ياء شديدة، فاستثقل ذلك، فكسرت " اللام "، وبقيت " الحاء " على ضمتها لتدل على أنه جمع، [و] على أن الأصل في " اللام " الضم، إذ ليس في الكلام " فِعَيل ".

ومن كسر " الحاء "، أتبعها كسرة " اللام " ليعمل اللسان من حَيِّزٍ وَاحِدٍ. والمعنى: إن بني إسرائيل اتخذوا العجل الذي صاغ لهم السامريّ إلها، بعدمضي موسى (عليه السلام)، إلى ميقات ربه، ( D) ، وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى قد نسيه عندكم، ومضي يطلبه، وكان قد صاغه لهم من حَلْي بني إسرائيل الذي استعاروه من القِبْط، إذ خرجوا مع موسى، (صلى الله لعيه وسلم)، وروي أن موسى أمرهم بذلك. ومعنى: {جَسَداً}، لا رأس له. قيل: كان جثة لا رأس له. وقيل: معنى: {جَسَداً}، أي جثة لا يعقل ولا يميز.

{لَّهُ خُوَارٌ}. أي: صوت البقر، فَضَلَّ هؤلاء بما لا يجوز أن يَضِلَّ به أهل العقول. {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً}. أي: لا يرشدهم طريقاً ولا بكلمهم، وليس هذا من صفات الرب الذي له العبادة، بل صفته أنه يكلم أنبياءه، ويرشدهم إلى طريق الخير. ثم قال تعالى: {اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ}. أي: اتخذوا العجل إلها، {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} في ذلك، أي: واضعين الشيء في غير موضعه. {جَسَداً}، وقف عند نافع. والحسن أن يوقف على: {لَّهُ خُوَارٌ}؛ لأنه من صفته.

ثم قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ}. أي: ندموا على عبادته، {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ}، أي: علموا أنهم ضالون في عبادة العجل جائزون عن قصد السبيل، إذ عاينوه وقد حرق بالمِبْرَجِ ونسف في البحر، وهو لا يمنع ولا يدفع، {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا}، أي: يتعطف علينا بالتوبة. {وَيَغْفِرْ لَنَا}، أي: ما جنيناه من عبادة العجل، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين}، فأبى الله، تعالى، أن يقبل توبتهم إلا أن يقتلوا أنفسهم، على ما ذُكِرَ في سورة البقرة.

وفي حرف أُبَيٍ: " قالوا رَبَّنَا لَئِنْ لمْ تَرْحَمْنَا وَتَغَفِرْ لَنَ "، وهو شاهد لمن قرأ بـ: " التاء "، ونصب: {رَبُّنَا}. وله وجه آخر، وهو أن الدعاء يتضمن الخبر، ففيه معنيان، والخبر لا يتضمن الدعاء إنما فيه معنى واحد، فالنداء أبلغ. وقرئ: "ولما سقط ", بفتح السين: بمعنى: سقط الندم (فى ايديهم).

150

قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان}، الآية. كان هارون أخا موسى (عليه السلام)، شقيقه، وإنما قال له: {ابن أُمَّ}، لى طريق الاستعطاف بالرحم. فمن قرأ ي {ابن أُمَّ}، بالفتح، فالتقدير عند الكسائي، والفراء، وأبي عبيد: يا ابن أماه، ثم حذف. وهو عند البصريين يبنى ك " خَمْسَةَ عَشَرَ ".

ومن كسر " الميم "، فقال أبو حاتم، والأخفش: حذف الياء لدلالة الكسرة عليها، وهي لغة لبعض العرب، يقولون: يا غُلاَمَ غُلاَمِ أَقْبِل. وحكى الأخفش: هذا غُلاَمِ يا هذا، بغير ياء في غُلاَمِي. وأحسن منه عند أهل النظر: أن يكون بناء الاسمين اسماً واحداً، ثم أضافه بعد ذلك. وشبه أبو عمرو الفتح بقولهم: هُوَ جَارِي بَيْتَ بَيْتَ، ولقيته كِفَّةَ كِفَّةَ يا فتى.

ولا يفعل ما فعل في الأم والعم في غيرهما، لا يقال: يَابْنَ أَبِ ولا يَابْنَ أختِ، ولا شبهه، ولا يجوز الفتح إلا في الأم والعم، وذلك لكثرة الاستعمال. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار: " فَلاَ تَشْمَتْ بِيَ الأَعْدَاءُ "، بفتح " التاء " و " الميم "، ورفع: " الأعداء " بفعلهم، وهو مثل قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، أي: اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت. فالمعنى: فلا تشمت من أجلي

الأعداء. وحكى أبو عبيد عن حُمَيْد " تَشْمِتْ "، بفتح " التاء " وكسر " الميم ". ولا جه له؛ لأنه إنما يقال: " شَمِتَ " فإن سمع " شمت " بالفتح، فهي لغة من العرب، ولَمْ يَرُوْا ذلك. ومعنى الآية: أن الله (تعالى) أعلم موسى (عليه السلام)، أنه قد فتن قومه، وأن/ السامري قد أضلهم، فرجع موسى غضبان على قومه أسفاً عليهم. و" الأسف ": شدة الغضب.

وقال أبو الدرداء: " الأسف " منزلة وراء الغضب، أشد منه. وقال السدي: " {أَسِفاً}: حزيناً. وكذلك قال الحسن، وابن عباس. ومن هذا قولهم للعبد: " أَسيفٌ "؛ لأن مقهور، وحزين مستعبد، وكذلك قيل للأجير: " أسِيفٌ ": لأنه مستخدم، ومخزون على استخدام الناس له.

قوله: {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي}. أي: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم، في عبادتكم العجل. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ}. أي: أسبقتم أمره؟ يقال: " عَجِلْتُ الرَّجُلَ ": سبقته، و " أَعْجَلْتُهُ ": استعجلته. والفرق بين " العَجَلَة " و " السرعة "، أن العجلة: التقدم بالشيء قبل وقته، والسرعة: عمله في أقل أوقاته. {وَأَلْقَى الألواح}. أي: ألقاها غَضَباً على قومه. ثم أخذ برأس أخيه يجره إليه غضباً. قاله ابن عباس. [قال ابن عباس]: لما رجع موسى (عليه السلام)، إلى قومه، وصار قريباً منهم،

سمع أصواتهم، فقال: إنني لأسمع أصوات قوم لاهين، فلما عاينهم وقد عكفوا على العجل، ألقى الألواح فكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقال {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 92 - 93]. قال قتادة أخذ الألواح، وقال: رب، إني أجد في الألواح أمة (خير أمة) أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد قال: إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون في دخول الجنة، رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلُهُمْ في صدورهم يقرأونها، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون فُضُول

الضَّلاَلَةِ، حتى يقاتلوا الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، رب فاجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد قال: رب، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهمه، ثم يُؤْجَرُونَ عليها، [قال]: فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني إجد في الألواح أمة إذا هَمَّ أحدهم بحسنة، ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عمَلِهَا كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك [أمة] أحمد! قال: رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، رب فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب [إني] أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم، رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون والمشفع لهم، فاجعلهم أمتي قال:

تلك أمة أحمد (قال): فذكر لنا أن نبي الله (عليه السلام)، نبذ الألواح وقال: الله اجعلني من أمة أحمد قال: فأعطى الله موسى شيئين لم يعطها نبي، قال الله: {ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144]، فرضي موسى (عليه السلام)، والثانية قوله: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، فرضي موسى (عليه السلام) كل الرضى. ويروى أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستعة أسباعها، وبقي السبع، وكان فيما رفع: " تفصيل كل شيء ". وبقي: " الهدى والرحمة " في السبع الباقي. قال مقاتل: كانت لوحين. فيكون هذا مما جُمِعَ في مَوْضِعِ التَّثْنِية، كما قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]، يريد:

داوود وسليمان. وله نظار قد ذكرت. وقال الربيع بن أنس: كانت التوراة سبعين وسق بعير، يقرأ الجزء منها في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، وعيسى، وعُزَير، ويوشع عليه السلام. [و] قال ابن جبير: كانت الألواح من ياقوتة. وقال مجاهد: كانت من زُمَرُّدٍ أخضر. وقال أبو العالية: كانت من زَبَرْجَدٍ.

وقال ابن عباس: لما تكسرت رفعت إلا سدسها. وقال ابن جبير: كانت الألواح من زُمُرّدُ، فلما ألقى الألواح ذهب الفصيل، وبقي الهدى/ والرحمة، وهو قوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154]. وقال الفراء: ذكر أنهما كانا لوحين. وذك النحاس أنه قيل: إنما أخذ برأس (أخيه) هارون على جهة المسارة لا غيره، فكره هارون أن يتوهم من حضر أن الأمر على خلاف ذلك. فقال: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94]. وكان هارون أخاه لأُمِّهِ.

151

وقيل: شقيقه. {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين}. يعني: أصحاب العجل. قوله: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي}، إلى قوله: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. والمعنى، قال موسى، لما تبين له عُذْرُ أخيه: {رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي}، أي: اغفر لي من الغضب الذي من أجله ألقيت الألواح، واغفر لأخي ما كان من مساهلته في بني إسرائيل؛ لأن هارون إنما تركهم بعد أن نهاهم ووعظهم ولم يطيعوه، فتركهم خشية غضب موسى (عليه السلام)، ألا ترى أنه قال له: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94].

وقيل: إنما استغفر لذنوب كانت قبل ذلك الوقت؛ لأن غضبه كان الله [عليه السلام]. وهارون إنما ترك بني إسرائيل خوفاً أن يتفرقوا وَيَتَحَازَبُوا. وقيل: (بل) استغفر موسى من فعله بأخيه، واستغفر لأخيه من سَالِفٍ سَلَفَ بينه وبين الله، جل وعز. ثم قال تعالى مخبراً عما يؤول إليه أمر الذين اتخذوا العجل إلاهاً: {إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ}، أي: اتخذوه إلاهاً. قال ابن جريج: الغضب لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى، ولمن فرَّ إذ أمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، [وهي توبتهم].

154

وقيل: الذلة: أخذ الجزية. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين}. قال ابن عيينة: كلُّ صاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. وقيل الذلة: هو ما رأوه من ضلالتهم، وهو قوله: {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} [الأعراف: 149]. ثم قال تعالى: {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ}. أي: من عمل كبيرة أو صغيرة ثم تاب، تاب الله عليه، كما تاب على متخذي العجل إلاهاً. وقوله: {مِن بَعْدِهَا}، أي من بعد توبتهم، {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قوله: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب}، إلى قوله: {خَيْرُ الغافرين}.

قوله: {لِرَبِّهِمْ}. قال المبرد " اللاَّم " متعلقة بمصدر، والمعنى: {والذين} وَهَبَتُهُمْ لِرَبِّهم. وقال الكوفيون: هي زائدة. وسمع الكسائي الفرزدق يقول: " نَقَدتُ لَهَا مِائةَ دِرْهِمٍ "، بمعنى " نَقَدْتُهَا ". وحكى الأخفش: أن المعنى، والذين هم من أجل ربهم يرهبون.

والمعنى: ولّما سكن عن موسى (عليه السلام)، غَضَبُهُ. يقال: سَكَتَ سَكْتاً، إذا سَكَنَ، وسَكَتَ سُكُوتاً وسُكْتاً، إِذَا قَطَعَ الكَلاَمَ. {أَخَذَ الألواح}. أي: أخذها بعدما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب. وقيل المعنى: ولما سكت موسى، (عليه السلام)، عن الغضب، مثل: أدخلت القلنْسُوَةَ في رأسي. {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ}.

أي: فيما كتب منها هدى ورحمة، {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}، أي: يخافون الله، (عليه السلام). وقيل المعنى: في الذي وجد فيها بعدما تَكَسَّرَتْ هدى ورحمة. وقال ابن كيسان: جُدِّدَت له في لوحين. ثم قال تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا}. قال السدي: أمر ( D) موسى (عليه السلام)، أن يأتيه في ناس [من] بني إسرائيل، يعتذرون من عبادة العجل، فاختار منهم سبعين رجلاً، فلما أتوا ذلك المكان، قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فإنَّك قد كلمته. فَأَرِنَاه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى، (عليه السلام)، يبكي ويدعو ويقول: ربِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم، وقد أهلكت خيارهم، ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيَّاي! قال ابن عباس: لما مضوا معه ليدعوا ربهم، D، كان فيما دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله، D، ذلك من

دعائهم، فأخذتهم الرجفة. قال/ الكلبي: قال السبعون لموسى (عليه السلام): يا موسى، إن لنا عليك حقاً، كنا أصحابك، ولم نختلف عليك، ولم نصنع الذي صنع قومنا، فأرنا الله جهرة كما رأيته. قال موسى (عليه السلام): لا والله ما رأيته، ولقد أردته على ذلك فأبى، وتجلى للجبل، فكان دكاً، وهو أشد مني، وخررت صعقاً، فلما أفقت سألت الله D، واعترفت بالخطيئة. فقالوا: فإنا لن نؤمنن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا من آخرهم. فظن موسى (عليه السلام) أنهم إنما احترقوا بخطيئة أصحاب العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}، يعني أصحاب العجل، ثم بعثهم الله، ( D) ، من بعد موتهم. وروي عن علي أنه قال: انطلق موسى وهارون إلى صفح جبل فتوفى الله، ( D) هَارُونَ. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، قالوا له: أين هارون؟ قال: توفاه

الله ( D) قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينهِ، قال: فختاروا من شئتم! فاختاروا سبعين رجلاً، فلما انتهوا إليه، قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكن توفاني الله، ( D) ! قالوا: يا موسى لن تعصى بعد هذا اليوم (أبداً)، فأخذتهم الرجفة. فجعل موسى، (عليه السلام)، يرجع يميناً وشمالاً، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}، قال: فأحياهم الله، ( D) ، وجعلهم أنبياء كُلَّهُمْ. قال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة، ونزل بهم البلاء؛ لأنهم لم يرضوا بعبادة العجل، ولا نهوا عنه. والصحيح أن الرجفة إنما أخذتهم حين سألوا موسى، (عليه السلا)، أن يريهم الله جهرة.

قال ابن جريج: إنما أخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومهم حين اتخذوا العجل. وهو قول موسى، (عليه السلام)،: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}. وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل. قال السدي: كان موسى (عليه السلام)، يظن أن السبعين ممن لم يتخذ العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ}، أي: بما فعل غيرنا، فأوحى الله، ( D) ، إليه، أنّ هؤلاء ممن عبد العجل، فعند ذلك، قال موسى (عليه السلام): {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ}. وقيل: المعنى: أتهلك من بقي بما فعل هؤلاء السفهاء، إذ سألوا رؤية الله (سبحانه)، [جهرة]، وذلك أنه قال: لئن انصرفت إلى من بقي بغير السبعين

كفروا وهلكوا. فالسفهاء عل هذا، هم الذين كانوا معه، قال ذلك: بن إسحاق. وقال ابن زيد المعنى: أتهلك هؤلاء السبعين بما فعل غيرهم ممن عَبَدَ العجل. ومعنى {أَهْلَكْتَهُمْ}: أمتهم. قال ابن كيسان: المعنى {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ}، أي: بذنبهم، إذ لم ينهوا عن عبادة العجل. {وَإِيَّايَ}. أي: بذنبي، إذ قتلت القبطي، فرحمتنا، ولم تهلكنا بذنوبنا نحن. أفتهلكنا بذنوب الذين عبدوا العجل؟ أي: ليست تهلكنا بذلك. وقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ}. أي: [ما] هذه الفعلة التي فعلوا إذ عبدوا العجل، إلا فتنة منك أصابتهم. و" الفِتْنَةُ ": الابتلاء والاختيار.

156

وقال ابن جبير: {فِتْنَتُكَ}: بليتك. وقال ابن عباس: عذابك. {أَنتَ وَلِيُّنَا}. أي: ناصرنا. {فاغفر لَنَا}. أي: استر ذنوبنا. {وارحمنا}. أي: تَعَطَّفْ عَلَيْنَا. قوله: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ/ إِلَيْكَ}، الآية. [والمعنى: إن الله أعلمنا أن موسى دعاه فقال: {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً}،

وهي الصالحات من الأعمال، {وَفِي الآخرة}، أي: المغفرة. قال ابن جريج: {حَسَنَةً}، مغفرة. {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ}. أي: تبنا. وقال علي: إنما سميت اليهود يهوداً؛ لأنهم قالوا: {هُدْنَآ إِلَيْكَ}. قال الله، ( D) : { عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ}. أي: كما أصبت هؤلاء أصيب من أشاء من خلقي بعذابي. {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. أي: عمت خلقي كلهم. وقيل المعنى: إنَّه خُصُوصٌ، والمعنى: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة

محمد A، { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}. قال ابن عباس: جعل الله، ( D) ، الرحمة لهذه الأمة. وروى سفيان: أن إبليس لما سمع: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، قال: أنا من " الشيء " فنزعها الله ( D) من إبليسن قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}، فقالت اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة، وتؤمن بآيات ربنا أفنزعها الله من اليهود، فقال: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي}، الآيات كلها. فجعلها في هذه الآمة. قال الحسن: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، (وسعت) البَرَّ والفاجر في الدنيا، وهي للمتقين في الآخرة، وكذلك قال قتادة. وروى أبو هريرة، أن النبي A، قال: " إن لله، ( D) ، مائة رحمة، أنزل منها

رحمةً واحدةً بَيْنَ الخَلْقِ، الجِنَِّ، والإِنْسِ والبَهَائِمِ والهَوَامَ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَأ يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَتَعَاطَفُ الوُحُوشَ عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعاً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ". وقال عطاء: خلق الله ( D) ، مائة رحمة، فجعل رحمة واحدة بين خلقه، بما يتراحم الناس والبهائم والطير على أولادها، حتى إن الطير ليؤخذ على فراخه، وأخر تسعاً وتسعين رحمة لنفسه، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه الرحمة إلى التسع والتسعين فوسعت رحمته كل شيء. وعن كعب أنه قال: ينظر الله، ( D) ، إلى عبده يوم القيامة، فيقول: خذوه، فيأخذه مائة ألف ملك حتى يتفتت في أيديهم، فيقول: أما ترحموننا؟ فيقولون: وكيف نرحمك؟ ولم يرحمك أرحم الراحمين. روى جميعه نُعَيْم بن حماد.

قال ابن زيد: معنى: اكْتُبْ "، أي: أكتب في اللوح الذي كتب فيه التوراة. قال ابن عباس: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، أي: يتقون الشرك. وقيل المعنى: يتقون المعاصي. قال ابن عباس: {وَيُؤْتُونَ الزكاة}، أي: يعملون بما يُزَكُّونَ به أنفسهم من صالحات الأعمال. وروى زيد بن أسلم: أن عيسى، عليه السلام، قال: يا رب، نبئني عن هذه الأمة

المرحومة، التي جعلت فيها من الخير ما جعلت، قال: هم يا عيسى علماء حكماء، كأنهم أبنياء. وذكر زيد أيضاً: أن موسى، عليه السلام، قال: يا رب، نبئني عن هذه الأمة المرحومة، قال: أمة محمد، (عليه السلام)، قال: نعم، قال: (هم) يا موسى يرضون منّي بالقليل من العطاء إذا أعطيتهم، وأرضى منهم بالقليل من العمل، أدخل أحدهم الجنة، أن يقول: لا إله إلا الله. قال النحاس في معنى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، أي: من دخل فيها، لَمْ تعْجِز عنه. وقال ابن عباس: ومجاهد، وغيرهما: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، يعني أمة محمد، عليه السلام. قال ابن جبير: لما قال الله، ( D) ، لموسى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، قال

موسى: يا رب، أتيتك بِوَفْدِ بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا! فأنزل الله ( D) ، { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. قال قتادة: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل}، أي: يجدون نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ. {يَأْمُرُهُم بالمعروف}. أي: يأمر أتباعه بالمعروف. {وَ/يَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات}. وهو ما حرمته العرب من: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث}.

" الخبائث " عند مالك في هذه الآية: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والزنا، والخمر، وشبه ذلك. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}. أي: عهدهم الذي كان أخذ على بني إسرائيل أن يعلموا بما في التوراة، قاله ابن عباس: والحسن، وغيرهما. وقيل: هو ما أُلْزِمُوه مِن قَطْع ما أصابه البول. وقوله: {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}. هو قول الله، ( D) : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، من آمن بمحمد ( A) ، لم تُغَلَّ يده.

وقيل: الأغلال إنما هو تمثيل، وهي أشياء كُلِّفوها فصارت إلى أعناقهم لازمة بمنزلة الأغلال. {وَعَزَّرُوهُ}. أي: وقَّروه، وحَمَوْه من النَّاس. {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ}. أي: القرآن سمي نوراً؛ لأنه في البيان والاهتداء به، بمنزلة النُّور الذي يُهْتَدَى به.

158

وقرأ الجَحْدَري وعيسى: " وَعَزَرُوهُ "، مخففاً. وروي عن ابي بكر عن عاصم: " وَيَضَعُ عَنْهُمْ أَصْرَهُمْ "، بفتح الهمزة، لغة. قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، إلى قوله: {يَظْلِمُونَ}. والمعنى: {قُلْ}، يا محمد: {يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، أي: لست كمن قبلي من الأنبياء الذين يبعثون إلى بعض الناس دون بعض.

{الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ}. أي: وآياته. وقيل: {وَكَلِمَاتِهِ}: عيسى ابن مريم، ( E) . قاله مجاهد والسدي. ثم قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}. أي: يدعون الناس إلى الهداية بالحق. {وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. أي: في الحكم. وقيل: وبه يؤمنون. و" الأُمَّةُ " هنا: الجماعة.

قال ابن جريج: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبيائهم، وكفروا، وكانوا اثني عشر سِبْطاً، تبرأ سبط منهم مما علموا، واعتذروا، وسألوا الله ( D) ، أن يُفَرِّق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك حُنفاء مسلمين، يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج: قال ابن عباس: فذلك قوله: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104]. و {وَعْدُ الآخرة}: عيسى بن مريم يخرجون معه. قال ابن جريج: قال ابن عباس: ساروا في السَّرَب سنة ونصفاً. وقيل: هم قوم في منقطع من الأرض، لا يوصل إليهم، آمنوا بمحمد ( A) ، وأقاموا الحنيفية كأنهم بنو أب وأم، ليس لأحد منهم مالٌ دون صاحبه، يُمطرون في كل ليلة، ويصحون في النهار، يزرعون ويحرثون، ليس يدخر أحد منهم دون أخيه شيئاً، مقيمين على عبادة الله ( D) ، لا يبكون على ميت.

وقيل في معنى: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}: أنه يكون هدى لمن آمن منهم بمحمد ( A) ، ويكون لقوم قد هلكو. ثم قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً}. ف " أسباط " بدل من: {اثنتي عَشْرَةَ}. و {أُمَماً} نعت ل " الأسباط ". و" الأسباط ": الفرق. وقيل: هم القَرْنُ [الذي] يجيء بعد قَرْنٍ. و" الأسباط " في ولد إسحاق، (عليه السلام)، بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل. و" الأَسْبَاطُ ": مأخوذ من: السَّبط "، وهو شيء تَعْتَلِفُهُ الإبل، فكأن إسحاق (عليه السلام)، / بمنزلة شجرة، والأولاد بمنزلة أغصانها، فشُبّهَ ذلك

ب " السَّبَط ". وإنما أنث في {اثنتي}؛ لأن " الأسباط " في موضع الفرقة؛ فكأنه: اثْنَتَيْ عشرة فرقة. وقيل المعنى: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة أسباطاً. وقال بعض الكوفيين: إنما أُنِّثَ؛ لأن الكلام ذهب (به) إلى " الأمم "، فغلّبَ التأنيث، كما قال: وَإِنَّ كِلاَباً هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ ... وَأَنْتَ بِرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِها العَشْرِ فأنَّث ذهب بـ " البطن " إلى القبيلة.

وقال بعضهم: " إنما أنث لذكر " الأُمَمِ " بعد ذلك. وقيل: المعنى: وقطعناهم قطعاً اثْنَتَي عَشْرَةَ، فأنث لتأنيث " القطعة "، ودل على ذلك: " قَطَعْنا ". و" أسباط " ليس بِتَفْسير للعدد؛ لأن حق هذا أن يفسر بواحد؛ وإنما هو بَدَل. ثم قال: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ}. أي: لما فرقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسباطاً، أوحينا إليه إذا عطشوا، {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر}، وقد تقدم ذكر ذلك في البقرة. {فانبجست}.

161

أي: انفجرت. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}. أي: لا يدخل سبط على سبط في شربه. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام}. يعني: من حر الشمس، وذلك في التِّيهِ، وقد تقدم ذكر هذا في البقرة. قوله: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية}، إلى قوله: {يَظْلِمُونَ}. قال الفراء، والكسائي: " خَطَايَا " جمع خَطِيَّة، على ترك الهمز، ك: " مَطِيَّة "، و " وَصِيَّة ". وقال المازني: هي " فَعائِل "، أصلها همزتهان فأبدل من الثانية ياء، فأشبهت مضيف " الخطايا " إلى نفسه، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا فصارت:

" خطاءا "، والهمزة أخت الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فأبدل من الهمزة ياء، فصارت: " خطايا ". ولسيبويه والخليل قول مشهور قد ذكر في غير هذا الموضع. والأصل عند الفراء في " مَطِيَّة " و " وَصِيَّة " أن يجمع على: فَعَائِل "، إلا أنه لو جمع على ذلك للزم حذف الياء، فيصير ك: " غَوَاشٍ " فتختل، فنُقل جَمعُهُ إلى " فَعَال "، فردت اللام قبل الياء الزائدة وفتح، ك: " أسير " و " اسارى "، ثم أجرى هذه العلة في " خطية ". ومعنى الآية: إن الله، جلّ ذكره، يقول لنبيه، (عليه السلام): واذكر، يا محمد، خطأ فعل هؤلاء وخلافَهُم لأمر ربهم، حين قال لهم [الله]: {اسكنوا هذه القرية}، وهي قرية بيت المقدس، {وَكُلُواْ مِنْهَا}، أي: من ثمارها وحبوبها ونباتها، {حَيْثُ شِئْتُمْ}، أي: أين شئتم منها. وقوله: {حِطَّةٌ}.

163

أي: حط عنا ذنوبنا، {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم}، أي: يستر ذنوبكم، {سَنَزِيدُ المحسنين}، أي: نزيدهم على ما وعدتهم من الغفران. (قوله): {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ}. أي: غَيَّروا ما أُمروا أن يقولوا. قيل لهم: قولوا: {حِطَّةٌ}، قالوا: " حنطة في شعير "، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء}، أي عذاباً، فأهلكناهم بفعلهم وتغييرهم وفسقهم. وقيل: هو طاعون أخذهم، فهلك خَلقٌ مِنْهُمْ. وقد ذكر في البقرة. قوله: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر}، إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. قوله: {إِذْ يَعْدُونَ}.

{إِذْ}: في موضع نصب بالسؤال، أي: واسألهم عن وقت عدوانهم. {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ}. أضيف الظرف عند سيبويه لكثرة الاستعمال. وهو عند المبرد مضاف إلى المصدر محمول على المعنى. وهو عند الزجاج على الحكاية. والعامل في الظرف الفعل الذي بعده. ومعنى الآية: واسأل، يا محمد، هؤلاء اليهود الذين يجاورونك، عن أَمْرِ {القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر}. أي: بقربه/ وشاطئه.

قال الكلبي: ذكر لنا أنهم كانوا في زمن داود، (عليه السلام)، وهي: أَيْلَةَ، وهو مكان كان تجتمع فيه الحيتان في شهر من السنة كهيئة العيد، يأتيهم منها حتى لا يرى الماء، وتأتيهم في غير ذلك من الشهور في كل سبت كما تأتيهم في ذلك الشهر، فلا يمسوا منها شيئاً. فعمد رجالٌ من سفهاء تلك القرية، فأخذوا الحيتان ليلة السبت ويوم السبت، فملحوا وباعوا، ولم ينزل بهم عقوبة، فاستبشروا، وقالو: إنا نرى السبت قد حُلَّ، وذهبت حرمته، إنما كان يعاقب به آباؤنا، فعملوا ذلك سنين، حتى أثرَوْا وتزوجوا النساء، واتخذوا الأموال. فمشى إليهم طوائف صالحون فوعظوهم، وقالوا: يا قوم، انتهكتم حرمة سبتكم، ووعظوهم فلم يتعظوا. وسؤاله، ( A) ، إياهم إنما كان على جهة التقرير لهم والتبكيت، ويذكرهم

بقديم كفرهم وفسقهم، وقد كان الله ( D) ، أعلمه بأمر القرية. قال ابن عباس، وعكرمة هي: " أيلة "، وكان ذلك في زمن داود (عليه السلام)، وكذلك قال السدي، وغيره. وقال قتادة: هي ساحل مَدْيَنَ. [قال ابن زيد: هي قرية] يقال لها " مَقْنَا "، بين مدين وعَيْنُوناً. وقال ابن شهاب: هي: طَبَرِيَّة.

وعن ابن عباس أيضاً: أنها مَدْيَنَ. وأما قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} [يس: 13]، فأكثرهم على أنها أنطاكية. ومعنى: {إِذْ يَعْدُونَ [فِي السبت]}. أي: [إذا] يعتدون إلى ما حرم الله، ( D) . [ و " العُدْوَانُ ": التجاوز إلى ما حرم الله]. وكان الله تعالى ذكره، قد حرم عليهم السبت، فكانت الحيتان تقل في سائر الأيام، وتكثر في يوم السبت. ابتلاهم الله، (تعالى)، بذلك فاصطادوا فيه وتركوا

ما حرم الله عليهم، فتجاوزوا الحق، فكانت تأتيهم يوم سبتهمه، {شُرَّعاً}، أي: ظاهرة على الماء. وقال ابن عباس {شُرَّعاً}: من كل مكانٍ. يقال: سَبَتَ يَسْبِتُ: إذا استراح. وقرأ الحسن: " ويَوْمَ لاَ يُسْبِتُونَ "، بضم الياء، من: " أَسْبَتَ القَوْمُ "، إذا دخلوا في السبت. ورُوي ذلك عن أبي بكر عن عاصم، كما يقال: " أهلَلْنَا "، دخلنا في الهلال، و " أَجْمَعْنا " مرت بنا جمعة. {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم}.

أي: نختبرهم. قال قتادة: ذُكِرَ لنا أنه دُخِلَ على ابن عباس، وبين يديه المصحف، وهو يبكي، وقد أتى على هذه الآية {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} [الأعراف: 165]، الآية. فقال: قد عَلِمْتُ أن الله تعالى، أهْلَكَ الذين أخذوا الحيتان، ونَجَّى الذين نَهَوْهُمْ، ولا أدري ما الذي صنع بالذين لَمْ يَنْهَوْا، ولم يُواقِعُوا المعصية. قال الحسن: وأي نهي يكون أبين من أنهم أثبتوا لهم الوعيد، وخوّفوهم العذاب، فقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً}. {لاَ تَأْتِيهِمْ}، وقف، عند نافع، والأخفش. ثم قال تعالى: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ}. أي: واذكر، يا محمد، إذ قالت طائفة من أهل [هذه] القرية، إذ ظهر من أكثرهم ما يُنْكَرُ عليهم، فأنكر ذلك طائفة، فقالت هذه الطائفة التي حكى الله عنها، للطائفة التي أنكرت ما يجب أن ينكر: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} سيلحقهم أحد هذين: العَذَابُ،

أو الهَلاَكُ، قالت الطائفة التي أنكرت: {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. فمن رفع: {مَعْذِرَةً} فتقديره: قالوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرَةٌ، أي: إنما يجب علينا أن نأمر بالمعروف، [وننهى عن المنكر]، و {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، وَعَظْنَاهُمْ. ومن نصب: فعلى المصدر، كأنهم قالوا: اعتذاراً. وقيل: النصب على تقدير: فَعَلْنَا ذَلِك/ مَعْذِرَةً. وَرُوِيَ وجها النصب عن الكسائي. وفرَّق سيبويه بين الرفع والنصب، واختار الرفع، قال: لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا من أمر لِيُموا عليه، ولكنّهم قيل لهم: لم وعظتم؟ فقالوا: مَوْعِظَتُنَا مَعْذِرةٌ.

ولو قال رجل لرجل: مَعْذِرَةً إِلَى اللهِ، ثُمَّ إِلَيْكَ مِنْ كَذَا، يريد: اعْتِذَراً، لَنصَبَ؛ لأنه إنما اعتذر من أمر ليمَ عليه. والمعنى: واذكر، يا محمد، {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ}، أي: جماعمة الجماعة، كانوا ينهون أهل المعصية عن معصيتهم، {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً}، قال الذين كانوا يعظون: عظتنا معذرةٌ إلى ربكم، نؤدي بذلك فرضه عليها، {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وَعَظْنَاهُم. قال ابن عباس: كلا الطائفتين كانت تنهى الباقين عن المنكر، فلما طال ذلك، قالت إحدى الطائفتين للأخرى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}، فلما نزل العذاب نجبت الطائفتان: التي قالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} والتي قالت: {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ}، وأهلك الله، ( D) ، أهل المعصية، فجعلهم قردة وخنازير. قال السدي: قال الواعظون: بعضهم لبعض: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}.

وروي عن ابن عباس، وغيره، أنه قال: كانوا أثلاثاً، ثلث نَهَوْا، وثلث قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ}، وثلث أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نَهَوْا. قال الله ( A) : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} [الأعراف: 165]. ورُوِيَ عنه أنه قال: نجا الناهون، وهلك الفاعلون، وما أدري ما فعلب بالساكتين. وقال الكَلْبِي هم فرقتان: فرقة وعظت، وفرقة قالت: {لِمَ تَعِظُونَ}، وهي المَوْعُظَةُ. وذلك أن الخاطئة لما كثر عليها الوعظ، قالت: للواعظين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} على قولكم. وقد مضى من ذكر هذا في البقرة جملة. وقال الكلبي: كانوا فرقتين: قالت الصالحة للطالحة: يا قوم، انتهكتم حرمة سبتكم، وعصيتم ربكم، وخالفتم سنة نبيكم، فانتهوا عن هذه العمل قبل أن ينزل بكم العذاب. قالت الطالحة: فلم تعظوننا إذا كنتم علمتم أن الله، ( D) ، مهلكنا،

165

وإن أطعتمونا لتفعلن كالذين فعلنا، فقد فعلناه منذ سنين، فما زادنا الله بذلك إلا خَيْراً. قالت الصالحة: ويلكم، لا تَغْتروا، [ولا] بأس الله، (سبحانه)، فكأنه نزل بكم، قالت لهم الطالحة: ف {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ}، الآية. فهم فرقتان على قول الكلبي. وثلاث فرق على قول أكثر المفسرين. قوله: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ}، إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. والمعنى: فلما تركت الطائفة التي نهيت عن السؤ، ما أمرها الله ( D) به من ترك الاعتداء. وقيل: نسوا موعظة من وعظهم من المؤمنين، {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء

وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}، أي: وجيع أليم. قاله ابن عباس. وقيل: {بَئِيسٍ}: رديء. وقال مجاهد {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}: أليم شديد. وقال قتادة {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ}: موجع. وقال ابن زيد {بَئِيسٍ}: شديد. قوله: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ}. أي: تجاوزوا وتمردوا. و " العاتي ": المتمرد المتجاوز في الحق.

{عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ}، [أي]: عن اعتدائهم في السبت، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً}، فصاروا قردة، {خَاسِئِينَ}، [أي]: مبعدين. وذلك في زمن داود، (عليه السلام)، وهو قوله: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ} [المائدة: 78]، صاروا قردة كلهم، ومسخوا في زمن عيسى (عليه السلام)، خنازير، فذلك قوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 78]. / قال ابن عباس: صار شباب القوم قردة، وشيوخهم خنازير. يقال: خَسَأْتُ الكلب: أبعدته وطردته.

وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ (كُونُواْ)}. جائز أن يكون أُمِرُوْا بذلك، فيكون أبلغ في الآية والقُدرة. وجائز أن يكون من قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. ثم قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة}. روى الأصبهاني عن أصحابه عن ورشٍ: (تأذَّنَ)، بتسهيل الهمزة. والمعنى: واذكر، يا محمد، إذا أعْلَمَ رَبُّك. فمعنى {تَأَذَّنَ}: أَعْلَمَ والعرب تقول: " تعلم " بمعنى " أعلم ". وقال مجاهد {تَأَذَّنَ}: قال.

وقال قتادة {تَأَذَّنَ رَبُّكَ}: أمر ربك. ومعنى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ}. أي: ليبعثن على اليهود {مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب}، وهو قتلهم إن لم يؤدوا الجزية، وذلتهم إن ودوها. قال ابن عباس: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد، A، وأمته، إلى يوم القيامة. قال ابن المُسَيَّب: يستحب أن يبعث الأنباط في الجزية. {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب}. أي: لمن استوجب منهم العقوبة. {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. أي: لسائر ذنوب من تاب، متعطف عليه.

168

قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون}، إلى قوله: {المصلحين}. روى أبو بكر عن عاصم: " وَقَطَعْنَهَمْ "، بالتخفيف. والمعنى: وفرقنا بني إسرائيل في الأرض {أُمَماً}، أي: جماعات شتى. ففي كل أرض قوم من اليهود، {مِّنْهُمُ الصالحون}، أي: منهم من يؤمن بالله ورسله، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك}، وصفهم بهذا قَبْلَ كُفْرِهِمْ وارتدادهم عن دينهم، وقَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ عِيسَى (عليه السلام). {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات}. أي: بالرخاء، والسعة في الرزق، {والسيئات}، بالجدب والمصائب، أي: اختبرناهم بذلك، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى طاعة الله (عزو جل). قوله: {أُمَماً}، وقف. و {دُونَ ذلك}، وقف.

و {والسيئات}، وقف. ثم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}. أي: حدث من بعدهم خَلْفُ سُوْءٍ، يعني: أبناءهم. و" الخَلْف ": الرديء من القول، ومن الأنباء، يقال للواحد والاثنين والجميع، بلفظ واحد. ويقال في المدح: " هذا خَلَف صِدْقٍ "، بتحريك اللام، ولَزِمَ تسكن اللام فيه، هذا الأشهر. وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح، قال حسان:

. . .، وَخَلْفُنَا ... لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تابعُ والخَلَفُ السُّوْءِ، مأخوذ من قولهم: " خَلَفَ اللَّبَن "، إذ حمض حتى فسد، ومن قولهم: " خَلَفُ فَمِ الصَّائِمِ "، إذا تغير ريحه. وقال مجاهد: " الخَلْف " في الآية يراد به النصارى بعد اليهود. {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى}. يعني الرشوة على الحكم في قول الجميع. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}. يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مغفور، لا نؤاخَذُ به. والثاني: أنه ذنب، لكن الله قد يغفره لنا، تأميلاً منهم لرحمته.

وهو ما عَنَّ لهم من عرض الدنيا حلالاً كان أو حراماً، يأخذونه ويتمنون المغفرة، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا}، وإن وجدوا بعده مثله، أخذوه، فهم مُصِرُّونَ على أخذه، وإنما يتمنى المغفرة من أَقْلَعَ عن الذنب، فلم يعد إليه، ولاَ نَوَى الرجوع إلى مثله. قال ابن جبير: يعملون بالذنب ثم يستغفرون منه، فإن عرض لهم ذنب رَكِبُوه. و" العَرَضُ " عنده: الذنوب. قال السدي: كان بنو إسرائيل لا يَسْتَقْضُونَ قَاضِياً إِلاَّ ارْتَشَىِ في الحُكْمِ، فيقال له في ذلك، فيقول: {سَيُغْفَرُ لَنَا}، فيطعن عليه بقية بني إسرائيل. فإذا مات جعل مكانه رجل ممن كان يعطن عليه، فيرتشي، أيضاً، ثم لاَ يَثُوبُونَ. قال ابن زيد: يأتيهم المحق برشوة، فيخرجون له كتاب الله، ثم يحكمون له بالرشوة/ فإذا جاءهم الظالم بالرِّشوة، أخرجوا له الكتاب الذي كتبوا بأيديهم،

وقالوا: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ ميثاق الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}، وهو عَرَضُ الدنيا، هو الرُّشَى في الحكم، فيحكمون له بما في الكتاب، فهو [في كتابهم]، محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله ( D) : { هذا [مِنْ عِنْدِ الله] لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79]. المعنى: ألم يؤخذ عليهم الميثاق، ألا يعملوا إلا بما في التوراة، و {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق}. [قال ابن عباس: {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق}، يعني [فيما] يوجبون به من غفران ذنوبهم التي هم عليها مصرون. وقوله: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}. معناه: ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه، فَنَبَذُوهُ، وعملوا بخلاف ما فيه.

171

وقال ابن زيد: علَّموه، فَعَلِمُوا ما فيه. ثم قال: {والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. أي: ما فيها من النعيم. قوله: {يَأْخُذُوهُ}، وقف. وكذا: {إِلاَّ الحق}. وكذا: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ}. ثم قال: {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب}. أي: يعملون بما فيه التوراة، {وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين}، [ي: أجر المُصلِحِ منهم]. قوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} الآية.

والمعنى: واذكر يا محمد، {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل}، أي: اقْتَلَعْنَاهُ فرفعناه [فوق] بني إسرائيل. وقيل: نَتْقَنَاهُ ": زعزعناه. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ}. أي: غَمَامَةٌ. و" الكاف " من {كَأَنَّهُ}، في موضع نصب على الحال، أي: نتقناه مُشْبِهاً الظلة، أي: في هذه الحال. ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محمول على المعنى. أو يكون خبر ابتداء محذوف، [أي]: هو {كَأَنَّهُ [ظُلَّةٌ]}. {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ}.

أي: أيقنوا بذلك، إذ هو فوق رؤوسهم. {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ}. أي: وقيل لهم: خذوا ما في الكتاب من الفرائض بجدٍّ وَعَزْمٍ، ولا تقصروا في أداء فرائض الله ( D) ، التي فيه، وإلاَّ خَرَّ عليكم الجبل فأهلككم فقالوا: بل، نأخذه بقوة، أي: بجد وعزم، ثم نَكَثُوا بعد ذلك. هذا قول ابن عباس. قال ابن عباس: إني لأعلم لأي شيء سجدت اليهود على حَرْفِ وُجوههم: لما رفع الجبل فوقهم سجدوا، وجعلوا ينظرون إلى الجبل بِشقِّ وجوههم، خوفاً ان يقع عليهم. قال: وكانت سجدةً رضيها الله ( D) ، فاتخذوها سُنَّة. قال قتادة: نزع الله ( D) ، الجبل من أصله، ثم جعله فوق رؤوسهم، وقال: لتأخُذَنَّ أمري، أو لأرمينّكم به.

وقال ابن جريج: كانوا قد أبَوْا أن يقبلوا التوراة. وروى حجاج عن أبي بكر بن عبد الله أنه قال: لما قيل لهم: اقبلوا ما في التوراة، قالوا: انشر علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة، قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها، قالوا: حتى نعلم ما فيها، فراجعوا موسى (عليه السلام)، مراراً فأوحى الله، ( D) ، إلى الجبل فانقلع وارتفع في السماء، حتى إذا ان بين رؤوسهم وبين السماْ، قال لهم موسى (عليه السلام): ألا ترون ما يقول ربّي عز جل؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها رميتكم بهذا الجبل. قال الحسن البصري: لما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجل منههم ساجداً على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه/ اليمنى إلى اجبل، فَرَقاً أن يسقط عليه، فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفعت عنَّا بها العقوبة. قال أبو بكر بن عبد الله: لما نشر موسى (عليه السلام)، الألواح فيها كتاب

172

الله D، كتبه بيده ويده صفة له، لا يد جارحة، تعالى الله أن يوصف بجارحة، إذْ ليس كمثله شيء، لمي يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر، (ولا شيء) إلا اهتز، فليس اليوم يهودي على الأرض من صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه. وقيل: كان نَتْقُ الجبل أنه قُطِع منه شيء على قدر عَسْكَر موسى (عليه [السلام])، فظلل عليهم، وقال لهم موسى (عليه السلام)، إمَّا أن تقبلوا وإمَّا أن يسقط عليكم. قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، الآية. حجة من قرأ " ذُرَّيَّات " بالجمع، أنها الأعقاب المتناسبة الكثيرة.

ومن قرأ {ذُرِّيَّتَهُمْ}، بالتوحيد، قال: إنها قد أُجْمِعَ عليها في قوله: {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} [مريم: 58]، ولاشيء كثر من ذريته ( A) ، فدلت على الكثير بنفسها. ومعنى الآية: واذكر، يا محمد، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ}، أي: استخرج الأبناء من أصلاب الآباء، فقررهم بتوحيده، وأشهدهم على أنفسهم بإقرارهم، أي: أشهد بعضاً على بعضٍ بالإقرار بالتوحيد. قال ابن عباس: أخذ الله، ( D) ، اليثاق من ظهر آدم (عليه السلام)، بنَعْمَان يعني: عرفة، فأخرج من صلبه كل ذريته، فَنَثَرهُم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلمهم قَبَلاً، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، فأشهد بَعْضَهُمْ على بعضٍ

بذلك الإقرار. وقال الضحاك: إن الله (سبحانه)، مسح صلب آدم، (عليه السلام)، فاستخرج منه كلّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق: أن يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئاً، وتكفَّل لهم بالأَرْزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذٍ فمن أدرك منهم الميثاق (الآخر) فَوَفَى به، نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك (الميثاق) الآخر فلم يفِ به، لم ينفعه الأول، ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر، مات على الميثاق الأول على الفطرة. رَوَى ذلك عن ابن عباس. ومنه قول النبي A: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتَّى يكُونَ أَبَوَاهُ اللَّذَانِ يُهوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ ".

والميثاق الأول، هو: ما أخذه الله، ( D) ، عليهم إذ أخرجهم من ظهر آدم، (عليه السلام). والميثاق الآخر، هو: قبول فرائض الله، (سبحانه)، والإيمان به، وبرسالة النبي عليه السلام، وبما جاءت به الرسل. وروى ابن عمر عن النبي، A، أنه قال: " أُخذوا من ظهره، كما يُؤْخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى}، قالت الملائكة: {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} ". وقال عمر بن الخطاب Bهـ، سمعت النبي A، يقول: " إن الله جلَّ وعزّ، خلق آدم (عليه السلام)، ثم مسح ظهره بيمينه، (سبحانه)، فاستخرج منه ذرية، فقال: " خلَقْتُ هَؤلاَءِ لِلْجَنَّة، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَّنَةِ يَعْمَلُونَ ". ثم مسح ظهره فاستخرج منه

ذرية، فقال: " [خَلَفْتُ] هَؤُلاَءِ لِلنّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ ". فقال/ رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال: إن الله (تعالى)، إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخِلُهُ الجَنَّةَ. وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْنَّارِ، اسْتَعَمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيُدْخِلُهُ النَّارِ ". وقيل معنى: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ}، دلهم على توحيده؛ لأن كل بالغٍ سالمٍ من العاهات، يَعْلَمُ ضرورةً أنَّ لَهُ رَبّاً واحِداً. وقيل: إنَّ الآية مَخْصُوصَةٌ؛ لأنه قال: {مِن بنيءَادَمَ}، فخرج من هذا من كان من ولد آدم (عليه السلام)، لصلبه وقال (الله) D: { أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ}، فخرج منها كل من له آباء مشركون. وقال أُبَيُّ بن كعب: جمعهم جميعاً، فجعلهم أَزوَاجاً، ثم صوَّرهم، ثم استنطقهم، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى}؛ أنَّكَ رَبَّنَأ وإلهَنَا، لا رب لنا غيرك، ثم أخبرهم بما ينزل عليهم من كتاب وما يرسل إليهم من الرسل، وأمرهم أن يؤمنوا بذلك.

ومن قرأ بـ: " الياء " في: {[أَن] تَقُولُواْ}، {أَوْ تقولوا}، رده على: {ظُهُورِهِمْ}، و: {ذُرِّيَّتَهُمْ} و {وَأَشْهَدَهُمْ}، وبعدها، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. فلما جرى الكلام قَبْلُ وَبَعْدُ على لفظ الغَيْبَة، أجرى وسطه على ذلك. ومعنى الكلام: أنهم لما أقروا، قال الله عزّ وجل، للملائكة: " اشْهَدُوا "، قالت الملائكة: {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ}. ومن قرأ: بـ: " التاء " ردّه على المخاطبة في قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}، وهي أقرب من لفظ الغَيْبَة إلى: {تَقُولُواْ}.

قال أُبيُّ بن كعب: ولما أخرج الله ( D) ، الذرية كانت الأنبياء، (صلوات الله عليهم)، فهم مِثْلُ السُّرُوج، عليهم النور، فخصوا بميثاق آخر: الرِّسَالَةِ والنُّبوَّةِ، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7]، الآية. فكان في علمه من يكذّب الأنبياءَ ومن يصدِّق. قال: وكان روح عيسى ابن مريم، (عليه السلام)، تلك الأرواح التي أخذ عليها العهد، فأرسل الله، ( D) ، إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. قال الله جلّ وعزّ. {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17]. قال: فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى، (عليه السلام). قال ابن جبير: فكانوا يُرَوْنَ أن القلم يومئذٍ جَفَّ بِمَا هَوَ كَائِنٌ.

قال ابن جبير: فكانوا يُرَوْن أن القلم يومئذٍ جفّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ. ومعنى: {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ}، عند السدي: أنه خبر من الله، ( D) ، عن نفسه (تعالى)، وملائكته، بالشهادة على بني آدم، كيلا {تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}. والوقف على هذا القول {بلى}. وقال ابن عباس: المعنى، إن بضعهم شهد على بعض. فالمعنى: {قَالُواْ بلى} شهد بعضنا على بعض كيلا {تَقُولُواْ

يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ}، أي: كل بعض يقول: شهدنا على البعض الباقي، كيلا يقولوا: كذا. {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ}: وابتعناهم، {أَفَتُهْلِكُنَا}، بإشراك آبائنا واتباعنا منهاجهم على جهل منا؟ فالوقف على قول ابن عباس: {المبطلون}. و {بلى} وقف عند نافع، والأخفش، وأبي حاتم، وغيرهم. وهذا يدعل على أنَّ الشهادة كانت من الله ( D) ، وملائكته على المُقِرِّنَ. وهو قول مجاهد، والضحاك، والسدي. وهذا حسنٌ على قراءة [من قرأ] بـ: " التاء "، فيكون {شَهِدْنَآ}، ليس من كلام الذين قالوا: {بلى}.

ومن قرأ: بـ: " الياء " فأكثر أهل العربية يقولون: [{أَن تَقُولُواْ} متعلقة بـ: {وَأَشْهَدَهُمْ}، والمعنى: وأشهدهم على أنفسهمه كراهة] {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا/ غَافِلِينَ}، فالتمام (على هذا): {المبطلون}. وقال ابن الأنباري والسجستاني {بلى شَهِدْنَآ}، التمام، وهو غلط؛ لأنّ {أَن} متعلقة بـ: {أَشْهَدَهُمْ} أو بـ: {شَهِدْنَآ} على قراءة من قرأ بـ: " الياء ". فأما على تفسير ابن عباس: أن المعنى: [و] شهد بعضهم على بعض، فالتمام: {المبطلون} لأن {شَهِدْنَآ}، من قول الذين قالوا: {بلى}.

175

ومعنى: {أَفَتُهْلِكُنَا}، أي: لست تفعل ذلك. (وقوله): {وكذلك نُفَصِّلُ [الآيات]}. " الكاف ": في موضع نصب. والمعنى: وكما فصلنا، لقومك، يا محمد، آيات هذه السورة، كذلك نفصل الآيات غيرها فنبيِّنها لقومك، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى الإيمان. قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}، إلى قوله: {يَتَفَكَّرُونَ}. والمعنى: {واتل}، يا محمد، عليهم: {نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}، وهو رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن باعر، (أعطي: معرفة اسم الله [الأعظم]. وقيل: أُعْطِيَ النبوة.

قال ابن عباس: بُلْعَم بن بَاُعُور.) وقال ابن جبير: كان معه اسم الله، فسألوه أن يدعوَ على موسى وأصحابه ألا يدخل مدينتهم، فأبى، فخوفه الملك بالقتل والصلب والتحريق، فدعا، فاستجاب الله له، فلم يصل موسى، (عليه السلام)، إلى دخولها، ودعا موسى عليه أن ينسيه الله، ( D) ، اسمه الذي يدعو به، فأنساه الله، ( D) ، إياه، وَنَزَلَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ. قال ابن عباس: كان من مدينة الجَبَّارِينَ. وقيل عنه: كان من اليمن.

وقيل: هو أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت الثقفي، كان قد قرأ الكتب، وعرف الوقت الذي يبعث فيه محمد ( A) ، ويخبر الناس بذلك، فلما بعث، حسده وكفر به، وقال: والله ما كنت لأؤمن بنبيٍ من غير قومي ثقيف أبداً. وقال عكرمة: هو من كان منافقاً من أهل الكِتَابَيْن. قال الحسن: هو المنافق. وقال الأنصار: هو الراهب الذي بني له مسجد الشِّقَاقِ.

قال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه. قال ابن عباس: أعطي كتباً من كتب الله. وقال مجاهد: أوتي النبوة، فَرَشَاهُ قومه على أن يَسْكُتَ، ففعل، وتركهم على ما هم عليه. وكذلك قال المعتمر بن سليمان عن أبيه. وهو قول مردود؛ لأن النُّبُوَّةَ لاَ يَكُونُ حَامِلُهَا قَابِلاً لِلْرِّشْوَةِ فِيهَا، يُعيذ اللهُ الأَنْبِيَاءَ مِنْ ذَلِكَ. وهذه كبيرة عظيمة، وكل الناس على أن الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الكَبَائِرِ، فغير جائز هذا القول الذي رُوِيَ عن مجاهد، والمعتمر.

وروى سيار عن مالك [بن دينار، أنه قال]: بعث نبي الله موسى، (عليه السلام)، بَلْعَام، وكان مجاب الدعوة، إلى ملك مدْين يدعوه إلى الله، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى. ففيه نزلت هذه الآية: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا}. وقال السدي: أعطي اسم الله الأعظم. وروي ذلك عن ابن عباس. قال ابن عباس: لما نزل موسى عليه السلام بالجبارين، سأل الجبارون بَلْعَم بن (باعُور) أن يدعو على موسى، فقال لهم: إني إن دعوت عليه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليه، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله:

{فانسلخ مِنْهَا}. وعن ابن عباس، {فانسلخ مِنْهَا}: نُزعَ منه العلم. {فَأَتْبَعَهُ الشيطان}. أي: أدركه. يقال: " أَتْبَعَه ": إذا أدركه. و: " تَبِعَه ": / إذا سار في إثره. هذا الجَيِّدُ. وقيل: هما لغتان. وقيل: معنى: " أَتْبَعَه ": صَيَّره لنفسه تابعاً ينتهي إلى أمره في معصية الله سبحانه. {فَكَانَ مِنَ الغاوين}. أي: من الهالكين. وقيل: من الخائنين. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}.

أي: لرفعناه بعلمه {بِهَا}. وقيل: المعنى: لرفعناه عن الحال التي صار إليها من الكفر. وقال مجاهد: {لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}، (أي): لرفعنا عنه. أي: لعصمناه مما فعل. وقيل: المعنى: لأَمَتْنَاهُ قبل أن يَعْصِيَ فرفعناه إلى الجنة. {بِهَا}. [أي]: بتلك الآيات.

{ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض}. أي: سكن إلى الدنيا وشهواتها، {واتبع هَوَاهُ}. وأصل " الإِخْلاَدِ ": الإقَامَةُ. قال المعتمر بن سليمان عن أبيه: كان بَلْعَام رجلاً، أوتي النبوة، وكان مُجاب الدعو، وإنَّ موسى (عليه السلام)، أقبل في بني إسرائيل ويريد الأرض التي فيها بَلْعَام فرعب الناس، وأتوا بلعام، وسألوه أن يدعو على موسى، (عليه السلام)، وجنده فقال: حتى أُؤَامِرَ ربي ( D) ، فوامر في الدعاء عليهم، فنهي عن ذلك، فقال لقومه: قد أمرت ألا أدعوا، فأهدوا إلأيه هدية فقبلها، ثم راجعوه أن يدعو على موسى (عليه السلام)، فقال: حتى أُؤَمِرَ ربي، فوامر ولَمْ يُؤْمر بشيء، فقال لهم: قَدْ وَامرت، فلم أؤمر بشيء فقالوا: لو كَرِهَ الله ( D) ذلك لنهاك كما نهاك أولاد فأخذ يدعو على

موسى (عليه السلام)، فرد الله ( D) ، لسانه بالدعاء على قومه، فأخذ يدعو بالفتح لقومه، فرد الله، ( D) ، لسانه بالدعاء بالفتح لموسى (عليه السلام)، وقومه، فقالوا: ما نراك تدعو إلا علينا قال: ما يجري لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه ما استديب لي، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم: إن الله ( D) ، يبغض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، فأَخْرِجوا النساء يستقبلنهم، فإ، هم قوم مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، وكان للمك ابنة ذات جمال، فقيل لها: لا تُمَكِّنِي نفسك إلا من موسى! قال: ووقعوا في الزنا، وأتاها رأسُ سبطٍ من أسباط بني إسرائيل، فأرادها على نفسها، فقالت: ما أنا بمُمَكِّنةٍ نفسي إلا من موسى! وروادها عن نفسها، فأرسلت إلى أبيها فقال لها: أَمْكِنيه (من نفسك)، فلما أمْكَنَتْهُ، أتاها رجل من بني هارون معه رُمْحٌ فانتظمها جميعاً، فرفعهما على رمحه. فرآهما الناس ثم سلط الله ( D) ، عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً.

قال سيّار: ركب بلعام حمارة له، فجعل يضربها فلا تتقدم. قال: وقامت عليه، وقالت: عَلاَمَ تضربني؟ ألا ترا هذا الذي بين يديك! أنطق الله، ( D) ، الحمارة، قال: فإذا الشيطان بين يديه. قال: فنزل فسجد له، فذلك أنْسِلاخُهُ. وَرُوي أنه لما دعا موسى (عليه السلام)، تلكم لسانه بالدعاء على قومه، ثم اندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: ذَهَبْت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، وسأمكر لكم وأحتال: جَمِّلوا النساء، وأعْطُوهنَّ السِّلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر، ومُرُهُنَّ ألا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنَّهم إن زنى رجل واحد منهم كُفِتُمُوهُمْ؛ فوقع رجل من عظماء بني إسرائيل بامرأة، فأرسل الله (عزو جل)، الطاعو فيهم، فهلك منهم سبعون ألفاً.

ثم قال الله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب}. أي: مثله، إذ لم ينتفع بما أُوتي مثل/ الكلب الذي لا ينتفع بترك الحمل عليه، هو يلهث على كل حال. فكذلك هذا، هو ضال على كل حال، لا ينتفع بما أوتي من الآيات، كما لم ينتفع الكلب بترك الحمل عليه. وقيل: إن هذا مثل من يتلو كتاب، كالله ( D) ، ولا يعمل به، هو مثل الكلب لا ينتفع بترك الحمل عليه، ولا يترك اللهث. كذلك هذا لا ينتفع بقراءة كتاب الله (عز وجل)، فيعمل. هو مثل من لا يقرأه ولا يعمل به. ومعنى {تَحْمِلْ عَلَيْهِ}. تطرده وتشرده، فهو يلهث طردته [أو تركته].

وكان الحسن يقول: هو المنافق. قال قتادة: هُوْ مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله ( D) ، لكل من عُرِضَ عليه الهدى فَلَمْ يَقْبَلَهْ. قال السدي وغيره: كان بَلْعَم، بعد ذلك، يلهث كما يلهث الكلب. قوله: {واتبع هَوَاهُ}، وقف. {أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}، وقف. ثم قال تعالى: {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}. أي: ذلك المثل الذي ضربتُه لهذا الذي انسلخ من آياتنا {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}. {فاقصص القصص}. أي: اقصص عليهم هذا القصص الذي اقتصصته عليك من نبأ آتيناه

177

[آياتنا]، (وما حل به من عقوبتنا، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: يعتبرون فيعلموا صحة نُبُوَّتِكَ، إذْ كان نبأَ {الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا})، من خَفْي عُلُومِهِمْ، ومَكْنون أَخْبَارَهِمْ، لا يعلمه إلا من قرأ الكتب ودرسها. وفي أخبارك ذلك لهم وأنت أُمِّيٌّ لم تقرأ ولم تدرس، دَليلٌ على نُبُوتَّك، وصدق قولك، وأنَّ ذلك عندك بِوَحْيٍ مِنَ السَّمَاءِ. قوله: {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}، إلى قوله: {هُمُ الغافلون}. قال الأخفش: التقدير: سَاءَ مثلاً مَثَلَ القوم. وقرأ الجُحْدَرِيُّ: " سَاءَ مَثَلُ القَوْمِ "، برفع " المثل "، وإضافته إلى " القوم ".

وقوله: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي}، أي: من يوفقه الله ( D) ، إلى الإسلام {فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون}، أي: من يخذله فلا يوفقه إلى الإسلام فهو خاسر، أي: خسر نفسه في الآخرة، وذلك أعظم الخسارة. روى عبد الله بن عمر أن النبي A، قال: " ما هلكت أُمَّةٌ قطُّ إلا بالشرك بالله، (سبحانه)، وما أشرَكَتْ أمة قط حَتَّى يَكُونَ بَدءُ شركها التَّكذِيبَ بِالقدَرِ ". وروى زيد بن ثابت: أن النبي A، قال: " إن الله ( D) ، لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وأرضه لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمْ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كانت رَحْمَتُهُ خَيْراً لَهُمْ مِنْ أَعْمَالهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً فِي سَبِيل الله ما قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِن بِالقَدَرِ، وتعلم أنَّ ما أًصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، فَإِنْ مِتّ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارِ ". ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس}.

{ذَرَأْنَا}، أي: خلقنا. قال سعيد بن جبير: أولاد الزَّنا مما خلق الله، (سبحاه)، لجهنم. يعني: الكفرة منهم. رواه [ابن عمر] عن النبي ( A، أنه قال: " لَمَّا ذَرَأَ اللهِ لِجَهَنَّمِ مَا ذَرَأ، كان وَلَدِ الزِّنا ممَّا ذَرَأ ". {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}. أي: لهؤلاء الذين ذرأ لجهنم، {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الهدى. أي: لا يفقهون [بها] شيئاً من أمر الآخرة.

{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا}، الهدى. {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ}، الحق. وقيل: {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا}، أي: لا يتفكرون في آيات الله، (سبحانه) / وأدلته، (جلت عظمته) على توحيده، وحججه التي أتت بها الرسل، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} آيات الله، (سبحانه، وأدلته جلت عظمته)، {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ}، أي: لا يسمعون آيات الله، (سبحانه) فيعتبرون. يقولون: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]. وهو نظير قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. {أولئك كالأنعام}. في جهلهم وقلة تمييزهم للحق.

180

{بَلْ هُمْ أَضَلُّ}. يعني أن البهائم لا تميْيزَ لها، يلزمها نقص في جهل. وهؤلاء لهم تمييز، فالنقص له لازم في جهلهم. فهم أشَدُّ نَقْصاً في الجهل من البهائم. والبهائم مع عدم تمييزها تطلب لأنْفُسِهَا المنافع، وتفر من المضار، وهؤلاء لا يعقلون ذلك، يتركون ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم، ويلزمون ما فيه مضرتهم، فه أضل من البهائم. {أولئك هُمُ الغافلون}. أي: الذين غَفَلُوا عن مصالحهم ومنافعهم، وَغَفَلُوا عن آيات الله، (سبحانه)، وحججه وأعلامه الدالة على توحيده (سبحانه)، وَصِدْق رُسُلِهِ. قوله: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه}، الآية. " الإلْحَادُ " في اللغة: الجَوْرُ والميل عن القصد. قال الكسائي: يقال: " أَلْحَدَ ": عدل عن القصد. و " لحَدَ ": رَكَنَ إلى الشيء. وعلى ذلك قرأ {يُلْحِدُونَ} في " النحل "، [يعني]: يَرْكنُونَ.

واللغة الفصيحة، " أَلْحَدَ " الرجل في دينه: إذا مال وجار. و " لَحَدَ " القبر. وقد تدخل [كل) واحدة منهما على الأخرى. ومعنى: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ}. قال بعض العلماء: هو نهي من الله، ( D) ، أنْ يُدْعى بِمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُوْصَفَ بِهِ، وذلك أنهم عدلوا بأسمائه فسموا ببعض اشتقاقها وبعض حروفها آلهتهم. قالوا: " اللات " مشتق من الله " الله ". وسموا بـ: " العزى "، أخذوه من " العزيز ". قال مجاهد: أخذوا " العُزَّى " من " العِزَّة ". قال ابن عباس {يُلْحِدُونَ}: يكذبون. وقال قتادة: يشركون.

181

وقال ابن زيد: هذا مَنْسُوخٌ نسخه القتال. وقيل: إنَّ هذا مُحْكَمُ، وإنما هو تَهْدِيدٌ وَوَعيدٌ من الله ( D) ، لا أنه (تعالى)، أمر نبيه (عليه السلام)، أن يتركهم يلحدون في آيات الله ( D) ، وهو مثل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3]. قوله: {فادعوه بِهَا}، وقف. {في أَسْمَآئِهِ}، وقف. قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق}، إلى قوله: {يَعْمَهُونَ}. والمعنى: ومن الذين خلقناهم {أُمَّةٌ}، أي: جماعة يقْضُون {بالحق وَبِهِ

يَعْدِلُونَ}، أي: يأخذون به، ويعطون به. قال ابن جريج: ذكر لنا أن نبي الله، (عليه السلام)، قال: " هذه أمتي ". وقال قتادة: هي هذه الأمة. وروى سعيد بن جبير [عن قتادة) أن النبي ( A، كان يقول إذا قرأ هذه الآية: هَذِهِ لَكُمْ، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها، يعني قوله: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]. ثم قال تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ}. أي: سَنُمْهِلُهُمْ بغرتهم، ونُزَيِّنُ لهم سوء أعمالهم، حتى يحسب أنه في كفره

مُحْسِنٌ فإذا بلغ الغاية الت كتبت له، أُخذ بأعماله السيئة من حي لا يعلم. وأصل " الاسْتِدْرَاجِ ": اغترار المستدرج بلُطْفٍ حتى يورّطه مكروهاً وَهَلَكَةً. ثم قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}. أي: وأؤخرهم مدة من الدهر. و" المَلاَوةُ ": القطعة من الدهر، يقال بضم " الميم " وفتحها وكسرها، لغات فيها.

{إِنَّ كَيْدِي}، أي: إنَّ عذابي. {مَتِينٌ}، أي: شَديدٌ. وقيل: " الكَيْدُ " هنا: هو أخذهم من حيث لا يشعرون. وأصل " الكَيْدُ ": المكر. وقرأ ابن عباس: " أَنَّ كَيْدِي "، بفتح الهمزة، جعل " أَنَّ ": مفعولاً من أجله، أي: من أجل أنّ الكيد متين وقع الإملاء. {وَأُمْلِي لَهُمْ}، وقف. {لاَ يَعْلَمُونَ}، وقف.

إن جعلت {وَأُمْلِي} مُسْتَأْنفاً. ثم قالت تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ}. أي: يتفكروا في أَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ، وأَنَّ الحَقَّ/ ما دعاهم إليه. ثم قال: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ}. قال قتادة: ذكر لنا [أن] النبي (عليه السلام)، كان على الصفا، فدعا قريشاً وجعل يُفَخِّذُهم فَخِذاً [فَخِذاً]: " يا بني فلان، يا بني فلان "، يحُذِّرُهُمْ بأس الله ( D) ، ووقائع الله، (تبارك وتعالى)، فقال قائلهم: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٌ! بَاتَ يُصَوِّتُ إلَى الصَّبَاحِ "، (فأنزل الله، D) ،: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}،

أي: ينذركم عقاب الله، ( D) ، على كفركم. {مُّبِينٌ}. أي: قد أبانَ لكم إنذارهُ. و: {مِّن جِنَّةٍ}. أي: من جنون. ومثلهُ في سورة " سبأ ". {مِّن جِنَّةٍ}، وقف. {تَتَفَكَّرُواْ}، وقف حسن، ومثله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ} [الروم: 8]، ومثله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} [سبأ: 46] في " سبأ ". ثم يتبدئ بـ: {مَا}، وهي: للنَّفِيْ في الثلاثة المواضع.

ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ}. والمعنى: أولم ينظر هؤلاء المكذبون، في ملك السموات والأرض وسلطانها، وفيما خلق الله، ( D) ، فيتدبروا، فيعلمون أنّ ذلك لا يحدثه إلا رب واحد، والله واحدٌ لا شبيه له، فيؤمنوا ويصدقوا، ويتفركوا في: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ}، فيحذروا أن يموتوا على كفرهم فيصيروا إلى عذاب الله، (سبحانه). وقيل: إنهم كذبوا يُسَوِّفون بالتوبة والإيمان، فقيل لهم: عسى أن يكون أجلكم قد قرب، فتموتوا على كفركم. قال سفيان: {مَلَكُوتَ السماوات} [الأنعام: 75]: الشمس والقمر.

{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. أي: فبأي تخويف بعد تخويف محمد، ( A) ، الذي أتاهم به من عند الله ( D) ، في آي كتابه {يُؤْمِنُونَ}، وهو القرآن. ثم قال تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}. أي: هؤلاء الذين كفروا ولم يتعظوا، إنما كان لإضلال الله، ( D) ، إياهم، ولو هداهم لا عتبروا وأبصروا رشدهم، فلا هادي لهم إذ أضلهم الله. وقوله: {وَيَذَرُهُمْ}. من قرأ بـ " الياء "، رده على اسم الله، (سبحانه).

ومن قرأ بـ: " النُّونِ "، جعله على الإخبار من الله، (سبحانه)، عن نفسه. ومن قرأ بـ: " الرفع " قَطَعَهُ مما قبله، أو عطفه على مضع ما بعد " الفَاءِ " وهو الرفع؛ لأن " الفَاءَ " ترفع ما بدها من الأفعال. ومن جَزَمَ، عطف على موضع " الفَاءِ "، لأنه لو وقع موضع " الفَاءِ " فِعْلٌ جُزِمَ على الجَزَاءِ، فالعطف على موضع " الفَاءِ " يُوْجِبُ الجَزْمَ. ومعنى {وَيَذَرُهُمْ}، أي: ندعهم، {فِي طُغْيَانِهِمْ}، أي: في تماديهم

187

على الكفر، {يَعْمَهُونَ}، يترددون ويَتَحيَّرونَ. قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}، الآية. {مرساها}: مبتدأ، و {أَيَّانَ}: الخبر. والمعنى على قول قتادة: أن قريشاً قالت للنبي (صلى الله عليه السلام)، إنَّ بيننا وبينك قرابة، فأسِرّ إلينا متى الساعة! فنزلت الآية. وقال ابن عباس: أتى قوم من اليهود إلى النبي ( A) ، فقالوا له: أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً؟ أي: متى قيامها؟ و {مرساها} من: أَرْسَيْتُ، إذ أثبت. يقال: رست: إذا ثبت. وأرسيتها:

أثبتها. قال الله، ( D) ، لنبيه (عليه السلام)، {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا}، أي: [لا] يظهرها ويقيمها لوقتها إلا الله، ( D) . / يقال: جَلَّى فلان الأمر، إذَا كَشَفَهُ وَأَوْضَحَهُ وَأَظْهَرَهُ. {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض}. أي: ثقل على أهل السموات والأرض أن يَعْلَمُوا وَقْتَ قِيَامِهَأ. قال السدي: المعنى: خفيت في السموات والأرض، فلا يعلم قيامها مَلَكٌ مُقَرَّب وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ. وقيل المعنى: ثقل علمها عليهم.

وقيل: المعنى: كَبُرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض. قاله الحسن. وقال ابن جريج: {ثَقُلَتْ}، معناه: إذا جاءت انشقت السماء، وانتشرت الكواكب، وكُوِّرت الشمس، وسيِّرت الجبال، وكان ما قال الله، ( D) . فذلك ثِقَلُها. وحكى السدي عن بعض العلماء: {ثَقُلَتْ}: عَظُمَتْ. وقيل المعنى: {ثَقُلَتْ} المسألة عنها. وقال القُتَيْبِي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، أي: خَفِيَ. وَإِذَا خَفِيَ الشَّيْءُ ثَقُلَ.

{لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}. أي: فجأة. قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن نبي الله [عليه السلام]، كان يقول: " إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ النَّاسَ، والرَّجُلُ يُصْلِحُ حَوْضِهُ، والرَّجُلَ يَسْقِي مَا شِيَتَهُ، والرَّجُل يُقِيمُ سِلْعَتَهُ في السُّوْقِ، وَيَخْفِضُ مِيزَانُهُ وَيَرْفَعُهُ ". وروى أبو هريرة: أن النبي A، قال: " تَقُوْمُ السَّاعَةُ والرَّجُلاَنِ قَدْ نَشَرَا ثَوْبَهُمَا يبيعانه فما يطويانه حتى تقوم الساعة، وتقوم الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فِيهِ فما تصل إلى فِيهِ حتى قوم الساعة ". ثم قال: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}. أي: يسألونك عنها {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بهم، أي: فرحٌ بسؤالهم.

وقال ابن عباس: {كَأَنَّكَ} بينك وبينهم مودة، أي: {كَأَنَّكَ} صديق لهم. قال قتادة: قالوا له: نحن أقرباؤك، فأسِرَّ لنا متى (تقوم) الساعة؟ فأنزل الله، تعالى، {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}، (أي): بههم. وقيل: إنَّ الكَلاَمَ لاَ تَقْدِيمَ فِيهِ وَلاَ تَأْخِيرَ. والمعنى: يسئلونك {كَأَنَّكَ} استحفيت المسألة فعلمتها. قال مجاهد. وقال الضحاك: {كَأَنَّكَ} عالم بها. ف " عن " في مَوضِعِ " الباء ". كما جاز أن تقع " الباءُ " في موضع " عَنْ " في

قوله: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59]، أي: عنه. وقيل المعنى: {كَأَنَّكَ} فَرِحٌ بسؤالهم. يقال: حفيت بفلان في المسألة، إذا سألته عنه سؤالاً أظهرت فيه المحبة. وأحفى فلان بفلان في المسألة، تأويله الكثرة. ويقال: حفى الدابة يحفى حفىً مقصورٌ، إذا أكثرت عليه المشي حتى حفى أسفل رجله. والحَفَاءُ، ممدود: مشي الرَّجُل بغير نعل. وقدره المبرد: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} بالمسألة {عَنْهَا}، أي: مُلْحّ، ومكثر السؤال عنها. وقوله {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}.

188

أي: علم وقوعها. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي}،. أي: علم كنهها وحقيقتها. ف " العِلْمَانِ ": مختلفان، وليس ذلك بتكرير. وقرأ ابن عباس: " حَفيٌّ بِهَا ". {إِلاَّ هُوَ}، وقف. {عَنْهَا}، وقف، على القولين جميعاً. قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله}، إلى كقوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}. والمعنى: قل يا محمد، لسائليك عن الساعة: {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أن يملكنيه، بأن يُقوِّيني عليه، ويعينني، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: أعلم ما هو كائن {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، أي: من العمل الصالح. وقال ابن جريج: لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي: هدى ولا ضلالة، {وَلَوْ

كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: متى أموت، لاستكثرت من العمل الصالح. وقال مجاهد مثله. وقال ابن عباس: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: أعلم السَّنَةَ الجَدْبَة من الخصبة، لاستكثرت من الرُّخْصِ. وقيل: {[وَ] لَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب}، أي: مَا كَتَبَ الله. وقيل: لو كنت أعلم ما تسرونه وما يقع بكم حتى تحذروا مكروهه أن تجيبوني إلى ما أدعوكم {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير}، أي: من إجابتكم إلى ما أدعوكم. {وَمَا مَسَّنِيَ السوء}، منكم بتكذيب أو عداوة. وقال الحسن {مِنَ الخير}: من الوحي.

وقيل: المعنى: لو كنت أعلم النصر في الحرب لقاتلت فلم أُغلب. وقيل: المعنى: لو كنت أعلم ما يريد الله مني من قبل أن يُعَرِّفَنِيه لفعلت. وهو اختيار النحاس. {وَمَا مَسَّنِيَ السوء}، أي: الضر. وقيل: {وَمَا [مَسَّنِيَ]} تكذيبكم وقولكم: مجنون. ثم قال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}. يعني: آدم، [عليه السلام]. وجعل {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}. يعني: حواء خلقت من ضِلْعٍ من (أَضْلاعِ) آدَمَ. {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.

ليأوي إليها، لقضاء حاجته ولذته. {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا}. كناية عن الجِمَاعِ. {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}. يعني: الماء الذي حملته حواء من آدم، عليهما السلام. {فَمَرَّتْ بِهِ}. أي: استمرت به، قامت وقعدت، وأتممت الحَمْلَ. وقيل: المعنى: {فَمَرَّتْ بِهِ}، وجاءت لم ثقلها الحَمْلَ أولاً. قال قتادة: {فَمَرَّتْ بِهِ}، إستبان حَمْلُها.

وقال مجاهد: [استمر] حَمْلُها. وقيل معنى " فَمَرَّتْ بِهِ ": فشكَّت، أحملت أم لا؟ رُوِيَ ذلك عن ابن عباس، وقاله: يحيى بن يعمر. ورُوي: أن البطن الذي ثقل عليها حمله، كان البطن التاسع، وكانت البطون التي قبله خفيفة عليها، فلما أثقلت بهذا البطن التاسع، مرَّ بِهَا إبليسُ فشكت إليه ثِقْل حملها، فقال لها، عدو الله، سَمِيّه: " عبد الحارث " يخف عليك ففعلت. قال أبو حاتم المعنى: فاستمر بها الحمل، فَقُلِبَ الكَلاَمُ. يقال: أدْخَلْتُ

الخُفَّ رجلي. {فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ}. أي: صار حَمْلُها الخَفِيفَ ثَقِيلاً. وقال السدي {أَثْقَلَتْ}: كبر الولد. {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا}: يعني آدم وحواء. {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}.

أي: غلاماً. قاله الحسن، ومعمر. وقيل: إنهما أشفقا أن يكون الحمل غَيْرَ إِنْسانٍ، فسألا أن يكون إنساناً. قال ابن عباس: إنهما أشفقا أن يكون بَهِيمَةً. {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً}. أي: بشراً.

{جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا}. قال ابن جبير: جاءها إبليس فَخَوَّفَهَا أن يكون حَمْلُهَا بهيمة. وقال: اطيعيني وَسَمِّيهِ: " عبد الحارث " تلدين شبَهكما، فذكرت ذلك لآدم، فقال: هو صاحبنا الذي علمت: فمات الولد، ثم حملت آخرى، فعاد إليها إبليس بمثل ذلك، وكن الملعون اسمه في الملائكة: " الحارث ". وقال لها: أنا قتلت الأول، فكرت ذلك لآدم (عليه السلام)، فأبى. ثم حملت ثالثاً، وعاد إليها إبليس بمثل الأول، فذكر ذلك لآدم، فكأنه لم يكرهه، فسمَه: " عبد الحارث ". قال ابن جبير: لم يكن إلا أن أصابها آدم فحملت، فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها. وذلك كله بعد أن أُهْبِطَا إلى الأرض. وقول آدم: هو صاحبنا، يعني: هو الذي أخرجنا من الجنة. قال السدي: لما حملت أتاها إبليس فخوفها أن يكون بهيمة، فعند ذلك {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين}.

ومن قرأ {شُرَكَآءَ}، فقد منعه الأخفش، وقال: كان يجب أن يقرأ على هذه القراءة: جعلا لغيره شِرْكاً، وهو إبليس؛ لأن الأصل له، والشرك لغيره، فإنما جعلا لغيره الشرك. والقراءة عند غيره جائزة، ومعناها: جَعَلاَ لَهُ ذَا شِرْكٍ، ثم حذف، مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، فالشرك على هذه لإبليس، وهو المضاف المحذوف. و" الشرك " مصدر: شَرِكْتُهُ في الأمر. ومن قرأ {شُرَكَآءَ}: جعله جمع شريك. وإنَّما جاءت بالجمع وهو واحد،

إذ المراد به: إبليس ومعه تُّباعٌ؛ لأن له جنوداً وشياطين معه، فإذا جعل هو شريك، فحكمهم حكمه، فخرج الخبر عن جميعهم. /وقيل: إنما ذلك؛ لأن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إِذَا لَمْ تَقْصِدْ وَاحِداً بِعَيْنِهِ، وَلَمْ تُسَمْهِ، نحو قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173]، وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ. روى سمرة بن جندب عن النبي A، أنه قال: " كانت حواء لا يعيش لها

ولد، فنذرت لئن عاش لها ولد لتسميه: " عبد الحارث " فعاش لها ولد، فسمته " عبد الحارث "، وإنما كان ذلك عن وحي الشيطان ". وقال بكر بن عبد الله: سمى آدم ولده عبد الشيطان. قال عكرمة: كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان وقال لهما: إِنْ سَرَّكُما أن يعيش لكما ولد فسمياه: " عبد الحارث ". ففعلا، فذلك قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ}. قال ابن جبير: لما أثقلت حواء في أول ولد ولدته، أتاها إبليس قبل أن تلد فقال: يا حواء، ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري! قال: من أين يخرج؟ من أنفك، أو من عينك، أو من أذنك؟ قالت: لا أدري قال: أرأيت إن خرج سليماً، أتطيعني أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم! قال: سَمِّيهِ " عبد الحارث "، فأتت آدم فأعلمته، فقال له: ذلك الشيطان فاحذريه، فإنه عدنا الذي أخرجنا من الجنة! ثم

أتاها إبليس ثانية فأعاد عليها، فقالت: نعم فلما وضعته سمته: " عبد الحارث ". قال السدي: لما ولدت غلاماً أتاها إبليس فقال: سمّيه عبدي وإلا قتلته! قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنة فأبى أن يطيعه، فسَّماه " عبد الرحمن " فَسُلِّط عليه إبليس فقتله. فحملت بآخر فعاد بمثل ذلك، فلم يفعل (ذلك) آدم، وسماه: " صالحاً " فسلط الله عليه إبليس فقتله. فلما كان الثالثة قال لهما: فإذ غلبتموني فسموه: " عبد الحارث " وكان سامه في الملائكة " الحارث "، فسماه " عبد الحارث ". ورُويَ عن الحسن أنه قال: هذا كان في بعض الملل ولم يكن بآدم. يعني: " الشِّرْك "، إنما كان في بعض الأمم. وقيل المعنى: جعل أولادهما لله شركاء، يعني: اليهود والنصارى. وروى قتادة عن الحسن: أنه قال: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله الأولاد

فَهَوَّدُوا ونصَّرُوْا. وَرُوِىَ عن عكرمة أنه قال: لم يخص بهذا آدم وحواء؛ وإنما المراد بذلك الجنس. كأنه قال: خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، أي: من جنسها، {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا}، يعني: الجنس لا يخصُّ به واحد دون آخر، {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا}، يراد به الجنسان الكافران. ثُمَّ يُحْمَل قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}، على الجمع؛ لأنهما جنسان.

191

(قوله): {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، إلى قوله: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. وقيل: إن قوله: {فِيمَآ آتَاهُمَا}، هو تَمَامُ الكَلاَمِ في قصة آدم وحواء، ثم ابتدأ إِخْبَاراً عن المشركين من بني آدم، فقال: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}، الآية. قال محمد بن عرفة نِفْطَوِيْه: لم يشركا بربهما، إنما أطاعا إبليس في بعضما أُمرا بتركه، أَطَاعَاهُ طَاعَةَ مُغْتَرٍ مُكَادٍ، لاَ طَاعَةَ مُلْحِدٍ مُصِرٍّ. قال: فأما قول: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فإنما أريد به: من عبد غير الله من اولاد آدم وحواء، دليله (قوله): {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}، إلى قوله: {صامتون}، فلم يعبد آدم وحواء أصناماً

فيكون هذا خطاباً لهما، إنما عبد ذلك أولادهما. فالمعنى: أيشركون في عبادة الله، فيعدبون {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}، يعني تسميتهما ولدهما: " عبد الحارث ". رُوِيَ أنّ النبي، A، قال: " خَدَعَهُما (إبليس) مرتين، في الجنة وفي الأرض ". وقال ابن زيد: لما ولد لهما ولد سمياه: " عبد الحارث " فمات، ثم ولد لهما أخرى فسمياه: " عبد الله " فأتاهما إبليس فقال: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ لا والله، ليذبهن به كما ذهب/ بالآخر! ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فَسَمّيَاهُ: " عبد شمس " فذلك قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً}، يعني: الشمس. وإنما أخرج الخبر بلفظ الجميع لأنهم كانوا يعظمون ما يعبدون ويخبرون عنها مث الإخبار عمن يعقل، فخوطبوا بما كانوا يعقلون.

وقيل: إنما هذا خطاب للمشركين عَبَدَةَ الأَوْثَانِ. ثم قال: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}. أي: ما يعبد هؤلاء، لا ينصرون من يعبدهم، ولا ينصرون أنفسهم. ثم قال تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ}. والمعنى: إنكم إن دعوتم آلهتكم إلى رشاد لم تفهم، فكيف يُعْبَدُ من إذا دُعِي إلى الرشاد وعُرِّفه لم يعرفه، ولم يفهم رشاداً من ضلال، وكان دعؤه وتركه سواء، فكيف يُعْبَدُ من هذه صفته، وكيف يُشْكِل عظيمُ جهل من اتخذ ما هذه صفته إلاهاً؟ {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون}.

أي صَمَتُّم. كل ذلك على آلهتكم سواء، لا تعقل ولا تفهم فهذا في الظاهر وقع للداعين والاستواء وهو في المعنى المقصود وقع للمدعويين؛ لأن حال الداعي في الصُّمَاِ والدعاء مختلفة؛ لأنه ممن يدعو ويصمت، وحال المدعويين في الدعاء والصُّمَات سواءٌ، لأنها أصنام، قد استوى الدعاء لها وتركه، إذ لا تعقل، ولا تختلف أحوالها، فلما استوى على الأصنام الدعاء والصُّمَاتُ، استوى على الداعي ذلك أيضاً، إذ يدعو ويصمت فلا يجاب فجاز لذلك، فصار الدعاء والصَّمت للداعي في الظاهر لهذا المعنى، وهو مثل قوله: {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} [البقرة: 171]. وقد مضى بيانه. ثم قال: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}. يعني: المعبودين. قرأ ابن جبير: " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَاداً أَمْثَالَكُمْ "، بتخفيف {إِنَّ}، بجعلها بمعنى: " ما "، وبنصب " العبادَ " و " الأمثال " على النفي،

195

أي: ليست هي مثلكم؛ وَإِنَّمَا هِيَ خَشَبٌ وَحِجَارَةٌ. والاختيار عند سيبويه: الرفع (مع) " إِنْ " إذا كانت بمعنى " ما "؛ لأن " ما " عملها ضعيف، فعمل ما هو في معناها أضعف. وزعم الكسائي: إن العرب لا تأتي بـ " إنْ " بمعنى " ما " في الكلام، إلا أن يكون بَعْدَهَأ إِيجَابٌ، كقوله: {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]. قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ}، الآية. كل هذا خطاب للمشركين من عبدة الأوثان و (هو) توبيخ لهم وتقريع على عبادتهم من لا رِجْل له ولا يَدَ ولا عين، ولا يفهم، ولا يضر ولا ينفع. فالمعنى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ}، فيسعون معكم في حوائجكم، {أَمْ

196

لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ}، فيدفعون عنكم الضر وتنتصرون بها عند قصد من يقصدكم بسوء، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ}، فيعرفونكم ما عاينوا مما تغيبون عنه، {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، فيخبرونكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه. فإن كانت هذه آلهتكم المُعَظَّمَةُ عِنْدَكُمْ، فما وجه عبادتكم لها، وهي خالية من هذه المنافع كلها؟. ثم قال الله تعالى، لنبيه عليه السلام: {قُلِ} لهم: {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ}، أي: ادعوهم لمعونتكم عَلَيَّ، {ثُمَّ كِيدُونِ} أنتم وهم، " فلا تنظرون "، أي: لا تؤخرون بالكيد، ولكن عَجِّلُوا كلَّ هذا. يُنَبِّئُهُمِ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ. قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب}، إلى قوله: {عَنِ الجاهلين}. قرأ الجَحْدَري: " إِنَّ وَلِيَّ اللهِ "، بياء مفتوحة شديدة، وخفض الاسم. يعني

به جبريل، عليه السلام. ومعنى الآية على قراءة الجماعة: قل، يا محمد، لعبدة الأوثان، {إِنَّ وَلِيِّيَ الله}، أي: (إنَّ) نصيري عليكم، {الله الذي نَزَّلَ الكتاب} عَلَيَّ بِالحَقَّ، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين}، أي: يَنْصُرُهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ فِيهِ. ثم قال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ/ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ}. [أي: وقل لهم بعد إخبارك أن الله، تعالى، ينصرك: والذين تدعون من دون الله، لا يستطيعون نصركم] كما نصرني الله، ولا يستطيعون نصر أنفسهم. فأي هذين أولى بالعبادة؟ من نَصَرَ نَفْسَهُ، وَنَصَرَ مَنْ عَبَدَهُ، أو من لا يستطيع نصر لنفسه ولا نصر من عبده؟ ثم قال تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ}. أي: وإن تدعوا، أيُّها المشركون، آلهتكم {إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ} دعاءكم. {وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ}، يعني: آلهتكم، {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، يعني: الآلهة.

{وتراهم} في هذا بمعنى: الظن والحِسْبَان، لا من النَّظَر. وقد تَأوَّلهُ بمعنى: " النَّظَرِ " المُعْتَزِلَةُ، وغَلِطُوا فيه. وقال السدي: يعني بذلك المشركين، لا يسمعون الهدى، {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} ما تدعوهم إليه. وقيل معنى: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} هنا: يُوَاجِهُونَك ولا يَرَوْنَكَز وحكى الكسائي: " الحَائِطُ يَنْظُرَ إِلَيْكَ ". أي: يواجهك، إذا كان قريباً منك. وحكى: " دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِ فُلاَنَ "، أي تواجه وتحاذي وتقابل.

ودَلَّ قوله {وتراهم} على أن المراد المُشْرِكُونَ، إذ لو كان للآلهة لقال: " وتراها ". وقيل: هي للآلهة؛ لأنها مثل بني آدم في صورها التي مَثَّلُوها؛ ولأنهم يعظمونها ويخاطبونها بمخاطبة من يعقل، فَخُطِبُوا كَذَلِكَ. فمن جعله للمشركين، كان " ترى " على بابه، من رؤية العين. ثم قال تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}. قال بعض أهل المعاني: في هذه الآية بيان قول النبي، A: " أُوتيتُ جَوَامِعَ الكَلاَمِ ". فهذه الآية قد جمعت معاني كثيرة، وفوائد عظيمة، وجمعت كل خُلُقٍ حسن؛ لأن في " أخذ العفو ": صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين. وفي " الأمر بالمعروف ": تقوى الله ( D) ، وطاعته، (جلت عظمته)، وصلة الرجم، وصون اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن الحُرُمات.

وسُمِّيَ ذلك وَنَحْوَهُ " عُرْفاً "؛ لأن كل نفس تعرفه وتركن إليه. وفي الإعراض عن الجاهلين ": الصبر، والحلم، وتنزيه النفس عن مخالطة السفيه، ومنازعة اللَّجُوج، وغير ذلك من الأفعال المَرْضَيَّةِ. وقال أهل التفسير في قوله {خُذِ العفو}، أي: خذ فضل أموالهم، وهو حق في المال نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ. وهو قول: ابن عباس، والسدي، وغيرهما. وقيل: هو الزكاة. وهو قول مجاهد. وقيل: هو أمْرٌ بالاحتمال وترك الغِلْظة، ثم نسخ بالأمر بالغلظة والأمر بالقتال. وهو قول ابن زيد.

وقال القاسم، وسالم: هو حق في المال سوى الزكاة. وقال عبد الله، وعروة بن الزبير: روى هشام بن عروة عن أبيه {خُذِ العفو}، أي: من أخلاق الناس، أي: السَّهْلَ مِنْهَا.

{وَأْمُرْ بالعرف}. قال عروة، والسدي: " العُرْفُ ": المعروف. وفي الحديث معنى الآية: " أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ ". قال سفيان بن عيينة: بلغني أن جبريل، عليه السلام، نزل على النبي ( A) ، فقال: يا محمد، جئتك بِمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ في الدنيا والآخرة {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}، وهو يا محمد أن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك. وروى ابن عيينة عن الشعبي أنه قال: " إن جبريل، عليه السلام، (لما) نزل بهذه الآية

على النبي عليه السلام، قال له النبي (عليه السلام)،: ما هذا يا جبريل؟ قال جبريل: لا أدري حتى أسأل العَالمِ، ذهب فمكث شيئاً ثم رجع فقال: إن الله ( D) ، يأمرك أن تعفو/ عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك ". وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}. قال ابن زيد: هذا منسُوخٌ بالقتل. وقيل: هي مُحْكَمةٌ، إنما أُمر بالاحتمال واللِّين. وذكر سفيان بن عيينة أن

جبريل، (عليه السلام)، فسر هذا للنبي ( A) ، فقال: يا محمد، إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. قال قتادة: هذه أخلاق أمر الله، ( D) ، نبيه، (عليه السلام) (بها) وَدَلَّهُ عليها. ورُويَ: أن جبريل عليه السلام، نزل على النبي A، فقال يا محمد، أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}، وذلك يا محمد، أن تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتَحْلُمَ عمن هو دونك. ورُوِيَ أن " العُرْفَ "، قول: لا إله إلا الله، أُمِر النبي A، أن يأمر الناس بقولها.

200

قوله: {وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ}، إلى قوله: {يُقْصِرُونَ}. والمعنى: وإما يغضبَنَّكَ من الشيطان، غَضَبٌ يَصُدُّكَ عن الإعراض عن الجَاهلين، ويحملك على مجازاتهم {فاستعذ بالله}، أي: اسْتَجِرْ بِهِ، {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لجل الجاهل عليك، ولاستعاذتك به من نزغ الشيطان، ولغير ذلك من أمورك، {عَلِيمٌ}، بما يذهب عند نَزْغَ الشَّيْطَانِ، وبغير ذلك. وقال أبو عبيدة المعنى: وإما يستخفنك منه خفة. وقيل " نَزْغُهُ ". وسوسته. وقيل: " نَزْغُهُ ": فساده.

ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ}. و" الطَّائِفُ " و " الطَّيْفُ " عند جماعة من البصريين، سواء، وهو ما كان كالخيال، والشيء يُلِمُّ بِكَ. وقيل: إن " طيفاً " مخفف من: " طيّفٍ "، مثل: " مَيْتٌ ومَيِّتٌ. وقال بعض الكوفيين: " الطَّائِفُ ": ما طاف به من وسوسة الشيطان. و " الطَّيْفُ ": من اللَّمم والمَسِّ. وقال الكسائي: " الطَّيْفُ: " اللهو، و " الطَّائفُ ": كل ما طاف حول الإنسان. وقرأ ابن جبير: " طيِّفٌ " مشدوداً. و" الطَّيْفُ " عند أهل العربية: مصدر طاف.

وقال الكسائي: هو مخفف من " طَيِّفٍ ". وقال الكسائي: " طَافَ " من: الواو. وقال الأَحْمَرُ سمعت: طِفْتُ أطِيفُ ". وحكى البصريون: " طَاف بطيف " و " طِفْتُ أطِيفُ ". قال ابن جبير ومجاهد: " الطَّيْفُ ": الغضب. وقال ابن عباس " طَائِفٌ ": لمَّةٌ من الشيطان.

وقال السدي: {تَذَكَّرُواْ} أي: تذكروا عقاب الله، ( D) ، فتابوا، أي: تابوا إذا زَلُّوا. قال ابن عباس: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}، أي: منتهون عن المعصية. ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي}. أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي. {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}. أي: لا يقصرون عما أقصر عنه الذين اتقوا {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان}. وهذا خبر من الله، ( D) عن حال المؤمنين وحال الكفار، أن المؤمن إذا

أصاب الذنب تذكر العقوبة فتاب ورجع وأبصر رشده، والكافر يمد له إخوانه من الشياطين في الغي، ثم لا يقصر عن غيه، ولا يرجع كما فعل المؤمن. و" المَدُّ ": الزيادة، ف " الهاء " و " الميم " في: {وَإِخْوَانُهُمْ} تعود على الشياطين. ودَلَّ " الشيطان " في قوله {طَائِفٌ مِّنَ الشيطان}، على الشياطين. و " الإخوان " كناية عن الكفار. والضمير المرفوع في: " يُمِدُّونَ " يعود على " الشياطين ". و" الهاء " و " الميم " في {يَمُدُّونَهُمْ} تعود على " الكفار "، وهم الإخوان. وقيل المعنى: ثم لا يقصر الشياطين في مدهم في الغي للكفار. قاله: قتادة. وقال: {لاَ يُقْصِرُونَ} عنهم ولا يرحمونهم. / فالضمير في {يُقْصِرُونَ} للشياطين. وعلى القول الأول للمشركين، وَهُوَ الأَكْثَرُ. و" الغَيُّ ": الجهل والوقوع في الهلكة.

وهذا الكلام عند أبي إسحاق مُقَدَّمٌ مُتَّصِلٌ في النبية بقوله: {ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 197]. ثم قال: {وَإِخْوَانُهُمْ}، أي: وإخوانهم يعني: الشياطين، {يَمُدُّونَهُمْ}، يعنى: الكفار. يقال: " قَصَّر " عن الشيء و " أَقْصَرَ ". وقد أنكر أبو حاتم وأبو عُبَيْد قرأءه نافع، بـ: " ضَمَّ اليَاءِ " في: {يَمُدُّونَهُمْ} وهي مشهورة.

حكى المبرد: " مَدَدَتْ لَهُ في كَذَا ": " زينته له، واسْتَدْعَيْتُه أن يفعله، و " أَمْدَدْتُهُ في كذا " أي: أعنته برأيي وغير ذلك. وحكى غير المبرد: " مَدَّهُ " و " أمَدَّهُ " بمعنىً. وقيل {فِي الغي}: متعلق بـ " الإخوان "، التقدير: " وَإِخْوَانُهُمْ فِي الغَيِّ يُمِدُّونَهُمُ، والأول أحسن، كما قال: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15].

203

قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها}، إلى قوله: {تُرْحَمُونَ}. المعنى: إنهم يقولون للنبي (عليه السلام)، إذا سألوه في آية فلم يأت بها: هلا افتلعتها من عند نفسك، فهذا قول كفار قريش للنبي، A. وعن ابن عباس: هلا أجتبيتها: تقبلتها من ربك. {قُلْ}، يا محمد، {إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ}. أي: هذ الذي دللتكم عليه {بَصَآئِرُ}، أي: لِيُسْتَبْصَرَ بِهِ، وهذا إشارة إلى القرآن والوحي، فلذلك وُحِّدَ. و {بَصَآئِرُ}: حُجَجٌ وبيان لكم من ربكم. {وَهُدًى}، أي: بيان، {وَرَحْمَةً} رحم الله بها عباده المؤمنين. ثم قال تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ}.

هذا أمر للمؤمنين أن يستمعوا القرآن ويتعظوا به، ويتدبروه، وينصتوا للقراءة ليرحمهم الله. قال المسيب بن رافع عن ابن مسعود: ذَلِكَ في الصَّلاَةِ، وكان بعضنا يُسَلِّمُ على بعض في الصلاة، فجاء القرآن: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ}. وقاله أبو هريرة. وقال الزهري: نَزَلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كانوا يقرأون مع النبي، A، كلما قرأ، فنهوا عن ذلك، وأُمروا بالإنصات. وكذلك قال النخعي، وابن شهاب، والحسن: إنه أمر في الصلاة. وهو قول: مجاهد وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، والشعبي وعطاء وغيرهم. والخطبة من الصلاة: فَالإِنْصَاتُ لَهَا وَاجِبٌ.

205

قوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ}، إلى آخرها. قوله: {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}: مصدران. {والآصال}: جمع " أُصُلِ "، ك: " طُنُبٍ " وأطنابٍ ". وقال الفراء: هو جمع " أصِيلٍ "، ك: " يَمِينٍ " و " أَيْمَانٍ ". وقيل: [الأُصُلُ] جمع " أصيلٍ ". {والآصال}: جمع " الأُصُل "، وقد تجعل العرب " الأُصُل " وَاحِداً، فيقولون: " قَدْ

دَنَا الأصُلُ ". ومعنى {واذكر رَّبَّكَ}: الدُّعَاءُ، وهو أمر للمستمع للقرآن بأن يذكر الله في نفسه بالدعاء، ويعتبر بما يسمع ويتعظ. {تَضَرُّعاً}، أي: تخشعاً وتواضعاً. {وَخِيفَةً}، أي: وخوفاً من الله. {وَدُونَ الجهر}، أي: واذكره دون الجهر ذِكْراً خَفِيّاً باللِّسَانِ. قال ذلك ابن زيد وغيره. قال الحسن: كانوا يتكملون في الصلاة حَتَّى نَزَلَتْ: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً}. أي: مخافة منه.

206

{وَدُونَ الجهر مِنَ القول (بالغدو) والآصال}. ما بين المغرب إلى العصر. وقيل: هي العَشِيُّ. {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين}. أي: من اللاهني. قال مجاهد: {بالغدو}: آخر الفجر، صلاة الصبح، {والآصال}: آخر العَشِيِّ، صلاة العصر. وهذا إنما كما إذا كانت الفريضة ركعتين " غدوة "، وركعتين/ " عشية "، قبل أن تفرض الصلوات الخمس. قال تعالى: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ}.

يعني: الملائكة. {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}. أي: لا يستكبرون عن التواضع له والتَخَشُّعِ. {وَيُسَبِّحُونَهُ}. أي: يُعَظِّمُونه ويُنَزِّهُونه عن السوء. {وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. أي: يُصَلُّون.

الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنفال مدنية قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} إلى قوله: {مُّؤْمِنِينَ}. قال أبو حاتم: الوقف على {ذَاتَ} بـ: " الهاء "، وكل العلماء قال: بـ: " التاء "؛ لأَنَّها مُضَافَةٌ، ولا يحسن الوقف عليها البتة إلا عن ضرورة. وقرأ سعد بن أبي وقاص: " يسئلونك الأنفال "، بغير {عَنِ}.

والمعنى: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها يوم بدر، لمن هي؟ فقيل للنبي، A: قل يا محمد: هي لله والرسول. و {الأنفال}: الغنائم. بذلك قال عكرمة، ومجاهد، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وعطاء. فأكثر العلماء الذين جعلوها: الغنائم، على أنها منسوخة بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، الآية.

وقيل: {الأنفال} هي زِيَادَاتٌ تزيدها الأئمة لمن شاء، إذا كان في ذلك صلاح للمسلمين، فهي مُحْكَمَةٌ. وروي ذلك عن ابن عمر، وعن ابن عباس. وقيل: {الأنفال}: ما شذَّ من العدو، من عبد أو دابة، للإمام أن يُنْفِلَ ذلك من شاء إذا كان ذلك صلاحاً. قاله الحسن. {الأنفال}: جمع " نَفَلٍ "، و " النَّفَلُ ": الغنيمة، سميت بذلك، لأنها تَفَضُّلٌ من الله، D، على هذه الأمة، لم تحل لأحد قبلها.

وقوله: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، يَدُلُّ على أنهم سألوا لمن هي. وقوله: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، يَدُلُّ على أن سؤالهم كان بعد تَنَازُعٍ فيها. وقيل: {الأنفال}: السَّرايا. قاله علي بن صالح. وقال مجاهد {الأنفال}: الخُمُسُ. وهذه الآية نزلت في غنائم بدر، وذلك أن النبي A، زَادَ قَوْماً لِبَلاَءٍ أَبْلَوْا، فاختلفوا فيها، بعد تَقَضِّي الحرب، فنزلت الآية تعلمهم أنَّ ما فعل النبي A، ماضٍ جائز. وروى ابن عباس (Bهما)، أن النبي، A، قال: " من أتى مكان كذا، وفعل كذا، فله كذا "، فتسارع الشبان، وبقي الشيوخ، فلما فتح الله عليهم، طلب الشبان ما

جعل لهم النبي A، فقال الأشياخ: لا يذهبوا بذلك دوننا! فأنزل الله، D: { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} الآية. وقيل: إن النبي A، سُئِلَ شيئاً من الغنائم قبل أن تقسم فامتنع من ذلك فنزلت: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، فرخّص الله، D، له أن يعطي مَنْ أَرَادَ. و [قيل]: إنهم سألوه الغنيمة يوم بدر، فَأُعْلِمُوا أن ذلك لله والرسول. و {عَنِ} في موضع: " مِنْ ". وقرأ ابن مسعود على هذا التأويل: " يسئلونك الانفال ".

وذكر ابن وهب: " أنها نزلت في رجلين أصابا سيفاً من النَّفْلِ، فاختصما فيه إلى رسول الله A، فقال النبي A: " هُوَ لي وَلَيْسَ لَكُمَا "، فنزل: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول}، وأمر الرجلين أن يصلحا ذات بينهما، وأن يطيعا الله ورسوله في ما أمرهما به النبي A " ، / من دفع السيف إليه، ثم نُسِخَ ذلك بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} الآية. وَرُوِيَ أن الرجلين اللذين اختصما في السيف إلى النبي A،: سعد بن مالك بن وُهَيْب الزُّهري، ورجل من الأنصار، فَأُمِرا في الآية أن يسلماه إلى النبي، A، وأن يصلحا ذات بينهما، وأن يعطيا الله ورسوله فيما يأمرانهما من تسليم السيف إلى النبي A، وغير ذلك. وقيل: إن أَهْلَ القُوَّة يوم بدر غنموا أكثر مم اغنم أهْلُ الضُّعْفِ، فذكروا ذلك لرسول الله، A، فَنَزَلَتْ: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}.

2

وقيل: إنهم اختلفوا في الغنائم، فَنَزَلَتْ: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}. " والبَيْنُ " هنا: " الوَصْلُ ". أُمِروا بصلاح وصلهم، وألا يتقاطعوا في الاختلاف على الغنائم، كأنه قال: كونوا مُجْتَمِعي القُلُوب. وأُنِثَتْ {ذَاتَ}؛ لأنه يراد بها الحال التي هم عليها. وذكر إسماعيل القاضي: أنهم اختلفوا ثلاث فرق، فقالت فرقة اتبعت العدو: نحن أولى بالغنائم، وقالت فرقة حَفَّت بالنبي A، نحن أولى، وقالت فرقة أحاطت بالغنائم، نحن أولى، فأنزل الله، تعالى، الآيات في ذلك. قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، الآية.

فهذه الصفة صفة الكمال والتمام في الإيمان. والمعنى: ليس المؤمن من الذي يخالف الله ورسوله، ويترك أمرهما، وإنما المؤمن الذي إذا سمع ذكر الله، D، وَجِلَ قَلْبُهُ، وَخَضَعَ، وانْقَادَ لأمْرِهِ، تبارك وتعالى، وإذا قرئت عليه آيات كتاب الله، سبحانه، صدق بها وأيقن أنها من عند الله، جلت عظمته، فازداد إيماناً إلى إيمانه. قال ابن عباس: المنافق لا يدخل قَلْبَهُ شَيْءٌ من ذلك، ولا يؤمن بشيء من كتاب الله، أي: من آيات الله سبحانه، ولا يتوكل على الله، D، ولا يصلي إ ذا غاب عن عيون الناس، ولا يؤتي الزكاة فليس هذا بمؤمن، وإنما المؤمن من الذي وصفه الله D، بالخشية وازدياد الإيمان عند سماع آيات الله، D، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. قال مجاهد {وَجِلَتْ}: فَرِقت. وقال السدي: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية، فيذكر الله، D، فَيْنَزعُ عنها خَوْفاً من الله، سبحانه.

3

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة}، أي يقيمونها في أوقاتها، وقيل: يقيمونها بحدودها. {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} الآية، المعنى: أولئك الذين هذه صفتهم هم المؤمنون حقاً. قال ابن عباس: {المؤمنون حَقّاً}، أي: بَرِئُوْا من الكفر. وَهَذَا بَابٌ تُذْكَرُ فَيهَ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَا رُوِيَ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ، D. وحقيقة الإيمان عند أَهْلِ السُّنَّة: أنه المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وكذلك رواه علي بن أبي طالب عن النبي A. وقالت المُرجئة الإيمان: قول ومعرفة بالقلب بلا عمل.

وقال الجهمية الإيمان: المعرفة بلا قول ولا عمل. وأهل السنة والطريقة القويمة على أنه: المَعْرِفَةُ وَالقَوْلُ وَالعَمَلُ، كما رواه علي عن النبي A، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْمَاعِ الأُمَّةِ. قد أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أنه من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم أخبر أن قلبه غَيْرُ مُصَدِّقٍ بشيء من ذلك، أنَّهُ كَافِرٌ، فدل على أَنَّ الاعتقاد لا بد منه. ثم أَجْمَعُوا على أَنَّ الكافل إذا قال: قد اعتقدت/ في قلبي الإيمان ولم يقله ويسمع منه، [أن حكمه الكافر] حتى يقوله ويسمع منه، فَإنَّ دمه لو قتل لا تلزم منه دية، فدل على أن القول مع الاعتقاد لا بد منه. ثم أَجْمَعُوا على أن شهد الشهادتين، وقال: اعتقادي مثل قولي، ولكني لا أصوم ولا أصلي ولا أعمل شيئاً من الفروض أنه يستتاب، فإن تاب وعمل وإلا قتل كما يقتل

الكافر، فدل على وجوب العمل. فصح من هذا الإجماع، أن الإيمان هو الاعتقاد والقول والعمل، وتمامه: موافقة السنة، وقد قال الله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله}، ثم قال: {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ دِينُ القيمة} [البينة: 5]، أي: دين الملة القيمة. ومن لم يقل: إن الله تعالى، أراد الإقرار والعمل من العباد فهو كافر. فإن قيل: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به محمد A، أيكون مؤمناً بهذا الإقرار أم لا؟ قيل: له لا يطلق عليه اسم مؤمن إلا ونيته أنه لم يطلق عليه اسم مؤمن، ولو أنه أقرّ في الوقت وقال: لا أعمل إذا جاء وقت العمل، لم يطلق عليه اسم مؤمن. والأعمال لا يقبل منها إلا ما أريد به وجه الله، (سبحانه)، فأما من أراد بعمله مَحْمَدَةَ الناس وَرَايَا به فليس مما يقبله الله، D، وصاحبه في مشيئة الله سبحانه. روى أبو هريرة أن النبي ي A قال: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل

استشهد فأمر به، فَعَرَّفَهُ نِعمهُ فَعَرَفَهَا؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كَذبْتَ ولكن قاتلت ليقال: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وحهه حتى ألقي في النار. ورحل تَعَلَّمَ العلم وعَلَّمَهُ، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به، فعرَّفه نعمه، فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: تعملت فيك العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كَذَبْتَ، ولكنَّك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، فقد قيل، وقرأت القرآن ليقال: إنك قارئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار. ورَجل وسَّع الله عليه، وأعطاهُ أنواع المال كله، فَعَرَّفه نِعمه فَعَرَفَها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت في سبيل الله شيئاً تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جَوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ". وروى أبو هريرة أيضاً، أن النبي A، ق ل: " قال الله جلّ ذكره من قائل،: أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فمن عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه غيري، فهو للذي أشركه، وَأَنَا بَرِيءٌ منه ".

وفي خبر آخر: " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ ". وروى ابن عمر أن النبي A، قال: " أَشَدُّ النَّاسِ يوم القيامة عَذَاباً، من يرى النَّاس أَنَّ فِيهِ خَيْراً وَلاَ خَيْرَ فِيهِ ". وعنه، A،: " مَنْ رَاءَا بأمر يريد به سُمْعَةً فإنه في مَقْتٍ من اللهِ D، حتى يجلس ". وقال النبي A: " لا تخادعوا الله فإنه من خادع الله بخدعة فنفسه يخدع لو يشعر ". قالوا: يا رسول الله، وكيف يُخادع الله، قال: " تعمل ما أمرك به تطلب غيره، فاتقوا الرياء، فإنه الشرك، فإن المرائي يدعى يوم القيامة على/ رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء، ينسب إليها: يا كافر، يا خاسر، يا فاجر، يا غادر، ضل أجرك، وبطل عملك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا خادع ". وعنه، A: " إن أدنى الرِّياء شِرْكٌ ".

فيجب على المؤمين الراجي ثواب الله عز وجل، الخائف من عقابه، سبحانه، أن يخلص العمل لله سبحانه، ويريد به وجهه، تبارك وتعالى. وألاَّ يتباهى بعمله عند أحد فيشركه في علمه. فإنَّ عَمِلَ عاملٌ عَمَلاً مُخْلِصاً لله A، في السر، فَسُرّ به، وأُعْجِبَ به إذ وفقه الله D، لذلك فهو حسن، وليس ذلك برياء، وهو ممدوح إنْ سلم من الإعجاب بنفسه؛ فَإنَّ الإعجاب ضَرْبٌ من التكبر، والتكبر يُحْبِطُ الأَعْمَالَ. فإن ظَهَرَ عَمَلُهُ الذي أَسَرَّه للناس من غير أن يُشْهِّره هو على طريق الافتخار به، فأثنوا عليه بفعله فَسَرَّه ذلك فليس برياء، بل له أجر على ذلك؛ لأن الأصل كان لله D، والناس يَتَأَسَّونَ به في فعله. وقد روى أبو هريرة: " أن رجلاً قال لرسول الله A: يا رسول الله، دخل علي رجل وأنا أصل فأعجبني الحال التي رآني عليها، فقال له النبي A: " فلك أجران: أَجْرُ السَّرِ، وأَجْرُ العَلاَنِيَّة ". وروى حبيب بن ثابت عن أبي صالح قال: " أتى النبي A، [ رجل]، فسأله

عن رجل يعمل العمل من الخير يُسِرُّه، فإذا ظهر أعجبه ذلك، فقال له النبي A: " له أجران: أجرُ السّرِّ وأجرُ العلانيَّة ". وروى حبيب: " أن ناساً من أصحاب النبي A، قالوا: يا رسول الله، إنَّا نعمل أعمالاً في السر، فنسمع الناس يذكرونها فيعجبنا أن تُذْكَرِ بِخَيْرٍ، فقال: " لكم أجر السر وأجر العلانية ". وقد روىأنس " أن النبي A، وجد ذات ليلة شيئاً، فلما أصبح قيل: يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبيّن، فقال: " أما إني على ما ترون بحمد الله، قد قرأت البارحة السبع الطُّوَلُ ". وهذا من رسول الله A، استدعاءٌ بأن يعمل الناس على مثل عمله، ويرغبوا في الخير، ويجتهدوا، ولو وقع مثل هذا لمن صح قصده ونيته، وأراد به مثل ما أراد النبي A، ولم يرد المَحْمَدَةَ والافتخار، لكان حسناً، وصاحِبُهُ مَأْجُورٌ؛ لأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَقْتَدَى بِهِ، وَيَعْمَلَ مِثْلُ عَمَلِهِ، وهذا طريق من الدعاء إلى الخير، إذا صحت النية، فهو طريق شريف غير مستنكر.

فحق العامل المجتهد أن يُجْهِدَ نسه في تكذيب وساوس الشيطان، ولا يلتفت ما يوسوس إليه، وليقبل على عمله بنية خالصة لله، ويجهد نفسه في طاعة الله، D، والعمل لله، سبحانه، فلا شيء أبغض إلى الشيطان من طاعة العبد لربه، ( D) ، ولا شيء أسر إليه من عصيان العبد لربه، سبحانه، نعوذ بالله منه. فحسب أَهْلِ الخَيْرِ أن لا تأتي عليهم حال إلا وهم للشيطان مرغمون، ولطمعه في أنفسهم حاسمون. فإن عجزوا عن ذلك في كل الأوقات فيلفعوه في حال اشتغالهم بأعمال الطاعة حتى تخلص أعمالهم لله D، وتسلم من الشيطان من أولها إلى آخرها فإن عجزوا عن ذلك فلا يعجزوا عن أن يكون ذلك منهم في أول أعمالهم، وفي آخرها، فإن عجزوا عن/ ذلك، فلا بد من إخلاصها في أولها ليكون الابتداء بالنية لله D، والإخلاص له، سبحانه؛ فإنه إذا كان [ذلك] كذلك، ثم عرض في أضعاف العمل عوارض الشيطان وساوسه، رجي له ألا يضره ذلك، فإن عجز عن ذلك وغلبه الشيطان حتى ابتدأ بغير إخلاص. ثم حدث له في بعض العمل إخلاص وإنابة عما فعل رجي له، لقوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].

فإن ابتدأ بغير إِخْلاَصٍ وتمادى حتى فرع عن ذلك، كان ثمرة عمله سخط ربه. والله D، حسن العفو كريم. روينا في بعض الأخبار عن النبي A: " أَنَّ الرجل إذا ابتدأ العمل بنية لله، D، ثم عرض له الشيطان في آخر عمله فَغَيّر نيته، أن الله سبحانه، يعفو له عما عرض له، ويكتب له عمله على ما ابتدأه به، وأَنَّ الرجل ليبتدئ بالعمل بغير نية، فتحدث له نية لله D، في آخره أن الله، يعفو له عن أوله، ويكتب له عمله على ما حدث له في آخره " هذا معنى الحديث الذي رؤينا، وهو حديث مشهور بنحو هذا اللفظ وبمثله في المعنى. فقال ابن حازم: انظر إلى العمل الي تُحِبُّ أن يأتيك الموت وأنت عليه، فخذه الساعة، وإذا قال لك الشيطان: أنت مُراءٍ فلست مرائياً، وإذا خرجت من بيتك، وأنت صادق النية، فلا يضرك ما جاء به الشيطان. وكان رجل حَسَنُ الصَّوْتِ بالقرآن يأتي الحسن، فربما قال له الحسن: اقرأ، فقال: يا أبا سعيد، إني أقوم من الليل فيأتيني الشيطان إن رفعت صوتي، فيقول: إنما تريد الناس، فقال له الحسن: لك نيتك إذا قمت من فراشك. فالشيطان، عليه لعنة الله، عدو الله، سبحانه، لطيف المدخل لابن آدم، كثير

الرصد له بما يُوبِقُهُ. قد أَوْبَقَ كثيراً من القرون السالفة، فَنَفَذَت فيهم سهامة، وصدق عليهم ظنه، فاللَّجَأُ منه إلى الله، D، والمستغاث على دفع شره الله، تبارك الله وتعالى. وروى معقل بن يسار عن أبي بكر الصديق، (Bهـ)، أَنَّ النبي A، قال: " الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ". قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا أن يُدعى مع الله إله آخر، فقال: " الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " ثم قال: " يا أبا بكر، ألا أدلك على ما يذهب صغير ذلك وكبيره؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذَ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ أَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ ". قوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]. أي: يَكِلُونَ أمرهم إلى الله (سبحانه).

وَِِِهَذَا بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا رُوِيَ في التَّوكُّلِ وَصِفَتِهِ وَفَصْلِهِ. روى ابن عباس، أن النبي A قال: " مَنْ سَرَّهُ أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه ". روى عمر Bهـ، أنّ النبي A قال: " لو أنك تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً ". وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله A: " من انقطع إلى الله كفاه كُلَّ مُونَتِهِ ورزقه/ من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَلَهُ الله إليهاً ". وروى أبو سعيد الخدري أنَّ النبي A قال: " لَوْ فَرَّ أَحَدَكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لأَدْرَكَهُ كَمَا

يُدْرِكُهُ المَوْتُ ". وعن أبي ذر مثله. وقد قال الله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]. وقال: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51]. وروى أبو هريرة أن النبي A: " يقول الله، جلّ ذكره: يَابْنَ آدم تَفَرَّغْ لِعَبَادَتِي أَمْلأُ صدرك غِنىً، وأَسُدَّ فقرك، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأَتْ صَدْرَكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فُُقْرَكَ ". وعن أبي [بن] كعب قال: قال رسول الله A: " مَنْ كَانَتْ نِيّتَهُ الآخِرَةَ جعل الله غناه في قلبه، وَكفَّ عنه ضَيْعَتَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيا [وهي] رَاغِمَةٌ، ومن كانت نيته الدنيا شتت الله، D، عليه ضَيْعَتَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له ".

وعن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله A: يقول: " مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا نِيَّتَهُ فَرْقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله [له] أمره وجعل غناه في قلبه وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ". وفي هذه الآية دلالة على زيادة الإيمان ونقصه؛ لأن قوله: {زَادَتْهُمْ إيمانا} [الأنفال: 2]، يَدُلُّ على نقصٍ كان قبل الزيادة. وعن أبي الدرداء، قال رسول الله A: " تَفَرَّغُوا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيا ما استطعتم، فإنه من كانت الدنيا أكْبَر همَّهِ، أقضى الله عليه ضَيْعَةَ، وجعل فقره بين عَيْنَيْه، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه، وما أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى الله D إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل

خَيْرٍ أَسْرَعَ ". والتوكل على الله، D عند أهل النظر والمعرفة بالأصول، هو: الثقة بالله، سبحانه، في جميع الأمور، والاستسلام له، ( D) ، والمعرفة بأَنَّ قضاءه ماضٍ، واتباع أمره، وليس هو أن يطرح العبد بنفسه فلا يخاف شيئاً ولا يحذر أمراً، ويلقى بنفسه في التهلكة؛ لأن الله، سبحانه، يقول لأصحاب نبيه، عليه السلام: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [البقرة: 197]، فأمرهم أن يتزودوا في أسفارهم: لأنهم كانوا ربما خرجوا بلا زاد، فلي يجوز لأحدٍ أن يلقى عَدُوَّه بغير سلاح ولا عُدَّةٍ ويجعل هذا تَوَكُلاً. فقد لَبِسَ النبي A، السلاح، وقال الله، D،: { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60]. وقد دخل النبي A، وأبو بكر الغار. ودخل مكة وعلى رأسه المِغْفَرُ، وخرج يوم أُحد وعليه درعان. وفرّ

أصحاب النبي A، إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة بعد ذلك خوفاً على أنفسهم، فلو كان من التوكل إلقاء العبد نفسه في التهلكة، وترك الاحتراز من المَخُوفِ، ولَقْيُ العدو بغير سلاح، ومباشرةُ السباع، لكان رسول الله A، وأصحابه أولى بذلك بل خافوا وفرُّوا، وسلحوا واحترزوا. وقد حكى الله D، عن موسى، عليه السلام، الخَوْفَ فقال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]، وقال: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18]، وقال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ} [طه: 67 - 68]. فالملقي بيده إلى التهلكة من عدو أو سبع، ولا علم عنده أن الله D، لا يسلطه عليه آثم في نفسه، مُعِينٌ على قتل نفسه، مُجَرِّبٌ لقدرة ربه، جلت عظمته، مُعْجَبٌ بنفسه، دَالٌ على ربه، سبحانه، / وليس هذا من صفات الصالحين، بل أنفسهم عندهم أَنْقَصُ وَأَذَلُّ، هم وَجِلُون ألا تقبل منهم أعمالهم! فكيف يدلون بأعمالهم! قال الله D: { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} المؤمنون: 61]، أي: يعلمون ما عملوا من الخير وهم خائفون

ألاَّ يقبل منهم [عملهم]، فهذه صفات الصا لحين. ليس صفاتهم الإعجاب بأعمالهم والدلة على مالله D، بأفعالهم، وقد قال عمر: رأيت رسول الله A يَظَلُّ اليوم يلتوى، ما يجد ما يملأ به بطنه. وقد روي عَمَّنْ مضى، وعن النبي A، وأصحابه من الجوع والشدة ما لا يُحْصَى. فهذا يدفع قول من يدعي في توكله نزول الطعام الكَوْنِي، ووجود الرُّجَب في غير وقته، وشبه ذلك من المعجزات التي لا تكون إلاَّ للنبي، تدل على صدقه في ما أتى به. فأما كرامات الله، سبحانه لأوليائه وإجابة دعائهم، فليس ينكر ذلك أحدٌ مِنْ أهْلِ السُّنَّة، وإنما ينكرون على ما أجاز حدوث المعجزات على يدي غير الأنبياء؛

لأن في ذلك إبطال النبوة وهدم الشريعة. وقوله: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. الدَّرجات: منازل ومراتب رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم. قال مجاهد [الدَّرَجَات]: أعمال رفيعة. وقال ابن مُحَيْرِيز الدَّرَجَاتُ: سبعون درجة، كل درجة خطو الفرس الجواد المُضَمَّر ستين سنة.

5

{وَمَغْفِرَةٌ}: أي: مغفرة لذنوبهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: الجنة. قال الضحاك: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي فوق، فضله على الذي أسفل منه، ولا يرى الأسفل أنه فضل عليه أحد. قوله: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، الآية. قال الكسائي: " الكاف ": نعت لمصدر: {يُجَادِلُونَكَ}، والتقدير: يجادلونك في الحق مُجَادَلَةً {كَمَآ أَخْرَجَكَ}. وقال الأخفش: " الكاف " نعت ل: " حق "، والتقدير: هم المؤمنون حقاً

{كَمَآ أَخْرَجَكَ}. وقيل: " الكاف " في موضع رفع، والتقدير: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} {فاتقوا الله}، كأنه ابتداء وخبر. وقال أبو عبيدة: هو قَسَمٌ، أي: لهم درجات ومغفرة ورزق كريم، والذي أخرجك من بيتك بالحق، ف: " الكاف " بمعنى: " الواو ". وقال الزجاج: " الكاف " في موضع نصب، والتقدير: الأنفال ثابتة لك ثباتاً {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ}، والمعنى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} وهم كارهون، كذلك

تَنْفُلُ من رأيت. وقال الفراء التقدير: أمض لأمرك في الغنائم، ونَفِّلْ من شئت وإن كرهوا {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}. وقيل: " الكاف " في موضع رفع، والتقدير: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، إلى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، هذا وعد وحق {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}. وقيل: المعنى: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} ذلك خير لكم {كَمَآ أَخْرَجَكَ}، ف: " الكاف ": نعت لخبر ابتداء محذوف هو الابتداء. وقيل التقدير: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} {كَمَآ أَخْرَجَكَ}.

قال عكرمة في الآية: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، أي: الطاعة خَيْرٌ لَكُمْ، كما إخراجك من بيتك بالحق خيراً لك. وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ}. قال ابن عباس: " لما سمع رسول الله A، بأبي سفيان أنه مقبل من الشام، ندب إليه من المسلمين، وقال: هذه عِيرُ قريش فيها/ أموالهم، فاخرجوا إليها، لَعَلَّ الله أن يُنْفِلَكُمُوهَا! فانتدب الناس، فَخَفّ بعضهم وَثَقُلَ بَعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله A يلقى حرباً. فَنَزَلَتْ: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} ". قال السدي {لَكَارِهُونَ}: لطلب المشركين. {للَّهِ والرسول}، وقف. و {مُّؤْمِنِينَ}، وقف.

ويكون تقدير الآية وتفسيرها: " أنّ النبي A، لما نظر إلى قلة المسلمين يوم بدر وإلى كثرة المشركين قال: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وإِنْ أَسِرَ أَسِيراً فَلَهُ كَذَا وَكَذَا "، ليرغبهم في القتال، فلما هزمهم الله، D، وأَظْفَرَه بهم، قال إليه سعد بن عبادة، فقال له: يا رسول الله؛ إن أعطيت هؤلاء ما وعدتهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء، فأنزل الله: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} "، أي: يصنع فيها ما يشاء. فأمسكوا لما سمعوا ذلك على كراهية منهم له، فَأَنْزَلَ الله، D،: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، أي: أمض لأمر الله في الغنائم، وهم كارهون لذلك، أي: بعضهم، كما مضيت لأمر الله D، في خروجك، وهم له كارهون، أي: بعضهم. فإن جعلت التقدير: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: لم تخرجنا للقتال فنستعد له، إنما أخرجتنا للغنيمة، فلا يحسن الوقف على ما قبل " الكاف " على هذا.

وعلى قول أبي عبيدة أن " الكاف " في موضع:: واو القسم، يحسن الوقف على ما قبل " الكاف " كأنه قال: والذي أخرجك من بيتك بالحق، كما قال: {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3]، أي: والذي خلق الذكر. وقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق}، الآية. قال ابن عباس: لما شاور النبي A، في لقاء القوم، قال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس فتعبّوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأَنْزَلَ الله، D، { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، إلى {وَهُمْ يَنظُرُونَ}. قال ابن إسحاق: خرجوا مع النبي A، يريدون العِيَر طمعاً بالغنيمة، فلما عرفوا أن قريشاً قد سارت إليهم، كرهوا ذلك، وكأنهم يساقون إلى الموت؛ لأنهم لم يخرجوا للقتال. فالذي عُني بهذا هم المؤمنون، فَأَنْزَلَ الله D، { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق}، إلى: {وَهُمْ يَنظُرُونَ}.

وقال ابن زيد: عني بذلك المشركون، قال: هم المشركون جادلوا في الحق، {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} حين يدعون إلى الإسلام، {وَهُمْ يَنظُرُونَ}. قال الطبري: المراد بذلك المؤمنون. ودَلَّ عليه قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ}، لما كرهوا القتال جادلوا فقالوا: لم تعلمنا أنَّا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، إِنَّمَا خرجنا لِلْعِير. وَيَدُلُّ على ذلك قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ}، ففي هذا دليل أنّ القوم كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم في القتال، [كما] قال مجاهد، كراهية منهم له. وروي عن ابن عباس: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق}، أي: في القتال، {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ}، أي: بعد ما أمرت به.

7

قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين}، إلى قوله: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}؟ والمعنى: واذكروا، أيها المؤمنون {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ}، والطائفتان: إحداهما فرقة أبي سفيان والعير، والطائفة الأخرى: فرقة المشركين الذين خرجوا من مكة لمنع العير. وقوله: {أَنَّهَا لَكُمْ}. أي: أن ما معهم غنيمة لكم. وقوله: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ}. أي: تحبون أن تكون لكم العير التي لا قتال فيها ولا سلاح دون/ فرقة المشركين المقاتلة المسلحين. وكان أصحاب النبي A، أحبوا أن يَظْفَروا بالعير، فأراد الله D، غير ذلك، أراد أن يَظْفَروا بالمقاتلة، فيكون ذلك أذل لهم وأخزى وهيب في قلوب المشركين؛ لأن المسلمين لو ظَفِروا بالعير ولا مقاتلة معها ما كان في ذلك هيبة ولا ردعة عند المشركين، وإذا ظَفِروا بالمقاتبلة وأهل الحرب والبأس كان ذلك أهيب وأروع لمن بقي منهم.

و {الشوكة}: السلاح. وقال أبو عبيدة: غير ذات الحد. يقال: فلان شَائِكٌ في السلاح وشَاكٌ، من الشِّكَةِ. وقال ابن عباس: " لما خُبِّر رسول الله A، بأبي سفيان مُقْبلاً من الشَّأْم، ندب المسلمين إليهم، فقال: هذه غير قريش، فيها أموالٌ، أخرجوا إليها لعلّ الله أن يملككموها! فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم؛ لأنهم لم يظنوا أن رسول الله A، يلقى حرباً، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفاً على أموال النس، حتى أصاب خبراً من بعض

الركان: " إن محمداً قد استنفر [أصحابه] لك ولِعِيرك " فَحَذِرَ عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فمضى ضَمْضَم. وخرج النبي A، في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي A الناس، وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر، فقال فأحسن. وقام عمر، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكن اذهب (أنت) وربك فقاتلا، إِنَّا معكم مقاتلون! والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد، يعنى: مدينة الحبشة، لجالدنا معك مَنْ دونه! ثم قالت

الأنصار بعد أن استشارها: امض يا رسول الله، لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخصناه معك. فمضى رسول الله A، حتى التقى بالمشركين ببدر، فسبقوا الماء، والتقوا، ونصر الله D، النبي A، وأصحابه، فَقُتِلَ من المشركين سبعون، وَأُسِرَ منهم سبعون، وغنم المسلمون ما كان معهم، وسلمت العير مع أبي سفيان، وكان قد أخذ بها الساحل، أسفل من موضع القتال، وهو قوله تعالى: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} ". وروى عكرمة عن أبن عباس قال: " قيل للنبي A، حين فرغ من بدر، عليك العير ليس دونها شيء، قال: فناداه العباس: لا يصلح، فقال له النبي A: " لِمَ "؟

9

قال: لأن الله D، وعد إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. قال: " صَدَقْتَ ". قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} إلى قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قرأ عيسى بن عمر: " إنِّي مُمِدُّكُم "، أي: قال: إني ممدكم. ومن قرأ: {مُمِدُّكُمْ}، بفتح الدال، يجوز أن يكون نصباً على الحال من الضمير في: {مُرْدِفِينَ}. وقيل: هو في موضع خفض نعت ل: " ألف ".

ومن كسر الدال فمعناه: يُرْدِف بعضهم بعضاً، أي: يتبع بعضهم بعضاً. يقال: رَدِفْتُهُ وأَرْدَفْتُهُ: إذا تَبِعْته. وأنكر أبو عبيد أن يكون/ المعنى: يُرْدِف بعضهم بعضاً، أي: يحمله خَلْفَهُ، ودفع قراءة الكسر على هذا التأويل.

والوجه أنهم يتبعون بعضهم بعضاً في الإتيان لا في الركوب، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: وَرَاءَ كُلِّ مَلِكٍ مَلَكٌ. فمعنى الكسر: أَنَّ الملائكة يُرْدِفُ بعضها بعضاً، أي: يتبع. ومعنى الفتح: أن الله أَرْدَفَ بهم المؤمنون. حكى سيبويه " مُرَدِّفينَ ": بفتح الراء، وتشديد الدال وكسرها. وأصله: " مُرْتدِفِينَ "، ثم أدَغم " التاء " في " الدال " بعد أن ألقى حركتها

على " الراء ". وحكى أيضاً: " مُرِدِفِّينَ " بكسر الراء، على أنه " مُرْتَدِفِينَ " أيضاً، لكن أدغم وكسر الراء لالتقاء الساكنين، ولم يلق عليها حركة " التاء ". ومعنى الآية: {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} [الأنفال: 8]، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}، أي: حين ذلك، أي تستجيرون به من عدوكم، {فاستجاب} ربكم {لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ}، أي: بأني {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} يردف بعضهم بعضاً، أي: يتلوا. وَرُوِيَ عن

عاصم: " آلفٌ "، على وزن " أَفْعُلٍ ". قال ابن عباس: لمَّا اصطفَّ القوم، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره! ورفع النبي A، يده وقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً. قال السدي: فاستجاب الله، D، له ونصره بالملائكة، وذلك يوم بدر. قال عمر بن الخطاب Bهـ، لما نظر النبي A، إلى المشركين وَهم ألفٌ، وأصحابه ثلاث مائة وبضعة عشر، استقبل القبلة، ثم مدَّ يدَهُ، وجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز ما وعدتني "، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه A، عن منكبيه، فرده أبو بكر على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، فقال: يا نبي الله كَذَلك مناشدتك

رب، فَإِنَّه سينجز لك ما وعدك!. وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله}. " الهاء " تعود على " الإمْدَادِ ". وقيل: على " الإِرْدَافِ ". وقيل: على " الأَلْفِ ". وقيل: على قبول الدعاء.

11

والمعنى: {وَمَا جَعَلَهُ الله}: إرداف الملائكة بعضها بعضاً. {إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، أي: ولكي تسكن إلى ذلك قلوبكم، وتوقن بنصر الله D، فليس النصر إلا من عند الله، سبحانه {إِنَّ الله عَزِيزٌ}، أي: لا يقهره شيء، {حَكِيمٌ} في تدبيره. و" الهاء "، في {بِهِ} تحتمل ما جاز في " الهاء " في: {جَعَلَهُ}. ويجوز رجوعها على " البشرى "؛ لأنها تعني الاستبشار. قوله: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس}، الآية. من قرا: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}، احتج بإجماعهم على: {يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ} [آل عمران: 154].

ومن قرأ: {يُغَشِّيكُمُ}، مشدداً فرد الفعل إلى الله، D، احتج بقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم}، وهو الله بلا اختلاف. فكون الكلام على نظام واحد أحسن. وقوله: {أَمَنَةً}: مفعول من أجله.

وقيل: هو مصدر. وقوله {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}: العامل في {إِذْ} قوله: {إِلاَّ بشرى} [الأنفال: 10]، {إِذْ يُغَشِّيكُمُ}، أي: حين يغشيكم. ومعنى {يُغَشِّيكُمُ}: يلقى عليكم، و {أَمَنَةً}: أماناً من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وذلك يوم أحد أنزل الله، D، عليكم النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد. وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً}. كان هذا يوم بدر، أصبح المسلمون مُجْنِبِين على غير مَاءٍ، فأنزل الله D،

(عليهم) مطراً فاغتسلوا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حَزَنَهم به من إصباحهم مُجنبين على غير ماء؛ لأنَّ المشركين سبقوا المسلمين ببدر، إلى الماء فأصبح المسلمون عِطَاشاً مُجْنبين ومُحدثين، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: عدوكم على الماء، وأنتم تزعمون/ أنكم مسملون، فأزال الله الأحداث والعطش والوسوسة بالمطر الذي أنزل عليهم، وسكن به الغبار، وتمهدت الأرض للوطء عليها. قيل: كانت سَبْخَةً لا تثبت عليها الأقدام.

وقيل: كانت رَمْلاً. وكانت آية عظيمة في ثبات أقدامهم في المطر على سَبِخَةٍ. وقول من قال: كانت الأرض رَمِلَةً أَوْلَى، لقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام}. قال قتادة: ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً، وكانوا قد التقوا على كثيب أعفر فَلَبَّده الله D بالماء، وشرب المسلمون واستقوا، [و] أذهب الله D، عنهم وساوس الشيطان وأحزانه. وكان المشركون سبقوا إلى الماء وإلى الأرض الشديدة، ونزل المسلمون على غير ماء وعلى رمل، فأراهم الله، D، بنزول المطر قدرته، وأثبت في قلوبهم أمارة النصر والغلبة فتقَّوت نفوسهم وتشجعوا، وذهب عنهم وسوسة الشيطان. وقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام}. أي: بالمطر، وذلك أنهم التقوا مع عدوهم على رَمْلة فَلَبَّدَهَا المطر حتى تثبت الأقدام عليها، وكان هذا كله ليلة اليوم الذي ألتقوا فيه في بدر.

12

وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان}. أي: وساوسه. وقال القُتَيْبِي: كيده. والعامل في {إِذْ يُوحِي}، {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام}. وقيل المعنى: واذكر {إِذْ يُوحِي}. وقيل: أوحى الله، D، { إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ}، فكان المَلَكُ يظهر للرجل من أصحاب النبي A في صورة رجلفيقول: سمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: لئن حَمَلَ علينا هؤلاء لَنُهْزَمَنَّ! فتقوى بذلك قلوب المؤمنين. وقوله: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق}.

أي: اضربوا الأعناق. وقال الأخفِ: {فَوْقَ} زائدة. وقيل المعنى: اضربوا الرؤوس؛ لأنها فوق الأعناق. وقال أبو عبيدة: {فَوْقَ} بمعنى: " على "، والمعنى " فاضربوا على الأعناق.

يقال: ضَرَبْتُهُ على رَأْسِهِ فَوْقَ رَأْسِهِ بِمعنى. وقوله: {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}. أي: اضربوا الأطراف من الأيدي والأرجل. و" البَنَانُ ": [أطراف] أصابع اليدين والرجلين. وقال عطية، والضحاك: " البَنَانُ ": كل مَفْصلٍ.

13

وواحد " البَنَانِ " " بَنَانَةٌ "، وهي: الأصابع وغيرها من الأعضاء، وهذا قول الزجاج. وقوله: {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ}. هذا أمر من الله، D للملائكة. وقيل: إِنَّ الملَكَ كان يأتي أصحاب النبي A، فيقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين، يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! فيتحدث بذلك المسلمون، وتقوى نفوسهم. وقيل معنى ثَبِتُّوهم أي: بالمدد. قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ}، إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. والمعنى: هذا الفعل الذي فُعل بهم من ضرب الأعناق وغير ذلك، {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ}، أي: خالفوه، كأنهم صاروا فِي شِقٍّ آخر بمخالفتهم له.

{وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ}. أي: يخالفه. أَجْمَعَ القراء على الإظهار، إذ هو في الخَطِّ بقافين. والإظهَارُ لغة أهل الحجاز، وغيرهم يُدْغِمُ، وعليه أُجْمِعَ في: " الحشر ". ويحسن " الرَّوْمُ "، في الوقف في: " الحشر " /؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله الثاني لازم في الوقت، وهو " القاف " الأولى المُدْغَمة في الثانية، ولا يحسن " الرّوْمُ " في الوقوف [في الأفعال؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله " القاف " الثانية غير لازم

في الوقت] وهو " اللام " في اسم الله، جل ذكره، فقس عليه ما كان مثله. وقوله: {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ}. {وَأَنَّ}: في موضع رفع عطف على: {ذلك}. وقيل المعنى: وذلك وأن للكافرين، و {ذلكم}: في موضع رفع على معنى: الأمر ذلكم، أو: ذلك الأمر. وقيل: {وَأَنَّ} في موضع نصب على معنى: واعلموا أن للكافرين، كما قال. يَالَيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً

أي: وحاملاً رمحاً. ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: وأن للكافرين. ومعنى الكلام: هذا الذي عُجَّلَ لكم من ضرب الأعناق وضرب كلِّ بنان في الدنيا ذوقوه، أيها الكافرون، واعلموا أن لكم في الآخرة عذاب النار. ثم قال تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ} الآية. والمعنى: إن الله أمر المؤمنين ألا يَفِرُّوا من الكفار إذا تدانى بعضهم من بعض

عند القتال. وقيل: المعنى: إذا وَاقفَتْمُوهُم فلا تفروا منهم، ولكن أثبتوا فإنّ الله معكم. ثم توعد من يتولى أنه يرجع بغضب من الله، وأنَّ مأواهم جهنم، وأرخص لهم أن يتحرف الرجل لتمكنه عودة إلى الظفر، لا ليولي هارباً، وأرخص أن ينحاز الرجل إلى فئة من المؤمنين ليكون معهم. يقال: تحوَّزت وتحيّزتُ. قال الضحاك: " المُتَحَرِّفُ ": المتقدم من أصحابه ليظفر بعودة للعدو، و " المُتَحَيَزُ ": الذي يرجع إلى أميره وأصحابه. قال عطاء: هذا مَنْسُوخٌ، نسخه: {يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] الآية،

فأُمِروا أن يَفِرُّوا ممن هو أكثر من مِثْلَيْهم. وقال الحسن: الآية مخصوصة في أهل بدر خاصة، وليس الفرار من الكبائر. وقال أبو سعيد الخدري: نَزَلَتْ في أهل بدر، يعني: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ}. ودليل أنها مخصوصة يوم بدر قوله: {يَوْمَئِذٍ}، فعلق الحكم بيوم معلوم.

وقال ابن عباس: الآية محكمة، وحكمها باق إلى اليوم، والفرار من الكبائر. ومعنى: {بَآءَ بِغَضَبٍ}. أي: رجع به. وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ}. أي: لم تقتلوا أيها المسلمون المشركين. {ولكن الله قَتَلَهُمْ}. أضاف ذلك إلى نفسه، تعالى، إذ كان هو المسبِّب قتلهم، والمعين عليه، وعن أمره كان، وينصره تَمَّ. رُوِيَ أن جبريل عليه السلام، قال للنبي A، عند الزحف: خُذْ قبضة من تراب فَارْمِهِم بها، ففعل يبق أحد من المشركين إلا أصابت عينه وأنفه وفمه، فولَّوا مُدْبِرِين.

فلما أظْفَرَ الله المؤمنين بالمشركين، جعل كل واحد يقول: فعلت كذا، وصنعت كذا، فأنزل الله، D: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى}. وهذا يدلُّ على خلاف قول من يقول: إنَّ العبد يفعل حقيقة. ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، يخاطب النبي A، { ولكن الله رمى} أي: الله المسبِّب للرمية، وهذا حين حَصَبَ النبي A، الكفار فهزمهم الله. قال عكرمة: ما وقع منها شيء إلا عَيْنِ رجل. وقيل: " إن النبي A، أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، لما دنوا من رسول الله A، وأصحابه، وقال: " شاهت الوجوه! " فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل

أصحاب رسول الله A، يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم من رَمْيَةٍ رسول الله/ A، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} الآية ". قال قتادة: أخذ النبي A، يوم بدر ثلاثة أحجار فرمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث. وقيل: إن النبي A، رمى أُبَيَّ بن خلف الجمحي يوم بدر بحربة في يده فسكر له ضلعاً فمات منه، وكان النبي، عليه السلام، قد أوْعَدَهُ أنه يقتله. وَيُرْوَى " أن النبي A، كان جالساً يوم بدر في عريش، وأبو بكر في يمينه، والنبي A، يدعو ويقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد! اللهم النصر الذي وعدتني "، فألح النبي A، في الدعاء، فقال أبو بكر، Bهـ: " خفض يا رسول الله، دعاءك، فإنَّ الله متممٌّ لك ما وعدك، فَخَفَقَ رسول الله [ A] ، من نعسة نعسها،

ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر، فقال: " أبشر بنصر الله، رأيت في منامي بقلبي جبريل عليه السلام، يَقْدُمُ الخيل على ثنية النقع ". فلما التقى الجمعان خرج النبي A من العريش، فأخذ حَصْباً من الأرض فرمى بها في وجوههم، ثم قال: " شاهت الوجوه ثم لا ينصرون، لا ينبغي لهم أن يظهروا " فرمى مقابل وجوههم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم ثلاث مرات فلم تقع تلك الحصباء على أحد إلا قتل وانهزم، وصار في جسده خضرة ". قال أبو عبيدة معناه: ما ظفرت ولا أَصَبَتَ، ولكن الله أظفرك ونصرك. يقال: رمى الله لك، [أي]: نصرك. وحُكِى أن بعض العلماء قال في معناها: وما رميت قلوب المشركين إذ رميت وجوههم بالرمل والتراب، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع فهزمهم عنك برميته لا برميتك.

وقوله: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً}. يريد به من استشهد ذلك اليوم، وكان قد استشهد من المؤمنين ذلك اليوم أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وهم: عُبَيْدَة بن الحارث بن عبد المطلب، توفي بـ: " الصَّفْرَاءِ "، من ضَرْبَةٍ في سَاقِهِ. وعُمَيْرُ بن مالك بن وُهَيْب.

وأبو سعيد بن مالك. وذو الشِّمَالَِيْنِ: عمير بن عمرو بن نَضْلة. وغَافِلُ بن البُكَيْر، سماه النبي: عاقل بن بكير وهو حليف لبني عَدِيٍّ. ومَهْجَع، مولى عمر من الخطاب، (Bهـ)، وهو أول من قتل يوم بدر. وصفوان بن بَيْضاء، من بني الحارث بن فِهر.

وثمانية من الأنصار من الأوس، وهم. سَعْد بن خيثمَةَ بن الحارث. وَمُبَشِّر بن عبد المنذر، وهو أخو أبي لُبابة، وهو نقيب. وعُمَير بن الحُمام.

وابنا عفراء: معاذ وعمرو. ورَافِعُ بن المُعَلّى.

ويزيد بن الحارث ابن فُسْحُم. [وحارثة] بن عندي بن سُرَاقَة. " وكان حارثة صغير السن بعثته أمه مع عمر بن الخطاب يخدمه، فكان يعجن، فسمع النبي A يقول: " إن الله ليضحك إلى عبده يخرج [متفضلاً في ثوبه شاهراً سيفه فيقاتل حتى يقتل "، فترك العجين وخرج] إلى القتال فاستشهد، فلما قدم النبي A، المدينة، أتت أمه وأخته إلى عمر فسألتاه عن حارثة، فقال: استشهد، ثم ذهبتا إلى أبي بكر فسألتاه عن حارثة، فقال لأنه: أبنك في الجنة، ثم ذهبت إلى النبي A، فقالت: يا رسول الله ابني، فقال: " ابنك في الرفيق/ الأعلى "، فحمدت الله، وقالت: طوبى لمن كان منزله في الرفيق الأعلى، فكان الناس يعدون، وهي تهنأ ".

وأم حارثة هذه هي بنت النضر، عمة أنس بن مالكل بن النضر. وروى ابن وهب: أنّ عبد الرحمن بن عوف؛ قال: بينا أنا يوم بدر في الصَّفِّ إذا غلام عن يمين وآخر عن يساري، يغمزوني أحدهما سراً من الآخر، فقال: يَاعَمَّ، فقلت: ما تشاء، قال: أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا؛ إنه بلغني أنَّهُ يَسُبُّ رسول الله [ A] ، قال عبد الرحمن بن عوف: (ثم غمزني) الآخر سراً، فقال: يا عم، أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا. قلت: بأبي أنتما وإمي، وأشرت لها إليه، فبلغني أنه قتلهما، وهما: ابنا عفراء، وقطعا يده ورجله قبل أن يقتلهما. وقال ابن مسعود: فجئت أبا جهل، وهو فرعون هذه الأمة فوجدته مقطوع اليد والرجل، فقلت: أخزاك الله، فقال: رُوَيْع غنم ادْنُهْ فإن الفحل يحمي إبله وهو معقول. قال ابن مسعود: وكان معه سيف جيّد، ومعي سيف ردي، فأدرت به حتى أخذت سيفه، ثم ضربته به حتى مات، ثم جئت النبي A، فأخبرته بقتلي لأبي جهل

فقال: آلله، قلت آلله، فقال: آلله، قلت: آلله، مرتين أو ثلاثاً. وقتل يومئذ من المشركين أكثر من سبعين، وأسر سبعون. وكان الأسود بن عبد الأسد المخزومي حلف قبل القتال بآلهته ليشربن من الحوض الذي صنع محمد، وليهدمنّ منه، فلما دنا من الحوض لقيه حمزة بن عبد المطلب. فضرب رجله فقطعها، فأقبل يحبوا حتى وقع في الحوض، وهدم منه، وأتبعه حمزة فقتله فكان أول من قتل من المشركين، فاحتمى له المشركون، فبرز منهم ثلاثة: عُتْبة بن ربيعة، وشيبة [بن ربيعة]، والوليد بن عتبة [بن ربيعة]، ونادوا بالمبارزة فقام

أليهم نفر من الأنصار. فاستحيى النبي A وأحبَّ أن يَبْرَزَ إليهم من بني عمه، فناداهم: أن ارجعوا إلى مصافكم. وليقم إليهم بنو عمهم، فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب. وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فبرز حمزة: لعتبة، وعبيدة: لشيبة، وعلي: للوليد فقتل حمزة: عتبة، وقتل علي: الوليد، وقتل عبيدة: شيبة، بعد أن ضرب شيبةُ رِجْل عبيدة فقطعها، فَحُمِل حتى توفي بـ: " الصَّفْراء ". فكان قتل هؤلاء النفر أن يلتقي الجمعان. وقيل معنى: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين}. أي: وليُنعم عليهم نعمة حسن بالظفر والغنيمة والأجر. {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. أي: {سَمِيعٌ} لدعاء نبيكم، {عَلِيمٌ} بمصالحكم. وقيل: معناه: وليختبر الله المؤمنين اختباراً حسناً.

18

قوله: {ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ} إلى: {المؤمنين}. {ذلكم}: في موضع رفع على معنى الأمر: {ذلكم}. أو: الأمْرُ. ويجوز فيها، وفيما تقدم أن تكون في موضع نصب على معنى فعل: {ذلكم}. و {ذلكم} إشارة إلى ما تقدم من قتل المشركين والظفر بهم. وقوله: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ}، أي: واعلموا أن الله مُضْعِفٌ {كَيْدِ الكافرين}، حتى ينقادوا.

وكل ما جاز في {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} [الأنفال: 14]، جاز في هذه. وقيل معنى {مُوهِنُ}: يلقي الرعب في قلوبهم. وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح}. هذا خطاب للكفار، قالوا: اللهم انصر أحب الفريقين إليك. ومعنى {تَسْتَفْتِحُواْ}: تستحكموا/ على أقطع الحزبين للرحم. أي: إن تستدعوا الله أن يحكم بينكم في ذلك {فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح}، أي: الحكم.

{وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. أي: إن تنتهوا عن الكفر بالله، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. قال السدي: كان المشركون إذا خرجوا من مكة إلى قتال النبي A أخذوا أستار الكعبة فاستنصروا الله. وقوله: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ}. أي: إن عدتم إلى القتال عُدْنا لمثل الوقعة التي أصابتكم يوم بدر. {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً}. أي: جنودكم وإن كانت كثيرة. وقيل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح}: للمؤمنين، وما بعده للكفار. وقوله: {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين}، عطف على: {وَأَنَّ الله مُوهِنُ}. وقيل: المعنى: ولأنَّ الله مع المؤمنين.

21

وقيل المعنى: واعلموا أنّ الله. فيجوز الابتداء بها مفتوحة على هذا القول. وقيل: إنه كله خطاب للمؤمنين، أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتم من أخذ الغنائم والأسرى قَبْل الإذن {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نَعُدْ إلى توبيخكم، كما قال تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ (لَمَسَّكُمْ)} [الأنفال: 68] الآية. وقيل المعنى: {وَإِن تَعُودُواْ} أيها الكفار، إلى مثل قولكم واستفتاحكم نعد إلى نصرة المؤمنين. قوله: {يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ}، إلى قوله: {وهم مُّعْرِضُونَ}.

المعنى: إنّ الله نهى المؤمنين أن يُدْبِروا عن النبي A، مخالفين لأمره، وهم يسمعون أمره، ولا يكونوا كالكفار الذين قالوا: {سَمِعْنَا}، بآذاننا {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، بقلوبهم، ولا يعتبرون ما يتلى عليهم. وأنَّما قيل: {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، وقد سمعوا؛ لأنّ من لم ينتفع بما سمع كان بمنزلة من لم يسمع. وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم}. أي: إنَّ شرَّ ما دبّ على وجه الأرض من خلق الله عند الله {الصم}: عن الحق، فلا ينتفعون به. ولا يتدبرونه، {البكم}: عن قول الحق والإقرار بالله، D، ورسله، صلوات الله عليه {الذين لاَ يَعْقِلُونَ}: العُمْيُ عن الهدى. قال مجاهد هم صُمُّ القُلوبِ وبُكْمها وعُميها، وقرأ: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] الآية. وعُني بهذه الآية عند ابن عباس: نفر من بني عبد الدار.

وقيل عُني بها: المنافقون. ثم قال: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}. أي: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه. أي: لو علم من نياتهم وضمائرهم مثل ما ينطقون به بأفواههم من الإيمان الذي لا يتعقدونه {لأَسْمَعَهُمْ}، أي لجعلهم يعتقدون بقلوبهم مثل ما ينطقون به بأفواههم، فالإسماع في هذا إسماع القلوب وقبولها ما تسمع الآذان. وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ}. عاقبهم بالطبع على قلوبهم، لِمَا علم من إعراضهم عن الإيمان، وما علم من كفرهم، ولذلك دعا موسى عليه السلام. على قومه، فقال: {واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88]. عاقبهم بالدعاء عليهم لِمَا تبين من إصراررهم على الفكر، وتماديهم عليه، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} ذلك {لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}، حسداً ومُعاندةٌ.

24

وقيل: المعنى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ/ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ}. أي: لَفَهَّمَهُم مواعظ القرآن حتى يعقلوا، ولكنه علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب عليهم الشقاء، فلو فهَّمهم ذلك {لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}؛ لأنه قد سبق فيهم ذلك، والآية للمشركين، وقيل: للمنافقين. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ}، إلى قوله: {شَدِيدُ العقاب}. قال أبو عبيدة معنى {استجيبوا}: أجيبوا، كما قال: فلم يستجب عند ذك مُجيب، أي: يجبه. ومعنى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}.

أي: للإيمان. وقيل: للإسلام. وقيل: للحق. وقيل: للقرآن ومافيه. وقيل: إلى الحرب وجهاد العدو. وسماه " حياةً "؛ لأنَّ الكافر مثل الميِّت.

وقيل معنى: {لِمَا يُحْيِيكُمْ}، أي: لما تصيرون به إذا قبلتموه إلى الحياة الدائمة في الآخرة. " ورُوِيَ أن النبي A، دعا أُبيّا وهو يصلي فلم يجبه أبيّ، فخفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي A، فقال له النبي A: ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي، قال له: أفلم تجد فيما أوحي إليَّ: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟ قال: بلى، يا رسول الله، ولا أعُودُ ". فهذا يبين أن المعنى يراد به الذين يدعوهم رسول الله A. إلى ما فيه حاية لهم من الخير بعد الإسلام المدعو إيمانه.

وقوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ}. قال ابن جبير: يحول بين الكافر أن يؤمن، وبين أن يكفر. وكذلك قال ابن عباس. وقال الضحاك: يحول بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته. وقال مجاهد معناه: يحول بين المرء وعقله (حتى لا يدري ما يصنع. وقال السدي في معناه: يحول بين الإنسان وقلبه). فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه. وقيل المعنى: يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه من طول العيش وامتداد الآمال والتسويف بالتوبة، فيعاجله الموت قبل بلوغ شيء من ذلك.

وقال قتادة معناه: إنَّه قريب من قلب الإنسان، لا يخفى عليه شيء أظْهَرَهُ، ولا شيء أسَرَّهُ، وهو مثل قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16]. وقال الطبري: هو خبر من الله D، أنه أملك بقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً من الإيمان ولا الكفر، ولا يَعِي شيئاً. ولا يفهم شيئاً، إلا بإذنه ومشيئته. وقد كان النبي A، كثيراً ما يقول في دعائه: " يا مُقَلِّب القُلُوبِ قَلِّبْ قلبي إلى طَاعَتِك ". وفي رواية أخرى: " ثبِّتْ قلبي على طاعتك ". وكان يحلف: " لاَ ومُقلِّب القُلُوب ".

ومن هذا يقال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله، فمعناه: لا حولَ عن معصية، ولا قوة عن طاعةٍ إلا بالله. (وقال النبي A، إذ نظر إلى زوجة زيد) فاستحسنها، وقد كان عرضت عليه نفسها فلم يستحسنها: " سُبْحَانَ مُقلِّبَ القُلُوبِ ". {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. أي: تردون. وقوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}. المبرد يذهب إلى أنَّ {تُصِيبَنَّ}، نَهْيٌ، فلذلك دخلت " النون ".

والمعنى في النَّهي: للظالمين، أي: لا تقربوا/ الظلم، وهو مثل ما حكى سيبويه من قوله: (لا أرينَّك هاهنا)، أي: لا تكن هاهنا؛ فإنَّ من يكون هاهنا أراه. وقال الزجاج: هُوَ خَبَرٌ. ودخلته " النون "؛ لأن فيه قوة الجزاء، قال: وزعم بعضهم أنه جزاء فيه ضرب من النهي. ومثله مِمَّا اخْتلفَ فيه: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} [النمل: 18].

ومعنى ذلك: أنها أمر من الله للمؤمنين أن يتقوا اختباراً وبلاء يبتليهم به، لا يُصيبنَّ ذلك {الذين ظَلَمُواْ}، بل يصيب الظالمين وغيرهم. فالظالمون هم الفاعلون الكفر. وقيل: نَزَلَتْ في قوم من أصحاب النبي A، وهم أصحاب الجمل. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يُقِرُّوا المنكر بين أظهُرِهِمْ، فيعمهم الله بالعذاب. وقال الزبير، يوم الجمل لما لقي ما لقي، ما توهمت أن هذه الآية نزلت في

أصحاب محمد A، إلا اليوم. وقال القُتَيْبي معناه: لا تخص الظالم، ولكنها تعم الظالم وغيره. وقوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون} [الأنعام: 47]. يَدُلُّ على أنَّ العقوبة تخص الظالم. وقد يدخل المداهن الساكت على رؤية المنكر في الظُّلم، فيكون ممن يلحقه العقاب مع الظالم. وقد قال الحسن: إنَّ الآية نزلت في علي، وعثمان. وطلحة، والزبير [Bهم]. وأكثر النَّاس على أن حكمها باقٍ في الظالم، والمداهن الساكت على إنكار المنكر،

26

وهو يقدر على إنكاره، فإن كان لا يقدر على الإنكار، وخاف على نفسه، أنكر على قدر استطاعته أو بقلبه. قوله: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. أي: لمن عصاه وخالف أمره. قوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض}، إلى قوله: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}. هذه الآية تذكيرٌ من الله D، للمؤمنين بما أنعم عليهم من العز، بعد أن كان المشركون يستضعفونهم. وهُم قَلِيلٌ، ويفتنونهم عن دينهم، ويسمعونهم المكروه. قوله: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس}. أي: يقتلونكم. {فَآوَاكُمْ}. أي: جحعل لكم مأْوى تأوون إليه منهم. {وَأَيَّدَكُم}. أي: قوّاكم بنصره إياكم عليهم حتى قتلتموهم.

{وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات}. أي: أحلَّ لكم غنائمهم. ف: {الطيبات}، هنا: الحلال. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. و " لعلّ " هاهنا: ترج يعود إليهم. والطبري يجعلها بمعنى: " كَيْ ". و {الناس}، في هذا الموضع: الذين كانوا يخافون منهم، كفار قريش بمكة، كان المسلمون قِلَّةً يُستَضعفونَ بمكة. قال الكبي، وقتادة: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا يومئذ قلة يخافون أن يتخطفهم الناس، فقوَّاهم الله بنصره، ورزقهم غنائم المشركين حلالاً.

وقال وهب بن مُنَبِّه: {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس}: فا رس. وقيل: هي: فارس والروم. وقال الطبري معنى: {فَآوَاكُمْ}، أي: إلى المدينة، {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ}، أي: بالأنصار. وكذلك قال السدي. ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول}. قوله: {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ}. في موضع نصب على الجواب. على معنى: أنكم إذا ختم الله والرسول خنتم

أماناتكم. وقيل: هو موضع جزم على النهي نسَقاً على: {لاَ تَخُونُواْ}. ومعنى خيانة الله والرسول: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. وقيل: هذه الآية نزلت في منافق كتب إلى إبي سفيان/ يطلعه على سر المسلمين. وقيل: خيانة الرسول (صلى الله عليه سلم): ترك العمل بسنته. وقليل: نزلت في أبي لُبَابَة. لما بعثه النبي A، إلى بني قريظة فأشار إليهم إلى

حلقة: إنَّه الذَّبحُ. قال الزُّهْري: فقال أبو لُبابة: لا والله، لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ، فمكث سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب حتَّى خَرَّ مغشياً عليه، حتى تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تاب الله عليك، قال: لا والله، لا أَحُلُّ نفسي حى يكون رسول الله A، هو الذي يَحُلُّني. فجاءه رسول الله A، فحلَّهُ بيده. ثم قال أبو لبابة: إنَّ توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع عن مالي، قال: يَحْزِيك الثلث أن تتصدَّق به. وقيل: الآية عامة. نُهوا ألاَّ يخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون. وقوله: {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ}. أي: لا تفعلوا الخيانة، فإنها خيانة لأماناتكم.

29

وقيل المعنى: ولا تخونوا أماناتكم. و" الأمانة " هاهنا: ما يُخفى عن أعين النَّاس من ترك فرائض الله، D، وركوب معاصيه. قوله: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ}. أي: اختباراً اختبرتم بها. وابتلاءً ابتليتم بها. لينظر كيف أنتم فيها عاملون. {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. أي: جزاء وثواباً على طاعتكم. قوله: {يا أيها الذين ءامنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}، إلى قوله: {خَيْرُ الماكرين}. والمعنى: إن تتقوا الله في أداء فرائه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسول الله A: { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}، أي: فَصْلاً. وفرْقاً بين حقكم وباطل

مَنْ يبغيكم السوء، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، أي: يمحها، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}. أي: يستتر لكم على ذنوبكم، {والله ذُو الفضل العظيم}، عليكم وعلى غيركم. وقيل: {فُرْقَاناً}: مخرجاً. وقيل: نجاةً. وقيل: نصراً.

وقال ابن زيد معناه: يفرق في قلوبكم بين الحق والباطل حتى تعرفوه. وقال مجاهد: مخرجاً من الضيق إلى السعة، ومن الباطل إلى الحق. قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ}، الآية. المعنى: واذكر، يا محمد إذ يمكر. وهذه الآية تذكير للنبي A، بنعم الله D عليه، {الذين كَفَرُواْ}: هم مشركو قريش. قال [ابن عباس] معنى {لِيُثْبِتُوكَ}، أي: ليُوثِقُوك وليثقفوك.

وكذلك قال مجاهد: وقتادة. وذلك بمكة. وقال السدي: {لِيُثْبِتُوكَ}: ليحبسوك ويوثقوك. وقال ابن زيد، وابن جريج: ليحبسوك. وقال ابن عباس: اجتمع نَفَرٌ من قريش من أشرافهم، في دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأَوْهُ قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نَجْد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولَنْ يَعْدَمَكم منِّي رأيٌّ ونُصْحٌ. قالوا: أجَل، ادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في أمر هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثَاق. ثم تربصوا به ريب

المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء. فصرخ عدو الله الشيخ النَّجدي وقال: والله، ما هذا بِرأْي، والله ليخرجنه رأيه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فمنعوه منكم، / فما آمنُ أنْ يخرجوكم من بلادكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا برأي، ألْم تروا حلاوةَ قوله ولطافةَ لسانه، وأخْذَ القلوب لما يُسْمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ليستعرضن وليجمعن عليكم، ثم ليأتينَّ إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق، قال أبو جهل: والله لأشيرنَّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً وسيطاً شاباً، ثم نعطي كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا أظُنّ هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش، وأنَّهم إذا

رأوا ذلك قَبِلوا العقل واسترحنا. فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأيُ، القول ما قال الفتى، فتفرقوا على ذلك، وأتى جبريل (النبيَّ) A، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، ثم أمره بالخروج، فأنزل الله عليه بالمدينة: " الأنفال " يذكره نِعَمه عليه في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ}، الآية. فأنزل في قولهم " نتربص به حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ": {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30]. وكان يسمى ذلك اليوم الذي اجتمعوا فيه " يوم الزحمة ". ولما أجمعوا على ذلك باتوا يحرسونه ليوقعوا به بالغداة. فخرج النبي A، وأبو

31

بكر إلى الغار، وأمر النبي A، عليّاً أ، ْ يبيت في موضعه، فتوهم المشركون أنه [النبي] A، فباتوا يحرسونه، فلما أصبح وجَدوا عليًّا، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فركبوا وراءه كل صعب وذلول يطلبونه، ومَرُّوا بالغار قد نسج على فمه العنكبوت، فمكث النبي A. فيه ثلاثاً. " ويُرْوَى أن النبي A، قال لعليّ: نَمْ على فراشي وتَسَجَّ بِبُرْدي هذا الحَضْرَمي؛ فإنه لن يخلص إليك شيءٌ تكرهه، ثم خرج النبي A، وأبو جهل وأصحابه على الباب، وأخذ النبي A، حَفْنَة من تُراب، وأخذ الله بأبصارهم فلا يرونه، فجعل يثير التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: {يس}، إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} فلم يبق منهم رجلٌ إلا وضع النبي A، على رأسه تراباً، وانصرف إلى حيث أراد، فآتاهم آتٍ فأعلمهم بحالهم، فوضع كُلُّ رجل منهم يده على رأسه فوجد تُراباً، فانصرفوا بِخِزْي وَذُلٍّ. " قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ [قَدْ] سَمِعْنَا} إلى قوله: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

المعنى: أنَّ الله D، حكى عنهم: أنهم يقولون إذا يُتلى عليهم القرآن: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا} مثله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين}، أي: سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأُمم. قال ابن جريج: كان النضرُ بنُ الحارث يختلف تاجراً إلى فارس، فيَمرُّ بالعبادِ وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. فجاء مكة، فوجد/ محمداً A، قد أُنْزِلَ عليه وهو يركع ويسجد، فقال: {قَدْ سَمِعْنَا}، مثل هذا {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا}، يعني: ما سمع من العِبَادِ. وقال السدي: كان النَّضْر يختلف إلى الحيرة. فيسمع سجْع أهْلها وكلامهم، فلما سمع بمكة كلام النبي A، والقرآن، قال: قد سمِعْتُ مثله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين}، يقول: أسَاجيع أهل الحيرة. و {أَسَاطِيرُ}: جمع الجمع،

فهو جمع " أسطر "، و " أسطر " جمع سطر. وقيل: إنه جمع، وواحده: " أسطورة ". وقُتِل النَّضر هذا وهو أسير يوم بدر صَبْراً. أسره المقداد. فقال النبي A، اقتله؛ فإنَّه يقول في كتاب الله ما يقول، فراجعه المقداد ثلاث مرات، كل ذلك يأمره بقتله، فقتل. وقوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم}، الآية. معناه: واذكر، يا محمد، إذْ قالوا ذلك. والذي قاله عند ابن جُبير: هو النَّضْر بن الحارث. وقال مجاهد: هو النَّضْر بن كَلَدَة، وأنَّه قتل بمكة بدليل قوله: {وَمَا كَانَ

(الله) لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}. ومعناه أنه قال: اللهم إنْ كان هذا الذي أتى به مُحمّدٌ هو الحق، {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. قال عطاء: لقد نزل فيه بضع عشرة آية، منها: ما ذكرنا ومنها قوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16]، الآية، ومنها: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} [الأنعام: 94]، الآية. ومنها: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] الآية.

33

قال أبو عبيدة: كلُّ شيء من العذاب فهو " أمطرت "، ومن الرحمة " مَطِرت ". قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، إلى قوله: {لاَ يَعْلَمُونَ}. والمعنى: وما كان الله ليعذِّب هؤلاء الذين تمنوا العذاب وأْنت مقيم بين أظهرهم. وكان قد نزلت عليه وهو مقيم بمكة. ثم خرج النبي A، من مكة، فاستغفر من بها من المؤمنين، فنزلت عليه بعد خروجه: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}. ثم خرج أولئك البقية من المؤمنين، فأنزل الله، D: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، الآية، بالمدينة، فعذَّب الله، ( D) . الكفار، إذْ أذِنَ للنبي A، بفتح مكة، فهو العذاب الذي وُعِدوا به. قال ذلك ابن أبي أبزى.

وقال أبو مالك نزل الجميع بمكة، فقوله: {وَمَا كَانَ [الله] لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، يعني: النبي A، { وَمَا كَانَ [الله] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يعني: من بِها من المسلمين {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: من بمكة من الكفار. فمعنى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، أي: خاصة، فعذبهم الله ( D) . بالسيف، وفي ذلك نزلت: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، الآية. وهو النَّضْر. سأل العذاب. ورُوِيَ عن ابن عباس [أنَّ] المعنى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}، يا محمد، أيْ: حتى نخرجك من بين أظهرهم، {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، قال: كان المشركون يطوفون بالبيت يقولون: " لبَّيْك لبَّيْك، لا شريك لك "، فيقول النبي A " قَدْ، [قَدْ] "، فيقولون: " إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك "، ويقولون: " غُفرانك،

غُفرانك "، فهذا استغفارهم. قال: وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني في الآخرة. وقال قتادة المعنى: {وَمَا كَانَ (الله) مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: لو استغفروا لم يعذّبهم، ولكنهم ليس يستغفرون، فلذلك قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، وهم لا يستغفرون، ويصدون عن المسجد الحرام. وهو اختيار الطبري. قال: كما نقول: " ما كنتُ لأُحسن إليك وأنت تسيء إليَّ "، يراد به: لا أحسن/ إليك إذا أسَأْتَ إليَّ، أي: لو أسَأْتَ إِلَيَّ لم أُحسن إليك. وكما قال: بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشْيمُوا سُُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ

أي: إنما شاموها بعد أن كثرت القتلى. وشمتُ السيف من الأضداد، شمتُه: سللته وأغمدته. وقال بعض العلماء: هما أمانان أنزلهما الله D، فالواحد قد مضى وهو النبي A، والثاني باق وهو استغفار (أمِنَ) من نزول العذاب به في الدنيا. وقال ابن زيد معنى: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: لو استغفروا لم أعذبهم. وهم لا يستغفرون، فما لهم ألاَّ يُعَذَّبوا. وهو قول قتادة الأول. ومعنى ذلك قال السدي.

وقال عكرمة المعنى: لم يكن الله ليعذبهم وهم يُسلمون. و" الاستغفار " هنا: الإسلام. وقال مجاهد: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، أي: وهم مسلمون، {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: قريشاً، بصدهم {عَنِ المسجد الحرام}. ورُوِيَ عن ابن عباس، أيضاًُ أنَّه قال: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، [أي:] فيهم من سبق له [من الله] الدخول في الإسلام، فاستغفار مقدر فيهم يكون قال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: يوم بدر بالسيف. ورُوِيَ عنه أيضاً: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: وهم يصلون. ورُوِيَ عنه أيضاً: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وفيهم مؤمنون يستغفرون فلما خرجوا

مع النبي A، أنزل الله D: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: من بقي من الكفار بمكة. وعن مجاهد أيضاً: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: يصلون. وكذلك قال الضحاك. ورُوِيَ عن عكرمة، والحسن أنهما قالا: قوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يعني: المشركين، ثم نسخ ذلك قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ [الله] وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام}. وقيل المعنى: وأولادهم يستغفرون، قد سبق في علم الله، D، أنهم يؤمن أولادهم ويستغفرون، فلم يكن ليعذب هؤلاء بالاستئصال. وقد سبق أنهم يلدون

من يؤمن ويستغفر. وقيل المعنى: وفيهم من يستغفرون. وهم من كان بمكة بين أظْهُرهم من المؤمنين لم يخرجوا بعد من المستضعفين وغيرهم، وقاله الضحاك. قال: وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، يعني: الكفار خاصة. قال مجاهد: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}: يصلون، يعني: من بمكة من المؤمنين. وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}. " أنْ ": في موضع نصب. والمعنى: وأي شيء لهم في دفع العذاب عنهم. وهذه حالهم.

وقيل: هي زائدة. وقيل المعنى: وما كان يمنعهم من أن يعذبوا. وهذه حالهم. قوله: {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ}. يعني: مشركي قريش. {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون}. يعني: أصحاب النبي A. وقال مجاهد {إِلاَّ المتقون}، أي كانوا أو حيث كانوا. {ولكن أَكْثَرَهُمْ}. أي: أكثر المشركين: {لاَ يَعْلَمُونَ}، أنّ أولياء الله هم المتقون، بل يحسبون

أنهم هم أولياء الله. ومن قال: إنّ قوله: {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يعني به المؤمنين، وقف على: {وَأَنتَ فِيهِمْ}، لأن الأول للكافرين، والثاني للمؤمنين، وهو قول الضحاك، وعطية، وابن عباس في بعض الروايات عنه. ومن قال: إنّ الكلام كله للكفار، وهو ما روي عن ابن عباس، وأبي زيد، والسدي، لم يقف على: {وَأَنتَ فِيهِمْ}. {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ}، وقف. والأحسن في هذه الآيات أن يكون المعنى: أن منهم من سيؤمن فيستغفر،

35

وقد علم الله D، ذلك منهم، فهو قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، / أي: سيكون منهم ذلك، ومنهم من يموت على الكفر، علم الله ذلك منهم، فهم الذين قيل فيهم: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله}، والسورة مدنية كلها. قوله: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}، إلى قوله: {يُحْشَرُونَ}. رُوي عن أبي بكر عن عاصم: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ}، بالنصب، {إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً}، بالرفع، مثل قول

الشاعر: يكون مِزَاجَهَا عسل وماء. ... ومعنى الآية: وما كان يا محمد، صلاة هؤلاء المشركين عند البيت الحرام {إِلاَّ مُكَآءً}، أي: تصفيراً، {وَتَصْدِيَةً}، أي: تصفيقاً. يُقال: مَكا يَمْكُو مَكْواً ومُكاءً، إذا صَفَر.

وصدَّى يُصدِّي تصدية، إذا صفَّق. وقال ابن زيد، وابن جبير: (التصدية): صدهم عن سبيل الله. وهذا إنما يجوز على أن تقدر أنَّ " الياء " بدل من " دال "، مثل: تظَنَّيتُ في تَظَنَّنْتُ. وحكى النحاس: أنه يجوز أن يكون معناه: الضجيج والصياح، من قولهم: " صدَّ يَصُدُّ " إذا ضجَّ. وتبدل من إحدى " الدالين " " ياء " أيضاً كالأول، وأصله: " تَصْدِدَة " في

القولين جميعاً، ثم أبدلت من " الدال الثانية " " ياء ". قال ابن عباس: كانت قريش تطوف حول البيت عراة يُصفرون ويصفقون، فأنزل الله D، { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]، فأُمر بلبس الثياب. وقال مجاهد " المُكاء ": إدخالهم أصابعهم في أفواههم ينفخون، و " التَّصْدِيَةُ ": الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمداً A عن الصلاة. وقال قتادة " المُكَّاءُ ": الصَّفير بالأيدي، و " التَّصْدِيَةُ ": صياح كانوا يعارضون به القرآن. وقال السدي " المُكاء ": صفير على لحن طير أبيض يقال له: " المُكَّاء "، يكون بأرض الحجاز.

وقوله: {فَذُوقُواْ العذاب}. هو العذاب بالسيف الذي نزل بهم يوم بدر. وهذا ذوق بالحس يصل ألمه إلى القلب كما يصل الذوق في مرارته وطيبه إلى القلب فسمي ذوْقاً لذلك. ثم أخبرنا، تعالى، أنّ الذين كفروا يعطون أموالهم للمشركين مثلهم ليتقوَّوا بها على قتال النبي A، فيصدون بذلك عن سبيل الله، وهو الإسلام، فيسنفقون أموالهم {ثُمَّ تَكُونُ} نفقتههم عليهم {حَسْرَةً}؛ لأنَّ الأموال تذهب، ولا يصلون إلى ما أمَّلوا، فذهابها في الدنيا حسرة عليهم، وما اجترحوا من إثمها عليهم حسرة في

الآخرة أيضاً، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ}، ولا تنفعهم نفقتهم، وهم إلى ربهم يحشرون في المعاد. قال ابن أبزى: نزلت هذه الآية في أبي سفيان، استأجر يوم أُحد ألفين ليقاتل بهم النبي صلى عليه السلام، سوى من استجاش من العرب. قيل: إنَّه أنفق أربعين أوقية [من ذهب]، يوم أحد، والأوقية يومئذ: اثنان وأربعون مثقالاً. وذلك أنه لما وصل بالعير إلى مكة دعا الناس إلى القتال، فغزا رسول الله A في العام المقبل إلى أحد. وكانت بدر في رمضان، يوم جمعة صبيحة عشرة من رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه في العام الثاني من بدر، وهو العام الرابع من الهجرة. وروى جماعة من التابعين: أن أبا سفيان لما سلم بعيره [إلى مكة] / كانت العير لجماعة، فتكلم قريش إلى أصحاب العير أن يعينوهم بمالها على حرب النبي عليه السلام، ليطلبوا أَثْأَرهُم ففعلوا، فأنزل الله، D: { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية.

37

قوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث (مِنَ الطيب)}، إلى قوله: {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}. المعنى: إن الله D، يحشرهم ليميز الخبيث من الطيب، أي: أهل السعادة من أهل الشقاء. وقيل: المؤمن من الكافر، فيجعل الخبيث بعضه على بعض. (أي: يجعل الكافر بعضهم على بعض، أي: فوق بعض). {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً}. أي: يجمعه بعضه إلى بعض. و " الرُّكَامُ ": المُجْتمع، ومنه قوله في السحاب:

39

{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، أي يجمع المفترق، {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43]، أي: مجتمعاً كثيفاً. {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ}. أي: الخبيث فوحد اللفظ ليرده على الخبيث، ثم جمع آخراً رداً على المعنى. وقيل معنى: ليميز الخبيث من الطيب، أي: ما أنفقه الكافرون في معصية الله، سبحانه، فيجمعه فيجعله في جهنم، فيعذبون به. و {الطيب}: ما أنفقه المسلمون في رضوان الله D. ثم قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ}. أي: {قُل}، يا محمد، {لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ}، أي: عما نُهوا عنه، {يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}، أي: ما سلف وتقدم من ذنوبهم، {وَإِنْ يَعُودُواْ}، أي: إلى ما نهوا عنه من الصد عن سبيل الله D، والكفر بآيات الله سبحانه، وإلى مثل قتالك يوم بدر، {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}، أي: سنة من قتل يوم بدر، ومن هو مثلهم في أهلاك الله D، إياهم يوم بدر وغيرها. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}، إلى قوله: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.

المعنى: إن الله ( D) ، أمر المؤمنين بقتالهم لئلا تكون {فِتْنَةٌ}، أي: شرك. ف " الفتنة " هنا: الشرك، ولا يعبد إلا الله سبحانه. وقال قتادة: المعنى: حتى يقال: لا إله إلا الله. وقال الحسن: {فِتْنَةٌ}: بلاء. وقال ابن إسحاق معناه: حتى لا يفتن مؤمن عن دنيه، ويكون التوحيد لله خالصاً. {فَإِنِ انْتَهَوْاْ}. أي: عن الفتنة، وهي: الشرك، فإن الله لا يخفى عليه عملهم. {وَإِن تَوَلَّوْاْ}. عن الإيمان، وأبو إلا الفتنة، فقاتلوهم، واعلموا أن الله معينكم وناصركم، {نِعْمَ المولى} هو لكم، أي: المعين، {وَنِعْمَ النصير}، أي: الناصر.

41

قوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} الآية. هذه الآية تعليم من الله D، للمؤمنين، أن كل ما غنموه من غنيمة، وهو " الفيْ ". وقيل: " الغّنِيمَةُ ": ما أُخذ عنوة، و " الفَيْءُ ": ما أُخذ صلحا. ف: " الغَنِيمَةُ ": أربع أخماسها لمن شهد القتال، للراجل: سهم، وللفارس: سهمان.

والصلح على ما صولحوا عليه، وليس فيه خمس، إنما هو لمن سمى الله D، في قوله: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} [الحشر: 7]. وقيل: " الغنيمة "، و " الفي " واحد، فيه الخمس في " الحشر " قاله قتادة. وقوله: {للَّهِ خُمُسَهُ}. مفتاح كلام، والدنيا والآخرة لله، D/ وكان النبي A، يقسم " الخمس " على

خمسة: فخمس لله وخمس لرسوله هو [خمس] واحد. وقيل: إنَّ خمس لخمس لله وللرسول، كان النبي A، يقبض في " الخمس " قبضة فيجعله للكعبة، ثم يقسم باقي الخمس إلى خمسة. وقال ابن عباس: لم يكن النبي A، يأخذ من " الخمس " شيئاً، إنما كان يعطي ذلك لقرابته مع نصيبهم. وقد أجْمَعُوا على أنَّ " الخمس " لا يقسم على ستة.

ومذهب الشافعي أن يقسم الآن على: خمسة، فيجعل، جزء فيما كان النبي A، يجعله، وذلك أن يجعل تقوية للمسلمين، وكذا رُوي أنه كان يفعل، ويعطي الأربعة الأخماس: الخمس {وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} سهماً سهماً. وقال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة: للفقراء: ثلث، وللمساكين ثلث، ولابن السبيل ثلث؛ لأنَّ النبي A قال: " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ "، فسقط خمس رسول الله A وخمس ذوي القربى. ومذهب مالك Bهـ: أنَّ الإمام يعطي من رأى من هؤلاء المذكورين من هو أحوج، فإذا جعلت في بعض دون بعض جاز.

ومعنى: {وَلِذِي القربى}. هم قرابة رسول الله A، من بني هاشم. وقال أبو سعيد الخدري عن ابن عباس: إنهم قريش كلهم. {واليتامى}. أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم. {والمساكين}.

أهل الفاقة. {وابن السبيل}. المجتاز مسافراً قد انقطع به. {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله}. أي: صدقتم بتوحيده، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا. {يَوْمَ الفرقان}. وهو يوم بدر، فرق فيه بين الحق والباطل. {يَوْمَ التقى الجمعان}. يعني: جمع المسلمين وجمعْ المشركين، وهو أول مشهد شهده رسول الله A،

كان المشركون ما بين الألف والتسعمئة والمسلمون ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فقتل من المشركين أزيد من سبعين، وأسر مثل ذلك. وقال بعض نحويي البصرة قوله: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله}، متعلق بقوله: {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}. وقيل: هو متعلق بما قيل من ذكر الغنيمة وقسمتها، وجواب الشرط محذوف، والمعنى: إن كنتم [آمنتم] بالله فاقبلوا ما أمرتم به. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

42

أي: على إهلاك أهل الكفر، وغير ذلك مما يشاء قدير. قوله: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} إلى قوله: {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. العامل في {إِذْ} قوله: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] {إِذْ أَنتُمْ}. والمعنى: إذ أنتم نزُولُ شفير الوادي الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بشفير الوادي الأقصى إلى مكة. {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ}. أي: والعير التي فيها أبو سفيان وأصحابه أسفل منكم إلى ساحر البحر. ولا يقال: ركب إلا للذين على الإبل.

وكان أبو سفيان قد أتى هو وأصحابه تجاراً من الشام، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر أصحاب محمد A. بكفار قريش، ولا كفار قريش بأصحاب محمد عليه السلام، حتى التقوا على ماء بدر. {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد}. أي: لو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه عن ميعاد، لاختلفتم، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم. {ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}. أي: جمعكم الله D، وإياهم {لِّيَقْضِيَ الله} D، { أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}، وذلك القضاء هو/ نصره للمؤمنين، وتعذيبه للمشركين بالسيف والأسر. وقيل: المعنى: لو كان [ذلك] [عن] ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة

عددهم مع قلة عددكم، ما لقيتموهم. قال كعب بن مالك: إنما خرج النبي A، إلى بدر يريد عِيرَ قريش، حتى جمع الله D، بينهم وبين عدوهم؛ لأن أبا جهل خرج ليمنع النبي A، من العير، فالتقوا ببدر، ولا يشعر كل واحد بصاحبه. ثم قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ}. أي: ليموت من مات عن حجة، أي: جمعهم على غير ميعاد، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ}، أي: عن حجة قطعت عذره، ويعيش من عاش عن حجة قد ظهرت له.

وقيل المعنى: ليكفر عن أمر بيّن، ويؤمن من آمن عن أمر بَيّن. {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. أي: لقولكم: {عَلِيمٌ} بما تضرمه نفوسكم في كل حال. قوله: {مَنْ حَيَّ}. من قرأ بـ " الإِدْغامِ "، فإنه أدْغم لاجتماع المثلين؛ ولأنه في السواد بـ: " يَاءٍ " واحدة. ومن أظهر أجراه مجرى المستقبل، فلما لم يجز الإدغام في المستقبل (أجري

43

الماضي على ذلك، فأظهر وقد أجاز الفراء الإدغام في المستقبل)، ومنعه جميع البصريين؛ لأنه يجتمع في المستقبل حرفان متحركان، ف: " الياء " الثانية حق أصلها أن تكون ساكنة، ولا يقاس هذا على ما صح لم يخف؛ لأنَّ " يحيى " يحذف ياؤه للجزم، ولا يحذف في " يخف " شيء للجزم. قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً}، إلى قوله: {تُرْجَعُ الأمور}. والمعنى: إنّ الله D، يا محمد، {لَسَمِيعٌ} لما يقول أصحابك {عَلِيمٌ} بما يضمرون، إذ يريك عدوك وعدوهم {فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً}، فتخبر أصحابك بذلك، فتقوى

نفوسهم، ويجترئون على حرب عدوهم، ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيراً، لفشل أصحابك فجبنوا على قتالهم، وتنازعوا في ذلك، {ولكن الله سَلَّمَ}، من ذلك بما أراك في منامك من قتلهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ}، بما تُجِنُّه الصدور. قال مجاهد: أراهم الله عز جل، نبيّه عليه السلام، في منامه قليلاً، فأخبر أصحابه، فكان تثبيتاً لهم. وقال الحسن: كان ذلك رؤية حق غير منام. والمعنى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ [الله]} بعينك التي تنام بها {قَلِيلاً}، فالمعنى على هذا: في موضع منامك.

وهو عند جميع أهل التفسير رؤيا في النوم كانت، إلا الحسن: فأمّا قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم}، فهي رؤية حق لا منام، وهذا خطاب للنبي A، وأصحابه. ومعنى: {ولكن الله سَلَّمَرِ}. أي: سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظفرهمه. وقيل المعنى: سلم أمره فيهم. وقيل: سلم القوم من الفشل بما أرى نبيهم A. من قلتهم. قاله ابن عباس. يقال: فَشِل الرجل، أي: جَبُن.

ثم قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً}. أي: أراكم، أيها المؤمنون، عدوكم، قليلاً، وهم كثير ليهون عليكم أمرهم، فلا تجزعوا ولا تجبنوا، ويقلل المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم. قال عبد الله بن مسعود: قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جانبي: أراهم سبعين؟ قال: أراه مائة، قال: فأسرنا رجلاً منهم/ فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا. وكان من قول أبي جهل لأصحابه لما قلّل الله D، المسلمين في عَيْنَيْه: يا قوم، لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خُذُوهم أَخْذاً، فاربطوهم بالحبال.

45

ثم قال: {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}. أي: فعل ذلك، فيظفركم بعدوكم، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور}. أي: تصير في الآخرة إليه، فيجازي كل نفس بماكسبت. قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا}، إلى قوله: {مَعَ الصابرين}. هذه الآية تحريض من الله، D، للمؤمنين في الثبات عند لقاء العدو، وأمرهم بذكر الله، سبحانه {كَثِيراً}، أي: يذكرونه في الدعاء إليه في النصر على عدوهم، {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. {وَأَطِيعُواْ الله} D، { وَرَسُولَهُ} عليه السلام، أي: فيما أمركم به، {وَلاَ تَنَازَعُواْ}، أي: تختلفوا فتفترق قلوبكم، {فَتَفْشَلُواْ}، أي: تضعفوا وتجنبوا، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، أي: قوتكم وبأسكم ودولتكم، فتضعفوا، {واصبروا}، أي: اصبروا مع نبي الله D، عند لقاء عدوكم، {إِنَّ الله مَعَ الصابرين}، أي: معكم.

قال مجاهد، وابن جريج ذهب ريح أصحاب رسول الله A، حين نازعوه يوم أحد، أي: تركوا أمره، يعني: الرُّماة. قال ابن زيد، ومجاهد، وغيرهم: (الرِّيحُ) ريح النّصر. قال ابن زيد: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله D، يضرب بها وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَامٌ. فمعنى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}. (أي): الريح التي هي النصر، وعلى ذلك قال قتادة ومجاهد: {رِيحُكُمْ}: نصركم.

47

قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ}، الآية. هذه الآية تنبيه للمؤمنين ألاّ يعملوا عملاً إلا الله D، وطلب ما عنده تبارك وتعالى، ولا يفعلوا كفعل المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس. وذلك أنهم أُخبروا أن العير قد فاتت النبي A، [ وأصحابه]، وقيل لهم: ارجعوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها، فأبوا الرجوع، وقالوا: نأتي بدراً فنشرب بها الخمر، وتعزم علينا بها القيان، وتتحدث بنا العرب، فسُقُوا مكان الخمر المنايا. وفيهم نزل: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} الآية. قال ابن عباس: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عِيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجت، فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والكله لا نرجع حتى نَرِد بدراً، وكان " بدر " موسماً من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم عليهم ثلاثاً، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، فمضوا حتّى أتوا بدراً، فاجتمع السقاة على الماء من هؤلاء ومن هؤلاء، فجاز المشركون الماء.

48

ومعنى " البَطَرُ ": التقوية بنعم الله، تعالى على المعاصي، فأمر الله D المؤمنين بإخلاص العمل له، ولا يكونوا كهؤلاء، الذين أتوا بدراً للرياء والسمعة بَطَراً منهم. قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}، الآية. المعنى: اذكر إذ زيّن لهؤلاء الكفار الشيطان أعمالهم. وقيل: المعنى: {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، في هذه الأحوال، وحين زيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم. قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر بجنوده فزين لهم أنهم لن ينهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم، وأنه جَارٌ لهم، فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ}، أي: رجع مدبراً، وقال لهم: {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ}.

قال السدي: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك الكِناني الشاعر/ على فرس فقال: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس}، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا جَارُكُمْ سراقبة بن مالك، وهؤلاء كنانة قد أتوكم. وقال قتادة: لما رأى الملعون جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة، علم أنه لا يدين له بالملائكة، فقال: {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ}، وقال: {إني أَخَافُ الله}، وكذب الملعون، ما به مخافة الله D، ولكن لما رأى ما لا منعة له منه، فرق وقال ذلك، وهو كاذب على نفسه.

وقيل: إنه ظنَّ أنَّ الوقت الذي أُنظِر إليه قد حضر، فخاف. وقال النبي A: " ما رُئِيَ إبليس يوماً هو فيه أصْغَرُ، [ولا أدحر]، ولا أحْقَرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر "، قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: " أما إنه رأى جبريل عليه السلام، يَزَعُ الملائكة ". قال الحسن: رأى جبريل عليه السلام، مُعْتَجِراً بِبُرْد، يمشي بين يدي النبي عليه السلام، وفي

يده اللجام. ومعنى: {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ}. رجع القهقري. وقيل معناه: رجع من حيث جاء. وكانت وقعة بدر لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم النبي A، من مكة. قال مالك: على رأس سنة ونصف. وكانت وقعة أحد بعد بدر بسنة.

49

قوله: {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} إلى قوله: {لِّلْعَبِيدِ}. المعنى: واذكر، يا محمد، {إِذْ يَقُولُ}. وقيل المعنى: {لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، في هذه الأحوال، وحين يقول المنافقون: كذا وكذا. و {المنافقون} هنا: نَفَرٌ لم يستحكم الإيمان في قلوبهم من مشركي قريش، خرجوا مع المشركين من مكة وهم على الارتياب، فلما رأوا قلة أصحاب محمد A قالوا: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ}، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلبة عددهم. وقال الحسن: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا: " منافقين ". وقال معمر: هم قوم أقروا بالإسلام بمكة، ثم خرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ}. قال ابن عباس: إنّما قالوا ذلك حين قلل الله المسلمين في أعين المشركين، فظنوا

أنهم يغلبون لا محالة. وقوله: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله}. أي: يسلم أمره إلى الله D { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ}، أي: لا يغلبه شيء، ولا يقهره أمر {حَكِيمٌ} في تدبيره. ف {المنافقون}: هم الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الشرك، {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}: هم الشاكون في أمر الإسلام. وقيل: هما واحد، كما قال: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3]، ثم قال: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4]، وهما واحد. ويُروى أن رجلاً من الأنصار رأى الملائكة يوم بدر، فذهب بصره، فكان يقول: لولا ما ذهب بصري لأرَيْتكُم الشِّعْب الذي خرجت منه الملائكة. قال: ولقد سمعت حَمْحَمة الخيل. قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة}.

أي: لو عاينت ذلك، يا محمد، رأيت أمراً عظيماً، يضربون وجوههم وأستاههم، يقولون لهم: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، أي: النار. ف: " يقولون " محذوفة من الكلام. وجواب {لَوْ} محذوف. والمعنى: ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وشبه هذا. وهذا إنما يكون عند قبض أرواحهم.

وقيل: إنما يكون يوم القيامة. وقيل: أريد به يوم بدر، قاله مجاهد. قال مجاهد {أَدْبَارَهُمْ}: أستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي. قال ابن عباس: / كان المشركون إذا أقبلوا بوجوهم يوم بدر إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولَّوا، أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم. قوله: {الذين كَفَرُواْ}. وقف، إن جعلت المعنى: إذ يتوفى الله الذين كفروا، ثم تبتدئ: {الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}، على الابتداء والخبر. ويدل على هذا المعنى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42].

وإن جعلت الملائكة هم يتوفونهم، وقفت على {الملائكة}، وهو مروي عن نافع، وجعلت {يَضْرِبُونَ}، على إضمار مبتدأ، أي: هم يضربون. والأحسن الوقف على {أَدْبَارَهُمْ}، وهو التمام وتبتدئ: {وَذُوقُواْ}، على معنى: ويقولون. {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} تمام، إن قدرت " الكاف " في {كَدَأْبِ} [الأنفال: 52]، متعلقة بقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لِّلْعَبِيدِ}. فإن قدرت أنها متعلقة بقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. فإن قدرت أنها متعلقة بقوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، لم تقف على: {الحريق}؛ لأنّ المعنى: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} ذوْقاً {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}. ف: " الكاف " على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف.

52

و {ذلك}، في موضع رفع بالابتداء، والخبر: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، والتقدير: ذلك العذاب لكم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}، أي: من الآثام. وقيل: هو في موضع رفع إضمار مبتدأ، والتقدير: الأمر ذلك. {وَأَنَّ الله}، " أن " في موضع خفض عطفاً على " ما ". أو في موضع نصب على حذف حرف الجر. أو في موضع رفع نَسَاقاً على: {ذلك}. أو على إضمار مبتدأ، والتقدير: وذلك أنَّ الله. قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.

" الدَّأْبُ ": العادة، وأصله من قولهم: " فلان يَدْأَبُ على الشيء ": أي: يدوم عليه ويلزمه. و" الكاف " متعلقة بقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. من المعاصي كعادة آل فرعون والذين من قبلهم. و" الكاف " من: {كَدَأْبِ}، في موضع رفع على إضمار مبتدأ. أي: العادة في تعذيبكم عند قبض الأرواح وفي القبور مثل العادة في آل فرعون. ويجوز أن تكومن " الكاف " متعلقة بـ: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}، فتكون في موضع نصب على معنى: ذوقوا مثل عادة آل فرعون في إذاقتا إياهم العذاب. فالمعنى: فعل هؤلاء المشركون كما فعل آل فرعون، أو فعلنا، بهم كفعلنا بآل فرعون، فإذا رددت التشبيه إلى فعل المشركين وفعل آل فرعون جاز، وإذا رددته إلى

فعل الله D بهؤلاء كفعله بهؤلاء جاز، ويتمكن في كلا الوجهين في: " الكاف " الرفع والنصب. قال مجاهد المعنى: كَسُنَنِ آل فرعون. وقوله: {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ}. أي: فعاقبهم الله بتكذيبهم. {إِنَّ الله قَوِيٌّ}. أي: لا يغلبه غالب. {شَدِيدُ العقاب}. لمن كفر به. قوله: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ}، الآية. {ذلك}: في موضع نصب، على معنى: فعلنا ذلك.

ويجوز أن يكون في موضع رفع، على معنى: هذا ذلك. وقوله: {بِأَنَّ الله}: في موضع رفع أو نصب عطف على: {ذلك}. والمعنى: فعلنا ذلك بمشركي قريش ببدر بذنوبهم، بأنّهم غيَّروا نعم الله عليهم، وهو محمد A، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وتغييرهم لها هو كفرهم بما أتاهم به، وإخراجه من بين أظهرهم، وحربهم إياه. قال السدي " نعمة الله " على قريش: محمد A كفروا بها، فنقله الله إلى الأنصار. {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: تمام، إن جعلت المعنى فيما بعده: عادتهم كعادة فرعون، فتضمر مبتدأ تكون " الكاف " خبره. وإن جعلت {كَدَأْبِ} متعلقة بقوله: {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} لم تقف على: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. ويكون التقدير/ في التعليق: {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، كعادة آل فرعون في

54

التغيير والإهلاك. قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ}. {كَدَأْبِ} في هذه ليست بتكرير للأولى، لأن المعنى في الأولى: العادة في التعذيب، أو العادة في فعل المشركين بنبيهم كالعادة في آل فرعون، وهذا الثاني المعنى فيه: العادة في التغيير من هؤلاء كعادة آل فرعون في ذلك، فأهلك من كان قبل فرعون بذنوبهم، وأغرق (آل) فرعون، والجميع كانوا ظالمين، فكذلك أهلك هؤلاء بالسيف ببدر، إذ غيّروا نعمة الله وهي الكفر بمحمد A. قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ}، إلى قوله: {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}. المعنى: إنّ شر من دَبَّ على وجه الأرض، الذين كفروا بالله ورسوله. و {الدواب}: يقع على الناس وعلى البهائم، وقد قال تعالى في موضع آخر: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6].

57

وقوله: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ}، بدل من {الذين كَفَرُواْ}. والمعنى: الذين أخذوا عهدك ألاّ يحاربوك، ولا يعاونوا عليك كقريظة، إذ والت على النبي A، يوم الخندق أعداءه بعد عهدهم له ألا يفعلوا ذلك، {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}، الله في ذلك، ولا يخافون أن يوقع بهم الهلاك لفعلهم ذلك. قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب}، إلى قوله: {الخائنين}. " إمّا ": للشرط، وتلزمه النون الشديدة توكيداً، لدخول " ما " من " إنْ "، هذه علة البصريين.

وقال الكوفيون: تدخل " النون " الخفيفة والشديدة مع " إمّا " للفرق بين كونها للشرط وكونها للتخيير. ومعنى الآية: إنْ لقيت يا محمد، هؤلاء الذين عاهدتم، ثم نقضوا عهدك في الحرب {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}. أي: افعل بهم فعلاً يكون مُشَرَّداً لمن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عَهْد. و" التَّشْرِيدُ ": التطريد والتبديد والتفريق.

فأُمر بذلك A ليكون أدباً لغيرهم، فلا يجترئوا على مثل ما فعله [هؤلاء] من نقض العهد. وقال السدي: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ}، أي: نكل بهم، ليحذر من خلفهم ممن بينك وبينه عهد. {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}. أي: يتعظون إذا رأوا ما صنع بمن نقض العهد. وقوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً}. أي: إن خفت يا محمد، من قوم بينك وبينهم عهد (وعقد) أن يخونوك وينقضوا عهدك، {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ}، أي: حاربهم وأعلمهم قبل إتيانك لحربهم أنك فسخت عهدهم، لِمَا كان منهم من أمارة نقض العهد، وإتيان الغدر والخيانة منهم، فيستوي علمك وعلمهمه في الحرب، {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين}، أي: من خان

عهداً، أو نقض عهداً. و" الخَوْفُ " هنا: ظهور ما يتيقن منهم من إتيان الغدر، وليس هو الظن. ومعنى: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ}. أي: انبذ إليهم العهد، وأعلمهم بأنك قد طرحته، لما ظهر إليك منهم، وأنك محارب لهم، فيستوي أمركما في العلم. قال الكسائي: {على سَوَآءٍ}: على عدل، أي: تعدل بأن يستوي علمك وعلمهم. وقال الفراء المعنى: افعل بهم كما يفعلون سواء.

59

وقال أيضاً: {على سَوَآءٍ}: جهراً لا سراً. قال أبو عبيدة معنى: {تَخَافَنَّ}: تُوقِنَنَّ. قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا}، إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}. خطَّأ أبو حاتم من قرأ بـ: " الياء "، ووجهها عند غيره ظاهر حسن.

والمعنى في " الياء ": ولا يَحْسَبَنَّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون ضمير الفاعل في {يَحْسَبَنَّ}، يعود على {مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، و {الذين كَفَرُواْ}: مفعول أول، و {سبقوا} في موضع الثاني. وقال الفراء التقدير: أن سَبَقَوا. وقال: وفي حرف عبد الله: / {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}. ورُوي عنه: " ولا يَحْسَبَ "، بفتح الباء، على إرادة النون [الخفيفة].

ومن فتح: {إِنَّهُمْ}، وقرأ بـ " الياء " أو بـ: " التاء " فمعناه: لأنهم، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً بـ: " حسب "، كما لا يجوز: حَسَبْتَ زيداً أنه قائم؛ لأن زيداً غير قيامه، ولو قلت: حسبت أمرك أنك قائم، جاز فتح " أن " لأن أمرك هو قيامك. ومعنى ذلك: لا يحسب من ظفر بالخلاص مَنْ هذه الوقعة سبق. ثم قال: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}، لا يفترون. ومن قرأ بـ: " الياء " فمعناه: لا يحسب مَنْ خلفهم الذين كفروا سبقوا،

أي: بالخلاص، ثم قال: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ}، أي: لا يفوتون. ثم حضّ المؤمنين على أن يُعِدُّوا لهؤلاء الذين خِيَف منهم نقض العهد ما استطاعوا {مِّن قُوَّةٍ}. أي: من الآلات التي تكون قوة في الحرب مثل: السلاح، والنبل، والخيل. و" القوَّة: الرَّمْيُ "، روي ذلك عن النبي A. قال عكرمة: {مِّن قُوَّةٍ}: الحصون. وقال مجاهد: {مِّن قُوَّةٍ}: ذكور الخيل، {وَمِن رِّبَاطِ الخيل}: إناثها. قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله}. أي: تخيفونهم به.

ورُوَي: أن النبي A، قال: " ألاَ إنَّ القُوةَ الرَّمْيُ "، وأعادها ثلاثاً. قال عكرمة: [القُوّة]: ذكور الخيل، ورباطها: إناثها. قال عقبة بن عامر الجُهَني: قال رسول الله A: " إن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانِعُه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومُنْبِلَه، فارموا واركبوا، وأن تَرْمُوا أحب إلي من أن تركبوا، وليس اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل

فرسَه، وملاعبتَه امرأته، ورميه بقوسه ونَبْله. ومن ترك الرّمي من بعد ما علمه فإنه نعمة كفرها أو كفر بها ". قال أبو نجيح السُّلَمي: حاصَرْنا قصر الطائف فسمعت رسول الله A، يقول: " مَنْ رمى بسهم في سبيل الله، فهو له عدل رقبة، ومن شاب شيبة في الإسلام فهو له عدل مُحَرَّرٍ من النار ". وقال النبي A " الخَيْل مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْر إلى يوم القيامة: الأجر والمَغْنَمُ " ، رواه عروة البَارِقِيُّ عنه، وكذلك رواه أبو هريرة وابن عمر. وروى أنس بن مالك عنه أنه قال: " البَرَكَةُ في نواصي الخَيْل ".

وروى عنه أبو هريرة أنه قال: " من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعد الله، كان شِبَعُهُ وَرِيُّهُ وَبَوْلُهُ ورَوْثُه حسناتٍ في ميزانه يوم القيامة ". قوله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}. يعني بهم: بني قريظة. قال السدي: هم أهل فارس. وهذان القولان يردهما علم المؤمنين ببني قريظة وبفارس، وقد قال تعالى: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}.

وقال ابن زيد: هم المنافقون لا تعلمونهم؛ لأنهم [معكم]، يقولون: لا إله إلا الله، لا يعلمهم إلا الله. وهذا قول حسن موافق لقوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ}، فالله هو المطلع على سرائرهم. وقيل: هم الجن. وهو اختيار الطبري.

وهو أحسن الأقوال، لما رُوي أن الجن تفرُّ من صهيل الخيل. ورُوِيَ: أن الجن لا تقرب داراً فيها فرس، وأيضاً: فإن لا نعلمهم، كما قال D. روى ابن مِقْسَمِ: أن رجلاً أتى ابن عباس، فشكا إليه ابنته تُعترى، فقال له: ارتبط فرساً، إن كنت ممن يركب الخيل وإلا فاتخذه، فإن الله جل اسمه، يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}، فإن الجن من الذين لا تعلمونهم، ففعل الرجل ما أمره، فانصرف عن ابنته العارض. وقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ}.

أي: لا يضي (لكم) عند الله/ أجره في الآخرة، ولا خَلَفه في الدنيا. قوله: {وَآخَرِينَ}. منصوب على معنى {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ}: وتَوَقَّوا آخرين، فلا تقف على ماقبله على هذا. ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل غير هذا، فتبتدئ به إن شئت. وإن جعلته معطوفاً على: {عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ}، أي: وترهبون آخرين، لم تقف أيضاً قبله. {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} وقف.

61

قوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا}، إلى قوله: {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قد تقدم ذكر " السلم " في الفتح والكسر في " البقرة ". والمعنى: إن جنح هؤلاء الذين أمرت أن تنبذ إليهم على سواء إلى الصلح، أي: [مالوا إليه] فمل إليه، إمّا بالدخول في الإسلام، أو بإعطاء الجزية، وإما بموادعة. قال قتادة: وهي منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقال ابن عباس نسخها: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} [محمد: 35].

وقال عكرمة والحسن نسخها: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29]، الآية. وقيل: إنها مُحْكَمةٌ. والمعنى: إن دعوك إلى الإسلام فصالحهم. قاله ابن إسحاق.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله}. أي: فوض أمرك إلى الله، {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}. ثم قال: {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله}. أي: إن يرد هؤلاء الذين أمرناك أن تجنح إلى السلم إن جنحوا لها خداعك وخيانتك، {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله}، أي: كافيك الله. {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين}. أي: قوَّاك بذلك على أعدائك، {وبالمؤمنين} هنا: الأنصار. وهذا كله في بني قريظة. {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}. أي: بين قلوب الأنصار: الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، {لَوْ

64

أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً}، أي من ذهب وفضة {مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله [أَلَّفَ] بَيْنَهُمْ}، على الهدى، فقواك بهم. وروي عن ابن مسعود أنه قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله عز جل: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}، الآية. وقال مجاهد: [إذا] التقى المسلمان وتصافحا غُفِر لهما. قوله: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك}، الآية. {حَسْبُكَ الله}: تمام، إن جعلت {وَمَنِ اتبعك} ابتداء.

65

أي: ومن اتبعك من المؤمنين حسبه الله، أي: يكفيك ويكفيه. وقال الكسائي: {وَمَنِ اتبعك}: في موضع نصب عطفاً على موضع " الكاف " في التأويل. وقيل عنه: {مَنِ} في موضع رفع عطفاً على أسم {الله}، جل ذكره، أي: يكفيك الله ويكفيك من اتبَعَك من المؤمنين. ولا يحسن الوقف على: {حَسْبُكَ الله} على هذين التأويلين. قوله: {يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} إلى قوله: {مَعَ الصابرين}. والمعنى: إن الله، تبارك وتعالى، أمر نبيه عليه السلام، أن يحث من آمن به على

قتال المشركين. و" التَّحْرِيضُ ": الحث الشديد، وهو مأخوذ من: " الحَرَضِ "، وهو: مقاربة الهلاك. قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}. أي: يصبرون على لقاء العدو، ويثبتون {يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}. من عدوهم، {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً}، من العدو، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}، أي: من أجل أنّ المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر، فهم لا يثبتون عند اللقاء، خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم. ثم خفف تعالى ذلك عن المؤمنين، فقال: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، أي: تضعفون عن أن يلقى الواحد منكم عشرة منهم، {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ}، على المكاره عند لقاء العدو، {يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} من العدو {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله}، أي: بمعونته {والله مَعَ الصابرين}.

قال عطاء: لما نزلت الآية الأولى، ثقل ذلك على المسلمين، وأَعْظَموا أن يقاتل عشرون منهم مئتين، ومئة ألفاً فَخَفَّف [الله] ذلك عنهم، فنسخها بالآية الآخرى فردهم يقفون إلى من هو مثلا عددهم، فإن (كان) المشركون أكثر من المسلمين، لم يلزم المسلمين الوقوف لهم، وحلَّ لهم أن يَتَحَوَّزُوا عنهم. وقاله: عطاء، وعكرمة، والحسن، والسدي. وقيل: إن هذا من الله تخفيف وليس بنسخ، فإنه لم يقل: لا يقاتل الواحد العشرة، إنما خفف عنهم ما كان فرض عليهم، ونظير ذلك: إفطار الصائم في السفر، إنما هو تخفيف، ولا يقال له نسخ، ألا ترى أنه لو صام لم يأثم، وأجزأه صومه.

ومن قرأ: {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ}، بـ " التاء "، فعل تأنيث اللفظ. ومن قرأ بـ: " الياء "، فلأنه تأنيث غير حقيقي، إذ المعنى: مائة رجل. وقرأ أبو جعفر: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، بالمد، جمع ضعيف.

67

قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى}، إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. المعنى: ما كان لنبيٍ أن يَحْبَسٍ كافراً قَدَر عليه للغاية والمن. و" الأسْر ": الحبْس. قوله: {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض}. أي: حتى يبالغ في قتل المشركين وقهرهم.

وهذا تعريف من الله D لنبيه عليه السلام، قتل من فادى به يوم بدر، كان أولى من المفاداة وإطلاقهم. وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا}. هذا للمؤمنين الذين رَغِبُوا في أخذ المال والفداء. {والله يُرِيدُ الآخرة}، أي: يريد لكم زينة الآخرة وخيرها. قال ابن عباس: كان هذا يوم بدر، والمسلمين قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله D، في الأسرى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4]، فجعل الله المؤمنين بالخيار في أسَارَاهُم.

وقال مجاهد: " الإثْخان ": القتل. وقال ابن مسعود: لما كان يوم بدر وجيء بالأسَارى، قال رسول الله A: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر، Bهـ: يا رسول الله، قومك وأهلك، فأستبقهم، لعل الله أن يتوب عليهم. وروي عنه أنه قال: يا رسول الله، بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. وقال عمر Bهـ، كذبوك وأخرجوك، فاضرب أعنقاهم. ورُوي عنه أنه قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي قال أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضْرمه عليهم. فقال له العباس: قطعتك رحمك. فسكت رسول الله A فقال ناس: نأخذ برأي أبي بكر. وقال ناس: نأخذ برأي عمر. وقال ناس: نأخذ برأي عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله A

فقال: " إن الله ليُليّنُ قلوب رجال [حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة]، وإن مثلك يا أبا بكر، مثل إبراهيم عليه السلام، قال: {فَمَن تَبِعَنِي [فَإِنَّهُ] مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، ومثلك يا عبد الله كمثل موسى، قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ/ واشدد على قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88]، ثم قال رسول الله A: " أنتم اليوم عالة، فلا يقتلنّ أحد منكم إلا بفداءٍ أو ضربة عُنُق ".

قال قتادة: فَادَوْهُم بأربعة آلاف أربعة آلاف، وكان النبي A لم يثخن في الأرض، وكان أول قتاله المشركين. قال مالك: الإمام مخير في الرجال، إن شاء قتل، وإن شاء فادى بهم أسارى المسلمين، قال: وأمثل ذلك عندنا أن يقتل من خفيف منه. وقال جماعة من العلماء: الإمامُ مُخيَّر، إن شاء قتل، وإن شاء أسر، وإن شاء فادى، وهو قول الشافعي وغيره).

من قتل أسيراً قبل أن يوصله إلى الإمام فلا شيء عليه، وقد أساء، فإن قتل صبياً أو امرأة عوقب وغرم الثمن، هذا قول الشافعي وغيره. وقال الأوزاعيي والثوري: لا يقتل الأسير حتى يبلغ الإمام، إلا أن يخافه، فإن قتله بعدها وصل به إلى الإمام غرم ثمنه، وإن قتله قبل أن يصل عوقب ولا غرم عليه. قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ [مِّنَ] الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. هذا خطاب لأهل بدر في أخذهم الغنائم والفداء. وروي أن هذه الآية لما نزلت قال النبي A: " لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر، ولو بعث بعدي نبي لبعث عمر "، Bهـ. وذلك أن عمر Bهـ أشار على النبي A، بقتل الأسارى، وألا تؤخذ منهم الفدية، وقال للنبي A: كذّبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم. وخالفه أبو بكر Bهـ، وغيره في ذلك.

والمعنى: لولا أنّ الله قد سبق قضاؤه في اللوح المحفوظ، أنه يحل لكم ذلك، لعقوبتم بما فعلتم؛ لأنه تعالى لم يكن يحل ذلك لأحد من الأمم قبل أمة محمد A، ولكنهم أخذوا الغنائم وقبلوا الفداء، قبل أن ينزل عليهم ما قد سبق منه، تعالى، أن يحله لهم، وكانت الأمم قبل محمد، عليه السلام، إذا غَنِمُوا شيئاً جعلوه للقربان فتأكله النار، فهو حرام عليهم، لا يحل لأحد منهم شيء منه. وقيل: المعنى: لولا أن سبق في علمي أني سأحل لكم الغنائم، لمسكم في أخذكم إياها عذاب عظيم. وقيل المعنى: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم لمسهم في أخذهم الغنائم عذاب عظيم، قال ذلك: الحسن، وقتادة وابن جبير. وقال ابن زيد: سبق في علمه الغفو عنهم، والمغفرة لهم، يعني: أهل بدر، ولولا

ذلك، لمسهم إذ أخذوا الغنائم التي لم تحل لأحد قبلهم عذاب عظيم. وقال مجاهد: لولا أنه سبق في علمه أن لا يُعذَّبَ أحد بفعل أتاه جهلاً، لمسكم فيما جهلتم فيه، من أخذ الغنائم عذاب عظيم. ورُوي عن النبي A، أنه قال: " نُصِرْتُ بالرُّعب، وجُعلت لي الأرض مسجداً وظهوراً، وأعطيت جوامع الكَلِمَ، وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي كان قبلي، وأُعْطِيتَ الشفاعة، خمس لم يؤتهنَّ نبي كان قبلي ". وقيل المعنى: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي، لعذبتكم بأخذكم للغنائم. واختار النحاس، وغيره، أن يكون المعنى: لولا أنه سبق من الله تعالى، أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، لعذبكم بأخذكم الغنائم.

وقيل المعنى: / {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ}، فآمنتم به، وهو القرآن فاستوجبتم بإيمانكم الصفح والغفو، لعذبتم على أخذكم الغنائم. قال ابن زيد: لم يكن أحد ممن حضر بدراً إلا أحب أخذ الغنائم إلا عمر بن الخطاب Bهـ، فإنه جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قومن نجاهد في سبيل الله حتى يعبد الله. ثم أحلَّ لهم ذلك فقال: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله}، أي: خافوه فيما حرم عليكم، وما نهاكم عنه، وفي أن تركبوا بعد هذا فعل ما لم تؤمرا به. {إِنَّ الله غَفُورٌ}. أي: لذنوب أهل الإيمان، أي: سائر عليها، {رَّحِيمٌ} بهم.

70

قال الطبري: {واتقوا الله}، يراد به التأخير بعد {رَّحِيمٌ}. قوله: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى}، إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. قوله: {يا أيها النبي}، ثم قال: {في أَيْدِيكُمْ}، إنما ذلك؛ لأن المعنى: قل لمن في يديك، ويدي أصحابك من الأسرى. وقيل: المعنى: يا أيها النبي قل لأصحابك: قولوا لمن في أيديكم من الأسرى. وقيل: المخاطبة له مخاطبة لأمته. والمعنى: يا محمد، قل لمن في يديك ويدي أصحابك من الأسرى الذين أخذ منهم الفداء: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً}، أي: إسلاماً، {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ}، في الفداء، ويغفر لكم ذنوبكم التي سلفت منكم، وقتالكم نبيكم، أي: يسترها عليكم، {والله غَفُورٌ}، أي: ساتر لذنوب عباده إذا تابوا، {رَّحِيمٌ}، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة. قال العباس بن عبد المطلب: فيَّ نزلت هذه الآية.

وكان العباس فدى نفسه يوم بدر بأربعين أوقية من الذهب، قال العباس: فأعطاني الله أربعين عبداً، كلهم تاجر، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله D، بها. قال الضحاك: نزلت في العباس وأصحابه أُسروا يوم بدر، وهم سبعون. وروى ابن وهب أن النبي A، لما قدم بالأسارى المدينة، قال لعمه العباس: افد نفسك يا عم، وافد ابني أخويك، يعني: عقيل بن أبي طالب. ونوفل بن

الحارث، وافد حليفك، يعني: عتبة بن عمرو من بني فهر، كان حليفاً للعباس. قال له العباس: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي A: " الله أعلم بإسلامك، أما ظاهرك فقد كان علينا ". وكان النبي عليه السلام، قد وجد مع العباس أربعين أُوقِيَّةً من ذهب، كل أوقية أربعون مثقالاً، فقال العباس: احسبها لي يا رسول الله في فدائي، فقال النبي A: " ذلك مال أفاءه الله علينا، ولست أحسبه لك "، فقال له العباس: مال مال غيره، فقال له النبي A: " يا عم، أنت سيد قريش وتكذب! فأين المال الذي دفنته بمكة عنجد أم الفضل بنت الحارث، ثم قلت لها: ما أدري ما يكون، فإن أُصبت في سفري فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا،

فقال العباس: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضر ذلك أحد إلا الله وأم الفضل. ففدى العباس نفسه، وابنَيْ أخويه، وحليفه، ففي ذلك نزل: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، الآية. فلما سمعها العباس، قال: قد أنصفني ربي: مَنَّ علي/ بالإسلام، وغفر لي، ويعطيني خيراً مما أخذ مني. فأعطاه الله D، يوم خيبر أكثر مما أخذ منه في الفداء، وغفر له، ورحمه. قال ابن وهب: لما رجع المشركون من بدر إلى مكة، جلس عُمير بن وهب إلى صفوان بن أمية، فقال له صفوان: قبح العيش بعد قتلى بدر! فقال عُمير: أجل، ما

في العيش خير بعدهم، ولولا دَيْنٌ عليّ وعيالي، لرحلت إلى محد فلنقتلنه إن ملأت عيني منه، فإن لهم عندي عِلّة أقول: قدمت لتفادوني في أسيرٍ لي، ففرح صفوان بقوله/ وقال له: عليّ دَيْنُكَ، وعيالك أسوة عيالي في النفقة، لن يسعني شيء ويعجز عنهم. فحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فسُم وصقل. وقال عمير لصفوان: اكتمني ليالٍ. وأقبل عُمير حتى وصل المدينة، فنزل ببال المسجد، وعَقَلَ راحلته وأخذ السيف، وعمد إلى رسول الله A، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع عمر من عُمير، وقال لأصحابه: هذا عدو الله الذي حرَّش بيننا

وحزرنا للقوم، ثم قام عمر ودخل على رسول الله [ A] ، وقال: هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد، ومعه السلاح، وهو الفاجر الغادر، يا رسول الله لا تأمنه! فقال A: أدخله عليّ فدخل، وأمر عمر أصحابه أن يحْتَرزوا منه، ويدخلوا بالسلام على النبي A: فقال النبي عليه السلام: يا عمر، تأخر عنه، فلما دنا عُمير من النبي عليه السلام قال: أنْعِمُوا صباحاً، قال النبي A: قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة، فما أقدمك يا عُمير؟ قال: قدمت تفادوني في أسيري؛ فإنكم العشيرة والأهل. فقال له النبي A: " وما شَرَطْتَ لصفوان بن أمية في الحِجْرِ؟ ففزع عُمير، وقال ": وما شرطت له؟ قال: تحمّلت له قتلي على أن يعول بنيك، ويقضي دَيْنَكَ،

والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من خبر السماء، وأنّ هذا الحديث الذي كان بيني وبين صفوان في الحِجْرِ كما قلت يا رسول الله، لم يطلع عليه أحد غيري وغيره، ثم أخبرك الله D، به فآمنتُ بالله ورسوله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، ففرح المسلمون حين هَدَاه الله، فقال عمر: والله لخنزير كان أحب إليّ منه حين أتى، ولَهُوَ اليوم أحب إلي من بعض بني. فقال له النبي عليه السلام: " أجلس نواسك. وقال [لأصحابه]: عَلِّمُوا أخاكم القرآن. وأطلق له أسيره، فقال له عُمير: يا رسول الله، قد كنت جاهداً ما استطعت في إطفاء نور الله سبحانه، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، فأْذن لي ألحق بقريش فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله يهديهم ويَسْتَنْقِذَهُم من الهلكة، فأذن له النبي عليه السلام، فلحق بمكة، وجعل صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر، وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة: هخل كان [بها] من حدث؟ وكان يرجو قتل النبي، عليه السلام، على يد عُمير، حتى قدم عليه رجل من

المدينة، فسأله صفوان عن عمير، فقال: قد أسلم، فقال المشركون: صبأ/ عُمير. وقال صفوان: إن لله علي ألا أنفعه بنافعه أبداً، ولا أكلمه بكلمة أبداً، وقدم عليهم عُمير، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم، فأسلم بشر كثير. ونذر أبو سفيان بن حرب بعد وقعة بدر أن لا يمسَّ رأسه ذُهْنٌ، ولا يقرب أهله حتى يغزو محمداً A فغزاه إلى أُحد، فكانت وقعة أُحد بعد بدر بسنة. ثم قال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ}. يعني الأسارى الذين افتدوا وأسلموا في ظاهر أمرهم، {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ}، أي: من قبل وقعة بدر، {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}، يعني ببدر. قال قتادة: هو عبد الله بن أبي سَرْح كان يكتب الوحي للنبي A، ثم نافق

وسار إلى المشركين بمكة وقال لهم: ما كان محمد يكتب إلا ما شِئْتُ فَنَذَر رجل من الأنصار لئن أمكنه الله به ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح أمّن النبي A، الناس إلا عبد الله بن سد بن أبي سَرْح [ومِقْيَس بن صُبَابة]، وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبي عليه السلام، كل صباح. فجاءه عثمان بابن أبي سَرْح، وكان رضيع عبد الله، فقال: يا نبي الله، هذا فلان أقبل تائباً نادماً، فأعرض عنه النبي A، فلما سمع

72

به الأنصاري، أقبل متقلداً سيفه، فأطاف به، وجعل ينظر إلى النبي عليه السلام، رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله A، قدم يده فبايعه، فقال: " أما والله لقد تَلُومَنَّكَ فيه لتوفي نذرك "، فقال: يا نبي الله، إني هبتك، فلولا أَوْمَضَتَ إليّ فقال له النبي A: " إنه لا ينبغي لنبيٍ أن يُومِضَ ". ومعنى {خَانُواْ الله}: خانوا أولياءه. قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ}، إلى قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. من فتح " الواو " في: " الوَلاية " جعله مصدر " وَليَ " يقال: هو لي بَيِّنُ الوَلاَيَةِ.

ومن كسر فهو مصدر " والي "، يقال: هو والٍ بيّن الوِلاَيةِ. ومعنى الآية: إن الذين صدقوا بمحمد عليه السلام، وما جاء به، وهجروا قومهم وعشيرتهم وأرضهم إلى أرض الإسلام، والهجرة هجرتان: هجرة كانت إلى أرض الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وهذا إنما كان في أول الإسلام، ثم انقطع ذلك الآن: لأن الدار كلها دار الإسلام، {وَجَاهَدُواْ}، أي: أتعبوا أنفسهم في حرب أعداء الله، {والذين آوَواْ ونصروا}، أي: آووا رسول [الله] A والمهاجرين معه ونصروهم، وهم الأنصار، {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، أي: المهاجرون أولياء الأنصار وإخوانهم.

و " الوليُّ " في اللغة: النصير. فاختيار الطبري أن يكون: {أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} بمعنى أنصار بعض. قال ابن عباس: كانت هذه الولاية في الميراث، فكان المهاجرون والأنصار يرث بعضهم بعضاً بالهجرة دون القرابة، ألا ترى إلى قوله: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ}، فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت بعده: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، فنسخت مواريث المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض. وكذلك قال مجاهد. قال قتادة: لبث المسلمون زماناً يتوارثون بالهجرة، وليس يثرث المؤمن الذي لم يهاجر من المؤمن المهاجر شيئا، وإن كان ذا رحم، ولا الأعرابي من المهاجر شيئاً، فنسخ ذلك قوله: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ/ مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 6]، يعني: من أهل الشرك، يوصون لهم إن أرادوا،

ولا يتوارث أهل مِلَّتَيْن. وقال عكرمة والحسن: نسخها آخر السورة: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. وقوله: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ}. أي: الذين آمنوا بمكة، ولم يفارقوا دار الكفر، {مَا لَكُمْ}. أيها المهاجرون، {مِّن وَلاَيَتِهِم}، أي: نصرهم وميراثهم، {مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم}، هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا، {فِي الدين}، أي: على أهل الكفر، {فَعَلَيْكُمُ} نصرهم {إِلاَّ} أن يستنصروكم {على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}، أي عهد وذمة، فلا تنصروهم وهم عليهم، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، أي: [بصير] فيما أمركم به من ولاية بعضكم بعضاً. وقال ابن عباس: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين}، يعني: الأعراب المسلمين، فعليكم

73

أن تنصورهم، {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ}، فلا تنصورهم عليهم. قوله: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، الآية. المعنى: والذين كفروا بعضهم أحق ببعض الميراث، [أي:] أحمق من قرابتهم من المؤمنين. وقيل: معناه: بعضهم أعون بعض. وقوله: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ}. أي: إن تفعلوا موارثة المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض، دون ذوي

الأرحام من المهاجرين الذين آمنوا ولم يهاجروا، ودون قرابتهم من المؤمنين والكفار: {تَكُنْ فِتْنَةٌ}، أي: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك، {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}، أي: معاص. قال ابن عباس: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض}. قال ابن زيد: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان، وإن كانا أخوين، فلما كان الفتح انقطعت الهجرة، وتوارثوا حيث ما كانوا بالأرحام. وقال ابن جريج: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ}: إلا تناصروا وتتعاونوا {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض}. ف " الهاء " في: {تَفْعَلُوهُ} تعود على التوارث، أو على التناصر.

74

قوله: {والذينءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا}، الآية. المعنى: والذين صدقوا بمحمد عليه السلام، بوما جاء به، {وَهَاجَرُواْ}، أي: هجروا أهلهم ودارهم، ومضوا إلى دار الإسلام {وجاهدوا}، أي في سبيل الله، {والذينءَاوَواْ ونصروا}، أي: آووا النبي A، ومن معه من المهاجرين، ونصروهم، وهم الأنصار، {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ}، أي: ستر: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، أي: لهم في الجنة مطعم هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجواً، ولكنه يصير رَشْحاً كرشح المِسْكِ. قوله: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ [فأولئك مِنكُمْ]}، الآية. المعنى: والذين آمنوا بمحمد A، وبما جاء به، من بعد ما أمرتكم بموالاة المهاجرين والأنصار وتوارثهم، وهاجروا إليم وجاهدوا معكم {فأولئك مِنكُمْ}، يعني الذين آمنوا من بعد الحديبية، {وَهَاجَرُواْ}، ويقال لها: الهجرة الثانية،

{فأولئك مِنكُمْ}، أي: مثلكم ف يالنصر والموالاة والمواريث. ثم قال تعالى: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ}. هذا نسخ لما تقدم/ من التوارث بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة. قال اسماعيل القاضي: عنى بذوي الأرحام من يرث منهم، هم أولى ممن لا يرث من ذوي الأرحام، ومن غيرهم ممن لا نسب بينه وبين الميّت، فأما الولاء فهو قائم بنفسه في الميراث كما جعله النبي A. ومعنى {فِي كِتَابِ الله}، في اللوح المحفوظ، هو كذلك قد سبق في علمه تعالى أنه كذلك بأمرنا. {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. أي: يعلم ما ينقلكم إليه قبل أن ينقلكم، لا إله إلا هو.

التوبة

تفسير سورة براءة قوله: {بَرَآءَةٌ}، مبتدأ والخبر: {إِلَى الذين}، وحَسُنَ الابتداء بِنَكِرَةٍ، لأنها موصوفة. ويجوز أن تكون رفعت على إضمار مبتدأ، أي: هذه براءة.

يقال: بَرِئْتُ من العهد براءةً، وبَرِئْتُ من المرض وبَرَأْتُ [أيضاً] بُرْءاً، وَبَرَئْتُ القلم بَرْياً، غير مهموز مفتوح وأَبْرَيْتُ الناقة: جعلت في أنفها بُرَةً وهي حلقة من حديد. وسورة " براءة " من آخر ما نزل بالمدينة، ولذلك قلّ المنسوخ فيها.

ويدل على ذلك أن ابن عباس قال لعثمان، Bهما: ما حملكم على أن عمدتم إلى " الأنفال " وهي من المثاني، وإلى " براءة " وهي من المئين ففرقتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما: " بسم الله الرحمن الرحيم " ووضعتموهما في السبع الطُّوَل؟ فقال: كان رسول الله A، تنزل عليه السور ذوات العدد، فإذا نزلت عليه الآية قال: " اجعلوها في سورة كذا وكذا "، وكانت " الأنفال " من أول ما نزل بالمدينة، وكانت " براءة " من آخر ما نزل، وكانت قصتها تشبه قصتها، ولم يبين لنا رسول الله A، في ذلك شيئاً، فلذلك فرق بينهما ولم يكتب بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم ".

ورُوي أن عثمان قال: ظننت أنها منها. وكانت تُدْعَيَانِ في زمن رسول الله A: القرينتَين، فلذلك جعلتهما في السبع الطُّوَلِ. ففي قول عثمان هذا: دليل على أن تألييف القرآن عن الله، D، وعن رسول الله A، كان، ويدل على أن ترتيب السورة على ما في المصحف إنما كان على اجتهاد من عثمان وأصحابه، ألا ترى إلى قول ابن عباس له: ما حملكم على كذا وكذا؟ يدل على أنهم هم رتبوا السورة، وأن تأليف السور إلى تمام كل سورة كان على تعليم النبي A إياهم ذلك. وقد صح أن أبيَّ [بن] كعب، وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، وأبا زيد عم

أنس، كانوا قد جمعوا القرآن على عهد النبي A. قال الشعبي: وأبو الدرداء حفظ القرآن على عهد النبي A، ومُجَمَّع ببن جارية، بقيت [عليه] سورتان [أَ] وْ ثلاث. قال: ولم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان.

وحفظ سالم مولى أبي حذيفة القرآن في عهد النبي A إلا شيئاً بقي عليه. فهذا يدل على أنه كان مؤلفاً؛ لأن هؤلاء لم يحفظوه إلا وهو مؤلَّف مرتَّبٌ عن النبي A، عن جبريل، صلوات الله عليه، جل ذكره. وقال أبي بن كعب: آخر ما نزل " براءة " وكان رسول الله A يأمر في أول كل سورة بـ: " بسم الله الرحمن الرحيم "، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء، فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها. وقال رسول الله A: " أُعطيت السبع الطّول مكان التوراة وأعطيت المِئِينَ مكان الزَّبور، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وفُضِّلْتُ بالمفصّل ". فهذا الترتيب يدل على أن التأليف/ كان معروفاً عند رسول الله [ A] ، وبذلك

أتى لفظه، عليه السلام. ومعنى: ما رُوِيَ: أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يجمع القرآن، وأنه ضم إليه جماعة، أنه إنما (أمر) بجمعه في المصحف ليرسل به إلى الأمصار، لا أنه كان غير مؤلف ثم ألفه، هذا ما لا يجوز، لأن تأليفه من المعجز، لا يكون إلا عن الله D. وقد قيل: إنما أمر بجمعه على حرفٍ واحدٍ؛ لأنهم كانوا قد وقع بينهم الخلاف لاختلاف اللغات السبعة الي بها نزل القرآن، فأراد عثمان أن يختار حرفاً واحداً، هو أفصحها ليثبته في المصحف، وإنما خص عثمان زيد بن ثابت لجمعه دون غيره ممن هو أفضل منه؛ لأنه كان يكتب الوحي للنبي A. واختلف في الحرف الذي كتب عليه المصحف فقيل: حرفُ زيد بن ثابت.

وقيل: حرفُ أُبَي بن كعب؛ لأن قراءته كانت على [آخر] عَرْضةٍ عرضها النبي على جبريل عليهما السلام. وعلى الأول أكثر الرواة. ومعنى: حرف زيد، أي: روايته وطريقته. " فَلْيَقْرَأْه بقراءة ابن أُمِّ عبد "، يعني: ابن مسعود. فإنه إنما أراد به ترتيل ابن مسعود، وذلك أنه كان يرتل القرآن إذا قرأه، فخصه النبي A بهذا الوصف لترتيله لا غير ذلك.

قال الحسين بن علي الجعفي: فقراءة عبد الله هي قراءة الكوفيين؛ لأن عمر Bهـ، بعث به إلى الكوفة ليعلمهم، فأخذت عنه قراءته قيل أن يجمع الناس عثمان على حرف واحد، ثم لم تزل في أصحابه ينقلها الناس عنهم. وأصحابه منهم: علقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزِرُّ

ابن حُبَيْش، وأبو وائل، وأبو عمرو الشيباني وعبيدة، وغيرهم. فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد، كان أول من قرأ به بالكوفة أبو عبد الرحمن السَّلّمِي: عبد الله بن حبيب، فأقرأ بجامع الكوفة أربعين سنة، إلى أن توفي، C، في إمارة الحجاج. وقد أخذ القرآن عن عثمان، وعن علي، وعن ابن

مسعود، وزيد، وأُبي. وكان قر قرأ على علي، وقرأ عليه علي، وهو يمسك المصحف. وأقرأ هو الحسن والحسين. فلما مات أبو عبد الرحمن خلفه عاصم. وكان عاصم أخذ عن أبي عبد الرحمن، وعرض على زِرٍ. وكان زر قد قرأ علي ابن مسعود. ثم انتهت قراءة ابن مسعود إلى الأعمش. وقرأ حمزة على الأعمش بالكوفة، وقرأ أيضاً حمزة على ابن أبي ليلى، وعلى حُمران بن أعين، وقرأ

حُمران على عُبَيد الله بن نُضَيْلَة، وقرأ عبيد الله على علقمة. وقرأ علقمة على ابن مسعود، وقرأ ابن مسعود على النبي A. وقرأ أيضاً حمران على أبي الأسود وقرأ أبو الأسود على علي. وقد قال المبرد: إنما لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " قبل " براءة "؛ لأن " بسم

الله الرحمن الرحيم " خير، و " براءة " أولها وعيد [و] نقض للعهود. وعن عاصم أنه قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " لم تكتب أول " براءة "؛ لأنها رحمة و " براءة " عذاب. قوله: {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ}. إنما ذلك، لأن عقد النبي على أمته كعقدهم لأنفسهم. وهؤلاء الذين بَرِئَ الله D، ورسوله A، إليهم من العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله A، وأذن لهم في السياحة في الأرض أربعة أشهر، جنس من المشركين كان مدة العهد بينهم وبين رسول الله A، أقل من أربعة أشهر، وأُمهلوا بالسياحة تمام أربعة أشهر (ليرتاد كل واحد). والجنس الآخر كما عهده إلى غير أجل محدود/، فَقُصِرَ به على أربعة أشهر ليرتاد كل واحد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك، يقتل حيث وجد، إلا أن يُسلم. فكان نزول " براءة " في بعض ما كان بين رسول الله A، وبين المشركين من

العهود، و [في] كشف المنافقين الذين تخلفوا عن النبي A، في تبوك وغيرهم ممن سر خلاف ما أظهر. وقيل: إنما أمهل أربعة أشهر، من كان بينه وبين رسول الله A، عهد، فأما من لم يكن له عهد، فإنما جعل أجله خمسين ليلة، عشرين من ذي الحجة والمحرم، ودلّ على ذلك قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5]. قال ذلك ابن عباس. وكان النداء بـ: " براءة " يوم النحر. وقيل: يوم عرفة، وبه تتم خمسون ليلة. ونزلت " براءة " أول شوال، ومن ذلك اليوم كان أجل أربعة أشهر لأهل العهد. وقيل: أول شوال كان نزول " براءة " وذلك سنة تسع، ومن ذلك الوقت أول أربعة الأشهر للجميع. وهو قول الزهري.

فكان أجل من كان له عهد أربعة أشهر من ذلك الوقت، ومن لم يكن له عهد انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك أربعة أشهر أيضاً. وقال ابن عباس: إنما كان أول الآجال من يوم أُذِّنَ بـ: " براءة "، وذلك يوم النحر، فجعل لمن له عهداً أربعة أشهر من ذلك اليوم، وذلك إلى عشر من ربيع الآخر. ولمن لم يسم له عهد آخر الأشهر الحرم خمسين يوماً، ثم لا عهد لهم بعد ذلك ولا ذمة، يقتلون حتى يدخلوا في الإسلام. وكان علي هو الذي نادى بـ: " براءة "، وكان أبو بكر أميراً عليهم، فلم يحج المشركون بعد ذلك [العام]، وكانوا يحجون مع المسلمين قبل ذلك. قال قتادة: كان النبي A، عاهد قريشاً زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر الله D، نبيه عليه السلام، أن يُوفِّيَ بعهدهم إلى مدتهم، وأن يؤخروا من لا عهد له انسلاخ المحرم، ثم يقاتلون حتى يشهدوا [أن] لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وألا يقبل منهم إلا ذلك.

وقال السدي: كان آخر عهد الجميع تمام أربعة أشهر لعشر خلون من ربيع الآخر، وهذا كله كان في موسم سنة تسع. وقال الكلبي: إنما أمر النبي A، بالأربعة الأشهر لمن كان بينه وبينه عهد أربعة أشهر فما دون، فأما من كان عهده، أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر النبي A، أن يتم له عهده، فقال تعالى: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}. وذلك أن النبي A، فتح مكة سنة ثمان عَنْوةً، واستخلف على الحج سنة تسع أبا بكر. ونزلت " براءة " بعد خروج أبي بكر في شوال. وكانوا يحجون على رسومهم التي كانوا عليها، ولم يكن فرض الحج ولا أمر به، فأنفذ رسول الله A " براءة " مع علي Bهـ، ليتلو الآيات على الناس وينادي بالناس: ألا يحج بعد ال عام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان فنادى بذلك علي، وأعانه على النداء أبو هريرة

وغيره بمنىً وفي سائر أسواقهم. فحج النبي A، في العام المقبل سنة عشر، ولم يحج معه مشرك، وهي حجة الوداع، وفي ذلك نزل: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، فلما نزل ذلك وجد المسلمون في أنفسهم مما قطع عنهم من الأطعمة والتجارات التي كان المشركون يقدمون بها، فأنزل الله D: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله} [التوبة: 28]، الآية، ثم أحل [في] الآية التي تتبعها الجزية، ولم تكن قبل ذلك/، جعلها الله عوضاً مما يفوتهم من تجارتهم مع المشركين. وهو اختيار الطبري [ومما يدل على صحة ما اختار الطبري] من أنه أمر الله D، نبيه عليه السلام، أن يتم لمن عهده [أربعة أشهر فما دن أربعة أشهر، ومن كان عهده أ: ثر أتم له عهده]، إلا أن يكون نقض عهده قبل

انقضاء المدة، فأما الذين لم ينقضوا ولا تظاهروا عليه، فإن الله D، أمر نبيه، عليه السلام، بإتمام العهد لهم، وأمره أن يؤخر الذين نقضوا العهد أربعة أشهر، وإن كان عهدهم أكثر مدة. وهو قول الضحاك. قوله تعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا [لَهُمْ]} [التوبة: 7]. فأمر الله D، نبيه [عليه السلام]، بالاستقامة لهم على عهدهم، ما استقاموا. وأمر الله D، أن يؤخر الذين نقضوا وظاهروا عليه أربعة أشهر. وقد رُوي: أن علياً كان يقول في ندائه: ومن كان بينه وبين رسول الله A عهد فعهده إلى مدته. قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، الآية. المعنى: فسيحوا يا أيها الذين لهم عهد وقد نقضوا قبل إتيان الأجل. وأما من له عهد أربعة أشهر فما دون، فقيل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر من يوم النحر، أي: تصرفوا مقبلين ومدبرين، ثم لا أمان لكم بعدها إلاّ بالإسلام. وأشهُرُ [السياحة] على قول مجاهد، وغيره: من يوم النحر إلى عشر خلون

من ربيع الآخر. وعند الزهري: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وتسمى أيضاً أشهر السياحة، أي: سمح لهم فيها بالتصرف آمنين. قوله: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}. أي: مُفيتيه أنفسكم، أين كنتم، وأين ذهبتم بعد الأربعة الأشهر وقبلها، لا منجي منه ولا ملجأ إلا الإيمان به، D، وبرسوله عليه السلام. {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين}. أي: مذلهم ومرثهم العار في الدنيا والآخرة. قوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس}، الآية.

و " الأذان " في اللغة: الإعلام. و {يَوْمَ الحج الأكبر}: يوم عرفة؛ لأن علياً يوم عرفة قرأ على الناس أربعين آية من " براءة " بعثه بها النبي A، ثم قرأها عليهم في مِنًى لتبلغ جميعهم، فمن ثم قال قوم: {يَوْمَ الحج الأكبر}: النحر. وهو قول مالك. ورُوِيَ أن النبي A، خطب يوم عرفة فقال: " أما بعد، فإن هذا يوم الحج الأكبر ". [وهو قول عمر، وابن الزبير، وعطاء، وغيرهم.

وروي عن علي أنه قال: {يَوْمَ الحج الأكبر}]: يوم النحر. وهو قول مالك، واختلف عن ابن عباس. وهو قول ابن عمر، والسدي، والشعبي، وغيرهم. وقال مجاهد {يَوْمَ الحج الأكبر} معناه: حين الحج، وهو أيام الحج كلها، لا يوم بعينه. وقال ابن جريج: {الحج الأكبر}: أيام منى كلها. واختار الطبري: أن يكون يوم النحر؛ لأن في ليلته يتم الحج، وليس من فاته يوم عرفة أو ليلته يفوته الحج، ومن فاته ليلة يوم النحر إلى الفجر فقد فاته الحج. وحق الإضافة أن تكون إلى المعنى الذي يكون في الشيء، فلما كان الحج في ليلة يوم النحر أضيف أسم الحج إلى يوم النحر. ولما كان [من] لم تغب له الشمس يوم عرفة لم يحج، وإن كان قد وقف بعرفة طول نهاره، علم بأنه ليس بيوم الحج إذ لا يتم الحج

به ألا ترى أنهم يقولون: يوم النحر من أجل أن [النحر فيه، ويقولون: يوم عرفة من أجل أن] الوقوف بعرفة فيه يكون، و: يوم الفطر من أجل أن الإفطار بعد الصوم فيه يكون، فكذلك يوم الحج يقال لليوم الذي فيه، أو في ليله يتم الحج ويحصل، وفي يومه تعمل أعمال الحج، من النحر، والوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق، وغير ذلك. وسمي: {الحج الأكبر}: لأنه كان/ في سنة اجتمع فيها المسلمون والمشركون. وقيل: سمي بذلك؛ (لأنه) من النحر والوقوف بمزدلفة ورمي الجمار والحِلاق وغير ذلك. وسمي بذلك؛ لأنه كان يوم حج اجتمع فيه المسلمون والمشركون، ووافق عيد اليهود والنصارى. وقال مجاهد {الحج الأكبر}: القِرانُ في الحج، والأصغر: الإفرادُ.

وأكثر الناس على أن الأكبر: الحجُّ، والأصغر: العُمْرة. وقال الشعبي الحج الأصغر: العمرة في رمضان. وقد ثبت أن النبي A، بعث علياً بأول سورة " براءة "، إثر أبي بكر عام حجَّ بالناس أبو بكر، وذلك سنة تسع، فنادى علي بـ: " براءة " في الموسم. وقيل: يوم النحر نادى بها. وقيل: يوم عرفة. وقيل: فيهما جميعاً. ثم حج النبي A، في سنة عشرة. ومعنى {برياء مِّنَ المشركين}، أي: من عهدهم بعد هذه الحَجَّةِ. {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. أي: تبتم عن كفركم {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ}، أدبرتم عن الإيمان، {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}، أي: لا تفيئون الله أنفسكم، {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}،

أي: مؤلم، أي: أعلمهم، يا محمد بذلك. {برياء مِّنَ المشركين}، وقف، إن جعلت {وَرَسُولُهُ}: ابتداء أضمر خبره، أي: وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ منهم. وإن جعلته معطوفاً وقفت {وَرَسُولِهِ}، وكذلك من نصب، وهي قراءة ابن أبي إسحاق. {غَيْرُ مُعْجِزِي الله}، وقف حسن. {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ليس بوقف حسن؛ لأن بعده الاستثناء.

5

ومن العلماء من يقول: ألاّ وقف من أول السورة يحسن؛ لأن الاستثناء مما قبل. قال قتادة: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم النبي عليه السلام، زمن الحديبية، أمر أن يتم لهم مدتهم، وكان قد بقي منها أربعة أشهر من يوم النحر، وأمر أن يصبر على من لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ثم يقاتل [الجميع] حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. ومعنى {إلى مُدَّتِهِمْ}: إن كانت أكثر من أربعة أشهر. قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، الآية. قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ}، منصوب عند الأخفش على حذف: " على ". وقد حكى سيبويه: ضُرب الظهر والبطن، أي: " على "، فنصب لما حذف

" على ". ونصبه على الظرف حسن، كما تقول: " قَعَدْتُ لّهُ كُلَّ مَذْهَبٍ ". أي في كل مذهب. والمعنى: فإذا انقضت الأشهر الحرم عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا وظاهروا المشركين على المسلمين، أو كان عهدهم إلى غير أجل معلوم. {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، من الأرض، في الحرم، وفي غيره، وفي الأشهر الحرم وفي غيرها. {وَخُذُوهُمْ}، أي: أسروهم، والعرب تسمي " الأسير ": أخِيذاً، {واحصروهم}، أي: امنعوهم من التصرف في بلاد المسلمين،

وأصل " الحصر ": المنع (والحبس)، {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}، أي: طالبوهم في كل طريق. {فَإِن تَابُواْ}، أي: رجعوا عن الشرك، و {وَأَقَامُواْ الصلاة}، أي: أدوها بحدودها، {وَءَاتَوُاْ الزكاة}، أي: أعطوا ما يجب عليهم في أموالهم/، {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي: دعوهم يتصرفون [في أمصاركم]، ويدخلون البيت الحرام {إِنَّ الله غَفُورٌ}، أي: ساتر ذنوب من رجع وأناب، {رَّحِيمٌ}، أن يعاقبه

على ذنوبه السابقة قبل توبته، [بعد التوبة]. روى أنس عن النبي A، أنه قال: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله D، وعبادته، جلت عظمته، لا يشرك به فارقها والله عنه راضي ". و {الأشهر الحرم}، هنا: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وأريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده؛ لأن الأذان بـ: " براءة " كان يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أُجِّلوا الأشهر [الحرم] كلها، ولكنه لما كان المحرم متصلاً بالشهرين الآخرين الحرامين وكان لهما تالياً قيل: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم}. وقال السدي: {الأشهر الحرم} هنا هي: من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر. وسميت " حُرُماً "؛ لأن الله حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين، وأذاهم.

وقال مجاهد: {الأشهر الحرم}، هنا هي: الأربعة التي قال الله D: { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. وهو قول السدي. ومثله قال ابن زيد، قال: أمر الله سبحانه أن يتركوا أربعة أشهر يسيحون ثم يتبرأ منهم، ثم أمر إ ذا انسلخت تلك الأشهر الحرم أن يقتلوا حيث وجدوا. وسماها " حُرُماً "؛ لأنه حرم قتل المشركين فيها. وقال الضحاك، والسدي: الآية منسوخة لا يحل قتل أسير صبرا، والذي نسخها هو قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4]. وهو قول عطاء. وقال قتادة: هذه الآية ناسخة لقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً}، ولا يجوز أن

6

يمنّ على أسير ولا يُفادى، وقد روي مثله عن مجاهد. وقال ابن زيد: وهو الصواب إن شاء الله، [إن] الآيتين محكمتان. أمر هنا: أن يؤخذوا إما للقتل، وإما للمنّ، وإما للفداء، وأمر ثَمَّ، إما المن، وإما الفداء، فهما محكمتان، وقد فعل هذا كله رسول الله A: قتل الأساري، وفادى ببعض، ومنَّ على بعض، وذلك يوم بدر. قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك}، الآية. والمعنى: وإن استأمنكم، يا محمد، أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الأربعة، ليسمع كلام الله، سبحانه، منك، فأَمِّنْه حتى يمسعه، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، أي: إن أسمع ولم يتعظ، فرده إلى حيث يأمن منك ومن

7

أصحابك، ويلحق بداره. وإضافة الكلام إلى الله، جل ذكره، في هذا إضافة تخفيص من طريق القيام به، فهي إضافة صفة إلى موصوف، وليست بإضافة ملك إلى مالك،، ولا بإضافة خلق إلى خالق، ولا بإضافة تشريف، بل هي إضافة على معنى: أن ذاته [غير] متعدية منه. فافهم. قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}. أي: يفعل ذلك بهم؛ لأنهم قوم جهلة لا يعلمون قدر ما دُعُوا إليه. قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله}، الآية. المعنى: أنّى يكون للمشركين عهد يوفى لهم به، فيتركون من أجله آمنين؟ إلا الذين أُعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم {فاستقيموا لَهُمْ}، أيها المؤمنون على عهدهم، ما استقاموا لكم عليه.

8

قال الفراء: في {كَيْفَ}، هنا معنى التعجب. وهؤلاء القوم: بنو جذيمة بن الدُّئِل. وقيل: هم قريش. قال ابن زيد: فلم يستقيموا، فضرب لهم أجل أربعة أشهر، ثم أسلموا قبل تمام الأجل. وقال قتادة: نقضوا ولم يستقيموا، أعانوا أحْلاَفَهُمْ من بني بكر، على حِلْفِ النبي A، خزاعة. وقال [مجاهد]: هم قوم من خزاعة. قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ}، الآية. {كَيْفَ}: في موضع نصب، وكذلك {كَيْفَ يَكُونُ} [التوبة: 7]. والمعنى: كيف يكون لهؤلاء المشركين عهد، وهم/ قد نقضوا العهد، ومنهم من

لا عهد له، وهم: {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}. و {كَيْفَ} هذه، قد حذف الفعل بعدها لدلالة ما تقدم من الكلام عليه. قال الأخفش المعنى: {كَيْفَ} لا تقتلونهم. وقال أبو إسحاق، التقدير: كيف يكون لهم عهد، {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ}، وحذف هذا الفعل؛ لأنه قد تقدم ما يدل عليه، ومثله قول الشاعر:

وخَبَّرتُماني أَنَّهما المَوْتُ في القُوى ... فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبةٌ وَقَلِيبُ والمعنى: فكيف يكون الموت في القُرى، وهاتا هضبة وقليبُ، لا ينجو فيهما منه أحد؟ و" الإلُّ ": القرابة و " الذِّمَّةُ ": العهد. قاله ابن عباس. وقال قتادة " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةِ ": العهد. وقال مجاهد " الإلُّ ": الله، و " الذِّمَّةُ ": العهد.

وقال ابن زيد: " الإلّ ": العهد، و " الذمة ": العهد، لكنهما كررا لما اختلف لفظهما. وجمع " الإلّ " الذي هو القرابة: الآلٌ، بمنزلة " عدل وأعدل "، وفي الكثير: ألول ألالُ. وقوله: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ}. أي: يعطونكم بألستنهم خلاف ما يضمرون في نفوسهم. {وتأبى قُلُوبُهُمْ}. أي: تأْبى أن تذعن بتصديق ما يبدوا بألسنتهم. {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}.

9

أي: خارجون عن أمر الله D، بنقضهم وكفرهم. قوله: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً}، إلى قوله: {المعتدون}. المعنى: إن الله D أخبر عن المشركين، أنهم باعوا آيات الله سبحانه وعهده، (جلت عظمته)، بثمن يسير. وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي A، بأكلة أطعمها لهم أبو سفيان بن حرب. {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ}. أي: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام. {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. أي: ساء عملهم. {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}.

11

قد تقدم ذكره. وقال النحاس: هذا لليهود، والأول للمشركين. وقوله: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً}، يعني اليهود، باعوا حجج الله D، وآياته، سبحانه بطلب الرئاسة. {وأولئك هُمُ المعتدون}. أي: المتجاوزون إلى ما ليس لهم. قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة}، إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. المعنى: فإن تاب هؤلاء المشركون الذين أمرتكم بقتلهم، {وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة}، فهم إخوانكم في الدين، {وَنُفَصِّلُ الأيات}، أي: نبين لهم الحجج، {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، ذلك. قال قتادة المعنى: فإن تركوا اللات والعُزّى، وشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله A { وَأَقَامُواْ الصلاة وَءَاتَوُاْ الزكاة}، فهم إخوانكم في الدين. قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعاً، فلم يفرق بينهما. وقال: يرحم الله

أبا بكر ما كان أفقهه. وقوله: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم}. أي: وإن نكث هؤلاء المشركون عهودهم من بعد ماعاهدوكم. {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ}. أي: قدحوا فيه، وثلبوه وعابوه. {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر}. أي: رؤوس أهل الكفر. {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ}. من قرأ بـ: " فتح الهمزة " فمعناه: لا عهود لهم، وهو جمع " يمينٍ ".

ومن كسر احتمل معنيين: أحدهما أن يكون معناه: لا إسلام لهم، فيكون مصدر: آمن الرجل يؤمن: إذا أسلم. ويحتمل أن يكون مصدر: آمنته من الأمن، فيكون المعنى: لا تُؤَمِّنُوهُمْ، ولكن اقتلوهم. و {أَئِمَّةَ}: جمع إمام، وهو: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ونظراؤهم الذين هَمُّوا بإخراجه. وقال السدي: هم قريش.

13

وقال حذيفة: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. وأصل " النكثِ ": النقنض. {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}. أي: / ينتهون عن الشرك ونقض العهود. قوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ}، الآية. {أَلاَ}: تحضيض وتحريض. {أَتَخْشَوْنَهُمْ}، ألف تقرير وتوبيخ. ومعنى الآية: أنها تحضيض، على قتال المشركين الذين نقضوا عهود النبي A، وطعنوا في الدين، وعاونوا أعداء المسلمين عليهم، {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكة: {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: بدأوا بالقتال ببدر: {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي: تخافونهم على

14

أنفسكم: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ}، أي: أن تخافوه في ترككم قتال عدوكم وعدوه، الذي هو [لا] يضر و [لا] ينفع. قال السدي: هموا بإخراجه وأخرجوه. {أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقف عند الأخفش. وعند أبي حاتم، الوقف: {أَتَخْشَوْنَهُمْ}. قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله}، الآية. والمعنى: قاتلوا هؤلاء الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، فإنكم إن تقاتلوهم: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}، أي: يقتلهم بأيديكم، {وَيُخْزِهِمْ}، أي: يذلهم

15

بالأسر: {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}، أي: يعطكم الظفر عليهم، {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، أي: بقتلهم وأسرهم. و" الوقوم المؤمنون " (هنا) هم: خزاعة حلفاء رسول الله A، وذلك أن قريشاً نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله A، بمعونتهم بكراً على خزاعة. قاله مجاهد، والسدي. وذلك أن النبي A حين قاضى المشركين يوم الحديبية، أدخل بني كعب بن خزاعة معه في القضية، [وأدخل المشركون بين بكر بن كنانة معهم في القضية]، ثم إن المشركين أغاروا مع بني بكر بن كنانة على بني كعب، قبل انقضاء مدة العهد، فغضب النبي A، لذلك فقال: " واله لأَنْتَصِرَنَّ لَهُمْ "، فنصره الله عليهم يوم الفتح، وشفى صدور بني كعب. قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.

أي: غيظ قلوب خزاعة على هؤلاء: بني بكر بن كنانة الذين نقضوا عهد النبي عليه السلام، وأعانوا المشركين على خزاعة، وهم مؤمنون، حلفاء النبي [ A] . { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ}. مستأنف فالابتداء به حسن، والمعنى: وسوف يتوب الله، وهو مثل: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ}، ثم قال: {وَيَمْحُ} [الشورى: 24] فاستأنف. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى، والأعرج: " وَيَتُوبَ " بـ: " النصب ".

16

على الصَّرْفِ. فلا تقف على ماق بل: {وَيَتُوبُ} على هذه القراءة. قوله: {والله عَلِيمٌ}. أي: عالم بسرائر عباده {حَكِيمٌ} في تصريفه عباده من حال كفر إلى حال إيمان، بتوفيقه، ومن حال إيمان إلى حال كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته. قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ}، الآية. {أَن تُتْرَكُواْ}: في موضع مفعولي " حسبت " عند سيبويه.

وقال المبرد: {أَن تُتْرَكُواْ}: مفعول أول، والثاني مفعول محذوف. و {أَمْ} هنا: استفهام، والمعنى: أحسبتم أيها المؤمنون كذا وكذا؟. ومعنى الآية: أنها خطاب للمسلمين الذين أمرهم الله بقتال المشركين الذين نقضوا العهد، وأخرجوا الرسول، يقول تعالى: أحسبتم، أيها المؤمنون أن يترككم الله بغير محنة، وبغير اختيار، ليعلم الصادق منكم من الكاذب، علم مشاهدة. وقد كان علم ذلك، تعالى، قبل خلق العالم، ولكن المجازاة إنما تقع على المشاهدة، فيعلم المجاهدين الذين لم {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً}، أي: بِطَانَةً من المشركين، يفشون إليهم من سرهم. قال الطبري: إنما دخلت {أَمْ} في موضع الألف هنا؛ لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بين الاستفهامم الذي يبتدأ به، والاستفهام الذي يعترض. في وسط الكلام.

17

ومثله: {الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ [فِيهِ] مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 1 - 2]، ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ} [السجدة: 3]، بمعنى: أيقولون. ومثله: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ/ خَيْرٌ} [الزخرف: 51 - 52]، أي: أنا خير. وهذه {أَمْ} هي التي تسمى " المنقطعة، ولا يقدر الكلام معها بـ: " أيهم " ولا بـ: " أيهما ". {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. أي: ذو خبر بعملكم إن اتخذتم بطانةً من المشركين تفشون إليهم سر المؤمنين. ونظير هذه الآية: {الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2]، أي: يختبرون، ثم قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ}، إلى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3]. قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}، إلى قوله: {المهتدين}. والمعنى: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله؛ لأنهم ليسوا ممن يذكر

الله، والمساجد إما بنيت لذكر الله والصلاة، فليس لهم أن يعمروها. {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ}. فيه ثلاثة تأويلات. أحدهما: أن فيما يقولونه ويفعلونه دليل على كفرهم، كما يدل على إقرارهم، فكأنَّ ذلك منهم شهادتهم على أنفسهم. قاله الحسن. والثاني: شهادتهم على رسولهم بالكفر؛ لأنهم كذبوه وأكفروه وهو من أنفسهم. قاله الكلبي. والثالث: ما ذكره في الكتاب، وهم يشهدون على أنفسهم بالكفر؛ لأنهم يقال للرجل منهم: أيش أنت؟ فيقول: نصراني، يهودي، صابئ، مشرك. {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}. في الدنيا، أي: بطلت وذهبت، إذ لم تكن لله، D، وكانت للشياطين. {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ}.

أي: ما كثون أبداً، لا أحياءً ولا أمواتاً. ومن قرأ: {مَسَاجِدَ الله} بالتوحيد، عَنَى به: المسجد الحرام، ودليله قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28]، وقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} [التوبة: 19]. ومن جمع، أراد: جميع المساجد، ودليله قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} فجمع ولم يُخْتَلفْ فِيهِ. والجمع: يستوعب المسجد الحرام وغيره، والتوحيد: يخص المسجد الحرام

19

وحده، ولا يجوز لمن وَحَّدَ أن يريد به الجنس؛ لأنه مضاف، والمضاف موقت محدود. ثم قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله}. أي: إنما يعمرها من صدق بالله ورسوله، وما أتت به الرسل. {وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين}، (أي): فحقيق أن يكون من هذه صفته من المهتدين. وكل " عسى " في القرآن من الله فهي واجبة. ونزلت هذه الآية في قريش؛ لأنهم كانوا يفتخرون، فيقولون: نحن أهل الحَرَم وسقاة الحاجِّ، وعُمّار هذا البيت، فأنزل الله D، صِفة من يجب أن يعمر مساجد الله، سبحانه. قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج}، إلى قوله: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

ألف {أَجَعَلْتُمْ}: ألف تقرير وتوبيخ. ومعنى {كَمَنْ آمَنَ بالله}، أي: كإيمان من آمنم. ومعنى الآية: إن المشركين من قريش افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم الله D، أن الفخر إنما هو بالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله. ورُويَ أن العباس بن عبد المطلب حين أُسر يوم بدر قال: لئن كنتم سيقتمونا بالإسلام، والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله، جل كره: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج}، الآية، فذلك لا ينفعكم، أيها المشركون مع شرككم. وقال السدي، وغيره: افتخر علي، والعباس، وشيبة، وفقال العباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حاج البيت الله، وقال شيبة: [أنا].

أعمر مسجد الله. وقال علي: أنا هجرت مع رسول الله A، وجاهدت معه في سبيل الله D، فأنزل الله D، الآية: {أَجَعَلْتُمْ}. ورُوِيَ أن علياً قال للعباس وشيبة: ألا أنبئكم بمن هو أكر حسباً منا؟ قال: نعم، / قال: مَنْ ضرب خَرَاطِيمَكُم بالسيف حتى قادكم إلى الإسلام كَرْهاً، فشق ذلك عليهما، [فشكيا] إلى رسول الله A، فسكت رسول الله A، هُنَيْهة، إذ جاءه جبريل عليه السلام، بهذه الآية: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج}، الآية. وقال الضحاك: أقبل المسملون على العباس وأصحابه يوم بدر، وهم قد أسروا، يُعَبِّرونَهُمْ بالشرك، فافتخر العباس بالسقاية وعمارة المسجد الحرام، فانزل الله D، الآية. قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ}. أي: لا يعتدل هؤلاء وهؤلاء عند الله.

23

{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. أي: لا يوفقهم لصالح الأعمال. ثم قال تعالى: {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ}. أي: هؤلاء الذين هذه صفتهم، أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة مع الشرك، فهذا قضاء من الله D، بين المفتخرين. ثم أخبر أنهم {هُمُ الفائزون}: أي: الناجون من النار، الفائزون بالجنة. ثم قال تعالى مخبر [بما] يصيرون إليه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ}، لهم {وَرِضْوَانٍ}، منه عنهم، {وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ}، أي: لا يزال أبداً، {خَالِدِينَ}، أي: ماكثين، {أَبَداً}، لا حد لذلك، {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، أي: عنده لهؤلاء الذين هذه صفتهم {أَجْرٌ عَظِيمٌ}، أي: لا حد له من عظمه. ومعنى {يُبَشِّرُهُمْ}: يعلمهم بذلك في الدنيا. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ}، إلى قوله:

{والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}. ومعنى الآية: أن الله، جل ذكره، نهى المؤمنين أن يتخذوا آباءهم وإخوانهم الكفار أولياء، يفشون إليهم سر المؤمنين، ويطلعونهم على أسرار النبي عليه السلام، وَيُؤْثِرُون المُكث بين أظهرهم على الهجرة إلى دار السلام: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} أي: من يتخذهم أولياء وبطانة، ويؤثر المقام على الهجرة، {فأولئك هُمُ الظالمون}. وهذا كله قبل فتح مكة. قاله مجاهد. {وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ}، وقف نافع. ومثله {أَوْلِيَآءَ} في سورة المائدة، فصح الوقف عليه؛ لأنه لا يجوز أن يتخذ اليهود والنصارى أولياء على كل حال. وهنا إنما نُهُوا عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إن هم استحبوا الكفر على

الإيمان، فإن لم يفعلوا ذلك فاتخاذهم حسن، والوقف عليه يوجب ألا يتخذوا أولياء على كل حال كاليهود والنصارى. {عَلَى الإيمان}، الوقف الحسن. ثم قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ}، الآية. والمعنى: {قُلْ} يا محمد، للمتخلفين على الهجرة، المقيمين بدار الشرك، مع أهليهم وأموالهم {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ}، أي: المقام مع هؤلاء بمكة، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله}، أي: من الهجرة إلى دار الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله، {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}، أي: بفتح مكة. قاله مجاهد. والثاني: {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ}: من عقوبة عاجلة أو آجلة. قاله ابن زيد. {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}.

25

أي: لا يوفقهم للهدى. قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}، إلى قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. {حُنَيْنٍ}: مذكر، أسم واد بين مكة والطائف. ومن العرب من يجعله أسماً للبقعة فلا يصرفه للتأنيث والتعريف. وقيل: هو واد إلى جنب ذي المجاز. لغة بني تميم: " كِثْرةَ "، بكسر الكاف، وجمعه: كثر، والفتح لغة أكثرهم، وجمعه: كثرات، وهما مصدران وجمعهما قبيح. ومعنى الآية: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله}، أيها المؤمنون في أماكن حرب، ونصركم يوم حنين أيضاً.

وهو يوم قاتل فيه النبي عليه السلام، هَوَازِن وثقيفاً، وخرج مع النبي A، في تلك العزوة/ إثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، فأعجب القوم كثرهم، فانهزموا ونزل النبي A، عن بغلته الشهباء، وكان العباس أخذ بلجام [بغلة] النبي عليه السلام، فأمر النبي صلى الله عليه سلم، بالأذان في الناس فتراجع الأنصار، وكان المنادي ينادي: " يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء الناس عُنُقاً واحداً، ثم أنزل الله D، نصره، وأخذ النبي A، كفًّا من تراب، وقبضة من حصباء، فرمى بها وجوه القوم الكفار، وقال: " شَاهَتِ الوُجُوهُ "، فانهزموا. فأخذ رسول الله A، الغنائم، ورجع إلى الجِعِرَّانَة، فسم بها الغنائم، مغانم حنين، وزاد أُناساً منهم: أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، وسهيل بن عمرو، وغيرهم تألف بالزيادة قلوبهم، فتكلمت الأنصار،

وقالت: " آثر قومه "، فبلغ ذلك النبي A، وهو في قبة له من آدمٍ، فقال: يا معشر الأنصار ما ها الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضُلاَّلاً فهداكم الله، وكنتم إذِلَّةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم. فتكلموا إليه، فقال النبي A، والذي نفسي بيده، لو سلكتم وادياً وسلك الناس وادياً، لسكلتُ وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار. ثم مدحهم بغير هذا، ثم قال: أما ترضون أن ينقلب النَّاس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم. فقالت الأنصار: رضينا عن الله عز جل، وعن رسوله A، والله ما قلنا ذلك إلا ظناً بالله ورسوله، فقال النبي A، الله ورسوله يُصدقانكم ويعذِرَانكم. قال السدي: قال رجل من أصحاب النبي عليه السلام، يوم حنين، وقد كانوا إثنى عشر ألفاً: يا رسول الله لن نُغْلَبَ اليوم من قِلَّةٍ وأعجبته كثرة الناس، فَوُكِّلُوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله A، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ بين [يدي] النبي A. فنادى النبي A، بالأنصار: أين الأنصارُ الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله D، الملائكة بالنَّسر، فهزم المشركون يومئذ، وغنموا. وأصاب المسلمون ستة آلاف سبية، فجاء قومهم مسلمين، فقالوا: يا رسول

الله، أنت خير الناس، وأبرُّ الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي A: " إنّ عندي من ترون، وإنّ خَيْرَ القَوْلِ أَصْدَقُهُ، فاختاروا: إما ذراريكم ونسائكم، و [إمّا] أموالكم. فقالوا ما كنا نعدل بالأحْسَاب شيئاً، فأمر النبي A، من طابت نفسه [أن يرد ما عنده من الذراري ومن لم تَطِبْ نفسه] أن يجعله قرْضاً عند النبي A، حتى يعوضه مكانه. فَرَضُوا كلهم وسلموا بأن يردوا الذَّراري بطيب نفس. ومعنى {بِمَا رَحُبَتْ}، أي: بسعتها. وقال الطبري: " الباء " بمعنى: " في ". فأعلم الله D، المؤمنين في هذه الآية أنه ليس بكثرهم يغلبون، [إنما يغلبون] بنصره. وكانت غزوة حنين بعد فتح مكة، ولما خرج النبي A، إليها خرج معه أهل مكة مشاة وركباناً، يمشون يرجون الغنائم حتى خرج معه النساء والصبيان وهم على غير الإسلام/ وليس يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله [صلى الله] عليه وسلم.

وفرق رسول الله A، الغنائم على الجميع، ووفَّر على أهل مكة اسْتِيلاَفاً لهم ليدخلوا في الإسلام، وزَوَى كثيراً من المقاسم عن أصحابه، فعند ذلك وجدت الأنصار في أنفسها، وقالوا: ما نرى فعل ذلك إلا وهو يريد المقام بين ظَهْرَانَيْهِم، فعاتبهم النبي A، [ على ذلك. فنصر الله النبي A، وهو السَّكِينَةُ التي أنزلت على النبي A] وعلى المؤمنين، {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}، وهي الملائكة بالنصر: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ}، أي: بالسيف، وسبي الأهل وأخذ الأموال: {وذلك جَزَآءُ الكافرين}، أي: هذا الذي فعله بهم، هو جزاء من كفر بالله ورسوله. وقيل: هو جزاء من بقي منهم.

28

{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ}. أي: يتفضل على من يشاء بالتوبة من الكفر والإنابة إليه، يعني من بقي منهم، حتى ينقلهم إلى طاعته إذا شاء، {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}، إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}. ومعنى الآية: أن الله أمر المؤمنين أن يمنعوا المشركين من دخول المسجد الحرام. وقوله: {نَجَسٌ}. قال قتادة: " النَّجَسُ " هنا: الجُنُب. وأصل " النَّجَسِ ": القذر. وإذا ذكرت قبل " النجس ": " الرجس " كسرت " النون "، وأسكنت " الجيم "، فقلت: هو رِجْسٌ نِجْسٌ على الاتباع. وعنى بذلك: الحرم كله أن يمنعوا من دخوله، وعلى ذلك قال عطاء: الحَرَمُ كُلُّهُ قِبْلَةٌ وَمَسْجِدٌ.

وَبِظَاهِرِ هذه الآية يجب على المشرك إذا أسلم أن يغتسل، وقد أمر بذلك النبي A. وهو مذهب مالك، وابن حنبل، ولم يوجبه الشافعي واستحبه، قال: إلاَّ أن يكون يعلم أنه جنُبٌ فعليه أن يغتسل. وقال الثوري، والشافعي: ثياب المشركين على الطهارة حتى تعلم النجاسة، واستحبا غسل الإزار والسراويل. وقال مالك: إذا صلى في ثوب كان المشرك يلبسه، أعاد من الصلاة ما كان في وقته. وأكثَرُهُمْ على أن لا بأس بالصلاة فيما نسجوا، وهو مذهب مالك. وهذه الآية نَاسِخَةٌ، لما كان النبي عليه السلام، قد صالح عليه المشركين أن لا يَمْنَع أحد من البيت.

قال مالك: يمنع المشركون كلهم من أهل الكتاب وغيرهم من دخول الحرم، ودخول كل المساجد. وهو قول عمر بن عبد العزيز، وقتادة. وقال الشافعي: يمنع المشركون جميعاً من دخول الحرم، ولا يمنعون من دخول سائر المساجد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام، ولا من غيره، ولا يمنعن من ذلك إلا المشركون أهل الأوثان. وقول الله D، في اليهود والنصارى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله مِّن دُونِ الله]} [التوبة: 31] الآية، يدلُّ على جوازهم تسميتهم مشركين، وقد نصّ الله على ذلك بقوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} في آخر الآية. وقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}. هو العام الذي حج فيه أبو بكر Bهـ، بالناس، ونادى عليّ بـ: " براءة " في الموسم، / وذلك لتسع سنين مضين من الهجرة، وحجَّ النبي A حَجَّةَ الوَدَاعِ في العام المقبل سنة عشر من الهجرة.

وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}. [أي]: إن خفتم، أيها المؤمنون، فقراً، بمنعنا المشركين أن يأتوكم إلى الحرم بالتجارات، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ}، فأغناهم الله بأخذ الجزية منهم بقوله: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله}، إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية}. وقيل: أغناهم بإدْرَارِ المطر عليهم. قال ابن عباس: ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزن، عن منع المشركين من دخول الحرام، وقال لهم: من أين تأكلون، وقد انقطعت عنكم العير؟ فأنزل الله D: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية. {إِنَّ الله عَلِيمٌ}. أي: عليم بما حدثتكم به نفوسكم من خوف العيلة، بمنعنا المشركين أن يأتوا إليكم، وبغير ذلك من مصالحكم، {حَكِيمٌ}، في تدبيره.

و " العَيْلَةُ " مصدر " عَالَ يَعِيلُ ": إذا افتقر. وحُكِي: " عال يعول " [في] الفاقة. وبمصحف عبد الله: " عائلة "، أي: خصلة شاقة، يقال: عالني الأمر، أي: شقَّ عليَّ واشتد. ثم قال: تعالى آمراً للمؤمنين: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله}، الآية، أي: قاتلوهم حتى يعطوكم الجزية، من أهل الكتاب كانوا أو من غيرهم. و" الجِزْية " ك: " القِعْدة " و " الجِلسة "، وجمعها: جِزَى، ك: " الحَِىً "، فهو

من " جَزَى فلان فلاناً ما عليه ": إذا قضاه. وهي الخراجُ عن الرقاب. ومعنى: {عَن يَدٍ}، أي: عن يده إلى يد من يدفعه إليه. وقيل: {عَن يَدٍ}: عن إنعامٍ منكم عليهم إذا رضيتم بالجزية وأمَّنْتُمُوهُمْ في نفوسهم وأموالهم وَذَرَارِيهمْ. وقيل: {عَن يَدٍ}: نقداً لا نسيئة. وقيل: يؤدونها بأيديهم لا يوجهون بها كما يفعل الجبار. وأهل اللغة يقولون: عن قهر وقوة.

{وَهُمْ صَاغِرُونَ}. أي: أذلاء مقهورون. فهذه الآية نزلت في حرب الروم، فغزا رسول الله A، بعد نزولها غزوة تبوك. قاله مجاهد. قال عكرمة: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: هم قائمون [وأنت جالس]. وقال ابن عباس: يمشون بها مُلَبَّين. وهذه الآية ناسخة للعفو عن المشركين. قاله ابن عباس.

30

هي ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وأجمع علماء الأمصار على أخذ الجزية من المجوس. وكان ملك يرى: أخذ الجزية من سائر أهل الشرك، وحكمهم عنده حكم المجوس، تؤخذ منهم الجزية، ولا ينكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم. وتوضع الجزية عمن أسلم عند مالك ولم يبق من السنة إلا يوم واحد. وتؤخذ الجزية من أهل الوَرِق: أربعون درهماً، ومن أهل الذهب: أربعة دنانير، وهي فرض عمر Bهـ. قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله}، إلى قوله: {يُشْرِكُونَ}. {عُزَيْرٌ}: مرفوع بإضمار مبتدأ، أي: صاحبنا عزير، {ابن}: نعت له، فيكون حذف التنوين لكثرة الاستعمال.

ويجوز أن يكون {ابن}، خبراً [عن] {عُزَيْرٌ}، ويكون حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وكلا الوجهين في قراءة من نَوَّن عُزَيْراً. وقال أبو حاتم لو قال قائل: إن عزيراً اسم أعجمي لا يتصرف جاز. وهو عند النحويين عربي مشتق، من: عزره يعزِرُهُ ومنه قوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]. {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ}.

أي: لا بيان عندهم بما يقولون، ولا برهان، وإنما هو قول لا غير. {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ}. أي: يُشَبِّهون قولهم بقولهم، وهم اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابن الله}، [سبحانه وتعالى]، أي: يشبه قول هؤلاء النصارى في الكذب على الله، (تعالى)، قول من تقدمهم في " العُزَيْر " من اليهود. وقيل: المعنى: إن من كان على/ عهد النبي A، من اليهود والنصارى قولهم يشبه قول أوّليهم. {قَاتَلَهُمُ الله}. أي: لعنهم الله.

{أنى يُؤْفَكُونَ}. أي: من أين يصرفون عن الحق. {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً [مِّن دُونِ الله]}. الأحبار: العلماء. والرهبان: العباد، أصحاب الصوامع. {أَرْبَاباً}: أي سادة، يطيعونهمه في المعاصي، فيحلون ما حرم الله D، ويحرمون ما أحل الله، سبحانه، ولم يكونوا يَعْبِدُونَهُمْ، إنما كانوا يَطِيعونَهُم فيما لا يجوز، ولا يحل. وقوله: {والمسيح}.

32

أي: واتّخذوا المسيح رَبّاً. {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. [أي]: تنزيهاً له وتطهيراً من شركهم. قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم}، إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون}. قوله: {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، إنما دخلت {إِلاَّ}؛ لأن في الكلام معنى النفي، وهو: {يأبى}، لأن قولك: " أبيت الفعل " كقولك: " لم أفعل "، فلذلك دخلت {إِلاَّ}، وهي لا تدخل إلا بعد نفي. وقال الزجاج التقدير: {ويأبى الله} كل شيء {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}.

وقال علي بن سليمان: إنما جاز دخول {إِلاَّ} ها هنا؛ لأن {يأبى} منع، فضارعت النفي. ومعنى الآية: يريد أحبار هؤلاء ورهبانهم {أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله}، ( D) ، { بأفواههم}، أي: يحاولون بتكذيبهم وصدهم الناس عن محمد A، أن يبطلوا القرآن الذي جعله الله ضياء لخلقه، وهو نور الله سبحانه، {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ}، أي: يعلو دينه وتظهر كلمته. قال السدي: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم، والله مُتِم نوره ولو كره الكافرون إتمامه. {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى}. وهو الإسلام وشرائعه {وَدِينِ الحق}، الإيمان، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ}، أي:

34

ليعلي الإسلام على الملل كلها، {وَلَوْ كَرِهَ}، ذلك {المشركون}. قال أبو هريرة: ذلك عند خروج عيسى عليه السلام. وقيل: المعنى ليعلمه شرائع الدين كلها، فيطلعه عليها. فتكون " الهاء " للنبي A، وهو قول ابن عباس. وفي القول الأول: " الهاء " تعود على: " الدِّينِ. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان}، إلى [قوله]: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}. قوله: {والذين يَكْنِزُونَ}. {والذين}: في موضع رفع عطف على الضمير في: " يأكلون "، فيكون التقدير:

{لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل}، ويأكلها معهم الذين يكنزون الذهب. وقيل: {الذين}: في موضع رفع بالابتداء. ومعنى الآية: يا أيها الذين صدقوا بمحمد A، بما جاء به، إن كثيراً من أحبار اليهود والنصارى ورهبانهم، وهم: علماؤهم وعبادهم. وقيل: {الأحبار}: القراء: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل}، ويأكلها معهم {والذين يَكْنِزُونَ الذهب}، وذلك الرُّشى في الحكم، وفي تحريف كتاب الله D، يكتبون بأيديهم كتباً، ويقولون: هذا من عبد الله، يأخذون بها ثمناً قليلاً، {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، أي: يمنعون من أراد الدخول في الإسلام. و" الكَنْزُ ": كل مَالٍ وجبت فيه الزكاة، فلم تُؤَدَّ زكاته. وقوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا}. أي: لا يؤدون زكاتها.

قال ابن عمر: كل ما مَالٍ أُدِّيتُ زكاته ليس بكنز، وإن كان مدفوناً، وكلُّ مالٍ لم تُؤدّ زكاته، فهو كنز يكوى [به] صاحبه، وإن لم يكن مدفوناً. ورُوي عن علي Bهـ: أربعة آلاف درهم فما دونها " نفقة " / فإن زادت فهو " كنز "، أدّيت زكاته أو لم تُؤد. قال ابن عباس: هي خاصة للمسلمين لمن لم يؤدِّ زكاته منهم، وهي عامة في أهل الكتاب، من أدى الزكاة ومن لم يؤدِّ؛ لأنهم لا تقبل منهم نفقاتهم وإن أنفقوا. وقال عمر بن عبد العزيز: أراها مَنْسوخَةً بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

و " الكنْزُ " في كلام العرب: كل شيء جُمع بعضُه إلى بَعْضٍ. قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا}. ولم يقل: " يُنفقونهما "، إنما ذلك لأن الضمير رجع على الكنوز، والكنوز تشتمل على الذهب والفضة. وقيل: إن الضمير يرجع على: " الأموال " التي تقدم ذكرها أنها تؤكل بالباطل. وقيل: الضمير يعود على: " الفضة "، وحذف العائد على الذهب لدلالة الكلام

عليه، كأنه قال: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} و " يُنفقونه "، ثم حذف كما قال: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ. . .. وقيل الضمير: " الذهب "، وضمير " الفضة " محذوف تقديره: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا}

و " يُنفقونها "، والعرب تقول: " هي الذهب [الحمراء] "، فتؤنث. وقال معاوية: هذه الآية في أهل الكتاب خاصة. وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. أي: اجعل موضع البشارة لهم عذاباً أليماً، أي: مؤلماً، بمعنى مُوجع. وليس {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، بتمام؛ لأن {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا}، منصوب بـ: {أَلِيمٍ}. و (الضمير في {عَلَيْهَا}، فيه من الوجوه، ما في: {يُنفِقُونَهَا}، وكذلك الضمير في {بِهَا}.

36

قال النبي A: " مَا مِن عَبْدٍ لا يُؤدّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا أُتِي بِهِ وبماله فأحمى عليه في نار جهنم، فتكوى بها جنباه وجبهته وظهره، حتى يحكم الله بين عباده ". وقال ابن عباس: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا}، قال حَيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، تقول: أنا مالك الذي بخلت به. وقال النبي A: " مَن ترك بعده كنزاً مَثَلَ له يوم القيامة شُجاعاً أَقْرَع له زَبِيبَتَانِ، يتبعه فيقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلم يزل يتبعه حتى يُلْقِمَه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده ". قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً}، الآية. قوله: {كَآفَّةً}.

مصدر مثل: " عفاه الله عافيةً "، ومثله: " عامَّةً " و " خاصَّةً "، ف: {كَآفَّةً} ك: " العافية " و " العاقبة "، ولا تدخل فيهما " الألف واللام "، كما لم تدخلا في " معاً " و " جميعاً ". ومعنى الآية: إن الله قدر أنّ السنة اثنا عشر شهراً في كتابه الذي سبق فيه ما هو [كائن] إلى يوم القيامة، منها أربعة حرم، وهن: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، وكان القتال فيها حراماً حتَّى نزل في " براءة " قتال المشركين. و {ذلك الدين القيم}.

أي: المستقيم، إنها اثنا عشر شهراً. وقيل {الدين} هنا: الحساب، أي: الحسابُ المستقيم. وقال ابن عباس معناه: ذلك القضاء القيم. وقوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. أي: لا تستحلوا ما حرم الله D. قال ابن عباس: {فِيهِنَّ} يعني كلهن. قال ابن عباس: {فِيهِنَّ}، يعني: كلهن. وهو قول مقاتل بن حيان، والضحاك، جعلاً الضمير يعود على: {اثنا عَشَرَ شَهْراً}. وليس قوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إذا جعلناه الأربعة الأشهر بمبيح لنا أن نظلم أنفسنا في غير الأربعة الأشهر، ولو كان ذلك كذلك لكان قوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] دليلاً على إباحة قتلهم إذا لم يخشوا إملاقاً، ولكان قوله:

{والفلك [التي] تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} [البقرة: 164] دليلاً على أنها لا تجري بما يضر الناس، وهي تجري بما ينفع وما يضر. وأصل هذا: أن كلَّ نهي إنما يوجب الامتناع عما نهى عنه دون غيره، وكل أمر فهو نافسٍ لأضداده فإذا قلت: " قُمْ "، فقد أمرته بترك أضداد القيام من القعود والأضطجاع، وإذا قلت: " لا تَقُمْ "، فلم تنهه عن الاضطجاع ولا عن ألا تكاء ولا عن شيء من أضداده، فاعمله. فالنهي عن الشيء لا يكون نهياً عن أضداد ذلك الشيء والأمر بالشيء أمر عن أضداد/ ذلك الشيء على مبينا، فافهمه. وقال قتادة، وغيره: {فِيهِنَّ} في الأربعة الحرم، جعل الذنب فيهن أعظم منه في غيرهن. وأكثر ما تستعمل العرب " الهاء " و " النون " فيما دون العشرة، و " الهاء "

و " الألف " في ما جاوز العشرة. فالظلم في جميعها لا يجوز، ولكن هو فيها أعظم وزراً لشرفها، فلذلك خصها بالذكر، تعالى، وهذا كقوله: {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] أفردها بعد أن ذكرها مجملة لشرفها، وليس إفرادها بالمحافظة يدل على ترك المحافظة فيما سواها، فكذا هذا. وقال ابن إسحاق المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً، تعظيماً لها، فإنما نهو عن " النسئ " الذي المشركون يصنعونه.

37

{وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً}. أي: جميعاً. ومعنى {كَآفَّةً}، أي: يكف بعضهم بعضعاً عن التخلف كما يفعلون. {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}. أي: مع من اتقى أمره ونهيه وأطاعه. ومن جعل {فِيهِنَّ} يعود على: " الاثنا عشر شهراً " وقف على: {القيم}، ومن جعله يعود على: " الأربعة الحرم " وقف على: {أَنْفُسَكُمْ}، وهو قول نافع والأخفش. والأول قول أبي حاتم ويعقوب. قوله: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر}، الآية. روى أحمد بن صالح، وداود، وأبو الأزهر عن ورش: {النسياء}،

مشدداً غير مهموز. وكذلك قال أحمد بن صالح عن قالون. وقال الحلواني عن قالون: مهموز.

وكذلك روى إسماعيل بن جعفر عن نافع. وهو من " نسأتُ " و " أَنْسَأْتُه ": إذا أخرته. ومن قرأ بغيْرِ همزٍ احتمل أن يكون على تخفيف الهمز. واحتمل أن يكون من " نسيت " الشيء: تركته. ومن قرأ {يُضَلُّ}، بفتح الياء، فمعناه: أنهم يَضِلون بتأخير شهر الحج

وتقديمهم غيره. ومن قرأ {يُضَلُّ} بضم الياء، على ما لم يُسمَّ فاعله احتج بقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ}، فأجراه عليه للمشاكلة. وقرأ الحسن، وأبو رجاء: {يُضَلُّ}، بالضم، من: " أضَلَّ "، على معنى: أنهم يضلون به مَنْ قَبِلَ منهم ذلك. و {الذين} في القراءتين المتقدمتين في موضع رفع.

وفي هذه القراءة يجوز أن يكون في موضع رفع على أنهم يضلون به من قَبِل منهم. ويجوز أن يكون في موضع نصب، على معنى: يُضل الله به الذين كفروا. ومعنى الآية عند الطبري: ما النسيء إلا زيادة في الكفر، على معنى: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك من شهور الحرم، وتصييرهم الحرام حلالاً، والحلال حراماً، زيادة في كفر من فعل ذلك. وذلك أنَّ أبا ثُمامة بن عوف، كان يحرم عليهم صفراً عاماً، ويحلله عاماً، فيحرم صفراً والمحرم عاماً، وهو قوله: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً}. وذلك أنهم (كانوا) قد تمسكوا بتحريم الأربعة الأشهر الحرم من ملة إبراهيم، عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرّم لحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر، ويقاتلون في المحرم. (هذا قول أبي عبيد، قال: فيحرمون صفراً إذا

قاتلوا في الحرم)، ويقولون: هذا أحدُ الصفرين. وقد تأول قوم قول النبي A: " لا صَفَرَ " أنه إنما نفى هذا المعنى. ثم كانوا يحتا/جون إلى صفر لقتال، فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يتمادون على تحريمه، ثم كذلك يؤخرون من شهر إلى شهر حتى استدار المحرم عن السنة كلها، فأتى الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل؛ لأنهم كانوا ينتقلون إلى تحريم شهر، ويقيمون عليه مدة، (ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده، ويقيمون عليه مدة ثم يحتاجون إلى القتال فيه، فيحرمون ما بعده ويقيمون عليه مدة)، حتى صاروا إلى المحرم، فأتى الإسلام وقد

رجع إلشيء إلى حقه، فذلك قول النبي A: " إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ". فقوله: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً}، هو أنه يحلون صفراً، ثم يحتاجون إلى تحريمه [فيحرمونه]، ويحلون ما قبله، ثم يحتاجون إلى تحليل صفر، فيحلونه، ويحرمون ما بعده، كذا يصنعون. وقال مجاهد في قوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197]، أي: وقد استقر الحج الآن في ذي الحجة فلا جدال فيه. وقال مجاهد: كانت العرب تحج عاميْن في ذي القعدة، وعاميْن في ذي الحجة، فلما حج النبي A، كان الحج تلك السنة في ذي الحجة، فهو معنى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج}، أي: استقر في ذي الحجة.

وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: إن المعنى، أن رجلاً [كان] يأتي الموسم، فيحل لهم المحرم سنة ويحرم صفراً، ويحلل صفر العام المقبل، ويحرم المحرم. قال ابن زيد: كان اسم الرجل: الْقَلَمَّس، قال شاعرهم: ومنَّا الذي يُنْسي الشُّهورَ الْقَلَمَّسُ ... ومعنى {زِيَادَةٌ}، (أي): أزدادوا به كفراً إلى كفرهم.

38

ومعنى: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله}. أي: ليشابهوا به الذي حرم الله، ويوافقوه به في العدة، لا يزيدون ولا ينقصون، إنما يؤخرون، ويأخذون ذا. وروى ابن أبي شيبة أن اسم الرجل: نسيء. {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ}. أي: حبب ذلك إليهم. {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين}. أي: لا يوفقهم للهدى. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا}، إلى قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. هذه الآية تحريضٌ من الله، D، وحثَّ للمؤمنين على غزو الروم، وذلك غزوة تبوك. بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد خيبر، وحنين، أُمروا بالغزو في الصيف حين

أحرقت الأرض، وطابت الثمار. ومعنى {انفروا}: اخرجوا غزاة. ومعنى: {اثاقلتم}، أي: تثاقلتم فلزمتم الأرض والمقام بمساكنكم. {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة}. أي: بخفض الدَّعةِ في الدنيا عوضاً من نعيم الآخرة. {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ}. أي: ما الذي تستمعون به في الدنيا من عيشها في نعيم الآخرة إلا يسير. قال النبي A: " مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة أفضلُ من الدُّنيا وما فيها ".

ثم قال تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}. يتوعدهم على ترك الغزو إلى الروم، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}: أي عاجلاً في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ}. (أي: ويستبدل الله، D، نبيَّه عليه السلام قوماً غيركم)، ينفرون معه إذا استنفروا. {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً}. أي: لا تضروه، بترككم النفير، شيئاً، إذا لا حاجة به إ ليكم ولا إلى غيركم. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. على أهلاككم واستبدال قوم غيركم [بكم]، وعلى سائر الأشياء. قال ابن عباس: استنفر النبي عليه السلام، حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه،

فأمسك عنهم القطر، فكان ذلك العذاب الأليم. ورُويَ عن ابن عباس أنه قال: نَسَخَتْهَا: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122]. وقال الحسن، / وعكرمة، وأكثر العلماء على أنهما محكمتان، لأن معنى {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ}، [أي]: إذا احتيج إليكم. وقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، معناه: أنه لا بد أن يبقى بعض المؤمنين لئلا تخلى دار الإسلام. وقد قاله: الحسن، والضحاك.

40

وقوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة} [التوبة: 120]، الآية، نَسَخَتْهَا (أيضاً) التي بعدها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122]،. وكذلك نسخت: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ}، الآية. قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ}، الآية. {ثَانِيَ اثنين}: نصب على الحال. وقال على بن سليمان: نصبه على المصدر، والمعنى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ}، فخرج {ثَانِيَ اثنين}. مثل: {والله أَنبَتَكُمْ [مِّنَ الأرض [نَبَاتاً]} [نوح: 17]. . . .

ومعنى الآية: أنها إعلام] من الله لأصحاب النبي عليه السلام، أن الله، D، قد تكفل بنصره على أعدائه في كل وقت، وحين: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} يعني: قريشاً، مفرداً مع صاحبه أبي بكر، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، يعني [النبي] عليه السلام، يقول لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ}، ذلك أن أبا بكر خاف من أن يعرف مكانه، فمكث النبي عليه السلام، وأبو في الغار ثلاثة أيام. والغار بجبل يسمى: " ثوراً ". وكان عامر بن فهيرة في غنم لأبي بكر بـ: " ثور " هذا، يروح بتلك الغنم على النبي A، بالغار، وكان أبو بكر قد أرسله بتلك الغنم إلى " ثور " قبل خروجه مع

النبي A عدة. قال أبو بكر Bهـ: " بينا أنا مع النبي A، [ في الغار] وأقدام المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله A الله، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا، قال: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَينِ اللهُ ثَالِثُهُما ". والمعنى: الله ثالثهما، بالحفظ والكلاءة والمنع منهما. وفي فعل النبي A، هذا مع أبي بكر سُنَّةٌ لكل من خاف من أمر لا قوام له به، أن يفر منه، ولا يُعرّض نفسه إلى ما لا طافة له به، اتباعاً لفعل نبيه، عليه السلام، ولو شاء الله، عز جل، أن يسكنه معهم، ويُعمي أبصارهم عنه لفعل، ولو شاء لمشى بين أيديهم ولا يرونه، ولو شاء أن يهلكهم بما أرادوا أن يفعلوا لفعل، ولم يكن ذلك عليه عزيزاً،

ولكن أراد [الله] تعالى، أن يبلغ الكتاب أجله، ولتستنَّ بفعله A، أمتهُ بعده. وفي فعل النبي A، وأبي دليلٌ على فساد قول من قال: من خاف شيئاً سوى الله D، لم يوقن بالقدر. فحذر أبي بكر من أن يراهم المشركون دليل على الحذر من قدر الله، D، لم يوقن بالقدر. فقال ذلك، Bهـ، إشفاقاً على رسول الله A، أن يُنَالَ بأذى أو يُفْتَنَ هو في دينه إن قدر عليه، فخف من ذلك، مع علمه أنّ الله D، بالغ أمره فلي كل ما أراد. وقال الله حكاية عن موسى، عليه السلام. {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67] {قُلْنَا لاَ تَخَفْ} [طه: 68]. وقوله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}. أي: [على] أبي بكر، والنبي عليه السلام، لم تفارقه السكينة قط.

والسكينة: الطمأنينة من السكون. وقد قيل: إنَّ " الهاء " تعود على النبي A. والأول أحسن؛ لأن النبي عليه السلام، معصوم من ذلك، على أنه قد قال تعالى: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} [الفتح: 26]، وذلك أن النبي عليه السلام، خاف على المؤمنين يوم حنين لما اضطربوا، فلما أيد الله D، المؤمنين بنصره، سكن خوف النبي/ A، عليهم. وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}. " الهاء " عائدة على النبي A.

أي: قوّاه بالملائكة. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى}. أي: قهر الشرك وأذله. {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا}. أي: كذلك هي، ولم تزل كذلك. وقرأ علقمة، والحسن، ويعقوب: " وكلمة الله " بالنصب، وهو بعيد من وجوه. أحدهما: أن الرفع أبلغ؛ لأنها لم تزل كذلك، والنصب يدل على أنها جُعلت كذلك بعد أن لم تكن علياً.

وَبَعيدٌ أيضاً: من أنه يلزم أن يقال: " وَكَلِمَتَهُ هي العُلْيَا "، لأنه لا يجوز في الكلام: " أَعْتَقَ زَيْدٌ غُلاَمَ أبي زَيْدٍ " والثاني هو الأول. وزعم قول إن إظهار الضمير في هذا حسن؛ لأنّ فيه معنى التعظيم، ولأن المعنى لا يشكل، وليس بمنزلة زيد ونحوه الذي يشكل، قال: وهو مثل ما أنشد سيبويه: لاَ أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . .

ومثل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2]. {والله عَزِيزٌ}. أي: عزيز في انتقامه من أهل الكفر، {حَكِيمٌ}، في تدبيره. قال نافع: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله}، وقف، وهو بعيد، لأن {إِذْ}، قد عمل فيها: {نَصَرَهُ}. {السفلى}، وقف حسن إن رفعت {وَكَلِمَةُ الله}، وإن نصبت، كان الوقف: {العليا}. {وَجَعَلَ} في هذا الموضع بمعنى: " صيَّر " ويلزم المعتزلة أن يجعلوها بمعنى " خَلقَ " وهم لا يفعلون ذلك. لأنهم يقولون: كفر الكافر ليس بخلق الله D، ثم

يقولون في قوله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: 3]، معناه: خلقناه، فيجعلون " جعل " بمعنى " خلق " في هذا الموضع، ويمتنعون منه في هذا الموضع الآخر. و" جعل " يكون: بمعنى " صَيّرَ ". وبمعنى: " سَمَّى ". وبمعنى " خَلََقَ ". فإذا كانت بمعنى: " صَيَّرَ " تعدت إلى مفعولين وكذلك إذا كانت بمعنى: " سمّى " كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً}. وإذا كانت بمعنى: " خَلَقَ " تعدت إلى مفعول واحد، كقوله):

41

{وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1]. وقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] هي بمعنى: " صيَّر " تعدت إلى مفعولين وهما: {ابن}، و {آيَةً}. و {كَلِمَةُ الله}، في هذا الموضع: لا إله إلا الله. قوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً}، إلى قوله: {لَكَاذِبُونَ}. المعنى في قول الحسن: {انفروا}، شباناً وشيوخاً، وهو قول عكرمة، وأبي صالح. ورُوي عن أبي طلحة: {انفروا}، شباناً وكهولاً، وكذلك قال الضحاك، ومقاتل بن حيان. وروى سفيان، عن منصور عن الحكم {انفروا}: مشاغيل وغير مشاغيل.

وعن أبي صالح أنَّ المعنى {انفروا}، أغنياء وفقراء. وعن ابن عباس وقتادة {انفروا}، نشاطاً وغير نِشاط. وقال الأوزاعي المعنى {انفروا}، [ركباناً ومشاة. وفيه قول سابع قاله ابن زيد أن المعنى {انفروا}]: من كان ذا ضَيْعَةٍ ومن [كان] غير ذي ضَيْعة، ف " الثقيلُ " الذي له ضيعة يكره أن يتكر ضيعته، و " التَّخْفِيفُ ": الذي لا ضيعة عنده تمنعه من الخروج. وفيه قول ثامن مرويٌّ عن الحسن أنَّ المعنى: في العُسْر واليسر. وفيه قول تاسع قاله زيد بن أسلم: أنَّ المعنى " الثقيل ": الذي له عيال، و " الخفيف ": الذي لا عيال له.

وقد قيل: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ [كَآفَّةً]}، [التوبة: 122]. وقل: هي محكمة. أمر الله أصحاب النبي عليه السلام بالخروج معه على كل حال. {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}. أي: ابذلوهما في الجهاد. {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}. أي: في معادكم وعاجلكم وآجلكم، فالعاجل: الغنيمة، والآجل: الأجر والرضى من الله، D. ثم قال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ}. وذلك أن جماعة استأذنوا النبي A، إذ خرج إلى تبوك في التخلف/ والمُقام،

فأذن لهم، فقال له الله، عز وجل، {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً}، أي: غنيمة حاضرة، {وَسَفَراً}: قريباً، {لاَّتَّبَعُوكَ}، ولم يتخلفوا عنك. {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة}. [و {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة}: الغاية التي يقصد إليها. قال أبو عبيدة: {الشقة}: المشقة]. فالمعنى: ولكن استنهضتهم إلى مكان بعيد، فشق ذلك عليهم، فسألوك في التخلف. وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}. أي: سيحلف هؤلاء لكم بالله، إنهمه لو قدروا لخرجوا معك، وذلك منهم كذب.

43

{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}. أي: يوجبون لها بالتخلف والكذب، والهلاك والغضب في الآخرة. {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. في أعتذارهم. قوله: {عَفَا الله عَنكَ}، إلى قوله: {بالمتقين}. " النون " من: {عَنكَ}، وحيث ما سكنت مع " الكاف " وأخواتها خرجت بغُنّة من الخياشيم. والمعنى: {عَفَا الله عَنكَ}، يا محمد، ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم. وقيل المعنى: إنه افتتاح كلام بمنزلة: " أصلحك الله " و " أعزك الله ". وقال الطبري: هذا عِتابٌ من الله، D لنبيه عليه السلام، في إذنه لمن أذن لهه من المنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك، حتى يعلم الصادق منهم من الكاذب في

قولهم: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}، فيعلم من له عذر ومن لا عذر له، فيتبين لك الصادق من الكاذب، ويكون إذنك على علم بهم. ثم أرخص الله، D، له الإذن في سورة " النور " فقال: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62]. قال بعضُ المفسرين: اثنين فعل رسول الله عليه السلام، لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، وأخذه من الأسارى الفداء. ومن قال هو افتتاح كلام، وقف على: {عَفَا الله عَنكَ}. ومن قال هو عتاب، لم يقف عليه.

وقال محمد بن عرفة نفطويه: ذهب ناس إلى [أنّ] النبي A مُعاتبٌ بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي، كما قال: " لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لجَعَلْتُهَا عُمْرةً "؛ لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل، وقد قال له الله: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ} [الأحزاب: 51]، لأنه كان له أن يفعل ما شاء، فلما كان له أن يفعل ما شاء مما لم ينزل عليه فيه وحي، واستأذنه المتخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرماً وتفضلاً منه، A، فأبان الله، D أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا، للنفاق الذي في قلوبهم، وإنهم كاذبون في إظهار الطاعة له والمشاورة. ف: {عَفَا الله عَنكَ}، عنده افتتاح كلام، أعلمه الله D، به أنه لا حرج عليه فيما فعل من الإذن، وليس هو عفواً عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه بترك. الإذن لهم، كما قال عليه السلام: " عَفَا اللهُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ والرَّقِيقِ وَمَا وَجَتَا قَطُّ " ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك.

45

قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله} الآية. أجاز سيبويه في: {أَن يُجَاهِدُواْ}، أن تكون {أَن}: في موضع جر عكلى حذف الجار، قال: لأنَّ حذف حرف الجر جائزٌ مع ظهور " أن "، ألا ترى أنك لو جعلت مع " أنْ " والفعل: المصدر، لم يجز حذف الجر، لا يجوز: " لايستأذنك القوم/ الجهاد "، حتى تقول: " في الجهاد " ويجوز ذلك مع " أن ". ومعنى ذلك أن الله D، أعلم نبيه عليه السلام، بسيما المنافقين وأن من علاماتهم الاستئذان في التخلف لئلا يجاهدوا في سبيل الله، ومن علامات المؤمنين أنهم لا يستأذنون في ذلك. وقيل العنى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} في القعود عن الجهاد. ثم قال: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ [بالله] واليوم الآخر}. أي: في القعود، يدل على ذلك قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن}، أي: في القعود.

46

وقوله: {وارتابت قُلُوبُهُمْ}. يعني المنافقين الذين يستأذنون في التخلف أي: وشكت قلوبهم في الله D، وفي ثوابه وعقابه، سبحانه، فهم في شكهم {يَتَرَدَّدُونَ}، أي: يتحيرون، لا يعرفون حقاً من باطل. رُوي عن عكرمة، والحسن: أن قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر}، إلى: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}، نسختها الآية التي في " النور ": {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} إلى: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}. والمعنى: ولو أراد هؤلاء الذين استأذنونك في التخلف الخروج معك،

{لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}، أي: لتأهّبوا للسفر. {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم}. أي: خروجهم. {فَثَبَّطَهُمْ}. أي: فثقّل عليه الخروج، حتى استحسنوا القعود، وسألوا فيه. {وَقِيلَ اقعدوا}. أي: زيَّن لهم ذلك. ف: {اقعدوا مَعَ القاعدين}، أي: مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان. والذين استأذنه هو: عبد الله بن أُبي بن سلول، ومن كان مثله. والفاعل المحذوف من: " {وَقِيلَ}، ذُكر أنه النبي A، لأنه هو سمح لهم في

47

التخلف. ويجوز أن يكون المعنى: وقال لهم أصحابهم هذا. قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} الآية. المعنى: لو خرج هؤلاء فيكم، {مَّا زَادُوكُمْ} بخروجهم {إِلاَّ خَبَالاً} أي: فساداً {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ}، أي: ولأسرعوا بركائبهم للسير فيكم. و" الإيضاع ": ضرب من الإسراع في الخيل والإبل. وكتبت: {ولأَوْضَعُواْ} بألف زائدة.

وكذلك: {أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ} [النمل: 21]. وكذلك: {لإِلَى الجحيم} [الصافات: 68]. والعلة في ذلك: أنّ الفتحة كانت تكتب قبل العربي الفاً، فكتبت هذه الحروف على ذلك الأصل، جعلوا للفتحة صورة فزادوا الألف التي بعد اللام، والألف الثانية هي صورة الهمزة. ومعنى {خِلاَلَكُمْ}، فيما بينكم، وهي الفُرَجُ تكون بين القوم في الصفوف.

وقال أبو إسحاق معنى {خِلاَلَكُمْ}: فيما يخل بكم، أي: يسرعوا فيما ينقصكم. {يَبْغُونَكُمُ الفتنة}. أي: يبغونها لكم، أي: يطلبون ما تفتنون به. وقيل {الفتنة} هنا: الشرك. قال ابن زيد: سلّى الله D، نبيه A، بهذه الآية في تخلف المنافقين عنه، فأخبره أنهم ضررٌ لا نفع فيهم. وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}. أي: فيكم، يا أصحاب محمد، من يستمع حديثكم ليخبرهم بذلك، كأنهم

48

عيون للمنافقين. كذلك قال: مجاهد والحسن وابن زيد. وقال قتادة المعنى: وفيكم من يستمع كلامهم ويطيعهم، فلو صحبوكم أفسدوهم عليكمك. {والله عَلِيمٌ بالظالمين}. أي: ذو علم بمن يقبل من كلام المنافقين، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين، وبغير ذلك. قوله: / {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ/ لَكَ الأمور}، إلى قوله: {بالكافرين}. المعنى: لقد التمس هؤلاء المنافقون لأصحابك، يا محمد، {الفتنة}، أي:

خبالهم وصدهم عن دينهم {مِن قَبْلُ}، أي: من قبل أن ينزل عليك أمرهم وكشف سرهم واعتقادهم {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور}، أي أجالوا فيك وفي إيطال ما جئت به الرأي {حتى جَآءَ الحق}، أي: نصر الله: {وَظَهَرَ أَمْرُ الله}، أي دينه وهو الإسلام، {وَهُمْ كَارِهُونَ}، لذلك. ثم أخبر الله D، عن المنافقين أن منهم من يقول للنبي A: { ائذن لِّي}، أي: ائذن لي يا محمد، في المُقام ولا أخرج معك، {وَلاَ تَفْتِنِّي}، أي: لا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتهم، فإني بالنساء مغرمٌ، فآثم بذلك. قال مجاهد: قال النبي A: " اغزوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم " فقال بعض المنافقين: ائذن لي، ولا تفتني بالنساء.

وقال قتادة معنى: {وَلاَ تَفْتِنِّي}، أي: لا تؤثمني، بالتخلف عنك بغير رأيك، ائذن لي في المُقام. قال ابن عباس: قال الجد بن قيس للنبي A، لما حضّ على غزو الروم: قد علمت الأنصار أنى إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكني أعينك بمالي. ففي الجد بن قيس نزلت الآية. وقوله: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ}. أي: ألا في الإثم وقعوا، ومنه هربوا في زعمهم. {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين}.

50

أي: مُحدقةٌ بهم، جامعةٌ لهم يوم القيامة. {وَلاَ تَفْتِنِّي}: وقف حسن. قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} إلى قوله: {مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ}. والمعنى: إن يصبك يا محمد، سرورٌ وفتح، ساء المنافقين ذلك، وإن يصبك نقص في جيشك أو ضر، أو هزيمة، يقول المنافقون: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا [مِن قَبْلُ]}، أي: أخذنا الحذر بتخلفنا {مِن قَبْلُ} أي: من قبل أن تصيبهم هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ [فَرِحُونَ]}، أي: يُدْبروا عن محمد A، [ وهم]: فرحون بما أصابه. ثم قال: {قُل}، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: ليس {يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا}، أي: في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا: {هُوَ مَوْلاَنَا} أي ناصرنا، {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.

53

ثم قال تعالى: {قُلْ} يا محمد لهم: {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين}، أي إحدى الخلّتين اللتين هما أحسن من غيرهما، إما الظفر والأجر والغنيمة، وإما القتل والظفر بالشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ}، أي: بعقوبة عاجلة، تهلككم: {أَوْ بِأَيْدِينَا}، أي: يسلطنا عليكم فنقتلكم. قال ابن جريج: {بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ}: بالموت، {أَوْ بِأَيْدِينَا}: بالقتل. {فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ}. أي: فانتظروا إنا معكم منتظرون، أي: ننتظر ما الله فاعل بكم، وما إليه يصير كل فريق منا ومنكم. قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}، إلى قوله: {وَهُمْ كافرون}.

والمعنى: {قُلْ}، يا محمد لهؤلاء المنافقين: أنفقوا أموالكم كيف شئتم، طائعين أو كارهين، فإنها لا تقبل منكم، إذ أنتم في شك من/ دينكم، خارجون عن الإيمان بذلك. وخرج قوله: {أَنفِقُواْ}، مخرج الأمر، ومعناه الخبر، وإنما تفعل العرب ذلك في الموضع الذي يحسن فيه " إنْ " التي للجزاء، [و] منه قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، لفظه لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، والجزاء خبر، ومنه قول كثير:

أسيئ بِنَا أوْ أحْسِني، لاَ مَلُومَةً ... لَدَيْنَا وَلاَ مَقْلَّيةً إِنْ تَقلَّتِ. فالمعنى: إن تنفقوا طائعين أو كارهني فلن يقبل منكم. وجاز أن يقع لفظ الأمر بمعنى الخبر، كما جاز أن يقع لفظ الخبر بمعنى الطلب والأمر، تقول: " غَفَرَ اللهُ لِزَيْدٍ " معناه: الطلب والدعاء، ولفظه لفظ الخبر، والمعنى: " اللهم اغفر لزيد ". وهذه الآية نزلت في الجدّ قيس، لأنه لما عرض النبي عليه السلام [عليه] الخروج، سأل المقام، واعتذر بأنه لا يصبر إذا رأى النساء، وأنه يفتتن، ثم قال للنبي A: هذا مالي أعينك به. ثم أخبر الله تعالى بالعلة التي من أجلها لم تقبل نفقاتهم، فقال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ}، أي: بأن تقبل، {إِلاَّ أَنَّهُمْ}، " أنّ " في

موضع رفع، أي: ما منعهم من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا كفرهم. وأجاز الزجاج، أن تكون " أَنَّ " في موضع نصب، على معنى: إلا لأنَّهم كفروا، ويكون الفاعل مضمراً في {مَنَعَهُمْ}، والتقدير ومامنعهم الله من أن تقبل منهم نفقاتهم إلا لأنهم كفروا. ويجوز عند سبيويه، أن تكون في موضع جر، على تقدير حذف الخافض. ومن قرأ: {أَن تُقْبَلَ} بـ: " الياء "، رده على معنى الإنفاق، لأنه والنفقات سواء.

فالذي منعهم من القبول هو كفرهم بالله، D، وبرسوله عليه السلام، وإتيانهم الصلاة وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا يرجون بها ثواباً، ولا يخافون بالتفريط فيها عقاباً، إنما يقيمونها مخافة على أنفسهم رياء، وأنهم لا ينفقون شيئاً من أموالهم {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}، إذ لا يرجون ثوابه. ثم قال تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم}. أي: لا تعجبك، يا محمد، أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله، يا محمد ليعذبهم بها في الآخرة. وقوله: {فِي الحياوة الدنيا}، يريد به التقديم. والمعنى: ولا تعجبك يا محمد، أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة، هذا قول ابن عباس، وقتادة وغيرهما. وقال الحسن: ليس في الكلام تقديم ولا تأخير، إنما المعنى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا}، أي: بما ألزمهم فيها من أخذ الزكاة والنفقة في

سبيل الله، D، وهو اختيار الطبري. على معنى: أنهم يخرجونها تقيةً وخوفاً، ويقلقهم عزمها، ويحزنهم خروجها من أيديهم، فهي لهم عذابٌ. وقال ابن زيد المعنى: {لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياوة الدنيا}، أي: بالمصائب فيها، فهي لهم إثم، والمصائب للمؤمنين أجر. {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون}. أي: تخرج وهم على كفرهم.

56

قال أبو حاتم: {وَلاَ أولادهم}، وقف كاف. فمن قال: في الكلام تقديم وتأخير، لم يجز الوقف. ومن قال: ليس فيه تقديم ولا تأخير، حسن الوقف على: {وَلاَ أولادهم}. و {فِي الحياوة الدنيا}، ليس بتمام؛ لأن {وَتَزْهَقَ}، معطوف عليه. قوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ}، إلى قوله: {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ}. والمعنى، / أن هؤلاء المنافقين يحلفون لكم، أيها المؤمنون، {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ}، يعني في الدين والملة. قال الله D، مكذباً لهم: {وَمَا هُم مِّنكُمْ}، أي: ما هم من أهل ملتكم ودينكم، {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}، أي: يخافونكم، فيقولون بألسنتهم ما لا يعتقدن خوفاً منكم، لئلا تقتلوهم.

ولو يجد هؤلاء المنافقون {مَلْجَئاً}، أي: حصناً يتحصنون فيه منكم، {أَوْ مَغَارَاتٍ}، وهي: الغيران في الجبل، {أَوْ مُدَّخَلاً}: أي: سرباً في الأرض يدخلون فيها. {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ}، أي لأدبروا، هرباً منك: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ}، أي: يُسرعون في مشيهم. و " الجَمْحُ ": مَشي بين مشيين يقال: فرس جَمُوحٌ، إذا كان لا يرده في دفعه لجِامٌ، ولكنهم لا يقدرون على ذلك، لأن دورهم ودراريهم وعشيرتهم تمنعهم من ذلك، فصانعوا بالنفاق، ودافعوا به عن أنفسهم وأموالهم، يَدَّعونَ الإيمان ويبطنون الكفر.

قال ابن عباس: " المَلْجَأُ " الحِرْزُ في الجبل. وقال: {أَوْ مُدَّخَلاً} ذهاباً في الأرض، وهو النفق في الأرض يعني السِّربُ. وواحد المغارات: " مغارة "، من: غار الرجل في الشيء: إذا دخل فيه. وأجاز الأخفش: " مُغارات "، من: " أَغَارَ يُغِيرُ "، كما قال: الحَمْدُ للهِ مُمْسَانَا ومُصْبَحَنَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . .

وواحدها " مغارة " وجمعها " مغاور ". وَقَأ عيسى بن عمر، والأعمش: " أوْ مُدَّخَّلاً " بتشديد " الدال " و " الخاء "، والأصل فيه: مُتَدَخَّل على وزن: مُتَفَعَّل، ومعناه: دخول بعد دخول. وَقَرأَ الحسن، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن: {مُدَّخَلاً} من دخل. وحكى أبو إسحاق: {مُدَّخَلاً} بالضم، من " أدخل.

وفي حرف أُبيّ: " مُدَخَّلاً " بتخفيف " الدال " وتشديد " الخاء ". ثم أخبر نبيه عليه السلام، أن من المنافقين من يلمزه في الصدقات، أي: يعيبه بها، ويطعن عليه فيها. يقال: " لَمَزه يَلْمِزُهُ، ويَلْمُزُهُ "، لغتان. والضَّمُّ: قراءة الأعرج، وقد رواها شبل عن ابن كثير.

و " الهُمَزَة اللُّمَزَة ": العياب للناس. وقيل: " الهُمَزَةُ ": الذي يشير بعينه، و " اللُّمَزَة ": الذي يعيب في السر. وقوله: {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ}. أي: إن أعطيتهم من الصدقات رضوا عنك، فإن لم تعطهم منها سخطوا، [فليس] عيبهم لك إلا ن أجل أنك منعتهم منها. قال مجاهد: {يَلْمِزُكَ}: يروزك، يسألك فيها. وقال قتادة: {يَلْمِزُكَ}، يطعن عليك. قال ابن زيد: قال المنافقون: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ، ولا يؤثر بها إلا

60

هواه، فنزلت الآية. ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ}. أي: ولو أن هؤلاء المنافقين، الذين يلمزونك في الصدقات، رضوا ما أعطاهم الله ورسوله، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله}، أي: كافينا الله، {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، أي: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقات وغيرها، {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ}، في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقات. قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا}، الآية. {فَرِيضَةً}: نصب على المصدر.

ومعنى الآية في قول عكرمة: أنها ناسخة لكل صدقة في القرآن. فقوله: {لِلْفُقَرَآءِ والمساكين}. قال مجاهد، وعكرمة، والزُّهري، وجابر بن زيد: / " الفقير ": الذي لا يسأل و " المسكين ": الذي يسأل. وقال ابن عباس: " المسكين ": الطواف، و " الفقير ": فقير المسلمين. وقال قتادة " الفقير ": المحتاج الذي به زمانه، و " المسكين ": الصحيح المحتاج.

وقال الضحاك " الفقراء ": فقراء المجاهدين، و " المساكين ": [الذين] لم يهاجروا. وذكر ابن وهب، عنه، أنّ " الفقراء ": من المهاجرين، و " المساكين "): من الأعراب. قال: وكان ابن عباس يقول: " الفقراء " من المسلمين، و " المساكين " من أهل الذمة. وقال الشافعي " الفقراء ": الذين لا مال لهم ولا حرفة تغنيهم، و " المساكين " الذين لهم مال، أوْ حرفة لا تغنيهم. وقال أبو ثور " الفقير ": الذي لا شيء له، و " المسكين ": الذي لا يكسب من كسبه ما يقوته. وقال عبيد الله بن الحسن " المسكين " الذي يخشع ويستكين، بأن لم يسأل و " الفقير "، الذي يتحمل، ويقبل الشيء سراً، ولا يخشع.

وقال محمد بن مَسْلمة " الفقير ": " الذي له مسكن يسكنه والخادم إلى ما هو أسفل من ذلك، و " المساكين ": الذي لا مال له. وقال أهل اللغة: " المسكين ": الذي لا شيء له، و " الفقير ": الذي له شيء يكفيه. قال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا، بل مسكين. وقال عكرمة " الفقراء ": من اليهود والنصارى، و " المساكين ": من المسلمين. واختار الطبري، وغيره أن يكون " الفقير ": الذي يعطى بفقره فقط، و " المسكين ": الذي يكون عليه مع فقره خضوع وذل السؤال. وأنشد أهل اللغة قول الراعي: أمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الِعيَالَ فَلَمْ يُتْركْ لَهُ سَبَدُ

فجعل للفقير حَلُوبَةً، مقدار ما يكفي العيال. ف: " المسكين " أشد حاجة من: الفقير " فكل مسكين فقير، وليس كل فقير مسكيناً. ف: " الفقير ": الذي لا غنى له فوق قوت يومه، وهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُول، كأنَّه مفقور الظهر، وهو الذي نزعت فَقْره [من فِقَر] ظهره، فانقطع ظهره من شدة الفقر، وهذا الاشتقاق يدل على أنّ " الفقير " أشدُّ حاجةً من " المسكين " وقد ق تعالى: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} [الكهف: 79]، فسماهم: مساكين، ولهم سفينة، ولا حجة في

قراءة من قرأ: " مَسَّاكِينَ "، بالتشديد؛ لأن الجماعة على التخفيف. وقوله: {والعاملين عَلَيْهَا}. هم السعادة في قبضها من أهلها، يُعْطَوْنَ عليها، أغنياء كانوا أو فقراء. وذلك عند مالك إلى الإمام، يجتهد فيما يعطيهم، وليس لهم فريضةٌ مسماة. وأما {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}، فقال ابن عباس: هم قوم كانوا يأتون رسول الله A، قد أسلموا، فكان النبي عليه السلام، يَرْضَخُ لهم من الصدقات، فإذا أصابوا خيراً، قالوا: هذا دين صالح، وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه. وقال الزُّهري: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}: من أسلم من يهود أو نصراني، غنياً كان أو فقيراً. وقال الحسن: أما {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}، فليس اليوم.

وكذا رُوي عن عمر بن الخطاب Bهـ. وقال الشعبي: كانت " المؤلفة "، على عهد النبي A، فلما وَلِيَ أبو بكر انقطع ذلك. وهو قول مالك، قال: يرجع سهم المؤلف إلى أهل السهام الباقية. واقل الشافعي " المؤلفة ": من دخل في الإسلام. وقال ابن حنبل/ وغيره: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ}، في كل زمان. وهو اختيار الطبري. و" اللام " في قوله: {لِلْفُقَرَآءِ}، وما بعد ذلك، بمعنى: " في "، ولو حملت على ظاهرها لوجب أن يعطوا الصدقات، يفعلون فيها ما يشاؤون. وقوله: {وَفِي الرقاب}، يدل على أنَّ " اللام " بمعنى " في ". والمعنى إنما توضع الصدقات في هؤلاء على ما يستحقون، فيأخذونها لأنفسهم، ف " اللام " توجب استحقاقها كلها لهم يعملون فيها ما يشاؤون.

وقوله: {وَفِي الرقاب}. قال ابن عباس: تعتق منها الرقبة. قال: لا بأس أن يُعطى الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق منها الرقبة. وممن قال يعتق من الزكاة الرقاب: الحسن البصري، ومالك، وابن حنبل، وغيرهم. وكره مالك أن يعان بها المكاتبون. وقال الحسن، والزهري، وابن زيد، والشافعي: معنى {وَفِي الرقاب}، يعني المكاتبين. والمعنى على هذا: وفي فك الرقاب، ورُوِيَ ذلك عن أبي موسى الأشعري.

وولاء من أعتق من الزكاة لجميع المسلمين عند مالك. وقال الحسن، وابن حنبل، وإسحاق: يجعل ما يتركه المعتّق في الرقاب. وقال أبو عبيد: الولاء للمعتق. وقوله: {والغارمين}. قال مجاهد الغارَمُ: من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب ماله. وقيل: هم المستدينون في غير سرف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال. وقال الزهري: {والغارمين}، أصحاب الدين. (وقال قتادة: الغارمون)، قوم غرَّقتهم الديون في غير تبذير ولا فساد.

وأجاز الحسن أن يحتسبَ الرجل من زكاته بالدين، يكون له على المعسر. وهو قول عطاء. وأجازه الليث إذا حَلَّ الأجَلُ، وكن الذي عليه الدَّيْنُ مُسْتَوْجِباً للصدقة. وقوله: {وَفِي سَبِيلِ الله}. المعنى: وفي نصر دين الله يعطى الغازي منها وإن كان غنياً. هذا قول مالك، والشافعي. وقوله: {وابن السبيل}. هو الضيف والمسافر، والمنقطع بهما. وقال مالك: الحاج المنقطع به هو ابن السبيل، يعطى من الزكاة.

وأكثر الناس على أن المتصدق بزكاته يجزيه أن يضعها في أي الأصناف المذكورين شاء. هو قول: ابن عباس، والحسن، والنخعي، وعطاء، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة. قال مالك: تجعل في أي الأصناف كانت فيه الحاجة. قال مالك: من له دارٌ وخادمٌ ليس في ثمنها زيادة تكفيه لو باعهما واشترى ما هو دون منهما، فإنه يأخذ من الزكاة، فإن فضل له ما يعينه على عيشه ويكفيه إذا باعهما، واشترى غيرهما لم يأخذ من الزكاة. وهو قول الحسن، والنخعي، والثوري وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: إنه قد يكون للرجل الجملة من الدنانير والدراهم، وَعَلَيْهِ عِيَالٌ، وهو محتاج إلى أكثر منها، فله أن يأخذ من الزكاة.

[وقال أبو حنيفة: من معه عشرون ديناراً أو مائتا درهمٍ، فليس له أن يأخذ من الزكاة]. وقيل: من له خمسون درهماً فلا يحل له أن/ يأخذ من الزكاة. وهو قول ابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وهو مروي عن علي بن أبي طالب Bهـ. وفيه حديث عن النبي A، أنه قال: " مَنْ سَأَلَ، وَلَهُ مَالٌ يُغْنِيهِ، جاءت - يعني مسألته - في وجهه يوم القيامة خُمُوشاَ أو كُدُوحاً "، قالوا: يا رسول الله، وماذا غناه؟ قال: " خمسون درهماً أو حسابها من الذهب ". وقيل: لا يأخذ من يملك أربعين درهماً من الزكامة. ورُوِيَ عن الني A، أنه قال: " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أربعون درهماً، فقد سأل إِلحاَفاً "

" والأوقية: أربعون درهماً ". وقد رُوِيَ هذا عن مالك، والأول أشهر عنه. وهو [قول] أبي عبيد. قال مالك: إذا كان الإمام يعدل فلا يسع أحداً أن يفرق زكاة ماله النَّاضِّ، ولا غيره، ولكن يدفعه إلى الإمام. ويبعث الإمام في زكاة الماشية، وما أنبتت الأرض، ولا يبعث في زكاة العين، ولكن إن كان عدلاً سألهم ذلك، كما فعب أبو بكر Bهـ، ويصدق الناس في ذلك.

61

قوله: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، إلى قوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}. روى الأعمش عن أبي بكر: " قُلْ أُذْنٌ خَيْرٌ لَّكُمْ "، بالتنوين والرفع فيهما، وهي قراءة الحسن. ومعنى ذلك: قُلْ هو أذن خَيْرٍ لا أذن شّرٍٍّ، وذلك أنهم قالوا: هو يسمع من كل أحد، ويسمع ما يقال له ويصدقه. فقوله: {هُوَ أُذُنٌ}، أي: أذنٌ سامعة تسمع من كل أحد. وأصله من " أَذِنَ " إذا تَسمَّعَ. ومنه الخبر عن النبي A: " مَا أُذِنَ لِشَيء كَأَذِنه لِنَبِيٍ يَتَغَنَّى بالقُرْآنِ ".

ويُرْوَى " أنَّ هذه الآية نزلت في نبتل بن الحارث، ونفر معه من المنافقين، كان نَبْتَلُ يأتي النبي A، يتحدث إليه فيستمع النبي A منه، فنيقل حديثه إلى المنافقين، ويقول: إنما محمد أُذُنٌ، من حَدَّثهُ سمِعَ وصدَّقَه. وهو الذي قال النبي A، فيه: " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث ". وكان جسيماً، ثائر شعر الرأس، أسفع الخدين، أحمر العينين. ومعنى قراءة من نوَّن، قل: أذن يسمع ما تقولون ويصدقكم في قولكم خير لكم من أن يكذبكم في قولكم، فالتقدير: إن كان الأمر كما تقولون فهو خير لكم يقبل اعتذاركم. وقوله: {يُؤْمِنُ بالله}. أي: يُصدق بالله، ويصدق المؤمنين، أي: لا يقبل إلا من المؤمنين. فأكذبهم الله فيما قالوا عنه: إنه يقبل من كل أحد، فأخبرهم أنه إنما يصدق المؤمنين لا

الكافرون والمافقين. والعرب تقول: " آمنتُ له، وآمنْتُه " بمعنى، أي: صدَّقته، كما قال: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]، بمعنى: ردفكم وكما قال: {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154]، أي: ربَّهم يرهبون. و (اللام) عند الكوفيين زائدة، وعند المبرد متعلقة بمصدر دل عليه الفعل. يعني: و {رَدِفَ لَكُم}، و {يَرْهَبُونَ}. قال ابن عباس: {هُوَ أُذُنٌ}، أي: يسمع من كلِّ أحد.

قال قتادة: كانوا يقولون: محمد أُذُن، لا يُحدَّث بشيء إلا صدَّقه. وقوله: {وَرَحْمَةٌ}. أي: وهو رحمة. ومن قرأ: بالخفض، فعلى معنى: هو أُذُن خير وَأُذُن رحمة لمن اتبعه. {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله}. أي: يعيبونه، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي: مؤلم. ثم قال تعالى حكاية عنهم: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}، أي: ليرضيوكم إذا بلغهم/ عنكم أنّكم سمعتم بأذاهم للنبي، فحَلَفُوا أنهم ما فعلوا ذلك، وأنهم لعلى دينكم. {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}. التقدير عند سبيويه: والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف الأول لدلالة الكلام عليه.

والتقدير عند المبرد: أنَّه لا حذف في الكلام، وأنَّ فيه تقديماً وتأخيراً، والمعنى عنده: والله أحق أن يرضوه ور [سوله]. وقد رُدّ هذا القول؛ لأن التقديم والتأخير إنما يلزم إذا لم يكن استعمال اللفظ على ظاهره، فإذا حَسُنَ استعمال اللفظ على سياقه لم يقدر به غير ترتيبه. وقد رُدَّ أيضاً قول سيبويه بأن قيلأ: الإضمار إنما يلزم إذ لم يجز استعمال اللفظ بظاهره من سياقه، أو من تقدير فيه، فأما إذا جاز استعماله بغير زيادة على وجه ما، لم يجز تقدير إضمار وحذف. وقوله: {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}. أي: مصدقين فما زعموا. ذكر بعض المفسرين: أنّ رجلاً من المنافقين، انتقص النبي A، فسمعه ابن امرأته، فمضى إلى النبي عليه السلام، فأخبره، فوجه النبي A، إلى المنافق، فأتاه، فقال: ما حملك على ما قلت؟ فأقبل المنافق يحلف بالله ما قال ذلك، وجعل ابن امرأته يقول:

63

اللهم صِدّق الصادق، وكِذّب الكاذب، فأنزل الله D: { يَحْلِفُونَ [بالله] لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}، الآية. قوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {تَحْذَرُونَ}. قوله: {فَأَنَّ لَهُ}. " أنّ " بدل من الأولى عند الخليل وسيبويه. وقال المبرد والجَرْمِي: " أنَّ " الثانية مكررة للتوكيد.

وقال الأخفش: " أنّ " في موضع رفع الابتداء، والمعنى: فوجوب النار له. وأنكر ذلك أبو العباس؛ لأنَّ " أنَّ " المشددة المفتوحة لا يبتدأ بها، ويضمر الخبر. وقال علي بن سليمان: " أَنَّ " في موضع رفع على إضمار مبتدأ، والمعنى: فالواجب أن له النار. وكلهم أجاز كسر " أَنَّ "، واستحسنه سيبويه. ومعنى الآية: ألا يعلم هؤلاء المنافقون {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله}، أي: يجانبه ويعاديه وحقيقته: أنه يقال: حادَّ فلانٌ فلاناً، أي: صار في حد غيره حده،

{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً (فِيهَا)}، أي: لابثاً أبداً، {ذلك الخزي العظيم}، أي: الهوان والذل. ثم قال تعالى إخباراً عما يُسِرُّ المنافقون: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ}، الآية. المعنى: يَخْشى المنافقون، أن ينزّل الله D، سورة يخبر فيها بما في قلوبهم. وكانوا يقولون القول القبيح في النبي A، وأصحابه بينهم، ويقولون: عسى الله ألاّ يفشي سِرَِّنا علينا. ورُوي أنهم كانوا سبعين رجلاً، أنزل الله D، أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه؛ لأن أبناءهم كانوا مسلمين. قوله: {قُلِ استهزءوا إِنَّ الله}. هذا تهديد من الله D، لهم. {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}. أي: مظهر سركم الذي تخافون أن يظهر.

65

قال قتادة: كنا نسمي هذه السورة: " الفاضحة "؛ لأنها فضحت المنافقين. قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، إلى قوله: {مُجْرِمِينَ}. المعنى: ولئن سألتهم، يا محمد، عما قالوه من الباطل، ليقولن: إنما قلنا ذلك لعباً وخوضاً وهزؤاً، {قُلْ}، يا محمد، لهم: {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}، هذا توبيخ وتقريع لهم. قال الفراء: أنزلت في ثلاثة نفر، استهزأ رجلان منهم برسول الله A، و/القرآن، وضحك إليهما الثالث، فنزلت: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ}، يعني: الضاحك، {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً}، يعني المستهزئين. ف " الطائفة " تقع للواحد والاثنين. وذكر أبو الحسن الدَّارَقُطِني في كتاب الرواة عن مالك أنّ اسماعيل بن

داود المخراقي روى عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أنه قال: رأيت عبد الله بن أُبي يشتد قدام رسول الله A، والحجارة تنكيه وهو يقول: يا محمد، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي A يقول: {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}. ثم قال تعالى: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، أي: كفرتم بقولكم في رسول الله A، فهذا متصل بقوله: {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}. {لاَ تَعْتَذِرُواْ}، وهو الوقف عند نافع. {نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، وقف. وَيُرْوَى أنَّ هذه الآية نزلت في رهط من المنافقين، كانوا يرجفون في غزوة النبي A، إلى تبوك ويُخَوّفون المسلمين من الروم، فسألهم النبي عليه السلام عن قولهم، فقالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. وقال قتادة: نزلت في أُنَاس من المنافقين، قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا

الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها؟ هيهات هيهات، فأطلع الله D، نبيه عليه السلام، على ذلك، فأتاهم النبي فقال: قلتم كذا كذا. فقالوا: يا نبي الله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. وقال ابن جبير: قال ناس من المنافقين في غزوة تبوك: لئن كان ما يقول حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فأعلم الله D، نبيه عليه السلام، بذلك، فقال لهم: ما كنتم تقولون، فقالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}. ثم قال تعالى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} " الطائفة " التي عفا عنها هاهنا، رجل منهم كان قد أنكر ما سمع، يُسمّى: مَخشِي بن حُمَيّر الأَشْجَعِي. وقيل: إنَّه أقر على نفسه وصاحبيه بما قالوا نادماً تائباً، فهو " الطائفة " المعفو عنها. فالمعنى: {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ}، بإنكار ما أنكر عليكم من قول الكفر

67

{نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} بقولهم ورضاهم بالكفر، واستهزائهم بالله سبحانه، ورسوله A، وآياته. وقيل: المعنى: إن تتب طائفة منكم، يعف الله D، عنها، تعذب طائفة بترك التوبة. قال أبو أسحاق: كانت الطائفتان ثلاثة نفر، استهزأ اثنان، وضحك واحد. {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}. أي: باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، سبحانه، والطعن على رسوله عليه السلام. قوله: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} إلى قوله: {هُمُ الخاسرون}. هذا الكلام متصل بقوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة: 56]، أي: ليسوا من المؤمنين، ولكن {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ}، أي: متشابهون في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض أيديهم عن الجهاد .. {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ}.

أي: تركوا الله فتركهم، أي تركوا أمره، فتركهم من رحمته وتوفيقه. {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ}. أي: هم الخارجون عن الإيمان بالله ورسوله، عليه السلام. وعدهم الله: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، أبداً، أي: ماكثين، لا يحيون ولا يموتون. {هِيَ حَسْبُهُمْ}. أي: كافيتهم عقاباً على كفرهم. {وَلَعَنَهُمُ الله}. أي: أبعدهم من رحمته. {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}. أي: للفريقين من أهل الكفر والنفاق {عَذَابٌ مُّقِيمٌ}، أي: دائم لا ينقطع ولا يزول. {هِيَ حَسْبُهُمْ}، وقف عند نافع.

وقوله: {كالذين}. في موضع نصب نعت/ لمصدر محذوف، والمعنى: وعد الله هؤلاء بكذا وعداً، كما وعد الذين من قبلهم. فعلى هذا لا يوقف على ما قبل " الكاف ". ومثله: {كالذي خاضوا}، [أي: خوضاً كما الذي خاضوا]. والمعنى عند الطبري: قل لهم، يا محمد، {أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}، {كالذين مِن قَبْلِكُمْ}، فعلوا كفعلكم، فأهلكهم الله، وأعد لهم العقوبة والنكال في

الآخرة، فقد {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ [قُوَّةً]}، أي: بطشاً، وأكثر منكم أموالاً، {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ}، أي: بنصيبهم من دنياهم، كما استمتعتم، أيها المنافقون، {بِخَلاَقِكُمْ}، أي: بنصيبكم من دنياكم، {وَخُضْتُمْ} مثل خوضهم. وهذا يدل على أن " الكاف " في موضع نصب، نعت لمصدر " يستهزءون ". وقد قال النبي A، في هذا المعنى: " لتأخُذنَّ كما أخذت الأُمم من قبلكم، ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وباعاً بباع، حتى لو أنَّ أحداً دخل جُحْرَ [ضَبٍّ] لَدَخَلْتُمُوه "، رواه عنه أبو هريرة: ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ}، الآية. قال أبو هريرة: " الخَلاَق ": الدِّينُ.

70

{أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}. يعني الذين قالوا: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}، ركبوا فعل من سبقهم من الأمم الهالكين. ومعنى: {حَبِطَتْ}: بطلبت {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون}. أي: المغبونون صفقتهم، لبيعهم نعيم الأبد بعرض الدنيا اليسير منه. {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}، الآية. والمعنى: ألم يأْت هؤلاء المنافقين خبر من كان قبلهم، من قولم نوح، وعاد، وثمود وشبههم، الذين خالفوا أمر الله D، وعصوه، جلت عظمته، فأهلكم ودمرهم، فيتعظون بذلك، وينتهون ويتفكرون ما في خبر قوم نوح، إذا غرقوا بالطوفان، وعاد وهم قوم هود، إذ هلكوا بريح صرصر عاتية، وخبر ثمود، وهو قوم صالح، إذ هلكوا بالرجفة، وخبر قوم إبراهيم، إذ سلبوا النعمة وأهلك نمرود ملكهم، وخبر أصحاب مدين، وهم قوم شعيب، إذ أهلكوا بعذاب يوم الظُلَّة. ويُروى: أن شعيباً اسمه مدين، على اسم المدينة، فكان قوله: {وأصحاب مَدْيَنَ}، معناه: وأصحاب شعيب. وقوله تعالى في موضع آخر: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85].

يدل على أن مدين مدينة. وخبر المؤتفكات، في مدائن قوم لوط، إذ صيَّر أعلاها أسفلها، وإنما سموا مؤتفكات؛ لأن أرضهم ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم، وهي مأخوذة من " الإفْكِ " وهو الكذب، لأنه مقلوب على الصدق، وكانت قرى ثلاثة، ولذلك جُمِعَت. {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات}. أي: أتى كل أمة رسولها، فجمع الرسل، لأن كل أمة رسولها. {بالبينات}. أي: بالآيات الظاهرات، والحجج النيّرات، فكذبوا وردوا وكفروا. {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ}. أي: فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقيها. {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. إذ عصوا الله D، وكذبوا برسوله حتى أسخطوا ربهم، سبحانه، واستوجبوا

71

العقوبة، فظلموا بذلك أنفسهم. قوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، إلى قوله: {الفوز العظيم}. المعنى: {والمؤمنون والمؤمنات}، أي المصدقون بالله، D ورسوله عليه السلام {(يَأْمُرُونَ) بالمعروف}، أي: يأمرون الناس بالإيمان بالله D، ورسوله عليه السلام. وينهونهم عن الكفر، والمنافقون [هُمْ] / بضد ذلك ينهون عن الإيمان، ويأمرون بالمنكر، وهو الكفر بالله، D، وبرسوله عليه السلام. قال أبو العالية: كل ما ذكر الله D، في القرآن من " الأمر بالمعروف " هو دعاء لمن أشرك إلى الإسلام، وما ذكره من " النهي عن المنكر " فهو النهي عن عبادة الأوثان والشياطين. {وَيُقِيمُونَ الصلاة}. يعني: الصلوات الخمس، في أوقاتها وبحدوها. {وَيُؤْتُونَ الزكاة}.

يعني: المفروضة في وقتها. {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ}. يعني فيما أمرهم به، ونهاهم عنه. {أولئك سَيَرْحَمُهُمُ [الله]}. أي: يتعطف عليهم، فينجيهم من عذابه، ويدخلهم جناته. ثم قال تعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}. والمعنى: وعد الله النساء والرجال من المؤمنين بساتين. {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} (أبداً). أما ماكثين لا يزول نعيمهم ولا ينقطع، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}، أي: منازل يسكنونها. قال الحسن: سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن:

{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ}، فقالا: على الخبير سقَطْتَ، سألنا رسول الله A عن ذلك قال: " قصر في الجنة من لؤلؤة، فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة، خضراءَ، في كل بيت سبعون سريراً ". ومعنى {جَنَّاتِ عَدْنٍ} عند ابن عباس، أي: " معدن الرجل " الذي يكون فيه. وقيل المعنى: جنات إقامة وخلود. والعرب تقول: " عَدَنَ فلانٌ بِمَوْضِعِ كَذَا "، إذا أقام به. ورُي عن النبي A، أنه قال: " لا يدخلها إلا النبيّون والصديقون والشهداء ". وقال كعب: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، هي الكروم والأعناب، السريانية. يعني أن

لغة العرب وافقت السريانية في هذا الكلام. وقال ابن مسعود: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، هي اسم لبُطْنَان الجنة، يعني وسطها. وقال الحسن: هو اسم لقصر في الجنة من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صِدّيقٌ، أو شهيدا أو حَكَمٌ عَدْلٌ. وروى أبو الدرداء أن النبي A، قال: " إن الله D، يفتح الذكر لثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى [منهن]، ينظر في الكتاب الذي لا ينظره غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنات عدن، وهي داره التي لم يرها غيره، ولم تخطر على قلب بشر ". وقال الضحاك: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، مدينة في الجنة، فيها الرسل، والأنبياء، والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها. وقال عطاء {عَدْنٍ}: نهر في الجنة جنَّاته على حافتيه. ثم قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ}.

73

[أي: أكبر] من ذلك لكه، رضوان الله D، عن أهل الجنة. قال أبو سعيد الخدري: قال النبي A: " إنَّ الله D، يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربَّنا وسَعْدَيكَ، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، لقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. فيقولون: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك، فيقول: أُحِلُّ لكم رضواني فلا أسْخَطُ عليكم أبداً ". ومن أجل تفضيل الرضوان على ما قبله مما وعدوا به، انقطع الكلام، وابتدأ بالرضوان، فرفع. ثم قال تعالى: {ذلك هُوَ الفوز العظيم}. أي: هذه الأشياء التي/ وعدوا بها، وهي الظفر الجسيم. {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، وقف. {أَكْبَرُ}، وقف. قوله: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار}، إلى قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

المعنى: جاهدهم بالسيف. قال ابن مسعود: الجهاد يكون باليد، واللسان، والقلب، فإن لم يستطع فليكفهِّر في وجهه. وقال ابن عباس: أمر النبي A، بجهادهم، باللسان للمنافقين، وبالسيف للكفار. وقال الضحاك: جاهد الكفار بالسيف، وأغلظ على المافقين بالكلام. وقال الحسن المعنى: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم. وهو قول قتادة.

وقيل: معنى جاهد المنافقين: إقامة الحجة عليهم. ثم قال حكاية عنهم: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}، وذلك أن رجلاً من المنافقين، يسمّى: الجُلاَس بن سُوَيْد بن الصامت، قال: إن كان ما جاء به محمد حقاً، لَنَحْنُ شَرٌّ من الحَمِيرِ، فقال له ابن امرأته، واسمه عمير بن سعد،: والله، إنَّ محمداً A لَصَادِقٌ، ولأنت شر من الحمار، والله، لأخبرنّ رسول الله A، بما قلت وإلا أفعل أخاف أن تصيبني قارعة وأؤخذ بخطيئتك، فأعلم الله النبي عليه السلام بذلك، فدعا النبي A، الرجل، فحلف ما قال، فأنزل الله D: { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} الآية. قال ابن إسحاق: بلغني أنه لما نزل فيه القرآن، تاب وحسنت توبته. وقيل: إنه سمعه يقول ذلك، عاصم بن عدي الأنصاري، وهو الذي أخبر النبي عليه السلام، بذلك، فاحضر للنبي A الجُلاَس وعامراً، فحلف الجُلاَس بالله ما قال ذلك، فقال عامر: والله، لقد قاله، ورفع عامر يديه، وقال: اللهم أنزل على

عبدك ونبيّك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب، فقال النبي A: آمين، فأنزل الله تصديق عامر، فقال الجُلاَس: قد عرض الله علي التوبة، والله، لقد قلته وصدق عامر، وتاب الجُلاَس وحسنت توبته. وَيُرْوَى أن عامراً، قال للنبي A: إنه ليريد قتلك، وفيه نزل: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، أي: هموا بقتلك ولا ينالونه. وقال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، رأى رجلاً من غفار، تَقَاتَلَ مع رجل من جُهينة، وكانت جُهينة حُلفاء الأنصار، فَعلا الغفاريُّ الجُهَنيَّ، فقال عبد الله للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مَثَلُنَا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: سَمَنْ كلبك يأكلك، {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8]، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي A فأرسل إليه النبي عليه السلام فسأله، فحلف ما قاله، فأنزل الله D، { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}. وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}. قيل: هو الجُلاَس بن سويد [هَمَّ] بقتل ابن امرأته خوفاً أن يفشي عليه ما سمع منه.

وقال مجاهد: هَمَّ رجل من قريش يقال له الأسود، بقتل النبي، عليه السلام. وقيل: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، هم بإخراج النبي عليه السلام، من المدينة/ وهو ما حكاه الله D، عنه: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل}. وقل: هو الجُلاَس، همّ بقتل النبي A. وقوله: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}. والمعنى: أنهم ليس ينقمون شيئاً. قال الطبري، وغيره: كان المنافق الذي قال كلمة الكفر، حلف أنَّه ما قال، قُتِل له مولىً، فأعطاه رسول الله A، ديته، فأغناهُ بها، فقال الله D، ما أنكروا على رسول

الله A، شيئاً: {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}. وهو الجُلاَس. وقال قتادة: كانت لعبد الله بن أُبيّ دية، فأخرجها رسول الله A [ له]. قوله: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ}. أي: إن تاب هؤلاء القائلون لكمة الكفر يكُ ذلك خيراً لهم من النفاق. {وَإِن يَتَوَلَّوْا}. أي: يدبروا عن التوبة. {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا}. أي: بالقتل، وفي الآخرة بالنار. {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. يمنعهم من العقاب، ولا نصير ينصرهم من عذاب الله D.

75

{بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، وقف. {مِن فَضْلِهِ}، وقف. {خَيْراً لَّهُمْ}، وقف. قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} إلى قوله: {الغيوب}. والمعنى: ومن هؤلاء المنافقين {مَّنْ عَاهَدَ الله} لئن رزقه الله D، ووسَّع عليه، لَيَصَّدَّقَنَّ، وليعْمَلَنَّ، بما يعمل أهل الصلاح فلما أغناهم الله، سبحانه {مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ}، وأدبروا عن عهدهم، {وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ}، {فَأَعْقَبَهُمْ} الله عزو جل، بذنوبهم {نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ}، أي: يموتون. وفعل ذلك بهم عقوبة لبخلهم، ونقضهم ما عاهدوا الله عليه. " وهذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب، قال للنبي A: ادع الله أن يرزقني مالاً أتصدق به، فقال له النبي عليه السلام: " ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تُطِيقُهُ "، ثم عاود ثانية، فقال له النبي A: " أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضةً لَسَارَتْ "، فقال: والذي بعثك

بالحق لئن دعوت الله يرزقني لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له النبي A، فاتَّخذَ غَنماً، فَنَمَتْ كما تَنْمِي الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر في جماعة، والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فَتَنَحَّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تَنْمِي حتى ترك الجمعة. وطفِق يلقى الركبان يوم يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فسأل النبي عليه السلام عنه فأُخْبر بخبره، بكثرة غنمه وبما صار إليه، فقال النبي A، " يا ويح ثَعْلَبَ " ثلاث مرات، فنزلت {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} ". ونزلت فرائض الصدقة، فبعث النبي A، رجلين على الصدقة، رجُلاً من جُهَينة، والآخر من بني سليم، وأمرهما أن يَمُرَّا بثعلبة، (وبرجل آخر من بني سليم، يأخذان منهما صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة)، فقال: ما هذه الأجرة، وما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا، وعودا. فانطلقا، وسمع بهما السُّلمي، فعمد إلى خِيَارٍ إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد [أن] نأخذ منك هذا. قال: بل فخذوه فإن نفسي بذلك/ طيبة، فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما

رجعا حتى [مرّا] بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، وكان النبي A، كتب لهما كتاباً في حدود الصدقة، وما يأخذانه من الناس، فأعطياه الكتاب، فنظر إليه، فقال: ما هذه إلا أُخت الجزية، انطلقا عني حتى أرى رأيي. فأتيا النبي A، فلما رآهما قال: " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما، ودعا للسُّلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع السلمي، وبالذي صنع ثعلبة، فانزل الله D، { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} الآية، وعند رسول الله - A - رجل من أقارب ثعلبة، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله D، فيك كذا وكذا، فخرج حتى أتى النبي عليه السلام فسأله أن يقبلَ منه صدقته فقال: " إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك "، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي عليه السلام: " قد أمرتك فلم تطعني "، فرجع ثعلبة إلى منزله، وقُبض رسول الله A، ولم يَقْبِضْ منه شيئاً. ثم أتى إلى أبي بكر فلم يَقْبِضَ منه شيئاً [ثم أتى إلى عمر بعد أبي بكر فلم يقبض منه شيئاً. ثم أتى إلى عثمان بعد عمر فلم يقبض منه شيئاً]. وتوفي في خلافة عثمان Bهـ.

79

وقيل: إن إنما نوى العهد في نفسه فلم يف به، ودَلَّ على ذلك قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}. وعلامة المنافق: نقض العهد، وخلف الوعد، وكذب القول]. قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ}. أي: [ألم] يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله D، ورسوله عليه السلام، ويظهرون الإيمان، أن الله D، يعلم ما يسرون من ذلك وما يظهرون فيحذروا عقوبته، وألم يعلموا أنَّ الله علام الغيوب. قوله: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {الفاسقين}.

والمعنى: الذين يعيبون الذين تطوعوا بصدقاتهم على أهل المسكنة والحاجة فيقولون لهم: إنما تصدقون رياءً وسمعةً، ولم تريدوا وجه الله D. { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}. أي: من المؤمنين، ومن {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ}، عطفه على {المطوعين}، لأنَّ الاسم لمي يتم، إذ قوله: {فَيَسْخَرُونَ} في الصلة عطف على {يَلْمِزُونَ}. و" الجُهْدُ و " الجَهْدُ " عند البصريين [بمعنى]، لغتان. وقال بعض الكوفيين: الجُهدُ، بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة.

والسُّخْريُّ من الله: الجزاء على فعلهم. قال ابن عباس: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي A، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: و [الله] ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً، وقالوا: إن كان الله ورسوله لَغَنِيَّيْن عن هذا الصاع. فأنزل الله D: { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}، يعني: عبد الرحمن بن عوف، {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}، يعني: الأنصاري الذي أتى بصاع من شعير. وقال ابن عباس: " جاء عبد الرحمن بمائة أوقية من ذهب، وترك لنفسه مائة، وقال: مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأُقرضُها الله، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له النبي A: " بارك الله [لك] فيما أمسكت وما أعطيت " فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن بن عوف عطيته إلا رياء، وهم كاذبون، فأنزل الله D، عذره ". وقال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف صدقته، وجاء رجل من الأنصار، يكنى بأبي عقيل، بصاع من تمر لم يكن له غيره، فقال: يا رسول الله، آجرت نفسي

بصاعين، فانطلقت بصاع إلى أهلي/ وجئت بصاع من تمر، فلمزهُ المنافقون، وقالوا: إن الله غنيٌّ عن طياع هذا، فنزل فيه: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}. قال ابن زيد: أمر النبي A [ المسلمين] أن يتصدَّقوا، قال عمر بن الخطاب Bهـ: فأَلْفَى مالي ذلك كثيراً، فأخذت نصفه، فجئت أحمل مالاً كثيراً، فقال له رجل من المنافقين: تُرائي يا عمر، فقال: نعم أُرائي الله ورسوله، وأما غيرهما فلا، وأتى رجل من الأنصار لم يكن عنده شيء، فآجر نفسه بصاعين، فترك صاعاً لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: [إنّ] الله ورسوله عن صاعك لَغَنِيَّانِ، فأنزل الله D، عُذْرهما في قوله: {الذين يَلْمِزُونَ}. ثم قال لنبيه عليه السلام، استغفر لهؤلاء المنافقين، أي: ادع الله لهم بالمغفرة أو لا تدع لهم بذلك، فلفظه لفظ الأمر ومعناه الجزاء، والجزاء خبر.

والمعنى: إن استغفرت لهم، أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم. قال الضحاك: قال النبي A، حين نزلت هذه الآية: " لأزيدنَّ على السبعين "، فنزلت: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ [لَمْ] تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} [المنافقون: 6]، فهي عنده منسوخة بهذه. وقيل: إنها ليست بمنسوخة، وإنما هي على التهدد، وما كان النبي عليه السلام ليستغفر لمنافق؛ لأن المنافق كافر بنص الكتاب. وهذا الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على أصحاب محمد لانفضوا من حوله، وهو القائل: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8]. " رُوي أن عبد الله هذا لما حضرته الوفاة أرسل إلى النبي A، يسأله أحد ثوبَيْه

81

فأرسل إليه النبي A، أحد ثوبيه، فقال: إنما أريد الذي على جلدك من ثيابك، فبعث إليه به، فقيل للنبي A، في ذلك، فقال: " إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً إذا كُفِّن فيه، وإني آمل أن يدخل في الإسلام خلق كثير بهذا السبب ". فَرُوِيَ أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب النبي، عليه السلام. وكان عبد الله هذا رأس المنافقين وسيِّدَهُم. قوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله}، إلى قوله: {مَعَ الخالفين}. {خِلاَفَ رَسُولِ الله}: مفعول من أجله، أو مصدر مطلق.

والمعنى: فرح الذين تخلفوا عن الغزو مع رسول الله عليه السلام، بجلوسهم في منازلهم، على الخلاف منهم لرسول الله عليه السلام، لأنه أمرهم بالخروج معه فتخلفوا عنه، وفرحوا بتخلفهم، وكرهوا الخروج في الحر. وذلك أن النبي A، استنفرهم في غزوة تبوك في حر شديد، فقال بعضهم لبعض: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر}، قال الله D، لنبيه عليه السلام {قُلْ} لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً}، لمن خالف أمر الله، وعصى رسوله، عليه السلام من هذا الحر الذي تتواصون به بينكم أن لا تنفروا فيه، فالذي هو أشد حراً، يجب أن يتقي {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}، عن الله عز جل، وَعْظَه. وكان عدة من تخلف عن الخروج مع النبي عليه السلام، في غزوة تبوك من المنافقين نيفاً وثمانين رجلاً.

ثم قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً}. أي: [في] هذه الدنيا الفانية، / {وَلْيَبْكُواْ/ كَثِيراً}، في جهنم {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، من التخلف عن رسول الله A، ومعصيته. قال النبي عليه السلام: " والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لَضَحِكْتُمْ قليلاً، ولبكتيم كثيراً ". وروي أن النبي A نودي عند ذلك، أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي. قال ابن عباس: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا انقطعت الدنيا، استأنفوا بكاء لا ينقطع عنهم أبداً.

ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ}. أي: إن ردَّك الله من غزوتك إلى المنافقين، فاستأذنوك للخروج معك في غزوة أخرى، {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي: في غزوة تبوك، {فاقعدوا مَعَ الخالفين}، [أي: مع الذين] قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله A، لأنكم منهم. قال ابن عباس: تخلف عن رسول الله A، رجال في غزوة تبوك فأدركتهم أنفسهم، فقالوا: والله ما صنعنا شيئاً، فانطلق منهم ثلاثة نفرة، فلحقوا رسول الله A فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله، D، { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ}، الآية. فقال النبي عليه السلام: " هلك الذين تخلفوا "، فأنزل الله D، عذرهم لما تابوا فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار}، إلى قوله: {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 117 - 118]. وقال قتادة {مَعَ الخالفين}، مع النساء.

وكانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين. وقال ابن عباس " الخالفون ": الرجال. ومعناه: اقعدوا مع مرضى الرجال وأهل الزَّمَانة والضعفاء. وقيل: " الخالفون ": الرجال الضعفاء والنساء، وغلَّب المذكر على الأصول العربية.

84

وقال الطبري: {مَعَ الخالفين} مع أهل الفساد، من قولهم: " خَلَفَ الرَّجُل على أهله يَخْلُفُ خُلُوفاً "، إذا فسد، ومن قولهم: هو خلف سوءٍ "، ومن قولهم: " خَلَفَ فَمُ الصَّائِمِ "، إذا تغير ريحه، ومن قولهم: " خَلَفَ اللَّبَنِ يخلُفُ " إذا حَمُضَ. قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}، إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}. هذه الآية نَهْيٌّ للنبي A، عن الصلاة على هؤلاء المتخلفين عنه. {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}. أي: لا تتولَّ دفنه. {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ}. أي: جحدوا توحيد الله D، ورسالة رسوله عليه السلام. {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}. أي: ولم يتوبوا من ذلك، بل ماتوا وهم خارجون عن الإسلام. وَيُرْوَى: أن هذه الآية نزلت في أمر عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وذلك أنَّ ابنه أتى

النبي A، فقال أعْطِنِي قَمِيصَك أُكَفِنّه فيه، وصَلِّ عليه، واستغفر له، فأعطاه قيمصه، وقال: إذا فرغتم فآذوني، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ [فقال النبي A: بل خَيّرني فقال: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ}، فصلى] النبي A. فنزل {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} الآية، فترك الصلاة عليهم. وقال أنس: أراد النبي عليه السلام، أن يصلي على عبد الله بن أبي بن سلول، فأخذ جبريل، عليه السلام، بثوبه، وقيل: بردائه، وقال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ}. ثم قال الله/ D، لنبيه، عليه السلام: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم}. أي: لا يعجبك ذلك، فتصلي عليهم. {إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا}. أي: بالغموم والهموم فيها، ويفارق روحه جسده، وهو في حسرة عليها،

فتكون حسرة عليه في الدنيا، ووَبَالاً في الآخرة. {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون}. أي: جاحدون. {وأولادهم} وقف عن أبي حاتم، على أنَّ عذابهم بها في الدنيا. وغيره يقول: {الدنيا}، يراد بها التقديم، والمعنى: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا، فعلى هذا [لا] تقف على: {أولادهم} وقد شرح هذا فيما تقدم بأكثر من هذا. ثم أخبر الله D، عنهم بحالهم فقال: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ}. أي: إذا أنزل الله D، عليك، يا محمد، سورة يأمرهم فيها: بالإيمان بالله، D، وبالجهاد معك. {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ}. أي: [ذوو] الغنى منهم في التخلف عنك، والقعود بعدك مع الضعفاء

88

والمرضى، ومن لا يقدر على الخروج وهم القاعدون. {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف}. أي: مع النساء اللواتي لا فرض عليهن في الجهاد، جمع خَالِفة. {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ}. أي: ختم. وقد يقال للرجل: " خالفة " إذا كان غير نجيب. وقد يجمع " فاعل " صفةً على " فواعل " في الشعر، قالوا: " فَارِسٌ " و " فَوَارِس " و " هَالِكٌ " و " هوالك ". وأصل " فواعل " أن يكون جمع: " فاعلة ". قوله: {لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}، إلى قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

المعنى: هؤلاء لهم خيرات الآخرة ونعيمها. وواحد {الخيرات}، " خَيْرَةٌ " مخففة، و " خيرات " كل شيء، أفضله. {وأولئك هُمُ المفلحون}. أي: الباقون في النعيم، المخلدون فيه. وأصل " الفلاح ": البقاء في الخير، وقولهم: " حَيَّ على الفَلاَحِ " أي: تعالوا إلى الفوز، يقال: " أفْلَحَ الرَّجُلُ "، إذا فاز وأصاب خيراً. {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ}. أي: بساتين. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا}. أي: لابثين فيها أبداً. {ذلك الفوز العظيم}. أي: النجاء العظيم، والحظ الجزيل.

ثم قال تعالى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}. والمعنى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}، في التخلف، {وَقَعَدَ} عن الإتيان إلى رسول الله A، فيعتذروا أو يجاهدوا، و {الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ}، واعتذروا بالباطل بينهم، لا عند رسول الله عليه السلام. {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ}. أي: جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه عليه السلام. {عَذَابٌ أَلِيمٌ}. أي: مؤلم، أي: موجع. وقوله: {المعذرون}، ليس من " عذَّر "، يقال: " عَذَّرَ الرَّجُلُ في الأمْرِ " إذا لم يبالغ فيه، ولم يُحكمه، ولم تكن هذه صفة هؤلاء، بل كانوا أهل اجتهاد في طلب ما ينهضهم مع النبي A فوَصْفُهم بأنُّهم قد اعتَذَروا أو أعْذَروا، أولى من وصفهم بأنهم قد عَذَّروا فإنما هم المُعْتَذِرون، ثم أدغم.

وقد قرأ ابن عباس: " المُعْذِرُونَ " من: " أعذر ". ويجوز: " المُعذِّرُون " بضم العين لالتقاء الساكنين، (يتبع الضم الضم. ويجوز: " المُعِذِّرُون " بكسر العين لالتقاء الساكنين). وقد قيل: إنّ " المُعَذِّرَ " من " عذَّر " إذا قَصر في الأمر فيهم مذمومون على هذا المعنى.

وعلى المعنى الآخر إذا حملته على معنى " المُعْتَذِرينَ " غير مذمومين، إذا أتوا بعذر واضح. ويجوز أن يكونوا مذمومين إذا أتوا بعذر غير واضح، يقال " اعْتَذَرَ الرَّجُلُ ": إذا أتى بعذر واضح، و " اعْتَذَرَ ": إذا لم يأت بعذر، قال تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ}، فهؤلاء اعتذروا بالباطل، فهم الذين يعتذرون ولا عذر لهم. ومنع المبرد أن يكون أصله: " المُعْتَذِرِين " ثم أدغم لأنه يقع اللبس. وذكر إسماعيل القاضي: أنَّ سياق الكلام يدل على أنَّه لا عذر لهم وأنهم مذمومون، لأنهم جاء/ وا {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ}، ولو كانوا من الضعفاء والمرضى، والذين

لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا إلى أن يستأذنوا. وقول العرب: " مَنْ عَذِيرِي مِنْ فُلاَنٍ "، معناه: قد أتى فلانٌ أمراً عظيماً يستحق عليه العقوبة، ولم يعلم الناس به، فمن يَعْذِرُني إن عاقَبْتُه. قال مجاهد: هم نفر من بني غِفار، جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم الله D. وكذلك قال قتادة. فهذا يدل على أنهم كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحق، فلا يوصفون بالإعْذَارِ. وقرأ ابن عباس: " المُعْذِرُون " بإسكان العين، وكان يقول: لعن الله المعتذرين، يذهب إلى أن " المعتذرين " بإسكان العين، ليس لهم عذر صحيح. و {المعذرون} بالتشديد: المفرطون المقصرون ولا عذر لهم.

91

قوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى} إلى قوله: {يُنْفِقُونَ}. ومعنى الآية: أنه بيانٌ من الله، D، أنَّه لا حرج على الزَّمْنَى والمرضى، ومن لا يجد ما ينفق في التخلف عن الغزو، {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ}، يعني في مغيبهم عن الجهاد. {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ}. أي: ليس على من أحد فنصح لله ورسوله عليه السلام، سبيل. قال ابن عباس: لما أمر النبي عليه السلام، بالخروج إلى الغزو، وجاءه عصابة من أصحابه يقال: كانوا سبعة، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء، فأنزل الله عذرهم في كتابه. {للَّهِ وَرَسُولِهِ}. وقف. و {مِن سَبِيلٍ}، وقف. ثم قال تعالى: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} الآية.

93

نزلت هذه الآية في بني مُقَرِنٍ من مُزَيْنَةَ، أتو النبي عليه السلام، ليحملهم ويغزو معهم فقال: ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع، إذا لم يجدوا ما ينفقون في غزوهم. وقيل: منهم العِرباض بن سارية. قال إبراهيم بن أدهم في الآية: ليس يعني الدواب، ولكن النعال. قوله: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ}، إلى قوله: {يَكْسِبُونَ}. والمعنى: إنما السبيل بالعقوبة على من استأذن في التخلف عن الغزو، وهو غني،

ورضي بأن يخلف مع النساء اللواتي من خوالف للرجال في البيوت. {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ}. أي: ختم عليها. {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. سوء عاقبة تخلفهم، يعني: عن النبي A. ثم قال تعالى إخباراً عما يفعلون: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ}. أي: يعتذر هؤلاء المتخلفون بالأباطيل والكذب. {قُل} لهم، يا محمد، {لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ [لَكُمْ]}. أي: لن نُصدِّقكم قد أخبرنا الله بأخباركم. {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}. أي: فما بعد، هل تتوبون أم لا. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة}.

96

أي: يعلم السر والعلانية، فيخبركم بأعمالكم فيجازيكم عليها. رُوِيَ أن النبي A، قال: " لو أن رجلاً عبد الله في صخرة لا باب لها، ولا كوة بها لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان ". فالله D، يطلع قلوب المؤمنين على ما [في] قلوب إخوانهم من الخير والشر، فيحبون أهل الخير ويبغضون أهل الشر. ثم أخبرهم بما يفعلون إذا رجع المؤمنون من غزوهم فقال: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ}، أي: يحلفون لكم إذا رجعتم إليهم من غزوكم، {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ}، لتتركوا تأنيبهم وتعييرهم بتخلفهم، {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ}، أي: فاتركوهم، {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، أي: مصيرهم إليها جزاء/ بكسبهم. قيل: إنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلاً. قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. والمعنى: يحلف أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون لكم {لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ}، وأنتم لا

تعلمون صدقهم من كذبهم، {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين}؛ لأنه يعلم سرائرهم وصدقهم وكذبهم. ثم قال تعالى: {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ}. " أن ": في موضع نصب، على تقدير: " وأجدر بأن لا ". تقول: " هو جدير بأن يفعل "، و " خليق بأن يفعل "، وإن شئت حذفت " الباء "، ولا يحسن حذف " الباء " إلا من " أنْ "، لو قلت: هو جدير بالفعل، لم يكن بُدُّ من " الباء ". والمعنى: الأعراب أشَدُّ جحوداً لتوحيد الله سبحانه ونفاقاً على رسوله عليه السلام، من أهل الحضر والأمصار، وذلك لجفائهم، وقسوة قلوبهم. {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ}. أي: وأخلق أن يجهلوا العلم والسنن. ثم قال تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً}.

والمعنى: ومن الأعراب من يَعُدُّ ما ينفق فيما ندبه الله، D، إليه {مَغْرَماً} لا ثواب له فيه، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أي: ينتظر بكم ما تدور به الأيام والليالي من المكروه والسوء، {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء}، أي: عليهم يرجع المكرو والسوء. وهذا كله في منافقين من الأعراب، قاله: ابن زيد. وقوله: {دَآئِرَةُ السوء}. ومن قرأ بالضم، فمعناه: دائرة العذاب، و {دَآئِرَةُ السوء}: البلاء. قال الفراء: ولا يجوز على هذا " هذا امرؤُ سوء "، كما لا يجوز " هذا امرؤ عذاب ". وقال المبرد " السَّوء " بالفتح: الرداءة.

99

قال سيبويه: " مَرَرْتُ بِرَجُلِ صِدْقِ "، معناه: مررت برجل صالح وليس هو من صِدْق اللسان، وكذلك تقول: " مررت برجل سوء، أي: برجل فسادٍ، وليس هو من: سُوءتُهُ (سَوْءاً. وقال الفراء: " السَّوْء " بالفتح، مصدر من: سُوْءتُهُ سَوْءاً ومَسَاءَة) وسَوَائِيةً وَمَسَائِية. وقال اليزيدي في الضم، يعني: دائرة الشر، فكأن السُّوءَ الاسم، والسَّوء المصدر، فافهم. قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر}، الآية. المعنى: ومن الأعراب من يصدق بالله وبالبعث والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من صدقه، والتقرب إليه، {وَصَلَوَاتِ الرسول}، أي: دُعَاءَه واستغفاره له.

قال مجاهد: هم بنو مُقرِّن، مُزَينة، وهم الذين نزل فيهم: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92]، الآية. {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ}. أي: ألا إنَّ صلوات الرسول عليه السلام، أي: استغفاره ودعاءه، قربةٌ لهم عند الله D. وقيل المعنى: ألا إنَّ نفقتهم قُربةٌ لهم عند الله D. و {قُرْبَةٌ}، و {قُرْبَةٌ} لغتان، ك: " جُمُعة " و " جُمُعَة " ويجوز في الجمع فتح

100

الراء وضمها وإسكانها، ويجوز " قُرَبٌ ". ثم قال تعالى: {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ}. أي: يدخلهم فيمن رحمه. قوله: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار}، الآية. المعنى: والذين سبقوا إلى الإيمان، {مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ}، أي: سلكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}، أي: أجزل لهم في الثواب. قال الشافعي/: {والسابقون الأولون}: من أدرك بيعة الرضوان. ورُوي عنه: من أدرك بيعة الشجرة. و " المهاجرون الأولون " من (هاجر

قبل البيعة. وقال أبو موسى الأشعري {والسابقون الأولون}: المهاجرون الأولون من) صلى القبلتين. وهو قول ابن المسيب، والحسن، وقتادة، وابن سيرين. ورُوي عن عمر: أنه قرأ: " والأنصار " بالرفع، عطف على: السابقين، وبذلك قرأ الحسن، وهي قراءة يعقوب الحضرمي.

وعم عمر Bهـ، أنه قرأ: " الذين اتَّبَعُوهم " بغير واو، فرد عليه زيد بـ " الواو " فسأل عمر أبيّنا، فقال له: " بالواو " فرجع عمر إلى زيادة " الواو ". وهم إجماع من القراء والمصاحف. ومن قرأ: {مِن تَحْتِهَا}، بزيادة {مِن} فمن أجل أنها في مصاحف أهل مكة كذلك، وفي سائر المصاحف بغير {مِن}.

وهذا باب في خطوط المصاحف في الحروف التي اختلف فيها القراء من ذلك: قوله في سورة البقرة: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116]، هي في مصاحف أهل الشام بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بـ: " الواو ". وفيها: {ووصى} [البقرة: 132]، هي في مصاحف المدينة والشام بـ: " ألف " وفي سائر المصاحف بـ: " الواو " بغير ألف. وفي آل عمران: {سارعوا} [آل عمران: 133]، في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بـ " الواو ".

وفي آل عمران أيضاً: {جَآءُوا بالبينات والزبر} [آل عمران: 184]، بزيادة " باء " [في] {والزبر}، وفي سائر المصاحف بغير " باء " في {والزبر}، وكلهم حذفها من " وَبِالْكِتَبِ ". وقد قرأ هشام بن عمار: " وبِالْكِتَبِ " بالباء، ولا أصل لهذه " الباء " في مصاحف أهل الشام ولا غيرهم. وفي النساء: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [النساء: 66]، بألف في مصاحف أهل الشام، وبغير " ألف " في سائر المصاحف.

وفي المائدة في مصحف أهل مكة والمدينة والشام: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ} [المائدة: 53] بغير " واو "، وفي سائر المصاحف بالواو. وفي المائدة أيضاً: {مَن يَرْتَدَّ} [المائدة: 54]، بـ: " دالَيْن "، وفي مصاحف المدينة والشام، وفي باقي المصاحف بـ: " دال " واحدة. وفي سورة الأعراف، في مصاحف أهل الشام: {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: 43] بغير " واو "، وفي سائر المصاحف: {وَمَا} بـ: " الواو ".

وفيها: في قصة صالح: {وقَالَ الملأ} [الأعراف: 75]، بزيادة و [او]، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: {قَالَ} بغر " واو ". وفي براءة {مِن تَحْتِهَا} [التوبة: 89]، بزيادة " من " في مصاحف مكة، وفي سائر المصاحف، بغير " مِن ". وفيها: {الذين اتخذوا} [التوبة: 107]، بغير " واو "، في مصحف أهل الشام، وأهل المدينة، وفي سائر المصاحف: {والذين}، بزيادة " واو ". وفي سورة بني إسرائيل {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} [الإسراء: 93] بـ: " ألف "، في مصاحف أهل مكة

والشام، [و] في سائر المصاحف: {قُلْ}، بغير ألف. وفي الكهف: {خَيْراً مِّنْهُمَا} [الكهف: 36]، بزيادة " ميم "، في مصحف أهل المدينة ومكة والشام، وفي سائر المصاحف: {مِّنْهَا} بغير " ميم ". وفيها: {مَا مَكَّنِّي} [الكهف: 95]، بنونين، في مصحف أهل مكة خاصة، وفي سائر المصاحف بـ " نون " واحدة.

وفي سورة الأنبياء: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ} [الأنبياء: 4]، {قَالَ رَبِّ احكم} [الأنبياء: 112]، بألف فيهما، في مصحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: {قُل}، بغير ألف. وفيها: {لَمْ يَرَ الذين كفروا} [الأنبياء: 30]، بغير " واو "، في مصحف أهل مكة، وفي/ سائر المصاحف: {أَوَلَمْ} بواو. وفي سورة المؤمنين: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [الأنبياء: 85]، في الأول. [و] في الثاني والثالث: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، بالألف، في مصحف أهل البصرة، وفي سائر المصاحف: {لِلَّهِ}، من غير " ألف " في الثلاثة.

وفي سورة الشعراء: {وَتَوكَّلْ} [الشعراء: 217] بالفاء، في مصحف أهل المدينة، [و] الشام، وفي سائر المصاحف، {وَتَوكَّلْ} بالواو. وفي النمل: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} [النمل: 21]، بنونين، في مصحف أهل مكة، وفي/ سائر المصاحف، بنون واحدة. وفي القصص: {وَقَالَ موسى ربي أَعْلَمُ} [القصص: 37]، بغير " واو "، في مصحف أهل

مكة، في سائر المصاحف: {وَقَالَ}، بالواو. وفي غافر: {أَشَدَّ مِنْهُمْ} [غافر: 21] بالكاف، في مصاحف الشام، وفي سائر المصاحف: (منهم)، بالهاء. وفيها: {وَأَن يُظْهِرَ} [غافر: 26]، بغير ألف قبل الواو، في مصاحف أهل المدينة والبصرة والشام، وفي مصاحف الكوفة: {أَوْ أَن}، بزيادة ألف. وفي عَسِق في مصاحف أهل المدينة والشام: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، بغير فاء، وفي سائر المصاحف: {بِمَا كَسَبَتْ}، بالفاء.

وفي الزخرف: {تَشْتَهِيهِ} [الزخرف: 71]، بالهاء، في مصاحف أهل المدينة والشام والكوفة، وفي سائر المصاحف: {تَشْتَهِيهِ}، بغير " هاء ". وقد قيل: " إنَّها غير مثبتة في مصاحف أهل الكوفة، وذلك قرأوا. وفي الأحقاف: {إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15]، بألف في مصاحف أهل الكوفة، وفي سائر المصاحف: {إِحْسَاناً}، بغير ألف، أعني قبل الحاء. وفي سورة الرحمن في آخرها: {ذِي الجلال} [الرحمن: 78]، بالواو، في مصاحف أهل الشام،

وفي سائر المصاحف: {ذِي}، بالياء. وفي سورة الحديد: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10]، بغير ألف، [في مصاحف أهل الشام، وفي سائر المصاحف: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله} بأللإ. وفيها: {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد}، بغير (هو)، في مصاحف أهل المدينة [و] الشام، وفي سائر المصاحف: {فَإِنَّ الله هُوَ الغني}، بزيادة (هو). وفي سورة الشمس وضحيها: {وَلاَ يَخَافُ} [الشمس: 15]، بالفاء، في مصاحف أهل

المدينة والشام، وفي سائر المصاحف: بالواو: " ولا يخاف ". وذكر أبو حاتم في هذه الحروف أنّ في مصاحف المدينة، خاصة: {وَقَالَ الملك ائتوني} [يوسف: 54]، بغير ياء قبل التاْء. وفي الحج والملائكة {وَلُؤْلُؤاً} [الحج: 23]، بألف، في مصاحف المدينة، وبعض مصاحف الكوفة.

وفي الزخرف: {ياعباد} [الزخرف: 68]، [بياء]، لا حذف في مصاحف المدينة [و] الكوفة. و {قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15] الثاني بألف في مصاحف المدينة. وفي: (قل أوحى): {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو} [الجن: 20]، بغير ألف في مصاحف الكوفة. وفي النساء: {فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} [النساء: 171] على التوحيد، في مصاحف البصرة، ولم يقرأ به أحد.

قال وفي يَس: {وَمَا عَمِلَتْهُ} [يس: 35] بغير " هاء "، مصاحف أهل الكوفة. ومثله: {إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15]، بـ: " ألف "، في الأحقاف. ومثله: {لَّئِنْ أَنجَانَا} [الأنعام: 63]، في الأنعام. وقال: في مصاحف أهل الشام خاصة في الأنعام: {وَلَلدَّارُ الآخرة} [الأنعام: 32]، " الآخرة " بلام واحدة.

ومثله في: الأعراف: " تحتها " في موضع: {مِن تَحْتِهِمُ} [الأعراف: 43]، ولم يقرأ به أحد. ومثله: {(وَإِذْ) أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} [الأعراف: 141]، بألف فيهما. ومثله: {كِيدُونِ} [الأعراف: 195] بالياء في الأعراف.

ومثله: " ما كان للنبي أن يكون له أسى، بلامين في الأنفال، ولم يقرأ به أحد. ومثله: (ينشركم) بالشين، في يونس.

وهذا باب آخر نذكر فيه سبب اختلاف القراء واختلاف هذه المصاحف فكان سبب هذا الاختلاف، أن النبي A، قال: " نزل هذا القرآن على سبعة أحرُفٍ "، فكان من/ قرأ عليه من أصحابه بأي حرف قرأ تركه، ودلّ علكى ذلك حديث عمر مع هشام بن حكيم، إذ سمعه عمر يقرأ القرآن على كغير ما قرأ هو على النبي عليه السلام، فلما توجها إلى النبي صلى الله عيه وسلم، وتحاكما لديه، قرأ عليه، أجاز قراءة كل واحد منهما، وقال: " هكذا " أُنْزِلَ ". وكان اختلافها في أحرفٍ من سورة الفرقان. فدل على أنه A، كان يترك كل واحد يقرأ على لُغَتِهِ، فإذا صح أنه كان يقرأ كل واحد على لغته، وصح عنه A، أنه كان يرسل أصحابه إلى البلدان، يعلمونهم القرآن والفقه في الدين، وأنه وجّه معاذ بن جبل إلى اليمن وكان قد خَلَفَه قبل ذلك، وأبا موسى الأشعري بمكة [حين] توجه إلى حنين لحر هَوَازِن ليعَلِّمَا من كان بها القرآن والعلم.

وبعث إلى الطائف مثل ذلك عثمان بن أبي العاص الثقفي. ثم توفي النبي A، وفتحت البلدان، فمضى على سيرته وزيراه: أبو بكر وعمر. فوجه عمر ابن مسعود إلى الكوفة مُعَلِّماً لهم، ووجه أبا (موسى) إلى البصرة مثل ذلك. وكان بالشام معاذ بن جبل، وأبو الدرداء. وكان بالمدينة جماعة من أصحاب النبي A، من أهل حفظ القرآن منهم: أُبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فكان كل واحد يقرئ في موضعه بحرفٍ من السبعة التي أمر الله D، بها نبيه عليه السلام.

فلما انتشر ذلك في البلدان، وتعلم الناس، وسافروا من كل بلد وتلاقوا في الغزوات، واجتمعوا في الموسم، قرأ كل قوم كما عُلِّمُوا، فأنكر بعضهم على بعض، الزيادة والنقص، والرفع والنصب، وكذَّبَ بعضهم بعضاً، وعظم الأمر فيهم، وذلك في أيام عثمان. فتكلم بعض أصحاب النبي عليه السلام إلى عثمان أن يكتب للناس مصحفاً يجمعهم عليه، وكان ممن كلمه في ذلك حُذَيْفة [بن] اليمان، وقد كان أراد أن يكلم عمر في مثل ذلك، حتى مات عمر Bهـ، وكان حذيفة قدم من غزوة شهدها بإرمينية، فرأى اختلاف الناس في القرآن، فلما قدم المدينة لم يدخل (بيته) حتى أتى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، أدْرِك الناس، فقال عثمان: وما ذلك؟ فقال: غزوة إرمينية يحضرها أهل العراق، وأهل الشام، فإذا أهل المدينة يقرأون بقراءة: أُبَيّ بن كعب، فيكفرهم أهل العراق، و (أهل العراق) يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم

يسمع أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام. فجعل عثمان زيداً يكتب مصحفاً وأدخل معه رجلاً فصيحاً، وهو أبان بن سعيد بن العاص، وقال لهما: إذا اجتمعتما فاكتبا، وإذا اختلفتما فارفعا إليّ ما تختلفان فيه. قال أنس بن مالك: اجتمع لغزوة أَذْرَبِيجان وإرمينية أهل الشام والعراق،

فتذاكرا القرآن فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة بن اليمان في ذلك إلىعثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن، حتى أني والله خشيت أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف. فَفَزع لذلك عثمان Bهـ، فزعاً شديداً، وأرسل إلى حفصة فاستخرج المصحف الذي كان أبو بكر، Bهـ، أمر زيداً بجمعه، فنسخه منه مصاحف فبعث بها إلى البلدان. وكان عثمان قد انسخ من المصحف الذي عند حفصة، بحضرة زيد بن ثابت وأبان بن سعيد بن العاص. وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن الزبير، وقال: ما اختلفم فيه فاكتبوه بلسان قريش. قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في {التابوت} [البقرة: 248]، فقال القرشيون:

{التابوت}، وقال زيد: " التَّابُوه ". فرفع/ اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه بلغة قريش. فلما كتب عثمان النسخة، جعلها أربع نسخ، فأنفذ مُصْحفاص إلى: الشام، ومصحفاً إلى العراق، ومصحفاً إلى اليمن، واحْتَبس مُصحفاً. وقيل: بل وجه واحداً إلى الشام، وآخر إلى الحجاز، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى البصرة. وقيل: بل كتب سبعة مصاحف، فبعث مصحفاً إلى مكة، ومصحفاً إلى الكوفة، ومصحفاً إلى البصرة، ومصحفاً إلى الشام، ومصحفاً إلى اليمن، ومصحفاً إلى البحرين، واحتبس مصحفاً. فأما مصحف اليمن والبحرين فليس يعرف لهما خبر. ولم يمت النبي A، إلاَّ والقُرْآنُ مُؤَلَّفٌ في الصُّدُور، إلا أنه لم يكتب في مصحف. وأول من جمعه أبو بكر Bهـ في المصحف، ومات وتركه عند عمر،

ومات عمر وتركه [عند] حفصة ابنته. قال ذلك علي بن أبي طالب Bهـ، وذكره السدي. وروى الزهري عن عبيد بن السّبَّاق أن زيد بن ثابت حدثه، قال: أرسل إلي أبو بكر، فأتيته، فإذا عنده عمر Bهـ، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل اسْتَحَرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخْشَى أن يَسْتَحشرَّ القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب قرآن كثير، وإنّي أرى أنْ تأْمر بجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت فيكف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله A، فقال عمر: هو والله خير، قال أبو بكر: فلم [يزل] عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: قال لي أبو بكر: إنَّك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله A، فَتَتَبَّعْ القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال لكان أثقل عليّ من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله A؟ فقال أبو بكر:

هو والله خير. فلم يزل يراجعي في ذلك أبو بكر وعمر Bهـ، حتى شرح الله صدري للذي شرح إليه صدرهما، فتتبعث القرآن من الرِّقَاع والعُسُبِ، ومن صدور الرجال، فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، إلى آخرها، وكانت الصحف عند أبي بكر حتى مات، ثم كانت عند عمر حتى مات، ثم كانت عند حفصة، ثم نسخ عثمان من عند حفصة المصاحف، ووجه إلى كل أُفقٍ مصحفاً، وأمر بما سوى ذلك أن يُحَرَّق. ومعنى قول النبي A: " أُنْزِل القرآن على سبعة أَحْرُف "، أي: على سبع لغات متفرقة في القرآن، (لا أن كُلَّ حرف من القرآن) يقرأ على سبع لغات. قال الشيخ أبو بكر، Bهـ، وَجْهُ هذه الزيادة والنقص في المصحاف، أنها كتبت على قراءة من كان وجه إلى كل بلد من الصحابة، ويدل على ذلك أنَّ القراء

يُسْنِدُونَ قراءتهم إلى إمام مِصْرهم من الصحابة، وقد كانت هذه الحروف يقرأ بها على عهد رسول الله A، وتنقص، ولولا ذلك ما أثبتت في بعض المصاحف وحذفت من بعض ولا يجوز/ أن يُتَوَهَّم أنها وهم من الكابت؛ لأن الله قد حفظه، ويدل على ذلك أن علياً لما صارت إليه الخلافة لم يغير منها شيئاً بل استحسن فعل عثمان، وقد كانوا يكرهون النقط في المصاحف خوف الزيادة، فكيف يزيدون الحروف وتجوز عليهم الزيادة. وكره النخعي الفصل بين السور، والتَّعْشِيرِ، بالحمرة. وقال يحيى بن كثير: كان القرآن مُجَرَّداً، فأول ما أُحْدِثَ فيه العَجْمُ: نقط التاء والثاء، فلم ينكره أحد، ثم أحدثوا نَقْطاً على منتهى الآي، ثم أحدثوا التعشير، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم. وقال قتادة: وددت أنَّ الأيدي قُطِعت في هذه النقط. فليس يجوز على هذا الاحتياط أن تقع هذه الحروف إلا بنصّ وَمَعْرِفَةٍ، ولم تقع على وهم من الكاتب.

وقد ذكر أبو بكر عن بعض العلماء أنه قال: إنَّ إصحاب رسول الله A، لما جمعوا القرآن ونسخوه من عند حفصة في نسخ، عمدوا إلى كل حَرْفٍ سمعوا رسول الله A، قِرأه على وجهين، فأثبتوا في مصاحف وجهاً، وفي مصاحف وجهاً آخر. لتحصل الوجهان للمسلمين، ولا يسقط عنهم وجه قراءته، فحصل على هذا الاختلاف في المصاحف على هذا الوجه، وهو داخل في السبعة، وهذا إن شاء الله هو الحق والصواب. فأما اختلافهم في الحركاتت والمْدَ والْقَصْر والهمز وشِبْهه من إبدال حرف مكان آخر بصورته، فإن السبب في ذلك أن المصاحف التي وجهت إلى الأمصار لم تضبط ولا نقطت، وإنما كانت حروفاً أشخاصاً. فلما خلت الحروف من النقط والضبط صارت التاء (التي) هي غير منقوطة محتملة لأن تكون: ياءً أو باءً أو تاءً، واشتركت الصور في الحروف. ألا ترى أنك لو كتبت " لم يقم "، ولم تنقط الحرف الأول جاز أن يكون تاء، وباء، ونوناً، فقرأ أهل كل مصر على ما كانوا تعلموا من إمامهم الصحابي قبل إتيان المصاحف إليهم، فقرأ أهل البصرة على ما كان علمهم أبو موسى الأشعري، وأهل الكوفة على ما علمهم علي، وابن مسعود، وأهل الحرمين على ما تعلموا من أُبيّ، وزيد، وأهل الشام على ما تعلموا من معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، ووافقوا بقراءتهم خط المصحف الذي وجه إليهم، فقرأ هؤلاء بنصبٍ وهؤلاء برفعٍ،

وهؤلاء بِهَمْزٍ، وهؤلاء بِيَاءٍ، وهؤلاء بِتَاءٍ والصور واحدة، كل قوم قرأوا على ما كانوا تعلموا قبل وصول المصحف إليهم، فوافقوا بقراءتهم المصحف الذي وجه إليهم من زيادة أو نقص. فهذا سبب الاختلاف. وقد كان جَمَعَ القرآن على عهد النبي A، ستة نفرٍ من الأنصار: معاذ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وسعد، بن عبيد. وجمعة مُجَمَّعُ بن جارية، إلا سورتين، ولم يجمعه من الأئمة إلا عثمان. وذكر أنس والشعبي أنه لم يجمعه على عهد النبي عليه السلام، أحدٌ. والدليل على ذلك أن عثمان لم يتكل فيه على أحدٍ حتى جمع إليه جماعة، وأن زيد بن ثاتب قال: جمعته من صدور الرجال، ومن كذا وكذا، فهذا يدل على أنه لم يكن يحفظه.

101

وإنما اختار عثمان زيد/اً، لأنه كان يكتب الوحي؛ ولأن قراءته كانت على العرضة الآخرة، ولأنه وهو الذي اختار أبو بكر لجمعه. قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب منافقون}، إلى قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. ومعنى الآية: ومن القوم الذين حولكم، أي: حول المدينة {منافقون}، أي: قوم منافقون. {مَرَدُواْ عَلَى النفاق}. أي: دربوا عليه وخَبُثُوْا. وقيل: معناه: عتوا، على النفاق. من قولهم: " شَيْطانٌ مَارِدٌ " أي: عاتٍ.

{وَمِنْ أَهْلِ المدينة}. أي: من أهلها مثلهم. وقيل: المعنى: ومن أهل المدينة قوم {مَرَدُواْ}. فلا يكن في الكلام على هذا تقديم ولا تأخير. وعلى القول الأول يكون فيه تقديم وتأخير. قال ابن زيد {مَرَدُواْ}: أقاموا عليه، ولم يتوبوا. وقال ابن إسحاق {مَرَدُواْ}، عليه، أي: لجوا فيه وأبوا غيره. {لاَ تَعْلَمُهُمْ}. أي: لا تعلمهم يا محمد، بصفتههم. {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}. قيل: هما فضيحتهم في الدنيا وإظهار سرائرهم، ثم عذاب القبر، ثم يردن إلى عذاب الآخرة. قاله ابن عباس: وذكر: أنَّ النبي A أخرج قوماً من المسجد يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق، لناس منهم، فهذا عذابهم الأول، والثاني: عذاب القبر. وقال مجاهد هما: عذاب السيف بالقتل وعذاب الجوع. والآخر: عذاب القبر، ثم عذاب الآخرة. وقال ابن زيد: العذاب الأول، عذابهم بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والآخر: عذاب النار. وقيل الأول: أخذ الزكاة من أموالهم، وإجراء الحدود عليهم، وهو غير راضين، والآخرة: عذاب القبر.

ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً}. والمعنى: ومنهم آخرون: أي: من أهل المدينة منافقون آخرون، {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ}، أي: أقروا بها: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً}، هو إقرارهم وتوبتهم، {وَآخَرَ سَيِّئاً}، هو تخلفهم عن النبي A في غزوة تبوك. والواو [في] قوله: {وَآخَرَ}، بمعنى: " مع " عند البصريين، كما تقول:

" استوى الماء والخشبة ". وقال قوم: هي بمعنى: " الباء "، وقدروا " الواو " في " الخشبة " بمعنى: بالخشبة. وأنكر الكوفيون أن يكون هذا بمنزلة " استوى الماء والخشبة "؛ لأن هذا لا يجوز فيه تقديم الخشبة على الماء، وإنما هو عندهم بمنزلة " خلطت الماء واللبن "، أي: باللبن، فكل واحد منهما يجوز أن يتقدم، مثل الآية. قال ابن عباس: " نزلت هذه الآية في عشرة أنفس تخلفوا عن النبي A، في غزوة تبوك، فلما رجع النبي عليه السلام أوثق سبعَةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممر النبي عليه السلام إلى رجع في المسجد عليهم. فلما رآهم قال: من هؤلاء؟ قال: أبو لُبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك، يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم. فقال رسول الله A: " فأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ". فلما بلغهم ذلك قالوا: / ونحن والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا. فأنزل الله D: { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية.

فأطلقهم النبي عليه السلام، و {عَسَى} من الله واجبة ". وقيل: كانوا ستةً، والذين أوثقوا أنفسهم ثلاثة: أبو لبابة ورجلان معه. وقال زيد بن أسلم: الذين ربطوأ أنفسهم ثمانية. وقال قتادة: كانوا سبعه، وفيهم نزل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا). وقال مجاهدة هو أبو لبابة وحده، اعترف بذنبه الذي كان في بني قريظة، إذ أشار لهم إلى حَلقِه، يريد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ذابحكم إن نزلتم على حكم الله، سبحانه. وقال الزهري: نزلت في أبي لبابة إذ تخلف عن غزوة تبوك، يربط نفسه، حتى أنزل الله، - عز وجل -، توبته، ومكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرَّ مغشيّاً عليه، فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة، فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي يحلني، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: يا رسول

الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقةً إلى الله ورسوله، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يجزيك يا أبا لُبابة الثلث". والعمل الصالح الذي عملوه، قيل: هو توبتهم. وقيل: حضورهم بدراً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (مُنَافِقُونَ)، وقف، إن جعلت (مَرَدُوا)، نعتاً لأهل المدينة"، فإن جعلته نعتاً للمنافقين لم تقف دونه؛ لأنه ينوي به التقديم. وقيل: كانوا ثلاثة، أبو لُبابة، ووداعة بن ثعلبة، وأوس بن خدام من الأنصار. لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أوثقوا أنفسهم في سواري المسجد، وكان رسول الله

103

- صلى الله عليه وسلم - ,إذا ابتدأ سفراً أو رجع منه ابتدأ بالمسجد, فصلى فى ركعتين, فدخل فرأى فيه قوما موثقين, فسأل عنهم, فأخبر بخبرهم, وأنهم أقسموا ألا يحلوا أنفسهم حتى يحلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أقسم لا أطلق عنهم حتى أومر, ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله , فلما نزل فيهم القرآن حلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}، إلى قوله: {التواب الرحيم}. قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ}، هو خطاب للنبي عليه السلام. أي: فإنك تطهرهم بها وتزكيهم، وهذا قول الزجاج. وقيل: هما للصدقة، لا للمخاطبة، وهما في موضع النعت للصدقة، وهو قول الأخفش، قال: ويكون {بِهَا} توكيداً. ف: " التاء " على القول الأول للمخاطبة، وفي {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} ضمير النبي A. وهي على القول الثاني: الثانية للصدقة لا للمخاطبة، وفي

{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} ضمير الصدقة. وقيل: هما للنبي عليه السلام، وهما في موضع الحال منه. وقيل: {تُطَهِّرُهُمْ} للصدقة، صفة [لها]، {وَتُزَكِّيهِمْ} للنبي عليه السلام، حال منه. وأجاز بعض النحويين، في {تُطَهِّرُهُمْ} الجزم؛ لأنه جواب الأمر. وحجة من قرأ: {صلاتك} بالجمع هنا، وفي " هود "، وفي " المؤمنين "

إجماعهم على الجمع في: {وَصَلَوَاتِ الرسول} [التوبة: 99] ولا فرق بينها والتي في سورة المؤمنين يراد بها الصلوات الخمس، فالجمع أولى به؛ ولأنها مكتوبة في المصحف بالواو، فدل ذلك على الجمع، وعلى أن الألف التي بعد الواو اختصرت/ من الكتاب. وقد كتبوا ما عدا هذه الثلاثة بالألف، فدلت الواو في هذه الثلاثة على أنه جمع، وحذفت الألف بعد الواو كما حذفت من درجات وبينات. ومن قرأ بالتوحيد، احتج بالإجماع في: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162]، بالتوحيد، وإجماعهم على التوحيد في " الأنعام "، و {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1]. وأيضاً فإن قوله: إنَّ صَلاَتَكَ أعم من: إن صلواتك؛ لأن الجمع إنما هو لما دون العشرة، فكأنه: " إنّ دعواتك "، والتوحيد بمعنى: " إنَّ دعاءك "، والدعاء أعم من "

الدعوات " وأكثر؛ لأن المصدر أعم من الجمع الذي لما دون العشرة. ومعنى الآية: خذ يا محمد من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم [{صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} من دنس ذنوبهم، {وَتُزَكِّيهِمْ}، أي: تنميهم]، وترفعهم بها، {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}، أي: ادع لها بالمغفرة، {إِنَّ صلاتك سَكَنٌ لَّهُمْ}، أي: إن دعاءك طمأنينة لهم، بأن الله قد عفا عنهم، {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، أي: سميع لدعائك إذا دعوت، ولغير ذلك. قال ابن عباس: أتى أبو لُبابة وأصحابه حين أطلقوا، وتيب عليهم، بأموالهم إلى النبي A، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أُمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله، D: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، الآية. وقد قيل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ}: منسخٌ بقوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84]. وقيل: إنَّها محكمة.

والمعنى: وادع لهم إذ جاءوك بالصدقات، وعلى هذا أكثر العلماء. وقال قتادة: {سَكَنٌ لَّهُمْ}، وقَارٌ لهم. وقال زيد بن أسلم: قالوا: يا رسول الله، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها، فأبى النبي A، أن يأخذ. فأنزل الله D: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، الآية. قال سعيد بن جبير: كان الثلاثة إذا (اشتكى أحدهم). اشتكى الآخران مثله، وكان قد عَمِيَ، فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِيَ. وقال ابن عباس: {سَكَنٌ لَّهُمْ}: رحمه لهم. وقيل: إنَّ هذا إنَّما هو في الزكاة، أمر أن يأخذ زكاة أموالهم التي عليهم.

ثم قال تعالى: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ}. أخبر الله D، في هذه الآية بقَبول توبة من تاب من المناقين وغيرهم، وأخذ الصدقات من أموالهم. فالمعنى: ألم يعلم هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد، ثم ندموما وربطوا أنفسهم بالسواري وقالوا: لا نطلق أنفسها حتى يكون النبي صلى الله عليه سولم، هو الذي يطلقنا، أن ذلك (ليس) إلى النبي صلى الله عليه [وسلم]، ولا إلى غيره، وإنما هو إلى الله سبحانه، هو يقبل توبتهم، وتوبة غيرهم، ويأخذ صدقة من تصدق، بصدقةٍ، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم. قال ابن زيد: قال المنافقون لما تاب الله على هؤلاء: كانوا بالأمس، لا يُكلَّمون ولا يُجَالَسُون، فما لهم اليوم يُكلَّمون ويُجالَسُون؟ فأنزل الله D، ألم يعلم هؤلاء الذين لم يتوبوا وتكلموا في هؤلاء الذين تُبت عليهم {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}، الآية. قال ابن عباس: {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}، يعني إن استقاموا على/التوبة. روى أبو هريرة عن النبي A، أنه قال: " إن الله يقْبلُ، الصدقة ويأخذها بيمينه، فيرُبِّيها لأحدكم كما يُربِّى أحدكم مهرة، حتى إنَّ اللقمة لَتَصير مثل أحد.

105

وتصديق ذلك في كتاب الله: {هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} و {يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات} ". وقال ابن مسعود: ما تصدق رجل بصدقة إلاّ وقعت في يد الله قبل أن تقع بيد السائل وهو يضعها في يد السائل، ثم تلا: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة}. وقوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون}، إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. والمعنى: {وَقُلِ} يا محمد، لهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم: {اعملوا}، أي: اعملوا بما يرضي الله، {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ}، وسيراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا، {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة}، أي: تردون يوم القيامة، إلى الله الذي يعلم السر والعلانية، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي يخبركم بعملكم، ويجازيكم عليه جزاء المسحنين أو جزاء المسيء.

وقال مجاهد: الآية وعيد من الله. و {فَسَيَرَى الله}، من رؤية العين. ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}. هذه معطوف على ما قبله. والمعنى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب منافقون وَمِنْ أَهْلِ المدينة} قوم {مَرَدُواْ عَلَى النفاق}، ومنهم {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ}، ومنهم {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}. فالتقدير: من هؤلاء المتخلفين عنكم، {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}، وقضائه فيهم. {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}. وهم قوم تخلفوا ولم يعتذروا إلى النبي A، وندموا على ما صنعوا، فتاب الله عليهم، إذ علم صحة توبتهم وندمهم، فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار}، إلى قوله: {هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 117 - 118]. قال ابن عباس: لما نزل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}، يعني: أبا لُبابة وصاحبيه، يعني: الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم، ولم يظهروا التوبة، فلم يذكروا بشيءٍ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فأنزل الله، D: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}، الآية، فيهم فجعل الناس

يقولون: هلكوا، إذ لم ينزل فيهم عُذْرٌ. وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، فصاروا مرجئين، لا يقطع لهم بشيء، حتى نزل: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين}، إلى قوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، ثم قال تعالى: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} يعني: الثلاثة الذين أُرْجُوْا، إلى قوله: {هُوَ التواب الرحيم}. وقال عكرمة: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ}: هم الثلاثة الذين خُلَّفُوْا. والثلاثة في قول مجاهد: هلال بن أمية، ومُرارةَ بن الربيع، وكعب بن مالك، الثلاثة من الأوس. وقال الضحاك: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ}، هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن التوبة، يعني: توبة أبي لُبابة وصاحبيه، فضاقت عليهم الأرض، وكان أصحاب محمد A، فيهم فئتين، فئة تقول: هلكوا، وفئة تقول: عسى الله أن يعفوا عنهم، فأنزل الله/ D: { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}، وأرجأ رسول الله A، أمرهم

107

حتى نزلت توبتهم. وقوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ}. ومعناه: إما يحجزهم عن التوبة، فيعذبهم، وإما يوفقهم فيتوب عليهم. {حَكِيمٌ}، وقف، على قراءة من قرأ: {الذين}، بغير واو. وغير وقف على قراءة من قرأ: {الذين اتخذوا} بالواو. قوله: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً}، الآية. من قرأ: {الذين} بالواو، فهو في موضع رفع، والخبر محذوف، والمعنى:

ومنهم الذين، مردود على: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} [التوبة: 101]. وقيل: هو مردود على {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي}، (والَّذِينَ اتَّخّذُوا مَسْجِداً). ومن قرأ {الذين اتخذوا} بغير واو، فهو في موضع بالابتداء، وفي الخبر تقديران: قال الكسائؤ الخبر: {لاَ تَقُمْ فِيهِ}، أي: لا تقم في مسجدهم. وقيل الخبر: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ}، وهذا أحسن. {ضِرَاراً} مصدر، وإن شئت مفعولاً من أجله. ومعنى الآية: إنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين كلهم ينتمون إلى الأنصار،

ويعتدون إلى بني عوف، يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، بنوا مسجداً ضراراً بمسجد " قُباء "، وأتوا النبي A، قبل خروجه إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجداً لذِي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأْتينا فتصلي لنا فيه، فقال النبي A: إني على جَنَاحِ سَفَرٍ وشُغْل، ولو قد قدمنا، إن شاء الله، أتيناكم فصلينا لكم فيه. فلما نزل النبي A، راجعاً [من سفره]، بقرب المدينة، بلغه الخبر، فأرسل قوماً لهدمه، فَهُدم وأُحْرِق. ومعنى {ضِرَاراً} أي: ضِرِاراً لمسجد رسول الله A، وكفراً بـ الله، لمخادعتهم النبي عليه السلام.

{وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين}. يريدون أن يتفرق جماعة المسلمين في صلواتهم. {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن [قَبْلُ]}. أي: إعداداً له، وهو أبو عام الذي كان حَزَّبَ الأحزاب لقتال رسول الله A، فلما خذله الله D، لحق بالروم، يطلب النصر من ملكهم على رسول الله A، وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار، وأمرهم ببناء المسجد الذي بنوه ليصلي فهم فيه، إذا رجع. {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى}. أي: يحلف من بناه ما أردنا بذلك إلا الخير، والرفق بالمسلمين في المطر، والتوسعة على الضعفاء، {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، في وقلهم ذلك، بل بنوه لتفريق المؤمنين. قال ابن عباس: وجه أبو عامر إلى ناس من الأنصار أن يبنوا مسجداً، ويستعدوا ما يستطيعون من قوة ومن سلاح، وقال لهم: إني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتى بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه.

وكان أبو عامر من الروم أصله، وكان يقول: إنه راهب، فبنوا المسجد له، ليأتي ويصلي فيه، وليكون اجتماعهم للطعن على رسول الله A، وأصحابه فيه. فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي A، فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنان، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة. فأنزل الله/ D: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ/ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}. قال قتادة: لما دعوا رسول الله A ليصلي في مسجدهم دعا بقميصه ليأتي إليهم، فأطلعه الله على أمرهم. قال الضحاك: بنوا مسجد الضرار بقُباء، وكذلك قال قتادة. قال ابن عباس: لما بنى النبي عليه [السلام] مسجد قُباء، بنى [قوم] من الأنصار مسجداً للضِّرار، ليضاهوا به النبي عليه السلام والمؤمنين في مسجدهم. قوله: {مِن قَبْلُ}، وقف في قراءة من قرا: {الذين} بغير واو إن قدرت أنَّ

108

الخبر: ومنهم الذين. وإن قدرت أن يكون {لاَ يَزَالُ} الخبر، أو {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}، لم يجز الوقف على: {مِن قَبْلُ}. و {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} وقف، وكذلك يقدر جميع هذه الآية. قوله: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ}، الآية. والمعنى: لا تقم، يا محمد، في المسجد الذي بناه المنافقون، ضِراراً وتفريقاً بين المؤمنين، أبداً. ثم أقسم، فقال: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى}، أي: ابتدئ أساسه وبناؤه على طاعة الله D، ورضوانه {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}، ابتدئ بنيانه، {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ}، أي: أولى أن تقوم فيه، مصلياً لله، D.

و {مِنْ} هاهنا، بمعنى: منذ. وقيل: [المعنى]، من تأسيس أول يوم. ومعنى {أَوَّلِ يَوْمٍ}: أول الأيام: كما تقول: أتيت على كل رجل، أي: على كل الرجال. قال ابن عمر، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري وابن

المسيب، وخارجة بن ثابت، وابن جريج: هو مسجد رسول الله A، الذي فيه اليوم قبره. وقال ابن عباس، وابن زيد، وعروة بن الزبير، وأبو زيد: هو مسجد قُباء. وقاله ابن جبير، وقتادة. وروي عن النبي A، أنه قال: " هو مسجدي هذا ".

وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ}. " الهاء " لمسجد النبي A وقال الشعبي: هي لمسجد قُباء. وكذلك قال شَهْرَ بْنُ حَوْشَب. فعلى هذا يجوز أن يكون الضميران مختلفين، وأن يكونا متفقين. وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ}. مدحوا، لأنهم كانوا يستنجون بالماء من الغائط والبول، لا خلاف في هذا التفسير بين أهل التفسير.

109

قال قتادة: " لما نزلت هذه الآية، قال النبي A، لأهل قُباء: إنّ الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، فما تصنعون؟ قالوا: إنا نغسل عنّا أَثر الغائط والبول ". قوله: {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} وقف، إن جعلت الضمير مخالفاً للضمير الأول: فإن جعلته مثله وقفت على: {يَتَطَهَّرُواْ}. قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ}، الآية. قرأ نصر بن علي: " أَسَسُ بُنْينِه "، بتخفيف السين ورفعه، وخفض البنيان.

وحكى أبو حاتم عن بعض القراء: " أفمن أساس بُنْيَنِهِ "، برفع أساس، وخفض البنيان. و" أسَسُ " و " أُسُّ " سواء ك: عَرَبٍ وعُرْب. و " أساسٌ " واحد، وجمعه: أُسُس. وحكى أبو حاتم، أيضاً، قراءة أخرى: " أفمن أسس بنيانه " برفع " آساس " ومده، وخفض البنيان، وهو جمع " أُسّ " ك: " خُفٍ " و " أَخَفَافٍ " والكثير " إسَاسٌ " ك " خِفَاف ". و {جُرُفٍ}، و {جُرُفٍ} لغتان، وهو شفير ما ينفى من جُوُف

الوادي إذا أخذه السيل. قال أبو حاتم: أصل {هَارٍ}: هاورُ، ثم قل، ك: شاكي السلاك وشائك السلاح. وحكى الكسائي: " تَهَوّر " و " تَهَيَّر ". والهائر المتقدم. وحكى: هَارَيَهُورُ ويَهيرُ ويهار. ومعنى الآية: أنها مثل. والمعنى: / أيُّ هذين الفريقين خير؟ وأي هذين

البناءين خير وأثبت؟ من ابتدأ أساس نبيانه على طاعة الله، أم من ابتدأ على ضلال وخطأ من دينه؟ قوله: {فانهار [بِهِ]}. يحسن أن تكون الألف من " واو " أو " ياء " على ما تقدم. قال ابن عباس: [{بِهِ فانهار}]، يعني قواعده {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}. وذُكر أنه حفرت بقعة منها، فرئي الدخان. قال ابن جريج: (فلما فرغوةا من بناء المسجد، صلوا فيه ثلاثة أيام، وأنهار اليوم الرابع {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}. قال ابن جريج: ذكر لنا أنَّ رجلاً حفر فيه، فأبصر

110

الدخان يخرج منه. وقال جابر: رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله A. قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ}. والمعنى: ولا يزال مسجدهم الذي بنوه، شكَّا في قلوبهم ونفاقاً، {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، أي: إلا أن تصدع قلوبهم فيموتوا. قال ابن عباس: ومجاهد: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ}، إلا أن يموتوا. وقال السدي {رِيبَةً}: كفراً. وفي حرف عبد الله: (ولو قطعت قلوبهم).

111

وقيل المعنى: إلا أن يتوبوا عما فعلوا، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه. قوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، إلى قوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين}. قوله: {أَنفُسَهُمْ}: استغنى بأقل الجمع عن الكثير، والمراد الكثير، ولفظه لفظ القليل، وقد قال تعالى: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] فهذا لفظه ومعناه سواء لأكثر العدد. ومن قرأ: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، فبدأ بالمعفول. قيل: الفاعل بمعناه فيُقْتل بعضهم، ويقتل بعضهم الباقي المشركين. والعرب تقول: نحن قتلناكم يوم كذا، أي: قتلنا منكم.

قوله: {وَعْداً}، مصدر مؤكد، و {حَقّاً} نعن له. والمعنى: وعدهم الله الجنة وعداً حقاً عليه. قال ابن عباس: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ [وَأَمْوَالَهُمْ] بِأَنَّ لَهُمُ الجنة}، قال: ثامنهم والله، وأعلى لهم. " ورُوي أن عبد الله بن رواحة قال للنبي A: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال النبي عليه السلام: اشترط لربي: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي: أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. فقالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل ". فنزلت: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ}، الآية.

ثم مدحهم الله، D، فقال: {التائبون العابدون}، أي: هم التائبون. وقال الزجاج: هو بدل. والمعنى: يقاتل التائبون. وقال: والأحسن أن يرتفعوا بالابتداء والخبر محذوف، أي: لهم الجنة. وفي قراءة عبد الله: {التائبون العابدون}، على النعت للمؤمنين، في موضع خفض، أو في موضع نصب على المدح. وقيل: {التائبون} مبتدأ، وما بعدها إلى " الساجدين " عطف عليه، و {الآمرون} خبر الابتداء، أي: مرهم بهذه الصفة، فهم {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر

والحافظون لِحُدُودِ الله}. ومعنى {التائبون}: الراجعون مما يكرهه الله D، إلى ما يحبه. وقال الحسن: {التائبون}، أي: عن الشرك، {العابدون}، الله وحده في أحايينهم كلها، أي: في أعمارهم. ومعنى {الحامدون}، الذين يحمدون الله على ما ابتلاهم به من خير وشر. وقيل المعنى: الذين حمدوا الله على الإسلام. ومعنى {السائحون}: الصائمون روي ذلك عن النبي A. وكذلك قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والضحاك.

وأصل السياحة: الذهاب في الأرض. {الراكعون الساجدون}، يعني: في الصلاة المفروضة. {الآمرون بالمعروف}، أي: بالإيمان بالله، D، وبرسوله عليه السلام. / {والناهون عَنِ المنكر}، عن الشرك {والحافظون لِحُدُودِ الله}، أي: العاملون بأمر الله D، ونهيه سبحانه.

113

{وَبَشِّرِ المؤمنين}. أي: بشر من آمن، وفعل هذه الصفات من التوبة والعبادة وغيرهما، وإن لم يغزوا. وقال الحسن في هذه الآية: {العابدون}: الذين عبدوا الله D، في أحايينهم كلها، أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين، ولكن كما قال العبد الصالح: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31]. قال: و {السائحون} الصائمون. وقال: {الآمرون بالمعروف}، أما والله، ما أمروا بالمعروف، حتى أمروا به أنفسهم، ولا نهوا عن المنكر، حتى نهوا عنه أنفسهم، {والحافظون لِحُدُودِ الله}، قال: هم القائمون على فرائض الله. قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، إلى قوله: {حَلِيمٌ}. والمعنى: ما ينبغي للنبي A، والمؤمنين: {أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} منهم، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم}، أي: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله سبحانه، وقد قضى القرآن (أنّ) من مات على الشرك، أنَّه من أهل النار. وهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب، أراد النبي عليه السلام، أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله، D، عن ذلك.

وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبيه، أنه قال: " لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة، دخل عليه النبي A، وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أمية: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيءٍ تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب، فقال النبي A: لأستغفرنَّ لك ما لم أُنه عنك. فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} "، الآية، ونزلت: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، الآية. الزهري عن ابن المسَيَّب قال: لما أحتضر أبو طالب أتاه النبي عليه السلام، وعنده عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول الله A، أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقاً، وأحسنهم يداً، لأنت أعظم من والدي، فقل كلمة تجب لي يوم القيامة بها الشفاعة لك، قل: لا إله إلا الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟

فسكت، فأعادها عليه رسول الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ومات. فقال النبي A: والله لأستغفرنَّ له ما لم أُنه عن ذلك، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}، الآية. وقال مجاهد قال المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافراً؟ فأنزل الله D: { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ}، الآية. وقال عمرو بن دينار: قال النبي عليه السلام، استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني الله عنه. فقال أصحابه: فلنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي عليه السلام، لعَمِّه، فأنزل الله، D: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا}، إلى: {حَلِيمٌ}. وقيل: نزلت في أُمِّ رسول الله عليه السلام أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك. رُوي أن النبي A، لما قدم مكة، وقف على قبر أُمه حتى سَخِنَت عليه الشمس، رجاء أن يُؤْذن له فيستغفر لها/، حتى نزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ}، الآية قال ذلك ابن

عباس، وغيره. ولم يختلف أهل العلم في الدعاء للأبوين ما دام حيين، على أيّ دين كانا، يدعى لهما بالتوفيق والهداية، فإذا ماتا على ك فرهما لم يستغفر لهما. رُوي أن الآية نزلت في أبوي النبي عليه السلام، وذلك أنه A، سأل جبريل، عليه السلام، عن قبر أبويه، فأرشده إليهما، فذهب إليهما، فكان يدعو لهما، وعلي Bهـ، يُؤَمِّنُ، فنهي عن ذلك، وأُعلم أنّ إبراهيم، صلوات الله عليه، إنما أستغفر لأبيه؛ لأن أباه وعده أن يُسْلِمَ، ويترك عبادة الأصنام، فكان إبراهيم يستغفر له طمعاً أن يؤْمن، فلما مات على كفره، تبرأ منه. و" المَوْعِدَةُ " التي وعد إبراهيم أبوه هو أنه وعده أن يؤمن. وقيل: بل هي كانت من إبراهيم لأبيه وعده أن يستغفر له، حكى الله عنه أنه قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47]، فلزمه إتمام وعده.

وقوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ}. فنهى الله، D، عن الاستغفار له تبرؤاً منه. وقيل: لما مات على كفره تبرأ منه. [فدل قوله: {تَبَرَّأَ مِنْهُ}] على هذا المعنى، أنه (إنما) استغفر له وهو حي لوعد وعده، أنه يؤمن، فلما رآه لا يؤمن، وأنه متماد على الكفر تبرأ منه. وقيل: لما مات على كفره، (ولم يؤمن)، تبرأ منه، وترك الاستغفار له، قال ذلك ابن عباس، وغيره. وقال ابن جبير: إنما تبرأ منه في الآخرة، وذلك إنَّ إبراهيم عليه السلام يسأل في والده يوم القيامة ثلاث مرات، فإذا كانت الثالثة، أخذ بيده، فليتفت إليه، فيتبرأ منه. و" الأَوَّاهُ " الدَّعَّاء.

وقيل: الرحيم. قال ذلك قتادة، والحسن، وروي ذلك عن ابن مسعود. وعن ابن عباس: أنَّه: الموفق، بلسان الحبشة، (وكذلك قال مجاهد وعطاء. وعن ابن عباس أيضاً: " الأوّاه " بلسان الحبشة)، المؤمن التواب. وقال كعب: " الأوَّاهُ " الذي إذا ذكر النار تأوّه. وعن ابن جبير: أنه المُسبِّحُ، الكثير الذكر لله D. وروي ذلك عن النبي A. وروي عن النبي، أنه قال لرجل: " يرحمك الله إن كنت لأواهاً " يعني

تلاءً للقرآن. وقال كعب " الأوَّاه " الكثير التَّأوُّهِ. وعن مجاهد أيضاً: أنه الفقيه .. وروى شَدَّاد بن الهادي، قال رجل لرسول الله A،: ما لأواه فقال: المتضرع. وفي حديث آخر: الخاشع المتضرع. ومعنى {حَلِيمٌ}، أي: حليم عمن ظلمه. وعن النبي A، أيضاً " الأوّاه "، الدَّعّاء.

115

وقال ابن مسعود. وأصل " التأوه ": الترجُّع والتوجع بحزنه. قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ}، إلى قوله: {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. المعنى: ما كان الله ليضلكم بالاستغفار للمشركين، بعد إذ هداكم للإيمان، حتى يتقدم إليكم بالنهي عن ذلك، وبيِّنه لكم فتتقوه {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: ذو علم بجميع الأشياء. {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}. أي: له سلطان ذلك، لا رادّ لأمره، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، كل عبيده، وفي قبضته، فلا تجزعوا من قتال أعدائكم. وهذا حض من الله على ما تقدم من ذكر القتال. {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. أي: ليس لكم من ينصركم من عذاب الله إن خالفتم/ أمره فأراد بكم سوءاً.

117

قوله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار}، إلى قوله: {هُوَ التواب الرحيم}. قوله: {مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ}، رفع القلوب عند سيبويه بـ: {يَزِيغُ}، و {كَادَ}، فيها إضمار الحديث. ويجوز أن ترفع القلوب بـ: {كَادَ}، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ. وقال أبو حاتم: من قرأ: {يَزِيغُ} بالياء، لا يجوز أن يرفع القلوب بـ: {كَادَ}، وهو جائز عند غيره على تذكير الجمع. والمعنى: لقد رزق الله رسوله الإبانة إلى أمره، ورزق المهاجرين وذراريهم

وعشيرتهم الإنابة إلى أمره، ورزق الأنصار ذلك، {الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} وهي غزوة تبوك، خرجوا في حر شديد، فاشتد عليهم العطش، فكانوا ينحرون إبلهم، ويعصرون كروشها، ويشربون ماءها، فهي العسرة التي لحقتهم، قال ذلك عمر ابن الخطاب Bهـ، فسأل أبو بكر النبي عليه السلام، أن يدعو، فدعا، فأمطروا فشربوا وملأوا ما معهم. قال عمر: ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. وكانوا أيضاً في قلة من الظَّهر وقلة من مال. قال مجاهد: أصابهم جَهْد شديد، حتى إنَّ الرجلين يشقان التمرة بينهما. وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا}. أي: ليثبتوا على التوبة، كما قال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله} [النساء: 136]، أي: اثبتوا على الإيمان.

وقيل: المعنى: ثم فسخ عليهم، ولم يعجل عقابهم ليتوبوا. وقيل المعنى: ثم وفقهم الله للتوبة. يقال: " تاب الله عليه "، أي: دعاه إلى التوبة، و " تاب عليه "، أي: وفقه للتوبة، و " تاب عليه " قَبِل توبته. وقوله: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 6]. أي: وإما يوفقهم للتوبة. وأصل التوبة في اللغة، الرجوع عما كان عليه. وهي تكون بثلاث شرائط: الندم على ما كان منه، والإقلام عن المعصية، وترك الإصرار. {والأنصار} وقف. ثم قال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}. أي: وتاب على الثلاثة الذين خُلِّفُوا، فلم يفعلوا فعل أبي لُبابة وأصحابه، إذ ربطوا أنفسهم في السواري، وقالوا: لا نَطْعم ولا نَحُل حتى يكون رسول الله A، هو

يحلنا بتوبة من الله والثلاثة الآخرون الذين أرجأ أمرهم المؤمنون، فقال قوم: هلكوا، وقال قوم: عسى الله أن يتوب عليهم. قال عكرمة وقتادة: خُلِّفُوا عن التوبة. وقرأ عكرمة: " خَلَفُوا " أي: أقاموا بِعَقِبِ رسول الله A.

قال محمد بن عرفة نفطوية: خلفوا عن أن يكونوا منافقين، ويعتذروا فيعذبوا؛ لأنهم صدقوا، ولم يأتوا بعذر كذب. وقرأ جعفر بن محمد: " خَالَفُوا ". قوله: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ}. أي: بسعتها، غمًّا منهم وندماً على تخلفهم عن رسول الله A { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ}. أي: بما نالهم من الكرب {وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ}، أي: أيقنوا أنه لا ملجأ من الله، أي: لا مهرب، ولا مستغاث منه، {إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا}، أي: لينيبوا إليه،

ويرجعوا إلى طاعته، {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} أي: هو الوهّاب لعباده الإنابة إليه، {الرحيم}، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة على ما سلف منهم قبل/ التوبة. والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلا ل بن أمية، ومُرارة بن ربيعة، كلهم من الأنصار. وفي رواية: مُرارة بن الربيع. وفي أخرى: مُرارة بن ربْعي. وقال ابن جبير: ربيعة بن مرارة، وهلال بن أمية، وكعب بن مالك. وكان قد تخلف عن رسول الله عليه السلام، في غزوة تبوك بضع

وثمانون رجلاً، فلما رجع أتاه قوم، منهم الثلاثة الذين ذكروا في الآية، فصدقوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم، وأتاه الباقون، فكذبوا وحلفوا واعتذروا، فوكل أمرهم إلى الله D، وقال لأولئك الذين صدقوا: قُوما حتى يقضي الله فيكم، فنزل القرآن بتوبتهم، فقال: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ}، الآية [التوبة: 102]، وقال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}، الآية. قال كعب بن مالك: أتى، المخلفون فاعتذروا، فقبل منهم النبي A، ووكل سرائرهم إلى الله، D، وجئت إليه فرأيته يبتسم تبسم المُغْضَب، ثم قال تعالى، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، وكنت لما سمعت بقدوم رسول الله A، حضرني بَثِّي على التخلف، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بما أخرج من سخطه غداً؟ فلما قدم النبي عليه السلام، زال عني الباطل حين عرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فلما جلست بين يديه، قال لي: ما خَلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: فقلت: يا رسول الله والله إنِّي لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سَخَطِه بعذر، لقد

أُعطيت جدلاً. ولكني والله لقد علمت أني لئن حدثتك اليوم بحديثٍ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنَّ الله أن يسخط علي، ولئن حدثتك حديث صدق، وتجد علي فيه، إني لأرجو عفو الله، والله ما كان لي عذر، ولله ما كنت قَطُّ أقوى ولا أيْسَر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله A: أمَّا هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وفعل رجلان مثل ما فعلت، وكانا قد شهدا بدراً، فكا لي فيهم أُسوة. وأخذ الناس يقولون: ألا اعتذرت كما اعتذر غيرك، ثم تستغفر لك رسول الله A، فلم يزالوا بي (حتى) كدت أرجع إلى النبي A، فأُكذِّب نفسي. ثم نهى رسول الله A، عن كلامنا الثلاثة من بين من تخلف عنه. فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرت إلى نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمَّا صاحباي فاستكَنَّا وقعدا في بيوتهما يبكيان،

119

وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلَدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوفُ الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله A، وهو في مجلسه، فأسلم عليه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شتيه برد السلام؟ ثم أفكر في غيكره، ثم أبكي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عنِّي، ثم أمرني رسول الله A، باعتزال أهلي عند تمام أربعين ليلة في حديث طويل. فلم يزل حتى نزلت توبته بعد خمسين ليلة مع توبة صاحبيه. قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين}. والمعنى: يا أيها الذين صدَّقوا بالله ورسوله، {اتقوا الله}، أن تخالفوه، {وَكُونُواْ}، في الآخرة {مَعَ الصادقين} /، أي: مع النبي عليه السلام، وأصحابه.

كذلك، قال زيد بن أسلم، والضحاك، وابن جبير. قال الضحاك: {مَعَ الصادقين}، مع أبي بكر وعمر وأصحابهما. وقال ابن جريج: مع المهاجرين الصادقين. وتأويل ذلك عند ابن مسعود: أن يَصْدُقوا في قولهم، وأنَّه نهي عن الكذب. وكان يقرأ: " وكونوا مع الصادقين ".

120

قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله}. يعني: في غزوة تبوك. أي لا ينبغي لهم ذلك، ولا ينبغي لهم [أن {يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ] عَن نَّفْسِهِ} في الجهاد. وإنما لم يكن لهم ذلك؛ لأنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ}، في سفرهم، أي: عطش، {وَلاَ نَصَبٌ}، أي: تعب: {وَلاَ مَخْمَصَةٌ}، أي مجاعة {فِي سَبِيلِ الله}، D: أي: في إقامة دين الله سبحانه {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار}، أي: لا يطئون أرضاً {يَغِيظُ الكفار}، وطؤهم [إياها] {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً}، أي: في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}، بذلك كله ثواب عمل صالح، {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}، أي: يجازيهم على أعمالهم. وهذه الآية مخصوصة للنبي عليه السلام، لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا من عذر. فأما الآن فبعض الناس يحمل عن بعض. قاله قتادة.

وقال ابن زيد: كانت إذا كان المسلمون قِلة فرضاً، فلما كثروا نسخها: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، فأباح التخلف لمن شاء. وقال الطبري معنى الآية: ما كان لأهل المدينة الذين تخلفوا، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين تخلفوا، أن يفعلوا ذلك، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. و" النَّيل " مصدر: " نالني [ينالني] نَيْلاً "، فأنا " مَنِيلٌ ". وليس هو من " التَّنَاولِ "، لأن " التناول " من " النَّوَالِ " يقال منه: " نُلْتُ، أَنُولُ "، من العطية.

121

ثم قال تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً}. أي: في سبيل الله وإظهار دينه {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ}، أي: كتب لهم أجر عملهم {لِيَجْزِيَهُمُ الله}، أي: فعل ذلك ليجزيهم أحسن عملهم، أي: يجزيهم جزاء كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم. قوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} إلى قوله: {مَعَ المتقين}. المعنى: لم يكن لهم ليفعلوا ذلك، فظاهره خبر ومعناه نهي، أي: ما كان لهم أن يفعلوا ذلك، أي: لا يفعلوه، وذلك أن رسول الله A، بعث قوماً، ليعلموا الناس الإسلام، فلما نزل قوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله}، الآية، رجع أولئك من البوادي إلى النبي عليه السلام، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه. فأنزل الله، D، عذرهم: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}، وكره انصرافهم من البادية إلى المدينة، قال ذلك مجاهد. ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، هَلاَّ أتى للخروج من

هؤلاء الذين يعلمون الناس {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، ويبقى الباقون ليتفقه أهل البوادي في الدين {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ}، أي: يخبرونهم بما تعلموا {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، مخالفة أمر الله، سبحانه. وقال ابن عباس المعنى: ما كان المؤمنون لينفروا في غزوهم جميعاً، ويتركوا نبيهم عليه السلام، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}، يعني: السرايا، فلما رجعت السرايا، ونزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون من النبي عليه السلام، قالوا للسرايا: إن الله D، قد أنزل على نبيكم عليه السلام، قرآنا بعدكم/ وقد تعلمناه. فتمكث السرايا يتعلمون مما أنزل بعدهم، ويمضي الآخرون الذين كانوا مقيمين للسرايا، فذلك قوله:

{لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين}. فمعنى الكلام: فهلاَّ نفر من كل فرقة طائفة لتيفقه المتخلفون في الدين {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ}، أي: ليعلم القاعدون القادمين من السرايا ما تعلموا في مغيبهم، وهو قول قتادة. وقال: هذا في الجيوش أمره الله [أن] لا يُعَرُّوا نبيهم عليه السلام، وأن تقيم طائفة مع رسول الله A، تتفقه في الدين وتنطلق طائفة تدعو قومها إلى الله سبحانه، فإذا رجعوا علمهم المقيمون ما نزل بعدهم. ومثل ذلك قال الضحاك. وعن ابن عباس أيضاً: أنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا النبي عليه السلام، [على مُضر]

بالسنين أجدبت بلادهم، فكانت القبيلة منهم تُقبل بأسرها إلى المدينة يعتلون في إقبالهم بالإسلام وليس كذلك، إنما بهم الجَهْد الذي نزل بهم، فأخبر الله، D، نبيه عليه السلام، أنهم ليسوا من المؤمنين، وأنهم لو كانوا مؤمنين ما أتوا بأجمعهم، ولكن يأتي بعضهم يتفقه في الدين، ويعود فينذر من بقي لعله يحذر ما حرم الله سبحانه، فإتيانهم بجماعتهم يدل على أنهم إنما أتوا من أجل الجَهْد لا من أجل الإيمان. وقال عكرمة: إنما هو تكذيب للمنافقين، وذلك أنه لما نزل: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله}، الآية، قال المنافقون: هلك من تخلف، فألحقوا من عذره الله في التخلف بمن لم يعذره الله سبحانه، فأنزل الله D، عذراً ثانياً لمن تخلف من الأعراب بعذر، فقال {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً}. وقال الحسن: المعنى: لتتفقه الطائفة الغائبة، بما يؤيدهم الله D، من

الظهور على المشركين، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. أي: يخبر الغائبون في الجهاد الحاضرين، بما فتح الله D، عليهم فيزداد إيمانهم، وهو اختيار الطبري. قال: تتفقه الطائفة النافرة بما ترى من نصر الله D، { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} أي: يخبرونهم بما فتح الله سبحانه عليهم فيحذرونهم أن ينزل بهم بأس الله، سبحانه. ف: " قومهم " على هذا القول: من بقي من أهليهم مشركين، يحذرونهم ليؤمنوا، وهو قول الحسن. وهذا الآي دليل على جواز قبول خبر الواحد. وقد رُوي: أنها نزلت في أعرابٍ قدموا على رسول الله A، المدينة فَعَلَوْا الأسعار، وملأوا الطرق بالعَذِرَة فنزلت: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ}.

ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار}. والمعنى: أنَّها تحضيض من الله، D، للمؤمنين، أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم. والمراد به يومئذ: الروم، لأنهم كانوا سكاناً بالشأم، والشأم أقرب إلى المدينة من العراق. والفرض على أهل [كل] بلد أن يقاتلوا من يليهم دون الأبعد منهم، إلا أن يضطروا إلى ذلك، فيقاتلون الأبعد دون الأقرب. وقد سئل ابن عمر عن قتال الروم والدَّيْلَم. فقال: الروم أولى. وكذلك قال الحسن.

124

قوله: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}. أي: وأيقنوا أن الله D، معكم عند قتالكم لهم ما اتقيتموه. قوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ}، إلى قوله: {يَذَّكَّرُونَ}. والمعنى: وإذا ما أنزل الله D، سورة من القرآن، فمن المنافقين من يقول: أيكم أيها الناس، زادته، / هذه السورة إيماناً؟ أي: تصديقاً بالله وآياته، قال الله D، عن نفسه، {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}. أي: وأما الذين آمنوا من الذين قيل لهم ذلك، {فَزَادَتْهُمْ}، السورة {إِيمَاناً}، وهم يفرحون بما أعطاهم الله D، من الإيمان واليقين. ومعنى زيادة الإيمان هنا: أنهم قبل نزول السورة لم يكن لزمهم فرض ما في السورة التي نزلت. فلما نزلت قبلوها والتزموا ما فيها من فرض، فذلك زيادة في إيمانهم الأول. وقال الربيع: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، أي: خشية.

{وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. أي: شك في دين الله، سبحانه {فَزَادَتْهُمْ} السورة إذا نزلت، {رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ}، أي: كفراً إلى كفرهم، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، سبحانه، ولم يؤمنوا بها، فازدادوا كفراً على كفرهم المتقدم، {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ}، أي: بالله، سبحانه، وآياته، جلت عظمته. قوله: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ}. من قرأ بالياء، فهو توبيخ لهم، والمعنى: أو لا يرى هؤلاء المنافقون ذلك؟ ومن قرأ بالتاء، فمعناه: أو لا ترون، أيها المؤمنون، ما ينزل بهم في كل عام؟ ومعنى {يُفْتَنُونَ}، يختبرون في بعض الأعوام مرة، وفي بعضها مرتين، {ثُمَّ}، هم مع البلاء الذي يحل بهم {لاَ يَتُوبُونَ} من نفاقهم وكفرهم، ولا يذكرون ما يرون

من الحجج لله، D، فيتعظون بها. و" الاختبار " هنا، قيل: بالجوع والجدب. وقال قتادة، والحسن: يختبرون بالغزو والجهاد. وقيل: إنه هو ما كان يُشيعَ المشركون من الأكاذيب على رسول الله A، وأصحابه، فيفتتن بذلك من في قبله مرض. وقال حذيفة: كنا نسمع كذبة أو كذبتين، فيفتتن بها فئام من الناس.

127

يريد حذيفة أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل إسلامهم. قوله: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} الآية. والمعنى: وإذا ما أنزل الله D، سورة، وهم جلوس عند النبي عليه السلام، فكان فيها إظهار سرهم {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}، هل رآكم أحد إذ قلتم وتناجيتم، ثم قاموا فانصروا ولم يسمعوا قراءته. وقيل: المعنى: إذا ما أُنزلت سورة فيها أسرارهم، {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ}، أحد إن قمتم، فإن قالوا: نعم، قاموا ولم يسمعوا القرآن. {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم}، أي: عن الخير والتوفيق، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}، أي: لا يفقهون عن الله، D، مواعظة، استنكاراً ونفاقاً. وقد كره ابن عباس: أن يقال: " انصرفنا من الصلاة "، قال: لا يقال ذلك، فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: " قد قضينا الصلاة ".

128

وقيل عنه: ولكن قولوا: " قد صلينا ". ومعنى: {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ}: [قال بعضهم إلى بعض]، ولذلك قال: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ}، ولو كان من نظر العين لم يؤت بـ: " هل " بعده. وقيل: النظر هنا، إنما النظر الذي يجلب الاستفهام، كقولك: " قد تناظروا أيهم أعلم "، و " أجتمعوا أيهم أفقه "، أي: لينظر أيهم أفقه. قوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، إلى آخر السورة. المعنى: لقد جاءكم، / أيها المؤمنون وأيها العرب، {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، أي: تعرفونه، لا من غيركم فتتهموه في النصيحة لكم.

وقيل معنى {أَنفُسِكُمْ} بشر مثلكم. {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}. أي: ما عنتكم، أي: ما أدخل عليكم المشقة. وأصل " النعت ": الهلاك.

وقيل معنى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، أي: عزيز عليه أن تدخلوا النار، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، أن تدخلوا الجنة. وقيل معنى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، أي: حريص على هدى ضُلاَّلِكُم وتوبتهم. وقال قتادة: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: عزيز عليه عَنَت مؤمنيكم. وقال ابن عباس {مَا عَنِتُّمْ}: ما ضللتم. وقال قتادة: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، أي: حريص على هُدَى ضُلاَّلِكُم. وهذا مخاطبة لأهل مكة.

{فَإِن تَوَلَّوْاْ}. أي: إن تولى هؤلاء يا محمد، عن الإيمان، {فَقُلْ حَسْبِيَ الله}، أي: يكفيني الله، {لا إله إِلاَّ هُوَ}. قال أبيُّ بن كعب: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ}، إلى آخر السورة. {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}، وقف تام عند الأخفش، لأن هذا مخاطبة لأهل مكة، وقوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ (رَّحِيمٌ)}، لكل المؤمنين.

/ بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما السفر الثالث من سورة يونس إلى سورة مريم وبالله التوفيق ولا رب سواه]

يونس

بسم الله الرحمن الرحيم سورة يونس عليه السلام مكية قال ابن عباس: {الر}: أنا الله أرى. وروي عنه أنه أنا الله الرحمن. وعنه أيضاً: " ألر " و " حم " و " ن " حروف الرحمن مقطعة. وهو قول سالم بن عبد الله، وابن جبير، وهو اختيار الزجاج.

وقال قتادة: " هو اسم من أسماء القرآن ". وقال عكرمة والحسن: هو قسم. وروي عن قتادة أنه قال: اسم للسورة. وقال مجاهد: هو فواتح السور.

وقيل: هي تنبيه. وهو اختيار الطبراني. وقال بعض المتأخرين من أهل النظر: هذه الفواتح لا نعلم لها تأويلاً، ولا صح عن النبي عليه السلام، ولا اتفقت الأُمة على تفسيرها. والذي نعتقده في ذلك أنّا إنما كلفنا تلاوة تنزيلها، ولم نكلف معرفة تأويلها. (ولا يعرف تأويلها) من جهة العقل. قال أبو محمد Bهـ: وهذا القول يلزم قائله أن يكون مثله في كل آية مشكلة لم يصح عن النبي A فيها تأويل، ولا اتفقت الأُمة على تأويلها، فيعطل معرفة أكثر القرآن، ويقول: إنما كلفنا التلاوة لا غير. وأكثر ذلك في الأحكام يقع، فيعطل أحكاماً كثيرة على مذهبه (وكيف) يكون ذلك؟ وهل أنزله الله إلا لنعلم تأويله،

ونتدبره كما قال: {ليدبروا آيَاتِهِ} [ص: 29]. قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} " أي: تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب ". (وقيل: المعنى: هذه آيات الكتاب). وقال مجاهد: معنى {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} يعني: آيات التوراة والإنجيل، وكذلك قال قتادة. وعن مجاهد: {آيَاتُ الكتاب الحكيم} يعني آيات القرآن. وهو اختيار الطبري: قال: لأنه لم يجر للتوراة، والإنجيل ذكر قبل هذا. و (الآيات): العلامات. و (الكتاب): " اسم من أسماء القرآن. و (الحكيم) معناه: المحكم عند أبي عبيدة وغيره.

2

قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} إلى قوله {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (أكان): (الألف) ألف استفهام، معناه: التوبيخ، والتقرير، والإنكار لتعجبهم من بعث الله D رجلاً منهم، رسولاً إليهم. والمعنى: ليس بعجب قد علمتم أن الرسل من قبلكم كانت من بني آدم، ولم تكن ملائكة. إنما تأتي الملائكة إلى الرسل بأمر الله ونهيه (سبحانه) وتأتيهم في صورة بني آدم. إذ لا يحتمل بنو آدم معاينة الملائكة. وقرأ ابن مسعود: (أكان للناس عجب) بالرفع جعل " أن أوحينا " في

موضع نصب. وهو بعيد، لأن المصدر معرفة. فهو أحق أن يكون اسم (كان) (و) (عجباً): الخبر، لأنه نكرة. ورفع " عجباً " على اسم " كان " جائز على (ما) بعده. (و) اللام في " الناس " متعلقة بـ " عجب "، لا تتعلق بـ " كان ". ومعنى الآية: أن الله، جلّ ذكره، لما بعث محمداً رسولاً أنكر جماعة من العرب ذلك، وقالوا: (الله) أعظم من أن يبعث بشراً رسولاً. فأنزل الله ( D) : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس}، ونزل / {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] هذا قول ابن عباس. وقال ابن جريج: عجبت قريش أن بعث رجلاً منهم، فنزل

ذلك. وروري أن أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب فأنزل الله ( D) ذلك. فالناس هنا: أهل مكة. وهذه الآية فيها ضروب من أخبار: ابتدأ تعالى بعجب، ثم أخبر بالشيء الذي يوجب العجب عندهم، وهو الوحي، ثم أخبر عمن أنزل عليه ذلك الوحي، ثم أخبر بالشيء الموحى ما هو. وهو الإنذار، ثم أخبر بالبشارة للمؤمنين وأخبر بالمبَشر به ما هو؟ وهو: كون القدم الصدق للمؤمنين عند ربهم، ثم أخبر بجواب الكافرين عن ذلك: (كل ذلك) في آية واحدة. ومعنى {قَدَمَ صِدْقٍ}: قال الضحاك: " ثواب صدق ". وقال

مجاهد: " الأعمال الصالحة "، وهو اختيار الطبري. وقال ابن عباس " أجراً حسناً (بما) قدموا من (صالح) أعمالهم. وعن ابن عباس: {قَدَمَ صِدْقٍ}: ما تقدم لهم من السعادة في اللوح المحفوظ. وقال قتادة، والحسن، وزيد بن أسلم: {قَدَمَ صِدْقٍ} وهو محمد، A، شفيع لهم. وعن الحسن أنه قال: {قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} هو: مصيبتهم في نبيهم A. والقدم في اللغة على أربعة أوجه: قدم الإنسان مؤنثة، والقدم السابقة: العمل الصالح مؤنثة أيضاً، والقدم: الشجاع مذكر، والقدم المتقدم: مذكر أيضاً.

وفي الحديث: " إنَّ جَهَنَّمَ لا تَسْكن حَتّى يَضَع الجبَار فيها قَدَمهُ " وفي (رواية) أخرى: " حَتّى يَضَع الله فِيها قَدَمَهُ ". قال الحسن: معناه يجعل (الله) فيها الذين قدَّمهم لها. فهم قدم الله D إلى النار، والمؤمنون قدمه إلى الجنة. ومن رواه: (حَتَّى يَضَع الجبار فيها قدمه) فمعناه (مثل) ما ذكرنا، أن جعلت الجبار اسماً لله ( D) . وقيل " الجبار اسم لجنس يدل على جميع الجبارين على الله (سبحانه). فالمعنى: حتى يضع الجبارون على الله (سبحانه) فيها أقدامهم. أي: حتى يدخلوها. (فعند ذلك تقول جهنم: قط قط) أي: كفى كفى.

وفي هذا الحديث اختلاف روايات بألفاظ مختلفة، لكنا (قد) فسرنا موضع الإشكال منه .. {عِندَ رَبِّهِمْ}: وقف حسن عند أبي حاتم والأخفش. وقال: تفسيرهما ليس بتمام حسن؛ لأن {قَالَ الكافرون} جواب لما قبله. ومن قرأ " لساحر " فمعناه: هذا النذير لساحر. يعنون النبي A. ومن قرأ " لسحر " فمعناه: هذا الذي انذرنا به سحر، يعنون القرآن.

والقراءتان ترجعان إلى معنى واحد، لأنهم إذا جعلوا النبي A ساحراً فقد أخبروا أنه أتاهم بالسحر، وهو القرآن. وإذا جعلوا القرآن سحراً فقد أخبروا أن الذي أتاهم به ساحر. إذ السحر لا يكون من ساحر. والساحر لا يسمى بهذا الاسم حتى يأتي بالسحر، ويعرف منه ذلك. ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض}. والمعنى: إن الذي تجب له العبادة الله الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع في ستة أيام /. {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} " مدبراً للأمور، قاضياً في خلقه ما أحب ". {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}: أي: لا يشفع شافع يوم القيامة في أحد إلا من بعد أن يأذن له في الشفاعة كما قال: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وكما قال: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. وكذلك {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]

4

{ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} أي: هذا الذي هذه صفته مولاكم فاعبدوه. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}: أي: " تتعظون جميعاً، وتعتبرون بهذه الآيات والحجج. قوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} إلى قوله {يَعْلَمُونَ} {وَعْدَ الله}: مصدر، والمعنى: وعدكم (الله) أن يحييكم بعد مماتكم (وعداً حقاً) عند سيبويه بمعنى: وعد الله في حق، فلما حذف حرف الجر نصب، والمعنى: إليه معادكم جميعاً. وقرأ أبو جعفر يزيد " أنه " بفتح الهمزة: وهي في موضع نصب بمعنى لأنه يبدأ، (مثل) لبيك إن الحمد والنعمة لك (لا شريك لك).

وقال أبو حاتم: هي نصب بـ " وعد ". أي: وعد الله أنه يبدأ الخلق. وقال الفراء: موضعها رفع بحق كأنه قال: حقاً ابتداؤه. ومن كسر (إن) وقف على حقاً)، ومن فتح لم يقف على (حقاً). {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} أي: انشأناه قبل أن لم يكن شيئاً ثم يميته، ثم يعيده في الآخرة كهيئته. {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي: ليثبت المؤمنين على أعمالهم بالعدل والإنصاف.

ثم أخبر بما أعد للكفار لتجتمع الأخبار عما أعد (الله D) للفريقين فقال: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ}: وهو الذي قد تناهى في الحر. قال النبي A: " إنه ليتساقط من أحدهم حين يدنيه منه فروة رأسه ". وأصل الحميم محموم: فهو " فعيل " في موضع " مفعول ". {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: ولهم عذاب مؤلم بكفرهم. (ثم) قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} من قرأ " ضياءً " (بهمزة) متطرفة فهو الأصل، لأنه من الضوء. فالهمزة لام الفعل، والياء في " ضياء " بدل من واو

لانكسار ما قبلها. ومن همز موضع الياء فإنما يجوز على القلب، وذلكأن تقلب الهمزة التي هي لام (الفعل) في موضع الياء التي هي عين. فتصير الياء بعد ألف متطرفة. فتنقلب همزة فيصير وزنه " فلاعاً ". وقوله: " منازل " منصوب على حذف المضاف. والمعنى: وقدره منازل. (و) قيل: المعنى وقدر له منازل، ثم حذف اللام، وعدى الفعل كما قال: {كَالُوهُمْ} [المطففين: 3]. والمعنى: إن ربكم الله {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [يونس: 3]، ثم فعل كذا {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي: قدر القمر منازل. لا يقصر دونها، ولا يجاوزها يكون كل ليلة بمنزلة من المجوم، وذلك في ثمانية وعشرون منزلاً في كل شهر، وهو قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39].

{لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي: فعل ذلك كي تعلموا عدد السنين، أي: دخولها، وخروجها، وحسابها. {مَا خَلَقَ الله ذلك} أي: ما خلق الله الشمس والقمر والسماوات والأرضين {بالحق}. ومن قرأ " يفصل " بالياء رده على ذكر الله لقربه منه، فأسندالفعل إليه بلفظة التوحيد. ومن قرأ بالنون أجراه مجرى ما أتى في القرآن بلفظ الجميع، من/ " فصلنا، ونفصل " وذلك كثير. ومعنى (نفصل الآيات): نبين الحجج، والأدلة لقوم يعلمون. {ذلك إِلاَّ بالحق}: وقف لمن قرأ بالنون.

6

ومن (قرأ) بالياء لم يقف عليه، لأن الفعل مسند إلى الاسم المذكور المتقدم. قوله: {إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} إلى قوله: {يَكْسِبُونَ} والمعنى: إن في ذهاب الليل، ومجيء النهار، وذهاب النهار، ومجيء الليل، وإحداث كل واحد منهما بعد ذهابه، واضمحلاله لعلامات {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}: على الوحدانية والقدرة. ويشير إليها، ويخبر عنها: فالصامت لا يقدر على النطق، لأن مسكتاً أسكته، وهو الله (سبحانه)، والناطق لا يعجز عن النطق، لأن منطقاً أنطقه، وهو الله ( D) ، والمتحرك لا يعجز عن الحركة، لأن محركاً حركه، وهو الله ( D) : فكلٌ فيه دليل على الوحدانية والقدرة والملك. {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} معناه: من النجوم والشمس والقمر والجبال والشجر وغير ذلك. (لآيات) أي: لحجج وعلامات على توحيد الله (جلت عظمته).

{لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}: وهذه الآية تنبيه من الله D لعباده (على توحيده) وربوبيته. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي: لا يخافون الحساب والبعث. تقول العرب: " فلان لا يرجو فلاناً " أي: لا يخافه، ومنه قوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]: أي تخافون. وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد. وقال غيره: بل يقع بمعنى الخوف في كل موضع دل عليه المعنى. قوله: {وَرَضُواْ بالحياوة الدنيا} أي: جعلوها عوضاً من الآخرة {واطمأنوا بِهَا} أي: سكنوا إليها. {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي: عن أدلتنا وحجتنا معرضون، لاهون. {أولئك مَأْوَاهُمُ النار} أي: من هذه صفتكم مصيرهم إلى النار. {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (في) الدنيا من الآثام.

9

قال قتادة: {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} - الآية - إذ شئت رأيته صاحب دنيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يرضى، ولها يسخط. وقال ابن زيد: هم أهل الكفر. قوله {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} إلى قوله {العالمين}. المعنى: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعلموا بطاعة الله {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي: يرشدهم بإيمانهم إلى الجنة. وقال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام، قال: " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة يقول له: من أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صدق. فيقول (له): أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر بضد ذلك في الصورة

ينطلق به عمله حتى يدخله النار ". وقيل: المعنى يهديهم ربهم لدينه بإيمانهم به. أي: من أجل تصديقهم هَدَاهم. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم}. أي: في بساتين قد نعّم الله فيها أهل / طاعته. ومعنى {مِن تَحْتِهِمُ}: من دونهم وبين أيديهم، وليس هو أنها تجري (من) تحت ما هم عليه جلوس من أرض ونحوها. وهذا كما تقول: بلد كذا تحت بلد كذا. أي: بجوارها وبين أيديها. لا أنها تحتها: إحداهما فوق الأخرى. ومثل هذا قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24]. ومعلوم أن السري ليس تحتها، إذ كان السري: الجدول، وإنما معناه: أنه جعله دونها، أي: بين يديها. ومن هذا ما حكى

الله ( D) لنا من قول فرعون: {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} [الزخرف: 51] ومعلوم أن نيل مصر لم يكن تحته يجري، وهو عليه، وإنما كان (يجري) بجواره، وبين يديه ودونه. ثم قال تعالى إخباراً عن أهل الجنة {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم}. حكى سيبويه: الدعوى بمعنى الدعاء. فالمعنى دعاؤهم في الجنة: سبحانك اللهم. قال ابن جريج: وإذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم فيأتيهم الملك بما يشتهون فيسلم عليهم، فيردون عليه (السلام) فذلك قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}. فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله تعالى:

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}. والتحية: البقاء. ومنه قوله: " التحيات لله "، والتحية أيضاً: الملك، والتحية هي استقبال الرجل بالمُحَيَّا: وهو الوجه بما يسره من الكلام. وقيل: التحية في هذا بمعنى الحياة، أي: يُحيي بعضهم بعضاً. إنهم يحيون ولا يموتون، ويسلمون من كل شيء يحذرون. والسلام بمعنى السلامة. وقيل: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي: تحيه بعضهم لبعض فها سلام. أي: " سلمت وأمنت مما ابتلي به أهل النار ". وقيل: المعنى إن الله ( D) يحييهم بالسلام إكراماً منه (لهم). وقال سفيان: إذا أرادوا الشيء قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم ما

دعو (ا) به: ومعنى {سُبْحَانَكَ اللهم}: تنزيهاً لك يا ألله مما أضاف إليك أهل الشرك من الكذب. (وسئل النبي A، عن: سبحان الله، فقال: مفسراً تنزيهاً (لله) عن السوء). وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: هي كلمة رضيها الله ( D) لنفسه. فسبحان الله: كلمة ينزه بها (الله عن كل) فعْل مذموم أو متهم. (أللهم): وقف و (سلام): وقف. ومذهب سيبويه في {أَنِ الحمد للَّهِ} أنها مخففة من الثقيلة، والمعنى: أنه الحمد لله رب العالمين).

11

وأجاز المبرد أن يعملها - وهي مخففة - عملها مشددة. والرفع أقيس، لأنه قد زال منها شبه الفعل باللفظ لما خففت، ومن أعملها شبهها بالفعل الذي قد حذف منه وأعمل. نحو: " لم يكُ ". وقرأ بلال بن أبي بُرْدَةَ: " أنَّ الحمدَ " بالتشديد، ونصب " الحمد ". قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} قوله: {استعجالهم بالخير} تقديره عند سيبويه: " تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ثم حذف تعجيلاً، وأقام صفته (مقامه)، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه، وحكى " زيد: شرب الإبل " أي: يشرب شرباً مثل شرب الإبل.

وقال الأخفش والفراء: التقدير: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ} الشر مثل استعجالهم / بالخير، ثم حذف المضاف. ويلزمهما على هذا أن يجيزا. زيد الأسَد فينصب " الأسَد " أي: مثل الأسَد. وهذا لا يجيزه أحدٌ. ومعنى الآية: ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر - أي: فيما عليهم فيه مضرة في نفس، أو مال، أو ولد، وذلك عند الغضب - كما يستعجلون بالخير إذا دعوا في سؤالهم الرحمة، والرزق. {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لماتوا. قال مجاهد: هو قول الإنسان لولده، ولماله إذا غضب: اللهم لا تُبَارِكْ فِيهِ والْعَنْهُ ونحو ذلك، ولو عجل الله الإجابة فيه كما يريدون أن تستعجل لهم الإجابة في الخير إذا دَعَوا لأهلكهم. وقد قيل: إن هذا إنما هو قولهم:

12

{اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. فلو عجل لهم ذلك لهلكوا. ثم قال تعالى: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} (معناه): ندع الذين لا يخافون البعث، لا نُهْلِكُهُم إلى مدتهم، ولكن نذرهم {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: في ضلالهم يَتَحَيَّرُونْ. وهو مثل قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178]. قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً}. قوله: {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي مضطجِعاً، ف " لجنبه " في موضع الحال. قوله: {أَوْ قَاعِداً} عطف عليه على المعنى، وقيل: المعنى وإذا مس الإنسان الضر على إحدى هذه الأحوال دعانا. فالحال في القول الأول: من الضمير في {دَعَانَا} وفي القول الآخر: من (الإنسان). والعامل في الحال " مسّ "، وفي القول الاخر: " دعا ".

13

وقيل: المعنى إذا مسه على إحدى هذه الأحوال دعانا على إحدى هذه الأحوال، فيكون في الكلام حذف {لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} مرة أخرى، {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ}: أي: استمر على طريقته التي كان عليها، قبل أن يمسّه الضر، ونسي ما كان فيه، كأنه ما أصابه ضر، وكأنه ما دعا، وما استجيب له، وما كشف عنه ضره، فعاد إلى شركه كأنه لم يدع الله D في ضر (مسه). قوله: {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}: أي: كما زين له استمراره على ما كان عليه قبل نزول الضُّر به، بعد كشف الله ( D) عنه، {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ}: أي: للذين أسرفوا في العصيان، والكذب على الله D ورسوله، {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من معاصي الله تعالى. {أَوْ قَآئِماً}: وقف، {مَّسَّهُ}: وقف. قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} إلى قوله {كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

معنى الآية: أنها تحذير للمشركين أن يصيبهم ما أصاب من كان قبلهم إذا أشركوا. ومعنى {لَمَّا ظَلَمُواْ}: لما أشركوا. {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}: أي: من عند الله D بالحجج والبراهين. وقوله: {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي: لم يكونوا ليوفِّقوا إلى الإيمان لِمَا تقدم في علم الله D منهم. وقيل: المعنى ما كانوا ليؤمنوا جزاءً منه (لهم) على كفرهم طبع على قلوبهم، ودل على ذلك قوله: {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي: نطبع على قلوبهم، فلا يؤمنون جزاء بكفرهم. وقيل: المعنى: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم بشركهم، كذلك أفعل بكم بشرككم، وتكذيبكم رسلكم إن أنتم لم / تتوبوا وتؤمنوا. وقيل المعنى: ما كانوا ليؤمنوا جزاء بما كذبوا به أَوَّلاً بعد أن تبين لهم الحق، فكان ما ختم لهم به من ترك الإيمان عقوبة لهم على التكذيب أوَّلاً. ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} أي: جعلناكم أيها المخاطبون تخلفون من مضى من القرون الهالكة بشركهم {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}:

15

أي: كيف عملكم من عمل من كان قبلكم من القرون. وقد علم تعالى ما هم عاملون، ولكن أراد ظهور الأعمال التي تقع عليها المجازاة، فيستحقون العذاب، كما استحق من كان قبلكم إن أشركتم، أو الثواب الجزيل إن آمنتم. والعامل في " كيف (تعملون) ": لام " لننظر ". وروى عبد الحميد بإسناده عن ابن عامر {لِنَنظُرَ} بإدغام النون في الظاء وهو بعيدٌ جدّاً. قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} إلى قوله {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} والمعنى: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين القرآن، وهو الآيات البينات: أي: الواضحات {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا}: أي: لا يخافون العقاب، ولا يصدقون بالبعث. {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ}: أي غيِّره، أي: اجعل مكان الحلال حراماً،

واجعل مكان الحرم حلالاً، ومكان الوعيد وعداً، ومكان الوعد وَعيداً. ثم قال تعالى ذكره لنبيه أن يقول لهم: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي}: أي: ليس ذلك إليَّ، إنما الأمر إلى الله D. { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. قال قتادة: هذا قول مشركي أهل مكة. وقوله: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} يريدون ليس فيه ذكر البعث (والنشور وسبُّ) آلهتنا. ثم قال الله (تعالى ذكره): قل يا محمد لهم {لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ}: أي: لو شاء الله ما أنزل علي، فيأمرني بتلاوته عليكم، ولو شاء الله ما أنزله علي، فيأمرني بتلاوته عليكم، ولو شاء لم يعلمكم به. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ}: أي قد كنت فيكم أربعين سنة قبل أن ينزل علي القرآن فلم نتل عليكم شيئاً ولو كنت منتحلاً ما ليس لي بحق من القول

كنت قد انتحلته أيام شبابي وحداثتي قبل الوقت الذي تلوت فيه عليكم هذا القرآن. قال ابن عباس: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ}: أي: ولا أعلمكم به. وقال ابن جريج: ولا حذرتكم به. وقال الضحاك: ولا أشعركم به. وقرأ الحسن: " ولا أدرأتُكم به بالألف والتاء: وهي غلط عند النحويين، غير أن أبا حاتم، قال: يريد الحسن: ولا أدْرَيْتُكُمْ به، ثم أبدل من

الياء ألفاً على لغة بني الحارث بن كعب الذين يبدلون من الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفاً. وعلى ذلك تأوَّل قوم قراءة من قرأ {إِنْ هذان} [طه: 63]. وهذا القول من أبي حاتم يدل على أن الحسن لم يهمز (والرواية عن الحسن بالهمز) والتاء. ولو كانت بألف بعد الراء من غير همز، لكان لها وجه آخر وهو أن يكون من دَرَأتُ: أي: دفعت. فيكون المعنى: ولا أمرتكم أن تدفعوه. فأما الهمزة فبعيد. وقد حُكِيَ أن بعض العرب يهمز الحرف إذا ضَارَعَ المهموز، فيهمزون غير المهموز. حكى الفراء عن امرأة قالت: رثَأْتُ زوجي بأبيات. ويقولون: لبَّأتُ بالحج، وحَلأَّتُ السَّويق، فيهمزون، لأَن حَلأْت يقع في دفع العطاش من الإبل

17

فيُهمز. ولَبَّأْتُ يذهب / به إلى اللبأِ. وَرَثَأْتُ يذهب إلى الرَّثِيئَةِ: وهو أن يحلب على الرايب. يقال: أرثأت اللبن بالهمز. {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ}: أي: أربعين سنة، " تعرفونني بالصدق والأَمانة، لا أقرأ، ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إن هذا لا يكون إلا من عند الله ". قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله {يُشْرِكُونَ} والمعنى فمن أشد ظلماً يا محمد {مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً}: أي: اختلق على الله الكذب {أَوْ كَذَّبَ بآياته}: أي: بحُجَجِهِ، وَرُسله. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون} " الهاء " كناية عن الأمر، و " المجرمون ": الذين اجترموا من الكفر، أي: اكتسبوه. ثم وصفهم الله تعالى، فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ}:

19

وهي الأصنام، لا يضرهم ترك عبادتها، ولا تنفعهم عبادتها. وقال الطبري: المعنى: " ولا تنفعهم عبادتها في الدنيا، ولا في الآخرة. ثم قال عنهم: {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله}: كانوا يعبدون الأصنام، رجاء أن تشفع لهم عند الله سبحانه. ثم قال: (قل) - يا محمد - {أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض}: أي: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات، ولا في الأرض أن تشفع الآلهة لأحد. {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: أي تنزيهاً له وعلوّاً عن شركهم. قوله: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} إلى قوله: {مِّنَ المنتظرين} المعنى: ما كان الناس إلا أهل دين واحد، فافترقت بهم السبل. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: لولا أنه سبق في علمه ألا

يهلك قوماً إلا بعد أن يملي لهم، فتنقضي آجالهم " {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}: بأن يهلك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق ". قال مجاهد: كان الناس وقت آدم على دين واحدٍ، ثم اختلفوا إذ قتل أحدهم ابْنَيْ آدم أخاه. وقيل: يراد بالناس هنا: العرب. وقيل المعنى: إن كل مولود يولد على الفطرة، ثم يختلفون بعد ذلك. والأُمة: على خمسة أوجه: - الأُمة: " العُصْبة، والجماعة نحو {أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] ونحو: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ} [الأعراف: 159]. - والثاني: أن تكون بمعنى " الملة "، نحو: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}. ومثله الحرف الذي في هذه السورة.

{وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً}: أي: على ملة الإسلام، ومنه: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً} [المؤمنون: 52]، ومنه {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8]: أي: أهل ملة. - والثالث: أن تكون بمعنى " السنين والحين " نحو: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] ونحوه {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]. والرابع: أن تكون الأُمة بمعنى " قوم " نحو قوله: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي: قوم أكرم من قوم ومنه {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} [الحج: 34] أي قوم. - والخامس: أن تكون الأُمة بمعنى " الإمام ". نحو قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] أي: إماماً، يقتدى به في الخير. ثم أخبر عنهم تعالى فقال: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي: يقول

هؤلاء المشركون: هلا نزل عليه آية من ربه، يعلم بها أنه محقٌّ، صادق قال الله D: قل لهم يا محمد: {إِنَّمَا الغيب للَّهِ}: أي لا يعلم أحد، لو لم يفعل ذلك إلا هو، لأنه عالم الغيب. {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}: أي: انتظروا قضاء الله سبحانه بيننا وبينكم، بتعجيل العقوبة للمبطل /، وإظهار الحق للمحق. وقيل: المعنى: فانتظروا نصر الله المحق، وخذلانه المبطل. {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين}: أي: إني معكم منتظر من المنتظرين. لذلك. قوله: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} إلى قوله {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} جواب إذا محذوف عند سيبويه. والتقدير: من بعد ضراء مستهم مكروا. والعرب تجتزئ بإذا في جواب الشرط عن " فعلتُ وفعلوا ". والناس هنا: المشركون كما قال: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6].

قال الحسن: هو المنافق، والمعنى وإذا أذقنا الكفار فرجاً من بعد كرب أصابهم، ورخاء بعد شدة أصابتهم {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: " استهزاء، وتكذيب ". وقيل: يحتالون حتى يجعلوا سبب الرحمة في غير موضعه. قل لهم يا محمد: {الله أَسْرَعُ مَكْراً} أي: أسرع استدراجاًَ لكم وعقوبة. {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي: إن الحفظة يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا. ثم عدد تعالى نعمه فقال: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} وقرأ ابن عباس: " يَنْثُرُكم " من النثر: أيْ: يبسطكم براً وبحراً. {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك}: وهي السفن {وَجَرَيْنَ بِهِم} يعني: السفن

بالناس. {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، وفرح بذلك الناس {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ}، أي: جاءت السفن ريح. وقيل: جاءت الريح الطيبة ريحٌ عاصف، والعاصف: الشديدة. {وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي: من كل جانب. {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي: أيقنوا بالهلاك. {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: أخلصوا الدعاء له D، دون أوثانهم، وآلهتهم. (و) قيل: (لأنهم) يقولون: " آهيا شَرَاهِيّاًً ": تفسيره: يا حيُّ يا قيومُ {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} على نعمك (وتخليصك) (إيانا مما نحن فيه). {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض}، والفلك تذكر، وتؤنث، وتكون واحداً

وجمعاً (فمن جعلهما جمعاً) جعل واحدهما فلكاً كوُثْنٍ ووثَنٍ. وقوله: {إِذَا كُنتُمْ}، ثم قال: {وَجَرَيْنَ} فهذا من الرجوع من المخاطبة إلى الإخبار، ثم قال إخباراً عن فعلهم: {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي: يكفرون، ويعملون بالمعاصي على ظهر الأرض. وأصل النجاء: البعد من المكروه ومنه الاستنجاء، لأن الإنسان يبعد به عن نفسه الأذى. ثم قال تعالى: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}: أي: عليها يرجع. وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه متاع الحياة الدنيا. والبغي في اللغة: التطارُحُ في الفساد. ومن قرأ {مَّتَاعَ} بالرفع احتمل أن يكون خبر بغيكم، ويجوز أن يكون

خبر ابتداء محذوف، وتكون {على أَنفُسِكُمْ} خبر بغيكم. وتقدير ذلك " متاع الحياة الدنيا " أو هو متاع الحياة الدنيا، وبَيْنَ الرفعين فرق: وذلك أنك إذا رفعت " متاع " على أنه خبر " بغيكم "، كان المعنى: إنما بغي بعضكم على بعض متاع الحياة الدنيا مثل: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61]، و {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128]. وإذا رفعتَ " المتاع " على إضمار مبتدأ، وجعلت " على أنفسكم " خبر بغيكم كان المعنى: إنما فسادكم راجعٌ عليكم مثل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وهو معنى قراءة / من قرأ بالنصب. ويكون النصب على المصدر أي: تمتعون متاع الحياة الدنيا. {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: أي: إلينا ترجعون في الآخرة، فنخبركم بعلمكم، ونجازيكم عليه.

24

{بِغَيْرِ الحق}: وقف. (وقف)، إن جعلت {على أَنفُسِكُمْ} منصوباً، (أ) ومرفوعاً على إضمار مبتدإ. قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء} إلى قوله {مُّسْتَقِيمٍ}. قرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية: " وأَزْيَنَتْ " على وزن " أَفْعَلت ": أي جاءت بالزينة. وجاء على أصله غير مُعْتَل " كاستحوذَ ". وقرئ: " وازْيَّانَّت " مثل اسْوَادَّت.

وروى المقدميُّ " وازّايَنَتْ والأصل تَزَايَنَتْ على " تَفَاعَلَتْ ". والمعنى: إنما مثل ما تتفاخرون به في الدنيا، وتتباهون به من زينتها وأموالها، (مع) ما خالط ذلك من التنفِيض والتكدير والفناء والموت: كماء نزل من السماء فنبت بذلك أنواع النبات مما يأكل الناس: كالحنكة، والشعير، ومما تأكل البهائم من أنواع النبات. فإذا تم نباته، وحسُن، وأيقن أهل الزرع أنهم قد ملكوهُ، وأيقنوا بتمامه، وحصاده، وأن الحشيش لأنعامه مرعى {أَتَاهَآ أَمْرُنَا}: أي: أتى الأرض قضاءُنا في الليل أو في النهار، فجعلنا ما عليها حصيداً، أي: " مقطوعاً مقلوعاً ". والمراد به ما على الأرض، واللفظ للأرض. {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} أي كأن لم يكن ذلك الزرع، والنبات على

ظهرها بالأمس، (يقال: غني فلانٌ) بالمكان، إذا أقام به، والمعنى: كأن لم تعمُر بالنبات بالأمس. والمغاني: المنازل التي يعمرها الناس. وغنينا بمكان كذا أي: نزلناه. والمعنى: وكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم فينفيها. قال ابن عباس: فاختلط به نبات الأرض: فنبت بالماء من كل لون. ثم قال: {كذلك نُفَصِّلُ الآيات}: (أي): كما بينا لكم أيها الناس مثال الدنيا، كذلك نبين حججنا، وأدلتنا لمن تفكر، ونظر، واعتبر. والهاء في {أَتَاهَآ أَمْرُنَا} تعود على الأرض. وقيل: على الزخرف. أي: أتى زخرفها أمرنا. وقيل (على) الزينة: أي: أتى زينَتها أمرُنا ليلاً. وقرأ مَرْوَ (ا) ن على المنبر: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ

قَادِرُونَ عَلَيْهَآ}. وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. وذكر أن كذلك قرأها ابن عباس. وقال ابن عباس: كذلك أقرأني أبي بن كعب. وقال قتادة (كأن لم نغن بالأمس): " كأن لم تعش، كأن لم تنعم ". وكان أبو سلمة بن عند الرحمن يقرأ في قراءة أبي: كأن لم تغن بالأمس، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. ولا يحسن

أن يقرأ أحدٌ بهذه القراءة، لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون. وقوله: {يَتَفَكَّرُونَ}: وقف، ووقَفُ أصحاب نافع {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ}، وكذلك {فاختلط} [الكهف: 45] في الكهف. وتأويل ذلك " كماء أنزلناه من السماء فاختلط بالأرض " ثم استأنف فقال: {بِهِ نَبَاتُ الأرض}: أي بالماء نبات الأرض. ومن / جعل الوقف (والأنعام) رفع النبات. {فاختلط}: أي: فاختلط (نبات الأرض) بالماء. ثم قال تعالى: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} أي: يدعو إلى الجنة التي يسلم من دخلها من الآفات.

26

وقيل: المعنى يدعو إلى دَارتِهِ لأنه تعالى السلام، وداره الجنة. {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي يوفِّقُ من يشاء إلى الإسلام وهو طريقهُ المستقيم الذي لا عوج فيه: وهو سبب رضاه، ورضاه سبَبُ دخول الجنة. قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} إلى قوله {خَالِدُونَ} والمعنى: للذين أحسنوا عبادة الله D في الدنيا الحسنى وهي الجنة، (وزيادة)، يعني: النظر إلى وجهه جل ذكره، روي ذلك (عن) عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق Bهـ. وروى صهيب أن رسول الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار

النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة إنَّ لكم عند الله موعداً، يريد أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل الله موازيننا، ويبيّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، وينجينا من النار. فيُكْشَفُ الحجاب، وينظرون إليه جلَّ ذكره. قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من ذلك). وهذا القول قول أبي موسى الأشعري، وحذيفة، قاله ابن أبي ليلى، وغيرهم: (إن الزيادة): النظر إلى وجه الله تعالى، وذكر كل واحد حديثاً (مثل) معنى الحديث المذكور عن النبي عليه السلام.

وقال علي بن أبي طالب Bهـ: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، وقاله النخعي. وقال ابن عباس: الحسنى واحدة من الحسنات بواحدة، والزيادة: التضعيف إلى تمام العشرة على الواحدة. وهو مثل قوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]: أي: يزيده من فضله. وقال الحسن: الزيادة هو المجازاة بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف. وقال مجاهد: الحسنة بحسنة، وزيادة مغفرة من الله ورضوان. وقيل: الزيادة: ما أعطاهم الله D في الدنيا ولا يحاسبهم به يوم القيامة.

وقال ابن سيرين في قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]: إنه النظر إلى الله جلَّ ذكره. وعن ابن عباس أيضاً: {أَحْسَنُواْ} قالوا: لا إله إلا الله، {الحسنى}: الجنة. (وروى أبو موسى الأشعري أن النبي عليه السلام قال: إن الله D يبعث يوم القيامة منادياً ينادي أهل الجنة بصوت يسمع به أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة. فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. وقوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ}: أي لا تغشى وجوههم كآبة والقتر: الغبار وهو جمع قترة.

وقيل: هو الغبار الذي معه وساد، روي ذلك عن ابن عباس. وقال ابن أبي ليلى: ولا يغشاهم ذلك بعد نظرهم إلى الله سبحانه: فهؤلاء الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة، ماكثون فيها أبداً. وقيل: الهاء في " فيها " للحسنة، وقيل: للزيادة، وقيل: للحسنى، والزيادة، والجنة. ثم قال: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}: (أي والذين عملوا السيئات في الدنيا جزاؤهم في الآخرة سيئة بمثلها) أي: عقاب من الله D على ذلك. وقيل: المعنى: فله جزاء سيئة بمثلها كما قال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى}: أي: جزاء حسنة / بحسنة. ثم قال: {وَزِيَادَةٌ} يريد تمام العشر (ة) على الواحدة. {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}: أي: تغشاهم، {ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: من مانع من عقابه.

ومن قرأ " قطَعاً " - بفتح الطاء - فهو جمع قِطْعَة. واُخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدُ لأن المعنى: كأنما غشي وجه (كل إنسان منهم قطعة). ثم جمع ذلك لأنه قد جمع الوجه، فعلى كل وجه قطعة و " مظلماً " على هذا نصب على الحال من " الليل "، ولو كان نعتاً للقطع لقال مظلمةٌ. ومن قرأ " قِطْعاً " بإسكان الطاء فهو يجوز أن تكون جمع قطعة أيضاً، إلا أنه بقي السكون على حاله كما يقول: سِدْرَةٌ، وسِدْرٌ، وبُسْرَةٌ وَبُسْرٌ. فيكون " مظلماً " أيضاً على هذا حالاً من الليل.

28

ويجوز أن يكون " قطعاً واحداً " يريد به ظلمة من الليل، فيكون " مظلماً " نعتاً له، وإن شئت حالاً من الليل أيضاً. وقيل معناه: بقية من الليل كما قال: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} [هود: 81، والحجر: 65]: أي: ببقية منه، وهو اسم ما قطع من الليل وفي قراءة أُبَيْ: " كأنما يغشى وجوههم قِطْعٌ من الليل مظلمٌ ". ومعنى ذلك: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات ذلك. وقوله: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}: الباء زائدة، و {جَزَآءُ} مبتدأ، و {بِمِثْلِهَا}: الخبر. وقيل: " الباء " غير زائدة. وفي الكلام معنى الشرط، والمعنى: فله جزاء السيئة بمثلها. فالباء صلة للجزاء. قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} إلى قوله: {لَغَافِلِينَ} {مَكَانَكُمْ}: نصب بإضمار فعل، والمعنى: امكثوا مكانكم، وقفوا موضعكم. (جميعاً): حال

(من الهاء والميم) في نحشرهم. والمعنى: نحشرهم لموقف الحساب، ثم نقول للذين أشركوا بالله سبحانه غيره، {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ}: أي: انتظروا حتى يفصل بينكم. و " مكانك وانتظر ": فتوعد بهما العرب. {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}: أي فرقنا بين المشركين وما كانوا يعبدون من دون الله، من قولهم: زلتُ الشيء عن الشيء فأنا أزيله: إذا أنْجَيْتُهُ، وَزَيَّلْنَا على التكثير. وحكى الفراء أنه قرأ " فَزَايَلْنَا ". يقال: لا أزايل فلاناً: أي: لا أفارقه، لا أخاتله. فمعنى زايلنا: معنى: زيلنا. والعرب تفعل ذلك في فَعَّلت " يلحقون أحياناً الألف مكان التشديد فتقول: فاعلت، والفعل واحد. {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}: أي: تقول آلهتهم التي عبدوها في الدنيا

30

(لهم): لم تكونوا إيانا تعبدون لأنا ما كنا نسمع، ولا نبصر، ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا. قال مجاهد: تكون يوم القيامة ساعة فيها شدة تنصب لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون. فتقول الآلهة: والله ما كنا نسمع، ولا نبصر، ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا. فيقولون: والله لإياكم كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ}. وكان مجاهد يتأول الحشر هنا الموت. قوله: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} إلى قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ}. {هُنَالِكَ}: نصب على الظرف، واللام زائدة، وكسرت لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب. والمعنى: في ذلك الوقت. ومن / قرأ " تتلو " بتاءين فمعناه: في ذلك الوقت تتبع كل نفس ما قدمت من عمل.

روي عن النبي A أنه قال: " يَمْثُلُ لكل قوم ما كانوا يعبدون من جون الله سبحانه فيتبعونه حتى يردوا بهم إلى النار. ثم تلا هذه الآية ". والعرب تقول: فلان " يتلو طريقة أبيه ": أي: يتبع، ومنه قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17]. وقيل: معنى {تَبْلُواْ} تقرأ. أي: في ذلك الوقت يقرأ كل إنسان ما أسلفه في الدنيا من عمل، أي: يقرأ كتاب حسابه كما قال: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13]. وقال ابن زيد: تتلو: تعاين ما عملت.

ومن قرأ " تبْلو " فمعناه: تختبر كل نفس ثواب ما عملت من خير، أو شر. وتصديق ذلك قوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} [الطارق: 9]، والقراءتان متقاربتان، لأن من اختبر شيئاً فقد اتبعه ليختبره ومن اتبع شيئاً فهو أقرب الناس إلى اختباره وقراءته ومعاينيه. قوله: {مَوْلاَهُمُ الحق} يجوز نصب الحق على المصدر المؤكد لردوا، أو لمولاهم. ويجوز نصبه على المدح بمعنى " أغنى " ويجوز الرفع على " هو مولاهم الحق "، والخفض على النهت لله D. { وَضَلَّ عَنْهُمْ}: أي: بطل ما كانوا يفترون، أي: يتخرصون من الأنداد والآلهة. و " ما " والفعل مصدر في موضع رفع بـ (ضَلَّ).

ثم قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض}: أي: من ينزل من السماء الغيث، ومن خلق المصالح التي بها تم معاشكم: من شمس وريح، وحر وبرد. ومن الأرض والنبات، والعيون والمنافع. {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار}: أي: يملكها، ويزيد في قواها، أو يسلبكموها ومن يملك الأبصار أن تضيء لكم، أو يذهب بنورها. ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. قد تقدم ذكرها في آل عمران. قوله: {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر}: أي: " أمر السماء والأرض ومن فيهن " {فَسَيَقُولُونَ الله}: أي: الذي فعل ذلك الله D فقل له يا محمد: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}: أي: " أفلا تخافون عقاب الله سبحانه على شرككم ". {فَسَيَقُولُونَ الله}: وقف. ثم قال تعالى: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ}: أي: ذلكم الله الذي فعل هذه

الأشياء واخترعها هو {رَبُّكُمُ الحق}: أي: الذي لا شك فيه. {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} (المعنى: أي: منزلة بعد الحق إلا الضلال. أي: من ترك الحق حل في الضلال). {فأنى تُصْرَفُونَ} أي: من أين تصرفون عن الحق، وأنتم مقرون بالله سبحانه مخترع جميع هذه الأشياء. ثم تعبدون من لا يخلق شيئاً، ولا يملك ضراً ولا نفعاً. {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} الكاف من كذلك في موضع نصب والتقدير: كما صرف هؤلاء عن الحق إلى الضلال {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا}: أي: خرجوا من دين الله سبحانه. {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}: أن في موضع نصب على معنى بأنهم، أو لأنهم. وقال الزجاج: يجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من الكلمات، وأجاز الأخفش، والفراء في الكسر في أن على الإلزام لترك الإيمان.

34

وقيل: المعنى " حق عليهم أنهم لا يؤمنون ". " فإن ": في موضع رفع خبر " حق ". ومعنى: (حقت عليهم كلمات ربك): أي: وجب عليهم في علمه، وفي السابق في اللوح المحفوظ {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. قوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلى قوله {تَحْكُمُونَ}: والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: / {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} أي: آلهتكم. {مَّن يَبْدَأُ الخلق} أي: ينشؤه من غير أصل، ولا مثال، {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: أي: ثم يَفْنِيهِ، إذا شاء، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه، فإنهم لا يدعون ذلك لآلهتهم. وينقطعون، فقل لهم: {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد إفنائه {فأنى تُؤْفَكُونَ}: أي: من أي وجه تصرفون وتقلبون عن الحق. {ثُمَّ يُعِيدُهُ}: وقف. ثم قال تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} وسيبويه يمنع الكسر في (يهدي) في الياء، ويجيزه في التاء، والنون، والهمزة لأن الكسر ثقيل في الياء،

والكسر في الهاء إنما يجوز لالتقاء الساكنين. وأما قراءة من قرأ يهدي بالتخفيف والإسكان. فقال الكسائي والفراء: (يهدي) بمعنى (" يهتدي "). وقال المبرد: لا يُعرف " هدى " بمعنى " اهتدى " قال: ولكن التقدير: أَمَّنْ لا يهدي غيره. ثم قال: {إِلاَّ أَن يهدى} على الاستثناء المنقطع، كأنه تم الكلام عند قوله {أَمَّن لاَّ يهدي} ثم استأنف فقال: " لكنه يحتاج أن يهدي ". وروي عن ابن عامر: " إلا أن يَهَدِّي " بالتشديد. وقوله: {فَمَا لَكُمْ} هذا تمام الكلام عند الزجاج، والمعنى: فأي شيء لكم في عبادة الأصنام.

ثم قال: (لحين تحكمون) كيف في موضع نصب بـ " تحكمون ". ومعنى الآية هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، أي: يرشد إليه ضالاً. فإنهم لا يدعون ذلك، إذ عجزهم يمنعهم من ذلك. فقل لهم يا محمد: {الله يَهْدِي لِلْحَقِّ}: أي: يرشد الضُّلال إلى الهدى. {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} إلى ما يدعو إليه {أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى}: أمَّن لا ينتقل من مكانه إلا أن (ينقل): وقف، {إِلاَّ أَن يهدى} وقف. {فَمَا لَكُمْ} وقف عند أبي حاتم، والزجاج، وابن الأنباري.

36

وقال غيرهم: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هو التمام. قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} إلى قوله {مِن رَّبِّ العالمين} والمعنى: ما يتبع أكثر هؤلاء إلا ظناً، أي: يتبعون ما لا علم لهم بحقيقته، وإنما هم في اتباعهم ما يتبعون على شك. {إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً}: أي: " إن الشك لا يغني من اليقين شيئاً، ولا يقوم في شيء مقامه ". ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} أي: ما كان افتراءً، ولكنه من عند الله سبحانه. وقيل: المعنى: ما كان لأحد أن يأتي به من عند غير الله، وينسبه إلى الله D لإعجازه. {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}: أي: ولكن كان تصديق التوراة، والإنجيل، وغيرهما من الكتب. {وَتَفْصِيلَ الكتاب}: أي: وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد في

38

سابق علمه، من المفروض في الأعمال، والسعيد الشقي. {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: لا شك أنه كذلك. وقيل: المعنى: ولكنه تصديق الشي الذي القرآن بين يديه، وهو: الكتب المقتدمة، مثل القول الأول في المعنى. وقيل: إن هذا إنما هو جواب لقولهم {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} [يونس: 15]، أو جواب / لقولهم {افتراه} [يونس: 38]. قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} إلى قوله {عَاقِبَةُ الظالمين} أم: هنا بمنزلة الألف، لأنها قد اتصلت بكلام قبلها، ولا تكون كالألف مبتدأ بها: وقيل: هي هنا بمعنى: بل. وقيل: إنها تغني عن الألف وبل. ومعنى الكلام: " هذا تقرير لهم لإقامة الحجة عليهم ". ومعناه: أيقول:

هؤلاء المشركون: اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه. فأمر الله D نبيه أن يقول لهم: ما نبين لهم أنه لا يمكن أن يكون من عند بشر، فإن أمكن فقل لهم يا محمد: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أي: مثل هذا القرآن. فإذا لم تقدروا وأنتم جماعة فصحاء، دل عجزكم على أن محمداً لم يختلقه من عند نفسه، إذ لا يمكن أن يكون من عند بشر، بدلالة عجزكم عن الإتيان بسورة مثله. وقيل: المعنى: ايتوا بسورة مثل سورته، ثم حذفت السورة مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. ثم قال تعالى: {وادعوا مَنِ استطعتم (مِّن دُونِ الله)}: أي: استعينوا بمن قدرتم عليه في الإتيان بالسورة، واجتهدوا، وأجمعوا أولياءكم، وشركاءكم من دون الله سبحانه للمعونة على ذلك فأتوا بذلك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في قولكم: إن محمداً اختلقه.

40

ثم قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ}: يعني: الوعيد الذي توعدوا له لم يروه بعد، ولم يحيطوا بعلمه فكذبوا به (ولما يأتهم تأويله) أي: لم يأتهم بعدما يؤول إليه أمرهم. فالمعنى: إنهم يا محمد إنما كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وليس بهم التكذيب لمحمد. {كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ}: أي: كذا كانت سبيلهم وقيل: المعنى: كما كذب هؤلاء يا محمد كذبت الأمم التي من قبلهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين}: أي: اعتبر كيف أهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالغرق، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالخسف، فإن عاقبة هؤلاء الذين كذبوك كعاقبة من تقدم من الأمم. {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}: وقف حسن. قوله: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} إلى قوله {يَظْلِمُونَ} أخبر الله D نبيه في هذه الآية: أن من قريش من يؤمن بالقرآن فيما

يستقبل، ومنهم من لا يؤمن به أبداً. سبق كل ذلك في علمه تعالى. وقيل: المعنى: ومنهم من يصدق بالقرآن، ويظهر الكفر عناداً، واتقاء على رياسته، {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} سراً ولا علانية. ثم قال تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي: لي ديني وجزاؤه، ولكم دينكم وجزاؤه. {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ} لا تؤاخذون به {وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} لا أؤاخذ به: هذا مثل قوله: {قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2]. وهذا كله أمر بالمواءمة نسخ ذلك بالأمر نسخ ذلك بالأمر بالمحاربة، والقتل في " براءة " وغيرها. وقيل: معناه، وفائدته: فقل لي علم عملي: أي: ذلك عندي، وعلم عملكم عندكم، أي: عندي علم ثواب عملي، وهذا مثل قول النبي، عليه السلام، " كل عمل ابن

آدم له إلا الصوم "، أي: عنده علم ثوابه: الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم، فهو أعظم أجراً من ذلك. وقال ابن زيد: هذه الآية منسوخة، نسخها الأمر بالقتال. ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}: أي: / يستمعون القرآن. قوله: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} أي: تخلق لهم سمعاً، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، فكأنهم من شدة عداواتهم، وانحرافهم عن قول النبي بمنزلة الصم. وقيل: إن هذا إعلام من الله D لعباده أن التوفيق إلى الإيمان بيد الله، ومثله الكلام على قوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ}: وهو نظر الاعتبار إلى حجج النبي وإعلامه على نبوءاته ولكن الله D سلبه التوفيق فلا يقدر أحد على هدايته، كما

لا يقدر أحد أن يحدث للأعمى بصراً. هذه الآية تسلية من الله، جلَّ ذكره، لنبيه عن جماعة من كفر به من قومه. وقيل: المعنى: ومنهم من يقبل عليك بالاستماع، والنظر، وهو كالأصم، والأعمى من بغضه لك يا محمد، وكراهيته لما يراه من آياتك، فهو كالأصم، والأعمى، إذ لا ينتفع بما يرى، ولا بما يسمع كما قال: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19]. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً}: أيك لا يبخسهم حقهم، فيعاقبهم بغير كفر {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. وقال الفراء: إذا كانت " لكن " لا وَاوَ معها أشبهت " بل ".

45

فتؤثر العرب تخفيفها، ليكون ما بعدها بمنزلة " ما " بعد " بل " من الابتداء والخبر إذا كانت مثل " بل "، وإذا كانت معها الواو، وخالفت بل، فتؤثر العرب التشديد لينصبوا ما بعدها، فيخالفوا به ما بعد بل، كما خالفت هي بل. والناس يظلمون أنفسهم باكتسابهم الخطايا التي توجب العقاب على أنفسهم. والمعنى: أن الله جلَّ ذكره، لم يهمل الناس، بل أرسلهم إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، واتخذ عليهم الحجة بالعقل، والسمع، والبصر. ثم جازاهم بأعمالهم بعد أن أمرهم، ونهاهم، فأكرم الطَّائِعَ، وأهان العَاصِيَ، وهذا هو العدل الظاهر البيّن. قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} إلى قوله {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} المعنى: ويوم نحشر هؤلاء المشركين، كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم، ثم انقطعت المعرفة. الآن وقد خسروا أنفسهم بتكذيبهم بآيات الله D ولقائه سبحانه.

{وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}: أي: موفقين للهدي. وقيل: معنى {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي: يعرف بعضهم بعضاً بالإضلال والفساد، والجحود. وذلك أشد لتوبيخهم. وقيل: المعنى {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يقولون: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله. ومعنى: {لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} أي: قرب عندهم موتهم، وبعثهم كما قالوا: {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19 والمؤمنون: 113]. ثم قال تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)}: أي: " نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي تعد هؤلاء المشركين من العذاب، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن نريك ذلك فيهم "، {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بكل حال {ثُمَّ الله شَهِيدٌثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} على أفعالهم. قال مجاهد: الذي أراه وقعة بدر. وقيل: المعنى: أن الله أعلم نبيه (" إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم

منهم في الآجل " وقد تقدم ذكره. {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} وذكر معنى، ثم قال: {وَلِكُلِّ / أُمَّةٍ رَّسُولٌ}: أي: وأرسل إلى كل أمة خلت رسولاً كما أرسل محمداً إليكم أيها الناس لينذركم. {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ} يعني: في الآخرة {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} أي: بالعدل. قال مجاهد: إذا جاء رسولهم يعني: يوم القيامة. وقيل: المعنى: ولكل أمة رسول يشهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وهو مثل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والمعنى الأول مثل قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. ثم قال تعالى ذكره حكاية عن قول المشركين:

50

{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}: أي: متى قيام الساعة التي تعدنا به يا محمد. فأمر الله D أن يقول لهم: {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أن أملكه فادفع عنها به الضر وأجلب إليها به النفع. فأنا إذا كنت لا أقدر على نفع نفسي، ولا أقدر على دفع الضر عنها (فأنا عن القدرة على الوصول إلى) علم الغيب، ومعرفة قيام الساعة (أعجز وأعجز إلا بمشيئته لي في ذلك). {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي: لكل قوم ميقات لانقضاء مدتهم، لا يستأخرون عنه ساعة، ولا يتقدمونه بساعة. وذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الأوقات، والوقت المقدر في انقضاء مدتهم: أقل من الساعة وأقرب. قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} إلى قوله {تَكْسِبُونَ}. قوله: {مِنْهُ المجرمون} الهاء: تعود على العذاب، وقيل: على اسم الله D.

ويشهد لرجوعها على " العذاب " قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [الحج: 47 والعنكبوت: 53]، ويشهد لرجوعها على الله سبحانه قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 - 2]، فإذا جعلتها عائدة على " العذاب "، " فما " في موضع رفع بالابتداء، وإذا جعلتها بمعنى " الذي " خبر " ما " ويجوز أن تكون " ما " و " ذا " شيئاً واحداً في موضع رفع. والخبر في الجملة، وإن جعلت " الهاء " تعود على اسم الله سبحانه وجعلت " ما " و " ذا " اسماً واحداً كانت " ما " في موضع نصب بمستعجل والمعنى: أي شيء يستعجل من الله المجرمون، وإن جعلت " ما " اسماً، و " ذا " بمعنى " الذي " كانت كالأولى: ابتداء وخبر. وكون الهاء تعود على العذاب أحسن لقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}. والمعنى: قل لهم يا محمد: أرأيتم إن أتاكم هذا الذي تستعجلون به من العذاب

ليلاً أو نهاراً ما يستعجل من نزول العذاب المجرمون، وهم لا يقدرون على دفعه. فمعنى الكلام: الإنكار عليهم لاستعجالهم بأمر، لا يقدرون على دفعه إذا حل بهم. ثم قال تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ}. قال الطبري: " أثم " بمعنى " هنالك " إذا وقع العذاب بكم آمنتم بالله D. وليست عنده، ثم التي للعطف وهو غلط منه. وإنما التي تكون بمعنى " هنالك " هي المفتوحة / الثاء بمنزلة قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً} [الإنسان: 20]. والتقدير عند غيره أنها " ثم " التي للعطف. وفي الكلام حذف. والتقدير: أتأمنون إذا نزل بكم العذاب، فتؤمنون ثم يقال لكم: الآن آمنتم، وقد كنتم تريدون استعجاله، وحلوله بكم، فلما عاينتم حلوله آمنتم حين لا ينفعكم الإيمان، وهو مثل قوله: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ} [غافر: 84] إلى قوله {بَأْسَنَا} [غافر: 85]: أي: لم ينفعهم الإيمان

عند معاينة العذاب. كذلك سنة الله D في الكافرين لا يقيلهم من كفرهم عند معاينتهم العذاب. و" آلآنَ " عند الفراء أصلها: أوان، ثم حذغت الهمزة الثانية منها، وقُلِبَتْ الواو ألفاً، ثم دخلت الألف واللام وبنيت على الفتح. وقيل: أصلها " آن " مثل " حان " ثم دخلتها الأف واللام، وبقيت على فتحها مثل: " قيل، وقال ". وقال الزجاج: لا يحسن هذا القول: لأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الألف واللام، كما لا تدخل على " قيل ". وقال سيبويه: سبيل الألف واللام أن يدخلا لمَعْهُود، و " الآن ": ليس بمعهود، وإنما معناه: " نحن في هذا الوقت نفعل كذا، فلما تضمنت هذا بنيت على الفتح ".

53

قوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}: أي: ظلموا أنفسهم. {ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد}: أي: العذاب الدائم. هل تجزون إلا ما علمتم في حياتكم من المعاصي، وما اكتسبتم في دنياكم. قوله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} إلى قوله {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. {أَحَقٌّ هُوَ} هو: ابتداء، وخبره " أحق ". وقال سيبويه: (أحق): ابتداء، وهو فاعل يسد مسد الخبر. ومعنى الآية: ويستخبرك يا محمد هؤلاء المشركون: أحق ما تعدنا به من الآخرة، ومن المجازاة على أعمالنا. قل لهم يا محمد: {إِي وربي}: نعم وربي: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي: إن الذي يعدكم من ذلك، لحق آت لا شك فيه. {أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي: لستم تعجزون الله إذا أراد بكم أمراً بهرب، ولا

امتناع. {إِي وربي}: وقف، كما تقول: " نعم والله ". والتمام: إنه لحق. ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض}: " أَنَّ ": في موضع رفع فعل مضمر، لأن حق لو (أ) لا يليها إلا الفعل مضمراً، أو مظهراً. فسبيل ما بعدها أن يكون مرفوعاً بالفعل المقدر. والمعنى: ولو أن لكل نفس كفرت بالله سبحانه، وآياته، (جلت عظمته) ما في الأرض، من قليل، أو كثير لافتدت به من عذاب الله إذا عاينته. وذلك لا يكون لها أبداً، ولو كان لها لافتدت به، ولو افتدت به لم يقبل منها. قوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة}: أي: أسَرَّ كثيراً. وهي الندم من ضعفائهم حين عاينوا العذاب، وعلموا أنه واقع بهم. وقيل: المعنى: (وأسروا): أظهروا الندامة عند ذلك. قال المبرد: معناه: بدت الندامة في أسرة وجوههم، وهي الخطوط التي في الجبهة، واحِدها سِرارٌ.

56

{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط}: أي: بالعدل. ثم قال تعالى منبهاً: (أَنَّهُ غَنِيٌ عما في الأرض (و) لو افتدوا به) وأنه لا يملك هذا الكافر شيئاً: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}: فليس للكافر شيء يفتدي به. ثم قال: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}: أي: عذابه الذي استعجله / هؤلاء المشركون حق واقع لا شك فيه. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}: حقيقة ذلك، فهم من أجل جهلهم يكذبون. قوله: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى قوله: {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. والمعنى: والله D يحيي ويميت، فلا يتعذر عليه إحياؤهم بعد مماتهم. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. و" ألا " في جميع هذا تنبيه. ثم قال تعالى: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور}: وهو القرآن، يذكركم عقاب الله D، وثوابه، جلت عظمته.

{مِّن رَّبِّكُمْ}: أي: لم يختلق ذلك محمد، بل هو من عند الله D، { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور}: أي: دواء لما في الصدور من الجهل بالله سبحانه، وآياته، وفرائضه، وطاعته، ومعاصيه. {وَهُدًى}: أي: " وبيان لحلاله وحرامه ". {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: يرحم به من يشاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، فهو رحمة للمؤمنين، وعمى للكافرين، كما قال: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]. ثم قال تعالى: قل - يا محمد - {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي: بفضل الله D، وهو الإسلام الذي تفضل على العباد المؤمنين بالهداية إليه وبرحمته سبحانه التي رحمكم، فاستنقذكم من الضلالة. {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}: وعن ابن عباس أنه قال: فضل الله D القرآن، ورحمته سبحانه أن جعلهم

من أهل القرآن. وهو قول مجاهد. والعرب تأتي " بذلك " للواحد والاثنين والجمع، وهو هنا للاثنين. وقرأ يزيد ابن القعقاع: " فلتفْرَحُوا " بالتاء، ورواها عن النبي A، وقرأ أُبَيّ بالتاء في الحرفين. وفي حرف أبَي: " فبذلك فافرحوا ". وقيل: الفضل هنا الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال أبو سعيد الخدري الفضل: القرآن، والرحمة: أن جعلكم من أهله. وروي عن ابن عباس أيضاً: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام. وهو قول زيد ابن أسلم، والضحاك.

{خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: أي: من الأموال. ومن قرأ " فلترحوا " بالتاء، ويجمعون بالياء. فمعناه: فبذلك فافرحوا يا أيها المؤمنون. هو خير مما يجمع الكفار من الأموال. ومن قرأهما بالتاء، فعلى المخاطبة للمؤمنين. ومن قرأهما بالياء، فعلى الأمر للكفار: أي: فبالقرآن، والإسلام فليفرح هؤلاء المشركون. {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: من الأموال. {مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55]: وقف. {يَوْمَ القيامة} [يونس: 60]: وقف عند أحمد بن جعفر.

59

قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} - إلى قوله - {يَشْكُرُونَ}: والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتم الذي أنزل الله إليكم من رزق، وحوَّلكموه فَحَلَّلْتمْ بعضه، وحرمتم بعضه: وذلك أنهم كانوا يحرمون بعض أنعامهم، وبعض زروعهم، وقد ذكر ذلك في المائدة، والأنعام. ومعنى الآية: أنها نهي عن تحليل ما حرم الله. وعن تحريم ما أحل الله سبحانه، وعن تحليل ما لم يأذن الله بتحليله، وتحريم ما لم يأذن بتحريمه. {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ}: أي: تختلقون ما لم يأمر به. ثم قال تعالى: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذبإن الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي: ما ظن هؤلاء الذين

61

يحرمون ما أحل الله، فيختلقون ما لم يأمر به، ويتخرصون عليه / ما لم يقل. إن الله يفعل بهم يوم القيامة، أيحسبون أنه يصف عنهم؟ كلا، بل يصليهم سعيراً. {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}: أي: ذو تفضل على خلقه، بتركه معاجلة من افترى على الله الكذب بالعقوبة في الدنيا. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} على تفضل الله D عليهم. قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} قوله: {تَتْلُواْ مِنْهُ}: " التاء " تعود على الشأن. والمعنى " وما تتلو من الشأن. أي: من أجل الشأن، أي: يحدث شأن، فيتلى القرآن من أجله ليعلم كيف حكمه ". وقال الطبري: {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ}: أي: من كتاب الله D. { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}: أي: عملاً. " ومن " زائدة للتأكيد. {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً}: أي: " إلا ونحن شهود لأعمالكم " إذا عملتموها. ومعنى: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}: أي: إذ تفعلون.

وقال الضحاك: المعنى: إذ " تشيعون " في القرآن من الكذب وقيل: المعنى: " إذ تنتشرون فيه ". وقيل: إذ " تأخذون فيه ": أعلم الله D المؤمنين أنهم لا يعملون عملاً إلا كان شاهده وقت عملهم له. ثم قال: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي: وما يغيب عن ربك مثقال ذرة. " وَلاَ أَكْبَرَ وَلاَ أَصْغَرَ ". عن نصب عطفه على لفظ " مثقال "، وعلى لفظ " ذرة ". وهو لا ينصرف، وموضعه خفض. ومن رفع، رفعه على موقع مثقال، لأن " من " زائدة للتوكيد. والمعنى: ليس يغيب عن ربك يا محمد من أعمال العباد زنة ذرة، وهي النملة

62

الصغيرة. ولا يغيب {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}: أي: هو محصى في كتاب مبين: فكل عنده في اللوح المحفوظ، ومن باطن وظاهر، والحفظة يكتبون ما ظهر لهم من الأعمال التي تقدمت في اللوح المحفوظ، وما خفي عنهم من أعمال بني آدم، وأسرارهم لا يكتبونه ولا يعلمونه. وعلمه كله عند الله D مثْبت في اللوح المحفوظ، لا يعزب عنه منه شيء. قوله: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إلى قوله {الفوز العظيم}. " ألا ": تنبيه، وأولياؤه ": قوم يُذكَر الله D عند رؤيتهم، لما عليهم من سمات الخير، والإخبات: قاله ابن عباس. وروي ذلك عن النبي، عليه السلام. وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم. قال: هم قوم متحابون في

الله D من غير أموال، ولا أنساب. وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ: {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} " ثم قال تعالى: {الذين آمَنُواْ (وَكَانُواْ) يَتَّقُونَ}: أي: هم الذين آمنوا بالله D ورسوله، وبما جاء من عند الله سبحانه {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}: محارمه. {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال عروة بن الزبير، ومجاهد: " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له ". قال أبو الدرداء: " سألت النبي A، عن هذه الآية فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل، وتُرى له، وهي / جزء من سبعة وأربعين جزءاً من النبوءة ".

وعن ابن عباس أنه قال: هو قول الله D لنبيه: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب: 47] قال: " (هي) الرؤيا الصالحة ". وبشرى الآخرة الجنة. وعلى هذا أكثر أهل التفسير. وقال قتادة، والزهري هي: بشرى عند الموت في الدنيا. وقال الضحاك: يعلم أين هو قبل الموت، ويدل على هذا القول قوله: {يُبَشِّرُهُمْ (رَبُّهُم) بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} [التوبة: 21] الآية. وقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} الآية. [فصلت: 30].

65

وقال أبو ذر: " سألت النبي عليه السلام: فقلت: الرجل يعمل لنفسه خيراً، ويحبه الناس. فقال: تلك عاجل بشرى المؤمنين في الدنيا، وفي الآخرة إأذا أخرجوا من قبورهم ". {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله}: أي: لا خُلف لوعده. لا بد أن يكون ما قاله تعالى. {ذلك هُوَ الفوز}: أي: البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة: {هُوَ الفوز العظيم}. والفوز: الظَّفر. قوله: {لِكَلِمَاتِ الله} وقف. قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} إلى قوله {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} والمعنى: ولا يحزنك يا محمد تكذيبهم لك، واستطالتهم عليك. {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً}: أي: له عزة الدنيا والآخرة، فهو ينتقم من هؤلاء. {هُوَ السميع العليم}: أي: ذو سمع لما يقولون، وما يقول غيرهم، وذو علم

بهم وبغيرهم، ودل هذا النص على أن كل عزيز في الدنيا فالله ( D) . أعَزَّه، وكل ذَليل، فالله سبحانه أذله. ثم قال تعالى: {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض}: أي: له كل شيء. فكيف يعبد هؤلاء غيره؟ فليس يدعون في عبادتهم الأصنام شُرَكاءَ له لأن كل شيء له. ما يتبعون في عبادتهم لها إلا الشك، وما هم إلا يتخرصون والعامل الناصب للشركاء: " يدعون "، ولا يعمل فيه " يتبع " لأنه نفي عنهم. وقد أخبرنا الله أنهم يعبدون الشركاء. ومفعول " يتبع " قام مقامه. {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} لأنه هو، فكأنه قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. فالظن مفعول " يتبع "، و " شركاء " مفعول يدعون. قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}: أي: تستريحون فيه من

تصرفكم. وجعل النهار مبصراً فيه على النسب بمنزلة {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]. {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}: أي: يسمعون هذه الأدلة فيفهمونها، ويتَّعِظون بها. ثم قال تعالى حكاية عن قوم الكفار: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} يعني: قولهم: إن الملائكة بنات الله. سبحانه: أي تنزيهاً له من ذلك، ومن كل السوء. {هُوَ الغني} أي: الغني عن خلقه، فلا حاجة له إلى ولد. {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي: يملك جميع ذلك، فأي حاجة له إلى ولد، وكيف يكون عبده ولداً له. وأيضاً: فقد أقررتم أيها الجاهلون أنه لا شبه له، ولا مثل، وعلمتم أن الولد يشبه الوالد، وأنه من جنس والده يكون. فواجب أن يكون الولد الذي ادعيتم مثل الوالد. فقد أوحيتم بذلك أن له مثلاً، وشبيهاً، لأن ولده / مثله. وإذا وجب ذلك زالت عنه صفة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وإذا زالت هذه الصفة عنه، فقد

نقصت صفاته عن الكمال. والناقص محدث، ففي إيجابكم له الولد، إيجابكم أنه محدث، وتعطيل للربوبية، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لا إله إلا هو، لم يلد ولم يولد، فلا شبيه له ولا مثيل، ولا نظير. ليبس كمثله شيء، لا إله إلا هو. () قوله: {إِنْ (عِندَكُمْ) مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ}: أي: ما عندكم أيها القوم من حجة بقولكم. {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: أي: لا تعلمون حقيقته، وصحته، فتضيفون ذلك إلا من يجوز إَافته إليه بغير حجة. ولا برهان. ثم قال تعالى لنبيه: قل يا محمد: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب}: أي: يتخرصون، ويختلقون الكذب على الله. {لاَ يُفْلِحُونَ}: أي: " لا يَبْقَوْنَ في الدنيا "، والفَلاَح: البقاء. {مَتَاعٌ فِي الدنيا}: أي: لكن لهم متاع في الدنيا.

71

وقيل: افتراؤهم متاع، وقيل: المعنى: ذلك متاع، وقيل: هو متاع. وقيل: التقدير إنما ذلك متاع، أو إنما هذا متاع، أي: يمتعون به إلى الأجل الذي كتب لهم. {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي: يرجعون إلينا عند انقضاء أجلهم الذي كتب لهم. {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد} وهو عذاب النار بكفرهم بالله سبحانه، وبرسله صلوات الله عليهم، وكتبه. قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} إلى قوله {مِنَ المسلمين}. قوله: وشركاؤهم: قال الكسائي، والفراء: هو بمعنى: وادعوا شركاءكم. وقال المبرد: نصبه على المعنى، كما قال متقلداً سيفاً ورمحاً، وقال الزجاج هو مفعول معه. وروى الأصمعي عن نافع: " فاجْمَعُوا " موصولة الألف من: جمَع، وهي قراءة

الجحدري. وهما لغتان: جمع وأَجمع. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى ويعقوب: " فأجْمِعُوا أمركم وشركاؤُكم بالرفع، عطفا على المضمر في " أجمِعوا ": وحسن ذلك لما حال بينهما بالمفعول، فقام مقام التوكيد. وقيل: إن " الشركاء " رفع بالابتداء، والخبر محذوف. أي: وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، والشركاء هنا: الأصنام، وهي لا تصنع شيئاً. إلا أن يكون المعنى

على التوبيخ لهم، كما قال لهم إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]. ومن نصب " الشركاء " حمله على المعنى، أي: وادعوا شركاءكم، ولا يُعطف على الأمر بتغير المعنى. يقال: أجمعتُ الأمر وعلى الأمر: عزمتُ عليه. فلا معنى لعطف الشركاء على هذا المعنى، فلا بد من إضمار فعل. ومعنى الآية: إن الله تعالى ذكره، يقول لنبيه: واتل عليهم يا محمد خبر نوح إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي، وشق عليكم تذكيري بآيات الله، ووعظي إياكم، فعزمتم على قتلي، أو طردي من بين أظهركم فعلى الله اتكالي، وبه ثقتي. {فأجمعوا أَمْرَكُمْ}: أي: أعدوا ما تريدون، واعزِموا على ما تشاؤون.

يقال: أجمعت على كذا: إذا عزمت عليه. والشركاء هنا: آلهتهم. وقوله: {لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}: أي: لا يكن ملتبساً مشكلاً، من قولهم: غم على الناس الهلال: وذلك إذا أِكل عليهم أمره. وقيل معناه: " ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ". {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ}: أي: ثم افعلوا ما بدا لكم ولا تؤخروه. {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ}: أي: إن توليتم عين بعد دعائي إياكم إلى الله D. فإني لم أسألكم عما دعوتكم إليه أجراً، ولا عوضاً أعتاضه منكم على دعائي. ما أجري إلا على الله، وأمرني ربي أن أكون من المسلمين. فمن أجل ذلك

73

أدعوكم إلى مثل ما أنا عليه. قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} إلى قوله {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}: والمعنى " فكذب نوحاً قومه فيما أخبركم به على الله D من الرسالة ". {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ}: أي: ممن آمن في الفلك، وهي السفينة. {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ}: أي: جعلنا من معه ممن حمل في النفس خلائف: أي: يخلفون من أهلك من قومه، وهو جمع خليفة. {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}: أي: بحُجَجِنا وأدلتنا. فانظر يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين}: الذين أنذرهم نوح. فكذبوه. فليحذر هؤلاء الذين كذبوا بك مثل ما نزل بقوم نوح. قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ}: أي: بعثنا بعد نوح كل رسول إلى قومه، {فَجَآءُوهُمْ بالبينات}: وهي العلامات الواضحات الدالة على صدقه فيما

يقول: وما يدعو إليه. {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ - بذلك - كذلك نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين}: أي: كما طبعنا على قلوب قوم نوح، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى فتجاوز أمر ربه، وكفر به. {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى}: أي: من بعد الرسل التي بعثت من بعد نوح {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ}: أي: وأشراف قومه، فاستكبروا عن الإقرار بآياتنا {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}: أي: آثمين بكفرهم. {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا}: أي: جاءهم ما لا يشكون في أنه حق قالوا: إن الله الذي جئت به {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ}: ظاهر، قال لهم موسى: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا}. قال الأخفش: أسحر هذا: حكاية لقولهم. وقيل: إن الألف دخلت، لأنهم تعجبوا، واستعظموا ما أتاهم به موسى،

فقالوا: أسحر هذا على الاستعظام، لا على الاستخبار. وقيل: إن السحر من قوم موسى مُنْكر على فرعون وملته إذ قالوا: هذا سحرٌ. وفي الكلام حذف. والتقدير: قال موسى: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا}: فقولهم محذوف دلَّ عليه قول موسى على طريق الإنكار لما قالوا: {وَلاَ يُفْلِحُ / الساحرون}: أي: لا ينجحون. {اأَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا}: أي: لتصرفنا، وقيل: لتلوينا. وقيل: لتعدلنا. والمعنى متقارب. {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}: من عبادة الأصنام. {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء}: أي: الملك وقيل: السلطان. وقال الضحاك: الطاعة، وقيل: العظمة. والمعاني متقاربة. {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}: أي: بمصدقين أنكما رسولان لله D.

79

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أول الرابع والعشرين بحول الله. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}. والمعنى: إنه الملعون، قال لقومه، جئوني بكل ساحر عليم بالسحر. ومن قرأ " سحَّار " فعلى المبالغة. قوله: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} يعني: من حبالهم، وعصيهم، وفي الكلام اختصار، والمعنى: فأَتَوْه بالسحرة {فَلَمَّا جَآءَ السحرة} فرعون بفعلهم {قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} {فَلَمَّآ أَلْقُواْ} أي: ألقَوْا حبالهم وعصيهم. قال موسى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} من استفهم جعل " ما " في موضع

نصب، كما تقول: أزَيْداً مررت به، أو في موضع رفع بالابتداء. و " جئتم به ": الخبر، ومعناه: التوبيخ والتقصير لما جاؤوا به. السحر على إضمار مبتدأ: أي: هُوَ السحْرُ، أو على إضمار خبر، أي: أسحر هو. ومن قرأ بغير استفهام " فما " بمعنى: " الذي " في موضع رفع بالابتداء. والسحر: الخبر. وهو خبر عن قول موسى لهم، وهو الاختيار. لأن موسى قد عَلِمَ أنهم لا شيء عندهم إلا السحر، وأن فرعون بعث وراء السحرة في سائر البلدان. فاستفهام موسى عما أتوا به، هل هو من سحر لا معنى له: وقد احتج اليزيدي بقراءة أبي عمرو بالمد بقوله: " آسِحْرٌ " هذا وهذا منه غلط عند

النحويين، لأن موسى استفهم بقوله: آسِحْرٌ، عن سحر السحرة، فهو استرشاد. وفيه معنى النهي لهم عن ذلك. واستفهم بقوله: أٍحر هذا عما جاء هو به من عند الله D، على معنى التوبيخ، والتقرير لهم. وفيه معنى الدعاء لهمز ليقلبوه، فبينما بعد في المعنى، ودخلت الألف واللام لتقدم ذكر السحر في قوله: {أَسِحْرٌ هذا} [يونس: 77] وعلى هذا يقال في أول الكتب: سلام عليك، وفي الآخر: والسلام عليك، وكذلك لو قال قائل: " وجدت درهماً " فسألته عن موضع الدرهم لقلب: " وأين الدرهم، ويُفْتَح " وأين درهم. وأجاز الفراء نصب السحر على أن تجعل " ما " شرطاً، وتحذف الفاء من " أن ". وذلك لا يجوز إلا في الشعر. ومعنى {سَيُبْطِلُهُ}: أي: سيذهب به الله. فذهب به تعالى بأن سلط عليه عصا موسى، فحولها ثعباناً، فلقفته كله.

83

{إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي: عمل من سعى بالفساد في الأرض، {مَا جِئْتُمْ بِهِ}: وقف على قراءة من استفهم، و (السحر): وقف على قراءة من لم يستفهم. ثم قال تعالى: {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ}: هذا إخبار من الله D عن قول موسى للسحرة. والمعنى: ويثبت الحق الذي جئتم به. {بِكَلِمَاتِهِ}: أي: بأمره، {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون}: أي: ولو كره الذين اكتسبوا الإثم بمعصيتهم ربهم. قوله / {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} إلى قوله {مِنَ القوم الكافرين}. والمعنى: أنه لم يؤمن لموسى، صلوات الله عليه، من قومه مع ما جاءهم به من الحجج إلا ذرية من قومه، وهم خائفون من فرعون وملإهم. قال ابن عباس: الذرية في هذا الموضع القليل، وكذلك قال الضحاك.

وقال مجاهد: إن المعنى ما آمن لموسى إلا أولاد من أرسل إليهم، والمرسل إليهم هلكوا غير مؤمنين، وذلك لطول الزمان. وهو اختيار الطبري. ورُوي عن ابن عباس أيضاً (من قوم فرعون) قال: وهم قوم من قوم فرعون، غير بني إسرائيل، منهم ارمأة فرعون، ومومن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأته خازنه. وقال بعض أهل اللغة: إنما قيل لهم " ذُرِيَّةَ "، لأن آباءهم قِبْطٌ، وأمهاتهم من بني إسرائيل. كما قال لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب، وآباؤهم من الفرس أبناء. وقوله تعالى: {وَمَلَئِهِمْ}: بالجمع: الضمير راجع إلى فرعون، لأن الجبار يخبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: إنه إنما فعل ذلك، لأن فِرْعَون لما ذكر، علم أن معه غيره فعاد الضمير

عليه، وعلى من تَضَمَّنَ الكلام ذكره. وقيل: المعنى على خوفٍ من فرعون وملتهم. ثم حذف مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقال الأخفش: الضمير يعود على الذرية، وهو اختيار الطبري، ومعنى: {يَفْتِنَهُمْ}: أي: يفتنهم بالعذاب فيصدهم عن دينهم. ووَحَّدَ على الخبر عن فرعون، لأن الخَبَر عنه يدل، على أن قومه يفعلون مثل فعله. {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض}: أي: لجبار متكبر. {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} أي: من " المتجاوزين الحق إلى الباطل ". ثم قال تعالى: {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا} أي: فوضوا الأمر إليه إن كنتم آمنتم (ولا تخافون من آل فرعون) {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} " أي: به وثقنا "، وهذا يدل على أن التوكل على الله D في جميع الأمور

واجب، وأنه من كمال الإيمان. وقد قال الله D: { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أي: فهو كافيه. قال ابن عباس: الذرية القليل. قال مجاهد: الذرية، يعني: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان، وقد مات آباؤهم. قال ابن عباس: كانوا ست مائة ألف. " وذلك أن يعقوب ركب إلى مصر من كنعان في اثنين وسبعين إنساناً فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ست مائة ألف ". قال الفراء: بلغنا أن الذرية الذين آمنوا كانوا سبعين، أهل بيت. ثم قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين}: أي: لا تظهرهم علينا، فيفتتنوا بذلك، ويظنوا أنهم خير منا، فيزدادوا طغياناً. وقيل: المعنى: لا تسلطهم علينا

87

فيفتنونا. وقال مجاهد: المعنى: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك. فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا، ولا سلطنا عليهم. وكذلك قال ابن جريج. وقال ابن زيد: المعنى " لا تَبْتَلِنا " ربنا فتجهدنا، وتجعله فتنة لهم " {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين}: يعنون قوم فرعون. قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا إلى قوله - الذين لاَ يَعْلَمُونَ}: المعنى: / " اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً ": {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: " مساجد تصلون فيها "، لأنهم كانوا يَفْرَقون من فرهون، وقومه أن يصلوا. فقال

لهم: اجعلوا بيوتكم مساجد حتى تصلوا فيها. قال النخعي: خافوا، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم. (وعن ابن عباس، قال مجاهد: كانوا لا يصلون إلا في البيع خائفين، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم). وعن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة): يعني: قِبَل الكعبة. وقيل: كان فرعون أمر بهدم الكنائس، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد، يصلون فيها سِرّاً. قال مجاهد: مِصْرُ هنا الإسكندرية. وقال ابن جبير: المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً. {وَأَقِيمُواْ الصلاة}، أي: بحدودها. {وَبَشِّرِ المؤمنين}: هذا (خطاب) للنبي A، أي: وبشر مُقيمي الصلاة بالثواب الجزيل.

ثم قال تعالى حكاية عن قول موسى أنه قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً}، {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}: المعنى: إنه لما آل أمرهم إلى هذا كان كأنه إنما أتاهم ذلك للضلال. وأصل هذا اللام لام كي، وقيل هي لام العاقبة. وقيل: هي لام الفاء، أي: فكان لهم ذلك، لأنه قد تقدم في علمه تعالى ذلك. وقيل: المعنى: لئلا يضِلُّوا وحذفت " لا " كما قال: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176]. وهذا القول لا يحسن، لأن العرب لا تحذف لا إلا مع " أن ". ومعنى الآية:

أن موسى قال: يا رب إنك أعطيت فرعون، وعظماء قومه، وأِرافهم (زينة): يعني من متاع الدنيا وأثاثها (وأموالاً) يعني من الذهب والفضة. {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ}، أي: أعطيتهم ذلك ليضلوا، ثم دعا عليهم موسى، فقال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ}، أي: اذهبها، وغيرها، واجعلها حجارة. قال قتادة: جعل زرعهم حجارة. قال مقاتل " جُعلت دنانيرهم، ودراهيمهم حجارة منقوشة، كهيئتها على ألوانها، لتذوب، ولا تلين، فجعل الله سكرهم حجارة.

قال قتادة: تحول زرعهم، وكذلك قال الضحاك. وقال ابن عباس: (اطمس عليها: أي: دمِّرها، وأهلِكْهَا. وكذلك قال مجاهد. واشدد على قلوبهم): أي: حتى لا تنشرح للإيمان، فلا تؤمن. وقال مجاهد: اشدد عليها بالضلالة. قال ابن عباس: استجاب الله D من موسى، فحال بين فرعون وملئه، وبين الإيمان حتى أدركه الغَرق، فلم ينفعه الإيمان. والعذاب الأليم في هذه الآية: الغرق. قوله: {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} قال المبرد: موضعه موضع نصب، وليس بدعاء. وهو معطوف على " ليضلوا " وهو قول الزجاج. وقال الكسائي، وأبو عبيدة: هو دعاء في موضع جزم.

وقال الأخفش، والفراء: هو جواب الدعاء في موضع نصب، مثل: إلى سليمان فَنستريحا - البيتَ -. فقال تعالى لهما: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما}: هذا خطاب لموسى، وهارون، لأن موسى كان يدعو، / وهارون يؤمن. وقيل: إنَّه خِطَابُ موسى، خطاب الاثنين لغة العرب. وقوله: {دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما}: يدل على أن ذلك لموسى وهارون عليهما السلام: فالداعي موسى، والمؤمن هارون، والمؤمن داع أيضاً، لأنه يقول: اللهمَّ استجب فهو داع بإجابة الذي دعا موسى. وكان بين الإجابة ودعاء موسى

أربعون سنة. وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ} من خفف " النون " فهو على النفي، لا على النهي. والرواية عن ابن ذكوان بالتخفيف: يزيد عند القرَّاء تخفيف التاء، وهو وجه الرواية. غير أنا لم نقرأ إلا بتخفيف النون دون التاء. ومعنى: {فاستقيما} أي: اثبتا على دعاء فرعون، وقومه إلى الإيمان. قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذه الآية أربعين سنة.

90

ومعنى: {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}: أي: يجهلون حقيقة وعيد الله ( D) . قوله: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ} إلى قوله: {لَغَافِلُونَ}. ومن قرأ " إنه " بكسر الهمزة، فعلى الابتداء. وتقدير الكلام: آمنت بالذي كنت به مكذباً. ثم ابتدأ: إنه لا إله إلا الله. وقيل: المعنى: صرتُ مؤمناً. ثم قال: " إنه مستأنفاً. وقال أبو حاتم: القول محذوف، والتقدير، قال: آمنتُ فقلت: إنه ومن فتح فمعناه: آمنت بأنه، " فأن " في موضع نصب بحذف الخافض. وعلى مذهب الكسائي في موضع خفض بتقدير الخافض. والمعنى: وقطعنا ببني إسرائيل البحر،

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً}: أي: اعتداء، وظلماً على موسى، ومن معه. وقرأ قتادة " وعدواً " بالضم والتشديد حتى إذا أدركه الغرق أي: أحاط به. وفي الكلام حذف. والتقدير: " فَغَرَقْناهُ ": " حتى إذا أدرك الغرَق ". " قال عليه السلام: " جعل جبريل يدس، أي: يحشو في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة ". (وروى ابن وهب أن فرعون بن عبد الله قال: بلغني أن جبريل عليه السلام،

قال يا رسول الله! والذي نفسي، ما وَلد إبليس، ولا آدم ولداً قطُّ كان أبغض إليَّ من فرعون، وإنه لما {أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فخشيت أن يعود لها فيُرْحَمَ، فقمت حتى أخذت تربة، من تربة البحر، فحشوتها في فيه). (وروي أن جبريل قال للنبي عليهما السلام: لقد كببتُ في فيه الماء، مخافةَ أن تدركه الرحمة). وروي أنه قالهما حين أَلْجَمَهُ الماء، وأدركه الغرق. ثم قال تعالى حكاية عن تعريفه لفرعون قبح ما فعل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}: يعني: أيام حياته إلى الساعة تؤمن، وقد عصيت أيام حياتك {وَكُنتَ مِنَ المفسدين}: أي: من الصادين عن سبيل الله سبحانه.

قال السدي: بعث الله، D، إليه ميكائيل، فقال له، آلآن وقد عصيت قبل. ثم قال تعالى: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}: أي: نُلْقيك على نَجْوةٍ من الأرض، أي: على ربوة، ليعتبر من رآك. وقيل: نخرجك ببدنك الذي نعرفك به / وذلك أنه كان له بدنٌ مذهبٌ، وهو ذرع كانت له. قال قتادة: لم يصدق طائفة من الناس أنه غرق، فأخرجه الله D، ليكون عظة، وآية، ينظر إليها من كذب بهلاكه. وقوله: {لِمَنْ خَلْفَكَ (آيَةً)}، أي: لمن بعدك.

93

وقال مجاهد: {بِبَدَنِكَ}، أي: بجسدك. قال ابن عباس: لما أغرق الله D، فرعون، ومن معه. قال: أصحابُ موسى لموسى: إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه فأخرجه، فنبذه البحر حتى استيقنوا بهلاكه. قوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا}: أي: عن أدلتنا على أن العبادة لا تكون إلا لله {لَغَافِلُونَ}: أي: لساهون. قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} إلى قوله: {الخاسرين}. المعنى: ولقد أنزلناهم منازل صدق. قال الضحاك: يعني، مصر، والشام. وقال قتادة: الشام، وبيت المقدس. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} يعني: من حلال الرزق. {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} الذي يعلمونه، وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث

محمد A، مجتمعين على نبوته، والإقرار به، وبمبعثه. فلما جاءهم كفروا به. واختلفوا فيه. فآمن بعضهم، وكفر بعضهم. والعلم هنا: النبي A، فهو بمعنى العلوم الذي كانوا يعلمونه. وقيل: العلم كتاب الله D، قاله ابن زيد. فعلوا ذلك بغياً: أي: منافسة في الدنيا. ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ - يا محمد - يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: أي: من أمري في الدنيا. فيدخل المكذبين النار، والمؤمنين الجنة. {حتى جَآءَهُمُ العلم}: وقف، {مِّنَ الطيبات}: وقف. ثم قال تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ}: أي: إن كنت يا محمد في شك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوءتك، قبل أن نبعثك رسولاً، لأنهم (كانوا)

يجدونك في التوراة، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} يعني: عبد الله بن سلام، وشبهه من أهل الإيمان، والصدق منهم. وهذه مخاطبة للنبي، والمراد به أمته. وقيل: " إن " بمعنى " ما "، والمعنى: فما كنت يا محمد في شك. ثم قال {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ} سؤال ازدياد، كما قال إبراهيم: {بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]. وقال المبرد: المعنى: قل يا محمد للشاك في ذلك إن كنت في شك، فاسأل وقيل: إن هذا خطاب العرب: يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني، فَبُرَّني. وهو يعلم أنه ابنه، وهو نحو قوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116]. وقد علم أنه لم

يقل ذلك. قال ابن جبير: ما شك محمد A، ولا سأل، وقال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام، قال: لا أشك، ولا أسأل. وروي أن رجلاً سأل ابن عباس عما يَحِيك في الصدر من الشك. فقال: ما نجا من ذلك أحد، ولا النبي حتى أنزل عليه: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ}. وعنه أيضاً أنه قال: لم يكن / رسول الله في شك ولم يسأل. وهذا هو الصحيح الظاهر، والمراد بقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} أمته. وقوله: {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ}: اللام لام التوكيد وفي الكلام معنى القسم. {مِنَ الممترين}: أي: من الشاكين. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله}: أي: جحدوا كتبه، ورسله، {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين}، أي: من الذين غُبِنَ حظه، وباع الرحمة بالسخط.

96

والمراد بذلك أمة النبي عليه السلام. قوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {يَعْقِلُونَ} والمعنى: إن الذين وجبت عليهم كلمات ربك وهي قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18]. وقال مجاهد: حق عليهم سخطه. {لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب}. أي: يعاينوا ذلك كما لم يؤمن فرعون حتى عاين العذاب. وذلك وقت لا ينفع فيه الإيمان. ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ}، أي: فهلا كانت قرية آمنت، فنفعها إيمانها. وتقديره: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، فنفعها إيمانها، في ذلك الوقت {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ}: فإنهم نفعهم إيمانهم عند نزول عذاب الله D، بهم، فكشف الله سبحانه عنهم العذاب. وقوم يونس انتصبوا لأنه استثناء ليس

من الأول. وقال أبو إسحاق: المعنى: فهلا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم إيمانهم، وجرى هذا بعقب إيمان فرعون عندما أدركه الغرق. فأعلم الله D، أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب، ولا عند حضور الموت. قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} الآية [النساء: 18]. قال قتادة: لما فقدوا نبيهم، وأيقنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله D، في قلوهم التوبة. فلبسوا المسوح، وألهوا بن كل بهيمة وولدها. ثم عجَّلوا إلى الله سبحانه، أربعين ليلة، فلما علم الله D، الصدق منهم، والتوبة والندامة على ما مضى (كشف الله) عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. وكان قوم يونس بأرض الموصل. قال ابن جبير: غشَّى قوم يونس العذاب، كما يغشى الثوب القبر ".

قال ابن عباس: لم يبق بين قوم يونس والعذاب إلا قدر ثلثي ميل، فلما دعوا كشف الله عنهم. قال ابن جبير: لما أبوا أن يؤمنوا بيونس، قيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم، فقالولا: إنا لم نجرب عليه كذباً، فانظروا فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصحبكم. فلما كان في جوف الليل تزوَّد شيئاً ثم خرج. فلما أصبحوا يغشاهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده، والبهيمة وولدها. ثم عجوا إلى الله D، فقالوا: آمنّا بما جاء به يونس وصدقنا. فكشف الله D، عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب، فلم ير شيئاً فقال /: جربوا عليَّ كذباً فذهب مغاضباً لربه حتى أتى البحر. وعن ابن مسعود قال: أوعد يونس قومه أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام. ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا، فجأروا إلى الله سبحانه، واستغفروه، فكف الله D، عنهم العذاب.

ومعنى: {عَذَابَ الخزي}، أي: الهوان والذل. قوله: {إلى حِينٍ} قال الضحاك: إلى الموت. وقيل: إلى آجاله التي كتبها الله لهم قبل خلقهم. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً}: أي: لوفقهم إلى الإيمان بك يا محمد - وبما جئت به. ولكن قد سبق في قضائه من يؤمن، ومن لم يؤمن: وهذا كله رد على المعتزلة الذين يقولون: إن الإيمان والكفر مفوضان إلى العبد، بل كل عامل قد علم الله D، ما هو عامل قبل خلقه له. ولا تقع المجازاة إلا على ذلك بعد ظهورهم منهم، وإقامة الحجج عليهم. وقوله {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} يدل على ذلك ويبينه. {أَفَأَنتَ} يا محمد {تُكْرِهُ الناس} حتى يؤمنوا بك؟ وفي الإتيان " بجميع " بعد " كلهم " قولان: أحدهما زيادة تأكيد، ونصبه على الحال. وقيل: لما كان كل يقع تأكيداً، ويقع اسماً غير تأكيد أتى معه بما لا يكون تأكيداً، وهو " جميعاً "، فجمع بينهما، ليعلم أن معناهما واحد، وأنه للتأكيد.

101

ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، أي: ما كان لنفس تصدق بك يا محمد، إلا أن يأذن لها الله. فلا تجهد نفسك يا محمد في طلب هداهم. روي عن أبي الدرداء أنه قال: بعث الله D، إلى نبي من الأنبياء فقال لهم: لو أنك عملت مثل ما عمل جميع ولد آدم كلهم، ما أديت نعمة واحدة أنعمت بها عليك: إني أذنت لك أن تؤمن بي، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، وهذا نص ظاهر في إثبات القدر من القرآن والحديث. قوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ}، أي: يجعل العذاب على من لا يعقل عن الله، سبحانه، حججه، وآياته جلت عظمته. والرجس: العذاب. وقال ابن عباس: السخط. قوله: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} إلى قوله {نُنجِ المؤمنين}

والمعنى: قل يا محمد للسائلين: الآيات على صحة ما تدعوهم إليه: {انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} من الآيات الدالة على صحة ما أدعوكم إليه من توحيد الله وعبادته. ثم قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}: أي: أي شيء تغني الحجج، والعِبَرُ عن قوم سبق لهم من الله D، الشقاء، وقضى لهم أنهم من أهل النار. {مَاذَا فِي السماوات والأرض}: وقف، إن جعلت " ما " نفياً " وإن جعلتها استفهاماً، لم تقف على الأرض، لأن " ما " معطوفة على ما قبلها. ثم قال تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ}. والمعنى: هل ينتظر هؤلاء، يعني: مشركي قريش أهل مكة - يا محمد - إلا نزول العقوبة بهم،

كما نزل قبلهم حين كذبوا رسلهم. قل لهم يا محمد: {فانتظروا} عقاب، ونزول سخطه بكم. {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} / هلاككم وبواركم بالعقوبة. {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ}: أي: ننجيهم من بين أظهركم إذا نزل بكم العذاب. {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} فيمن تقدم من الأمم الماضية إذا نزل بهم العذاب نجينا المؤمنين منهم. " الكاف " في موضع رفع إن جعلت {والذين آمَنُواْ} تماماً والتقدير: مثل ذلك يحق علينا حقاً. وإن لم تجعل {آمَنُواْ} تماماً جعلت " الكاف " في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، أي: " نجاء مثل ذلك " يحق حقاً، وأنجى، ونجى لغتان بمعنى و " ننج " بغير ياء في الخط، والأصل الياء. ولا يتعمد الوقف عليه، وقد وقف عليها سلام ويعقوب بالياء على الأصل وهو خلاف الخط.

104

قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} إلى قوله: {مِّنَ الظالمين}. والمعنى: قل يا محمد: يا أيها المشركون إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه، فلم تعلموا أنه حق من عند الله، فإني لا أعبد الذين تعبدون من دوني الله: يعني الآلهة، والأوثان التي لا تنفع، ولا تضر. وفي الكلام تعريض: والمعنى: إن كنتم في شك من دوني، فلا بنبغي لكم أن تشكّوا فيه، وإنما ينبغي أن تشكوا في عبادة من لا ينفع، ولا يضر، ولا يسمع، ولا يُبصر. {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ}: أي: يقبض أرواحكم عند مجيء آجالكم. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين}: أي: المصدّقين بما جاء من عنده. ومعنى {مِن دُونِ الله} من عند الله. ثم قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي: وأمرت: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}: أي: أقم نفسك على دين الإسلام.

107

{حَنِيفاً}: أي: مستقيماً، غير معوج. وأمرت نفسي ألا أكون من المشركين، " ولا أدعو من دون الله ما لا ينفعني ولا يضرني، كما فعلتم أيها المشركون. فإن فعلت أنا ذلك، فإني من الظالمين لنفسي ". قوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} إلى آخر السورة. والمعنى: إن يُصبْكَ الله يا محمد بضر، فلا كاشف له عنك إلا هو دون ما يعبد هؤلاء من دون الله. {وَإِن يُرِدْكَ} الله يا محمد بخير أي: برخاء ونعمة، فلا رادَّ لفضله عنك. يصيب ربك يا محمد بالرخاء. من يشاء من عباده. {وَهُوَ الغفور} لذنوب من تاب. {الرحيم}: لمن آمن واستقام. ثم قال تعالى: قل - يا محمد - {قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ}: والحق هنا: القرآن. {فَمَنِ اهتدى} أي: استقام {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ} أي: اعوج عن الحق.

{فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}: أي: يسلط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله. وأنا نذير، ومنذر. ثم قال تعالى آمراً لنبيه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ}: أي: اعمل به، واصبر على ما يقول المشركون، وما يتولون عن أذاك. {حتى يَحْكُمَ الله}، أي: يقضي. {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين}، أي: خير القاضين بحكم الله D بينهم، يوم بدر بالسيف، فقتلهم، وأمر نبيه أن يسلك بمن بقي سبيل من هلك منهم حتى / يؤمنوا. قال ابن زيد: هذا منسوخ بجهادهم، وأمره بالغلظة عليهم.

هود

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم سورة هود. مكية. روى مسروق عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه, انة قال: قلت يا رسول الله! لقد أسرع إليك الشيب فقال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة, والمرسلات, وعم يتساءلون, واذا الشمس كورت. وروى عكرمة عن ابن عباس نحوه.

1

قوله: {الر} قد تقدم الكلام عليها. وقولهم: " قَرَأتُ هوداً ": من صرفه أراد به سورة هود، ومن لم يصرفه جعله اسماً للسورة. ولو قلت: " قرأت الحمد (لله) ". فإنما جاز النصب: تُعْمِلُ الفعل فيه، وجاز الرفع على الحكاية. فإن قلت: قرأتُ {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2، يونس: 10، الزمر: 75، غافر: 65]، حكاية لا غير، وكذلك {بَرَآءَةٌ} [التوبة: 1، القمر: 43]، ترفع على الحكاية، وتنصب على العمل. وتنوِّنُ إذا أردت الحذف، ولا

تصرف إذا جعلته اسماً للسورة. فإن قلت: قرأتَ {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]، حكاية لا غير. وتقول: قرأت " ألم البقرة ": فتنصِبُ على النعت لقولك: " ألم "، لأنه مفعول به بقراءةٍ، وإن شئت خفضتَ " البقرة "، وتقدّر إضافة " ألم " إليها. فإن قلت: " قرأت: {المص} [الأعراف: 1]، و {كهيعص} [مريم: 1]، لم يجز الإعراب، لأنه ليس في الأسماء نظير لهذا. وكذلك {المر} [الرعد: 1]، و {الر} [1: هود، يوسف، إبراهيم، الحجر]، وكذا {طه} [طه: 1] لأنه في آخرها ألفاً.

فإن قلت: {طس} [النمل: 1]، قلت هذا " طسين " يا هذا، فلا تصرف لأن هذا من نظيره هابيل، وقابيل. فإن أردت الحكاية، أسكنت، وتقول هذه {طسم} [الشعراء: 1، القصص: 1] فتُعْرِبُ: إن شئت تجعل " طس " اسماً، و " ميم " اسماً، وتضم أحدهما إلى الآخر مثل: معدي كرب، فيجوز فتح الثاني ورفعه تجعل الإعراب في الآخر. وأجاز سيبويه: مَعْدِي كرب على الإضافة، فيجوز على هذا، " طس ميم "، وتحسن الحكاية. فإن قلت: " قرأت {حم} [1: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف] "، لم ينصرف لأنه مثل " هابيل ". وإن شئت أسكنت على الحكاية.

فإن قلت قرأت {حم* عسق} [الشورى: 1 - 2] لم يجز الإعراب، لأنه لا نظير له في الأسماء. وتقول هذه {ن} [القلم: 1] فاعلم بأنها تُنَوَّن، وتُعْرَبُ " تريد سورة " نون ". وإن شئت جعلته اسماً للسورة، فلم تنونْ، وإن شئت أسكنت على الحكاية. وتقول: هذه السبح، فلا تصرف إذا جعلته اسماً للسورة، لأنه فعلٌ، وليس في الأسماء فعلٌ. وإن شئت فتحتَ فَحَكَيْتَ على ما في السورة، فإن قلت هذه " سِبحْ " لم يجز إلا الإسكان تحكيه لأنه فيه ضمير، والجمل تحكى، وكذلك تحكي: قرأت: {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1]، و {يا أيها المدثر} [المدثر: 1]، وقرأت {والفجر} [الفجر: 1] لأنه اسم وحرف.

وتقول: قرأت {اقتربت} [القمر: 1] تقطع الألف، وتقف على الهاء، إذا جعلته اسماً للسورة / لأن تأنيث الأسماء في الوقف بالهاء، وألف الوصل في الأفعال تقطع إذا سمي بالأفعال. وإن شئت قلت: قرأت {اقتربت} فوصلت الألف ووقفت بالتاء، على الحكاية. فإن قلت: قرأت {اقتربت الساعة} [القمر: 1]، لم يجز إلا الحكاية به ومثلُه: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]، فإن أفردت بالهاء، وجعلتهُ اسماً للسورة قلت: قرأت " تبَّت "، تقِفُ على الهاء. قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} - إلى قوله - {على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. المعنى: هذا الكتاب الذي أنزلناه {أُحْكِمَتْ - آيَاتُهُ}: أي: بالأمر والنهي، {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالثواب، والعقاب. قاله الحسن. وعنه {ثُمَّ فُصِّلَتْ} أي:

الوعد، والوعيد. وعنه أيضاً: {أُحْكِمَتْ} أي: بالثواب والعقاب {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالأمر، والنهي. وقال قتادة: أحكمها الله D، من الباطل، ثم فصلها، وبيَّنَ الحلال، والحرام. وقال مجاهد: {أُحْكِمَتْ}: لم ينسخها شيء. {ثُمَّ فُصِّلَتْ} نزلت شيئاً بعد شيء. وقيل: {فُصِّلَتْ}: فُسِّرت وبيِّنت: قاله مجاهد، وابن جريج. {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ}: أي: من عند حكيم في أفعاله، خبير بجميع الأشياء، وبمصالح عباده. وقيل: أحكمت عن أن يدخل فيها الفساد. يقال: أَحْكَمَتْهُ الآيات.

وحكمته لغتان: أي: مَنَعْنَهُ، ومنه حَكَمت اللجام لأنها تمنع الفرس الجماح. وأصله كله من إحكام الشيء، وهو: إبرامه، وإتقانه، عن أن يفسده شيء. والوقف على {الر} حسن إلا قول من جعله مبتدأه وكتاب خبره. ثم قال تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي: فصلت من (أجل) ألا تعبدوا إلا الله D. ثم قال لنبيه: قل {إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}: أيها الناس. والابتداء بـ " إنني " حسن، ثم قال تعالى: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ}. رداً على {أَلاَّ تعبدوا}: أي: استغفروه من عبادة الأصنام {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: من عبادة الأصنام، أي: ارجعوا، {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} أي: ينسئ في آجالهم إلى الوقت الذي يشاء، ويرزقكم من زينة الدنيا. وأصل الإمتاع: الإطالة. ثم قال: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}: أي: يثيب من تفضل بفضل ماله، أو قوته، أو

كلام حسن، أو غير ذلك من وجوه الخير على غيره لوجه الله D. قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت واحدة، ومن عمل حسنة كتبت عشراًَ، فذلك فضل الله، D. قال: فإن عوقب بالسيئة في الدنيا زالت عنه، وإن لم يعاقب بها أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات. ثم قال تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ}: أي: عما دَعَوتهم إليه يا محمد من الاستغفار، والتوبة، فقل لهم: {فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}: أي: إن تماديتم على كفركم. وقال الطبري: المعنى: فإن توليتم، جعله ماضياً وهو على قراؤة البزي: " مستفعل "، لأنه يشدد / التاء. ثم قال: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ}: أي: مردكم، ومصيركم، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}:

5

أي: على إيحائكم بعد إماتتكم/ وعقابكم على كفركم. (" وقدير ": بمعنى قادر إلا أن " فعيلاً " أبْلغُ). قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} إلى قوله: {مُّبِينٍ}. (ألا): استفتَاحُ كلام، و {يَثْنُونَ}: من ثنيت، وهو فعل المنافقين، كانوا إذا مروا بالنبي يثني أحدهم صدره، ويطأطأ رأسه. وقيل: نزلت فيما، كان المنافقون يبطلون من عداوة النبي، وبغضه، أعماع أن الله D يعلم ما تنطوي عليهم صدورهم من ذلك، وإنْ غطوا عليه رؤوسهم بثيلبهم، ليستتروا، فهو يعلم ما في صدورهم في كل حال من أحوالهم. يعني بالنافقين: كفار قريش، لا المنافقين من أهل المدينة. لأن السورة مكية.

وقال مجاهد: ظنوا أن الله، D لا يعلم ما في صدورهم. وقال الحسن: جهلوا أمر الله D. ثم قال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي: ألا حين يلبسون ثيابهم في ظلمة الليل، في أجواف بيوتهم. يعلم ذلك الوقت سرهم وجهرهم. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} وقيل: إن أحدهم كان يثني ظهره، ويستغشي ثوبه، وقيل: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك لئلاّ يسمعوا كتاب الله D. قاله قتادة. وقيل: إن هذا إخبار من الله ( D) عن المنافقين، أنه يعلم ما تنطوي عليه صدورهم من الكفر. وقال ابن زيد: " هذا حين يناجي بعضهم بعضاً ".

وقرأ ابن عباس: " ينثوي " صدورهم على مثال " ينطوي. قال: كانوا لا يأتون النساء، ولا الغائط إلا وقد تغشوا ثيابهم كراهة أن يفضوا بفروجهم إلى السماء ". وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليُساره. وبلغ من جهلهم أنهم ظنوا أن ذلك يُحفى على الله سبحانه. ورُويَ عن ابن عباس أيضاً أنه قرأ تنثوي. وعنه أيضاً أنه قرأ: " تثنوني "، مثل: تَفْعوعِلُ. ومعناه: المبالغة مثل

" احلَوْلى ": إذا بلغ الغاية في الحلاوة، والهاء في " منه " للنبي A، على القول الأول، وهي " إنه لله D " على القول الثاني. وعن ابن عباس: ألا حين يستغشون ثيابهم: " أي: يغطون رؤوسهم ". والوقف عنج الأخفش، والفراء، وابن كيسان على ذات بالتاء، لأن هذا الاسم لا يستعمل إلا مضافاً. فصارت التاء في وسط الكلام. وعليه جماعة القراء. والوقف عند الكسائي بالهاء، وهو قول الجُرْمي، لأنه ثانية الأسماء، وهو اختيار أبي حاتم. {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} وقف. {وَمَا يُعْلِنُونَ}، وقف /. ثم قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا}: أي: يتكفل بذلك حتى

تموت. يعني: بدابة: كل ما دب، ودرج على وجه الأرض من إِنسيّ، أو جني، أو بهيمة، أو هامّة، والهامَّة كل ما يدُب سميت بذلك لأنها تهم، أي: تدب. وقال الضحاك: والناس منهم. ثم قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا}: أي: حيث تستقر، وتأوي. {وَمُسْتَوْدَعَهَا}: " حيث تموت " قاله ابن عباس. وقال مجاهد: {مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب، مثل تلك التي في الأنعام، وهو قول الضحاك. وقد روي أيضاً هذا عن ابن عباس. (وقيل: المستقر في الرحم، والمستودع: حيث تموت). كل ذلك

7

{كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}: أي: ظاهر لمن قرأه، قد أثبته الله، D، قبل الخلق: وهذا توبيخٌ لمن أخبر عنه أنه يخفي ما في صدره عن الله، D، ويظن أن الله سبحانه لا يعلمه، وكيف يكون آمن من قد أحصى جميع استقرار الحيوان، وموضع موته، وتكفل برزقه، وأثبت ذلك قبل خلقه. فمن كان يقدر على ذلك كيف يخفى عليه ما في صدور هؤلاء. قوله: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ} إلى قوله {يَسْتَهْزِءُونَ}. والمعنى: أن الذي إليه مرجعكم أيها الناس، هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلق ذلك في لحظة. روى أبو هريرة Bهـ، قال: " أخذ رسول الله A، بيدي، فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور فيها يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر ساعات الجمعة ".

قال كعب: جعل الله D، الدنيا مكان كل يوم من الستة الأيام ألف سنة ". وقال الضحاك: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أيام الآخرة، كل يوم مقدار ألف سنة، ابتدأ في الخلق يوم الأحد، واجتمع الخلق يوم الجمعة، فسميت الجمعة لذلك. ولم يخلق يوم السبت شيئاً. وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء}: أي: قبل خلق السماوات والأرض " وسئل النبي A، فقيل له: أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فقال: في عماء ". - في بمعنى على عادة العرب، لأنها تبدّل حروف الجر، بعضها من بعض.

العماء: السحاب الرقيق. ومن رواه مقصوراً فمعناه، والله أعلم، أنه كان وحده، وليس معه سواه. شبه عليه السلام العمى بالعماء توسعاً ومجازاً - (فوقه هواء، وتحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء). قال ابن عباس: كان الماء على متن الريح. ثم قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: أي: فعل ذلك ليختبركم أيكم أحسن عملاً له، وطاعة. وروى ابن عمر عن النبي A: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}: أحسن عقلاً، وأورع عن

محارم الله D، وأسرع إلى طاعته. قال ابن جريج: يعني بالاختبار الثقلين. والمعنى: ليختبركم الاختبار الذي تقع عليه المجازاة، وهو عالم بما يفعل الجميع قبل خلقهم. ولكن أراد الله تعالى، أن يظهر من الجميع ما يقع عليه الجزاء. ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت}: أي: إن قلت لهم يا محمد: إنكم مبعوثون من بعد موتكم، وتجازون ليقولن الذين كفروا، ما هذا {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ما قولك إلا سحر ظاهر. ومن قرأ (إلا ساحر)، فمعناه: ما هذا الذي يخبرنا بهذا إلا ساحر ظاهر. ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}: أي: ولأن أخرنا يا محمد عن قومك العذاب إلى وقت معلوم عندنا معدود. وقيل: المعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أمة. وإنما سميت السنون أمة، لأن فيها

9

تكون الأمة، وتنبتُ وتهلك. وأصل الأمة الجماعة. ثم قال تعالى إخباراً عما علم منهم: إنهم يقولون: إذا أخرنا عنهم العذاب. {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِم}: أي: ليقولن هؤلاء الكفار ما يحبه، أي: شيء يمنع الذعاب أن يأتي تكذيباً منهم به. قال الله تبارك وتعالى: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً} (أي: ليس يصرفه عنهم أحد إذا جاء وقته). {وَحَاقَ بِهِم}: أي: نزل بهم وحل {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وهو العذاب. وقيل: المعنى: وحل بهم عقاب استهزائهم بأنبيائهم. قوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} إلى قوله {على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}. المعنى: ولئن وسعنا للإنسان في رزقه وعيشه، ثم سلبنا ذلك منه.

{إِنَّهُ لَيَئُوسٌ}: أي قنوط من الرحمة. {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ}: أي: " كفور لمن أنعم عليه، قليل الشكر ". والإنسان هنا اسم للجنس، وقيل: هو للكفار خاصة. ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ}: أي: ولئن بسطنا له في الرزق والعيش، بعد ضيق في رزقه مسه منه ضرر {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني}: أي: ذهب الضيق، والعسر عني. {إِنَّهُ لَفَرِحٌ}: أي: مرح، لا يشكر، {فَخُورٌ}: أي يفخر بما ناله من السعة في رزقه، فينسى صروف الدنيا، وعوارضها غرَّة منه وجرأة. {الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76]: وهذا كله من صفة الكافر. وقد قرأ بعض أهل المدينة " لَفَرَحٌ " بضم الرَّاء، وهي لغة، كما يقال:

رجل قطِرٌ وقُطُرٌ وحذَر وحذُرٌ. ثم استثنى. تعالى ذكره من هؤلاء قوماً ليسوا على هذه الصفة فقال: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي: على الضيق والعسر وحمدوا الله على ما نالهم. {وَعَمِلُواْ الصالحات}: أي: الأعمال التي هي طاعات. {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ}: أي: من الله: أي: لهم مغفرة لذنوبهم، فلا يفضحهم في معادهم. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: أي: ثواب عظيم على أعمالهم، وهو الجنة. وقوله: {إِلاَّ الذين} هو استثناء ليس من الأول عند الأخفش بمعنى: " لكن ". فهذا في المؤمنين، والأول / في الكافرين فهما جنسان ونوعان. وقال الفراء: هو استثناء من أذقناه، لأن الإنسان بمعنى الناس، فهو من الأول. ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي: فلعلك تتْرك بعض ما يوحى إليك يا محمد، فلا تُبلغه لمن أمرت أن تبلغه إياه.

13

{وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي: وضائق بما يوحى إليك صدرك، فلا تبلغهم إياه مخافة أن يقولوا: فهلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ}: من مال {أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدقه فيما يقول، وينذر معه. إنما عليك يا محمد الإنذار. {والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: أي: لست يا محمد عليهم بوكيل. الله هو الوكيل عليهم، أي: هو القائك بمجازاتهم وأمورهم. فالهاء في " به " تعود على " ما "، أو على " بعض "، أو على التبليغ، أو على التكذيب. قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} إلى قوله {يَعْمَلُونَ}: المعنى: أيقولون افتراه، أي: اختلق القرآن من عند نفسه. و " أَمْ " هنا هي المنقطعة التي هي بمعنى الألف قل لهم يا محمد {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ}: أي: مثل القرآن. {مُفْتَرَيَاتٍ}: مختلفات، أي: مختلفات، أي: مفتعلات. كما زعمتم أني اختلقت

القرآن، فاختلقوا أنتم أيضاً. إذ محال أن أقدر على ما لا تقدرون، لأنا أهل لسان واحد. {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله}: أي: ادعوا للاختلاق والعون من شئتم إلا الله سبحانه {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}: في قولكم إن محمداً A، افترى القرآن من عند نفسه. ثم قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ}: أي: إلم يستجب لكم أيها المشركون من (تدعون لأن يأتوا) بعشر سور مثل هذا القرآن {مُفْتَرَيَاتٍ} ولم تطيقوا أن تأتوا بذلك، {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله}: أي: أيقنوا أن هذا القرآن أنزل على محمد بعلم الله، وألاَّ معبود إلا الله D.

وقيل: المعنى: فإلم يستجب لكم يا محمد هؤلاء المشركون في أن يأتوا بذلك {فاعلموا}: أيها المشركون أنه إنما أنزل بعلم الله. وأتى بـ " لكم " لأن المراد النبي A، والمؤمنون. وقيل: خوطب النبي A، بلفظ الجماعة كما يخاطب العظيم، والشريف. والنبي A، أشرف مَنْ على وجه الأرض. {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}: أي: مذعنون بالطاعة، مُخْلصُون لله D، العبادة. ثم قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}. المعنى: من " كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها، نوف إليهم أجورهم فيها ". {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}: هذا للكافر، فأما المؤمن فيجازى بحسناته في

الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. وقيل: إن قوله: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}: يعني: في الآخرة لا يظلمون. قال مجاهد: هي في أهل الرياء. وقيل: المعنى: لئن كان يريد بغزوه الغنيمة وفي ذلك، ولم ينقص منه شيئاً. وقال ابن عباس: نسختها {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا (لَهُ) فِيهَا مَا نَشَآءُ / لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 17]. وهذا مردود، لأنه خبرٌ، والأخبار لا ننسخ. روى أبو هريرة أن النبي A، قال: " إن الله جل ثناؤه، إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعى به: رجل جمع القرآن،

ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله D، للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى، يا رب. قال فما عَمِلتَ فما علِمْت؟ قال: كنت اقرأ آناء الليل، وآناء النهار (ابتغاء وجهك)، فيقول الله، جلَّ ثناؤه: " كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله D: أردتَ أن يُقالَ: فلان " قارئ. فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله D، له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما أتيتك؟ قال: كنت اصِل الرحم، وأتصدق " ابتغاء وجهك ". فيقول الله D له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، بل أردت أن يقال: فلان جواد. فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله D، فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله، تعالى، له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت. فيقول الله تعالى له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله A، على ركبتيَّ، فقال: يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة ".

17

ثم قال تعالى: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا}: أي: في الدنيا، ومعنى حبط: ذهب، {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} إلى قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ}. والمعنى: أفمن كان على بينة من ربه كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، وهو النبي A. والهاء في " ربه " تعود عليه. قال ذلك قتادة، وعكرمة، والنخعي. وقوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ}: أي: ويتلو محمداً شاهدا منه، أي: من الله، وهو القرآن. وقيل: المعنى: ويتلو القرآن شاهداً منه، أي: من محمد. وهو لسانه، أي: يقرأه: وهو قول الحسن، ومعمر. ويجوز أن تكون الهاء في ويتلوه للبينة، لأنها بمعنى البيان.

وقال ابن عباس: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ}: هو جبريل عليه السلام، يتلو القرآن من عند الله D، على محمد A. وقال مجاهد: هو مَلَكٌ مع النبي A، يحفظه من عند الله، سبحانه. وقيل: إن قوله {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ}، يعني: به النبي A، والمؤمنين. ودلّ على ذلك قوله: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}. وقيل: المعنى: ويتلوه شاهد من الله، D، والشاهد: الإنجيل، ويتلوه القرآن بالتصديق. {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى}، أي ومن قبل الإنجيل التوراة. وقال الزجاج: المعنى: ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي، A، موصوف في التوراة، والإنجيل.

وحكى أبو حاتم: (ومن قبله كتابَ موسى) بالنصب، على العطف على الهاء في " يتلوه ". أي: ويتلو كتاب موسى جبريل، فهو من التلاوة التي هي القراءة، وكذلك قال ابن عباس، قال: (الشاهد): جبريل، و " منه " من الله D. و " من قبله " تَلَى جبريل كتاب موسى على موسى A. ويجوز الرفع في {كِتَابُ} على هذا المعنى، كما تقول: رأيت أخاك، وأباك: أي: وأباك كذلك. فيكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك: أي: تلاه جبريل على موسى، كما تلى على محمد عليهم السلام. والمعنى: أفمن كان على هذه الحال، كمن هو في الضلالة، والعمى. واختار قوم أن يكون المعنى: أن الشاهد القرآن، يتلوه محمد، أي: بعده شاهداً له. ودل على ذلك قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى}. قال ابن عباس: الشاهد جبريل.

قال مجاهد: الشاهد حافظ من الله D، يحفظ محمداً: أي: ملك. فالهاء في " منه " تعود على الله، في هذين القولين. وقيل: (الشاهد): لسان محمد A، والهاء تعود على محمدٍ. قاله الحسن. وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن. والهاء في {يُؤْمِنُونَ بِهِ} للقرآن. وقيل: الشاهد هو إعجاز القرآن، والهاء في " منه " للقرآن والهاء في {يُؤْمِنُونَ بِهِ} للقرآن، وقيل: لمحمد A. ثم قال تعالى: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ}: أي: مَنْ هذه صفته، يؤمن بالقرآن، وإن كفر به هؤلاء الذين قالوا: إن محمداً افتراه. ثم قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} " يعني: من مشركي العرب، وغيرهم، ممن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، من كفر بِمُحَمَّدٍ، فالنار موعده يهودياً، كان أو نصرانياً، أو غير ذلك.

18

ثم قال: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} هذا خطاب للنبي A، والمراد: أمته، {إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ}، أي: القرآن حق من عند الله D، فلا تكونوا أيها المؤمنون في شك من ذلك. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: " لا يصدقون، بأن ذلك كذلك. {شَاهِدٌ مِّنْهُ}: وقف عند نافع على معنى: ويتلوالقرآن شاهد من الله، وهو جبريل. {يُؤْمِنُونَ بِهِ}: وقف، وكذلك: {فالنار مَوْعِدُهُ}، وكذلك {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ}. قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله {هُمُ الأخسرون} والمعنى: من أعظم جرماً ممن اختلق على الله سبحانه، الكذب، أي: كذب بآياته، وحججه، وهو النبي A، وما جاء به.

{أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ}، يوم القيامة، فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا. قال ابن جريج: ذلك الكافر، والمنافق. {وَيَقُولُ الأشهاد}: الذين شهدوا على أعمالهم، وحفظوها عليهم: {هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} في الدنيا {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين}: أي: غضبه، وإبعاده من رحمته. قال مجاهد: الأشهاد هنا: الملائكة الحفظة، وكذلك قال قتادة. وقال الضحاك: الأشهاد: الأنبياء، والرسل، صلوات الله عليهم، يقولون: هؤلاء الذين كذبوا بما جئنا به من عند ربنا. ثم بين تعالى الظالمين مَنْ هُمْ فقال: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}: أي: يُزَيِّغون أن يدخلوا في الإيمان. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}: أي: يلتمسون لسبيل الله D، العوج والزيغ. وسبيل الله هو الإيمان به، وبما جاء من عنده، وهم مع ذلك

" وَبِالآخِرَةِ هُمْ / كَافِرُونُ ": أي: جاحدون، لا يصدقون بالبعث، {على رَبِّهِمْ}: وقف. ثم قال تعالى: {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} والمعنى: أولئك الذين هذه صفتهم، لم يكونوا معجزين ربهم، سبحانه، في الأرض بهرب، أو باستخفاء، إذا أراد عقابهم. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ}: أي: ليس لهم من يمنعهم من الله D، إذا أراد الانتقام منهم. ثم قال تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} ولا يعقلون عن الله D. { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}. ولا يهتدون إلى رشدهم. وقيل: إن المعنى يضاعف لهم العذاب أبداً: أي: وقت استطاعتهم السمع والبصر. وقيل: إن " ما " للنفي، فيحسن الابتداء بها على هذا، ولا يحسن على القولين الأولين. ومعنى النفي هنا أن الضمير في " يستطيعون "، و " يبصرون ": الأصنام، والنفي

عنها: أي: لم تكن تسمع، ولا تبصر. وهذا التأويل مروي عن ابن عباس. وقيل: المعنى: إن الضمير " لهم "، والنفي " عنهم ": أي: لم يكونوا ليسمعوا شيئاً ينفعهم من الإيمان، ولا يبصرونه، لأن الله، D، حال بينهم وبين ذلك، لما سبق في علمه، فهو مثل قوله: {يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]: بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكافر. ومثله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]، ومثله {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] بالله، D. ختم على قلوبهم، وعلى أبصارهم بكفرهم. قال ذلك قتادة، فقال: فهم صمٌّ عن الحق، فما يسمعونه، بُكْمٌ، فما ينطقون به. عميٌ فلا يبصرون. وروي عن ابن عباس Bهـ، إن المعنى: لا يستطيعون أن يسمعوا سماع منتفع بما يسمع، ولا يبصرون إبصار مُهتَدٍ، لاشتغالهم بالكفر.

قال الزجاج: ذلك كان منهم لبغضهم النبي A، فلا يسمعون عنه، ويفهمون ما يقول. قال الفراء: سبق لهم في اللوح المحفوظ أنه يضلهم. قوله: {أَوْلِيَآءَ} وقف عند نافع، {العذاب}: وقف إن جعلت " ما " نَفياً خاصة. ثم قال تعالى: {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: غبنوا أنفسهم حظها كم رحمة الله D. { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}: أي: بَطُلَ كذبهم، وافراؤهم على الله، سبحانه. ثم قال تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون}، و {لاَ جَرَمَ} عند سيبويه، والخليل بمعنى: حق. وأن في موضع رفع، وجيء بـ " لا " عند

الخليل ليعلم أن المخاطل لم يُبتدأ به كلامه، وإنما خاطب غيره. وقال الزجاج: لا هنا نفي لما ظنوا أنهم ينفعهم كأنه كان المعنى: لا ينفعهم ذلك. {جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة}، أي: كسب ذلك الفعل لم الخُسْرَان، ف " أن " عنده في موضع نصب. وقال الكسائي: المعنى: " لا صَدَّ "، ولا مَنْعَ عن أنهم ". فإنَّ في موضع نصب أيضاً، فحذف الخافض. وحُكِيَ: لاجَرَ " بغير ميم لغة ناسٍ من فُزَارة. وحكى / الفراء: " لا ذَا جَرَمْ لغة لبني عامر. وقال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل، والله أعلم، بمنزلة: لا بد أنك قائم،

23

ولا محالة أنك قائم، فكثرت حتى صارت منزلة " حقاً ". تقول العرب: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت إليك، وأصلها من جرمت، أي: كسبت الشيء. وذكر ابن مجاهد عن بعض القراء، وهو حمزة: ولا جرم بالمد، وكان يأخذ به بمعنى الاية: حقٌّ أنَّ هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الأخسرون في الآخرة: باعوا منازلهم في الجنة، بمنازلهم في النار، وذلك هو الخسران المبين. قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} إلى قوله {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} معنى: أخبتوا، أنابوا، وقيل: معناه: اطمأنوا وقيل: خشعوا،

وتواضعوا، وتضرعوا. والمعاني في ذلك متقاربة. وإلى: هنا بمعنى اللام، والمعنى: " لربهم " كما وقعت اللام بمعنى " إلى قوله ". أوحى لها: أي: إليها. ثم قال تعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} أي: مثل الكافر كالأعمى، والأصم، والمؤمن كالبصير، والسميع: فهذا مثل ضربه الله D، للكافر والمؤمن، فالكافر أصم عن الحق، أعمى عن الهدى، لا يبصره، والمؤمن يبصر الهدى، ويسمع الحق، فينتفع به. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} على اختلاف حاليهما. ومثل نصبه مصدر في موضع الحال. (مثلاً): وقف عند نافع. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ} من كسر " إني "،

27

فالمعنى: فقال: إني: ومن فتح فَعَلَى تقدير حذف الجر. والمعنى: أنذركم بأسه، وعقابه إن تماديتم على الكفر. {مُّبِينٌ}: أي: أبين لم ما أرسلت به إليكم. ثم بين تعالى: بأي شيء أرسل، فقال: {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} إن تماديتم على كفركم. {إلى قَوْمِهِ}: وقف إن كسرت " إني "، وجعلت " ألا " تعبدوا متعلقاً بنذير. قوله: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} إلى قوله: {قَوْماً تَجْهَلُونَ}: المعنى: أنهم قالوا له: ما نواك إلا آدمياً مثلنا في الخلق، ثم قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي: السفلة، دون الأكابر. وقيل: هم الفقراء، وقيل: هم الخسيسو

الصناعات. وروي في الحديث أنهم كانوا حاكة، وحجامين. ولا يقال رجل أرذل، ولا امرأة رذلاء حتى تدخل الألف واللام، أو يضاف. وقوله: {بَادِيَ الرأي} مَنْ همزه جعله من الابتداء، أي: ابتعوك ابتداء، ولو فكروا لم يتبعوك. ومن لم يهمز، جاز أن يكون على تخفيف الهمزة، وجاز أن يكون من بَدَا يَبْدو: إذا ظهر، أي: اتبعوك في ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك. وقيل: المعنى: ابتعوك في ظاهر الرأي، ولو تدبروا لم يتبعوك.

وقيل: المعنى: اتبعوك في ظاهر الرأي الذي ترى، وليس تدري باطنهم. ونصبه عند الزجاج على حذف " في " أو على مثل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. وقيل: المعنى: أنه نعت لمصدر محذوف، والمعنى " اتباعاً ظاهراً ". ثم حكى الله D، عنهم قالوا لمن آمن بنوح A: { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} إذ آمنتم بنوح {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}: أي: في دعوتكم أن الله D، ابتعث نوحاً رسولاً. وهذا خطاب لنوح، لأنهم به كذبوا، فخرج الخطاب له مخرج خطاب الجميع. قال نوح لقومه: {ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي}: أي: على معرفة به، وعلم. / {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ}: أي: رزقني التوفيق، والنبوءة، والحكمة، فآمنت، وأطعت.

{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}: أي: عميت عليكم الرحمة، أي: خفيت، فلم تهتدوا لها. والرحمة عند الفراء: الرسالة. ومن شدد فمعناه: " فَعَمَّها " الله عليكم، أي: خفاها. وفي قراءة عبد الله، وأُبَيّ: " فَعَمَّاهَا الله عليكم " وقد أجمع الجميع على التخفيف في " القصص "، ولا يجوز غيره. ثم قال: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي: أنآخِذُكُمْ بالدخول في الإسلام على كره منكم، فنلزمكم ما لا تريدون. يقول A: " لا تَفْعَل ذلك، بل نكل أمرهم إلى الله، سبحانه ".

قال النحاس: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: أنجبها عليكم. وأنتم لها كارهون. وقيل: معنى {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. وقيل: الهاء في {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} للرحمة. وقيل: للبينة. ثم حكى الله عنه أنه قال: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً}: أي: لا آخذ منكم على نصحي إياكم، ودعائيَ لكم إلى الإيمان {مَالاً}: ما أجري في ذلك إلا على الله، هو يجازيني ويثيبني. {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا}: أي: لست أطردهم، ولا الذين آمنوا بي. وذلك أنهم سألوه أن يطردهم. قال ابن جريج: قالوا: " إن أحببت أن نتبعك فاطردهم. فقال: لا أطردهم ملاقوا ربهم، فيجازي من طردهم وآذاهم، ويسألهم عن أعمالهم. ثم قال لهم: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}: أي: تجهلون ما يجب عليكم من

30

حق الله. وقوله: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ - إلى قوله - وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: والمعنى: من يمنعني من الله، إن هو عاقبني على طردي إياهم، وهم مؤمنون، وموحدون. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} في قولكم، فتعلمون خطأه. ثم قال لهم: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} هذا معطوف على قوله: (لا أسألكم)، والمعنى: لا أقول لكم: عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء، فتتبعوني عليها. {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب}: أي: ما خفي من سرائر الناس. فإن الله يعلم ذلك وحده. {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}: فأكذب، {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله}،

أي: للذين اتبعوني وآمنوا بي، فاستحقرتموهم، وقلتم، إنهم أراذلنا. " والخير هنا الإيمان بالله D. { الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ}: أي: في ضمائرهم، واعتقادهم، وإنما لي منهم ما ظهر. {إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين}: أي: إني ظالم، إن قلت لن يؤتيكم الله خيراً، وقضيت / على سرائرهم: نفى نوح A، جميع هذا عن نفسه لئلا يتبعوه على ذلك. {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا}: أي: " قد خاصمتنا، فأكثرت خصامنا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ}: أي: بالعذاب، إن كنت صادقاً في قولك: إنك رسول (الله). وقرأ ابن عباس Bهـ: فأكثرت جَدَلَنا ". " والجدل " والجدال: المبالغة في الخصومة. قال لهم نوح: إنما يأتيكم بالعذاب الله D. { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ}: أي: لستم ممن يعجزالله، سبحانه، إذ جاءكم عذابه

34

هرباً، لأنكم في سلطانه حيثما كنتم. قوله: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} إلى قوله {يَفْعَلُونَ} والمعنى: وليس ينفعكم تحذيري إياكم عقوبة على كفركم. {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي: يهلككم. وقيل: معناه: يحييكم، وحكي عن بعض العرب أنها تقول: أصبح فلاناً غاوياً: أي: مريضاً. وهذه الآية من أبْيَنِ آية في أن الأمر كله لله D، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لا مُعْقِب لحكمه يفعل ما يشاء. وقد نالت المعتزلة: إن معنى: " أن يغويكم: أن يهلككم، وكذبوا على الله، سبحانه، وعلى لغة العرب: ولو كان الأمر كما قالوا، لكات معنى قوله: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256]: من الهلاك، وهذا لا معنى له. إنما هو الضلال، الذي هو نقيض الرشد. ولكان معنى قوله: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121]: فهلك، ولم يهلك إنما ضل. ولكان معنى قوله: {الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ} [القصص: 63] بمعنى الهلاك، ولا معنى لذلك، إنما هو

بمعنى الضلال كُله. ولكان قوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} [الحجر: 39] بمعنى: لأهلِكَنَّهُم: وهذا لا يقوله أحد، ولا معنى له. وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59] معناه: هلاكاً. {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: أي: بعد الهلاك. ثم قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه}: أي: أيقولون؟ وهذه " أم " المنقطعة بمعنى الألف، أي: اختلقَه. وهذا خطاب للنبي A. والمعنى أيقول قومك: اختلق هذا الخبر عن نوح عليه السلام، قل لهم: يا محمد! {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}: أي: إثم جرمي، لا تؤاخذون به، {وَأَنَاْ برياء} من إثم جرمكم، ولا آخذ به. يقال: أجرم فلان: أي: كسب الإثم.

37

وأجاز أبو إسحاق " أجرامي " بفتح الهمزة جمع جرم. ثم قال تعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} والمعنى: إنه لما حّقَّ عليهم العذاب، أعلم أنه لم يؤمن أحد ممن بقي، {فَلاَ تَبْتَئِسْ}: أي: لا تحزَنْ على فعلهم، وكفرهم، وذلك حين قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]. قوله: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} إلى قوله: {إِلاَّ قَلِيلٌ}. والفلك: السفينة، يكون واحداً، وجمعاً. قال ابن عباس: أوحي إليه: أن يصنع الفلك فلم يدر كيف يصنعها، فأوحي إليه أن يصنعها على مثال جُؤجؤ الطير. ومعنى: {بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}: أي: كما نأمرك.

قال قتادة: / بعين الله، ووحيه. (وقيل: بأعيننا: بحفظنا، وقيل: بعلمنا، وقيل: إن الملائكة كانت تريد ذلك). وقيل: معنى: (بأعيننا ووحينا): أي: بتعليمنا كيف تصنعه. وقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا}: أي: لا تسألني في العفو عنهم. قال ابن جريج: معناه: لا تراجعني. ثم أعلمنا الله D، أنه أخذ يصنع السفينة، وأن {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ} أي: جماعة، وكبراء {سَخِرُواْ مِنْهُ}: أي: هزأوا به، يقولون له: أتحولت نجاراً بعد النبوءة؟ وتعمل السفينة في البر؟ فيقول لهم نوح: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} اليوم،

{فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} في الآخرة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} إذا عاينتم العذاب {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: من هو أحمد عاقبة منا، ومنكم. و" من " تكون هنا خبراً، واستفهاماً، وتقريراً، إعرابها في الوجهين ظاهر. (وروت عائشة Bها، أن النبي A، قال: " لو رحم الله (أحداً من قوم نوح) لرحم أم الصبي، كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله D، حتى كان آخر زمانه غارس شجرة، فعظمت، وذهبت كل مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمي سفينته. ويمرون، فيسألونه، فيقول: أعمل سفينة. فيسخرون منه، ويقولون: تعمل سفينة في البر، فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها، وفار التنور، وكثر الماء في السِّكَكِ، وخشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حباً شديداً، فخرجت إلى الجبل، حتى بلغت ثلثي الجبل، فلما بلغها الماء، خرجت حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء

رقبتها، رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء ". قال قتادة: كان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً، وبابها في عرضها. وقال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وقال عكرمة: إنما طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها ورفعها ثلاثون ذراعاً. وعن الحسن، ( C عليه، أيضاً)؛ أنه قال: كان طولها ألف ذراع، في

خمسمائة ذراع، وبابها في جنبها. قال: أبو رجاء: كانت مطبقة. وقيل: إنها كانت: ثلاث طبقات: طبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرْوَاتُ الدواب أوحى الله D، إلى نوح: أن أغْمزْ ذنبَ الفيل، فغمزه. فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبل على الروث. ثم إن الفأر وقع بحبل السفينة يقرضه، فأوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب، فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبل على الفأر.

قال ابن عباس: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة، فحدثنا عنها، قال: فانطلق بهم عيسى عليه السلام، حتى أتى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفاً من ذلك التراب بكفيه، فقال: أتدرون ما هذا قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا / كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصى، وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه، قد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكتَ. قال: لا، ولكن مت، وأنا شاب، ولكنني ظننت أنها الساعة، فمن ثم: شبت. قال: حدثنا عن سفينة نوح قال: كان طولها ألف ذراع، ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. ثم حكى له طبقاتها، وما كان فيها، وقصة الأرواث، والفأر على ما تقدم ذكره. ثم قال له عيسى عليه السلام: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيبفةً فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت. قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقاريها، وطين برجليها. فعلم أن البلاد قد غرقت، فطوقها الخضرة في عنقها، ودعا أن تكون في أنس، وأمان، فمن ثم تألف البيوت. وروى عبيد بن عمير الليثي: أنهم كانوا يخنقون نوحاً حتى يغشى عليه، فإذا فاق قال: اللهم أغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون. حتى إذا تمادوا في المعصية، وتطاول عليه

منهم الشأن، وعظيم البلاء، ولا يأتي قرن منهم إلا كان أخبث من صاحبه. يقولون: قد كان هذا مع آبائنا، وأجدادنا مجنوناً، ولا تقبل منه شيءاً. فشكا ذلك إلى الله، وقال كما قص الله سبحانه علينا: {رَبِّ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5 - 6]- إلى آخر القصة - ثم قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]- إلى آخر القصة -. فأوحى الله D، إليه: أن اصنع الفلك. وزعم أهل التوراة أن الله، سبحانه، أمره أن يجعل عوده من الساج، وأن يطليه بالقار، من داخل، ومن خارج، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً، وعرضه خمسين ذراعاً، وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وجعل الله D، له فور التنور آية. فلما فار، حمل في الفلك من أمره الله، سبحانه، بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به. فكان جميعهم عشرة رجال. وتخلف عنه ابنه يام، وكان كافراً.

قال ابن عباس: كان أول ما حمل نوح في الفلك الذرة، وآخر ما حمل الحمار. فلما دخل، وأدخل صدره، تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقل رجلاه، فجعل نوح عليه السلام، يقول: ويحك! ادخل، فلا يستطيع الحمار الدخول. فقال: ويحك! (ادخل) وإن كان الشيطان معك. فزل لسانه بالكلمة، فدخل الحمار، والشيطان. فقال له: نوح A: ما أدخلك عليَّ يا عدوَّ الله؟ قال: ألم تقل ادخل، وإن كان الشيطان معك. قال: اخرج عني يا عدو الله. قال: مالَكَ بُدٌّ من أن تحملني، فكان إبليس في ظهر الفلك. فكان بين إرسال الله D، الماء، وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً بلياليها، ودخل فيها لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل من كان معه / (انفتحت أبواب السماء بماء منهمر)، كما قال الله، وكانت السفينة مُسْمَرَّة بدُسُرٍ. والدُّسُر: مسامير الحديد، وقيل: مسامير من عود، بها يسمر اليوم مراكبهم أهل الحجاز، وأهل الهند، وما يلي ذلك. فلما جرت السفينة، قال نوح لابنه: {اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [هود: 42]

وكان قد أضمر الكفر، وظن أن الجبال تمنع من الماء، فقال: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} [هود: 43]: أي: يمنعني، فقال له نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43]. فعلا الماء على الجبال خمسين ذراعاً. فهلك كل ما كات على وجه الأرض من الحيوان والأشجار ولم يبق إلا ما في السفينة. وكان بين أن أرسل الله الطوفان، وبين أن غاض الماء ستة أشهر، وعشر ليال. قال عكرمة: " ركب في السفينة لعشر خَلَوْن من رجب، {واستوت عَلَى الجودي} [هود: 44] لعشر خَلَون من المحرم. فذلك ستة أشهر ". ومعنى: {وَفَارَ التنور}: قيل: إنه انفجر الماء من وجه الأرض. التنور: وجه الأرض قاله ابن عباس، وعكرمة. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: هو تنوير الصبح، من قولهم: نور الصبح يُنَور، فكأنه قال: حتى جاء أمرنا، وطلع الفجر. وقال قتادة: التنور أعلى الأرض، وأشرافها.

وقال الحسن: التنور هو الذي يخبز فيه، كان من حجارة لِحَوَّاء. ثم صار إلى نوح، فقيل له: إذ رأيت الناء يفور من التنور، فاركب أنت وأصحابك. وقال الشعبي. فار الماء في ناحية الكوفة. وعن علي Bهـ، أنه قال: فار التنور من مسجد الكوفة، وقال زيد بن حبيش: فار التنور من هذه الزاوية، وأشار إلى زاوية مسجد الكوفة اليمني من القبلة، التي عن يمين المصلى. وكان زيد يقصد إلى الصلاة في تلك الزاوية من مسجد الكوفة، وعن الحسن أيضاً أن التنور الموضع الذي يجتمع فيه الماء في السفينة. وعنابن عباس: أن التنور فار بالهند.

ومعنى: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي: من كل ذكر، وأنثى، والواحد: زوج، والزوجان ذكر، وأنثى من كل صنف، فمعنى من كل زوجين: من كل صنفين. وقيل الزوجان: الضربان الذكور، والإناث. وقيل: الزوجان: اللونان. وقوله: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول}: أي: واحمل أهلك، إلا من سبق إهلاكه، وهو بعض نساء نوح، كانت من الباقين: من الهالكين. وقيل: هو ابنهُ الذي غرق. {وَمَنْ آمَنَ} أي: واحمل من آمن. قال قتادة: كانوا ثمانية أنفس، خمسة بنين، وثلاث نسوة، فأصاب حام امرأته في السفينة. فدعا عليه نوح أن تغير نطفته. فجاء بالسودان.

وقيل: كانوا عشرة سوى نسائهم: ستة ممن آمن، وثلاثة بنين، ونوح. وعن ابن عباس: أنهم كانوا ثمانين رجلاً، غير النساء من غير أهله وروي أن الله جل ذكره، كان قد أعقم أرحام النساء، وأصلاب الرجال، قبل الغرق بأربعين سنة /، فلم يولد فيهم مولود، ولم يغرق إلا ابن أربعين، فما فوق ذلك. قوله: {وَأَهْلَكَ}: وقف عند أبي حاتم، وليس يوقف عند غيره، لأن بعده استثناء. {وَمَنْ آمَنَ}: وقف عند نافع وغيره، {إِلاَّ قَلِيلٌ}: وقف حسن.

41

قوله: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها} - إلى قوله - {فَكَانَ مِنَ المغرقين} المعنى: فحملهم فيها، وقال: اركبوا فيها. ومن قرأ بضم الميم، فمعناه: بسم الله إجراؤها، وإرساؤها: ابتداء وخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الظرف، على معنى بسم الله، وقتَ إجرائها، وعند إرسائها. ويكون بسم الله كلاماً مكتفياً بنفسه كقول المبتدئ في عمل: بسم الله، فتكون الياء في موضع نصب على معنى ابتدأت بسم الله، أو في موضع رفع على معنى أبتدأ، أي: بسم الله. {ومجراها}: ظرف كما تقول: زيد قائم خلفك. ومن فتح الميم فعلى هذا التقدير، إلا

أنه يقدر في موضع الإجراء الجري. والمعنى: بالله إجراؤها، وبالله جَرْيُهَا، وبالله إرْساؤها. وقال مجاهد، والجحدري، والعطاردي: " مجريها ومرسيها بالياء، وجعلوه نعتاً لله D، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ. وقال الضحاك وغيره: كان إذا قال: بسم الله جرت، وإذا قال: بسم الله رَسَت. واختار " مجراها " بالفتح لقربه من قوله: وهي تجري بهم، ولم يقل تُجْري

وخرجت " مرساها " بالضم على الإجماع {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}: أي: لساتر ذنوب من تاب إليه، رحيم به. ثم أخبر تعالى أنها تجري بهم في موج مثل الجبال، ثم قال: {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} (أي: في معزل) عن دين نوح. وقيل: في معزل عن السفينة، وذلك أن نوحاً، صلوات الله عليه، لم يعلم بأنه كافر، لقوله {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين}. وقيل: إنه لم يكن ابنه، إنما كان ابن امرأته. وحكى أبو حاتم أنه قرأ: " ونادى نوحَ ابنَه " بفتح الحاء، يريد " ابنها " ثم حذف الألف لخفتها، كما تحذف الواو من " ابنهُو ". وعن علي Bهـ، أنه قرأ:

"ابنها" بألف، لم يكن ابنه، إنما كان ابن رجل تزوجَها قبل نوح. وعن الحسن Bهـ، أنه قال: خانت نوحاً في الولد. والله تعالى يعيذ نبيه A، من ذلك إنما خانته في الدين، لا في الفراش. قال ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قطٌّ ". ومن قرأ {يابني اركب مَّعَنَا} بالفتح، فزعم أبو حاتم أنه أرادَ: يا بَنياهُ، فحذف الهاء، لأنه يصل، وحذف الألف لدلالة الفتحة. ولا يجوز عند سيبويه حذف الألف لخفتها، وليس مثل الواو. وقال الزجاج: كان أصله " يا بنيَّ " بياءين كما تقول: يا غلاميَّ بالياء، فأبدل من

الكسرة فتحة، ومن الباء ألفاً، ثم حذف الألف لسكونها، وسكون الراء بعدها من " اركب "، وكتبت على اللفظ. ومن كسر الياء، فعلى الأصل، لأن الكسرة تدل على الياء المحذوفة، ككسر الميم في " يا غلام! تعال ". ثم قال تعالى إخباراً عن قول ابن نوح لنوح: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء}: أي: سأصير / إلى جبل يمنعني من الماء، قال له نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ}: أي: إلا الراحم، أي: ليس يعصم إلا الله، أي: لا يمنع إلا الله الذي رَحِمنَا، فأنقذنا من الغرق، وقيل: " من " في موضع نصب استثناء، ليس من الأول، أي: لكن من رحم الله، فإنه معصوم. وقيل: المعنى: إن عاصماً بمعنى معصوم، فيكون " من " أيضاً في موضع رفع لأنه لا معصوم من أمر الله إلا المرحوم على البدل من موضع معصوم,

44

والاختيار: ان يكون عاصم على بابه و"من" في موضع رفع على البدل من عاصم. والتقدير: لا يعصم اليوم من امر الله الا الله. ثم قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج}: أي: بين نوح، وابنه، فكان ابنه من المغرقين. {مِنْ أَمْرِ الله}: وقف حسن، إن جعلت إلا من رحم الله استثناء، ليس من الأول، وليس من الأول، وليس بالبين لأنه لا بد للثاني أن يكون فيه سبب من الأول. {إِلاَّ مَن رَّحِمَ}. وقف. قوله: {وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ} إلى قوله {أَكُن مِّنَ الخاسرين}. المعنى: يا أرض اشربي ما عليك من الماء. {وياسمآء أَقْلِعِي}: لا تمطري. {وَغِيضَ المآء}: أي: نَقُص جعل

الله D، في الأرض والسماء تمييزاً، وقيل: هو مجاز. {وَقُضِيَ الأمر}: أي: بهلاكهم، {واستوت عَلَى الجودي}: أي: استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بناحية الموصل، أو الجزيرة. {وَقِيلَ بُعْداً}: أي: وقال الله بعداً. وقيل: المعنى: وقال نوح ومن معه {بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين}: أي: أبعدهم الله من رحمته. وروي عن النبي A، أنه قال: ركب نوح السفينة في أول يوم من رجب، فصام هو ومن معه، وجرت السفينة ستة أشهر. فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح وأمر من معه من الوحش، فصاموا شكراً لله D.

وروي أن السفينة مرت بالبيت، فطافت به أسبوعاً. وفي الجودي لغتان: تشديد الياء، وتخفيفها. فمن شدد جمعه على جوادي، ومن خفف جمع على جوادٍ، مثل جوارٍ. (على الجودي): وقف عند أبي حاتم، وليس كذلك، لأن (وقيل): عطف على واستوت. ثم قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي}: أي: إنك وعدتني أن تنجيَ أهلي، وابني منهم.

{وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق}: أي: الذي لا خلف فيه، {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي: فاحكم لي (بأن تفي) بما وعدتني. قال الله له: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم. وقال الحسن: لم يكن ابنه، وكان يحلف أنه ما كان ابنه. فمعنى: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: أي: ليس بابن لك، إنما هو ابن امرأته وقال عكرمة، هو ابنه، ولكن على غير دينه، وإنما وعده الله D، أن ينجيَ أهله المؤمنين به. فمعنى {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}: ليس من أهل دينك. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}: أي: إن سؤالك يا نوح إياي أن أنجي مشركاً عملٌ منك غير صالح.

وقيل: المعنى: إن الذي سألت أن أنجيه، ذو عمل صالح. وقيل: المعنى: إن عماه غير صالح. وعن ابن مسعود / أنه قرأ " إنه عمل صالح أن تَسْألني ما ليس لك به علم " {فَلاَ تَسْئَلْنِ}، فتكون الهاء للمجهول، وخبر " عمل " محذوف دل عليه {فَلاَ تَسْئَلْنِ}. ومن قرأ: " عمل غير صالح "، فكذلك قرأ الكسائي. وفيه: حديث عن النبي A، أنه كذلك قرأ. ومعناه: ظاهر، كأنه قال: إنه كافر

والمعنى: إن ابنك كافر، عمل عملاً غير صالح، مثل {واعملوا صَالِحاً} [المؤمنون: 52، سبأ: 11]، ومثل {وَعَمِلَ صَالِحاً} [البقرة: 62، سبأ: 37]. ثم قال تعالى: {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} هذا تنبيه لنوح، A، لئلا يسأل عما طوي عنه علمه. وقال ابن زيد: المعنى: إني أعظك أن تبلغ الجهالة بك، أن تظن أني لا أفي بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم. فاستقال نوح من سؤاله، واستعاذ من ذلك. وقال: {رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين}: فاستغفر من زلته في مسألته، وهذا " يدل على أن الأنبياء (صلوات الله عليهم)، يذنبون ".

48

ومعنى: {مِّنَ الخاسرين}: أي: الذين خسروا رحمتك يوم القيامة. والمعنى: إني أسألك أن توفقني وتلطف بي، حتى لا أسألك (ما ليس لي به علم). قوله: {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} - إلى قوله - {مُجْرِمِينَ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} والمعنى: قال الله D، يا نوح! اهبط من الفلك إلى الأرض سلامة، وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك: أي: من ذرية من معك: أي: من ذرية من معك من ولدك، وولد من معك من المؤمنين الذين سبقت لهم السعادة قبل خلقهم. ثم قال تعالى مخبراً عن الكافرين من ذرية من معه: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: فلذلك رفعت الأممُ ها هنا، ولا تخفض، لأنها ليست ممن بارك الله عليها، ودعا لها بالسلامة، و'نما هو بمنزلة: رأيت زيداً، وعَمْرو جالس. ومعنى: {سَنُمَتِّعُهُمْ}: أي: " سنرزقهم في الحياة الدنيا ما يمتعون به إلى أن

يبلغوا آجالهم ". {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي: في القيامة. قال محمد بن كعب القرظي: دخل في هذا السلام والبركة، كل مؤمن؛ ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في هذا العذاب كل كافر، وكافرة إلى يوم القيامة. ممن معك: وقف، وأجاز الفراء " وأمماً " ممن معك بالنصب على معنى ونمتع أمماً. ثم قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} أي: تلك القصة، بمعنى: هذه القصة من الأخبار الغائبة عنك يا محمد، وعن قومك، لم تكونوا تعلمونها من قبل إخبارنا لكم، فإخبارك إياهم بهذا يدل على صدقك، ونبوتك لو عقلوا. (فاصبر): على

قولهم، وعلى القيام بأمر الله D، في التبليغ، وعلى ما تلقى منهم. {إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} وهذا إشارة إلى القرآن. () ثم قال تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}: أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. هو معطوف على قوله / {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً (إلى قَوْمِهِ)} [هود: 25] وسمي هود أخاهم، لأنه منهم، ومبين بلسانهم، وقيل: سمي بذلك لأنه منه ولد آدم، بشر مثلهم. وعاد: قبيلة، وهو ابن أبيهم الأكبر، فلذلك قال أخوهم، وهو هود بن عبد الله بن عاد بن عادية بن عاد بن أرام بن الخالد بت عابر. قال لهم (هود): {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} إلا هو، ولا يستحق العبادة إلا هو.

{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ}: أي: ما أنتم في اتخاذكم إلهاً غيره إلا كاذبون. ثم قال لهم: {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}: أي: ليس أسألكم على ما دعوتكم إليه، كم من إخلاص العبودية لله D، أجراً، ما أجري في ذلك إلا على الله سبحانه، {الذي فطرني}: أي: خلقني. ثم قال: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: أي: سلوه المغفرة من عبادتكم غيره، {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} من عبادة غيره. فإن فعلتم ذلك أرسل عليكم السماء مدراراً: أي: قطر السماء متتابعاً. ومفعال للتكثير، وفيه معنى الكسب. ولذلك حذفت الهاء. وأكثر ما يأتي " مفعال " من " أفعلتُ "، وقد أتى هنا من " فعلت "، يقال: درّت تدرُّ وتدر، فهي مدرار. ثم قال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ}: أي: " شدة إلى شدتكم " قاله مجاهد

53

(إن أطعتم). وقيل: إن النسل كان قد انقطع منهم سنتين، فقال لهم هود: إن آمنتم بالله، أحيا الله بلادكم، ورزقكم الولدان، فذلك القوة. وقال أبو إسحاق: المعنى قوة في النعمة. وكانت مساكن عاد الرمال، ما بين الشام واليمن، وكانوا أهل زرع، وبساتين وعمارة، فلما أقاموا على كفرهم، وعبادة أصنامهم، ولم يُطيعوا هوداً أرسل الله D، عليهم الريح، فكانت تدخل في أنوفهم، وتخرج من أدبارهم، وتقطعهم عضواً عضواً. ثم قال لهم هود: {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ}: أي: لا تدبروا عني، وعن ما دعوتكم إليه كافرين. وله: {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ - إلى قوله - صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} والمعنى: ما جئتنا ببرهان على قولك، فنترك آلهتنا لقولك، وما نؤمن لك، فنصدقك بما جئتنا به. ما نقول {إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء}: أي: أخذك خبل من عند بعض آلهتنا لطعنك عليها، وسبك لها: أي: جنون.

قال لهم هود: {إني أُشْهِدُ الله واشهدوا} أنتم {أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ}: أي: من آلهتكم التي تعبدون من دون الله سبحانه. {فَكِيدُونِي جَمِيعاً}: أي: احتالوا في كيدي، أنتم وآلهتكم التي تعبدون ثم لا تؤخروا ذلك عني. {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ}: أي: فوضت أمري إلى مالكي، ومَالِكِكُم. {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ}: أي: ليس من شيء يدب على الأرض إلا والله D، مالكه. وخص ذكر الناصية دون سائر الأعضاء، لأن العرب تستعمل ذلك فيمن وصفته بالذلة والخضوع: تقول: ما ناصية فلان إلا بيدي: أي: هو مطيع لي أصرفه كيف أشاء. وقيل: إنما خص ذكر الناصية، لأنهم كانوا إذا أسروا أسيراً، وأرادوا المَنَّ عليه، جَزُّوا ناصيته، ليعتدُّوا بذلك / فخراً، فخوطبوا بعادتهم.

57

وكل ما فيه الروح يقال له: داب ودابة، فتدخل الهاء للمبالغة. ثم قال: {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على الحق. والصراط في اللغة: المنهاج الواضح. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} - إلى قوله - {هُودٍ}. والمعنى: إنّ هوداً قال لقومه: فإن أجبرتم على ما جعوتكم إليه، وأعرضت فقد أبلغتكم ما أمرت به، وقامت عليكم الحجة في تبليغي إياكم رسالة ربكم، فهو يهلككم، ثم يستخلف قوماً غيركم، توحدون، وتخلصون له العبادة. {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً}: أي: لا تقدرون على ضر إذا أراد هلاككم. وقيل: المعنى: ولا يضره هلاكم شيئاً. {إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}: أي: ذ1وحفظ بخلقه. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: العذاب للكفار. {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ

مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا}: أي: بفضل منا مما أصاب الكفار. {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}: أي: يوم القيامة من عذاب جهنم، كما نجيناهم في الدنيا من عذاب الكفار. ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي: معاند لله D، معارض بالخلاف. {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً}: أي: غضباً من الله، وسخطاً، ويوم القيامة مثل ذلك. {ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ}: أي: أبعدهم الله، وإنما قال: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} بجمع، ولم يأتهم إلا رسول واحد، لأن من كفر ببني واحد، وعصاه فقد كفر بجميع الأنبياء، وعصاهمز وله في القرآن نظائر، قد مضت، ومنها ما يأتي بعد. (يوم القيامة): وقف، (قوم هود): وقف.

61

(" إكمال السفر الثالث من كتاب الهداية بحمد الله وعونه. وصلى الله على محمد نبيه وسلم تسليماً. يتلوه في السفر الرابع قوله) ". قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله} إلى قوله {مُرِيبٍ}: ثمود: قبيلة، وصالح ابن أبيهم الأكبر. فلذلك قال أخوهم، وهو صالح بن عبيد بن جابر بن عبيد بن ثمود بن الخالد بن عابر. والمعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً، فقال لهم: اعبدوا الله ليس لكم إلهٌ إلا هو، هو أنشأكم): أي: خلقكم من الأرض، يعني: أصلهم الذي هو آدم. خلق من طين من الأرض، {واستعمركم} أنتم (فيها): أي: أسكنكم فيها. {فاستغفروه}: مما عبدتم من دونه. {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: من عبادة الأوثان. {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} يسمع دعاءكم، وتوبتكم، واستغفاركم. {مُّجِيبٌ} لمن دعاه، وأخلص في التوبة. {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا}، أي: كنا نرجو أن تكون فينا سيداً،

63

قبل قولك هذا الذي قلته لنا، إنه ليس لنا إلهٌ إلا الله. {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهة. {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} من عبادة إله واحد {مُرِيبٍ}: أي: متهم، من أربته، فأنا أربيه، إذاً فعلت فعلاً يوجب له التهمة. قوله: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} - إلى قوله - {غَيْرُ مَكْذُوبٍ}. المعنى: إن صالحاً قال لهم: إذ قالوا له: {وَإِنَّنَا / تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ لَفِي شَكٍّ مِّمَّا} {ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي}: أي: على برهان، وحجة، قد علمت ذلك وأيقنته. {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}: يعني النبوؤة والحكمة والإيمان. {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ}: أي: من ينقذني من عذابه إن عصيته. {فَمَا تَزِيدُونَنِي} بعذركم أنكم تعبدون ما كان يعبد آباؤنا {غَيْرَ تَخْسِيرٍ}: أي

تخسرون حظوظكم من رحمة ربكم. ثم قال: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}: " آية: حال، والمعنى: انتبهوا إليها في هذه الحال. {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله}: أي: دعوها، ويذر ويدع لم يستعمل منها ماض. وأصل " يدع ": يَوْدِعْ، فحذفت الواو على الأصل، ثم فتحت العين من أجل حروف الحلق. وشابهت " يذر " " يدع " من أجل أنها لم ينطق منها بماض، ففتحت العين منها، مثل " ودع "، وبابهما جميعاً فَعَل يَفْعِل، ففتحت " يدع " لحرف الحلق، وفتحت " يذر " للمضارعة التي بينها وبين " يدع ". وإنما تفتح العين إذا كانت حرف حلق، أو كانت اللام حرف حلق، لأن الفتجة أًلها من الألف. فلما وقع بعدها حرف حلق جعلوا حركة ما قبله مما هو من مخرج الحروف، ليكون الحرف،

والحركة من جنس واحد. وكذلك، إن كانت العين حرف حلق تفتح، لتكون حركته من الحرف الذي هو مثله، فتكون الحركة والحرف من جنس واحد أيضاً. وإنما صارت الناقة آية، لأنهم طلبوا الله أن يخرج لهم من جبل لهم ناقة ويؤمنوا، فأخرجها لهم من ذلك الجبل بقدرة الله D، فلم يؤمنوا، فقال لهم: دعوها {تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} ليس على أحد منكم رزقها. {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء}: أي: لا تعقروها، فيأخذكم عذاب قريب: أي: قريب من عقرها. وقيل: المعنى: {قَرِيبٌ}: غير بعيد فيهلككم. {فَعَقَرُوهَا}، والمعنى: فكذبوه، فخالفوه، فعقروها. فقال لهم صالح: استمتعوا في دار الدنيا ثلاثة أيام، ثم يأتيكم العذاب فهو {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}. ويروى أن الناقة كانت أحسن ناقة في الأرض، حمراء عشراء، فوضعت فصيلاً، فكانت تغدو، فتشرب جميع الماء، ثم تغدوا عليهم، بمثله لبناً، فإذا انصرفت عنهم عَدَوْا إلى الماء، فاستقوا حاجتهم ليومين، فعقروها، فأخذهم العذاب.

66

قال قتادة: لما أخبرهم صالح أن العذاب يأتيهم لبسوا الأنطاع، والأكسية. وقيل لهم: آية ذلك أن تصفر ألوانكم أول يوم، ثم تحمر في اليوم الثاني، ثم تسود في اليوم الثالث. وقال قتادة: لما عقروا الناقة ندموا، وقالوا: عليكم بالفصيل، فصعد الفصيل إلى الجبل. فلما كان اليوم الثالث استقبل القبلة، وقال: يا رب! أمِّي، فأرسلت الصيحة عليهم عند ذلك. وكانمت منازلهم بالحجر بين المدينة والشام. قوله: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} - إلى قوله - {لِّثَمُودَ}: والمعنى: ولما جاء عذابنا نجينا صالحاً منه. {والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا}: أي: بنعمة، {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}: أي: نجيناهم من هوان ذلك اليوم، وذلته. ومن خفض {يَوْمِئِذٍ}، أضاف إليه حرفاً واحداً بالإعراب، ومن

نصب بناه مع " إذ " لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ. قال المبرد: من خفض قال: سير عليه يومئذ فرفع، ومن فتح فتح مع سير، وغيره لأنه مبني. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي} أي: في بطشه إذا بطش ". {العزيز}: أي: الذي لا يغلبه شيء. وروى عمرو بن خارجة، عن النبي A، أنه قال: " كانت ثمود يوم صالح، أطال الله أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر، فينهدم لطول حياته، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً، فنحتوها، وجوَّفُوها وكانوا في سعة من عيشهم فقالوا: يا صالح! ادعُ لنا ربك يخرج لنا آية تعلم أنك رسول الله. فدعا صالح

ربه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يوماً، وشربهم يوماً معلوماً. فإذا كان يومُ شِرْبِها، خلوا عنها، وعن الماء وحلبوها لبناً ملءَ كل إناءٍ، ووعاء، وسقاء، فأوحى الله، جلّ ذكره، إلى صالح: أن قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم صالح ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل ذلك، فقال لهم: إلا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها. قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ قال: فإنه غلام أشقر، أزرق، أصهب، أحمر. وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، (وكان) لأحدهما ان يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً. فجمع بينهما مجلس، فزوّج أحدهما ابنته لابن الآخر، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، (وكان) لأحدهما ابن يرغب له عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً. فجمع بينهما مجلس، فزوّج أحدهما ابنته لابن الآخر، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهطٍ، يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، فقال صالح لقومه: اختاروا ثماني نسوة، قوابل من القرية، واجعلوا معهن شُرَطاً، فكانوا يطوفون بالقربة، فإذا وجدوا امرأة تَلِدُ نظروا صفة ولدها إن كان ذكراً. فلما رأ] ْنَ ذلك المولود صرخن، وقلن: هذا الذي يريد رسول الله

صالح. فأراده الشرط، فحال جداه بينهم وبينه، وقالا: لو أن صالحاً أراد هذا قتلناه. فكان شو مولود، فشب في سرعة، واجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض، وفيهم الشيخان، فاستعملوا على أنفسهم (الغلام) لمنزلته، وشرفه. وكانوا تسعة، وكان صالح لا ينام معهم في القرية. كان ينام في مسجد له خارج القرية. فإذا أًبح أتاهم، فوعظهم، وذكرهم ". وروى ابن جريج أن صالحاً أمر بقتل الولدان، فقتل أبناء ثمانية رهط. وكان لهم صاحبٌ ترك ابنه فكبر. فقال الثمانية: لو أنا لم نقتل أبناءنا لكانوا مثل هذا الغلام. فائتمروا التسعة بينهم بقتل صالح. وقالوا: نخرج مسافرين، والناس يروننا علانية، ثم نرجه في وقت كذا من ليلة كذا، فنقتله في مُصَلاَّه، والناس يحسبون أننا مسافرون، فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصدونه. فأرسل الله، جلّ ذكره، عليهم، الصخرة فَرَضَخَتْهم /، فأخبر الله أهل القرية بموتهم، فقالوا: تَنَادَوْنَ: أي: عباد

الله! ما رضي صالح بِأن جعلهم قتلوا أولادهم حتى قتلهم. فأجمع أهل القرية على عقر الناقة أجمعون إلا رجلاً منهم. وقال عرم وابن خارجة: أراد المولود مع الثمانية قتل صالح، فمشوا حتى أتَوا سِرياً على طريق صالح، فاختفى فيه ثمانية، وبقي هو، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه، وأتينا أهله، فبيتناهم، فأمر الله D، الأرض، فاستوت عليهم، فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة، وهي على حوضها قائمة. فقال الشقي لأحدهم " إيتِهَا فاعقرها، فأتاها فتعاظمه ذلك، فرجع ثم بعث آخر، فَعَظُم عليه عقرها، فرجع ثم آخر، فرجع، حتى رجع الجميع، ولم يعقروا. فمشى هو إليها، وتطاول، فضرب عُرْقُوبَيْها، فوقعت تركض. وأتى رجل منهم صالحاً، فقال: أدرك الناقة، فقد عقرت. فأقبل، وخرج وهم يتلقونه، ويعتذرون إليه. يا نبي الله! إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا. قال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى الله أن يدفع عنكم العذاب. فخرجوا

يطلبونه، فلما رأى الفصيل أمه أن تضطرب أتى جبلاً يقال له: القارة قصيراً. فصعد عليه، وذهبوا ليأخذوه. فأوحى الله D، إلى الجبل، فطال في السماء حتى ما تناله الطير، قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم استقبل صالحاً، فَرَغَا رغوةً، ثم رغا أخرى. فقال صالحُ لقومه: لكل رغوة أجل يوم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، وآية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجُوهُهُم كأنها طليت بالخلوق، كلهم كذل. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا إنه قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب. فلما أصبحوا اليوم الثاني، إذا وجوههم محمرة، كأنها خضبت بالدماء، فصاحوا وضجوا، وبكوا، وعرفوا أنه العذاب. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا إنه قد مضى يومان من الأجل، وحضركم

العذاب. فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة، كأنها طليت بالقار. فصاحوا: ألا قد حضركم العذاب من فوق (رؤوسهم)، أو من أسفل. فلما أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا جاثمين. أي: خامدين في ديارهم. والدار محلة القوم، والموضع الذي / فيه نزلهم في معسكرهم ومجتمعهم، والديار: الدور التي سكنها كل واحد منهم. " ولما مر النبي A، ( في) غزوة تبوك بوادي ثمود، أمر أصحابه أن

69

يسرعوا لئلا ينزلوا به، ولا يشربوا من مائه. وأخبرهم أنه واد ملعون " {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}: أي: لم يعيشوا. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، ويقال: غَنَيْتُ بالمكان: إذا أقمت به. فالمعنى كأن لم يَغْنَوْا بها في سرور، وغبطة. {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ}: ألا أبعدهم الله لنزول العذاب بهم. قوله: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} - إلى قوله - {عَجِيبٌ}. من نصب " سلاماً " نصبه على المصدر، أو على أعمال القول، والرفع على إضمار خبر محذوف. والمعنى: قالوا: سلام عليكم. ومن قرأ " سِلْمٌ " فعلى معنى الأمر.

سلم أو نحو سلم: أي: نحن آمنون منكم، إذا سلمتم علينا، لأن الملائكة لما سلمت عليه أَمِنَ منهم، وعلم أنهم مؤمنون. فقال لهم: سلام: أي: نحن سلم منكم إذن. وقيل: المعنى: نحن سلم، أي: غير باغين شراً، وأنتم قوم منكرون: أي: لا نعرفكم. وقيل: سلم بمعنى سلام. كما يُقال حرمٌ، وحَرَامٌ بمعنى واحد. ويجوز رفع الأول، ونصب الثاني، ونصب أيهما شئت على هذا التقدير، ومعنى {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الحجر: 62، الذاريات: 25]: أي: غير معروفين في بلدنا. وقيل: المعنى: إنكم قومٌ منكرون، إذا سلمتم، لأن التسليم في بلدنا منكر، ولم نعهده إلا لمن هو على ديننا. والرسل الذين أتَوْهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، عليهما السلام. روي أن رجلاً جلَّ ذكره، أرسل إسرافيل يبشر سارة زوج إبراهيم بإسحاق، ويعقوب ولد إسحاق، وأرسل الله جبريل ليقلب مدائن قوم لوط، وأرسل

ميكائيل ليأخذ بيد لوط، ويسري بهم. والبشرى هي البشارة بإسحاق. وقيل: هي البشارة بهلاك قوم لوط. {قَالُواْ سَلاَماً} قال مجاهد: المعنى سَدَاداً. {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ}: " أن ": في موضع نصب عند سيبويه، يقال: لا يلبث عن أن يأتيك. وأجاز الفراء أن تكون في موضع رفع. فلبث، أي: فما أبطأ عنه مجيئه. والمعنى: فما أبطأ عنهم حتى جاء {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}: أي: مشوي، وهو فعيل، بمعنى مفعول. وقال ابن عباس: (حنيذ): نضيج. وقيل: كان قد أشوي على حجارة محمية. فما: نافية في قوله (فما لبث)، وفي " لبث " ضمير إبراهيم عليه السلام.

وقيل: لا ضمير في " لبث "، والفاعل: أن جاء، أيك فما أبطأ مجيئه عن أن جاء. وقيل: " ما " بمعنى " الذي " في موضع رفع على الابتداء، والخبر: " أن جاء "، والتقدير: فإبطاؤه مجيئه بعجل بين قدر الإبطاء. قوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ} أي: فلما رأى إبراهيم أيدي الرسل، صلوات الله عليهم، لا تصل إلى العجل، فتأكل منه، (نكرهم)، وعلم أنهم لم يتركوا الأكل إلا لقصة. فأوجس منهم خوفاً في نفسه. يقال: نكره ينكره، وأنكره بمعنى. فالهاء في " إليه " تعود على العجل، وقيل: على إبراهيم، بمعنى: لا تصل / إلى طعامه، ثم حذف المضاف. قال قتادة: إنما أنكر إبراهيم أمرهم، لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف، فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير، فخاف إبراهيم منهم، فقالوا له: {لاَ تَخَفْ} منا {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} بالعذاب.

{وامرأته قَآئِمَةٌ}: أي: " من وراء الستر ". وفي قراءة ابن مسعود: " وامرأته قائمة، وهو قاعد. وقيل: إنها كانت قائمة، تخدُم الرسل، وإبراهيم جالس مع الرسل. وقوله: {فَضَحِكَتْ} قيل: إنها ضحكت من أمرها أنها تخدم، وضيافها لا يمسون الطعام. قال السدي: قال إبراهيم للرسل، صلوات الله عليهم: ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم! إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن. قال لهم: فإن لهذا ثمناً! قالوا: وما هو؟ قال: تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل، عليهما السلام، فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلاً. فلما لم يأكلوا، قالت سارة، امرأة إبراهيم: عجباً لأضيافنا هؤلاء، إنا لنخدمهم بأنفسنا، تكرمة لهم، وهم لا

يأكلون! وضحكت تعجُّباً. وقيل: ضحكت من أن قوم لوط في غفلة، وقد جاءت رُسُلَ الله D، بهلاكهم. فكان ضحكها تعجباً لغفلة قوم لوط، عما أتاهم من العذاب، وهو قول قتادة. وقيل: إنها ضحكت لما رأته من زوجها إبراهيم عليه السلام، من الروع تعجباً، وهو قول الكلبي. وقال وهب بن منبه: ضحكت لما بشرت بإٍحاق، وهي كبيرة،

فضحكت تعجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنها. ويكون في الكلام تقديم وتأخير، وهو بعيد مع الفاء، ولا يحسنُ الوقف على هذا المعنى، على " ضحكت ". وقال مجاهد: معنى: ضحكت: ساغت، وكذا ابنة تسعين سنة. وقيل: بل زادت على التسعين، وكان إبراهيم، عليه السلام، ابن مائة سنة. وذكر بعض البصريين أن بعض أهل الحجاز حكى عن العرب: " ضحكت المرأة " بمعنى: حاضت. وقال الضحاك: الضحك: الحيض، ويقال: ضحكت النخلة: إذا أخرجت الطلع، والبشر. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأن الملائكة أحْيَوا العجل بإذن الله D، فضحكت تعجباً. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}. وقيل: إنها إنما ضحكت، لأنها قالت لإبراهيم قبل مجيء الرسل: أحسب أن قوم لوط سينزل الله بهم عذاباً. فضم لوطاً

إليهم، فلما أتت الرسل بما قالت سُرَّت به، فضحكت. وقيل: إنها إنما ضحكت من إبراهيم، لأنه كان A يقوم بمائة رجل، فتعجبت من خوفه من نفر. وقيل: ضحكت سروراً، حيث قالوا: لا تخف، لقد كانت خافت منهم. وقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}: أي: من رفع " يعقوب " فعلى الابتداء، {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ}: الخبر، والجملة في موضع الحال. أي: بشرناها بإسحاق، مقابلاً له يعقوب. وهو داخل في البشارة، فلا يوقف على إسحاق على هذه المعنى. ويجوز أن يرتفع بفعل دل عليه الكلام، / والمعنى: ومن وراء

إسحاق يحدث يعقوب، فلا يكون داخلاً في البشارة، فيجوز الوقف على إسحاق. وقيل: المعنى: وقبت لهما من وراء إسحاق يعقوب. ومن قرأ بالفتح، فهو في موضع خفض عند الكسائي، والأخفش، وأبي حاتم، على العطف علاى " إسحاق ": يجيزون التفريق بين المجرور، وبين ما يشركه، فيفرقون بين حرف العطف والمعطوف. ومذهب سيبويه والفراء أن يعقوب في موضع نصب، على معنى: ومن وراء إسحاق وهبنا له يعقوب. ولا يجيزون التفريق بين المجرور، وحرف العطف. فتقف على إسحاق على هذا التقدير، ولا تقف عليه إذا قدرت العطف.

وقيل: معنى: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ}: أي: ومن ولد إسحاق، لأن ولد الولد: الوراء، وهو قول ابن عباس، والشعبي، وجماعة معهما. وفي هذا دليل على أن: الذبيح إسماعيل، لأنها بشرت بإسحاق، وأنها تعيش حتى يولد له، فغير جائز أن يعلم إبراهيم أنه يعيش حتى يولد له، ثم يؤمر بذبحه، قبل أن يولد له. فلا يجوز أن يؤمر بذبح من أخبر أنه يعيش إلى وقت بعد، وقت الذبح بسنين. قال السدي: لما بُشرت بذلك، سكّت وجهها وقالت: {ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} ثم قالت لجبريل: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل، عيله السلام، عوداً يابساً، فلواه بين أصبعيْه فاهتزَّ خضراً. فقال إبراهيم: هو لله إذاً " ذبيحاً ". قيل: إنها كانت ابنة تسعة وتسعين سنة، و'براهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان أكبر منها بسنة. و {ياويلتى} " كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء ".

وحكى ابن يونس عن العرب: " عجوزة " بالهاء، وأنكر ذلك أبو حاتم. ويقال: للمرأة شيخ وشيخة. والمؤنث في كلام العرب على أربعة أوجه: - الأول: أن يكون فيه علامة التأنيث، تفصل بينه وبين المذكرن نحو: خديجة، وفاطمة، وعائشة وليلى، وسعدى، وحمرى. - والثاني: أن تكون الثانية في صيغة الاسم، وبلا علامة ظاهرة، نحو: زينب، ونوار، وهند، وعير وفخرٌ، وشبهه. - والثالث: أن يكون الاسم المؤنث يخالف لفظه لفظ ذكره، فيستغنى عن علامة التأنيث، لمخالفة اللفظ، وذلك نحو: جَدْيٌ، وعناق، وحمار، وربما مالوا إلى المؤنث فأدخلوا الهاء، وإن كان لفظه يخالف لفظ المذكر: قالوا: عجوزة،

73

والأكثر عجوزه، وقالوا: غلام، وجارية، فأدخلوا الهاء. ولفظ " جارية " مخالف لِلَفْظِ غلام. وقالوا: جمل وناقة، وكان الأصل ألا تدخل الهاء في هذا، وربما أدخلوا التأنيث في المذكر. قالوا: شيخ وشيخة، وغلام وغلامة، ورجل ورجلةٌ. - والقسم الرابع: أن يكون الاسم واقعاً على المؤنث والمذكر، فيكون " بالهاء " كقولك: شاة وبقرة، وجرادة، وهذه الهاء فصل بين الواحد والجمع. وقولها: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} وإن في كون الولد من مثلي شيئاً عجيباً. قوله: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} - إلى قوله - {مَرْدُودٍ}. والمعنى: قالت الرسل: أتعجبين من أمر / قضاء الله D فيك، وفي بعلك، {رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ}. ثم قال: {إِنَّهُ حَمِيدٌ}: أي: محمود على نعمه عليكم، وعلى غيركم. {مَّجِيدٌ}: أي: ذو مجد، وثناء، وقيل: معنى: {مَّجِيدٌ}: كريم، والمجد: الكرم،

والجود، {مِنْ أَمْرِ الله}: وقف. {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع}: أي: لما سكن خوفه من الرسل، وعلم منهم من هم. قال الأخفش، والكسائي: قوله " يجادلنا " لأن جواب " لمَّا " يكون بالماضي، وقيل " يجادلنا ": في موضع الحال. ومعنى يجادلنا: أي: يطلب. وقيل: في قوم لوط. وقيل: المعنى: يخاصم رسلنا في قوم لوط. قال ابن جريج: قال إبراهيم للرسل: أتهلكونهم إن وجدتم فيهم مائة رجل مؤمن؟ قالوا: لا. ثم قال: فتسعين؟ حتى هبط إلى خمسة، وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف، يجادل الرسل عن قوم لوط، ليرد عنهم العذاب. وقيل: إنه لم يزل يقول: آرأيتم إن وجدتم فيهم كذا، وكذا مؤمناً أتهلكونهم؟ فيقولون: لا حتى بلغ إلى أن قال: أرأيتم إن وجدتم فيها واحداً مسلماً؟ قالوا: لا. فلم يخبر إبراهيم أن فهيم رجلاً واحداً، يدفع عنهم به البلاء. قال لهم: إن فيها

لوطاً يدفع عنهم به العذاب. {قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32]. وقد بين الله، جل ذكره، ذلك في سورة " والذاريات " فقال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 36] يعني: بيت لوط إلا امرأته. وقيل معنى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}: أي: في المؤمنين منهم خاصة، ثم قالوا: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}. قال ابن عباس: قال الملك لإبراهيم: إن كان فيهم خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وقوله: {أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}: الأوّاهُ: المُبْتَهِلُ إلى الله، D، المتخشع في ابتهاله، الذي يكثر التأَوُّهُ خوفاً، وإشفاقاً من الذنوب، والمنيب: الرجاع إلى طاعة الله D.

77

وقيل: إنما وصفه بالحلم، لأنه A لم ينتصر لنفسه قط، إنما كان ينتصر لله D، ولم يعاقب أحداً بذنب صنعه إلا لله، ولم يغضب قطُّ إلا لله. والأوّاه: الدّعَاء، البكَّاء، والمنيب: التارك للذنوب، الراجع إلى ما يحبه الله D، ويرضى به، وقيل: الأوَّاه: الدَّعاء، وقيل: هو المتأوه، المرتجع من الذنوب. وقوله: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} - إلى قوله - {شَدِيدٍ}. والمعنى: ولما جاءت الرسل لوطاً ساءه ذلك، ولم يعرفهم، وخاف من قومه. {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً}: أي: ضاقت نفسه بهم لما يعلم من فسق قومه. فالضمير في " بهم " في الموضعين للرسل. قال قتادة: قالت الرسل: لا تهلكهم حتى يشهد عليهم لوط، قال: فأتوه، وهو في أرض (له)، يعمل فيها، فقالوا له: إنا متضيفوك الليلة. فانطلق به، فلما مشى، قال: أما بلغكم أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية

بالأرض عملاً، يقول ذلك أربع مرات. وروي أنهم لقوه، وهو يحطب، فسلموا / عليه، فرد عليهم السلام، ثم حمل حزمته، ودعاهم إلى ضيافته. فلما دخل بهم المدينة، مر بقوم فقالوا: هذا مع لوط حاجتنا، قوموا بنا إليهم. فقال لوط: أشهد أنكم قوم سوء، ثم مر بآخرين، فقالوا بمثل ذلك، فشهد لوط عليهم بمثل ذلك، ثم مر بآخرين. فقالوا بمثل ذلك، فشهد عليهم لوط مثل ذلك. فقال جبريل لإسرافيل، وميكائيل، عليهم السلام: هذه ثلاث مرات شهد بها نبيهم عليهم. وقال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم، عليهم السلام، نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم، لقد بنت لوط تستقي من الماء لأهلها، فقالوا لها: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم حتى آتيكم. فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه: إن أدرك فتْيَاناً على باب المدينة، ما

رأيت وجوه قوم هي أحسن منهم، لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلاً، وقالوا: خل عنا نضيف الرجال، فجاء بهم لوط، ولم يعلم أحد إلا أهل بيت لوط، فخجرت امرأته، فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت قط مثلهم. {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ}: أي: يسرعون، وقيل: يسعون، وقيل: يهرولون، فقال لهم لوط: {هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ}: أي: شديد شره، عظيم بَلاَؤُهُ. {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات}: أي: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فراودُوه في أضيافه، فقال: {هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}،

أي: هؤلاء النساء هن أحل لكم، يريد نساءهم، والنبي أبٌ لأمته. وقد قرئ: " وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم " قرأه ابن مسعود. قال عكرمة: إنما قال لهم هذا لينصرفوا، ولم يعرض بأحد. وقيل: عرض التزويج عليهم من بناته إن أسْلموا. وقيل: كان في ملتهم جائز أن يتزوج الكافر المسلمة. وقوله: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ}: أي: يعرف الحق، فيأمر به. قالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}: أي: هل لنا أزواجاً. {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}: أي: أضيافك إياهم نريد، قال لهم لوط، عليه السلام، {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي:

81

أنصاراً ينصرونني عليكم. {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ}: أي: أنضم إلى عشيرة مانعة، تحول بينكم، وبين أضيافي. والجواب محذوف، والمعنى محذوف، والمعنى: لقاتلتكم، ولحلت بينكم وبينهم. وقال ابن جريج: " بلغنا أنه لم يبعث نبي من بعد لوط، إلا في ثروة من قومه. وروى أبو هريرة أن النبي A، قال: " رحمة الله على لوط، إنه كان ليأوي إلى ركن شديد " وقيل: إن لوطاًَ لما قال ذلك وجدت عليه الملائكة، وقالوا: إن ركنك لشديد. قوله: {قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} - إلى قوله - {بِبَعِيدٍ}. والمعنى: قالت له الرسل، لما ضاق، ونزل الركب، فقال لقومه ما قال:

/ {لَن يصلوا إِلَيْكَ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} - بسوء - {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل}: أي: اخرج بهم في بقية من الليل، وفي طائفة منه، {إِلاَّ امرأتك} نهى أن يخرج بها. ومن قرأ بالرفع، فالمعنى: " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " فيكون قد خرج بها، فالتفتت تنظر ما حل بقولمها، فأصابها ما أصابهم. ومن نصب فعلى الاستثناء. وفي قراءة ابن مسعود: " فأسر بأهلك إلا امرأتك ". وهذا يدل على الاستثناء، والمعنى: فأسر بأهلك إلا امرأتك، فيكون المعنى: إنه خرج بهم إلا امرأته، وإنه لم يخرج بها. والنهي في الالتفات، إنما وقع على من خرج معه، إلا امرأته {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ} من العذاب.

قال ابن إسحاق: قال الرسل للوط: إنما ينزل عليهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تُؤمَر. فقالوا: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ}؟ أي: عند الصبح ينزل بهم العذاب. فلما كانت الساعة التي أهلكوا بها، أدخل جبريل عليه السلام، جناحه، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونباح الكلاب، فجعل عليها سافلها، وأرسل عليهم حجارة من سجيل. وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه! والتفتت، فأدركتها أحجار، فقتلتها. وكانت مدائنهم خَمْساً، فدمرت إلا زعن وحدها تركها الله D، لآل لوط، وهي بالشام.

وقال السدي: لما قال لوط: (لو أن لي بكم قوة، أو آوي إلى ركن شديد) بسط جبريل حينئذ جناه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً، يقولون: النَّجَاءَ! النجاءَ! فإن في بيت لوط أسْحَرَ قوم، فذلك قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] فأخرج الله D، لوطاً وأهله إلى الشام. قال مجاهد: " سجيل " بالفارسية أولها حجر، وآخرها طين. وقال قتادة: " سجيل ": طين. وقال ابن عباس: " سجيل ": سنك وجل. فالسنْك: الحجر، والجل: الطين، وهو فارسي أعرب. وقيل: سجيل، من أسجلته، أي: أرسلته، فكأنها مرسلة. وقيل: هي من أسجلت: إذا

أعطيت، فهي من السجل، وهو الدلو. وقيل: " سجيل " من " سجَّل ": إذا كتب، أي: مما كتب لهم، وهو اختيار الزجاج. وقيل: " سجيل " اسم للسماء الدنيا، أي: أرسل عليهم حجارة من سماء الدنيا. والمعنى: أنها حجارة من كتب الله D، لهم أن يعذبهم بها، ويدل عليه قوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 8 - 9]، والنون بدل من اللام. قال عكرمة: " منضود " (مصفوفة)، وقيل: " منضوط ": متراكب بعضها على بعض. وقيل المعنى نضد بعضها على بعض. وقيل: المعنى: إنها في السماء منضودة، أي: مُعدة لهم، يعلق بعضها على بعض.

{مُّسَوَّمَةً}: قال ابن جريج: لا تشبه حجارة الأرض. وقال الحسن: معلمة ببياض، وحمرة. وقال السدي: المسومة المختمة، ثم قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ}: أي: من ظالمي قومك يا محمد، فهذا على التهديد للمشركين. و " هي " تعود على / الحجارة. وقيل: تعود على القرى. وما قرى قوم لوط من ظالمي قومك ببعيد، وكانت قرى قوم لوط بين الشام والمدينة، وأتى ببعيد مذكراً على معنى: بمكان بعيد عند ربك تمام عند أبي حاتم، {مَّنْضُودٍ}: وقف عند نافع، وهو قبيح، لأن " مسومة " نعت للحجارة.

84

{وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} - إلى قوله - {بِحَفِيظٍ}. والمعنى: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً، فقال لهم: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان}: أي: " لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالهم وميزانهم ". {إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}: أي: برُخْصٍ في أسْعَارِكُمْ قاله ابن عباس، وقيل: المعنى: أراكم أغنياء، ذوي مال وزينة. " ومدين ": اسم أرض، فلذلك لم ينصرف، لأنه معرفة مؤنثة. وقال مقاتل: هو اسم رجل في الأصل أعجمي معرفة، وقيل: هو اسم رجل سميت به أمته، فلم ينصرف للتأنيث، والتعريف أيضاً. قوله: و {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}: أي: محيط بكم عذابه، ثم كرر عليهم الوصية، فقال: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط}: أي: بالعدل

{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} أي: حقوقهم. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض}، أي: لا تسيروا في الأرض مفسدين. وقال الضحاك: {وَلاَ تَعْثَوْاْ} أي: لا تسعوا بنقص الكيل، والوزن. {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}: أي: ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد أن توفوا الناس حقوقهم، خير لكم من الذي يبقى لكم يبخسكم الناس حقوقهم. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: أي: " مصدقين بوعد الله D، ووعيده " وقال مجاهد: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}، أي: طاعة الله خير لكم. وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة. وعن ابن عباس: رزق الله خير لكم. وقيل: المعنى: مراقبة الله خير لكم.

87

وقيل: المعنى: حظكم من ربكم خير لكم قاله قتادة. {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}: أي: برقيب. أراقبكم عند كيلكم، ووزنكم، إنما علي أن أبلغكم رسالة ربي. قوله: {قَالُواْ ياشعيب أصلاتك} - إلى قوله - {وَدُودٌ}. والمعنى: قالوا: يا شعيب: أصلواتك أي: أدعواتك {تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من بخس الناس في الكيل والوزن. قال ابن زيد: نهاهم عن قطع الدنانير، والدراهم، كانوا ينقصون منها، ويجوزونها بالوازنة. وقيل: معناه: مساجدك التي تتعبد فيها تأمرك بِنَهْيِنَا. وقد سمى الله، D، المساجد صلوات، فقال: {وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} [الحج: 40]. وقيل: هي صلاته لله D، لأنها كانت على خلاف ما كانوا عليه. قوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} قالوا على معنى الاستهزاء. وقيل:

المعنى: إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك. وقيل: المعنى: أنت الحليم، الرشيد، فكيف تأمرنا بترك عيادة ما كان آباؤنا يعبدون، وتنهانا أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من قطع، أو بخس، أو غير ذلك. وقال: هو تعريض يُراد به الشتم ومعناه: إنك لأنت السفيه الجاهل. ثم قال تعالى حكاية عن جواب شعيب لهم: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ (إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ) مِّن رَّبِّي}: أي: على بيان، وبرهان فيما أدعوكم إليه. {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي: حلالاً، وجواب / الشرط محذوف لعلم السامع. والمعنى: أفتأمرونني بالعصيان. وقيل: المعنى: أفلا أنهاكم عن الضلالة. ثم قال: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: أي: لست أنهاكم عن شيء، وأركبه.

{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت}: أي: ما أريد فيما آمركم به إلا الإصلاح، لئلا ينالكم من الله، D، عقوبة. {وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله}: أي: ليس توفيقي، وإصابتي الحق فيما أنهاكم عنه إلا بالله. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: فوضت أمري إليه، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}: أي: أرجع. {رِزْقاً حَسَناً}: وقف عند أبي حاتم. {مَا استطعت}: وقف عند نافع. ثم قال لهم: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي}: أي: لا يكسبنكم مشاقتي، أي: مخالفتي، وعداوتي، {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ}: من الغرق، {أَوْ قَوْمَ هُودٍ}: من العذاب، {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}: من الرجفة. {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} الذين انقلبت عليهم مدائنهم. وأًل الشقاق في اللغة: العداوة.

91

{واستغفروا رَبَّكُمْ}: أي: من ذنوبكم التي أنتم عليها مقيمون. {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}: أي: ارجعوا إليه باتباع طاعته. {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ}: أي: رحيم لمن تاب إليه، {وَدُودٌ}: أي: ذو محبة لمن تاب وأناب. قوله: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} - إلى قوله - {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} والمعنى: ما نفقه كثيراً مما تقول. وقوله: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي: قيل: ضعيفاً، قيل: إنه A، كان أعمى. قال أبو إسحاق: حمير تسمي المكفوف ضعيفاً. ويقال: إن شعيباً كان خطيب الأنبياء A، ( وعليهم أجمعين). ثم قالوا له: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}: أي: لولا عشيرتك وأهلك لسبَبْناك. وقيل: معنى " لرجمناك ": لقتلناك رجْماً.

{وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}: أي: لست ممن يكرم علينا "، {قَالَ} لهم شعيب: {ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله}: أي: أعشيرتي أعز عليكم من الله، فترركم إيَّايَ لله D أولى لكم من أن تتركوني لعشيرتي، فلا يكون رهطي أعظم في قلوبكم من الله، سبحانه. {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً}: أي: تركتم أمر الله سبحانه، خلف ظهوركم، فلا تراقبوه في شيء مما تراقبون قومي. فالضمير في {واتخذتموه} يعود على اسم الله سبحانه، وقيل: يعود على ما جاءهم به شعيب. {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}: أي: لا يخفى عليه شيء من ذلك، يجازيكم على جميعه. ثم قال لهم: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ}: أي: على منازلكم، وقيل:

المعنى: على مكانتكم من العمل، {إِنِّي عامل}. {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أينا الجاني على نفسه، وأينا المصيب وأينا المخطئ. {مَن يَأْتِيهِ}: " مَنْ ": في موضع نصب " بتعملون "، مثل: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ (المصلح)} [البقرة: 220]. وقيل: هي في موضع رفع على أنها استفهام. " ومَن " الثانية عند الطبري في موضع نصب عطف على الهاء، في " يُجْزِيه " على معنى: ويخزي من هو كاذب منا، ومنكم. {وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}: أي: انتظرونا إني منتظر. {تَعْلَمُونَ}: وقف إن جعلت " مَن " استفهاماً ". وقيل: لا يكون وقفاً، لأن الجملة إذا رفعت في موضع نصب " بتعملون " فالوقف عليه قبيح. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً}: أي: جاء قومه العذاب / نجيناه

96

والمؤمنين به، {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ}، أي: صيحة من السماء أخرجت أرواحهم {فَأَصْبَحُواْ فِي (دِيَارِهِمْ) جَاثِمِينَ} أي: خامدين في دارهم {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}: أي: (كأن لم يعيشوا فيها)، وقيل: لم يقيموا. {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ}، أي: أبعدهم الله، فبعدوا بُعداً. {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}، أي: أهلكهم الله، كما هلكت ثمود. وقيل: المعنى: أبعد الله مدين من رحمته، كما أبعد ثمود، يقال: بعِد يبعد: إذا هلك، وبعُد يبعد: إذا تباعد. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} - إلى قوله - {المرفود}. والمعنى: ولقد أرسلنا موسى بالأدلة، والحجة الظاهرة. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي: أطراف قومه. {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}: أي: اتبع ملؤه قوله، وكذبوا بما جاء به موسى {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}: أي: لا يرشد من اتبعه إلى خير، بل يورده جهنم.

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة}. (قال قتادة: يمضي فرعون بين أيدي القوم) حتى يهجم بهم على النار. وقال ابن عباس: " أضلهم فأوردهم النار، والورد هنا: الدخول " قوله: {وَبِئْسَ الورد المورود}: أي: يبس ما أوردهم. {أَمْرُ فِرْعَوْنَ}: وقف، وكذلك {فَأَوْرَدَهُمُ النار}. ثم قال تعالى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً}: أي: أتبعوا في الدنيا لعنة مع العذاب الذي عجل بهم، وهو الغرق. {وَيَوْمَ القيامة} يلعنون أيضاً، فتلك لعنتان. {بِئْسَ الرفد المرفود}: أي: بئس اللعنة بعد اللعنة، وأصل الرفد: العطاء، والمعنى: الذي يقوم لهم مقام العطاء اللعنة، وبئس العطاء ذلك. والتقدير في العربية: بئس الرفد رفْدَ المرفود.

100

{وَيَوْمَ القيامة}: وقف. قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى} - إلى قوله - {أَلِيمٌ شَدِيدٌ} المعنى: هذا الذي نقصه عليك، مِن أخبار القرى، منها ما هو عامر، ومنها ما هو خرب، فيه عامر. وقيل: المعنى: منها ما بقي أثره، ومنها ما لم يبق له أثر. قال ابن جريج: {مِنْهَا قَآئِمٌ}: خاوٍ على عروشه، وباق رسمه، {وَحَصِيدٌ}: ملزق بالأرض، لا رسم له، وهو معنى قول قتادة، وغير (هـ). ثم قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي: لم نضع العقوبة بهم في

غير موضعها، بل أوجبوا لأنفسهم بكفرهم العقوبة، إذ وضعوا العبادة في غير موضعها. {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ}: التي عبدوها، ودعوها من دون الله شيئاً لما جائهم العذاب، وما زادهم آلهتهم {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}: أي: إلا خسراناً، ونقصاً، وهلاكاً، وتدميراً. ثم قال تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: وكما أخذ ربك يا محمد هذه القرى بظلمهم، كذلك يأخذ القرى الظالم أهلها، فيهلكهم. (هذه الآية تحذير لهذه الأمة أن تسلك في المعصية طريق من كان قبلها من الأمم) فيحل بهم ما حل بأولئك، وأخذ الله D في سطوته. {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}: أي: موجع. ومعنى {أَخَذَ القرى}: أي: أخذ أهلها. وقرأ الجحدري: " إذ أخذ القرى ".

103

قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} - إلى قوله - {غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: والمعنى: إن في أخذه القرى لعظةً، وعبرةً / ممن خاف عذاب الآخرة، وحجة عليه. {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس}: أي: يُحشَر الناس كلهم من قبورهم للجزاء فيه. {(وذلك يَوْمٌ) مَّشْهُودٌ}: أي: يشهده الخلق كلهم: أهل السماء، وأهل الأرض، وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: الشاهد محمد A، والمشهود يومُ القيامة. ثم قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}: أي: ما نؤخره يوم القيامة عنكم إلا لأجل قد قضيتُهُ، وعددتُهُ وأحصيتُهُ. فلا يتقدم اليوم ولا يتأخر. ثم قال تعالى: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَوْمَ يَأْتِ}: أي: يوم تقوم الساعة ما تكلم نفس إلا بإذن الله، وهو مثل قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35]. وقد قال في موضع

آخر: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50]، وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111]، وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39]. وهذه الآيات يسأل عنها أهل الإلحاد. فالجواب عن ذلك: أنه تعالى قد أحصى الأعمال، وعِلِمَها قبل أن تكون، فلا حاجة (له) إلى سؤال أحد عن ذنبه، (ليعلم) ما عنده. فأما قوله: (إنهم مسئولون) فإنما هو سؤال توبيخ، وتقرير، لا سؤال استخبار. وقوله: {لاَ يَنطِقُونَ} [النمل: 85، المرسلات: 35] بحجة تجب لهم، وإنما يتكلمون بذنوبهم، ويلوم بعضهم بعضاً بعد أن ينطلق لهم الكلام، بإذنه تعالى في لوم بعضهم بعضاً، لا في حجة يقيمونها لأنفسهم. {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}: أي: فمن هذه النفوس التي لا تتكلم إلا بإذن الله، سبحانه، شقي وسعيد.

وذكر ابن الأنباري أنه قد قيل: إن الضمير لأمة محمد، A، خاصة: أي: فمن هذه الأمة يا محمد شقي، وسعيد {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار. . .} {خَالِدِينَ فِيهَا. . .} {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}: أي: إلا ما شاء الله من ترك خلودهم، وإخراجهم إلى الجنة بإيمانهم على ما روي في الآثار المشهورة. والأشهر أن الضمير في " فمنهم " يعود على الخلق كلهم، على كل نفس. {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}: قال ابن عباس: " صوت شديد، (وصوت) ضعيف ". قال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عنه ضد ذلك. قال قتادة: " صوت الكافر في النار صوت الحمار، أَوَّله زفيرٌ، وآخره شهيق. وقال أهل اللغة: الزفير مثل: " ابتداء الحمار في النهيق، والشهيق بمنزلة آخر

صوت الحمار في النهيق ". (ولما نزلت) هذه الآية، قال عمر Bهـ: " سألت رسول الله A، فقلت: يا نبي الله فعلام عملنا؟: على شيء قد فرغ منه؟ أم على شيء لم يُفْرَغْ منه؟ فقال رسول الله A: على شيء قد فرغ مِنه يا عمر، وجرت به الأقلام، ولكن كل مُيَسَّر لما خلق له ". قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض}: أي: وقت دوام ذلك. ومعنى الآية: أبداً، لأن العرب تقول: لا أكلمك ما دامت السماوات والأرض، وما اختلف الليل والنهار /. فخوطبوا على ما يعلمون، ويفهمون بينهم.

وقوله: ({إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ}) اختلف في ذلك اختلافاً شديداً. 1 - فمن العلماء من قال: " إلا " للاستثناء، استثنى به من الزمان، " فما " على بابها: لما لا يعقل. 2 - ومنهم من قال: " إلا " بمعنى: " سوى " " وما " على بابها للزمان، فهي في زيادة الخلود. 3 - ومنهم من قال: " إلا " على بابها، و " ما " بمعنى " من ": جاءت لِمَنْ يعقل، فهي استثناء من الأشخاص والمعذبين الذين يخرجون من النار من المؤمنين. وسنذكر قول من بلغنا (قوله) من العلماء في ذلك. قال قتادة: " الله أعلم بِثَنِيَّاه. ذُكِر لنا أن ناساً يصيبهم سَفَعٌ من النار

بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته يسمون: الجهنميون. فيكون هذا الاستثناء في أهل التوحيد. (وقيل: المعنى: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه. وذلك في أهل التوحيد) فهو استثناء من الداخلين النار، لا من الخلود. " فإلا " على هذين القولين لللاستثناء، و " ما " بمعنى " من ": استثنى خروج من يدخل النار من المؤمنين. وقيل: " عنى بذلك أهل النار، وكل من دَخَلَهَا ". وروي عن ابن مسعود Bهـ، أنه قال: " ليأتين على جهنم زمان تَخْفِقُ أبوابها، ليس فيها أحد ". وقال الشعبي: " جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعها خراباً ". وهذان القولان شاذَّان. وقال ابن زيد: هي مشيئته في الزيادة من العذاب، أو في النقصان، وقد

تبين لنا معنى تبيانه في أهل الجنة بقوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: إنه في الزيادة، ولم يبين لنا ذلك في أهل النار. وهو محتمل للزيادة والنقص من العذاب. وقوله تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ: 30]، يدل على أنه في الزيادة. وقال بعض (أهل) العربية: وهو استثناءٌ استثناه، ويفعله، كقولِك: " لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعَزْمِك على ضربه وقال بعضهم: " إلا " هنا: بمعنى سوى. والمعنى: سوى ما شاء الله من الزيادة في الخلود، وهو اختيار أبي بكر. قال: لأن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء في أهل الجنة بقوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، (فدلّ) على أن الاستثناء إنما هو في زيادة الخلود. " فما " على بابها، و " إلا " لللاستثناء. وقول آخر، وهو قول المازني: إنه استثناء إقامتهم، واحتسابهم، ما بين

الموت والبعث. وهو البرزخ، إلى أن يصيروا في الجنة. يقول: لم يغيبوا عنها إلا مقدار إقامتهم في البرزخ. " فما " أيضاً على بابها للزمان، و " إلا " للاستثناء. وقول آخر: وهو أن يكون الاستثناء يراد به من دوام السماوات والأرض في الدنيا. ومعنى: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} يعني: تعميرهم في الدنيا قبل ذلك. وقيل: الاستثناء واقع على مقامهم في قبورهم. وقيل: إن معنى الاستثناء في أهل الجنة مخصوص في بعضهم. يراد به: قدر بعث من دخل النار من الموحدين إلى أن رحموا، وأخْرجوا، وأدخلوا الجنة. وقال ابن زيد: المعنى: " ما دامت الأرض أرضاً، والسماء سماء ". {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}: أي: لا يمنعه مانع من فعل ما أراد. (قال أبو محمد مكي). وقد أفردنا / كتاباً مفرداً لشرح هذه الآية، وذكرنا فيها من أقاويل

العلماء بضعة عشر قولاً، وبيَّنا جواز وقوع " ما " لمن يعقل بياناً شافياً في ذلك الكتاب. وذكرنا في هذا اختصار ما ذكرنا في ذلك الكتاب. ومن قرأ " سعدوا " بالفتح فهي اللغة الجيدة المشهورة. يقال: ما سعد حتى أسعده الله. وإجماعهم على " شقوا " بالفتح يدل على فتح " سعدوا "، ولو كانت بالضم لقيل: " سعدوا "، ومن قرأ بالضم فهي مكروهة عند أكثر النحويين، واحتج الكسائي في الضم بقولهم: " مسعود: (وهذا) لا حجة فيه له، لأن " فيه " محذوفة منه. يقال: مكان مسعود فيه. واحتج الكسائي بقول العرب: " فغر فاه، وفغر فوه "، وجبر العظم وجبرته، ونزحت البئر ونزحتها: فهذا لا يقاس عليه، إنما يسمع

سماعاً. واحتج الكسائي للضم أيضاً، بأنه كذلك سمعتُ من أًحاب عبد الله يقرؤونها. وكان الكسائي، وغيره حكوها لغة في " أسعد ": تسقط الألف وتضم السين. كقوله: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض}، وقال في موضع آخر: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48]. فإن قيل: فما دوام ذلك على هذا؟ فالجواب إن ابن عباس قال: وقد سأله رجل، فقال: يا أبا عبد الله من أي شيء خلقت الأشياء؟ فقال: من خمسة أشياء من نار، وتراب، وريح، وماء، ودخان. فقال له: ومن أي شيء خلقت هذه الخمسة؟ فقال: من نور العرش. فقال له: أفرأيت قول الله D، { مَا دَامَتِ السماوات والأرض}، وقوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وقوله:

{يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] فما دوامها، وقد فنيتا. فقال ابن عباس: فإذا كان ذلك، ردتا إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتان لا بد في نور العرش. ومعنى: {غَيْرَ مَجْذُوذٍ}: غير مقطوع، وقيل: غير منزوع. (شقي وسعيدٌ): وقف. {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وقف عند أبي حاتم في الموضعين. والوقف على الاستثناء في قصة أهل النار جائز وليس بجائز في قصة أهل الجنة، لأن بعده " عطاء " منصوب على المصدر، فما قبله يعمل فيه. فإن نصبته بإضمار فعل وقفت على ما قبله.

109

قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} - إلى قوله - {مُرِيبٍ}. الإشارة في هؤلاء إلى مشركي قريش. والمعنى: فلا يكن من آمن بك يا محمد في شك مما يعبده مشركو قريش من الأصنام، إنها باطل. ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم من قبل. {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} يا محمد {نَصِيبَهُمْ}، أي: حظهم من خير وشر. {غَيْرَ مَنقُوصٍ}: أي: " لا أنقصهم مما وعدتهم ". ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ}: وهذا تسلية من الله تعالى لنبيه عليه السلام، في تكذيب مشركي العرب له، فيما جاءهم به من عند الله D. فالمعنى: آتينا موسى الكتاب، كما آتيناك، {فاختلف فِيهِ}: فكذب بعضهم، وصدق بعضهم، كما فعل قومك يا محمد. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} وهو أنه سبق / أن يؤخر عقوبتهم

111

إلى يوم القيامة. فإنه لا يعجل عليهم. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}: أي: في الدنيا. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}: أي: وإن الذين كذبوا، لفي شك منه إنه من عند الله. {مُرِيبٍ}: أي: " يريبهم، فلا يدرون أحق؟ أم باطل؟ ". قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} - إلى قوله - {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}. قرأ الزهري: " وإن كلاًّ " بالتشديد، لما " بالتنوين مشدداً أيضاً، وقرأ الأعمش: (" وإن كلا " بتخفيف " إنْ "، ورفع " كل " وتشديد " لما ". (وفي حرب أبي ": " وإن كلّ " إلا ليوفينَّ ربك أعمالهم ". وفي حرف ابن

مسعود: " وإن كل) إلا ليوفينهم ربك أعمالهم ". ومن شدَّدَ " إنَّ " نصب " كلاً " بها. واللامُ في " لَما " لام تأكيد. و " ما " صلة، هذا على قراءة التخفيف. والخبر في " ليوفينهم ". والتقدير: وإن كلاً ليوفينهم. وقراءة من خفف إنْ، ونصب " كلا " على هذا التقدير، إلا أنه، خفف " إن " وأعملها كما يفعل الفعل، وهو محذوف منه. وأنكر الكسائي التخفيف والعمل. وقال الفراء: من خف " إن " نصب " كلاً " بقوله: " ليوفينهم، وهذا لا يجوز أن يعمل ما بعد اللام فيما قبلها. ومن شدد " إن " و " لما " فهي غير جائزة عند

المبرد، والكسائي. قال المبرد: لا يجوز: " أن زيداً إلا لأضربنه ". وقال الفراء: الأصل " لمن ما "، فاجتمعت ثلاث ميمات عند الإدغام، فحذفت إحداهن. وهذا لا يجوز عند البصريين. وقال المازني: الأصل التخفيف في " لَما "، ثم ثقلت. وهذا أيضاً لا أصل له، (و) يجوز (تثقيل المخفف)، إلا لمعنى. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: الأصل " لما " بالتنوين، من لممته لمّا: أي: جمعته، ثم بني منه فَعْلى، كما قرأ: " تثرا، و " تثري ".

ومن خفف " إن "، وشدد " لما "، " فإن " بمعنى " ما "، و " لما " بمعنى " ألا " حكى ذلك الخليل، وسيبويه بمنزلة قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي: إلا عليها حافظ والقراءات الثلاث تكون فيها " إن " بمعنى " ما " لا غير. وقد قيل: في قراءة من شدد " إنَّ " وخفف " لما ": إنَّ (ما) بمعنى: " من ". وإن المعنى: وإن كلا {لَّمَّا} ليوفينهم ربك أعمالهم، كما قال: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3]: أي: ما طاب لكم نكاحه. وقوله: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: أي: " لا يخفى عليه شيء من عملكم ". ثم قال تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ}: أي: دم يا محمد على ما أنت عليه.

{وَمَن تَابَ مَعَكَ}: أي: رجع إلى عبادة ربك، يدوم على ذلك. {وَلاَ تَطْغَوْاْ}: أي: ولا تتعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. {إِنَّهُ بِمَا (تَعْمَلُونَ) بَصِيرٌ}: أي: ذو علم، لا يخفى عليه شيء من عملكم. وقال سفيان: معنى {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ}: أي: " استقم على القرآن "، {وَلاَ تَطْغَوْاْ}: وقف. ثم قال تعالى: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ}. قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب: " فتمسكم " بكسر التاء. وقرأ قتادة: ولا تركُنوا بالضم في الكاف، يقال: رَكَنَ يركنُ، وركُنَ يركَنُ. قال ابن عباس: معناه: لا تذهبوا إلى الكفار.

114

وقال ابن جريج: لا تميلوا إليهم. وقال أبو العالية: " لا ترضوا أعمالهم ". وقال قتادة: لا تلحقوا بالشرك ". وقال ابن زيد: الركون هنا: / الإذعان. وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم، وهذا لأهل الشرك. نهى الله D، المؤمنين أن يميلوا إلى محبتهم، ومصافاتهم، وليس لأهل الإسلام. فأما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فقد بينت السنة، والكتاب أنه لا يجوز أن يركن إلى شيء من معاصي الله، ولا يصالح عليها، ولا يقرب. فالمعنى: ولا تميلوا إلى قول المشركين، فتمسكم النار، (بفعلكم ذلك). {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}: إن فعلتم. وليس لكم ولِيّ من دون الله، ينقذكم من عذابه. قوله {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} - إلى قوله - {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}.

وقال أبو جعفر: " وزُلُفاً " بضم اللام. وقرأ ابن مُحيصن بإسكان اللام فمن فتح اللام، فهو حمع واحده زلفة، وزلف، ومن ضم اللام فواحدةٌ " زليف " كقريب، وقرب. وقيل: عو واحد مثل الحلم، والحلم. وقرأ مجاهد: " وزلفى " مثل " فعلى ". والزلف: الساعات، واحدها زلفة. ومن هذا سميت المزدلفة، لأنها منزل بعد عرفة. وقيل: سميت (بذلك) لازْدِلافِ آدم من عرفة إلى حوَّاء، وهي بها. ومن أسكن اللام خففها من " زلفى " بالضم. ويعني بالزلف: الساعات القريبة من الليل.

ومعنى الآية: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار}، يعني: الغداة، والعشي، فالغداة الصبح، والعشاء مجاهد هي صلاة الظهر. ورُوي عنه: الظهر والعصر، وقيل: عنى بها صلاة المغرب، وهو قول الحسن، وابن زيد. وروي عن منصور، عن مجاهد أنه قال: {طَرَفَيِ النهار} صلاة الفجر، والظهر، {وَزُلَفاً مِّنَ اليل}: المغرب والعشاء. وقال الضحاك: عنها بها صلاة العصر. وقال مجاهد: وزلفاً من الليل: أي: ساعات من الليل: صلاة العتمة. وروي عن الحسن: أنها صلاة المغرب، والعتمة. والاختيار عند الطبري، وغيره أن تكون صلاة المغرب، لأنها طرف، تصى بعد غروب الشمس، كما

صلاة الصبح طرف، تصلى قبل طلوع الشمس: فكلاهما طرف. وقوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات}. (روى ابن عمر أن النبي A، قال: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر " " وقال أبو عثمان النهدي: كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك، فقلت: ما أضحكك؟ قال: إني كنت مع رسول الله A، يوماً تحت شجرة، فأخذ غصناً منها، فهزَّه حتى تساقط ورقه، ثم ضحك. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أضحكني أن العبد المسلم إذا توضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى الصلوات الخمس، تساقطت عنه

ذنوبه كما تساقطت هذه الورق، ثم تلى هذه الآية {وَأَقِمِ الصلاة} - إلى آخرها ". وروي عن مجاهد، عن ابن عمر، أنه قال: " ما من مسلم يتوضأ، فيحسن الوضوء، إلا تناثرت عنه خطاياه، كما تتناثر ورق الشجرة اليابسة. ثم تكون صلاته نافلة (له). ثم قرا ابن عمر: {وَأَقِمِ الصلاة} الآية قال ابن عباس وغيره: هي الصلوات الخمس. وقال مجاهد: هو قولنا: سبحان الله /، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وقيل: المعنى: أن التوبة تذهب الصغائر. {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ}: أي: النهي عن الركون إلى الذين ظلموا، وإقامة الصلاة تذكرة لقوم يذّكرون، وعد الله D،

وثوابه، وعقابه، سبحانه. " وروي أن هذه الآية نزلت في رجل أتى إلى النبي A، فقال: يا رسول الله! إني وجدت امرأة في بستان قبلتها والتزمتها، ونلْت منها كل شيء إلا الجماع، فافعل بي ما شئت. فأنزل الله {وَأَقِمِ الصلاة} - إلى قوله - {لِلذَّاكِرِينَ}. فقال معاذ بن بن جبل: يا رسول الله! أخاصٌّ له أم عام للناس؟ (فقال: بل للناس كافة " وقال أنس بن مالك، Bهـ، " أتى رجل إلى رسول الله A، فقال

له: إني أصبت حداً، فأقمه عليّ. فأمسك النبي A، عنه. وحضرت الصلاة، فصلى: فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً، فأقم علي كتاب الله. فقال: أصليت معي؟ قال: نعم. قال: قد غفر الله لك ". وقيل: المعنى: أن الصلوات الخمس، يكفرن ما بينهن من الذنوب، إذا اجتنبت الكبائر. ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}: أي: " اصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى ". فالله لا يضيع ثواب من صبر في الله D. ثم قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أي: فهلاَّ كان من القرون الذين خصصنا خبرهم في هذه السورة، أو لو بقية في الفهم، والعقل، فيعتبرون مواعظ الله D، ويتدبرون حججه، جلت عظمته فينتهون عن الفساد. وفي الكلام معنى التعجب. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} قليل هو استثناء ليس من الأول.

قال ابن زيد: هم الذين نجوا حين نزل العذاب، يعني: قوم يونس عليه السلام، ومن نجا مع الرسل. {اتبع الذين ظَلَمُواْ} أي: من دنياهم وبطرهم. والمعنى: اتبعوا ما أبطَرَهُمْ فيه ربهم من نعيم دنياهم، إيثاراً على الآخرة، وما ينجيهم من عذاب الله. وقال مجاهد: ابتعوا مهلكهم وتَجَبُّرَهُم، وتركوا الحق، واستكبروا عن أمر الله. والمترف في كلام العرب (المُنَعَّمُ في الدنيا) الذي قد غُذِّي باللذات. {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ}: أي: مكتسبين الكفر. {مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ}: وقف وقد أجاز أبو حاتم الوقف على الأرض، ورُدَّ ذلك عليه، لأن بعده استثناء.

117

قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} إلى قوله: {لِلْمُؤْمِنِينَ} والمعنى وما كان ربك يا محمد أن يهلك القرى التي قص عليم نبأها (بظلم)، وأهلها مصلحون، ولكن أهلكها بكفرها. وقيل: المعنى: ما كان الله ليهلكهم بظلمهم، أي: بشركهم، وهم مصلحون، لا يتظالمون بينهم، إنما يهلكهم إذا جمعوا مع الشرك غيره من الفساد. ألا ترى إلى قوله في قوم لوط؟: {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} [هود: 78]، يريد الشرك، فعذبهم باللواط الذي أَافوه إلى شركهم. وأخبر الله عن قوم شعيب أنه عذبهم لنقصهم الكيل، وأمسك عن ذكر شركهم، وهذا قول غريب. وقال الزجاج المعنى: " ما كان ربك ليهلك أحداً، وهو يظلمه كما قال: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} [يونس: 44]. ثم قال / تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}: أي: " على مِلَّة واحدة، ودين واحد ". قال قتادة: كلّهم مسلمين، {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}: أي لا يزال الناس

مختلفين. وروي عن ابن عباس أنّه يعني في الأديان: اليهود، والنصارى. وقيل: في الأرزاق، هذا فقير، وهذا غني. قاله الحسن. وقيل: في المغفرة والرحمة. {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}: أي: لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف. وقيل: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ}: أهل الإيمان والإسلام. وقوله: {ولذلك خَلَقَهُمْ} قال الحسن: للاختلاف في الأرزاق خلقهم. وقال ابن عباس: خلقهم فريقين: فريقاً يرحم، وفريقاً لا يرحم يختلف، وذلك قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]. وقال عطاء: ولذلك خلقهم: يعني: مؤمناً وكافراً. وقال أشهب: سألت

مالكاً، رحمة الله، عن قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} فقال: خلقهم ليكونوا فريقاً في الجنّة، وفريقاً في السعير. ففي الكلام على هذا القول تقديم وتأخير، والتقدير: " إلا من رحم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنّم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم ". وقد كان يجب في قياس العربية على هذا التقدير أن يكون اللفظ: وتمّت كلمته. وروى ابن وهب: عن عمر بن عبد العزيز Bهما، أنه قال في معنى الآية: خلق الله أهل رحمته لئلا يختلفوا. وقيل: المعنى: وللرحمة خلقهم. والرحمة، والرحم واحدة، فلذلك ذكر. قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك. وروي أيضاً ذلك عن ابن عباس، وقيل: إنّ هذا متعلق بما قبله، وهو

قوله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} [هود: 116]، ولذلك خلقهم. (وقيل: هو متعلق بما قبله بقوله: {رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ}، ولذلك خلقهم): وهو قول مالك المتقدّم. وقيل: المعنى: وللاسعاد خلقهم، وقيل: للإسعاد والإشقاء خلقهم. ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}: أي: وجبت: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ}: لما تقدم في علمه أنهم يستوجبون ذلك. وقوله: {مِنَ الجنة}: يعني: ما اجتن عن عيون بني آدم من الجن والناس، يعني: بني آدم أجمعين، وذلك على التوكيد. وقيل: إنّما سموا " جنة " لأنهم كانوا على الجنان. والملائكة كلهم جنة لاستتارهم. ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل}: أي: من أخبارهم، وأخبار أممهم يا محمد. نفعل ذلك لنثبت به فؤادك، لأن كلما كثرت البراهين كان القلب أثبت. والفؤاد يُراد به القلب، وهذا كما قال إبراهيم صلوات الله

عليه، {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وقيل: المعنى: ما نثبتك به على أداء الرسالة، والصبر على ما ينالك منهم. فتعلم ما نالت الرسل، وما حلّ بها قبلك، فتتأسى بذلك. و" كلا " منصوب ل " نقص "، " وما " بدل من " كل ". وقال الأخفش: كلا " نصب " على / الحال. وقال غيره: هي منصوبة على المصدر: أي: كل القصص نقص عليك. ثم قال تعالى: {وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى}: أي: في هذه السورة. قالَهُ ابن عباس، والحسَن، ومجاهد، وقتادة. وقيل: في هذه الدنيا، رُويِ ذلك عن قتادة. والمعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، مع ما جاءك في غيرها من السور. وليس

121

المعنى: وجاءك في هذه السورة الحق، دون غيرها، بل في الكل جاء الحق. وذكر في هذه السورة بهذا تأكيداً لما فيها من القصص والمواعظ، وذكر الجنة والنار ومقام الفريقين. والقسم بأن يوفي لكل عمله، وغير ذلك من الإخبار، والمواعظ، والتحريض على إقامة الصلوات وغير ذلك. وليس إذا كان في هذه الحق فيما لا يكون في غيرها، بل غيرها فيه الحق. وقد اختار قومٌ قول قتادة: إن المعنى: في هذه الدنيا، وموعظة: لمن جهل، (وذكرى) لمن عقل من المؤمنين. قوله: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إلى آخر السورة - أي: وقل يا محمد للذين لا يؤمنون بما جئت به، اعلموا على طريقتكم وتمكنكم، وما أنتم عليه، {إِنَّا عَامِلُونَ}: على ما نحن عليه من الأعمال التي أمرنا ربنا بها، {وانتظروا} ما وعدكم الشيطان {إِنَّا مُنتَظِرُونَ}: ما وعدنا الله.

ثم قال تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}: أي: ملك ما غاب عنك، ومعرفته. {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ}: أي: يرد كله، وهو الحاكم في جميعهم، ومجازيهم. {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}: أي: " فوض أمرك إليه " {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: " هؤلاء المشركون من قومك، بل هو محيط بهم "، عالم بما يعملون. قال كعب: " خاتمة التوراة خاتمة هود ".

يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم سورة يوسف عليه السلام مكية قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} إلى قوله {سَاجِدِينَ} قد تقدم الكلام في {الر}. و {تِلْكَ} عند الطبري بمعنى " هذه ". والمعنى: تلك آيات الكتاب المبين: " حلاله وحرامه، ورشده وهُداه ". {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} الهاء تعود على خبر يوسف، وهو اختيار

النحاس، وغيره. أي: إنا أنزلنا خبر يوسف، وذلك أن اليهود سألوا النبي، A: لِمَ انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، وعن خبر يوسف. فأنزل الله، ( D) هذا بمكة موافقاً لما في التوراة، وفيه زيادة ليس عندهم. وقيل: إن " الهاء " تعود على الكتاب المبين، وهو القرآن. ومعنى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} آية: أي: مجموعاً، مبيناً عربياً. {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي: {تَعْقِلُونَ} آية: أن محمداً إذا أتاكم بأخبار الغيب، وهو ممن لا يقرأ كتاباً.

وقيل: معناه: إنه أنزله عربياً لينقطع عذر العرب، إذ نزل بلسانهم، فمعنى: (تعقلون): أي: لتعقلوا ما أنزل عليكم، ولا عذر لكم في ترك فهمه، إذ هو بلسانكم. ثم قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص}: أي: نحن نخبرك يا محمد عن (ال) أمم الماضية، والقرون السالفة أحسن الخبر، وأصحَّه. وما كنت يا محمد من قبل أن ينزل عليك هذا {القرآن وَإِن} من الغافلين عن هذه القصص، والأخبار. وقيل: معنى نقص: نبين. وقال ابن عباس: قال أصحاب النبي A، ( له): لو قصصت علينا فنزلت {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص}. وروي أن أصحاب النبي A، ملُّوا ملَّة. فقالوا:

يا رسول الله! حدثنا. فأنزل الله D: { الله} {نَزَّلَ} {أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [الزمر: 23]. ثم قال تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يا أبت}، العامل في " إذ " الغافلين. وقرأ طلحة بن مصرف {يُوسُفُ} بالهمزة وكسر السين. وحكى ابن زيد: يؤسف بالهمزة، وفتح السين. والوقف عند سيبويه وأصحابه على " يا أبه بالهاء، لأن الهاء بدل من الياء التي للإضافة. ومذهب

الفراء: الوقف بالتاء، لأن الياء عنده في النية. ومن فتح التاء، فلأنها (أ) شبهت بالهاء التي هي علامة التأنيث، كما قال الشاعر: كليني لهم يا أميمة ناصب. وهذا مذهب سيبويه. وقال قُطْرُب: وهو أحد قولي الفراء، لأن الأصل: يا أبتا (هـ)، ثم حذفت الألف. ويكون الوقف على قول سيبويه بالهاء، وهو قول أحد الفراء الآخر. والندبة في هذا لا يجوز، إذ ليس هو من مواضعها. والعلة التي من أجلها

دخلت الهاء في هذا أن قولك: " أبوان ": تثنية الأب. واللام يوجب أن يكون يستعمل (أب وأبت) كما أن قولك: " والدان " للأب والأم يُوجب: " والد، ووالدة ". فلما لم يستعمل " أبِهِ " استغنى باللام - استعمل ذلك في النداء في " الأب "، وأَجْرُوه مجرى ما وصف فيه المذكر مما فيه الهاء نحو: " علامة وَنَسَّابة. وقال الفراء: إنما هي الهاء التي تزاد في الوقت، أكثر بها الكلام فنبهت بهاء التأنيث. قرأ الحسن، أبو جعفر " أحد عْشْر " بإسكان العين لكثرة الحركات.

وقال: رأيتهم لأنه أخبر عنها بالسجود، وهو فعل من يعقل، ومثله: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] و {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]. وقيل: لما كان تفسير ذلك واقعاً على إخوة يوسف، وأبيه، وخالته، أخبر عنهم، بالهاء والميم. وذلك حقهم في الحكاية، والإخبار عنهم. قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً. والأحد عشر هم: أخوة يوسف، والشمس أمه، والقمر أبوه. هذا قول ابن عباس، وغيره. ويروى أن رؤيا يوسف كانت ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر، فأشفق يعقوب أن يحسده إخوته على ذلك. فنهاه أن يقصَّها عليهم. وقال قتادة، وغيره: الشمس خالته، والقمر أبوه. وظهرت رؤيا

5

يوسف عليه السلام، بعد رؤيتها بأربعين سنة. وقد روي أن يعقوب، عليه السلام، فسر الرؤيا " تأول الأحد عشر كوكباً: أحد عشر نفساً، لهم فضل يستضاء بهم، وهم إخوة يوسف، وتأوّل الشمس، والقمر: أبويه، فتأوّل أن يوسف يكون نبياً، وأن إخوته يكونون أنبياء، لأن الله D، أعلمهم أنه يتم نعمته عليه، وعلى أبويه. قوله: {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} إلى قوله {حَكِيمٌ}. (هذا اللفظ) يدل على أن يعقوب كان له علم بعبارة الرؤيا، ويدل على أنه كان قد أحسّ من إخوة يوسف ليوسف حسداً، فخافهم عليه. والمعنى. لا

تخبرهم برؤياك هذه، فيحسدوك، ويبغوا لك الغوائل، ويطيعوا فيك الشيطان. وكان يعقوب صلى الله عليه، (وعلى محمد) قد تبيَّن له من إخوة يوسف ليوسف / الحسد. فلذلك قال (ل) له هذا. ولذل [ك] قال السدي: نزل يعقوب عليه السلام، الشام، فكان همه يوسف، وأخاه، فحسدهما أخوتهما. ومعنى {فَيَكِيدُواْ لَكَ (كَيْداً)} أي: فيتخذونك كيداً، وقيل: اللام زائدة. والمعنى: فيكيدوك كيداً. ثم قال تعالى: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}: أي: وهكذا يجتبيك ربك: أي:

يختارك، يصطفيك. {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث}: أي: كما أراك ربك الكواكب، والشمس، والقمر سجوداً لك، كذلك يصطفيك. وتأويل الأحاديث: عبارة الرؤيا، وقيل: أخبار الأمم. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (أي): بالاصطفاء {كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ}: أخبره أنه يكون نبياً. قال عكرمة: ويتم نعمته عليك، وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم، وإسحاق. فنعمته على إبراهيم، بأن نجَّاه من النار، وعلى إسحاق أن نجاه من الذبح. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بخل (قه)، {حَكِيمٌ} في تدبيره.

7

قوله: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} - إلى قوله - {فَاعِلِينَ}. من قرأ " آية "، فمعناه: عبرة، ومن جمع، فمعناه: عبرة للسائلين (عن أخبارهم)، وقصصهم. وقيل: إن هذه السورة نزلت تسلية من الله تعالى، لمحمد A، فيما يلقى من أقاربه من قريش. فأعلمه ما لقي يوسف من إخوته، ثم قال ذلك ابن إسحاق. ثم قال تعالى: {إِذْ قَالُواْ} العامل في " إذ " معنى الآيات. والعصبة: العشرة فما فوق ذلك إلى خمسة عشر، وقيل: إلى الأربعين. وقولهم: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}: أي لفي خطأ في إيثاره علينا يوسف،

وأخاه من أمه بالمحبة. ومعنى: {مُّبِينٍ}: يبين عن نفسه أنه أخطأ لمن تأمَّله فمعناه: أنه ضل في محبتهما، وتقديمهما علينا، وهُمَا صَغِيرَانِ، ونحن أنفع منهما وأكبر. ولم يصفوه بالضلال في الدين. قال ذلك السدي. ثم حكى عنهم تعالى إنهم قالوا: {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} أي: في أرض. وجاز حذف الحرف (منه)، على أنه مفعول ثان، وليس بظرف، (و) لأنه غير مبهم. {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: يتفرغ إليكم أبوكم من شغله بيوسف. {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}: فالهاء في " بعده " تعود على الطرح، وقيل: على يوسف. وقيل:

على القتل: أي: يتوبون من قتله بعد هلاكه. وقال مقاتل: {قَوْماً صَالِحِينَ} أي: تصلح حالكم، وأمركم عند أبيكم. قوله: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ}: نهاهم أحد الإخوة عن القتل، وأمرهم بطرحه في غيابات الجب. والقائل هذا روبيل كان أكبر القوم، وهو ابن خالة يوسف، قال ذلك قتادة، وابن إسحاق. وقال مجاهد: كان (القائل) شمعون، وقيل: هو يهوذا، وكان يهوذا من أشدهم في العقل، وهو الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي} [يوسف: 80]. ومعنى: {كَبِيرُهُمْ} [يوسف: 80] أي كبيرهم في العقل، قاله مقاتل، وغيره. قال الضحاك: الذي قال {لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] / هو الذي قال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} [يوسف: 80].

وروي أنه كان ليعقوب A، عشرة من الولد، من خالة يوسف. وكان له من أم يوسف ولد غير يوسف، وهو الذي أخذ بالصاع. وروي أنهم كانوا من أربع نسوة. وروي أنه أول من كان وقع في قلوب إخوة يوسف من يوسف A ما وقع أنه رأى قبل رؤيته الكو (ا) كب، كأنه خرج مع إخوته يَحْتَطِبُونَ، فسجدت حزم إخوته لحزمتهن فأخبرهم بذلك. ذلك عليهم. قال قتادة: الجب بئر بيت المقدس. والجب: البئر التي ليست بمطوية، سميت جُبّاً، لأنها قُطِعَت قطعاً، ولم يحدث فيها غير القطع، ولا طيّ ولا غيره. والجب يذكر ويؤنث. وقرأ الحسن " تلتقطه " بالتاء، لأن بعض السيارة سيارة، فأتت على المعنى.

11

ورويت عن مجاهد، وأبي رجاء، والمعنى: فأخذه " بعض مارة الطريق من المسافرين ". قال ابن عباس: " التقطه ناس من الأعراب ". {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}: أي: " إن " كنتم فاعلين ما أقول لكم ". قوله: {قَالُواْ يا أبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على (يُوسُفَ) وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} إلى قوله {لَّخَاسِرُونَ}. وقرأ يزيد بن القعقاع، وعمرو بن عبيد: " تأمنَّا " بغير إشْمَامٍ. وقرأ طلحة بن مصرف " تأَمَنَنَّا " بنونين ظاهرتين.

وقرأ يحيى بن ثَّاب، والأعمش، وأبو رزين تيمناً بتاء مكسورة بعدخا ياء الإدغام. والمعنى: مالك لا تأمنا على يوسف يخرج معنا إذا خرجنا إلى الصحراء. {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا} إلى قوله: {لَحَافِظُونَ} " نحُوطُهُ ونكلؤه ". ومن قرأ " نرتع بالنون، وكسر العين، فمعناه: نرتع الغنم والإبل. وهو نفعتل من رعى (يرعو). وقال مجاهد: نرتع: أي: نحفظ بعضنا بعضاً، أي: نتحارس، ونتكالؤ.

من: رعاك الله، ومن أسكن العين فمعناه: نقيم في الخصة والسعة، من رتع. يقال: رتَّع فلان في ماله: إذا لهى فيه. ومعناه عند ابن عباس: يلهو، وينبسط. ومن قرأ بالياء، وكسر العين، فهو يفتعل من " رعى " أي: يرعى الغنم، ويعقل، ويعرف الأمور. ومن أسكن العين، وقرأ بالياء، فمعناه: أرسله يتفرَّج، وينشط في الصحراء: من رتع.

وقولهم: {وَيَلْعَبْ} ليس هو اللعب الصادُّ عن ذكر الله سبحانه. وروي هم قُنْبُل، عن ابن كثير إثبات الياء في " نرتعي "، على نية الضمة فيها، وفيه بعد. وإنما يجوز في الشعر. ثم قال: تعالى حكاية عن قول يعقوب لهم: {قَالَ إِنِّي ليحزنني} إلى قوله: {لَّخَاسِرُونَ}: من همز " الذئب " أخذه من قولهم: تذاءبت الريح: إذا جاءت من كل مكان. فهمز " الذئب " لأنه يجيء من كل مكان. قال ذلك أحمد بن

15

يحيى كأنه شبهه في سرعته، وروغانه بالريح. ومن لم يهمز فعلى تخفيف الهمز. وقيل: إنه جعله ليس بمشتق، مثل: الفيل، والميل، والكيس. وإنما خاف يعقوب، عليه السلام، من الذئب دون سائر السباع، لأنه كان رأى في المنام كأن ذئباً شد على يوسف، فخرجت تلك الرؤيا في دعواهم. {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}: أي: لا تشعرون {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} /: أي: أحد عشر رجلاً {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ}: أي: لعجزة هالكون. قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ}: أي: أجمع رأيهم، وعزموا على ذلك. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ}: أي: لتخبرنهم بما صنعوا بك، وهم لا يعلمون بك. قال الضحاك: لما ألقي يوسف في الجب، نزل إليه جبريل، عليه السلام، فقال له: يا

يوسف: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن عجل الله بخروجك من هذا الجب. فقال: نعم، فقال له جبريل، صلوات الله عليه،: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحشة: أيتني بالفرج والرخاء، وأقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحداً سواك. فردَّدَها يوسف عليه السلام، في ليلته مراراً فأخرجه الله D، في صب [ي] حة يوم ذلك من الجب. وقال السدي: خرجوا به، وله عليهم كرامة، فلما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أخوه يضربه، فيستغيث بالآخر (فيضربه فجعل " لا يرى منهم رحيماً " فضربوه حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح، ويقول: يا أبتاه! يا يعقوب! لو علمت ما صنع بابنك بنو الإماء. فلما كادوا يقتلونه، قال يهوذا: أليس قد

أعطيتموني موثقاً من لله لا تقتلونه. فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، فجعلوا يدلونه في البئر وهو يتعلق بشفير البئر. فربطوا يديه ونزعوا عنه قميصه. فقال: يا (أ) خوتاه: ردوا علي قميصي، أتوارى به في الجب. فقالوا له: ادع الشمس والقمر، والأحد عشر كوكياً ليُؤْنسوكَ. فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرَادَةِ أن يموت. فكان في البير ماء، فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها. فقام عليها، وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة منهم، أدركتهم عليه. فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه. فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه. وقيل: كان الجب الذي ألقوه فيه، لا ماء فيه. فأحدث الله فيه ماء، حتى مال إليه الناس. وكان يهوذا يأتيه بالطعام. والواو في " وأجمعوا " زائدة للتأكيد، وهو جواب " لما ".

قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ}: أي: إلى يوسف لتُخْبرن إخوتك بأمرهم هذا الذي صنعوا بك، وهم لا يعلمون، ولا يدرون. (و) هذا يدل على أنه أوحي إليه قبل البلوغ (بإلهامٍ)، أو في منام، أو برسول. وقيل: المعنى: " أوحى الله وجل إليه لتخبرهم بما " {صَنَعُواْ} [هود: 16، الرعد: 31]، وهم لا يشعرون بالوحي الذي أوحى " الله D " إليه. قال مجاهد، وابن زيد: وقيل: المعنى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، (أن) الذي يخبرهم بصنيعهم هو يوسف. وقيل: المعنى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنه نبي يوحى إليه.

وقيل: الهاء ليعقوب، أي: أوحى الله إلى يعقوب أن ابنك كاده إخوته، ولَتَعْرِفنهم بكيدهم، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}: أي: وإخوة يوسف / " لا يشعرون بالوحي إلى يعقوب ". (قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف) على يوسف. (عرفهم)، {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف: 58]. فقال: جيء بالصواع. فوضعه على يديه، (ثم) نقره، فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم، يقال له: يوسف، يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به، فألقيتموه في غيابات الجُبّ. قال: ثم نقره،

16

فطَنَّ فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله، وجئتم على قميصه بدم كاذب. فقال بعضكم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم. فذلك معنى {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنك يوسف. ثم قال تعالى: {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ}. قال السدي: أتوا إلى أبيهم عشاءاً يبكون، فلما سمع أصواتهم فزع، وقال: ما لكم يا بني؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: " لا، قال: فما فعل يوسف؟ فقالوا: {يا أبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}: كان السبق عندهم على الأرجل، كالسبق على الخيل، لأنه آلة للحرب. فلما قالوا: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} بكى الشيخ، وصاح بأعلى صوته، فقال: أين القميص؟ فجاؤو (هـ). بالقميص، عليه دك كذب، فأخذ القميص فطرحه على وجهه، ثم بكى حتى تخضب وجهه من دم القميص. قوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا}: أي: بمصدق لنا، {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}: قال:

المبرد: وإن كنا صادقين. وقيل: المعنى: ليس بمصدق لنا لو كنا من أهل الصدق الذين لا يتهمون لِسُوءِ ظنك بنا. وقيل: المعنى: ولو كنا عندك من أهل الصدق، لا تعمتنا في يوسف لمحبتك إياه. وقيل: المعنى: قد وقع في قلبك إنّا لنصدقك في يوسف، فأنت لا تصدقنا. وذلك أن يعقوب كان (قد) اتَّهَمَهُمْ عليه، فلما وقع ما وقع، تأكدت التهمة لهم. وإلا فيعقوب، صلوات الله عليه، لا يكذب الصادق، وليس هذا من صفة الأنبياء، صلوات الله عليهم. وإنما كذبهم لتأكيد التهمة، وكثرة الدلائل على كذبهم. فالمعنى: ما أنت بمصدق لنا وقد وقع (بك) ما تحذر، ولو كنا عندك صادقين من قبل، غير متهمين، لوجب أن تتهمنا (الساعة) عند مصيبتك. فكيف وقد كنت

18

متهماً له (فيه) من قبل. ثم قال تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}، أي: بدم ذي كذب. قال ابن عباس: ومجاهد: ذبحوا سخلة على قميصه. وقال السدي: ذبحوا جدياً، ثم لطخوا القميص بدمه، ثم أقبلوا إلى أبيهم، فقال يعقوب عليه السلام، (إن كان هذا الذئب لرحيماً كيف أكل لحمه، ولم يخرق قميصه؟ يا بني، يا يوسف ما فعل بك بَنُو الإماء!؟ قال الحسن: جعل يعقوب يقلب القميص، ويقول: ما عهدت الذئب حليماً، إنه أمل ابني، وأبقى على قميصه. ثم قال مكذباً لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} أي: زينت لكم في يوسف، وحسنته لكم. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: أي: فأمري صبر جميل، وشأني صبر. (أي): فصبري

عليه صبر جميل. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على معنى: " فاصبر صبراً جميلاً " على المصدر. والرفع أبْلَغُ /، وأحسن، وإنما يختار النصب في الأمر خاصة. والصبر الجميل: هو الصبر الذي لا جزع معه. وروي عن النبي A، أنه قال: " هو الصبر الذي لا شكوى معه وكان يعقوب عليه السلام، قد سقط حاجباه،: فكان يرفعهما بخرقة. فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان، فأوحى الله D، إليه: أتشكوني يا يعقوب؟ فقال: رب خطيئة أخطأتها، فاغفرها لي ". ثم قال: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ}: أي: على احتماله. وقال قتادة: " على ما تكذبون ".

قال الثوري: ثلاث من الصبر: أن لا تحدث بما يوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك. ومن حديث أبن لهيعة، رفعه إلى ابن عمر، أن يعقوب عليه السلام قال لبنيه: يا بني " إيتو (ني) " بالذئب الذي أمل ولدي، إن كنتم صادقين، قال: فخرجوا إلى واد لهم يسعون فيه، فإذا هم بذئب قد انحطَّ عليهم من شفير الوادي، فاعترضو (هـ) سراعاً، وأخذوه قسراً، وأوثقوه كتافاً، وعمدوا إلى حمل أبيهم فقالوا: هذا الذئب الذي أكل يوسف أخانا. فقال لهم أطلق (و) هـ فقال له: يعقوب: قف

19

أيهما الذئب بإذن الله، فوقف الذئب مقعى على ذنبه. فقال له: يعقوب: أسألك أيها الذئب بالذي اتخذني نبياً، وبعثني رسولاً. هل أكلت يوسف فيما أكلت؟ فقال له الذئب: والذي بعثك رسولاً، واتخذ (ك) نبياً. إن هذه البلاد ما دخلتها إلا ساعتي هذه، ثم حكى ليعقوب ما صنعوا به وبالحمل. ثم قال الذئب: يا نبي الله، وأنا أسمو إلى أكل نبيي! أو ما علمت أن لحوم الأنبياء محرمة على السباع؟ قال له يعقوب: اصدقت أيها الذئب. أنت كنت أشفق على يوسف من أخوته "، اذهب حيث شئت. قوله: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} - إلى قوله - {أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}. والمعنى: ومر قوم يسيرون، من مارة الطريق، {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ}: وهو

الذي يرد المنهل (أ) والمنزل، وور (و) ده إياه، مصير إليه {فأدلى دَلْوَهُ}، أي: أدخلها الجب، وأرسلها. يقال: أدليت الدلو: إذا أرسلتها في الجب، ودلوتها إذا أخرجتها؟. وفي الكلام حذف، والمعنى: فدلى دلوه: أي: أخرجها فتعلق بها (يوسف)، فقال المدل (ي): (يا بشراي هذا غلام). فقال السدي: لما رآه قد تعلق، نادى رجلاً من أصحابه، يقال له: بشرى: يا بشرى، هذا غلام. وكذلك قال ابن جبير، وقتادة. وهو معنى قراءة من قرأ " يا بشراي ".

وقيل المعنى: يا بشار (ت) ي دعا بشارته. ومن قرأ بغير ياء، احتمل أن يكون دعا رجلاً اسمه بشرى فلم يضفه إلى نفسه فهو في موضع رفع. وقيل: إنه دعا البشرى، كأنه قال: يا أيتها البشرى. ومعنى نداء البشرى: أنه على تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة. فكأنه قال: يا قوم أبشروا، ويجوز أن تكون هذه / القراءة، يراد بها الإضافة، ثم حذف (ت) الياء. ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: وأسر يوسف الوُرَّادً بضاعة من

التجار. قالوا لهم: هو معنا بضاعة، استَبْضَعْنَاهُ، بعض أهل الماء " التي " إلى مصر. وذلك أن السدي قال: لما رفعه المستدلي، وأصحابه، باعو (هـ) من رجلين. فخاف من التجار أن يعلموا بثمنه. فيقول (ون) لهما: أشركانا فيه. فقالوا: هو بضاعة (معنا) لأهل الماء. وقال مجاهد: المعنى " أسره التجار بعضهم من بعض ". وعن ابن عباس: أن المعنى: وأسره إخوته، وأسر يوسف نفسه (من التجار) خوفاً أن يقتله إخوته. واختار البيع، وذلك أن إخوته ذكروه لوارد

القوم، فنادوا الوارد: يا بشرى هذا غلام يباع، فباعه إخوته. ثم قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} أي: بثمن ذي بخس، أي: حرام. وقوله: (وشَرُوْهُ): يحتمل أن يكون معناه: وباعون، وأن يكون اشتروه، وهو من الأضداد. قال مجاهد: باعه إخوته حين أخرجه المدلى. وقال قتادة: وغيره: المعنى: وباعه السيارة من بعض التجار، بثمن بخس. وقيل: المعنى: فاشتراه السيارة من أخوته بثمن بخس، وهو اختيار الطبري، ثم خافوا أن يشركهم فيه أصحابهم، وقالوا هو بضاعة. معنى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين}، أي: إخوته.

وقيل: هم الذين اشتروه، والأول أحسن، لأن إِشْراءَهُم إياه من التجار يدل على (آن) رغبتهم فيه، وبيع إخوته له بثمن بخس يدل على زهادتهم فيه. ويجوز أن يكون الضمير: الوارد، أي: وكان الوارد الذي رفعه من الجب فيه من الزاهدين، والذين اشتروه من الوراد، وليسوا بزاهدين فيه، بل اشتروه خوفاً أن يشركهم فيه غيرهم لرغبتهم فيه. والبخس عند ابن عباس، والضحاك: الحرام. وقيل: هو الظلم، وهو قول قتادة. وقال مجاهد: هو القليل، وهو قول عكرمة. والبخس في اللغة النقصان، فمعناه: [ب] ثمن مبخوس: أي: منقوص. ومعنى {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}: أي: غير موزونة، ناقصة.

وقيل: المعنى: أنها أقل من أربعين، لأنهم كانوا لا يزنون ما كان أقل من أربعين، لأ (ن) أقل أوزانهم، وأصغرها الأوقية، (وهي) أربعون درهماً. وقال ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما: كانت عشرين درهماً. وقال مجاهد: كانت اثنين وعشرين درهماً، أخذ كل واحد من إخوة يوسف درهمين، درهمين، وهم أحد عشر رجلاً. وقال عكرمة: كانت أربعين. وكان إخوة يوسف فيه من الزاهدين، لا يعلمون نبوءته وكرامته على الله. ثم قال (تعالى): {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي (مَثْوَاهُ)}: والذي اشتراه: هو الملك بمصر. قطفير وهو العزيز. وكان على خزائن مصر، وكان

الملك المعظم عندهم / يومئذ: الريان بن الوليد، رجل من العمالقة. وكان اسم امرأة العزيز راعيل، وكان الملك زوجها لا ولد له، ولم يكن يأت [ي] النساء، فأراد أن يتبناه. وروي عن ابن مسعود أنه، قال: أفرس الناس ثلاثت [ة]: العزيز، حين قال لامرأته {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، وابنة شعيب حين قالت لأبيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي (الأمين)} [القصص: 26]، وأبو بكر الصديق، Bهـ، حين ولى عمر، Bهـ. ثم قال تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض}: والمعنى وكما خلصناه من القتل من أيدي إخته، كذلك مكنا له في الأرض، فجعلناه على خزائنها.

وقيل: المعنى: وكذلك مكنا له في الأرض، بأن عطفنا قلب الملك عليه حتى تمكن على الخزائن. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث}: مكناه، وهذا تصديق ليعقوب في قوله ليوسف: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} [يوسف: 6]: وتأويل الأحاديث عبارة الرؤيا. {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ}: أي: مستولٍ على أمر يوسف. وقيل: غالب على أمره: أي (مستول على أمره)، يفعل ما يشاء. " فالهاء " [في] المعنى الأول ليوسف، وفي الثاني لله. وقيل: إنها في القول الثاني ليوسف (أيضاً). [أي]: غالب على أمر يوسف، يفعل فيه ما يشاء. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}: وهم الذين باعوه بثمن بخس، وزهدوا فيه،

22

والذين مضوا به إلى مصر وباعوه. قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} - إلى قوله - {مِنَ الخاطئين}: أي: ولما بلغ منتهى قوته، وشدته. قال مجاهد: هو ثلاث وثلاثون سنة. وقال ابن عباس: بضع وثلاثون سنة. وقال الضحاك: عشرون سنة. وقال ربيعة، وزيد بن أسلم، ومالك، Bهم: الأشد الحُلُمُ. وقال الزجاج: الأشد: من سبع عشرة إلى أربعين. والأشد جمع عند سيبويه، واحدُهُ " شدة " كنعمة وأنْعُم.

وقال الكسائي: واحدة شدة كقد وأقُدُ. وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه عند العرب. وقال يونس الأشد جمع واحدةُ شد، وهو يذكر ويؤنث وفيه لغتان، وهي ضم الهمزة. قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْماً (وَعِلْماً)}: قال مجاهد: العقل، والعلم قبل النبؤة. وقيل: المعنى: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك.

وآتيناه علماً بالحكم. {وكذلك نَجْزِي المحسنين}. أي: ومثل ما فعلناه بيوسف، نفعل بمن أطاع، وأحسن في طاعته. وقيل: المراد به محمد A. ولفظه عام، والمراد به الخصوص، والمعنى: وكما فعلنا بيوسف في تمكينه، ونجيناه من إخوته. كذلك نفعل بك يا محمد: نمكنك وننجيك من مشركي قريش، ونؤتيك الحكم والعلم. ومن قرأ {هَيْتَ لَكَ} بالفتح، فتح لالتقاء الساكنين. ومن همز جعله من (تهيأت) / (لك). ومن كسر، لالتقاء الساكنين. ومن ضم كذلك شبهها بقبل وبعد.

ومن لم يهمز، أبدل من الهمزة تاءً. ويجوز أن يكون ليس من تهيأت، وإنما بني لأنه صوت، لاحظ له في الإعراب. وقد قيل: إن من همز، فإنما هو من: " هاء يَهيءُ " مثل جاء يجيء. ومعناه: حسنة هيئتك. ومن قرأ بالياء فعلى التخفيف من هذا المعنى، ويكون " لك " من كلام آخلا، كما نقول: " لك عندي ". وقيل: إن من همزه، وضم التاء، فهي من تهيأت. والتاء للمتكلم كتاء قمت، (كما) يقول الرجل: هيأت للأمر، أهيء، هيأة. والمعنى وراودت يوسف امرأة العزيز عن نفسه للجماع، وغلقت أبواب البيت عليها، وعليه، وقالت: {هَيْتَ لَكَ}: أي: هلم لك، أي: اذْن، وتقرب، وتعال.

يقال: هيت فلان لفلان: إذا دعاه. وقال ابن عباس: {هِيْتَ}: كلام بالسريانية، تدعوه إلى نفسها. قال يوسف لها: (معاذ الله): أي: أعوذ بالله معاذاً. والمصدر يدل على الفعل. {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}: " أي: إن العزيز مالكي، وصاحبي، أحسن مثواي، وقيل: إن معنى الكلام: إن العزيز سيدي، يعني زوج المرأة. وقيل: " الهاء " لله. والمعنى: إن الله ربي أحسن مثواي، فلا أعصيه. وقيل: " الهاء: عماد بمعنى الخبر، والأمر، فيكون " ربي " مبتدأ، و " أحسن " خبره. وعلى القول الأول: " ربي " خبر " إنَّ ". ومعنى: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} - إذا كان للعزيز-: أي: أحسن قراي، ومنزلي، وائتمنني

فلا أخونه. وإذا كان لله: فمعناه: أحسن خلاصي، وعلمني، وخلقني فلا أعصيه {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}: أي: إن الحديث لأبقى للظالمين. وأصل الفلاح: البقاء، أي: " هذا الذي تدعونني إليه ظلم، ولا يفلح من عمل به. والأبواب: وقف عند نافع، ولَكَ التمام عند غيره. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}. قيل: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه السوء ". وقيل: " كذلك ": في موضعها لا تأخير فيها. ذكر أنها جعلت تذكر له محاسن نفسه، وتشوقه، إلى نفسها. قال السدي: قالت له: يا يوسف! ما أحسن عينيك، قال: هي أول ما يسيل إلى الأرض من جسدي. قال: فلم تزل به حتى أطعمته (فهمت به، وهمّ بها) فدخلا البيت

وغلقت الأبواب، وذهب ليحل سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب، " قائماً في البيت " قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف تواقعها، فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق. ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وقع في الأرض، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. ومثلك إذا لم تواقعها مثل الثور / الصعب، لا يعمل عليه. ومثلك إذا واقعتها مثل الثور حين يموت، فيدخل النمل في أصول قرونه، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه فربط سراويل (هـ) وذهب، ليخرج يشتد، فأدركته، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه، فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط، وَطَرَحَهُ يوسف، واشتد نحو الباب.

والهَمُّ بالشيء في كلام العرب: حديث النفس {بِهِ}، ما لم يفعله. ويروى أن يوسف، عليه السلام، لما خلا بها قامت لتستر ما بينهما، وبين الصنم، فقال لها يوسف: ما تفعلين؟ فقالت: أستر ما بيننا وبين هذا الصنم، لا يراني خاليةً معك. فقال لها يوسف: وأي شيء يستُرني من ربي. وقال الحسن: زعموا - والله أعلم - أن سقف البيت انفرج، فرأى يوسف يعقوب عاضاً على إصبعه، فَولَّى هَارباً. وقيل: رآه جبريل، عليهما السلام، قائلاً له: يا يوسف!. جعل الرحمان اسمك في الأنبياء، وتعمل عمل السفهاء. لئن واقعت الخطيئة، ليمحونك من

ديوان النبؤة. (و) قال ابن أبي مليكة عن ابن عباس: نودي أيا يوسف! أتزني! فتكون مثل الطير الذي نتف ريشه، وذهب يطير فلم يستطع. وقيل: ركضه جبريل A، بعد النداء ركضةً في ظهره، فلم تبق فيه شهوة إلا خرجت. فوثب واستبقا الباب، وتطاير (ت) مسامير الباب، فلم تقدر أن تعلقه عليه. فتعلقت به، فقدّت قميصه من دبر. وقال علي بن أبي طالب (Bهـ): همّ يوسف أن يحل التك [ة]، فقامت

إلى صنم مكلل بالدُّرر، والياقوت، فسترته بثوب أبيض، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟ قالت: أستحي من إلاهي هذا أن يراني على هذه الصورة. فقال: أتستحين من صنم لا يعقل، ولا يسمع، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا أستحي من إلاهي القائم على كل نفس بما كسبت، والله لا تنالها مني أبداً. وقيل: رأى في جدار البيت مكتوباً: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] الآية. وقال وهب: رأى كفاً فيها مكتوب: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 32]، ورأى (بعدها كفاً) فيها مكتوب {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] إلى قوله - {تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12]، ثم رأى كفاً ثالثة فيها مكتوب {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] الآية -، ثم رأى رابعة فيها مكتوب

{واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] الآية. فولى يوسف هارباً. وقال محمد بن كعب: رأى مكتوباً بين عينيها {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] الآية. قال ابن عباس: همّ يوسف بها، حتى حمل الهِميات، وجلس منها مجلس الخاتن والروايات فيها كثيرة، لأنه قد حلّ وجلس، واستلقت هي له. وقال أهل العلم: إنما ابتلى الله أنبياءه بالخطايا، ليكونوا على وَجَلٍ

وإشفاقٍ، ولا يَتَّكِلُوا على سعة عفو الله عزّ وجلّ. وقيل: بل ابتلاهم بذلك، ليعرفهم موضع نعمته عليهم /، بصفحه عن ذنوبهم. وقال أبو عبيدة: المعنى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ}: تَمَّ الكلام. {وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}: " لولا أن رأى برهان ربه، هَمَّ بها ": على التقديم والتأخير، ينفي عن يوسف أن يكون هَمَّ بالخطيئة. وقد خالفه في ذلك جميع أهل التفسير، ولا يجوز هذا أيضاً عند أهل العربية، لأنه لو كان كما قال، لكان باللام. لا يجوز عندهم: " ضربتك لولا زيد ". والمعنى عندهم: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، لأمضى ما همَّ به. وقد قيل: إنَّ الهَمَّ بها: هو ما يخطر على القلب من حيل الشيطان، وذلك مما لا

يؤاخذنا الله به. وقيل: معنى {وَهَمَّ بِهَا}: أي: بضربها، ودفعها، ولم يفعل [ذلك] لئلا يكون [ذلك] لها حجة عليه. أَلقَى الله في نفسه ذلك فلم يفعله. وقيل: إنه نودي، يا يوسف! تزني، وأنت مكتوب في الأنبياء، تعمل عمل السفهاء. وقال الحسن: رأى صورة فيها وجه يعقوب، عاضّاً على أنامله، فدفع في صدره، فخرجت شهوته من أنامله. فكل ولد يعقوب ولد به، إثنا عشر ولداً، إلا يوسف فإنه له أحد عشر ولداً، نقَّصَ له بتلك الشهوة ولداً.

وروي أنه نظر إلى يعقوب عاضاً على أنامله، يقول له: يا يوسف أتزني كما زنت الحمامة، فتساقط ريشها. وكان ذلك جبريل، عليه السلام. وقيل: إنه سمع من قومه قائلاً، يقول {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. وروي أنه كان لامرأة العزيز صنماً تعبده في بيتها، فلما أرادته أرخت على صنمها الستر لئلا يراها. فقال لها يوسف: أنت تستحيين من صنم، لا يسمع، [ولا يعقل]، ولا يبصر، وأنا لا أستحي من رب العالمين، الذي لا يحجبني عنه شيء فولَّى هارباً. وقيل: البرهان أنه تفكر فيما أوعد الله، D، على الزنا.

وقيل: إنه تذكر في قول الله D: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]، وفي قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61]، وفي قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وفي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32]. وروي عن ابن عباس أنه رأى تمثال الملك. ثم قال تعالى: {واستبقا الباب}: أي: استبق يوسف، وامرأة العزيز الباب ليهرب منها (فلحقت قميصه) فقدمته من دبر، وصادفاً زوج المرأة، وهو العزيز عند الباب. قال السدي: وجد زوجها جالساً عند الباب، وابن عمها معه، فلما رأته حضرها كيد، وخافت أن تفتضح، فقالت: {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا}، إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي، فشققت قميصه. قال يوسف: بل هي راودتني عن نفسي، فأبيت وهربت منها. فأدركتني فشقت قميصي. فقال ابن عمها: تبيان هذا في

القميص، فإن كان من قُبُل فصدقت، وإن كان من دبر، فكذبت. فأوتي بالقميص فوجد أنه قُدَّ من دبر. فقال العزيز: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} / آية. ومعنى: {سواءا} هنا: الزنا، ولم يكن يوسف يُريد أن يذْكُره لزوجها حتى كان (ت) هي التي ابتدأت بالكيد، فغضب، فقال: هي {رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} والشاهد ابن عمها. وقيل: هو صبي كان في المهد، قاله ابن عباس. وقيل: كان من خاصة الملك، حكيماً من أهلها، وهو " أشبه " لأنه لو كان

طفلاً كان في كلامه في المهد، وشهادته وحكمه (آية ليوسف) ولا يحتاج إلى ثوب، ولا غيره. والقول عند المازني مضمر، والمعنى: فقال: إن كان قميصه. ويروى أنها قالت هو حوّل قميصه. وخرقه ليكون له حجة فروي أن يوسف قال عند ذلك: هذه علامة في ظهري، لا تنالها يدي من كل جانب تناولته هي. فعلموا عند ذلك أنها التي قدَّت القميص، فعند ذلك قال العزيز: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ}. وقيل: إن القائل هذا هو الشاهد، ورد الجواب على قولها: {مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا}. ثم قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}: أي: قال الشاهد: يا يوسف أعرض عما كان منها اليوم لا تذكره لأحد. {واستغفري} أنت زوجك: أي: سليه، ألا يعاقبك على ذنبك. {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} هذا كله قول الشاهد لهما. وقال: {مِنَ الخاطئين}، ولم يقل: " من الخاطئات ": لأنه قصد الخبر عن من يعقل " كلهم ":

30

المذكر والمؤنث، فغلّب المذكر. أي: إنك كنت من الناس الخاطئين. قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} إلى قوله: {الصاغرين}: المعنى: وتحدث نسوة بمصر بخبر امرأة العزيز، ولم ينكتم أمرها، وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها. والعرب تسمي الملوك فتى. {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً}: أي فقد بلغ حبه إلى شغاف قلبها، حتى غلب عليه. والشفاف: غلاف القلب. وقيل: حجابه وقيل: الشغاف: حبه القلب، وسويداؤه. وقرأ أبو رجاء، والأعرج، وقتادة: " شعفها " بالعين " غير معجمة: أي: قد

ذهب بها كل مذهب، لأن شغاف لجبال أعاليها. وقال الشعبي: الشفاف: حب، والشغف: جنون. {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في خطأ ظاهر، {إِذْ رَاوَدتُّنَّ} [يوسف: 51] غلامها عن نفسه. فلما سمعت امرأة العزيز بقول النسوة، وما مَكَرْن ذلك أنهن فيما روي، فعلن ذلك لتريهن يوسف. فقلن ما قلن مكراً بها، فلذلك سمي قولهن مكراً. وقيل: إنها كانت أطلعتَهُنَّ على ذلك، واستكتمتهن، فأفشين ذلك، ومكرن بها. فلما سمعت بما فعلن، أرادت ان تُوقِعهن فيما وقعت هي فيه: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً}: أي: أعدت لهن مجلساً، أو مما يتكئن عليه من النمارق. وهو يفتعل من " وكأت " والأصل فيه: " مؤتكاً "، ففعل به ما فعل " بمتزر " من الوزر. وقد نطق به بالتاء / مع غير تاء الافتعال. قالوا: " تك الرجل متكئاً ".

وقال ابن جبير: متكئاً: طعاماً وشراباً. وقال السدي: ما يتكئن عليه. وقال ابن عباس: مجلساً. وقرأ الحسن: " متكئ " بإسكان التؤ من غير همز، على ون " فع (ى) وهو المجلس والطعام. وقال الضحاك: المتك: الزُّمَاوَرْد، وقيل هو الأترنج، وروي ذلك عن ابن عباس. وحكي القتيبي أنه يقال: " اتكأ عند فلان، أي: أكلنا عنده "

قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً}: يدل على أنه طعام يقطع بالسكاكين. فكأنه في التقدير: وأعتدت لهنَّ طعاماً متكئاً، ثم حذف مثل {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]. والسكين: يُذَكر، ويؤنث عند الكسائي، والفراء، ولا يعرف الأصمعي إلا التذكير. {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ}: أي: قالت ليوسف: أخرج، فخرج (عليهن) {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}: أي: عظم وجل في أعينهن، وكَبُر، وعظم، وبُهْتنَ. وقيل: {أَكْبَرْنَهُ}: حضن الحيض البين. " فالهاء " على القول الأول ليوسف، وعلى القول الثاني للحيض، كناية على

المصدر. وأكبر [ن]، بمعنى حضن، مروي عن ابن عباس، والضحاك. وعن مجاهد أن المعنى: فلما رأينه أعظمنه فحضن. وقوله: {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} بالحز بالسكاكين. قال السدي: جعلن يحززن في أيديهن، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ما يعقلن مما طرأ عليهن من جماله، وهيأته. وقال قتادة، ومجاهد: " تقطعن أيديهن حتى ألقينها ". قال عكرمة: قطعن أيديهن: أي: أكمامهن. وروي أن يوسف، وأمه أعطيا ثلث الحسن وعن النبي A، أنهما أعطيا ثلث الحُسن).

وقوله: {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ}: أي: معاذ الله. وحاشا يكون بمعنى التنزيه، وبمعنى الاستثناء، وهي هنا للتنزيه. {مَا هذا بَشَراً}: استَعظَمْنَ أمره، إذ لم يرين من البشر مثله. {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}: أي: من الملائكة. قالت لهن: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}: أي: فهذا الذي حلّ بكن في تقطيع أيديكنَّ الذي لمتنني في حبه. وقال الطبري: ذلك بمعنى هذا. ثم قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} إقراراً منها أن ما قيل حقٌّ، {فاستعصم}:

33

قال قتادة: استعصى، وقال ابن عباس: امتنع. {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ (لَيُسْجَنَنَّ)}: أي: إن لم يطاوعني على ما أدعوه إليه {لَيُسْجَنَنَّ} {وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين}: أي: من المهانين، المذلين بالحبس، والسجن. وكأن في الكرم تقديماً، وتأخيراً، لأن تهديدها له بالسجن والهوان. أي: إن لم يساعدها إنما كان قبل تخزيق القميص، وقبل معرفة زوجها بما (جرى) لها معهن والله أعلم بذلك. فهذا الذي يدل عليه معنى النص: إذ بوقوف زوجها على القصة، انقطع ما بينهما، وطالبته بالعقوبة فسُجِن. قوله: {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} إلى قوله: {حتى حِينٍ}

قرأ عثمان Bهـ: " السَّجن بفتح السين والمعنى: رب، إن السجن أحب إلي، فهو مصدر. وهي قراءة ابن أبي إسحاق، والأعرج، ويعقوب. ورويت عن الزهري. ومن كسر جعله اسماً. والمعنى: أن يوسف عليه السلام، اختار السجن على ما دعته إليه من الزنا. قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} يعني: مراودتُهُن. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}: أي: أَمِلْ إليهن.

وقيل: أتابعُهُنَّ، وأكن بصبوتي من الذين جهلوا حقك، و [خ] الفوا أمرك. قوله: {أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29]: وقف. وقوله: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31]: وقف عند نافع (فاستعصم): وقف. ثم أخبر تعالى أنه استجاب له بعصمه منها، ومن كيدها، وذلك أن في قوله: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}، شكوى ما حل به منها، وكذلك رضاه بالسجن هو شكوى. فاستجاب له ذلك، فصرف الله عنه ما اشتكى به إليه. {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} دعاء من دعاه، (العليم): بمصلحة خلقه. وقوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} قيل: سنة، وقيل: سبع

سنين. والحين: اسم للزمان يقع (ع) لى القليل والكثير. وفاعل {بَدَا} عند سيبويه ليسجننه. وعند المبرد مضمر، وهو المصدر: كأنه بدا لهم بداء. والعرب تقول: بدا ليَّ بدءاً " أي تغيّر رأيي عمّا كان عليه، ومنهم من يقول: " قد بدا لي "، ولا يذكر " بدا " لكثرته في الكلام. وهذا من ذلك. وقيل: المعنى: ثم بدا لهم رأي، ثم حذف الرأي. لأن الكلام يدل على المعنى، أي: ظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونَهُ، (ثم حذف الرأي). فالمعنى: ثم ظهر للعزيز رأي أن يسجنه، وأخبر عنه بلفظ الجمع لأنه ملك ولأنه لم يذكر اسمه. فالمعنى: ثم ظهر للعزيز رأي أن يسجن يوسف من بعدما

كان ظهر له أن يتركه مطلقاً، ومن بعدما رأوا الآيات ببراءته، وهي: (قد) القميص من دبر، وقطع أيدي النسوة، وخمش الوجوه. ومعنى {حتى حِينٍ}: إلى سبع سنين. وقيل: إن الله جعل ذلك الحبس ليوسف كفارة لذنبه، إذ همَّ بالخطيئة. قال ابن عباس: عثر يوسف، عليه السلام، (ثلاث عثرات): حين همَّ بها فسجن حتى حين، وحين قال: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]. ونسي ذكر الله، (سبحانه) فلبث سنين في السجن، وحين قال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فسكتوه بقولهم: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77]. وعن ابن عباس (أيضاً): أنه قال: عوقب يوسف A، ثلاث مرات. وذكر ما

36

ذكرنا عنه. وقال السدي: كان أصل حبس يوسف أن امرأة العزيز قالت له: إن هذا العبد العبراني، قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم، ويخبرهم أني راودته عن نفسه. ولست أطيق أن أعتذر بعذري. فإما أن تأذن لي في الخروج، وإما أن تحبسه كما حبستني. فظهر له أن يحبسه، ففعل. والضمير في " لهم " للملك، وأعوانه، وأصحابه. قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} إلى قوله {يَشْكُرُونَ}. كان الفتيان غلامين من غلمان الملك الأكبر. أحدهما: صاحب شرابه، والآخر: صاحب طعامه / سخط عليهما الملك. وذلك أنه بلغه أن صاحب الطعام يريد أن يَسُمَّهُ

له وظن أن صاحب الشراب مالأه على ذلك. قال ذلك السدي: [قال]: لما دخل يوسف في السجن قال: إني أعبُر الأحلام. فقال أحد الشابين [لصاحبه]: هلم فلنجرب هذا [العبد] العبراني. فَتتَراءَيَا له، فَسَأَلاَه من غير أن يكون رأيا شيئاً، فقال صاحب الطعام: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ}، وقال صاحب الشراب: {إني أراني} أعصر خمراً وقيل: بل كانا رأياها على صحة في منامهما. وروي أنه لما فسر لهما ما رأيا رجعاً، فقالا ما رأينا شيئاً، وإنما جربناك. فقال يوسف A: { قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] أي: لا بد من كون ما قلت لكما من عبارة رؤياكما. وقال ابن مسعود: قال الفتيان: إنما كنا تحالمنا لنجربا إنما كنا نلعب، فقال

يوسف لهم: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] (قال مجاهد: قال يوسف لهما): أنشدكما الله أتحباني. فوالله ما [أ] حبني أحد قط، إلا دخل علي من حبه بلاء: لقد أحبتني عمتي، فدخل علي من حبها بلاء، ثم لقد أحبني أ [بي]، ولقد دخل عليّ من حبه بلاء، ثم لقد أحبتني زوجة صاحبي هذا، فدخل علي من حبها بلاء، فلا تحباني. بارك الله فيكما. (قال) فَأَبَيَا إلا حبه، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله. وفي قراءة ابن مسعود: " أعصر عنباً " ومعناه: خمر عنب. قال ابن عباس: لغة عمان يسمون الخمر عنباً و (قيل): المعنى: أعصر

عنب خمر ومعنى: {فَوْقَ رَأْسِي} أي: على رأسي. وقوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}: أي: تحسن إلينا. قيل: كان يعود مريضهم، ويقوم عليه، ويعزي حزينهم. وكان إذا احتاج [منهم] إنسان جمع له، وإذا ضاق المكان وسع له، ويجتهد لربه. قال: لما دخل السجن، وجد قوماً قد انقطع رجاؤهم، واشتد بلاؤهم، وطال حزنهم، فجعل يقول: اصبروا تُؤْجَرُوا أجراً [إ] ن لهذا ثواباً. فقالوا: يا فتى بارك الله فيك، ما أحسن وجهك، وأحسن خلقك، (لقد) بُورِكَ لنا في جوارك، ما نحب أنَّا كنا في غير هذا المكان لما تخبرنا من الأجر والكفارة، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف، نبي الله، ابن يعقوب بن ذبيح الله إسحاق، ابن خليل الله إبراهيم.

قال ابن مسعود: أعطي وأمه ثلث حسن الناس. وقال جعفر بن محمد: أعطي يوسف نصف حسن الناس. وروي مثله عن النبي A، أنه قال: إن كانت المرأة الحامل لتراه فتضع). وقيل معنى: {مِنَ المحسنين}: إن نبَّأتنا بتأويل رؤيانا. قال يوسف لهما {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ}: أي: في منامكما {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} يعني: في يقظتكما {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} تأويل ما رأيتما. قال (ذلك السدي وابن اسحاق). ثم قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} أي: برئت منها. وإنما أجابهما يوسف بهذا، وليس / بداخل في السؤال، لأنه كره أن يجيبهما عن تأويل رؤياهما، لما علم فيها من رؤيا الذي رأى أنه يحمل فوق رأٍه خبزاً.

وأعرض عن جوابهما مرتين، وأخذ في غيره كذا قال ابن جريج ومعنى: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}: إن الملك (كان) إذا أر (ا) د قتل إنسان، صنع له طعاماً معلوماً. فأرسل به إليه. فقال يوسف لهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ} يعني: من عند الملك {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}: أي: أخبرتكما: هل هو طعام من يراد قتله، أو طعام من يراد به غير ذلك. فأعلمهما أن عنده علماً من معرفة الطعام. فيكون المعنى: في اليقظة، لا في النوم. وكان هذا بعدوله عن تفسير رؤياهما لما كره من ذلك، فلم يدعاه يعدل عن حوابهما، وسألاه ثانية، وكره العبارة فتمادى في العدل. وقال:

{ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39]- إلى قوله - {يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46]: فلم يدعاه حتى سألاه ثالثة فعبر لهما، وقال {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا (فَيَسْقِي) رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41]- الآية - فلما عبر قالا: ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب فقال: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]. قوله: {أَن يَأْتِيكُمَا} وقف (وفي) " ربي ": وقف. قوله: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}: أي: دينهم، وطريقتهم {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله (مِن شَيْءٍ)}: (دليله الشرك)، (ولفظه) لفظ الخبر، ومعناه النفي أي: لم يشرك بالله، دليله الشرك الذي بعده.

39

قوله: {ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} فهو مقابل له: أي: ما ينبغي لنا أن نشر (ك) في عبادة الله أحداً. {ذلك مِن فَضْلِ الله} (أي تركنا الشرك، هو من فضل الله علينا) وعلى الناس، إذ جعلنا دعاة لهم إلى توحيده. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ}: أي: من يكفر لا يشكر. قال ابن عباس: {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا}: إذ جعلنا أنبياء، " وعلى الناس " أن بعثنا إليهم رسلاً ". قوله: {ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ} - إلى قوله - {تَسْتَفْتِيَانِ} روي أن يوسف عليه السلام قال: هذا لأن أحد الفَتييْن كان مشركاً، فدعاه بهذا إلى الإيمان، ونبذ الآلهة، فجعلهما صاحبي السجن لأنهما فيه. والمعنى: يا من في السجن. وهذا

كقوله تعالى لسكان الجنة: {أولئك أَصْحَابُ الجنة} [البقرة: 82، الأعراف: 42، يونس: 26، هود: 23] ولسكان النار {فأولئك أَصْحَابُ النار} [البقرة: 81، 275]. والمعنى: أعبادة أرباب متفرقين خير؟ أم عبادة {الله الواحد القهار}. قال قتادة: لما علم يوسف أن أحدهما مقتول دعاه إلى حظه في الآخرة. ثم قال (تعالى): {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ}: فجمع، لأنه قصد المخاطب، وكل من عبد غير الله، فجمع على المعنى: أي: ما تبعد أنت، ومن هو على ملتك {إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ}: أي: لم يأذن الله لكم بذلك، أنتم أحببتم أسماءها وآباؤكم. {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ}: أي: من حجة، ومن كتاب، ومن دلالة. وقوله /

{أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}: أي: أسس الدين عليه لئلا يُعبد غيره. {ذلك الدين القيم}: أي: ذلك الذي دعوتكم إليه هو الدين الي لا اعُوِجَاجَ فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}: وهم المشركون. ثم قال: {ياصاحبي السجن}: يخاطب الفَتَيَيْنِ {أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً}: أي: سيده الملك، وهو (الذي) رأى أنه يعصر خمراً. {وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} فقال عند ذلك: ما رأينا شيئاً، فقال: {قُضِيَ الأمر الذي (فِيهِ) تَسْتَفْتِيَانِ}. وقيل: إنما أنكر الذي أخبره أنه يصلب. فقال: قضي الأمر سواء رأيت، أو لم تر وكان اسمه مجلث، واسم الثاني نبو. قال ثابت البنان (ي): دخل جبريل عليه السلام على يوسف في السجن، فعرفه

42

يوسف، فقال له: أيها الملك، الحسن وجهه الطيب ريحه، الكريم على ربه: {هَل لَّكَ} [النازعات: 18] علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: فما صنع؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن، قال: وفيم ذلك؟. قال: عليك. قال: فما بلغ من حزنه؟ (قال): حزن سبعين مُثْكِلَة قال: فما له من الأجر على ذلك؟ قال: أجر مائة شهيد. قال الحسن: مكث يعقوب، عليه السلام، ثمانين سنة، أو نحوها، لا يفارق قلبه الحزن، ولا تجف عيناه من البكاء. وإنه لأَكْرَمُ أهل الأرض على الله يومئذٍ. قوله: ({وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ (نَاجٍ مِّنْهُمَا} - إلى قوله - {بِعَالِمِينَ} المعنى: وقال يوسف للذي علم أنه ناج) من الفتيين: اذكرني عند سيدك،

وهو الملك الأعظم. وأعلمه بمظلمتي وأني محبوس بغير جرم. وقيل: المعنى: اذكر ما رأيته مني من العلم بعبارة الرؤيا، وبحال (ي) في العلم عند الملك. قوله: {الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ}، أي: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف للملك. فالهاءان للساقي، بدلالة قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]، أي: تذكَّر الساقي ما قاله له يوسف بعد حين، يدل على أن النسيان كان من الساقي: أنساه الله D، أن يذكر يوسف عليه السلام. وقيل: المعنى أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه D فالهاءان ليوسف: أي: أنسى يوسُفَ الشيطان أن يرجع إلى ربه، ويسأله خلاصة،

ويرد أمره إلى الله D ورجع إلى سؤال أحد الفتيين أن يذكره عند الملك، فلبث في السجن عقوبةً بضع سنين. (قال النبي A: " لولا كلمةُ يوسف، ما لبث في السجن ما لبث " يعني قوله: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أي: عند سيدك. قال ابن دينار لما قال يوسف للساقي: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ}. قيل: يا يوسف اتخذ [ت] من دوني وكيلاً، لأطيلنَّ حبسك. فبكى يوسف، وقال: يا رب: أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمةً فويل لإخوتي. ويروى أن يوسف لما قال لصاحب الشراب: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أتاه جبريل عليه السلام فعاتبه، وخرق له بجناحه سبع أرضين، إلى منتهى الصخرة التي عليها

الأرض، وقوَّى الله، D، بصر يوسف، حتى نظر إلى نملة، على الصخرة تجر حبة. فقال جبريل: يا يوسف لم يغفل ربك عن هذه النملة ورزقها، فكيف يغفل عنك، وأنت في السجن، حتى تشكو إلى صاحب / الشراب، وتأمُرهُ بذكرك، وبذكر عذرك عند سيده. قال: فأخذ يوسف التراب فملأ به فمه، ورأسه، وقال: إلَهي! أسألك بوجه أبي وجدي - قال مجاهد -: فلم يذكره الساقي حتى رأى الملك الرؤيا. قال قتادة: لبث في السجن سبع سنين. قال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذب بختنصر فَحَوَّل في السباع سبع سنين وكذلك قال ابن جريج. " والبضع ": ما بين الثلاث إلى التسع.

وقال الأخفش: هو من واحد إلى عشر. قال قُطْرُبْ: هو ما بين الثلاث والسبع. وقال أبو عبيدة: من الواحد إلى الأربعة. (قال الحسن ذكر لنا أن النبي، A، قال: لولا كلمة يوسف حيث يقول: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ}، ما لبث في السجن طول ما لبث. قال ابن عباس: عوقب بقوله للساقي: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} فطال سجنه. وروي أن يوسف، عليه السلام، لما قال له: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أوحى الله إلى الأرض أن النفرج (ي) لعبدي يوسف. فانفرجت له. فقيل له: ما ترى؟ فقال: أرى أرضاً، وأرى ذرةً معها طعم لها. قال: فقال: يا يوسف! ألم (أغفل) عن هذه في هذا الموضع، وأغفل عنك لتَلْبَثَنَّ في السجن بضع سنين. وقوله: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ (سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ)}:

45

وهو ملك مصر (ا) لأعظم. والمعنى: (إني) أرى في منامي سبع بقرات سمان {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} فلم يكن عند الملك من يعبر ذلك، وقالوا له: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}: أي: هي أضغاث. ووقع في نفسه أنها رؤيا كائنة (لا بد) من ذلك. ومعنى: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}: (أي: أخلاط أحلام) كاذبة. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام} الكاذبة {بِعَالِمِينَ}: وتقديره: وما نحن بعالمين بتأويل الأحلام والأَغاث. (والباء) في {بِعَالِمِينَ}: لتأكيد النفي، (و " الباء " في {بِتَأْوِيلِ} لتعدية، متعلقة بعالمين) ففي الكلام تقديم وتأخير. قوله: {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} - إلى قوله - {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: المعنى: وقال الذي نجا [منهما] من القتل، يعني: من الفَتَيَيْن اللذين عبر لهما

يوسف الرؤيا. {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ}: أي: تذكر بعد حين وصية يوسف، وأمره. قال الكلبي: تذكر بعد سنين، فذكر أمره للملك. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: " بعد أمه " بالهاء، وفتح الميم والتخفيف أي: بعد نسيان. وقرأ مجاهد: " بعد أمْهٍ " بإسكان الميم، وبالهاء: جعله مصدر أمة أمهاً: إذا نسي. وتأويلها كتأويل من فتح الميم. وأصل المصدر فتح الميم، ومن أسكن فللتخفيف.

وقرأ الحسن: أنا آتيكم بتأويله قال: وكيف ينبؤهم العلم؟ ثم قال: {فَأَرْسِلُونِ}: أي: فأطلقوني أمضي لآتيكم بتأويله من هذا العالم. قوله: {فَأَرْسِلُونِ}: وقف. وقوله {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق}: أي: يا يوسف {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ}: أي: في سبع بقرات رُئينَ في المنام. ويأكلهن سبع عجاف - الآية -. قال قتادة: السمان: السنين الخصبة /، والعجاف. سنون جدْبَة. ومعنى {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}: أي: يعلمون تأويل رؤيا الملك. وقيل: المعنى: لعلهم يعلمون مقدارك، فيخرجونك من السجن.

قال يوسف للسائل: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً}: أي: على عادتكم التي كنتم عليها. وقوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} فهو خبر معناه الأمر: (أي): ازرعوا، وفيه إيماءٌ إلى تعبير الرؤيا، (فلفظه خبر معناه: الخبر عن تعبير الرؤيا) وفيه معنى الأمر لهم بالزرع سبع سنين، وتركه في سنبله. ودلّ على أنَّه أمر. قوله: {فَذَرُوهُ}، فرجع إلى لفظ الأمر بعينه، وعطفه على معنى الأول. وقيل: هو رأي رآه، A، لهم ليبقى طعامهم، فأمرهم أن يَدْعُوه في سنبله (إلاَّ ما يأكلون). ثم قال له: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ}: أي: قحيطة، {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ}. أي: يوكل فيهن ما أعددتم في السنين الخصبة من الطعام ووصفت السنون بالأكل، والمراد أنه يؤكل فيها، كما قال {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67، النمل: 86، غافر: 61]: أي: يبصر فيه.

50

وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ}: أي: تحزرونه، أي: ترفعونه للحرث. {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} أخبرهم، A، عما لم يكن في رؤيا الملك، وذلك من علم الغيب، الذي علمه الله، ( D) دلالة على نبوته A، ومعنى {فِيهِ يُغَاثُ الناس}: أي: بالمطر، والخصب. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: أي: يعصرون العنب، والسمسم، والزيتون: وهو قول ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وابن جريج، وغيرهم. وقيل: المعنى: وفيه تحلبون مواشيكم. وقال أبو عبيدة: معناه: وفيه تنجون من البلاء من العصر (وهو الملجأ). قوله: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول} - إلى قوله - {لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين}.

(المعنى): أن الملك لما أعلمه الرسول بتأويل رؤياه، علم أنه حق. وقال: {ائتوني بِهِ}. فلما جاء يوسف الرسول يدعوه إلى الملك، قال [له] يوسف: ارجع إلى سيدك، {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}. وأبى يوسف أن يخرج حتى يعلم صحة أمره ولم يذكر امرأة العزيز فيهن: حُسْنَ عشرة منه، صلى الله عليه (وسلم)، خلطتها بالنسوة، وأخبر عن الجميع. (قال النبي A: " رحم الله يوسف، لو كنت أنا المحبوس، ثم أرسل إلي لخرجت سريعاً. إن كان لحليماً، ذا أناة ".

(وقال A: " لقد عجبت من يوسف، وصبره، وكرمه، والله يغفر له حين سئل عن البقرات: لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول لو كنت مكانه لبادرتهم الباب " قوله: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} إنما خاطبهن لأنهن قلن ليوسف إذ رأيته: وما عليك أن تفعل، فراودنه عن نفسه. وقيل: إنه / خاطبهن من أجل امرأة العزيز فيهن، فجعل الخطاب للجميع، والمراد واحدةٌ منهن. ودليل هذا جوابها وحدها، إذ حكاه الله، D، عنها فقال: {قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق}.

وقيل: إنما خاطبهن كلهن، لأن يوسف لما قال: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ظن الملك أنهن كذبن وراودنه، فجاوبته امرأة العزيز، وأقرت أنها هي الفاعلة. وقيل: إنما جمعهن في الخطاب، لأنهن قلن: {امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30] وأشعن ذلك فقيل لهن: هل علمتنَّ ذنبه؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} فعند ذلك، أقرت امرأة العزيز أنها هي جاروته عن نفسه. رجع الرسول، فقال ذلك للملك فأحضر الملك النسوة. والكلام دل على الحذف. ومعنى {حَصْحَصَ الحق}: تبين وظهر وانكشف، فقالت: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} وذلك أنها اضطرت إلى أن تبلغ مراد الملك في صرف الإبهام عنه بالرؤيا التي شغلت قلبه، فبرأت يوسف ليصح صدقه عند الملك، ويعلم أن ما أفتى في الرؤيا حق، فتعطفه عليه. وحصحص مأخوذ من الحصة، أي: بانت حصة الحق من حصة الباطل. وأصله " حصص "، ثم أبدل من الصاد الثانية حاءً، كما قال:

{فَكُبْكِبُواْ} [الشعراء: 94]، والأصل " كذبوا "، وقيل: كبكب، والأصل " كبب " ورَدْرَدَ والأصل ردَّد. وقوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} هذا من قول يوسف عليه السلام أي: قال: فعلت ذلك من ردي الرسول إليه، وتركي إجابته، والخروج إليه حتى يسأل النسوة، فيعلم الملك أني لم أذكره بسوء في الغيب. (وقيل: المعنى: ليعلم العزيز أني لم أذكره بسوء في الغيب). وقيل: المعنى: ليعلم أني لم أخنه في امرأته، وهو غائب (ويصح) ذلك عنده. وقد قيل: إنه من كرم المرأة كله لتقديم كلامها. لذلك قال ابن جريج: (هذا) متصل بما قبله، وفي الكلام تقديم وتأخير. والمعنى: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِ (هِنَّ) عَلِيمٌ}. {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب}. فعلى هذا يكون يوسف قاله وهو في السجن.

وعلى قول ابن عباس، وغيره إنما قاله (بعد أن خرج، فلا تقديم في الكلام، ولا تأخير. ولما قال يوسف ذلك قال له) جبريل، عليه السلام: ولا حين هممت؟ فقال يوسف: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} [يوسف: 53]. قاله ابن عباس، وابن جبير. وقال السدي: امرأة العزيز هي التي قالت له: ولا حين هممت، فحللت السراويل فقال: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} [يوسف: 53]. وقيل: إنه من قول يوسف، وذلك أنه تذكر ما مضى. فقال ذلك معتذراً لمليكه. وذكر ابن لهيعة: أن امرأة العزيز لما اشتدت عليها الحاجة، (والمسبغة) أرادت الدخول على يوسف لتشكو إليه حاجتها، وإعوازها، / فقال لها أهلها وقومها: لا تفعلي، لأنا نخاف عليك، لأنه قد كان منك الذي كان، فقالت: كلا إني لا أخاف ممن يخاف الله، ويتقيه. فدخلت عليه، وقامت بين يديه، ثم قالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته، وأشارت إليه، ثم قالت: والحمد لله الذي جعل الملوك عبيداً

بمعصيته، وأشارت إلى نفسها. (قال): ثم تزوجها يوسف، عليه السلام، فأصابها بكراً، فقال لها: أليس هذا أحسن مما كنت أردتيه مني؟ قالت له: إني كنت قج ابتليت منك بأربع خصال: (كنت) أنت أجمل الناس، وكنت أنا أجمل النساء في دهري، وكان زوجي عنيناً، وكنت بكراً حِدَثة السن قال: فأولدها يوسف، A فأول ولد ولدته ابنه سماها " رحمة " وهي امرأة أيوب، عليهما السلام. ويروى أن امرأة العزيز دخلت على يوسف، ( A) ، وقد ملك مصر، فقالت له: بالذي رفع العبيد بطاعتهم، ووضع الملوك بمعصيتهم، فتصدق عليها يوسف، وتزوجها.

53

قوله: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} - إلى قوله - {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي}: " ما " في موضع نصب، استثناء، ليس من الأول. والمعنى: إلا أن يرحم ربي ما شاء من خلقه، فينجيه من اتباع هواه، وما تامر [هـ] به نفسه. إن ربي ذو مغفرة عن ذنوب من تاب، (رحيم) (به) بعد توبته. قوله: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ}، أمر ملك مصر الأعظم، وهو الوليد بن الريان بالإتيان بيوسف A، لما تبين عذره. وقال: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}: أي أجعله من خلصائي وخاصتي. {فَلَمَّا كَلَّمَهُ}: أي: {فَلَمَّا} كلم الملك يوسف A علم براءته، وحسن عقله. قال له: يا يوسف {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}: أي: متمكن مما أردت، أمينٌ على ما ائتنمت عليه من شيء.

وقيل: أمين، لا تخاف عذراً. ثم قال (له): ما من شيء إلا وأنا أحب أن تشركني فيه إلا أهلي، ولا يأكل معي عبدي، فقال (له) يوسف، ( A) : أتأنف أن آكل معك؟ وأنا أحق أن آنف منك، أنا ابن إبراهيم، خليل الرحمان، وأنا ابن إسحاق الذبيح، وابن يعقوب الذي ابيضت عيناه من الحزن. قوله: {قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} - إلى قوله - {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} والمعنى: قال يوسف A، للملك: " اجعلني على خزائن أرضك ". قال ابن زيد: فأسلم إليه فرعون سلطانه كله، فكان على خزائن الأطعمة، وغيرها من أمواله وعمله. وروى مالك بن أنس، Bهـ، عن ابن المنكدر عن جابر بن

عبد الله، قال: كان يوسف النبي عليه السلام لا يشبع فقيل له: ما لك لا تشبع، وبيدك خزائن الأرض؟. قال: إني إذا شبعت نسيت الجائعين. قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ}: أي: لما وليت، {عَلِيمٌ} به. وقيل: (إن) المعنى: إني حافظ للحساب، عالم بالألسن. وقيل: المعنى: إني حافظ / لللأموال عالم بالموضع الذي يجب أن يجعل فيه مما يرضي الله، D، ولذلك سأل يوسف، ( A) ، الملك في هذا ليتمكن له وضع الأشياء في حقوقها. فأراد بسؤاله الصلاح A.

ثم قال (تعالى) {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض}: أي: في أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ}: أي: يتخذ منزلاً أين شاء بعد الضيق والحبس. ومن قرأ بالنون، فمعناه: يصرفه في الأرض حيث يشاء. {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ}: من خلقنا كما أصبنا بها يوسف. {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}: أي: لا نبطل أجر من أحسن (عملاً) فأطاع ربه، ( D) . قال ابن إسحاق: ولاه الملك عمل العزيز زوج المرأة، فهلك العزيز في تلك الليالي، وزوج الملك زوجة العزيز ليوسف. وقال ابن إسحاق: فلما دخلت عليه قال:: أليس هذا خيراً مما كنت

58

تريدين؟ فقال له: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة أوتيت كما ترى حسناً وجمالاً، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما خلقك في حسنك، وجمالك، فغلبتني نفسي على ما رأيت. قال ابن إسحاق: فذكر أنه وجدها بكراً فأصابها، فولدت رجلين. فولي يوسف مصر، وملكها، وبيعها وشرابها، وجميع أمرها. ثم قال تعالى: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}. والمعنى: ولثواب الآخرة خير لمن صدق، وآمن، وخاف عقاب الله D، واتقاه سبحانه مما أعطى يوسف في الدنيا من التمكين في أرض مصر. قوله: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} - إلى قوله - {وَلاَ تَقْرَبُونِ} المعنى: فيما ذكر ابن إسحاق أن يوسف عليه السلام لما أعلمهم بما يأتي من القحط، وأن

يستعدوا لما يأتيهم، أتى الناس إلى مصر، يلتمسون المير (ة) من كل بلد. فأصاب الناس جهدٌ، فأمر يوسف ألا يحمل الرجل إلا بعيراً واحداً، تقسيطاً بين الناس، ومنع أن يحمل أحد بعيرين. فقد عليه إخوته فيمن قدم يلتمسون الميرة، فعرفهم، ولم يعرفوه لما أراد الله D. وذكر السدي: أنه لما أصاب الناس الجوع، أتى أخوة يوسف ليتماروا، وهم عشرة: وأمسك يعقوب عند نفسه أخا يوسف بنيامين، فلا دخلوا على يوسف عرفهم، ولم يعرفوه. قال لهم: أخبروني بأمركم، فأني أنكر شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أرض الشام. قال وما جاء بكم؟ قالوا: جئنا نمتار طعاناً. قال: فأخبروني خبركم. قالوا: إنا أخوة، بنو رجل صديق. وكنا اثني عشر. وكان أبونا يحب

أخاً [ل] نا وإنه ذهب معنا إلى البرية فهلك فيها. وكان أحبنا إلى أبينا. قال: فإلى من يسكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه. قال: وكيف تخبروني أنَّ أباكم صديق، وهو يحب الصغير منكم دون الكبير /. إيتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه. قالوا: سنراود عنه أباه، قال: فضعوا رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون وجهَّزوا أبْعِرتهم بالطعام. فقال لهم يوسف ( A) : إنكم إذا أتيتموني بأخيكم ازددتم من عند [ي] حمل بعير له. {أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل}: " ولا أبخسه أحداً ". {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين}: أي: وأنا خير من أنزل ضيفاً على نفسه في هذا البلد. {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي}: أي: لا طعام أكيله لكم {وَلاَ تَقْرَبُونِ}: أي: " لا تقربوا بلادي ".

61

وقد اعترض بعض أهل الزيغ في هذا الخبر، وقال: كيف لم يعرفوه، (وقد) عرف أن لهم أخاً من أب، وسألهم الإتيان به. فجواب ذلك على قول بعض أهل النظر أن يوسف كان لا يعطي لكل نفس إلا حِمْلاً في تلك المجاعة. (فلما) أخذوا لكل شخص منهم حِمْلاً. قالوا: لنا أخ من أبينا غاب فأعطنا له حملاً، فأعطاهم وقال لهم: إيتوني بهذا الأخ إن أردتم أن أعطيكم عنه حِمْلاً إذا رجعتم للمير (ة) لنعلم صدقكم. فإن لم تأتوني به علمت كذبكم، ولم أعطكم شيئاً. وهذا كله داخل في قوله: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] A. قوله: {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَ (إِنَّا لَفَاعِلُونَ)} - إلى قوله - {كَيْلٌ يَسِيرٌ} المعنى: قالوا سنرجع إلى أبيه، فنسأله في أن يوجه به (معنا)، وإنا لفاعلون ذلك.

ثم قال تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ} أي: قال يوسف لغلمانه و " فتيته ": أنَسْبُ لأنه للعدد القليل، و " فتيان ": حسن، فقال لهم: اجعلوا أثمان الطعام التي أخذوا بها طعامي في وسط رجحالهم، وهم لا يعلمون. قال بعض أهل المعاني: إن يوسف خشي ألا يكون عند أبيه دراهم، إذا كانت سنة جَدْبٍ. فرد عليهم الدراهم طمعاً أن يأخذها. وقيل: إنما رَدَّ عليهم الثمن رفقاً بهم (من) حيث لا يعلمون، تكرماً منه، وتفضلاً. وقيل: إنما جعل الثمن في الأوعية لتكون سبب رجوعهم إليه لعلمه، فكرمهم، وإنهم لا يرضون بحبس الثمن، وإنهم يتحرَّجُون من ذلك فيرجعون إليه

ضرورة. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يا أبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ}: من قرأ بالياء: فمعناه: يكتل لنفسه حملاً، ومن قرأ بالنون: أراد إنهم أخبروا عن أنفسهم، وعنه بالكيل. والمعنى: إنهم قالوا: (له): يا أبانا منع (منا) أن نكتال فوق ما اكتلنا بعيراً لكل نفس. فأرسل معنا أخانا يكتل لنفسه كَيْلَ بعير زائدة على ما اكْتَلْنَا لأنفسنا. قال السدي: لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: يا أبانا! إن ملك مصر أكرمنا كرامةً، لو كان رجلاً من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامتَهُ، وإنه ارتهن منا شمعون. وقال: ائتوني بأخيكم هذا الذي عطف عليه أبوكم بعد موت أخيكم / فإن لم تأتوني به، فلا تقربوا بلادي أبداً، فقال لهم يعقوب: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} - الآية - ثم قال: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين}: أي: إن يفجعني في هذا الولد على كبر

سني، وهو أرحم الراحمين فيَّ إذا آتيتم إلى ملك مصر، فأقرؤه سلامي، وقولوا له: إن أبانا يدعو لك، ويصلي عليك لما أوليتنا من الجميل. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}: أي [لما] فتحوا أوعيتهم التي فيها الطعام، وجدوا الثمن الذي دفعوه ليوسف في الطعام، في أوعيتهم. {قَالُواْ يا أبانا مَا نَبْغِي}: وراء هذا، إن بضاعتنا ردَّت إلينا، وقد أوفى لنا الكيل. {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} في رجوعنا: أي: نأتيهم بالطعام. {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}: بسير أخينا معنا، لأن لكل نفس حمل بعير.

66

{ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ}: أي: يسير على الملك سهل. وقيل: المعنى: كيلنا الذي نأخذ، يسير، فزيادتنا حملاً أحسن من تركه. وقيل: المعنى: الذي جئتنا به يسير، فرجوعنا بأجمعنا نأتي لكل نفس بحمل أحسن. قال مجاهد: حمل بعير: حمل حمار. وقال غير [هـ] جمل، وهو المعروف في اللغة. قوله: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله} إلى قوله {لاَ يَعْلَمُونَ}، الموثق: الميثاق، من عهدٍ، أو يَمِينٍ. ومعنى الآية: قال بعقوب لبنيه: لن أدفع إليكم أخاكم حتى تعطوني عهداً، أو يميناً أنكم لتردونه إلي معكم، إلا أن يحيط بكم أمر لا تقدرون على ردِّه معكم. وقال ابن أبي نجيح في قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} معناه: إلا أن تهلكوا جميعاً.

{فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ}: أي عهدهم أن يردوه. {قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}: أي: شاهد: وحافظ. ثم قال يعقوب يوصيهم لما أرادوا الخروج: {يابني لاَ تَدْخُلُواْ} - مصر - {مِن بَابٍ وَاحِدٍ}: أي من طريق واحد {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ}. قال ابن عباس، والضحاك، وابن جبير، وقتادة: خاف عليهم يعقوب العين لجمالهم، وحسنهم. وقيل: إنه إنما خاف أن يلحقهم شيء، فيظن أنه من العين. وقيل: إنه كره أن يدخلوا جميعاً من موضع واحد، فيُستراب منهم (ويخاف منهم): وهو اختيار النحاس. ثم قال لهم: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ}: أي: ما أقدر على دفع

قضاء الله [سبحانه] عنكم. ما الحكم فيكم وفيّ إلا لله ينفذ قضاءه D كيف أحب. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}: في ردكم وأنتم سالمون، وإليه فوضت أمري، وإليه فليفوض (المفوضون) أم (و) رهم. ثم قال: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم}: أي: من طرق متفرقين، كما أمرهم {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} ذلك من الله من شيء، إلا [حاجة]: (وهو) استثناء منقطع، أي: لكل حاجة، أي: إلا أنهم قضوا حاجة يعقوب، لدخولهم من مواضع متفرقين. {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}: أي: وإن يعقوب، / لذو حفظ لما استودعناه

69

صدره من العلم. قال ابن جبير: المعنى {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ}. وقيل: المعنى: وإنه لعامل بما علم ولكن كثيراً من الناس لا يعلمون: ما يعلمه يعقوب. قوله: {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} - إلى قوله - {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} المعنى: لما دخل إخوة يوسف عليه، قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، فشكر لهم ذلك. ثم قال لصاحب ضيافته: أنزلهم رجلين في كل مسكنٍ، وأكرمهم، فبقي أخوهم: وهو شقيق يوسف. فقال لهم يوسف: إن هذا يبقى وحده، لا ثاني معه، فأنا أضمه إلى نفسي. فأنزله عنده، وضمه ليه. وقال له: أنا أخوك - يوسف -

لا (تَبْتَئِسْ) (بشيء) من فعلهم، ولا تعلمهم بشيء مما أعلمتك به. وقيل: [إنه] لم يعترف له أنه أخوه، يعني: من النسب. وإنما قال له: أنا أخوك مكان أخيك الهالك. قاله وهب ابن منبه. وإنما أخبره أنه يوسف بعد انصرافه وتركه عند يوسف. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} والمعنى: أن يوسف لما حمَّل إبل إخوته الميَرَة، جعل السقاية في رحل أخيه: وهو المكيال الذي كانوا يكتالون به، وهي المشربة التي يشرب بها [الملك] وكانت من فضة،

وذهب تُشْبِهُ الملوك مُرَصَّعَةً بالجوهر. وقيل: كانت شبه الكأس، فجعلها في رحل أخيه، والأخ لا يشعر. فلما ارتحلوا ناجى مناد: يا {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قيل: إنما قال لهم: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}، وهم لم يسرقوا: يريد إنهم سرقوه، وباعوه، لأنهم سبب بيعه. وقيل: بل تركهم حتى مشوا، وخرجوا، ثم لحقوا، فقيل لهم: {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. قالوا: وما ذاك. قالوا: {صُوَاعَ الملك} وإنما دعاهم بالسرقة كلهم لأن المنادي لم يعلم ما صنع يوسف. وقيل: إنما فعله عن أمر يوسف فأعقبه الله D بقولهم له: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77].

وقيل: إنما [جاز] أن يقال لهم ذلك، لأنهم باعوا يوسف، فاستجازوا أن يخاطبوا بذلك. وقيل: المعنى: حالكم حال السراق. وقرأ أبو هريرة " صَاعَ الملك ". وقال أبو رجاء " صوع الملك ". (قوله): {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ}: أي: (وقِرُ بَعير) من الطعام. (قوله): {قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} أي: لنعصي الله، ونسرق، وإنما ادعوا ذلك. وقالوا: " قد علمتم " لأنهم ردوا البضاعة التي وجدوا في رحالهم، إذ رجعوا وراء أخيهم. فالمعنى: " لو كنا سارقين ما رددنا البضاعة (التي وجدنا)

74

في رحالنا ". وقيل: إنما قالوا ذلك لأنهم قد علموا اشتهار فضلهم بمصر، فنفوا عن أنفسهم ما قد رموا به. قوله: {(قَالُواْ) فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} - إلى قوله - {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. المعنى: قال أصحاب يوسف / عليه السلام لإخوته: فما جزاء من وجد الصاع في رحله إن كنتم كاذبين في قولكم: {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73] {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ}. المعنى: قال إخوة يوسف لأصحابه: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، أي: أن يستعبد من سرق.

ويقال: إن هذا كان في شريعة يعقوب عليه السلام، نسخه الله Dأ، بالقطع. وقيل: المعنى جزاؤه الاستعباد من وُجِد في رحله، فهو جزاؤه. فهو يعود على الاستعباد المحذوف. وقال الطبري: المعنى: قال إخوة يوسف: جزاء السارق من وجد في متاعه السَّرقُ، فهو جزاؤه: أي: فتسليم السارق جزاء السرق. وإنما سأل إخوة [يوسف] عن الجزاء، لأن أصحاب يوسف ردوا الحكم إليهم. وذلك أنه كان في شريعة يعقوب أن يستعبد السارق، وكان في حكم الملك: إذا سرق السارق غرم مثله. فرد الحكم إليهم. وقرأ الحسن: " من وعَاءِ أخيه " بضم الواو. {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ}: أي: في أن حكموا على أنفسهم بالاسترقاق

على شريعتهم. وأضاف الكيد إلى نفسه، لأن الذي فعل يوسف (جزاءاً عن) أمر الله كان، وعن مشيئته، وبوحيه ليوسف. قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك}: أي: في حكمه، بل أخذه بحكم يعقوب. {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}: ذلك بكيده. وقيل: المعنى: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}: أن يطلق له مثل هذا الكيد. وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} قال زيد بن أسلم: يعني: بالعلم. وقيل: معنى الكيد: أنهم كانوا لا ينظرون في وعاء إلا استغفروا الله تأثماً، مما قُذفوا به. فلما وصلوا إلى وعاء أخيهم، قالوا ما نرى (أن) هذا أخذ شيئاً. قال إخوة يوسف: بلى فاستبروا ففتح الصواع فيه: فذلك الكيد. قال ذلك

77

قتادة والسديّ، وغيرهما. وقوله: {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} يعني الصواع. وإنما أنثت، لأنه بمعنى السقاية، فهما لشيء واحد. وقيل: إنه على معنى السرقة، وقيل: إن الصواع يذكر ويؤنث. وقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ (عَلِيمٌ)}: أي: فوق كل عالم من هو أعلم منه، حتى ينتهي ذلك إلى الله D. قوله: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} - إلى قوله - {خَيْرُ الحاكمين} يعنون بقولهم {أَخٌ لَّهُ}: يوسف. قال مجاهد: كان يوسف A سرق صنماً لجده، أبي أمه، وألقاه في

الطريق. فَعَابَهُ إخوته بذلك. وإنما أراد يوسف بكسره، وأخذ الخير: فليس ذلك بسرق، بل هو مَحْضُ الدين والعبادة، وإنكار المنكر. وقال ابن جريج: كانت أم يوسف مسلمة، فأمرته أن يسرق صنماً لخاله، كان يعبده. وروي عن مجاهد أن عمة يوسف بنت إسحاق، وكانت أكبر من يعقوب صارت إليها منطقة إسحاق لسنها: لأنهم / كانوا يتوارثونها حباً شديداً فلما ترعرع،

قال لها يعقوب: سلِّمي يوسف إليّ فلست أقدر أن يغيب عني ساعة، قالت له: (دعه عندي) أياماً أنظر إليه لعلي أتسلى عنه. فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إٍحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق؟ فانظروا من أخذها، ومن أًابها فالتُمِسَت ثم قالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوا، فوجت مع يوسف، فقالت: والله إني لم أصنع فيه ما شئت. ثم أتاها يعقوب فأخبرته الخبر، فقال (لها): أنت وذاك إن كان فعل (ذلك)، فهو سلم لك، فأمسكته حتى ماتت. فبذلك عَيَّره إخوته.

ومعنى الآية أنه على الحكاية، أي قالوا: إن يسرق فقد (قيل) سرق أخ لهم من قبل. إنما ما قد كان قبل، لم يقطعوا بالسرقة عليه. هذا أحسن ما تأوله العلماء، والله أعلم بذلك. والضمير في قوله: {فَأَسَرَّهَا}، إضمار، قبل الذكر (قد) فسره الله D لنا أن الذي أسره قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} - إلى قوله - {تَصِفُونَ} (أي) أضمر هذا في نفسه. وقيل: أسر في نفسه المجازاة لهم على قولهم، ولم يرد أن يبين عذره في ذلك. وقيل: أسرَّ في نفسه قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} ولم يرد أن يدفعه ويراجعهم عليه. بل كتم قولهم وله صبر. قوله: {الله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}: أي: (من) قولكم: هل هو حق أو كذب.

ثم قالوا ليوسف: {يا أيها العزيز} أي: الملك {إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً}: يعنون كلفاً بحبه، فخذ واحداً منَّا مكان هذا الذي سرق وخل عنه {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين}: في أفعالك. وقيل: المعنى: إنا نرى ذلك منك إحساناً إلينا إن فعلته. قال يوسف {مَعَاذَ الله}: أي: عياذاً بالله أن نأخذ غير من سرق. {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} إن فعلنا ذلك. قال السدي: ثم قال لهم يوسف: إذا أتيتم أباكم فأقرؤه السلام، وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ابنك يوسف. فلما أيس يوسف من أخيه أن يُدْفَع إليهم. {خَلَصُواْ نَجِيّاً}: أي:

انفردوا وليس يوسف وأخوه معهم أي: خلوا يتناجون بينهم. فقال كبيرهم في العقل وهو شمعون وقيل: بل (هو) كبيرهم ف السن (وهو) روبيل، وهو ابن خالة يوسف. وهو الذي كان نهاهم عن قتله. وقيل: كبيرهم يهوذا يعني به: كبيرهم في العقل، والفهم لا في السن، ولم يختلف في أن كبيرهم في السن روبيل. فهو أولى الاية (قال لهم): {أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله} في أخيكم هذا، ومن قبل تفريطكم في يوسف، وفعلكم فيه. والمعنى: [و] من قبل هذا: تفريطكم في يوسف.

و " ما " زائدة، والمعنى: ومن قبل فرطكم في بيوسف / ويجوز أن تكون في موضع نسب عطف على " أن ". ويجوز أن يكون في موضع رفع على معنى: ومن قبل هذا تفريطكم {فِي يُوسُفَ}، فتكون {وَمِن قَبْلُ} في موضع الخبر. قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض}: أي: لن أبرح من أرض مصر. {حتى يَأْذَنَ لي أبي} بالقدوم عليه، {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} أي: بالمن مع أخي، فأمضي معه. وقيل: المعنى: {يَحْكُمَ الله لِي} بالسيف، فأحارب، وآخذ أخي. قاله أبو صالح. وقيل: المعنى: أو يقضي الله لي بالخروج من أرض مصر، وترك أخي.

81

وروي أن يهودا قال ليوسف: يا أيها الملك! إن لم تخلِّ سبيله معنا لأصيحَنَّ صيحةً لا يبقى في مدينتك حامل، إلا أسقطت ما في بطنها. وكان ذلك في ولد يعقوب عند الغضب معروفاً. فكلَّم يوسف ابناً له صغيراً بالقبطية فقال له: ضع يديك بين كتفي يهوذا، ولا يشعر بك أحد، وكان الناس مجتمعين، ف\خل الصبي بين الناس حتى وضع يده بين كتفي يهوذا، فذهب غضبه، فقال يهوذا: لقد مسني من ولد يعقوب، ولم ير أحداً. قوله: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ (يا أبانا)} - إلى قوله - {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} هذا قول روبيل لإخوته، أمرهم بالرجوع إلى يعقوب، يعلموه

بالقصة على وجهها. وقيل: أمر لهم بذلك يوسف: وقيل: هو كبيرهم الذي تأخر بمصر، ولم يرجع معهم. وروي عن الكسائي أنه قرأ " سُرق " على ن لم يُسَمْ فاعله، على معنى اتهم بالسرق. وقيل: معناه: علم منه السرق. قوله: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}: أي: ما قلنا إلا بظاهر العلم، ولسنا نَعْلَمُ الغيب والباطن، إنما وجدت السرقة في رحله، ونحن ننظر. وقيل المعنى: وما شهدنا عند يوسف أن السارق يؤخذ في سرقته، {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} (في الحكم عندك) قاله ابن زيد.

قال لهم يعقوب، ما يُدري، هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، إلا بقولكم فقالوا: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} في الحكم عندك وعندنا. {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}: أي: ما كنا نظن أن ابنك يسرق، فيؤول أمره إلى هذا، وإنما قلنا لك نحفظ أخانا مما إلى حفظه السبيل. {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} إن اتهمنا: وهي مصر، يريدون أهلها. {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا}: وهي القافلة عن خبر ابنك. قال لهم يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}: على ما نالني. وقيل: المعنى: " فصبر جميل: أولى من جزع لا ينفع. والصبر الجميل هو الذي لا شكو (ى) معه إلا إلى الله D.

84

{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}: يعني: يوسف، وأخاه روبيل الذي تخلف: (إنه هو العليم): بما (أجد) عليهم، {الحكيم} في تدبيره. قوله: {وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أسفى عَلَى يُوسُفَ} - إلى قوله - {مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. والمعنى: وأعرض يعقوب عن بنيه، وقال: يا حزناً على يوسف. والأسف شدة الحزن. ثم حكى الله تعالى ذكر [هـ] لنا أن / عَيْنَيْ يعقوب ابيضتا من الحزن، (ف) هو كظيم: أي: مكظوم، أي مَمْلُوءٌ من الحزن، ممسك عليه، لا يبثه. قال ابن زيد: الكظيم الذي أسكته الحزن. وقال مجاهد: كظم الحزن: إذا أمسكه عليه، لا يبثه.

وقال عطاء: كظ (ي) م: مكروب. وقال السدي: كظيم من الغيظ. والكاظم في اللغة: الذي حزن لا يشكو حزنه وقال الحسن: وجد يعقوب على يوسف وُجْدَ سبعين ثَكْلَى وما ساء ظنه بالله ساعة قط، من ليل، ولا نهار. (وروى الحسن عن النبي) A: " وإنما اشتد حزن يعقوب (على يوسف) لأنه علم بحياته، وخاف على دينه ". وقيل: إنما حَزِنَ (نَدَ) ماً على تسليمه لإخوته، وهو صبي، والحزن

ليس بمحظور. وقال النبي A: " إذ مات ولده إبراهيم: تدمع العين، ويحزن القلب، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ". وقال له أولاده: {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي: لا تزال تذكره. ولا تفتر من حبه. {حتى تَكُونَ حَرَضاً}: أي، ذا جهد، وهو المريض البال (ي). وقال قتادة: حرضاً هَرِماً. وقال ابن زيد: الحرض الذي قد رد إلى أرذل العمر، حتى لا يعقل.

وقال الفراء: الحرض: الفاسد الجسم، والعقل. (و) قال أبو عبيدة: الحرض: الذ [ي] أذابه الحزن. {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين}: أي: من الموتى. قال يعقوب لهم جواباً لقولهم: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} أي: همي وحزني: وحقيقة البث في اللغة: هو ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة، التي لا يمكنه إخفاؤها، وسميت المعصية بثاً مجازاً، وهو من بثثته، أي فرقته. وروي أن يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على وجنتيه، فكان يرفعهما بخرقة. فقال (له) رجلٌ: ما بلغ بك ما أرى؟ فقال: طول الزمان، وكثرة الأحزان. فأوحى الله D إليه: يا يعقوب تشكوني قال: خطيئة، فاغفرها،

87

فغفرها الله D له. فما كان إذا سئل إلا قوله {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} - الآية وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: قال قتادة: " ذكر لنا أن يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلا أتى حسن ظنه بالله ( D) من ورائه ". قوله: {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} إلى قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين}، المعنى، أن يعقوب، عليه السلام طمع في يوسف، فأمرهم بالرجوع إلى (ال) موضع الذي أتوا منه يلتمسون يوسف، وأخاه: يعني: بنيامين شقيق يوسف. {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله}: أي: " لا تقنطوا من أن يُرَوّحَ الله عنا ما نحن فيه من الحزن.

{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله}: أي: لا يقنط من فرجه، و (لا) يقطع رجاءه منه إلا الكافرون. قال السدي، وقتادة: روح الله فرج الله. قيل: إنه أمرهم أن يرجعوا إلى الذي احتال عليهم في أخيهم، وأخذ منهم، فيسألوا عنه، وعن مذهبه. وروى ابن لهيعة " يرفعه إلى " (عن) ابن عمر، أن يعقوب كتب معهم كتاباً إلى يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم / من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر (إلى) فرعون: سلام عليك. فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء: أما جدي إبراهيم

خليل الله، فألقي في النار، فصيرها (الله عليه برداً)، وسلاماً، وأمر أن يذبح ابنه إسحاق أبي، ففداه الله بما فداه له. وأما أنا فكان لي ابن من أحب الناس إليّ، ففقدته فأذهب حزني عليه صبري، وحتى له ظهري. وأخوه المحبوس عندك في السرقة. وإني أخبرك: إني لم أَسْرِقْ، ولم أَلِدْ، سَارِقاص، فاحذر دعوتي فإنها مستجابة عليك. وأعجب منك كيف حبست قرة عيني، وقد علمت موقعه من قلبي، فاردد علي ابني، وإلا فاحذر دعوتي والسلام. قال فلما قرأ يوسف، عليه السلام كتاب أبيه يعقوب، بكى بكاءً شديداً، وصاح بأعلى صوته: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93]: فكان البشير إليهم يهوذ [ا] ابن يعقوب. وقيل: إن يوسف لما قرأ كتاب أبيه يعقوب

ارتعدت فرائصه، واقشعر جلده، ولأن قلبه، وبكى، ثم أعلمهم بنفسه. قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ}. وفي الكلام حذف. والمعنى: فخرجوا إلى مصر، فلما دخلوا على يوسف، قالوا: {يا أيها العزيز} أي: الممتنع: {وَأَهْلَنَا الضر}: من الشدة، والجدب. فخضعوا له، وتواضعوا. قال ابن إسحاق: خرجوا ببضاعة لا تبلغ ما يريدون من الميرة، إلا أن يتجاوز لهم فيها، فقالوا: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ}: أي: بدراهم لا تجوز في ثمن الطعام إلا بالمسامحة. قال ابن عباس: مزجاة: دراهم زيوف. وقال ابن أبي مليكة: مزجاة، خلق الغرائر: والمتاع الحقير.

" مزجاة: يعني: قليلة، إما لأنه متاع البادية لا يصلح للملوك، وإما لأنه قال مزجاة تحتقر في كل مكان. وقد فسرها بعضهم بأنها البطم والصنوبر. والبطم: هو الحبة الخضراء. {فَأَوْفِ لَنَا الكيل}: فكان يوسف هو الذي يكيل، إشارة إلى أن الكيل والوزن على البائع. وقيل: أتوا بالسمن، والصوف. وقال أبو صالح: أتوا بالحبة الخضراء، والصنوبر. وقال الضحاك: مزجاة: كاسدة، وأصله من التزجية، وهي الدفع، والسوق، فكأنها بضاعة تدفع، ولا يقبلها كل أحد. يقال: فلان يزجي العيش: أي:

يدافع وعن مالك Bهـ أن المزجاة هنا: الجائزة في كل موضع. واحتج (مالك) في (أن) أجرة الكيال والوزان على البائع بقولهم: {فَأَوْفِ لَنَا الكيل}. ثم قال: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ}: أي تفضل علينا، ما بن الجياد والرديئة. وقيل: المعنى: لا تنقصنا من السعر من أجل رداءة دراهمنا.

{إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} أي: يثيب المتفضلين. وقد اختلف الناس في الصدقة على الأنبياء. فقيل: إنها كانت حلالاً، ثم حرمت على النبي محمد A. وقيل: ك (انت) حراماً على جميع الأنبياء. (وقيل): إنما سأل هؤلاء المسامحة، لا الصدقة بعينها. وقيل: إنهم أرادوا بقولهم: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ}: أي: تصدق علينا برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج. قال السدي، عن أبيه لما دخل إخوة يوسف / على يوسف. وكان أكبرهم إذا

غضب قامت شعرةٌ (من عنده)، وانبعثت دماً فلا تزال كذلك حتى يمسه بعض ولد يعقوب. قال: فكلمه يوسف، وعرف يوسف أنه أغضبه فانبعث الشعرة دماً، أمر يوسف أخاه أن يدنو منه فيمسه، ففعل فانقطع الدم، ثم فعل ذلك مرة أخرة، فعند ذلك تعارفوا. قال ابن إسحاق: بلغني أنه لما كلموه بهذا الكرم، فقالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} غلبته نفسه، فارفضَّ دمعه باكياً، ثم باح لهم بالذي كان يكتم، فقال (لهم): {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}: أي جاهلون بعاقبة ما تفعلون. وقيل: المعنى: إذ أنتم صغار، جهال قالوا له: {أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} فقال: نعم {أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ} بأن جمعنا بعدما فرقتم بيننا. {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ

(الله) وَيَِصْبِرْ}: أي: يتقي معصية الله، ويصبر على السجن. قال ابن إسحاق: لما قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}. كشف لهم عن الخطأ فعرفوه. {قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا}: أي: فضلك بالعلم والحلم. وما كنا في فعلنا إلا خاطئين. يقال: خطئ يخطأ: إذا أتى الخطيئة عالماً [بها]، وأخطأ يخطئ إذا قصد شيئاً، فأصاب غيره، غير متعمد للخطأ. قال لهم يوسف: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم}: أي: لا تغيير عليكم ولا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة، وحق الأخوة. ولكن لكم عندي العفو والصفح. {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}، تمام عند الأخفش، ثم تبتدأ: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} على

93

الدعاء، وعند نافع وغيره: {عَلَيْكُمُ اليوم}: التمام. وهو أحسن وأبين. قوله: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي} إلى قوله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} المعنى: أن يوسف لما أعلم إخوته بنفسه سألهم عن حال أبيهم، فقالوا: ذهب بصره من الحزن، فعند ذلك أعطتهم قميصه، وأمرهم أن يلقوه على وجه أبيهم. {يَأْتِ بَصِيراً}: أي: يَعُدْ بصيراً. {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}: أي: جيئوني بهم. قيل: إن القميص كان من الجنة كساه الله D إبراهيم حين ألقي في النار. وقوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} أي خرجت من مصر، يعني: عير بني

يعقوب. ذكر أن الريح استأذنت ربها في أي تأتي يعقوب بريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها، فأتته [به] من مسيرة ثمان ليال، فقال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}. وقوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}، (أي): تسفهون، فتقولون: ذهب عقلك. وقيل: معناه: لولا أن تكذبون، قاله السدي، والضحاك. {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم}، أي: في خطئك. قال له ذلك من بقي من ولده.

ثم قال تعالى: مخبراً لنا عن حال يعقوب إذ جاءه البشير بأمر يوسف: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على / وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً}: وكان البشير يهوذا أخا يوسف لأبيه A. قال السدي: لما قال يوسف {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا}. قال يهوذا بن يعقوب: أنا ذهبت إلى يعقوب بالقميص، مُلَطَخاً بِالدَّم، وقلت له: إن يوسف أكله الذئب. فالآن أذهب أنا بالقميص، فأخبره أنه حي، فأفرحه كما أَحْزَنْتُهُ. قوله: {أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ}: أي: (ألقى) القميص على وجه يعقوب، فعاد بصره، بعدما كان عمي. فقال لمن حضره من ولده:

{أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله (مَا لاَ تَعْلَمُونَ)} إنه سيرد علي ولدي يوسف ويجمع بيني وبينه، وأنتم لا تعلمون من ذلك شيئاً. وروي أن يعقوب قال للبشير: " هون الله عليك غصص الموت "، كأنه استقال له أن يكافأه بشيء من عرض الدنيا. وروي أيضاً عن سفيان، أنه قال: لما جاء البشير إلى يعقوب، قال له يعقوب: على أيِّ دين تركته؟ قال: (على دين) الإسلام، قال يعقوب: ألآن تمت النعمة وروي أنه لما التقى يوسف ويعقوب بأرض مصر، قال له يوسف: يا

97

أبت بلغني (عنك) أنك بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، وحزنت حتى انحط ظهرك. قال يعقوب: قد كان ذلك يا بني. قال له يوسف: أفما كانت القيامة تجمعني وتجمعك؟ قال يعقوب: بلى، ولكن تخوفت أن تبدل دينك فلا تلقني. قوله: {قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} إلى قوله: {العليم الحكيم} المعنى: قال له ولده: يا أبانا! أستغفر لنا ذنوبنا، أي: اسأل الله يستر علينا (ذنوبنا). {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}: أي: في فعلنا. قال لهم يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}، قيل: إنما أخر الاستغفار (لهم) إلى السحر. وقيل: أخره إلى صلاة الليل، (و) قيل: أخر ذلك إلى ليلة الجمعة.

روي ذلك عن ابن عباس، عن النبي A. ومعنى {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}: هو الستار ذنوب من تاب إليه، الرحيم بهم أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها إليه. روي عن أنس بن مالك، Bهـ، أنه قال: إن الله ( D) لأ لما جمع ليعقوب شمله، وأقر عينه، تذكر إخوة يوسف ما صنعوا بأخيهم، وبأبيهم (و) قالوا: إن كنا قد غفر لنا ما صنعنا، فكيف (لنا) بعفو ربنا؟ فاجتمعوا، وأتوا الشيخ. ويوسف إلى جنب أبيه، وقالوا: يا أبانا! أتيناك في أمر لم نَأْتِكَ في مثله قط. فرحمهم الشيخ، والأنبياء أرحم البرية، فقال: ما بكم يا بني؟ قالوا له: قد علمت ما كان

منا إليك، وإلى أخينا يوسف، وقد غفرت مالنا، وعفوكما لا يغني عنا شيئاً إن كان الله ( D) لم يعف عنا. ونريد أن تَدْعُوَ الله (لنا). فإذا جاءك الوحي بأنه قد عفا عنا قرت أعيننا وإلا فلا قرت لنا عين في الدنيا. فقام الشيخ، واستقبل القبلة، وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين. فدعا، وأمّنَ يوسف، فلم يُجَب فيهم إلى عشرين سنة. فلما كان رأس / العشرين سنة نزل جبريل على يعقوب، فقال له: إن الله D، بعثني إليك، (أبشرك) بأنه قد (أ) جاب دعوتك في ولدك، وإنه عفا عما صنعوا. وقوله: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} إنما قال لهم يوسف ذلك بعد أن دخلوا عليه، وآوى يوسف إلى أبويه. فمعنى ذلك أن يوسف تلقى أباه، تكرمة له، قبل دخوله مصر، فآوى يوسف إلى أبويه: أي: ضمهما وقال لأبيه ومن معه: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}. " كما ورد (أنهم) قاموا عشرين سنة، لا يقبل ذلك منهم، حتى لقي جبريل يعقوب، عليهما السلام. فعلّمه هذا الدعاء " يا رجاء المؤمنين! لا تخيب رجائي، يا غوث المؤمنين أغثني، يا حبيب التائبين عَلَيَّ، فاستجيب لهم. قال لهم يوسف ذلك بعد أن

دخلوها عليهم، لأنهم (فيما) ذكر السدي: تحملوا إلى يوسف بأهليهم وعيالهم، لأنه قال لهم: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] فلما قربوا من مصر كلهم يوسف الملك الذي فوقه، أن يخرج هو والمل (و) ك معه يتلقونهم. فلما دنا يوسف من يعقوب، ويعقوب يتمشى، وهو يتكئ على يهوذا ولده. بدأه يعقوب بالسلام، وقال: السلام عليك يا ذاهباً بالأحزان عني.

وقيل: إن قوله إن شاء الله إنما هو استثناء من قول يعقوب لبنيه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} {إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}، ففي التلاوة تقديم وتأخير. وهو قول ابن جريج. فأما قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} فإن السدي، قال: هما أبوه وخالته، وذلك أن أم يوسف ماتت، فتزوج يعقوب [بعدها] أختها، وهي خالة يوسف. وقال ابن إسحاق: هما أبوه وأمه، ولم تكن أمه ماتت. وهذا القول اختيار الطبري. ومعنى: {آمِنِينَ}: أي آمنين مما كنتم فيه في باديتكم من الجدب والقحط. والعرش: السرير في قول السدي، ومجاهد، والضحاك وقتادة، وابن عباس. وقال ابن زيد: هو مجلسه.

وقوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً}: قيل: المعنى إن أبا يوسف وأمه (وإخوته) خروا سجّدا ليوسف. وكان تحية القوم في ذلك الوقت السجود، قاله سفيان، وابن جريج، والضحاك، وقتادة، وهو مثل: " السلام عليكم " في هذه الأمة. جعل لهم عوضاً من السجود الذي كان تحته من قبلهم. وقيل: كان ذلك انحناء، ولم يكن سقوطاً على الأرض. جعل الله منه السلام، والمصافحة عوضاً، كرامة من الله D لهذه الأمة، وهي تحية أهل الجَنَّة. وقال ابن سحاق: الهاء في " له " لله، والمعنى: خرُّوا لله سجداً. وقوله: {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ}: أي: قال يوسف لأبيه: يا أبت! هذا السجود الذي سجدتموه لي الساعة، (هو) تأويل ما رأيته، وأنا صبي: إذ رأيت أحد عشر

كوكباً، والشمس والقمر ساجدين لي: فالأحد عشر (كوكباً) إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه. {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}: وكان بين رؤيا يوسف، وتأويلها أربعون سنة. وقيل: ثمانون سنة، قاله الحسن، قال: كان بين أن فارَقَ يعقوب يوسف (إلى أن اجتمعا ثمانون سنة)، لم يفارق الحزن قلب يعقوب، ولا الدمع خديه، ولم يكن على وجه الأرض يومئذ عبدٌ أحبَّ إلى الله D، من يعقوب. وألقى يوسف في الجب، وهو ابن سبع / عشر [ة] سنة، ومات بعد التقائه بيعقوب بثلاثة وعشرين سنة. ومات يوسف، وهو ابن مائة واثنتين وعشرين سنة. وقال ابن إٍحاق: كان بين افتراق يوسف، إلى أن اجتمعا، ثماني

عشرة سنة، وأهل الكتاب يزعمون أن مدة الافتراق بينهما أربعون سنة. وأن يعقوب بقي مع يوسف بعد أن اجتمع به سبع عشر [ة] سنة، ثم قبضه الله D إليه. قوله: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي}: معناه: أحسن الله بي، إذ أخرجني من السجن، وفي مجيئه بكم من البدو. وكان مسكن يعقوب وولده في قول قتادة بأرض كنعان: أهل مواش وبرية والبدو مصدر: بدا فلان، إذا صار بالبادية. وروى أهل التواريخ أن يعقوب عليه السلام دخل مصر يوم دخلها هو، وأولاده، وأهلوهم، وبنوهم ف أقل من مائة، وخرجوا منها يوم خرجوا، إذ أخرجهم فرعون، وهم أكثر من ستمائة ألف، فقال فرعون:

{إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54]. وقال ابن مسعود: " دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنساناً، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ". وحكى الطبري، وغيره أن يعقوب إنما سمي إسرائيل، لأن أخاه العَيْصُ تواعد (هـ) بالقتل، فخرج فراراً منه، فسرى الليل، وكمن النهار. فسمي إسرائيل، لسريه بالليل. وقيل: إن إسرائيل اسم عبراني تفسيره: عبد الله. وروى عاصم العمري أن يعقوب (على نبينا) عليه السلام، قال: يا رب! أذهبت بصري، وأذهبت ولدي، فما ترحمني؟ قال: بلى، وعزتي! إني لأرحمك، ولأردَّنَّ عليك بصرك، ولو كنت أمت ولدك، لأردنه عليك. إنما ابتليتك بهذه البلية أنك ذبحت

101

جملاً، فوجد جارك ريحه فلم تطعمه منه. فكان منادي آل يعقوب إذا أصبح نادى في الناس: من كان مفطراً فليتغد عند آل يعقوب، ومن كان منكم صائماً فليفطر عند آل يعقوب. قوله {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} - إلى قوله - {بالصالحين} قوله: {مِنَ الملك}، و {مِن تَأْوِيلِ (الأحاديث)}. {مِن}: فيهما للتبعيض، على معنى: آتيتني بعض الملك، وعلمتني بعض التأويل. وقيل: " من " لا تؤنث الجنس، فيكون المعنى: قد آتيتني الملك، (وعلمتني تأويل الأحاديث) مثل: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]: لم يؤمروا باجتناب بعض الأوثان دون بعض، ولكن المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو الوثن.

والمعنى: أن يوسف A قال بعدما جمع الله ( D) بينه وبين أبويه وإخوته. وتذكر ما بسط له من الدنيا والكرامة. {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك}: أي: ملك مصر. {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} يعني: عبارة الرؤيا، تقديراً لنعم الله D عليه، وشكراً له. {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة}: أي: أنت تثيبني في دنياي بنصرك على من عاداني، / وأرادني بسوء. وتثيبني في الآخرة بفضلك. ثم إنه A لما أمره في دنياي قد تناهى في التمام، علم أنه لا يكون بعد التميم إلا النقص والزوال، لأنها دار زوال. قال: فسأل الله أن يقبضه على الإسلام، ويلحقه بآبائه الصالحين، فقال: {تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}.

قال ابن عباس: لم يتمنَّ أحد من الأنبياء الموت قبل يوسف. وذكر السدي أن يعقوب مات قبل يوسف، وأوصى إلى يوسف بأن يدفنه عند قبر أبيه إسحاق. وكان قبر إسحاق بالشام. فلما مات عمل ما أمر، وحمل إلى الشام. فلما بلغوا (إلى) ذلك المكان، أقبل عيص أخو يعقوب، فمنعهم أن يدفنوه. ثم قال هشام (بن دان) بن يعقوب لبعض من كان بالحضرة: ما لكم لا تدفنون جدي؟ وكان هشام أصماً. فقيل له: إن عيصاً أخاه يمنعه من ذلك. فقال: أرونيه، فأروه إياه، فضربه ضربة (تساقطت) عيناه على لحد يعقوب، فدفنا في قبر واحد.

102

قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} إلى قوله {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} معنى الآية: أن الله ( D) يقول لنبيه عليه السلام (إن) الذي اقتصصنا عليك من خبر يوسف، ويعقوب من أخبار الغيب الذي لم تشاهدها، ولا عاينتها يا محمد. ثم قال: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ}: أي عند إخوة يوسف {إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} على إلقاء يوسف في الجب. وهو مكرهم بيوسف. ثم قال (تعالى) {وَمَآ أَكْثَرُ الناس} يعني: مشركي قريش بمؤمنين، ولو حرصت على إيمانهم، ولكن الله ( D) يهدي من يشاء. (ثم قال تعالى): {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}: أي: لست تسأل قريشاً يا محمدا أجراً) على دعائك إياهم إلى الإيمان. فيقولون لك: إنما تريد بدعائك

إيانا إلى الإيمان أخذ أموالنا، وإذا كان حالك أنك لا تريد منهم جزاء، فالواجب عليهم أن يعلموا أن دعاءك لهم نصيحة منك لهم، وأتباعاً لأمر ربك. {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}: أي: ما الذي أرسلك به ربك إلا عظة للعالمين. ثم قال (تعالى): {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا}: المعنى وكم يا محمد من علامة، ودلالة، وعبرة، وحجة في السماوات والأرض: كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال (والبحار) والنبات، وغير ذلك من آيتهما يُعاينونها، فيمرون عليها، وهم معرضون، لا يعتبرون بها، ولا يتفكرون بها. وفيما دلّت عليه من توحيد خالقها عز وجهه.

وقرأ السدي: {والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} (بالنصب). (و) الوقف على هذه القراءة، على [السماوات] تمام. [و] النصب على إضمار فعل بمنزلة: " زيد أنزلت عليه "، كأنه قال: ويغشون (الأرض) يمرون عليها، أو " ويلامسون الأرض " يمرون عليها، وشبه ذلك من الإضمار. وهو مثل {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31]. وذكر الأخفش رفع " الأرض " على الابتداء، ويكون على / " السماوات " حسناً أيضاً على هذا. وقد تقدم القول في {وَكَأَيِّن} [آل عمران: 146] من آل عمران.

106

وقد ذكر الفراء أن " كائن " على قراءة ابن كثير: فاعل من " الكون " فيحسن الوقف على " النون "، لأنها لام الفعل. وذكر الأخفش أن قوله: {سبيلي أَدْعُو إلى الله} [يوسف: 108]: تمام، وتابعه على ذلك أبو حاتم، وهو مروي عن نافع. ويبتدأ: {على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} [يوسف: 108] فيكون " أنا " ابتداء، والمجرور: الخبر. وقال عبيدة: {أَنَاْ} [يوسف: 108] تأكيد للضمير في {أَدْعُو} [يوسف: 108]، فتكون {على بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] متصلاً بأدعو، ويكون التمام على هذا: {المشركين} [يوسف: 108]. قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} إلى قوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} المعنى: وما يقرأ أكثرهم، ولا الذين وصف إعراضهم عن الآيات بالله ( D) ، أنه خالفهم، ورازقهم {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} به: في عبادتهم الأوثان من دون الله

(سبحانه)، وفي زعمهم أن له ولداً. تعالى الله عن ذلك. قال ابن عباس: إذا سألتهم من خلقكم؟، وخلق الحبال والبحار؟ قالوا: الله وهم يشركون به. قال ابن زيد: ليس لأحد يعبد مع الله (سبحانه) غيره إلا وهو مؤمن بالله، ولكنه يشرك به. ثم قال جل ذكره: {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ (الله)} (والمعنى: أفأمن هؤلاء الذين يشركون بالله أن تأتيهم غاشية من عذاب الله). ومعنى " الغاشية " المجللة: يجللهم عذابها، ومنه {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1]. {أَوْ تَأْتِيَهُمُ (الساعة) بَغْتَةً}: أي: فجأة، وهم مقيمون على كفرهم،

109

وشركهم. ثم قال تعالى: {قُلْ هذه سبيلي} الآية والمعنى: قل لهم يا محمد: هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله D، أدعوكم إلى الله [سبحانه] على بصيرة أي: على منهاج ظاهر، ويقين {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني}. ثم قال: {وَسُبْحَانَ الله}: أي: وقل يا محمد سبحان الله: أي: تنزيهاً لله من شرككم، {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين}. قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} إلى قوله {المجرمين}: والمعنى: ألم نرسل قبلك يا محمد إلا رجالاً يوحى إليهم بالأمر، والنهي، والدعاء إلى توحيد الله ( D) ، وهم {مِّنْ أَهْلِ القرى}، أي: من أهل الأمصار دون أهل البوادي. أي: لم نرسل نبياً، ولا ملائكة. ثم قال (لهم): {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض}، أي: أفلم يسر المشركون في

الأرض، فيعتبرون بمن كان قبلهم من الأمم، الذين كذبوا رسلهم، ويخافون أن يهلكوا بذنوبهم كما هلك من كان قبلهم. ثم قال: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ}: أي: الجنة خير لهم لو آمنوا من دار الدنيا. ثم قال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل} الآية، ومعنى الآية: أنها مردودة على ما قبلها، وهو قوله (تعالى): {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} فالمعنى: حتى إذا استيأس الرسل الذين تقدم ذكرهم، من إيمان قومهم، وأيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم. جاء الرسل نصرنا. فيكون الفعلان " للرسل / " والضمير ان في " أنهم "، وجاءهم للرسل أيضاً، هذا على قراءة من شدَّد " كُذِّبوا. قال هذا التفسير: الحسن، وقتادة وتحتمل هذه القراءة معنىً آخر، وهو أن يكون المعنى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان من كذبهم (من) قومهم، وظنوا أن من آمن من قومهم قد كذبوهم، لما لحقهم من البلاء والامتحان، جاء الرسل نصرنا. (وهذا المعنى مروي من عائشة Bها: (روى عروة عنها أنها) قالت: مَحَنَ المؤمنين بالبلاء، والضر حتى ظن الرسل أن المؤمنين قد كذبوهم لما لحقهم فيكون الظن بمعنى: الشك لا بمعنى اليقين. فأما المعنى على قراءة من خفف " كذبوا " فعلى تقدير: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كُذِبُوا: أي: أخلفوا لما وعدوا به من النصر. جاء الرسل نصرُنا. فيكون الظن بمعنى: اليقين، وبمعنى: الشك، وتحتمل هذه القراءة أيضاً معنى آخر، وهو أن يكون التقدير: {حتى إِذَا استيأس الرسل} من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم. ثم رَدَّ إلى ما لم يسم فاعله.

وقد قرأ مجاهد " كَذبُوا " بفتح الكاف والتخفيف، ومعناه: وأيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا في ردهم على الرسل. وقيل: الظن بمعنى: الشك، وهو للمرسل إليهم. والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله، ( D) ، وفيما وعدهم به من النصر عليهم، والانتقام منهم. وقيل: معناه: حتى إذا استيأٍ الرسل من عذاب الله (سبحانه) قومها المكذبين لها، وظنت الرسل أن قومها قد كذبوا، وافتروا على الله، (سبحانه)، بكفرهم، جاء الرسل نصرُنا.

فالظن على هذا بمعنى اليقين. وقيل: المعنى: استيأس الرسل أن يأتي قومهم العذاب، قال (هـ) مجاهد. وعن ابن عباس أن المعنى:

وظن الرسل أنهم قد كذبوا واستشهد على ذلك بقول نوح: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} [هود: 45]، وبقول: إبراهيم، {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] (فيكون) الظن بمعنى الشك. كأن الرسل دخلها شك كما يدخل سائر الخلق. وهذا تأويل فيه رجاء عظيم للمؤمنين، وفيه صعوبة لما أضيف إلى الرسل من الشك، والله أعلم بذلك كله. وعن ابن عباس أيضاً في معنى ظن الرسل أنهم أخلفوا، وهو المعنى المتقدم. قال ابن عباس: كانوا بشراً، يريد أن الأنبياء يعتريهم ما يعتري البشر. وروى ابن الزهري: (عن عروة بن الزبير) أنه سأل عائشة Bها، عن هذه الآية،

وقرأها بالتشديد، وقال: قلت لها: قد استيقن (الرسل) أن قومهم قد (كذبوهم)، فقال (ت): أجل، قد استيقنوا ذلك. قلت: فلعلعل، وظنوا أنهم قد كذبوا بالتخفيف. فقالت معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها. قال: قلت: فما هذه الآية؟ فقالت / هم اتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم، وطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ظن (من كذب بهم من قومهم)، أن أتباعهم الذين آمنوا بهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. ومعنى: {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ}، (أي): ننجي الرسل، ومن نشاء من عبادنا المؤمنين. وقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} إلى آخر السورة المعنى: لقد كان في خبر يوسف وإخوته عبر لأهل الحجى، والعقول، يعتبرون بها، ويتعظون: كل هذا مخاطبة (ل) قريش، وتنبيه لهم على لطائف الله (سبحانه) في خلقه،

وصنعه، إذ ملك (يوسف A ملك) مصر بعد أ (ن) بيع بالثمن الخسيس، وبعد طول حبسه، ثم جمع بينه وبين أبويه وإخوته. {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى}: أي: ليس لما قصصنا عليك (يا محمد) من خبرهم حديثاً يختلق. {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}: أي: هذا الذي قصصنا عليك يا محمد من خيرهم مصدق لما في التوراة، والإنجيل، والزبور، وشاهد له أنه حق كله. ثم قال: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}: أي: تفصيل كل ما بالعباد إليه الحاجة، من بيان أمر الله ( D) ونهيه وحلاله وحرامه. {وَهُدًى} لمن آمن به {وَرَحْمَةً}. والتقدير في نصبه {تَصْدِيقَ} و {تَفْصِيلَ} إنه على أضمار {كَانَ} أي: ولكن كان {تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً}: كله

نصب، عطف على خبر كان المضمرة. ويجوز الرفع في جميع ذلك في الكلام على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه، وتفصيل (كل شيء)، ورحمة. فإذا نصبت أضمرت كان، وفيها اسمها مُضْمَرٌ. وإذا رفعت أضمرت هو لا غير.

الرعد

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرعد: (مكية، وقيل: مدنية) قال ابن جبير، ومجاهد: هي مكية. وقال قتادة: هي مدنية إلا آية واحدة، قوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا) [32] وعنه: إلا قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) [32]، فإنه نزل بمكة.

1

وسئل ابن جبير عن قوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ): أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف يكون عبد الله بن سلام، والسورة مكية وابن سلام إنما أسلم بالمدينة. قوله: {المر} إلى قوله: {تُوقِنُونَ} قال ابن عباس معناها: أنا الله أرى، وقيل: معناه: أنا الله أعلم، وأرى. وقوله: {المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ (مِن رَّبِّكَ الحق)} المعنى: يا محمد تلك الآيات التي قصصت عليك خ [برها] هي آيات الكتاب التي أنزلت قبل هذا الكتاب، (الذي أنزلته إليك). أعني: بذلك: التوراة والإنجيل، قاله قتادة،

ومجاهد. وقيل: المعنى: هذه آيات الكتاب، يعني القرآن. ثم ابتدأ فقال: {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق} على وجه الإخبار لمحمد ( A) أن الذي أنزل إليه، نزَّله الله عليه هو حق. فعلى هذا المعنى تقف على الكتاب، وعلى القول الأول، لا تقف عليه لأن الإخبار عن / الكتب الثلاثة أنها حق. ثم قال (تعالى): {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق} أي: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك يا محمد! هو الحق أيضاً. فاعمل بما فيه، واعتصم به. قاله قتادة، ومجاهد، فيكون على هذا القول (الكتاب): تمام حسن، ويكون " الذي " (مبتدأ والحق خبره. فإن قد أن " الذي " في موضع خفض على معنى:

وآية {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، كان الوقف على (ربك). وتبتدأ الحق، وترفعه على إضمار مبتدأ: أي: هو الحق، وذلك الحق. ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} (أي: لا يؤمنون) بعد وضوح الحق بهذه الآيات. ثم قال تعالى: {الذي رَفَعَ السماوات} الآية. المعنى: أنه أخبرنا تعالى ذكره أن من آياته أن رفع السماوات، فجعلها سقفاً للأرض {بِغَيْرِ عَمَدٍ} مرئية، فهي على عمد، ولكنها لا ترى، فيكون " ترونها " نعتاً للعمد. والهاء والألف تعود على العمد، هذا قول ابن عباس وعكرمة، (وهو قول مجاهد). وفي مصحف أبي

" ترونه "، رده على العمد. فهذا يدل على أن لها عمداً لا ترى. قال أبو محمد: وأقول إن عمدها القدرة، فهي لا ترى. قال ابن عباس: عمدها قاف الجبل الأخضر. وقال قتادة: ليستعلى عمد، بل خلقها D، بغير عمد، وهو أولى بظاهر النص، وأعظم في القدرة، ودل عليه قوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41]: فهذا يدل على أنها غير عمد يُمسكها، ولو كان لها عمد لم يمسكها العمد حتى يعتمد العمد على شيء آخر إلى ما لا نهاية له. فالقدرة نهاية ذلك كله. فيكون " ترونها " على هذا القول [حا] لاً من السماوات: (أي: خلق السماوات مرئية بغير عمد.

وتكون " الهاء " و " الألف " تعود على السماوات)، فإذا رجع [الضمير] على العمد احتمل أن يكون المعنى: بغير عمد مرئية البتة، فلا عمد لها. ويحتمل أن يكون المعنى: بغير (عمد) مرئية لكم: أي: لا ترون العمد. وثَمَّ عمد لا ترى، وإذا رجع الضمير على " السماوات " فلا عمد ثم البتة. ثم قال تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: علا عليه علو قدرة، لا علو مكان. ثم قال (تعالى): {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: لوقت معلوم، وذلك إلى فناء الدنيا، وقيام الساعة. فَتُكَوُّرُ الشمس حينئذ، ويُخسف القمر، وتنكدر النجوم التي سخرها في السماء لصالح عباده ومنافعهم فيعلمون

3

بجريها عدد (السنين) والحساب، والأوقات، ويفرقون بين الليل والنهار. ودل تعالى بذلك أنها مخلوقات. إذ كُلٌ مدبر مملوك مقهور، لا يملك لنفسه نفعاً فيخلصها مما هي فيه. ثم قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر}: أي: بحكمه وحده بغير شريك، ولا ظهير. ومن الأمر الذي دبره: خلق السماوات [ب] غير عمد، وسخر الشمس، والقمر والنجوم فيهن. ثم قال: {يُفَصِّلُ الآيات}: أي: يبين آياته في كتابه لكم، لتقوم بها عليكم الحجة، إن لم تؤمنوا، ثم بين تعالى لِمَ فعل هذا؟ فقال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}: أي: لعلكم تصدقون بوعده، ووعيده، وتزدجرون عن عبادة الأوثان. قوله {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} - إلى قوله - {يَعْقِلُونَ}: المعنى: أن الله، جل ذكره، بعد / أن بين آية السماوات والأرض، أنه هو بسط الأرض

طولاً وعرضاً. قيل: إنها كانت مدورة فمدت. ثابتة: أي: جبالاً، والرواسي جمع راسية، وهي الثابتة، وجعل فيها أنهاراً للسقي، والشرب، والعسل، وغير ذلك. ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ}: أي: نوعين، والزوج: الواحد الذي له قرين، والزوج: الصنف، والنوع. وقال أبو عبيدة، والفراء: والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى من كل صنف، وهذا خلاف ظاهر النص، لأنه تعالى إنما ذكر الثمرات، ولم يذكر الحيوان. فالمعنى: من كل الثمرات جعل صنفين حلواً وحامضاً، وأحمر وأبيض، ونحو ذلك ودليله قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} أي: خلق الأصناف كلها من نبات الأرض ومن غيرها. ثم قال: {يُغْشِى اليل النهار}: أي: يلبس الليل النهار، فذلك كله فيه: آية لمن تفكر فيه، واعتبر، فعلم أن العبادة لا تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء، ودبرها، دون

أن يملك ضراً، ولا نفعاً. ثم قال تعالى: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} الآية والمعنى: وفي الأرض قطع متدانيات، وتت [ف] اضل في النبات، فمنها قطعة سبخة، لا تنبت شيئاً، وتجاوزها قطعة طيبة تنبت. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. وقيل: المعنى: وفي الأرض أمكنة متجاورة تسقى كلها بماء واحد، وهي مختلفة. طعام النبات والثمر: بعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها مُرٌّ، وبعضها سباخ لا تنبت شيئاً. ففي ذلك مع اتفاق شرب جميعها من ماء واحد، دلالة على نفاذ قدرة الله (تعالى)، وتعظيم سلطانه، و [ب] دائع تركيباته سبحانه. وقيل: في (ال) كلام حذف، والمعنى: وفي الأرض قطع متجاورات وغير

متجاورات، ثم حذف لعلم السامع. وقيل: المتجاورات: المدن، وما كان عامراً، والتي غير متجاورات: الصحاري، وما كان غير عامر. وقوله ({صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: معنى: صنوان: النخلة، والنخلتان، والثلاث، والأربع أصلهن واحد)، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: النخلة، والنخلتان، والأكثر كل واحدة في أصل متفرق، قاله البراء بن عازب. وقال ابن عباس: معنى: الصنوان: النخلة التي يخرج من أصلها النخلات، فيحمل بعضه، ولا يحمل البعض. فيكون أصله واحداً، ورؤوسه متفرقة. {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}: كل واحدة من النخل في أصل واحد.

ومعنى الآية عند الحسن، (رحمة الله عليه)، أنه مثل ربه الله [تعالى] لقلبو بني آدم، وذلك أن الأرض كانت في يد الرحمن طينة واحدة، فبسطها، وبطحها فصارت قط [عاً] متجازات. فينزل عليها الماء، فتخرج هذه زهرتها، وثمرتها، وشجرها، وتخرج هذه ملحها، وسبخها، وخبثها: وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو اختلف (ت) مياهها لقيل: إنما وقع الاختلاف لأجل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم. وينزل عليهم من السماء ماءاً: يذكرهم فترق قلوب، وتخشع قلوب / وتخضع، وتقسو قلوب، وتلهو وتسهو. قال الحسن: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلا قام من عنده بزيادة، أو نقصان. دليله قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82].

قال أبو محمد، Bهـ، هذه الآية نبه الله تعالى (فيها على) قدرته وحكمته، وأنه المدير للأشياء كلها. وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها، وثمارها في وقت معلوم لا تتأخر عنه، ولا تتجاوزه. فدل ذلك على مدبر فعل ذلك. إذ لا يقدر الشجر على ذلك، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علواً علواً، وليس من طبعه إلا التسفل. فدل ذلك على مصدعه صعَّده، إذ لا يقدر الماء والشجر على ذلك، ثم يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان، والثمرة كل بقسطه، وبقدر ما فيه صلاحه، فدل ذلك على مقسم قسَّمه، ومجز جزأه على العدل والقوام. ثم تختلف طعوم الثمرات والماء الواحد. والشجر جنس واحد. فدل ذلك على مدبر (دبر) ذلك، وأحكمه لا

يشبه المخلوقات: فهذا وأشباهه يدل على توحيد الخالق بالعقول، وإفراده بالقدرة على كل شيء وبالحكمة واللطف في أفعاله بالرسل. إنما أكدت هذا الذي هو ظاهر للعقول من إيجاب التوحيد، وإثبات الصانع ما بينت الرسل من الشرائع. وكل القراء كسر الصاد من " صِنوان "، إلا ما رواه (أ) بو شعيب: عن حفص، (عن عاصم) أنه قرأ بضم الصاد فيهما. وهي لغة (بني) تميم، وقيس. والكسر لغة أهل الحجاز، وواحده صِنْوٌ

كقنوان، واحدهُ. قِنْوٌ، ونِسوانٌ: واحده نِسْوةٌ، ولا يعتد بالهاء. وحكى سيبويه " قُنْوان " بالضم. ثم قال تعالى: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ}: (أي: يسقى ذلك بماء واحد) من السماء، (و) بعضها يَفْضُلُ بعضاً في الأكل: كالحلو، والحامض، والمر. قال ابن جبير: هي الأرض الواحدة يكون فيها الكوخ، والكمثري، والعنب الأبيض، والأسود، ويكون بعضها أكثر في الحمل من بعض. والأكل: الثمر الذي يؤكل. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: أي: (إن) في اختلاف مطاعم هذه الشجر على ما تقدم وصفه لآيات: لعلامات لقوم يعقلون فيستدلون على أن

5

الذي خالف بين هذه الشجر في الطعم والماء واحد، والأرض واحدة: لهو الذي يقدر على مخالفة أحوال خلقه، فيقسم لهذا هداية، ولهذا ضلالة، وتوفيقاً لهذا، وخذلاناً لهذا. ولو شاء لَسَوَّى بين (جميع) طعم ثمر الشجر كله. كذلك لو شاء [الله] لسوى بين جميع الخلق في الهداية، أو في الضلالة. قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} - إلى قوله - {لَشَدِيدُ العقاب} المعنى: يا محمد من هؤلاء المشركين، فعجب إنكارهم للبعث. قال قتادة: عجب الرحمن من تكذيبهم البعث بعد الموت. وقال ابن زيد: المعنى: أن تعجب يا محمد من / تكذيبهم لك، وقد رأوا قدرة الله، D في الحياة، وفي جميع ما ضرب لهم به الأمثال، فعجباً إنكارهم

البعث. على معنى: فذلك من فعلهم مما يجب لكم أن تعجبوا منه. وقد قرأ الكسائي {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] بضم التاء على أَحَدِ المعنيين المذكورين. ثم أخبرنا الله، D، أن من أنكر البعث، بعدما بين له من الآيات الدالات على قدرة الله، (سبحانه) فالأغلال في أعناقهم يوم القيامة، وأنهم أصحاب النار خالدين فيها. وقيل: الأغلال: أعمالهم، كما تقول للرجل عمل عملاً سيئاً: " هذا غل في عنقك "، فسمي العمل السيء بالغل، لأنه سبب إلى الغل. ثم قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة (قَبْلَ الحسنة)} الآية. والمعنى: يستعجلك يا محمد، مشركو قومك بالعذاب والعقوبة، قبل الرخاء

والعافية، فيقولون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32]- الآية وهم يعلمون ما حل بالأمم قبلهم من العقوبات وهو قوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات}: أي: العقوبات في الأمم الماضية على تكذيبهم الرسل، فهلك قوم بالخسف، وقوم بالرجفة، وقوم بالغرق في أشباه لذلك من العقوبات. قال قتادة: المُثلاتُ: وقائع الله، D في الأمم الماضية. وقال الشعبي: المثلات: القردة والخنازير. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ}: أي: لذو ستر على ذنوبهم، وهم ظالمون.

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} (أي):، لمن مات مصراً على كفره. ولما نزلت هذه الآية، قال النبي A: " لولا عفو الله، ورحمته، وتجاوزه من هنأ لأحَدٍ عيش، ولولا عاقبة، ووعيده، وعذابه لا تكل كل واحد ". وقال ابن عباس: ما في كتاب الله، ( D) آية أرْجَى من قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ}. (وقيل: المعنى) هو أن العبد يمحو الله بحسنته عشر سيئات، وإذا همّ بالحسنة كتب له، وإن لم يعملها.

7

قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} إلى قوله {المتعال} المعنى: أن الله D أخبرنا أن المشركين يقولون هلا أنزل على محمد آية، تدل على نبوته، وهي قوله: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]. ثم قال الله D، لنبيه عليه السلام {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ} لهم لا غير. ثم قال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}: أي: ولكل أمة هاد، يهديهم؛ إما إلى هدى، وإما إلى ضلال، دليله قوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] وقال قتادة: معناه: ولكل قومٍ داعٍ يدعوهم إلى الله (سبحانه). فأنت يا محمد داعي هؤلاء. فمحمد، عليه السلام، هو الهادي، وهو المنذر. وقال ابن جبير: الهادي هو الله، ( D) ، والمعنى: إنما أنت يا محمد منذر،

ولكل قوم اهتدوا هادٍ يهديهم، وهو الله (تعالى). (و) قال مجاهد: المنذر: النبي A، والهادي / الله ( D) ، وقال (هـ) ابن عباس، والضحاك. وقال أبو صالح: معناه: ولكل (قوم) قادة يقودونهم، إما إلى هدى، وإما إلى ضلال. وعن ابن عباس Bهـ معناه: ولكل قوم داع يدعوهم إلى الله تعالى. ثم قال تعالى (جل ذكره): {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الآية المعنى: إنه ذكر عن قريش أنهم ينكرون البعث، فذكرهم بعلمه {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى}، وما يزيد الرحم في حمله على التسعة أشهر، وما ينقص من التسع أشهر. وإِنَّ من عَلِمَ هذا

قادر على إعادتكم بعد موتكم، لأن الابتداء أصعب من الإعادة. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}: أي: قدره، ودبره، فلا تنكروا البعث بعد الموت. وقال قتادة: {تَغِيضُ الأرحام}: هو ما يسقط من الأولاد قبل التسعة. وقال مجاهد: الغيض: النقصان، وذلك أن المرأة إذا أهرقت الدم، وهي حامل (انتقص) المولود، وإذا لم تهرق الدم، عظم الولد وتم. وقال أيضاً " (إذا حاضت) المرأة في حملها كان (ذلك) نقصاناً في ولدها. فإن زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماماً لما نَقْصَ من ولدها. وقال الحسن: الغيض أن تضع لثمانية أشهر، وأقل الازدياد أن تز (يـ) ـد

على تسعة أشهر. وعنه (أيضاً) أنه قال: (الغيض الذي يولد لغير تمام، وهو السِّقط. والاز (د) ياد: ما ولد لتمام كقوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5]: أي تامة وغير تامة. وقال ابن جبير: إذا حملت المرأة، ثم حاضت نقص ولدها، ثم تزداد في الحمل مقدار ما جاءها الدم فيه، فتزيد على تسعة أشهر مثل أيام الدم. وقال عكرمة: غيضها: الحيض على الحمل، {وَمَا تَزْدَادُ} قال: تزداد كل يوم حاضته في حملها يوماً طاهراً في حملها حت تُوِفي عُدَّة حملها، وهي طاهرة. وعن مجاهد أيضاً: غيضها دون التسعة أشهر، والزيادة فوق التسعة أشهر. واجتمع العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.

واختلفوا في أكثره. فقال قوم: أكثه سنتان، وهو مروي عن عائشة (Bها). وروي عن الضحاك بن مزاحم، وهرم بن حيان أنهما قاما كل واحد منهما في بطن أمه سنتين. وقال الليث بن سعد: أكثر الحمل ثلاث سنين. وحكي أن مولاةً لعمر بن عبد العزيز، (Bهـ) حملت ثلاث سنين. وقال الشافعي مدته: أربع سنين.

وروي عن مالك: مثل قول الشافعي (Bهـ). وروي أيضاً عن مالك أنه قال: خمس سنين، وحكي عن امرأة ابن عجلان أنها كانت تحمل خمس سنين. وقال الزهري: المرأة تحمل ست سنين، وسبع سنين. وقال قوم: لا يجوز التحديد (في هذا)، ومذهب الشافعي /، ومالك: أن الحامل تحيض. وقال عطاء، والشعبي، والحكم، وحماد، وغيرهم: الحامل

لا تحيض، ولو حاضت ما جاز أن تستبرئ الأمة بحيضة، واستبراء الأمة (بحيضة) إجماع. فلا يعترض به على من أجاز حيض الحامل، لأن الأمة خرجت بالإجماع على استبرائها بحيضة.

10

ثم قال تعالى (جل جلاله): {عَالِمُ الغيب والشهادة}: أي: يعلم ما غاب عن الأنظار، وما ظهر الكبير: أي: العظيم في ملكه. {المتعال}: أي: المستعلي على جميع الأشياء بقدرته. قوله: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} - إلى قوله - {مِن وَال}

قوله: سواء منكم، [هو مصدر]، مرفوع لأنه خبر ابتداء مقدم، ومن في الموضعين رفع بالابتداء، (لأن) " سواء " يطلب اسمين،، و " من " الثانية مرفوعة بالابتداء أيضاً، والتقدير: وسواء، كما تقول: رجل عدل، أي: ذو عدل، وتقول: سواء زيد وعمرو، أي: ذو سواء، زيد، وعمرو. إنما احتجت إلى هذا الإضمار، لأن سواء مصدر ولا يرتفع، إذا كان الاسم بعده إلا على حذف، لأن الخبر ليس هو الابتداء، إلا أن تضمر، فيكون الخبر هو الابتداء في المعنى، ويكون فيه ذكر يعود على الابتداء، إلا أن تضمر، فيكون الخبر هو الابتداء في المعنى، ويكون فيه ذكر يعود على الابتداء. وهذا في الحذف كما قالت الخنساء: " فإنما هي إقبال وإدبار: أي: ذات إقبال وإدبار. وإن كان في موضع هذا المصدر اسم فاعل، لم

يحتج إلى إضمار لأنه يكون هو الاسم المبتدأ، وليس المصدر هو الاسم المبتدأ. وقد كثر استعمالهم " لسواء "، حتى جرى مجرى أسماء الفاعلين، ويجوز أن يرتفع " سواء " على أن يكون في موضع " مستوٍ ". ويكون أيضاً خبراًَ مقدماً، كالأول، لكن يكون هو الابتداء (في) المعنى: فيستغنى (عند سيبويه)، عن الإضمار، وقبيح عند سيبويه أن يكون مبتدأ، لأن النكرات لا يبتدأ بها، وإن كانت اسماً لفاعلين لضعفها عن الفعل. وقد جمعوا " سواء " على " أسوأ " قال الشاعر: ترى القوم أسواء إذا جلسوا معاً ... وفي القوم زيفٌ مثل زيف الدراهم

ومعنى الآية: معتدل منكم عند الله D، أيها الناس: الذي أسرّ القول، والذي جهر به، والذي يستخفي بالليل، وبظلمته بمعصية الله (سبحانه)، والذي يظهر بالنهار في المعصية، وفي غيرها. كل ذلك عند الله (سبحانه) سواء لا يخفى عليه منه شيء. ويقال: هو آمن في سِربه، وسَربه، بالفتح والكسر. والسارب في الآية: الظاهر وقيل: السارب المختفي، من قولهم: انسرب الوحش: إذا دخل كناسَهُ، قال (هـ) قطرب. وأكثر الناس على أن السارب: الظاهر، لأنه عديل المستخفي المتواري، والسارب: الظاهر. ثم قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} - الآية: قيل المعنى (لله D) معقبات، وهي الملائكة / تتعاقب على ابن آدم بالليل والنهار.

فالهاء في " له " لله، والهاء في " يديه " و " خلفه: للمستخفي بالليل، والسارب بالنهار. وقيل: الهاء في " له " تعود على " من " وهو المستخفي. ومعنى: من خلفه: " من وراء ظهره ". وروي أن عثمان بن عفان: Bهـ، " سأل النبي A، فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه ملكاً. فقال النبي A: ملك على يمينك على حسناتك، وهو أمين على الذي على شمالك. وإذا فعلت حسنة كتب عشراً. (و) إذا علمت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: اكتب، فيقول له: لعله يستغفر الله، ويتوب. فإذا لم يتب منها، قال: نعم اكتب أراحنا الله منه، فبئس القرين ". ما أقل مراقبته لله D، وأقل استحياء! يقول الله (تعالى):

{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، ومَلَكان من بين يديك، ومن خلفك. يقول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي (محمد) A. وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيك، وملكان على عينيك: فهؤلاء عشرة أملاك، على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار، لأن ملائكة الليل ينيبون ملائكة النهار. فهؤلاء عشرون ملك [اً] على كا آدمي، وإبليس بالنهار، وولده بالليل. ورُوي أنهم يجتمعون عند صلاة العصر، وصلاة الصبح.

وعن ابن عباس، وعكرمة: أن النعقبات (هنا): الحرس الذين يتعاقبون على الأمراء من بين أيديهم ومن خلفهم. قال الضحاك: هو السلطان يتحرس من الله (سبحانه). وقال عكرمة: هي المواكب بين يدي الأمراء وخلفهم. فتكون الهاء في " له " على هذا التأويل " لمن ". وهو المستخفي بالليل، والسارب بالنهار. فوصفه الله ( D) ، أنه قد جعل لنفسه حرساً يحفظونه من حدوث أمر الله به، لجهله بالله (سبحانه). وإن ذلك لا يرد عنه شيئاً. وهذا القول اختيار الطبري: أن تكون المعقبات الحرس، والأعوان مع الأمراء، لأن " له " أقرب من ذكر المستخفي منه من ذكر الكبير المتعال. ويدل على صحة هذا المعنى قوله بعد ذلك: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ}: أي: ليس ينفع هذا المذكور حرسه، وتعاقبهم عليه. ولا يرد عنه أمر الله (سبحانه) وقدره إذا أتاه. فالمعنى على

هذا: أن الله، D، ذكر أن أهل معصيته يستخفون بالمعاصي بالليل، ويظهرون بالنهار، ويتمنعون عند أنفسهم بالحرس، وتحرسهم، وتتعاقب عليهم. ثم أخبرنا تعالى جل ذكره، أنه إذا / أراد بهم سوءاً، وعقوبة لم ينفعهم حرسهم شيئاً. واختار النحاس القول الأول، وهو أن يكون (المعقبات): (الملائكة) على ما تقدم ذكره، واحتج فيه (بما) رواه أبو هريرة من حديث مالك بن أنس Bهـ أن النبي A قال: " لله ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار " الحديث. ومن جعل (المعقبات) ملائكة كان قوله من أمر الله على وجهين: أحدهما: أن تكون " من " بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله لهم أن يحفظوه

حتى يأتيه ما قدر عليه، فلا ينفع حفظهم إياه من قدر الله (سبحانه) إذا جاءهم (وهو) قول ابن جبير. والثاني: أن يكون المعنى له معقبات من أمر الله: من بين يديه ومن خلفه، أي: المعقبات {مِنْ أَمْرِ الله} هي: {يَدَيْهِ}، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج. فتكون " من " متعلقة " بمعقبات "، وهي لبيان الجنس. وعلى القول الأول: " من " بمعنى الباء، وهي متعلقة بـ " يحفظونه ": أي: حفظهم له بأمر الله كان، وإنما يحفظونه مما لم يقدر عليه. وقيل: أمر الله هنا: الجن، أي: يحفظونه من الجن. فتكون " من " على بابها متعلقة بالحفظ. ومن جعل " المعقبات " حرس الملوك، وأعوانهم، كانت " من " على بابها متعلقة بـ " يحفظونه ". والمعنى: {يَحْفَظُونَهُ} من قدر الله على قولهم، وظنهم، ولا

ينفع ذلك لأن الله إذا أراد بقوم سوءاً فلا مرد له. قال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام. فيما يأتيه منها شيء إلا قال له: وراءك. وقال ابن جريج: معنى من أمر الله: أي: يحفظون عليه عمله، وتقديره: له ملائكة، تتعاقب عليه من أمر الله، هي: تحفظ عمله فيه. فحذف العمل، واتصل المضاف إليه (ب) يحفظونه مثل: {وَسْئَلِ القرية التي} [يوسف: 82]، ومثل: {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي: وعقابه واقع بهم، فحذف العقاب، وقامت الهاء مقامه، فقام ضمير مرفوع، لأن المحذوف مرفوعاً كان. وقال الحسن: المعنى: يحفظونه عن أمر الله، " فمن " بمعنى " عن "،

والمعنى: حفظهم إياه عن أمر الله، كان، لا من عند أنفسهم. ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} إلى قوله - {وَالٍ}: الهاء في قوله: {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} تعود على السوء، وقيل: على الفرد، وقيل: تعود على الله. أي لا مرد (لله سبحانه: أي: لا راد له عن مراده. والمعنى: إن الله، ( D) لا يغير ما بإنسان من نقمة، وكراهة ابتدأه بها، حتى يغير ما بنفسه من ظلمه، وتعديه، وتركه ما أمر به. فإذا غير وقعت به العقوبة. وقيل: المعنى: أن الله لا يغير ما بقوم مؤمنين صالحين، فيسميهم كافرين إلا أن يفعلوا ما ي (و) جب ذلك. ويروى أن هذه الآيات {سواءا فَلاَ} - وما بعده - نزَلن في عامر بن الطفيل،

وأربد بن قيس، " وذلك أن وفد بني عامر / قدموا على النبي A، وفيهم عامر (بن الطفيل)، وأربد بن قيس. وكان في نفس عامر الغدر برسول الله A. وكان من رؤساء قومه فقال عامر لأربد: إذا قدمنا على الرجل، فإني شاغل عنك وجهك. فإذا فعلت ذلك فَاعْلُهُ بالسيف. فلما قدموا على النبي A، قال عامر: يا محمد خالني، قال النبي A: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، فكرر عامر على النبي ذلك، والنبي يقول له: حتى تؤمن بالله وحده لا (شريك) له، وعامر ينتظر من أربد ما كان به، وجعل أربد لا يجيز شيئاً. فلما رأى عامر أربد لا يفعل شيئاً، وأبى النبي A، أن يخاليه، قال: (النبي) عليه السلام: والله لأملأنها عليك خيلاً ورجلاً، فلما ولى (من عند) النبي. قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين

ما كنت أمرتك به. والله ما كان على وجه الأرض رجل أخوف عندي منك على نفسي منك: وأيم الله (لا أخافك بعد اليوم أبداً. قال له أربد: ويلك لا تعجل علي وأيم الله) ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبينه حتى ما أرى غيرك، فأضربك بالسيف. فخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ( D) على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فمات في بين امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر! أغُدَّةً كَغُدَةٍ البعير، وموتاً في بيت امرأة من بني سلول، ثم خرج أصحابه بعده حتى قدموا أرض بني عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا (شيء) لله! لقد دعانا محمد إلى عبادة شيء، لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج أربد بعد مقالته هذه بيوم، أو

12

يومين، معه جمل له يبيعه، فأرسل الله ( D) عليه صاعقة، فأحرقته وجمله ". قوله: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} البرق: مخاريق من حديد بأيد (ي) الملائكة تضرب بها. هذا قول علي بن أبي طالب Bهـ. وقال مجاهد: الملائكة تضرب بأجنحتها، فمن ذلك البرق. وقد تقدم شرح هذا بأشبع من هذا. فالمعنى: الله يريكم البرق خوفاً للمسافر من أذاه، وطمعاً للمقيم لينتفع (به)، والبرق هنا على قول ابن عباس: الماء.

وقيل: الآية مخصوصة، والمعنى: خوفاً لمن لا يحتاج إليه كمصر، وشبهها التي لا تحتاج إلى المطر. وكونه فيها ضر عليها، " وطمعاً " لمن يحتاج إليه، ويرجو الانتفاع به. وقيل: الآية على العموم لكل من خاف، أو طمع. وقل: المعنى: خوفاً من الصواعق (وطمعاً بالمطر). " وقال الضحاك: أما الخوف فما يرسل معه من الصواعق "، وأما الطمع فما نرجو فيه من الغيث. ثم قال (تعالى): {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال}: بالمطر، أي: ويثير السحاب الثقال بالمطر، وبيديه. يقال: أنشأ الله السحاب / أبداه، والسحاب: جمع

سحابة. ولذلك قال (الثقال) ولو كان موحداً لقال: الثقيل. ثم قال (تعالى): {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} قال مجاهد: الرعد: ملك يزجر السحاب. وقال أبو صالح: الرعد (ملك) يسبح. وقال شهر بن حوشب: الرعد: ملك موكل بالسحاب، يسوقه كما يسوق الحاجي الإبل. فكلما خالفته سحابة صاح (بها)، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه. فذلك الصواعق الذي رأيتم.

وقال ابن عباس: الرعد: ملك اسمه (الرعد)، (وهو) الذي تسمعون صوته. وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وكان يقول: الرعد: ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه. وروى مجاهد، عن ابن عباس (أنه قال): الرعد، (وهو) الذي تسمعون صوته. وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وكان يقول: الرعد: ملك ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه. وروى مجاهد، عن ابن عباس (أنه قال): الرعد (اسم ملك) وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره للسحاب اضطر السحاب من خوفه فيحتك. تخرج الصواعق من فيه. وسئل علي Bهـ عن الرعد: فقال: هو ملك، وسئل عن البرق،

(فقال): مخاريق بأيدي الملائكة تزجر السحاب. وعن الضحاك أنه قال: الذي يسمع تسبيح الملك، واسمه الرعد. قال مجاهد: الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته. وعن ابن عباس، Bهـ أن الرعد: ريح يختنق تحت السحاب، فتتصاعد فيكون منها ذلك الصوت. وعنه أيضاً أنه، قال: البرق: ملك يتراءى. وأكثر المفسرين على أنه ملك كما تقدم. " وكان النبي A، إذا سمع الرعد الشديد، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا

تهلكنا بعذابك، وعاقبنا قبل ذلك " وهذا الدعاء يدل على أنه صوت ملك. " وروى أبو هريرة أن النبي A، كان يقول إذا سمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده " فهذا يدل على أن الرعد ملك. وكان ابن عباس، وعلي (ضي الله عنهما) يقولان إذا سمعا الرعد: سبحان من سبحت له، فهذا يدل على أنه ملك. ومعنى {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ}: أي: " يعظم الله ويمجده، ويثنى عليه بصفاته. وحكي عن العرب سبحان من يسبح الرعد بحمده، يريدون (من) فأقعوا (ما)، ما " مَنْ ". ثم قال: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ}: أي: وتسبح الملائكة من خيفته، أي: من رهبته. وروي أن خوف الملائكة ليس كخوف بني آدم، لأن طائفة من الملائكة

ساجدون، منذ خلقوا، باكون، ومنهم طائفة يسبحون ويهللون، لا يعرف أحدهم من على يمينه، ولا من على شماله، ولا يشغلهم عن عبادة الله، ( D) شيء. قال الله D عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]: فعلى قدر أعمالهم واجتهادهم، كذلك خوفهم. وقوله: {وَيُرْسِلُ الصواعق}: الصاعقة من الناؤ التي تخرج من فم الرعد / إذا غضب، فقد تقدم ذكرها بأشبع من هذا في سورة البقرة. وهذه الآية نزلت في يهودي جاء إلى النبي A فقال له: أخبرني عن ربك: من أي شيء هو؟ من لؤلؤ أو ياقوت. فجاءت صاعقة، فأخذته فأنزل الله D: { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ}. ودل على هذا القول قوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله}: فالضمير في " هم "

لليهودي، وجمع لأن له أتباعاً على قوله ومذهبه. وروي أنها نزلت في رجل من فراعنة العرب، وهو أربد، وجه إليه النبي A، يدعوه إلى الله، فقال: وما الله؟ أمِنْ ذهب هو أم مِنْ فضةٍ؟ أمْ مِن نُحاس؟ فأخبر النبي عليه السلام بذلك. فدعاه ثانية، فبينما النبي عليه السلام، يراجع الكافر في الدعاء إلى الله سبحانه، إذ بعث الله سَحَابَةً بِحُيال رأس الكافر، فرعدت، فوقعت منها صاعقة، فذهبت بقحف رأسه، فأنزل الله D: { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} الآية. وقال قتادة: (أنكر رجل) القرآن، وكذب النبي A، فأنزل الله، ( D) عليه صاعقة، فأهلكته، فنزلت الآية فيه.

وقال ابن جريج: نزلت في أَرْبَد أخي لبيد بن ربيعة، هَمَّ هو، وعامر بن الطفيل بقتل النبي A. فبعث الله تعالى عليه صاعقة فاحترق. ومعنى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} قال علي (بن أبي طالب) عليه السلام: " شديد الأخذ ". وقال مجاهد: ( C) : " شديد القوة ". وقال قتادة (رحمة الله عليه): المحال: " القوة والحيلة ". وقال ابن عباس (رضوان الله عليه): " شديد الحَوْل ". وقال الحسن: (نضر الله وجهه): شديد المكر، من قولهم: مَحَل به: إذا

مكر به، ومن جعله من الحوْل، والحيلة، فالأشبه بقراءته أن يقرأ بفتح الميم، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها إلا بفتح الميم نحو: محالة، ومنه قولهم: " المرء يعجز لا محالة ". وبه قرأ الأعرج فأما من كسر الميم فهو مصدر من: " ما حلت فلاناً، مماحلة، ومحالاً، فاللماحلة بعيدة المعنى من الحيلة. فإذا جعلته من الحول فوزنه " مِفْعَلٌ "، وأصله " مِحْوَل " ثم قلبت حركة الواو على الحاء، وقلبت الواو ألفاً كاعتلال " مقال " و " محال ". وإن جعلته من " مُحال " فوزنه " فُعال " لا اعتلال فيه.

ثم قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} وهي شهادة ألا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال علي Bهـ: هي التوحيد. وقال ابن زيد C: هي لا إله إلا الله، ليست تنبغي لأحد إلا الله. ثم قال تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} الآية: أي: والآلهو التي يدعوها المشركون من دون الله (سبحانه) لا تجيب من دعاها بشيء من النفع، والضر، ولا ينتفع / بها إى كما ينتفع الذي يبسط كفيه إلى الماء. ليأتيه من غير أن يرفعه، فلا هو ببالغ فاه، ولا نافعه كذلك. هذه الآية التي يدعون هؤلاء العرب. فضرب المثل لمن طلب ما لا يبلغه بالقابض على الماء.

قال علي، Bهـ " معناه ": كالرجل العطشان مد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه، وما هو ببالغه، ولا نافعه، كذلك هذا الذي يدعو من دون الله. وقال مجاهد (Bهـ) معناه: يدعو الماء بلسانهن ويشير إليه بيده، فلا يأتيه أبداً، أي: فهذا الذي يدعو من دون الله، هو الوثن، وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبداً، ولا يسوق إليه خيراً، ولا يدفع عنه شراً: كمثل هذا (الذي) بسط ذراعيه إلى الماء {لِيَبْلُغَ فَاهُ} (وما) يبلغ فاه أبداً. وروي عن ابن عباس أن المعنى: هذا الذي يدعو الآلهة، كمثل من بسط كفيه إلى الماء، ليتناول خياله فيه، وما هو ببالغه أبداً، ولا يأخذه. وقيل المعنى: إن هؤلاء الذين يعبدون الآلهة لا ينتفعون بها، إلا كما ينتفع من بسط كفيه إلى الماء يدعوه ليأتيه، وهو لا يأتيه أبداً، ولا ينتفع به. فكذلك لا

15

ينتفع بعبادة الآلهة. وهذا كله ضرب مثلاً لمن يعبد غير الله، جل ذكره. (وقيل معنى): مثل من يعبد الأصنام كمثل من يفيض على الماء، ليبلغ فاه، فلا يحصل له نفع من ذلك. قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} إلى قوله {الواحد القهار}: المعنى فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون الآلهة من دون الله من الطاعة (والإخلاص لله D) فلله D، يسجدُ من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من المؤمنين طوعاً)، ويسحد (الكافرون) كرهاً، حين يكرهون على ذلك. فيدخلون في الدين كارهين، قاله قتادة. وعنه أنه قال: أما المؤمن يسجد طائعاً، وأما الكافر فيسجد كارهاً، فيسجد لله حين لا ينفعه.

وقال ابن زيد: {وَكَرْهاً}: من لم يدخل الإسلام إلا بالسيف، فأول دخوله كرهاً، {طَوْعاً}: من دخله طائعاً، أي: من أسلم طائعاً. وقال الزجاج: جائز أن يكون السجود بالخضوع لله. فمن الناس من يخضع، ويقبل أمر الله (سبحانه) طائعاً، ومنهم من يقبله وإن كان كارهاً (له). وقيل: معناه: إن عباد الله الصالحين يسجدون لله، والكفار يسجدون خوف القتل. وقيل: المعنى: وبعض من في الأرض يسجد، وبعض المؤمنين طائعين، قد سهل ذلك عليهم، وبعضهم يكره نفسه على ذلك لله (سبحانه). وقيل: السجود هنا الخضوع لتدبير الله D في جميع خلقه: من صحتهم، وسقمهم، وتصرفهم، (فهم) منقادون لذلك أحبوا، أو كرهوا لا حيلة لهم في

دفع ذلك. وظلالهم أيضاً منقادة لتدبير الله ( D) وإجرائه الشمس / بزيادة الظل، ونقصانه وزواله. وقال ابن عباس: يعني: حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه، وشماله. قال أبو العالية: ما في السماء من شمس، ولا قمر، ولا نجم يقع لله (سبحانه) ساجداً حين يغيب، فما ينصرف حتى يؤذن له. وقال مجاهد: ظل المؤمنين يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعاً، وهو كاره. والآصال: جمع أصل، والأصل (جمع أصيل) كرغيف ورغف. والأصيل: ما بين العصر إلى مغرب الشمس. ثم قال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض} الآية والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء

المشركين بالله، من رب السماوات والأرض، ومدبرها؟ قل: الله أتى الجواب والسؤال فيه من جهة واحدة. وذلك على تقدير أنهم لما قيل لهم: من رب السماوات والأرض، (ومدبرها). جهلوا الجواب فقالوا: ومن هو؟ فقيل لهم الله: ومثله: {مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله} [يونس: 34]. وهو كثير في القرآن: يأتي السؤال والجواب من جهة (واحدة، من جهة السائل. وإنما حق الجواب أن يكون من جهة) السؤال، لكن أتى الجواب) من جهة السائل (الجوابِ: على معنى أنهم جعلوا الجواب، وطلبوه من جهة السائل): فأعلمهم به السائل، فصار السؤال الجواب من جهة واحدة. ثم أمر أن يقول لهم: {أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً}

يجتلبونه لها، {وَلاَ ضَرّاً} يدفعونه عنها، وهي إذا لم تمتلك ذلك لأنفسها، تكون أضعف عن ملكه لغيرها، فعبدتم من هذه صفته، وتركتم (عبادة) من بيده النفع والضر، والموت والحياة. (ثم) ضرب لهم مثلاً، فقال: قل لهم يا محمد {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} يريد به المؤمن والكافر. {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور}: (أي): الإيمان والكفر، فالظلمة طرف الكفر، والنور طرف الإيمان. قال مجاهد: الظلمات والنور: " الهدى والضلالة ". ثم قال تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} الآية المعنى: قل امحمد لهؤلاء المشركين: أخلق أوثانكم خلقاً كخلق الله، فاشتبه عليكم أمرها فيما خلقت،

17

وخلق الله (سبحانه)، فجعلتموها شركاء لله من أجل ذلك. ثم قال (تعالى): {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}: (أي: قل لهم يا محمد: إذا أقروا أن أوثانهم لا تخلق: فالله، {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ})، فهو أحق بالعبادة ممن لا يخلق، ولا يضر، ولا ينفع. {وَهُوَ الواحد القهار}: أي: " الفرد الذي لا ثاني له "، {القهار}: أي: (القهار) بقدرته كل شيء، ولا يقهره شيء. قوله (تعالى): {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} إلى قوله {وَبِئْسَ المهاد}: هذا مثل ضربه الله تعالى (جل ذكره) للحق والباطل، والإيمان به والكفر. فالمعنى: مثل الحق في ثباته، (والكفر) في اضمحلاله مثل ماء أنزله الله،

{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}: (أي: فاجتمعت الأودية، الماء بقدر مثلها الكبير بكبره، والصغير بصغره. {فاحتمل السيل زَبَداً}: أي: " عالياً على الماء ". فهذا أحد مثلي الحق والباطل. فأما النافع / فهو الحق، والزبد: الرائب الذي لا ينفع هو الباطل. وتحقيق معنى هذا المثل: أن الماء المنزل مَثَلٌ للقرآن المنزل. فالماء يعم نفعه كل أرض طيبة، والقرآن يعم نفعه كل قلب طيب، والأودية مثل للقلوب، لأن الأودية يستكن فيها الماء. كذلك والإيمان والقرآن يستكنان في

قلوب المؤمنين. والسيل مثل للأهواء العارضة في القلوب، لأن الهزى يغلب على القلوب، كما يغلب السيل بما حمل من الماء وغيره. والزبد مثل للباطل، وما يستقر من الماء الخالص (مثل لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان، فينتفع بذلك كما تنتفع الأرض بما يستقر من الماء الخالص) فيها. ومثله المثل الثاني: ما يتحصل من جيد الذهب، والفضة، والحديد والنحاس مَثَلٌ لما يستقر في قلب المؤمن من الإيمان. ثم ضرب مثلاً آخر أيضاً للحق والباطل، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار} إلى آخر المثل: أي: والحق والباطل كمثل فضة، أو ذهب، أو نحاس، يوقد عليه النس في النار، في طلب حلية يتخذونها، أو متاع. وذلك من النحاس: وهي الأواني التي تتخذ منه، (و) من الرصاص والحديد فيكون له

زبداً، مثل زبد السيل، وزبده: خبثه الذي لا ينتفع به، فالذي يُصَفّى من هذه الأشياء هو مثل الحق ينتفع بهما. والخبث مثل الباطل لا ينتفع بهما، ثم بين لنا، في أي (شيء) ضربت هذه الأمثال فقال: {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل}: أي: يضرب مثل الحق والباطل، ثم حذف المضاف. " والحق ": الإيمان، و " الباطل ": الكفر: وكما أن زيد السيل، وخبث ما يوقد عليه في النار لا ينتفع به، كذلك لا ينتفع الكافر بعمله عند حاجته إليه. وكما ينتفع بالماء، وبما يوقد عليه في النار، كذلك ينتفع المؤمن بإيمانه عند حاجته إليه. وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَآءً}: أي: يذهب بدفع الريح، وقذف الماء به. فيتعلق في جوانب الوادي، وبالأشجار. وهو من: أَجْفَأتِ القدر: إذا رمت بزبدها، وهو الغشاء: فيقول: إن الباطل، وإن ظهر على الحق في بعض الأشياء

وعلا، يتمحق، ويذهب. وتكون العاقبة للحق. كما أن هذا الزبد، وإن علا (على الماء)، فإنه يذهب ويتمحق، وكذلك الخبث من الحديد، وغيره وإن علا فإنه يذهب ويتمحق، ويطرحه الكير، ويبقى من الماء وغيره ما ينتفع به. كذلك يبقى الحق ويثبت " هذا (كله) معنى قول ابن عباس، وتفسيره (رحمة الله عليه) قال: " هو مَثَلٌ ضربه الله للناس عند نزول القرآن، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينتفع به. (فالزبد): الشك في الله، (والذي يمكث في الأرض): اليقين. وروي (عنه) أنه قال: هو مثل ضرب (هـ) الله للعمل الصالح، والعمل السوء: فالصالح كالماء الذي يمكث في الأرض، ينتفع به / الناس كذلك ينتفع

أصحاب العمل الصالح به في الآخرة، ما تحت الخبث من الرصاص، والحديد، والذهب ينتفع به، مثل العمل الصالح. وأما الزبد منها فلا ينتفع به، كما لا ينتفع أصحاب العمل السوء (بعملهم). وقرأ رُؤبة: " فيذهب جُفالاً ". يقال: جفأت الريح السحاب: إذا قطعته،

وأذهبته. ثم قال تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} أي: (الحسنى) للذين آمنوا حين دعوا إلى الإيمان الحسنى، وهي الجنة، قاله قتادة. وقيل: المعنى: جزاء الحسنى {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} أي: لم يؤمنوا حين دعوا أن لهم ملك ما في الأرض، ومثله معه ما قبل منهم فداء لهم من العقوبة. ومعنى: {أولئك لَهُمْ سواء الحساب} " يأخذهم بذنوبهم كلها، فلا يغفر لهم منها شيئاً. قال شهر بن حوشب: سوء الحساب: ألا يتجاوز لهم عن شيء. وقال ابن عباس: سو الحساب، المناقشة بالأعمال. وقال ابن وهب: عن إبراهيم النخعي أنه قال: سوء الحساب: أن يحاسب بذنبه

ثم لا يغفر له. وروي في الآثار: من نوقش الحساب هلك. وقيل: سوء الحساب: المناقشة، والتوبيخ (وإحباط) الحسنات بالسيآت. وقيل: سوء الحساب: أشده، وهو لا يغفر لهم شيئاً من ذنوبهم، وهم الكفار ومعنى {وَبِئْسَ المهاد}: أي: بئس الفراش، والغطاء جهنم لمن هي مأواه. وعن النبي A: ( من نوقش الحساب هلك) (أو

19

قال): " عذب ". قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} إلى قوله: {عقبى الدار} المعنى: الذي يؤمن بما جئت به يا محمد، كمن لا يؤمن (وهو) الأعمى عن الإيمان، لا يبصره بقلبه. قال قتادة: هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله D ووعوه والأعمى: الذي عمي عن الخير، فلا يبصره. وإنما يتعظ بآيات الله (سبحانه)، ويتذكر بها، وينتفع بها أهل العقول، والحجى. ثم بين تعالى ذكره أولي الألباب ووصفهم فقال: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} الآية

أي: هم " الذين يوفون بوصية الله، ( D) التي أوصاهم بها. والعهد: الإيمان بالله، (سبحانه) وملائكته وكتبه ورسله، (سبحانه) واليوم الآخر، وما جاءت به الرسل. وأن يطيعوه، ويتقوه. {وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق}: أي: لا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه (سبحانه): فيعمل بغير ما أمرهم به. ثم زادهم بياناً ومدحاً، فقال: {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}: يعني: يصلون الرحم التي أمر الله، D بوصلها، وهم مع ذلك {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ}: أي: يخافون المناقشة يوم القيامة، وألا يصفح لهم عن ذنب. فهم وجلون لذلك، خَائِفُونَ. و" إن " في قوله (أن يوصل) / في موضع خفض على البدل من الهاء في " به ".

وقيل: معنى: {لَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ}: لا يفرقون بين أحد من رسله، ولا كتبه، يؤمنون بالكل، ويقبلون أمر الله، D، ونهيه (جلت عظمته). ثم بين تعالى أمر نوع آخر منهم، فقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: صبروا على الوفاء بإقامة الطاعة، والانتهاء عن المنكر من أجل ابتغاء وجه الله ( D) ، أي: طلب تعظيم الله. {وَأَقَامُواْ الصلاة}: أي: أدوها بفروضها، وحدودها في أوقاتها. {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً}: أي: أدوا الزكاة الزكاة من أموالهم، وما يجب عليهم سراً، وغير سر. قال ابن عباس: النفقة هنا: الزكاة. ثم قال: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} أي: " يدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس بالإحسان إليهم ".

وقال ابن زيد: معناه: " يدفعون الشر بالخير ". وقيل: المعنى: " إنهم إذا همّوا بالسيئة فكروا، فرجعوا عنها، واسغفروا. {أولئك لَهُمْ عقبى الدار}: أي: الذين تقدمت صفتهم لهم عقبى طاعة ربهم في الدنيا، دار الجنان في الآخرة. وقيل: المعنى: أعقبهم الله D جار الجنان من دارهم في النار، لو لم يكونوا مؤمنين. وقيل: {بالحسنة السيئة} بشهادة أن لا إله إلا الله (وتجنب) (الشرك بالله).

23

وقال عطاء: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة}: السلام. ويروى أن قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب Bهـ، وفي أبي جهل بن هشام لعنه الله. ثم قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} إلى قوله {وَحُسْنُ مَآبٍ}. معناه: أنه فسر {عقبى الدار} ما هي؟ فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: جنات إقامة لاظَعْنَ معها، بدخلها هم {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}: أي: من عمل صالحاً منهم. قال ابن مسعود: جنات عدن: بُطنانُ الجنة. قال ابن مسعود: جنات عدن: بُطنانُ الجنة. قال أبو مِجْلَز: علم الله ( D) أن المؤمن يحب أن يجمع له شمله، فجمعهم الله ( D) ، له في الآخرة.

وقال ابن جريج: معناه من آمن في الدنيا. ثم أخبرنا الله ( D) عن حالهم إذا دخلوا الجنة، فقال: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} يقولون: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} على طاعة الله ( D) في الدنيا. {فَنِعْمَ عقبى الدار}. وسلام عليكم: خبر، معناه: الدعاء لهم، أي: سلمكم الله بما صبرتم، وليس هو تحية، لأن التحية ليست بجزاء للصبر. ولكن دعاء الملائكة لهم بالسلامة جزاء الصبر. والخبر: يأتي بمعنى الدعاء، كثير في القرآن والكلام. وقوله: {فَنِعْمَ عقبى الدار}: الخبر محذوف، وتقديره: فنعم عقبى الدار ما أنتم فيه. وذكر أن لجنات عدن خمسة آلاف باب. روي عن ابن عمر (و) أنه قال: إن في الجنة قصراً، يقال له: عدن، حوله

البروج والمروج، فيه خمسة آلاف، (باب، على كل باب خمسة آلاف) حِبْرة، لا يدخله إلا نبي، أو صديق، أو شهيد. وقال الضحاك: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنات حولها. ومعنى: {بِمَا صَبَرْتُمْ}: أي بصبركم في الدنيا على عمل الطاعات، وعلى الانتهاء عن المعاصي. وهذا هو أفضل الصبر، أن يصبر الإنسان على فعل ما أمر (هـ) الله به، وعلى ترك ما نهاه (الله) عنه. وروي أن قوله: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 19] الآية، نزلت في حمزة بن عبد المطلب Bهـ، وفي أبي جهل، لعنه الله. ثم أخبرنا الله بحال الكفار، بعد إخباره لنا بحال المؤمنين، فقال:

{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق} [الرعد: 20]: أي: ويخالفون ما أمرهم الله، D، من بعد ما وثقوا على أنفسهم لله ( D) ، أن يعلموا بما عهد إليهم، إذ قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172]. ثم قال (تعالى): {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} وهو الرحم وقيل: يفرقون بين الإيمان بجميع الأنبياء، فيؤمنوا ببعض (ويكفرون ببعض). والله أمرنا بالإيمان بجميعهم. قوله: و {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} أي: يعملون فيها المعاصي. {أولئك لَهُمُ اللعنة} أي: لهم البعد من رحمة الله. {وَلَهُمْ سواء الدار} أي: لهم ما يسوؤهم من الدار الآخرة، وهي النار،

أعاذنا الله منها. وقيل معناه: سوء العاقبة. ثم قال تعالى ذكره: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ (وَيَقَدِرُ)} أي: يوسع على من (يشاء، ويضيق على من) يشاء. {وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا} أي: فرح المشركون بما وسع عليهم في الدنيا، ولم يُفكروا أن متاع الدنيا عند متاع الآخرة قليل. وهذه الآية فيها تقديم وتأخير، لأن {وَفَرِحُواْ} (معطوف على {وَيُفْسِدُونَ} في الأرض). وقوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} إلى قوله: {الدار}: مقدم قبل {وَفَرِحُواْ} وتقدير الآية: الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع:

أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار ثم ابتدأ: {الله يَبْسُطُ الرزق}. ثم قال تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي: تقول قريش: هلاّ أنزل عليه آية تدل على نبوته، كما قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، فأخبر عنهم بما يشترطون، ثم قال لنبيه ( A) : قل لهم يا محمد: {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي: يخذل من يشاء، فيصرفه عن الهدى، ويوفق من يشاء، فيرجع إليه، ويتوب من كُفره. فالهاء في " إليه " تعود على الحق، وقيل: على محمد A. وقيل: على الإسلام. وقيل: على الله، جل ذكره، على معنى (إلى) دينه. ثم بَيّن تعالى من ينيب إليه {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله}: أي: الذين

يتُوبون هم الذين آمنوا، وتطمئن قلوبهم بذكر الله: أي: تسكُنُ، وتستأنس بذكر الله. قال سفي (ا) ن بن عيينة: {الذين آمَنُواْ} تطمئن قلوبهم / بأمر الله وقضائه. وقال قتادة: هشت قلوبهم إلى ذكر الله، فاستأنست به. قال الضحاك: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله}: أي: تصدق قلوبهم بذكر الله والقرآن. {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب}: أي: " تستأنس، وتسكن قلوب المؤمنين ". وقيل: عني به قلوب أصحاب النبي A.

ثم قال تعالى: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} المعنى: الذين صدقوا بما جاء به محمد A، وعملوا الأعمال الصالحات {طوبى لَهُمْ}: أي: نِعم ما لهم. قاله عكرمة. وقيل: معناه: غبطة لهم. قاله الضحاك. وقال ابن عباس: فرحٌ لهم، وقُرَّة عين. وقال قتادة: معناه: " حسنى لهم، وهي كلمة من كلام العرب ". وقيل: المعنى: أصابوا خيراً، تقول العرب للرجل: " طوبى لك " أي: أصبت خيراً. وقال النخعي: {طوبى لَهُمْ} أي: خيراً لهم. وقيل: هي اسم من أسماء الجنة. فالمعنى: الجنة لهم، رُوي ذلك عن ابن عباس، قال: طوبى لهم: اسم الجنة بالحبشية.

وروي عنه أيضاً: طويلة لهم: هي اسم أرض الجنة بالحبشية. وقيل: طوبى لهم: اسم الجنة بالهندي [ة]. وعن عكرمة أيضاً: طوبى لهم: الجنة لهم. وعن ابن عباس: إنما طوبى لهم: اسم شجرة في الجنة. وقال شهر بن حوشب: طوبى لهم شجرة في الجنة، أغصانها من وراء سور الجنة. وعن النبي A: أنها شجرة في الجنة. " وسئل عليه السلام: ما طوبى؟ فقال: شجرة في الجنة، مسيرها مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها، غرسها الله، D، بيده، ونفخ فيها من روحه. تنبت

الحلي والحلل، وإن أغصانها لتُرى من وراء سور الجنة " ومعنى: {وَحُسْنُ مَآبٍ}: حسن منقلب ومرجع. وقال أبو أمامة الباهلي: طوبى: شجرة في الجنة ليس منها دار إلا وفيها غصن منها، ولا طير حسن إلا هو فيها، (ولا ثمرة إلا وهي فيها) وموضع (طوبى): رفع بالابتداء، و {لَهُمْ}: الخبر، ودلَّ على أنها في موضع رفع قوله: {وَحُسْنُ مَآبٍ} بالرفع بلا اختلاف بين القراء، وهي " فُعْلَى "، من " أطيب " فالواو

منقلبة عن ياء لضمه بالفعل، وأصلها " طُيْبى " على " فُعلى ". لكن لما كانت اسماً غير صفة، ردت إلى فعل (ى)، لخفة الأسماء، فانقلبت الياء واواً لانضمام الأول. ألا ترى أن ضمير أصل الياء فيها واو، وأصلها " فعلى " (على) صور. ولكن لما كانت صفة، ردت إلى الياء للخفة، وثقل الصفة. ودل على أنها فعل (ى) أن (هـ) ليس في الصفات (فعلى): وهي في الآية صفة " لقسمة ". فعلم أن أصلها فعل (ى)، فجاز أن تقع فعل (ى) صفة، لأنه يقدر فيها أصلها، وهو فعلى "، ولولا ذلك ما جاءت فعل (ى) صفة.

30

وحَسُنَ رَدُّها إلى فُعلى لما ذكرناه من ثقل الصفة، فخففت بردها إلى الياء، لأن الياء أخف من الواو. وكذلك ردت طوبى إلى الواو. ولأنها اسمٌ، والاسم أخف / من الصفة، فسهل نقله إلى الواو، وإن كانت الواو أثقل من الياء. قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} إلى قوله: {لاَ يُخْلِفُ الميعاد}: المعنى: هكذا يا محمد {أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ}: أي: إلى أمة قد خلت من قبلها أمم على ما هم عليه من الكفر، لتتلو عليهم القرآن {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} أي: يجحدون وحدانيته. قل يا محمد: هو ربي: أي: إن كفر هؤلاء الذين أرسلت إليهم، فقل أنت الله ربي {لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي: وإليه مرجعه، وأَوْبتي. وهو مصدر تاب متاباً، وتوبة.

ثم قال تعالى (ذكره): {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال}. هذه الآية نزلت جواباً لقريش، وذلك أنهم قالوا للنبي A: إن سرك أن نتبعك فسيّر جبال تهامة، أو زد لنا في حرمنا حتى نتخذ قطائع نحترث فيها، أو أحي لنا فلاناً، أو فلاناً لناس ماتوا: فأنزل الله ( D) : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} - الآية - أي: ولو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل ذلك بقرآنكم. وقال الضحاك: قال كفار مكة للنبي A: سير لنا الجبال كما سيرت لداود ( A) ، واقطع لنا الأرض كما قطعت لسليمان، وكلّم لنا الموتى، كما كان عيسى يكلمهم. فنزلت هذه الآية. وهذا قول ابن زيد.

وجواب " لو " محذوف، وتقديره: لو فعل هذا بقرآن لفعل مثله بقرآنكم وقيل: التقدير: لما آمنوا. وقال الكسائي: " لو " بمعنى: " وددنا " فلا تحتاج إلى جواب. والتقدير: وددنا أن قرآناً (سيرت به الجبال). وقيل: المعنى: لو قضيت ألا يقرأ هذا القرآن على الجبال، إلاَّ مرَّت، وعلى الأرض إلا تخرقت، ولا على الموتى إلا حَيّوا، وتكلموا: ما آمن من سبق عليه في علمي الكفر. ويدل على هذا التفسير قوله بعد ذلك: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} أي: أفلم يعلم الذين صدقوا ذلك.

وقال الفراء: الجواب: وهم يكفرون بالرحمن، والتقدير: ولو أن قرآناً سيرت به الجبال لكفروا بالرحمَن. وقيل: إن قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} نزلت في أبي جهل، لعنه الله، وذلك أن النبي عليه السلام كان في الحجر يدعو يقول: يا رحمن، وأبو جهل لعنه الله يستمع إليه، فولى أبو جهل، (أخزاه الله) مُدْبراً إلى قريش، فقال لهم: إن محمداً ينهانا أن نعبد الآلهة، وهو يدعو إلاهين: يدعو الله، ويدعو إلهاًَ آخر يقال له الرحمن. فأنزل الله ( D) { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن}، وأنزل {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] الآية. ثم قال تعالى (ذكره): {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} والمعنى: أفلم يعلم الذين آمنوا، والتفسير: أن الكفار لما سألوا تسيير الجبال بالقرآن، وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى. طمع المؤمنون أن يُعطى الكفار ما سألوا، فيؤمنوا / فقال الله: أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولا يحتاجون إلى رؤية ما ذكروا.

وقيل: المعنى: أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء، لعلمهم أن الله، ( D) ، لو أراد أن يهديهم لهداهم. ثم قال (تعالى): {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ (قَارِعَةٌ)} (الآية): أي: لا يزال يا محمد الكفار من قومك تصيبهم بما صنعوا من الكفر، ومن إخراجك (من) بين أظهرهم قارعة: وهو ما يقرعهم من البلاء والعذاب، من القتل والحرب. والسرايا التي تمضي إليهم. وقيل: القارعة: النكبة، أو تحل أنت يا محمد قريباً من ديارهم بجيشك، وأصحابك {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله}: (أي) الذي وعدك فيهم، وهو الظهور عليهم، وقهرك إياهم بالسيف.

32

{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ} ما وعدك به، وهو فتح مكة. وعن الحسن: وعد الله: القي (ا) مة في هذا الموضع. وقيل: أن تحل القارعة قريباً من دارهم. قاله الحسن. قوله: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} إلى قوله {مِن وَاقٍ} والمعنى أن يستهزئ هؤلاء من قومك يا محمد، فاصبر على آذاهم، وامض على أمر الله D في إنذارهم. {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: أَطَلْتُ للمستهزئين بربهم في الأجل والأمل، ثم أحللت بهم العقوبة. فكيف رأيت عقوبتي؟. والإملاء: الإطالة، ومنه قيلك لليل والنهار الملوان، لطولهما. ومنه قيل

للخرق الواسع من الأرض ملأ لطول ما بين طرفيه. ثم قال تعالى ذكره: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} " من ": رفع بالابتداء، والخبر محذوف، وبه يتم المعنى. والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت كشركائهم، والتقدير: أفمن هو حافظ على مل نفس لا يغفل، ولا يهلك (كمن يهلك ولا يحفظ) ولا يحصي شيئاً (فالجواب محذوف) لعلم المخاطب). وقيل المراد به الملائكة الموكلون على بني آدم، والقول الأول أشهر، وأكثر. ثم قال (تعالى): {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} هذا يدل على المحذوف، والمعنى: أفمن هو قائم كشركائهم. ودلّ {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} على المحذوف ثم قال: قل لهم يا محمد {سَمُّوهُمْ}: أي يسموا هؤلاء الشركاء، فإن قالوا: آلهة فقد كذبوا، لأنه لا إله إلا هو الواحد (القهار)، لا شريك له.

{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض} (أم تخبرونه بأن في الأرض إلهاً، ولا إله إلا هو في الأرض والسماء. وقوله: {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول}: أي: أم قلتم ذلك بظاهر قول، وهو في الحقيقة باطل لا صحة له. ثم قال (تعالى) {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} المعنى ما لله شريك، بل زين للذين كفروا مكرهم: أي: زيِّن لهم عملهم، وصدوا الناس عن الإيمان. ومن قرأ بضم الصاد، فمعناه: أن الله أعلمنا أن صدَّهم عن الهدى عقوبة لهم. ودلّ على ذلك قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من أضله الله D عن إصابة الحق، فلا يقدر أحد على هدايته. ثم قال تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} أي: لهؤلاء الكفار الذين

35

تقدم ذكرهم عذاب في الحياة الدنيا، وهو القتل والأسر. {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أي: أشد من عذاب الدنيا. {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} أي: ليس يقيهم من عذاب الله (سبحانه) أحد. قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} إلى قوله {وَلاَ وَاقٍ} التقدير عند سيبويه: " وفيما يتلى عليكم "، أو: " مما يقص عليكم مثل الجنة، وهذا قياس مذهب سيبويه. وقال الفراء: التقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ومثل (. . .). وقيل: هو مردود إلى قوله: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} [الرعد: 20].

ثم قال: صفة الجنة التي وعد المتقون، تجري من تحتها الأنهار. ثم قال: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي: المأكول منها دائم لأهلها لا انقطاع له، كما قال ( D) : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33]، وظلها دائم دائم أيضاً. {تِلْكَ عقبى الذين اتقوا} أي: عاقبتهم، وعاقبة الكافرين النار. ويروى أن ابن عباس كان يتوقف عن تفس (ي) ر هذه الآية، ويحلف بالله لو فسرت ما حملها جميع إبل العالمين. يريد ابن عباس أن الجنة لو وصفت على حقائقها، ما حمل صفتها مكتوباً جميع إبل العالمين: لجلالة أمرها، وعظيم شأنها، في نعيمها وملكها. وما أعد الله) D) لأوليائه فيها. ويدل على ذلك (أيضاً): قول النبي A: " فيها ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت ".

وقال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان: 20]. ثم قال تعالى: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ} المعنى والذين آتيناهم الكتاب م (من) آمن بمحمد A فهم يفرحون بما أنزل إلى محمد. قال قتادة: هم أًحاب، محمد A، يفرحون بما أنزل إليه. وقيل: {والذين آتَيْنَاهُمُ (الكتاب)} عني بهم اليهود والنصارى،

يفرحون بالقرآن، لأنه مصدق لأنبيائهم، وكتبهم، وإن لم يؤمنوا بمحمد، ( A) . وقيل: عني بذلك الثمانون الذين آمنوا من نصارى نجران: أربعون وثمانية من الشام، واثنان وثلاثون من أرض الحبشة. آمنوا بالنبي (عليه السلام) وصدقوا به. ثم قال (تعالى): {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي: ومن أهل الملل المتحزبين عليك يا محمد من ينكر بعض ما أنزل إليك. وقيل: هم من اليهود والنصارى. ثم قال: {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ}: (أي: قل لهم يا محمد: إنما أمرت أن أعبد الله، ولا أشرك به) في عبادته. {إِلَيْهِ أَدْعُو}: أي: إلى طاعة أدعو الناس. {وَإِلَيْهِ مَآبِ}: أي: مصيري. ثم قال تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} أي: كما أنزلنا عليك الكتاب يا

38

محمد / فأنكره بعض الأحزاب، كذلك أيضاً أنزلنا الذكر والحكم حكماً عربياً. ونصب (حكم) على الحال " وعربي ": نعت (له). وإنما وصف الحكم بالعربي، لأنه أنزله على عربي، فنسب الدين إليه، إذ كان عليه أنزل. ثم قال تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} هذا خطاب للنبي A، والمراد به: أمته، وفيه تهدد. قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} إلى قوله {وَعَلَيْنَا الحساب} المعنى أن الله ( D) أعلم نبيه A، أنه قد أرسل من قبله رسلاً من قبل أمته، وأنهم بشر مثله: لهم أزواج وذرية، وأنه لم يجعلهم ملائكة، لا ينطحون ولا ينسلون، ولم يكن {لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: ما يقدر أن يفعل ذلك رسول إلا بإذن الله.

والمعنى: لا يقدر رسول (الله) أن يأتي بعلامة، (أو) آية: من تسيير الجبال، ونقل بلدة إلى بلدة أخرى، وإحياء الموتى، وغير ذلك من الآيات التي سألت قريش النبي ( A) . { إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: (إلا) بإذن الله له أن يسأل الآية فيعلم أن في ذلك صلاحاً. وقيل: إن هذا الكلام لفظه حظر، ولا يجوز أن يخطر على أحد ما لا يقدر عليه. فظاهره خطر، ومعناه: وتقديره: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله. نفى الله ذلك عن الرسل وبرأهم منه، (ومثله): {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ} [آل عمران: 161]، {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145]. وهو كثير في القرآن، ظاهره

الحظر (والمنع)، ومعناه النفي. قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي: " لكل أمر قضاه الله، كتاب كتبه فهو عنده ". وقيل: المعنى: لكل كتاب أنزل الله من السماء أجل: فيمحو الله من ذلك {مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} ما يشاء، {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}. قال الفراء: هذا مقدم ومؤخر، معناه: لكل كتاب أجل، كقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19]: أي: سكرة الحق بالموت. (وقد قيل: إنه لا تقديم في هذا)، ولا تأخير، والمعنى: وجاءت سكرة الموت لأن سكرة الموت غير الموت. فالحق: هو الموت الذي ختمه الله على جميع خلقه. وقيل: معناه: لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مكتوب، وأمر مَقَدَّرٌ، مقتضى لا تقف عليه

الملائكة. ثم قال تعالى: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} أي: يَمْحُوَ الله ما يشاء من أمور عباده فيغيره، إلا الشقاء والسعادة، فإنهما لا يغيران قاله ابن عباس. وقال مجاهد: يدبر الله أمر السنة في رمضان، فيمحو ما يشاء (من ذلك) إلا الشقاء والسعادة، والموت والحياة. وتدبير ذلك في ليلة القدر. وعن ابن عباس أيضاً معناه: يمحو ما يشاء، ويثبت من كتاب سوى، أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء. قال ابن عباس: هما كتابان: كتاب يمحو منه ما يشاء، ويثبت وعند (هـ) أم الكتاب: لا يغير منه شيء، وهو قول عكرمة.

وعن عمر بن الخطاب، Bهـ: يمحو كل ما يشاء، ويثبت كل ما أراد وسمع /، وهو يقول في الطواف: اللهم إن كنت كتبت علي الذنب والشقاء، فامْنَحْني واكتبني في أهل السعادة. فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وهو قول ابن مسعود وسفيان. وعن ابن عباس، Bهـ، أن معناه: يمحو الله ما يشاء من أحكام كتابه، فينسخه، أنو يبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، ولا يبدله. {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، ما ينسخ، وما لا ينسخ. وهو اللوح المحفوظ. وهو قول قتادة، وابن زيد وابنم جريج، وعليه أكثر المعاني، وعامة المفسرين، وهو شاهد لجواز النسخ (في القرآن). وقيل: معناه: يمحو الله من قد حان أجله، ويثبت من لم يحن أجله. قاله الحسن،

قال: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}: أي: أجل بني آدم في كتاب الله، ( D) يمحو الله ما يشاء، من جاء أجله، ويثبت الذي هو حي حتى يجيء أجله. وعن ابن عباس من رواية أبي صالح، عنه أنه قال: إن أعمال العباد تعرض على الله مما كتبت الحفظة، مما ليس للإنسان، ولا عليه. فيمحو ما ليس له، وما ليس عليه. ويثبت ماله، وما عليه، فيجازى بذلك. فالحفظة تكتب كل شيء، والله يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، دليله قوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]: أي: حاضر. وعن مجاهد Bهـ: أنها نزلت في قريش، قالت: لما نزلت على رسول الله A، { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} قالت: ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً.

{يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} ما يشاء، أي: إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما نشاء وروي ذلك أيضاً (عن الحسن). وعن ابن عباس: أن المعنى ينسخ الله ما يشاء من القرآن ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وقاله محمد بن كعب. وعن عكرمة مثله. وروى ابن جبير، عن ابن عباس في معنى الآية: أن الله، جل ذكره، يدبر أمر السنة في ليلة القدر، فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء إلا الموت والحياة، والسعادة والشقاء. وكل (هذا) قد تقدم في علمه، علم ما يكون بلا أمد. وقيل: المعنى يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره قاله ابن جبير. وقيل: المعنى: يمحو الله ما يشاء مما تكتب الحفظة، مثل الأشياء التي ليس

للإنسان، ولا عليه، ويثبت ما له، وما عليه. قاله أبو صالح، وقال (هـ) أبو سليمان الداراني: قال: يمحو الله ما ليس بحسنة، ولا سيئة، ويثبت ما هو حسنة، وما هو سيئة. {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: ذلك (كله) في اللوح المحفوظ، قد جرى به القلم قبل خلق الخلق. وعن ابن عباس أيضاً: / أنه قال في قوله {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، قال: يكتب كل ما يتكلم به العبد من خير، أو شر حتى إنه ليكتب: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرضة قوله جملة. فأقر ما كان فيه من خير وشر، وألقى ما عدا ذلك وذلك قوله: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}. واختار جماعة من أهل العلم قول الحسن ومجاهد: يجعلونه جواباً للمشركين. وقوله: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب}. قال الحسن: أم الكتاب: الحلال والحرام.

والحمد لله هي أم القرآن. وقيل: أم الكتاب: اللوح المحفوظ. وقال قتادة: {أُمُّ الكتاب}: جملة الكتاب، وأصله: أي: جملة ما ينسخ، وما يثبت. وقال كعب: علم الله ما هو خالق، وما يعلم خلقه. يقال: محوت الكتاب، أمحوهُ محواً، وهي لغة القرآن. ويقال: محوته، أمْحَاهُ، محواً، ومحيت، أمحى لغة. ثم قال تعالى: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ}: أي: إن أَرِيَنَّكَ يا محمد! بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}: قبل ذلك، فليس عليك في الحالين إلا بَلاغٌ ما أرسلت به، وعلينا حسابهم في الآخرة. فنجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

41

قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض} إلى قوله {عُقْبَى الدار} معناه عند ابن عباس: أَوَلَمْ ير أهل مكة الذين سألوا محمداً الآيات أنا نفتح على محمد الأرض (بعد الأرض) من حولهم، ولا يخافون أن يفتح عليه أرضهم كما فتحنا له غيرها. ودلّ على ذلك قوله في الأنبياء: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: بل، محمد وأصحابه الغالبون. وأكثر المفسرين على أنه يراد به: ذهاب خيار الناس، وعلمائهم، وصالحيهم. وقال الضحاك، والحسن: هو ظهور المسلمين على المشركين. وقيل: هو هلاك الأمم قبلهم، ووخراب أرضهم. فيقول: ألَم تر قريش

هلاك الأمم قبلهم، قاله مجاهد، وابن جريج. وروي عن ابن عباس، ( C) نحوه. وروي عن ابن عباس أنه قال: هو نقص بركات الأرض وثمارها، وأرضها بالموت. وجماعة من العلماء على أن المعنى في النقص: موت أهل الأرض، وهو قول عكرمة. وروي عن مجاهد، وقال ابن عمر: نقص الأرض هي التي موت فقهائها، وخيار أهلها. ثم قال (تعالى): {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي: يحكم ويقضي، فينفذ

حكمه، ولا رَادَّ لحكمه، ولا مانع لقضائه. فإذا أراد بهؤلاء المشركين (شراً) لم يرده أحد. والأطراف جمع طرف، والطرف: الكريم من كل شيء. قال علي بن أبي طالب، Bهـ: العلم أودية، في أي واد أخذت منه حَسِرْت، فخذ من كل شيء طرفاً: خياراً. ومنه قولهم: ما يدري: أيُّ طرفيه أطول، أي: ما يدري الكرم يأتيه من ناحية أبيه، أو من ناحية أمِّه. فصار / معنى {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}: أي: من علمائها، لأن العلماء هم الخيار. ومعنى {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} أي: يحصي أعمال هؤلاء المشركين، لا يخفى عليه شيء منها. ثم قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} والمعنى: وقد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين من الأمم، فوقع بهم العذاب، فلله أسباب المكر

كلها، وبيده الضر والنفع. فلن يضر الماكرون بمكرهم أحداً إلا بإذن الله، لأن أسباب المكر كلها بأمر الله، وإنما يضرون بمكرهم أنفسهم، لأنهم أسخطوا ربهم عليهم حتى أهلكهم. فكذلك هؤلاء يمكرون بمكرهم أنفسهم، لأنهم أسخطوا ربهم عليهم حتى أهلكهم. فكذلك هؤلاء يمكرون بك يا محمد، والله منجيك من مكرهم، وملحق ضرر مكرهم بهم دونك. ومعنى المكر من الله " أن ينزل العقوبة بمن يستحقها من حيث لا يعلمون ". ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي: يعلم ما يفعل هؤلاء المشركون، وما يسعون فيه من المكر بك، ويعلم جميع أعمال الخلائق كلهم. {وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي: سيعلمون، إذ قدموا على ربهم يوم القيامة لمن عاقبة (عقبى) الدار في الآخرة.

43

وقيل: الكافر هنا يراد به أبو جهل لعنة الله. (ومن قرأ): " الكفار " بالجمع. قيل: عني به المستهزءون وهم خمسة، والمقتسمون، وهم ثمانية وعشرون. قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} إلى قوله: {عِلْمُ الكتاب} المعنى: ويقول الذين كفروا من قومك يا محمد! لست مرسلاً، تكذيباً لك. فقل لهم يا محمد {كفى بالله شَهِيداً} أي: حسبي الله {شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: عليَّ وعليكم، والذي {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}. أي: علم الكتب التي أنزلت قبل القرآن، كالتوراة، والإنجيل، وهو عبد لله ابن سلام في قول مجاهد، وكذلك روى عبد الله بن سلام أنه قال يوم قتل عثمان لما

نهاهم عن قتله: قالوا: كذب اليهودي، فقال: وآثمتم، إني لمسلم، يعلم الله ذلك، ورسوله، والمؤمنون. وقد أنزل فيَّ: {كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} وهذا يدل على (أن) هذه الآية مدنية، لأن عبد الله بالمدينة أسلم. وقل قتادة أيضاً: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}: هم ناس من أهل الكتاب، كانوا يشهدون بالحق، ويقرون به، ويعلمون أن محمداً رسول الله، كنا نحدث أن منهم عبد الله بن سلام. وروي عنه أنه، قال: منهم عبد الله بن سلام، الفارسي، وتميم الدار (ي).

وقال الحسن: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} هو الله؟ يذهب إلى أن المعنى: كفى بالله، والذي عنده علم الكتاب. واختار النحاس هذا القول، واستبعد أن يستشهد الله لأحد من خلقه. ودل على ذلك قول عكرمة، وابن جبير، وغيرهما: نزلت هذه الآية بمكة، فلا سبيل إلى ذكر عبد الله بن سلام هنا، لأنه بالمدينة أسلم. ويدل على ذلك أيضاً أنه قد قرأ {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}: فهذا هو الله، جل ذكره، لا يجوز غيره، أي: ومن عند الله علم الكتاب. وهي قراءة مروية عن ابن عباس /، وغيره. ومن فتح " ومَنْ عنده " كانت الهاء تعود على " من ". و" من ": هو الله، أو على ابن سلام، وشبهه على الاختلاف المذكور.

إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة إبراهيم عليه السلام وهى مكية إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة , فى من قتل من المشركين يوم بدر , وهما قوله (تعالى): (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا) إلى آخر الآيتين - قاله قتادة. قوله: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} إلى قوله {ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} قد تقدم الكلام في {الر} والمعنى: هذا الكتاب أنزلناه إليك يا محمد، لتخرج به الناس من الضلال

إلى الهدى. فالكفر بمنزلة الظلام، والإيمان كالنور. وهذا يدل على إرسال محمد عليه السلام، إلى جميع الخلق لقوله: {لِتُخْرِجَ الناس}، ولم يقل لتخرج بني إسماعيل، كما قال (في) التوراة {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23]. ولم يقل للناس، وقال في الفرقان: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1]، ولم يقل للعرب. وقال لموسى عليه السلام {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} [إبراهيم: 5]، ولم يقل للناس كما قال لمحمد A: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28]، ولم يقل: للعرب. وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: أي: يخرجهم بإذن ربهم، أي: بتوفيقه لهم

ولطفه، وأمره لا يهدى أحد إلا بإذنه. ثم بين النور ما هو فقال: {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد}: أي: إلى طريق الله، D المستقيم، وهو دينه الذي ارتضاه لخلقه. " والحميد ": فعيل مصروف من " مفعول " المبالغة، ومعناه، المحمود بآلائه. وأضاف الإخراج إلى النبي A ( لأنه) المنذر المرسل بذلك. و (الله)، ( D) هو المخرج لهم، والهادي على الحقيقة. ثم بين العزيز الحميد من هو؟ فقال: {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات} أي: وهو الذي يملك جميع ما في السماوات، وجميع ما في الأرض. فأعلم الله، ( D) نبيه A أنه إنما أنزل عليه كتاب ليدعو عبادة إلى عبادة من هذه صفته، ويتركوا عبادة

من لا يملك ضراً ولا نفعاً. ثم توعد الله ( D) ، من لا يؤمن بما جاء (ب) هـ نبيه A: فقال: {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}: وقد تقدم بيان معنى (ويل). وأكثر المفسرين على أن ويلاً واد في جهنم، فيه عقارب كالنجب، وفيه ألوان من العذاب. ثم بين صفة الكافرين، فقال: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} أي: يختارون زينة الحياة الدنيا، فيعصون الله، ويتركون طاعته، وهم مع ذلك {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}: أي: يمنعون من أراد الإيمان بالله، ( D) واتباع رسوله. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}: أي: يلتمسون العوج لدين الله، (سبحانه)،

4

والتحريف والتبديل بالكذب والزور. ونصبه لأنه مصدر في موضع الحال. وقيل: هو مفعول به، وحرف الجر، مقدر مع المفعول المتصل. والتقدير: ويبغون لها عوجاً، والعوج بكسر / العين، وفتح الواو في الدين والأرض، وكل ما لم يكن قائماً، ويفتح العين والواو: فيما كان قائماً مثل الحائط، والرمح، والسن. {أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}، أي: هؤلاء المذكورون في ذهاب عن الحق بعيد. قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إلى قوله {(مِّن رَّبَّكُمْ) عَظِيمٌ}: المعنى: وما أرسلنا رسولاً إلا بلغه ليفهموا عنه، فالمعنى: وأرسل النبي A، بلغة سعد ابن بكرٍ بن هوازن: وهي أفصح اللغات. فالمعنى: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم من قبل محمد ( A من رسول) إلا بلسان الأمة التي أرسل إليها، ليبين لهم ما أرسله

الله به إليهم من أمره ونهيه، لتقوم الحجة عليهم، ولا يبقى لهم عذر. فيوفق الله من يشاء إلى الإيمان، ويخذل من يشاء فيبقى على كفره. {وَهُوَ العزيز}: أي: الممتنع ممن أراده (ولا يمتنع عليه أحد) [إن] أراد خذلا (نه)، لأنه الحكيم في توفيقه للإيمان من أراد أن يوفقه. فإن قيل: فيجب ألا تلزم الحجة من كان من العجم، لأنهم لا يفهمون لسان العرب، فالجواب: أنه إذا ترجم ما جاءهم به النبي A بلسانهم، وفهموا الدعوة لزمتهم الحجة، لقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ 28]، ولقوله: {(لأُنذِرَكُمْ) بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] ولقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. فكل من بلغته دعوة النبي A, وفهم ما دعاه إليه

(يأتي يساره إن) لزمته الحجة، ودخلت تحت قوله {وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] وتحت قوله: {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ 28]. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ (مِنَ الظلمات إِلَى النور)}: قوله: {أَنْ أَخْرِجْ} " أن " في موضع نصب على تقدير حذف (حرف) الجر. والتقدير: بأن أخرج. (وقيل: " أن " زائدة، ومثله: كتبت إليه أن قم): ومعنى الآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} من قبل محمد A، بالأدلة والحجج، والآيات، وهي التسع آيات المذكورة في القرآن. بأن يخرج قومه من الكفر إلى الإيمان، ويذكرهم: {بِأَيَّامِ الله}: أي: بنعم الله عليهم في الأيام الخالية، إذ أنقذهم من آل فرعون،

ومما كانوا فيه من العذاب، وإذا فلق لهم البحر، وظلّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى في أِباه لهذا من النعم. قاله مجاهد، وقتادة. (وكذلك رواه ابن عباس، عن النبي A أنه قال: بأيام الله: بنعم الله). قال مالك، ( C) { بِأَيَّامِ الله}: ببلاء الله الحسن عندهم، وأياديه. وقال ابن زيد: المعنى: وذكرهم بالأيام التي انتقم الله، فيها من الأمم الماضية، فيتعظوا، ويزدجروا، ويخافوا أن يصيبهم مثل ما أصاب من كان

قبلهم، ودل على ذلك قوله بعد الآية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} [إبراهيم: 9]، ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}: والمعنى: إن في النعم التي مضت على الأمم الخالية، وأن في النعم التي أنعم عليكم لعلامات ظاهرة، لكل ذي صبر على / طاعة الله D وشكر له على ما أنعم عليه من نعمة، (جلت عظمته). وقال قتادة عند تلامة هذه الآية: " نِعْم العبدُ عبدٌ إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر ". ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا}: أي: واذكر يا محمد! إذ قال موسى لقومه: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب}: (أي): يذيقونكم شديد العقاب. وقد يجوز (مع ذلك) أبناءكم، ودخلت الواو مع

" ويذبحون "، لتدل على آل فرعون كانوا يعذبون بني إسرائيل بأنواع (غير) التذبيح. وروي أن فرعون كان يذبح كل غلام، ويستحي النساء، وكانت الحوامل عنده مدونات، والقوابل يغدون عليهن ويرحن. وعندهم رجال قد شدوا أوساطهم، وجعلوا فيها السكاكين التي يذبحون بها الولدان. وأيديهم مخضبة بالدماء. ثم قال (تعالى): {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ}: أي: اختبار لكم من ربكم. ويكون البلاء هنا النعمة، فيكون المعنى: (إن) في إنجائه

7

إياكم نعمة عظيمة. وقيل: المعنى: وفيما جرى عليكم بلية عظيمة. قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ} - إلى قوله - {إِلَيْهِ مُرِيبٍ} والمعنى: واذكروا إذا تأذن ربكم. (أي): أعلمكم ربكم. ومنه الأذان، أنه إعلام. " وتفعل " يقع على موضع " أفعل "، والعرب تقول: أوعدته، وتوعدته، بمعنى واحد. وقال ابن مسعود: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}: أي: قال ربكم. وكذلك قال ابن زيد: معناه: قال ربكم ذلك التأذن. {لَئِن شَكَرْتُمْ}: معناه: القسم، والمعنى: ولئن شكرتم ربكم بطاعتكم إياه، فيما أمركم به، ونهاكم عنه، ليزيدنكم من النعم.

وقال الحسن: معناه: لأزيدنكم من طاعتي. وقال سفيان بن عيينة: (قال سفيان): ليست الزيادة من الدنيا، أهون على الله من أن يجعلها ثواباً لطاعته، ولا أثاب (بها) أحداً من رسله وأهل طاعته، وهم أشكر الخلق. وقيل: المعنى: لئن أطعتموني بالشكر، لأزيد (نك) م من أسباب الشكر ما يعينكم عليه. وقيل: إن المعنى: لأزيد (نك) م من الرحمة والتوفيق والعصمة. وقوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ}: أي: (إن) كفرتم النعمة، فجحدتموها بترك الشكر عليها.

{إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}: أي: لشديد على من كفر وعصى. ثم قال تعالى: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً}. أي: قال لقومه: إن تكفروا، فتجحدوا نعمة الله عليكم، ويفعل مثل ذلك كل من في الأرض {فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ} عنكم وعنهم. {حَمِيدٌ}: أي: ذو حمد إلى خلقه بما أنعمه عليهم. ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}. والمعنى: إن الله تعالى أخبرنا خبر الأمم الماضية، الذين لا يحصى عددهم إلا الله ( D) { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ}: بالآيات الظاهرات، يدعونهم إلى الله (سبحانه) وإلى طاعته. {فردوا أَيْدِيَهُمْ / في أفواههم}: أي: عضت الأمم على أصابعها، تغيظاً

على الرسل، قاله ابن مسعود. وقال ابن زيد: هو مثل: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119]. وقيل: المعنى: أنهم لما سمعوا كتاب الله D عجبوا منه، و (و) ضعوا أيديهم على أفواههم تعجباً. قاله ابن عباس. وقيل: المعنى: كذبوهم بأفواههم، وردوا عليهم. قاله مجاهد. وقال قتادة: كذبوا الرسل، وردوا عليهم بأفواههم، فقالوا: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ}. وهو مثل قول مجاهد. وقيل: معناه: إنهم كانوا يشيرون بأيديهم إلى أفواههم، يسكتون الرسل إذا دعوهم إلى الإيمان أن اسكتوا تكذيباً لهم، ورداً لقولهم. وقيل: المعنى: إنهم كانوا يضعون أيديهم على أفواه الرسل، رداً لقولهم،

وتكذيباً (لهم). وقيل: هو مثل يراد به السكوت، لأن العرب تقول: سألت فلاناً (في) حاجة فرد يدع في فيه، إذا سكت عنه فلم يجبه. فالمعنى: أنهم يسكتون إذا دعتهم الرسل إلى الله، فلا يقبلون الدعاء وقيل: المعنى: (فردوا أيدي الرسل) في أفواههم، أي: ردوا نعم الله، الت يأتتهم على ألسنة الرسل بأفواههم فتكون " في " بـ (معنى) " الباء "، واليد تكون في كلام العرب: النعمة، يقال: لفلان عندي (يد: نعمة، وكان (. . .) على هذا القول (. . .) يكون على وزن (. . .) لأن جمع يد (النعمة):

أيادٍ، وجمع اليد من الجارحة: أيدٍ. وقوله: {بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} يدل على كثرة من مضى من الخلائق. قال ابن مسعود: وكذب النسَّابون. قال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحداً يدري ما وراء عدنان. وقال ابن عباس: بين عدنان، وإسماعيل ثلاثون أباً لا يُعرفون. ثم أخبر عنهم تعالى بما قالوا للرسل (فقال): {وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ}: أي " كفرنا بما جئتمونا من ترك عبادة الأوثان [وقالوا]: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ} أي: لفي شك من توحيد الله الذي تأمروننا (به).

10

{مُرِيبٍ}: أي: يريبنا ذلك الشك، أي: يوجب لنا الريبة. قوله (تعالى): {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات} إلى قوله {وَخَافَ وَعِيدِ}: والمعنى: أن الله ( D) أعلمنا بجواب الرسل للأمم، إذ شكت في توحيد الله سبحانه، وأنها قالت للأمم: {أَفِي الله شَكٌّ}: أي (أ) في توحيد الله شك وهو خلق السماوات والأرض، يدعوكم إلى توحديه، وطاعته، ليغفر لكم من ذنوبكم، إن أنتم آمنتم به، واتبعتم أمره، وقبلتم نهيه. فلا يعذبكم على ما ستر عليكم من ذنوبكم، ويؤخر آجالكم، فلا يعاقبكم في العاجل فيهلككم، ولكن يؤخركم إلى الوقت الذي كتب (عليكم) في أم الكتاب. و" من " في قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ}، قال أبون عبيدة: هي زائدة، والمعنى:

يغفر لكم ذنوبكم. وقيل: ليست بزائدة. والمعنى: يغفر لكم / بعضها، إذ لا يأتي أحد يوم القيامة إلا بذنب، إلا النبي محمداً A، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر في الدنيا. والمغفرة لغيره إنما تكون في الآخرة. فأما قوله في الصف: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12]، فإنما ذلك على الشرط الذي تقدم من الله لهم. فقالت الأمم لهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}: أي: ما أنتم أيها الرسل إلا بشر مثلنا في الصورة، ولستم ملائكة تريدون بقولكم هذا أن تصرفونا: {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ [آبَآؤُنَا]}: من الأوثان، {فَأْتُونَا} على قولكم: {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}: أي: بحجة ظاهرة. ثم قال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}: أي: صدقتم في قولكم لنا: ما أنتم إلا بشر مثلنا. {ولكن يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}: فيهديه، ويوفقه للحق، ويرسله إلى

من يشاء خلقه. {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ}: أي: بحجة وبرهان على ما ندعوكم إليه من توحيد الله ( D) ، وطاعته (جلت عظمته). {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}: أي بأمره، {وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ / المؤمنون}: أي: عليه فليتوكل من آمن به، وأطاعه. فهذا كلام ظاهره الحظر والمنع، ولا يحظر (على فعل شيء لا يقدر) عليه البتة، ولا في الطاقة فعله، ولكن معناه: وما كنا لنأتي بسلطان {إِلاَّ بِإِذْنِ الله}: نفوا ذلك عن أنفسهم، إذ، لا قدرة لهم عليه. ولو حمل على ظاهره لكان معناه: إنهم يقدرون على الإتيان بالسلطان، وهو الحجة. ولكن لا يفعلونه إلا بإذن الله، وليس الأمر كذلك (إذ) لا مقدورة لهم على ذلك البتة، فلا يتم المعنى حتى يحمل على النفي. ثم قال تعالى: قالت لهم الرسل: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله}: (أي: شيء لنا في ترك التوكل على الله)، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}. أي: قد بصرنا طريق النجاة من عذابه.

{وَلَنَصْبِرَنَّ}، قسم من الرسل، أقسموا ليصبرن على أذى الأمم إياهم في الله، {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون}. فقالت الأمم للرسل: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ}: أي: لنطردنكم من مدينتنا، {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}: أي: إلا أن تدخلوا في ديننا. و " أو " عند بعض أهل اللغة بمعنى: " إلا ". وقيل: معنى " أو ": حتى تعودوا ودخلت اللام في " لتعودن " لأن في الكلام معنى الشرط، كأنه جواب لليمين. والتقدير: لنخرجنكم من أرضنا، أو لتعودن في ملتنا، كما تقول: لأضربنك أو تُقِرَّ لي. {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ}: أي: أوحى الله إلى الرسل. {رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين}: وهو قسم من الله، (وهو) كله وعيد وتهدد لقريش (ومن يليهم من العرب، وتنبيه للنبي A، ليعلم ما لقيت الرسل مثله من

15

الأمم، فيهون عليه ما يلقى من قريش) وغيرهم ممن امتنع أن يؤمن (به). ثم قال تعالى للرسل: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ}: أي: لنسكنن من آمن بكم الأرض، ومن بعد إهلاك الظالمين. فوعدهم تعالى بالنصر في الدنيا. ثم قال تعالى ذكره: {ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي}: أي: ذلك النصر يكون لمن خاف مقامي بين يدي الله ( D) في الآخرة، فاتقى الله، وعمل بطاعته. والمصدر يضاف إلى الفاعل مرة، وإلى المفعول به أخرى. فهو هنا مضاف إلى الفاعل. ثم قال: {وَخَافَ وَعِيدِ}: أي: خاف تهددي. قوله: {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} إلى قوله: {عَذَابٌ غَلِيظٌ}. والمعنى: واستفتحت الرسل على قومها لما كذبوهم: أي: استنصروا الله عليها لما وعدهم بالنصر على الأمم، وأنه يسكنهم الأرض من بعد الأمم. هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.

وقال ابن زيد: استفتحت الأمم بالدعاء، كقول قريش: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وقد أعلمنا الله أن قوم هود استفتحوا، وقالوا لهود: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ (مِنَ الصادقين)} [الأعراف: 70]. فالاستفتاح عنده مسألة العذاب. وقد روي أنه قيل لقريش حين استفتحوا / العذاب: إن لهذا أجراً يؤخر إلى يوم القيامة، فقالوا: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16]: أي: عجل لنا نصيبنا من العذاب على (طريق) التكذيب به، (و) على هذا أتى قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} [العنكبوت: 53] الآية.

وقوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}: أي: أهلك كل متكبر عن الإيمان معاند. قال المفسرون: هو من امتنع أن يقول: لا إله إلا الله. وقال قتادة: العنيد: الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله ". وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقاً. وقيل: هو أبو جهل لعنه الله وُنَظَراؤُهُ. ويقال: جبار بين الجبرية والجَبْرِيَّة بكسر الجيم، والباء، والجَبَرُوةُ والجَبْرُوَّة، والجبروت، والعنيد: المعاند للحق.

ثم قال تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ}: أي: من وراء ذلك الجبار العنيد جهنم يردها: أي: من أمامه جهنم. كما يقال: إن الموت من ورائك، أي: من أمامك. وأصل: " وراء ": ما توارى عنك، وهو يصلح لخلف ولقدام، وليس هو من الاضداد. وقوله: {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ}: الصديد: الدم، والقيح يتجرعه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يتحساه، ولا يكاد يزدرده من شدة كراهيته، أي: لا يقدر يبلعه. وروي عن النبي A: أنه قال في قوله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ}. قال يقرب إليه فيكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه. فإذا شربه، قطع

أمعاءه، حتى يخرج من دبره. يقول: (الله تعالى): {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 16]: وقال: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29]. ثم قال تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}: أي: يأتيه الموت عن يمينه، وشماله، وخلفه، وقدامه. وقيل: معناه: من كل مكان في بدنه من شدة عذابه. {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}: أي: لا تخرج نفسه، والمعنى: يأتيه ما يُمات منه من كل جانب، وليس يموت. قال: ابن جريج: " تعلق نفسه عند حنجرته، فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه، فيجد لذلك راحة ".

18

وقيل: المعنى {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}: أي: " من تحت كل شعرة في جسده ". ثم قال: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}: أي: من وراء ما هو فيه من العذاب، - يعني - أمامه (عذاب غليظ). قال الفضيل: هو حبس الأنفاس. وقال القرظي: محمد بن كعب: إذا دعا الكافر في جهنم بالشراب فرآن، مات موتات، فإذا دنا منه مات موتات، فإذا شرب منه مات موتاتٍ. فهو قوله: {(وَيَأْتِيهِ) الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ}. قوله (تعالى): {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} - إلى قوله - {عَلَى الله بِعَزِيزٍ}، التقدير عند سيبويه، والأخفش، وفيما نَقُص عليكم مثل الذين كفروا، كما قال: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35].

وقال الكسائي تقديره مثل أعمال / الذين كفروا كرماد. ومعنى الآية: أنه مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة، وأنها مثل رماد ضربته ريح عاصف. فماذا تبقى منه؟ (كذلك) لا يبقى للكفار من أعمالهم شيء ينتفعون به، لأنهم أرادوا بها غير ذلك (سبحانه). ووصف (يوم) بالعصوف، (وحقيقته) للريح، وإنما جاز ذلك لأنه بمعنى النسب. تقديره: في يوم عصف، (وتقديره) عند الفراء: في يوم عاصف الريح، وحذفت الريح لتقدم ذكرها. {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ}: أي: لا يقدرون أن ينفعهم شيء من أعمالهم، كما لا يقدرون على النفع بشيء، ومن رماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف.

{ذلك هُوَ الضلال البعيد}: أي: عملهم الذي كانوا يعملون ضلال، بعيد عن الحق. ثم قال تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} والمعنى: ألم تر يا محمد بعين قلبك أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق، أي انف (ر) د بذلك من غير ظهير، (ولا) معين. {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}: أي: يفنيكم، {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} عوضاً منكم، {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ}: أي: ومت ذهابكم، وخلق عوضكم بممتنع على الله ( D) ، لأنه القادر على ما يشاء. فأول الآية خطاب للنبي A، والمراد به أمته دلّ على ذلك أنه رد الخطاب في آخر الآية إليهم، فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}.

21

قوله: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} - إلى قوله - {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. المعنى: وبرزوا من قبورهم، (أي) ظهر هؤلاء الذين كفروا من قبورهم فصاروا بالبراز من الأرض جميعاً. {فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا}: أي قال التباع للمتبوعين المستكبرين في الدنيا عن عبادة الله D. { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}، في الدنيا، أي: نتبع أمركم لنا بمعصية الله، D، وترك اتباع الرسل. {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ}: أي: دافعون عنا (من العذاب) شيئاً. قال المتبوعون، وهم القادة للعضفاء، وهم التابعون: {لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ}: أي: لو أن لنا شيئاً ندفع به عذابه عنا اليوم، لبيناه حتى تدفعوا به العذاب عن أنفسكم.

{سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}: أي: سواء علينا الجزع والصبر، ما لنا من خلاص، ومن ملجأ، ومن مهرب، ومن مَعْدِل، و " سواء " بمتدأ، وما بعده خبر. قال محمد بن كعب القُرظي: بلغني أن أهل النار، يقول بعضهم لبعض: يا هؤلاء! إنه قد نزل بكم من العذاب والبلاء ما ترون، فلهم فلنصبر، فلعل الله ينفعنا كما صبر أهل لدنيا على طاعة الله ( D) ، فنفعهم الصبر. فأجمعوا رأيهم على الصبر، فصبروا، فطال صبرهم، ثك جزعوا فنادوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} /: (أي) من ملجأ. وقال ابن زيد: إن أهل النار قال بعضهم لبعض: تعالو فإنما أدرك أهل

الجنة الجنة ببكائهم، وتضرعهم لله تعالى. (تعالوا) نبكي، ونتضرع إلى الله، جل ذكرهز فبكوا وتضرعوا، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم، قالوا: تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر، تعالوا نصبر. فصيروا صبراً لم ير مثله، فلم ينفعهم ذلك، فعند ذلك قالوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}. وروى مالك (Bهـ)، عن زيد بن أسلم أنه قال: صبروا (مائة) عام، ثم بكوا مائة عام. فقالوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}. وروى كعب ابن مالك، عن أبيه، ورفعه إلى النبي A أنه قال: " يقول أهل النار إذا اشتد بهم العذاب: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم، قالوا: هلم فلنجزع، فيجزعون ويضجون خمسمائة عام، فلما رأوا

أن ذلك لا ينفعهم قالوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} ". ثم قال تعالى: (ذكره): {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر}. أي: قال إبليس لما دخل أهل الجنة، وأهل النار النار، واستقر بكل فريق قراره. {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ}: أيها الأتباع النار، {وَوَعَدتُّكُمْ}: النصرة. وقيل، معنى: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق}: أي: وعد من أطاع (هـ) الجنة، ومن عصاه النار. ووعدتكم أنا خلاف ذلك {فَأَخْلَفْتُكُمْ} وعدي، وفي لكم الله بوعده. {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ}: أي: ما كان لي عليكم فيما وعدتكم به من النصرة حجة، تنبتُ لي عليكم بالصدق قول (ي).

{إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي}: أي: دعوتكم إلى طاعتي، ومعصية الله، فأجبتموني. {فَلاَ تَلُومُونِي} " على إجابتكم إياي {ولوموا أَنفُسَكُمْ} عليها. {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم، {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}: أي: بمغيثي يقال: أصرخت الرجل إصراخاً: أغثته. {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي: إني جحدت أن أكون شريكاً لله، (سبحانه) فيما أِركتموني فيه من عباد (ت) كم (من قبل): في الدنيا. وقال قتادة: معناه: إني عصيت الله فيكم. وقيل: (من قبل): أي: بطاعتكم إياي في الدنيا، وفيه بعد. {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: أي، إن الكافرين لهم اليوم عذاب موجع.

قال محمد بن كعب القرظي: فلما سمعوا مقالة إبليس هذه في خطبة يقوم بها عليهم، مقتوا أنفسهم، فنودوا: {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]. روي أن إبليس اللعين يقوم فيقول: أين أوليائي فيجتمعون إليه فيقول: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}. قال الحسن: إذا كان يوم القيامة يقوم إبليس خطيباً على منبر من نار فيقول: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ / وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}. وقال قتادة: رحمة الله عليه في قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ}: معناه: إني " عصيت الله قبلكم ". وقال سفيان الثوري (نظر الله إلى وجهه): {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ (أَشْرَكْتُمُونِ)

مِن قَبْلُ} [24] يقول: كفرت بطاعتكم إياي في الدنيا. وقال ابن عباس: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ}: أي بنافعكم، وما أنتم بنافعي. وقال الربيع بن أنس ( C) : ( ما) أنا بمنجيكم وما أنتم بمنجي. وقال محمد بن كعب: إنما قال ذلك، حين قال أهل الجنة: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا}. وروي (عن): عقبة بن عامر الجهني (Bهـ):، قال: سمعت رسول الله يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين، وفرغ من (القضاء): بين الناس، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا. فمن يشفع لنا عند ربنا، فيقول: انطلقوا بنا إلى من خلقه الله، وكلمه آدم. فيأتونه، فيقولون: اشفع لنا لى ربنا، فيقول: عليكم بنوح .

فيأتون نوحاً، فيدلهم على إبراهيم، فيدلهم على موسى، فيأتون موسى، فيدلهم على عيسى. فيأتون عيسى، فيقول لهم: هل أدلكم على النبي الأمي. قال رسول الله A ( وعليهم أجمعين): فيأتوني فيسألوني أن أشفع لهم إلى ربهم، فيأذن الله لي بالقيام، فيثور لمجلسي أطيب ريح، شمها أحد، حتى آتي ربي فأشفع فيشفعني، (جل وعز): فيقول الكفار عنج ذلك: وقد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو إلا إبليس، هو الذي أضلنا. فيأتون إبليس فيقولون له: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم إلى ربهم فاشفع لنا إلى ربنا فإنك (أنت): أضللتنا فيقوم، فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد قط: فيعظم لجهنم فيقول: إبليس عند ذلك: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} - إلى قوله - {أَلِيمٌ}، وإنما ذكر الله هذا من أمر إبليس، تحذيراً من أعدائه. "

23

قوله: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} - إلى قوله - {مِن قَرَارٍ}. المعنى: وأدخل الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه وعملوا الأعمال الصالحات {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}: أي: بساتين تجري دونها الأنهار. {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: أي: ماكثين فيها أبداً بأمر ربهم. {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}: يعني: الملائكة يسلمون عليهم فيها. فالضمير في تأويل مفعول لم يسم فاعله. أي: يحيون بالسلام (يعني الملائكة يسلمون): (ويجوز) أن يكون الضمير فاعلاً، والمعنى: ويحيي بعضهم بعضاً بالسلام. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} /، (أي): ألم تر بعين

قلبك يا محمد، كيف ضرب الله مثلاً للإيمان (به): ومثلاً للكفر به. فجعل مثل المؤمن في نطقه بالتوحيد، والإيمان بنبيه A، وأتباع شريعته (جلت عظمته): مثل الشجرة (الطيبة). فنفعُ الإقامة على توحيده، كنفع الشجرة التي لا ينقطع نفعها في كل حين، وهي النخلة. قال ابن عباس ( C) : { مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}: يهمي أن شهادة (أن) لا إله إلا الله، {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}، هي المؤمن، أصلها ثابت: هو قول لا إله إلا الله. ثابت في قلبه {وَفَرْعُهَا فِي السمآء} أي: يرتفع بها عمل المؤمن في السماء. وقال مجاهد: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ}: يعني: النخلة. وقيل: الكلمة الطيبة أصلها ثابت، هي ذات أصل في القلب، يعني التوحيد.

{وَفَرْعُهَا فِي السمآء} يُعرج بها فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله، D. وقال ابن عباس أيضاً، ( C) : في رواية أخرى عنه: الشجرة الطيبة: المؤمن، والأصل الثابت: في الأرض، (والفرع): في السماء: يكون المؤمن يعمل في الأرض، ويتكلم فيبلغ عمله، وقوله السماء، وهو في الأرض. وقال عطية العوفي: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيب، وعمل صالح، يصعد إلى الله D. وقال الربيع بن أنس: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض: ذلك المؤمن ضرب مثله. وقيل: معنى: وفرعها في السماء: بركتها وثوابها لمعتقدها صاعد إلى الله ( D) ، وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقيل: معنى (أصلها ثابت): (أي) شهادة أن لا إله إلا الله (محمد رسول لله) ثابتة في القلب المؤمن، {وَفَرْعُهَا فِي السمآء}: أي: يرتفع بها أعمال المؤمن إلى السماء. (و) قال: مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن جبير، وابن عباس: الشجرة هنا النخلة. وعن الضحاك أنه قال: هذا مثل ضربه الله ( D) :، للمؤمن يطيع الله بالليل، ويطيعه بالنهار، (و) يطيعه: كل حين، (كما): أن هذه الشجرة تؤتي أكلها كل حين. وقوله: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ}: مثل الكافر عمله خبيث، وجسده خبيث، وروحه خبيث. وليس لعمله قرار في الأرض، ولا يصعد إلى السماء. وقيل: الشجرة هنا: شجرة في الجنة، روي ذلك عن ابن عباس، Bهـ.

وقد ثبت عن النبي A أنه قال: " هي النخلة " ومعنى كل حين: كل غدوة وعشية في أحد قولي ابن عباس على أنها شجرة في الجنة. وقيل: كل حين: كل وقت، وهو المؤمن يطيع الله، ( D) : بالليل والنهار، وفي كل وقت. وقال الربيع بن أنس ( C) ( كل حين): كل وقت يصعد عمل المؤمن من أول النهار وآخره. وقيل: الحين هنا: ستة أشهر، من حيث تُصرْمُ النخلة إلى حين تُطْلِع وذلك ستة أشهر.

وقيل: الحين: سنة، وذلك من حين تُصرْمُ النخلة / إلى حين تصرم. وقال سعيد بن المسيب: الحين: شهران، وهو ما دام التمر في النخل، وذلك شهران. واختلفوا في رجل حلف ألا يكلم رجلاً إلى حين، وألا يدخل الدار إلى حين، على مثل ما اختلفوا في الآية. والحين عند أهل اللغة: اسم للوقت، يصلح لجميع الأزمان كلها طالت، أو

قصرت. واختيار الطبري قول من أن الحين غدوة وعشية، وكل ساعة، على أن الشجرة شجرة في الجنة، لأن الله ( D) ضرب ما تؤتى هذه الشجرة كل حين من الأكل لعمل المؤمن، وكلامه مثلاً. ولا شك أن المؤمن يرتفع له إلى الله، D، في كل يوم عمل صالح. واختار النحاس أن يكون الحين سنة، على أن الشجرة: النخلة، تؤتي ثمرها من سنة إلى سنة. والحين عند مالك، ( C) : سنة، ولو نذر رجل أن يصوم حيناً (لصام) سنة وهو قول مجاهد. وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وأصحاب الرأي: الحين ستة أشهر، فمن نذر صوم حين، صام ستة أشهر.

وقال الشافعي: ليس عليه في نذره شيء، ولا يحنث في ترك الصوم، ولا يلزمه نذر. لأن الحين يكون مدة الدنيا كلها. ثم قال تعالى: {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً}، معناه: ومثل الشرك بالله، سبحانه وهي الكلمة الخبيثة: كشجرة خبيثة، وهي: الحنظلة، قال (هـ) مجاهد، وأنس بن مالك وروي عن ابن عباس. ومعنى: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض}، أي استؤصلت. ومعنى: {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ}: أي: ليس من أصل في الأرض تثبت عليه وتقوم. فليس لكفر الكافر ومعصيته ثباتن ولا نفع.

27

كما أن هذه الشجرة ليس لها أصل، ولا ثبات ولا نفع. وقيل: الشجرة الخبيثة: الثوم: وقيل: الكثوث. قوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} - إلى قوله - {وَلاَ خِلاَلٌ}. ومعناه: يثبت الله الذين آمنوا به وبرسله وكتبه بقوله لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله: أي: يثبتهم (بذلك في الحياة الدنيا: أي: في قبورهم قبل قيام الساعة. {وَفِي الآخرة}: قال البراء بن عازب: يثبت الله الذين آمنوا بالشهادة في القبر، إذ أتاهم الملكان، فقالا: من ربك؟ فيقول ربي (الله فيقولان) ما دينك؟ فيقول: دين (ي) الإسلام، فيقولان من نبيك؟

فيقول: محمد A: فذلك القول الثابت في الحياة الدنيا. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي A قال: " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتفرق عنه أًحابه جاءه ملك بيده مِطْرَاقٌ، فأقعده فقال (له): ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمناً: قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقول له: صدقت . فيفتح له باب إلى النار، فيقال (له): هذا منزلك لو كفرت بربك. فأما إذ آمنت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض

فيقال له: ثم يفسح له في قبره. وأما الكافر /، والمنافق، فيقال له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دَرَيْت، ولا تدريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت، فإن الله D أبدلك به هذا. ثم يفتح له باب إلى النار، ثم يقمَعُهُ الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم، إلا الثقلين. فقال (له) بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا يفشل عند ذلك فقال له النبي A: { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} " الآية. ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ زائدة على ما ذكرنا، وناقصة (عن) ما

ذكرنا، والمعنى فيها قريب من الآخر. وقيل: معنى الآية: يثبتهم الله في الحياة على الإيمان، حتى يموتوا عليه {وَفِي الآخرة} المساءلة في القبر، قاله طاووس، وقتادة وهو اختيار جماعة من العلماء. ومعنى {وَيُضِلُّ الله الظالمين}: أي: لا يوفقهم في الحياة الدنيا إلى الإيمان، ولا في الآخرة عند المساءلة في القبر. وقوله: {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ}: أي: بيده الهداية والضلالة يضل من يشاء فلا يوفقه، ويهدي من يشاء فيوفقه. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً}: أي: غيّروا نعمة الله، وهي كون محمد A من قريش وإرساله إليهم، فجعلوا النعمة كفراً.

قيل: نزلت في قتلى بدر من المشركين. وقيل: في كفار قريش كلهم. قوله: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار}: أي: أنزلوا قومهم من مشركي قريش دار الهلاك. يقال: بار الشيء: إذا هلك، ثم بينها فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار}: أي: بئس المستقر لمن صلاها. ووقيل: نزلت في المشركين يوم بدر قاله ابن عباس. {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار}: يعني: الذين اتبعوهم. وقيل: نزلت في أهل مكة عامة: أسكنهم الله D حرمه، وآتاهم نعمه، وجعلهم قوام بيته. فبدلوا ذلك كفراً. ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ}: أي: جعل هؤلاء الذين

بدلوا نعمة الله كفراً (لله) أنداداً: أي: شركاء. ({لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ}) لكي يضلوا الناس عن سبيل الله. قال ابن مسعود: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصُباً، يعني: تمثالاً، تعبدها قريش من دون الله: فهي الأنداد. ثم قال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ}: أي: قل لهم يا محمد! تمتعوا في هذه الحياة الدنيا، وهذا على طريق التهدد، والوعيد. {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار}: أي عاقبتكم إلى النار تكون. وقيل: معناه: إن الكافر لو كان في الدنيا مريضاً سقيماً، طول عمره لا يجد ما

يأكل ولا (ما) يشرب لكان ذلك نعيماً عندما يصير إليه / من عذاب الآخرة. ولو كان المؤمن في الدنيا لا يعرض له سقم، ولا مرض طول عمره، يتنعم بأنعم ما يكون من مأكول (في) الدنيا، ويلبس أحسن ما يكون من اللباس لكان ذلك بؤساً عندما يصير إليه من نعيم الآخرة. ثم قال تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة}: ومعناه: قل يا محمد! لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوات الخمس بحدودها. {وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}: أي: مما خولناهم: يعني: الزكاة. سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه، أي: لا يباع ما وجب عليه من العقاب بفدية (ولا عوض). قال أبو عبيدة: البيع هنا: الفدية.

32

وقوله: {وَلاَ خِلاَلٌ}: أي: ولا مخالة خليل، فيصفح عمن استوجي العقوبة لمخاللته. والخلال مصدر خاللته، قاله الأخفش. (و) الخلال جمع خلة، وهو بمعنى: الصداقة. وقال ابن عباس: {يُقِيمُواْ الصلاة} يعني: الصلوات الخمس، {وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}: يعني: زكاة أموالهم. قوله: {الله الذي خَلَقَ السماوات} - إلى قوله - {كَفَّارٌ}: والمعنى: " الله الذي أنشأ السماوات والأرض من غير شيء. {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ}: أي: أحيى به الأرض والشجر،

والزرع، والثمرات، رزقاً لكم: تأكلونه. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} وهي السفن: {لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} ومعنى " بأمره " لكم، تركبونها، وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار}: أي: سخر ماءها شراباً وسقياً لكم. {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ}: أي: متعاقبين عليكم أيها الناس بالليل والنهار لصلاح أنفسكم ومعايشكم. وقيل: معنى دائبين: متماديان في اختلافهما عليكم. وقال ابن عباس ( C) : هو دؤوبهما في طاعة الله، D، { وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار}: أي: بسخر تعاقبهما عليكم لمنافعكم، وصلاح أحوالكم.

ثم قال تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}: أي: وأعطاكم مع ما تقدم من ذكر إنعامه عليكم: {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، أي: من كل سؤلكم، قاله الفراء. وقال الأخفش: " من كل ما سألتموه (شيئاً)، وحذف شيئاً لدلالة لفظ التبعيض عليه، ولدلالة " ما " التي أضيف إليها " كل " لأنها بمعنى شيء. وقيل: هذا لفظ عام، ويراد به الخصوص، كما يقال: فلان يعلم كل شيء، وأتاني كل إنسان: يريد البعض، ومثله {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] قال مجاهد: معناه: وآتاكم من كل ما رغبتم إليه فيه. وقيل: المعنى: وآتاكم من كل الذي سألتموه، والذي لم تسألوه. وقيل: معناه: إن الناس قد سألوا الأشياء عن تفرق أحوالهم، فخوطبوا على ذلك: أي: قد أوتي بعضهم منه شيئاً، وأوتي الآخر منه شيئاً آخر، مما قد سأله.

وروى محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبيه، عن نافع " من كل " بالتنوين، وهي قراءة الضحاك. والحسن: أي: أعطاكم أشياء ما سأَلْتُمُوهَا / ولا التمستموها، ولكن فعل ذلك لكم، برحمته وسعة فضله. قال الضحاك ( C) : فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه، ولا طلبناه، ولا خطر لنا على بال. وجعل الحسن " ما " بمعنى " الذي " مع التنوين. وقال في معناه: وآتاكم من كل ما سألتموه: أي: أعطاكم من كل الأشياء الذي سألتموه. ثم قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا}: أي: (إن) تعدوا نعم الله

35

عليكم لا تحصوا عددها، والقيام بشكرها. ثم قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، الإنسان: اسم للجنس وظلوم بني للمبالغة. والمعنى أن الإنسان غير شاكر من أنعم عليه، وقد وضع الشكر في غير موضعه، يعبد غير من أنعم عليه. كفار: جحود نعمة من أنعم عليه. قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} - إلى قوله - {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. المعنى: واذكر يا محمد! إذ قال إبراهيم: رب اجعل مكة " بلداً " آمناً، سكانه وأهله. فهذا إشارة إلى البلد، والبلد نعت لهذا، أو عطف بيان. و " آمنا " مفعول

ثان لجعل. ثم قال تعالى حكاية عن قول إبراهيم A وعلى نبينا محمد وسلم: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام}: أي: اجعلني وإياهم جانباً عن عبادتها. وقيل: معناه أنقذني، وإياهم من عبادة الأصنام. والصنم: التمثال المصور، فإن لم يكن مصوراً فهو وثن. قال مجاهد: أجاب الله، جل ذكره، دعوة إبراهيم في ولده، فلم يعبد أحد منهم صنماً. ثم قال تعالى، ذكره: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس}: أي: إن الأصنام أضللن كثيراً من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن فكفروا بك. وأضاف الفعل إلى الأصنام على ما تعرف العرب من مخاطبتها. يقول العرب: أفتنتني الدار، والمعنى: استحسنتها.

فالمعنى: إنه افتتن (كثير) من الناس بهن، أي: استحسنهن كثير من الناس، أي: استحسن عبادتهن كثير منهم. {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، أي: من تبع ما أنا عليه من الإيمان بالله، ( D) ، وإخلاص العبادة (له فهو من): أي: من أهل ديني. {وَمَنْ عَصَانِي} فخالف أمري {فَإِنَّكَ غَفُورٌ} لذنوب المذنبين. أي: ستار لها إذا تابوا منها بالإيمان. وهذا قريب من قول عيسى A: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]- الآية -: أي: إن تغفر لهم ذنوبهم بعد توبتهم وإيمانهم. (وفي) ذلك أقوال غير هذا، قد ذكرتها في المائدة. وغير جائز أن يتأول أحد أن المغفرة ترجى لمن مات على كفره، لقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48، 116]،

37

ولقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً} [آل عمران: 91]- الآية - وهو كثير في القرآن، فلا يَيْأَس من مغفرة الله لعبدٍ مع الإيمان، ولا ترجى مغفرة لعبدٍ من الكفر. وقوله: رحيم: أي: رحيم بعبادك إذا آمنوا قبل موتهم. قوله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي / زَرْعٍ} - إلى قوله - {يَوْمَ يَقُومُ الحساب}. معنى الآية: إنه دعاء من إبراهيم A بمكة، وذلك حين أسكن إٍماعيل، وأمه هاجر مكة. قال ابن عباس: إن أول من سعى بين الصفا والمروة لأم اسماعيل (وإن)

أول ما أحدث النساء جر الذيول، لمن أم اسماعيل، وذلك أنها لما فرت من سارة أرْخَتْ من ذيلها لتعفي أثرها، فجاء بها إبراهيم، ومعها إٍماعيل حتى انتهى بها إلى موضع البيت، فوضعها، ثم رجع. فأتبعته، فقالت: إلى (أي) شيء تكلنا؟ (إلى أي طعام تكلنا)، إلى أي شراب تكلنا؟. فجعل إبراهيم لا يرد عليها عيناً، فقالت: (آلله) أمرك بهذا؟ قال نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. فرجعت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء. أقبل على الوادي، فدعا، فقال: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} - الآية - قال: وكان كع هاجر شن، فيه ماء. فنفد الماء فعطشت، فانقطع اللبن. فعطش الصبي، فنظرت أي: الجبال أدنى من الأرض، فصعدت الصفا، فتسمعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً. فلم تسمع شيئاً، فانحدرت. فلما أتت إلى الوادي سعت وما تريد السعي،

كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد السعي. فنظرت أي الجبال أدنى من الأرض، فصعدت المروة فتسمعت هل تسمع صوتاً، أو ترى أنيساً فسمعت صوتاً كالإنسان الذي يكذب سمعه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك، فأغثني، فقد هلكت وهلك من معي. فجاء الملك بها، حتى انتهى (بها) إلى زمزم. فضرب بقدمه ففارت، فجعلت هاجر تفرغ من شنها. فقال رسول الله A: " رحم الله أم إسماعيل! لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً " وقال الملك لها: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد، فإنما (هي) عين لشرب ضيفان الله. وقال لها: إن أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله (جل وعز) بيتاً، ذا موضعه، ثم ذهب، وبقيت هاجر، فأتت رفقة من جرهم تريد الشام، فرأوا الطير على الجبل، فقالوا: إن هذا الطير لعائف على ماء، فهل علمتم بهذا الوادي من ماء؟ فقالوا: لا. ثم أشرفوا فإذا هم

بهاجر وابنها، فأتوها، فطلبوا أن ينزلوا عندها، فأذنت لهم، فسكنوا عندها. ثم أتتها المنية فماتت، رحمة الله عليها، فتزوج اسماعيل امرأة من جُرْهم، ثم كان من قصة إبراهيم في إتيانه إلى (بناء) البيت ما ذكر الله ( D) . وقد تقدم منه ذكر (كثير) في البقرة. ومعنى: {بَيْتِكَ المحرم}: أي: المحرم من استحلال حرمات الله (تعالى) فيه، والاستخفاف بحقه. وقوله: {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوى إِلَيْهِمْ}: أي: اجعل قلوب بعض خلقك تنزع إليهم، فلذلك قلوب الناس إلى الآن تنزع إلى الحج، ولا تقدر على التخلف.

وقد قال ابن جبير: لو قال: فاجعل أفئدة الناس / تهوي إليهم، لحجت اليهود والنصارى، والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} فحج المسلمون. قال مجاهد ( C) : لو قال أفئدة الناس، لازدحمت عليه فارس، والروم، ولكنه قال: من الناس. والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، وسمي القلب فؤاداً لتفاؤده: أي: لتوقده، والتفاؤد: التوقد، والمقتاد: موضع وقود النار. قال عكرمة، وطاووس، وعطاء: قلوبهم تهوى إلى البيت حتى يأتونه: (أي) يحجون، وهو قول ابن عباس.

وعن ابن عباس أن معنى: {تهوى إِلَيْهِمْ}: أي: تهوى السكنى عندهم. وهذا المعنى إنما يكون على قراءة من قرأه بفتح الواو، وهي قراءة مروية عن مجاهد. ولما دعا إبراهيم بأن يرزقهم من الثمرات نقل الله ( D) ، الطائف من فلسطين إلى موضعها الآن، ففيها من من كل الثمرات. روي أن إبراهيم A لما دعا بهذا بعث الله جل ذكره، جبريل عليه السلام، فاقتلع الثمار من الشام من موضع يقال له الأردن، وهو نهر، ثم أقبل بالثمار حتى طاف بها حول البيت أسبوعاً، ثم أنزلها جبال تهامة وهي الطائف.

ولذلك سميت الطائف. {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}: أي: يشكرون نعمك. ثم حكى الله ( D) ، عنه أنه قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}: أي: تعلم ما نخفي في قلوبنا عند مسألتنا إياك وما نسألك، وفي غير ذلك من أحوالنا. {وَمَا نُعْلِنُ} من دعائنا، فنجهر به. وغير ذلك من أحوالنا. {وَمَا يخفى} عليك يا رب (من) شيء في الأرض، ولا في السماء ثم قال جل ذكره {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي} - الآية - قال ابن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد تسع عشرة ومائة (سنة) (وقوله): {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة}: أي: مؤدياً ما ألزمتني من فرائضك،

{وَمِن ذُرِّيَتِي}: أي: واجعل أيضاً من ذريتي مقيم الصلاة. ثم قال تعالى: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ}: الدعاء هنا العبادة. والمعنى: " وتقبل عملي الذي أعمله لك، وعبادتي إياك، وقد روي عن النبي A أنه قال: " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . فالمعنى: اعبدوني أستجب لكم، على ذلك قوله: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60]. {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ}: استغفر إبراهيم لأبيه من أجل {مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]: أي: مات على كفره. وقيل: عني بوالديه: آدم وحواء (عليهما السلام).

42

وقرأ يحيى بن يعمر، والنخعي: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} يعني: إسماعيل، وإسحاق. وقرأ ابن جبير: " ولوالدي " يعني أباه وجده. قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً} - إلى قوله - {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}: المعنى: ولا تحسبن الله يا محمد ساهياً عن عمل هؤلاء المشركين من قومك. بل هو عالم بهم، يحصي عليهم جميع أعمالهم، ليجازيهم عليها. وهذه الآية " وعيد للظالم / وتعزية للمظلوم ". ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار}: أي: إنما يؤخر عقابهم

ليوم القيامة، يوم تشخص فيه أبصار الظالمين. فلا ترتد إليهم. ثم قال تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}. قال قتادة: مهطعين: مسرعين. وقال ابن جبير، عن قتادة: " مهطعين منطلقين، عامدين إلى الداعي. وقال ابن عباس ( C) : مهطعين: مديمي النظر، من غير أن تطرف أبصارهم. وقاله مجاهد. وقال ابن زيد: المهطع: الذي لا يرفع رأسه، والإهطاع في كلام العرب: الإسراع.

وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة: الإقناع: رفع الرؤوس. وأصل الأهطاع: الإقبال على الشيء بالنظر، ينظر دائماً، لا يرفع بصره، ولا يطرف. وهو بمعنى قول مجاهد، والضحاك، وهو قول الخليل: ودليله قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}: أي: يديمون النظر، لا يطرفون. قال الحسن: " وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحد - إلى أحد. والمقنع في اللغة: الرافع رأسه. حكى أبو العباس: أقنع إذا رفع رأسه، وأقنع: إذا طأطأ رأٍه ذلاً وخضوعاً. فتحتمل الآية القولين جميعاً. قال: ويجوز أن يرفع رأسه مديماً للنظر، ثم يطأطأه ذُلاّ وخضوعاً. ومن الارتفاع قيل: مقنعة للتي يجعلها النساء على رؤوسهن، لارتفاعها

على الرأس. ومنه قنع الرجل إذا رضي، لأنه رفع نفسه على السؤال، وقنع إذا سأل، أي: أتا ما يتقنع منه. ثم قال تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}: والمعنى عند ابن عباس Bهـ: " لا ترجع إليهم لشدة النظر أبصارهم ": أي: هي شاخصة. ومعنى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}: أي: منحرفة، لا تعي من الخير شيئاً، قاله ابن عباس. كما تقول: ليس في البيت شيء، إنما هو هواء. قال ابن عباس: وليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة. وقال ابن زيد: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} الأفئدة: القلوب ليس فيها عقل، ولا

منفعة. وقيل: معناه: لا تستقر في مكان، فر ترتد في أجوافهم. قال ابن جبير: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ}: " تمور في أجوافهم، ليس لها مكان تستقر فيه ". وقال الضحاك: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} معناه: " ليس فيها شيء، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم "، وقاله السدي. قال قتادة: " انتزعت حتى صارت في حناجرهم، لا تخرج من أفواههم، ولا تعود إلى أمكنتها. وأصل الهواء في اللغة: المجوف الخال (ي). ثم قال تعالى لنبيه A: { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}، والمعنى: وأنذر الناس الذين أرسلت إليهم يا محمد {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}: وهو يوم القيامة.

" فاليوم ": مفعول به، بأنذر ولا يحسن أن يكون نصبه على الظرف، لأن الإنذار لا يكون يوم القيامة، إنما هو / في الدنيا فافهمه، وله نظائر كثيرة في القرآن. ثم قال تعالى: {فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ}. قال محمد بن كعب القرظي، C: بلغني أن (أهل) النار ينادون: {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} فرد عليهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} - إلى قوله - {لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال}. وقوله: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}: هذا تقريع من الله ( D) للمشركين من قريش. أعلمنا أنه يقال لهم بعد أن دخلوا النار بإنكارهم البعث في الدنيا، إذ سألوا رفع العذاب (عنهم)، وتأخيرهم لينيبوا، أو يتوبوا. {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، وإنكم إنما تموتون، ولا تبعثون.

وهذا القسم الذي حكى الله ( D) ، عنهم هنا ما هو حكى الله (سبحانه) عنهم أنهم قسموا في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38]. قاله ابن جريج. ثم قال جل ذكره حكاية عما يقول للمشركين في الآخرة: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي: سكنتم في الدنيا في مساكن الأمم، الذين أهلكوا بظلمهم لأنفسهم، فلم تعتبروا بهم، ولا اتعظتم. ومعنى {ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي: " كفروا بالله (سبحانه)، فظلموا بذلك أنفسهم. {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ}: أي: أعلمتم كيف أهلكناهم حين كفروا بربهم.

{وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال}: أي: مثلنا لكم ما كنتم عليه من الشرك، فلم تتوبوا من كفركم، فالآن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم العذاب. قال قتادة: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ}: أي، اسكن الناس في مساكن قوم نوح، وعاد، وثمود. ثم قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}. قال علي بن أبي طالب، Bهـ: أخذ الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين فرباهما، حتى استعجلا واستغلظا وشبا. ثم أوثق رجل كل واحد منهما في وتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت. ورفع من التابوت عصاً على رأسها لحم، فطارا بالتوابوت، وجعل يقول لصاحبه: انظر ماذا ترى؟ فيقول: أرى كذا، وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كأنها ذباب. فقال له: صوب العصا، فصوبها فهبطا: فهو مكرهم الذي أرادت الجبال أن تزول منه.

وروي أن الذي فعل ذلك بالنسور بختنصر. فلما ارتفعت به النسور نودي: أيها الطاغية أين تريد؟ ففزع، وصوب الرمح الذي فيه اللحم، فصوبت النسور: فكادت الجبال أن تزول لذلك. وقال ابن جبير: هو نمرود. وقيل: مكرهم هنا، هو شركهم بالله سبحانه، وافتراؤهم عليه. روي ذلك أيضاً عن ابن عباس. / وقال الضحاك هو كقوله {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم 88 - 89]- الآية -.

ومن كسر اللام في " لتزول منه " جعل إن بمعنى: ما. أي: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. واللام لام النفي. وهذا مروي عن الحسن ( C) ومثله عنده: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94]: أي: فما كنت في شك. ومثله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الزخرف: 81]: أي: ما كان. (فيكون معنى القراءة عندهم أضعف)، وأوهن من أن تزول منه الجبال، ويدل على صحة قوله إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ومن فتح اللام جعلها لام تأكيد، ومعناه: إنه عظم مكرهم وكبرهم. فأخبر

47

أن الجبال كادت تزول لمكرهم، ودليل تعظيم مكرهم أن الله قد قال: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} [نوح: 22]، وقال: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91]: فأخبر أن ما يأتون به من الكفر تكاد السماوات يتفطرن منه: (أي): تنشق، وتكاد الجبال تسقط إعظاماً لقولهم. وقيل: إن المراد بهذه الآية قريش، نفى الله D، أن تزول لمكرهم الجبال، والجبال كناية عن القرآن، والتقدير: وما كان مكر قريش وكفرهم ليزول منه القرآن إذا أنكروه، وكفروا به. بل فعلهم ذلك لا يضر القرآن، ولا يزيله من قلوب المؤمنين حتى يبلغ جميع الأمم الكائنة إلى يوم القيامة. فيجاز (ى) المؤمن به على إيمانه، والكافر به على كفره. وقوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}: - إلى قوله - {سَرِيعُ الحساب}، والمعنى: ولا تحسبن الله يا محمد مخلف رسله، وعده الذي وعدهم من عقوبة من

كذبهم تثبيتاً منه تعالى لنبيه، عليه السلام ومعلماً، له به أنه سينزل سخطه على من كذبه. {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام}: أي: إن الله لا يمتنع منه شيء أراد عقوبته {ذُو انتقام} لمن كفر به وكذب رسله. ثم أخبرنا تعالى، متى يكون هذا الانتقام، فقال {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات}: أي: ينتقم من الظالمين في هذا اليوم. ومعنى {تُبَدَّلُ الأرض (غَيْرَ الأرض)}: أي تصير هذه الأرض أرضاً بيضاء، كالفضة لم يسفك عليها دم، ولا عمل عليها خطيئته، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر حفاة، عراة، قياماً، كما خلقوا حتى يلجمهم العرق. قاله ابن مسعود، وأنس بن مالك، ومجاهد، والحسن.

وقال الحسن ( C) في حديث (هـ): والسماوات أيضاً كالفضة وعن عبد الله بن مسعود أنه، قال: تبدل الأرض ناراً يوم القيامة، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها. والذي نفس عبد الله بيده: إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترسخ في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب. فقالوا: (مم) يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما الناس يلقون. وقال: (و) أولياء الله في ظل عرش الله. والذي نف عبد الله بيده: إن جهنم / لتنظف على الناس، مثل الثلج حين يقع من السماء، والذي نفس عبد الله بيده إن عرقه ليسيح في الأرض تسع قامات، ثم يلجمه، وما ناله الحساب من شدة ما يرى الناس (و) يلقون. وقال علي بن أبي طالب، Bهـ: تبدل الأرض من فضة، والجنة من ذهب.

وقال ابن جبير: تبدل الأرض خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه. وكذلك ذكر محمد بن كعب القرظي ( C) . وكذلك قال أبو جعفر بن محمد بن علي، (نضر الله وجهه): تبدل الأرض خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8]. وقال أنس بن مالك Bهـ: تبدل الأرض بأرض من فضة، لم يعمل فيها الخطايا. وقيل: تبديل الأرض: هو تسيير جبالها، وتهجير بحارها، وكونها مستوية: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 108]، وتبدل السماوات: انتثار كواكبها، وانفطارها، وانشقاقها، وتكوير شمسها، وخسوف قمرها. قال النبي A: " تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، ويمدها مد الأديم العُقاظي، لا ترى فيها عوجاً، ولا أمتاً، ثم يزدجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه

المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى. ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان على ظهرها. وذلك حين تطوى السماوات " {كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} " [الأنبياء: 104] ثم يدحوهما ثم يبدلهما ". " وسألت عائشة، Bها، النبي A، فقالت: يا رسول الله: إذا بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار. أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط ". ومعنى {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ}: وخرجوا من قبورهم أحياء لموقف الحساب بين يدي الله (عز جل). {الواحد الْقَهَّارِ} أي: المنفرد بالقدرة على خلقه، الذي يقهر كل شيء.

وقال ابن مسعود Bهـ: يجمع الله الخلائق كلهم في صعيد واحد، لأرض بيضاء، لم يعص الله فيها قط، ولم يخطأ فيها خطيئة. فأول ما يتكلم أن ينادي منادٍ: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: [16]؟، ثم يقول الله الواحد القهار: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [غافر: 17]. وعن علي (Bهـ) أنه قال: تبدل الأرض (بأرض) من فضة، والجنة من ذهب. وعن ابن عباس Bهـ أنه قال: بلغنا، والله أعلم، أن الأرض تبدل بأرض بيضاء، لم يعمل عليها معصية، ولم يسفك عليها دم حرام. ثم قال تعالى: {وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد}: أي: وترى يا محمد الذين

اجترموا في الدنيا الشرك بالله (مقرنين: أي) مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم. {فِي الأصفاد}: أي: في الوثاق، من غل سلسلة، أو قيد. وأحدها صفد كحبل. أو صفد كعدل والأصفاد: القيد. / وعن ابن عباس، Bهـ: الأصفاد السلاسل. قال الضحاك: ( C) الأصفاد: السلاسل. وقال قتادة ( C) : هي القيود، والأغلال. وقال الحسن: ما في جهنم واد، ولا مغارة، ولا قيد، ولا سلسلة إلا واسم صاحبه عليه مكتوب.

ثم قال تبارك (و) تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ}: أي قمصهم التي يلبسونها، واحدها سربال. من قطران: قال الحسن ( C) : هو قطران الإبل، ويقال قَطَرَان وقِطرَان بفتح القاف وكسرها. وقرأ مجاهد، C، قطران (عليه) نحاس، ومثله عن ابن عباس. وعن ابن عباس، وعكرمة، ( C عليهما)، إنهما قرآ: (من) قِطْرٍ آنٍ: أي: من نحاس قد انتهى حره في الشدة، وقد قالوا قطران في الواحد، ولو جمع قطران، لقيل: قطارين كضربان وضرابين.

52

ثم قال تعالى: {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار}: أي: " تلفح وجوهه النار فتحرقها. {لِيَجْزِىَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}: أي: ما كسبت من الأثام في الدنيا (أ) ومن الحسنات. {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}: أي عالم بعلم كل عامل، لا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى معاناة وحساب. قد أحاط بها علماً. قوله: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} (الآية وهذا القرآن)، (وهذا) الوعظ بلاغ للناس: أي: أبلغ الله جل ذكره إليهم في الحجة عليهم، وأعذر إليهم بما أنزل فيه من موعظة وعبرة. ثم قال تعالى: {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي: عذاب الله أنزله على محمد A.

{وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب}: أي: وليتعظ أصحاب العقول والأفهام. وواحد الألباب لب، ولب كل شيء: خالصة، فافهم. (والله الموفق المعين لمن استعانه , وكفى به حسيبا على من خلقه)

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ المجلد السادس الحجر - الكهف 1429 هـ - 2008 م

الحجر

بسم الله الرحمن الرحيم / سورة الحجر [و] هي مكية : قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} إلى قوله {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}. قد تقدم ذكر {الر} وشبهها. والمعنى: هذه تلك، أي: هذه الآيات {آيَاتُ الكتاب} أي: آيات الكتب التي كانت قبل القرآن كالتوراة والإنجيل. قالـ[ـه]: مجاهد وقتادة.

{وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} أي: وآيات قرآن مبين لمن تدبره وتأمله. ثم قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ}. أصل " رب " أن تدخل على النكرات، وأن تكون في صدر الكلام لمضارعتها " كم ". لأنها للتقليل كما أن " كم " للتكثير ولمضارعتها " لا " لأنها للتقليل، والتقليل أقرب شيء من النفي. ومن أجل كونها للتقليل لزمتها النكرة. وموضع " رب " وما عملت فيه، نصب [يتعدى] الفعل الذي بعدها، كما تقول: مررت بزيد: فزيد في موضع نصب. ولذلك لم يؤت لها بخبر، كما يأتي لكم. والفعل: الذي يتعلق به محذوف - وربما ظهر - وكل حرف جر فإنما يتعلق بما/ قبله إلا رب فإنها [تـ]ـتعلق بما بعدها لأن لها صدر الكلام. وإذا دخلت عليها " ما " كفتها عن العمل ووقعت الأفعال الماضية بعدها،

تقول: ربما قام زيد، وربما جلس عمرو. فإن وقعت الأسماء بعدها، جاز عملها، ولغوها تقول: ربما رجل رأيت. ويلزم النكرة التي تدخل " رب " عليها النعت. فإن وقع بعدها مستقبل فعلى إضمار " كان " تقول: ربما يقوم زيد. تقديره ربما: كان يقوم زيد. فأما قوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} وإنما جاز وقوع المستقبل بعدها في هذه [الآية] لأنه أمر واقع لا محالة، فصار بمنزلة الماضي الذي [قد] كان [ووقع]. فإن قلت " رب رجل سيقوم " أو " ليقومن " لم يجز إلا أن تريد أنه يوصف بذلك. وإذا اتصل بربما مجهول انتصب ما بعدها على التفسير. ولا يثنى ذلك

المجهول ولا يجمع ولا يؤنث عند البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون. والمضمر الذي يتصل برب في تأويل نكرة ولفظه لفظ معرفة. وإنما كان نكرة لأنك لم تقصد به إلى مذكور بعينه تقدم ذكره، وإنما أظهر على شريطة التفسير بعده. ولا موضع " لما " في ربما لأنها زائدة. وأجاز الأخفش أن تكون " ما " نكرة في موضع خفض " برب " كأنه قال: ورب شيء، أو: رب: وَدَّ. ومعنى الآية: ربما تمنى الذين كفروا لو كانوا في الدنيا مسلمين. وذلك في قول: ابن عباس، وأنس، حين يرى المشركون المسلمين من أهل الخطايا يخرجون من النار بإيمانهم. فيود عند ذلك المشركون لو كانوا مسلمين فيخرجون كما خرج هؤلاء

المسلمون. وذكر ابن عباس: أنه إذا اجتمع المشركون وأهل الذنوب من المسلمين في النار قال المشركون للمسلمين: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون، قد اجتمعا وإياكم. فيغضب الله D للمسلمين فيخرجهم بفضل رحمته فيقول المشركون عند ذلك ليتنا كنا مسلمين. وفي حديث ابن وهب: ". . . فيغضب الله لهم فيقول للملائكة والنبيين: اشفعوا، قال: فيشفعون لهم. فيخرجون حتى إنَّ إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم ". وقال مجاهد عن ابن عباس: يدخل الله المؤمنين الجنة حتى يقول في آخر ذلك: من كان مسلماً فليدخل الجنة. فعند ذلك يتمنى المشركون لو كانوا مسلمين. وقيل: إن ذلك يكون من الكافر إذا عاين القيامة. وقيل: يكون منه ذلك التمني إذا عاين الموت.

ثم قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل}. معنى ذلك: التهديد والوعيد للمشركين. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}. أي: ما أهلكنا من أهل قرية من الأمم الماضية، إلا ولها أجل مؤقت و/ مدة [معلومة] لا يهلكهم الله حتى يبلغوها. وكذلك أهل قريتك يا محمد، وهي مكة، لا يهلكهم الله حتى يبلغوها. أي: بعد بلوغهم مدتهم لا يتقدمون عن ذلك ولا يستأخرون. وقال بعض أهل المعاني: " سبقت " و " استأخرت " مع الأشخاص معناها: غير معناها مع غير الأشخاص. تقول: سبقت فلان [اً] تجاوزته. واستأخرت عنه فأتى، وتأخرت عنه. وتقول: سبقت الهلاك: قصرت عن بلوغه. واستأخرت الهلال

جزته. فمعنى [قوله] {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} لا تقصر عنه. ومعنى " وما يستأخرون " لا يتجاوزونه فيزيدون عليه. روى ابن مسعود أن النبي A [ قال: " أن] خلق أحدكم يجمع في بطن أمه في أربعين ليلة. ثم يكون عقله مثل ذلك. ثم يكون مضغة مثل ذلك. ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات. فيكتب أجله، وعمله، ورزقه، وشقي [هو] أو سعيد. ثم ينفخ فيه الروح. فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينه وبين [الجنة] إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها.

6

وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ". قوله: {وَقَالُواْ يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر}. معناه: وقال هؤلاء المشركون، لك يا محمد، يا أيها الذي نزل عليه القرآن، إنك لمجنون في دعائك إيانا إلى أن نتبعك وندع آلهتنا. ثم حكى [الله] عنهم: أنهم قالوا: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة}. أي: هلا [تأتينا] بالملائكة تشهد لم بالصدق فيما جئتنا [به] إن كنت من الصادقين فيما جئتنا به. قال الله لمحمد [عليه السلام]. قل لهم: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} أي: بالرسالة للرسل أي:

9

بالعذاب إلى الأمم الظالمة. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ}. أي: لو أنزلنا إليهم الملائكة فكفروا لم ينظروا ولم تقبل لهم توبة، كما فعل ذلك بمن سأل من الأمم الماضية الآيات فكفروا عند إتيانها إليهم فلم ينظروا. وقال ابن جريج جواب {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} في قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر: 14]. أي: نزلنا القرآن وإنا له لحافظون أن يزاد فيه باطل وما ليس منه، أو ينقص منه

10

ما هو منه. قال مجاهد وقتادة. وقد قيل: أن الهاء [التي] في " له " لمحمد A. والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في أمم الأولين. وفي فرق الأولين. وواحد الشيع شيعة. و " رسلاً " / محذوف دل عليه أرسلنا. أي: وما يأتي [من رسول إلى الأمم الماضية فيدعوهم إلى الله {إِلاَّ كَانُواْ بِهِ

12

يَسْتَهْزِئُونَ} أي: يسخرون من الرسل عتواً منهم وتمرداً على ربهم. بمعنى: كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين والاستهزاء بالرسل، كذلك نسلك ذلك في قلوب مشركي قومك. فالهاء في " نسلكه " تعود على التكذيب أو على الاستهزاء. والمعنى: كذلك ندخل الكفر والتكذيب في قلوب المجرمين لما علم الله من سوء اختبارهم وقبيح اعتقادهم. وقيل: الهاء تعود على الشرك. وقيل: على القرآن لأن النبي A كان يقرؤه عليهم. ومعنى نسلكه: نجعله. قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: لا يصدقون بالذكر الذي أنزلناه إليك. {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} وقد خلت وقائع الله [ D] بمن خلا قبلهم من

14

الأمم. وقيل: المعنى وقد تقدمت سنة الأولين في التكذيب بالآيات فهم يقتفون آثارهم. قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء} الآية. أي: لو فتحنا على هؤلاء الذين تقدم ذكرهم وقالوا لو ما تأتينا بالملائكة، باباً من السماء فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم بأعيانهم {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}. قال ابن عباس وقتادة. ومعنى يعرجون: يجيئون ويذهبون. ومعنى سكرت أبصارنا: أخذ بها وشبه علينا. وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: " فظلوا فيه " يعني بني آدم الذين سألوا

أن يأتيهم النبي بالملائكة. والمعنى فظل هؤلاء السائلون لك يا محمد في هذا الباب يجيئون ويذهبون، لقالوا إنما أخذ بأبصارنا وشبه علينا {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ}. وتحقيق معنى " سكرت ": غشيت وغطيت، قاله: ابن عمر. ومن خفف " سُكِرَت " فمعناه حبست، يقال: سَكَرَت الريحُ إذا سَكَنَتْ. وقيل: هو مأخوذ من: سكر الشراب، ومعناه: قد غشي أبصارنا مثل السكر، وهو تفسير ابن عمرو بن العلاء. ومن شدده فمعناه [عنده]: سدت، وهو قول قتادة والضحاك. وقال

16

ابن عباس: معناه: أخذت. وقيل: معنى " سُكِرَت " بالتخفيف سحرت من قول العرب " سكر على فلان رأيه " إذا اختلط عليه فيما يريد. وقال الكلبي: معنى سكرت أبصارنا: غشيت. وكل هذه الأقوال متقاربة المعاني، وقول أبي عمرو أنه مأخوذ من السكر جامع لها كلها. قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} الآية.

17

أي: جعلنا في السماء الدنيا منازل الشمس والقمر {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} أي: زيناها بالكواكب. وقيل: البروج قصور في السماء. أي: حفظنا السماء / من كل شيطان ملعون. وقيل: رجيم هنا بمعنى، مرجوم، أي: مرجوم بالكواكب. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجاً تسترق السمع فيقرب المارد منها فيتعلق فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو ما شاء الله منه فيلتهب. فيأتي

19

أصحابه وهو يلتهب، فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا. فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه أضعافاً من الكذب فيخبرونهم. فإذا رأوا شيئاً مما قالوا قد كان، صدقوهم بما جاءوا به من الكذب. وهذا معنى قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10]. وكان ابن عباس يقول: إِنّ الشهاب لا يقتل ولكن يحرق ويجرح. قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}. والمعنى: والأرض مددناها فبسطناها، لأنه قال: في موضع آخر {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. ومن تحت [ال] بيت الحرام دحيت

الأرض. {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي: في ظهرها جبالاً ثابتة. {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي: في الأرض {مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}. وقال ابن عباس " موزون " معلوم. وقال مجاهد: مقدر، أي: لا يزيد على قدرة الله ولا ينقص كأنه موزون. وقال عكرمة: مقدور.

20

وقال ابن زيد: " موزون " عني به الأشياء التي توزن. يعني: ما في الجبال من معادن الذهب والفضة والرصاص وغير ذلك مما يوزن. فكأنه قال: أنبتنا فيها من كل شيء يوزن كالفضة والذهب والحديد والرصاص والزعفران والعُصْفُر وغير ذلك مما يباع بوزن. أي: جعلنا لكم في الأرض معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين يعني الإِماءَ والعبيد. فيكون " من " في موضع نصب عطف على المعايش. وقيل: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يعني: به الدواب والأنعام، وهو قوله مجاهد.

و " من " على هذا القول: لما لا يعقل وهو قبيح بعيد. وقيل: عني به الوحش. و " من " لما لا يعقل أيضاً. وقيل: " من " في موضع نصب عطف على معنى {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} لأن معناه: أنعشناكم " ومن لستم " أي: وأنعشنا من لستم له برازقين. وقيل: هي في موضع خفض عطف على لكم، وهو مذهب الكوفيين، ولا يجيزه البصريون. وقيل: معنى {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يراد به: العبيد والاماء والدواب والوحش، فلما اجتمع من يعقل، وما لا يعقل، غلب من يعقل فأتى بمن. وهذا القول: حسن، ويكون " من " في موضع نصب حملاً على المعنى على ما تقدم. وقيل: المعنى جعلنا لكم في الأرض معايش بزرعها وثمارها، وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين، يعني: البهائم التي تؤكل لحمها ويعاش منها، ويعني: ما ينتفع به

21

من البهائم مما لا يؤكل/ لحمها، كل قد جعله الله لبني آدم في الأرض رفقاً بهم ونعماً عليهم وفضلاً. قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} الآية والمعنى: وما شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه. {وَمَا نُنَزِّلُهُ} يعني: المطر {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي: ينزل إلى كل أرض حقها الذي قدر الله لها. وليس أرض أكثر من أرض ولا عام أكثر مطراً من عام، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، عاماً هنا وعاماً هنا. ويمطر قوماً ويحرم قواماً، وربما كان في البحر. وروي أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحضرون كل قطرة حيث تقع وما تنبت. وقيل: معنى " عندنا خزائنه " أي: نملكه ونقدر عليه ونصرفه حيث

22

نشاء وكيف نشاء. قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}. [أي: وأرسلنا الرياح] تلقح الشجر والسحاب. وكان الأصل أن يجمع على ملاقح، لأنه جمع ملقحة، من: القحت الريح الشجر. فاللاقح هي الشجر والسحاب كما يقال: ناقة لاقح. والملقح هي الريح، ولكن جمع على حذف الزيادة، فكأنه جمع لاقحاً. وأكثر ما يقع حذف الزيادة في الشعر. وقال بعض الطوفيين: وصفت الريح باللقح وهي تلقح، كما يقال: ليل نائم، وإنما النوم فيه. وقيل: لما كانت الريح تلقح بمرورها على التراب والماء، قيل لها: ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح.

وقيل: هو موضوع على النسب كأنه قال: ذوات اللقاح، كأنها تلقح السحاب. كما قيل: في التفسير [و] هذا قول: أبي عمرو. وقيل: لواقح جمع لاقح، أي حامل. سميت الريح لاقحاً لأنها تلقح السحاب، والعرب تقول: للجنوب لاقح وحامل وللشمال حائل وعقيم، وقد قال الله D { وحتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} [الأعراف: 57]. وأقلت: معناه: حملت. فأما من وحد الريح، ووصفه بلواقح فهو حسن لأنه موحد يراد الجمع، قال الله [تعالى] {والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 17] يريد " والملائكة ".

وقال ابن مسعود في الآية: يرسل الله الريح فتحمل الماء فتمري السحاب فيدر [كما تدر] اللقحة، ثم تمطر. قال قتادة: " لواقح " تلقح الماء في السحاب. وقال النخعي والحسن: لواقح تلقح السحاب. وقال عبيد بن عمير: يبعث الله الريح المبشرة فَتَقُمُّ الأرض قماً، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المُؤَلَّفَةَ فتؤلف السحاب ثم يبعث اللقوح فتلقح الشجر.

وقال الضحاك: يبعث الله الريح على السحاب فتلقح [هـ] فيمتلئ ماء. وقال النبي A: " الريح الجنوب من الجنة وهي الريح اللواقح. وهي التي ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس ". وقيل: الريح اللاقح، هي: التي تحمل الندى، ثم تمجه في ماء السحاب. فإذا اجتمع فيه صار مطراً بإذن الله [ D] ، ويسبب تلقيحها السحاب تلقح الأشجار. وال [ل] واقح في جميع ذلك بمعنى ملاقح، لأنه من القحت الريح

السحاب والشجر ولكنه جمع على حذف الزيادة على ما ذكرنا. ثم قال تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً}. أي مطراً {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي أسقينا به أرضكم ومواشيكم. ولو كان لشربهم لقال: " فسقيناكموه ". تقول [العرب] إذا سقت الرجل ماء فشربه: سقيته، فإن كان لشرب أرضه وماشيته قالوا: [أ] سقيته. وكذلك [ان] أ [ست] سقيت له غيرك أن يسقيه قلت " اسقيته.

23

قوله {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}. أي: لستم تخزنون هذا الماء فتمنعونه من أحد، بل ذلك بيد الله يسقيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء. وقال سفيان: " بخازنين " بما نعين. أي: نرث الأرض ومن عليها بأن نميت جميعهم. قال عكرمة: المستقدمين من خلق الله إلى اليوم. والمستأخرين من لم يخلق بعد. وكذلك روي عن قتادة ومجاهد: وقال ابن عباس والضحاك وابن زيد: المستقدمين

من مات، والمستأخرين من بقي حياً. وقيل معناه: أو [ل] الخلق وآخره. وقيل: معناه: ولقد علمنا المستقدمين من الأمم والمستأخرين [من] أمة محمد [ A] . روي ذلك عن مجاهد أيضاً. وقال الحسن معناه: المستقدمين في الخير والطاعة والمستأخرين في المعصية. وعن ابن عباس أن معناه: المستقدمين في الصفوف في الصلاة والمستأخرين، قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله A، قال ابن عباس: لا والله ما رأيت مثلها قط. قال: فكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا، وبعضهم يستأخ [رون] فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل الله الآية. وعن ابن عباس المستقدمين

25

[من] الصف الأول والمستأخرين الصف الآخر. وقال مروان بن الحكم: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء. والاختيار قول من قال أريد به من مات ومن بقي حياً، ودليل ذلك قوله بعد [هـ]: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ}. وعن عكرمة: المستقدمين من خرج، والمستأخرين من لم يخرج. وقال مجاهد: علم المستقدمين من الأمم والمستأخرين وهم أمة محمد A. أي: يحشر الأول والآخر فيجمعهم يوم القيامة. إنه حكيم في تدبيره، عليم بعدد خلقه وأعمالهم.

26

قوله [تعالى]: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} إلى قوله: {الوقت المعلوم}. الإنسان هنا آدم [ A] . [ و] الصلصال الطين اليابس الذي لم تأخذه نار، فإذا نقر صلصل، أي: صوت. وقال ابن عباس خلق [الله] آدم [ A] من ثلاثة: من صلصال، ومن حمأ، ومن طين لازب. [فاللازب] اللاصق، والحمأ الحمأة، والصلصال التراب المدقق. وسمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي. وقال قتادة: الصلصال التراب اليابس الذي يسمع له صلصة.

وقال الضحاك: هو طين صلب يخالطه الكثيب يعني: الرمل. وقال مجاهد: / الصلصال المنتن. أخذ من صل اللحم [واصل] إذا انتن، وأصله على هذا [القول]: " صلال "، ثم أبدل من اللام الثانية صاد. وهذا التأويل ينقصه قوله: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمان: 14] فشبه [هـ] بالفخار، والفخار ليس بمنتن. لكن قوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يريد كونه متغير [اللون و] الرائحة. لأن الحمأ متغير الرائحة، دليل [هـ] قوله: " مسنون ". والمسنون عند ابن عباس المتغير الرائحة، وكذلك قال مجاهد، وهو قول: أبي عمرو [و] الكسائي. وقال غيرهم: مسنون

مصبوب. من سننت الماء: صببته. وقال الفراء: هو طين مختلط برمل فيسمع له صلصة. وقال أبو عبيدة: يقال للطين: صلصال، ما لم تأخذه النار. فإذا أخذته فهو فخار. وكل شيء له صوت، سوى الطين، فهو صلصال. و" الحمأ " جمع حمأة وهو الطين الم [ت] غير إلى السواد. و " المسنون " المنتن

في قول ابن عباس، ومجاهد، وأبي عمرو، والكسائي. وقال أبو عبيدة: المسنون: المصبوب. يقا [ل] سننت الشيء إذا صببته. وسننت الماء على وجهه: صببته. وعن ابن عباس: المسنون الرطب. فهذا يوافق قول أبي عبيدة، لأنه لا يكون مصبوباً حتى يكون رطباً. وقال الفراء: المسنون المحكوك من سننت الحديد. ولا يكون على هذا إلا متغيراً. وقيل: المسنون المصبوب على مثال وهيئة، من سننت الوجه. ثم قال [تعالى]: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم}.

والمعنى: إبليس خلقناه من قبل آدم من نار السموم. والسموم عند ابن عباس الحار الذي يقتل كل شيء. وقال الضحاك: معناه: من لهب من نار السموم. والعرب تستعمل السموم بالليل والنهار. وقيل: [إن] السموم إنما يكون بالليل والحرور بالنهار. [و] قال ابن مسعود: نار السموم التي خلق الله [ D] منها الجان. والسموم الشديد والحر، جزء من سبعين جزءاً من نار السموم التي الله

خلق الله [ D] منها الجان. وفي حديث عن النبي A: " نار السموم جزء من سبعين جزآ من جهنم ". قال الضحاك: {مِن نَّارِ السموم} من لهب النار. ويروى أن الله جلّ ذكره: خلق نارين، ناراً فيها السموم وناراً ليس فيها السموم. فمزج واحدة في الأخرى، فأكلت النار التي فيها السموم، النار الأخر [ى] فخلق إبليس منها. قال الحسن: نار السموم، نار دونها حجاب، والذي تسمعونه من الصواعق من انغطاط الحجاب. والسموم في الأصل: الريح الحارة. وقال وهب بن منبه: الجن أجناس: منهم من يأكل ويشرب وينكح، وأما

خالص الجن ريح لا يأكل [ون] ولا يشربون. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ}. أي: واذكر يا محمد، إذ قال ربك هذا. قال ابن عباس لما خلق الله [ D] الملائكة قال: إني خالق بشراً من طين فإذا خلقته وصار حياً فاسجدوا، وهذا السجود سجود تكرمة وتحية لا سجود عبادة. وقوله: {مِن رُّوحِي}. قال الضحاك: من قدرتي، وتحقيق الأمر أنه إضاف [هـ] خلق إلى خالق، فالروح خلق الله [سبحانه]، إضافة إلى نفسه، لأنه اخترعه وخلقه. كما يقال: خلق [الله] وأرض الله، وسماء / الله، وهو كثير. هذا قول أهل المعرفة بالمعاني

فافهمه. " فلما خلقه الله [ D] أبوا أن يسجدوا، فأرسل عليهم نار [اً] فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة، وقال لهم مثل ذلك، فقالوا: سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين، أي: من الأولين الذين امتنعوا من السجود. وقيل: كان من الكافرين في اللوح المحفوظ. فعلى هذا القول: يكون قوله: " إلا إبليس " استثناء من الجنس. وقال أبو إسحاق: إنه استثناء ليس من الأول. فجعل إبليس: ليس من الملائكة. فلما امتنع من السجود قال له الله: ما منعك أن تكون من الساجدين؟ قال إبليس تكبراً وتجبراً وحسداً لآدم: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}، أي: أنا خير منه، لأنك خلقته من طين وخلقتني من نار. والنار تأكل الطين فلا أسجد له.

قال الله له: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، أي: أخرج من السماوات. فإنك مرجوم أي: مشتوم. {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة} أي: الغضب {إلى يَوْمِ الدين} أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة. قال إبليس: رب إذا أخرجتني من السماوات ولعنتني {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: أخرني ولا تمتني، إلى يوم يبعث ولد هذا الذي فضلت علي، قال الله [ D] { فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} أي: من المؤخرين فلا تموت إلى يوم الوقت المعلوم أي: [يوم] هلاك جميع الخلق.

قال سفيان: " الوقت المعلوم " النفخة الأولـ[ـى].

39

قوله تعالى: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض}. معناه: قال إبليس يا رب [بما] خيبتني من رحمتك لأزينن لولد آدم {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}. يقال أغويته إذا خيبته ومنه قول الشاعر: فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي: من يخب فلا يصب خيراً لا يعدم على خيبته من يلوم [هـ]. وقيل: التقدير: بالذي أغويتني. وقيل: معناه: بإغوائك إياي. ومعنى {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} لأحسنن لهم المعاصي ولأحببنها إليهم في الأرض {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} أي: لاضلنهم عن سبيلك إلا من أخلصته بتوفيقك

41

فهديته فلا سلطان لي عليه. فهذا على قراءة من فتح اللام في " المخلَصين "، فأما من كسرها فمعناه: إلا من أخلص طاعتك بتوفيقك إياه إلى ذلك فلا سبيل [لي] عليه. قال الضحاك: هم المؤمنون لا سبيل له عليهم. [أي]: هذا طريق مرجعه إليّ فأجازي كلاً بأعمالهم، لقوله {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] وهذا تهديد ووعيد بمنزلة قول الرجل لمن يتواعده: طريقك [هذا] علي. هذا قول

42

مجاهد. وقيل معناه: هذا صراط على امري وإرادتي. وقرأ ابن سيرين، وقيس بن عباد، وقتادة، ومجاهد وعباد ويعقوب والحسن: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} جعلوه من العلو أي هذا صراط رفيع. قال [تعالى] {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}.

أي: حجة، قال مجاهد: إن عباد [ي] الذين قضيت لهم بالجنة {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. وقوله: {إِلاَّ مَنِ اتبعك}. أي: قبل دعوتك فإنه {مِنَ الغاوين} [أي: من الظالمين] وأنَّ جهنم لموعد من اتبعك أجميعن. {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي سبعة أطباق، طبق تحت طبق، لكل طبق منهم، أي: من اتباع إبليس {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أي: تصيب مقسوم. وقيل: معناه لكل جنس منهم من العذاب على قدر منزلته من الذنوب. وقال علي بن أبي طالب: [Bهـ: عدد] أبواب جهنم سبعة، بعضها فوق بعض فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تملأ كلها وهو قول: عكرمة وقتادة. وروي عن النبي A أنه قال: " لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على

أمتي " أو " على أمة محمد A ". وقال ابن جريج: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي: أطباق، أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، والجحيم: فيها أبو جهل. قال الربيع بن أنس: أما الهاوية فلا يخرج منها شيء دخلها أبداً، إنما تهوي [به] أبداً، [هي] دار آل فرعون، والكفار، وكل جبار عنيد. قال عكرمة: على كل باب [منها سبعون ألف سرادق من نار، في كل سرادق منها سبعون ألف قبة من نار في كل قبة منها] سبعون ألف تنور من نار. لكل نار

منها سبعون ألف كوة. في كل كوة سبعون ألف صخرة من نار. على كل صخرة سبعون ألف حجر من نار. وفي كل حجر سبعون ألف عقرب من نار. لكل عقرب منها سبعون ألف ذنب من نار. لكل ذنب منها سبعون ألف [قفارة من نار. في كل قفارة منهن سبعون ألف] قلة من سم وسبعون ألف موقد يوقدون ذلك بالغار. وإن أول من يصل من أهل النار إلى النار يجدون على الباب من أبوابها أربع مائة ألف من خزنة جهنم، سود وجوههم كالحة، وأنيابهم، قد نزع الله الرحمة من قلوبهم. ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة. لو يطير الطائر من منكب أحدهم، لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الأخرى. قال: ثم يجدون في الباب التاسعة عشر خزنة الذين [قال] جلّ ذكره: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً. ثم يهوون من باب إلى باب خمس مائة سنة غرقاً في النار. ويجدون على كل باب منها من الخزنة مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها. قال:

وهو قول الله [ D] : { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77]. قال وهب بن منبه: عن ابن عباس، أو عن كعب: " كل باب أسفل من صاحبه أشد حراً من الباب الذي فوقه بسبعين ضعفاً. فالبا [ب] الأول أهونها حراً، ولو أن رجلاً في المشرق وكشف / عن جهنم بالمغرب لسال دماغه من حرها من منخريه. وأول أبوابها: جهنم في [هـ] أهل الذنوب والمعاصي من أهل القبلة من مات منهم مقيماً على الكبائر غير تائب، من شاء الله إدخاله النار بكبائره منهم. والباب الذي يليه: لظى. والباب الثالث: الحطمة. والرابع: السعير، والخامس سقر، والسادس: الجحيم، والسابع: الهاوية. وبين [كل بابين] مسيرة سبعين سنة. {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} يعني من الجن والإنس. وأصل ليس، عند سيبويه

فعِل كصَيِدَ، ثم اسكنت كما قالوا عَلْمَ في علم. ولم يستعمل الأصل إذ لم يتصرف، فجعلوا اعتلاله إزالة حركة عينه لا غير. وقال الزجاج: لم يتصرف لأنها تنفي المستقبل والحال والماضي، فلم يحتج فيها إلى تصرف. وقال محمد بن الوليد لم يتصرف لمضارعتها " ما ". وقال أبو غانم: لم يتصرف لأنها نعت. وحق الأفعال أن تنفى ولا تنفي وإنما النفي للحروف فلما خرجت عن بابها إلى باب الحرف منعت التصرف كما منعه الحرف.

45

قوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ [آَمِنِينَ]) [45] إلى قوله (الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [50] قال ابن عباس: الجنات سبع: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، ودار الخلود. يقال لمن اتقى المعاصي ولزم الطاعة لله: ادخلوها بسلام آمنين من عذاب الله ومن نكبات الدنيا ومن الموت. قال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا}. أي: نزعنا ما فيها من الحقد و [ال] عداوة. يقال: غل يغل من الشحناء. وغل يغل من الغلول. وأغل يغل من الخيانة. قال أبو أمامة: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من

الشحناء والضغائن، حتى إذا تقابلوا نزع الله [ D] ما في صدورهم من غل وشحناء. وروي عنه أنه قال: لا يدخل [ال] مؤمن الجنة حتى ينزع الله [ D] ما في صد [و] رهم من غل، وينزع [منه] مثل السبع الضاري. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: فينا أهل بدر نزلت الآية. وقال علي لابن طلحة: اني لارجو أن يجعلني الله وإياك من الذين ينزع [الله] ما في صدورهم من غل، ويجعلنا إخواناً {على سُرُرٍ متقابلين}. وروي عنه أنه قال [إني] لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا على سُرُرٍ متقابلين}.

وعن النبي A أنه قال: " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت في الدنيا. حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن الله لهم في دخول الجنة. فةالذي نفسي محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة [منه] بمنزله الذي كان في الدنيا ". ومعنى {متقابلين} يقابل بعضهم بعضاً لا يستدبره، قال مجاهد: لا ينظر واحد منهم إلى قفا صاحبه. وقيل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أزلنا عنهم الجهل والغضب وشهوة ما لا ينبغي حتى زال التحاسد. وروي عن النبي A أنه قال: " إن الغل على أبواب الجنة كمبارك الابل إذ [ا]

نزع من صدور [المؤمنين] ". وروي عن علي [Bهـ] أنه قال: " إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إخوانا على سُرُرٍ متقابلين}. وروي عنه أنه قرئت عنده الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} فقال: ألا ذاكم عثمان وأصحابه، وأنا منهم. وعن النبي A أنه قال: " إذا تقابلوا وترافقوا في الجنة نزع الله ما في صدورهم من غل ". " وسرر " جمع سرير في أكثر العدد. ويقال سُرَر في جمعه بفتح الراء الأول.

48

قال [تعالى]: {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ}. أي: لا يلحقهم وجع ولا تعب ولا ضرر ولا ألم {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أي: خالدون فيها أبداً. قال تعالى ذكره: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم}. أي: أخبر يا محمد عبادي عني {أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} أي: الساتر لذنوبهم إذا تابوا واستقاموا. الرحيم بهم أن أعذبهم على ما تقدم من ذنوبهم بعد توبتهم واستقامتهم. وخبرهم أيضاً يا محمد {أَنَّ عَذَابِي} لمن أصر على المعاصي والكفر {هُوَ العذاب الأليم} أي المؤلم يعني الموجع لا يشبهه عذاب. وهذا كله تحذير لعباده وتخويف وإطماع في رحمته. وروي عن النبي A أنه قال: " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه ".

51

وروي عنه [ A] " أنه خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار؟ " فشق ذلك عليهم ف [أ] نزل الله جلّ ذكره {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} قوله: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {[ا] لضآلون}. المعنى وخبِّر عبادي يا محمد عن أصحاب ضيف إبراهيم، وهم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم حين أرسلهم الله لإهلاكهم قوم لوط وليبشروا إبراهيم بإسحاق [ A] . قال الضيف لإبراهيم {سَلاماً} قال إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} أي: لا تخف {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وهو إسحاق. وقال الزجاج: إنما خاف إبراهيم منهم لما قدم إليهم العجل فرآهم لا

يأكلون. فقال {أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} أي: لأن مسني، وبأن مسني. وكان إبراهيم في ذلك الوقت ابن مائة سنة. وكانت زوجته سارة بنت تسع وتسعين سنة. قال مجاهد: عجب إبراهيم من هذه البشرى مع كبره وكبر امرأته فاستفهم فقال {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أنا كبير وامرأتي كبيرة لا تلد. قالت الملائكة: {بَشَّرْنَاكَ بالحق} أي: بالخبر اليقين أن الله [تعالى] يهب لك غلاماً فلا تكونن من القانطين، أي من الآيسين من فضل الله [ D] ولكن أبشر بما بشرناك به. قال إبراهيم [لهم]: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ [إِلاَّ] الضآلون} أي من ييأس من فضل ربه إلا من] ضل عن سبيل الله.

57

يقال: قنط [يقْنِط ويقْنُط] قنوطاً فهو قانط، وقَنِط يَقْنَط يَقْنَط قنطاً فهو قَنِط وقَانِط. ويروى: أنهم بشروه أن الله جلّ ذكره قضى أن يَخْرجَ من ذريتك مثل ما أخرج من صلب نوح وأكثر. قوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون}. معناه: قال إبراهيم للملائكة: فما شأنكم وما أمركم أيها المرسلون؟ قالوا له {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ}. أي: مكتسبين المعاصي والكفر بالله. ثم استثنى منهم آل لوط فقال: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: من العذاب. ثم استثنى من آل لوط امرأته فقال: {إِلاَّ امرأته} فصارت المرأة مع المعذبين. ومعنى: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} أي: قدرنا عملنا فيها أن تكون مع الباقين في

61

العذاب. وقيل: معناه: كتبنا ذلك وأخبرنا به. وقيل: معناه: قضينا ذلك. و" آل لوط " هنا أتباعه على دينه. و " الغابرين " الباقين في العذاب. قال تعالى {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون}. أي: فلما أتى رسل الله إلى لوط، أنكرهم لوط ولم يعرفهم. وقال لهم {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي: لا نعرفكم. قالت له الرسل: بل نحن رسل الله جئناك بما قومك فيه يشكون أنه نازل بهم من عذاب الله على كفرهم {وَآتَيْنَاكَ بالحق} أي: جئناك [ب]- الحق من عند الله وهو العذاب {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فيما أخبرناك به من الله بهلاك قومك. ثم قالوا له: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} أي: في بقية من الليل واتبع يا لوط أدبار أهلك الذين تسرى بهم، أي: كن من ورائهم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}

66

أي: حيث يأمركم الله. قال الزجاج: أمر بترك الالتفات لئلا يرى عظيم ما نزل قومه. وقيل: نهي عن الالتفات إلى ما في المنازل من الرجال لئلا يقع الشغل به عن المضي. قال تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر}. أي: أوحينا إلى لوط ذلك الأمر. ثم فسر ما هو الذي أوحى إليه فقال: " إن دابر هؤلاء مقطوع " فهذا الذي أعلمه الله وأوحى به إليه. ومعنى: " دابر هؤلاء مقطوع " آخرهم يستأصل صباحاً. قوله: {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ}. المعنى: وجاء أهل المدينة، [مدينة] سدوم، وهم قوم لوط، يستبشرون لما سمعوا أن ضيفاً قد نزل عند لوط طمعاً في ركوبهم الفاحشة، قال قتادة. والضيف يقع للواحد والجمع والاثنين بلفظ واحد لأنه مصدر في الأصل.

قال لهم لوط {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} فيهم {واتقوا الله} فيهم {وَلاَ تُخْزُونِ} أي: ولا تذلون ولا تهينون فيهم بالتعرض إليهم بالمكروه. قالوا له {أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} أي: [عن] ضيافة أحد من العالمين. وقيل المعنى: ألم ننهك أن تجير أحداً علينا وتمنعنا منهم. قال لهم لوط A { هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}. قال قتادة: أمرهم لوط أن يتزوجوا النساء. ومعنى {إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}، [أي: فاعلين] ما أمركم / الله به. وقيل: [المعنى]: إن كنتم مريدين بهذا الشأن فعليكم التزويج ببناتي. وكل

72

نبي أزواجه أمهات أمته، وأولاد أمته أولاده. فعلى ذلك قال لوط {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} وعلى ذلك قربءوا " أزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ". فرفع لعمر على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال لعمرك قسمي، أو ما أقسم به. وحسن الحذف لأن باب القسم باب حذف. والمعنى: أي وحياتك يا محمد أن كفار قومك من قريش {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} أي: ضلالتهم {يَعْمَهُونَ} أي: يترددون. وقال ابن عباس: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد [ A] ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره.

وعمرك أصله ضم العين لأنه من العمر والتعمير ومنه قول الرجل لعمري إنما أقسم بمدة حياته. ولكن كثر استعمالهم له في القسم ففتحوا العين، ولا يفتح إلا في القسم خاصة. فإنما أقسم الله جلّ ذكره [بعمر] النبي A كأنه قال: وبقائك في الدنيا يا محمد. قال أبو الجوزاء: ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد A، لأنه أكرم البشر عنده. وقيل: معناه وعيشك يا محمد أن قريشاً لفي سكرتهم [يتمادون]. وقال مجاهد: " يعمهون " يترددون. ثم قال تعالى ذكره: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) [73].

73

أي: أخذتهم الصاعقة عند شروق الشمس. يقال: أشرق القوم إذا صادفوا شروق الشمس، وأصبحوا إذا صادفوا الصبح. وشرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا ضاءت وصفت. وقيل: شرقت وأشرقت بمعنى. والأول أحسن وأكثر. ومعنى " مشرقين " مصادفين شروق الشمس وهو طلوعها. قال: [تعالى ذكره]: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي: جعلنا عالي أرضهم سافلها {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي: من طين. وقد تقدم ذكر سجيل في هود بابين من هذا. ويروى أن سجيلاً [اسم] لسماء الدنيا.

75

أي: في هذا العذاب لعلامات ودلائل على قدرة الله وتوحيده ووجوب طاعته واتباع رسله وكتبه للمتفرسين المعتبرين. قال مجاهد: " للمتوسمين " المتفرسين. وقال قتادة للمعتبرين. وقال ابن عباس: للناظرين، وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: للمتفكرين والمعتبرين الذين يتوسمون الأشياء ويتفكرون فيها ويعتبرون. وروي عن النبي A أنه قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ".

76

وعن النبي A أنه قال: " إن [لله] عباداً يعرفون الناس بالتوسم ". وحقيقة التوسم: النظر بالتثبت حتى يعرف الحقيقة. فهذا كله متقارب في العمنى. وهذه الآية تنبيه لقريش لأن يتعظوا ويزدجروا بما نزل بقوم / لوط وغيرهم. أي: وإن سدوم المنقلبة بقوم لوط لبطريق واضح يراها المجتاز بها، لا يخفى مكانها. وقيل: المعنى وإن الآيات {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ}. أي إن في صنيعنا بقوم لوط لعلامة و [دلالة] لمن آمن بالله على انتقامه من

78

أهل الكفر. وقيل: الهاء تعود على الحجارة. وروي عن النبي A أنه قال: " أن الحجارة لموقفة في السماء منذ ألفي عام لظالمي أمتي إذا عملوا بأعمال قوم لوط ". وعنه A أنه قال: " سيكون خسف وقذف من السماء وذلك إذا عملوا بأعمال قوم لوط " ثم تلا النبي A الآية [إلى {مُّقِيمٍ}] ". قوله: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} إلى قوله {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. المعنى: وما كان أصحاب الأيكة إلا ظالمين. والأيكة الشجر المتلف، وهو شجر المقل. فال قتادة " أصحاب الايكة أصحاب غيضة. وكان عامة شجرهم الدوم. وكان رسولهم شعيب E،

أرسل إليهم وإلى أهل مدين. أرسل إلى أمتين من الناس. وعذبتا بعذابين. أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة. [وأما] أصحاب الايكة فكانوا أصحاب شجر فسلط الله عليهم الحر سبعة أيام يظلهم منه ظل ولا يستتر منه شيء. فبعث الله [سبحانه] [سحابة] فحلوا تحتها يلتمسون الروح منها. فجعلها الله عليهم عذاباً. فبعث عليهم ناراً فاضطرمت عليهم فأحرقتهم فذلك قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء: 189] وذلك قوله {فانتقمنا مِنْهُمْ}. وروى أن أصحاب الأيكة قوم من جُذام كانوا نزولاً بجوار الأيك. والأَيْكُ الدوم، والدوم شجر المقُل. بعث الله إليهم شعيباً. وهو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. وكانوا جيرانه، وقيل: كانوا أخواله. قال ابن جبير: " الأيكة "

غيضة. ثم قال تعالى ذكره {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ}. أي: أن أصحاب الأيكة وقوم لوط لفي كتاب كتبه الله. وقيل: المعنى: وإن الموضعين اللذين هلك فيهما قوم لوط وقوم شعيب، لبطريق واضح يأتم به الناس في أسفارهم ويعاينونه. وروى ابن عمر أن النبي A قال: " لا تدخلوا [على] هؤلاء القوم المعذبين يعني أصحاب الحجر، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم] ما أصابهم ". [وقيل: المعنى وإن لوطاً وشعيباً لبطريق من الحق يؤتم به أي: على طريق واضح من الحق].

ثم قال: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين}. أي: سكان الحجر وهي مدينة ثمود. وكان قتادة يقول هم أصحاب الوادي. والحجر اسم الوادي. وعن النبي A أنه قال لما خلف بالحجر: " هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلا [رجلاً] كان في حرم الله فمنعه حرم الله من عذاب الله وهو أبو رغال ". وقال الزجاج: هم أصحاب واد. ثم قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا [فَكَانُواْ]}. أي: أعطيناهم أدلتنا وعلامات توحيدنا فأعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها. ثم قال: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال}.

85

{بُيُوتاً آمِنِينَ}. أي: كان ثمود، وهم قوم/ صالح ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين من عذاب الله. وقيل: آمنين أن تنهدم عليهم. وقيل: آمنين من الموت. {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} أي: صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرابع الذي وعدوا فيه العذاب، إذ قيل: لهم {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]. فلم يغن عنهم عند ذلك ما كسبوا من الأعمال الخبيثة ولا من عرض الدنيا. قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} إلى قوله: {أَنَا النذير المبين}. المعنى وما خلقنا الخلائق كلها إلا بالحق {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} أي: أن القيامة لجائية، فارض بها يا محمد لمشركي قومك الذين كذبوا ما جئتهم به. ثم قال: {فاصفح الصفح الجميل} أي: فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً واعف عنهم عفواً حسناً. وهذه الآية منسوخة عند جماعة، بالأمر بالقتال وإنما كان هذا قبل أن يؤمر

بقتالهم، قال قتادة والضحاك ومجاهد. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني}. قيل: السبع المثاني السور الطوال وسميت مثاني لأنها تثنى فيها الأمثال والخبر والعبر والحدود والفرائض، قاله: ابن عباس ومجاهد وابن عمر وابن جبير وابن سيرين. [وهي] البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس. وقيل: السابعة الأنفال وبراءة. وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود Bهما: السبع المثاني آيات الحمد، لأنهن سبع آيات. وهو قول: أبي بن كعب. وروي ذلك عن النبي A قال: هي أم القرآن. وقاله: أبو هريرة وعلي وعمر

وابن مسعود والحسن وقتادة. وسميت مثاني لأنها تثنى لأنها تثنى في كل ركعة أي: تعاد. وقيل: المثاني القرآن غيرها. والمعنى سبع آيات من القرآن الذي هو مثاني. أي: تثنى فيه القصص والمواعظ والأخبار دل على ذلك قوله {مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: 23] فالمعنى: ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات، وهي الحمد، من المثاني أي من القرآن. وقيل: السبع المثاني ما في القرآن من الأمر والنهي والبشرى والإنذار وضرب الأمثال وإعداد النعم وآتيناك نبأ القرآن العظيم. وعن ابن عباس أن سورة الحمد هي المثاني/ وإنما سميت مثاني لأن الله [جلّ] ذكره استثناها لمحمد A دون سائر الأنبياء فادخرها له. وعن ابن عباس: أخرجها لكم وما أخرجها لأحد كان قبلكم.

وقيل: " السبع المثاني ": الحمد " والقرآن العظيم " الحواميم. وقال علي وأبو هريرة: والسبع المثاني، فاتحة الكتاب، قاله قتادة ومجاهد. وقيل: المعنى وآتيناك سبع آيات وهي الحمد {مِّنَ المثاني} من القرآن، فمن للتبعيض. و [قوله] {والقرآن العظيم} عني به الحمد على قول من رأى السبع المثاني [السبع] الطوال. وقيل: [هي] القرآن كله. ثم قال تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}. معناه / استعن بما آتاك الله من القرآن عما في أيدي الناس. ومنه حديث النبي A: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي: يستغني به عن المال. وعلى هذا تأول الحديث سفيان بن عيينة، وتأول الآية. وروى: من حفظ القرآن فرأى أن أحداً

أعطي أفضل مما أعطي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً. فالمعنى: لا تتمنين ما جعلنا من زينة الدنيا متاعاً للأغنياء من قومك المشركين {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}. أي: على ما متعوا به من ذلك. فعجل لهم في الدنيا فإن لك في الآخرة مما هو خير لك من ذلك. ومعنى: {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أمثالاً منهم، يعني: الأغنياء منهم. والأزواج في اللغة: الأصناف. {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}. أي: ألن جانبك لمن آمن بل وقربهم من نفسك. والجناحان من ابن آدم جنبناه، والجناحان الناحيتان، ومنه قول الله تعالى {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22].

90

وقيل: معناه: إلى ناحيتك وجنبك. وقل للمشركين {إني أَنَا النذير المبين} أي أنا [النذير] المنذر لكم عذاباً. {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين}. أي: مثل العذاب الذي أنزلنا على المقتسمين " المبين " لكم ما جئتكم به من الإنذار والأعذار والوعد والوعيد. قوله: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين}. الكاف من " كما " في موضع نصب نعت [لمصدر محذوف]. و [قيل]: للمفعول المحذوف، أي: النذير عذاباً مثل العذاب الذي أنزلنا على المقتسمين.

قال ابن عباس: المقتسمين اليهود والنصارى، قسموا القرآن فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال مجاهد: هم أهل الكتاب جزءوا القرآن فجعلوه أعضاءً، آمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال عكرمة: هم أهل الكتاب اقتسموا القرآن، استهزءوا به فقال بعضهم: هذه السورة لي، وقال آخر: هذه السورة لي. وعن مجاهد أيضاً: هم أهل الكتاب اقتسموا كتابهم فكفر بعضهم ببعضه، وآمن الآخرون بذلك البعض، وكفروا [ب] بعض آخر. وقال قتادة: هم قوم من قريش خمسة عضهوا كتاب الله [ D] .

وقيل: عني بذلك قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله، وهم تسعة، قاله ابن زيد. وقيل: هم قوم اقتسموا طريق مكة أيام مقدم الحاج بعثهم أهل مكة ليشيعوا في كل ناحية عند كل من يقدم مكة [من الناس] أن محمداً مجنون وأنه شاعر وأنه ساحر. قال ابن عباس: هم اثنا عشر رجلاً من قريش اقتسموا على أعقابِ مكة لمن يقدم مكة من الناس ليصدوهم عن نبي الله. فيقول بعضهم: هو كاهن، وبعضهم هو شاعر، وبعضهم هو مجنون. وقيل: هم قوم أقسموا ألا يؤمنوا بمحمد A ولا يفارقوا الانحراف عنه، والطعن عليه.

وقال عطاء: هم قوم من قريش فرقوا القول في القرآن / فقال بعضهم: هو سحر وقال آخرون: هو شعر وقال آخرون: هو أساطير الأولين. وعن ابن عباس أيضاً في {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} أي: فرقوه فرقاً. وهو مشتق من العَضْو، والمحذوف منه على هذا القول واو. والكسائي يذهب إلى أنه من: عَضَهْت الرجل، إذا رميته بالبهتان. والتصغير على هذا القول الأول " عضية " وعلى قول الكسائي عُضَيْهَة. وقال الفراء: العِضُون في كلام العرب المتفرقون. واستجيز جمعه بالواو والنون عند البصريين ليكون ذلك عوضاً مما حذف منه. وحكى الفراء أن من العرب من يقول: هذه عضينك. فتركه بالياء في كل حال، ويجعل الإعراب في النون، بمنزلة ذهبت سنينك في لغة من

جعلها بالياء على كل حال وجعل الاعراب في النون. [قال]: وهي كثيرة في أسد وتميم وعامر. توهموا أن الواو واو فعول لما وقعت موضع حرف ناقص [و] قلبوها ياء لأنها أخف من الواو وجعلوا الاعراب في النون. كما قال بعضهم سمعت لغاتَهم. فنصب، وحق التاء الكسر في النصب والخفض كتاء " مسلمات ". لمن نصبها في موضع النصب كما تقول: سمعت أصواتهم. فمن قال في التصغير عضيهة، وجعله على عضين، قال: فعلت به ما فعلت ببرة وبرين. وحذفت الهاء كما حذفتها من شفه وأصلها شفهة وتصغيرها [شفيهة. ومثله شاة وتصغيرها] شويهة، وأصلها شاهه وجمعها شياه. كما تقول في شفه: شفاه. ومن أخذه من عضيت أي: فرقت أعضى تعضية فهو من قول الشاعر: " وليس دين الله بالمعضى " ... أي بالمفرق.

92

قال [تعالى]: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}. أي: فوربك يا محمد لنسئلن هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين في الآخرة عما كانوا يعملون في الدنيا. وقيل: معناه، لنسئلن هؤلاء عن شهادة أن لا إله إلا الله. قاله: ابن عمر ومجاهد. قال ابن مسعود: والذي لا إله غيره، ما منكم أحد إلا سيخلو الله [ D] به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر فيقول: ابن آدم [ماذا] أخرك مني؟ ابن آدم ما عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟. [قال أبو العالية: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عن ما كانوا

يعبدون وعن ما أجابوا المرسلين]. وعن ابن عباس في قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ثم قال في موضع آخر: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] معنى الأول يسألهم لم عملتم كذا وكذا، ومعنى الثاني لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه عالم بذلك. قال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} إلى آخرها. روى ابن عمر أن النبي A [ قال] " كلكم مسئول يوم القيامة: فالإمام يُسْأل عن الناس وعن رعيته. والرجل يُسْأَل عن أهله وولده/ والمرأة تُسْأل عن بيت زوجها. والعبد يُسْأل عن مال سيده ". وعن النبي A أنه قال: " ما من راع استرعى رعية إلا سأله الله يوم القيامة عن

94

رعيته، هل أقام فيهم أمر الله أم أضاعه، حتى أن الرجل ليُسْألَ عن خاصته وأهل بيته ". قال معاذ بن جبل: " لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسْأَل عن أبعة، عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه وعن عمله كيف عمل فيه ". وروى عن النبي A أنه قال: " يسألون عن شهادة أن لا إله إلا الله ". قال تبارك وتعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ}. معناه، بلغ ما أرسلت به إليهم، قال ابن زيد. وقال ابن عباس: معناه افعل ما تؤمر وامضه.

وعنه: أعلن بالقرآن، قال: وكان نبي الله اكتتم مخافة [قومه] سنتين فأمره الله أن [يصدع] بما يؤمر أي: يعلن به وظهره وأن يعرض عن المشركين ثم نسخ ذلك وأمره بقتالهم وقال {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين}. وقال مجاهد: المعنى: اجهر بالقرآن في الصلاة. قال عبد الله بن عبيد: لم يزل النبي [ A] بمكة مستخفياً حتى نزلت: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} فخرج هو [و] أصحابه. وقال الزجاج: معناه: ابنِ ما تؤمر به وأذهره، مشتق من الصديع وهو الصبح.

وقال المبرد: [معناه]: اصدع الباطل بما تؤمر: أي: افرق بين الحق والباطل بهذا القرآن وبينه. يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا. ومنه صداع الرأس وتصدعت الزجاجة تفرقت أجزاؤها. وفاء الفعل مصدر عند البصريين، فلذلك لم يقل: " بما تؤمر به:. وتقديره: فاصدع بأمرنا وهو القرآن. وقال الكسائي: " ما " بمعنى: الذي. والتقدير بما تؤمر به، ثم حذفت: " به ". فأما قوله {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} فهذا كان قبل أن يؤمر بالقتال ثم، أمر بالقتال

فنسخه الأمر بالقتال، قاله: ابن عباس والضحاك. ثم قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين * الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ}. المستهزؤون: في قول ابن عباس، وهم الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث الزهري، وهو ابن خال رسول الله A والأسود بن المطلب، وأبو زمعة الحرث بن عيطلة كانوا يهزؤون بالنبي عليه السلام. وعن ابن عباس: أنهم خمسة، ولم يذكر الحرث بن عيطلة، كانوا يهزؤون بالنبي عليه السلام. فروي أنهم مروا، رجلاً [رجلاً] على النبي A ومعه جبريل عليه السلام، فإذا مر رجل منهم قال [له] جبريل: كيف تجد هذا؟ فيقول/ النبي: بئس

عبد الله، فيقول له جبريل: كفيناكه. فهلك الخمسة بأمر الله [ D] ونصره لنبيه [ A] : أما الوليد بن المغيرة فإنه تردى بردائه فتعلق سهم بردائه فقعد يحله فقطع أكحله فنزف فمات. وأما الأسود بن عبد يغوث فأتى بغصن فيه شوك فضرب به وجهه فسالت حدقتاه على وجهه. فكان يقول: دعوت على محمد [دعوة] ودعا علي دعوة، فاستجيب لي، واستجيب له: دعا علي أن أعمى، فعميت. ودعوت عليه: أن يكون وحيداً فريداً في أهل يثرب فكان ذلك. وأما العاصي بن وائل فوطئ شوكة فتساقط لحمه على عظامه حتى هلك. وأما الأسود بن المطلب وعدي بن قيس فإن أحدهما قام من الليل وهو مطمئن يشرب من جرة فلم يزل يشرب حتى ينفتق بطنه فمات. وأما الآخر فلدغته حية فمات. فمعنى الآية: إنا كفيناك يا محمد الساخرين منك الجاعلين مع الله إلهاً آخر [سبحانه وتعالى]، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ما يلقون من عذاب الله عند مصيرهم إليه

يوم القيامة. وقال عكرمة: المستهزؤون قوم من المشركين كانوا يقولون سورة البقرة سورة العنكبوت يستهزؤون بأسماء السور. وروى ابن وهب: عن زيد بن أسلم أن وهب الذماري قال: " إن نيباً من الأنبياء حدث قومه بحوت ينزله أهل الجنة فاستهزأ به رجل من قومه. فقال النبي [ A] اذهب فأريكه. فذهب حتى إذا جاء البحر جاز حوت مثل البيت قال: هو ذا يا نبي الله؟ فقال: لا، ثم جاز حوت مثل الجبل. فقال: هو ذا يا نبي الله؟ قال: لا، ثم جاز حوت مثل القصر. قال: هون ذا يا نبي الله؟ قال لا. ثم جاز حوت مر صدره ضحى، ولم يمر آخره إلى العصر، فقال: هو ذا يا نبي الله؟ فقال: كيف ترى؟ فقال: والله إن في هذا لمأكلاً ومشرباً. قال: فوالذي نفسي بيده إنه ليتغذى كل يوم طلعت فيه الشمس بسبعين ألف حوت كلهم مثل هذا الحوت، فصعق

97

الرجل فمات ". وذكر عند مروان بن الحكم [هذا الحديث] فقال: لقد ذكر لي أن هذا الحوت قد أحاط بالسماوات السبع ومن تحت العرش. وعن ابن عباس: أنهم هلكوا في ليلة واحدة كل رجل منهم يميته سوى ميتة صاحبه. قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ}. المعنى: ولقد نعلم يا محمد أنك يضيق صدرك بما تقول هؤلاء من تكذيبك، فسبح بحمد ربك أي: افزع فيما نزل بك منهم إلى الشكر لله [ D] والثناء عليه والصلاة، يكفيك ما همك من ذلك، و " كان النبي عليه السلام إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة ". قوله: {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} أي: / من المصلين. قوله: {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي: الموت. ومعناه: اعبد ربك أبداً، ولو لم

يقل {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} لكان بعبادته ساعة واحدة طائعاً قد فعل ما أمر به. ولكن قوله: {حتى يَأْتِيَكَ اليقين} يبينه، وهذا مثل قوله: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] أي: أبداً ولو لم يقل: {مَا دُمْتُ حَيّاً} لكان بصلاة واحدة وزكاة مرة يؤدي ما وصاه به.

النحل

تفسير سورة النحل سورة النحل مكية قال ابن عباس: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بين مكة والمدينة، حين رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحد، وقد قتل حمزة، وقد مثل به، فقال النبي [- صلى الله عليه وسلم -] "لأمثلن بثلاثين منهم". وقال المسلمون: "لنمثلن بهم". فأنزل الله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ [بِهِ]) [126]، إلى آخر السورة.

1

[ويقال لسورة النحل سورة النعم لكثرة ما نبه الله فيها على نعمه , وعدد ما فيها من منته على خلقه] قوله [تعالى] {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}. ومعنى أتى أمر الله: يأتي. ولا يحسبن عند سيبويه في أخبار الناس وما يجري بينهم: فَعَل بمعنى يَفعل إلا في الشرط. وقيل: إنما أتى بالماضي لأنه أمر سيكون لا بد منه، فأتى فيه بالماضي الذي قد كان في موضع ما سيكون. وقيل: إنما جاء كذلك لأنهم استبعدوا ما وعدهم الله من عذاب، فأتى

بالماضي في موضع المستقبل لقربه من الإتيان، ولصدق المخبر به. وقد قال الضحاك: {أَمْرُ الله}: فرائضه وحدوده وأحكامه. وقيل: هو وعيد من الله لأهل الشرك على ما تقدم. قال ابن جريج: لما نزلت {أتى أَمْرُ الله} الآية، قال رجل من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن. فلما رأوا أنه لا ينزل شيئاً، قالوا: ما نراه ينزل شيئاً، فنزلت [الآية]: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] الآية. فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضاً. فلما رأوا ألاّ ينزل شيئاً، قالوا: ما نراه ينزل شيئاً فنزلت {[وَ] لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ [لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ]} [هود: 8] الآية. وروي عن اضحاك {أتى أَمْرُ الله} يعني القرآن: أي أتى بفرائضه

وحدوده وأحكامه، وهو القول الأول عنه. وقيل: أمر الله نصر النبي عليه السلام. وقيل هو يوم القيامة. وقال الزجاج: {أَمْرُ الله} ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم بمنزلة قوله: {حتى [إِذَا جَآءَ] أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] وقوله: {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} [يونس: 24]. ومعناه: أنهم استبطأوا العذاب فأخبرهم الله بقربه. ويدل على أنه وعيد وتهدد للمشركين قوله بعد: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وأمر الله قديم غير محدث وغير مخلوق، بدلالة قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} [الأعراف: 54] فالأمر غير الخلق. وبدلالة قوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] أي: من قبل كل ئيء ومن بعد كل شيء، فهو/ غير محدث. وأمره صفة له هو كلامه غير مخلوق.

2

وقيل معنى: {أتى أَمْرُ الله} أي أتت أشراط الساعة، وما يدل على قرب القايمة. وقيل: هو قيام الساعة. وقيل: هو جواب لقولهم بمكة: {[فَأَمْطِرْ] عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] الآية. قال [تعالى]: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. من قرأ: {يُشْرِكُونَ} بالتاء جعل الاستعجال للمشركين. ومن قرأ بالياء جعل الاستعجال لأصحاب محمد A. قال تعالى: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ}. أي: ينزل الملائكة بالوحي من أمره {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: عليه السلام على المرسلين بأن ينذروا العباد بأن لا إله إلا أنا.

وقيل: " من " بمعنى الباء. أي: بالروح [بأمره]، أي بالوحي بأمره. فالباء متعلقة بينزل. وقال قتادة: المعنى ينزل الملائكة بالرحمة والوحي من أمره على من اختار من خلقه لرسالته لينذر الناس. لينذر [ب] أن لا إله إلا الله فاعبدوه. وقال الربيع بن أنس: كل شيء تكلم به ربنا فهو روح منه، ومنه قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}. وعن ابن عباس، أيضاً أنه قال: الروح خلق من خلق الله، وأمر من أمره صوره على صورة آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم. وقال الحسن: {بالروح}: بالنبوة. وقال الزجاج: الروح ما كان فيه من أمر الله حياة للقلوب، بالإرشاد، إلى

3

أمر الله [ D] . { فاتقون}. أي: فأطيعوا أمري، واجتنبوا معصيتي. ووقع الإنذار في هذا الموضع في غير موضعه. وأصله أن يقع تنبيهاً وتحذيراً مما يخاف منه. وضده البشرى. وليس لا إله إلا الله مما يخاف منه ويحذر. ولكن في الكلام معنى النهي عما كانوا عليه من عبادة غير الله [سبحانه]، فحسن الاتيان به مع ما لا يخاف منه، ولا يحذر. ودل على ذلك قوله: {فاتقون} وقوله بعد ذلك: {عَمَّا يُشْرِكُونَ}. قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق}.

4

أي: من خلق هذا وابتدعه، فلا تصلح الألوهيم إلا له. ومعنى {بالحق}: بالعدل، أي: للعدل. وقيل: {بالحق} بقوله: كن فكانتا {بالحق}. فالحق كناية عن قوله: " كن ". والقول الأول أبين. أي: خلق الإنسان من ماء مهين، وصوره ونقله من حال إلى حال، وأخرجه إلى ضياء الدنيا وغذاه ورزقه وقواه. حتى إذا استوى، كفر بخالقه وجحد نعمته وعبد ما لا يضره و [ما] لا ينفعه وخاصم الله [سبحانه] في قدرته [جلت عظمته]، فقال: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ونسي خلقه، وانتقاله من ماء إلى علقة إلى مضغة إلى عظم إلى تصوير إلى خروج إلى الدنيا، وضعف إلى قوة [وضعف] بعد قوة.

5

ومعنى {مُّبِينٌ} أي: مبين عن خصومته بمنطقه، ومجادل بلسانه. والإنسان هنا جميع الناس. وقيل: عني به أبي بن خلف، ثم هو عام ف [ي [من كان مثله. قوله: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}. فالمعنى: وخلق الأنعام لكم فيها ما يدفئكم، أي ما يمنع عنكم ضر البرد، وضر الحر. لأن ما يستر من الحر يستر من البرد. وذلك ما ينتفع به من الأصواف والأوبار والأشعار. ثم جعل لكم فيها منافع، يعني من ألبانها، وركوبها، وأكل لحومها، والانتفاع بنسلها. وعن ابن عباس: الدفء نسل كل دابة. فهذا كله حجة على الخلق احتج عليهم بنعمته عندهم ولطفه بهم. قال ابن عباس: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يعني الثياب.

6

قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ}. أي: تتجملون بها إذا وردت بالعشي من مسارحها إلى مراحها التي تأوي إليها. {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي: وتتجملون بها حين تسرح بالغدو ومن مراحها إلى مسارحها. قال قتادة: أعجب ما تكون النعم إذا راحت عظاماً ضروعها، طوالاً أسمنتها. يعني: إذا رجعت من مرعاها. قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس}. أي: تحمل لكم هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد بعيد لا تبلغو [نه] إلا بجهد شديد ومشقة عظيمة لو وكلتم [إلى] أنفسكم، قاله: مجاهد. وقيل الأثقال يراد بها في هذا الموضع الأبدان بدلالة قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] أي: ما فيها من الموتى. ومنه سمي الجن والإنس

الثقلان. وروى المسيِّبي عن نافع " بشَقَ " بفتح الشين، وبه قرأ أبو جعفر. وهو مصدر. ومن كسر جعله اسماً. وقيل معنى الكسر: إلا بنقص من القوة، أي ذهاب شق منها، أي: ذهاب نصفها. {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}:

8

أي: لذو رأفة بكم وذو رحمة، ومن رحمته خلقه الأنعام لكم لمنافعكم ومصالحكم، وخلقه السماوات والأرض، وغير ذلك مما يقوم به أمركم فليس يجب الشكر والحمد إلا له. قال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا [وَ] زِينَةً} أي: وخلق لكم أيضاً هذه، نعمة بعد نعمة وفضلاً بعد فضل. وبهذه الآية يحتج من منع أكل لحوم الخيل لأنه تعالى ذكر ما يؤكل أولاً، وهي الأنعام، ثم ذكر ما يركب ولا يؤكل وهي الخيل وما بعدها. وأجاز جماعة أكل لحوم الخيل ورووا فيها أحاديث وآثار. واحتجوا بأنه لا دليل من لفظ الآية على تحريمها وإن قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]

الآية، يدل [على] تحليلها. والذين [ر] ووا تحريمها، رووا في ذلك أحاديث عن النبي عليه السلام في النهي عن أكلها. فيكون تركها كلها عندهم بالسنة وبدليل هذه الآية. وقوله {وَزِينَةً}. [أي: وللزينة. فهو] مفعول لأجله. وقيل: المعنى وجعلها زينة، فهو مفعول به. وقرأ أبو عياض: " لتركبوها زينة " بغير واو.

ثم قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. أي يخلق مع خلقه لهذه الأشياء {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهو ما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار، مما لا تراه عين ولا خطر على قلب بشر. وعن ابن عباس أنه قال: خلق الله ألف أمة، منها ست مائة في البحر، وأربع مائة في البر، فليس شيء في البر إلا وفي البحر مثله، وفضل البحر بمائتين. وعن وهب بن منبه أنه قال: إن لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منها عالم واحد. وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في الجنان. وما الخلق كله في قبضة الله [ D] إلا كخردلة في كف أحدكم. وعن وهب أيضاً، يرفعه إلى النبي عليه السلام، أنه قال: " إن لله [ D] ثمانية

[عشر] [ألف] عالم، الدنيا منها عالم واحد، وإن لله في الدنيا ألف أمة سوى الانس والجن والشياطين، أربع مائة في البر، وست مائة في البحر ". وقد قال بعض المفسرين: إن هذا [هو] تأويل {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] فجمع العالم لكثرة ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]. وروي أنه: نهر عن يمين العرش من نور السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع، يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره، وجمالاً إلى جماله، وعظماً إلى عظمه. ثم ينتفض فيخلق الله جلّ ذكره من كل نقطة تقع منه كذا وكذا ألف ملك. يدخل منهم كل يوم سبت المعمور سبعون ألفاً، وسبعون ألفاً في الكعبة ثم لا يعودون إليه أبداً إلى أن تقوم الساعة. تصديقه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].

9

وقال السدي: هو خلق السوس في الثياب. والأحسن في هذه الآية: كونها على العموم، أن الله يخلق الأشياء لا يعلمها ولا يعرفها [أحد] وأنه هو العالم بها وحده لا إله إلا هو. قال تعالى: {وعلى الله قَصْدُ السبيل}. أي: وعلى الله تبيين الطريق المستقيم إليه بالحجج والبراهين. فالسبيل الطريق، والقصد الاستقامة. وقيل معناه: رجوعكم ومصيركم [إلي] كما قال: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14]. والقول الأول: أحسن لدلالة قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي: من السب [ي] ل ما

هو جائر عن الحق. والسبيل هنا جمع [في المعنى بدلالة قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ}] فدخول " مِن " يدل على أن السبيل جمع. أي: من السب [ي] ل سبيل جائر. أي: غير قاصد للحق. يعني ما خالف دين الإسلام من الأديان. قال ابن عباس: قصد السبيل: تبين الهدى من الضلالة. وقال مجاهد: هو طريق الحق إلى الله. قال قتادة: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي: ومن السبيل، سبيل الشيطان. وقال الضحاك: يعني السبيل التي تفرقت عن سبيل الله [سبحانه]. وقال ابن زيد: جائر عن الحق. والجائر في اللغة: العادل عن الحق.

10

وفي قراءة عبد الله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} ورواية عن علي أيضاً، ويقويها: {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} معناه: ولو شاء [الله] للطف بكم بتوفيقه فكنتم تهتدون إلى طريقه المستقيم. ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا معقب لأمره ومشيئته. وقال الزجاج: معناه. لو شاء لأنزل آية يضطر الخلق [بها] إلى الإيمان به. قوله: / {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ}. والمعنى: الذي أنعم عليكم بالنعم المتقدم ذكرها، هو الذل أنزل من السماء ماء تشربون منه وأنعامكم، وينبت لكم به الشجر ويسقي به النبات والزرع وجميع الثمار. والمعنى: لكم منه شراب وسقي شجر. وفي ذلك الشجر تسيمون أي: ترعون أنعامكم. ومن قيل للمواشي المطلقة: السائمة، أي: الراعية. وهو من

11

السومة. وهي العلامة. لأنها إذا رعت أثرت في الأرض. وقيل السوم في البيع مأخوذ من السائمة لأن كل واحد من المتابعين يقول ما شاء عند السوم، كما أن الأنعام ترعى حيث شاءت. فكل هذا تنبيه على نعمه علينا وفضله لدينا وحجة على من عبد غيره. قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. أي: [إن] في هذه النعم التي وصفت لدلالة واضحة وعلامة بينة على قدرة الله [سبحانه]، وتوحيده [جلّ وعزّ] لقوم يعتبرون مواعظ الله [جلت عظمته] ويتذكرون حججه تعالى. قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر} الآية. أي: وأنعم عليكم أيضاً مع النعم المتقدمة، بهذه الأشياء. فسخرها لكم،

13

يتعاقب عليكم الليل والنهار والشمس والقمر لمصالحكم وقوام أموركم. إن في ذلك لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله [سبحانه] ويفهمون تنبيهه [تعالى] إياهم. قال تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ}. أي: وسخّر [لكم] ما خلق في الأرض مختلفاً ألوانه. قال قتادة: يعني: ما خلق من الدواب، والأشجار والثمار. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}. أي: يتذكرون قدرة الله ونعمه عليهم فلا يشكرون إلا إياه. قوله: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً}. المعنى: وهو الذي سخر لكم البحر المالح والعذب، مع ما تقدم من النعم

المذكورة، سخره لكم لتأكلوا من صيده لحماً طرياً ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها: اللؤلؤ والمرجان من المالح خاصة. ثم قال: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ}. قال الحسن: يعني: مواخر مشحونة. وقال عكرمة: ما أخذ عن يمين السفينة ويسارها من الماء فهو المواخر. قال مجاهد: تمخر السفن الرياح. وعن الحسن، أيضاً: {مَوَاخِرَ} جواري. وقيل معنى {مَوَاخِرَ} معترضة تجري. وعن قتادة: مواخر تجر [ي] بريح واحدة مقبلة ومدبرة. والمخر في اللغة: الشق. يقال: مخرت السفينة الماء، أي شقته ولها صوت أي عند هبوب الريح. ومخر الأرض أيضاً هو شق الماء إياها. وقيل: مواخر مُلَجِّجَة

15

في داخل البحر. ثم قال تعالى: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}. أي: لتتصرفوا فيه لطلب معايشكم في التجارة. قال مجاهد: هي تجارة البر والبحر. {[وَ] لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون ربكم [ D] على هذه النعم التي أنعم عليكم بها. قال تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ}. أي: ومن نعمه/ أيضاً أن ألقى في الأرض رواسي، لئلا تميد بكم الأرض، وقد كانت تميد قبل كون الجبال على ظهرها. والراسي: الثابت. والرواسي: جمع راسية. يقال: رست، ترسو، إذا ثبتت. والمرسى اسم المكان. [و] قال قيس بن عباد: إن الله جلّ ذكره لما خلق الأرض جعلت تمور،

فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحت ضحى وفيها رواسيها. وقال علي بن أبي طالب [عليه السلام]: لما خلق الله الأرض قَمَصت، وقالت: أي رب، أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليَّ الخطايا ويجعلون [عليَّ] الخبث. فأرسى الله [ D] فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون. ثم قال تعالى: {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً}. أي: وجعل لكم أنهاراً وسبلاً. ولا يحسن حمله على " ألقى " لأنه لا يقال: ألقى الله الأنهار والسبل ولكن حمل على المعنى. لأن معنى {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ} جعل فيها رواسي، فعطف {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً} على هذا المعنى.

16

والسبل: الطرق. ليسلكوا فيها في حوائجهم وأسفارهم. ولو عماها عليكم لهلكتم حيرة وضلالة. [و] {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي: تهتدون إلى المواضع التي تريدون الوصول إليها فلا تضلون ولا تتحيرون. قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} يعني: بالليل. وقال مجاهد: هي النجوم منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به.

17

وقال قتادة: خلق الله [ D] هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها تهتدون بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك، سفه رأية، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. [و] قال الكلبي: [{وَعَلامَاتٍ}] يعني: الجبال. والنجوم عند الفراء: الجدي والفرقدان. وغيره من العلماء يقول: النجم هنا بمعنى النجوم. قال [تعالى] ذكره: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}. أي: الله الخالق لهذِهِ الأشياء كلها الذي قد عددها وقدم ذكرها، الرازق لكم ولها، كالأوثان التي لا تخلق ولا ترزق.

ومعنى الآية التقريع والتوبيخ للمشركين الذين عبدوا ما لا ينفع ولا يضر وهي الأوثان والأصنام. {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}. أي: تذكرون ما يتلى عليكم من النعم والقدرة والسلطان و [أن] الله هو المنفرد بذلك، لا يقدر عليه غيره فيدعوكم ذلك إلى عبادة الله [ D] ، وترك عبادة الأوثان، وتعرفوا خطأ ما أنتم عليه من عبادتكم إياها، وإقراركم لها بالألوهية، كل هذا تنبيه وتوبيخ لهم لتقوم عليهم الحجة. وقوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}. يريد به الوثن، وهو لا يعقل فرقعت له " من ". وإنما ذلك لأن العرب إذا أخبرت عمن لا يعقل بفعل من يعقل أجرت لفظه كلفظ من يعقل. فلما أنزلوا الأوثان في العبادة لها منزلة من يعقل، أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. ومنها قوله {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي} [النور: 45] / فأتى بمن، لما أخبر عنها بالمشي كما أخبر عمن يعقل، وكذا تفعل

18

العرب: إذا خلطت من يعقل بمن لا يعقل غلبت من يعقل. وحكي عن العرب: " اشتبه عليَّ الراكب وحمله، فما أدري مَنْ ذا مِنْ ذا ". قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ}. أي: إن تعدوا نعم الله لا تطيقوا إذاً شكرها. إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في أداء الشكر على نعمه عندكم، رحيم بكم أن يعذبكم بعد الإنابة إليه والتوبة. والنعمة هنا بمعنى الجمع دَلَّ عليه قوله: {تَعُدُّواْ} والعدد لا يكون إلا في كثرة. المعنى: أنه تعالى نبه الخلق على معرفته بسرهم وضمائرهم وعلى نيتهم وأنه مَحَّصَ ذلك كله، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. قال: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله}.

21

يعني: أوثانهم التي يعبدونها {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} وهي مخلوقة، فكيف يعبد من لا يضر ولا ينفع ومن هو مخلوق مصنوع. قال: {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ}. يعني: أوثانهم، أي لا أرواح لها. ثم قال: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. أي: وما يشعر [هؤلاء الأوثان متى يبعث] المشركون. وقيل الضميران للمشركين، أي: وما يشعر المشركون متى يبعثون. وقوله: {أَيَّانَ} في موضع نصب. وهو مبني لأنه فيه معنى الاستفهام، ولذلك لم يعمل فيه ما قبله.

ثم قال تعالى: {إلهكم إله وَاحِدٌ}. معناه: معبودكم الذي يستحق العبادة واحد، {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم} أي: منكرة ما يقص عليهم من قدرة الله [ D] وتوحيده [سبحانه] وهم مستكبرون عنه. ثم قال تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. معناه: لا محالة ولا بد أن الله يعلم، وقيل معناه: حق أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، قال أبو إسحاق: و " لا " رد لفعلهم. وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين}. أي: المستكبرين عليه أن يوحدوه ويكفروا بما دونه من الأصنام والأوثان.

24

وكان الحسن بن علي Bهما يجلس إلى المساكين ثم يقول {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين}. ورويَ عن النبي A [ أنه] قال " من سجد لله سجدة فقد برئ من الكفر ". " ما " رفع بالابتداء و " ذا " بمعنى: الذي، خبر ل " ما " و " أساطير " رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو أساطير الأولين. والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون من المشركين ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: الذي أنزله هو ما سطره الأولون من قبلنا من الأباطيل. قال قتادة: أساطير الأولين أحاديث الأولين وأباطيلهم. قال: ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من يأتي نبي الله A فإذا مر أحد من

25

المؤمنين يريد النبي A قالوا لهم أساطير الأولين/ أي: أحاديثهم. قال ابن عباس: نزلت في النضر بن الحارث، وكان من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله A. روي أنه خرج إلى الحيرة فاشترى أخبار العجم وأحاديث كليلة، وكان يقرؤها على قريش، ويقول: ما يقرأ محمد على أصحابه إلا أساطير الأولين. قال [تعالى]: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية. هذه اللام في " ليحملوا " يجوز أن تكون لام الأمر، ويكون معنى الكلام التهدد والوعيد، ويجوز أن تكون لام كي فتتعلق بما قبلها. ومعناها: أنهم يحملون ذنوب أنفسهم وذنوب من أضلوا وصدوا عن الإيمان بغير علم من غير أن ينقص من ذنوب من أضلوا شيء. ومثله قوله:

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]. وقد قال النبي عليه السلام: " أيما داع دعا ضلالة فاتبع، كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى هدى غاتبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ". وقال زيد بن أسلم: بلغني، أنه يمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله [ D] وجهاً وأنتنه ريحاً، فيجلس إلى جنبه، كلما أفزعه شيء زاده فزعاً، وكلما تخوف شيئاً زاده خوفاً. فيقول: بئس الصاحب أنت [ومن أنت]؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحاً فكذلك تراني قبيحاً، وكان منتناً فلذلك تراني منتناً. فتطأطأ لي حتى أركبك، فطال ما ركبتني في دار الدنيا، فيركبه. وهو قوله: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة}.

26

قوله: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} إلى قوله {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}. المعنى: قد مكر الذين كانوا قبل هؤلاء المشركين: يعني الذين أرادوا الارتقاء إلى السماء بالنسرين لحرب من فيها. وقد مضى ذكر ذلك في إبراهيم أنّه نمرود بن كنعان تجبر إذ ملك الأرض. قال مجاهد: ملك الأرض، شرقها وغربها، أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان، والكافران نمرود بن كنعان وبختنصر، وقيل هو نخ تنِصْرٍ. ونذكرها هنا قول السدي في ذلك وما روى فيه، قال السدي: أمر الذي حاج إبراهيم في ربه بإبراهيم، فأخرج من مدينته، فلما خرج لقي لوطاً على باب المدينة فدعاه فآمن به، وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] وحلف نمرود ليطلبن إله إبراهيم. فذهب فأخذ أربعة أفراخ من النسور، فرباها باللحم والخمر، حتى إذا كبرن، وغلظن، واستعجلن، قرنهن بتابوت، وقعد في ذلك التابوت. ثم رفع رجلاً من

لحم لهن، فطرن به حتى ذهبن في السماء. فأشرف ينظر إلى الأرض. فرأى الجبال تدب كدبيب النمل. ثم رفع لهن اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطاً بها بحر كأنها فلكه في ماء. ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة / فلم ير ما فوقه ولم ير ما تحته. ففزع فألقى اللحم / فاتبعه منقضات. فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وتسمعن حفيفهن، فزعت الجبال وكادت أن تزول من أمكنتها، ولم تزل. وذلك قوله {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} [إبراهيم: 46]. وكان إذا طرن به من بيت المقدس ووقوعهن به على جبل الدخان، فلما رأى أنه لا يطيق شيئاً أخذ في بنيان الصرح. فبنى حتى أسند به إلى السماء، وارتقى فوقه ينظر بزعمه إلى إله إبراهيم فأحدث ولم يكن وقت حدثه. وأخذ الله بنيانه من القواعد

{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: من مأمنهم. فلما سقط تبلبلت ألسن الناس يومئذٍ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وإنما كان لسان الناس قبل بالسريانية. قال ابن عباس في: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} وهو نمرود حين بنى الصرح. قال زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمرود فبعث الله بعوضة فدخلت منخره فمكث أربع مائة سنة [يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه بالمطارق، وكان جباراً أربع ماشة سنة] فعذبه الله [ D] في الدنيا أربع مائة سنة كملكه. ثم أماته الله [ D] وهو الذي بنى صرحاً. وهو

الذي أتى الله بنيانه من القواعد. وقيل: معنى {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} استأصلهم بالهلاك. وقيل: هو مثل لأعمالهم التي أحبطها الله. كأن [أعمالهم] التي عملوها حبطت بمنزلة [بناء] سقط من قواعده. ومعنى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أي: أتى أمر الله بنيانهم. ومعنى {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ}: خرت عليهم [أعالي البيوت] فهلكوا. وقال ابن عباس: معناه أتاهم العذاب من السماء. ومعنى {مِن فَوْقِهِمْ}: توكيد أنهم تحته، لأنه قد يقال: سقط على منزل كذا، إذا كان يملكه. فقال {مِن فَوْقِهِمْ} ليزول

هذا المعنى منه. وروي أن نمرود بن كنعان بنى بناء ليصل به السماء فبعث الله ريحاً فهدمته، ويقال: إن من يومئذٍ لم تدع الريح بناء على وجه الأرض يكون ارتفاعه أكثر من ثمانين ذراعاً إلا هدمته. ثم قال [تعالى]: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ}. أي: ثم يذلهم يوم القيامة مع ما فعل بهم في الدنيا. ويقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} الذين زعمتم في الدنيا أنهم شركائي فما لهم لا ينقذونكم من العذاب. وقال ابن عباس {كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ}: تخالفون فيهم. وقيل معناه: تحاربون. وأصله من شاققت فلاناً، إذا فعل كل واحد منهما بصاحبه ما يشق عليه.

ثم قال تعالى: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم} أي: الذل والهوان {عَلَى الكافرين * الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [أي]: وهم على كفرهم. وقيل: عنى بذلك من قتل ببدر من قريش. وقد أخرج إليها كرهاً، قاله: عكرمة. ثم قال / {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} أي: قالوا ما كنا نعمل من سوء. وأخبر الله [ D] عنهم: أنهم كذبوا، وقالوا: ما كنا نعصي الله في الدنيا، فكذبهم الله، وقال: {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ} أي: بلى عملتم السوء، إن الله عليم بعملكم. ومعنى: {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي: الاستسلام لأمر الله [ D] لما عاينوا الموت. وقيل معناه: ألقوا الصلح لأنه قد تقدم ذكر المشاقة، وبإزاء المشاقة - وهي العداوة - الصلح. ثم قال [تعالى] {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: طبقاتها ماكثين فيها.

30

{فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي: بئس منزل من تكبر على الله سبحانه، ولم يقر بالوحدانية. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: " الكبر أن يسفه الحق ويغمط الخلق ". قوله: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} إلى قوله {يَسْتَهْزِئُونَ}. قوله: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} ما: في موضع نصب. قالوا: وهي مع " ذا " اسم واحد في موضع نصب. {قَالُواْ خَيْراً} أي: قالوا أنزل خيراً. والمعنى: وقيل لأهل الإيمان والتقوى: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا خيراً. ثم بينوا الخير ما هو فقالوا: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} ويجوز حسنة في غير القرآن بالنصب على معنى أنزل للذين أحسنوا حسنة. ثم قال: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ}.

أي: خير من الأولى {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} دار الآخرة. ثم بين دار المتقين ما هي، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: بساتين إقامة. فجنات: مرفوعة على الابتداء {يَدْخُلُونَهَا} الخبر. ويجوز رفعها على إضمار مبتدأ. أي: هي جنات عدن، و {يَدْخُلُونَهَا} حال. ثم قال: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: من تحت أشجارها. {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ}. أي ما تشتهيه أنفسهم. {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين}. أي: كما جزى الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، كذلك يجزي الله من اتقاه فآمن به وأدى فرائضه واجتنب معاصيه. ثم بيّن المتقين فقال {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ}. أي: تقبض الملائكة أرواحهن طيبين، لتطييب الله إياها. {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا} أي: تقول لهم الملائكة: سلام عليكم صيروا إلى الجنة وهذه بشارة من الله للمؤمنين.

وروى أنس بن مالك وتميم الداري عن النبي A أنه قال: " يقول الله لملك الموت: انطلق إلى عبدي إذا جاز أجله فاتني به. فلأريحنه من الدنيا، فإني قد ضربته بالبأساء والضراء فيها فوجدته حيث أُحِبْ. فينطلق ملك الموت، ومعه خمس مائة من الملائكة، يحملون معه كفناً، وخيوطاً من الجنة، وضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لوناً، لكل لون من ذلك ريح طيبة سوى ريح أصحابها، والحرير الأبيض، فيه المسك الأذفر. فيجلس ملك الموت عند رأسه ويحتويه الملائكة. فيضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويبسطون/ ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه. فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة مرة، وبأزواجها مرة وبسكوتها مرة، وبثمارها [مرة] كما يعلل الصبي أهله إذا بكى. وإن روحه ليهش عند ذلك هشاً. قال: يقول: ينزو نزواً ليخرج يقول ملك الموت لنفسه: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود وماء

مسكوب. فلملك الموت أشد به ألطافاً من الوالدة بولدها. يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه [ D] فهو يلتمس بلطف حبيب ربه [ D] رضاء الرب [سبحانه]. فيسل روحه كما تسل الشعرة من العجين. قال الله [ D] : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ". قال محمد بن كعب القرظي: إذا استنقعت نفس المؤمن، يعني في صدره، جاء ملك الموت، فقال: السلام عليك ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم نزع بهذه الآية. وهو معنى قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58]. قال البراء [بن عازب]: يسلم عليهم ملك الموت. وعن ابن عباس في قوله: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91] قال: الملائكة

يأتونه بالسلام من قبل الله [ D] وتخبره أنه من أصحاب اليمين. وقوله {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: بعملكم في الدنيا وطاعتكم لله [ D] . ثم قال [تعالى]: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}. أي: هل ينظر هؤلاء المشركون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وبما وعدوا به من العذاب. أو يأتي أمر ربك لحشرهم [لموقف] يوم القيامة. وقيل: أو يأتي أمر ربك بالعذاب والقتل في الدنيا. {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: كما فعل هؤلاء من انتظارهم الملائكة لقبض أرواحهم وإتيان أمر الله [ D] إليهم بالعذاب كما فعل أسلافهم من الكفار بالله فجاءهم ما كانوا ينتظرون {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} في إحلال العذاب بهم

35

{ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بمعصيتهم لأمر الله وكفرهم به. قال مجاهد: أن تأتيهم الملائكة من عند الموت ويأتي أمر ربك يوم القيامة. ثم قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}. أي: أصاب هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من الأمم الماضية عقاب ذنوبهم ونقم معاصيهم {وَحَاقَ بِهِم} أي: وحل بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤون ويسخرون إذا أنذرتهم الرسل. [و] قوله: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}. معناه: وقال الذين عبدوا مع الله [سبحانه] غيره من الأوثان والأصنام من قريش وغيرهم، قد Bافي عبادتنا ما عبدنا. لأنه لو شاء، ما عبدناها، ولو شاء ما حرمنا البحائر والسوائب، وما بقينا على ما نحن عليه، إلا لأن الله [ D] قد رضي ذلك. ولو لم يرض عنا لغير ذلك ببعض عقوباته ولهدانا إلى غيره / من الأفعال. قال الله [ D] { كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم المشركة

فاستن هؤلاء بسنتهم وسلكوا سبيلهم في تكذيب الرسل. {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين}. أي: البلاغ الظاهر المعنى المفهوم عند الرسل إليه. وهذا القول الذي قالوه إنما قالوه على طريق الهزء والاستخفاف. كما قال قوم شعيب عليه السلام له: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] على طريق الهزء. ولو قالوه على طريق الجد لكانوا مؤمنين. وكذلك، لو قال قائل مذنب على طريق الجد: لو شاء الله ما أذنبت، ولو شاء الله ما قتلت النفس، لم يكن بذلك كافراً ولا منقوصاً، وكان كلامه حسناً.

36

وإنما قبح [كلام] أولئك وكان كفراً لأنهم قالوه على طريق الهزء لا على طريق الجد. وقد اتفقت الأمة أن الله لو شاء ألا يعبد غيره لم يكن إلا ذلك. ولكنه تبارك وتعالى وفق من أحب إلى ما يرضيه بتوفيقه، وأضل من أحب ضلاله بخذلانه له. ثم قال [تعالى] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله}. أي: بعثنا إلى كل أمة تقدمت وسلفت [رسولاً] بأن يعبدوا الله ويخلصوا له العبادة، ويبعدوا من طاعة الطاغوت، وهو الشيطان، ويحذروه أن يغويهم ويصدهم عن سبيل الله [ D] فمنهم من هدى الله، ففعل ما أمر به، وذلك

37

بتوفيق الله [ D] له. ومنهم من حقت عليه الضلالة فضل ولم يؤمن وذلك خذلان الله [سبحانه] له. {فَسِيرُواْ فِي الأرض}. فسيروا يا مشركي قريش في الأرض التي [كان] يسكنها الأمم قبلكم، إن كنتم غير مصدقين لما يتلى عليكم من هلاك الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل. فانظروا آثارهم وديارهم واتعظوا وارجعوا إلى الإيمان بما جاءكم به رسولكم واحذروا أن ينزل بكم ما نزل بهم. ثم قال [تعالى]: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ}. أي: إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين من قومك، فإن من أضله الله منهم فلا هادي له {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي: ليس لهم ناصر ينصرهم من الله [ D]

إذا أراد عقوبتهم. وفي قراءة أُبَيّ " فإن الله لا هادي لمن أضل " وقرأ ابن مسعود: " فإن الله لا يهدي من يُضل " بضم الياء من (يضل) فكسر الدال والضاد. وقرأ الكوفيون: " لا يهد [ي] " بفتح الياء. وقرأ الحرميان والشامي والبصري " لا يُهْدَى " بضم الياء وفتح الدال. ومعنى قراءة نافع ومن تابعه: من أضله فلا هادي له. ومعنى قراءة الكوفيين: فإن الله لا يهدي من أضله، أي: من أضله الله لا يهديه، أي: من سبق في

38

علمه له الضلالة فإنه لا يهديه الله. وفيها معنى آخر وهو: فإن الله [لا] يهتدي من أضله: أي: من أضله الله لا يهتدي. حكى الفراء أنه يقال: هدَّى يهدِّي بمعنى اهتدى يهتدي. قوله {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}. معناه: وحلف هؤلاء / المشركون من قريش بالله جهد حلفهم لا يبعث [الله] من يموت بعد موته، وكذبوا في أيمانهم {بلى} سيبعث الله من يموت بعد مماته. {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي: وعد عباده ذلك، والله لا يخلف الميعاد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أكثر قريش لا يعلمون أن الله يبعث الموتى بعد موتهم. وتأول قوم من أهل البدع أن علياً Bهـ يبعث قبل يوم القيامة بهذه الآية، فسئل عن ذلك ابن عباس، فقال: كذب أولئك، إنما هذه الآية للناس عامة، ولعمري لو كان

علي مبعوثاً قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه. قال أبو العالية: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه وكان مما تكلم به المسلم أن قال: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا. فقال المشرك: تزعم أنك تبعث بعد الموت؟ فأقسم بالله جهد [يمينه لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله D { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية. وقال أبو هريرة: قال الله D: " يسبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني. وكذبني، ولم يكن ينبغي له أن يكذبني. فأما تكذيبه إياي: فقسمه بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت. فقلت {بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً}. وأما سبه إياي: فقال {إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] وقلت: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [إلى آخر] السورة ".

39

قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}. هذه اللام: متعلقة بالبعث المضمر بعد " بلى ". والمعنى: بلى يبعثهم الله ليبين لهم اختلافهم. وقيل: هي متعلقة بـ " بعثنا " من قوله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} ليبين لهم اختلافهم وأنهم كانوا من قبل الرسول على ضلالة، وليعلم الذين جحدوا بعث الأموات من قريش أنهم كانوا كاذبين في قولهم {لاَ يَبْعَثُ [الله] مَن يَمُوتُ}. وقال قتادة {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يعني: الناس عامة. والذي يختلفون فيه هو البعث: منهم من يقربه ومنهم من ينكره. معناه: إنما قولنا لشيء مراد، قلنا له كن فيكون. وهذا إنما هو مخاطبة للعباد بما يعقلون، وإلا فما أراده تعالى فهو كائن على كل حال، على ما راده من الإسراع. لو أراد، تعالى ذكره خلق الدنيا والسماوات والأرض وما بين ذلك في قدر لمح البصر، لقدر على ذلك. ولكن خوطب العباد بما يعقلون فأعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه وأنه متى أراد الشيء كان. وإذا قال [له] كن [ف] كان، أي: فيكون على حسب الإرادة

وليس هذا الشيء المذكور موجوداً قبل أن يقول له كن. وإنما المعنى: إذا أردنا الشيء قلنا من أجله كن أيها الشيء فيكون على قدر / الإرادة لأن المشركين أنكروا البعث فأخبرهم الله بقدرته على حدوث الأشياء. وهذا يدل على أن المعدوم يسمى شيئاً، لأنه قد سماه شيئاً قبل حدوثه. ومثله {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] فأما قوله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] فمعنا [هـ] لم تك شيئاً مذكوراً ولا موجوداً. ومن إنكارهم البعث قوله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] أي: كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون. وتحقيق الآية أنه أعلمهم أنه أراد أن يبعث من مات فلا تعب عليه في ذلك لأنه إنما يقول له كن: فيكون ما يريد بلا معاناة ولا كلفة. ومن رفع " فيكون " فعلى القطع، أي: فهو يكون. نصبه عطفه على " أن

41

نقول " أي: أن يقول فيكون. ولا يجوز النصب على [ال] جواب ل " كن " لأنه خبر وليس بأمر. قوله: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله}. المعنى: والذين فارقوا دورهم وأوطانهم عداوة للمشركين في الله [ D] من بعد ما ظلمهم المشركون وأوذوا في ذات الله [سبحانه]. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ}. أي: لنسكنهم في الدنيا مسكناً صالحاً يرضونه. وهم أصحاب النبي A.

ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم، حتى لحق طوائف منهم بالحبشة ثم بوأهم الله [ D] المدينة بعد ذلك، فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين، قال ذلك قتادة وابن عباس. وقال الضحاك: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} هو النصر والفتح. {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ} الجنة. فالآية: فيمن هاجر من المسلمين من مكة إلى أرض الحبشة. ليست الهجرة في هذا الموضع: الهجرة إلى المدينة، لأن هذا أنزل بمكة إلى أرض الحبشة. قال الشعبي: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا [حَسَنَةً]} المدينة، وقال ابن

[أبي] نجيح: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} أي: لنرزقهم في الدنيا رزقاً حسناً. وكان عمر Bهـ إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول: بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله [ D] في الدنيا، وما أخّر لك في الآخرة أفضل ثم يتلوه هذه الآية: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله}. وقال الضحاك: الحسنة: النصر والفتح. وقال مجاهد: الحسنة: هنا لسان صدق. ومعنى بوأت فلاناً منزلاً: أحللته فيه. ومنه قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93].

وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جندل بن سهل. ثم قال تعالى: {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ}. أي: ولثواب الآخرة على الهجرة، أكبر من ثواب الدنيا. وقيل: الحسنة هنا، كونهم مؤمنين وسماعهم ثناء الله [ D] عليهم. وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين عذبهم المشركون على إيمانهم وأخذوا أموالهم، منهم: صهيب وبلال. وذلك أن صهيباً قال للمشركين: أنا رجل / كبير 'ن كنت معكم ام أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرَّ بكم. فخذوا مالي ودعوني. فأعطاهم ماله وهاجر إلى النبي عليه السلام. فقال له أبو بكر: ربح البيع يا صهيب. وقال عمر [Bهـ]: نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه. أي: لو أمن عذاب الله [سبحانه] لما ترك الطاعة ولا جنح إلى المعصية.

43

ثم بيَّن الله هؤلاء القوم فقال: {الذين صَبَرُواْ} في الله على ما نالهم في الدنيا من الكفار. {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: به يثقون في أمورهم. قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ}. وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم بالدعاء إلى توحيد الله وقبول أمر الله [سبحانه] إلا رجالاً من بني آدم وليسوا بملائكة، ولم يرسل إلى قومك إلا مثل من أرسل إلى من كان قبلكم من الأمم. ثم قال تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر}. أي: فاسألوا يا قريش أهل الذكر: يعني الذين قرؤوا التوراة والإنجيل. قال

الأعمش: هم من آمن من أهل التوراة والإنجيل. أي فاسألوهم فيخبرونكم أن الرسل التي تقدمت إلى الأمم أنهم كانوا رجالاً من بني آدم. وقال ابن عباس: فاسألوهم هل ذكر محمد [ A] في التوراة والإنجيل. يعني: سألوا من آمن من قبلهم عن ذلك. وقال ابن زيد: أهل الذكر أهل القرآن. يعني: من آمن بمحمد [ A] وبما جاء به. وقال أبو إسحاق: معناه: فاسألوا كل من يذكر بعلم، وافق هذه الملة أو خالفها. قال ابن عباس: لما بعث الله محمداً عليه السلام رسولاً، أنكرت العرب ذلك. وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً. فأنزل الله [ D] { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} [يونس: 2] الآية، وأنزل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً}.

44

ثم قال [تعالى] {بالبينات والزبر}. أي: بالدلالة الواضحة، والزبر الكتب. جمع زبور. مأخوذ من زبرت الكتاب إذا كتبته. الباء من {بالبينات} متعلقة بفعل مضمر. التقدير: أرسلناهم بالبينات ودل " أرسلنا " الأول على هذا المحذوف. وقال قوم: الباء متعلقة بأرسلنا المذكور. وأجازوا تقدم الإيجاب على أن تكون " إلا " بمعنى: " غير ". فأجازوا: ما ضرب إلا أخوك عمراً، وما كلم إلا أبوك بكراً، على معنى: " غير "، وعلى ذلك أنشدوا: ابني لُبَيْنَى لَسْتُم بيد ... إلا يد ليست لها عضد

أنشدوه بخفض يد بعد " إلا " على مهنى " غير يد ". ولا يحسن أن تكون " إلا " هنا بغير معنى: " غير " لأنه يفسد الكلام، إذ الذي خفض اليد قبل " إلا " لا يمكن إعادته بعد " إلا "، ومنه قول الله [ D] : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله [لَفَسَدَتَا]} [الأنبياء: 22] أي: غير الله. ومن لا يجيز هذا، ينشد البيت بالنصب " إلا يدا " على البدل من موضع بيد. ويجوز عندهم: ما ضرب إلا أخوك عمراً على كلامين كأنه قال ضرب عمر [و]. ثم قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} [أي القرآن] {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} أي

45

لتعرفهم: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، من ذلك يعني. من الفرائض / والأحكام والحدود {[وَ] لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: يطيعون، قاله مجاهد. وقيل معنى ذلك: لعلهم يعتبرون [م] اأنزلناه. قوله: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات}. والمعنى أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب النبي عليه السلام، وقالوا في القرآن: هو أساطير الأولين {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} كما فعل بقوم لوط، أو يأتيهم العذاب من حيث يأمنوا كما أتى نمرود بن كنعان وقومه. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ}. أي أو يهلكهم في تصرفهم في البلاد في أسفارهم، قاله: ابن عباس وقتادة. وقال ابن جريج: {فِي تَقَلُّبِهِمْ} بالليل والنهار. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ}.

أي: أو يهلكهم الله بتخوف. وذلك نقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم. وقال الزجاج معناه: أو يأخذهم بعد أن يخوفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها. وقال الضحاك: معناه أو أخذ طائفة وادع طائفة فتخاف الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال ابن عباس ومجاهد {على تَخَوُّفٍ} على تنقص. أي ينقص من أموالهم وزروعهم حتى يهلكهم. وروى مالك أن عمر بن الخطاب Bهـ قرأ هذه الآية فقال: ما التخوف؟ فأقام بذلك أياماً، فأتاه غلام من أعراب قيس فقال: يا أمير المؤمنين أراني يتخوفني مالي: فقال له عمر: كيف يتخوفك مالك؟ فقال ينتقصني مالي. فقال عمر {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} على تنقص. وقيل معنى: {على تَخَوُّفٍ} أي: يأخذهم بالهلاك

فيخوف بهم غيرهم ليتعظوا، وهوقوله الضحاك. وقال الليث: {على تَخَوُّفٍ} على عجل. ويروى عن عمر [Bهـ] أنه [قال] ما كنت أدري ما معنى {على تَخَوُّفٍ} حتى سمعت قول الشاعر: تَخَوَّفَ السَّيْرُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفِنُ

48

يصف ناقته أن السير نقص سنامها بعد تمكنه. ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. أي: رؤوف أن آخر هؤلاء الذين مكروا السيئات فلم يعجل لهم بالعقوبة، رحيم بعباده، إذ لم يعجل عقوبتهم، وجعل لهم فسحة في التوبة. قال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} الآية: أي: أولم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسم قائم شجراً أو جبالاً أو غير ذلك {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ} أي: يرجع من موضع إلى موضع [و] يكون في أول النهار على حال، ثم يعود إلى حال آخر في آخر النهار. قال قتادة: أما اليمين فأول النهار، والشمال: آخر النهار. وقال ابن جريج: اليمين والشمال الغدو والآصال، فإذا فاءت الظلال سجدت لله بالغدو والآصال. قال الضحاك: سجد ظل المؤمن طوعاً. وقال

الضحاك إذا فاء الفيء توجه كل شيء ساجداً قبل القبلة من نبت أو شجر، قال مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله [ D] . وعن مجاهد: أن السجود في / هذا الموضع سجود الظلال دون التي لها الظلال. وعن ابن عباس أنه قال: الكافر يسجد لغير الله [سبحانه] وظله يسجد لله [ D] . أي ينقاد دليلاً على دبره الله [ D] عليه. فتحقيق المعنى في هذه الآية: أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: ميلانها ودورانها من جانب إلى جانب. يقال سجدت النخلة إذا مالت. وسجد البعير، وأسجد، إذا طؤطئ ليركب. ومن هذا قيل لمن وضع جبهته في الأرض ساجد، لأنه تطامن. وقد يستعار السجود في موضع الاستسلام والطاعة والذل، كما

49

يستعار التطامن والتطأطأ فيوضعان موضع الخضوع والانقياد فيقال: تطامن للحق وتطأطأ أي: انقاد وخضع. فأما قوله: {عَنِ اليمين} فوحّد {والشمآئل} فجمع: فإن " اليمين " وإن كان موحداً، فإنه في موضع جمع ومعناه. وقيل: إنه رد " اليمين " على لفظ " ما " ورد " الشمائل " على المعنى، كما قال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] فرد على المعنى، ثم قال {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] فرده على اللفظ. وهذا كثير. وقال الزجاج: معنى " ظله " ها هنا جسمه الذي يكون له الظل. فالمعنى: أن جسمه ولحمه وعظامه منقادات لله [ D] دالة عليه، عليها الخضوع والذل. قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة}.

50

المعنى: ولله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ومن الملائكة. إلا أنه حمل " والملائكة " من الاعراب على " ما " لأنها ساجدة. ومعناها تخضع وتذل وتستسلم لأمر الله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي لا يستكبرون عن التذلل [لله D] . ودخلت " من " لأن معنى " دابة " الجمع، أي: من الدواب. وقيل دخلت لما في " ما " من الإبهام فأشبهت الشرط. والشرط تدخل " من " فيه تقول: من ضربك من رجل فاضربه. قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ}. أي يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات والأرض والدواب ربهم أن يعذبهم إن عصوا أمره. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي: يطيعونه فيما أمرهم به. قال أبو إسحاق: معناه يخافون ربهم خوف مطيعين مجلين له، لا يجاوزون أمره. قوله: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} إلى قوله (فسوف تعلمون) [51 - 55].

52

المعنى: قال الله لا تتخذوا لي شريكاً فلا تعبدوا معبودين {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي: معبود واحد، وأنا ذلك المعبود. {فَإيَّايَ فارهبون}. أي فاتقون وخافون. أمرهم الله [ D] بذلك لأنهم قالوا في الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فأعلمهم أنه: لا يجوز أن يعبد غيره. وقوله: " اثنين " تأكيد. كما قال: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} فأكده بواحد. وقيل / التقدير: اثنين إلهَين. فلما لم يتعرف معنى اثنين لعمومها في كل شيء بين بإلهين، وإذا تقدم إلهين لم يحتج إلى اثنين، لخصوص اللفظ بالألوهية. قال تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض}.

أي: له ملك ما فيهما لا شريك له في ذلك. {وَلَهُ الدين وَاصِباً} أي: له الطاعة والإخلاص دائماً. قال: ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك. ومنه قوله: {عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي دائم، والوصوب الدوام. وعن ابن عباس أيضاً: الواصب: الواجب. قال مجاهد: الدين هنا: الإخلاص. ثم قال تعالى: {فَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ}. أي: ترهبون وتخافون أن يسلبكم نعمة الله عليكم إذا أفردتم العبادة لله [سبحانه]. وقال الزجاج: معناه: أفغير الذي أبان لكم أنه واحد، وأنه خالق كل شيء تخافون.

53

قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله}. التقدير: وما حل بكم من نعمة فمن الله هي. وقال الفراء: التقدير: وما [يكن] بكم من نعمة. وقال قوم: " ما " بمعنى: الذي، فلا يحتاج إلى إضمار فعل. ودخلت الفاء في الخبر للإبهام الذي في " ما ". ومعنى الآية ما أعطاكم الله [سبحانه] من مال وصحة جسم وولد فهو من فضله، لا من فضل غيره. {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}. أي: إذا مسكم في أبدانكم ضر وشدة، فإلى الله تصرخون بالدعاء، وبه تستغيثون في كشف ذلك [عنكم]. يقال: جأر، إذا رفع صوته شديداً من جوع

54

أو غيره، والأصوات مبنية على فُعَال وعلى فَعِيل نحو الصراخ والخوار والبكاء. ونحو العويل والزفير، والفعال أكثر. أي ثم إذا وهبكم العافية وفرج عنكم إذا جماعة منكم يشركون بربهم. أي: يجعلون له أنداداً يعبدونها ويذبحون لها الذبائح شكراً لغير من أنعم عليهم بالفرج. {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}. ليجحدوا بما أتاهم الله [ D] من نعمته، التي فرج عنهم بها.

56

{فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. هذا وعيد وتهدد من الله [ D] لهؤلاء الذين تقدم وصفهم، أي: فتمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم وتلقون ربكم. قال الزجاج: و {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] هذا خاص لمن كفر. قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ [نَصِيباً]}. المعنى: ويجعل هؤلاء المشركون لما لا يعلمون، أنه لا يضرهم ولا ينفعهم نصيباً مما رزقهم الله، يعني: لأوثانهم. قال قتادة: هم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم نصيباً وجزءاً مما رزقهم الله من أموالهم. وقيل: يعلمون الآلهة التي كانوا يعبدونها، وهي " ما " فيعلمون ردها على معنى " ما ". / وأتى بالواو والنون لأنهم كانوا قد أجروها مجرى من يعقل في

جعلهم لها نصيباً من [م [زروعهم. فمفعول " يعلم " محذوف. تقديره: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئاً نصيباً. وعلى القول الأول " يعلمون " للكفار. وفيه ضميرهم، أي: هؤلاء الكفار يجعلون نصيباً للأصنام التي يعلم الكفار أنها لا تنفع ولا تضر. ومثله في الأخبار عن الأصنام بالواو والنون قوله: {وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 198] فالنظر للأصنام. وقيل للكفار وقد تقدم شرحه. وقال ابن زيد: جعلوا لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام يسمون عليها [أ] سماءها ويذبحون عليها. وهو قوله تعالى في الأنعام عنهم: {بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136]. ثم قال تعالى: {تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ}. أي: والله يا أيها المشركون لتسئلن يوم القيامة عما كنتم تختلفون في الدنيا علي

57

من الكذب فتعاقبون على ذلك. قال الزجاج: معناه لتسئلن توبيخ حتى تعترفوا به على أنفسكم وتلزموها الحجة. قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ} أي: ومن جهل هؤلاء المشركين، وافترائهم على ربهم [سبحانه] أنهم يجعلون له البنات ولا ينبغي أن يكون له ولد لا ذكر ولا أنثى {سُبْحَانَهُ} أي تنزيهاً له عما يقولون. ثم قال [تعالى]: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ}. أي: أضافوا إليه ما يكرهون، فما كفاهم ما أضافوه إليه من الولد حتى جعلوا له ما لا يرضونه لأنفسهم وما يقتلونه إذا أتاهم، فأضافوا إليه ما يكرهون لأنفسهم وهن البنات، وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون وهم البنون. قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً}.

أي: وإذا بشر أحد هؤلاء المشركين بولادة ما قد أضافه إلى الله [سبحانه] ظل وجهه مسوداً كراهية لذلك {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: قد كظمه الحزن وامتلأ غماً بولادتها وهو لا يظهر ذلك. والكظيم الذي يخفي غيظه ولا يشكو ما به، وهو فعيل بمعنى فاعل، كعليم. قيل الذي حسب في نفسه وعظمه هو ما فسره بعد ذلك من قوله: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} فهذا عظم في نفسه. وقيل معنى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أي: ظل كئيباً مغموماً بذلك. والعرب تقول لكل مغموم قد تغير لونه من الغم، واسودّ وجهه: كظيم. وقال قتادة أخبرهم الله [ D] بخبيث أعمالهم، فأما المؤمنون فراضون بما

قسم الله [ D] لهم. قال ابن عباس: الكظيم الحزين. وقال الضحاك: هو الكمد. ثم قال تعالى: {يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ}. أي: يستتر هذا المبشر / بالأنثى من القوم فيغيب عن أبصارهم من سوء ما بشر به عنده. رويَ أن [ال] رجل كان في الجاهلية يتوارى إذا حضر وقت الولادة أو قبله فإن ولد له ذكر سر به وظهر، وإن كانت أنثى استتر وربما وأدها، أي دفنها حية، وربما أمسكها على كراهية وهوان. وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب}. ثم قال [تعالى]: {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}. أي: بئس الحكم حكمهم، يجعلون لله ما لا يرضون لأنفسهم، وما لا يجوز

أن يكون له ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون. والهون والهوان في لغة قريش. وبعض [بني] تميم يجعل الهون مصدراً للشيء الهين. وقرأ عاصم الجحدري " أم يدسها ورده على الأنثى. وكان يلزمه أن يقرأ: {أَيُمْسِكُهُ}. وقرأ عيسى بن عمر " أيمسكها على هوان " وقرأ الأعمش: " أيمسكه على سوء ".

60

قال تعالى {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء}. والمعنى: للذين لا يصدقون بالآخرة المثل السوء، وهو القبيح، وهو ما يسوء من ضرب له. {وَلِلَّهِ المثل الأعلى}. [أي]: الأفضل والأكمل والأحسن وهو التوحيد. قال قتادة: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: [هو] الواحد الصمد الحليم الفرد العزيز الذي لم يلد ولم يولد. {وَهُوَ العزيز}. أي: ذو العزة الذي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء وغيرهم ممن يريد عقوبته على عصيانهم. {الحكيم} في تدبيره، فلا يدخل تدبير [هـ] خلل ولا خطأ.

61

وقيل هي كلمة الوحدانية وصفتها أحد، صمد، فرد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً، أحد. قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ}. أي: لو أخذ الله عصاة بني آدم لمعاصيهم، ما ترك على الأرض أحداً ممن [يدب] {ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} أي: إلى وقتهم الذي كتب لهم ووقت. فإذا جاء ذلك الأجل الذي وقت لهلاكهم، لم يستأخروا عن الهلاك ساعة ولم يستقدموا ساعة قبله. قال بعضهم: كاد الجُعَل أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} الآية. وسمع أبو هريرة رجلاً يقول: أن الظالم لا يضر إلا بنفسه. فالتفت إليه أبو هريرة فقال: بلى والله، إن الحبارى لتموت في

62

وكرها هزالاً بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: خطيئة ابن آدم قتلت الجعل. قوله {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}. قوله: {أَلْسِنَتُهُمُ} جمع لسان على لغة من ذكره. ويجمع إلى ألسن على لغة من أنثه. ولو سميت بالسن لم ينصرف في المعرفة خاصة للتعريف ولأنه على وزن الفعل إذا قلت: أنا أخرج وأنا أدخل، ولو سميت بالسنة لم تنصرف على كل حال. ومعنى الآية: ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهون لأنفسهم. وذلك جعلهم له البنات وهم يكرهونها {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي الجنة: أي: يكذبون فيدعون أن لهم الجنة. {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار}. أي: وجب أن لهم النار، وقال مجاهد: {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} هو: قول كفار قريش لنا البنون / ولله البنات. وقال قتادة: الحسنى هنا الغلمان.

وقرأ بعض الشاميين " ألسنتُهم الكُذْب " بالرفع، جعله نعتاً للألسنة، وبناه على فُعُل جعله جمع كذوب " وأن " عند قطرب في موضع رفع بجرم لأنه بمعنى: وجب أن لهم. وعند غيره في موضع نصب بجرم لأنه بمعنى كسب، أي: كسب لهم ذلك أن لهم النار، وما بعدها رد لما قبلها، وقد تقدم ذكره {لاَ جَرَمَ} في سورة هود بأشيع من هذا. وقال ابن عباس {لاَ جَرَمَ} معناه: بلى أن لهم. وقيل: واجباً أن لهم. وقوله: {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ}.

من قرأ بفتح الراء، فمعناه عند الحسن: معجلون إلى النار. وقال ابن جبير، منسيون فيها، متركون فيها. قال مجاهد: منسيون. وفي الحديث " أنا فَرْطُكُم على الحوض " [أي] متقدمكم إليه حتى تردوا علي. وأفرطته أقدمته. وقال أبو عبيدة والكسائي معناه: متركون في النار. فأما من قرأ بكسر الراء فمعناه: مبالغون في الإساءة. يقال: أفرط فلان على فلان إذا أربى عليه وبالغه في الشر.

63

وقرا أبو جعفر " مفرِّطون "، بالتشديد وكسر الراء ومعناه: مضيعون ما ينفعهم في الآخرة. وتصديقه قوله: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56]. قال تعالى: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}. أي: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلاً من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك به إلى أمتك {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي: حسنها لهم حتى كذبوا الرسل. {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم}. أي: والشيطان وليهم، أي: ناصرهم اليوم في الدنيا. ولهم في الآخرة عذاب أليم. وقيل: إنه يقال لهم: هذا الذي أطعتموه فاسألوه حتى يخلصكم [تبكيتاً

64

لهم و] تأنيباً وتوبيخاً لهم. فيكون قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} إشارة إلى يوم القيامة. وهذا كله تعزية للنبي [ A] وتصبير له إذا كذبه قومه، فأعلمه الله [ D] أنه قد فعل ذلك بمن أرسل قبله فيتأسى النبي [ A] بذلك ويزداد صبراً. قال تعالى ذكره {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}. أي: وما أنزلنا عليكم الكتاب يا محمد وجعلناك رسولاً إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه من دين الله [ D] فتعرفهم الصواب منه من الباطل والهدى والرحمة. فهدى ورحمة مفعولان من أجلهما. قال تعالى: {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ}. أي: والله أنزل من السماء مطراً فأحيى به الأرض الميتة وهي التي لا نبات فيها

66

وحياتها بكون النبات فيها. وهذا كله تنبيه من الله [ D] لخلقه على صنعه ولطفه ونعمه وإلا لا يفعل ذلك غيره وأن من كان مفرداً / باختراع هذه الأشياء لا تصلح العبادة إلا له لا إله إلا هو، وفيه إشارة على إحياء الموتى كما أحيى الأرض بعد موتها. ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. أي: [إن] في أحياء الأرض بالنبات بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها لعلامة ودليلاً على توحيد الله [ D] ، وإحياء الموتى لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه. قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ}. قوله: {نُّسْقِيكُمْ} مَنْ ضَمَّ النون، أو فَتَح، فهما لغتان عند أبي

عبيدة. وقال الخليل وسيبويه: سقيته ناولته، وأسقيته جعلت له سقياً. وقوله: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} يذهب سيبويه أن العرب تخبر عن الأنعام بخير الواحد. وقال [الكسائي معناه نسقيكم مما في بطون ما ذكرنا. فذكر على ذلك. وقال] الفراء: الأنعام والنعم واحد فرجع هنا إلى تذكير النعم. وحكى عن العرب: هذا نعم وارد. وقال أبو عبيدة: معناه نسقيكم مما في بطون أيها كان [ذا] لبن لأنها ليست كلها لها [لبن]. وعن الكسائي أن التذكير على البعض أي نسقيكم مما في

بطون بعض الأنعام. وقيل: المعنى: أن التذكير إنما جيء به لأنه راجع على ذكر النعم، لأن اللبن للذكر منسوب. ولذلك قال النبي A: " اللبن للفحل " وبذلك يحكم أهل المدينة وغيرهم في حكم الرضاع. ومعنى الآية: وأن لكم لعظة في الأنعام التي نسقيكم مما في بطونها من بين فرث ودم. والفرث ما يكون في الكرش من غذائها. ويقال: أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها. لبنا خالصاً: أي خلص من مخالطة الفرث والدم. والمعنى: أن الطعام يكون منه [ما] في الكرش، ويكون منه الدم، فيخلص اللبن من الدم.

ومعنى: {خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} أي: يسوغ لمن شربه، ولا يغص به. وقيل: معناه: سهلاً لا يشجى به من شربه متساغ في الحلق لا يساحه [فيه] مرارة. وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. وهذه الآية تدل على فساد قول من يقول: أن المني إنما نجس لسلوكه مسلك البول [فهذا اللبن يسلك مسلك البول] وهو طاهر. وهذا إنما يصح على قول: من يرى أن أبوال الإبل والبقر والغنم غير طاهرة. ولا يلزم من قال: إن أبوالها

67

طاهرة. قال تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً}. معناه: ولكم أيضاً أيها الناس عبرة فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب. و " ما " محذوفة من الكلام. والمعنى من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. وإنما جاز الحذف لدلالة " من " عليها لأن " من " تقتضي التبعيض، فدلت على الاسم المبعض فحذف. وقال بعض البصريين التقدير: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون، وحذف شيء لدلالة الهاء في " منه " عليه. فأما " السكر " [ف] قال / ابن عباس: " السكر " ما حرم الله [ D] من

شرابه، و " الرزق الحسن " ما أحل من ثمرته، يعني: الزبيب والتمر. وقال [به] ابن جبير ومجاهد. وقال الحسن: ذكر نعمته في السكر قبل تحريم الخمر. وقال قتادة: السكر خمور الأعاجم، والرزق الحسن مما تنتبذون وما تخللون وما تأكلون. وهذا منسوخ عند أكثر العلماء، وهو قول: مجاهد وابن جبير والشعبي. والذي عليه أهل النظر: إن هذا لا يجوز نسخه لأنه خبر، وليس بأمر فينسخ، وإنما نزلت هذه الآية قبل أن تحرم الخمر. أخبرنا الله [ D] أنهم يتخذون [به] ذلك. فلم يأمرنا بشربها، إنما هو خبر عما أنعم عليهم به وقد قال أبو عبيدة

68

السكر: الطعم يعني: الزبيب، والعنب، والثمر والرطب. وقال غيره السكر ما يسد الجوع مشتق من سكرت النهر إذا سددته. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. أي: إن في ما ذكر من النعم التي أنعمها عليهم لدلالة واضحة لقوم يعقلون عن الله [ D] حججه [و] يفهمون عنه [سبحانه] مواعظه [جلت عظمته]. قال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً}. أي: ألهم ربك يا محمد النحل بأن تتخذ من الجبال بيوتاً {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}.

69

يعني الكروم، وقيل: " يعرشون " يبنون من السقوف. {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً}. أي: طرق ربك، {ذُلُلاً} أي: متذللة. وقال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان سلكته. فيكون على هذا التأويل " ذللاً " حالاً من السبل، وعلى القول الأول: حالاً من الضمير في اسلكي، وهو قول: قتادة، لأنه قال: معناه: فاسلكي سبل ربك مطيعة. وقال ابن زيد: الذلول: الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون وهي بينهم. ثم قرأ: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]. فيكون ذللاً على هذا

التأويل حالاً من النحل. واختار الطبري أن يكون حالاً من السبل لقربه منها. وقوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، أي: منه أبيض وأحمر. وقوله: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ}. قال مجاهد: الهاء في فيه ل [ل] قرآن، وقال [به] الحسن والضحاك، أي: فيما قصصنا عليك من الآيات شفاء للناس، وقيل: الهاء عائدة على العسل، قال: قتادة. وقيل " للناس ": عام يراد به الخصوص. والمعنى: لبعض الناس، لمن قدر الله [ D] له أن يشفى بالعسل.

وقد روي عن النبي A في ذلك أخبار أنه العسل، وهو قول: ابن عباس. وقال: ابن مسعود: عليكم بالشفاءين فإن الله جعل في القرآن شفاء وفي العسل شفاء. وقال: " العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور " وكان ابن عمر لا يشكو قرحة، ولا شيئاً، إلا وجعل عليها العسل حتى الدمل إذا كان به طلاه بعسل، / فقيل له في ذلك فقال: أليس الله [ D] يقول: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ}. وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض، فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال [نعم]: ايتوني بماء سماء فإن الله يقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا} [ق: 9]. وايتوني بزيت فإن الله يقول:

70

{مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] فجاء بذلك، فخلطه جميعاً [ثم شربه] فبرئ. ثم قال [تعالى] {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. أي: إن في إخراج العسل من أفواه النحل كما يخرج الريق من فم أحدكم على اختلاف مطاعمها ومراعيها إذ ترعى حامضاً ومراً وما لا طعم له، ثم تهتد [ي] إلى سلوك السبل وترجع إلى بيوتها، لدلالة وحجة لمن تفكر في ذلك فيعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن العبادة لا تكون إلا له، لا إله إلا هو. قوله: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ}. أي: والله خلقكم أيها الناس فأوجدكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يتوفاكم أي: يميتكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر}.

[أي]: ومنكم من يهرم فيصير إلى أرذل العمر، أي: إلى أرداه. وقيل: إنه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة. قال علي بن أبي طالب [Bهـ]: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. لكن المسلم إذا صار إلى أرذل العمر ازداد مع طول العمر عند الله كرامة وأجراً، كما قال [في] سورة والتين والزيتون: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] يعني: آدم خلقه في أحسن صورة، ثم قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] يعني: الكافر من ولد آدم ثم استثنى المؤمنين من ولد آدم فقال: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]. أي: غير مقطوع عنهم وذلك إذا ضعف الرجل المسلم عن الصلاة النافلة والصيام النافلة وما هو رضى

لله [ D] أجرى الله [سبحانه] عليه ثواب ذلك في كبره ولذلك قال: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] أي: إذا فعل ذلك بالمؤمنين فهو أعدل العادلين. ثم قال: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً}. أي: يرد إلى الهرم ليصير جاهلاً بعد أن كان عالماً. يعني: الخرف والخفة التي تدخل الشيوخ، وتحدث فيهم فيصيرون كالصبيان. فهذا تنبيه من الله D للخلق أن الله [سبحانه] نقلهم من جهل إلى علم. ثم من علم إلى جهل، ومن ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف. فهو يقدر على أن ينقلكم من حياة إلى موت ثم من [موت إلى] حياة، فكل ذلك بيده. ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ}. أي، أنه عليم [قدير] لا ينسى شيئاً ولا يتغير علمه بعلم ما كان وما يكون،

71

قدير على ما يشاء. قال تعالى: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق}. أي: فضل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا فما الذين فضلهم الله [ D] على غيرهم في الرزق براد [ي] رزقهم على مماليكهم فيستوون فيه [هم] و/ مماليكهم، فهذا لا يرضونه لأنفسهم فيما رزقهم الله [ D] من المال والأزواج [وقد جعلوا] عبيد الله [سبحانه] شركاء في ملكه، فجعلوا له ما لا يرضونه لأنفسهم. هذا كله مثل ضربه الله [ D] لهم في عبادتهم الأصنام من دون الله [سبحانه]. فهو خطاب وتوبيخ وتقريع للمشركين. فالمعنى أنتم لا

يش [ر] ككم عبيدكم فيما أنعم الله به عليكم من المال ولا ترضون بذلك لأنفسكم فتكونون أنتم وعبيدكم في ذلك سواء، فكيف رضيتم بأن جعلتم لله [سبحانه] شركاء من خلقه، فعبدتم معه غيره؟ فإذا كنتم تأنفون من مساواة عبيدكم بكم فيما في أيديكم [من رزق الله] فكيف رضيتم لرب العالمين بمساواة خلقه له فعبدتموهم؟ وقيل: عنى بذلك الذين قالوا المسيح ابن الله من النصارى. ثم قال [تعالى] {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ}. [أي]: يجحدون نعمة الله عليهم فيجعلون له شركاء من خلقه. قال ابن عباس في الآية: معناها: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، وهو معنى قول قتادة. وقيل: معنى الآية أن

72

من فضله الله [ D] في الرزق لا يشارك فيه مملوكه وهو بشر مثله، فكيف شركتم بين الله [ D] وبين الأصنام فجعلتم له نصيباً وللأصنام نصيباً؟ فلم يحسن عندكم أن تشاركوا عبيدكم [فيما رزقهم] [وأنتم] كلكم بشر ويحسن أن تشاركوا بين الله [سبحانه] والأصنام وليست كمثله، لأنها مخلوقة. فإذا نزهتم أنفسكم عن مشاركة عبيدكم فيما رزقهم الله [سبحانه] فالله [ D] أحق أن تنزهوه عن مشاركة الأصنام. قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}، [أي]: والله خلق زوجة آدم من ضلعه، قاله: قتادة. وقيل معناه: جعل لكم من جنسكم أزواجاً. ثم قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}.

قال ابن مسعود: الحفدة: الاختان. وهو قول ابن عباس وابن جبير. وعن ابن عباس: أنهم الأصهار. وقال محمد بن الحسن: الختن الزوج ومن كان من ذوي رحمه، والصهر من كان من قبل المرأة من الرجل. وقال ابن الأعربي ضد هذا القول في الأختان والأصهار. وقال [الأ] صمعي الختن من كان من الرجال من قبل المرأة والأصهار منهما جميعاً، وقيل: الحفدة أعوان الرجل

وخدمه. وروي عن ابن عباس أنه سئل عن الحفدة في الآية فقال: من أعانك فقد حفدك. [و] قال عكرمة: الحفدة الخدام. [و] عنه أيضاً الحفدة من خدمك من ولدك. وعن مجاهد أنه قال: الحفدة ابن الرجل وخادمه وأعوانه. وعن ابن عباس أيضاً هم ولد الرجل وولد ولده. وقال ابن زيد وغيره: هم ولد الرجل [و] الذين يخدمونه. وعن ابن عباس: أنه قال: هم بنو امرأة الرجل من غيره. والحفدة: جمع حافد كفاسق / وفسقة، والحافد في كلام العرب المتخفف في الخدمة والعمل ومنه قولهم، وإليك نسعى ونحفده، أي: نسرع في العمل بطاعتك.

ثم قال [تعالى] {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات}. أي: من خلال المعاش. {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ}. أي: [أ] فبما يحرم عليهم الشيطان من البحائر والوصائل يصدق هؤلاء المشركون. وقيل معناه: أفبالأوثان والأصنام يؤمنون. {وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ}. أي: وبما أحل الله لهم من ذلك يكفرون، وأنعم عليهم بإحلاله لهم، هم يكفرون أي ينكرون تحليله ويسترونه.

73

قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً}: المعنى: ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله [سبحانه]، أوثاناً لا يملكون لهم رزقاً " من السماوات " أي: لا تنزل مطراً لإحياء الأرض. " والأرض " أي: ولا تملك لهم أيضاً رزقاً من الأرض، لأنها لا تقدر على إخراج نباتها وثمارها لهم. {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}. أي: لا تملك أوثانهم شيئاً من السماوات والأرض. و {رِزْقاً} نصب بيملك. و {شَيْئاً} نصب برزق. وكان أصله: رزق شيء كما يقول: ضرب زيد فلما فرق بينهما انتصب شيء لأنه مفعول به برزق. وهو مثل قول الشاعر:

74

فلم أنكل عن الضرب مسمعاً. ... كان أصله: عن ضرب مسمع، فلما [أ] دخل الألف واللام امتنعت الإضافة فانتصب المفعول به ومثله في التنوين: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وأمواتا} [المرسلات: 25 - 26] كان أصله كفاتاً إحياء وأموات [أي جمع أحياء وأموات]. والكفت الجمع والضم، أي: تجمعهم وتضمهم على ظهرها أحياءً وفي بطنها أمواتاً فلما نون {كِفَاتاً} انتصب {أحْيَآء وأموات} على المفعول به، والعطف عليه، وله نظائر، وهو أصل من أصول العربية. وقد منع بعض البصريين أن يعمل " رزق " في " شيء " لأنه اسم، وليس بمصدر، وقال ينتصب " شيء " على البدل من " رزق ". قال [تعالى] {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال}. قال الضحاك، معناه: لا تعبدوا من دون الله ما لا ينفعكم، ولا يضركم، ولا يرزقكم. وقال ابن عباس: هو اتخاذكم الأصنام. يقول تعالى ذكره: لا تجعلوا معي

75

إلهاً غيري. وقيل معناه: لا تمثلوا الله [سبحانه] بخلقه فتقولوا: هو يحتاج إلى شريك ومشاور فإن هذا إنما يكون لمن لا يعلم ودل على هذا المعنى قوله [ D] : { إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. وقيل معناه: لا تمثلوا خلق الله به، فتجعلوا له من العبادة مثل ما لله [سبحانه]. قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} الآية. هذا مثل ضربه الله [ D] للكافر والمؤمن، قال قتادة: قوله: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ}، هذا مثل ضربه الله [ D] للكافر رزقه الله مالاً، فلم يقدر فيه على [خير]، ولم يعمل فيه بطاعة الله [ D] ثم قال [تعالى]: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً}

فهذا للمؤمن أعطاه الله مالاً يعمل فيه بطاعته فأخذ فيه بالشكر ومعرفة الله [ D] ، فأثابه الله [سبحانه] على / ما رزقه [في] الجنة. ثم قال: {هَلْ يَسْتَوُونَ}. أي: هل يستوي هذان وهما بشران؟ فكيف سويتم أيها المشركون بين الله وبين الحجارة التي لا تعقل ولا تنفع ولا تضر. وقيل: " العبد المملوك " أبو جهل بن هشام، و {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} أبو بكر الصديق Bهـ لا يستويان. وقيل: " العبد المملوك " الصبي لأنه عاجز مربوب {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} مثل لله رب العالمين، لأنه يرزق المخلوقين ويلطف بهم من حيث [يعلمون ومن حيث] لا يعلمون، وهذا قول: مجاهد، قال مجاهد: هو مثل لله الخالق ومن يدعى

من دونه من الباطل. ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} وهو المطبق الذي لا ينطق ولا يسمع. {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي: على وليه {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: هل يستوي القادر التام التمييز، والعاجز الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يأتي بخير؟ فهما لا يستويان عندكم لاختلاف أحوالهما، وهما بشران، فكيف سويتهم بين الله [سبحانه] والأحجار؟. وقال مجاهد والضحاك: هذا مثل لله [ D] ومن عبد من دونه. وقال

قتادة: هو للمؤمن والكافر. وقال ابن عباس: أنزلت هذه الآية: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} في هشام بن عمر، وهو الذي لا ينفق، ومولاه أبو الجوزاء الذي كان ينهاه. وقوله: {[وَ] ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} الأبكم منهما: الكل على مولاه أسيد بن أبي العاصي، والذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم عثمان بن عفان. وقيل: الأبكم يعني به أبي بن خلف هو كالأبكم إذ لا ينطق بخير، وهو كل على قومه كان يؤذيهم ويؤذي عثمان بن مظعون. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} يعني: حمزة بن عبد المطلب.

وقيل: هو مثل ضربه الله [ D] لنفسه والصنم المعبود من دونه وهو الأبكم والفاض هو مثل لله. وقيل الفاضل من الرجلين عثمان بن عفان رضي الله [عنه] والأبكم مولى له كافر، قال: ابن عباس. وقال مجاهد: الذي يأمر بالعدل، هو الله [ D] والأبكم ما يدعون / من دونه من الأصنام. قوله: {الحمد لِلَّهِ}. أي: الحمد الكامل لله دون من يدعا من دونه من الأوثان. قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: فعلهم فعل من لا يعلم، وإن كانوا يعلمون. وقيل معناه: أنهم لا يعلمون وعليهم أن يعلموا. وقيل إن قوله: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} إنما هو مثل للصنم لا يسمع ولا ينطق.

{وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي: كَلُّ على من يعبده ويلي أمره، يحتاج أن يخدمه ويحمله ويضعه. {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ}. أي: لا يفهم ما يقال له فيأتمر لمن أمره، ولا يأمر ولا ينهى. {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل}. أي: هل يستوي هذا الصنم، والله الواحد القهار الذي يدعو إلى التوحيد وهو على صراط مستقيم. قاله: قتادة. وقيل: هذا المثل أيضاً إنما هو للمؤمن والكافر. واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية أن العبد لا يملك. ومن جعل الآية مثلاً

77

لله [سبحانه] والصنم لم يكن فيها حجة [له] في العبد. قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}. المعنى: [لله] ما غاب عن أبصاركم في السماوات والأرض دون ما سواه. {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ [كَلَمْحِ] البصر}. أي: وما قيام الساعة، التي ينشر فيها الخلائق للبعث، إلا كنظرة من البصر، أو أقرب من نظرة. لأن ذلك إنما هو، أن يقال له: كن، فيكون. وهذا إنما هوصفة لسرعة القدرة على بعث الخلق وإحيائهم، كما يقال في تمثيل السرعة ما بين الشيء والشيء: ما بين الحر والقر إلا نومة، وما بين السنة والسنة إلا لحظة. فهذا يراد به السرعة. والمعنى: أن الساعة في مجيئها للوقت الذي لا مدفع له بمنزلة لمح البصر. ومثله

في القرب على التمثيل {سَيَعْلَمُونَ غَداً} [القمر: 26] فسمي يوم القيامة [غداً] على تمثيل القرب إذ لا مدفع له عن وقته. فالقيامة كغد لوقوعها لا محالة كوقوع غد. وقيل: إنها تقوم على الحقيقة في أقرب من لمح البصر، ودلأل] على ذلك قوله: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف: 187]. وقيل معناه: وما أمر الساعة عندنا إلا كلمح البصر لا عندكم، كقوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] أي: عجب عندكم وعند من سمعه لا عندي ويدل على هذا التأويل قوله: {يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6 - 7]. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: [إن] الله قدير على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر، وعلى ما يشاء لا يمتنع عليه شيء من الأشياء كلها.

78

قال [تعالى]: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}. معناه: والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون وأنتم في بطون أمهاتكم، ورزقكم عقولاً تفهمون بها الأشياء، وتميزون بين الخير والشر، وجعل لكم السمع لتسمعوا به أوامر الله، ونواهيه، ومواعظه، فتعلمون وتتعظون. وهذا يدل على أن الواو لا توجب رتبة لأنه ذكر جعله للسمع والبصر والفؤاد / بعد الخروج من البطن، وذلك لم يكن إلا في البطن. فالواو لا توجب رتبة، بل ما بعدها يكون قبل ما قبلها. لا يجوز إلا هذا بهذه الآية، ونظيرها كثير في القرآن يدل على أنها لا ترتب ما بعدها بعدما قبلها، بل قد يكون بعده وقبله. ويجوز أن يكون الباقي مبتدأ غير معطوف. والأبصار لتبصروا بها آياته ونعمه فتشكروا وتعلموا أن الله الخالق وحده لا إله إلا هو، والأفئدة ليفهموا بها، وهي القلوب.

79

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي: فعل ذلك بكم لعلكم تشكرون نعمه عليكم. قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات فِي جَوِّ السمآء}. أي: ألم يَرَ هؤلاء المشركون إلى الطير، تطير في جو السماء أي: في هواء السماء وهو ما بَعُدَ من الأرض وأبعد منه من الأرض السكاك واحدها سكاكة. {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله}. أي: [ما طيرانهن إلا بالله] وبما أعطاهن من القدرة على ذلك ولو سلبهن القدرة لم يطرن. {إِنَّ فِي ذلك لأيات}. أي: إن في تسخير الله الطير في الهواء لعلامات على توحيد الله [ D] لقوم يؤمنون بالله [سبحانه]، قال قتادة: في جو السماء في كبد السماء.

80

قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ [سَكَناً]}. [أي]: جعل لكم موضعاً تسكنون فيه أيام مقامكم. وقيل: معناه جعل لكم من بيوتكم ما تسكن إليه أنفسكم من ستر العورة والحرم فتهدأ فيه جوارحكم. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام} يعني: من جلود الإبل والبقر والغنم {بُيُوتاً} خفافاً عليكم تحملونها معكم في أسفاركم وهو: الظعن. وتنتفعون بها في إقامتكم، وهي: البيوت من الأنطاع والشعر والوبر والصوف. ثم قال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً}. أي: جعل لكم من هذه الأشياء متاعاً.

وواحد الأثاث أثَاثَة، والأثاث متاع البيت. وقيل: لا واحد له. وعن ابن عباس: الأثاث: المال. وكذلك قال قتادة. وقيل الأثاث: الثياب. وهو متاع البيت عند أهل اللغة، كالأكسية والفرش، وهو مأخوذ من قولهم: شعر أثيث، إذا كان كثيراً ملتفاً. ويقال أث الشعر يئث أثاً إذا كثر والتف. وقد أث البيت يئث أثاً إذا صار ذا أثاث. فسمي متاع البيت أثاثاً لكثرته واجتماعه. والأصواف للضأن، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز. وقوله: {وَمَتَاعاً إلى حِينٍ}. أي: تتمتعون به وتنتفعون إلى آجالكم.

81

قال تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً}. يعني: الأشجار والجبال تستظلون بها من الحر والبرد والمطر وقيل: هو السحاب والغمام يظل الناس. {مِّنَ الجبال أَكْنَاناً}. أي: جعل لكم من الجبال والسهل، ولكن حذف السهل لدلالة الكلام عليه. {أَكْنَاناً} جمع: كن يعني غيرانا يسكن فيها. {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} والبرد وحذف / البرد لدلالة الحر عليه. [كما قال أريد الخير أيهما يليني فحذف الشر لدلالة الخير] [عليه].

والسرابيل جمع سربال. والسربال كل ما لبسته من قميص ودرع وغيره، يعني: من القطن، والكتان والصوف. {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}. يعني: الدروع من الحديد. والبأس هنا الحرب. والمعنى في هذا: خلق لكم ما تتخذون منه هذه السرابيل وأقدركم على عمله وألهمكم ذلك. فهذه كلها نعم من الله ينبه خلقه عليها ليشكروا الله على ذلك ويعلموا أنه المنفرد بخلق ذلك المدبر لمصالح عباده، فلا تجب العبادة إلا له. وإنما خص الجبال بالذكر لأنهم كانوا أصحاب [جبال] في بلدهم فخوطبوا بما يعرفون. وترك السهولَ وما فيها أيضاً من الأكنان لدلالة الكلام عليه. وخص ذكر الحر: لأن أكثر زمان العرب في أرض الحجاز وما يليها الحر. فخص ذلك لما

82

يعلمون من ضرره عندهم وترك ذكر البرد لدلالة الحر عليه. وخص ذكر الأصواف والأوبار والأشعار لأنهم كانا أصحاب إبل وغنم ومعز فخوطبوا بما بعقلون. وترك ذكر القطن، والكتان، وغيره، مما يستعمل منه اللباس لدلالة الكلام عليه. ومن هذا قوله {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] فذكر البَرَد لأنهم كانوا يعرفونه فخوطبوا بما يعرفون وترك ذكر الثلج وهو أكثر نزولاً من البَرَد لأنهم كانوا يعرفونه في بلادهم. ثم قال [تعالى] {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}. أي: أتم نعمته عليكم في هذه النعم المذكورة لتخضعوا لله بالطاعة. وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " تَسْلَمون " بفتح التاء واللام، أي لتسلموا من الحر والجرحات وغيرها. أي: فإن أدبر هؤلاء المشركون عما أرسلناك [له] يا محمد من الحق فإنما عليك

83

أن تبلغ الرسالة وتبين ما أرسلت له لمن سمعه حتى يفهمه. قال [تعالى]: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}. قال السدي: النعمة هنا: محمد [ A] [ يعرفون أنه نبي مرسل وينكرون ذلك. ودل على أنها محمد]. قوله: قبل ذلك: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} [النحل: 82] يخاطب محمداً A. وقيل: هي ما عدده الله [ D] في هذه السورة من النعم يعرفون أن الكل من عند الله وهم ينكرون ذلك ويزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم، قال: مجاهد. وقيل:

84

إنكارهم هنا للنعمة، قولهم: لولا فلان ما كان كذا. وقيل معناه: أن الكفار إذا قيل لهم من رزقكم؟ أقروا بأنه الله [ D] ، ثم ينكرون ذلك بقولهم: إنما رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا. ثم قال /: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون}. أي: أكثر قومك يا محمد الجاحدون للنعم ولنبوتك. قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيد}. المعنى: ثم ينكرونها وسينكرونها يوم نبعث من كل أمة شهيداً، أي: شهد عليهما بما أجابت به داعي الله [ D] وهو رسولهم الذي أرسل إليهم

85

{ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني: لا يؤذن لهم في الاعتذار، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}. أي: ولا يتركون الرجوع إلى الدنيا فيتوبوا ومثله قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] أي: بعذر {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. قال: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي: إذا عاين الذين كذبوا محمداً [ A] عذاب الله [ D] فلا ينجيهم منه شيء {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون. ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ}. أي: إذا رأى المشركون يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله سبحانه من الآلهة والأوثان {قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ}. أي: هؤلاء آلهتنا الذين

عبدنا من دونك حشر الله [ D] معهم أصنامهم وأوثانهم ليوبخهم ويعذبهم بها في النار وسموا شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم وزروعهم وأنعامهم. وقيل: سموا بذلك على معنى: هؤلاء شركاؤنا في الكفر [بك]، وقيل: إنما سموا بذلك لأنهم أحدثوا عبادتهم، أشركوهم في عبادة الله [سبحانه] فأضيفوا إليهم، إذ هم اخترعوا ذلك، [وقد] قال في موضع آخر: {شُرَكَآئِيَ} [الكهف: 52، القصص: 62و74، فصلت: 47]. فأضافهم إلى نفسه تعالى عن ذلك على طريق ما فعلوا: أي: شركائي عندكم وفيما زعمتم. قوله تعالى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول}. أي: ألقت الآلهة إليهم القول، أي: انطلقوا فقالوا: إنكم لكاذبون، ما كنا

87

ندعوكم إلى عبادتنا ولا كنا آلهة. قال مجاهد {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول}: قالوا بهم، ونظير هذا قوله: {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82]. وقيل: هم الملائكة الذين عبدوا من دون الله [سبحانه] قالوا للكفار إنكم لكاذبون في عبادتكم إيانا. قال تعالى: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم}. أي: استسلموا له وذلوا لحكمه فيهم، ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} وأخطأهم من آلهتهم ما كانوا يأملون من الشفاعة عند الله [ D] .

88

قال تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب}. أي: الذين كفروا بالله [سبحانه] وبرسوله [ A] وصدوا عن الإسلام من أراده، زدناهم في جهنم عذاباً فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوا. وقال ابن مسعود: الزيادة عقارب لها أنياب كالنخل الطوال تنهشهم. وَرَوَى عنه مُرة أنه قال / أفاعي. وعن ابن عمر أنه قال: لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت. وقيل: إنهم يخرجون من حر النار [إلى] برد الزمهرير فيتبادرون من شدة برد [هـ إلى النار] أعاذنا الله من ذلك. وقال السدي: الزيادة عقارب في النار أمثال: البغال، وحيات أمثال: الفيلة.

وروى البراء بن عازب أن النبي A قال: " زيدوا عقارب أمثال النخل تنهشهم في جهنم ". قال مجاهد إن لجنهم جناباً، يعني: جانباً كالساحل، فيها حيات كأمثال أعناق [البخت]، وأنياباً لها كأنياب البغال فيهرب أهل النار من النار إلى جنابها فتشد عليهم العقارب فتأخذ شفاههم فتسقط ما بين الشفر إلى الظفر فما ينجيهم منها إلا الهرب إلى النار. قال ابن مسعود: إنه ليسمع للهوام بين أطباق جلد الكافر في النار جلبة كما تسمع جلبة الوحش في البر. وإن غلظ جلده أربعون ذراعاً بذراع الجبار يعني: الملك.

89

وروى مجاهد عن ابن عمر أن النبي عليه السلام قال: " إنهم ليعظمون في النار حتى يصير ما بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة كذا وكذا، وإن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وضرسه أعظم من جبل أحد ". وقوله: {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ}. أي: يفسدون في الدنيا بصدهم الناس عن الإسلام. قال [تعالى]: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}. أي: [واذكر يا محمد يوم نبعث من كل أمة شهيداً، أي]: نبعث إليهم نبيهم الذي أرسل إليها. ومعنى {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: من قبيلتهم لأنه تعالى أكثر ما أرسل الرسل إلى الأمم من قبيلتها.

90

ثم قال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء}. أي: على أمتك يا محمد الذين أرسلت إليهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} أي: القرآن. {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي: بياناً للناس لما بهم إليه من الحاجة [من معرفة] الحلال والحرام والثواب والعقاب {وَهُدًى} أي: هدى من الضلالة {وَرَحْمَةً} أي: ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ}، أي: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد. قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان}. المعنى: أن الله [ D] يأمر في الكتاب الذي أنزل على محمد [ A] بالعدل وهو الفرض والإحسان النافلة، وقيل: العدل الإنصاف. ومن الإنصاف الإقرار لمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على أفضاله وإخلاص العبادة له. وكذلك قال

بعض المفسرين: العدل هنا شهادة أن لا إله إلا الله. وروي ذلك عن ابن عباس. وقال ابن عيينة: العدل هنا استواء السريرة والعلانية من كل من عمل لله [ D] عملاً. وقوله: {والإحسان} قال ابن عباس هو أداء الفرائض. وقال ابن عينية الإحسان أن تكون سريرته أفضل من علانيته. وقوله: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى}. أي: إعطاؤهم الحق الذي أوجبه اله لهم في الفرائض وصلة الرحم. {وينهى عَنِ الفحشاء}. أي: عن كل قول وفعل قيبح. وعن ابن عباس الفحشاء هنا الزنى. وقال

ابن عيينة الفحشاء والمنكر هنا / أن تكون علانيته أحسن من سريرته. والمنكر في اللغة: كل ما ينكر من قول أو فعل. وقوله: {والبغي} قال ابن عباس: البغي: الكبر والظلم. والبغي في اللغة: أشد الفساد. وقيل: البغي التعدي ومجاوزة القدر والحد. ثم قال تعالى: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي: يوصيكم لعلكم تذكرون فتنتهوا إلى أمره ونهيه. قال ابن مسعود: أجمع آية في القرآن لخيرٍ وشرٍ آية في النحل {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية. وقال قتادة: ليس من خلق حسن، كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه

91

إلا أمر الله [ D] به وليس من خلق سيىء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله [ D] عنه. وقيل في قوله: {بالعدل} بألا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فهذا هو العدل الحق: {والإحسان} هو أن تعبده كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك. ومن الإحسان أن تحب لولد آدم كلهم ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك، إن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً أحببت له أن يؤمن فيكون أخاك في الإسلام. {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} صلة الرحم والقرابة بمالك أو بنفسك أو بدعائك له وبشرك في وجهه، {وينهى عَنِ الفحشاء} أي: عن ركوب المعاصي. {والمنكر} هو الشرك بالله {والبغي} هو أن تبغي على أخيك فتظلمه أو تغتابه فتبهته. قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ}. المعنى: وأوفوا أيها الناس بميثاق الله [ D] إذا أوثقتموه وبعقده إذا عاقدتموه

فأوجبتم على أنفسكم حقاً لمن عاقدتمه. {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}. أي: لا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه بالإيمان بالله [ D] { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، أي: بعدما شددتم الإيمان فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي: جعلتموه كفيلاً عليكم في أيمانكم، [فلا تكذبوا فيها ولا تنقصوها]. وقد قيل: إنها عامة في كل عقد ويمين، وإن الأيمان منسوخة بإجازة الكفارة في المائدة عن اليمين. وهذه الآية: نزلت فيمن بايع النبي [عليه السلام] على الإسلام لئلا تحملهم قلة من مع محمد [ A] ، وكثرة المشركين على نقض ما عاهدوه عليه من البيعة.

وقال مجاهد: نزلت في الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية أمرهم الله [ D] في [الإسلام] أن يوفوا به ولا ينقضوه. وقال ابن زيد: هؤلاء قوم كانو حلف [اء] لقوم، وقد تحالفوا وأعطى بعضهم بعضاً الميثاق، فجاءهم قوم فقالوا: نحن أكثر وأعز وأمنع فانقضوا عهد هؤلاء، فارجعوا إلينا وح [ا] لفونا، ففعلوا، فنهى الله [ D] عن ذلك بهذه الآية وهو قوله: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92]. ففي الكلم تقديم وتأخير وتقديره: وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً أن تكون أمة هي أربى من أمة، أي هي أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر عدداً نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء /.

92

وكذلك قال مجاهد أيضاً في رواية أخرى عنه. والكفيل الوكيل. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}. [أي: ما تفعلون] في عقودكم وعهودك [م]. قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}. والمعنى: أن الله [ D] نهى عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها فيكونون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أي من بعد إحكامه وإبرامه. روي أن امرأة حمقاء كانت تفعل ذلك بمكة فكانت إذا أبرمت غزلها نقضته. وقيل: هي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد كانت تغزل بمغزل كبير فإذا أبرمته وأحكمته أمرت جاريتها فنقضته. وقيل: هي امرأة اسمها حطية كانت بمكة

وكان بها وسوسة، وكانت تغزل عند الحجر يومها ثم تغدو فتنقضه، أي: تغزله جوانيا [ثم تنقضه برانيا]. وقيل: [هو] مثل، ولم يرد امرأة بعينها. والمعنى: لا تفعلوا هذا الفعل فتكونوا كامرأة نقضت غزلها بعد أن أحكمته. فلو بلغكم أن امرأة فعلت هذا لقلتم [ما] في الأرض أحمق من هذه. [هذا] معنى قول قتادة. وقال قتادة: هو مثل ضربه الله [ D] لمن نقض العهد. ومعنى: {دَخَلاً بَيْنَكُمْ} خديعة وغروراً. أي: لا تجعلوا أيمانكم خديعة وغروراً بينكم ليطمئن إليكم وأنتم مصرون على الغدر، وترك الوفاء فتنقضونها ولا توفون بها. وقال الزجاج: {دَخَلاً} أي: غشاً و [غلاً]. وهو منصوب لأنه مفعول له.

أي: تتخذون الأيمان للدخل، أي: للغش والخديعة. والدخل في اللغة [كل] عيب. يقال: هو مدخول أي معيب، وفيه دخل [أي] عيب. ثم قال: {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ}. أي: تفعلون الغدر في أيمانكم لأجل كون أمة أكثر من أمة فتنقضون عهد الأ [ول] لقلتهم وتحالفون ألكثر لكثرتهم. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ}. أي: إنما يختبركم [الله] بأمره إياكم بالوفاء والعهد بالأيمان ليتبين منكم

93

المطيع المنتهي إلى أمر الله [ D] من العاصي المخالف أمره ونهيه. ثم قال: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. أي: وليبين الله لكم يوم القيامة مجازاة كل فريق منكم على عمله في الدنيا. واختلافهم هنا كون هؤلاء مؤمنين وهؤلاء كافرين. فهذا الذي اختلفوا فيه، فيوم القيامة يتبين لهم المصيب من المخطئ. فهو وعيد [لهم] من الله [ D] . قال [تعالى]: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. أي ولو شاء الله للطف بكم بتوفيق من عنده فتصيرون أهل ملة واحدة. ولكنه خالف بينكم فجعلكم أهل ملل شتى، فوفق من يشاء لما يرضيه من الإيمان به وبرسله وكتبه، وخذل من شاء عن ذلك فكفر [به].

94

ثم قال: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. أي: تسألون عما عملتم في الدنيا في [ما] أمركم به ونهاكم / عنه. قال: {وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ}. أي: لا تتخذوا أيمانكم دخلاً وخديعة بينكم فت [غرون] بها الناس. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا}. فتهلكون بعد أن كنتم من الهلاك آمنين، وهذا [مثل] لكل مبتلى بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة. يقولون زلت به قدمه. ثم قال: {وَتَذُوقُواْ السوء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله}. أي: وتذوقوا عذاب الله [ D] بصكم عن سبيل الله، أي: بمنعكم من أراد

95

[عن] الإيمان {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في الآخرة. قال: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً}. أي: لا تنقضوا عهودكم بعرض من عرض الدنيا وهو قليل: أنه لا بقاء له، إن الذي عند الله من الثواب في الآخرة لمن وفى بعهده {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل ما بين العوضين. قوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ}. والمعنى: ما عندكم أيها الناس مما تأخذونه على نقض الأيمان والعهود يفنى، وما عند الله باق لمن أوفى بعهده. ثم قال: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا}. أي: وليثيبن الذين صبروا على الطاعة في السراء والضراء بأحسن ما كانوا يعملون من الأعمال دون أسوئها.

97

قال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}. [أي]: من عمل بطاعة الله [ D] وهو مصدق بثواب الله [ D] وعقابه [جلت عظمته] فلنحيينه حياة طيبة: قال ابن عباس: الحياة الطيبة، الرزق الحلال في الدنيا، وكذلك قال الضحاك. وقال علي بن أبي طالب [Bهـ]: هي القناعة في الدنيا. وعن الضحاك أنها أن يحيي مؤمناً عاملاً بطاعة الله. وعن ابن عباس أيضاً: أنها السعادة. وقال الحسن: هي الجنة ولا تطيب لأحد حياة دون الجنة، وهو قول قتادة ومجاهد. وقوله بعد ذلك: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يدل على [أن]

98

الحياة الطيبة في الدنيا هي، لأنه أخبر بما يفعل بهم في الدنيا ثم أعقبه بما يفعل بهم [في] الآخرة. ومعناه: لنجزينهم أجرهم في الآخرة بأحسن عملهم في الدنيا لا بأسوئه. وروي: أن هذه الآية: نزلت بسبب قوم من أهل ملل شتى تفاخروا، فقال أهل كل ملة نحن أفضل، فبين الله [ D] فضل هذه الملل بهذه الآية، وروى ذلك أبو صالح. معناه: إذا أردت يا محمد قراءة القرآن فاستعذ بالله. ومثله: إذا أكلت فقل بسم الله. أي إذا أردت الأكل. فحذف هذا لعلم السامع بمعناه. ومثله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية. أي: إذا أردتم القيام إليها. لأن الوضوء إنما يكون قبل الصلاة لا بعدها. قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ}.

100

أي: ليس له حجة على المؤمنين المتوكلين على الله [ D] في مهم أمورهم المتعوذين به من الشيطان. {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ}. أي إنما حجته على الذين يعبدونه ويطيعونه {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، أي: [هم] بالله مشركون قاله مجاهد. وقيل: الهاء للشيطان أي: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} أي: [أ] شركوه في أعمالهم. وقيل معناه: والذين هم من أجله مشركون. قال سفيان: ليس له سلطان على أن يحمل المؤمن على ذنب لا يغفر. وقيل: الاستعاذة بالله تمنع الشيطان من أذى المؤمن. وقيل: إن قوله: {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ} هو قوله:

101

{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] فهؤلاء لم: يجعل للشيطان عليهم سبيلاً. قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ}. المعنى عند مجاهد: وإذا رفعنا آية وأنزلنا أخرى. وعنه [أيضاً]: وإذا رفعنا آية فنسخناها وأثبتنا غيرها. وقال قتادة وهو قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]. وقيل معناه: وإذا بدلنا حكم آية بحكم آية أخرى {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} مما هو أصلح لخلقه. قال المشركون لك يا محمد {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} أي: متخرص الكذب على الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة ذلك لجهالتهم. قال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق}. أي: قل لهم يا محمد: نزَّل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه جبريل [ A] من عند الله {بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ} أي: ليقوي إيمانهم ويتضاعف تصديقهم إذا آمنوا بناسخه ومنسوخه.

103

{وَهُدًى} من الضلالة {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} وبشرى للذين استسلموا لأمر الله [ D] ونهيه وما أنزله في كتابه. قال [تعالى]: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}. أي: ولقد نعلم يا محمد أن هؤلاء المشركين يقولون جهلاً منهم إنما يعلم محمداً هذا الذي يتلو علينا بشر من بني آدم وما هو من عند الله. فقال الله مكذباً لهم: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ}. أي لسان الذي يميلون إليه أنه يعلم محمداً [ A] أعجمي {وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} لأنهم زعموا أن الذي يعلم محمداً عبد رومي. قال ابن عباس: كان رسول الله A يعلم فتى بمكة، وكان اسمه بلعام، وكان أعجمي اللسان فلما رأى المشركون النبي A، يدخل عليه ويخرج، قالوا [له] إنما يعلمه

بلعام، فأنزل الله [ D] الآية. وقيل: كان اسمه يعيش، [قال عكرمة: كان النبي عليه السلام يقرئ غلاماً لبني المغيرة اسمه يعيش] أعجمياً، فقال / المشركون إنه يعلم محمداً. وقيل: هو [عبد] لبني الحضرمي يقال له يعيش. وقيل: كان اسمه جبراً. كان رسول الله A كثيراً ما يجلس عنده عند المروة. فقال المشركون هو يعلم محمداً [ A] ما يتلو علينا، وكان جبر أَعجمي اللسان، فاحتج الله عليهم أنه أعجمي وأن القرآن عربي والعجمي، لا يعلم العربي. وقيل: كانا غلامين اسم أحدهما جبر، والآخر يسار يقرآن التوراة

104

وكان النبي A يجلس إليهما. فقال كفار قريش إنما يجلس إليهما يتعلم منهما. وقال الضحاك: هو سلمان الفارسي. وروي أن الذي قال هذا رجل كاتب لرسول الله A ارتد عن الإسلام وكان يملي عليه النبي A: { سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أو {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أو غير ذلك من خواتم الآي، ويشتغل النبي A فيبدل هو في موضع سميع عليم وعزيز حكيم ويقوله للنبي A، فيقول له النبي عليه السلام، أي ذلك كتبت فهو كذلك ففتنه ذلك. وقال [إن] محمداً يكل ذلك إلي وأكتب ما شئت فارتد. وقال للمشركين أنا أفظن الناس بمحمد والله ما يعلمه إلا عبد بني فلان. فنزلت الآية في كذبه لهم. أي: إن الذين يجحدون بآيات الله لا يوفقهم الله لإصابة الحق ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.

105

{إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} أي: الذين يجحدون آياته، ويفتري بمعنى يتخرص. وقال بعض أهل المعاني إنما أعاد الكاذبين، و [قد] تقدم الإخبار عنهم بالكذب لأن الثاني صفة، والصفة ألزم من الخبر، لأن من نعت بصفة فهي لازمة له، ومن أخبر عنه بخبر فقد يحول عنه. فأعاد ذكر الكذب لأنه ألزم في أكثر الأحوال من الخبر. وهذا الذي قال إنما يلزم إذا كانت الصفة صفة ذات فهي لا تتغير كالأحمر والأسود. ويتغير الخبر بالأفعال. وإذا كانت الصفة صفة فعل فهي تتغير أيضاً كتغيير الخبر بالفعل. والصفة في هذه صفة فعل لا صفة ذات، فلا يلزم قوله، ولا يستقيم، ولكن أعيد ذكر الكذب عنهم للتأكيد.

106

قوله: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ}. هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر [ووالده ياسر] وأمه سمية وخباب بن الأرت، وسلمة بن هشام، والوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة والمقداد بن

الأسود وقوم أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم فثبت على الإسلام بعضهم وافتتن بعضهم. فمن ابتداء {ولكن مَّن شَرَحَ} ابتداء [أيضاً]، وخبرهما {فَعَلَيْهِمْ}. وقيل: {مَن كَفَرَ} في موضع [رفع] على / البدل من " الكاذبين ". وفيه بعد. وقال ابن عباس وقتادة: نزلت في عمار بن ياسر، قال قتادة: أخذه بنو

المغيرة فغطوه في بئر ميمون، وقالوا: أكفر بمحمد A فتابعهم على ذلك وقلبه كاره موقن بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، فأنزل الله [ D] { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}. وقوله: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}. أي: من كفر على اختيار منه واستحباب {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله}، قال عكرمة نزلت الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يمكنهم الخروج، فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون فقتلوا وفيهم نزلت {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء} [النساء: 98] الآيتين. [وقيل إنهم كانوا بمكة لا يقدرون على الخروج فلما نزلت: {إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء} [النساء: 98] الآيتين]، كتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى إخوانهم الذين يخبرونهم بما نزل فيهم فلما وصل إليهم الكتاب، خرج ناس كانوا أقروا

بالإسلام فطلبهم المشركون فأدركوهم فرجعوا وأعطوهم الفتنة، قولاً دون اعتقاد. فأنزل الله [ D] فيهم: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10]، وأنزل فيهم {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}، وأنزل فيهم: {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} [النحل: 110] الآية فسمع ذلك رجل من بني بكر كان مريضاً، فقال لأهله: أخرجوني إلى الروح، يعني المدينة. فأخرجوه فمات قبل الليل، فأنزل الله [ D] : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} [النساء: 100] الآية. قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله [ A] ، وأبو بكر الصديق وبلال وخباب وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله عليه السلام فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشاء أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، ثم أتى

سمية فطعن بالحربة في فرجها، فقتلها. فهي أول شهيد استشهد في الإسلام. قال: وقال الآخرون ما سألوهم، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه، فجعلوا يعذبونه وهو يقول: أحد أحد، حتى ملوه، ثم كتفوه، وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشبي مكة، حتى ملوه فتركوه. فقال عمار: كلنا قد تكلم بالذي قالوا له، فلولا أن الله تداركنا - غير بلال - فإنه هانت عليه نفسه في الله [ D] فهان على قومه حتى تركوه، وملوه، فنزلت هذه الآية في هؤلاء. قال ابن عباس: والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويخنقونه ويعطشونه ويجوعونه / حتى [ما] يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي به حتى أنه ليعطيهم ما سألوا من الفتنة التي رمي بها، وحتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. وحتى أن الجُعل ليمر بهم فيقولون: هذا الجُعل إلهك ن دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم لما يبلغون من جهده فنزلت فيهم: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} الآية.

107

و [قيل] معنى {مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}، أي: قبله وانفسح له صدره. قال: {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} أي: وجب العذاب لهم لاختيارهم زينة الحياة الدنيا على الآخرة {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: لا يوفقهم بجحودهم آيات الله وتوحيده، وعبادتهم غيره. قوله: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}. معناه: أولئك الذين تقدمت صفتهم، هم طبع الله على قلوبهم، أي ختم عليها بطابعه فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصم أسماعهم، فلا يسمعون داعي الله [ D] سماع قبول، وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون بصر مهتد معتبر. {وأولئك هُمُ الغافلون} أي: هم الساهون عما أعد الله [ D] لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم. ثم قال: (لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [109]. قال الطبري: لا جرم معناه لا بد أنهم في الآخرة هم الهالكون الذين غبنوا أنفسهم حظوظها. قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ}. أي: هاجروا إلى المدينة وتركوا ديارهم وأموالهم، أي من بعدما عذبوا على الإسلام بمكة ثم جاهدوا المشركين في الله [ D] مع نبيه [ A] وصبروا في الجهاد، وعلى طاعة الله [ D] إن ربك من بعد ذلك: أي: من بعد الفعلة التي

فعلوها {لَغَفُورٌ} أي لساتر على ذنوبهم {رَّحِيمٌ} بهم. وقد تقدم الكلام فيمن نزلت هذه الآيات. ومن قرأ {فُتِنُواْ} بالفتح، وهي قراءة ابن عامر، فمعناه: عذبوا غيرهم على الإيمان ثم آمنوا هم من بعدما فعلوا ذلك بالمؤمنين، إن ربك من بعد الفعلة التي

فعلوها ساتر لذنوبهم، رحيم بهم. قال ابن عباس وقتادة: نزلت في قوم خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشرطون ففتنوهم فكفروا مكرهين. وقال الحسن وعكرمة: نزلت في شأن ابن أبي سرح: فتنه المشركون فكفر، فنزلت: {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} [النحل: 106]. [الآية، ثم استثنى إلا من أكره] ثم نسخ واستثنى بقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية، وهو عبد الله بن أبي سرح كان يكتب للنبي A فلحق بالمشركين، وأمر به النبي [ A] يوم فتح مكة، بأن يقتل فاستجار له عمر فأجاره رسول الله / A.

111

قال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}. يوم منصوب برحيم. وقيل انتصب على إضمار: [و] اذكر {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}. ومعنى الآية: أن الله أعلمنا أن كل إنسان [منهم] يوم القيامة منشغل بنفسه، يطلب خلاصها. وروي أن كعباً قال لعمر [Bهـ]: تزفر جهنم يوم القيامة زفرة، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه، يقول: يا رب نفسي، حتى أن إبراهيم، خليل الرحمن، ليجثو على ركبتيه. ويقول: لا أسألك إلا نفسي، ثم قال كعب: إن هذا لفي كتاب الله، ثم تلى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} الآية. قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّ}.

أي: ضرب الله مثلاً، مثل قرية، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقوله: {آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} خبر بعد خبر. و {رَغَداً} مصدر في موضع الحال. والمعنى: [و] مثل الله مثلاً لمكة التي سكنها أهل الشرك. والقرية مكة، في قول: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد. وعن حفصة أم المؤمنين [Bها]: هي المدينة، والأول أشهر. قال ابن شهاب: الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت. والقرية التي أرسل

إليهم اثنتان انطاكية، والقرية التي بحاضرة البحر، طبرية. والقرية التي كانت آمنة مطمئنة هي يثرب. وقوله: {كَانَتْ آمِنَةً} أي: لا يخاف فيها أحد، لأن العرب كانت يسبي بعضها بعضاً، وأهل مكة لا يغار عليهم ولا يحاربوا في بلدهم. ومعنى {مُّطْمَئِنَّةً}: قارة بأهلها لا ينتجع أهلها من البلدان كما ينتجع أهل البوادي. {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً} أي: يأتي أهلها معائشهم واسعة كثيرة {مِّن كُلِّ مَكَانٍ} من البلدان. ومعنى: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} أي: كفر أهلها بأنعم الله. وواحد الأنعم على

مذهب سيبويه نعمة. وقال قطرب: واحدها نَعْم [مثل] وُدّ وأَوُدّ، وقال بعض الكوفيين: وأحدها نَعْماء [كبأ] ساء وأبْؤُس وضراء و [أ] ضر. {فَأَذَاقَهَا الله}. أي: أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع} أي: أذاقهم جوعاً خالط أجسامهم فجعل ذلك لمخالطته [جسادهم بمنزلة اللباس لها، وذلك أنه سلط عليهم الجوع سبع سنين متواليات حتى أكلوا العِلْهزَ. والعِلْهِزُ أن تُؤْخذ الحَلَمَة فَتُفْقأ على الوبر

حتى يبتل بدمها، ثم يغلى ويؤكل. ويروى: أنهم أكلوا لحوم الكلاب. وأصل الذوق بالفم ولكنه استُعمِلَ هنا للآبتداء والاختبار. وقوله: {والخوف}. [هو] ما كان يلحقهم من سرايا رسول الله A وجيوشه كانت تطيف بهم. وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}. أي: بكفرهم وجحدهم للنعم. وإنما قال: {والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} ولم يقل: بما كانت تصنع لأنه رده على المعنى. لأن معنى ذكر / القرية في الآية: يراد به أهلها. فرجع " يصنعون " على المعنى: [و] مثله قوله {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4]. فرجع، آخر الكلام إلى

113

الأهل، وقد جرى أوله على الأخبار عن القرية والمراد بها أهلها. وهذا هو قوله في السجدة: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر} [السجدة: 21] فالعذاب الأدنى [هو الجوع] والأكبر ما حل بهم يوم بدر من القتل والأسر. وهو أيضاً قوله: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 10] وهو الجوع، كان الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع. قوله: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ}. أي: ولقد جاء أهل هذه القرية، يعني مكة، {رَسُولٌ مِّنْهُمْ} أي: من أنفسهم يعرفونه ويعرفون نسبه وصدق لهجته فدعاهم إلى الحق {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب} وهو: لباس الجوع والخوف، وقتلهم يوم بدر بالسيف {وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي: مشركون. قال [تعالى]: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيِّباً}. أي: فكلوا من الأنعام التي رزقكم الله خلالاً، أي: مذكاة على اسم الله ولا تَحرِّموها كما حَرَّمَتِ العرب الوصائل والسوائب والحامي وغير ذلك

{واشكروا نِعْمَتَ الله} أي: واشكروه على ما خلق لكم من ذلك، وما أحل لكم من أكله على غيره من النعم {إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: تطيعون. وقيل: إنما عني بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} الآية: المشركين وذلك أن النبي A لحقته رقة في أيام القحط فوجه إليهم طعاماً يرتفقون به، فأمرهم الله بأكله وبالشكر عليه إن كانوا يعبدون الله. والقول الأول: [أولى] لأن بعده: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} وهذا إنما هو مخاطبة للمؤمنين بلا اختلاف. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير}. أي: إنما حرم عليكم ما مات من النعم حتف أنفه، والدم السائل وهو

116

المسفوح، ولحم الخنزير {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي: ما ذبح للأنصاب وسمي عليه غير الله، فمن اضطر إلى شيء من ذلك في مخمصة وهي: المجاعة. حل له. وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ}. أي: باغ في أكله، {وَلاَ عَادٍ} أي: لا يتعدى حلالاً إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ساتر عليه ذنبه فلا يؤاخذه رحيم به أن يعاقبه على ذلك، وقد تقدم تفسير {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} في البقرة بأبين من هذا. قال [تعالى]: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ}. قرأ الحسن والأعرج وطلحة وأبو معمر: " الكَذِبِ " بالخفض على أنه

نعت لما، أو بدل منه. ومن نصب جعله مفعولاً بتصف. وقرأ بعض أهل الشام: " الكُذُبُ " بضم الكاف والذل والباء، نعت للألسنة، جمع كذوب، مثل: شكور، وشكر. ومعنى الآية: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب فيما رزق الله عباده من المطاعم، هذا حلال وهذا حرام لكي تفتروا على الله الكذب فإنه لم يحرم من ذلك كثيراً مما تحرمون ولا أحل كثيراً مما تحلون. وذلك أن اليهود والمشركين أحلوا الميتة فقال المشركون: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ} [الأنعام: 139] يأكله الرجال والنساء. ثم قال: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب}.

118

أي: يتخرصونه ويختلقونه {لاَ يُفْلِحُونَ} أي: لا يخلدون في الدنيا ولا يبقون فيها. {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} أي: الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل. قال: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ}. أي: وحرمنا يا محمد على اليهود ما قد أنبأناك به في سورة الأنعام. وهي: كل ذي ظفر والشحوم. قاله: عكرمة والحسن وقتادة. وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}. [أي: وما ظلمناهم] بتحريمنا ذلك [عليهم] {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بِجَهَالَةٍ}، أي: للذين عصوا الله

120

[سبحانه] فجهلوا ثم راجعوا طاعة الله [ D] والندم على ما عملوا والاستغفار منه {وأصلحوا} أي: عملوا ما يجب عليهم. {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي: من بعد ذنوبهم لهم " غفور رحيم ". قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ}. أي: [كان] معلم [خير] يأتم به أهل الهدى. قال مجاهد كان أمة على حدة. وروي عنه أنه قال: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار. قال ابن مسعود: " الأمة " معلم الخير. ورواه مالك عن ابن مسعود أن [هـ] قال: " الأمة "

الذي يعلم الناس الخير، " والقانت " المطيع لله D ولرسوله A، " والحنيف " المخلص. قال مالك: وذكر عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال: يرحم [الله] معاذاً لقد كان أمة قانتاً لله [ D] حنيفاً. وأصل القنوت الطاعة. فكان إبراهيم عليه السلام قائماً لله [ D] ، ودعا إلى عبادته، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فأعطاه الله D ألا يبعث نبياً من بعده إلا من ذريته. وأعطاه الله D ألا يسافر في جميع الأرض فتخطر سارة على قلبه إلا هتك الله ما بينه وبينها من الحجب حتى يراها ما تصنع. وكان A أول من اختتن، وأقام مناسك الحج، وضحى، وعمل بالسنن، نحو: قص الشارب والأظفار ونتف الإبط

122

وحلق العنة وشبهه. و" الحنيف ": الحاج في قول الضحاك، وعن ابن عباس: " الحنيف " المسلم. ويدل عليه قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [النحل: 123] وقيل حنيفاً على دين الإسلام. {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أي: مخلصاً بشكر الله [ D] فيما أنعم عليه " واجتباه [واختاره] واصطفاه لخلته {وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: ارشده إلى الطريق المستقيم وذلك دين الإسلام. قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً}. أي: ذكر [اً] جميلاً حسناً باقياً على الأيام {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي: أنه

في الآخرة لمن صلح أمره وشأنه عند الله [ D] وحسنت منزلته. وقيل: معناه، وأنه في ثواب الآخرة / لمن الصالحين لأن الآخرة ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء. فالمعنى: أنه وإن أعطي أجره في الدنيا، فإنه في الآخرة على مثل ثواب الصالحين، لا ينقصه من ثوابه شيء لأجل إيتائه أجره في الدنيا. وقيل في الآية: تقديم وتأخير، والتقدير: وآتيناه أجره في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. [و] في هذا القول: بعد، لأن ما بعد [إن] لا يقوى بها التقديم وما بعد: " إن " منتظر [لما] لم يكن، وما قبلها قد كان ووقع فلا يدخل أحدهما في الآخر. وقيل المعنى: وأنه في أجر الآخرة والعمل لها لمن الصالحين. وهذا: قول صالح حسن. قال مجاهد: الحسنة هنا لسان صدق. وقال قتادة: الحسنة أنه ليس أهل دين ألا يتولاه ويرضاه.

123

قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}. أي: أوحينا إليك يا محمد بأن تتبع دين إبراهيم مائلاً عن كل الأديان إلا عنه. قال [تعالى]: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ}. [أي: إنما فرض تعظيم السبت على الذين اختلفوا فيه]. فقال بعضهم: هو أفضل الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة، ثم سبت يوم السبت، وقال آخرون: أفضل الأيام [يوم] الأحد، لأنه [ال] يوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء. واختلفوا في تعظيم غير ما فرض عليهم تعظيمه ثم استحلوه. قال مجاهد: جعل السبت على الذين اختلفوا فيه فاتبعوه وتركوا يوم الجمعة. وقال قتادة: " اختلفوا فيه ": استحله بعضهم وحرمه بعضهم، وهو قول:

ابن جبير. وقال ابن زيد: كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطؤوه وأخذوا يوم السبت [فجعل عليهم، وقيل: إنهم ألزموا يوم الجمعة عيداً فخالفوا، وقالوا: نريد يوم السبت] لأنه يوم فرغ الله فيه من خلق السماوات. وروي: أن عيسى [بن مريم] عليه السلام أمر النصارى أن يتخذوا يوم الجمعة عيداً فقالوا لا يكون عيدنا إلا بعد عيد اليهود فجعلوه الأحد. ويروى أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: تفرغوا لله في سبعة أيام في يوم تعبدونه ولا تعملون فيه شيئاً من أمور الدنيا، فاختاروا السبت فأمرهم موسى [ A] بالجمعة فأبوا إلا السبت، فجعله الله [ D] عليهم. ثم قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. أي: من هذه الأيام وفي استحلالهم للسبت.

125

قال تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة}. أي: ادع يا محمد من أرسلت إليه إلى طاعة الله [ D] والإقرار له بوحدانيته. و" الحكمة " هنا: كتاب الله [سبحانه]. و " الموعظة الحسنة ": العبر التي هي حجة عليهم مما ذكرهم به من الآيات في كتابه. {وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي: جادلهم بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها، وهي الصفح عنهم. وقال الزجاج: " الحكمة " هنا: النبوة / و " الموعظة ": القرآن: {وجادلهم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} غير فظ ولا غليظ القلب، أي: ألن لهم جناحك، وهي منسوخة عند جماعة من العلماء نسخها المر بالقتال. وقيل: هي محكمة غير منسوخة، ومعناه: الانتهاء إلى ما أمر الله [ D] به، وهذا لا ينسخ.

126

ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ}. أي: بما حاد عن طريق الهدى من المختلفين في السبت وغيره. {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي: يسلك الطريق المستقيم. قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة. المعنى: وإن ظفرتم أيها المؤمنون بالمشركين فافعلوا بكم {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} عن عقوبتهم وأحسنتم [واحتسبتم] عند الله [ D] ما نالكم منهم للصبر خير للصابرين. وهذه الآيات الثلاث: نزلن بالمدينة دون سائر السورة. نزلت حين

أقسم النبي A وأصحابه ليمثلن بالمشركين إن ظفروا بهم كما فعل المشركون بحمزة وغير [هـ] يوم أحد من التمثيل [بهم. وروي عن النبي A " لما بلغه ما فعلوا بحمزة من التمثيل]. قال: " لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلاً منهم " فلما سمع ذلك المسلمون قالوا: والله لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب فأمرهم الله [ D] أن يفعلوا بهم مثل ما فعلوا، ولا يتجاوزوا إلى أكثر، ثم أعلمهم أن الصبر وترك الانتقام بالمثلة خير وأحسن. وقيل: إنها منسوخة بقوله: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} وقيل: هي منسوخة بالقتال والأمر به، وإنما كان هذا أمر الله [ D] نبيه [ A] ألا يقاتل إلا من قاتله لقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا} [البقرة: 190].

أي: تقاتلوا من لم يقاتلكم. فقال المسلمون إن قاتلونا وأظهرنا الله D عليهم لنمثلن بهم فنسخ ذلك في براءة بقوله {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهذا القول: مروي عن ابن عباس. ومن قال: إن هذه الآية، قال: عني بقوله {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} نبي الله [ D] وحده ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال في براءة وهو قول ابن زيد. وعن ابن سيرين والنخعي وسفيان: إن الآية عامة معناها من ظلم بظلامة فلا يحل [له] أن يأخذ من ظالمه أكثر مما ناله منه ولا يتجاوز إلى أكثر من حقه. وروى أبو هريرة: " أن النبي A وقف على حمزة بن عبد المطلب حيث استشهد فنظر إلى شيء لم ينظر قط إلى شيء كان أوجع منه لقلبه ونظر إليه، قد مثل به، فقال:

رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواه شتى. أما والله، مع ذلك، لأمثلن بسبعين منهم. فنزل جبريل [والنبي صلى الله / عليهما] واقف بخواتم النحل ". {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} الآية. فصبر النبي A، وكفر عن يمينه، ولم يمثل بأحد. ثم قال تعالى: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله}. أي: اصبر يا محمد على أذى من أذاك، وما صبرك إذا صبرت إلا بمعونة الله [لك] وتوفيقه إياك لذلك. {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي: على هؤلاء المشركين الذين يكذبون ويمثلون بالمسلمين. {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أي: لا يضيق صدرك من قولهم فيما جئتهم به أنه سحر، وأنه شعر، والمكر الخديعة. {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} [أي: الذين اتقوا] محارمة {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} أي: الذين احسنوا فيما فرض الله عليهم.

الإسراء

بسم الله الرحمن الرحيم سورة سبحان مكية قال ابن مسعود: بنو إسرائيل, والكهف , ومريم, وطه, والأنبياء, من العتاق الأول وهن من تلادي يريد أنهن [نزلن] في أول ما نزل [من القرآن] وهو صغير. قوله: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} إلى قوله: {السميع البصير}.

" سبحان: عند الخليل وسيبويه منصوب على المصدر، إلا أنه لا ينصرف لأنه معرفة في آخر [هـ] زائدتان. وحكى سيبويه: أن من العرب من ينكره فيصرفه. وقال أبو عبيدة: هو منصوب على النداء. وقال بعضهم. هو موضوع موضع المصدر فنصب لوقوعه موقعه، فهو موضع تسبيح. والتسبيح: يكون [بمعنى الصلاة، ومنه قوله تعالى في يونس: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] أي: من المصلين.

وفي لغة لبعض أهل [اليمن]، يستعملونه في معنى الاستثناء، ومنه قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي: تستثنون إذا أقسمتم {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] ولم يستثنوا. فإنما ذكر [هم] بتركهم الاستثناء. ويستعمل في معنى النور. ومنه حديث النبي A: " لولا ذلك لأحرقت سبحات وجهه. . . "، أي نور وجهه. ومعنى " سبحان الله ": براءة الله من السوء. كذلك فسره النبي A حين سئل عن معنى التسبيح. وروي عنه أنه " سئل عن معنى سبحان [الله]، فقال: تنزيه لله من كل

سوء " وسئل عنها علي [Bهـ] فقال: هي كلمة رضيها الله لنفسه. وعنه أيضاً أنه قال: هي كلمة أحبها الله ورضيها لنفسه فأحب أن تقال. ومعنى المسجد الحرام [أي]: المسجد الممنوع من الصيد فيه، لأن الحرم ممنع. والحرم كله مسجد. عن أم هانئ أنها قالت: ما أسري برسول الله [ A] إلا وهو [في بيتي].

وقيل: إنما أسري به من المسجد. عن قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة [وهو رجل من قومه، قال: قال نبي الله A: " بينا [أنا] عند البيت بين النائم واليقظان، إذ سمعت قائلاً يقول أحد الثلاثة: فأوتيت بطست من ذهب فيه ماء زمزم، قال: فشرح صدري فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم [ثم] أعيد مكانه ثم خشي إيماناً وحكمة، ثم أتيت بداية بيضاء يقال لها البراق، فوق الحمار ودون البغل، يضع خطوه أقصى طرفه، فحملت عليه. ثم انطلقنا حتى / [أ] تيت السماء الدنيا " ثم ذكر الحديث بطوله قال ابن شهاب، أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، " أن النبي A أسري به على البراق وهي دابة إبراهيم خليل الرحمن التي كان يزور عليها البيت الحرام يقع حافرها موقع طرفها. قال: فمرت بعير من عيرات قريش بواد من تلك الأودية فنفرت العير، حتى أتى رسول الله A إيلياء فأتي بقدحين: قدح خمر، وقدح لبن، فأخذ رسول الله [ A] قدح اللبن، فقال له جبريل [ A] : هديت إلى الفطرة لو أخذت قدح الخمر [ل] غوت أمتك. [و] قال ابن

شهاب: فأخبرني ابن المسيب أن رسول الله [ A] لقي هنالك إبراهيم وموسى وعيسى، فنعتهم رسول الله [ A] . فقال: أما موسى فَضَرْب، رجل الرأس كأنه من رجال شنوة. وأما عيسى [فهو] فهو رجل أحمر كأنه خرج من ديماس وأشبه من رأيت به عروة بن مسعود الثقفي. وأما إبراهيم فإنه أشبه ولده به. فلما رجع رسول الله A قريشاً أنه أُسريَ به، قال عبد الله: فارتد ناس كثير بعدما أسلموا، فأتى أبو بكر الصديق [Bهـ] فقيل له: صاحبكم يزعم أنه أُسريَ به إلى بيت المقدس ثم رجع في ليلة واحدة. قال أبو بكر: [أ] وقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فاشهد [وا] إن كان كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أفتشهد أنه جاء الشام في ليلة واحدة؟ فقال إني أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله A يقول: لما كذبتني

قريش قمت فمثل لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ". وقال أبو العالية: " جاء جبريل [إلى النبي] A ومعه ميكائيل فقال جبريل لميكائيل إيتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسس من ماء زمزم فشرح صدره، ونزع ما كان فيه من غل، وملاه حلماً وإيماناً وعلماً ويقيناً وإسلاماً، وختم بين كتفيه بخاتم النبوءة، ثم أتاه بدابة فحمل عليه، كل خطوة [منها] منتهى بصره، فسار وسار معه جبريل. فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد [كما كان] فقال النبي A: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة بسبع مائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه

وهو خير الرازقين. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما أرضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل؟ [فقال] هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على إقبالهم رقاع وعلى إدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع / والزقوم، ورضف جهنم، وحجارتها، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله شيئاً وما الله بظلام للعبيد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيء في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيء الحبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ [قال]: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى تصبح، والمرأة تكون عند الرجل [الطيب] فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت معه حتى تصبح، قال: ثم أتى على خشبة من الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا حرقته فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه، ثم تلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ}. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، قال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك

تكون عليه آمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: من هؤلاء [يا جبريل؟ قال: هؤلاء] خطباء الفتنة. ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة باردة، وريح المسك وسمع صوتاً. فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة وريح المسك؟ وما هذا الصوت؟ فقال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ايتني ما وعدتني فقد كثر زخرفي، واستبرقي، وحريري، وسندسي، وعبقريي، ولؤلؤي [ومرجاني]، وفضتي، وذهبي، وأكوابي، وصحافي، وأباريقي، وفواكهي، وعسلي، ولبني، وخمري فأين ما وعدتني؟ فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين. قالت: قد رضيت. ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً

منتنة فقال: ما هذا يا جبريل؟ وما هذا الصوت. فقال: هذا صوت جهنم، تقول: يا رب، ايتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي. [وقد] بعد قعري، واشتد حري، فأتني ما وعدتني، فقال لها: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار / لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت. ثم أتى بحديث غلإسراء بطوله، وفيه اختلاف بين الرواة. فمذهب من قدمنا ذكره أن النبي A [ أسرى] بجسمه وعليه أكثر الناس ". وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: كانت رؤيا من الله صادقة: وروي ذلك عن عائشة أيضاً [Bها]. واستدل الحسن على صحة ذلك بقوله {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] فالوحي يأتي للأنبياء في [النوم] وفي اليقظة

ودليل ذلك قول إبراهيم [ A] : { إني أرى فِي المنام أَنِّي [أَذْبَحُكَ]} [الصافات: 102] ثم مضى لذلك ليفعل ما أمر به في النوم. والاختيار عند أهل النظر: أن يكون أسرى الله [ D] بجسمه وليست برؤيا في المنام. والدليل على صحة ذلك: أنها لو كانت رؤيا رآها في منامه لم يكن في ذلك دليل ولا حجة على نبوته، لأن كل إنسان يرى أنه ببلد بعيد وهو في بلد آخر. فقد يرى الإنسان أنه في الصين و [هو]. بقانة، وبينهما سيرة نحو السنتين وأكثر. وقد قال الله [تعالى]: {أسرى بِعَبْدِهِ} ولم يقل: بروح عبده، فلا يتعدى ما قاله الله [ D] إلى غيره إلا بدليل قاطع. وقوله: {إلى المسجد الأقصا} يعني مسجد بيت المقدس. وقوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ}.

أي: جعلنا حوله البَركَة لسكانه في معايشهم وكثرة ثمارهم وطيبها. وقيل معناه: أن الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى كلهم كانوا ببيت المقدس فمعنى البركة فيه أنه طهر من الشرك وبوعد منه وخص بالأنبياء. وقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ}. أي: أسري بمحمد [ A] لكي يرى من آيات الله [ D] وعجائبه [سبحانه] وذلك ما رآه [في] طريقه مما ذكرنا بعضه. وروي: أن أهل مكة قالوا للنبي عليه السلام: إن لنا في طريق الشام إبلاً، فأخبرنا خبرها ومتى تقدم. فأخبرهم أنها تقدم عليهم في يوم سماه لهم مع شروق الشمس، وأنه فقد منها جمل أورق فخرجوا في ذلك اليوم فقال أحدهم: هذه الشمس قد أشرقت وقال: هذه الإبل قد [أقبلت].

وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} معناه السميع لما يقول هؤلاء المشركون من تكذيب محمد A وغير ذلك. البصير بما يعملون. لا يخفى عليه شيء من ذلك. وكسرت: إن " في قوله: " إنه " لأن معنى الكلام: قل يا محمد سبحان الذي أسرى بعبده، وقل [يا محمد] إنه هو. ويروى: " أن النبي A لما أعلم قريشاً بالإسراء كذبوه، وقالوا له: نسألك عن عير لنا، هل رأيتها في الطريق؟ فقال: نعم، فقالوا: أين؟ قال: مررت على عير بني فلان بالرواح، قد أضلوا ناقة لهم، وهم في طلبها. فمررت على [ر] حالهم وليس بها منهم أحد. فوجدت في إناء من آنيتهم ماء فشربته / فسلوهم إذا رجعوا هل وجدوا الماء [في] الإناء أم لا؟ فقالوا: هذه آية. قال: ومررت على عير بني فلان فنفرت مني الإبل فانكسر منها جمل أحمر عليه أبناء فلان. فقالوا: هذه آية أخرى. [قال ومررت على عير بني فلان] بالتنعيم حين انشق الفجر. قالوا: فإن كنت

2

صادقاً، فإنها تقدم الآن. قال أجل. قالوا: فحدثنا بعدتها، وأحمالها، ومن فيها. قال: كنت مشغولاً عنها. فمثل ذلك لرسول الله [ A] فقال هي منحدرة من الثنية يقدمها جمل أورق عدتها كذا وكذا، وأحمالها كذا وكذا، فيها فلان وفلان، يسمي الرهط الذين فيها، وخرج رهط من قريش يسعون إلى الثنية فإذا هم بها حين انحدرت على ما [وصفها] لهم [النبي] A ". وأخبار الإسراء كثيرة مختلفة الألفاظ، منها المطول، ومنها المختصر، والمعاني متقاربة، فاقتصرنا على ما ذكرنا اختصاراً. قوله: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {عَبْداً شَكُوراً}. ذرية نصب على النداء، أو على البدل من وكيل، لأنه بمعنى الجميع، وعلى أنه مفعول ثان ليتخذوا. أو على إضمار أعني. هذا كله على قراءة من

قرأ [يتخذ [وا] بالياء. فأما من قرأ بالتاء، فذرية نصب على النداء أو على البدل من وكيل وفيه بعد في المعنى. والمعنى: سبحان الذي أسرى بعبده وأتى موسى الكتاب وهو التوراة. لكنه خرج من الغيبة إلى الأخبار وذلك كثير في القرآن وفي كلام العرب. وقوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}. [أي]: بياناً لهم ودليلاً إلى الحق لئلا يتخذوا من دوني شريكاً. وقيل: وكيل رب. وقيل: كفيل. وقيل: وكيلاً كافياً. وقيل معناه: لئلا يتخذوا من دوني رباً. وعني بالذرية هنا جميع من احتج عليهم بهذا القول من جميع الأمم لأن من على وجه الأرض من جميع بني آدم كلهم ذرية من أنجى الله [ D] في السفينة مع نوح [ A] .

وهو نوح وثلاثة بنون وامرأته وثلاث نسوة لبنيه. وبنوه هم سام وحام ويافث. أما سام فأبو العرب وأما حام فأبو الحبش وأما يافث فأبو الروم. وقد تقدم ذكر هذا بأوعب من هذا البيان. ثم قال تعالى: {نَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}. يعني: نوحاً [ A] . قال سلمان الفارسي: إنما سمي نوحاً عبداً شكوراً، لأنه كان إذا لبس ثوباً حمد الله، وإذا أكل طعاماً حمد الله، وهو قول مجاهد. وقيل: إنه كان يقول إذا أكل [طعاماً] الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا لبس ثوباً قال: الحمد لله الذي أكساني، ولو شاء أعراني. وإذا لبس نعلاً، قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني

الأذى ولو شاء لحبسه. وقيل: سمي " شكوراً " / لأنه كان يقول: إذا خرج البراز منه: الحمد لله الذي سوغنيك طيباً وأخرج مني أذاك وأبقى منفعتك. وقيل: سمي بذلك لأنه كان إذا لبس ثوباً جديداً قال: الحمد لله، وإذا أخلقه قال الحمد لله. وقال القرظي: كان [يقول] إذا أكل أو شرب أو ركب دابة أو لبس ثوباً [ال] حمد لله. و [روي] عن سلمان أيضاً مثله. فالحمد لله والشكر له والإقرار له بالحمد على نعمه يعني: بالشكر. وروي عن بعض الصحابة أو بعض التابعين أنه قال: لو جمع نعم الدنيا كلها في قشرة بيضة ثم لحسه مؤمن، وقال الحمد لله لأدى شكر [هـ] ذلك.

وروى مالك عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة [أنه] قال: قال رسول الله A: " إذا مرض العبد، المؤمن بعث الله [ D] إليه ملكين فيقول: انظرا ما يقول لعواده. فإن هو إذا دخلوا عليه حمدا لله رفعوا ذلك إلى الله [ D] ، وهو أعلم، فيقول الله D: لعبدي، إن أنا توفيته، أن ادخله الجنة، وإن أنا شفيته، أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته ". وروى مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي A

4

يرويه عن ربه [ D قال]: " إذا ابتليت عبدي [بلاء] فصبر أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وإن أنا قبضته في علّته تلك قبضته إلى رحمتي وكرامتي ". قوله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} إلى قوله: {أَكْثَرَ نَفِيراً}. معنى القضاء في اللغة: أحكام الشيء والفراغ منه. فمعنى الآية: وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه إلى موسى [ A] إنكم يا بني إسرائيل تعصون الله وتخ [ا] لفون أمره وتستكبرون عليه استكباراً شديداً مرة بعد مرة. قال ابن عباس وابن زيد: {وَقَضَيْنَآ [إلى بَنِي] إِسْرَائِيلَ} أعلمناهم بذلك في

كتابهم. وقيل: معناه: إن ذلك سبق في أم الكتاب عليهم أنهم يفسدون ويخالفون أمر الله [سبحانه] ويستكبرون في الأرض مرتين. قاله قتادة. وروي [ذلك] أيضاً عن ابن عباس قال: [قضاء] قضاه الله [ D] على القوم كما تسمعون. قال مجاهد: دخلت على ابن عباس فقلت: إن على الباب رجل يقول في القدر. فقال: ادخلوه علي. فقلت ما تريد به؟ قال: اقرءوا عليه قول الله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} قال فقضى عليهم ليفسدن في الأرض مرتين وليعلن علواً كبيراً قبل أن يخلقهم، فقضى عليهم ما علم أنهم عاملون، وكتبه عليهم ففعلوه. قال ابن عباس وابن مسعود: كان إفساد بني إسرائيل [في الأرض] في أول

مرة قتل زكرياء [ A] فبعث الله [ D] عليهم ملك [ال] نبط. فبعث إليهم الجمود من أهل فارس، فهم أولوا بأس شديد. / فتحصنت بنو إسرائيل وخرج فيهم بختنصر يتيماً مسكيناً، خرج يستطع [م] وتلطف حتى دخل المدينة. فأتى مجالسهم فسمعهم يقولون: لو علم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم واشتد القيام على الجيش فرجعوا فذلك قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية: ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم فاستنفذوا ما في أيديهم، فذلك قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} الآية. و " نفيراً " معناه عدداً. وقال ابن زيد: كان إفسادهم الأول قتل زكرياء، والثاني قتل يحيى.

فسلط الله عليهم ابور ذا الاكتاف، وهو ملك من ملوك فارس، في قتل زكرياء، وسلط عليهم بختنصر في قتل يحيى. وقال قتادة: بعث عليهم أول مرة جالوت والثانية بختنصر. ومعنى قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي: أول المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل، أي أو [ل]. الفسادين. وقوله: {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار}. أي: ترددوا بين الدور والمساكن وذهبوا وجاءوا. وقال ابن عباس: " جاسوا " مشوا. وقال الزجاج: الجوس طلب الشيء

باستقصاء. فمعناه: طلبوا هل يجدون أحداً. وقال بعض أهل اللغة: معنى " جاسوا " قتلوا. وقوله: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً}. أي: كان جوس القوم خلال ديار بني إسرائيل وعداً من الله [ D] ، لا يخلف. قال ابن عباس وقتادة: أتاهم في المرة الأولى جالوت فجاس خلال ديار بني إسرائيل وضرب عليهم الخراج والذل. فسألوا الله [ D] أن يبعث إليهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله. فبعث الله طالوت. فقاتلوا جالوت، فنصره الله، وقتل جالوت، على يدي داوود ورد الله [ D] إلى بني إسرائيل ملكهم. وعن مجاهد أنه قال: جاءهم بختنصر في أول مرة من جهة فارس فهزمهم بنو إسرائيل، ثم رجعوا ثانية فقتلوا بني إسرائيل ودمر [و] هم تدميراً، وجلوهم عن بيت المقدس فلم يصلوا إلى دخوله سبعين سنة.

وروي عن مجاهد أنه قال: إنما جاءهم في أول مرة قوم من أهل فارس معهم بختنصر يتجسسون أخبارهم ثم رجعت فارس وقد وعى بختنصر أخبارهم دون أصحابه، ولم يكن قتال. وقيل: إنما جاءهم في المرة الأولى، أي: بختنصر ومن معه من جبابرة فارس، بعثه الله نقمة لهم حين أفسدوا وقتلوا يحيى بن زكرياء. ويروى: أن يحيى كان قد قال لهم: إياكم أن يقع من دمي شيء في الأرض فتهلك بنو إسرائيل. فذبحوه واحتفظوا بدمه، فجعلوه في طست من ذهب. فوقعت منه نقطة في الأرض / فما زالت تفور وتغلي حتى هجم عليهم بختنصر. فيروى: أنه ذبح على ذلك الدم سبعين ألفاً من بني إسرائيل، فهدأ الدم. سبى بني إسرائيل حتى سبى أبنائهم وخرج بهم إلى أرض العراق. ويروى: أن الفساد الثاني الذي ارتكب بنو إسرائيل هو قتلهم زكرياء ويحيى عليهم السلام بعد أن أقاموا في الدعة والسلامة عشرين ومائتي سنة. فأرسل عليهم من قتلهم وسباهم، وحرق بيت المقدس وأخرجه. فلم يزل الذين ظهروا عليهم ببيت

المقدس حتى فتحه الله D في زمان عمر Bهـ وفيه الروم فقتلوا وأخرجوا منه إلى الآن لا يدخلونه إلا مستخفين. وقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ}. قال السدي: هي ما نصر الله D بني إسرائيل، إذ غزوا النبط، فأصابوا منهم واستنقدوا ما في أيديهم. وقيل: هو إطلاق الملك الذي غزاهم [ما في يديه من] أسراهم ورد ما كان أصاب من أموالهم من غير قتال، سخره الله D لذلك فهو رد الكرة لبني إسرائيل.

7

وقيل: هي نصر الله D إياهم على جالوت حتى قتلوه. وقوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}. أي: عدد [اً]، وذلك في أيام داود. وقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ}. المعنى: أن الله أخبرنا عما قال لبني إسرائيل في التوراة لنتأسى بذلك {إِنْ أَحْسَنْتُمْ}، يا بني إسرائيل أي: [إن] أطعتم الله فيما أمركم به على نعمه عندكم إذا دلكم من عدوكم {أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: ما فعلتم من ذلك لأنفسكم تفعلوه، وعليكم يعود نفعه. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أي: عصيتم الله [ D] { فَلَهَا} أي: فإلى أنفسكم تسيئون. لأن ضرره عليكم يعود.

وقيل: معنى {فَلَهَا} أي: إليها. كما قال: {أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي: إليها. أي: فإلى أنفسكم يعود الضرر. وقيل: اللام على بابها [على معنى] فلها يكون العقاب على الإساء. ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ}. والمعنى: فإذا جاء الفساد الثاني من فسادكم يا بني إسرائيل، وهو قتلهم يحيى على ما ذكرنا {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} أي: خلينا بينكم وبينهم، ولم نمنعهم منكم. فبعث الله عليهم بختنصر فقتل المقاتلة وسبى الذراري وأخذ ما وجد من الأموال ودخلوا بين المقدس. وهو قوله: {وَلِيَدْخُلُواْ [المسجد] كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فتبروه وخربوه وألقوا فيه

الجيف والعذرة. وقيل: [ليسوء] معناه: أمرناهم بغزوكم بما عصيتم وأفسدتم. {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [أي]: ليسوء المبعوثون عليكم وجوهكم. ومن قرأ بفتح الهمزة، فمعنى: " ليسوء " الوعد بسوء الله. أو ليسوء العذاب. ومن قرأ بالنون فهو على الأخبار عن الله جل ذكره. وقوله: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. أي: كما دخلوه في الانتقام / منكم في فسادكم الأول.

8

وقوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً}. قال قتادة معناه: ما علوا عليه. وقيل معناه: ويتبروا ما داموا عالين. وحقيقة أن ما، وما بعدها في موضع نصب على الظرف. والتقدير: وليتبروا وقت غلبتهم. والتتبير التدمير. وقوله: {مَا عَلَوْاْ} عند الزجاج [ما] في موضع الحال. أي: وليدمروا في حال علوهم. قال تعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}. المعنى: لعل ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم عليكم. و {عسى} من الله واجبة وقد فعل بهم ذلك فكثر عددهم وجعل منهم الملوك والأنبياء. ثم قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}. أي: [و] إن عدتم [ل] أمخالفة أمري، وقتل أنبيائي عدنا عليكم بالقتل

والسباء والذلة والصغار. فعادوا، فعاد الله عليهم بذلك. إذ بعث محمداً. قال ابن عباس: عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد. فسلط الله عليهم ثلاثة ملوك فارس. وعنه: عادوا فسلط الله عليهم المؤمنين. وقال قتادة: عادوا فسلط الله عليهم محمداً [ A] يعطونه الجزية عن يد وهم صاغرون. وقال الضحاك: الرحمة هنا بعث محمد A. وقال الأخفش: المعنى: عسى ربكم أن يرحمكم إن فعلتم ذلك. ثم قال: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً}. أي: سجناً يسجنون فيها. قاله قتادة وغيره. وقال ابن عباس: {حَصِيراً} مأوى. وقال الحسن: {حَصِيراً} بساطاً ومهاداً كما قال: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]. ويقال للملك: {حَصِيراً} بمعنى محصوراً لأنه محجوب عن الناس. ويقال

9

للبخيل: حصوراً وحصيراً لمنعه ما عنده، ومنه الحصر في المنطق لأنه يمتنع عليه الكلام. ومنه الحصور عن النساء لامتناع الجماع عليه، ومنه الحصر في الغائط إذا احتبس عليه. وقيل للحصير المنسوج حصيراً، لأنه حُصِرت جوانبه عن أن تنفلت. وقيل: لأنه حصرت طاق [اته بعضها من بعض. وقوله: {إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. المعنى: أن هذا القرآن يا محمد يرشد من اهتدى به للحال التي هي أقوم الحالات أي: أصوبها. وذلك دين الله [سبحانه] المستقيم وتوحيده [جلت عظمته] والإيمان بكتبه ورسله وهو مع هدايته يبشر المؤمنين العاملين الأعمال الصالحة أن لهم أجراً كبيراً وهو الجنة /. وكل شيء في القرآن أجر كريم وأجر كبير ورزق كريم فهو الجنة. وقيل:

10

المعنى: ويبشر [الله] المؤمنين بذلك. قال مقاتل وغيره: التي هي أقوم شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل معناه يهدي للخصال التي هي أصوب مما أمر الله [ D] ، ودعا إليه ووعد عليه العطاء الجزيل والثواب العظيم وعلى هذا أكثر المفسرين. ولا إله إلا الله أصل الخصال الحسنة وأعظم ما دعا الله إليه عباده وندبهم إلى اعتقاده فهي العروة الوثقى والكلمة المنجية من العذاب. قال [تعالى]: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}. أي: لا يصدقون بها أعددنا لمقدمهم على ربهم عذاباً أليماً، أي: مؤلم وموجع، وذلك عذاب جهنم [أعاذنا الله منها]. قال: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير}. المعنى: ويدع الإنسان على نفسه وولده وماله بالشر دعاء مثل دعائـ[هـ]

ربه [ D] بالخير. أي: يسأل أن يهلك نفسه وولده وماله إذا غضب كما يسأل أن يجيبه ويحيي ولده ويثمر ماله إذا رضي، فلو استجاب له في الشر كما يستجيب له في الخير لأهلكه. ثم قال: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً}. أي: يعجل على نفسه بالدعاء، ولا يعجل الله [ D] عليه بالإجابة. وروي أنها نزلت في النضر بن الحارث [بن] علقمة كان يدعو ويقول: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وكان يدعو على نفسه بالشر كما يدعو [لها] بالخير. {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي: عجلة النضر بالدعاء على نفسه، كعجلة آدم حين نهض [قبل] أن

يجري فيه كله. وقال ابن عباس: لما نفخ الله [ D] في آدم من روحه فدارت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري منها شيء في جسده إلا صار لحماً [دوماً]. فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده [فأعجبه] ما رأى من حسنه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} فالإنسان هنا في موضع الناس. وروى أن النبي A دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً، فجعل يئن من الليل. فقالت له: ما بالك تئن؟ فشكى إليها ألم القد. فأرخت كتافه. فلما نامت أخرج يده وهرب. فلما أصبح النبي [ A] دعا به، فأعلم شأنه. فقال: اللهم اقطع يدها، فرفعت سودة يدها تتوقع الاستجابة، أن يقطع الله يدها. فقال النبي A: إني سألت [الله] أن

12

يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلي رحمة، لأني بشر أغضب كما يغضب البشر، فلترد سودة يدها قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل}. معناه: أن الله [ D] عرف عباده نعمه عليهم، / فمن نعمه [أن] جعل الليل مخالفاً للنهار ليسكنوا في الليل ويتصرفوا في معائشهم [التي قدرت لهم] بالنهار، وليعلموا عدد [السنين والحساب أي: عدد] سنينهم وحساب ساعات الليل والنهار. ومعنى {آيَتَيْنِ} أي: جعلنا الليل والنهار علامتين.

فعلامة النها [ر] الشمس وعلامة الليل القمر {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً}. أي: بيناه [تبييناً] بياناً شافياً. وقوله: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل}، أي: لم يجعل للقمر ضياء ونوراً كالشمس وقوله: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} أي: مضيئة، وهي: الشمس. والمحو الذي في القمر هي اللطخة التي تظهر فيه للمتأمل، ويروى أن الله جل ذكره أمر جبريل عليه السلام، فأمرَّ بجناحه على القمر فصار فيه المحو الذي فيه. وقد كان ضياؤه مثل الشمس أو أشد، ولكن الله جل ذكره فرق بينهما ليعرف الليل من النهار، وليعلم عدد السنين والشهور، والأجل، والحج وغير ذلك. وعن ابن عباس: أن النبي A قال: " خلق الله [ D] شمسين من نور

13

عرشه فأما ما كان في سابق علمه أنه يدعها شمساً فإنه جعلها مثل الدنيا على قدر ما بين مشارقها إلى مغاربها. وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحولها قمراً فإنه جعلها دون الشمس في العظم، ولكن إنما يرى صغرها لشدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض. ولو ترك الله القمر كما خلقه أول مرة لم يعرف الليل من النهار، ولا النهار من الليل، ولا عدد الأيام ولا الشهور، فأرسل جبريل [عليه السلام] إلى القمر فأمرَّ جناحه على وجه القمر وهو يؤمئذ شمس، ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي منه النور فذلك قوله: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ} الآية " فالسواد الذي يرون في القمر أثر المحر. قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي [عُنُقِهِ]}. المعنى: وكل إنسان ألزمناه مما قضي له أنه عامله وصائر إليه من شقاء أو سعادة. فعمله في عنقه لا يفارقه. وقوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي [عُنُقِهِ]} إنما هو مثل: خوطبوا به على ما كانوا يستعملون في التشاؤم والتفاؤل من سوائح الطير وبوارحها، فأعلمهم الله

[ D] أن كل إنسان قد ألزمه الله طائره في عنقه نحساً كان أو سعداً. قال ابن عباس: " طائره " عمله وما قدره الله [ D] عليه، وكذلك قال مجاهد، [وقال]: وما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقرأ: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} [الأعراف: 37] أي: ما سبق لهم. يعني: كتاب عمله. وإنما خص العنق بالذكر [دون] سائر الأعضاء لأنه تعالى خاطب العرب / بلسانها وبما تستعمله من لغاتها. والعنق عند العرب هو موضع السمت وموضع القلادة والأطواق وغير ذلك، فنسب إلزام الكتاب إلى العنق لكثرة استعمالهم المعاليق فيه. ألا ترى أنهم قد أضافوا الأشياء الملازمة سائر الأبدان للأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء البدن إلى الأيدي فقالوا: " ذلك بما كسبت يداك ". وإن

كان الذي كسبه لسانه أو فرجه. وقيل: " طائره " حظه. من قولهم: طار بينهم فلان بكذا، إذا أخرج سهمه على نصيب [من] الأنصباء. وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً}. قرأه مجاهد والحسن وابن محيص " ويخَرج " بياء مفتوحة. على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً. فيكون الكتاب على هذه القراءة حالاً. وقرأ أبو جعفر " ويُخرج " بياء مضمومة، على ما لم يسم فاعله والذي قام مقام الفاعل مضمر [في] الفعل و " كتاباً " منصوب أيضاً على الحال، و " كتاباً " على

قراءة الجماعة مفعول بـ " نخرج ". وقال قتادة: " طائره " عمله. والمعنى: على قراءة أبي جعفر ونخرج له ذلك العمل {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قال معمر: وتلى الحسن {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17]، فقال: يابن آدم بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك ف [ي] حفظ حسناتك وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت: أقلل أو أكثر، حتى [إذا] مت طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً. فيقال لك. {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. ومعنى: {اقرأ كتابك}.

15

أي: كتاب عملك الذي عملته في الدنيا كانت الملائكة تكتبه عليك {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} أي: حسيبك اليوم نفسك يحسب عليك أعمالك ويحصيها عليك لا ينبغي عليك شاهداً غيرها. قال: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ}. أي: من استقام على طريق الحق فليس ينفع إلا نفسه لأنه يوجب لها رضوان الله [ D] ودخول جنته. {وَمَن ضَلَّ} أي: ومن جار أي: عن قصد الحق فليس يضر إلا نفسه لأنه يوجب لها غضب الله [سبحانه] ودخول النار [أعاذنا الله منها]. وتقدير من اهتدى فإنما يكسب أجر هدايته لنفسه: ومن ضل فإنما يكسب إثم ضلالته لنفسه وهو مثل قوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] [وهو] مثل

قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}. ويروى أنه نزلت في أبي سلمة / بن الأسود آمن، وفي الوليد بن المغيرة بقي على كفره. وكان الوليد بن المغيرة يقول: اتبعوني وأنا أحمل أوزاركم. فأنزل الله، جل ذكره: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}. والآية عامة في كل مؤمن وكافر. ثم قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}. أي: لا يحمل أحد ذنبغيره. وقال " وازرة " بمعنى نفس وازرة. وقيل معناه: لا يعمل أحد بذنب لأن غيره قد عمل به كما قال الكفار. {إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}. أي: لا نهلك قوماً إلا بعد الأعذار إليهم بالرسل. وقال قتادة: إن الله [ D]

ليس يعذب أحداً حتى يسبق من الله إليه خبر، أو تأتيه من الله [ D] بينة. وقال أبو هريرة: إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة، والأبكم، والأخرس والشيوخ، الذين لم يدركوا الإسلام فأرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار. فيقولون [كيف] ولم يأتنا رسول؟ قال: ولو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً فيرسل الله [ D] إليهم [رسولاً] فيطيعه من كان يريد أن يطيعه. ثم قرأ أبو هريرة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً}. وقيل: معناه ما كنا معذبين أحداً في الدنيا بالإهلاك حتى نبعث رسولاً يبين لهم بأي شيء يعذبهم الله [سبحانه] وبأي شيء يدخلهم الله الجنة. وهذا قول حسن، لأن الآخرة ليست بدار تعبد، فيبعث الله فيها إلى أحد رسولاً، أعلمنا الله أنه لا يعاجل أحداً بعذاب الدنيا إلا بعد إنذار برسول. فأما عذاب

16

الاخرة يحل على من كفر بالتوحيد، وإن لم يلأته رسول، لأن الله جل ذكره قد نصب دلالات، وعلامات، تدل على توحيده كل الخلق. فمن كفر ولم تنفعه تلك الدلالات والآيات دخل النار وإن لم يأته رسول. فإنما تأتي الرسل بالشرائع والتحريض على التوحيد الذي قد نصب الله [ D] عليه الدلالات والعلامات. قال تعالى: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}. قرأ علي بن أبي طالب Bهـ وأبو عثمان النهدي وأبو العالية أمَّرنا مشدداً وكذلك روي عن أبي عمرو. وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي إسحاق وخارجة عن نافع بالمد. وقراءة الجماعة بالقصر والتخفيف. ومعناها: عند أبن عبس: أمرنا إشراف أهلها بالطاعة ففسقوا فيها. وقيل: " المترفون " هنا الفسقة. وقيل: هم المستكبرون. والفاسق والمستكبر إذا أمر عصما فيحق عليه القول بعصيانه.

وعن قتادة: أن معنى " أمرنا " أكثرنا. وقال الكسائي: يجوز أن يكون " أمرنا " من الإمارة، كالمشددة، وأنكر أن يكون / بمعنى أكثرنا. قال: ولا يقال [أمرنا] بمعنى أكثرنا إلا بالمد. وقد حكى أبو زيد وأبو عبيد " أمرنا " مقصوراً، بمعنى أكثرنا. ويقوي هذا التأويل الذي رده الكسائي أن الحديث: " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة. فالسكة

المأبورة النخل المصلح. والمهرة المأمورة الكثيرة النتاج. وهي من أمر. فأما من قرأ بالتشديد، قال ابن عباس معناه سلطنا، أي: جعلنا لهم إمرة وسلطاناً ففسقوا. والمترفون هنا الإشراف. ويجوز أن يكون بمعنى: أكثرنا، قاله: الكسائي وغيره. فأما من قرأ بالمد، فمعناه أكثرنا عددهم ونساءهم. يقال: أمر بنو فلان أمراً إذا كثر عددهم، وغلإمر منه الاسم ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] أي: عظيماً. وقوله: {فَفَسَقُواْ فِيهَا}. أي: فخالفوا أمر الله [سبحانه] {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي: وجب عليها

17

وعد اللع [ D] الذي وعد من عصاه [به] {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي: خربناها تخريباً وأهلكنا من فيها هلاكاً. قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ}. هذه الآية فيها تهدد ووعيد لمشركي قريش أن يحل بهم من الهلاك مثل ما حل بالأمم الماضية بعد نوح من الأهلاك بذنوبهم. ثم قال تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً}. أي: حسبك يا محمد بعلم ربك وإحصائه لذنوب عباده. والقرن عشرون ومائة سنة. وقيل مائة سنة. وقيل: أربعون سنة. ودخلت الباء في " كفى بربك " و " كفى بالله " لأن في الكلام معنى المدح. فالباء تدل عليه. كما يقول: أكرم به رجلاً. وناهيك به صاحباً.

18

قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ}. أي: من كان يعمل للدنيا وإياها يطلب ولا يوقن بمعاد ولا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ} من توسيع أو تقتير لمن نريد. وقرئت " ما شاء " بالياء، على معنى: ما يشاء الله، أو على معنى: ما يشاء المعجل له ثم يقطره إلى جهنم يصلاها مدموماً مدحوراً. وقال أبو إسحاق الفزاري: معناه: ما نشاء لمن نريد هلاكه. وقال ابن عباس: " مذموماً ": ملوماً. [ثم قال تعالى] {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. أي: ومن أراد ثواب الآخرة وعمل لها عملها الذي هو طاعة الله " وهو مؤمن " أي: مصدق بثواب الله [سبحانه] وعقابه [ D] { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً}

20

وشكر الله [ D] إياهم على سعيهم، حسن جزائه [تعالى] لهم على أعمالهم وتجاوزه عن سيئاتهم. قال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ}. " كلا " منصوب بنمد و " هؤلاء " / بدل من كل. والمعنى: أن الله [ D] يرزق كلا: الذين يريدون العاجلة، والذين يريدون الآخرة من عطائه إلى بلوغ أجل الفريقين. ثم تفترق بهما الأحوال بهد الممات. وتفرق بهم الورود يوم القيامة. فمن أراد العاجلة فإلى جهنم يرد ومن [أراد] الآخرة فإلى الجنة يرد. ثم قال: {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}. أي: ممنوعاً عمن بسطه الله [ D] عليه، قال قتادة: محظوراً منقوصاً.

21

وقال في معنى الآية: إن الله [ D] قسم الدنيا بين البر والفاجر: والآخرة خصوصاً عند ربك للمتقين. ومثل هذه الآية في معناها على قول قتادة: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 32] أي: يشترك في الدنيا في الطيبات البر والفاجر. و [الآخرة خصوصاً عند ربك للمتقين، أي]: تخص الآخرة للمؤمنين. قال تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ}. والمعنى: انظر يا محمد كيف هدينا أحد الفريقين إلى السبيل الأرشد، ووفقناه إلى الحق. وخذلنا الفريق الآخر فأضللناه عن الحق، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} إذ ينصرف فريق إلى النعيم المقيم، وفريق إلى عذاب جهنم لا يفتر عنهم أبداً. وقيل: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} في أهل الجنة يتفاوتون في المنازل فيها، منهم من

22

يعلو على بعض في النعيم والدرجات على قدر منازلهم وأعمالهم. قال النبي A " بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها " قال الضحاك: من كان من أهل الجنة عالياً رأى فضله على من هو أسفل منه ومن كان دونه لم ير أن أحداً فوقه أفضل منه. معنى الآية أن ظاهرها خطاب للنبي A والمراد أمته، والمعنى لا تجعلوا مع الله شريكاً فيقعد كل واحد منكم مذموماً، أي: ملوماً على ما صنع " مخذولاً " أي: قد أسلمه ربه. قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ}. قال ابن عباس: قضى معناه: أمر. وفي حرف عبد الله: " ووصى ربك " وكذلك قرأها الضحاك و [ال [معنى أمر أن تفرده بالعبادة فلا تجعلوا له شريكاً.

ثم قال: {وبالوالدين إِحْسَاناً}. أي: وأمركم أن تحسنوا بالوالدين إحساناً ومعنى " بالوالدين " إلى الوالدين. وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}. من وحد يبلغن فلأنه فعل مقدم فاعله {أَحَدُهُمَا}. ومن أظهر ضمير اثنين فلأنه تقدم ذكر الوالدين فثناهما لتقدم ذكرهما قبل الفعل. ويكون أحدهما مبتدأ وكلاهما معطوف عليه والخبر محذوف. وقيل: أن أحدهما أو كلاهما بدل من المضمر في يبلغن. ثم قال [تعالى]: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} /.

في " أف " / سبعُ لغات: أفَّ بالفتح وأفَّ بالكسر، [و " أف "، بالكسر] والتنوين. فهذه ثلاث قرئ بهن وأربع لم يقرأ بهن وهن: أفّاً بالنصب والتنوين وأفٌّ بالضم والتنوين وأف بالضم غير منون. وحكى الأخفش: " أفي " بالياء. فمن فتح أو ضم أو كسر حركة لالتقاء الساكنين. ومن فتح ونون اعمل الفعل فيه كما تقول: ما قتلت أفاً ولا تفاً. ومن كسر ونون كسر لالتقاء الساكنين وشبهه بالأصوات فنونه. وقيل أن من نونه جعله نكرة، معناه: لا تقل لهما قبيحاً من القول. ومن لم ينونه جعله معرفة معناه: لا تقل لهما القبيح من القول.

وقيل [المنَوَّن] منه وغير المُنَوَّن سواء، وإنما يكون التنوين فرقاً بين المعرفة والنكرة فيما جاء ناقصاً على حرفين نحو مه وصه، ولكن شبه هذا بما جاء على حرفين من هذه فنون على التشبيه لأنه يعطى ذلك للمعنى من التعريف والتنكير. ومن ضم حركة لالتقاء الساكين. و [من] خصه بالضم على التشبيه بقبل وبعد. وقيل: ضم على الاتباع لضمه الهمزة كما تقول: مُدَّ. فتضم الدال اتباعاً لضمة الميم. ومن نون المضموم فعلى القولين الأولين: على التشبيه بالأصوات [أو] للفرق بين المعرفة والنكرة. واستبعد الأخفش التنوين مع الضم. قال: لأنه ليس معه لام. كأنه يقدره إذا رفعه ونونه مرفوعاً بالابتداء. كما قيل: ويل له. وقال في نصبه بالتنوين: إنه مثل: تعساً له. ومعنى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي: أن يبلغا عندك من الكبر ما يحدثان عندك من الضعف تحتهما، فلا تقذرهما حين ترى الأذى. ولكن تم [ي] ط عنهما ذلك كما كانا

يميطان [هـ] عنك صغيراً، قاله مجاهد. وقيل معناه: لا تستثقلهما ولا تغلظ عليهما في القول ولا تتبرم عليهما. و [أ] صل هذا: أن الإنسان إذا وقع عليه غبار أو شيء فتأذى به نفخه فقال: " أف " وقيل الأف: وسخ الأظفار. والتف الشيء الحقير، نحو وسخ الأذن. والأول أشهر وأعرف. وقوله: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}. [أي]: ولا تضجر عليهما وتصح. وقال عطاء: لا تنفض يديك على والديك. {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}، قال ابن جريج: أحسن ما تجد من القول. وعن عمر ابن الخطاب [Bهـ] أنه قال: لا تمتنع من شيء يريدانه. وقال قتادة: {قَوْلاً كَرِيماً}

24

سهلاً ليناً. وقال ابن المسيب: هو قول العبد المذنب الذليل للسيد الفظ الغليظ. قال: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة}. أي: كن لهما ذليلاً، رحمة منك لهما / وتعظيماً فيما أمر [ا] ك به مما ليس معصية [لله D] . هذا قول عروة بن الزبير. وعنه أيضاً أن معناه: لا تمتنع من شيء أحياه. والذل والذلة: مصدر الذليل. والذل: بكسر الذال من غيرهما، مصدر الذلول. نقول دابة ذلول بينة الذل إذا كانت لينة. ومنه قوله:

{جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15]. وقرأ ابن جبير والجحدري " الذِل " بكسر الذال، بمعنى: ألِنْ لهما جانبك واسمح لهما. يقال رجل ذلول بين الذل إذا كان سمحاً لينا مواتياً. ومنه {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان: 17]. ثم قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}. أي: وقل: يا رب اعطف عليهما برحمتك كما عطفا عليّ في صغر [ي] فرحماني وربياني صغيراً. وروى عن النبي A أنه قال ذات يوم وهو رافع صوته: " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " وكانوا يرون أن من بر

والديه، وكان فيه أدنى تقى، فإن ذلك مبلغه جسيم بالخير. و [قد] قال بعض العلماء أن قوله: {رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} منسوخ بالنهي عن الاستغفار للمشركين. وقال بعضهم: الآية مخصوصة في المؤمنين خاصة. وقيل: هي عامة إلا لمن مات من المشركين، فلا يستغفر له. فأما إذا كانا مشركين حَيَّيْنِ، فيجوز للمسلم أن يستغفر لهما كما فعل إبراهيم [ A] خليل الرحمن [ D] . ويروى أن رجلاً قال: " يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيء أبرهما [به] بعد موتهما؟ قال: " نعم، الصلاة عليهما [يعني] الدعاء لهما، والاستغفار

لهما، وإكرام صديقهما ولإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا يوصل إلا بهما ".

25

قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}. معناه: ربكم يعلم ما تعتقدون من إبرار والديكم وتعظيمكم إياهم، أو ضد ذلك من العقوق لهم، فيجازيكم على ما تعتقدون في أمرهم. [ومعنى {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} أي: إن أصلحتم نياتكم وأطعتم الله في والديكم في القيام بهم والمعرفة بعقوقهم بعد صبوة كانت معكم في أمرهم]، أو زلة زللتم، في [ترككم] إبرارهم، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ} أي: للثوابين بعد الهفوة " غفوراً " أي: ساتراً لذنوبهم إذا تابوا منها. قال ابن جبير في قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ}. هي المبادرة: تكون من الرجل إلى أبويه بذلك إلا الخير.

وقال ابن عباس: " للأوابين " المسبحين. وقيل: هم المحسنون المطيعون. روي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقال قتادة: هم المطيعون، أهل الصلاة. وقال ابن المنكدر: هم المصلّون بين المغرب والعشاء. وقال عون العقيلي [هم] الذين يصلّون صلاة الضحى. وقال مالك / عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال ابن جبير: هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد:

26

هم الذين يذكرون ذنوبهم في الخلاء فيتوبون منها. وأصل آب إلى كذا، رجع إليه فكأنهم الراجعون من معصية الله [ D] إلى طاعته. ومن آب الرجل من سفره، أي: رجع. وأوّاب فعّال من أب. والأوبة الرجعة منه. قال تعالى: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل}. هذا خطاب للنبي A والمراد به أمته. قال الحسن أمر الله [ D] في هذه الآية بصلة الرحم، ونذب إلى أن تعطي القرابة من المال من غير الزكاة، ولهم في الزكاة حق وغير ذلك. وقال ابن عباس: هو أن تصل قرابتك والمساكين وتحسن إلى ابن السبيل. وقيل: عني بذي القربى هنا قرابة رسول الله A. وروي ذلك عن الحسن بن علي، أن يعطوا من غير الزكاة. والمسكين هنا هو الدليل من الفقر. وابن السبيل المسافر المنقطع به يضاف

27

ويحسن إليه. وقيل: حق ابن السبيل ضيافته ثلاثة أيام. وهذا ندب غير فرض. ثم قال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}. أي: لا تمحق ما أعطاك الله [ D] من مال في معصيته، وأصل التبذير التفريق في السرف. قال ابن مسعود: التبذير: الإسراف في الإنفاق في غير حق. وهو قول ابن عباس وقتادة. وقال ابن زيد: هو النفقة في المعاصي. وهذا قوله حسن. قال تعالى: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين}. [أي: المفرقين أموالهم في معاصي الله تعالى وفي غير الحق كانوا أولياء للشياطين]. {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً}. أي: لنعمة ربه [ D] جاحداً لا يشكره عليها، إذ يترك طاعته ويتبع معصيته فكذلك إخوانه من بني آدم.

28

وكل من تابع أمر قوم وسنتهم فالعرب تسميه أخاً. فلذلك قال: {كانوا إِخْوَانَ الشياطين}. قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا}. أي: إن أعرضتم بوجوهكم عن هؤلاء الذين أمرتم أن تعطوهم حقوقهم من أجل عدمكم، تبتغون انتظار رزق من عند الله فلا تؤيسوهم ولكن قولوا لهم قولاً ميسوراً، أي: عدوهم وعداً جميلاً. بأن تقولوا لهم: سيرزق الله فنعطيكم. . . وشبه ذلك من القول اللين. كما قال تعالى ذكره: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] هذا معنى قول النخعي وابن عباس وغيرهما. وقال ابن زيد: معنى الآية: إن خشيتم منهم أن ينفقوا ما أعطيتموهم في معاصي الله [ D] ورأيتم أن منعهم خير، فقولوا لهم: قولاً ميسوراً، أي: قولاً

جميلاً: رزقك الله، ووفّقك الله ونحوه. وكان النبي عليه السلام إذا سئل وليس عنده شيء أمسك انتظار رزق الله [ D] أن يأتي كأنه يكره الرد. فلما نزلت {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي يقول / يرزقنا الله وإياكم من فضله. وقال جماعة من المفسرين: [نزلت] هذه الآية في خباب، وبلال وعامر بن فهيرة، وغيرهم من فقراء المسلمين كانوا يسألون النبي A فيعرض عنهم ويسكت. إذ لا يجد ما يعطيهم، فأمر أن يحسن لهم في القول، إلى أن يرزقه الله ما يعطيهم، وهو قوله: {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا}، أي: انتظار الرزق من ربك تتوقعه {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} أي: عدهم وعداً حسناً.

29

قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ}. هذا مثل ضربه الله [ D] للممتنع من الإنفاق في طاعة الله [ D] وفي الحقوق التي أوجبها الله [سبحانه]، فجعل المانع لذلك كالمشدودة يده إلى عنقه لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء. والخطاب للنبي [ A] والمراد به أمته، والمعنى: ولا تمسكوا أيديكم بخلاً عن النفقة في الله، فتكونوا كالمغلولة يداه إلى عنقه، ولا تبسطوها بلنفقة كل البسط، فتبقون لا شيء لكم ولا تجدون إذا سئلتم ما تعطون سائلكم، فتقعدون، وأنتم ذوو لوم، أن يلومكم سائلوكم إذ لم تعطوهم، وتلومكم أنفسكم على الإسراف في أموالكم. ومعنى {مَّحْسُوراً} أي: مقطوعاً لا شيء معك، هذا معنى قول ابن عباس وقتادة. وقال ابن جريج: معناه لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به، ولا تبسطها بالإنفاق فيما نهيتك عنه، " فتقعد ملوماً " مذنباً " محسوراً " منقطعاً بك. وقال ابن زيد: معناه: لا تمسك عن النفقة في الخير، ولا تنفق في الحق والباطل،

30

فينفد ما في يديك فلا تجد ما تعطي سائلك فيلومك، وتقول أعطيت هؤلاء ولم تعطني. وقيل المعنى لا تبخل فتمنع حق الله [ D] ولا تجاوز الحق الواجب في الإنفاق والإعطاء فيبقى قوم من السؤال يتأخرون فلا يجدون ما يأخذون {فَتَقْعُدَ مَلُوماً} يلومك الناس الذين فاتهم العطاء " محسوراً " أي منقطعاً ليس معك ما تعطي. قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ}. أي: يوسّع على من يشاء في رزقه ويقتر على من يشاء، إنه خبير بعباده يعلم مصالحهم ويعلم ما يفسده السعة في الرزق ويصلحه التقتير، ومن يفسده التقتير وتصلحه السعة، بصير بتدبيرهم وسياستهم. وروي عن قالون: " كل البصط " بالصاد. والأشهر عنه وعن الجماعة بالسين.

31

قال [تعالى]: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}. هذا نهي عما كانت العرب تفعله. كانت تقتل البنات خوف الفر [والإملاق] والفاقة، فأخبرهم الله [ D] أن أرزاقهم وأرزاق أولادهم على الله [ D] . وتقتلوا في موضع / نصب عطف على: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا} [الإسراء: 23] ولا تقتلوا ". و [قيل]: هي في موضع جزم على النهي. وكذلك: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 23]. " ولا تقتلوا ": وما بعده هو كله عند الطبري منصوب محمول على: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا} وينقض عليه هذا التقدير قوله: " ولا تقف " وقوله: " ولا تمش "، فهذا مجزوم على النهي بلا اختلاف، فما قبله مما عطف عليه [مثله

مجزوم] وعلى ذلك أكثر العلماء، وهو الصواب إنشاء الله [ D] . ومعنى " كان خِطئاً ": على قراءة نافع كان إثماً كبيراً. لأنه يقال: خطئ يخطا خطئاً فهو خ [ا] طئ كإثم يأثم [إثماً] فهو آثم، وذلك إذا أتى الذنب عمداً. ويقوي هذا ما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أنهم قالوا: الخطء الخطيئة. ومعنى الآية: يدل [على] هذه القراءة لأنهم كانوا يتعمدون قتل البنات خوف الفقر. وقيل: إن هذه القراءة لغة في الخطأ والخطأ ما لم يتعمد فجاء فيه فعل وفعل كما يقول قتبٌ وقُتُبٌ، ونَجِسٌ ونَجَسٌ. وقراءة ابن ذكوان: " خَطَأ " بفتح الخاء والطاء. ومعناها: كان غير صواب.

الخطأ ما لم يتعمد فعله يقال أخطأ الرجل يخطي أخطاءً إذا لم يتعمد. والخطأ الاسم منه. وزعم أبو عبيدة أن الخطء [والخطا] مما تعمّد كلاهما من خطئة فالخطأ الاسم منه والخطا المصدر بمنزلة حذر حذراً. وقرأ ابن كثير " خطاءً " بالمد وكسر الخاء. وقرأ الحسن بفتح الخاء والمد. وأنكرهما النحاس، ووجههما ظاهر. وقد قال امرؤ القيس في وصف فرسه:

32

لها وثبات كصَرُبِ السحاب ... فواد خطاء وواد مُهْر ويروى بفتح الخاء، رواه أبو حاتم بالفتح لقراءة الحسن. ورواه أبو عبيدة " فواد خطيط ". قال الأصمعي: الخطيطة: أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين. فكان فرسه يثب وادياً لا يؤثر فيه ويؤثر في آخر، فشبه ما يؤثر فيه بالواد الممطور. وما لم يؤثر فيه بالواد الخطيط. فهذا تمثيل. وفال ابن الإعرابي: " فواد خطا " أي يخطو وادياً، وواد مطر. أي تعدو [وا] دياً. فتكون [خطاء]: جمع خطوة، مثل: صفوة وصفاء. [فيكون] معنى القراءة، على هذا المعنى، إن قتلهم كان تركاً للحق ومجاوزة إلى الباطل. قال [تعالى]: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}. أي: وقضى ربك ألا تقربوا الزنا. هذا [على] قول: من جعله في موضع

33

نصب. ومن جعله مجزوماً، قدره نهياً بعد نهي فالمعنى أن الزنا كان فاحشة. {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي: وساء طريق الزنا طريقاً لأنه معصية لله [ D] تورد صاحبه نار جهنم. قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق}. أي: لا تقتلوا نفساً قد حرّم الله [ D] قتلها. " إلا بالحق " / أي: إلا أن تكفر بعد إسلام، أو تزنى بعد إحصان، أو قوداً بنفس. وقوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}. أي: جعلنا له نصراً وحجة على أخذ الثأر ممن قتل وليّه فإن شاء عفا وإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية. فإذا عفا بعض الورثة لم يقتل القاتل. والمرأة في ذلك والرجل سواء إذا كانا وارثين، هذا قول الشعبي وعطاء وطاووس والنخعي

والثوري والشافعي وابن حنبل. فإن كان في الورثة صغيراً استوني بالقتل حتى يبلغ، فإن عفا لم يقتل وإن لم يعف قتل، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى. وابن شبرمة. والثوري وأحمد وإسحاق. وقال الحسن البصري وقتادة لا عفو للنساء وإن كن وارثات. وعن عمر بن الخطاب Bهـ في المرأة اختلاف، وروي عنه أنه قال: لا عفو

للزوج، وعنه: لا عفو للمرأة في الدم. وقال الليث وربيعة والأوزاعي ليس للنساء عفو في دم ولا قسامة. وقال مالك إذا كان ورثة المقتول بنين وبنات فعفت إحدى البنات لم يجز عفوها، فإن عفا أحد البنين جاز العفو وأخذت الدية ويرثها الورثة على قدر موارثهم من الميت، ويقضي عن الميت من الدية دين إن كان عليه. وقوله {لِوَلِيِّهِ} يحتمل واحداً وجماعة، كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2]. ومعنى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} أي: من قتل على غير المعاني المتقدم ذكرها. وقال الشافعي: إذا عفا الولي استحق أخذ الدية.

ثم قال تعالى: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل}. أي: لا يقتل الولي غير قاتل وليه. لأن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك: يقتل الرجل الرجل فيقتل أولياء المقتول أشرف من القاتل ويتركون القاتل، فنهى الله [ D] عند ذلك بقوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أي لا يسرف الولي. ومن قرأ بالتاء، جعله مخاطبة للنبي A والأئمة بعده. وقيل هو مخاطبة للقاتل ألا يقتل غيره فيسرف في ذلك فيناله القتل. وقيل: معنى {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} لا يمثل ولي المقتول بالقاتل، بل يقتله كما قتل وليه، قاله قتادة. وقيل: معناه لا يقتل اثنان بواحد. والهاء في " أنه " تعود على المقتول، فتعود الهاء على " من " قاله مجاهد. فيكون

34

المعنى: إن المقتول كان منصوراً بوليه. وقال قتادة: الهاء للولي. أي: [بأن الولي] كان منصوراً. وقيل: الهاء تعود على الدم. أي: [إن] دم المقتول كان منصوراً على القاتل. وقال الفراء: الهاء تعود على القتل أي القتل كان منصوراً. وقال أبو عبيدة الهاء للقاتل [أي]: إن القاتل كان منصوراً إذا قيد منه في الدنيا وسلم من عذاب الآخرة بقتله. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ}. أي: لا تأكلوا أموال اليتامى إسرافاً وبدراً أن يكبروا ولكن / أقربوها بالإصلاح والتثمير لها. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية، اشتد ذلك على أصحاب النبي A. فكانوا لا

يخالطوهم في طعام ولا أكل ولا غيره. فأنزل الله [ D] . { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقر: 220] فكانت هذه رخصة لهم في المخالطة. وقال مجاهد: معنى الآية: لا تقربوا مال اليتيم فتستقرضوا منه {إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} التجارة لهم فيها. وقوله: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}. قال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد: الحلم. ومعناه في اللغة: حتى يبلغ وقت اشتداده في العقل وتدبير ماله وصلاح حاله في دينه. وأن يكون مع ذلك في غير ذي عاهة في عقل وأن يكون حاز ما في ماله. وكذلك الأشد في قصة يوسف [عليه السلام] هو الحلم، فأما الأشد في [قصة] موسى [عليه السلام] فقيل: هو بضع وثلاثين سنة. و " استوى " بلغ أربعين سنة.

35

و [قيل]: الأشد هنا ثمان عشرة سنة. والأشد، عند سيبويه، جمع واحد [هـ]: شَد كقَد وأقدُ. وهو عند غيره اسم مفرد. ثم قال [تعالى]: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً}. أي: مسؤولاً عنه من نقضه. أي: أوفوا بما عاهدتم عليه الناس من صلح أو بيع أو شراء. إن الله سائل ناقض العهد عن نقضه إياه، وقيل: مسؤولاً: مطلوباً. ومن العهد الذي أمر الله [ D] بوفائه الوقوف عند أمره ونهيه والعمل بطاعته ومنه جميع ما أمر الله [ D] به في هذه الآية قبله ونهى عنه. قوله: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ}. أمر الله جل ذكره عبيدة ألاّ يبخسوا الناس في الكيل إذا كالوا لهم وأن يزنوا بالقسطاس، وهو العدل بالرومية قاله مجاهد. وقال الضحاك: هو الميزان. وقال

36

الحسن: هو القبان. وروى الأعمش عن أبي بكر: " القصطاس " بالصاد في السورتين. ثم قال: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. أي ذلك خير لكم. أي: الوفاء خير لكم من بخسكم إياهم وأحسن عاقبة. وقيل: معناه وأحسن [من] تؤول إليه الأمور في الدنيا والآخرة. وعن النبي A أنه قال: " لا يقدر الرجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله [ D] إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ". وقال قتادة: " وأَحْسَنُ تَأَوْيلاً " وأحسن ثواباً وعاقبة. قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.

قال ابن عباس: معناه ولا تقل ما ليس لك به علم. وقال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر، ولا سمعت، ولم تسمع فإن الله سائلك عن ذلك كله. وقال محمد بن الحنفية: هو شهادة الزور. وعن ابن عباس أيضاً معناه: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم. وكذلك قال مجاهد: فدخل في هذه المعاني النهي عن قذف المحصنة، وعن القول في الناس / بما لا تعلم، وعن الكلام في الدين والفقه بالظن. وقيل معناه: لا ترم أحداً بذنب لم تحققه، وإنما هو ظن طننته به. والقفو شبيه بالبهتان: يرمي به الرجل صاحبه. وقال الفراء: تقف من القيافة، يقال: قاف القايف يقوف إذا اتبع الأثر [إلا]

أنهم قدموا القاف وأخروا الواو، كقولهم: جذب وجبذ. وقرأ بعضهم: " ولا تقف " مثل تقبل من: قفت الأثر وقراءة الجماعة من قفوت. وهو مثل قولهم: قاع الجمل يقوع وقعاً يقعوا إذا ركب الناقة. ومثله قولهم عاث في البلاد وعثى إذا أفسد. فأما قوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد} فإنه يدخل فيه النهي عن الاستماع إلى ما لا يحل، والنظر إلى ما لا يحل لأن هذه الأعضاء مسؤولة عما يستعملها ابن آدم فيه من خير وشر. وأصل القفو في اللغة التتبع. ومه [يقال] قفوت أثر فلان أي تتبعته، ولذلك قال أبو عبيدة، " ولا تَقْفُ مَا لَيْس " لا تتبع ما ليس لك به علم. وحكى الكسائي عن العرب: قفوت أثره وقفت مثل قلت فيقدمون مرة الواو ويؤخرونها مرة كما يقال: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعاها. فيكون على القلب مثل قول الشاعر:

ولو أني رميتك من بعيد ... لعاقك من دعاء الذنب عاق يريد عائق، فقلب. وقوله: " كُلُّ أُولَئِكَ " ولم يقل ذلك، فإنما جرى على ذلك لأن " أولئك " و " هؤلاء " للجمع القليل الذي يقع للتأنيث والتذكي. و " هذه " و " تلك " للجمع الكثير. والتذكير للقليل من الجمع كما كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث والتأنيث بعده. فكذلك التذكير للجمع الأول. والتأنيث للجمع الثاني وهو: الجمع الكثير. وقال الزجاج: كل ما أشرت إليه من الناس، وغيرهم، ومن الموات فلفظه لفظ أولئك.

37

وقيل: كل ما تشير إليه وهو متراخ عنك فلفظه لفظ أولئك. قال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً}. أي: لا تمش [في الأرض] مختالاً بطراً متكبراً. ونصب " مرحاً " على الحال وهو مصدر في موضع الحال. وقرأ بعضهم: " مَرِحاً " بكسر الراء جعله اسم فاعل وهو نصب على الحال أيضاً. واختار الأخفش هذه القراءة. واختار الزجاج فتح الراء قال: لأن فيه معنى التوكيد وليس ذلك في اسم الفاعل. ثم قال [تعالى] " {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض}. أي: لن تقطع الأرض باختيالك واستكبارك. وقيل: معناه إنك لن تقدر على خرق الأرض، وإنما نهى الله [ D] في هذا عن التكبر والفخر والخيلاء، فأعلم

38

خلقه أنهم لا ينالون بذلك، إذا فعلوه، شيئاً لا يبلغه غيرهم ممن لا فخر معه ولا خيلاء. أي: كل ما نهى الله [ D] عنه فهو عند ربك سيئة مكروهة. وقرأ الكوفيون وابن عامر " سيئة " بإضافة السيء إلى الهاء. وحجة هذه القراءة أن الله [ D] قدّم ذكر أشياء / أمر بفعلها، وذكر أشياء نهى عنها. ولو كان " سيئة " غير مضاف لجعل ما أمر به ورغب في فعله مما تقدم ذكره: كبر الوالدين وإيتاء ذي القربى حقه، ونحوه. سيئة. وهذا لا يجوز فوجب أن يكون السيء مضافاً على معنى: كل ذلك كان السيء منه مكروهاً. وهو قتل النفس وأن تقف ما ليس لك به علم، والزنا، وقتل الأولاد وشبهه. واحتج أيضاً لها بقوله: " مكروهاً " ولم

يقل " مكروهة " فوجب تذكير " السيء " وإضافته لذلك. وهذا لا يلزم من قرأ " سيئة " غير مضاف لأن الله [ D] قدّم الأشياء المرغب [في] فعلها ثم أعقبها بما نهى عنه فرجعت " كل ذلك [في قوله: " كل ذلك] كان سيئه على الأشياء التي نهى عنها دون ما تقدم مما رغب في فعله. وأما التذكير فهو حسن لأنه ذكر " مكروهاً وعلى لفظ " كل " و " كل " مضمر في " كان " و " مكروهاً " خبر عن ذلك المضمر. و " سيئة " خبر آخر فأجرى أحد الخبرين على اللفظ فذكّر، والثاني على المعنى، فأنّث. وقال إنما ذكر " مكروهاً " في قراءة من قرأ " سيئة " لأن تأنيث السيئة غير حقيقي. وقيل: " السيء " و " السيئة " واحد فأجرى " مكروهاً " على " السيء " كما حملت الصيحة على الصياح، والرحمة على الرحم، والبينة على البينات والموعظة [على

39

المواعظ]، فجاز تذكير ذلك كله ولفظه مؤنث. وقيل: " السيئة " و " السوء " واحد فذكر " مكروهاً " حملاً على " السوء ". وقيل إن من قرأ " سيئة " بالإضافة، إنما إضافة على معنى " السيء " كالذي يتحصل من جهته لأن بعضه غير سيء وبعضه سيء. كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يعني: من جهة الأوثان إذ الرجس يكون من جهات سوى الأوثان. قوله: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة}. المعنى الذي بيّنا لك يا محمد من الأخلاق: المرغب فيها، والتي نهيناك عن فعلها، " مما أوحى إليك ربك من الحكمة " أي: من الأشياء التي أوحاها إليك ربك يعني القرآن. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ}. أي: شريكاً في عبادته. {فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً}.

40

أي: تلومك نفسك وعارفوك من الناس: " مدحوراً ": مبعداً مقصى في النار. قال ابن عباس: " مدحوراً " مطروداً. ويروى أن من قوله [تعالى ": {[وَ] لاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} إلى قوله: {مَلُوماً مَّدْحُوراً} هي العشر كلمات التي أنزلها الله [ D] على موسى [ A] في التوراة. ومثلها التي في الأنعام {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى آخر الثلاث آيات. وهي المُحْكَمَة التي ذكرها الله [ D] في سورة آل عمران. وفيه اختلاف قد ذكرته هنالك. قال: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً}. هذا توبيخ للمشركين الذين جعلوا الملائكة بنات الله [سبحانه و] تعالى عن ذلك علواً كبيراً، ومعناه افاختار لكم ربكم أيها الناس / الذكور من الأولاد واتخذ

41

لنفسه البنات وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، فجعلتم لله [ D] ما لا ترضون لأنفسكم. وقيل: الذين قالوا هذا هم اليهود، قاله قتادة. وقيل: هم كفرة العرب وعليه أكثر المفسرين. ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً}: أي قولة منكرة. قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن [لِيَذَّكَّرُواْ]}. أي: صرفنا لهؤلاء المشركين، الآيات والعبر والأمثال، والتخويف، والإنذار، والوعد، والوعيد. والمفعول لصرفنا محذوف وهو التخويف والإنذار وشبهه وقيل: " في ": زائدة والمعنى: صرفنا هذا القرآن. والأول أحسن. فالمعنى: صرفنا الأمثال في هذا القرآن لعلهم أن يتذكروا ذلك فيعقلوا خطأ ما هم عليه، فيرجعوا ويؤمنوا وما يزيدهم ذلك البيان إلا نفوراً عن الحق وبعداً منه.

وتشديد " لِيَذَكَّرُوا " تحقيقه بمعنى: يقال تذكرة ما صنعت. وذكرت ما صنعت بمعنى: قال ذكره: {اذكروا نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40] بمعنى: تذكروا نعمتي، أي: تفكروا فيها واعتبروا. وقال: {واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] وقَالَ: {[كَلاَّ] إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11 - 12] و {مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] " فكله بمعنى الاتعاظ والاعتبار لا بمعنى ذكر النسيان. وليس من خفف يجعله من ذكر النسيان وإنما هو من التفكر والاعتبار كالمشدد.

42

قال [تعالى]: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ}. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين جعلوا مع الله ءالهة: لو كان الأمر كما تقولون من أن مع الله [سبحانه] ءالهة إذن لابتغت تلك [الآلهة] القربى من الله [ D] ذي العرش العظيم، والتمست الزلفى عنده [جلّت عظمته]. قال قتادة معناه: إذن لعرفوا له فضله فابتغوا ما يقربهم إليه. وقال ابن جبير معناه: إذن لطلبوا إليه طريقاً للوصول ليزيلوا ملكه. وقيل معنى ذلك: إذن لطلبوا الربوبية وضادوه في ملكه كما يفعل ملوك الدنيا. قال تعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ}. ينزه نفسه عما قالوا وافتروا.

44

و " كلوا ": مصدر. جاء على غير ال [م] صدر. ولو جاء على مصدر الكلام لكان تعالياً، ولكنه مثل {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] ومثل " {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]. قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع}. أي: تنزهه من السوء الذي وصفه به المشركون و " من فيهن "، يعني: من في السموات والأرض من الملائكة والجن والإنس. ثم قال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}. روى جابر بن عبد الله أن النبي A قال: " " ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً قال لابنه: " يا بني آمرك [أن تقول سبحان الله وبحمده " فإنها صلاة] الخلق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق، قال الله [ D] : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ".

وعن النخعي أنه قال: الطعام: يسبح. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح / من ضجرة وغيرها. وقيل معنى ذلك: أن ما من شيء إلا يدل على توحيد الله وينزهه من السوء، فذلك تسبيحه. وقال الحسن: كل شيء فيه روح يسبح بحمده. {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي: لا تعقلون ذلك. وروى معاذ بن محمد الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: " لا تقتلوا الضفادع فإنه ليس لله [ D] أكثر تسبيحاً منها ". وذكر أبو عبيد أن داوود A بات داعياً لربه [ D] ومصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد مثلها من أهل الأرض. فكلمته ضفدع من الماء فقالت له: كلا يا أبا سليمان، فوالله إنه لي ثلاثاً من الدهر ما جمعت [ما] بين فقمي تسبيحاً لله [ D] .

واختلف الناس في تسبيح الموات كالجبال والحيطان [وشبه ذلك]: فقال قوم: تسبيح ذلك ما فيه من دلالة على خالقه ومشيئته، ومنه قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74] يعني: يتبين في ظاهره من قدرة الله [ D] على خلقه ما يضاهي الخشية لله والإقرار بقدرته. وقال آخرون: تسبيح الموات أنها تدعو الناظر إليها والمتأمل لخلقها إلى تسبيح الله [تعالى] والنطق بعظمته. فنسب التسبيح إلى الموات لما كانت تنسبه. كما قالت العرب له: إبل تنطق الناس أي إذا نظروا إليها نطقوا تعجباً منها، من كثرتها، فقالوا سبحان الله! ما أكثرها! ما أحسنها! و [قال] آخرون وهم أصحاب الحديث وكثير من العلماء. الأشياء كلها تسبح، الموات وغيره، والله [ D] يعلم تسبيح كل صنف منها، وقد كلمت الحجارة والأشجار والجمادات الأنبياء [عليهم السلام، وكذلك البهائم كلمت الأنبياء وكلمت من كان في عهد الأنبياء. والروايات بذلك كثيرة مشهورة. وهذا باب يتسع فيه

45

الكلام لكثرة الشواهد عليه. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}. أي: حليماً لا يعجل على خلقه المفترس عليه. " غفوراً " أي: ساتر [اً] لذنوب من آمن [به] منهم. قال قتادة: حليماً: أي: لا يعجل كعجلة بعضهم على بعض. قوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا}. أي: وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجاباً يستر قلوبهم على أن يفهموا ما تقرأه عليهم فينتفعوا به عقوبة على كفرهم. ومستوراً هنا: بمعنى: ساتر لقلوبهم. وقيل: هو على بابه مفعول لأن الله [ D] قد ستر الحجاب عن أعين الناس فهو مفعول على بابه. والحجاب هنا

46

الطبع على قلوبهم. ونزلت هذه الآية في قوم كانوا يسبّون النبي A بمكة إذا سمعوه يقرأ ليشتدَّ على الناس فأعلمه الله [ D] أنه يحول بينه وبينهم حتى لا يفهمون ما يقول. قال /: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}. أي: جعلنا على قلوبهم أغشية تغشاها فلا تفهم ما تقرأ. والأكنة: جمع كنان: " أيفقهوه ": أي: كراهة أن يفقهوه وقيل: معناه [ا] لا يفقهوه. و {وفيءَاذَانِهِمْ وَقْراً}. أي: جعلنا في ءاذانهم صمماً لئلا يسمعوه.

أي: قال: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرءان وَحْدَهُ}. [أي]: إذا قلت لا إله إلا الله في القرءان {وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً} أي: انفضوا عنك وذهبوا نفوراً من قولك واستعظاماً من تويحد الله جل ذكره. وقال عبد الله بن الحسن: هو قوله: بسم الله الرحمن الرحيم. وقال ابن زيد " نفوراً " بغضاً لما تكلم به لئلا يسمعوه كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في ءاذانهم لئلا يسمعوا ما يأمرهم به نوح [ A] من الاستغفار والأمر بالتوحيد. وروي عن ابن عباس: أنه عني به الشياطين إذا سمعوا ذكر الله [ D] وحده في القرءان هربوا. ووحده: منصوب عند سيبويه على المصدر. ولا يكون إلا مضافاً ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث في ذاته، فإذا قلت جاءني زيد وحده، فكأنك قلت أفرد زيد نفسه بمجيئه إليّ إفراداً. أي: لم يأتني مع غيره. وإذا قلت: رأيت القوم وحدهم. فمعناه:

أفردتهم برؤيتي لهم أفراداً. أي: لم أجاوزهم إلى غيرهم. فكأنه مصدر عمل فيه فعال في معناه من غير لفظه. فأما قولهم: هو نسيج وحده. فهو مجرور في هذا المثل. ومعناه: المدح للرجل المنفرد برأيه. وهو مأخوذ من الثوب النفيس الذي لا ينسج على منواله [غيره]. وكذلك قولهم: هو عُيير وحدِه وجُحيش وحدِه أتى مخفوضاً مضافاً إليه، ولا يقاس على هذه الثلاثة غيرها. فأما قولهم: رأيتهم ثلاثتهم وخميستهم، ونحوه من العدد فيحسن نصبه على المصدر كأنك قلت: ثلثتهم تثليثاً وخمستهم تخميساً. وبعضهم يجر [ي] هـ على ما قبله من الأعراب. يجعله بمنزلة كلهم. فيقول: فعلنا ذلك خمستنا، فيرفع كما تقول: كلنا. وإن شئت نصبت على المصدر وكذلك: مروا بنا خمستنا. وخمستنا تخفض على

47

التأكيد للمضمر المخفوض وينصب على المصدر، وترفع على التأكيد للمضمر المرفوع. قال [تعالى ذكره]: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}. أي: نحن أعلم بما يستمع هؤلاء المشركون إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ. {وَإِذْ هُمْ نجوى} [أي: ذووا نجوى] أي: ذوواسر. وهذا مثل قولهم " قوم رضى " ونجواهم هو سرهم في دار الندوة في أمر النبي A. والعامل في: إذ ": من قوله: {إِذْ يَقُولُ} " نجوى " أي: يتناجون في هذا الوقت. والعامل في إذ الأول " يستمعون: الأول. والمعنى: نحن يا محمد لا أعلم باستماعهم إلى قراءتك وقت استماعهم وهم يتناجون في / وقت قولهم بعضهم لبعض: ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً. وقيل: يقول ذلك للمؤمنين. ومعنى " مسحوراً ": أي: له سَحَر، والسحر الرئة. أي: يأكل ويشرب لأن

48

كل من له رئة يأكل ويشرب فهو مثل قولهم {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً}، مثلكم. وقيل المعنى: قد سحروا وأزيل عن حد الاستواء. قال [تعالى]: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} المعنى: انظر يا محمد بعين قلبك كيف شبهوا لك الاشتباه لقولهم هو مسحور وهو شاعر وهو مجنون. " فضلوا " أي: فجاروا عن قصد السبيل بقولهم. {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً}. أي: فلا يهتدون إلى طريق الحق. وعني بهذا: الوليد بن المغيرة وأصحابه قاله: مجاهد. قوله: {وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً [أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ]} إلى قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً}. المعنى: أن الله جل ذكره أخبر عن قول المشركين وإنكارهم البعث بعد

50

الموت. والرفات: التراب، قاله مجاهد. أي: قالوا منكرين للبعث أنُبعَث بعد أن كنّا عظاماً وتراباً في قبورنا. وقال ابن عباس: الرفات: الغبار. وقال أبو عبيدة والكسائي/ الرفات الحطام. والعظام ما لم يتحطم، والرفات: ما تحطم، كذا قال أبو عبيدة. والرفات في اللغة: الرضاض والحطام. يقال: رفت رفتاً إذا حطم. ولا واحد له كالدقاق. وهذا المثال في هذا المعنى، يأتي أبداً محل فعال. نحو الفتات والتراب والرفات والغبار والحطام والرضاض. ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام قل لهم يا محمد: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50)} أو كونوا على أي خلق يعظم في صدوركم فلا بد لكم من الموت والبعث أي: استشعروا مت شئتم أن تكونوا عليه من الخلق. فلا بد أن يمتكم الله [ D] ثم يحييكم. وقال ابن عباس في قوله: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} هو الموت. أي: لو كنتم

الموت بعينه لأماتكم الله D ثم أحياكم، وهو قول: أبي صالح والحسن والضحاك. وقال ابن جبير، كونوا الموت فإن الموت سيموت. قال عبد الله بن مسعود: يوتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يجعل بين الجنة والنار فينادي مناد يسمع أهل الجنة وأهل النار، فيقول هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه، فأيقنوا يا أهل الجنة ويا أهل النار بأن الموت قد هلك. وقال مجاهد قوله: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} هو السماء والأرض والجبال. ثم أخبر عنهم تعالى ذكره أن جوابهم للنبي [ A] إذ قالوا له " من يعيدنا " أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً، فقل لهم يا محمد يعيدكم {الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً. ثم قال الله [ D] لنبيه [عليه السلام] {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ}.

أي: يحركونها استهزاء واستبعاداً للبعث. و/ النغض في كلام العرب حركة بارتفاع وانخفاض. {[وَيَقُولُونَ] متى هُوَ} أي: متى البعث، فقيل لهم يا محمد {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي: هو قريب. لأن عسى من الله [تعالى] واجبة. ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ}. أي: [يوم] يبعثكم يوم يدعوكم من القبور {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي: بأمره، قاله: ابن عباس. وقال قتادة: " بحمده " بمعرفته. وقيل: معناه: بقدرته، ودعائه إياكم، ولله الحمد على كل حال. كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله. أي: ولله الحمد على كل حال.

وروي عن [ابن] جبير أنه قال: يخرج الناس من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك. وقال أبو إسحاق معناه: ويستجيبون مقرين بأنه خالقهم. وقيل: يستجيبون بحمده يعني: عند النفخة الثانية {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} يعني: بين النفختين. وذلك أنه يكف عنهم العذاب بين النفختين فينامون فذلك ما حكى [ D] عنهم قي يس أنهم يقولون: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] لأنهم يعذبون من يوم يموتون إلى النفخة الأولى، وهو خاص لمن قاتل نبياً، أو قتل في قتال نبي، أو قتله نبي أو مات على كفره في حياة نبي. ثم قال [تعالى] قَالُواْ {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}.

53

أي: وتحسبون عند موافاتكم يوم القيامة من هول ما تعاينون ما لبثتم في الأرض إلا وقتاً قليلاً كما قال {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين} [المؤمنون: 112و113]. قال قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم وقلّت حين عاينوا يوم القيامة. قوله {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ}. أي: وقل يا محمد لعبادي المؤمنين يقول بعضهم لبعض المقالة التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. وقال الحسن: {التي هِيَ أَحْسَنُ} أن يقول لك: يرحمك الله، يغفر الله لك، يريد عند المنازعة. وقيل: {التي هِيَ أَحْسَنُ} أن يقولوا: لا إله إلا الله. وقوله: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}. أي: يفسد ما بينهم، ويقبح ما بينهم، ويحرض الكافرين على المؤمنين. إنه كان

54

للإنسان عدواً مبيناً، يؤيد الكافر الهالك ويودي المؤمن. ولا سلطان له عليه. قال تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ}. هذا خطاب للمشركين الذين أنكروا البعث، والمعنى: " ربكم " أيها المشركون " أعلم بكم إن يشأ يرحمكم فيوفقكم للتوبة والإقرار بالبعث {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فيخذلكم فتموتون على كفركم فتعذبون في الآخرة. ثم قال [تعالى] لنبيه [عليه السلام]: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}. أي: رقيباً تجبرهم على الإيمان، إنما عليك أن تبلغهم ما أرسلت به لا غير. قال {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض}. أي: ربك يا محمد أعلم بمصالح من في السماوات والأرض وتدبيرهم / وأهل التوبة منهم من أهل المعصية. ثم قال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ}.

56

وهو اتخاذه لإبراهيم خليلاً، وتكليمه موسى، وجعل عيسى كآدم وإيتاء سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داوود زبوراً. وهو دعاء علّمه الله داود تحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وغفر لمحمد A ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأرسله إلى الناس كافة. روى أبو هريرة أن النبي A قال: " خفف على داوود القرآن فكان يأمر بدابته تسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ يعني: القرآن ". وفائدة الآية أن الله أخبر المشركين بأنه قد فضّل بعض النبيين على بعض فلا ينكروا تفضيله لمحمد [ A] وأعطاه القرآن، فقد أعطي داوود زبوراً وهو بشر مثله. قال تعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ}. أي: قل لهم يا محمد: ادع [وا] الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله

عند ضُرٍّ ينزل بكم، فإنهم لا يملكون كشف [الضُّرِ] عنكم ولا تحويله عنكم إلى غيركم. هؤلاء الذين أمر الله [ D] نبيه [عليه السلام] أن يقول لهم هذا: هم قوم من المشركين كانوا يعبدون الملائكة والمسيح وعزيراً قاله: مجاهد. وقال ابن عباس: هم عيسى وعزير ومريم كان قوم يعبدونهم. وعنه أيضاً: هم عيسى وعزير والشمس والقمر كان قوم يعبدونهم. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون الملائكة فقط. وقيل: هم قوم كانوا يعبدون نفراً من الجن: فأ [سلم] أولئك النفر من الجن ولم يعلم بهم من يعبدهم. قاله ابن مسعود. ولذلك قال: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة} أي: أولئك الذين يعبد هؤلاء المشركون يبتغون إلى ربهم القربى والزلفى لأنهم مؤمنون، فيكون: يراد به الجن الذين أسلموا على القول الأخير.

58

ويجوز أن يراد بهم الملائكة وعيسى وعزير ومريم على القول الأول. والهاء والميم في ربهم تعود على أولائك وهم المعبودون. وقيل: تعود على العابدين الكافرين، [أي: المعبودون يبتغون إلى رب العابدين لهم الوسيلة. وقيل: تعود على العابدين] والمعبودين، أي: المعبودون يبتغون الوسيلة إلى رب الجميع رب العابدين ورب المعبودين. ومعنى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إلى الله لمصالح أعماله واجتهاده في حياته ويرجون وبأعمالهم تلك رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك يا محمد كان محذوراً. واختار الطبري قول من قال: هم الجن كان قوم من المشركين يعبدونهم لأن عيسى وعزيراً ومريم لم يكونوا على عهد النبي [ A] فلا يحسن دخولهم هنا في هذا المعنى. قوله: {وَإِن [مِّن] قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا}. المعنى: وما من أهل قرية إلا سيهلكون قبل يوم القيامة إما بعذاب أو بموت.

59

وقيل معناه وإن من قرية مفسدة أو ظالمة إلا نحن مهلوكها. [وهو / قول حسن] دليله [قوله تعالى]. {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] وله في القرآن نظائر. {ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً}. أي: في اللوح المحفوظ. وقيل في الكتاب الذي كتبه الله [ D] للملائكة فيه أخبار العباد الكائنة والتي لم تكن ليستدلوا بذلك على قدرته [جلّت عظمته]. قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات}. المعنى وما منعنا أن نرسل بالآيات [التي] اقترحتها قريش {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} فأهلكوا واستؤصلوا فلو أرسلت إلى هؤلاء بالآيات وكذبوا

لأهلكوا واستؤصلوا، ففعل الله [ D] بهم في ترك مجيء الآيات التي سألوها فيه الصلاح. وفي هذا ما يدل على أن الله جل ذكره أخَّر الآيات عن قريش، لئلا يكفروا بها فيهلكوا كما فعل بالأمم قبلهم. فكان تأخيره لذلك لما علم أن منهم من يؤمن ومنهم من يولد له من يؤمن. فأخّر الآيات ليتم علمه فيهم. وعلم من الأمم الأول أنه لا يؤمن أحد منهم، ولا يولد لأحد [منهم] من يؤمن فأرسل الآيات فكفروا فأهلكوا. وأخّر ذلك عن قريش ليتم ما علم منهم. وقد ظهرت آيات على عهد النبي A. فالمعنى في هذا: ما منعنا أن نرسل بالآيات التي معها الاصطلام والهلاك لمن كذب بها، إلا أنا حكمنا على كافري أمة محمد [ A] بعذاب الآخرة وألا يصطلموا بعذاب الدنيا. وهو قوله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. فالنبي A رحمة للمؤمنين إذ أستنقذهم من الضلال

وهداهم إلى الإيمان، وهو رحمة للكافرين إذ أخّر عذابهم واصطلامهم إلى الآخرة. قال ابن عباس: " سأل أهل مكة النبي A أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعون فقيل له: " إن شئت أن تستأتي بهم لعلنا نجتني منهم. وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من كان قبلهم قال لا، بل استأني بهم فأنزل الله الآية " وعلى هذا المعنى قول الحسن وابن جبير وقتادة، وهم أهل مكة. ثم قال [تعالى] {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً}. أي: وقد سأل [ت] الآيات من قبل محمد [ A] ثمود فأتيناها ما سألت وجعلنا تلك الآية [ناقة] مبصرة، أي: ذات أبصار، أي: مضيئة ظاهرة بمنزلة قوله: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أي: مضيئاً. وقيل: معنى مبصرة مبينة. أي: تبين لهم

صدق صالح عليه السلام. وقال مجاهد مبصرة [آية]. ثم قال: {فَظَلَمُواْ بِهَا}. أي: فظلموا من أجلها لأنهم عقروها وكفروا بما جائتهم فصار ظلمهم من أجلها. وقيل: معناه فظلموا بتكذيبهم بها. ثم قال: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً}. أي: وما نرسل بالعبر إلا تخويفاً / للعباد. وقيل: الآيات هنا: [هي] آيات القرآن. وقال الحسن: هو الموت الذريع. وقال نفطويه: الآيات هنا ثلاث: آية تدل على النبوة ومعجزة. وآية عقوبة، يعني: سؤال تبين فيها القدرة، وهاتان معه [م] االنظرة، ومنه قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} فهذه معها النظرة، والثالثة: آية سألتها أمة غير ما

60

جاءها به نبيها فهذه لا نظرة معها إذا أعطيتها الأمة فكفرت بها أهلكت. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس}. أي: واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس، وذلك أن الله جل ذكره وعد نبيه A أنه سيمنعه من كل من بغاه بسوء، فذكره هنا ما قد قال له أولاً. ومعنى: {أَحَاطَ بالناس} أي: هم في قدرته وقبضته فلا يصلون إليك يا محمد بسوء، فامض لما أمرت به [من] تبليغ الرسالة. قال الحسن: معناه: أحاط لك بالعرب ألا يقتلوك، فعرف أنه لا يقتل. ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ [إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ]}. يعني: [ما أراه] ليلة أسري به افتتن بها قوم فارتدوا عن الإسلام. وهذا

مما يدل على أن الرؤيا التي كانت رؤيا عين لا رؤيا نوم. لأنها لو كانت رؤيا نوم ما افتتن أحد بها ولا ارتد. لأن الإنسان يرى في نومه مثل هذا وأبعد منه. فلما أخبرنا الله [ D] أن الرؤيا كانت فتنة للناس، علمنا أنها رؤيا عين. لأن من كان ضعيفاً في الإسلام يستعظم الوصول إلى بيت المقدس والرجوع منها في ليلة فيرتد بجهله، وقلة علمه. وأيضاً فإنها لو كانت رؤيا نوم، لم تكن بآية ولا فيها دلالة عن نبوة، لأن سائر الناس، قد يرى في نومه ما هو أبعد من ذلك. وعن ابن عباس: إن هذه الرؤيا المذكورة هنا هي رؤيا رءاها النبي A بالمدينة. رأى أنه يدخل مكة هو وأصحابه. فعجل رسول الله A السير إلى مكة قبل الأجل. فرده المشركون. فقال ناس: قد رد رسول الله A، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها، فاتتن قوم بذلك. والصحيح أن الرؤيا هنا ما رأى إذ أسري به. روي أن النبي A أصبح

- غداة أسري به - على قريش فأخبرهم الخبر، فقال أكثرهم: إن العير لتطرد شهوراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهر مقبلة، فيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة. فارتد جماعة من الناس، فذلك الفتنة التي ذكر الله [ D] . ويروى " أن الناس ذهبوا إلى أبي بكر [Bهـ] فقالوا يا أبا بكر: صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. / فقال أبو بكر: تكذبون عليه. فقالوا: بل ها هو ذا في المسجد يحدث بها الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قالها لقد صدق، فما يعجبك من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل أبو بكر حتى انتهى إلى النبي A فقال: يا نبي الله أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال: يا نبي الله، فصفه لي، فإني قد جئته. قال الحسن، قال النبي A: فرفع لي حتى إني نظرت إليه فجعل رسول الله [ A] يصفه لأبي بكر وأبو بكر يقول: صدقت أشهد أنك رسول الله [ A] كلما وصف له منه شيئاً قال: صدقت أشهد أنك رسول الله [ A] حتى إذا انتهى، قال النبي A لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر: الصديق. فيومئذ سماه الصديق " وأنزل الله [ D] فيمن ارتد عن إسلامه

في ذلك الوقت الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ} الآية. وقيل: إنها رؤيا رآها النبي A بالمدينة فغمته: رأى أن بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات. والقولان الأولان أحسن وأبين لأن هذه الرؤيا لو صحت ما كان فيها فتنة لأحد. وقد أخبرنا الله أنه جعلها فتنة للناس. وأيضاً فإن السورة مكية، والريا التي رآها في المنام بالمدينة كانت. وقوله: {والشجرة الملعونة فِي القرآن}. قال ابن عباس: هي شجرة الزقوم. وهو قول: [أبي] مالك، وعكرمة وابن جبير والنخعي ومجاهد والضحاك.

وقال الحسن: كانت قريش يأكلون الثمر والزبد ويقولون تزقموا من هذه الزقوم فوصفها الله [ D] لهم في " والصافات ". قال الحسن: قال أبو جهل وكفار قريش: أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يوعدكم بنار تخرق فيها الحجارة ويزعم أنها تنبت فيها [ال] شجرة. وعن ابن عباس: [إنها] الكشوتا. وتقدير الآية: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك في الاسرا بك، والشجرة الملعونة في القرآن، إلا فتنة للناس، فكانت فتنة الرؤيا الارتداد، وفتنة الشجر قول أبي جهل وأصحابه: يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة والنار تأكل الشجر. فزادت بذلك فتنة المشركين وبصيرة المؤمنين.

61

وإنما قال الملعونة: وهي لم تلعن في القرآن على معنى الملعون آكلها. وقيل: إنما قيل ذلك: لأن العرب تقول: لكل طعم مكروه ملعون. ثم قال {وَنُخَوِّفُهُمْ}. أي نخوف هؤلاء المشركين ونتوعدهم بالعقوبات فما يزيدهم تخويفنا إلا طغياناً أي: تمادياً في كفرهم كبيراً لأنهم لما خوفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالثمر / الزبد وقالوا تزقموا من هذا الزقوم. قال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ}. المعنى: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس حسد آدم، وسخر منه، وقال: لا أسجد لمن خلقته من طين، وأنا مخلوق من نار. والنار تأكل الطين. قال ابن عباس: بعث رب العالمين إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم [ A] . فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة، وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها، فهوى صائر إلى النار، وإن

62

كان ابن نبيين. قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ} المعنى: قال إبليس أرأيتك يا رب هذا الذي كرمت عليّ: أي: فضلته علي وأمرتني بالسجود له {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة}. أي: أخرت هلاكي إلى يوم القيامة، يريد النفخة الثانية، وهي التي لا يبقى بعدها أحد إلا الله جل ذكره، فأبى الله [سبحانه] ذلك عليه. وقال إنك {مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] وهي: النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق. وبين النفختين أربعون سنة. قوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}. أي: لأستولين عليهم، قاله: ابن عباس. وقال ابن زيد: لأحتنكن لأضلن. فهو مأخوذ من قولهم: احتنك الجراد الزرع. إذا ذهب به كله. وقيل هو من

63

قولهم: حنك الدابة يحنكها إذا ربط حبلاً في حنكها الأسفل وساقها، حكاه ابن السكيت. وحكى: [احتنك] دابته بمعنى احنك، فيكون المعنى على هذا الاشتقاق لأسوقنهم كيف شئت. وإنما قال إبليس هذا: لما قال الله [ D] { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً}. قال تعالى: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ}. أي: اذهب فقد أخرتك إلى يوم القيامة، فمن تبعك من ذرية آدم وأطاعك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ}، أي: جزاؤك وجزاؤهم، أي: ثوابك على دعائك إياهم إلى معصيتي، وثوابهم على اتباعهم إياك {جَزَاءً مَّوْفُوراً} أي: مكملاً. وقال مجاهد: " موفوراً " [أي] موفراً. وقيل موفوراً مكملاً.

64

قال تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}. المعنى: واستخف من استطعت منهم، واستجهل ونحوه. ومعنى " بصوتك ": عند مجاهد أنه صوت الغناء واللعب. وقيل معناه: بدعائك إياهم إلى طاعتك. وقال ابن عباس: صوته كل داع دعا إلى معصية الله [سبحانه]، وهو قول قتادة. وقيل: صوت المزمار. وقيل: هو كل متكلم من غير ذات الله [ D] فهو صوت الشيطان، وكل راكض في غير ذات الله [سبحانه] فهو من [خيل] الشيطان. وكل ماش في

غير ذات الله [جلت عظمته] فهو من رجل الشيطان. وقيل معنى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}، أي: أجمع عليهم / من ركبان جندك ومشاتهم يدعونهم إلى طاعتك، يقال: قد أجلب فلان على فلان إجلاباً إذا صاح عليه، والجلبة الصوت. وقال قتادة: إن له خيلاً ورجلاً جنوداً من الجن والإنس يطيعونه. وقال ابن عباس: خيله كل راكب في معصية الله [سبحانه] ورجله كل راجل في معصية الله [تعالى]. ثم قال [تعالى] {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد}. يعني: الأموال التي أصابوها من غير حلها. قاله مجاهد. وقال الحسن: هي أموال أعطاها الله [ D] لهم فأنفقوها في طاعة الشيطان. وقيل: هو ما كان المشركون يحرمونه من أموالهم

يجعلونه لغير الله [سبحانه] مثل البحائر والوصائل والحامي وغير ذلك، روي ذلك عن ابن عباس، وقال الضحاك: هو ما كان المشركون يذبحون لآلهتهم. فأما مشاركته في الأولاد لهم. فقال ابن عباس: يعني أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك. وعن ابن عباس أيضاً أنه قتلهم لأولادهم، وقال قتادة: هو إدخالهم أولادهم في دينهم وما يعتقدون من الكفر، وهو قول الحسن. وعن ابن عباس، أيضاً: أنه تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزيز.

65

ثم قال تعالى: {وَعِدْهُمْ} أي: عِدْهُمُ النَّصْرَ على من أرادهم بسوء ثم قال: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً}. أي: ما يغني عنهم من عذاب الله [ D] من شيء. وهذا كله من الله وعيد وتهديد لإبليس عليه اللعنة. ومثله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. وقيل: إنما أتى هذا على وجه التها [ون] بإبليس وبمن اتبعه. قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. أي: إن الذين أطاعوني واتبعوا أمري {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} " أي: حجة. وقيل: الآية عامة في كل الخلق فلا حجة [له] على أحد من الخلق توجب أن يقبل منه، هذا قول: ابن جبير.

66

وقيل: المعنى أن كل الخلق لا تسلط لك عليهم إلا بالوسوسة. ثم قال تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}. أي: وكفى بربك يا محمد حافظاً لك. وقال قتادة: " وكيلاً ": كافياً عباده المؤمنين. وقيل: معناه منجياً مخلصاً من الشيطان. قوله: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك}. هذا خطاب للمشركين يذكرهم الله [ D] نعمه عليهم، فالمعنى: ربكم أيها القوم، هو {الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك} أي: يسير لكم الفلك، وهي السفن {فِي البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: لتتوصلوا بالركوب فيها إلى أماكن تجارتكم ومطالبكم ولتلتمسوا رزقه {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} إذ سخر لكم ذلك وألهمكم إليه.

67

قال ابن عباس يزجي: يجري، وقال قتادة: يسير. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}. أي: وإذا نالتكم الشدة والجهد من عصوف الريح أو خوف غرق، فقدتم من تدعون / من دون الله [سبحانه] أي: فقدتم آلهتكم لخلاصكم، ولم تجدوا غير الله [ D] مغيثاً إذا دعوتموه. {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ}. أي: فلما نجاكم [الله سبحانه] من هول ما كنتم فيه وشدته أعرضتم عما

68

دعاكم إليه من خلع الآلهة، وإفراد العبادة له، كفراً منكم بنعمته. {وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} أي: كفوراً ربه [ D] . فالإنسان يراد به الكافرين خاصة. قال: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر}. المعنى: أفأمنتم أيها الكفار نقم الله [سبحانه] بعد إذ أنجاكم من كربكم أن يخسف الله [ D] بكم في جانب البر كما فعل بقارون وبداره {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي: حجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: فيما يقوم لكم بالمدافعة عنكم من عذاب الله [ D] " ولا ناصراً ". وقال أبو عبيدة: " حاصباً " هنا: ريح عاصفة تحصب، أي: ترمي بالحصباء

69

من قوتها، وقيل: الحاصب: التراب فيه حصى. والحصباء الحصى الصغار. قال: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ}. [أي: في البحر] " تارة أخرى " أي: مرة أخرى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح} وهي التي تقصف ما مرت به فتحطمه وتدقه. من قولهم: قصف فلان ظهر فلان إذا كسره. {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} أي: تابعاً يتبعنا بما فعلنا بكم. قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ}. أي: فضلناهم بتسليطنا إياهم على سائر الخلق فيسخرونهم كالفلك والدواب،

يدل عليه قوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر}. ثم قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات}. [أي: من طيبات] المطاعم والمشارب. وقيل: هي [الحلال. وقيل: ذلك] السمن والعسل. وهو قول شاذ. ثم قال: {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}. فقوله: " على كثير " ولم يقل: " على كل من خلقنا " يدل على أن الملائكة أفضل من بني آدم. وقيل: وأن ابن آدم يتناول الطعام بيده والحيوان آكل بفيه. وفضل

71

بما أعطي من التمييز وبصر من الهدى. وقال ابن عباس: فضلوا بأنهم يأكلون بأيديهم والبهائم تأكل بأفواهها. قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}. أي: واذكر يا محمد يوم ندعو. ومعنى " [ب] إمامهم: نبيئهم الذي أرسل إليهم. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة. وعن ابن عباس أيضاً: [أن] الإمام هنا، كتاب عمل الإنسان مثل قوله: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 79] " وكذلك قال الحسن وأبو صالح وأبو العالية. وقال ابن زيد: " بإمامهم " بكتابهم الذي أنزل إليهم. وعن ابن عباس: " بإمامهم " بداعيهم الذي دعاهم إلى الهدى أو الضلالة.

[و] قال أبو العالية: " بإمامهم " بأعمالهم. ثم قال: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}. أي: من أعطي كتاب عمله بيمينه لم يظلم من جزاء عمله الصالح مقدار فتيل. وهو الخيط الذي في وسط النواة. /. واختار الطبري أن يكون الإمام هنا: الذي كانوا يعبدونه في الدنيا. وقال النحاس: الناس يدعون في الآخرة بهذا كله، يدعون بنبيهم، فيقال: أين أمة محمد؟ وبكتابهم، فيقال: أين أمة القرآن؟ وبعملهم، فيقال: أين أصحاب الورع؟ وكذا الكفار يدعون بضد هذا: أين أمة فرعون؟ وأين أصحاب الربا؟ وفي هذا مدح للمؤمنين على رؤوس الناس وذم للكافرين. وروي أن المؤمن يمد يمينه سهلاً، ويتناول كتابه بالسهولة، وأن المشرك يمد يمينه ليأخذ كتابه فيجتدبه ملك فيخلع يمينه فيتناول كتابه بشماله.

72

قال [تعالى]: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى}. أي: في الدنيا يريد عمى العين عن الهدى فهو في الآخرة أعمى منه في الدنيا [يريد] أنه يكون في الآخرة أعمى العين والقلب. وعلله أبو عمرو في إمالته الأول دون الثاني: أنه أراد أن يفرق بين المعنين: فأمال عمى العين وفتح عمى القلب للفرق. وكان عمى القلب بالفتح أولى، لأن الألف فيه [في] حكم المتوسط [ة] إذ تقديره: أعمى: منه في الدنيا. وافعل الذي معه من هي من تمامه ولذلك صرف بعض العرب كل ما لا ينصرف إلا افعل منك لأن منك من تمامه، وهو مذهب الكوفيين، فلما كانت منك

من تمامه صارت بمنزلة المضاف إليه، والمضاف إليه لا يدخله التنوين فامتنع [افعل] منك من الصرف لذلك. ويدل على أن الثاني من عمى القلب. أنه لو كان من عمى العين لم يقل فيه إلا: هو أشد أعمى من كذا لأن فيه معنى التعجب. ومذهب المبرد: أنه لا إضمار مع أعمى الثاني من ولا غيرها ولا معنى للتعجب فيه والثاني عنده من عمى العين كالأول. قال سيبويه والخليل: لم يقولوا: ما أعماه، من عمى العين، لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فكما لا يقال: ما إيداه، لا يقال: ما أعماه. وقال الأخفش: لم يقل ذلك، لأن فعله على أكثر من ثلاثة. والأصل فيه " اعماي. ولا يتعجب مما جاوز الثلاثة على لفظه. لا بد من: " أشد " و " أبين " ونحوه. لأن الهمزة لا تدخل على الهمزة فلا يكن بد من فعل ثلاثي تدخل عليه الهمزة. فأتى بأبين وأشد وأكثر ونحوه مما فيه المعنى المطلوب. وقيل: إنما لم يقل: " ما أعماه " من عمى العين، ليفرق ما بينه وبين " ما أعماه " من

عمى القلب. وكذلك لم يقولوا: ما أسوده. من اللون، للفرق بينه وبين ما اسوده من السؤدد، ثم اتبع سائر الباب على ذلك، لئلا يختلف. وأجاز الفراء في الكلام والشعر ما أبيضه، وحكي عن قوم جواز ما أعماه و [ما] أعشاه من عمى العين، قال لأن فعله [من] عمي وعشي فهو ثلاثي. وتحقيق معنى الآية: ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن الهدى والإسلام. فهو في الآخرة أشد عمى عن الرشد، وما يكسبه رضى ربه [ D] والوصول إلى جنته [تبارك وتعالى]. وقيل المعن: / من كان في هذه الدنيا أعمى عن هذه النعم التي تقدم ذكرها: من تفضيل بني آدم وغير ذلك، فهو في نعم الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. لأنه إذا عمي عما يعانيه في الدنيا من النعم، فهو مما يعاينه من نعم الآخرة أعمى أيضاً،

وأضل سبيلاً. وقال ابن عباس: معناها: من عمي عن قدرة الله في هذه الدنيا فهو في الآخرة أشد عمى. وكذلك قال: مجاهد. وقال قتادة: معناها من كان في هذه الدنيا أعمى عن الإيمان بالله [ D] وتوحيده [سبحانه] مع ما عاين فيها من نعم الله وخلقه [ D] وعجائبه وما أراه الله [ D] من خلق السماوات والأرض والجبال [والنجوم]، فهو في الإيمان بالآخرة الغائبة عنه - التي لم يرها - أشد عمى وأضل سبيلاً. وهو قول ابن زيد. ومعنى: {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} وأضل طريقاً منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورءاها. وهذا القول حسن مختار. لأن من لم يؤمن في الدنيا [بالله D] مع ما يرى من الآيات الظارهة الدالات على توحيد الله [سبحانه] فهو أحرى ألا يؤمن بالآخرة

73

التي لم يعاين أمرها وإنما هو خبر غائب عنه دعي [إلى] التصديق به. قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}. هذه الفتنة، التي ذكرها الله [ D] هنا، هي أن المشركين منعوا النبي A من استلام الحجر، وقالوا له: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا. فحدث نفسه النبي A بذلك وقال [ D] يعلم أني لها كاره فأنزل الله [ D] : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية. وقال قتادة: أطافوا به ليلة فقالوا أنت سيدنا وابن سيدنا وأرادوه على موافقتهم على بعض ما هم عليه فهم أن يقاربهم فعصمه الله [ D] فذلك قوله: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. وقال مجاهد: قالوا له إتيِ آلهتنا فامسسها

فذلك قوله: {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. وقيل: إنما ذلك أن النبي A هم أن ينظر قوماً بإسلامهم إلى مدة سألوه الإنظار إليها. قاله: ابن عباس. وهو ثقيف، سألوا النبي [عليه السلام] أن ينظرهم سنة حتى يهدى إلى آلهتهم الهدي. قالوا له: فإذا قبضنا الهدي الذي يهدى لآلهتنا [أ] سلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ النبي A أن يطيعهم على ذلك فأنزل الله [ D] الآية. وقيل: إنما قالوا للنبي A: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموال [ى] الذين آمنوا بك حتى نج [ل] س معك ونستمع منك. فهم النبي [ A] . بذلك طمعاً منه أن يؤمنوا فأنزل الله [ D] الآية. وقوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ [خَلِيلاً]}.

أي: لو فعلت يا محمد ما دعوك إليه من الفتنة لاتخذوك خليلاً وكانوا لك أولياء. والقوف على " إذا " بالنون عند المبرد لأنها بمنزلة أن. وقال بعض النحويين الوقف عليها بالألف في كل / موضع كما تقف على النون الخفيفة بالألف إذا انفتح ما قبلها. وقال بعض النحويين: إذا لم تعمل شيئاً وقفت عليها بالألف، وإذا عملت وقفت عليها بالنون. ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. أي: لولا أن عصمناك عما دعاك إليه المشركون من الفتنة لقد كدت تميل إليهم شيئاً قليلاً. ولما نزلت هذه الآية قال النبي A: " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ". حكى ابن الأنباري عن [بعض] أهل اللغة أنهم قالوا: ما قارب رسول الله A إجابتهم ولا ركن إليهم قط. وقالوا: " كدت تركن إليهم " ظاهره خطاب للرسول

75

A وباطنه خبر عن ثقيف. وتلخيصه وإن كادوا ليركنونك. أي: فقد كادوا يخبرون عنك أنك تميل إلى قولهم فنسب إلى النبي A فعل ثقيف على جهة الاتساع والمجاز والاختصار. كما يقول الرجل للرجل كدت تقتل نفسك يعني كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت. فنسب القتل إلى المخاطب وهو لغيره. ومنه قولهم لأريتك ها هنا. فادخلوا حرف النهي على غير المنهي عنه. وتلخيص هذا الكلام لا يحضر هذا المكان حتى إذا أتيته لم أجدك فيه. ومثله {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] دخل النهي على الموت والموت لا يملك ولا يدفع. وتلخيصه لا تفارقوا الإسلام حتى إذا أتاكم الموت صادفكم مسلمين. قال [تعالى] {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات}. أي لو ركنت إلى هؤلاء المشركين فيما سألوك فيه لأذقناك ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك. ثم قال: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}. أي لا تجد يا محمد، لو أذقناك ذلك، من ينصرك علينا فيتمنعنا من عذابك.

76

فأخبر الله تعالى ذكره: بأن العقاب بالأنبياء مثل الثواب لهم في الأضعاف. وقد قال في نساء النبي A { نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] وقال: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. قال: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا}. أي: إن كاد هؤلاء المشركون أن يستخفونك من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، ولو أخروجك منك لم يلبثوا خلفك فيها إلا قليلاً. قيل: إنهم [هم] اليهود. أرادوا أن يحتالوا على النبي A في الخروج من المدينة. وقالوا له إن أرض الأنبياء أرض الشام. وإن هذه ليست بأرض نبيء فأنزل الله [ D] الآية. قال هذا المعتمر بن سليمان عن أبيه.

وقيل: هم قريش أرادوا إخراج النبي [ A] من مكة قاله قتادة. و [قال]: قد فعلوا / ذلك بعد، فأهلكهم الله [ D] يوم بدر: وكانت سنة الله [ D] في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك. وقال الحسن: همت قريش بإخراج النبي A من مكة فأراد الله [ D] نفي قريش فأمره الله [ D] أن يخرج منها مهاجراً إلى المدينة فخرج بأمر الله [ D] ولو أخرجوه هم لهلكوا كما قال: {وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً}. وقيل: الأرض هنا أريد بها أرض الحجاز. وقيل: مكة، وعليها أكثر المفسرين. وقيل: المدينة، وفيه بعد. لأن السورة مكية ولم يكن النبي [عليه السلام] في المدينة عند نزول هذه الآية، فالأرض: يعني: بها مكة أحسن وأولى.

وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} أي: [إلا] وقتاً قليلاً. وهو ما أقاموا بمكة بعده من حيث خرج عنهم إلى وقعة بدر. قاله: ابن عباس والضحاك. و" خلفك ": معناه: بعدك. ومن قرأ " خلافك " فهي لغة فيه. وقيل معناه: مخالفتك، قاله الفراء. وإذن: حرف نظيره في الأفعال، أرى وأظن. فإذا تقدم عمل، وإذا تأخر أو توسط لم يعمل لضعفه عن قوة الفعل. ولقوة الفعل جاز عمله متوسطاً ومتأخراً وإلغاؤه. وإذا كانت إذن مبتدأة عملت. فإن كانت بين كلامين لم تعمل. فإن كان قبلها حرف عطف جاز الأعمال والإلغاء، ولذلك لم تعمل في " لبثوا ". وفي مصحف عبد الله " وإذا: لا يلبثون خلفك " اعمل إذن في الفعل فهذا حالها مع حرف العطف. ومعنى إذن: إن كان الأمر كما ذكرت، أو كما جرى بقول القائل: زيد

77

يأتيك، فتقول: إذن أكرمه. أي إن كان الأمر كما ذكرت وقع إكرامه مني. فإكرامه والفعل منصوب بعد إذن بأن الضمير في التقدير. هذا مذهب حكي عن الخليل وسيبويه. ويروى: أن إذن هي الناصبة للفعل [لأنها] لما يستقبل لا غير. قوله: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا}. سنة منصوب على المصدر، أي: سن الله [ D] أن من أخرج نبياً من مكان لا يلبث فيه خلفه إلا قليلاً سنة. قال قتادة: معناه: سُنَّةَ أمم الرسل قبلك، كذلك إذا كذبوا رسلهم وأخرجوهم لم يمهلوا حتى بعث الله [ D] عليهم عذابه. وقال الفراء: معناه: لا يلبثون خلفك إلا قليلاً كسنة من قد أرسلنا. فلما

78

حذف الكاف نصب، فعلى القول الأول: يجوز الابتداء بها، وعلى قول الفراء: لا يحسن الابتداء بها. قال: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}. قال ابن مسعود: هي صلاة المغرب، ودلوك الشمس وقت غروبها. وكذلك روي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب Bهما. وكذلك روى ابن زيد عن أبي. وروى الشعبي عن ابن عباس: [أن] دلوك الشمس ميلها للزوال والصلاة. صلاة الظهر. وكذلك روى نافع عن ابن عمر. وهو قول: الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد: وروي ذلك عن أبي هريرة. والدلوك في اللغة الميل. وقال أبو عبيدة: دلوكها / من حين تزول إلى أن تغيب. وقال القتبي: العرب تقول دلك النجم إذا غاب. فاختياره [هو] قول من قال: هو غروب الشمس. واختيار الطبري قول من قال: دلوكها ميلها للزوال.

وقد روي: أن النبي A قال: " أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت: فصلى بي الظهر ". وقيل معنى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} عني بذلك: الظهر والعصر. وقوله: {إلى غَسَقِ اليل}. غسق الليل إقباله ودنوه بظلامه. قال [هـ] ابن عباس وعكرمة ومجاهد. وقال قتادة: غسق الليل صلاة المغرب. وقال الضحاك غسق الليل إظلامه؟ فيدخل تحت دلوك الشمس صلاة [الظهر] والعصر وتحت غسق الليل صلاة العشاء. ثم قال: {وَقُرْآنَ الفجر}. أي: وألزم قرآن الفجر. فهو منصوب على الإغراء، وهو مذهب الأخفش.

وقيل معناه: وأقم قرآن الفجر. فمن نصب بإلزام حسن الابتداء به. ومن نصب بأقم جعله معطوفاً على ما قبله وهو أقم الصلاة. فلا يحسن الابتداء به لأنه معطوف على ما قبله. " وقرآن الفجر " صلاة الصبح، " كان مشهوداً " أي تشهده ملائكة الليل والنهار. وسميت الصلاة قرآناً لأنها لا تكون إلا بقرآن. وهذا يدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقرآن. وأنه فرض في الصلاة لأنه كله مأمور به في هذه الآية. والنهار عند الخليل: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

79

قوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}. معناه: ومن الليل يا محمد فاسهر بالقرآن {نَافِلَةً لَّكَ} أي: خاصة لك دون أمتك. والتهجد: التيقظ، والسهر بعد نومة من الليل، والهجود: النوم. يقال: تهجد زيد إذا سهر، وهجد إذا نام. قال علقمة والأسود: التهجد بعد نومة. وقال الحسن: التهجد ما كان بعد العشاء الآخرة. قال ابن عباس معنى: " نافلة لك ": فرضاً عليك. فرض الله ذلك على النبي A. وقيل: إنما قيل له: " نافلة لك " لأنه لم يكن فعله ذلك ليكفر عنه شيئاً من الذنوب. فهو نافلة للنبي [عليه السلام] لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو نافلة له لأنه لا ذنب له، يكفر بنوافله، وهو لأمته كفارة لذنوبهم، قال ذلك مجاهد.

وقول ابن عباس: أولى. لأن هذه السورة نزلت بمكة وسورة الفتح إنما نزلت بعد منصرفه من الحديبية، فنزل عليه الأمر بالنافلة قبل معرفته بأن الله [ D] قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فواجب أن يكون ذلك فرضاً عليه خاصة. خصّه الله [ D] به، لأن الصلاة بالليل أفضل أعمال الخير / فَخَضَّ الله [سبحانه] نبيه A على أفضل الأعمال. وروي عن النبي A أنه قال: " أفضل الصلاة بعد الصلاة المفروضة الصلاة بالليل ". وقال عليه السلام: " عليكم بالصلاة بالليل فإنها دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى الله [ D] ، وكفارة للسيئات ". وعنه A أنه قال: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ". وقال: " صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ".

وقال [النبي] عليه السلام: " صلوا بالليل ولو ركعتين. ما من أهل بيت تعرف لهم صلاة إلا ناداهم مناديا أهل الدار: قومواإلى صلاتكم ". وفضل الصلاة بالليل عظيم جسيم إليه انتهت العبادة وقد قال A: " إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم سأل الله خيراً وهو يصلي إلا أعطاه وهي في كل ليلة ". ثم قال [تعالى]: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}. وعسى من الله واجبة، لأن الله [ D] لا يدع أن يفعل بعباده ما أطعمهم به من الجزاء على أعمالهم لأنه ليس من عادته الغرور ولا من صفته. والمقام المحمود: هو الشفاعة. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج والحسن. وقال حذيفة: يجمع الله [ D] الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي

وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، سكوتاً لا تكلم نفس إلا بإذنه، فينادي محمداً A فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهتدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ". قال: فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله جل ذكره. وعن ابن عباس أنه قال: بلغنا أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بقيت آخر زمرة من زمرة الجنة وآخر زمرة من زمر النار، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة: أما نحن فحسبنا ما علم الله [ D] في قلوبنا من الشك والتكذيب فما ينفعكم إيمانكم فإذا قالوا لهم ذلك دعوا ربهم [ D] وصاحوا بأعلى أصواتهم، فيسمع أهل الجنة أصواتهم فيسألون آدم الشفاعة لهم. فيأبى عليهم. ثم يمضون من نبي إلى نبي فكلهم يعتذر حتى يأتوا محمداً A [ فيشفع لهم] فذلك المقام المحمود وحديث الشفاعة مختلف الألفاظ طويل ذكرنا منه ما يليق بالكتاب.

وعن مجاهد من رواية ليث، عنه أنه قال: المقام المحمود يجلسه معه على عرشه. و [عن] النبي عليه السلام في قوله: " مقاماً محموداً " أنه قال: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " رواه أبو هريرة عنه. وروى كعب بن مالك أن النبي عليه السلام قال: " يحشر الناس يوم القيامة [فأكون أنا وأمتي] على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود ". قال عبد الله بن عمر: أن النبي عليه السلام قال: " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست / بصاحب ذلك. ثم بموسى فيقول: كذلك. ثم بمحمد فيمشي بين الخلق حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ

80

يبعثه الله المقام المحمود ". وروي: عن عبد الله بن سلام أنه قال: " إن محمداً عليه السلام يوم القيامة على كرسي للرب بين [يدي] الرب جل وعز. فهذا قول مجاهد. وقيل المقام المحمود: هو المقام الذي يحمده فيه الأولون والآخرون يشرف فيه على جميع الخلائق: يسأل فيعطى ويشفع، ليس أحد يوم القيامة إلا تحت لواء محمد A. قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ]}. يعني: مدخله المدينة حين هاجر إليها وخروجه من مكة. قال ذلك: ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد. ودل على هذا ما تقدم من قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76]. وعن ابن عباس أيضاً: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أمتني إماتة صدق وأخرجني بعد

الممات مخرج صدق. وقال مجاهد: يعني به: أدخلني فيما أرسلتني به مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق من الدنيا. وعن الحسن أيضاً: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الجنة، وأخرجني مخرج صدق مكة. وقال الضحاك: معناه أخرجني من مكة آمناً، وأدخلني إياها آمناً وهو يوم الفتح. وقال أبو صالح: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} الإسلام. وقيل معناه: أدخلني مكة بالعز والقوة والقدرة والحجة على جميع من خلقت وأخرجني من مكة إلى المدينة لا ألقى إلا مؤمناً ومجيباً. ومعنى {مُدْخَلَ صِدْقٍ}: [مدخل] سلامة وحسن عاقبة. فجعل الصدق موضع الأشياء الجميلة. ثم قال تعالى: {واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}. أي: حجة تنصرني بها على من ناوأني، وعزاً أقيم به دينك، وملكاً تقوى به

81

أمتي. قاله: الحسن، قال: يوعده الله [ D] لننزعن ملك فارس عن فارس ولنجعله لك، وعن الروم ولنجعلنه لك، أي لأمتك. وقيل معناه: حجة بينة، قاله مجاهد. قال ابن زيد: نصيراً ينصرني. قوله: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل}. أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. جاء الحق وهو القرآن، وزهق الباطل وهو الشيطان. قاله قتادة. وقال ابن جريج: جاء الحق: هو قتال المشركين، وزهق الباطل. أي: الشرك الذي هم عليه. وقيل معناه: أن الله جل ذكره أمر نبيه عليه السلام أن يقول هذا إذا دخل مكة على الأصنام. فقال ذلك حين دخل مكة فخرت الأصنام كلها وأمر النبي A بخرقها. وقال ابن مسعود: دخل النبي عليه السلام مكة وحول الكعبة ثلاث مائة وستون

82

صنماً. فجعل يطعنها ويقول: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً}. ومعنى زهق ذهب. قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}. أي ما يستشفي به المؤمنون ورحمة لهم دون الكافرين. وهو شفاء في الدين لما فيه من الدلائل الواضحة والحجج الظاهرة / لا يلحق المؤمن ريب في التوحيد معه. و (من): هنا لبيان الجنس، وليست للتبعيض. فإذا كانت لبيان الجنس كان القرآن كله شفاء للمؤمنين لأنهم يهتدون به. ولو كانت [من] للتبعيض لكان بعض القرآن شفاء وبعضه غير شفاء وهذا لا يحسن. وقيل: المعنى وننزل من جهة القرآن الشيء الذي فيه شفاء. فمن غير مبعضة، إذ القرآن كله شفاء للمؤمن في دينه ليس بعضه شفاء وبعضه غير شفاء.

83

وقوله: {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً}. أي: إلا هلاكاً لأنهم يكفرون به فيزدادون خساراً. قال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}. معناه: وإذا أنعمنا على الإنسان فنجيناه من غم ومن كرب أعرض عن ذكر الله وتباعد بناحيته. ومعنى " نأى ": بعد، قال مجاهد: " نأى بجانبه ": تباعد منا. ثم قال [تعالى] {وَإِذَا مَسَّهُ الشر [كَانَ يَئُوساً]}. أي: إذا مسه الشر والشدة قنط. قال قتادة: " إذا مسه الشر " يئس وقنط، يعني بذلك: المشرك ينعم عليه وهو يبعد من الإيمان بمن أنعم عليه، وإذا أصابه ضر وفقر يئس من رحمة الله [سبحانه]. وقيل: إنها نزلت في الوليد بن المغيرة ثم في كل من هو مثله من الكفار. قال: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ}.

85

أي: قل للناس يا محمد، كلكم يعمل على طريقته ومذهبه. وقال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته. وقال [ابن] زيد: على دينه. ثم قال: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً}. أي: أهدى طريقاً إلى الحق من غيره. وقيل: معنى الآية كل يعمل على ما هو أشكل عنده وأولى بالصواب. فربكم أعلم بمن هو أهدى طريقاً إلى الصواب من غيره. وقيل: يعمل على شاكلته اي على النحو الذي جرت به عادته وطبعه. قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. المعنى: ويسألك يا محمد، كفار أهل الكتاب عن الروح، قل لهم يا محمد

الروح من أمر ربي. قال ابن مسعود: كنت مع النبي في حرث بالمدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه. فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح. وقال بعضهم: لا تسألوه. فسألوه عن الروح، فقام متوكئاً على عسيبه فقمت خلفه، فظننت أنه يوحى إليه. فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً}. فقال بعضهم: ألم أقل لا تسألوه. وقال عكرمة: سأل أهل الكتاب رسول الله A عن الروح فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} الآية. فقالوا: أتزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ [والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ]} [لقمان: 27] الآية.

وقال قتادة: لقيت اليهود النبي A فعنتوه وقالوا: إن كنت نبيأً فستعلم ذلك. فسألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فأنزل الله [ D] في ذلك كله. وعن ابن عباس: " أن اليهود قالوا: / للنبي A أخبرنا ما الروح؟ وكيف يعذب الروح الذي في الجسد وإنما الروح من الله D؟ ولم يكن نزل إليه في شيء. فلم يجد إليهم فيه شيئاً. وأتاه جبريل عليه السلام فقال له: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. الآية فأخبرهم النبي A بذلك فقالوا من جاءك بهذا فقال النبي A جاء به جبريل من عند الله [ D] . فقالوا والله ما قاله لك إلا عدونا فأنزل الله [ D] { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} ". وقال بعض أهل العلم: علم الله [ D] أن الأصلح ألا يخبرهم ما هو لأن اليهود قالت لقريش في كتابها أنه إن فسر لكم ما الروح فليس بنبي. وإن لم يفسره فهو نبي. وهذا القول: أولى بالآية لأن السورة مكية. وقد روى أن قريشاً اجتمعت بمكة

فقال بعضهم لبعض: والله ما كان محمد كذاباً، ولقد نشأ فينا بالصدق والأمانة فابعثوا منكم جماعة إلى يهود يثرب يسألونهم عنه. فخرجت طائفة حتى لقوا أحبار يهود، وكانوا يومئذ ينتظرونه ويرجون نصرته. فسألهم قريش عنه: فقالت: لهم اليهود: اسألوه عن ثلاث: فإن أخبركم باثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي: تسألوه عن أهل الكفه وعن ذي القرنين وعن الروح. فقدموا مكة وسألوه عن ذلك. وقيل: أنهم سألوه عن عيسى عليه السلام. فقيل: لهم الروح من أمر الله، أي: هو شيء أمر الله [ D] به وخلقه لا كما تقول النصارى. وكان ابن عباس يكتم تفسير الروح. وقال قتادة: هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس: أنه ملك. وعن علي بن أبي طالب [Bهـ] إنه ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، لكل وجه منها سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله [ D] يتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى

يوم القيامة. وقيل الروح القرآن، لقوله: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وإنما سمي القرآن روحاً لأنه حياة للقلوب والنفوس لما تصير إليه من الخير بالقرآن. وقيل إن اليهود وصوا قريشاً يسألون النبي A عن ذلك ليمتحنوا علمه وهذا أحسن ما قيل لآن السورة مكية. وقال أبو صالح: الروح خلق كخلق بني آدم وليسوا بني آدم، لهم أيد وأرجل. ومعنى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من الأمر الذي يعلمه دونكم. وقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً}. يعني الذين سألوا النبي A خاصة. وقيل عني به الخلق كلهم ولكنه

86

غلب المخاطب على الغائب. قال عطاء: نزلت بمكة {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} فلما هاجر، " أتى أحبار اليهود إلى النبي A فقالوا له: يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أفعنيتنا أم قومك؟ فقال: كلا قد عنيت. قالوا فإنك تتلو / إنا قد أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء، فقال النبي A: هي في علم الله قليل. وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم وأنزل الله [ D] : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية ". قال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. أي لو أردنا لذهبنا بالقرآن ثم لا تجد لك بذهابه علينا قيماً ولا ناهراً يمنعنا من ذلك.

قال ابن مسعود: معنى ذهابه رفعه من صدور قارئيه. وقال: تطرق الناس ريح حمراء من نحو الشام فلا يبقى منه في مصحف رجل شيء ولا في قلبه آية، ثم قرأ الآية {وَلَئِن شِئْنَا}. وروي عنه أيضاً: أنه قال: يسري عليه ليلاً ولا يبقى منه في مصحف ولا في صدر رجل شيء. ثم قرأ: {وَلَئِن شِئْنَا} الآية. وروي عنه أنه قال: فيصبح الناس منه فقراء مثل البهائم. فيكون معنى الآية على هذا: ولئن شئنا لمحوناه من الكتب ومن الصدور حتى لا يوجد له أثر ولكن لا نشاء ذلك. رحمة من ربك وتفضلاً منه. {[إِنَّ فَضْلَهُ] كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} باصطفائه إياك لرسالته ووحي كتابه وغير ذلك من نعمه. وقال ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما يبقى منه الصلاة.

88

وإن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع. قالوا كيف يرفع وقد أثبته الله في قلوبنا، وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال يسرى عليه ليلة ويذهب بما في قلوبكم وبما في مصاحفكم ثم قرأ الآية. ومعنى: {بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: لا تجد من يمنعك من ذلك ولا من يتوكل [لك] برد شيء منه. وهذا خطاب للنبي A والمراد به أمته. قوله: {[قُل] لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ} إلى قوله: {ظَهِيراً}. المعنى: قل يا محمد للذين ادعوا بأنهم يأتون بمثل هذا القرآن {[قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن] لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} أي: عويناً. وهذه الآية: نزلت في قوم من اليهود جادلوا النبي A في القرآن وسألوه آية غير القرآن تدل على نبوته وادعوا أنهم يقدرون على مثل هذا القرآن فأعجزهم الإتيان بمثله فقيل لهم: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] فأعجزهم ذلك. فقيل لهم:

{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] فأعجزهم ذلك وقد كان عصرهم عصر فصاحة وبلاغة. وقيل: إن الخطاب بذلك لقريش وهم الذي عجزوا عن الإتيان بسورة وبعشر سور وهم أهل الفصاحة والبلاغة والشعر والخطابة وكانوا على حرص على أن يأتوا بما يحتجون به على النبي A. فلم يقدروا على الإتيان بشيء من ذلك تقوم لهم به حجة فدل ذلك على إعجاز القرآن وأنه دليل على نبوة محمد A. فمن إعجاز القرآن تأليفه بالأمر والنهي والوعظ والتنبيه والخبر والتوبيخ وذلك لا يوجد متألفاً في كلام. ومن إعجازه الحذف والإيجاز ودلالة اليسير من اللفظ على المعاني / الثكيرة. وهذا موجود بعضه في كلام العرب [لكن] لا يوجد مثل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] فقد تضمن هذا معاني، ولا يوجد مثله في كلام العرب بهذه الفصاحة ومثله كثير في القرآن. ومعنى الإيجاز هو إظهار المعاني الكثيرة باللفظ القليل ومن إعجازه ما فيه

89

من علوم الغيب التي لم تكن وقت نزوله ثم كانت ومنها ما لم تكن بعد. ومنها ما كانت ولم يكن أحد يعرفها في لذك الوقت، فنزل علمها وتفسيرها في القرآن كخبر يوسف وإخوته. وخبر ذي القرنين، وأهل الكهف، وإخبار الأمم الماضية والقرون الخالية، التي قد اندرس خبرها وعدم عارف أخبارها، وغير ذلك. . . فنزل القرآن بتبيانها ونصها على ما كانت عليه. ودل على صحة ما أى فيه من الأخبار أن كثيراً منها قد نزل في التوراة [كذلك]. فالتوراة مصدقة لما في القرآن والقرآن مصدق لما نزل في التوراة. وإعجازه أكثر من أن يحصى وله كتب مفردة لذلك. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ}. أي: ولقد بينا للناس في هذا القرآن من كل مثل تذكيراً لهم واحتجاجاً عليهم وتنبيهاً لهم على الحق {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} أي إلا جحوداً للحق. قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً}. أي: قال المشركون من قومك يا محمد لن نصدقك حتى تفجر لنا من أرضنا

92

هذه عيناً تنبع بالماء لنا. قال مجاهد وقتادة. {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي بأرضنا هذه {[فَتُفَجِّرَ الأ] نهار خِلالَهَا تَفْجِيراً} أي: خلال النخيل والكروم أي بينها في أصولها. {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} أي: قطعاً. لأنه جمع مسفة وهي القطعة. ومن قرأ بإسكان السين أراد قطعة واحدة. ويحتمل أن يكون مسكناً من الفتح فيكون معناه مثل معنى قراءة من فتح السين. ثم قال: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً}.

93

أي: قبيلا [قبيلا]، كل قبيلة على حدتها قاله مجاهد. وقال قتادة " قبيلاً " أي: نعاينهم: يقابلونا. ونقابلهم. وقاله ابن جريج. وقال القتبي: " قبيلاً " [أي] ضميناً. أي يضمنون لنا إتيانك بذلك. وهو أحد قولي أبي إسحاق. يقال قد تقبل بهذا، أي تكفل به. قال: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}. أي من ذهب، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى قرأنا [هـ] في مصحف ابن مسعود " أو يكون لك بيت من ذهب ". وأصل الزخرف في اللغة الزينة ومنه قوله: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} [يونس: 24] أي

أخذت كما زينتها ولا شيء أحسن في البيت من زينة الذهب. ثم قال: {أَوْ ترقى فِي السمآء}. أي: تصعد في درج السماء. ولهذا الإضمار، أتى بـ " في " ولو لم يكن ثم إضمار لكان " إلى السماء " ففي: يدل على المحذوف. أي أو ترقي في سلم إلى السماء. ثم قالوا: {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ}. أي: لن نؤمن بك إذا صعدت إلى السماء {حَتَّى / تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ}. منشوراً: أي: كتاباً من عند الله D يأمرنا فيه باتباعك والإيمان بك. قال مجاهد: " كتاباً نقرؤه " أي: من رب العالمين، تصبح عند رأس كل رجل صحيفة يقرؤها. ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: قل لهم يا محمد: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}. أي: قل لهم براءة لله من سوء ما تقولون، وتعظيماً له من [أن] يؤتى به

وبملائكته أن يكون له سبيل إلى شيء من ذلك هل أنا إلا بشر أي: عبد من عبيده من بني آدم فكيف أقدر على ما تكلفوني. وقوله: " رسولاً " أي: أرسلت لأبلغكم عن الله أمره ونهيه. وكان هذا الكلام فيما رُوِيَ: جرى بين النبي A وبين ملأ [من] قريش اجتمعوا للمناظرة فتكلموا بما نصه الله D في هذه الآية عنهم. وذكر ابن عباس في ذلك: خبراً طويلاً معناه: أنهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة وبعثوا في النبي عليه السلام فأتاهم طمعاً أن يكونوا قد ظهر لهم اتباعه فعذلوه وأكثروا في اللوم والعتب [وطولوا]. قالوا له: إنك فرقت جمعنا، وعيبت ديننا، وسفهت أحلامنا، وما بقي قبيح إلا جئته فينا، أو كما قالوا، ثم قالوا [له]: إن كنت تحب مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن أردت الشرف سودناك علينا. وإن أردت الملك، ملكناك علينا. . . في كلام طويل عتبوه به وعددوا عليه فيه، ووعدوه،

واستنزلوه، طمعاً أن يميل إليهم. ثم قالوا له: فإن لم تفعل ما قلنا لك فاسأل ربك يبعث ملكاً يصدقك بما تقول، أو فاسأله أن يجعل لك جنة وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي. فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه. فأنكر النبي A ذلك من قولهم، وقال: " إنما أنا بشر بعثت إليكم نذيراً لتؤمنوا بالله وكتابه " فقالوا له فاسقط السماء علينا، كما زعمت، إن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن نفعل، فقال النبي A: ذلك إلى الله إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال النبي A: ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك "، ثم أطالوا الكلام معه، وقالوا [له] إنما يعلمك ما جئت به رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، وادّعوا أنهم يعبدون الملائكة، وهن بنات الله - تعالى الله عن ذلك - فقال النبي A وقام [معه] ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، وهو عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال له: يا محمد أعَرَض عليك قومك

94

ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم من العذاب فوالله لا أؤمن بك أبداً، حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، معك أربعة أملاك يشهدون لك إنك ما تقول حق وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وهذا معنى قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ / بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] الآية. وروى أن عبد الله بن [أبي] أمية قال للنبي A: لن نؤمن لك حتى تنزل علي كتاباً من السماء فيه من الله رب العالمين إلى ابن أمية، إني قد أرسلت محمداً [نبياً] فآمن به وصدقه. والله لو أتيتني بهذا الكتاب ما آمنت بك ولا صدقتك ثم انصرف رسول الله A حزيناً لما فاته مما كان كمع به من إيمان قومه حين دعوه. قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى}. المعنى: وما منع مشركي قومك يا محمد من الإيمان بالله {إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} إلا قولهم جهلاً منهم {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً}. كأنهم استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من بني

95

آدم فكفروا ولم يؤمنوا كذلك ولم يعلموا أن الأنبياء كلهم كانوا من بني آدم. أي: لو كان سكان الأرض ملائكة لجاءهم الرسول من الملائكة مثلهم. لأن الملائكة إنما تراهم أمثالهم من الملائكة ومن خصه الله [ D] من بني آدم بذلك، فكيف يبعث [الله] إليهم من الملائكة رسولاً وهم لا يقدرون على رؤية ذلك وإنما يرسل إلى كل صنف من جنسه فهذا هو العدل. ومعنى: " مطمئنين " مستوطنين الأرض. وقيل: [معنى] " مطمئنين ": لا يعبدون الله ولا يخافونه مثلكم. قال تعالى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}. أي: قل لهم يا محمد: {كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه نعم الكافي. و" شهيداً " حال، أي: كفى بالله في حال الشهادة. وقيل هو تمييز أي كفى

97

بالله من الشهداء. {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: ذو خبر وعلم بأمورهم وأفعالهم " بصيراً " بتدبيرهم وسياستهم. وروي أنهم قالوا للنبي A: من يشهد لك بأنك رسول الله فأنزل الله [ D] : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} الآية. قال تعالى: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد}. أي: من يهده الله للإيمان فهو المهتدي للرشد والحق ومن يضلله عن الإيمان ولا يوفقه فلن تجد له يا محمد أولياء من دون الله [ D] ينصرونه من عذاب الله [سبحانه]. {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ}. أي: نجمعهم ليوم القيامة من بعد تفرقهم في قبورهم.

{على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}. أي: عمياً عن كل شيء يسرهم ولكنهم يرون، ودل على رؤيتهم قوله: {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53]. قوله: " وبكماً " أي: بكماً عن الحجة فلا ينطقون بحجة ولكنهم يتكلمون ودل على كلامهم قوله: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13]. قوله: " وصماً " أي: صماً عن سماع ما يسرهم. وهم يسمعون ودل على سماعهم قوله: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12]. وقيل: إنهم في حال حشرهم إلى الموقف عمي وبكم وصم. ثم يحدث الله [ D] لهم سمعاً وبصراً ونطقاً في أحوال أخر. وقوله: {على وُجُوهِهِمْ} معناه: أنهم يحشرون صاغرين. وقيل: بل معناه: أنهم يحشرون يمشون على وجوههم لأن الذي أمشاهم على أرجلهم يقدر أن يمشيهم على وجوههم، وعلى ما يشاء من أعضائهم. ثم قال: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ / كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً}.

أي: مصيرهم إلى جهنم ومسكنهم جهنم وقال ابن عباس معناه: هم وقودها. ومعنى خبت: سكنت، قاله ابن عباس. وعنه أيضاً: كلما أحرقتهم يسعر لهم حطبها، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئاً صارت جمراً تتوهج، فذلك خبوها، فإذا بدلوا خلقاً جديداً عاودتهم. وقال مجاهد: " خبت " طفيت "، وقال قتادة: معناه كلما أحرقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب. وأهل اللغة يقولون: خبت النار، تخبو خبوءاً إذا سكن لهبها، فإن سكن لهبها وعلا جمرها، قيل: كبت تكبو كبوءاً. فإن طفى بعض الجمر وسكن اللهب قيل خمدت تخمد خموداً. فإن طفيت لها قيل: همدت تهمد هموداً.

98

ومعنى: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي: زدنا هؤلاء الكفار استعاراً بالنار في جلودهم. وليس خبوتها فيه نقص من عذابها ولا راحة لهم وإنما هم في زيادة أبداً لقوله: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] لا يفتر عنهم. وقال المبرد: جعل موضع خبوت نار جهنم اسعاراً فهي مخالفة لما تفعل من نار الدنيا، ولا راحة لهم فيها إذا خبت بل يزيد عليهم العذاب. قوله: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا}. معناه: هذا العذاب جزاء هؤلاء المشركين لأنهم كفروا بآيات الله. أي: جحدوها وأنكروها ولم يؤمنوا بها. وأنكروا البعث والثواب والعقاب. {وَقَالُواْ} على الإنكار منهم والاستبعاد: {أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} [الإسراء: 49] أي: عظاماً [بالية] وقيل تراباً. و {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49] أي لا نبعث. وقد تقدم تفسير هذا بأشبع منه في صدر السورة.

99

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}. والمعنى: أَوَلَم ينظر هؤلاء المنكرون البعث أن الله [ D] الذي ابتدع خلق السموات والأرض من غير شيء وأقامها بقدرته، قادر بتلك القدرة على أن يخلق أشكالهم وأمثالهم من الخلق. وإن إعادتهم لا تتعذر على من يقدر هذه القدرة. ثم قال: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ}. أي: جعل الله لهلاكهم أجلاً لا شك في وقوعه بهم {فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً} أي [إلا] جحوداً بربهم. قال تعالى: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}. أي: قل يا محمد: لهؤلاء المشركين لو أنكم أنتم تملكون خزائن أملاك ربكم إذاً

101

لبخلتم بذلك خشية الفقر قال ابن عباس. وقال قتادة: خشية الفاقة. والرحمة هنا المال. وقيل النعم، حكى أهل اللغة أنفق الرجل وأصرح وأعدم وافتر إذا قلّ ماله. ثم قال: {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً}. يعني الكافر خاصة، بمنزلة قوله: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]. ومعنى " قتوراً ": بخيلاً قاله ابن عباس. وقال قتادة: ممسكاً. يقال أقتر يقتر وقتر يقتر ويقتر بمعنى. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. أي: تبين لمن رآها أنها لموسى عليه السلام، شاهدة له على صدقه قال ابن عباس: هي يده وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل / والضفادع والدم.

وقال الضحاك: ألقى عصاه مرتين عند فرعون، ونزع يده، والعقدة التي كانت بلسانه، وخمس آيات في الأعراف: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. قال محمد بن كعب القرظي: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع آيات، فقلت له: هن الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم و [البحر و] عصاه والطمسة والحجر. فقال: وما الطمسة؟، فقلت: دعا موسى وأمنّ هارون، فقال الله {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89]. فقال عمر: كيف يكون الفقه إلا كذا. يعني بالطمسة قولها: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ [واشدد على قُلُوبِهِمْ]} [يونس: 88] قال: فدعا عمر بخريطة كانت لعبد العزيز ابن مروان، أصيبت بمصر فإذا فيها " الجوزة والبيضة والعدسة ما تنكر، مسخت حجارة، كانت من أموال فرعون أصيبت بمصر. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: هي الحجر، والعصا واليد والطوفان

والجراد والقمل والضفادع و [الدم و] الطور. وقال مالك: الطوفان الماء. وروى مطرف عن مالك في قوله " تسع آيات بينات " أنه قال: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والبحر والجبل إذ نتقه عليهم. وقال عكرمة: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وهو قول الشافعي. وكذلك روى قتادة عن ابن عباس أيضاً قال: منها سبعة متتابعة في الأعراف. واليد والعصا. وقال الحسن مثل ذلك، إلا أنه جعل السنين ونقص من الثمرات آية، وجعل التاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وروي عن صفوان بن عسال: " أن يهوديين سألا النبي A عن التسع الآيات فقال: هن ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان ليقتله، ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار بعد الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي، فقال: وما يمنعكما أن

تتبعاني؟ فقالا: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود ". ثم قال: {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ}. أي إذ جاءهم موسى. قال الحسن: سؤالك إياهم نظرك في القرآن. وقيل هو خطاب للنبي A يراد به الشاك من أمته. وقرأ ابن عباس {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} على الخبر، يعني سأل موسى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل. ثم قال تعالى: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً}. معناه: أن فرعون لما رأى الآيات ولم يكن له فيها مدفع قال: إن موسى ذو سحر، وإن ما تفعل يا موسى من العجائب من سحرك.

102

وقيل: هو مفعول في موضع فاعل أي: ساحر، بمنزلة {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] أي: ساتراً. وقيل: معناه مخدوعاً. قوله: {[قَالَ] لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض}. معناه: قال / موسى لقد علمت يا فرعون أن هذه الآيات ما أنزلها الله إلا بصائر للعباد وتصديق هذه المعاني قوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14]. وهذا: على قراءة من قرأ بفتح التاء في: علمت ". ومن ضم التاء فمعناه: أن موسى A يخبر عن نفسه أنه على يقين أن

الآيات، الله أنزلها بصائر لعباده. ويكون هذا من موسى A جواباً لقول فرعون له: {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} [الإسراء: 101] أي: قد سحرت فلا تدري ما تقول. فقال: موسى لقد علمت أنا أن الله أنزل هذه الآيات بصائر لعباده ولست بمسحور. ونصب بصائر على الحال أي: أنزلها حججاً وهي جمع بصيرة. ثم قال: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً}. وقال ابن عباس: " مثبوراً " ملعوناً، أي: ممنوعاً من الخير، وهو قول: الضحاك. وقال مجاهد وقتادة: مثبوراً هالكاً. وقال عطية العوفي: " مثبوراً ": مبدلاً أي مغيراً وقال ابن زيد: " مثبوراً ": مخبولاً لا عقل لك. وعن الضحاك: " مثبوراً ": مسحوراً. رد [عليه] موسى A، مثل ما

103

قاله فرعون بغير اللفظ، والمعنى سواء. قال [تعالى]: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض}. أي: أراد فرعون أن يزيل موسى وبني إسرائيل من أرض مصر إما بقتل أو غيره {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً}. ونجينا بني إسرائيل وموسى منه. {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد هلاكه {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} أي: أرض الشام. {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} أي: قيام الساعة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي: مختلطين، قد التف بعضكم على بعض لا تتعارضون، ولا ينحاز أحد منك إلى قبيلته. وقال ابن عباس: " لفيفاً ": جميعاً. وقال غيره: [لفيفاً] من كل قوم. وقال قتادة: " لفيفاً " جميعاً أولكم وآخركم، وكذلك قال: الضحاك.

105

واللفيف جمع لا واحد له كالجميع. وقيل: هو مصدر لففت فلذلك واحد في موضع الجمع. قال: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ}. أي: أنزل هذا القرآن بالحق لأن فيه الأمر بالعدل والإنصاف والأخلاق الجميلة {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} أي: وبذلك نزل من عند الله [ D] على نبيه عليه السلام. ثم قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}. أي: مبشراً بالجنة من أطاعك ومنذراً بالنار من عصاك. قال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ}. قال ابن عباس: " فرقناه " فصلناه. وقيل: معنى [فرقناه] فرقنا به بين الحق والباطل والمؤمن والكافر. وقرأ: ابن عباس وعكرمة والشعبي وقتادة " فرقناه " بالتشديد على معنى أنزل به آية بعد آية.

قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحد إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. وهو قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}. ونصب " قرآناً " عند البصريين بإضمار فعل يفسره ما بعده. ونصبه عند غير البصريين على العطف " مبشراً ونذيراً ". وقرآناً يتأول بمعنى: رحمة. لأن القرآن رحمة. فلا يحسن الوقف على هذا التقدير على نذيراً. ويقف عليه على القول الأول. و/ معنى {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} على تؤده، وترتله وتبينه فلا تعجل في تلاوته فلا يفهم عنك. قال ابن عباس: " على مكث " على تأن. وقال

107

مجاهد على ترسل. وقال مالك " على مكث " على تثبت وترسل. ومعنى {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي نزلناه شيئاً [بعد] شيء. وقال الحسن نزل القرآن قبل أن يهاجر رسول الله A إلى المدينة بثماني سنين. وبالمدينة عشر سنين. قوله: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا}. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم لا يزيد في خزائن رحمة ربي. وفي الكلام تهدد ووعيد، والمعنى: فإن تكفروا، فإن الذين أوتوا العلم بالله من قبله، أي: من قبل القرآن، يعني به مؤمني أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم هذا القرآن، يخرون، تعظيماً له، للأذقان سجداً. قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد A قالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}. وقال ابن زيد {مِن قَبْلِهِ} من قبل النبي A.

وقال ابن جريج: {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني: كتابهم. وقيل: عني بقوله: {الذين أُوتُواْ العلم} محمداً A. وقيل: هم قوم من ولد اسماعيل A تمسكوا بدينهم إلى بعث محمد A منهم زيد بن عمرو بن نفيل. وورقة ابن نوفل. وقوله: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً}. قال ابن عباس: للوجوه، وكذلك قال قتادة. وقال الحسن " للأذقان " للجبين. ثم قال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}. أي: ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم، من مؤمنين أهل الكتاب من قبل نزول القرآن، إذا يتلى عليهم القرآن لأذقنانهم يبكون. ويزيدهم وعظ القرآن خشوعاً لله

110

[ D] . وهذه مثل قوله في مريم: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58]. وقوله: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً}. أي: ما كان وعد ربنا من ثواب وعذاب إلا مفعولاً. وقيل: معناه: إن كان وعد ربنا أن يبعث محمداً A لمفعولاً. قال: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن}. معنى الآية: أن النبي A كان يدعو ربه فيقول: مرة يا الله، ومرة: يا رحمن. فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو الهين. فأنزل الله D هذه الآية احتجاجاً عليهم. قال ابن عباس: سمع المشركون النبي A يدعو في سجوده يا رحمن يا

رحيم: فقالوا: [إن] هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله [ D] الآية: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن}. وروي: أن أبا جهل سمع النبي A وهو ساجد يقول في دعائه يا الله يا رحمن فقال: يا معشر قريش، محمد ينهانا أن نعبد إلهين وهو يعبد إلهاً آخر يقال له الرحمن، فأنزل الله [ D] الآية. وقوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ}. ما صلة، و (ايا) منصوب بتدعوا. وتدعوا جزم بالشرط وقيل [" ما "] بمعنى أي كررت لاختلاف [اللفظ كما تقول ما إن رأيتكما الليلة. فإن بمعنى ما كررت لاختلاف]. اللفظين. وقال الأخفش {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} معناه: أي الدعاءين تدعوا كأنه يجعل ما اسماً.

وقال أبو إسحاق: المعنى: أي الأسماء تدعو إن / دعوت الله أو الرحمن فكله اسم لله لأن له الأسماء الحسنى. ويلزم في هذين القولين ألا تنون " أي ": وأن تكون مضافة إلى " ما ". وفي إجماع المصاحف والقراء على تنوين " أي ": ما يدل على صحة كون " ما " زائدة للتأكيد وكونها بمعنى " أي " أعيد للتأكيد وحسن ذلك لاختلاف اللفظ. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ}. قالت عائشة Bها، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير وعروة بن الزبير: نزلت في الدعاء. فالصلاة هنا الدعاء على قولهم. وقال الضحاك: هي منسوخة بقوله: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]. الآية، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً: أن " الصلاة " هنا: القراءة في الصلاة، قال: كان

النبي A إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون، سبوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به. فقال الله [ D] لنبيه A { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} فيسمع المشركون {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} حتى لا يسمعك أصحابك {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: اطلب بين الإعلان والتخافت طريقاً. قال الضحاك: هذا كان بمكة. وعن عائشة Bها أنها قالت: نزلت هذه الآية في التشهد. وكذلك قال ابن سيرين، قال: كانت العرب ترفع أصواتها بالتشهد، فنزلت هذه الآية في ذلك. وقال عكرمة والحسن: كان النبي A يصلي بمكة جهاراً [فأمر] بإخفائها.

وقال قتادة: معناه ولا تحسن صلاتك مرائياً في العلانية، ولا تخافت [بها] تسيئها في السريرة. وعن ابن عباس أنه قال: لا تصل مراءاة للناس، ولا تدعها مخافة الناس. واختار الطبري قول من قال: أنه الدعاء [لأنه] أتى عقيب قوله: {[قُلِ] ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن}، فهي محكمة، لأن رفع الصوت بالدعاء مكروه، وهو قول أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وعائشة Bهم. وقد روي عن النبي A: النهي عن رفع الصوت بالدعاء فقال: " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً ".

111

والمخافتة الإخفاء. قال تعالى: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل}. [أي]: لم يحالف أحداً ولا يبتغي نصر أحد، قاله مجاهد: قال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام كان يعلم أهله الصغير والكبير {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} إلى آخر السورة. وقال ابن عباس: التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلى {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإسراء: 22]. وهذه الآية: رد وإنكار على أصحاب الأديان: فقوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}. رد على اليهود والنصارى، وبعض كفار العرب. لأنهم قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا

عزير ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بنات الله [سبحانه وتعالى علواً كبيراً] وقوله: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} رد على العرب لأنهم قالوا في تلبيتهم: إلا شريكاً هو لك تملكه. وما ملك، وجعلوا لله شركاء الجن وغيرهم وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} رد على الصابئين والمجوس لأنهم قالوا: لولا أولياء الله لذل / وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي: كبرّة أنت يا محمد عما يقولون تكبيراً. أي: عظمه ونزهه عن قول الكفار فيه. وَرُوِيَ: " أن رجلاً أتى النبي A فشكا إليه كثرة الدين وكثرة الهم فقال له النبي A: " اقرأ آخر [سورة] بني إسرائيل {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} ثم قال: قل توكلت على [الله، توكلت على] الحي الذي لا يموت ثلاث مرات " ".

الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكهف مكية من رواية ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السماوات والأرض، لمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا: يا نبي الله، أي سورة هي: قال: سورة الكهف. من قرأ [بها] يوم الجمعة أعطي بها نوراً بين السماوات والأرض، ووقي بها فتنة القبور. وعن بعض أهل المدينة أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطي نوراً ما بينه وبين مكة، وغفر له ما بين الجمعتين ووقي فتنة الدجال ".

1

وعن مكحول أنه قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أعطاه الله [- عز وجل -] نوراً من الجمعة إلى الجمعة" وعن أنس أنه قال: "من قرأ سورة الكهف [يوم الجمعة] غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام". قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب}. معناه: على قول ابن عباس، في رواية الضحاك وابن جريج عنه: الله المحمود بالذكر وبكل لسان، والمحمود على كل فعل والمعبود في كل مكان، الذي هو كل يوم في شأن لا يشغله شأن عن شأن. ومعنى الآية: في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً. فقيمماً حال من الكتاب، وهو قول: الكسائي والفراء وأبي

عبيدة. وقال: غيرهم: " قيماً ": منصوب بإضمار فعل، أي: ولكن جعله قيما، فهو مفعول ثان ليجعل المضمرة. والوقف على " الكتاب ": على القول الأول: لا يجوز، وعلى الثاني يجوز. وقيل إنّ المعنى: أنزله قيماً، فيكون نصبه على الحال من الهاء المضمرة مع الفعل المضمر. ومعنى " عوجاً: أي: مخلوقاً ". كذلك قوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] أي: غير مخلوق، قاله: ابن عباس. والعِوج: بالكسر في العين في كل ما ليس له شخص: مثل الدين، والأمر، والرأي. فإن كان له شخص كالخشبة والحائط وشبهه فهو بفتح العين. ومعنى الآية: الحمد لله الذي خص برسالته محمداً، وأنزل عليه كتابه قيماً.

قال: الضحاك: " قيماً ": مستقيماً. وقال ابن عباس: عدلاً. وقال ابن إسحاق: معتدلاً [لا] اختلاف فيه. وقيل معناه: قيماً على الكتب [يصدق] بصدقها لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل يصدق بعضها بعضاً، لا عوج فيه عن الحق ولا ميل. وهذه السورة نزلت في الأخبار من عند الله [ D] بأمور سألت قريش النبي عليه السلام عنها، علمهم السؤال عن ذلك اليهود وقالوا لهم: إن أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فهو متقول. فوعدهم رسول الله A الجواب / عنها. فأبطأ الوحي عليه بعض الإبطاء، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعدهم فأنزل الله [ D] هذه السورة جواباً لهم. فافتتحها بحمد الله على نعمه، وتثبيته رسالة محمد عليه السلام، وأن الله [ D] أنزل عليه الكتاب، وأنه صادق فيما أتاكم به من خبر أهل الكهف، وخبر ذي القرنين، وغيره مما سألوه عنه، من تعليم اليهود إياهم ذلك، فهذا معنى قول ابن

ابن عباس وغيره. قوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً}. أي: أنزل الكتاب على عبده لكي ينذركم بأساً شديداً من عند الله. فالمفعول الأول محذوف. ومثله {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم أولياءه. ثم قال: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين}. أي: ويبشر المصدقين لله ورسوله A. { الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} وهو العمل بما أمر الله [ D] [ به]، والانتهاء عما نهى الله [سبحانه] عنه. {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً}. أي: ثواباً جزيلاً من الله [سبحانه] على أعمالهم وتصديقهم وهو الجنة.

4

{مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً}. أي: لابثين فيه أبداً. قال: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً}. يعني: قريشاً الذين قالوا: إنما نعبد الملائكة وهن بنات الله [سبحانه وتعالى عما يقولون]. {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}. أي: ما لهم بهذا القول علم {لآبَائِهِمْ}. ثم قال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}. أي: كبر قولهم: {اتخذ الله وَلَداً} من كلمة. وفيه معنى التعجيب كأنه قال: ما أكبرها من كلمة. كما تقول لقصو الرجل بمعنى: ما أقصاه. وقرأ الحسن، ومجاهد، ويحيى بن يعمر، وابن أبي إسحاق

6

{كَبُرَتْ كَلِمَةً} بالرفع على معنى: عظمت كلمتهم. يقال: كبُر الشيء إذا عَظُمَ وكبِر [الرجل] إذا أسن، [بكسر الباء، والأول بالضم]. {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً}. أي ما يقول هؤلاء إن الله اتخذ ولداً إلا كذباً وتخرصاً. أي: فلعلك يا محمد قاتل نفسك على آثار قومك الذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] تمرداً منهم على ربهم {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} أي:

7

بهذا الكتاب {أَسَفاً} وقال: قتادة: " أسفاً " غضباً وقال: مجاهد: " حزناً ". فهذا عتاب للنبي A من الله [ D] على حزنه على قومه إذ لم يؤمنوا. فمعنى أسفاً حزناً. وقيل معناه: جزعاً، قال مجاهد. وقال: قتادة: معناه غضباً، ومنه قوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} [الزخرف: 55]. قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا}. يعني: من الشجر والثمر والمال زين الأرض بذلك. {لِنَبْلُوَهُمْ}. أي: لنختبرهم من هو أحسن عملاً من غيره. قال سفيان الثوري: أيكم

8

أزهد في الدنيا. وقال مجاهد: ما على الأرض من شيء هو زينة لها. وكان النبي A يقول: " إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ". وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " الزينة ": الخلفاء، والعلماء، والأمراء. وروى ابن جبير عنه أنه قال: " الزينة ": الرجال. جعل " ما " بمعنى /: من في القولين جميعاً، وكون " ما " بمعنى: " من " يصلح في مواضع الإبهام ويقبح عند الاختصاص وذهاب العموم. وقيل المعنى: إنا جعلنا بعض ما على الأرض زينة لها، فأوقع الكل موضع البعض، لأن على الأرض ما لا زينة فيه. وقيل: بل هو عام. كل ما على الأرض زينة لها لولالته على خالقه. قال: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً}. أي: وإنا لخربوها بعد زينتها وعمارتها. يعني بذلك يوم القيامة، تصير الأرض مستوية لا جبل فيها ولا واد ولا أكمة ولا ماء ولا نبات. والصعيد وجه

الأرض. والجزر الذي لا نبات فيه من الأرض ولا زرع ولا غرس. وقيل: الصعيد هنا المستوي بوجه الأرض، قال ابن عباس معناه: أنه يهلك كل شيء عليها ويبيد. وهذه تعزية للنبي A يقول لأه تعالى ذكره: لا تقتل نفسك إذ لم يؤمنوا بما جئتهم به فإن مصيرهم إلي فأجازيهم بأعمالهم. فإني مهلك كل من على وجه الأرض. قال: ابن زيد: الصعيد: المستوي، دل على ذلك قوله: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 107]. والجزر: الأرض التي لا نبات فيها ولا منفعة، ألم تر إلى قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض [الجرز]} [السجدة: 27] أي الأرض التي لا نبات فيها. حكى سيبويه: جرزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والنعم.

9

وأرضون أجراز: إذا كانت لا شيء فيها. ويقال: للسنة المجدبة جرز وسنون إجراز. أم: هنا بمعنى: بل. [والمعنى] أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً. فإن ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب من أصحاب الكهف. والخطاب للنبي A والمراد به الخلق كلهم. وقال مجاهد: معنى الكلام: هم عجب وليس هو على طريقة الإنكار عنده. وقال قتادة: معناه: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. وعن ابن عباس أن المعنى: أم حسبت أن هؤلاء عجباً، فإن الذي أتيتك من الكتاب والحكمة والعلم أفضل من شأن أهل الكهف والرقيم. وهذا مما عَلَّمَتْ اليهود قريشاً أن يسألوا عنه محمداً A فسألوه عن ذلك. فأخبره الله بقصصهم. وخبرهم بعد أن أبطأ عنه الوحي في ذلك خمس

عشرة ليلة، وقيل: أكثر. والكهف: كهف الجبل، آوى إليه القوم الذين قص الله [ D] خبرهم في هذه السورة. وقال: الضحاك: الكهف الغار في الوادي. وقال ابن مالك: الكهف: الجبل. و" الرقيم ": عند عكرمة وابن عباس فيما حكيا عن كعب: القرية وقال: قتادة: " الرقيم " الوادي الذي فيه اصحاب الكهف، وقاله عطية العوفي. وعن ابن عباس: " الرقيم " الكتاب. وقال عكرمة: الرقيم القرية اسم لها. وقال: [ابن] جبير / " الرقيم ": لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف. وقال ابن زيد: " الرقيم ": كتاب، ولذلك الكتاب خبر، فلم يخبرنا الله [ D]

عن ذلك الكتاب وعن ما بناؤه، وقرأ: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون} [المطففين: 19 - 21] {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 8 - 9]. وعن ابن عباس أيضاً أن " الرقيم ": الجبل الذي فيه الكهف، وعن ابن عباس أن " الرقيم ": كتاب كتبه رجلان صالحان كانا في بيت الملك الذي فرّ منه الفتية أصحاب الكهف، كانا يكتمان إيمانهما. فلما سد الكهف على الفتية كتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص. ثم جعلاه في تابوت على المكان الذي سدّ به باب الكهف. وقالا: لعل الله يطلع على هؤلاء الفتية قوماً صالحين فيعلمون شأنهم. وقد روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: القرآن أعلمه إلا {حَنَاناً} [مريم: 13] و {لأَوَّاهٌ} [التوبة: 114] و {الرقيم} [الكهف: 9] و {غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]. وقال أنس: بن مالك: " الرقيم ": آية الكلب وقال عكرمة: الرقيم الرواة. وقال السدي: هو الصخرة، وقال الفراء: الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم

10

وأنسابهم ودينهم ومما هربوا. قوله: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} إلى قوله: {رَشَداً}. أي: كانوا من آياتنا عجباً، حين أوى الفتية إلى الكهف هرباً بدينهم إلى الله [ D] فقالوا: إذ أووه. {فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}. أي: ارحمنا ونجنا من هؤلاء الكفار. {وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً}. أي: دلنا على ما ننجو به. وكان هؤلاء الفتية على دين عيسى A. فدعاهم ملكهم إلى عبادة الأوثان والأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عنه أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف. وروي أنهم لما أمرهم الملك بعبادة صنمه قالوا {رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف: 14] فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله

[سبحانه]. فقال: أحدهم: إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه. فانطلقوا بنا نكن فيه. فدخلوا فيه، ثم فقدوا في ذلك الزمان، فطلبوا، فقيل: إنهم دخلوا هذا الكهف. فقال: قومهم: لا نريد لهم عقوبة، ولا عذاباً أشد من أن يردم عليهم هذا الكهف فبنوه عليهم فردموه، ثم أقاموا ما شاء الله، يدبرهم الله [ D] بلطفه وهم نيام، ثم بعث الله [ D] ملكاً على دين عيسى A. ووقع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. وقاموا من نومتهم تلك. فقال: بعضهم لبعض كم لبثتم؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. فأرسلوا أحدهم ليأتيهم بطعام وشراب مستخفباً أن لا يعرف. فلما خرج من باب الكهف رأى ما أنكره، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهماً فنظروا إليه، فأنكروه وأنكروا الدرهم. فقالوا من أين لك هذا؟ [هذا] من ورق غير هذا الزمان. واجتمعوا عليه، ولم يفارقوه حتى حملوه إلى ملكهم. وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون. فنظروا في ذلك اللوح. وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقدوا، فاستبشروا به وبأصحابه وقيل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك فانطلق، وانطلقوا معه، ليريهم أصحابه فدخل قبل /

القوم فضرب على آذانهم. {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} [الكهف: 21]. قال: ابن عباس: كانوا ثمانية. وروى: أنه لما بني عليهم باب الكهف كتب رجلان مؤمنان - ممن يسر الإيمان - خبرهم، ووقت البناء عليهم، وأسماءهم، وأنسابهم، وأسماء آبائهم في لوحين من رصاص ثم صنعا تابوتاً من نحاس، وجعلا اللوحين فيه. ثم كتبا عليه، في فم الكهف، من بين ظهراني البنيان، وختما على التابوت بخاتمهما وقالا: لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل [يوم] القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم. قال: مجاهد: فلبثوا في الكهف ثلاثة مائة سنين وازدادوا تسعاً نياماً. وقيل: إنهم كانوا شباناً ملوكاً مطوقين، مسورين ذوي ذوائب وكان

معهم كلب صيدهم. فخرجوا في عيد [لهم] عظيم في زي ومواكب. وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدون. وقذف الله [في] قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه، فقال: كل واحد في نفسه نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم، لا يصيبنا عقاب بجرمهم. فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره، فجلس إليه، وخرج الآخرون فجاءوا وجلسوا إليهما. فاجتمعوا، فقال: بعضهم: ما جمعكم؟ فقال: آخر: بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه عن صاحبه مخافة على نفسه وقالوا: ليخرج منكم فتيان، فيخلوان، فيتوثقا ألاّ يفشي واحد منهما على صاحبه. ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره. لإغنا نرجو أن نكون على أمر واحد. ففعلوا ذلك، فعلموا أن جميعهم على أمر واحد وهو الإيمان. وإذا كهف في الجبل [قريب] منهم، فقال: بعضهم لبعض: آووا إلى هذا الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم فرفقاً. فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم. فناموا. فجعل الله جل وعز رقدة واحدة

ثلاث مائة سنة وتسع سنين. وطلبهم قومهم ففقدوهم. وبعثوا البرد في طلبهم. فعمى الله [ D] عليهم آثارهم. فلما لم يقدروا عليهم، كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان بن فلان، وفلان بن فلان: ملوك فقدناهم في عيد كذا، من شهر كذا، من سنة كذا، في مملكة فلان، ورفعوا اللوح في الخزانة، ثم مات ذلك الملك. وأتى قرن بعد قرن فأظهرهم الله [ D] وأنبههم، فوجهوا رسولهم ليأتيهم بما يأكلون ولا علم عندهم بما مضى من الزمان فأطلع عليهم. وقال: وهب بن منبه: جاء حواري عيسى بن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له. فكره أن يدخلها / فأتى حماماً، فكان فيه قريباً من تلك المدينة. فكان يعمل فيه، يؤاجر نفسه من صاحب الحمام. فرأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودر عليه الرزق وجعل يعرض عليه [الإسلام] ويسترسل إليه. وعلقه فتية من أهل المدينة. وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى أنسوا به، وصدقوه. وكانوا على مثل حاله في أحسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي، فلا تحولن بيني

وبين الصلاة إذا حضرت. وكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام. فعيره الحواري فقال: أنت ابن الملك تدخل معك بهذه الكذا، فاستحيي فذهب، ورجع مرة أخرى، فقال: له مثل ذلك، فسبه وانتهره، ولم يلبث حتى دخل ودخلت المرأة معه فماتا في الحمام جميعاً، فأتى الملك فقيل له: إن صاحب الحمام قتل ابنك. فالتمس فلم يقدر عليه هرباً. فقال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية، فالتمسوا، فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع له، وهو على مثل أمرهم، فذكروا أنهم التمسوا، فانطلق معه الكلب، حتى أواهم الليل إلى الكهف فدخلوه. فقالوا نبيت هنا الليلة ثم نصبح إن شاء اله فترون رأيكم. فضرب على آذانهم. فخرج الملك في اصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا في الكهف، فلما أراد رجل أن يدخل أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله، فقال: قائل: ألست لو كنت قدرت عليهم قتلتهم قال: بلى. قال: ابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشاً وجوعاً، ففعل.

11

قوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا) [11] إلما قوله: (إِذًا شَطَطًا) [14]. المعنى: وضربنا على آذانهم بالنوم، أي ألقينا النوم عليهم. وإنما ذكر الأذان لأن النوم يمنعهم من السماع. وأتى في هذا ضرب بمعنى ألقى. كما يقال: ضربك الله بالفالج، أي: ألقاه عليك وابتلاك. وقوله: {عَدَداً} توكيد لسنين وقيل: أتى بأنه لا يفيد معنى الكثرة. لأن القليل لا يحتاج إلى عدد إذ قد عرف معناه ومقداره. قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أي: نبهناهم من نومهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} أي: لنعلم من يهتدي من عبادي بالبحث إلى مقدار مبلغ مكث الفتية في كهفهم والأمد الغاية. وقد اختلف في مقدار إقامتهم طائفتان من الكفار من قوم الفتية، قاله مجاهد:

13

وقيل: بل اختلف في ذلك طائفة مؤمنة وطائفة كافرة. وقيل: الحزبان أصحاب الكهف والقوم الذين كانوا أحياء في وقت بعثهم. ومعنى: {لِنَعْلَمَ} أي: علم مشاهدة، وإلا فقد علم ذلك تعالى ذكره قبل خلق الجميع، ومعنى الكلام التوقف على النظر في معرفة مقدار لبثهم. كما تقول لمن أتى بالباطل: جئ ببرهانك حتى أعلم أنك صادق. ومعنى: {أَمَداً} عدداً، قاله مجاهد، وقال: ابن عباس {أَمَداً}: بعيداً. قال: تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ [عَلَيْكَ] نبَأَهُم بالحق} أي: نخبرك يا محمد خبرهم بالصدق واليقين. {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ}. أي: إن الذين سالوك عن نبأهم [هم] فتية آمنوا بربهم، أي: صدقوا به ووحدوه.

14

{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}. أي: إيماناً إلى إيمانهم وبصيرة، فهجروا دار قومهم وهربوا بدينهم إلى الله [ D] وفارقوا ما كانوا فيه من النعيم في الله [تعالى]. قال: تعالى: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ}. أي: ألهمناهم الصبر وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى [عزفت] أنفسهم عما كانوا فيه من خفض العيش. وقال: قتادة: {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} بالإيمان حين {قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} أي: ملك السموات [والأرض] {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} أي: لن نعبد معبوداً سواه.

15

{لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}. أي: لو قلنا: أنه يعبد غيره لقلنا جوراً من قول. وقليل " شططاً غالياً من الكذب وقال: قتادة: " شططاً " كذباً. وقال: ابن زيد خطا. ويقال: قد أشط فلان في السوم، إذا جاوز القدر يشط إشطاطاً وشططاً. ويقال: شط منزل فلان، إذا بعد، يشط شطوطاً. ويقال: شطت الجارية تشط شطاطاً وشطاطة إذا طالت. ويقال: شط الرجل وأشَطَّ إذا جار. وقال: أبو عبيدة {إِذاً شَطَطاً} أي: جوراً وغلواً. قوله: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}. هذا خبر عن قول الفتية، أنهم قالوا [فيما] بينهم: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة فيعبدونها، هلا يأتون على عبادتهم لها بحجة ظاهرة وبينة وعذر بين، فمن

16

أشد اعتداء وجوراً ممن اختلق على الله كذباً وأشرك في عبادته غيره. قال: ابن عباس: كل " سلطان " في القرآن فهو حجة. قال: {وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله}. هذا أيضاً: خبر من الله [ D] عن قوله: بعض الفتية [لبعض] قالوا فيما بينهم: {وَإِذِ اعتزلتموهم} و [هم] الذين عبدوا الآلهة من دون الله [سبحانه] وفارقتهم دينهم. {فَأْوُوا إِلَى الكهف}: فسيروا بنا إلى الكهف، وهو غار الجبل {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي: يبسط لكم ربكم من رحمته {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} أي: ويجعل لكم ربكم من عملكم الذي أنتم فيه وخوفكم على أنفسهم ما ترفقون به. والفتح والكسر في ميم " مرفقاً " [لغتان]. والأفصح عند الكسائي

17

الكسر وأنكر الفراء الفتح. وقال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا الكسر. قال: وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بينه وبين مرفق الإنسان. وقال الأخفش: فيه ثلاث لغات مِرْفَق، ومَرْفِق، ومَرْفَق، فمن قال: مِرْفَق جعله مما ينتقل مثل " مِقْطع ". ومن قال: مَرْفِق كمسجد لأنه من رفق يرفق كسجد يسجد. ومن قال: مَرْفَق جعله من الرفق. قوله: {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت}. أي: وترى يا محمد {الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ} أي: تعدل وتميل من الزور وهو الاعوجاج. قال ابن عباس: تزاور تميل يميناً وشمالاً.

ثم قال: {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال}. أي: تتركهم ذات الشمال. يقال: منه قرضت موضع كذا، إذا قطعته فجاوزته، هذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: قرضت موضع كذا أي: حاذيته. وحكوا عن العرب: قرضته دبراً وقبلاً: وحدوته ذات اليمين والشمال. أي: كنت بحدائه. وأصل القرض: القطع. ومنه تسمى المقص: مقراضاً لأنه يقطع به. وقال ابن جبير: تتركهم قال قتادة: تدعهم قال عكرمة: كان كهفهم في القبلة، وقال القتبي: كان باب الكهف حذاء بنات نعش فكانت تزاور عن كهفهم إذا طلعت، وتتركهم إذا غربت.

18

وقوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ}. أي: في متسع وفضاء في الكهف: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله}. أي: ما تقدم من فعل الله لهم من حجج الله [ D] على خلقه [سبحانه]. ومن الأدلة التي يستدل بها أولوا الألباب على عظم قدرته وسلطانه. ثم قال: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد}. أي: من يوفقه بالاهتداء فهو المهتدي {وَمَن يُضْلِلْ} أي: عن آياته وأدلته. {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً}. أي: لن تجد له يا محمد خليلاً ولا حليفاً يرشده. قال: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ}.

أي: تظنهم يا محمد لو رأيتهم أيقاظاً، أي: أعينهم مفتوحة فتظنهم لذلك منتبهين. وقيل: إنما ذلك لكثرة تقلبهم، تحسبهم منتبيهين. {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال}. أي: نقلبهم في حال رقادهم مرة للجنب اليمين ومرة للجنب الأيسر. قال أبو عياض: وكان لهم في كل عام تقلبتين. ثم قال: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} يعني: كلباً كان معهم للصيد. وقيل: هو إنسان من الناس كان طباخاً لهم تبعهم. والوصيد: فناء الكهف، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك وقتادة: وعن قتادة: " الوصيد ": الصعيد والتراب. وعن ابن عباس أيضاً:

الوصيد الباب، وقيل: الوصيد العتبة، وقيل الوصيد فناء الباب، وسمي الباب وصيداً: لأنه يطبق. من قولهم: أوصدت الباب: إذا أطبقته، فهو في هذا القول: فعيل بمعنى مفعل. كأنه قال: باسط ذراعيه بالوصيد أي بالمطبق يقال: [أصدت الباب و] أوصدته إذا أطبقته فهو موصد تهمز ولا تهمز. ثم قال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً}. أي: لو رأيتهم [في رقدتهم] لهربت منهم خوفاً ولملئ قلبك رعباً منهم. وذلك لما كان الله ألبسهم من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد ولا تلمسهم يد، حفظاً منه لهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته في

19

الوقت الذي يريد، ليجعلهم عبرةً لمن شاء من خلقه. وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه ومن خلقه {ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الكهف: 21]. وقيل معناه: لوليت منهم فراراً ولملئت / منهم رعباً من كثرة شعورهم وكبر أظفارهم، إذ قد مر عليهم زمان طويل وهم أحياء نيام. فطالت شعورهم وعظمت أظفارهم. قوله: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {إِذاً أَبَداً}. أي فكما أرقدناهم على هذه الصفة، كذلك بعثناهم من رقدتهم {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي: ليسأل بعضهم بعضاً و [نعرفهم] عظين قدرتنا فيزدادوا بصيرة في أمرهم وفي إيمانهم إذ لبثوا مدة عظيمة من الزمان وهم في هيئهم لم يتغيروا ولا تغيرت ثيابهم. ثم قال: {قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ}.

أي: بعثناهم ليتساءلوا. فتساءلوا فقال: قائل منهم. كم لبثتم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم. {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}. وهذا يدل على ا، الرعب منهم لمن رآهم لم يكن لطول شعورهم وأظفارهم، إذ لو كان كذلك لعاينوا من أنفسهم أمراً يمنعهم أن يقولوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. فقال الآخرون: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ويجوز أن يكون لما رأوا من طول شعورهم وأظفارهم ما أنكروا {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} ردوا العلم إلى الله في ذلك [سبحانه]. قال ابن جبير: قال أحدهم: لبثنا يوماً، وقال الآخر: لبثنا نحوه، فقال كبيرهم: لا تختلفوا، فإن الاختلاف هلكة {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} يعنون مدينتهم التي خرجوا منها. قال: ابن عباس: كانت ورقهم كأخفاف الرُّبع، وهو صغار الإبل، وقال:

إنهم قاموا من رقدتهم جياعاً فلبثوا في طلب الطعام. ومعنى: {أزكى طَعَاماً} عند عكرمة أكثر، وهو قول أبي عبيدة. وقال: ابن جبير: أحل ذبيحة، لأن القوم كانوا مجوساً. وعن ابن عباس {أزكى طَعَاماً} أطهر طعاماً. وقال: مقاتل: أزكى طعاماً " أطيب طعاماً. وقال: قتادة خير طعاماً وقيل: أرخص. وعن ابن عباس: ازكى طعاماً " أطهره لأنهم كانوا يذبحون الخنازير. {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُاً} أي: بطعام {وَلْيَتَلَطَّفْ} أي: يرفق {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَد}

أي: لا يعلمن بكم أحداً من الناس. {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي: إن أهل قريتكم الكفار أن يطلعوا عليكم {يَرْجُمُوكُمْ} أي: يقتلوكم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي: يردوكم عن دينكم [إلى دينهم] {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} أي: لن تفلحوا أن رجعتم إلى دينهم وعبادة أوثانهم [أبداً]. قال وهب بن منبه: غبروا بعدما بني عليهم باب الكهف زماناً بعد زمان. ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف، وأدخلت غنمي من المطر. فلم يزل يعالجه حتى فتح ما دخل منه. ورد الله إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاماً، فلما أتى باب مدينتهم رأى شيئاً ينكره. حتى دخل [على رجل] فقال: بعني بهذه الدراهم طعاماً. فقال: من أين [لك] هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس وأتى

الليل ثم أصبحوا فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد ملك فلان، فأنى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكاً صالحاً فقال: [من] أين لك هذا الورق؟ فقال: خرجت أنا وأصحاب لي / أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا. ثم أمروني أن أشتري لهم طعاماً. فقال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف. قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف فقال: دعوني أدخل إليهم قبلكم. فلما رأوه ودنا منهم ضرب على ءاذانهم فجعلوا كلما دخل رجل منهم أرعب. فلم يقدروا على أن يدخلوا إليهم فبنوا عندهم كنيسة واتخذوها مسجداً يصلون فيه. وقال عكرمة: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، ورزقهم الله الإسلام فاعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف. فلبثوا دهراً طويلاً حتى أهلكت أمتهم. وجاءت أمة مسلمة وملكهم مسلم. فاختلفوا في الروح والجسد فقال قائل: يبعث الروح أما الجسد فتأكله الأرض فلا يكون شيئاً. فشق على ملكهم اختلافهم فانطلق فلبس المسوح، وجلس على الرماد، ثم دعا الله [ D] فقال أي رب قد

نرى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله [ D] أصحاب الكهف. فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً. فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه، ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهراً. فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلاً يشتري منه طعاماً فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها فقال له الفتى: أليس ملككم فلاناً؟ قالوا: لا ملكنا فلان، فلم يزل ذلك بينهما حتى دفعوه إلى الملك فسأله، فأخبره الفتى خبر أصحابه. فبعث في الناس فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله D قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان، يعني: ملكهم الذي مضى. فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي. فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف. فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي. فلما أبصرهم ضرب على أذنه وآذانهم، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل الناس معه فإذا أجسادهم لا ينكرون منها شيئاً غير أنه لا أرواح فيها. فقال الملك: هذه آية: بعثها الله [ D] لكم. وروي في هذا أخبار طويلة ترجع إلى هذا المعنى.

21

قوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ}. أي: كما بعثناهم بعد طول رقدتهم {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} أي: أطلعنا عليهم الفريق الذين كانوا في شك من بعث الأجساد [ليعلموا أن وعد الله حق في بعث الأجساد] يوم القيامة وأن الساعة لا ريب فيها أي: إتيانها لا شك فيه. ثم قال: {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}. أي: أطلعنا عليهم إذ يتنازعون، أي: وقت المنازعة في بعث الأجساد. والمنازعة المناظرة. وقيل: المعنى: ليعلموا في وقت منازعتهم أن وعد الله في بعث الأجساد حق فيكون العامل في " إذ " على القول الأول " أعثرنا " وعلى الثاني " ليعلموا ". ثم قال: {[فَقَالُواْ] ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً}. أي قال الذين اطلعوا على أمرهم: ابنو عليهم بنيانا {رَّبُّهُمْ [أَعْلَمُ بِهِمْ]}

22

أي: [الله] أعلم بشأنهم قال ذلك: الكافرون. {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} قال ذلك: المسلمون. قال: عبيد بن عمير عمى الله [ D] على الذين أعثرهم / على أصحاب الكهف مكانهم فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيها. وقال المسلمون: نحن أحق بهم، فإنهم منا، نبني عليهم مسجداً نصلي فيه، ونعبد الله D فيه. وقال قتادة: {الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} الولاة. وقد روى ابن وهب: أن النبي A قال: " ليحجن عيسى ابن مريم عليه السلام في سبعين. منهم أصحاب الكهف مسورين مخلخلين بالفضة ". قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}. [أي: سيقول بعض الخائضين في أمر الفتية هم ثلاثة رابعهم كلبهم] ويقول بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، أي: قذفاً بالظن. ويقول بعضهم: هم

سبعة وثامنهم كلبهم. قل [يا محمد للقائلين ذلك] ربي أعلم بعدتهم ما يعلم عددهم إلا ناس قليل من خلقه، قاله قتادة. وقال ابن عباس: عني بالقليل هنا أهل الكتاب. وكان يقول: أنا ممن استثنى الله [ D] . وروي عنه أنه قال: أنا من ذلك القليل. ويقول: عددهم سبعة، وكذلك قال: عكرمة وابن جريج هم سبعة وثامنهم كلبهم. ثم قال تعالى: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً}. أي: [لا] تجادل في عدد أصحاب الكهف يا محمد أحداً من اليهود {إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} أي: بما أنزل عليك من القرآن تتلوهم عليهم لا غير. وقال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك في أمرهم فلا تمار فيهم. قال مجاهد: {إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} إلا ما قد أظهرنا لك من أمرهم. وقال ابن

23

زيد: معناه: أن نقول لهم: ليس كما تقولون، ليس كما تدعون. ثم قال: {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً}. أي لا تستفت في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب فإنهم لا يعلمون ذلك. قال: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}. هذا تأديب للنبي A عهد إليه ألا يجزم في الأمور أنه كائن لا محالة إلا أن يصله بمشيئة الله. إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وأمره. وإنما بذلك النبي A [ لأنه] وعد سائليه عن المسائل التي تقدم ذكرها أن يجيبهم عنها غد يومهم ولم يستثن. فاحتبس الوحي عنه من أجل ذلك خمس عشرة ليلة حتى حزنه إبطاؤه. ثم أنزل عليه الجواب فيهن فعرف الله [ D] نبيّه [عليه السلام] سبب احتباس الوحي عنه وعلمه ما الذي ينبغي له أن يستعمله في عداته فيما يحدث من الأمور التي [لم] يأته من الله عز وجل فيها تنزيل.

وتقدير {أَن يَشَآءَ الله} عند الكسائي والفراء: إلا أن يقول إن شاء الله. وقال البصريون: المعنى: إلا بمشيئة الله [ D] . فأن: في موضع نصب على حذف [الباء على] هذا. ثم قال: [تعالى]: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}. معناه عند ابن عباس: واستثنِ في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت [ذلك] في حال اليمين. قاله فيه: [فإن] له أن يستثني ولو إلى سنْة، وكذلك قال: أبو العالية، والحسن. وقال عكرمة: معناه: واذكر ربك / إذا عصيت. وقيل: معناه:

واذكر ربك إذا تركت ذكره لأن أحد معاني النسيان التي استعمل بها الترك. ومعنى قول: من أجاز الاستثناء بعد سنة أنه يسقط ذلك الاستثناء الحرج بتركه ما أمر به في الاستثناء لأن الله [ D] أمر بالاستثناء. فإذا ذكر الإنسان، متى ما ذكر يمينه، وجب عليه أن يستثني فيسقط عنه الحرج في تركه ما أمر به ولا يسقط ذلك لكفارة إذا حنث [إلا أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين فيسقط عنه الكفارة إذا حنث]، والحرج جميعاً، هذا معنى قول ابن عباس: أنه يستثني بعد سنة. ولم يقل أحد أن الاستثناء بعد حين يسقط عنه الكفارة إذا حنث. ولو وجب أن يسقط الكفارة بالاستثناء بعد حين لم يكن قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 91] الآية. فائدة: لأنه كان يستثني كل من أراد الحنث متى ما أراد الحنث ولا كفر، وتبطل فائدة الآ] ة، ولا يلزم أحد الكفارة. ويدل على ذلك أيضاً، قول النبي A: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر وليأت

25

الذي هو خير " فأمر بالكفارة عند الحنث، ولم يقل: فليقل إن شاء الله. ثم قال: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً}. أي قل لهم يا محمد لعل ربي أن يرشدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه يكون إن هو شاء. وقيل: إن هذا أمر من الله [ D] لنبيه [ A] أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله إن شاء الله إذا ذكر ذلك. وقيل: المعنى قل لعل ربي أن يعطيني من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب من الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف. قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} إلى قوله: {فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.

معناه: ويقولون لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين. هذا حكاية عن قول أهل الكتاب، فرد الله [ D] ذلك عليهم. وقال: [الله] لنبيّه [ A] { قُلِ [الله] أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} الآية. قال: قتادة: وفي حرف ابن مسعود " [و] قالوا: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ}. وقال مجاهد والضحاك: هو خبر من الله [ D] عن مبلغ لبثهم في الكهف ولما قال: {وازدادوا تِسْعاً} قالوا سنين أو ليال أو غيرها فأنزل الله: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} الآية. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا [على] عهد النبي [ A] : إن للفتية من لدن

دخلوا الكهف إلى عصرنا هذا ثلاث مائة سنة وتسع سنين، فرد الله [ D] عليهم وأعلم نبيّه أن قدر لبثهم في الكهف إلى أن بعثوا ثلاث مائة سنة وتسع. ثم قال: تعالى لنبيّه [عليه السلام]. {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ}. [أي] بعد أن بعثهم وقبض أرواحهم إلى يومهم هذا لا يعلم مقدار ذلك إلا الله. ومن نوَّن " مائة " جعل " سنسن " بدلاً من " ثلاث " أو يكون عطف بيان على " ثلاث ". وقيل: هو نعت لمائة لأن مائة في معنى جمع. وحكى بعض أهل اللغة أن العرب إذا نونت العدد أتت بعده بحمع يفسره، فيقولون: عندي ألفٌ دراهم [وثلاثمائة دراهم] وألف رجالاً، فيكون

" سنين " على هذا القول تفسيراً. ومن أضاف، أتى بالعدد على أصله. لأنا إذا قلنا عندي مائة درهم فمعناه مائة من الدراهم. فالجمع هو الأصل فأتى به في هذه القراءة على الأصل /. [و] قوله: {الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ}. أي: أعلم بلبثهم من المختلفين في ذلك. وقيل: أعلم أعلم بمعنى عالم. وقوله {وازدادوا تِسْعاً}. أي: تسع سنسن. ولا يحسن أن يكون تسع ساعات ولا تسع ليال، لأن العدد إذا فسر في صدر الكلام [جر] آخره [على] ذلك التفسير. تقول عندي مائة درهم وخمسة. فتكون " الخمسة " دراهم أيضاً، لدلالة ما تقدم من التفسير على ذلك. ثم قال: {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض}.

أي: له علم ذلك وملكه لا يشاركه فيه أحد. ثم قال: {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ}. أي: ما أبصر الله [جلت عظمته] واسمعه لا يخفى عليه شيء {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} أي ليس لخلقه دون ربهم ولي يلي تدبيرهم ولا ينقذهم من عذاب الله [سبحانه] إذا جاءهم. {[وَ] لاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}. أي: ليس يشرك الله [ D] في تدبيره لعباده أحداً ولا يظهر على غيبه أحداً. وقيل معناه: لا يجوز أن يحكم حاكم إلا بما حكم الله [ D] أو بما دل عليه حكمه، وليس لأحد أن يحكم من ذات نفسه فيكون لله [سبحانه] شريكاً في حكمه.

27

فأما من قرأه بالتاء والجزم، فمعناه: لا تنسبن أحداً إلى أنه يعلم الغيب ويلي تدبير الخلق. قوله: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ}. المعنى: واتبع يا محمد ما أنزل إليك من كتاب [ربك] والزم تلاوته والعمل بما فيه {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا مغير لما وعد بكلماته التي أنزلها عليك. ثم قال: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}. أي وإن لم تفعل ما أمرت به من الاتباع للكتاب ولزوم التلاوة فلن تجد من دونه ملتحداً. قال: مجاهد [" ملتحداً "] ملجأً. وقيل معناه: موئلاً. وقيل:

28

معدلاً والمعنى واحد. وهو مفتعل من اللحد. يقال: لحدت إلى كذا أي ملت إليه. ولذلك قيل لِلَّحد لَحْد لأ [نه] في ناحية القبر وليس هو الشق الذي في وسطه. ومنه الالحاد في الدين لأنه ميل عن الحق فيه. قال: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي}. والمعنى أن الله يقول لنبيّه عليه السلام: احبس نفسك يا محمد في أعمال الطاعت {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} بالذكر والحمد والتضرع يريدون بذلك وجه الله. {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ}. أي: لا تصرفهما عنهم إلى غيرهم من الكفار. وقال: ابن المسيب: هم أهل الصلاة المكتوبة، ومثله عن مجاهد.

وروي أن ذلك نزل في الذين [كان] النبي A يقرئهم القرآن أُمّر أَن يصبر نفسه ليقرئهم. وروي أنه أمر للنبي عليه السلام أمر أن يقرئ الناس القرآن. [و] هذه الآية نزلت في جماعة من عظماء المشركين أتوا النبي عليه السلام وقالوا له: باعد عنك هؤلاء الذين رائحتهم رائحة الظأن وهم موال وليسوا بأشراف، لنجالسك ونفهم عنك، يعنون بذلك خباباً وصهيباً وعماراً وبلالاً ومن أشبههم فأمر [هـ] الله [ D] [ ألا] يفعل ذلك وأن يقبل عليهم ولا يلتفت إلى غير [هم] من المشركين. فهو / قوله {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ} يعني المشركين الذين أمروه

أن يبعد عنهم هؤلاء المؤمنين. وقيل: عني بذلك عيينة بن حصن والأقرع بن حابس. " ولما نزل ذلك على النبي عليه السلام وهو في بيته التمسهم فوجد قوماً يذكرون الله [ D] ثائري الرؤوس والجلود وفي ثوب واحد فلما رآهم قال: " الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " ". وفي ذلك نزل {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]. وذلك أن النبي عليه السلام همّ بابعادهم طمعاً أن يؤمن به عظماء قريش فنهاه الله [ D] عن ذلك. وقيل [معنى] {يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي}: يعني صلاة الصبح والصلاة

29

بالعشي. وقيل: هم الذين يقرءون القرآن. ثو قال: تعالى: {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا}. فمعنى تريد زينة الحياة الدنيا أي تريد مجالسة الأشراف ذوي الأموال، وهم كفار، وتترك مجالس المؤمنين الفقراء. وروي أنهم كانوا لا يلبسون الأثياب الصوف من الفقر. وقال: مجاهد: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي ضياعاً. وقيل معناه: ندامة. وقيل هلاكاً. وقال: ابن زيد معناه: مخالفة للحق. وهو من قولهم أفرط فلان في كذا، إذا أسرف فيه وجاوز قدره فيكون معناه وكان أمره سرفاً في كفره وافتخاره وتكبره. قوله: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ}. المعنى: أن الله جل ذكره أمر نبيّه عليه السلام أن يقول لمن تقدم ذكره في قوله

{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ} [الكهف: 28] الحق من ربكم أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر، وليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من وفقه الله [ D] فآمن، فإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فآمنوا. فإن كفرتم فقد أعد لكم [ربكم] ناراً أحاط [بهم] سرادقها. وقوله {فَلْيُؤْمِن} و {فَلْيَكْفُرْ} لفظه لفظ الأمر ومعناه التهدد والوعيد. ومثله {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} [هود: 65] وقوله: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} [العنكبوت: 66] وشبهه كثير. والأمر من الله [ D] على أقسام: فمنه ما معناه الإيجاب والإلزام نحو {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6] الآية، وشبهه. فهذا لا بد من فعله ويأثم من تركه، ويكفر إن عاند في تركه. ومنه ما معناه التأديب والإرشاد نحو قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] وقوله: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وفيه اختلاف. فهذا لا

يخرج المأمور بتركه إلى إثم. وإن تأدب به وعمله فقد أحسن، إذ قد اتبع ما ندبه الله [ D] إليه. ومنه ما معناه الاباحة [والاطلاق نحو قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2] وقوله:] {فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10] {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] فهذا إن شاء [فعله، وإن شاء] لم يفعله، ولا يشكر على فعله، ولا يندم على تركه. ومنه / ما معناه الحتم والتكوين والإحداث نحو قوله: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117 - يس: 82] فهذا تكوين وإحداث. ويوجد المأمور فيه مع الأمر ولا يتقدم ولا يتأخر. وكل أوامر النبي [ A] على هذه الأقسام تأتي إلا التكوين والإحداث فليس

يكون إلا لله D، غير أنه قد يكون ذلك على أيدي أنبيائه دلالة على صدقهم. كقول نبينا A لشجرة دعاها: " أقبلي " فأقبلت تجري عروقها وأغصانها حتى وقفت بين يديه، ثم قال: لها: " ارجعي " فرجعت إلى مكانها، وشبهه كثير. وهذه الأوامر إنما يميز الواجب منها [من غيره] بالبراهين والدلائل والتوقيف لا غير. وقوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}. قال: اين زيد: هو حائط من نار يحيط بهم كسرادق الفسطاط، وقاله ابن عباس. وقال: معمر: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة وهو الذي قال: الله: [ D] { انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30]. وقيل هو البحر المحيط الذي في الدنيا، أي: أحاط بهم سرادق الدنيا أي: بحرها المحيط. وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " البحر جهنم وتلا هذه الآية. وقال: لا

أدخله أبداً وما دمت حياً، ولا تصيبني منه قطرة " فيكون معناها أحاط بهم أي عمهم. وروى [عنه] أبو سعيد الخدري أنه قال: " سرادق النار أربع جدر، كتف كل واحد منها مسيرة أربعين سنة ". ثم قال: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ}. أي إن يستغيثوا من العطش يغاثوا بماء كالمهل أي " كعكر الزيت. فإذا قربه من فمه سقطت فروة وجهه فيه " كذا رواه الخدري عن النبي عليه السلام. وعن ابن مسعود: أن المهل هو كفضة وذهب أذيبا واختلطا. وقال: مجاهد:

" كالمهل " كالقيح والدم الأسود إذا اختلطا. وقال: ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دُرَدَيّ الزيت. وقال: الضحاك: المهل ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود وأهلها سود. وقال: ابن جبير: المهل الذي قد انتهى حرة. وقيل: المهل عكر القطران. وعن النبي عليه السلام أنه قال: " المهل صديد أهل جهنم إذا دني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه من حره ". والمهل عند أهل اللغة: كل شيء أذبته من رصاص أو نحاس ونحوه. ثم قال: {يَشْوِي الوجوه}.

وقال: ابن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقزم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم. فيتضاعف عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل. فإذا أدنوه من أفواهه انشوى من حره لحوم / وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. وقوله: {بِئْسَ الشراب}. أي بئس الشراب هذا الذي يغاث به هؤلاء القوم. وقوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً}. أي ساءت هذه النار التي أعدت لهؤلاء الظانين: {مُرْتَفَقاً} أي متكئاً. والمرتفق في كلام العرب المتكا. يقال: ارتفقت أي: اتكأت. . وقال: مجاهد " مرتفقاً " مجتمعاً " وهو مفتعل من الرفق.

30

قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ [مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً]} إلى قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً}. أي [إن] الذين صدقوا محمداً [ A] وما أتى به وعملوا بما جاءهم [به] لا نضيع ثواب من أحسن عملاً. وخبر إن الأول قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} على تقدير من أحسن عملاً منهم. وحذفت " منهم " لأن الله قد أخبرنا أنه محبط عمل غير المؤمنين. وقيل التقدير: إنا لا نضيع أجرهم. وقيل: الخبر أولئك لهم جنات عدن. وروي " أن أعرابياً سأل النبي A وهو واقف بعرفات على ناقته الصهباء عن

قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ} الآية. فقال: النبي [ A] : " يا أعرابي: ما أنت منهم وما هم منك ببعيد. هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف معي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فاعلم قومك أن هذه الآية نزلت في هؤلاء الأبعة " ". ولا تقف على {عَمَلاً} إن جعلت الخبر {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وإن جعلت الخبر: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} وقفت عليه. ثم قال: تعالى: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ}. أي جنات إقامة لا زوال منها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} أي من دونهم الأنهار. كما يقال: داري تحت دارك، أي دونها. وسأل عمر بن الخطاب Bهـ كعباً. فقال: [له]: إني سمعت الله [ D] يذكر جنات عدن، فما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل. فقال: عمر: أما النبوة

فقد جعلها [الله D] في أهلها، وأما الصديق فوالله إني لأرجو أن [أكون] قد صدقت بالله [ D] وبرسوله، وأما الحكم العدل فوالله إني لأرجو أن أكون ما فرقت في حكم أحداً، وأما الشهادة فأنّى لي بالشهادة؟ قال: الحسن فجمعهن الله [ D] والله له ثلاثتهن. فجعله: صديقاً، حكماً عدلاً، شهيداً. وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ}. أساور جمع [اسورة، وأسورة جمع] سِوار وسُوار يقال: بالضم والكسر. وحكى قطرب إسوار. وإن أساور جمع أسوار على حذف الياء لأن أصله أساوير على هذا. والمعروف أن إسوار واحد أساورة الفرس. وقوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ}. قال: الكسائي: السندس جمع سندسة. وقال: واحد العبقري عبقرية وواحد

32

الرفرف: رفرفة، وواحد الأرائك: / أريكة. والسندس ما رقَّ من الديباج، والإستبرق ما ثخن منه وغلظ. والأرائك السور في الحجال، وقيل: هي الفرش في الحجال. ثم قال: {نِعْمَ الثواب} أي نعم الثواب [في] جنات عدن وما وصف فيها لمن ذكر. {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي حسنت هذه الأرائك والجنات التي وصف الله [ D] في هذه الآية {مُرْتَفَقاً} أي متكئاً. قوله: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} إلى قوله {وَأَعَزُّ نَفَراً}.

وروي عن [ابن] عباس: أنهما أخوان ورثا مالاً فصار لكل واحد أربعة آلاف دينار. فأعطى أحدهما نصيبه للفقراء والمساكين واكتسب الآخر بنصيبه الأجنة والعبيد، فاحتاج المتصدق فتعرض لأخيه ليصله. فقال: [له] أخوة: ما فعل مالك؟ قال: قدمته بين يدي. قال: [له]: لكني اشتريت بمالي لنفسي ولولدي {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] الآية. وقيل: " كانا رجلين من بني إسرائيل اشتركا في تجترة فربحا ستة آلاف دينار. فاقتسماها وتفرقا. ثم اجتمعا فقال: أحدهما لصاحبه: ما فعلت؟ قال: نكحت امرأة أفضل نساء بني إسرائيل بألف دينار. فانطلق الآخر فأخرج ألفاً فقال: اللهم إن صاحبي نكح من يموت ويبلى بألف دينار. وأنا أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بهذه الألف، وتصدق بها. . . القصة بطولها. و [المعنى و] اضرب يا محمد لهؤلاء المشركين، الذين سألوك أن تطرد الذين

يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين أي بستانين من كرم {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أظللنا البتانين بنخل حولهما. من قولهم حف القوم بفلان إذا حد قوابه. وقيل: إن هذا مما سأل عنه اليهود مع قصة أهل الكهف وذي القرنين والروح، فأعلمنا الله [ D] به وجعله مثلاً للكفار ولجميع المؤمنين. وروي أن الرجلين هما أبناء فطر سويسِ ملك كان في بني إسرائيل توفي وترك ابنين أحدهما يسمى مليخا. وكان: وكان زاهداً في الدنيا وراغباً في الآخرة، فأنفق ماله في ذات الله [ D] وكان الآخر يبني القصور، ويكسب الأجنة والعبيد، فزار الزاهد أخاه فوجد عليه حجاباً فلم يدخل إلا بعد إذن فسألأه عن ماله. فقال: أنفقته في ذات الله، وقدمته بين يدي لأقدم عليه. وجئتك زائراً. فقال: له الغني {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي عبيداً. ثم كان من شأنهما ما قص الله علينا.

وقوله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً}. أي جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} أي: أطعم ثمرها {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً} أي: لم تنقص من الأكل شيئاً {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي: بين أشجارهما. وفجرنا: سيلنا. وأجاز النحويون في غير القرآن: آتتا أكلهما. وأجاز الفراء كلتا الجنتين آتى أكله، رده على معنى كل. وفي حرف عبد الله / " كلا الجنتين اتى أكله ". ثم قال: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ}.

أي: ذهب وفضة، قاله مجاهد وكذلك {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] وقال: قتادة: هو المال الكثير من أنواع شتى. وقال: ابن عمر [وابن عباس]، ثمر: مال. وقال: مجاهد: كل ما في القرآن من " ثُمر " بالضم فهو المال، وما كان " من ثَمر " بالفتح " فهي من الثمار. وقال ابن زيد: الثمر هنا الأصل، وكذلك {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: بأصله. وهو جمع ثمار، كحمار وحمر، وثمار جمع ثمرة، فأما من أسكن الميم فإنما

35

أسكن استخفافاً. ومعناه كمعنى قراءة من ضم. فأما من فتح الميم والثاء، فإنه جعله جمع ثمرة كخشبة وخشب. ثم قال: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} الآية. أي قال: صاحب الجنتين لصاحبه، الذي لا مال له، وهو يخاطبه {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي: أعز عشيرة ورهطاً. قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} إلى قوله {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}. أي دخل هذا الذي له جنتان جنته، وهو كافر بالله [سبحانه] وبالبعث شاكاً كما في قيام الساعة، وذلك ظلمه لنفسه، فقال: {مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} لما رأى جنته وحسن ما فيها من الثمار والأنهار شك في المعاد.

فقال: ما أظن أن تبيد هذه الجنة أي لا تخرب ولا تفنى. ثم قال: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة [قَائِمَةً]} شك في قيام الساعة. ثم قال: غير موقن بالبعث: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} يقول: إن كان ثَمَّ بعثٌ فلي عند ربي خير من جنتي. لأنه لم يعطني هذا في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منهما في المعاد إن كان ثم معاد. وتحقيق المعنى، ولئن رددت إلى ربي، على قول صاحبي وقد أعطاني هذا في الدنيا فهو يعطيني في الآخرة أفضل من ذلك. فدل هذا على أن صاحبه المؤمن أعلمه أن ثم بعث ومجازاة. ومثله {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27] فأضافهما إلى نفسه، والمعنى أين شركائي على قولكم. ثم قال: تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ}. أي قال: له صاحبه المؤمن وهو يخاطبه {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} يعني خلق آدم أباك من تراب {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي: خلقك أنت من نطفة الرجل والمرأة. {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي عدلك سوياً رجلاً لا امرأة، فكفرت به أن يعيدك خلقاً

جديداً بعد موتك. [{لكنا هُوَ الله رَبِّي} أي] لكن [أنا] أقول هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً. وهذا يدل على أن صاحب المال كان مشركاً إذ نفى هذا المؤمن الإشراك عن نفسه. ثم قال: {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله} أي هلا إذ دخلت بستانك فأعجبك ما رأيت فيه قلت: ما شاء الله كان ولا قوة على ما نحاول من الطاعة إلآ بالله، قال: أبو عامر الباجي: من أكثر من قول ما شاء الله لم يصبه شيء إلا رضي به. قال: أبو محمد [Bهـ]: وقوله المسلمين بأجمعهم ما شاء الله كان، وقبولهم لهذا القول واستمالتهم له بأدمعهم يدل / على أن ما حدث في الدنيا وما

يحدث من خير وشر فبمشيئة الله [سبحانه]، وبقدرته [ D] وإرادته [تعالى] [كان] خلافاً لقول المعتزلة أن ثم أشياء كثيرة حدثت بغير مشيئة الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل كل بمشيئته وارادته يفعل ما يشاء. كما قال {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} [الحج: 18] ولو حدث شيء بغير مشيئته وإرادته لكان مقهوراً مغلوباً، جل وتعالى عن ذلك. وروى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " " ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة تحت العرش؟ قال: قلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: [لا] قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال: الله: " أسلم عبدي واستسلم " ". ثم قال: [له]: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} أي: في الدنيا {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ

خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً [مِّنَ السمآء]} أي: عذاباً. وواحد الحسبان حسبانة وهي المرامي، قال قتادة والضحاك وقال: ابن زيد الجسبان قضاء الله [ D يقضيه]. والحسبان في اللغة الحساب كما قال: تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: بحساب. وتقدير الآية على هذا: أن يرسل عليها عذاب حسبان ما كسبت يداك مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. ثم قال: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}. أي: فتصبح أرضاً ملساء لا شيء فيها من شجر ولا غرس، {زَلَقاً} لا ينبت في أرضها قدم لإملاسها ودروس ما كان ثابتاً فيها. والصعيد وجه الأرض الذي لا نبات فيه قال: قتادة {صَعِيداً زَلَقاً} أي قد

42

حصد ما فيها ولم يترك شيء. قال: ابن عباس: مثل الجرز. ثم قال: {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً}. أي غائراً. وهو مصدر وضع موضع اسم الفاعل كما قال: رجل عدل أي عادل. وهذا مما يبقى على لفظه في الواحد والاثنين والجماعة والمؤنث. ومعنى غائر ذاهب في الأرض فلا يلحقه الرشاء. ثم قال: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}. أي: فلن تدرك الماء الذي كان في جنتك إذا غار. قال: تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ}. المعنى: وأحاط الله [ D] بثمره أي أحاط عذاب الله [ D] بثمره.

والثمر أنواع المال. ولو كان الثمر المأكول لوجب أن يكون لم يهلك من ماله إلا ثمر شجرة [و] ليس الأمر على ذلك. بل هلك كل ماله في الجنتين وهلكت الجنتان مع ذلك. وقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا}. هذا مثل للنادم المتأسف على ما ذهب له أن يقلب كفيه ظهراً لبطن على ذهاب نفقته في جنته {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي حيطانها قائمة لا سقوف عليها. قد تهدمت سقوفها [و] بقيت حيطانها، فصارت الحيطان كأنها على السقوف إذ صارت السقوف تحت الحيطان. وقال: مجاهد {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي يصفق كفيه. أي يضرب كفاً على كف، وهذا يفعله صاحب المصيبة إذا نزلت به.

43

{يَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}. هذا ندم منه على ما تقدم من شركه به لما عاين ذهاب ماله والانتقام منه في الدنيا. والمعنى ويقول إذا عاين عذاب الآخرة ذلك. لم يندم على الشرك في الدنيا، إذ لو ندم على شركه/ في الدنيا لكان مؤمناً. قال: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله}. أي لم تكن له عشيرة ينصرونه من هلاك جنته. وقيل من العذاب، قاله مجاهد. وقال: قتادة: " فئة جنده. {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}. أي ما كان ممتنعاً من عذاب الله [ D] إذا عذبه [سبحانه]. قال: تعالى: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق}. أي لم يكن ممتنعاً {هُنَالِكَ} ثم ابتدأ فقال: {الولاية لِلَّهِ الحق} فلا يوقف على " منتصراً " على هذا التقدير. ويجوز أن يكون {هُنَالِكَ} ظرفاً للولاية، فيحسن الوقف

على " منتصراً ". و" الولاية " بفتح الواو، في الدين مصدر للولي، من قوله {إِنَّ وَلِيِّيَ الله} [الأعراف: 196] ومعناه يتولى المؤمنين [و] قال: الفراء والكسائي الولاية بفتح الواو يعني به النصرة، أي هنالك النصرة لله [ D] . ودل على هذا قوله: {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}. والولاية بكسر الواو السلطان والقدرة. وهو مصدر وليت الشيء ولاية، فهو مصدر الوالي، هذا قول الكسائي والفراء. والمعنى ثم القدرة والنصرة والسلطان لله [ D] وثم إشارة إلى يوم القيامة. وأجاز أبو إسحاق " الحق " بالنصب على المصدر. أي أحق الحق. ولم

45

يقرأ به أحد. ثم قال: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً}. أي الله خير المثيبين في العاجل والآجل، {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي عاقبة في الأجل إذا صار إليه المطيع له. والعقب العاقبة وهي العقبا وذلك ما يصير إليه الأمر. قال: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا}. أي واضرب للمشركين يا محمد الذين رغبوا [في الدنيا] واختاروها على الآخرة فسألوك أن نطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه للدنيا. {مَّثَلَ} أي شبهاً. {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح}.

أي كمطر أنزله الله من السماء {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً} فمثل الدنيا كمثل هذا النبات الذي حسن استواؤه بهذا المطر ثم انقطع عنه فعاد هشيما. أي: يابساً فتاتاً {تَذْرُوهُ الرياح} لا فائدة فيه. وكذلك الحياة الدنيا، بينما الإنسان في غضارتها مغتبطاً إذ أتاه الموت فيبطل كل ما كان فيه. وقيل: معنى المثل المستحسن من الدنيا المشتهى المستحلى من نعمها، كله [يبطل] ويفسد بالفناء والزوال والانقلاب من الحال المستحسنة [إلى الحال المستقبحة] كما انتقل النبات عن الخضرة والطراء إلى الجفاف والاسوداد والهلاك. فلا ينبغي لمن لطف نظره وصح تمييزه أن يعتد من الدنيا بما لا يبقى عليه ولا يحصل له نفعه. ثم قال: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً}. أي قادراً لا يفوته شيء. ومعنى {وَكَانَ الله} فأتى بالخبر عن الماضي أنه على [معنى: أن] ما شاهدتموه من قوته ليس بحادث بل لم يزل على ذلك. هذا مذهب

46

سيبويه. وقال: الحسن معناه: وكان مقتدراً عليه قبل كونه. وكذا الجواب عن كل ما أخبر الله [ D] به عن نفسه بالماضي. قوله: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا}. والمعنى المال والبنون الذي يفخر به عظماء قريش على الفقراء المؤمنين إذ سألوك يا محمد / أن تبعد الفقراء المؤمنين عن نفسك وتقرب الأغنياء زينة الحياة الدنيا دون الآخرة. {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي وما يعمل هؤلاء الفقراء من دعائهم ربهم [ D] بالغداة والعشي يريدون وجهه. {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}. أي ما يؤمل من عاقبه الدعاء إلى الله [ D] هؤلاء الفقراء خير مما يؤمل هؤلاء الأغنياء المشركون من أموالهم وأولادهم.

وقيل: عنى بهذه الآيات من قوله: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} [الكهف: 27] إلى هذا الموضع: عيينة والأقرع، سألا النبي [ A] أن يطرد الضعفاء المؤمنين عن نفسه مثل سلمان وصهيب وخباب. وقال ابن عباس: {والباقيات الصالحات} الصلوات الخمس، وهو قول ابن جبير. وقال: عثمان [بن عفان] Bهـ[هي] سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، رواه عنه الحارث مولاه. وقال: ابن عباس أيضاً: هي سبحان الله والحمد لله ولا إلأه إلا الله والله أكبر، وهو قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد. وزاد ابن المسيب فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذلك قال: ابن عمر لما سئل عنها مثل قول ابن المسيب، وهو قول محمد بن كعب القرطبي، وهو قول ابن مسعود، وهو مروي عن النبي عليه السلام.

وروي عن مجاهد أنه قال: هي التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وروى أبو أيوب الأنصاري أن النبي عليه السلام قال: " عرج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم فقال: يا جبريل من هذا معك قال: محمد، قال: فرحب بي وسهل. ثم قال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة. فقلت: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله ". وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات ". وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات، قليل وما هن يا رسول الله؟ قال: الملة. فيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله ". وروى ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله A: " خذوا

47

جنتكم، قالوا: يا رسول الله من عدو و [قد] حصر. [قال] لا، جنتكم من النار. قوله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات من النار [هن] الباقيات الصالحات ". وعن ابن عباس أنه قال: هي الأعمال الصالحات من الذكر وغيره. تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض. وقال: ابن زيد: هي الأعمال الصالحات. وعن ابن عباس أيضاً: هي الكلام الطيب. قال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً}. أي: واذكر يا محمد يوم تسير الجبال، أي يوم تبس الجبال بساً فتجعلها هباءً منبثاً {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً}، أي: ظاهرة قد اجتنيت ثمارها وقلعت جبالها وهدم

48

بنيانها، قاله مجاهد / وقتادة. وروى أن ذلك في يوم النفخة الأولى. وقيل المعنى: قد أبرزت من فيها من الموتى الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها. فيكون على هذا النسب: أي وترى الأرض ذات بروز. ثم قال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً}. أي: وجمعناهم إلى موقف الحساب فلم نترك منهم أحداً تحت الأرض. فهذا يدل على أن معنى {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} تبرز من في بطنها من الموتى على ظهرها. وعن أم سلمة زوجة النبي A أنها قالت سمعت النبي A يقول: " يحشر الناس حفاة عراة كما بدؤوا، وقالت أم سلمة: يا سوءتاه يا رسول الله هل ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: شغل الناس، قالت: قلت: وما شغلهم يا رسول الله؟ قال: نشروا الصحف فيها متى قيل الدر ومتى قيل الخردل ". قوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [47] إلى قوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [49].

49

أي وعرض الخلق صفاً أي ظاهرة ترى جماعتهم كما ترى كل واحد منهم، لا يسترهم شيء. {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}. أي أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة، يحشرون حفاة عراة غرلاً. وغرل جمع أغرل وهو الأقلف. والمعنى يقال: لهم يوم القيامة إذا عرضوا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة. ثم قال: [تعالى]: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً}. هذا خصوص للمنكرين البعث يقال: لهم بل زعمتم أن لن تبعثوا. قال: [تعالى]: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}. في هذا الكلام اختصار وحذف. والتقدير ووضع الكتاب فيه عمل [كل]

امرئ أي وضع الكتاب في يد كل امرئ في يمينه أو في شماله. {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}. أي: ترى المشركين [بالله] خائفين وجلين مما فيه من أعمالهم السيئة {وَيَقُولُونَ ياويلتنا} أي قولون إذا قرءوا كتاب أعمالهم ورأوا ما كتب عليهم من كبائر ذنوبهم ومغائرها {ياويلتنا} دعوا بالويل لما أيقنوا بالعذاب. وروى عن عمر بن الخطاب Bهـ أنه قال: لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث يوم القيامة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ، فلا يبقى أحد إلا وهو ينظر إلى عمله فيه. ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش فذلك قوله: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} لما رأوا ما رأوا ولم يقدروا أن ينكروا منها شيئاً. قال: قتادة: اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد منهم ظلماً، فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه.

وروى عن ابن عباس أن الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك. وقيل: الصغيرة ما دون الشرك والكبيرة الشرك. وقوله: {إِلاَّ أَحْصَاهَا} أي إلاّ حفظها الكتاب وأثبتت فيه. وقال: أحصاها على معنى أحصاهما، وعلى معنى / أحصى كل واحد منهما. وقيل المعنى: لا يغادر صغيرة إلا أحصاها ولا كبيرة إلا أحصاها، لكن حذفت إحدى الجملتين لدلالة الأخرى عليها اختصاراً وإ [ي] جازاً. ثم قال: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً}. أي: ما عملوا في الدنيا من عمل حاضراً في كتابهم مكتوباً مبيناً. {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}. أي: لا يجازي ربك يا محمد أحداً بغير ما هو أهله، أي لا يجازي بالإحسان

50

إلا أهل الإحسان، ولا بالسيئات إلا أهل السيئة. وتحقيقه: لا يضع ربك العقوبة إلا في موضعها لأن الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه. قال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن}. أي: واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ترك السجود حسداً لآدم. وقوله: {كَانَ مِنَ الجن} أي: من الملائكة الذين يقال: لهم الجن. وقيل كان من خزان الجنة فنسب إليها. وقيل: كان من الجن الذين استخفوا عن أعين الناس أي استتروا. وقال: ابن عباس كان اسم إبليس قبل أن يركب المعصية عزازيل. وكان من الملائكة من سكان الأرض من أشد الملائكة عبادة واجتهاداً فدعاه الكبر إلى ترك السجود وكان من حي يسمون جنا. وعنه أيضاً أنه قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال: لهم الجن

خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. وكان اسمه الحرث، وكان خازناً من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة من [نور] غير هذا الحي وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار السموم وهي لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال: ابن المسيب: كان إبليس رئيس الملائكة، ملائكة سماء الدنيا. وعن ابن عباس كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر سماء الدنيا. وعنه كان إبليس من أشراف الملائكة و [أ] كرمهم قبيلة وكان خازناً على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض. وكان فيما قضى الله D أنه رأى أن له بذلك شرفاً وعظمة على أهل السماء فوقع في قلبه من ذلك كبر لا يعلمه إلا الله [ D] فلما كان عند السجود، حين أمر أن يسجد لآدم [ A] استخرج الله D كبره عند السجود فلعنه وأخره إلى يوم الدين. وعن ابن عباس أنه قال: إن الملائكة قبيلة من الجن وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فعصى، فسخط الله [ D] عليه

فمسخه شيطاناً رجيماً لعنه الله ممسوخاً. وقال: إذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه. وكانت خطيئة آدم [ A] في معصية وخطيئة إبليس في كبر. وقال: ابن عباس: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود. وقال: قتادة إنما سمي من الجن لأنه جن عن طاعة ربه. يريد أنه استتر عنها فلم يفعلها. وقال: الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وأنه لأصل للجن، كما أن آدم [ A] أصل للإنسان. وقال: ابن / جبير: كان من الجنانين الذين يعملون في الجنان فلذلك قال: {[كَانَ] مِنَ الجن}. فمن جعله ليس من الملائكة ينقض قوله قول الله [ D] { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ} لم ير غير الملائكة. وقال: من أجاز ذلك: إن معنى أن الله أمره مع الملائكة بالسجود فاستثني، فهو استثناء ليس من الأول.

ثم قال: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}. أي: فعدل عن أمر ربه وخرج عنه، والفسق العدول والخروج عن الاستقامة. وقال: قطرب معناه ففسق عن [رده] أمر ربه [ D] . والمعنى عند الخليل وسيبويه أتاه الفسق لما أمر فعصى. وكان سبب فسقه الأمر بالسجود. ثم قال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}. أي: فتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وأغواه حتى أخرده من الجنة فكان ذلك سبب خروجكم منها. وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأسجد ملائكته لأبيكم آدم [ A] . وذرية إبليس هم الشياطين الذين يغوون بني آدم.

51

ثم قال: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}. أي: بيس ما استبدل الظالمون من طاعة الله [ D] طاعة ابليس. قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض}. أي: ما أشهدت إبليس وذريته {خَلْقَ السماوات والأرض}، أي ما أحضرتهم ذلك فاستعين بهم على خلقهما. {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ}. أي: ولا أحضرت بعضاً منهم خلق بعض فأستعين به على ذلك. بل هو منفرد بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير. وقيل معنى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض}: أي لم يكونوا موجودين إذ خلقهما. ثم قال: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً}.

52

أي: وما كنت متخذ من لا يهدي إلى الحق أعواناً وأنصاراً وهو من قولهم فلان يعضد [فلاناً] إذا نصره وأعانه وقواه. وقرأ أبو جعفر وعاصم الجحدري: " ومن كنتَ " بفتح التاء على المخاطبة للنبي عليه السلام. أي لست يا محمد متخذاً المضلين أنصاراً. وفي عضد ستة أوجه وعََضُد وعَضْد وعُضُد بضمتين وبه قرأ الحسن. وحكى هارون القارى " عَضِدٌ ". ويجوز عند أبي إسحاق عُضْداً على قراءة الحسن بسكون الأوسط. والسادس عُضْداً على لغة من قال: كِتْف في كتف. قال: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} أي: نقول للمشركين نادوا الآلهة والأنداد التي عبدتموها، وجعلتموها شركاء لله ووعدتم أنفسكم بنصرتها لكم من عذاب الله.

{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ}: أي: فاستغاثوا بها ولم تغثهم. ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً}. أي جعلنا بين المشركين، وما كانوا يعبدون في الدنيا عداوة يوم القيامة، قاله الحسن. وقال: ابن عباس معنى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} الموبق المهلك الذي أهلك بعضهم بعضاً. كأنه جعل فعلهم ذلك لهم مهلكاً. ف " بين " اسم على هذا القول لأظرف، وانتصابه انتصاب / المفعول بجعل. قال: الضحاك: موبقاً هلاكاً. وقال: مجاهد: موبقاً واد في جهنم. وقال: عبد الله بن عمرو: يفرق يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة بواد عميق وهو الموبق. وقال: أبو عبيدة: موبقاً موعداً. وأحسن الأقوال، قول من قال: الموبق المهلك والهلاك. لأن العرب تقول: وبقَ

53

يَبِق: إذا هلك. [ومنه] قوله: {[أَوْ يُو] بِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34] أي: يهلكهن. فالمعنى وجعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة. وقد يسمى الوادي موبقاً لأنه يهلك فيه. ف " بين " على هذا اسم لا ظرف، وانتصابه بجعلنا انتصاب المفعولات لا انتصاب الظروف، ومن جعله وادياً فهو ظرف، وكذلك على قول موبقاً عداوة وموعداً. وروى أبان عن عكرمة أنه قال: [" موبقاً "] نهر في النار يسيل ناراً، على حافتيه حيات كالبغال الدهم، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، أعاذنا الله من النار. قال: [تعالى]: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا}. أي عاين المجرمون النار يوم القيامة فأيقنوا بأنهم داخلوها. روى أبو سعيد

54

الخدري أن النبي A قال: " إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة ". ثم قال: {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً}. أي: [و] لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها. قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}. أي: ولقد مثلنا في هذا القرآن [للناس] من كل مثل فيه موعظة وحجة ليتعظوا ويتذكروا فينيبوا ويزدجروا عمّا هم فيه من الكفر {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}، أي خصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة. [و] الإنسان هذا الكافر، دل عليه قوله {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [الكهف: 56]

55

وإنما قيل: {وَكَانَ الإنسان}. لأن إبليس أيضاً قد جادل والجن تجادل. والمعنى: وكان الإنسان أكثر هذه الأشياء جدلاً. قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى}. المعنى: وما منع هؤلاء المشركين يا محمد عن الإيمان [بالله D] إذ جاءهم البيان من عند الله [سبحانه] والاستغفار مما هم عليه من شركهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين. أي: إلا طلب أن يأتيهم العذاب كما أتي الأولين عند امتناعهم من الإيمان. وطلبهم العذاب كما طلب هؤلاء المشركون العذاب في قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. ثم قال: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً}.

56

من كسر القاف فمعناه: عيانا. ومن ضم فهو عند الفراء جمع " قبيل " أي يأتيهم متفرقاً صنفاً بعد صنف. وقال: أبو عبيدة: " قُبْلاً " بالضم مقابلة. وقال: مجاهد: قبلا، فجأة. وقال: ابن زيد: عيانا. قال: [تعالى]: {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ}. أي: وما نرسل رسلنا إلا مبشرين أهل الإيمان بجزيل الثواب عند الله [ D] ومنذرة أهل الكفر عظيم العقاب. ثم قال: {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}.

57

أي: يخاصم الكفار النبي A ويسألوا عن المسائل / يبتغون عجزه واستنقاصه ليزيلوا به حجته، وينكروا نبوته فيزيلون الحق. ومعنى {لِيُدْحِضُواْ} يزيلوا، وهو سؤالهم عن الروح وعن فتية الكهف وعن ذي القرنين وشبهه. فأعلم الله [ D] نبيّه أنه لم يرسل رسله للجدال إنما أرسلهم مبشرين ومنذرين. ثم قال: {واتخذوا ءاياتي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً}. أي: اتخذ الكافرون آيات الله [ D] وحججه [سبحانه] سخرياً. والهزؤ السخرية كأنهم يسخرون به. قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}. أي: أيُّ الناس أوضع للأشياء في غير موضعها ممن ذكره الله [ D] آياته وحججه فدله على سبيل الرشاد، وأهداه إلى طريق النجاة، فأعرض عن ذلك

ولم يقبله {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي ترك ما اكتسبت من الذنوب المهلكة له فلم يتب منها. ثم قال: تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}. أي: إنا جازيناهم بإعراضهم عن الهدى وميلهم إلى الكفر [بأن] جعلنا على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه {وَفِيءَاذَانِهِمْ وَقْراً} أي ثقلاً لئلا يسمعوه. فأعلم الله [ D] نبيه [ A] أن هؤلاء بأعيانهم لن يؤمنوا. ثم قال: لنبيّه عليه السلام {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى} أي الاستقامة {فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} أي: فلن يؤمنوا أبداً لأن الله [ D] قد طبع على قلوبهم وآذانهم. وقيل المعنى: فمن أظلم لنفسه ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عن قبولها

58

{وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي: ترك كفره ومعاصيه لم يتب منها. قال: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة}. أي: وربك يا محمد الساتر على ذنوب عباده بعفوه إذا تابوا منها ذو الرحمة بهم. ولو أخذ هؤلاء المعرضين عن آياته بما اكتسبوا من الذنوب بالعذاب في الدنيا لعجّل لهم ذلك. لكنه برحمته وعفوه لم يعجل لهم ذلك. وتركه إلى وقته، وهو الموعد المذكور. {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً}. أي: لن يجدوا يعني هؤلاء المشركين من دون الموعد ملتحداً ملجئاً يلجؤون إليه من العذاب. قوله: {وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ}. المعنى: وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم أهلكنا أهلها

60

{لَمَّا ظَلَمُواْ} أي: كفروا بالله [ D] وآياته [سبحانه]. {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً}. أي: وجعلناه لوقت إهلاكهم أي لوقت هلاكهم موعداً، لا يتجاوزونه، أي أجلاً ووقتاً. فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين موعداً لإهلاكهم لا يتجاوزونه. وتقدير الآية: أولئك أهل القرى أهلكناهم لما ظلموا، ثم حذف المضاف. مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، وهنا الضمير في إهلاكهم على أصله، يعود على المحذوف وعمد للإشارة فقيل: تلك لما صارت للقرى. أي: واذكر يا محمد إذ قال: موسى لفتاه يوشع بن نون [و] كان يلازم موسى ويخدمه. وهو ابن اخته، وهو يوشع بن نون ابن فزائ [ي] ل بن يوسف بن يعقوب.

والمعنى أنه قال: ليوشع لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، يعني اجتماع بحر فارس وبحر الروم [فبحر الروم] مما يلي المغرب، وبحر فارس مما يلي المشرق، قاله قتادة ومجاهد. ومعنى {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أي أو أسير زماناً ودهراً. وهو واحد جمعه أحقاب في أقل العدد وكثيره. وقد / يجوز أن يكون أحقاب جمع حقب وحقب جمع حقبة. [و] قال: الفراء: الحقب في لغة قيس سنة. وقال: عبد الله بن عمر: الحقب ثمانون سنة. وقال: مجاهد " سبعون خريفاً. وعن ابن عباس {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} دهراً. وعن قتادة: زماناً. وقال: ابن زيد: الحقب الزمان وأصله في اللغة أنه وقت مبهم يقع للقليل والكثير كرهط وقوم

61

وكان علة سيره إلى مجمع البحرين أنه واعد ثم الخضر يلقاه. قال: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا}. أي: فلما بلغ موسى [ A] وفتاه مجمع البحرين. قال: أبي بن كعب أفريقية. وقوله {نَسِيَا حُوتَهُمَا}. أي: تركاه. وقال: مجاهد أضلاه وقيل: الناسي له يوشع وحده، ولكن أضيف النسيان إليهما كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما من المالح دون العذب. وقيل كان النسيان منهما جميعاً أما موسى [ A] فنسي أن يقدم إلى يوشع في أمر الحوت، وأما يوشع فنسي أن يخبر موسى [ A] بسرب الحوت. وكانا قد تزودا الحوت في سفرتهما فأضيف إليهما إذ هو زادهما جميعاً وإن كان حامله أحدهما. ثم قال: {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً}.

62

أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكاً ومذهباً يرى. قال: ابن عباس بقي أثره كالحجر. وعنه أيضاً أنه قال: جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء. وعن ابن عباس أنه قال: جعل الحوت لا يمس شيئاً من البحر إلا يبس حتى يصير صخرة فذلك اتخاذه في البحر سرباً. قال: ابن زيد: لما أحيى الله [ D] الحوت مضى في البطحاء فاتخذ فيها طريقاً حتى وصل إلى الماء بعدما أكلا منه، وكان زادهما. قوله: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} إلى قوله: {مِن لَّدُنَّا عِلْماً}. أي: فلما جاوزا مجمع البحرين، قال: موسى لفتاه: آتنا غذاءنا،

{لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً}. أي: تعباً. وذلك أن موسى [ A] لما جاوز الصخرة التي عندها يطلب الخضر وذهب الحوت عندها ألقى الله [ D] عليه الجوع ليذكر الحوت ليرجع [فليذهب] إلى مطلبه. قال له فتاه وهو يوشع بن نون ابن أخت موسى من سبط يوسف بن يعقوب [ A] : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً}، أي اتخذ طريقاً يسيرة. قال: موسى " عجباً " أي أعجب عجباً. وقيل هو من قول يوشع كله. أي اتخذ الحوت طريقه في البحر عجباً. فيكون عجباً مفعولاً ثانياً لاتخذ. ويجوز أن يكون مصدراً عمل فيه فعل دل عليه الكلام. وقيل المعنى: واتخذ موسى سبيل الموت في البحر عجباً. قال: ابن أبي نجيح عجباً لموسى [ A] لهى هو أي عجب موسى من أثر الحوت في البحر. وكذلك

قال: قتادة. قال: ابن زيد: عجباً والله من حوت أكل منه دهراً ثم صار حياً حتى أثر يسيره في الماء طريقاً. قال: ابن عباس: عجب موسى من أثر الحوت إذ صار صخرة كلما مس. فمن جعل العجب من موسى، وقوله {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر} من قول يوشع، وقف على البحر. ومن جعله كله من قول يوشع أو جعل الاتخاذ لموسى [ A] لم يقف على البحر. ثم قال: تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}. أي قال: موسى لفتاه {ذَلِكَ مَا / كُنَّا نَبْغِ}. أي نسيانك للحوت هو الذي كنا نطلب. لأن موسى عليه السلام وعد أن يلقى الخضر في الوضع الذي نسي فيه الحوت.

{فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً}. أي: رجعا على طريقهما [الذي] أتيا فيه يطلبان الموضع الذي انسرب فيه الحوت. والقصص الاتباع. أي يقصان الأثر قصصاً حتى انتهيا إلى أثر الحوت {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي وجدا خضراً. وكان سبب سفر موسى لطلب الخضر فيما روى جماعة من المفسرين أنه سئل هل في الأرض أعلم منك؟ فقال: لا [و] حدثته نفسه بذلك. فكره له ذلك فأراد الله [ D] أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه. وقيل: إن موسى [ A] ركب البحر فأعجبه علمه، فقال: في نفسه: ما أجد في زماني أعلم مني. فرفع عصفور في منقاره نقطة من ماء البحر فأوحى الله [ D] إليه ما علمك عند علم عبد من عابدي إلا كما حمل هذا العصفور من ماء هذا البحر في منقارة. فقال: يا رب اجمع بيني وبين هذا العالم وسخره حتى أعلم علماً من علمه.

فأوحى الله [ D] إليه أنك تستدل عليه ببعض زادك. فمضى ومعه غلامه ومعهما خبزه وحوت وقد أكلا بعضه. فكان من قصتهما ما حكى الله [ D] عنهما وعن الحوت. وقيل: كان سبب ذلك أنه سأل الله [ D] أن يدله على عالم يزداد من علمه. قاله ابن عباس: قال: سأل موسى [ A] ربه [ D] : أي ربي، أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني فلا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: ربي فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن تصيبه كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال: رب فهل في الأرض أجده؟ قال: نعم. قال: رب فمن هو؟ قال: الخضر. قال: زأين أطلبه؟ قال: [على] الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت. فخرج موسى [ A] يطلبه. حتى كان ما ذكر الله [ D] وانتهى موسى [ A] إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه فقال: له موسى: إني أريد أن تصحبني. قال: له الخضر: إنك لن

تستطيع صحبتي. قال: له موسى: بلى. قال: له الخضر: فإن صحبتني {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 69] فكان ما قصّ الله [ D] علينا من أمر السفينة والغلام والجدار. ثم صار به الخضر في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور وليس في مكان أكثر ماء منه. قال: ابن عباس: وبعث ربك الخطاف فجعل يستقي من ذلك الماء العظيم بمنقاره. فقال: الخضر [لموسى]: كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقل [ما] رزأ منه. قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى يحدث نفسه أنه ليس أحداً أعلم منه. ومن رواية ابن جبير عن ابن عباس أيضاً: خطب موسى بني إسرائيل. فقال: ما أجد أعلم بالله وبأمره مني، فأمر أن يلقى الخضر. فلما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل راقد قد سجى عليه ثوبه، فسلم عليه موسى، فكشف الرجل عن وجهه الثوب / فرد عليه السلام. فقال: من أنت؟ فقال: موسى قال: صاحب بني

إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أو ما كان لك في بني إسرائيل شغل؟ قال: بلى، ولكن أمرت أن أتبعك وأصحبك {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67] كما قص الله علينا. ويروى أن موسى قال: له: وما يدريك أني صاحب بني إسرائيل؟ قال: له: ادراني بكل الذي ادراك بي. قال: قتادة: قيل لموسى إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك. فخرج هو ويوشع بن نون فتزودا حوتاً مملوحاً. حتى إذا كانا حيث شاء الله، رد الله إلى الحوت روحه فسرب في البحر واتخذ الحوت طريقه في البحر سرباً. وقال: قوم إن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل وإنما هو عبد من عبيد الله من غير بني إسرائيل. فأنكر ذلك أكثر الناس، وقالوا هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل. وقال: ابن جبير: كنا عند ابن عباس، فقيل له: أن نوفا قال: ليس صاحب الخضر موسى بني إسرائيل. وكان متكئاً فجلس، وقال: يا سعيد أنت سمعته؟ قال، قلت: نعم، أنا سمعته وهو يقول ذلك. فقال: ابن عباس: كذلك نوف. حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله A يقول: " بينما موسى [ A] يخطب قومه ذات [يوم] إذ قال: ما أعلم في الأرض رجلاً أعلم مني، فأوحى الله [ D]

إليه: أن في الأرض رجلاً أعلم منك. قال: يا رب فدلني عليه. فقيل له: تزود حوتاً مالحاً فإنه حيث تفقد الحوت. فانطلق هو وفتاه حتى انتهيا إلى الصخرة. وانطلق موسى [ A] يطلبه وترك فتاه فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه الماء فصار مثل الكوة. فقال: فتاه: إلى أن يجيء نبي الله فأخبره، قال: فنسي أن يخبر موسى بذلك. فلما جاوزا {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً}. قال: فلم يصبهما نصب حتى جاوزا ما أمرا به. قال: واذكر، يعني الفتى فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} إلى قوله {قَصَصاً} فأراه مكان الحوت قال: ها هنا وصف لي. فذهب يلتمس فإذا هو بالخضر مسجى ثوباً " وذكر الحديث المتقدم.

66

قوله {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}. أي قال: موسى للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله رشداً إلى الحق ودليلاً على الهدى. قال: له الحضر: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي إني أعلم بباطن علم علمنيه الله [ D] ولا تعلم أنت إلا بالظاهر من الأمور فلا تصبر على ما ترى مني لأن أفعالي بغير دليل في رأي العين. قال: موسى: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} [أي اصبر] على ما أرى منك وإن كان خلافاً لحكم الظاهر، {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} أي [و] أنتهي إلى ما تأمرني وإن كان مخالفاً لهواي. وفعل موسى [ A] في هذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد ترك طلب العلم [و] الازدياد منه والرحلة فيه وإن كان قد / بلغ فيه مبلغه. ويدل على وجوب

71

التواضع لمن هو أعلم منه. قال الخضر لموسى: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي: إن رأيت ما تنكر فلا تسئلني وتعجل علي بالسؤال حتى أبين لك وجهه وشأنه. {فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا}. أي: انطلق موسى والخضر يطلبان السفينة يركبانها فأصاباها فلما ركبا فيها خرق الخضر السفينة، فأنكر ذلك موسى وقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً}. أي: شيئاً منكراً عظيماً. ويروى أن موسى عليه السلام حين رآه يخرق السفينة التزمه، وذكره الصحبة، وناشده الله والصحبة فأكب الآخر عليها يخرقها. فلما خرقها ودخل الماء فيها جلس موسى مهموماً محزوناً وقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} الآية. وقال: قتادة {إِمْراً}: عجباً. فأنكر عليه موسى ما رأى، وذلك أنه لم يعلم

أنه نبي. وقيل قد علم أنه نبي ولكن نسي. قال: أبو عبيدة إمراً: داهية. وقيل: سمي الخضر خضراً لأنه كلما صلى في مكان اخضرّ ما حوله. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " إنما سمي الخضر خضراً لأنه جلس على ربوة بيضاء فاهتزت خضراً " فقال: له الخضر: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} لأنك ترى ما لا تعلم. قال: له موسى: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}. قال: أبي بن كعب: لم ينسَ موسى ولكنها من معار [ي] ض الكلام. وقال: ابن عباس: لم ينسَ، وإنما ترك العهد. فالمعنى لا تؤاخذني بتركي عهدي. ألا أسألك عن شيء حتى تحدث لي منه ذكراً. وقيل: إنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولم يعتذر، وعن النبي عليه السلام أنه قال "

74

كانت الأولى من موسى نسياناً "، ومعنى " لا ترهقني " لا تكلفني عسراً. وقيل لا تغشني عسراً. وقيل: المعنى عاملني باليسر لا بالعسر. وقيل معناها لا تضيق علي. قوله: {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ}. المعنى: فانطلق موسى والخضر يسيران حتى لقيا غلاماً فقتله] الخضر. قال: ابن جبير: وجد الخضر غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. قيل كان اسمه جيسور. قال: له موسى

{أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بريئة. وقيل معناها ليس لها إليك ذنب، قاله اليزيدي. وعن ابن عمر: " زاكية " صالحة. وعنه " زاكية " لا ذنب لها. فأما من قرأ " زكية " بغير ألف، فقال: ابن عباس وقتادة: الزكية التائبة. وقال: ابن جبير: الزكية التي لم تبلغ الخطايا. وقال قطرب: زكية مطهرة. وقال:

الكسائي والفراء هما لغتان. ومعناه عندهما لم يجن جناية. وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ}. أي: بغير قصاص نفس قتلت فيلزمها القصاص قوداً بها. وهذا المعنى يدل على أن الذي قتله الخضر لم يكن طفلاً بل كان بالغاً. لأن القود بالنفس لا يكون إلا بعد البلوغ. ثم قال: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} أي: لقد فعلت فعلاً منكراً. قال: بعض أهل اللغة " الإمر: أشد من " النكر " لأن الأمر إنما / يستعمل في الشيء العظيم. فلما كان هلاك جماعة في خرق السفينة قال: " امراً " وقال: هنا " نكراً " لأنه قتل واحداً وقتل الجماعة أعظم من قتل واحد. وروي عن قتادة أنه قال: النكر أشد من الأمر.

وقيل معناه: لقد جئت شيئاً أنكر من الأول. قال له الخضر {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}. أي: لا تقدر أن تصبر على ما ترى من أحوالي وأفعالي التي لم تحط بها خبراً. وإنما كرر المخاطبة الخضر في المرة الثانية لموسى [ A] لأن الإنسان إذا أذنب ثانية كان اللوم عليه آكد من ذنبه أولاً. فلما أنكر موسى على الخضر خرقه السفينة وبخه الخضر توبيخاً لطيفاً إذ لم يتقدم لموسى ذنب. فقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فاعتذر موسى بأنه نسي الشرط الذي اش [ت] رط عليه الخضر. فلما عاد موسى إلى الإنكار في قتل الغلام زاد الخضر في توبيخه لعوده لبعض ما اشترط عليه فكرر الخطاب ليكون أبلغ في التوبيخ فقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} فكرر المخاطبة في الثاني لعودة العلة. فقال: له موسى: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} أي: تتابعني أي فارقني {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} أي: بلغت العذر في شأني.

77

وروى أبي بن كعب أن النبي عليه السلام قال: " يرحمنا الله وإياه يعني موسى، لو صبر لرأى عجباً "، وقال: لما قرأ هذه الآية: " استحيى نبي الله موسى ". قال: تعالى: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا}. أي: فانطلق موسى والخضر يسيران حتى إذا جاءا أهل قرية {استطعمآ أَهْلَهَا} أي: سألاهما أن يطعموهما من الطعام. فابوا، فاستضافوهم فأبوا. يقال: ضيفت الرجل إذا انزلته منزلة الاضياف. وأضفته أنزلته. وضيفته نزلت عليه، مشتق من ضاف السهم أي مال. وضافت الشمس إذا مالت للغروب. ومنه قولهم هو مخفوض بالاضافة

[أي] بإضافة الاسم إليه. ثم قال: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي يسقط بسرعة. وقرأ يحيى بن يعمر " يريد أن ينقاص " بالصاد غير معجمة، أي بنقطع من أصله وينصدع. وقيل معناه: ينشق طولاً. يقال: انقاصت سنة إذا انشقت ويقال: إن القرية انطاكية. قال: الكسائي: إرادة الجدار هنا ميله، لأن الأموات لا تريد. كما قال: النبي عليه السلام لا " ترى نارهما " أي لا يكون بموضع لو وقف فيه إنسان لرأى النار الآخر.

إن النار لا ترى منه. وقوله: {وتراهم يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]. وقال: أبو عبيدة: ليس للحائط إرادة ولكن إذا كان في هذه الحال فهو من دنيه فهو إرادته. وقيل: إنما كلم القوم بما كانوا يعقلون ويستعملون فلما دنا الحائط من الانقضاض جاز أن يقول {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} وقد قال: الشاعر: يُرِيدُ الرمحُ صدرَ أبي براء ... ويَرْغَبُ عن دِمَاءِ بَنِي تميم وقال: آخر: يَشْكُو إلي جملي طول السَّرى ... صبراً جميلى فكلانا مبتلى / وقال: آخر وهو عنترة:

فازوزَّ مِنْ وقع القَنَا بَلْبَانه ... وشكا إلي بَعَبْرة وتَحَمْحُم. وقوله: {فَأَقَامَهُ} قال: ابن عباس هدمه ثم قعد يبنيه. وعنه أنه قال: رفع الجدار بيده فاستقام. وقال: مرة أخرى: مسحه بيده فاستقام. قال: له موسى {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامته أجراً. قيل عني موسى بالأجر هنا الضيافة، أي حتى يبرونا. و {لَتَّخَذْتَ} على قراءة الجماعة هو افتعلت من " اتخذ " لكن أدغمت التاء التي هي فاء الفعل الأصلية لالافتعال. ويجوز أن يكون افتعلت من " أخذ " وأصله " أيتخذ ". ثم أبدل من الياء التي هي عوض من الهمزة التي هي فاء الفعل فأدغمت في تاء الافتعال.

78

فأما قراءة أبي عمرو وابن كثير فإنه من: تخذ يتخذ مثل شرب يشرب. قال: ابن سيرين: القرية التي أتوها " الآيلة " وهي أبعد الأرض من السماء. قوله: {قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}. أي قال: الخضر لموسى في الثالثة: هذا الذي قلت لي، يعني قول موسى له: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] أي سأخبرك بما تؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها ولم تقدر أنت على ترك المسألة. قال: له الخضر: أما السفينة وما فعلت فيها فإنها كانت لقوم مساكين يعملون في البحر، فاردت أن أخرقها لئلا يمضوا بها فيأخذها منهم الملك الذي أمامهم غصباً. " وراء " هنا بمعنى أمام كما قال: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] أي من أمامهم. فإذا خلفوه أصلحوها بزفت فاستمتعوا بها، فذلك أصلح لهم من تركها سالمة. وقيل معنى: " وراءهم " خلفهم على بابها. والمعنى أن الملك المغتصب خلفهم إذا رجعوا ليأخذ سفينتهم.

وقيل: اسم الملك المغتصب هدد بن بدد. وقيل: اسمه الجلندي بن المستكبر ابن الأرقم بن الأزد ملك غسان. كان يغصب الناس على سفنهم [إن] كانت صحيحة لا عيب فيها، فلما خرقها الخضر وعابها لم يعرض لها الملك الغاصب، ولم يضر بمن [كان] فيها بل نفع الخضر بفعله أصحابها إذ لو وصلوا بالسفينة صحيحة لغصبهم الملك إياها. وقيل: إن السفينة إنما كانت في أيديهم يعملون فيها بالأجرة ولذلك سماهم مساكين. وقيل: قوله {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [لا] يدل على ملكها لهم كما أن قول النبي A " من باع عبداً له وله مال فماله للبائع " لا يدل على أن العبد يملك.

80

وكذلك قوله تعالى: {لَبَيْتُ العنكبوت} [العنكبوت: 41] لا يدل على أنها تملك. قال: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [أي فكان كافراً وأبواه مؤمنين] وكذلك هي في حرف أبي " وكان كافراً ". وقرأ ابن عباس " فكان أبواه مؤمنين وكان كافراً ". وروى أبي بن كعب عن النبي A أنه قال: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً ". وقيل: كان فعالاً [للقبيح] مؤذياً للجيران فكان أبواه / يحلفان عنه أنه فعل، فيكذبان في ذلك. وقيل كان الغلام فاجراً لصاً قطاعاً للطريق، وكان أبواه في عدد وشرف، فإذا أحدث الحدث نجا إليهما فمنعا منه. ويحلفان بالله ما فعل ويظنان أنه صادق في إنكاره،

وقوله ما فعلت، فيحلفان كاذبان تصديقاً لولدهما. ثم قال: {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا}. قيل هذا من كلام الخضر. وقيل هو من قول الله جل ذكره، فإذا كان من قول الله [ D] فمعناه فعلمنا، كما يقال: طننت بمعنى علمت. وقيل معناها فكرهنا، فالخشية من الله [سبحانه] الكراهة، ومن الادميين الخوف. ومعنى {يُرْهِقَهُمَا} أيك يلحقهما، أي: يحملهما على الرهق وهو الجهل. وقيل معناه يكلفهما.

وقيل يغشيهما {طُغْيَاناً} وهو الاستكبار على الله [ D] { وَكُفْراً} أي: وكفراً بالله [سبحانه]. ومن جعل {فَخَشِينَآ} من قول الله [ D] كان " فأردنا " من قوله أيضاً، أي فأراد الله. ومن جعل {فَخَشِينَآ} من قول الخضر فإن " فأردنا " من قوله أيضاً. ومعنى {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} اسلاماً. وقيل صلاحاً. قال: ابن جبير بدلاً منه جارية وقال: ابن عباس: بدلاً منه جارية] فولدت نبياً هدى الله به أمة من الأمم. وروي عنه أنه كان من ذريتهما سبعون نبياً. وقال: ابن جريج: كانت أم الصبي يومئذٍ حبلى فبدل الله [ D] لهما منه إن

ولدت غلاماً مسلماً. قال: قتادة: فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ول بقي كان فيه هلاكهما. فليرض امرؤ بقضاء الله [ D] فإن قضاء الله [سبحانه] للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقوله: {وَأَقْرَبَ رُحْماً}. أي: أقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول، قال قتادة. وعنه أيضاً {وَأَقْرَبَ رُحْماً} أقرب خيراً. وقال: ابن جريج: أقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول. وقيل: المعنى أقرب أن يرحما به. وقيل: الزكاة هنا الدين والرحم المودة.

82

والرحم مصدر رحم رحماً ورحمة. وقيل هو من الرحم والقرابة. قوله: {وَأَمَّا الجدار}. هذه حكاية من قول الخضر لموسى أن الجدار الذي أقمته كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما. قال: ابن عباس ومجاهد وابن جبير: كان صحفاً مدفونة فيها علم. [و] قال: جعفر بن محمد: كان ذلك سطرين لم يتم الثالث. وهما: عجب للموقن بالرزق كيف يتعب. و [عجب] للموقن بالحساب كيف يغفل. و [عجب] للموقن بالموت كيف يفرح. {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] فحفظا بصلاح أبيهما السابع. وقال: الحسن كان الكنز لوحاً من ذهب مكتوب فيه: " بسم الله الرحمن

الرحيم ": عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلا الله محمد رسول الله ". روى ابن وهب: أن الكنز كان لوحاً من ذهب مصمت مكتوب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم " عجب لمن عرف الموت ثم ضحك، عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجب لمن أيقن / بالموت ثم أمن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله ". وقيل كان في جنب منه: عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجب لمن أيقن بالنار ثم ضحك، وعجب لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. أنا الله الذي لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي. وفي الشق الآخر: أنا الله الذي لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه. وقال: عكرمة: كان الكنز مالاً مدفوناً. وكذلك روي عن قتادة، وهو الذي يعطي ظاهر الخطاب لأنه لو كان غير مال لبين بالإضافة فكان يقال: كنز علم ونحوه.

83

ثم قال: تعالى حكاية عن قول الخضر لموسى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ}: أي باليتيمين. فهذا عذر الخضر في إقامته للجدار. ونصب " رحمة " على المصدر على أنه مفعول من أجله. ثم قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. أي: ما فعلت جميع ما رأيت يا موسى من عند نفسي إنما فعلته عن أمر الله. وهذا يدل على أنه وحي أتاه في ذلك من عند الله. ثم قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً}. أي: هذا الذي قلت هو الذي يؤول إليه فعلي الذي أنكرته ولم تقدر على الصبر لما رأيته يا موسى. وهذه الأخبار كلها تأديب للنبي A وإعلام له بما جرى لمن كان قبله. أي: ويسألك يا محمد المشركون عن ذي القرنين وقصته {قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} أي سأقص عليكم منه خبراً. وهذا مما سألت اليهود قريشاً أن يسألوا عنه النبي A. وقيل إن اليهود بأنفسهم سألوا النبي A عن ذلك.

قال: مجاهد: ملك الأرض أربعة مسلمان وكافران. أما المسلمان فسليمان بن داود [عليهما السلام] وذو القرنين. وأما الكافران فنمرود وبختنصر. وروى عقبة بن عامر أنه خرج من عند النبي A، قال: فلقيني قوم من اليهود فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله [ A] فاستأذن لنا عليه، قال: فدخلت فأعلمته. فقال: مالي ولهم؟ مالي علم إلا ما علمني الله. ثم قال: [لي]: أسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى. قال: فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه. ثم قال: أدخلهم عليّ وما رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه. فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوباً. وإن شئتم أخبرتكم، فقالوا: بل أخبرنا. قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم: كان شاباً من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية فلما، فرغ جاء ملك فعلا به في السماء، فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي ومدائن. ثم علا به، فقال: ما ترى؟ قال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما

ترى؟ قال: أرى الأرض. قال: فهو اليم المحيط بالدنيا إن الله [تعالى] بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم. فأتى به السد [ين] وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء. ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به / إلى أمة أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج. ثم مضى به حتى بلغ إلى أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب. ثم مضى به حتى قطع هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم، وإنما سمى ذو القرنين لأنه ضرب على قرنه فهلك ثم أحيي فضرب على القرن الآخر فهلك. قال: علي بن أبي طالب [Bهـ]: لم يكن نبياً ولا ملكاً، ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه. ونصح لله [ D] فنصحه، ضرب على قرنه الأيسر فمات. فبعثه الله، ثم ضرب على قرنه الأيمن فمات فأحياه الله، وفيكم مثله. وقال: وهب بن منبه كان ذو القرنين ملكاً، قيل له: لِمَ سمي ذا القرنين؟

فقال: اختلف فيه أهل الكتاب. فقال: بعضهم ملك الروم وفارس. وقال: بعضهم كان في رأسه شبه القرنين. وقال: بعضهم إنما سمي بذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. وقيل كانت له ظفرتان. وقيل لأنه بلغ قطري الأرض المشرق والمغرب، وقيل سمي بذلك لأنه بلغ قرني الشمس. وروى ابن وهب أن النبي A قال: " كان يعلق سلاحه بقرن الثريا، وكان له حمار يضع حافره منتهى بصره " وروي " أنه كان يربط ارسَان خيله بقرون الثريا ". وقيل كان ذو القرنين يوناني من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزية من ولد يونان بن يافت بن نوح: حكى ذلك محمد بن اسحاق عن أهل الأخبار من الأعاجم. وقال: ابن هشام: اسمه الاسكندر. وهو الذي بنى الاسكندرية فنسبت إلى

84

اسمه. وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يقول: يا ذا القرنين. فقال: عمر اللهم عفواً، أما رضيتم أن تتسموا بالنبيين، حتى تسميتهم بالملائكة. وذكر ابن وهب إنما سمي بذي القرنين لأنه كان له قرنان صغيران تواريهما العمامة. وقال: إن الذي كان معه فتاه ليس بموسى الذي كلم الله، ولكن كان أعلم من على وجه الأرض إلا الملك الذي لقي فدل قوله أن الذي لقي كان ملكاً ولم يكن الخضر. قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}. أي: علماً يتسبب به، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد والضحاك فمعناه علماً يصل به إلى المسير في أقطار الأرض. وروي أنه كان له خليل من الملائكة فقال: له: صف لي عبادة الملائكة. فقال: منهم ساجد لم يرفع رأسه منذ خلق. ومنهم قائم شاخص يدعو الله D منذ خلق، لا

85

يعرف من على يمينه ولا من على شماله. ومنهم راكع لم يعرف رأسه منذ خلق يسبح الله ويحمده و [يمجده]، فقال: له ذو القرنين: لولا قصر عمري لعبدت الله هذه العبادة، فقال: له الملك: إن لله [ D نهراً يقال: له نهر] الحيوان من شرب منه لم يمت حتى ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت مع الملائكة. فخرج / يطلب نهر الحيوان حتى إذا وقع في الظلمة وكان الخضر على مقدمته فأصاب النهر ولم يصب [هـ] ذو القرنين. قال: الله تعالى ذكره: {فَأَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} إلى قوله: {مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}. من خفف " أَتْبَع " وقطع الألف جعله من: اتبع، إذا سار ولم يلحق المتبوع في خير أو شر، حكاه الأصمعي. ومن وصل الألف و [شدد] جعله من اتبعه،

إذا لحقه. ومن الأول {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. وقيل: هما لغتان بمعنى، يقع بهما اللحاق وقد لا يقع، وهو الصواب إن شاء الله لقوله {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} [الأعراف: 175] فلو لم يلحقه ما غوى، ولقوله {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] فهذا قد يلحقه وقد لا يلحقه. ومعنى {سَبَباً} في هذا الموضع طريقاً ومنزلاً. قاله ابن عباس. وقال: مجاهد: منزلاً وطريقاً بين المشرق والمغرب. وقال: قتادة: اتبع منازل الأرض ومعالمها. وقال: الضحاك {سَبَباً} المنازل. وقال: ابن زيد: هذه الآن الطريق كما قال: فرعون {لعلي أَبْلُغُ الأسباب} [غافر: 36] أي: الطرق إلى السموات.

ثم قال: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}. قال: ابن عباس: في طين أسود حمأ، وقاله عطاء. وقال: مجاهد في طينة سوداء ثأط. وهي فَعلَة من قولهم: حمأت البير تحمى جمأة. وهي الطين المنتن المتغير اللون والطعم. ومن قرأ " حامية " فمعناه حارة، ونظر رسول الله A إلى الشمس حين غابت فقال: " في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله جل ذكره. لأحرقت ما هلى وجه الأرض ". وقال أبو ذر: كنت رديف رسول الله A وهو على حمار، والشمس عند غروبها. فقال: " يا أبا ذر هل تدري أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: إنها

تغرب في عين حامية ". فهذا حجة لمن قرأها كذلك. ويجوز ان يكون بمعنى حمئة أي ذات حماة ولكن خففت الهمزة فأبدلوا منها ياء لانكسار ما قبلها. وقال: أبو حاضر: سمعت ابن عباس يقول: كنت عند معاوية فقرأ: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} فقلت: ما أقرأها إلا " حمئة " فقال: لعبد الله بن عمر: كيف تقرأها يا عبد الله بن عمر؟ فقال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين. فقلت: في بيتي أنزل القرآن. فأرسل معاوية إلى كعب. فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال: أما في العربية فأنتم أعلم بها، وأما أنا فأجد الشمس في التوراة تغرب في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب. فقال: أبو حاضر: فقلت لابن عباس: لو كنت عندك لرفدتك بكلمة تزداد بها بصيرة في " حمئة " وقال: ابن عباس: ما هي؟ قلت: فيما يؤثر من قول تُبع ذكر فيه ذو القرنين: بَلَغَ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حَكِيم مُرشد قال: عمر [و] نحن نتبع.

فرأى مغارب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خُلُبٍ وَتَأْطٍ حَرْمِدِ فقال: ابن عباس ما الخُلب؟ فقلت: الطين بكلامهم. وقال: ما الثأط؟ قلت الحمأة، قال: [وما] الحُرْمَد؟ قلت: الأسود يقال: حمئت البير صارت فيها الحمأة. واحمأتها: ألقيت فيها الحماة وحماتها إذا أخرجت منها الحماة. وأجاز القتبي أن تكون هذه العين في البحر، والشمس تغيب وراءها. ثم قال: {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً}. أي: عند العين، قيل يقال: لهم تاسك. {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ}، أي قال له أصحابه المؤمنون يا ذا القرنين إما

أن تقتلهم وإما أن تستبقيهم. وقيل المعنى إما أن تقتلهم إذ هم لم يدخلوا في الاقرار بتوحيد الله [ D] وطاعته [جلت عظمته]، {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً}، أي: تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد. و" إما " في هذه للتخيير عند المبرد بمنزلة قوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] و " ان " في قوله {إِمَّآ أَن} في موضع نصب. وقيل: موضع رفع على معنى أما هو. ثم قال: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي: من كفر ولم يؤمن {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي: نقتله، قاله قتادة {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}، أي: يرجع إلى ربه في الآخرة فيعذبه

عذاباً نكراً من عذاب الدنيا وهو عذاب جهنم. قال: علي بن سليمان {قُلْنَا ياذا القرنين} معناه: قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين إما أن تعذب. ثم حذف القول، لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله. ولأن بعده {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً} وكيف يخاطب العبد ربه بلفظ الغيبة. وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يكون خاطبه الله [ D] على لسان نبي في وقته. فيكون تحقيق المعنى على ما قاله أبو إسحاق الزجاج: أن الله خيره بين القتل والاستبقاء، ثم قال: هؤلاء اولئك القوم مخبراً لهم عن حكمه فيهم: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ [ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ]} الآية.

ثم قال: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى}. من رفع " جزاء " ولم ينون رفع بالابتداء وله الخبر، والحسنى في موضع خفض بالاضافة. ويجوز أن يكون الحسنى بدلاً من جزاء ويكون حذف التنوين من جزاء لالتقاء الساكنين. وكذلك التقدير في قراءة من نون ورفع وهي رواية الأعمش عن أبي بكر. وبها قرأ ابن أبي إسحاق. ومن نون ونصب جعله مصدراً. وقيل: هو مصدر في موضع الحال. وقيل: نصب على التمييز.

ومن نصب ولم ينون فعلى هذه التقديرات أيضاً إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين وهي قراءة ابن عباس ومسروق. ومعنى الآية: وأما من صدق الله [ D] ، وعمل بطاعته [سبحانه] فله عند الله الحسنى وهي الجنة، {جَزَآءً} أي: ثواباً على إيمانه. ومعنى {جَزَآءً الحسنى} في قراءة من أضاف، أن الحسنى الجنة، ولكن حعله مثل {دِينُ القيمة} [البينة: 5] {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109]. وقوله: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}.

89

أي: قولاً جميلاً. وقيل: المعنى وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر له تعليمه مما يقربه إلى الله [سبحانه] ونلين له من القول. وقال مجاهد: " يسراً " معروفاً. قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس}. المعنى: ثم اتبع طرقاً ومنازل. أي طلب زيادة في العلم يخلق الله [ D] وعجائبه [سبحانه] وقيل المعنى: اتبع سبباً آخر يبلغه إلى قطر من أقطار الأرض {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ / الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي: لا جبل في أرضهم ولا شجر يسترهم من الشمس بظله ولا يحمل بلدهم بناء فيسكنون البيوت وإنما يغورون في المياه ويتسربون في الأسراب، قال: ذلك الحسن، وقتادة.

وقال: ابن جريج: جاءهم جيش فقال: لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها فقالوا، لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فهربوا فذهبوا هاربين في الأرض. قال: ابن جريج: لم يبنوا فيها بناء قط، وكانوا إذا طلعت الشمس دخلوا اسراباً لهم حتى تزول الشمس ودخلوا البحر وليس في أرضهم جبل. قال: قتادة: كانوا في مكان لا يستقر فيه البناء، ويكونوا في أسراب إذا طلعت الشمس حتى إذا زالت خرجوا إلى معائشهم. وقال: الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس عليهم يغورون في المياه، فإذا غربت الشمس خرجوا كما ترعى البهائم. وقال: قتادة يقال: لهم الزنج. وقوله: " كذلك " الكاف في موضع خفض أي قوم {لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} مثل ذلك القبيل الذي عند مغرب الشمس. وقيل: هي في موضع نصب نعت لسبب أي ثم اتبع سبباً مثل اتباعه الأول: أو

91

نعت لمصدر تطلع أي تطلع طلوعاً مثل غروبها وفيه بعد. ويجوز أن يكون المعنى لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك، أي مثل أولئك الذين وجدهم في غروب الشمس. فقيل له إما أن تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسناً فقال: فيهم مثل قوله الأول. فالمعنى وكان شأنه مه هؤلاء كشأنه مع الذين [وجدهم] عند غروب الشمس. وحذف الجملة لدلالة كذلك عليها. وقيل: هي في موضع رفع على معنى: " الأمر كذلك "، أو على معنى حكمهم مثل حكم أولئك الذين تغرب عليهم الشمس. والوقف على " كذلك " حسن في هذا الوجه. قال: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً}. أي: بما عند مطلع الشمس علماً لا يخفى علينا من أحوالهم وأحوال غيرهم شيء. قال: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}.

أي: اتبع طرفاً ومنازل {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}، أي بين الجبلين. قال: عكرمة: ما كان من صنعة بني آدم فهو " السَّد " بالفتح وما كان من صنع الله [ D] فهو " السُّد " بالضم. ولذلك قال: أبو عبيدة وقطرب والفراء. وقال: أبو عمر [و] " السَّد " بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء. والسُّد بالضم هو ما كان من غشاوة بالعين. وقال: أبو عمر [و] تميم تجعله كله سواء. وقال ابن [أبي] إسحاق: السد بالفتح ما لم تره عيناك، وبالضم ما رأته عيناك. وقال: الكسائي هما لغتان: بمعنى واحد. وقال المبرد: " السد " بالفتح

94

المصدر وبالضم الاسم، وهو قول الخليل وسيبويه. ثم قال: {وَجَدَ / مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}. أي: لا يكادون يفقهون ما يقال: لهم. ومن قرأ [يفقهون] بضم الياء. قدر حذف مفعول، فمعناه لا يكادون يفقهون احداً قولهم. يقال: فَقِه يفقه إذا فهم. وأَفْقَه " غيره إذا أفهمه. وفقُه يفقُه إذا صار فقيهاً. والسدان جبلان، سد ما بينهما بردم ليقطع أذى ياجوج ومأجوج وهم من وراء ذلك، قال: ابن عباس: والجبلان أرمينية وأذربيجان. قال: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض}.

أي: قالوا بلغتهم [أو] أومؤوا إليه بذلك ففهم عنهم. ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان معرفتان فلذلك لا تنصرف. ولذلك ترك همزة من [رأى] ذلك، لأن الأعجمي غير مشتق. فأما من همزه فإنه جعله عربياً مشتقاً من اجت النار، ولكن لم ينصرف لأنه اسم للقبيلة وهو معرفة، وقال: الكسائي: من همزه جعله من أجيج النار يفعول ومفعول، ويجوز أن يكون من ترك حمزه أخذه أيضاً من هذا وسهل الهمزة على القياس فأبدل منها ألفاً، ذكر سعيد بن عبد العزيز: أن إفسادهم في أنهم كانوا يأكلون الناس.

قال: محمد بن إسحاق: حدثني من لا اتهم عن وهب بن منبه اليمانيي، وكان له علم لالأحاديث الأولى، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيه. وكان اسمه الاسكندر وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، فلما بلغ وكان عبداً صالحاً، قال: الله: يا ذا القرنين إني باعثك إلى امم الأرض وهي أمم مختلفة ألسنتها وهم جميع أهل الأرض منهم أمتان بينهما طول الأرض [كله]. ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض [كله]. وأمم في وسط الأرض ومنهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج. فأما اللتان بينهما طول الأرض فامة عند مغرب الشمس يقال: لها ناسك وأما الأخرى فعند مطلع الشمس يقال: لها منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض فاقة في بطن الأرض الأيمن يقال لها هاويل، وأما الأخرى التي في بطن الأرض الأيسر، فيقال: لها راويل، ثم مضى في الحديث بطوله. وقال: في بعض الحديث: فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة من الانس صالحة: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله كثير فيهم مشابهة من الإنس. وهم أشباه البهائم يأكلون العشب

ويفترسون الدواب والوحوش كما تفترس السباع، ويأكلون خشاش الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق في الأرض. وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ولا يزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم. [فإن كانت] لهم مدة على ما ترى من نمائهم وزيادتهم فلا شك أنهم سيملئون [الأرض] ويأكلون أهلها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة / منذ جاوزناهم إلا ونحن نتوقعهم وننتظر ان يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} أي حاجزاً {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95] أي: ما أعطاني من القوة والتدبير والتيسير في الأمور خير مما تعطوني من أموالكم ولكن أعينوني بقوة أي برجال يعملون معي: أعدوا لي الصخور والحديد والنحاس حتى ارتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم. ثم انطلق يؤمهم حتى وقع إليهم وتوسط بلادهم.

فوجدهم على مقد [ا] ر واحد ذكرهم وأنثاهم يبلغ طول أحدهم مثل نصف طول الرجل المربوع منا. لهم مخاليب في مواضع الأظفار من أيدينا. وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها، وأحناك [كأحناك] الابل قوة. تسمع لهم حركة إذا أكلوا كحركة الجرة من الإبل، أو كقضم البغل المسن. ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، و [ما] يتقون به الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها. تسعانه إذا لبسهما يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى. يصيف في أحدهما ويشتي في الأخرى. ليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه وينقطع عمره. وذلك أنه لايموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت أنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن بالموت. وهم يرزقون التنين في أيام الربيع ويستمطرونه إذا تحينوه. كما يستمطر المطر بحينه فيقدرون منه كل سنة. فيأكلون عامهم كله إلى مثلها من القابلة. فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم. فإذا أمطروه أخصبوه وعاشوا وسمنوا

عليه ورؤي أثره عليهم. فدرت الاناث، وشبعت منه الرجال. وإذا أخطاهم هزلوا وجفرت الذكور، وحالت الاناث، وتبين أثر ذلك عليهم. وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عوي الذئاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم. ثم لما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ناحية الصدفين فقاس ما بينهما وهو في منقطع أثر الترك مما يلي مشرق الشمس فوجد بُعْدَها بينهما مائة فرسخ، فلما أنشأ عمله حفر له اسما حتى بلغ الماء. ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً. وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يداب ثم يصب عليه. فصار كأنه عرف من جبل تحت الأرض. ثم علاه وشرفه بزبر الحديث والنحاس المذاب. ثم جعل خلاله عرفاً من نحاس اصفر. [فصار] كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. فلما فرغ منه و [أ] حكمه انطلق عامداً إلى جماعة الجن والإنس. فسار حتى وصل إلى قوم يونس [وهم] أمة/ صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون. يقتسمون بالسوية،

ويحكمون بالعدل، ويتواسون ويتراحمون. حالهم واحدة. وكلمتهم واحدة وطريقتهم مستقيمة وقلوبهم متآلفة. وسيرتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم. وليس على بيوتهم أبواب ولا عليهم امراء ثم اتى خبر يونس بطوله. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً. فيعيده الله كأشد ما كان. فإذا بلغت مدتهم حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس فقال: الذي عليهم: ارجعوا فستفتحون غداً إن شاء الله، فيقدمون عليه وهو كهيئته حين تركون. فيخرجون على الناس فيشربون المياه، ويتحصن الناس في حصونهم. فيرمون بسهامهم. فيرجع فيها كهيئة الدماء فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفاً في أعناقهم فيقتلونهم فقال: النبي A

" والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكَرُ شكراً من لحومهم " ". وروى أبو سعيد الخدري ان النبي A قال: " يفتح يأجوج ومأجوج ويخرجون على الناس كما قال: الله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فيغشون الأرض. وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم. فيشربون مياه الأرض حتى [إن] بعضهم ليمر بالنهر فيشربه جميعه حتى يتركوه يابساً. وحتى إن من بعده ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ها هنا ماء مرة حتى إذا لم يبق أحد إلا أحداً في حصن أو في مدينة قال: قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم وبقي أهل السماء. قال: فيهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك بعث الله عليهم دوداً في اعناقهم كالنغف فتخرج في أعناقهم فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس. فيقول المسلمون الآ رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو. وقال: فينفرد رجل منهم ذبلك محتسباً نفسه قد وطنها على أنه مقتول. فيجدهم موتى بعضهم فوق بعض. فينادي: يا معشر المسلمين! ألا فأبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم. فيخرجون من مدائنهم وحصونهم فيسرحون

95

بمواشيهم فما يكون لها رعي إلا لحومهم فتشكر عليهم أحسن ما شكرت على شيء من النبات ". قال: ابن وهب: وخبرت أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف، صنف منهم طولهم كطول الأرز. وصنف طوله هو وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويغطي بالأخرى سائر جسده. ومعنى: {مُفْسِدُونَ فِي الأرض}، أي يفسدون ولم يكن لهم افساد بعد إنما خيف منهم ذلك وسيكون إذا خرجوا. قوله: {قَالَ مَا مَكَّنِّي / فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}. أي: الذي مكني فيه ربي خير في العمل الذي سألتموني من الحاجز بينكم وبين هؤلاء، وقضاه لي وقواني عليه خير من جعلكم الذي عرضتم علي وأكثر وأطيب. ولكن أعينوني بقوة أي بعمل تعملونه معي {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} أي إن أعنتموني على ذلك. ذكر قتادة أن رجلاً قال: يا نبي الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته. قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته.

96

قال: {آتُونِي زُبَرَ الحديد حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين}. أي: أعطوني القطع العظام من الحديد فأعطوه ذلك. وفي الكلام حذف وهو: فاتوه زبر الحديد فجعلها بين الصدفين وهما ناحيتا الجبل. والصِّدف والصَّدف الصُّدف الجبل. قال: ابن عباس {بَيْنَ الصدفين} الجبلين. وقال: مجاهد {بَيْنَ الصدفين} رأس الجبلين. وقال: الضحاك {بَيْنَ الصدفين} بين الجبلين وهما من قبيل أرمينية وأذربيجان وهو قول ابن عباس أيضاً. قوله: {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً}. أي: نفخ على قطع الحديد حتى صارت كالنار. ثم أذاب الصُّفر فأفرغه على القطع. والقطر النحاس عند أكثر المفسرين. وقال: أبو عبيدة: {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} حديداً دائباً. وقيل: هو الرصاص. قال: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ}. أي: ما قدر يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزاً

بينهم {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} وما قدروا أن ينقبوا أسفله. ثم قال ذو القرنين لما رأى الردم لا يقدر عليه من فوقه ولا من أسفله: هذا الفعل {رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} رحم بها من دون الردم من الناس {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أي الوقت الذي وعده فيه أن يأجوج يخرجون {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي سواه بالأرض. من نونه جعله على معنى مدكوكاً. ومن مده جعله بقعة دكاء وأرضاً دكاء، من قولهم: ناقة دكاء، مستوية الظهر لا سنام لها. وقيل المعنى: فإذا جاء يوم القيامة جعله دكاً ودل على هذا قوله {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14].

وقوله: {جَعَلَهُ} الهاء تعود على ما بين الجبلين وخروج يأجوج ومأجوج بعد نزول عيسى وبعد ظهور الدجال. يدل على ذلك أن ابن مسعود قال: قال: النبي A " لقيت ليلة الأسراء ابراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم فتذاكروا أمر الساعة وردوا الأمر إلى ابراهيم فقال: ابراهيم: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى: فقال: موسى: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى فقال: عيسى: أما قيام الساعة فلا يعلمه أحد، إلا الله تعالى، ولكن ربي قد عهد إلى ما هو كائن دون مجيئها. عهد إلى ان الدجال خارج وانه سيهبطني إليه. فإذا رآني أهلكه الله فيذوب كما يذوب الرصاص. حتى أن الحجر والشجر لتقول يا مسلم هذا كافر فاقتله. فيهلكهم الله ويرجع الناس إلى بلادهم واوطانه. فيستقبلهم يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون لا يأتون على شيء إلاّ / أهلكوه. ولا يمرون على ماء إلا شربوه، فيرجع الناس إلي، فادعوا الله عليهم. فيميتهم ويتغير الأرض من نتن ريحهم فينزل المطر فيجر أجسامهم فيلقيهم في البحر ثم تنسف الجبال حتى تكون الأرض كالأديم. فعهد إلي ربي أن ذلك، إذا كان كذلك، فإن الساعة منه كالحامل المتمم. والتي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلاً أو نهاراً ". وقوله: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً}. أي: وعد ربي الذي وعد خلقه في دك هذا الردم وخروج هؤلاء [القوم] على

99

الناس وغير ذلك من مواعيده حقاً لا خلف في شيء منها. قال: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي: وتركنا الخلق يوم يأتيهم الوعد وتد [ك] الجبال، بعضهم يختلط مع بعض أي: الانسي بالجني، وقال: ابن زيد: هذا اول القيامة. تختلط بعض الخلق ببعض ثم نفخ في الصور في أثر ذلك {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً}. وسأل اعرابي النبي A عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه ". وعنه A أنه قال: " " كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى [ب] الأذن متى يؤمر. فشق ذلك على أصحابه فقال: " قولوا حسبنا الله، على الله توكلنا، فلو اجتمع، أهل منى ما اقلوا ذلك القرن " وكذلك رواه ابن عباس ولكن في حديثه: " قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل توكلنا على الله ". وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " لما فرغ الله من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه اسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر. قال: أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور؟ قال: قرن. قال: وكيف هو؟

100

قال: قرن عظيم فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ". وقيل في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يوم انقضاء السد وفرغ من عمله. يموجون متعجبين من السد يعني يأجوج ومأجوج. وقيل ذلك يوم خروجهم من السد. قال: أبو عبيدة: {وَنُفِخَ فِي الصور} واحده صورة. المعنى وأبرزنا جهنم يوم نفخ في الصور للكافرين حتى يروها كهيئة السراب. وقال: ابن مسعود: يوم يقوم الخلق لله D إذا نفخ في الصور، قيام رجل واحد، ثم يتمثل الله فيلقاهم فليس أحد من الخلق كان يعبد من دون الله شيئاً إلا وهو مرفوع له يتبعه. قال: فيلقى اليهود، فيقول من تعبدون؟ فيقولون [نعبد عزيراً. قال: فيقول هل يسركم الماء؟ فيقولون نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب ثم قرأ

101

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ثم يلقى الناصرى، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون [نعبد] المسيح. فيقول هل يسركم الماء؟ قال: فيقولون: نعم. فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب. ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله جلّ وعزّ شيئاً. ثم قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24]. قال: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي}. أي عرضنا جهنم للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله فيتفكروا فيها ولا يتأملون حججه، فيتعبروا بها، وينيبوا إلى توحيده وينقادوا إلى أمره ونهيه {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي: لا يطيقون ان يسمعوا ذكر الله وآياته لخدلان الله إياهم عند ذلك ولعداوتهم للنبي A واستثقالهم لما أتاهم به. قال: ابن زيد: هؤلاء الكفار. قال: {أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ}. والمعنى أفظن الذين كفروا بالله من عبدة الملائكة والمسيح وعزيراً، أن

103

يتخذوا الملائكة والمسيح أولياء لأنفسهم لأجل عبادتهم لهم. كلا بل هم لهم أعداء. والمعنى أفحسبوا أن ينفعهم ذلك. وقيل المعنى أفحسبوا أن يتخذوهم أولياء فيعبدوهنهم ولا أعاقبهم. وقرأ علي بن أبي طالب Bهـ " أفحسب الدين " باسكان السين ورفع الباء على معنى: أفيكفيهم اتخاذ العباد أولياء. وهو مرفوع بالابتداء و " أن يتخذوا الخبر ". ثم قال: تعالى: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً}. أي: أعددنا لهم منزلاً. والنزل عند أهل اللغة ما هيئ للضيف. قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين}. أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك بالباطل ويمارونك في المسائل من أهل الكتابين: قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالاً أي بالذين اتبعوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحاً وفضلاً فنالوا به غضباً وهلاكاً ولم يدركوا ما طلبوا. قال: علي بن أبي طالب Bهـ، عني بها الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع. وقال: الضحاك هم القسيسون والرهبان.

105

وقيل هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمداً وأما النصارى فكذبوا وكفروا بالجنة. وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ونزل في الحرورية {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} [البقرة: 27] الآية. وعن علي بن أبي طالب Bهـ قال: هم كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حق فأشركوا بربهم وابتدعوا في دينهم، الذين يجتهدون في الباطل ويحسبون أنهم على حق، ويجتهدون في الضلالة ويحسبون انهم على هدى فضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وعن علي بن أبي طالب Bهـ: أنهم الخوارج اهل حرور. وقال: سعيد: هم الخوارج. وقيل هم الصائبون. قوله: {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ}. أي: الذين تقدمت صفتهم واعمالهم ضلت هم {الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} أي: جحدوا ذلك {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بطلت {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} أي: لا يثقل لهم ميزان بعمل صالح.

روى أبو هريرة أن النبي A قال: " يؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن / جناح بعوضة، واقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} ". ثم قال: أبو محمد: وهذا النص يدل على وزن اعمال الكفار. فلا يثقل بها ميزان إذا كانت لغير الله وإذ [كان] لا يصحبها توحيد ولا إيمان بالرسل. [قال: تعالى]: {لَهُمْ سواء الحساب} [الرعد: 18] وقال: فيهم: {وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] أي حساب من كفر. وقال: الله D { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وقال: عن الكفار: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 26]. وقال: عن الكفار أنهم قالوا: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] وقال {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93] وقال: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الاعراف: 6] وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الاسراء: 13] أي: كتاب عمله. وقد ذكر تعالى ذكره وزن

106

اعمال الكفار في غير ما موضع من كتابه. وذلك ما عظم الحساب، وهو كثير في القرآن مكرر يدل على محاسبة الكفار. قال: تعالى {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ}. أي ثوابهم جهنم بكفرهم واتخاذهم آياتي ورسلي هزؤاً، أي سخرياً. قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً}. أي: الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بتوحيده وكتبه ورسله، وعملوا بطاعته كانت لهم جنات الفردوس نزلاً. وهي أفضل الجنات. وأوسطها، قاله قتادة. وقال: كعب: ليس في الجنات جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر. وقيل الفردوس هو البستان بالرومية، قاله مجاهد. وقال: كعب: جنات الفردوس التي فيها الأعناب. وقيل الفردوس الأودية التي تنبت ضروباً من النبات. وقال: أبو هريرة الفردوس جبل في الجنة يتفجر منه أنهار الجنة. وقيل الفردوس سرة الجنة. وقيل الفردوس الكروم وقيل هو في الرومية منقول إلى

لفظ العربية. وروى عبادة بن الصامت عن النبي A أنه قال: " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها. ومنها الأنهار الأربعة، والفردوس فوقها. فإذا سألتم الله D فاسألوه الفردوس " وفي حديث آخر " ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ". وعنه A من رواية أبي سعيد الخدري أنه قال: " فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة واعلاها، وفوقها عرش الرحمن ومنها تفجر انهار الجنة ". وكذلك روى معاذ بن جبل عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة ما بين السماء والأرض والفردوس أعلا الجنة وأوسطها وفوقها عرش الرحمن ومنها يفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله D فاسألوه الفردوس ". وقوله: {نُزُلاً} يعني منازل أو مساكن وهو من نزول بعض الناس على بعض. و {خَالِدِينَ} " لابثين فيها أبداً ". {فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً}

109

أي: لا يريدون تحولاً. وحولاً / مصدر تحولت. خرج عن أصله كتعوج عوجاً. ويقال: قد حال من المكان حولاً. وقال: مجاهد: " حولاً " متحولاً. وروي عن بعض اصحاب أنس أنه قال: يقول أول من يدخل الجنة: إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس احد أعطاه مثل الذي أعطاني. وقيل معنى " حولاً " لا يحتالون في غيرها فهو من الحيلة على هذا. قوله {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي}. والمعنى، قل يا محمد لهؤلاء الكافرين بك، السائلين عن المسائل، لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات ربي لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي. ثم قال: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}. أي: لو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء، ما فرغت كلمات ربي، والمدد الزيادة والمعونة، يقول جئتك مدداً لكم، أي زيادة ومنه قيل لما يكتب به مِداد: لأنه يمد الكاتب شيئاً بعد شيء. والمداد جمع واحدته مداده. ويجوز أن يكون المداد مصدر مد. وقرأ ابن عباس {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} على معنى ولو زدنا مثل ما فيه من المدد الذي يكتب به مداداً.

110

قال: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ}. أي: قل لهؤلاء المشركين، إنما أنا إنسان مثلكم من بني آدم، لا علم لي إلا ما علمني الله، يوحي إلي إنما معبودكم معبود واحد لا ثاني له. قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ}. أي: يخاف لقاء ربه يوم القيامة ويخاف عقابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} فليخلص العبادة لله ويعمل بطاعته، قال: ابن جبير: {يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} أي لقاء ثواب ربه. فعلى قول ابن جبير يرجو بمعنى ينظر ويطمع ويوقن وعلى القول الأول يرجو بمعنى يخاف كقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي لا يخافون. ويحتمل أن يكون {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 15] لا ينتظرون ولا يوقنون بلقائنا. وقد فسر أكثر الناس ترجو بمعنى تطمع. وقال: مقاتل في قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} أي يخشى لقاء ربه، ويخشى بمعنى يخاف، وقال: الفراء وغيره من الكوفيين لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد. كقولك ما رجوت ولم أرج ولا أرجو.

وقال: ابن المبارك: {يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} هو النظر إلى الله جل ذكره. فالرجاء في هذا بمعنى الطمع، وذكر الزجاج وغيره الرجاء بمعنى الخوف، فلا جحد معه. وأصل الرجاء وبابه أن يأتي بمعنى الطمع الذي يقرب من اليقين، يقع بمعنى الخوف على ما ذكرنا من الاختلاف والمعنيان متداخلان لأن من أيقن وطمع بلقاء ربه وثوابه خاف عقابه. ولا يخاف عقاب ربه إلا من طمع وأيقن بلقاء ثواب ربه. وكل واحد من المعنيين مرتبط بالآخر على ما ترى. ثم قال: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً}. أي: لا يعبد معه غيره /. وقيل: لا يراني بعمله الذي يعمله لله أحداً. وسأل رجل عبادة بن الصامت C وقال: أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد؟ ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد؟ ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد؟ فقال: عبادة: ليس له شيء. إن الله D يقول أنا خير شريك. فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه. وروى طاوس أن رجلا أتى النبي A فقال: يا نبي الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ويرى مكاني. فأنزل الله D:

{فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} الآية، وقال: سفيان Bهـ: الشرك هنا الرياء. وقال: معاوية بن أبي سفيان على المنبر وقد قرأ هذه الآية: إنها آخر آية نزلت من القرآن، يعني والله أعلم بمكة لأن السورة مكية. وقال: الحسن C: نزلت هذه الآية في المؤمنين، والشرك الرياء. وقال: ابن عباس: هي في المشركين. أي لا يعبد مع الله احداً. والرياء إنما يكون في التطوع فأما في الفرائض فقد استوى الناس فيها فليس فيها رياء. وقال: بكر القاضي: سمعت سهل بن عبد الله الزاهد يقول: الرياء في أهل القدر، لأنهم يعتقدون أن أعمالهم من أنفسهم واستطاعتهم. فأما أهل السنة فيعتقدون في أعمال البر كلها أنها من فضل الله عليهم ولولا ذلك ما قدروا عليها. فليس يكون الرياء فيهم إلا خاطراً لا يبطل بما يعتقدوه. فلا رياء يصح عليهم إن شاء الله. وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وسلم تسليماً.

مريم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة مريم عونَك اللهم وتأييدَك، وصل على محمد وآله. قال أبو محمد، مكي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: سوره "مريم": مكية. وكان نزولها قبل أن يهاجر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة، لأنهم قرأوا صدرها على النجاشي بعد هجرتهم إلى أرض الحبشة. قوله تعالى ذكره: {كهيعص} الآية. قرأ بعض القراء بإمالة الهاء والياء. وعلة الإمالة أنها أحرف مقصورة، فإذا ثنيت، ثنيت بالياء، فشابهت ما ثني بالياء من الأسماء، فأميلت لذلك. وعلة ..

الإمالة فيها عند الخليل وسيبويه أنها أسماء للحروف، فجازت إمالتها ليفرق بينها وبين الحروف التي لا يجوز إمالتها نحو: ما ولا وإلا بمعنى الذي، لا يحسن عندهما إمالة شيء من هذا فإن سميت بشيء منها جازت الإمالة. ولا يحسن إمالة كاف ولا قاف وصاد، لأن الألف متوسطة. وهذه الحروف عند ابن عباس مأخوذة من أسماء دالة، على ذلك. فالكاف تدل على كبير. وقيل: الكاف تدل على كاف. قاله ابن جبير والضحاك.

وروي أيضاً عن ابن جبير، أن الكاف تدل على " كريم "، وقال ابن عباس وابن جبير: الهاء تدل على هاد، وكذلك قال الضحاك. وقال ابن جبير: الياء من حكيم. وعن الربيع بن أنس ان الياء من [قولك]: يا من يجير ولا يجار عليه. وقال ابن عباس وابن جبير: العين من عالم. وعن ابن عباس أيضاً: العين من عزيز. وقال الضحاك: العين من عدل. وقال ابن عباس وابن جبير: الصاد من صادق.

وعنه أيضاً: الكاف، كاف، والهاء، هاد. والياء، يد من الله على خلقه. والعين، عالم بهم والصاد، صادق فيما وعدهم. وقال علي بن ابي طالب Bهـ: {كهيعص} كله اسم من أسماء الله. وروي عنه أنه كان يقول: (يا كَهَيعَص) اغفر لي. وعن ابن عباس أنه قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله. وقال أبو العالية: كل حرف على حدته اسم من أسماء الله وقال

2

قتادة: {كهيعص} اسم من أسماء القرآن. و {كهيعص} تمام عند الأخفش، وموضعها رفع عنده والتقدير: وفيما نقص عليكم، {كهيعص} وليس بتمام عند الفراء، لأن {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} خبره. قوله تعالى ذكره: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} إلى {واجعله رَبِّ رَضِيّاً}. " ذِكْر " مرفوع عند الفراء على خبر {كهيعص}. ورد هذا القول الزجاج، لأن {{كهيعص} ليس مما أثنى الله به على زكريا، وليس " كهيعص " في شيء من قصة زكريا. وقال الأخفش: التقدير: وفيما يتلى عليكم، ذكر رحمة ربك عبده زكرياء.

و [قيل] التقدير: هذا الذي يتلى عليك، ذكر رحمة ربك عبده زكريا. والتقدير: وفيما يتلى عليك يا محمد، ذكر ربك عبده زكريا برحمته. قوله: {نِدَآءً خَفِيّاً}. أي: جعاه سراً كراهية الرياء. قاله ابن جريح وغيره. وقال السدي: رغب زكريا في الولد، فقام يصلي، ثم دعا ربه سراً فقال: " ربيِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنَّي " إلى قوله " واجْعَلْهُ رّبِّ رَضِيّاً ". ومعنى " وَهَنَ الْعَظْمُ " ضعف ورق من الكبر. وقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً}. أي: كثر الشيب في الرأس. ونصب " شيباً " على المصدر، لأن معنى اشتعل، شاب. وقال الزجاج: نصبه على التمييز. أي: اشتغل من الشيب.

وروى أبو صالح عن ابن عباس أن زكريا كان من أولاد هارون من أحل أحبار بني إسرائيل، ثم تنبأه الله جلّ ذكره. قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً}. أي: لم أشق بدعائي إياك قط، لأنك عودتني الإجابة إذا دعوتك حاجتي. ثم قال تعالى حكاية عنه: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآءِى} أي: أني خفت بني عمي وعصبتي من بعدي أن يرثوني. وقيل: " من [ورائي ": من قدامي]. قال ابن عباس /: الموالي هنا، الكلالة الأولياء، خاف أن يرثوه، فوهب الله له يحيى. وقيل: إنما خاف أن تقطع النبوة من ولده، وترجع إلى عصبته من غير ولد يعقوب، فأجاب الله دعاءه بعد أربعين سنة فيما ذكر ابن وهب وغيره.

وقيل: بعد ستين سنة. وقيل: معناه، خفت بني عمي عن الدين: يعني شرارهم فسأل الله تعالى في ولد يقوم بالدين بعده، ويرث النبوة من آل يعقوب، وقال أبو صالح، خاف موالي الكلالة. والموالي والأولياء سواء في كلام العرب. وقيل للعصبة موالي، لأنهم يلون الميت في النسب. وروي عن عثمان (Bهـ) أنه قرأ {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآءِى} (بفتح الخاء، وتشديد الفاء، وإكسار التاء وإسكان الياء) وهي قراءة ويد بن ثابت وسعيد بن جبير، جعل الفعل للموالي، أي: إني قَلَّتْ الموالي الأويلء من بعدي فليس لي وارث. ثم قال: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً}. أي: هب لي وارثاً ومعيناً يرثني في مال]، و " يَرِثُ من آل يعقوب "، يعني النبوة. وكان زكريا (عليه السلام) من ولد يعقوب، وهو زكريا بن آذن، وعمران من ماثان من ولد أيوب النبي A. من سبط يهوذا بن يعقوب، وكان زكريا وعمران في زمن واحد، فتزوج زكريا أشياع بنت عمران أخت مريم ابنة عمران، واسم أمها - امرأة عمران -

حنة. فيحيى وعيسى ابنا خالو. وكان زكريا نجاراً. وكفل مريم بعد موت أبيها، لأن اختها عنده، ولأن قلمه خرج دون أقلامهم. فلما حملت مريم بعيسى، أشاعت اليهود أنه ركب من مريم الفاحشة فقتلوه في جوف شجرة، فقطعوه وقطعوها معه. قال قتادة: كان النبي A إذا قرأ هذه الآية وأتى على {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: " يرحم الله زكريا ما كان عليه من ورثه، ويرحم الله لوطاً. إن كان ليأوي إلى ركن شديد. وقال السدي: " يرثني ويرث من آل يعقوب " أي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. وقيل: يرث حكمتي، ويرث نبوة آل يعقوب. وقد أنكر قوم رواثة النبوة إلا بعطية من الله، ولة ورثت بالنسب لكان الناس كلهم أنبياء، لأنهم أولاد نبي وهو آدم ونوح. وأنكر آخرون وراثة المال في هذا

7

لقوله A: " نحن معشر لا نورث، ما تركنا صدقة ". وهذا الحديث يجب أن يكون حكمه مخصوصاً للنبي ( A) ، وأخبر عن نفسه على لفظ الجماعة. وفي بعض الروايات: " إِنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة " ويحتمل أن تكون هذه شريعة كانت ونسختها شريعة محمد A بمنع وراثته. وقال القتبي: معناه: يرثني الحبورة. ثم قال: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً}. أي: ترضاه أنت ويرضاه عبادك، ديناً وخلقاً وخُلقاً وهو فعل مصروف من مفعول. وأصله رضيو، منقول من مرضي واصل مرضي، مرضو. ثم رد إلى الياء لأنها أخف. قوله تعالى ذكره: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} إلى قوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}. أي: إِنا نبشرك بهبتنا لك غلاماً اسمه يحيى.

قال قتادة: إِنما سماه الله يحيى لإحيائه إياه بالإيمان. وقيل: سمي بذلك لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها. ثم قال تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً}. أي: لم تلد العواقر ولداً، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: لم نجعل له من قبل مثلاً ولا شبيهاً. وقيل: المعنى، لم نأمر أحداً يسمي ابنه يحيى قبلك. وقال قتادة وزيد بن أسلم والسدي: معناه: لم يسم أحد يحيى قبله. ثم قال: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً}. أي: آل زكرياء: يا رب، من أي وجه يكون لي غلام وامرأتي عاقر لا تحمل،

وقد ضعفت من الكبر عن مباضعة النساء. كأنه يستثبت الخبر من عند ربه. كيف يأتي هذا الغلام؟ أيحدث فيه قوة يقوى بها على مباضعة النساء ويجعل امرأته ولوداً؟ أو يتزوج / غيرها ممن تلد؟ أو كيف ذلك؟ على طريق الاسترشاد لا على طريق الإنكار، لأنه هو الراغب في ذلك إلى الله. فلا يجوز الإنكار فيه البتة. وقيل: قال ذلك على طريق التعجب من قدرة الله إذا امرأته عاقر. قال السدي: نادى جبريل A زكرياء: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً}. فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس من الله، إنما هو من الشيطان سخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك ما يوحى إليك غيره من الأمر فشك مكانه وقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً}. وقوله: " عُتِيّاً " أي قد عتوت من الكبر فصرت يابس العظام. يقال للعود اليابس، عود عات وعاس. وقال قتادة: " عُتِيّاً نسئاً، وكان ابن بضع وسبعين سنة. وقيل: سبعين سنة.

10

ثم قال تعالى: {كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}. الكاف في موضع رفع. والمعنى، قال: الأمر كذلك، أي: الأمر كما قيل لك. أي: أهب لك غلاماً اسمه يحيى، هو عليّ هين. أي: خلقه عليّ هين. {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} أي: ليس خلقنا لغلام نهبه لك بأعجب من خلقنا إياك ولم تك شيئاً موجوداً. هو نفي للعين عام. ولو قال: " ولم تك رجلاً أو إنساناً " لم يكن ذلك نفيا للعين ولا نفياً عاماً. فافهمه. قوله تعالى ذكره: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس}. إلى قوله: {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}. أي: اجعل لي علامة على وقت الهبة، ودليلاً على أن ما بشرتني به ملائكتك من هذا الغلام عن أمرك ورسالتك، ومتى يكون. قال ابن زيد: " اجعل لي آية أن هذا منك "، وكذا قال السدي. {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً}. أي: علامة ذلك وصحته أنك لا تكلم الناس ثلاث ليال، بلا علة بك من خرس ولا مرض يمنعك الكلام.

قال ابن عباس: " اعتقل لسانه من غير مرض ". وقال مجاهد: " سوياً ": صحيحاً لا يمنعكم من الكلام مرض ". وقال قتادة: " سوياً ": من غير خرس ولا بأس، إنما عوقب إذ سأل آية بعد مسافهته الملائكةبذلك، أخذ لسانه حتى كان يوميء إيماءً ". قال ابن زيد: " حبس لسانه فكان لا يستطيع أن يسلم أحداً، وهو في ذلك يسبح ويقرأ التوراة، فإذا أراد كلام الناس، بم يستطع [أن] يكلمهم. وكذلك قال السدي. وقيل: المعنى، ثلاث ليال متتابعات. فسوياً من نعت الليالي. وعلى القول الأول يكون " سوياً " حالاً من المخاطب. والتقدير فيه التقديم. أي: آيتك ألا تكلم الناس سوياً ثلاث ليال.

ثم قال تعالى: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب}. أي: فخرج زكريا على قومه من مصلاه الذي جلس فيه حين حبس لسانه عن كلام الناس. ذوقال ابن جريج: معناه، أشرف على قومه من المحراب والمحراب عند أهل اللغة، مكان مرتفع. وقوله: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. أي: أوحى إليهم، قاله قتادة وقال الضحاك: " كتب لهم. وقال مجاهد ووهب بن منبه: " أشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً "، أي: صلوا بكرة وعشياً. والصلاة تسمى سبحة. وقيل: " أمرهم بالتسبيح بذكر الله طرفي النهار ". وهذا يدل على أن الإشارة ليست بكلام. يقال: أوحى ووحى. وأومى وومى.

ثم قال: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ}. والتقدير: قوله له يحيى، فقال الله تعالى له: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " أي بجد وعزم. قاله قتادة ومجاهد. ذوقال ابن زيد: " القوة: أن يعمل ما أمره الله ويجتنب ما نهاه عنه ". ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً}. أي: أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه. قال معمر: " بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال أللعب خُلقت؟ فأنزل الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً}. قال قتادة: " كان ابن سنتين أو ثلاث ". قال مالك: " بلغني أن يحيى بن زكريا، إنما قتل في امرأة، وأن بخت نصر لما دخل بيت المقدس بعد زمان طويل وجد دمه يفور لا يطرح عليه تراب ولا شيء إلا

فار وعلا عليه، فلما رآه بني إسرائيل فسألهم فقالوا لا علم لنا / هكذا وجدناه، وأخبرنا به آباؤنا عن آبائهم أنهم هكذا وجدوه. قال بخت نصر: هذا دم مظلوم، لأقتلن عليه. فقتل [عليه] سبعين ألفاً من المسلمين والكفار فهدأ الدم بعد ذلك. وقوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} قال ابن عباس معناه: " ورحمة من عندنا "، وهو قول عكرمة وقتادة والضحاك. وقيل معناه: ورحمة من عندنا لزكريا، آتيناه الحكم وفعلنا به ما فعلنا، روي ذلك عن قتادة. وقال مجاهد: " معناه، وتعطفاً من عندنا عليه فعلنا ذلك ".

وقال ابن زيد: " معناه، ومحبة له من عندنا "، روي ذلك أيضاً عن عكرمة. وعن عطاء أن معناه: " وتعظيماً من عندنا له ". وقيل معناه آتيناه رحمة بالعباد وتحنناً عليهم ليُخلضهم من الكفر إلى الإيمان. وعن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الحنان. وقاله عكرمة أيضاً مرة. وقول العرب " حنانيك " لغة في حنان، وليس بتثنية. وأصل الحنان من قولهم: حن إلى كذا، إذا ارتاح إليه. ويحن على فلان، إذا تعطف عليه. والحنان مصدؤ من حننت أحن حنيناً وحناناً، ومنه قيل لزوج الرجل حنته لتحننها عليه وتعطفها. وقوله: {وَزَكَاةً} قال قتادة: " العمل الصالح ". وقوله: {وَكَانَ تَقِيّاً} أي خائفاً مؤدياً فرائضه.

قال ابن عباس: " طهر فلم يعمل بذنب، فهو الزكاة ". وقوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ}. أي: مسارعاً في طاعتهما غير عاق لهما ". {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً}. أي: متكبراً عن طاعة الله، ولا عصياً لربه. ثم قال: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}. أي: أمان له من الشيطان حين وُلد فلم يُذنب، ولا يأتي في الآخرة بذنب. وقوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ} أ]: وأمان له من الله من فتاني القبر. {وَيَوْمَ يُبْعَثُ}. أي: وأمان له من العذاب يوم يبعث فلا يروعه شيء. قال ابن عيينة: " أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد، فيرى

نفسه خارجاً مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم، ويوم يبعث، فيرى نفسه في حشر عظيم. فخض الله تعالى يحيى بالأمان في هذه الثلاثة مواطن، وهي الفضيلة التي فضل الله بها يحيى. وروي أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا، فقال عيسى استغفر لي، أنت خير مني. وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير مني. فقال عيسى: أنت خير مني؟ سلمتُ على نفسي، وسلم الله عليك، فعرف الله فضلها. فقال النبي A: " كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إى يحيى بن زكرياء ". وقال A: " ما من أحد يقلى الله D يوم القيامة إلا وأذنب إلا يحيى بن زكرياء، ما أذنب ولا هم بامرأة ". وهو قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ}، أي أمان له وعصمة من الشيطان ألا يحمله على ذنب و " يوم يموت " من عذاب القبر "، ويوم يبعث " من هول المحشر. وقد قيل: المعنى، ورحمته، وسلامته عليه يوم ولد، وذلك تفضل من الله غير جزاء له على عمله، إذ لم يعمل بعد شيئاً. وقوله: {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً}. هو جزاء من الله له بعمله وسعيه.

16

وروى ابن وهب عن مالك بن أنس عن حميد بن قيس عن مجاهد، أنه [قال]: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإن كان ليبكي من خسية الله ما لو كان القار على عينيه لحرقه. ولقد كان الدمع اتخذ مجرى في وجهه. قال أبو ادريس الخلاني: أطيب الناس طعاماً يحيى بن زكرياء. إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس معايشهم. قال ابن وهب أن ابن شهاب قال: كان يحيى ابن خالة عيسى وكان أكبر من عيسى بيسير. قوله تعالى ذكره: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} إلى قوله: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}.

والمعنى: واذكر يا محمد في الكتاب الذي أنزل إليك مريم حين اعتزلت من أهلها، وانفردت في مكان شرقي، أي في شرقي المحراب. وقال السدي: " خرجت مريم إلى جانب المحراب لحيض أصابها ". وقال قتادة: " شرقياً " قبل المشرق شاسعاً ". وقيل: إنما صارت بمكان يلي المشرق، لأن ما يلي المشرق عندهم كان خيراً مما يلي المغرب /. وقال ابن عباس: أظلها الله بالشمس، وجعل لها منها حجاباً ". وهو قوله: {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً} أي: ستراً يسترها عن الناس. ويروى أن مريم كانت في منزل زكرياء، وكان زوج أختها، وكان لها محراب تصلي فيه، وكان زكرياء إذا خرج أغلق عليها الباب، فآذاها يوماً القمل في رأسها فتمنت لو وجدت خلوة إلى الجبل تفلي فيه رأسها، فانفرج لها السقف وخرجت والبيت مقفل في يوم شديد البرد، فجلست في شرفة من الشمس، وأتى زكرياء فلم يجدها فبينما هي جالسة إذ أتاها جبريل A في صورة البشر في أحسن صورة شاب

مقصص عليه البياض وعليه تاج مكلل بالدر والياقوت، ومريم يومئذ بنت أربع عشرة سنة، فلما أن رأت جبريل عليه السلام يصعد نحوها نادته {إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً}. أي إن كنت تتقي الله فكان من شأنها ما قصّ الله علينا. ثم قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا}. قال قتادة وابن جريج ووهب بن منبه: هو جبريل A. وقيل: الروح: عيسى، لأنه روح الله وكلمته أَلقاها إلى مريم. وقيل: معناه، فدخل الروح في مريم فتمثل لها بشراً سوياً. أي تمثل فيها، يعني عيسى. قال أبي بن كعب: " كان روح عيسى بن مريم من الأرواح التي أخذ الله تعالى ذكره عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل من فيها، فحملت بعيسى عليه السلام ". والله أعلم بذلك كله. والصحيح أنه جبريل عليه السلام لقوله: " فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً " لأن عيسى بشر، ومعناه

فتشبه لها في صورة آدمي، سوي الخلق، معتدلة. وإنما سمي جبريل A روحاً، لأنه يأتي بما يحيي به العباد من الوحي، ولهذا سمي عيسى أيضاً روحاً، وسمي القرآن روحاً. وقيل: إنما اعتزلت لتغتسل من الحيض. وقيل: لتخلو بالعبادة. ثم قال: {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً}. والمعنى: أن مريم خافت من جبريل لما رأته في هيئة آدمي. قال قتادة: " خشيت أن يكون يريدها على نفسها ". وقال السدي: " فزعت منه لما رأته، فتعوذت بالرحمن واستجارت به منه ". ومعنى: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي: إن كنت ذا تقوى وخوف من الله، تتقي محارمه. وقيل: المعنى: إني أستجير بالله منك إن كنت تتقي الله في استجارتي به منك. قال وهب بن منبه: " هو رجل من بني آدم معروف عندهم بالشر اسمه " تقي ".

ف " إن " على هذه الأقوال للشرط، وما قبلها جواب للشرط. وقيل: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} معناه: ما كنت. [قوله]: قَالَ: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً}. من قرأ بالهمز في لأَهَبَ، فإنه أسند إلى جبريل A، إذ قد علم أن الهبة أصلها من الله. والتقدير: إنما أنا رسول ربك أرسلني لأهب لك. وقال أبو عبيد: التقدير في هذه القراءة: إنما أنا رسول ربك، يقول لك: أرسلته إليك لأهب لك غلاماً.

فأما من لم يهمز، فيحتمل أن يكون على أحد هذين المعنيين المتقدم ذكرهما في الهمز، لكن خففت الهمزة، ويحتمل أن يكون في الكلام حذف تقديره: بعثني لِيَهَبَ لك. وكذا حكى أبو عمرو عن ابن عباس. و" الزكي ": الطاهر من الذنوب. {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً}. أي: قالت مريم: من أي وجه يكون لي غلام؟ أَمِنْ قبل زوج أرزقه منه؟ أم يبتدئ الله خلقه ابتداء، ولم يمسسني بشر من بني آدم بنكاح حلال. " ولمَ ألكُ بَغيّاً " أي لم يمسسني أحد في حرام. قال السدي: [{بَغِيّاً} زانية]. و {بَغِيّاً} فعول. وفعول يقع للمؤنث والمذكر بغير هاء. كقولك: امرأة شكور، ورجل شكور. ولا يجوز أن يكون " بغي " فعيلاً، لأنه يلزم فيه دخول الهاء ككريمة ورحيمة. ولا يلزم ذلك في فعول. فدل حذف الهاء منه على أنه فعول، وليس بفعيل. وأصله بغوى، ثم وقع القلب والإدغام على الأصول

21

المعروفة عند أهل العربية /. قوله تعالى ذكره: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ} إلى قوله: {نَسْياً مَّنسِيّاً}. أي: قال: الأمر كما قيل لك، أن الله يهب لك غلاماً زكيا. {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: سهل. {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} أي: ولنجعل هذا الغلام حجة على الناس {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أي: ورحمة منا لك، ولمن آمن به. {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً}. أي: كان خلقه منك بغير ذكر أمراً قد قضاه الله في سابق علمه أنه يكون على ذلك. ثم قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً}. في الكلام حذف، تقديره: فنفخنا فيها من روحنا بغلام {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ} أي: اعتزلت به مكاناً قصياً، أي: مبتاعداً عن الناس [نائياً]، وهو بيت لحم، أقصى

الوادي. فنظرت إلى أكمة /، فصعدت عليها مسرعة، وإذا على الأكمة جذع نخلة، فاستندت إلى الجذع. وهو قوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة}. فجزعت عند شدة الولادة، وخوف ما يقول النس، فقالت: {ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}. فسمع جبريل A كلامها، فنادها من تحتها {أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي: جدولاً، وهو النهر الصغير. قم قال لها: {هزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}، فعجبت من قول جبريل A، لأنه كان جذعاً قد قد نخر ليس فيه سعف، فلما هزته، نظرت إلى السعف قد أطلع من بين أعلى الجذع، وقد أخضر، ونظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف أبيض، ثم نظرت إليه قد اخضرّ بعد البياض، فصار بلحاً، ثم نظرت إلى البلح قد احمرّ بعد الخضرة، ثم نظرت إليه قد صار بسراً، ثم تظرن إلى البسر قد احمرّ، ثم نظرت إليه قد صار رطباً، وكذلك كله في أقل من ساعة. وقيل: كان ذلك كله في أقل من طرفة عين. فجعلت الرطب تسقط بين يديها، فطابت نفسها لما رأت من الآيات. قال وهب بن منبه: " نفخ جبريل A في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى الرحم. قال وهب: لما قال لها جبريل {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} استسلمت لأمر الله،

فنفخ في جيبها وانصرف عنها ". وقال السدي: " فخرجت وعليها جلبابها لما قال لها جبريل عليه السلام ذلك، فأخذ كمها، فنفخ في جيب درعها وكان مشقوقاً من قدامها، فدخلت النفخة صدرها، فحملت فأتتها أختها - امرأة زكريا - تعودها، فلما فتحت لها الباب، التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، أشعرت أني حبلى؟ قالت مريم: أشعرت أيضاً أني حبلى؟ قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك. فذلك قوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 39]. قال ابن جريج: " إنما نفخ جبريل في جيب درعها ورحمها ". قال السدي: " لما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى المحراب الشرقي منه، فأتت أقصاه ". قوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة}.

أي: جاء بها المخاض إلى جذع النخلة. والهمزة دخلت لتعاقب الباء. قال ابن عباس ومجاهد والسدي: المعنى: أَلجأها. و " المخاض ": " الحمل ". وقال قتادة: {فَأَجَآءَهَا} " اضطؤها ". وذكر بعض أهل الأخبار أنها اعتزلت، وذهبت إلى أدنى أرض مصر، وآخر أرض الشام وذكر أنها هربت من قومها لما حملت، فتوجهت نحو أرض مصر. قال وهب بن منبه: " لما اشتملت مريم على الحمل، كان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى الجبل الذي عند صيهور، وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم. وكان مريم ويوسف يخدمان في ذلك

المسجد، في ذلك الزمان، وكان لخدمته فضل عظيم. فرغبا في ذلك. فكانا يليان معالجة ذلك بأنفسهما وتحبيره وكناسته، وكل عمل يعمل فيه. وكلان لا يعمل من أهل زمانها أحد أشد اجتهاداً وعبادة منهما. فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف. ولما رأى الذي بها، استعظمه، ولم يدر على ما يضع أمرها، فإذا أراد يوسف أن يتهمها، ذكر صلاحها وبراءتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط /، وإذا أراد يبرئها رأى الذي ظهر عليها. فلما اشتد ذلك عليه كلّمها. فكان أول كلامه إياها أن قال لها: إنه قد حدث في نفسي من أمر أمر، وقد خشيت، وقد حرصت على أن أكتمه وأميته في نفسي، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام أشفى فيه لصدري. قالت: فقل قولاً جميلاً. قال: ما كنت أقول لك إلا ذلك. فحدثيني هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت: نعم. قال: فهل تنبت شجرة من غير غيث؟ قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم. ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذر يومئذٍ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر؟ أولم تعلم ان الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده؟ أو تقول: لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء؟ ولولا ذلك لم يقدر

على إنباته؟ قال يوسف: لآ أقول هذا، ولكني أعلم أن الله يقدر على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون. قالت له: أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير أثنى ولا ذكر قال: بلى. فلما قالت له ذلك، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله. ثم دنا نفاسها فأوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنهم إن ظفروا بك، عيروك، وقتلوا ولدك. فأفضت ذلك إلى أختها، وأختها حينئذ حبلى، وقد بشرت بيحيى، فلما التقتا، وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجداً معترفاً بعيسى. فاحتملها يوسف ذإلى ارض مصر على حمار له، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف شيء. فلما ذكان بقرب أرض مصر، في منقطع بلاد قومها، أدرك مريم النفاس، فألجأها إلى حمار أو مذوده وأصل نخلة. فاشتد على مريم المخاض، فلما وجدت منه شسدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة قاموا صفوفاً محدقين بها. وعن وهب أنها قالت له عند سؤاله: إن الله تعالى خلق البذر قبل الزرع، وإن الله خلق الحبة من غير مطر، وإن الله خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر.

وعن وهب أيضاً أنه قال: لما حضر ولادتها، وجدت ما تجده المرأة من الطلق، فخرجت من المدينة حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم. فأجأها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود مقرة وتحتها نبع من الماء فوضعته عندها. وقد قال السدي لما حضر وضعها إلى جانب المحراب الشرقي منه أتت أقصاه. وقيل: إن عيسى ولد بمصر بكورة أهناس، ونخلة مريم قائمة بها إلى اليوم. والله أعلم بذلك كله. قال ابن عباس: ليس إلا أن حملت فولدت في ساعة. وعن مجاهد، أنها حملته ستة أشهر، فكانت حياته آية له لأنه لا يعيش من

ولد من ستة أشهر. وقال غيره أقامت ثمانية أشهر، وذلك آية لعيسى أيضاً، لأنه يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش. وقوله: {فَأَجَآءَهَا المخاض} يدل على طول المكث. قال مجاهد: كان حمل النخلة عجوة. وقيل: كان جذعاً بلا رأس، وكان ذلك في الشتاء، فأنبت الله له رأساً، وخلق فيه رطباً؟ في غير وقته. وروي أنها لما رأت الآية في الرطب والجذع طابت نفسها. وقالت: ليس ولادتي هذا الغلام من غير أب أعجب من هذا الجذع البالي، فأكلت من الرطب، وشربت من النهر. وقوله: {ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا} [أي: قبل هذا] الطلق، استحياء من الناس قاله

السدي. {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً}. أي: لم أخلق ولم أكن شيئاً. قال السدي: معناه نسى ذكري وأمري، فلا يرى لي أثر ولا عين. وقال قتادة: معناه: وكنت شيئاً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري من أنا. وقال مجاهد وعكرمة: حيضة ملقاة. والنسي عند أهل اللغة، ما طال مكثه فنسي. ويكون لنسي الشيء الحقير الذي لا يعبأ به. وقرأ محمد بن كعب: " نِسْئاً " بالهمز وكسر النون. وكذا قرأ أيوب، إلا أنه فتح النون وهو من نسأه الله إذا أخره. / وإنما تمنت الموت وقد علمت أن الرضى

24

بقضاء الله واجب عليها لآنها كرهت أن يعصى الله فيها وفيما يقول قومها فيها إذ جاءت بولد من غير ذكر، فشق عليها أن يأثموا فيها ويعضوا الله من أجلها فيما يرمونها به لا أنها سخطت قضاء الله فيها، إذ هي تعلم أن الله تعالى لم يختر لها إلا ما فيه الخيرة والصلاح لها. فتمنيها للموت إنما هو طاعة لله لأن من كره أن يعصى الله فيه فقد أطاع الله. قوله تعالى ذكره: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} إلى قوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً}. من قرأ " مَنْ تَحْتَهَا " بالفتح " أراد فناداها عيسى ". كذلك تأويله أُبي بهذا كعب والبراء بن عازب والنخعي، وبذلك قرؤوا. ومن قرأ بكسر الميم والتاء، أراد

فناداها جبريل. كذلك قال ابن عباس والضحاك. وقال مجاهد: هو عيسى عليه السلام. قال الضحاك: كان جبريل A أسفل منها، فناداها من ذلك الموضع " ألاّ تحزني ". وقال أبو عبيد: من كسر الميم والتاء، يجوز في قراءته أن يكون لجبريل ولعيسى عليهما السلام. ومن فتحهما، هو لعيسى خاصة، والاختيار عند أهل النظر في الكسر أن يكون لعيسى مثل الفتح، أي: فناداها عيسى من تحتها. وقرئ بذلك لتقدم ذكر عيسى ولم يتقدم ذكر جبريل إلا فيما بعد، عند قوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} فالحمل على الأقرب أولى من الأبعد. قال ابن زيد: قال لها عيسى: لا تحزني، قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج، فأقول من زوج، ولا مملوكة فأقول من سيدي، أي شيء عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً. قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام. قال البراء: " السري " الجدول، وهو النهر الصغير. وبذا قال ابن عباس

وغيره، وهو بالنبطية. وقال مجاهد: " السري " النهر بالسريانية. وقال قتادة: السري عيسى نفسه. وكذا قال ابن زيد. أي: شخصاً سرياً. وقال الحسن: كان والله سرياً من الرجال، يعني عيسى. فقيل له: يا أبا سعيد، إنما هو الجدول النهر. فقال: يرحمك الله، إنما تلتمس مجالستكم لهذا. وقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة}. يدل على أنه النهر لقوله تعالى بعد ذلك {فَكُلِي واشربي} فكلي من هذا الرطب ةاشربي من هذا الماء وقريّ عيناً بولدك.

وقوله {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}. من قرأ بالتاء، رده على النخلة ومن قرأ بالياء، رده على الجذع، ومن شدد السين أدغم فيها إحدى التاءين، ومن خفّف، حذف إحدى التاءين كتظاهرون و " رطبا " منصوب على التمييز. وقال المبرد هو مفعول بهزي أي: وهزي إليك رطباً بجذع النخلة. وقرأه مسروق بن الأجدع " تُسقط " بتاء مضمومة. وحذف الألف فيكون على هذا " رطباً " مفعولاً به. وكذلك هو على قراءة عاصم " تساقط " على تفاعل. قيل: نصبه على التمييز.

وقيل: هو مفعول بـ " هزي " و {جَنِيّاً} نعت للرطب وهو فعيل بمعنى مفعول، أي: رطباً مجنياً. والجني: الطري. " والرطب " يؤنث على معنى الجماعة، ويذكر على معنى الجنس. وقال أبو وائل: لو علم الله شيئاً أطيب من الرطب لأطعمه مريم ". وقوله: {وَقَرِّي عَيْناً} هو من قررت بالمكان عند الشيباني، أي: قري عيناً. وقيل: هو من قررت به عيناه مشتق من القر أي: بردت عيناً، فلم تسخ بخروج الدمع. ولغة قريش قررت به عيناً أقر وقررت بالمكان أقر. وأهل نجد يقولون: قررت به عيناً أقر. ثم قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً}. أي: " قال لها عيسى A بعد قوله [لها] أنا أكفيك الكلام، فإما ترين. . .

الآية ". والظاهر أن يكون هذا الأمر من الله جلّ ذكره لها، والله أعلم بذلك. فالمعنى: إن رأيت من بني آدم أحداً يسألك. فقولي: إني نذرت للرحمن صوماً. أي: أوجبت على نفسي للرحمن صوماً. أي: صمتاً: قاله ابن عباس والضحاك. وقال قتادة صامت من الطعام والشراب والكلام. وقال ابن زيد: كان في بني إسرائيل من إذا اجتهد صام من الكلام كما يصوم / من الطعام إلا من ذكر الله D فقال لها ذلك. وأصل الصوم. الإمساك، وإنما أمرها بالصوم عن الكلام لأنه خاف عليها ألا تكون لها حجة فيما جاءت به، فأمرها بالكف عن الكلام ليكفيها ولدها الحجة عنها. ولا يحل لأحد أن ينذر ترك الكلام يوماً. وإنما جعل الله ذلك آية لمريم خاصة. وقد قيل: بل كانت ذلك اليوم صائمة عن الطعام والشراب، فأذن لها ألا تكلم الناس ذلك اليوم.

27

روى يزيد الرقاشي أن أنس بن مالك قال: إذ ولد عيسى أصبح كل صنم يعبد من دون الله خاراً على وجهه، وأقبلت الشياطين غلى إبليس تضرب وجوهها لما حدث. ومعنى " فَقُولي " أي: أشيري إليهم بذلك، لأنها لو كلمتهم بذلك لتناقض ما عقدت على نفسها من الصمت. وهذا يدل على أن القول قد يكون غير كلام، وهو كثير في كلام العرب. قوله تعالى ذكره: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} إلى قوله: {جَبَّاراً شَقِيّاً}. المعنى: أن عيسى عليه السلام لما قال لها ذلك: اطمأنت وسلمت لأمر الله وحملته حتى أتت به قومها. قال السدي: " لما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم قد ولدت، فأقبلوا يشتدون، فدعوها، فأتت به قومها تحمله ". قالوا: {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً}. أي: جئت بأمر عجيب وعظيم لم يسبق مثلك إلى مثله.

روي أنها خرجت من عندهم ضحى، وجاءت عند الظهر ومعها صبي تحمله فكان الحمل في ثلاثة ساعات من النهار ". وكانت مريم قد حاضت قبل ذلك حيضتين لا غير. ثم قالوا لها: {يا أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ}. أي يا أخت هارون في الصلاح والعبادة. قال قتادة: كان رجلاً صالحاً في بني إسرائيل، يسمى هارون، فشبهوها به. قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل سوى من ليس اسمه هارون. وكانت عائشة Bها تقول: هو هارون أخو موسى. فقال لها كعب: يا أم المؤمنين، إن كان النبي A قاله فهو أعلم، وإلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، فسكتت. وقيل: أريد بهارون هنا أخو موسى نسبت مريم إليه لأنها من ولده كما يقال

للتميمي يا أخا تميم. قال ابن جبير: كان هارون منهم رجلاً فاسقاً، فنسبوها إليه، وقد غلط بعض المؤلفين في هذا فقال: كان لها أخ صالح يسمى بهارون. وما علمت أحداً من المفسيرين وأهل التاريخ قال هذا. " وقال المغيرة بن شعبة: بعثني رسول الله A إلى أهل نجران فقالوا: ألستم تقرأون يا أخت هارون؟ قلت: بلى، قالوا: وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ قال: فرجعت إلى النبي A. فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم ". فهذا يدل على أن هارون المذكور في الآية كان رجلاً صالحاً وكانوا يسمون أولادهم بهارون لمحبتهم في ذلك الصالح الذي كان اسمه هارون.

وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ}. أي: ما كان أبوك رجل سوء فيأتي الفواحش. {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}. أي زانية. {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}. أي: لما قالوا لها ذلك أشارت لهم إلى عيسى أن كلّموه. {الُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً}. قال قتادة: " المهد " هنا حجر أمه. و" كان " هنا، زائدة. و " صيباً " نصب على الحال، والعامل فيه الاستقرار. والمعنى: كيف نكلم من في المهد صبياً لا يفهم مثله، ولا ينطق لسانه بكلام. وقيل: إنّ " كان " هنا بمعنى وقع. و " صبياً " نصب على الحال والعامل فيه " كان ". والمعنى على هذا القول: كيف نكلم صبياً قد خلق في المهد. وقيل إن " من " للشرط. و " صبياً " حال. و " كان بمعنى: وقع وخلق أيضاً. والمعنى على هذا، من كان في المهد صبياً فكيف نكلمه. كما تقول: من كان لا يسمع ولا يبصر فكيف نخاطبه. قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب}. أي: قال عيسى لهم ذلك. وذلك أن مريم لما أشارت لهم إلى عيسى أن

يكلموه، ظنوا أن ذلك / منها استهزاء، فغضبوا. وقوله: {آتَانِيَ الكتاب}. أي: قضى أن يؤتني ذلك فيما قضى. قال عكرمة: الكتاب: القضاء. وقوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} يدل على أن الخير والشر بقدر من الله وقضاء. قال مجاهد: أن نفاعاً معلماً للخير حيثما كنت. وقال محمد بن كعب: لم يبعث الله نبياً إلا أتى على إثره الشدة واحتباس المطر إلا عيسى عليه السلام، فإنه أتى على إثره الرخاء والمطر، وأتت البركات بيمينه. وقيل: معنى، " مباركاً " ثابت على دين الله وطاعته أينما كنت لأن أصل البركة الثبات على الشيء، مأخوذ من بروك البعير. وروى ابن وهب، عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى ابن مريم انتهى إلى قرية قد خربت حصونها، وجفت أنهارها وتشيعت شجرها. فنادى يا خراب، أين أهلك؟ فلم يجبه أحد ثم نادى ثانية، فلم يجبه أحد، ثم نادى الثالثة، فنودي يا

عيسى ابن مريم بادوا وتضمنتهم الأرض، وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة يا عيسى ابن مريم فجد. {وَأَوْصَانِي بالصلاة}. أي: قضى أن يوصيني بذلك. وقوله: {والزكاة}: هي زكاة الأموال. وقيل: هي تطهير البدن من الذنوب. {مَا دُمْتُ حَيّاً} أي: وقت حياتي في الدنيا. {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} أي: وجعلني براً بوالدتي. وقد قرأ أبو نهيك، " وَبِرٍّ "، بكسر الباء ةالراء. أي: وأوصاني ببر والدتي. وقوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}. أي: ولم يجعلني مستكبراً عليه فيما أمرني به منهاني عنه، شقياً. وهذا يدل على أن الله جعل الأشقياء أشقياء، والسعداء سعداء. فهو نص ظاهر في القدر. قال قتادة: ذكر لنا أن عيسى A كان يقول: سلوني فإن قلبي لين، وإني صغير في نفسي، مما أعطاه الله D من التواضع. قال: وذكر لنا أن امرأة رأت عيسى وهو يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. فقالت: طوبى للبطن الذي حملك، والثدي الذي

33

أرضعك. فقال لها عيسى: طوبى لمن تلا كتاب الله، وابتع ما فيه، ولم يكن جباراً شقياً. ومن قرأ: " وَبِرِّ " بالخفض حسن أن يقف على " أينما كنت " ومن نصبه، لم يقف عليه، لأن " وبراً " منصوب بـ " جعلني. قوله تعالى ذكره: {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ} إلى قوله: {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}. معناه: أن عيسى عليه السلام سلّم على نفسه في هذه الأوقات وهي أشد ما يمر على الإنسان في حياته وبعد موته. أي: الأمن علي من الشيطان أن يصيبني في حين ولادتي بسوء، ويوم أموت من هول المطلع، ويوم أبعث يوم القيامة من الفزع. فأخبرهم أنه سيموت، وأنه يبعث حياً. ذكر عبيد بن عمير وغيره أن عيسى A كان يأكل من الشجر ويلبس من الشعر، ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، ولا يخبئ طعام اليوم لغد، وليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب، يبيت حيث يدركه الليل.

ثم قال تعالى: {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق}. أي: هذا الذي وصفت لكم صفته، وأخبرتكم خبره هو عيسى ابن مريم. ثم قال: {قَوْلَ الحق} من رفع القول. فعلى خبر الابتداء. أي هذا الكلام الذي قصصته عليكم قول الحق. أي قول الله، ف {الحق} هو الله. أي هو كلامه لا كلام غيره من اليهود والنصارى فيما ادعوا في عيسى من الكذب والبهتان /. ومن نصبه، فعلى المصدر. أي: أقول قول الحق، لا قول اليهود، الذين زعموا أن عيسى عليه السلام كان ساحراً كذاباً. ولا قول النصارى، أنه ولد الله تعالى وجلّ وعزّ عن ذلك. قال مجاهد: {قَوْلَ الحق}. الحق: الله. أي: قول الله هو الحق. فمن رفع القول حسن أن يقف على مريم، ثم يبتدئ " قول الحق " أي هذا قول الله.

ومن نصب، لم يحسن الوقف على مريم، لأن ما قبله قد قام مقام الفعل الناصب ل: " قول ". وقد أجازه أبو حاتم على إضمار ناصب لقول الحق، كأنه ابتدأ: أقول قول الحق. وقوله: {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي: يشكون ويختصمون من المراء وهو الخصام والجدال. قال قتادة: امترت فيه اليهود، فقالوا: ساحر كذاب، وامترت فيه النصارى، فزعموا أنه ابن الله. وذلك أن بني إسرائيل اجتمعوا فأخرجوا منهم أربعة نفر. أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السناء، وهم اليعقوبية فقال له الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل أنت فيه. قال فقال: هو

ابن الله وهم النسطورية. فقال له الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه. فقال هو ثالث ثلاثة. الله إله، وهو إله، وأمه إله. وهم الاسرائيلية ملوك النصارى. قال له الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، وهم المسلمون. فكان لكل واحد منهم أتباع على ما قال. فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس}. قال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} يعني: اختلفوت فصاروا أحزاباً. قوله تعالى: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ}. هذا تكذيب للذين قالوا: إن عيسى ابن الله. أي: ما يصلح له أن يتخذ ولداً، بل كل شيء خلقه. ثم قال سبحانه: ينزه نفسه عما قالوا، أي: تنزيهاً لله أن يكون له ما أضيف إليه من الولد، فقال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ}، ينفي عن نفسه وينزهها عما يقول الظالمون،

وهذا اللفظ ظاهره الحظر، والله لا يحظر عليه شيء، لكنه محمول على معناه. ومعناه النفي، أي: ما كان الله ليتخذ ولداً. فهو نفي عن الله ما لا يليق به وليس فيه في الباطن حظر. ومثله قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] معناه النفي، وتقديره: ما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً. فظاهره حظر، ومعناه النفي، ولو كان حظراً لم يستثنى منه الإثبات في قوله " إلا خطأ " والنفي يستثنى منه الاثبات. ومعنى الإثبات في هذا، إجازة وقوعه من المؤمن لا أنه إطلاق له أن يفعل ذلك، وقد مضى ذكر هذا. ومثله {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] ظاهره الحظر. أي لا تفعلوا وهو تعالى لم يحظر على خلقه أن يفعلوا ذلك، وإنما معنى ذلك، النفي عنهم القدرة على اختراع ذلك. فالمعنى: ما كنتم مخترعين ذلك، ومحدثين له، بل الله اخترعه وأحدثه. وهو كثير في القرآن يقاس عليه ما شابهه. ثم قال: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. أي: إذا أراد خلق شيء، فإنما يقول له كن فيكون موجوداً حادثاً لا يتكلف في حدوثه معالجة ولا معاناة تصحيح، والتقدير، إذا قضى أمراً كونه. وقد زل في

هذا بعض الملحدين فقال: هذا يدل على أن الأمر مخلوق، لأنه قال: قضى أمراً. قال: وأمره كلامه، وهذا إلحاد وكفر. ليس قضى في هذا بمعنى خلق، إنما هو بمعنى أراد. والأمر في هذا إنما أحد أمور المحدثة، لا كلامه - تعالى عن ذلك - فالمعنى: إذا أراد إحداث أمر من الأمور المحدثة، قال له: كن فكان. فكن كلامه. فبهذا يحدث المحدثات. فلو كان الأمر في هذا كلامه، لحدث بكلامه كن، فيصير كلامه يحدث بكلامه، وهذا خلف من الكلام وخطأ ظاهر. ثم فال تعالى: {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ}. هذا من قول عيسى لهم. أخبرهم أنه وإياهم عبيد الله. فالعبادة له منا واجبة علينا. {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: هذا الذي أوصيتكم به طريق مستقيم ينجوا من سلكه. فمن فتح " أن " فعلى معنى: / و " لأن الله ". هذا مذهب الخليل وسيبويه. وقال الفراء " أن " في موضع خفض عطف على الصلاة. أي: قال عيسى:

أوصاني بالصلاة، وبأن الله ربي وأجاز أن يكون في موضع رفع على معنى: والأمر أن الله. وحكي عن أبي عمرو أنها في موضع نصب عطف على أمر. أي: وقضى الله أن الله ربي. وقيل: هي في موضع رفع عطف على عيسى. أي: ذلك عيسى، وذلك أن الله. وهذا ضعيف، لأن المعنى ليس عليه. ومن كسر، فعلى الابتداء، ولم يعطفها على ما قبلها. وفي حرف ابن مسعود وأبي: " أن الله ربي " بغير واو. فهذا يدل على صحة الاستئناف. وقيل: الكسر على العطف على: " قال: إني عبد الله، وقال إن الله ربي ". و" سبحانه "، وقف عند نافع. ولا يحسن الابتداء بـ " أن " على قراءة من فتح، إلا على قول الخليل وسيبويه:

37

لأنهما لا يجعلان في الكلام عطفاً. وعلى قول الكسائي: الأمر أن الله يحسن الابتداء بها أيضاً. قوله تعالى ذكره: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} إلى قوله: {لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}. أي: فاختلف المختلفون بعد رفع عيسى A. فصاروا أحزاباً، وقد ذكر اختلافهم كيف كان. ثم قال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}. أي: وادٍ في جهنم للكافرين الذين زعموا أن عيسى إله، والذين زعموا أنه ابن الله. {مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة. ثم قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}. أي: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة إذا عاينوا ما لا يحتاج إلى فكر ولا رؤية. وقد كانوا في الدنيا عمياً عن إبصار الحق، صماً عن سماع الهدى. قال قتادة: سمعوا حين لا ينفعهم السمع، وأبصروا حين لا ينفعهم البصر.

قال ابن زيد: كانت في الدنيا على أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، فلما كان يوم القيامة، أبصروا، وسمعوا فلم ينتفعوا، وقرأ {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12]. ثم قال تعالى ذكره: {لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: لكن الكافرون في الدنيا في ذهاب مبين عن سبيل الحق. و {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} وقف حسن. والعامل فيه " أسمع بهم وأبصر " أي: ما أبصرهم وأسمعهم في هذا اليوم، أي: هم ممن يقال ذلك فيهم، ففيه معنى التعجب، ولفظه، لفظ الأمر، ولا ضمير في الفعلين، إذ ليس بأمر للمأمور، إنما هو لفظ وافق لفظ الأمر، وليس به. ثم قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر} أي: أنذر هؤلاء المشركين يوم حسرتهم على ما فرطوا في جنب الله إذا رأوا مساكنهم في الجنة قد أوروثها الله أهل الإيمان به، وعوضوا منها منازل في النار، وأيقن الفريقان في الخلود. قال ابن مسعود: ليسي نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة، وبيت في النار، وهو يوم الحسرة، فيرى أهل النالا البيت الذي في الجنة فيقال: / لو آمنتم، فتأخذهم الحسرة، ويرى أهل الجنة البيت الذي في النار، فيقال لهم: لولا ما منّ به الله

عليكم. وقيل: {يَوْمَ الحسرة} يوم يعطى كتابه بشماله. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي A قال: " يجاء بالموت فيوضع بين الجنة والنار كأنه كبش أملح. قال فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت. ثم يؤمر به فيذبح. 4قال: فيقول: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت. ثم قرأ رسول الله A: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} الآية. وأشار بيده في الدنيا " يريد الغفلة في الدنيا. وكذلك رواه أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط. وقال في أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من

مكانهم، وقال في أهل النار، فيطلعون فرحين مسرورين، رجاء أن يخرجوا من مكانهم. وقال فيذبح على الصراط ". قال ابن عباس: " يصور الله الموت كأنه كبش أملح. فيذبح، فييأس أهل النار من الموت، فلا يرجونه، فتأخذهم الحسرة من أجل الخلود في النار، ويأمن أهل الجنة الموت، فلا يخشونه ". وقال ابن عباس: " يوم الحسرة " من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله وحذره عباده. ومعنى: {إِذْ قُضِيَ الأمر} إذ فرغ من الحكم لأهل النار بالخلود فيها ولأهل الجنة بالخلود [فيها]. / وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي: هؤلاء المشركون في غفلة عما الله فاعل بهم يوم القيامة. {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون بآيات الله ولا بالرجوع إليه يوم القيامة. ثم قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي: نفني من على الأرض، فتبقى لا مالك لها غيرنا. {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}.

اي: يرد هؤلاء المشركون وغيرهم، فيجازي كلاً بعمله. والمعنى: إلى حكم الله يرجعون وقضائه فيهم ومجازاتهم. لم يرد برجوعهم إليه، إلى مكانه، ولا إلى ما قرب منه، إنما رجوعهم إلى جزائه وحكمه فيهم. وكذلك كل ما شابهه. {قُضِيَ الأمر} وقف، إلا أن يجعل " وهم في غفلة " في موضع الحال فلا يقف على ذلك. والتمام " يؤمنون ". ثم قال تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً}. أي: أتل على هؤلاء قصص إبراهيم وأبيه التي أخبرناك بها في الكتاب المنزل عليك، وكذلك معنى قوله: {واذكر فِي الكتاب} في كل موضع، إنما معناه اذكر لقومك ما أنزل عليك في القرآن من قصة إبراهيم، وموسى وغيرهما. {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} أي: كان من أهل الثدق في حديثه وأخباره ومواعيده. " نبيئاً " أي: تنبأه الله وأوحى إليه. ولا يوقف على " نبي " لأن " إذ " متعلقة بما قبلها. {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ}. أبتِ عند سيبويه لا تقع بالتأنيث إلا في النداء. ويكون للمذكر والمؤنث. و " التاء " عنده عوض من ياء الإضافة. ولذلك لا يجمع بينهما. ووقف ابن كثير بالهاء،

وجميع القراء غيره يقفون بالتء، لأنه مضاف في التقدير. وقرأ ابن عامر بفتح التاء على تقدير يا أبتاه، فحذف الهاء لأنه واصل وحذف الألف كما تحذف ياء الإضافة، لأنها بدل منها. وقيل: إنه أبدل من كسرة " التاء " فتحة، ومن " الياء " التي كانت في الأصل ألفاً. ثم حذف الألف، إذ لا يجمع بين الياء والتاء، والألف عوض من الياء. فكما لا تثبت الياء مع التاء، كذلك لا تثبت الألف التي هي عوض من الياء. وهذا القول أشبه من الأول، وفيهما نظر. وقوبه: {مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} يعني الأصنام، لا يسمعك إذا دعوته، ولا بيبصرك إذا أجبته ولا يغني عنك شيئاً: إن نزل بكل أمر أو ضر لم ينفعك ولا دفع عنك شيئاً. ثم قال: {يا أبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ}. يعني: الوحي الذي أوحى الله إليه. {فاتبعني} أي: أقبل قولي، وما أدعوك إليه.

46

{أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي: أبصرك وأرشدك الطريق المستوي الذي لا تضل فيه إن لزمته. ثم قال: {يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان}. أي: لا تطعه فيم أمرك به فتكون بمنزلة من عبده. {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً}. أي: عاص. و " عصياً "، فعيل بمعن فاعل. لام الفعل " ياء " أدغمت فيها " ياء " فعيل. ثم قال: {يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن} الآية. . . أي: إني أعلم أنك، إن منت على عبادة الشيطان، أن العذاب يمسك فتكون للشيطان ولياً دون الله. فالخوف هنا بمعنى العلم. كما تقع الخشية بمعنى العلم في قوله: {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80]. قوله تعالى ذكره: قال {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم} إلى قوله {أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}. أي: قال أبوه له حين دعاه إلى الإيمان وترك عبادة الشيطان، أراغب أنت عن عبادة آلهتي يا إبراهيم. {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عن ذكر آلهتي بالسوء وغبتك عن عبادتها لأرجمنك " أي: لأسبنك، قاله قتادة والسدي وابن جريح.

وقيل معناه: لأقتلنك. وقيل معناه: لرجمنك بالحجارة. ثم قال: {واهجرني مَلِيّاً} أي: واهجرني يا إبراهيم حيناً طويلاً. قاله: مجاهد والحسن وعكرمة. ف " ملياً " ظرف. وقال ابن عباس: معناه: واهجرني سالماً من عقوبتي إياك، وقاله: قتادة والضحاك. ف " ملياً " على هذا نصب على الحال من إبراهيم، واختار الطبري هذا القول، واختار النحاس القول الأول. و" أراغب " رفع بالابتداء، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر، ويجوز أن يكون "

أنت " مبتدأ، و " أراغب " خبره مقدم عليه، وحسن رفع " أراغب " بالابتداء لاعتماد على ألف الاستفهام الذي معناه التقرير. ثم قال تعالى: {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي}. أي: قال إبراهيم لأبيه حين توعده، وامتنع من الإيمان بما جاء به: سلام عليك " أي: أمنة مني لك ان أعادوك فيما كرهت، ولكن سأستغفر لك ربي أي: أسأل لك ربي أن يستر عليك ذنوبك {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي: إن ربي عهدته / بي لطيفاً، يجيب دعائي إذا دعوته. قال ابن عباس وابن زيد: " حفيّاً " لطيفاً يقال حفي به إذا بره ولطف به. قال السدي: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ} أخره إلى السحر. {ياإبراهيم} تمام عند نافع. وإن شئت ابتدأت يا إبراهيم. و" سلام عليك " تمام عند ابي حاتم. و " لك ربي " عند غيره التمام. ثم قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}. أي: وأجتنبكم وعبادة

ما تدعون [من دون الله] من أوثانكم وأصنامكم. و {وَأَدْعُو رَبِّي} بإخلاص العبادة له {عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي: عسى أن لا أشقى بدعاء ربي. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}. لي: فحين اعتزل إبراهيم قومه وعباده ما يعبدون من دون الله. {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي: آنسنا وحشته لما فارق قومه، فوهبنا له إسحاق، وابنه يعقوب. {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً}. أي: وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، جعلناهم أنبياء. روي أنه خرج عنهم إلى ناحية الشام بإذن الله له. ثم قال: {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا}. أي: ووهبنا لجميعهم من رحمتنا. وهو ما بسط لهم من الرزق في الدنيا. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أي: ورزقناهم الثناء الحسن والذكر الجميل من الناس إلى قيام الساعة. قوله: " ويعقوب " وقف. و " نبيئاً " أحسن منه و " علياً " أحسن منهما.

ثم قال: {واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً}. أي: واقصص على قومك يا محمد نبأ موسى، إنه كان مخلصاً لله عبادته وأعماله كلها. هذه على قراءة من كسر " اللام " في " مخلصاً " ومن فتحها فمعناه: إنه كان مختاراً اختاره الله لكلامه ورسالته. {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أي: أرسله الله إلى نبي إسرائيل، وتنبأه. ثم قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} أي: وكلمناه من جانب الجبل الأيمن، قاله قتادة. وقال الطبري: يعني يالأيمن هنا: يمين موسى، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال. {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}، أي: وأديناه مناجياً. قال ابن عباس: إن الله D أدناه حتى سمع صريف القلم. وقال أبو صالح: قربه حتى سمع صريف القلم.

وعن مجاهد في معنى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: بين السماء الرابعة أو قال السادسة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة، فما زال يقرب موسى حتى كان بينه وبينه حجاب وسمع صريف القلم، وقال: أرني أنظر إليك. وقال قتادة: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} (نجا بصدقه). وقيل معناه: قربناه في الكرامة والرفعة في منزلة رفيعة، لأن الله تعالى ذكره وجلّ ثناؤه وليس بمحدود، فيكون بعض الأجسام أقرب إليه من بعض. فهو كلام فيه توسع. فقد يقرب الرجل عبده بإكرامه له، وإن بعد منه ويبعد عبده الآخر بإهانته له وإن قرب مكانه منه، فذلك شائع في اللغة. والمعنى: إنا رفعنا بكلامنا له.

54

ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}. أي: وهبنا لموسى - رحمة منا له - أخاه هارون نبياً. اي: أيدناه بنبوته. قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد أنه وهب له نبوته. قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} إلى قوله: {سُجَّداً وَبُكِيّاً}. المعنى: واقصص عليهم يا محمد، نبأ إسماعيل، إنه كان صادق الوعد، أي: لا يخلف وعده. قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها. وقيل: إن هذا مما يدل على أنه هو الذبيح، لأنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فصبر حتى فداه الله. قال سهل بن عقيل: وعد إسماعيل رجلاً مكانه أن يأتيه، فجاءه إسماعيل، ونسي الرجل، وظن أنه قد اشتغل، فبات إسماعيل في المكان حتى جاء الرجل من الغد. فقال له الرجل: ما برحت من ها هنا؟ فقال إسماعيل: لا والله. فقال الرجل: إني

نسيت. فقال إسماعيل إني لم أكن لأبرح حتى تأتينَي، فذلك قوله " كان صادق الوعد ". وروي أن إبليس اللعين تمثّل له، فوقع بينهما موعد ألا يبرح إسماعيل حتى يعود إليه. فكان في اعتقاد إسماعيل أن ينتظر سنة فأتاه جبريل A فأعلمه أنه إبليس، فذهب وأرسله الله إلىجرهم. وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة}. يعني أمته كلها، ذات نسب وغير ذات نسب. {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} /. أي: محمداً فيما كلفه، غير مقصر. و " مرضي " مفعول، والأصل فيه عند سيبويه. " مرضو ". ولكن أبدلوا من الواو لأنها أخف، ولأنها واو قبلها ضمة، وليس ذلك في كلامهم فأبدل ولم يعتد بالساكن الذي قبل الواو المضمومة. ومثله قولهم مسنية، أصلها مسنوة. وقال الكسائي والفراء: من قال: " مرضى " بناه على رضيت وقالا وأهل

الحجاز يقولون " مرضو ". وحكايا أنَّ من العرب من يُثني رضا على رضوان، ورضيان، وربوان، وربيان. فمرضي على رضيان. ومرضو على رضوان. ولا يعرف البصريون في التثنية إلا رضوان بالواو. وربوان بالوا. ثم قال تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً}. أي: واقصص نبأ إديس، إنه كان لا يقول إلا الحق فيما يوحى إليه، وفي غيره " نبيئاً " تنبأه الله. كان إدريس خياطاً، وكان كلما وخز وخزة بالإبرة سبّح الله وهو أول من خاط الثياب، وبينه وبين آدم خمسة آباء. ثم قال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال كعب: أوحى الله إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل بني آدم، فأحب أن يزداد عملاً فأتاه خليل له من الملائكة، فقال: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملاً، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدراً، فلكم ملك الموت في الذي كلّمه فيه إدريس فقال: وأين إدريس؟ فقال هو ذا على ظهري. فقال ملك الموت: فالعجب، بعثت، وقيل لي: اقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض، فجلعت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في

الأرض. فقبض روحه هناك، فذلك قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}. وقيل: إن الله جلّ ذكره جعله في السماء الرابعة قاضياً كالملك في وسط ملكه وجعل خزائن السموات بيده. وقيل: رفع إلى السماء السادسة. وقال مجاهد: رفع إدريس ولم يمت كما رفع عيسى. وقال مجاهد: وقتادة: رف إلى السماء الرابعة. وروى قتادة عن أنس أن النبي A قال لما عرج به إلى السماء، قال: " أتيت على إدريس في السماء الرابعة ". وقيل: {مَكَاناً عَلِيّاً} عنى به في النبوة والعلم.

وسأل ابن عباس كعباً عن إدريس وما يجد من خيرة في التوراة فقال: إن في كتاب الله أن إدريس كان يعرج بعمله إلى السماء، فيعدل عمله عمل جميع أهل الارض. فأستأذن فيه ملك من الملائكة أن يؤاخيه، فأذن الله له أن يؤاخيه، فسأله إدريس؟ أي أخي، هل بينك وبين ملك الموت إخاء؟ قال: نعم، ذلك أخي دون الملائكة، وهم متآخرون كما يتآخى بنو آدم فقال: هل لك أن تسأله كم بقي من عمري لكي أزداد في العمل؟. قال إن شئت سألته وأنت تسمع. قال: فحمله الملك تحت جناحيه حتى سعد به إلى السماء [فقال لملك الموت] أي أخي، كم بقي من أجل إدريس؟ فقال: ما أدري حتى أنظره قال: فنظر فقال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من أجله إلا طرفة عين. فنظر الملك تحت جناحه، فإذا إدريس قد قبض وهو لا يشعر. ذكر ذلك ابن وهب.

وروى ابن وهب أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إن إدريس أقدم من نوح، بعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا: لا إله إلا الله ويعملوا بما شاءوا فأبوا، فأهلكهم الله. وروى أن ادريس سَار ذات يوم في حاجته فأدركه وهج الشمس فقال: يا رب، إني مشيت في الشمس يوماً. فآذاني حرّها، فكيف بمن يحملها مسيرة خمس مائة عام في يوم واحد، اللهم خفف عن من يحملها، واحملعنه حرها. فلما أصبح الملكم، وجد خفة فسأل الله عن ذلك، فأعلمه أن إدريس دعا له في ذلك، فسأل الله أن يجمع بينه وبينه، وأن يجعل بينه وبينه خلة، فأذن الله له في ذلك. ثم قال تعالى: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين}. المعنى: أولئك الذين قصصت عليك، أنبأهم، هم الذي أنعم الله عليهم بتوفيقه، فهداهم لطريق الرشد من الأنبياء {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ}. يعني إدريس. و {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (أي ومن ذرية من حملنا مع نوح في الفلك، يعني: إبراهيم). {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} يعني من ذرية إبراهيم وإسماعيل من ذرية إبراهيم، ومن ذريته أيضاً هارون وموسى، وزكريا، وعيسى، وأمه. / {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} للإيمان والعمل الصالح.

{واجتبينآ} أي: واصطفيا للرسالة والواحي. ثم قال تعالى: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن}. أي: أدلته وحججه التي أنزلها في كتابه. {خَرُّواْ سُجَّداً} أي خضعاً. {وَبُكِيّاً} أي باكين. فبكى يجوز أن يكون مصدراً لبكى يبكي بكياً. بمعنى: بكاء. ويكون أصله بكوياً. كجلس يجلس جلوسا. ثم نقل ورد إلى الياء، على أصل اجتماع الواو والياء. والأول ساكن، وبكسر ما قبلها، لأنه ليس من كلامهم ياء سكانة قبلها ضمة، من كسر أوله، اتبع الكسر الكسر والياء. ويجوز أن يكون جمع باكٍ على فعول، كما قالوا شاهدوا وشهود. فأما العتي والجثي فهما جمع جاث وعات على فعول، ثم غير ما تقدم في " مرضي ". لأن لامه واو. فهو مخالف لبكياً. إذ لامه ياء، ولام جثياً وعتياً واو، لأن ذلك من بكى يبكي، وهذين من جثا يجثو،

59

وعتا يعتو، فقس على هذا ياءات هذه السورة وغيرها. وقرأ عمر بن الخطاب Bهـ سورة " مريم " فسجد فقال " هذا السجود، فأين البكي " وهذا يدل على أنه مصدر لا جمع يريد به فأين البكاء. قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة}. إلى قوله: {وَعْدُهُ مَأْتِيّاً}. المعنى: فخلف من بعد من ذكرنا من الأنبياء، خلف سوء خلفوهم في الأض. يقال في الردئ " خَلْف " بإسكان اللام، وفي الصلاح " خَلَفْ " بتحريك اللام. وعن أبي إسحاق ضد هذا. والأول أشهر. ثم قال: {أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} أي أخروا الصلاة عن مواقيتها، ولم يتركوها، ولو تركوها لكان كفراً. قاله عمر بن عبد العزيز: وهو معنى قول ابن مسعود. وكذلك قال ابن مسعود: في قوله تعالى ذكره: {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] إنه تأخيرها عن

وقتها. قال مسروق: لا يحافظ على الصلوات الخمس أحد فيكتب من الغافلين. وروى الخدري أن النبي A قال: " الخلف من بعد ستين سنة ". قال أبو محمد مكي Bهـ: وقد ذكر الجعفي في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: هم ناس يظهرون في آخر الزمان من قبل المغرب، وهم شر من يملك، وذكر اسمهم. وعن مجاهد، أن الخلف هنا النصارى بعد اليهود. رواه ابن وهب، وهو ظاهر الآية لأن بعده " إلا من تاب وآمن " فذكره لشرط الإيمان مع التوبة يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين. وقوله: {واتبعوا الشهوات} قيل: معناه: اتبعوا شهواتهم فيما حرّم الله عليهم.

وقال القرظي: أضاعتهم لها، تركها وهذا القول اختيار الطبري لقوله بعد ذلك: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} فلو كان المضيعون مؤمنين لم يقل: " إلا من تاب وآمن " ولكنهم كانوا كفاراً بتركهم للصلاة والزكاة. وقال مجاهد: هؤلاء قوم يكونون عند قيام الساعة، وذهاب صالحي امة محمد A، ينزو بعضهم على بعض في الآزقة زنا. وقال عطاء: هم من أمة محمد عليه السلام. ثم قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً}. يعني: وادياً في جهنم قاله ابن عمر. وعنه أنه قال: هو نهر في جهنم، خبيث الطعم بعيد القعر. وقال ابن عباس: غياً: خسراناً.

وقال ابن زيد: " غياً " شراً. والتقدير: فسوف يلقون جزاء الغي، كما قال يلق آثاماً أي: جزاء الآثلام. وقيل: سمي الوادي غياً لأن الغاوين يصيرون إليه. وقيل: المعنى: " فسوق يلقون غياً ". أي: خيبة من الجنة، والثواب الذي يناله المؤمنون، وعذاباً في النار. و" الغي " في اللغة " الخيبة. ثم استثنى فقال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} دون أولئك. {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً}. أي: ولا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً. ثم بيّن موضع الدخول فقال: " جنات عدن " أي: إقامة. {التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} أي: وعدهم بها، وهم لم يروها فصدقوا بذلك. {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً}. الوعد هنا بمعنى الموعود. كما قالوا: الخلق بمعنى المخلوق.

62

و " مأتياً " أي: ياتيه أولياؤه، وأهل طاعته. وقيل " مأتياً ": هو مفعول بمعنى فاعل. قاله ابن قتيبة واستبعده النحاس، وهو عنده/ مفعول من الإتيان، لأن كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه. قوله تعالى ذكره: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} إلى قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}. أي: لا يسمعون في الجنة لغواً وهو الهدر والباطل من القول. {إِلاَّ سَلاَماً} أي: تحييهم الملائكة من كل باب بالسلام. وقوله: " إلا سلاماً " استثناء ليس من الأول. وقيل: هو بدل من لغو. ثم قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. أي: لهم ما يشتهون من المطاعم، قدر وقت البكرة ووقت العشي من نهار الدنيا. إذ لا ليل في الجنة ولا نهار. قال مجاهد: ليس " بكرة " ولا " عشي " ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. خاطبهم الله بأعظم ما كان في أنفسهم من العيش.

وكانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء عجب به فأخبرهم الله أن لهم في الجنة ذلك الذي يعجبهم. وقال زهير بن محمد: " ليس في الجنة ليل. هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار. يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب ". وقيل: معنى الآية: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}. مقدار ما يكفيهم لكل ساعة ولكل وقت يريدون فيه الأكل. ثم قال تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً}. أي: الجنة التي وصفت، هي التي تورث مساكن أهل النار فيها. " من مكان تقياً " أي من اتقى عقاب الله، فأدى فرائضه واجتنب محارمه. قال إبراهيم بن عرفة: وعد الله بالجنة كل من اتقى، وأرجو أن يكون كل موحد من أهل التقية - إن شاء الله - ولن يهلك مؤمن بين توحيد الله، وشفاعة

نبيه A. وقيل: " التقي ": الذي قد أكثر من اتقاء معاصي الله ومحارمه. ثم قال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}. هذه الآية نزلت لما استبطأ النبي A الوحي. قال ابن عباس: قال النبي A لجبريل عليه السلام: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزرونا، فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: احتبس جبريل عن النبي A بالوحي فيما سأله المشركون عنه من خبر الفتية وخبر الطواف، وعن الروح، وقد كان قال لهم النبي A سأخبركم غداً، ولم يستثن. فأبطأ عنه الوحي أربعين يوماً. ثم نزل جبريل عليه السلام: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24]، فوجد النبي A من ذلك، وحزن فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا رسول الله {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية. وكذلك قال قتادة ومجاهد والضحاك باختلاف لفظ واتفاق معنى. ثم قال تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك}.

معناه: أبي العالية: ما بين أيدينا من الدنيا وما خلفنا من الآخرة " وما بين ذلك " ما بين النفختين. وقال ابن عباس: " ما بين أيدينا " الآخرة " وما خلفنا " من الدنيا. وكذلك قال قتادة، إلا أنه قال: " وما بين ذلك "، ما بين الدنيا والآخرة. وُرُوِيَ عن معمر: " ما بين ذلك " ما بين النفختين. وكذا قال الضحاك. وقال ابن جريج: " ما بين أيدينا " ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، و " ما خلفنا، " ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة، " وما بين ذلك " ما بين ما مضى أمامهم وما بين ما يكون بعدهم. وقال الأخفش " ما بين أيدينا ": ما كان قبل أن نخلق " وما خلفنا " ما يكون بعد أن تموت " وما بين ذلك " منذ خلقنا إلى أن نموت.

65

وقال ابن جبير: " ما بين ذلك " ما بين الدنيا والآخرة، يعني البرزخ. فيكون المعنى: فلا استبطاء يا محمد في تخلفنا عنك، فإنا لا نترك إلا بأمر ربك لنا بالنزول بما هو حادث من أمور الآخرة، وما قد مضى من أمر الدنيا، وما بين هذين الوقتين. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي ذا نيسان، فيكون تأخر نزولنا من أجل نسيانه إياكز قال مجاهد " {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي ما نيسك. قوله تعالى ذكره: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً}. أي: وما كان ربك - رب السماوات والأرض وما بينهما - ذ نيسان، " فاعبده " أي: الزم طاعته. {واصطبر لِعِبَادَتِهِ} أي: اصبر نفسك على العمل بطاعته. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي: مثلاً وشبهاً في جوده وحلمه وكرمه وطوله. قاله ابن عباس وقتادة/ ومجاهد وابن جبير.

وعن ابن عباس أن معناه: هل تعلم يا محمد أحداً يمسى الرحمن سواه. وقيل: هل تعلم أحداً يقال له الله غيره. وقل المعنى: هل تعلم أحداً قال له رب السماوت والأرض وما بينهما غيره. وقيل: المعنى: هخل تعلم أحداً يجوز أن يكون إلهاً معبوداً غيره. ثم قال تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}. أي: ينكر الإنسان الكافر البعث، فيقول: أنبعث، إذا ما مت، إنكاراً منه للبعث. فقال الله تعالى لنا: {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي: فكما خلقناه من غير شيء، وأوجدناه من عدم، كذلك نحييه بعد مماته. وهذا مثل قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] فكان الجواب {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] والرؤية بمعن العلم في هذا. أي: أولم يعلم الإنسان ذلك من حدوثه قبل أن لم يكن شيئاً. ولا يجوزك أن تكنون من رؤية البصر، لأن الإنسان لم ير نفسه وقت خلقه. والوقف على " حياً " بعيد، لأن " أولاً " معطوف، دخل عليه ألف الاستفهام للتوبيخ. وقيل: إن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. ثم هي في كل من كان

مثلهم من الكفار المنكرين للبعث. ودخلت اللام في " لسوف " للتأكيد جواباً لقول قيل للإنسان، كان النبي A قال له: (إذا ما مات لسوف تبعث حياً). فقال إنكاراً للبعث، وجواباً لما قيل له: " أئذا ما مت لسوف أبعث " فأتى باللام في الجواب، كما كانت في القول ولو كان مبتدئاً بذلك لم تدخل اللام، لأن اللام للتأكيد والإيجاب، وهو مكر للبعث، فلا يصلح دخول اللام في غير مكر لخبره، فإنما دخلت في هذا لمجازاة ما قبل له. أدخل اللام في الجواب كما دخلت في القول الذي أجاب عنه. ثم قال: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين}. أي: لنحشرن هؤلاء المنكرين للبعث مقرنين بأوليائهم من الشياطين. {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً}. أي: على ركبهم، وهو جمع جاث. وأصله جثو، مثل: قاعد وقعود، ثم أبدل من الواو ياء لأنها ظرف على ما تقدم في " مرضياً ". وقيل: " جثياً " قعوداً لا يقدرون عل القيام لشدة هول ما يرون. روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: " سمعت النبي A يقول: إنكم

[ملاقو] الله حفاة عراة مشاة عزلاً " قال ابن جبير: يحشرون حفاة عراة، فأول من يكسى خليل الله ابراهيم عليه السلام. وعن النبي A أنه قال: " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " ثم قال تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً}. أي: ثم لنأخذنّ من كل جماعة أشدهم على الرحمن عتواً وتمرداً. يعني الأكابر فالأكابر جرماً. والجبار فالجبار. والمعنى: نبدأ بتعذيب أعظمهم جرماً ثم الذي يليه ثم الذي يليه. قال مجاهد: " من كل شيعة ": من كل أمة. والشيعة: الجماعة المتعاونون على الأمر: فالتقدير: لنأخذن من كل أمة تعاونت على الكفر أشدهم كفراً ثم الذي يليه. " أيهم " رفع عند الخليل على الحكاية. أي لننزعنّ الذي يقال له من أجل عتوه أيهم أشد. ومعناه: لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى، عذب أولاً أشدهم كفراً ثم

الذي يليه. ومذهب يونس أن " لننزعن " معلق. " وأيهم " رفع بالابتداء وليس هذا الفعل مما يجوز أن يعلق عند غيره. ومذهب سيبويه أن " أيهم " مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها في الحذف، لأنك لو قلت رأيت الذي أفضل منك، ومررت بمن أفضل منك قبح، وذلك حسن في " أيهم " فخالفت أختها بحسن حذف الصلة بعدها، فبنيت على الضم. وقد خطيء سيبويه في هذا القول، لأن مذهبه أنه إنما أعرب " أيا " إذا انفردت من أجل أنها تضاف. فكيف يعربها من أجل أنها تضاف ويبينها وهي مضافة. وقال الكسائي: " لننزعن " واقع على المعنى. كم تقول: لبست من الثياب، وأكلت من الطعام. فترفع " أيهم " بالابتداء.

70

وقال الفراء: المعنى: " لننزعن " بالنداء، فيكون معنى " لننزعن ": لننادين. وهذا يتعلق، ولا يتعدى، فحسن الرفع بالابتداء، إذ هو في موضع فعل يجوز أن يعلق عن العمل. أعني " لننزعن " وقع موقع " لننادين ". ونادى/ فعل يعلق عن العمل إذا كان بعده جملة. فلا يعمل في اللفظ ويعمل في المعنى كظننت وحسبت. وقال بعض الكوفيين في " أي " معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها. وقال المبرد: " أيهم " متعلقة بشيعة لا بننزعن. والمعنى: ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم. أي: من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد. فيكون المعنى على هذا ثم لننزعن من هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصف عنهم. قوله تعالى ذكره: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} إلى قوله {فِيهَا جِثِيّاً}. أي: ثم لنحن أعلم بالذين ننزعهم من كل شيعة فيقدمهم إلى العذاب فيصلونه. " وصلياً " مصدر صلى يصلي صلياً، على فعول وأصله صلوي: ثم أعل وكسرت اللام. ثم قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً}. المعنى: وإنّ من هؤلاء القوم، الذين هذا القول المتقدم قولهم في البعث، إلا وارد

جهنم. {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}. أي: اتقوا الشرك، وأمنوا بالبعث، فهي مخصوصة فيمن تقدم ذكره على هذا القول. وقيل: هي عامة. والمعنى: ما منكم أحد إلا يرد جهنم. كان ذلك على ربك يا محمد قضاء مقضياً في أم الكتاب. وقال ابن مسعود وقتادة معناه: قضاءً واجباً. قال ابن عباس: الورود، الدخول. واحتج بقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} وبقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} وقل محتجاً للدخول: دخل هؤلاء؟ أم لا؟. وقاله ابن جريج. وقاله ابن عباس: يردها البر والفاجر. وقيل: إنهم يردونها وهي خامدة.

وعن كعب أنه قال: تمسك النار للناس كأنها متن أهالة، حتى تستوي عليها أقدام الخلق، برّهم وفاجرهم. ثم ينادي بها مناد امسكي أصحابك ودعي أصحابي. فتخسف بكل ولي لها. فلهي أعلم بهم من الرجل بولده، وخرج المؤمنون ندية ثيابهم. وقال كعب: ما بين منكبي الخازن من خزنة جهنم مسيرة سنة. وقال ابن مسعود: الورود: الدخول. وقال قتادة: هو الممر عليها. وقيل: الورود هو الجواز على الصراط. والصراط على شفير جهنم مثل حد السيف. فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة، كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم. ثم يمرون، والملائكة يقولون: اللهم سلم سلم. وعن ابن عباس، أن الورود الدخول، ولكن المخاطبة للكفار خاصة. وذلك قال عكرمة.

وقال ابن زيد: الورود عام، للمسلم والكافر، إلا أن ورود المؤمن المرور. ودل على هذا أن ابن عباس وعكرمة قرآ: وإن منهم إلا واردها يريدان الكفار برد الهاء والميم على ما تقدم من ذكر الكفار. وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب Bهما: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين} بفتح التاء. إلا أن عليا قرأ " تَنحَّى بالحاء " وكذلك قرأ ابن أبي ليلى بفتح التاء. فورود المؤمن على الجسر بين ظهريها، وورود الكافر الدخول. وعن النبي A أنه قال: " الزالون والزالات يؤمئذٍ كثيرة وقد أحاط بالجسر سماطان من الملائكة، دعواهم يومئذٍ يا الله سلم سلم ". وقال مجاهد: " الحمى حظ كل مسلم من النار. وقال أبو هريرة: " خرج رسول الله A يعود رجلاً من أصحابه وعكَ، وأنا معه.

فقال: إن الله جلّ ذكره يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة ". وقال السدي: يردونها كلهم، ثم يصدر عنها المؤمنون بأعمالهم. وروت حفصة، " أن النبي A: قال إني لأرجو أن لا يدخل أحد شهد بدراً والحديبية. قالت: فقلت: يا رسول الله، أليس الله جلّ وعزّ يقول: " وإن منكم إلا واردها؟ قال لها: أولم تسمعيه يقول: " ثم نُنَجي الذين اتقوا ". وقيل: المعنى: وإن منكم إلا وارد القيامة. وهذا اختيار الطبري ودل على هذا قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] وقوله: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. ودل على هذا أيضاً قوله تعالى/ قبل الآية " {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين}

فالحشر إنما هو في القيامة. وروى ابن وهب عن زيد بن أسلم أنه قال في تفسير الورود: " وإن منكم يا أهل هذا القول إلا وارد جهنم ". يعني: الذين أنكروا البعث فقالوا: أإذا متنا لسوف نخرج أحياء إنكاراً منهم بالبعث. وقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} أي: ننجيهم من ورودها فلا يردونها. وقيل: معناه: وإن منكم إلاّ يحضر جهنم ويعاينها، لا يدخلها إلا من وجب عليه دخولها. ودليله قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] فهو لم يدخل الماء، إنما حضر قرب الماء وعاينه، لم يدخله فكذلك هذا، يحضرون كلهم جهنم ويعاينونها وينجي الله من دخولها المتقين وهو قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}. ثم قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا}. أي: ننجي من النار بعد الورود الذين اتقوا الله وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه. ثم قال: {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} أي: وندعهم في النار بروكاً على ركبهم. كذا قال قادة. وقال: إن الناس يردون جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم فأنجوا منها، وأما الكفار فأوبقتهم أعمالهم واحتبسوا بذنوبهم. قال ابن زيد: لا يجلس الرجل جاثياً إلا عند كرب ينزل به.

73

قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات} إلى قوله: {وَأَضْعَفُ جُنداً}. المعنى: أن الكفار من قريش كانوا إذا تلا عليهم النبي A آيات القرآن، قالوا للذين آمنوا (أي الفريقين منا ومنكم خير مقاماً) أي: خير موضع إقامة، وهي مساكنهم " وأحسن ندياً " أي [مجلسا]. يتركون التفكير في آيات الله والاعتبار بها ويأخذون في التفاخر بحسن المسكن وحسن المجلس. قال ابن عباس: " المقام " المسكن. و " الندي " المجلس. يقال: ندوت القوم أندوهم ندواً، إذا جمعتهم في مجلس [واحد]. ومنه دار الندوة المتصلة بالمسجد الحرام، لأنهم كانوا يجتمعون فيها إذا كربهم أمر. ومنه قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29] ومنه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] أي أهل مجلسه. ويقال: هو في ندي قومه، وفي ناديهم بمعنى: مجلسهم وندي: جمع أندية. ثم قالت تعالى ذكره: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}. أي: وكثيراً يا محمد أهلكنا من القرون هم أحسن أثاثاً ورِئْيا قبل هؤلاء القائلين للمؤمنين: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً. قال ابن عباس: " الأثاث ": المتاع. " والرئي: المنظر. أي: أحسن متاعاً وأحسن مرئى ومنظراً من هؤلاء فأهلك الله أموالهم،

وأفسد صورهم وكذلك قال ابن زيد ومجاهد: " الأثاث: المتاع و " الرئي ": المنظر. وقال معمر: أحسن أثاثاً: أحسن صوراً. ورئياً: أموالاً. وروي عن ابن عباس: " أحسن أثاثاً وزياً " بالزاي. وقرأ طلحة " ورياً " خفيفة الياء من غير همز. ومن شدد الياء، جعله من رأيت، ولكن خفف الهمزة، فأبدل وأدغم. ويجوز أن يكون من رويت روية ورياء فيكون معناه أيضاً منظراً، لأن العرب تقول: ما أحسن روية فلان في هذا الأمر؟. . إذا كان حسن النظر فيه، والمعرفة به. ويجوز أن يكون من ري الشارب. فيكون المعنى أن جلودهم مرتوية من النعمة.

وأجاز الأخفش أن يكون من ري المنظر. ومن همز جعله من رؤية العين. " والأثاث " جمع واحدة أثاثه كالحمام والسحاب. هذا مذهب الأخفش. وقال الفراء: لا واحد له كالمتاع. ثم قال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً}. أي: قل يا محمد لهؤلاء القائلين - إذا تتلى عليهم آياتنا بينات - أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً من كان من ومنكم في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً. فهو لفظأ مر، ومعناه الخير. جعل الله جزاء ضلالته في الدنيا أن يطول فيها، ويمد له كما قال تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر، كأن المتكلم يلزمه نفسه، كأنه يقول: أفعل ذلك وآمر نفسي به، فهو أبلغ. فلذلك أتى به على الخبر. ومعناه: فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر، فإن مصيره إلى الموت والعذاب.

قال ابن نجيح معناه: فليدعه في طغيانه. ثم قال تعالى: {/حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب}. يعني به النصر، فيعذبوا بالقتل والسبي. " وإما الساعة " يعني يوم القيامة، فيصيرون إلى النار. و " إما " للتخيير. وهي عند المبرد إن زيدت عليها " ما ". واستدل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر، جاز له حذف " ما ". وليست عند غيره إلا حرفاً واحداً. ولم يختلفوا فيها في العطف أنها حرف واحد. وقال أبو العباس: إذا قلت ضرب ما زيداً وإما عمراً، فالأولى دخلت لبنية الكلام على الشك، والثانية للعطف. وقال ابن كيسان: " أما ": للشك والتخيير، والواو هي العاطفة. وأجاز الكسائي: إما زيد قائم على النفي يجعل " إما " بمنزلة " ما ". وأجاز الفراء أن تأتي " إما " مفردة بمنزلة " أو ". قوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً}.

76

أي: مسكناً، منكم ومنهم. {وَأَضْعَفُ جُنداً} أهم؟ أم أنتم؟ يعني: إذا نصر الله المؤمنين. فأما قراءة طلحة، فإنما يجوز على تقدير. القلب وإلقاء حركة الهمزة على الياء بعد القلب. قوله تعالى: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} إلى قوله: {وَيَأْتِينَا فَرْداً}. أي: ويزيد الله المؤمنين هدى، لأنهم يؤمنون بكل ما أنزل إليهم من الفرائض، ويصدقون بها، ويعملون بها، فهم في زيادة إيمان وهذا مثل قوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}. . [التوبة: 124] الآية. وقيل: يزيدهم بإيمانهم بالناسخ والمنسوخ. وقيل: هو زيادة في اليقين يجعل جزائهم في الدنيا أن يزيدهم في يقينهم هدى. ثم قال تعالى: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً}. يعني: الأعمال الصالحات هي خير عند ربك جزاء لأهلها. {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} عليهم من مقامات هؤلاء المشركين في أنديتهم، وافتخارهم بها

في الدنيا. وقد تقدم ذكر الباقيات الصالحات، واختلاف العلماء في معناها في " الكهف ". وقد قيل: " الباقيات الصالحات " الإيمان والأعمال الصالحة وسماها باقية، لأنها تنفع أهلها في الدنيا والآخرة ولا تبطل كأعمال الكفار الذين لا يريدون بها ما عند الله. وروي " أن النبي A جلس ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه، ثم قال: إن لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله يحططن الخطايا كما تحط ورق الشجر الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك بينهن، هن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة. فكان أبو الدرداء، إذا ذكر هذا الحديث قال: لأهللن الله، ولأكبرن الله، ولأسبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون ". وإنما سميت هذه الكلمات بالباقيات الصالحات لأنها تبقى لأهلها حتى يردوا عليها في الجنة.

وروى أبو هريرة " أن النبي A قال: خذوا جنتكم خذوا جنتكم فقالوا: يا رسول الله، أمن عدو قد حضر؟ قال: لا، ولكن من النار. قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومنجيات، هن الباقيات الصالحات ". ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً}. هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي. قال خباب: كنت قينا - والقين الحداد - قال: وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد A. قلت: والكله لا أكفر بمحمد A حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث؟ قلت: نعم. قال: فإنه سكون لي ثم مال وولد، فأقضيك. فأنزل الله جل ثناؤه {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا. . .} الآيات إلى

{. . . فَرْداً}. وكذلك قال مجاهد: وقال ابن عباس: كان رجال من أصحاب النبي A يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين، فأتوا يتقاضونه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة فضة وذهباً وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى. قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، فضرب الله تعالى مثله في القرآن في قوله: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا}. إلى {فَرْداً}. ثم قال تعالى: {أَطَّلَعَ الغيب أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً}. أي: اعلم هذا القائل الغيب فقال ذلك عن علم/ غيب عنده؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟ أي: أم آمن بالله ورسوله وعمل بطاعته فكان له بذلك عهد عن الله فؤتيه ما يقوله له في الآخرة؟. قال قتادة: " عهداً " عملاً صالحاً قدمه. وقاله: سفيان.

وقيل: " العهد " التوحيد: " لا إله إلا الله ". وقيل: " العهد: الوعد. وقال عبد الله بن عمر: يقول الله تعالى يوم القيامة: من كان له عندي عهد، فليقم، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، فعلّمنا. فقال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك عهداً في هذه الحياة الدنيا، إنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحتمك، فاجعلها لي عندك عهداً تؤديه إلى ايوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. ثم قال تعالى: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} المعنى: ليس الأمر كما قال أنه يؤتى في القيامة مالاً وولداً. قال أبو محمد ول " كلا " كتاب مفرد في القرآن، قد ألفناه وكتب عنا، ولذلك لم نشبع الكلام فيها ها هنا.

ثم قال: {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}. أي: سنكتب قوله، فنجازيه عليه، فنمد له من العذاب مداً. أي: نزيده زيادة من العذاب على قوله هذا. أي: نطول له العذاب غير ماله من العذاب على كفره. ثم قال: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}. أي: نرث منه ماله وولده يوم القيامة {وَيَأْتِينَا فَرْداً} أي: وحده لا مال له، ولا ولد. وقوله: " ونرثه " هو، فعل من فعل يفعل بالكسر فيهما، كما جاء بالضم في الفعلين في مثل: ظرُف يظرُف. ونظيره: ورم يرم وومق يمق، ووري الزنديري، ووفق بأمره يفق، وورع يرع ووثق، يثق، ومنه وسع يسع ووطيء يطأ. وإنما فتح من أجل حرف الحلق، والدليل على أنه يفعل بالكسر في الأصل، حذف الواو منه في المستقبل. وبعدها فتحة، ولم يعتد بالفتحة، إذ هي غير أصلية، إنما أحدثها

81

حرف الحلق، والكسر هو الأصل، فلذلك حذفت الواو في المستقبل على أصل حذفها في: يزن، ويعد وشبهه. وقد أتت أربعة أفعال من السالم على يفعَل ويفعِل باللغتين في المستقبل وهي حسب يحسب، ونعم ينعم، ويبس يبس ويئس ييسأس. وحرف الجر، مقدر محذوف من المفعول الأول في " ونرثه " أي ونرث منه قوله. وفي حرف ابن مسعود، و " نَرِثُهُ ما عِنْدَهُ ". وقال ابن زيد: " وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ " ما جمع من الدنيا، وما عمل فيها. وقيل: معناه: ويبقى عليه الإثم. قوله تعالى ذكره: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} إلى قوله: {عِندَ الرحمن عَهْداً}. المعنى: واتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة يعبدونها، لتكون لهم منعة من

عذاب الله. ومعنى: " كلا " أي: ليس الأمر على ذلك، لا تمنعهم من عذاب الله. ثم قال: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ}. أي: ستجحد الآلهة يوم القيامة عبادتهم لها. وهو قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] فتبرؤها منهم هو جحدها لعبادتهم إياها. ثم قال: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}. قال ابن عباس: " ضداً ": أعوانا. يعين على عذابهم. وقال مجاهد: عوناً عليهم، تخاصمهم وتكذيبهم. قال قتادة: " ضداً " قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض. وقال الضحاك: " ضداً " أعداء.

وقال ابن زيد: معناه: ويكونون عليهم بلاء. وقيل: معناه أن آلهتهم التي عبدوها من دون الله [يوم القيامة] تلعهنم وتدعو عليهم، لأنهم عبدوا الملائكة، فهي تلعنهم وتتبرأ منهم. وقيل: بل هي الأصنام يحييها الله تعالى [لهم] يوم القيامة لتوبخهم وتكذبهم. " والضد " في كلام العرب " المخالف ". ووحد " ضد لأنه في معن عوناً. وعون مصدر، فلذلك لم يجمع. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}. أي: تزعجهم على المعاصي، وتقودهم إليها قياداً، وتغويهم بها. وقال ابن عباس: تغويهم أغواء. وقال ابن زيد: تشليهم إشلاء على المعاصي. ومنه أزيز القدر، وهو صوت غليانها. وهذا يؤكد تحقيق القدر. ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أي: فلا تعجل يا محمد، على

هؤلاء الكافرين بطلب العذاب لهم والهلاك، إنما نعد أعمالهم وأنفاسهم لنجازيهم على جميعها ولم نترك تعجيل هلاكهم لخير نريده بهم، ولكن ليزدادوا إثماً. قال ابن عباس: " إنما نعد لهم عداً " يعني نعد أنفاسهم في الدنيا كما نعد سنيهم وآجالهم. ثم قال تعالى: / {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً}. التقدير: إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها يوم نحشر المتقين. فالعامل في " يوم " ما دل عليه الكلام الأول وهو " نجازيهم " يوم كذا. ومعنى الآية: يوم يجمع الله الذين اتقوا في الدنيا، وخافوا عقابه إلى جاء الرحمن ووعده. " وفداً هو بمعنى جمع وافد، ونصبه على الحال، ووحد لأنه مصدر، " والوفد ": " الركبان. قال علي رضي الله عه: أما والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقاً، ولكنهم يوتون بنوق، ولم تر الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، أزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة. وقال أبو هرية: " وفداً " على الإبل.

وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة: " أن النبي A قال: يبعث الله الأنبياء يوم القيامة إذا حشروا، على الدواب، ويبعث صالح نبي الله على ناقته، حتى يوافوا بالمؤمنين من أصحابهم المحشر، ويبعث أبنائي الحسن والحسين على ناقتي العضباء والقصواء وأبعث أنا على البراق، وخطوها عند أقصى طرفها. ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي بالأذان، غضا، حتى إذا بلغ. أشهد أن محمداً رسول الله، شهد بها جميع الخلائق من المؤمنين والكافرين، فيقبل ذلك من المؤمنين، ويرد على غيرهم من أهل الشك والتكذيب ". وقيل: معنى " وفداً " أي: وافدين على ما تحبون. من كان يحب ركوب الخيل، وفد على الله على خيل لا تروث، ولا تبول، لجمها من الياقوت الأحمر، ومن الزبرجد الأخضر ومن الدر الأبيض، وسرجها من السندس والاستبرق. من كان يجب الإبل، فعلى نجائب لا تبعر ولا تبول، أزمتها الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب السفن،

فعلى سفن من زبرجد أخضر، وأمواج مثل ما بين السماء والأرض قد أمنوا الغرق والأهوال. وروى عمرو بن قيس الملائي أن المؤمن إذاخرج من قبره، استقبله أحسن صورة وأطيبه ريحاً. فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله D قد طيب ريحك، وحسن صورتك، فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك، فاركبني أنت اليوم، وتلا {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً}. قال قتادة: " وفداً " إلى الجنة. وقال ابن جريح: على النجائب. وقال الثوري: على الإبل والنوق. وفي هذا الخبر إيماء إلى الجزاء والثواب، لأن الوفد هم الواردون على الملوك، المنتظرون العطاء والبر والإكرام منهم. ورويَ أن المؤمن يستقبله عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبه

ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلا أن الله تبارك وتعالى [قد] طيب ريحك، وحسن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، هكذا كنت في الدنيا حسن العمل، طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلّما اركبني، فيركبه. فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} قال: ويستقبل الكافر أو قال الفاجر عند خروجه من قبره أقبح صورة رآها، وأنتنها ريحاً فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفين؟ فيقول: لا، إلا أن الله تبارك وتعالى قد قبح وجهك، وأنتن ريحك. فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا فهلمّ أركبك، فيركبه، فذلك قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31]. ثم قال تعالى ذكره: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً}. أي: عطاشاً، قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وقتادة والثوري. فيكون تقديره: ذي ورد يقال للواردين الماء ورد وروداً، مصدر وصف به الجمع، فلذلك لم يجمع. وروى المقدام بن معد يكرب: " أن النبي A قال: يحشر المؤمنون يوم القيامة

فيحشر السقط إلى الشيخ الفاني أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في مثل خلق آدم، وحسن يوسف وقلب أيوب، مرداء مكحلين، فسئل النبي A عن الكافر فقال: يعظم للنار حتى يصبر غلظ جلده أربعون ذراعاً وحتى يصير ناب من أنيابه مثل أحد ". ثم قال تعالى {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً}. أي: لا يملك أحد من المجرمين الشفاعة لأحد، لكن من اتخذ عندج الرحمن عهداً بالإيمان، فإنه يملك الشفاعة. ف " من " في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وقيل: هي في موضع رفع على البدل من الضمير في " يملكون ". فيكون التقدير: لا يملك الشفاعة إلا المؤمنون، فإنهم يشفعون. وقيل: التقدير: لا يملك أحد من المتقين الشفاعة إلا لمن اتخذ عند الرحمن عهداً، أي: من آمن في الدنيا، فلما حذفت اللام، صارت " من " في موضع نصب. وقال ابن عباس: " العهد " شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحلول والقوة، ولا يرجو إلا الله.

88

وقال ابن جريج: " عهد " عمل صالح. وقال الليث: " العهد " حفظ كتاب الله. وقال مقاتل: " عهداً صلاة. وروي عن النبي A أنه قال: " إن الشهيد ليشفع في سبعين من أهل بيته ". وأنه قال: " إن من أمتي رجلاً ليدخلن الله بشفاعته الجنة أكثر من بني تميم ". وقال A: " إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ". فيكون قوله: " لا يملكون ". . ومابعده. في موضع نصب حال من المجرمين، أو من المتقين. قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} إلى قوله:

{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً}. معناه: وقال هؤلاء الكفار بالله: اتخذ الرحمن ولداً، فقال لهم جلّ ذكره: {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً}. أي: عظيماً. أي: قلتم قولاً عظيماً. قاله: ابن عباس ومجاهد وقتادة. ويقال: أد واد واد على فاعل بمعنى واحد. ثم قال تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}. أيك يتشققن مما قلتم. {وَتَنشَقُّ الأرض} أي: تتصدع. {وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} أي: يسبقط بعضها على بعض سقوطاً. وقال ابن عباس: " هداً " هدمً. والهد الأنقاض. وقال ابن عباس: إن الشرك فزعت منه السماوات، والأرض، والجبال، وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكدن أن يزلن منه لعظمة الله. وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين مع التوحيد.

قال القرظي: لقد كاد عباد الله أن يقيموا علينا الساعة. وقال النبي A: " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله. ومن قالها عند موته وجبت له الجنة، قالوا: يا رسول الله، فمن قالها في صحته؟ مقال: تلك أوجب وأوجب. ثم قال: والذي نفسي بيده، لو جيء بالسموات والأرض وما فيهن وما بينهن، وما تحتهن، فوضعن في كفة الميزان، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى، لرجحت بهن ". قال كعب: غضبت الملائكة، واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا. ثم قال تعالى جل ثناؤه: {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً}. أي: من أجل أهم جعلوا له ولداً. قال أبو ذؤيب: " دعوا " بمعنى " جعلوا. ثم قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}. أي ما يصلح له أن يتخذ ولداً، لأن كل ولد يشبه أباه، والله لا يشبهه شيء. ثم قال: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً}. أي: إلا هو عبد الكله، خاضعاً، ذليلاً.

وهذه الآية تدل على أن الرجل لا يملك، ولده، فإذا صار إليه بشراء أو إرث أو هدية عتق عليه، إن شاء أو أبى. ومعنى: {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} أن الرحمن لا شبيه له، والولد يشبه والده ومن جنسه يكون. فلو كان له ولد لأشبهه، ولكان من جنسه، وهو لا شبيه له وإلا مثل، فهذا أمر لا يتمكن، ولا ينبغي أن يكمون، فهو مستحيل ممتنع سبحانه لا إله إلا هو. ثم قال: {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً}. أي: علمهم، وعدهم أجمعين، فلا يخفى عليه مبلغ جميعهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً}. أي: جميع الخلائق يعرضون على الله يوم القيامة منفردين، لا ناصر لأحد منهم، فيقضي الله فيهم ما هو قاض. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً}. أي: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم، وانتهوا عما نهاهم، سيجعل لهم/ الرحمن في الدنيا في صدور عباده المؤمنين محبة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: يحبهم ويحببهم إلى المؤمنين، وكذا قال ابن جبير عن ابن عباس.

وكان هرم بن حيان يقول: ما أقبل بقلبه إلى الله D، إلا أقبل الله تعالى بقلوب المؤمنين إليه حتى يزرقه مودتهم ومحبتهم. وكان عثمان بن عفان Bهـ يقول: " ما من الناس أحد يبذل خيراً أو شراً، إلا كساه الله رداء عمله. ويروى أن هذه الآية نزلت في عبد الحرمن بن عوف، وذلك أنه لما هاجر إلى المدينة، وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة، فأنزل الله جل وعز، الآية يعزّيه بها ويخبره أنه سيحدث له في قلوب المؤمنين الذين هاجر إليهم محبة. وقيل: إن الله تعالى جعل [له] في قلوب المؤمنين محبة، فلا ترى مؤمناً إلا يحبه.

97

قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} إلى آخر السورة. فإنما سلهنا يا محمد، هذا القرآن بلسانك، وبلغتتك لتبشر به من آمن وتنذر من كفر من قومك. ومعنى: {قَوْماً لُّدّاً} أي: أشداء في الخصومة، لا يقبلون الحق. قال ابن عباس: " قَوْماً لُدّاً " أي: ظلمة. وقال أبو صالح: لداً: عوجاً ع الحق. وقال مجاهد: اللّد ": الظالم الذي لا يستقيم. وقال قتادة: " لداً " جدلاً بالباطل. وقال حسن: " لدا " صماً ". وقال أبو عبيدة: " اللّد " الذي لا يقبل الحق، ويدعي الباطل. وعن مجاهد: " قوماً لداً " فجاراً. ثم قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}. أي: وكثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين، بلسوكهمه مسلك قومك في الكفر والخصومة في الدين. {تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ}.

أي: هل ترى منهم من أحد أو تعاينه {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً}. أي: صوتاً. بل بادوا وهلكوا، ولقوا ما عملوا، وكذلك، قومك يا محمد صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن ماتوا على ما هم عليه من الكفر، يقال: أحسست فلاناً: أبصرته، وحسسته أحسه قتلته. قال قتادة: معناه: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً. والرِكْز في كلام العرب الصوت الخفي.

طه

بسم الله الرحمن الرحيم سورة طه (مكية) قوله تعالى ذكره: {طه * مَآ أَنَزَلْنَا} إلى قوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى}. قد قدمت علة الإمالة في هذه الحروف في أول " مريم ". وأتى أول هذه السورة على غير ترتيب أوائل السور، لأن جميع أوائل السور يحتمل أن يكون ما بعدها خبراً لها، ولا يجوز أن يكون ما بعد " طه " خبراً لها، لأنه نفي، فلذلك تأولوه بمعنى " يا رجل " و " يا إنسان ". وقيل: هو أمر من وطيء. وروي عن بعضهم أنه قرأ " طه " بإسكان الهاء. وهي قراءة مروية عن الحسن وعكرمة، وفيها تقديران أحدهما أنه أراد الأمر من وطيء. أي: طأ الأرض. ولكن أبدل من الهزة هاء، كما قالوا: إياك وهياك. وقيل: إنه إبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذف الألف لدلالة الفتح عليها، وأتى بهاء للسكت.

وقيل: الهاء هاء الكناية عن المكان. أي: طأ يا محمد المكان الذي تصلي فيه برجليك، ولا تقف على رجل واحدة، فتتعب. ودل على هذا المعنى قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} فأسكنت هاء الكناية على نية الوقف، أو على التشبيه بهاء السكت. وقد قيل: إن الهاء في قراءة الجماعة تعود على الأرض، أي: طأ الأرض يا محمد برجليك في صلاتك، والألف في طأ بدل من همزة ساكنة. ومن قرأ " طه " بحذف الألف، وإسكان الهاء فهو أمر بالوطء لكنه أبدل من الهمزة ألفاً قبل الأمر، ثم حذف الألف للأمر، والهاء تعود على المكان على ما ذكرنا، أو هي هاء سكت كما ذكرنا، أو هي بدل من همزة ساكنة على ما قدمنا، فهذه ثلاثة أقوال في الهاء في قراءة من قرأ " طه " بحذف الألف، وإسكان الهاء، وروي عن النبي A أنه قال: " لي عند ربي جلّ وعزّ عشرة أسماء " " فذكر أن منها " طه " و " يس " إسمان له.

قال ابن عباس: " طه " بالنبطية: يا رجل. وهو قول الضحاك. وقال أبو صالح: هي بالنبطية أيطأ. وقال ابن جبير: طه بالسريانية: يا رجل. وهو قول قتادة. وقال عكرمة: " طه " بالنبطية: يا إنسان. وعن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم [الله به]. وهذه الآية نزلت فيما كان النبي A يصعنه من السهر والتعب والقيام بالليل. قال الضحاك: كانوا يقومون حتى تتشقق، أقدامهم، فقال المشركون: ما نزل هذا القرآن إلا للشقاء، فأنزل الله تعالى ذكره: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى}.

أي: ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى. وقيل: كان النبي A يتعب في صلاته، ويقف على رجل واحدة، فأنزل الله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى}. قال مجاهد: هذا في الصلاة. قال: هي مثل قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]. قال قتادة: " أنزل الله كتابه، وبعث رسوله رحمة، رحم بها الله العباد، ليتذكروا، وينتفع رجل بما سمع منه. ونصب تذكرة على البدل من " لتشقى ". وقيل: هي مفعول من أجله. وقيل " نصبها على المصدر. وقال الكوفيون: هي تكرير. وقيل: من حروف الهجاء. وقيل: هي حروف مقطعة، يدل كل حرف منها على معنى، وقد تقدم ذكر ذلك.

وقال الطبري: " طه " يا رجل، لغة معروفة في عك. قال الشاعر: هَتَفْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوائِلاَ وقال آخر: إنَّ السًَّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقِكُمْ ... لا بارَكَ اللهُ في الْقَوْمِ الملاَعِينِ والتقدير على هذا: يا رجل، ما أنزلن عليك القرآن لتشقى بإنزاله عليك. ولا يوقف على " طه " على هذا القول، لأن النداء تنبيه على ما بعده. ومن جعلها افتتاحاً وقف عليها، وهو مذهب أبي حاتم. ثم ابتدأ فخاطب النبي A بقوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} وكذلك لا يقف عليها على قول من جعلها قسماً، لأن القسم يحتاج إلى جواب، وجوابه: {مَآ أَنَزَلْنَا}. وأجاز أبو حاتم الوقف على " طا " ويبتدئ ها. وليس عليه عمل عند أهل النقل من المقرئين. وقيل: تقدير الكلام: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، لا لتشقى.

ثم قال تعالى: {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى}. أي: نزلناه تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى. " والعلى " جمع " علياً ": كالفضلى. والفضل. ثم قال: {الرحمن عَلَى العرش استوى}. أي: على عرشه، ارتفع وعلا. قال أبو عبيدة: استوى: " علا. وقال القتبي: استقر. وقيل: معناها: استولى. وأحسن الأقوال في هذه " علا " والذي يعتقده أهل السنة، ويقولونه في هذا: إن الله جلّ ذكره، سماواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل م كان بعلمه، وله تعالى ذكره كرسي وسع السماوات والأرض كما قال جل ذكره. وكذلك ذكر شيخنا أبو محمد بن أبي زيد C.

وقد سأل رجل مالكاً عن هذا، فقال له: كيف استوى؟ فاحمرت وجنتا مالك، وطأطأ رأسه، ثم رفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيما به واجب والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن يكون ضالاً. أخرجوه، فأخرج، فناداه الرجل، يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله غيره، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل العراق، إلى أن وردت عليك، فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له. وروي أن خباب بن الأرت قرأ " طه " على عمر بن الخطاب إلى قوله: " فتردى " فأسلم عمر عند ذلك. و" العلى " تمام إن رفعت " الرحمن على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ، فإن جهلته بدلاً من الضمير في " خلق " لم تقف عليه. و" أستوى " تمام إن جعلت " الرحمن " بدلاً من الضمير في " خلق " أو على إضمار مبتدأ، فإن جعلت " له ما في السموات " في موضع خبر الرحمن، لم تقف على استوى. ثم قال: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا}. أي: هو يملك ذلك كله ويدبره/.

وقوله: {وَمَا تَحْتَ الثرى}: الثرى: التراب المبتل الندي يعني: وما تحت الأرضين السبع. وقال محمد بن كعب: الثرى: سبع أرضين. وقال ابن عباس: الأرض على نون، ونون على البحر، والبحر على صخرة وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات} [لقمان: 16] والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، وما يعلم ما تحت الثرى إلا الله. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضين سبعة بين كل أرضين بحر، فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم، ولولا عظم ذلك البحر، وكثرة مائة وبرده، لأحرقت جهنم كل شيء فوقها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من ظلمة لا يعلم غلظه إلا الله، وذلك الحجاب على الثرى، وإلى الثرى انتهى علم الخلائق، لا يعلك ما تحت الثرى إلا الله. وقال الضحاك: الأرض السابعة على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله.

وسئل كعب ما تحت الأرض؟ قال ماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال أرض. قيل فما تحت الأرض؟ قال: ماء، حتى بلغ سبع أرضين. قيل: له: لما تحت الأرض السابعة. قال: ماء. قيل فما حت الماء. قال صخرة، قيل فما تحت الصخرة؟ قال: هي على منكب ملك. قيل: فما تحت الملك؟ قال: هو قائم على وسط حوت معلق طرفاه بالعرش. قيل له: فما تحت الحوت قال: هواء وظلمات وانقطع العلم. وروى ابن وهب عن رجاله أن كعب الأحبار قال: إن إبليس يقلقل للحوت الذي على ظهره الأرض كلها. قال: فألقى في قلبه. فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوبيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال، لو هضتهم فألقيتهم عن ظهرك كلهم. قال: فهم لوبيا يفعل ذلك، فبعث الله تعالى دابة، فدخلت في منخره حتى دخلت في دماغه فعج إلى الله منها، فخرجت. قال: وكان كعب يقول: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها، بين يديه وتنظر إليه، إن همَّ بشيء من ذلك عادت حيث كانت. وروى عاصم عن زر عن ابن مسعود أنه قال: ما بين سماء الدنيا والتي تليها

7

مسيرة خمس مائة عام، وما بين سماء إلى سماء مسيرة خمس مائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسة مائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء مسيرة خمس مائة عام، والعرش فوق ذلك، والله جل ذكره فوق العرِِش. وعن ابن عباس: أيضاً أنه قال: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام، وذكر أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب. قوله تعالى: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى}. أي: وإن تجهر بالقول يا محمد، فإن الله تعالى يعلم ما أسررت في نفسك، وأخفى منه. قال الحسن ومجاهد وعكرمة: " السر ": ما أسررته إلى غيرك، " وأخفى " ما حدثت به نفسك. وقال الضحاك: " السر " ما حدثت به نفسك، و " أخفى " ما لم تفعله وأنت فاعله "، وكذلك، روي عن ابن عباس. قال ابن عباس: و " أخفى " ما تعمل غداً.

وقال ابن جبير: " السر ": ما أسره الإنسان في نفسه، " وأخفى ": ما لم يعلم الإنسان مما هو كائن. وقيل: معنى: " وآخفى ": ما ليس في نفس الإنسان. وسيكومن ذلك في نفسه، فهو لا إله إلا هو يعلم ما سيجري في نفس الإنسان قبل أن تجري. وقال ابن زيد: " يعلم السر " أسرار العباد وأخفى سره. وقاله أبوه زيد بن أسلم. أي: يعلم سر عباده، وأخفى سره، فلا يعلمه أحد جلّ وعزّ، وهذا اختيار النحاس. وأنكر هذا القول الطبري. وقوله: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى}، أتى على غير ظاهر، جواب قوله: " وإن تجهر بالقول، إنما هو جواب لمن قيل له وأن تستر بالقول، فإن الله يعلم السر وأخفى، ولكنه محمول على المعنى، كأنه قال: ما حاجتك إلى الجهر، والله يعلم السر وأخفى من السر. ثم قال: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى}. من جعل الله بدلاً من الضمير في " يعلم " لم يقف على " أخفى "، ومن جعله مبتدأ، وقف على أخفى.

أي: معبودكم واحد، لا معبود غيره، ولا إله إلا هو {لَهُ الأسمآء الحسنى} /. هي تسعة وتسعون أسماً على ما روي عن النبي A، وفي ألفاضها اختلاف. قال النبي A: " لله تسعة وتسعون اسماً: مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة " أي: من حفظها. وقيل: من آمن بها. وقيل: من قالها معتقداً لصحتها. ثم قال تعالى ذكره {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} {إِذْ رَأَى نَاراً}. معناه: أن الله يخبر نبيه A بما مضى من أخبار الأنبياء عليهم السلام قبله، وما مضى عليهم ليتعزى بذلك مما يناله من قريش. ذكر: أن موسى عليه السلام أضل الطريق في شتاء ليلاً، فلما رأى ضوء النار، قال لأهله: امثكوا لعلي أتكيم بخبر نهتدي به على الطريق أو آتيكم بقبس توقدونه في هذا البرد. قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل، سار بأهله فضل الطريق. قال وهب بن منبه: لما قضى موسى الأجل. خرج ومعه غنم له، ومعه زندله وعصاه في يده، يهش بها على غنمه نهاراً، وإذا أمسى اقتدح ناراً فبات عليها وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بغنمه وبأهله يتوكأ على عصاه، فلما كان الليلة التي أراد الله

11

جلّ وعزّ بموسى كرامته، وابتدأه فيها بنبوته، أخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليبيتوا عليها ويصبح ويعلم وجه سبيله، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها. {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً}، أي أبصرتها، لعلي آتيكم منها. . . الآية. .. وقيل: معنى: " آنست " علمت ووجدت. و" القبس " النار في طرف العود أو قصبة. {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى}. أي: دلالة تدلني على الطريق، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: " هدى " أي: هادياً يهدي إلى الطريق. وقال وهب: " أو أجد على النار هدى " أي: علماً من أعلام الطريق يدلني عليه. قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى * إني أَنَاْ رَبُّكَ} إلى قوله: {بِمَا تسعى}. أي: فلما أتى النار موسى، ناداه ربه: يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك. قال وهب: خرج موسى نحو النار، فإذا هي في شجرة من العليق. (وبعض

أهل الكتاب يقول في عوسجه] فلما دنا، استأخرت عنه، فلما رأى تأخرها عنه، رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد أن يرجع دنت منه ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت، استأنس فقال له الله {فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} فخلعهما وألقاهما. قال كعب: " كانتا من جلد حمار ميت، فأمر بخلعهما، وأراد الله أن يمسه القدس، وكذلك قال عكرمة وقتادة. وكذلك روي عن النبي A أنه قال: " كانت على موسى يوم كلّمه الله جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلاه من جلد حمار غير ذكي ". وقال الحسن: كانتا من جلد بقر، ولكن الله تعالى أراد أن يباشر بقدميه بركة الأرض. وكان قد قدس الوادي مرتين. وكذلك قال ابن جريج. وهذا القول اختيار الطبري، لأن الحديث لم يصح عن النبي A أنهما من جلد حمار غير ذكي. وقوله: {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى}. أي: المطهر.

وقال ابن عباس: " المقدس ": المبارك. وقال مجاهد: {المقدس طُوًى}: بورك فيه مرتين. ويروى أن موسى A لما خرج من مدين ومعه امرأته بنت شعيب ريد مصر أخطأ الطريق، وكان A رجلاً غيوراً، فكان يصحب الناس بالليل، ولا يصحبهم بالنهار، فأخطأ الطريق عند انفراده لما سبق في علم الله من أمره. فرأى ناراً. فقال لأهله امكثوا، إني أبصرت ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. أي: من يهديني إلى الطريق، وكانت ليلة مظلمة، فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجر عناب، فوقف متعجباً من ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة. فلا شدة النار تغيّر خضرة تلك الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة يغيّر حسن ضوء النار. فلما أتى الشجرة سمع النداء، يا موسى، إني أنا ربك، فاخلع نعليك، وكانتا من جلد حمار ميت. وقال ابن عباس/: في معنى " طوى " أن موسى طواه الليل إذا مر به فارتفع إلى

أعلى الوادي. فيكون على هذا مصدراً عمل فيه ما هو من غير لفظه. كأنه قال: إنك يا موسى بالواد الذي طويته طوى: أي: تجاوزته فطويته بسيرك. وقال قتادة: معناه: قدس مرتين، أين طهره وهو قول الحسن. وقال مجاهد وابن أبي نجيج: " طوى " اسم الوادي. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس. وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس: أنه أمر من الله تعالى لموسى أن يطأ الوادي بقدمه. فالمعنى: اخلع نعليك. طأ الوادي. وقال ابن جبير: معنه: طأ الأرض حافياً كما تدخل الكعبة حافياً. وكذلك روي أيضاً عن مجاهد. ومن فتح الهمزة في " إني أنا " فعلى تقدير: " نودي بأني ". ومن كسرها فعلى الاستئناف، لأن النداء وقع على موسى فاستؤنفت " إن بعده، فكسرت.

وقيل: كسرت لأنها حكاية بعدها. معناه: القول، لأن نؤدي مثل قيل. ومن صرف " طوى " جعله اسما للوادي مذكراً، فصرفه، وجعله مصدراً. والأكثر في المصدر من هذا أن يكون مكسور الأول مثل ثنى. ومن لم يصرفه جعله اسماً للبقعة. وقيل: هو معدول عن طاوي. كعمر، معدول عن عامر، وقد ذهب الكسائي في صرفه إلى أنه صرف لخفته. وكان حقه ألا ينصرف. ولكن سمع صرفه من العرب. وعلقة صرفه قلة حروفه وخفته. ثم قال تعالى ذكره: {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى}. أي: وأنا اجتبيتك لرسالتي، فاستمع لما يوحى وَعِهِ بقلبك، واعمل به. {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني}. أي: إني أنا المعبود، لا معبود غيري يستحق العبادة فاعبدني. {وَأَقِمِ الصلاة لذكري}، أي: أقم الصلاة فإنك إذا أقمتها ذكرتني. فتقديره: أقم الصلاة، لأن تذكرني بها، هذا معنى قول مجاهد. وقيل: معناه: أقم الصلاة حين تذكرها.

ورو ى أبو هريرة أن النبي A قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها "، قال الله D: { وَأَقِمِ الصلاة لذكري} وزاد فيه قتادة " لا كفارة لها إلا ذلك ". وقيل: المعنى: أقم الصلاة لأن أذكرها بالمدح. وقيل: المعنى: أقم الصلاة إذا ذكرتني. وقيل: المعنى: أقم الصلاة لتذكرني فيها. وشاهده أن ابن عباس وأبا عبد الرحمن السلمي قرآ: {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} بلامين، مشددة الذال. أي: لتذكرني فيها. وقرأ الأعرج وأبو رجا والشعبي: " لِذِكْرَاً " أبدلوا من الياء ألفا. كما

يقال: يا غلاماً. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}. أي: إن القيامة جائية أكاد أسترها. وقال ابن عباس معناه: لا أظهر عليها غيري. وقال مجاهد وابن جبير: أكاد أخفيها من نفسي. وقاله قتادة والضحاك. وقرأ ابن جبير بفتح همزة " أخفيها ". وكذلك روى عن مجاهد والحسن، بمعنى أظهرها. يقال خفيت الشيء وأخفيته بمعنى: أظهرته. ومنه قيل للنباس المختفي، لأنه يظهر الموتى ويقال: أخفى بمعنى ستر. هذا هو المشهور في كلام العرب. وإنما حسن أن تتأول الآية في قراءة من ضم الهمزة على أخفيها من نفسي - والله لا يخفى عليه شيء - لأنه تعالى خاطب العرب ما ما تعرف، وتستعمل فيما بينها من المخاطبات. وقد كان الرجل منهم إذا تبالغ في الخبر على إخفاء شيء هو له مسر، قال: كدت أخفيه من نفسي. فخوطبوا على أبلغ ما يعقلون. وقيل: إن: " كاد " بمعنى أريد. وذلك معروف اللغة. فيكون المعنى أريد أخفيها. أي أسترها لتجزي كل نفس بما تسعى. وقيل: إن تمام الكلام " أكاد " أي: أكاد أن آتي بها، ثم ابتدأ فقال أخفيها أي: ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.

وقيل: أكاد زائدة. وهو قول الأخفش. قال ومنه قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وإنما هو لم يرها. وقيل: معنى قول من قال: معناها أكاد أخفيها من نفسي، أي من قِبلي ومن عندي. وقيل: إن المعنى أن الله تعالى قد أرسل الرسل بخبر أن الساعة آتية، وكذب بها الأمم فقال: " أكاد أخفيها " أي: أكاد لا أجعل لها دليلاً، فتأتي بغتة. فلم يخفها تعالى ذكره لأنه قد أرسل الرسل ينذرون الناس ويحذرونهم من قيامها، وإنما احتاج العلماء إلى هذه التأويلات، لأن القائل إذا قال: كدت أخفيه " كان معنى قوله: أنه أظهره، فيجب أن يكون معنى " أكاد أخفيها " أظهرها. وذلك صحيح، لأن الله D قد أظهر علاماتها وأشراطها. واختار النحاس أن يكون المعنى: أن الساعة آتية أكاد " تم الكلام أي: " أكاد آتي بها. ودل " آتية " على " آتي بها ". ثم قال " أخفيها " على الابتداء. فصح المعنى، لأنه الله تعالى قد أخفى وقتها. وقوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} اللام متعلقة بـ " آتية ".

16

وقيل: بـ {وَأَقِمِ الصلاة لذكري}. أي: لتثاب كل نفس من المكلفين بما تعمل من خير وشر. و" السعي " العمل. وأجاز أبو حاتم الوقف على " أخفيها ". ويبتدئ بلام {لتجزى} بجعلها لام قسم. وذلك غلط ظاهر. قوله تعالى ذكره: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} إلى قوله: {سِيَرتَهَا الأولى}. أي: فلا يردنك عن العمل للساعة من لا يؤمن بها. أي: من لا يؤمن بالبعث. {واتبع هَوَاهُ} أي: هوى نفسه، وخالف أمر الله. {فتردى} أي: فتهلك إن فعلت ذلك. وقيل المعنى: فلا يصدنك يا موسى، عن الإيمان بالساعة من لا يؤمن بها، وهذا خطاب لموسى عليه السلام، والمراد به الجميع. ثم قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى}. " ما " لفظها، لفظ الاستفهام، ومعناها [معنى] التنبيه والتثبيت والتقرير لما يريد الله منها من إحالتها عما هي عليه. فإذا نبهه وقرره على حقيقتها، لم يقدر بعد استحالتها وكونها حية أن تقول: كذا كانت.

وقال الزجاج: " تلك هنا موصولة بمعنى التي. أي: وما التي بيمينك. وقال الفراء: " تلك " بمعنى هذه. يوصلان كما يوصل الذي. وقوله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}. أي: اتكىء عليها في قيامي وقعودي. {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي}. أي: أضرب بها الشجر، فيسقط ورقها فترعاه الغنم. فالمعنى: وأهش بها الورق. يقال: هش الشجر. إذا خبطه بالعصا. قال ذلك قتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد. ثم قال تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى}. أي: ولي في عصاي حاجات أخرى. والمآرب جمع واحدة مأربة ومآربة ومارِبة. بضم الراء وفتحها وكسرها. وهي من قولهم: لا إرب لي في هذا. أي: لا حاجة لي فيه. وقال: " أخرى " ولم يقل " أخر ". لأن المآرب جماعة، فأتت على ذلك.

قال السدي: " حاجات أخر، أحمل عليها المزود والسقاء. ثم قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى}. أي: ألق عصاك. {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى}. قال ابن عباس: ألقاها فصارت حية تسعة، ولم تكن قبل ذلك حية. قال فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً. فنودي يا موسى، خذها فلم يأخذها. ثم نودي ثانية فلم يأخذها، ثم نودي ثالثة {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى}. أي: هيئتها الأولى، عصا كما كانت، فأخذها. وقال السدي: ألقاها فإذا هي حية تسعى، فلما رآها تهتز كأنها جان، ولّى مدبراً ولم يعقب، فنودي يا موسى، لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون. وقيل: إنما أراد الله جلَّ ذكره أن يريه الآية الكبرى من العصا لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون ولا يولي مدبراً منها كما فعل عند الشجرة. وقيل: إنها عصا آدم، نزل بها من الجنة، طولها اثنى عشر ذراعاً بذراع موسى.

22

ويروى أن العصا كانت من ورقة آس الجنة، وهي من وسط الورقة الخط الثاني في وسط ورقة الآس " والآس " الريحان وكانت من ريحان الجنة من الخط لثاني في وسط الورقة المستطيل/، فما ظنك بحسن ريحان يكون الخط الثاني في وسط ورقه [منها] عصا في طولها اثنى عشر ذراعاً. ويروى أن موسى A أمره الله أن يدخل يده في فيها فيقبض عليها، فأدخل يده في فيها وقبض عليها، فصارت يده بين الشعبتين اللتين كانتا في العصا، وصارت الحية في يده عصا على ما كانت عليه قبل ذلك؟ وكان للعصا شعبتان في رأسها، فصارت الشعبتان فم الحية، ثم عادت إلى حالتها. قوله تعالى: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} إلى قوله: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}. المعنى: واضمم يا موسى يدك، فضعها تحت عضدك. وقال مجاهد: " إلى جناحك " كفه في عضده. يقال الآخر العضد، إلى مبتدأ الإبط جناح. وقيل: أمر أن يدخل يده في ثيابه مما يلي صدره وعضده، ففعل، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع ونور.

وقال أبو عبيدة: " إلى جناحك " إلى ناحية جنبك. والجناحان الناحيتان. وقيل: " إلى جناحك " إلى صدرك، ففعل، فخرجت يده نوراً ساطعاً تضيء بالليل كضوء الشمس والقمر، فهي له آية أخرى مع العصا. أي: علامة على قدرة الله وصحة نبوته. ومعنى: {مِنْ غَيْرِ سواء} من غير برص. وقال مجاهد: كان موسى رجلاً آدم، فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء من غير سور أي من غير برص مثل الثلج، ثم ردها فخرجت كما كانت على لونه. وقوله: {آيَةً أخرى} أي: دلالة أخرى على العصا. وقوله: " بيضاء " نصب على الحال. " وآية " بدل من بيضاء عند الأخفش. وقال الزجاج: هي نصب بإضمار فعل تقديره " آتيناك آية أخرى ". وقيل: " آية " حال أيضاً، لأنه بمعنى مبينة. ثم قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى}. أي: لنريك من آياتنا العجائب. ثم قال: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}.

أي: تجاوز قدره، وتمرد على ربه. وفي الكلام حذف. والتقدير: اذهب إلى فرعون إنه طغى فادعه إلى توحيد الله وطاعته، وإرسل بني إسرائيل معك. وقوله: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي}. أي: أفسح لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك، وأجترئ به على خطاب فرعون. {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي}. أي: سهّل عليّ القيام بما كلفتني من الرسالة والطاعة. {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}. أي: واطلق لساني للمنطق. قيل: كانت في لسانه عجمة عن الكلام من أجل الجمرة التي كان ألقاها إلى فيه يوم همّ فرعون بقتله. قال ابن جبير: " عقدة من لساني " عجمة بجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون، ترد به عنه عقوبة فرعون حين أخذ موسى بلحيته، وهو لا يعقل. فقال فرعون: هذا عدو لي فقالت له امرأته: إنه لا يعقل. وكذلك قال مجاهد. وقال السدي: لما تحرك الغلام - يعني موسى A - أرته أمه آسية. فبينما هي ترضعه وتلعب به، إذ ناولته فرعون وقالت: خذه. فلما أخذه، أخذ موسى بلحيته

فنتفها. فقال فرعون: علي الذباحين. فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. إنما هو صبي لا يعقل، وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه ليس في أهل مصر أحلى مني. أنا أضع له حلياً من الياقوت وأضع له جمراً. فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمرة فإنما هو صبي فأخرجت له ياقوتاً ووضعت له طستاً من جمر، فجاء جبريل عليه السلام فطرح في يجه جمرة، فطرحها موسى A في فيه فأحرقت لسانه. فهو الذي يقول الله {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي} أي يفهموا عني ما أقول لهم، وأبلغهم عنك. ففعل الله به ما سأل. وقيل: إنه إنما زال بعض ما كان في لسانه من الحبسة ولم يزل كله بدلالة قول فرعون {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] وقد يجوز أن يكون كان هذا قبل أن يزيل الله ما كان به، ثم أزاله كله بعد ذلك. والله أعلم. وقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36]. يدل على أنه أزال عنه كل ما سأل، وأعطاه كل ما سأل. ثم قالت تعالى: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} {هَارُونَ أَخِي} /.

وكان هاون أكبر من موسى. والوزير هو الذي يلجأ إليه في الأمور. مشتق من الوزر، وهو الملجأ. والجبل وَزَرْ. وقيل: " الوزير " الذي يتقلد خزائن الملك وأمتعته. فيكون مشتقاص من الوزار، وهي الأمتعة، ومن قوله: {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم} أي: آنية الفضة والذهب. وقيل: " الوزير ": الذي يتحمل أثقال الملك، ومنه قيل للذنب: وزره، فمعنى: {واجعل لِّي وَزِيراً} أي: صاحباً ألجأ إليه وأعتمد عليه. وقوله: {اشدد بِهِ أَزْرِي}. أي: ظهري: وقيل للظهر أزر، لأنه محل الأوزار. وقوله: {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي}. أي: اجعله نبياً مثلي، وارسله إلى فرعون معي. هذا على قراءة من جعله كله طلباً بفتح همزة " وأشركه "، فأما من جعله جواباً للطلب، وضم الهمزة، فمعناه: أن يجعل لي وزيراً أشدد أنا به ظهري وأشركه أنا في أمري. ثم قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً}: نعظمك بالتسبيح. {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}، فنحمدك. {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي: كنت بنا ذا بصر منا، لا يخفى عليك من أفعالنا شيء. وقيل: المعنى: إنك كنت عالماً بما يصلحنا.

36

وروى زيد بن أسلم أن نبي الله A موسى قال: " يا رب، قد أنعمت عليّ كثيراً، فدلني على أن أشكرك. قال: اذكرني كثيراً فإنك إذا ذكرتني فقد شكرتني. وإذا نسيتني فقد كفرتني. قال: لي مواطن ينبغي أن أذكرك فيه. قال: اذكرني كثيراً. قال: فكان موسى عليه السلام إذا ادخل الغائط، قال: سبحانك ربي كما توقني الأذى " من رواية ابن وهب. قوله تعالى وجلّ ثناؤه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} إلى قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}. أي: قد أعطيتك ما سألت من شرح صدرك وتيسير أمرك، وحل العقدة من لسانك، وتصيير أخيك هارون عوناً لك. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى}. أي: تطولنا عليكم قبل هذه المرة مرة أخرى، ثم بيَّن المرة الأخرى ما هي فقال: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ} أي: إذا ألهمنا أمك. وقيل: كانت رؤيا رأتها. وقيل: بل أوحى إليها ما شاء.

وقال ابن إسحاق: لما ولدت أم موسى موسى A، أرضعته حتى إذا أمر فرعون بقتل من ولد سنته تلك، عمدت إليه، فصنعت به ما أمره الله تبارك وتعالى. روي أنها رؤيا رأتها، ففعلت ما أمرت به في رؤياي. وكان فرعون يذبح ذكور أولاد بني إسرائيل لأجل أنه بلغه أنه سيكون زوال ملكه وهلاكه على يدي واحد من أولاد بني إسرائيل فخافت أم موسى من فرعون على ولدها. فأراها الله ما أمرها به في منامها، فجعلته في تابوت صغير، ومهدت له فيه، ثم عمدت إلى النبيل فقذفته فيه، وهو اليم، فأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا لشيء [عجيب] في البحر، فآتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهد، فألقى الله D عليه محبته فعطف عليه نفسه. فهو قوله: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ

اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ}. يعني فرعون. ثم قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}. أي: حببتك إلى عبادي. وقال عكرمة معناه: إني حسنت خلقك، أي: جعلت لك حسناً وملاحة. وقيل: معناه: حببتك إلى [كلِّ] من رآك. وقيل: إن الله جلّ ذكره جعل في موسى عليه السلام ملاحة، فكان لا يراه أحد إلا أحبه واستحلاه ومال قلبه إليه. وذكر ابن الإعرابي عن قتادة في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}. قال: ملاحة في عينيك، لا يراك أحد إلا أحبك. وعن عكرمة أنه قال: حسن وملاحة. وقيل معناه: جبلت القلوب على محبتك، اختصاصاً لك. وقال مجاهد: مودة في قلوب المؤمنين. ثم قال: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} أي: ولتغذى على عيني، قاله قتادة.

وقال ابن زيد: معناه: إني جعلتك في بيت الملك تنعم وتترف غذاؤه عندهم غذاء الملك. وقال ابن زيد. معناه: وأنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ثم في البحر ثم إذ تمشي أختك. و" اللام " في " ولتصنع " متعلقة بـ " ألقيت " أي: ألقى المحبة لتصنع. ثم قال: / {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ}. أي: ولتصنع على عيني حين تمشي أختك. وفي الكلام حذف. والتقدير: إذ تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ثم يأتي من يطلب المراضع لك فتقول: هل أدلكم على من يكفله؟ قال السدي: لما ألقته أمه في اليم، قالت لأخته: قصيه، فلما التقطه آل فرعون، أرادوا له المرضعات، فلم يقبل أحداً من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، وأبى أن يأخذه فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحونن. فأخذوها وقالوا لها: إنك قد عرفت هذا الغلام،

فدلينا على أهله. قالت: ما أعرفه ولكني إنما قلت: للملك ناصحون. ومعنى: يكفله: يضمه إليه ويرضعه. ورويَ أن موسى عليه السلام لما خرج من التابوت بكى وطلب اللبن فطلب له النساء، فلم يقبل أحداً، فشق ذلك على فرعون، واغتم له، وقلق، وجعل يبعث إلى كل مرضعة، ولم يقبل أحداً، عند ذلك، جاءت أخت موسى A، فقالت: هل أدلكم على من يرضعه؟ فقيل لها: هاتها، فجاءت بأم موسى، فقبل ثديها، فطابت نفس فرعون ومضت به معها، آمنة عليه مما كانت تخافه، وذلك وعد الله لها، وقوله لها: {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} وهو قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} أي رددناك إلى أمك بعد أن كنت في أيدي آل فرعون كي تقرّ عينها، أي: تقرّ عينها بسلامتك من القتل والغرق، ولا تحزن عليك من الخوف ومن فرعون أن يقتلك. قال ابن إسحاق: لما قالت أخت موسى ما قالت، قالوا: هاته، فأتت أمه فأخبرتها، فانطلقت معها حتى أتتهم فناولتها إياه فوضعه في حجرها، وأخذ ثدييها، فسّروا بذلك، وردّوه إلى أمه تكفله، لطفاً من الله لها، وصار موسى وأمه كأنهم من

أهل بيت فرعون في الأمان من القتل وغيره. وكان على فراش فرعون وسريره متغذياً بما يتغذى به الملك. وهذا من بديع لطفه، لا إله إلا هو. ويروى عن ابن عباس أنه قرأ: (تقِرِ) بكسر القاف، وهي لغة. ثم قال: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم}. يعني: قتله القبطي إذ استغاثه عليه الإسرائيلي: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} أي: من غمّك بقتلك النفس إذا أرادوا أن يقتلوك. فخلصناك منهم حين هربت إلى أهل مدين. روى ابن عمر أن النبي A قال: " إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ ". ثم قال: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} قال ابن عباس: معناه: اختبرناك اختباراً. وعنه ابتليناك ابتلاء. وعن ابن عباس أيضاً: أنه إنجاؤه موسى من القوم. ومن اليم ومن الذبح حين أخذ بلحيه فرعون، ومن قتل حين قتل القبطي. وذكر ابن جبير عن ابن عباس حديثاً طويلاً في قصة موسى عليه السلام معناه: أن

فرعون تذاكر هو وجلساؤه، ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فخافوا ذلك فأتمروا بينهم أن يذبح كل مولود ذكر من بني إسرائيل، فذبحوا كل من وجدوا، وتمادوا على ذلك، فقال بعضهم: يوشك أن يفنى بنو إسرائيل لذبحكم الصغار وموت الكبار بآجالهم فتبقون لمباشرة الأعمال والخدمة التي تكفيهم إياها بنو إسرائيل، فأجمعوا رأيهم على أن يقتلوا عاماً ويتركوا عاماً لئلا يفنى بنو إسرائيل، ولئلا يكثروا، فحملت أم موسى هارون في السنة التي لا يذبح فيها أحد فولدته علانية آمنة. وحملت بموسى في العام الثاني، وفيه الذبح، فوقع في قلبها الهم والحزن. قال ابن عباس: فذلك من الفتون مما دخل على موسى في بطن أمه. فأوحى الله تعالى ذكره إليها ألاّ تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين. وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليم، ففعلت ذلك، ثم أتاها إبليس، فوسوس إليها، وقال: لو ذبح ولدك في بيتك لكنت توارينه وتسترينه كان أحب إليك مما ألقيته بيدك إلى حيتان البحر ودوابه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فرأينه، فأخذنه، فهممن بفتح التابوت ثم خفن أن يكون في التابوت مال فلا يصدقن عليه/، فمررن به على حاله إلى امرأة فرعون، ففتحت التابوت، فإذا بغلام، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق مثلها على أحد، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فأتى الذابحون إلى امرأة فرعون ليذبحوه، فصرفتهم حتى تستوهبه من فرعون، فوهبها فرعون إياه، ومنعهم من ذلك. وذلك

من الفتون. وذكر ابن عباس، أنها لما أتت به إلى فرعون قالت: قرة عين لي ولك. قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه. فروي عن النبي A أنه قال: " والذي حلف به، لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت هي به لهداه الله به كما هدى به امرأته. ولكن الله تعالى حرمه ذلك ". وروي أن امرأة فرعون كان لها جوار لا تشرب الماء إلا من استقائهن، فأتين يوماً إلى ساحل النيل ليأخذن الماء، فوجدن التابوت، فاتفقن على أن لا يفتحن التابوت، وأن يمضين به إلى مولاتهن على حاله، فذهبن به إلى امرأة فرعون ففتحته، فوجدت فيه صبياً لم تر مثله قط، فألقى الله في قلبها المحبة له، فأخذته ودخلت به على فرعون، وقالت له: قرة عين لي ولك فقال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي، فلا. قال النبي A: " لو قال فرعون نعم هو قرة عين لي لآمن ". فقالت: له: فهبه لي، لا تقتله. فوهبه لها، فطلبت له المراضع فلم يقبل على ثدي امرأة، وكان من أمره ما قص الله علينا.

قال ابن عباس في حديث طويل معناه: أن امرأة فرعون طلبت له الرضاعة، فلم يقبل على ثدي أحد فغمّها ذلك حتى أخرجته إلى السوق ت طلب له مرضعة، فأتت أخته فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها وقالوا: ما نصحهم له؟ هل تعرفونه، فشكوا في ذلك. قال ابن عباس: وذلك من الفتون. فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في القرب من فرعون ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمه، فجاءت معها، فلما وضعته في حجرها ترامى إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، وانطلقت البشرى إلى امرأة فرعون أن قد وجدنا لابنك مرضعة فوجهت وراءها، وجيء بها وبه فقالت لها: امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإن لم أحب حبه شيئاً قط، فأبت أم موسى وتعاسرت عليها في القيام عندها، وتذكرت ما وعدها الله من رده عليها، وأن الله منجز وعده، بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، فكان بنو إسرائيل يمتنعون من الظلم والسخرة بذمام موسى، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم

موسى: أرني ولدي، فوعدتها بالإتيان به ليوم بعينه، فقالت امرأة فرعون لخواصها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة، فلما أتت به أمه، لم تزيل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فأكرمته هي أيضاً ونحلته وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وانطلقت به إلى فرعون ليكرمه وينحله، فدخلت به عليه، وجعلته في حجره فتناول موسى لحية فرعون حتى مدها، فقال عدو من أعداء الله لفرعون: هذا من وعد الله إبراهيم أنه يصرعك ويعلوك فأراد ذبحه. قال ابن عباس: وذلك من الفتون. فقالت امرأته: قد وهبته لي فما بدا لك منه. قال: ألا ترينه يزعم أن يصرعني ويعلوني. فقالت: اجعل بين وبينك أمراً تعرف به الحق. ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فهو يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين [فهو لا يعقل] ففعل ذلك، فتناول الجمرتين، فصرفه الله تعالى عن قتله، فأقام حتى بلغ مبلغ الرجال، وانتفع به بنو إسرائيل وامتنعوا به من السخرة والظلم. فبينما هو يمشي في ناحية/ من المدينة إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من آل فرعون، والآخر من بني إسرائيل، فاستغاثه الإسرائيل على الفرعوني. وقد ضرب الفرعوني

الإسرائيلي، فضعب موسى واشتد غضبه لمعرفته لمنزلة الإسرائيلي وظلم الفرعوني له، فوكز موسى الفرعوني فقتله. ولم يرهما أحد إلا الله، فقال موسى A حين قتله: هذا من عمل الشيطان، ثم استغفر الله من قتله، فغفر له. وأصبح موسى خائفاً يستمع الأخبار، فبحث القوم عن قاتل الفرعوني فما وجدوا أحداً يخبر به. فمر موسى بذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً آخر فرعونياً، فاستغاثه أيضاً الإسرائيلي، فقال موسى للإسرائيلي: إنك لغوي مبين. ثم مد يده للفرعوني ليبطش به، فظن الإسرائيلي أنه إياه يريد، لما سمعه قال: إنك لغوي مبين. فقال: يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي، فخرجوا في طلب موسى. وجاءه رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقاً حتى سبقهم، فأنذر موسى، قال ابن عباس: وذلك من الفتون. وقال الضحاك: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}: أي بلاء على بلاء. وقال مجاهد: هو إلقاؤه في التابوت، ثم في اليم، ثم التقاط فرعون إياه، ثم خروجه خائفاً. قوله تعالى ذكره: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} إلى قوله: {يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى}.

في الكلام حذف واختصار. والتقدير: وفتناك فتوناً، فخرجت خائفاً إلى مدين، فلبثت سنين فيهم. قال: عشر سنين، كان فيهم في خدمة أجرة مهر زوجته. وقوله: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى}. أي: جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون فيه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. ثم قال: {واصطنعتك لِنَفْسِي}. أي: قويتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي. وقيل معناه: أخبرتك لتبلغ رسالتي. ثم قال: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي}. أي: اذهبا بأدلتي وحججي ولا تفترا ولا تضعفا في أن تذكراني فيما أمرتكما ونهيتكما، فذكركما إياي يقوي عزيمتكما. قال ابن عباس: " لاتنيا ": لا تبطئا. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: لا تضعفا.

وقال ابن زيد: الوافي: الغافل المفرط. ثم قال: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}. أي: تجاوز في الكفر. {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً}. أي: كنياه. قاله مجاهد والسدي. وعن السدي أنه قال: قال له موسى عليه السلام: هل لك أن يرد الله عليك شبابك، ويرد عليك مناكحك ومشاربك، وأذا مت دخلت الجنة؟ وتؤمن. فهذا هو القول اللين. فركن فرعون إليه وقال: مكانك حتى يأتي هامان. وقيل: إن فرعون دخل إلى آسية فشاورها فيما قال له موسى. فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد هذا. فقال له هامان: أَتَعبْدُ بعدَما كُنتَ تُعْبَدْ، أنا أردك شاباً. فخضب لحيته بالسواد. فكان فرعون أول من خضب بالسواد. ودخل إلى آسية فقالت له: حسن إن لم ينصل. وقيل: إن موسى عليه السلام قال له: إن ربنا أرسلنا إليك لتؤمن به وتعبده وتطيعه، فينسئ في أجلك أربع مائة سنة، ويملكك في أرضه ولا تبؤس ساعة من نهار، ثم تصير إلى الجنة، لا يضرك ما كنت فيه من نعيم الدنيا وسرورها ونضارتها جناح بعوضة. فقال فرعون: دعوني أستشير فاستشار هامان. فقال له: لا ترض. أبعد أن

كنت ملكاً تصير مملوكاً. وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. فلم يؤمن لما سبق له في علم الله من الشقاء. وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى}. قيل: معنى " لعل " هنا الاستفهام. والمعنى: فقولاً له قولاً لينا، فانظرا هل يتذكر فيراجع، أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه. قاله: ابن عباس. وقيل: معنى: " لعل " هنا: كي. أي قولا له قولاً ليناً كي يتذكر. كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك. أي: كي تأخذ أجرك. وقال الحسن: " لعله يتذكر " هو إخبار من الله عن قول هارون، وذلك أنه تعالى لما قال له: قولا له قولاً ليناً. قال هارون لموسى: لعله يتذكر أو يخشى. وقيل: إن " لعل " على بابها، ترج وطمع من المرسلين. والتقدير عند سيبويه: اذهبا أنتما على رجائكما/ وطمعكما ومبلغكما من العلم أن يتذكر، وقد علم الله تعالى أنه لا يتذكر ولا يخشى إلا أن الحجة لا تجب إلا بالإنابة وخروج الفعل إلى الظاهر. وقيل: إن " لعل " و " عسى " في القرآن لم يقعا إلا وقد كانا. فتذكر فرعون

45

وخشيته قد كانت حين أدركه الغرق. قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ}. إلى قوله: {خَلْقَهُ ثُمَّ هدى}. أي: قال موسى وهارون: يا ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا به أن يفرط علينا بالعقوبة. أي يعجل علينا ويقدم علينا. وأصله من التقدم. ومنه حديث النبي A " أنا فرطكم على الحوض ". ثم قال تعالى: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى}. أي: إنني أعينكما عليه وأبصركما. أسمع ما يجري بينكما وبينه، فألهمكما ما تجاوباه وأرى ما تفعلان ويفعل، فلا أخلي بينكما وبينه. قال ابن جريج: " أسمع وأرى ما يحاوركما، فأوحي إليكما، فتجاوباه. ثم قال: {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ}. أي: أرسلنا ربك إليك، يأمرك أن ترسل معناه بني إسرائيل، ولا تعذيبهم بما تكلفهم من الأعمال الصعبة. {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ}. أي بمعجزة تدل على أنا أرسلنا إليك بذلك إن أنت لم تصدقنا فيما نقول

أريناكها {والسلام على مَنِ اتبع الهدى}. أي: والسلامة لمن ابتع الهدى. وليس السلام هنا تحية. ثم قال: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى}. هذا متصل بما قبله. أي: فقولا لفرعون: إنا رسولا ربك، وقولا له: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى. أي: إن عذاب الله الذي لا انقطاع له على من كذب برسله وكتبه، وتولى عن طاعته. ثم قال تعالى: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى}. هذا كلام فيه حذف واختصار. والتقدير: فأتياه [فقالا] له ما أمرهما به ربهما. فقال لهما فرعون: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} اكتفى بخطاب موسى من خطاب أخيه من آخر الكلام. وقد خاطبهما جمعياً قبل ذلك في قوله: " ربكما " وإنما جاز ذلك لأن الخطاب إنما يكون من واحد، فردّ الخطاب إلى واحد مثله. وقريب منه " نسيا حوتهما " ولم ينسه إلا فتى موسى وحده. دل على ذلك قوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت}. ثم قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى}. أي: قال موسى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه. أي: جعل لك ذكر نظير خلقه من الإناث. ثم هداهم لموضع الوطء الذي فيه النماء والزيادة من الخلق. فهدى كل حي كيف يأتي الوطء

فيكون التقدير: أعطى كل شيء مثل خلقه. ثم حذف المضاف. قال ابن عباس. معناه: خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنكحه ومطمعه ومشربه ومسكونه ومولده. وكذلك قال السدي. وقال الحسن: معناه: تمم لكل شيء خلقه، ثم هداه لما يصلحه. القرون الماضية وكيف تبعث، فأجابه موسى/ بعلمها فقال: علمها عند ربي. ثم قال: {فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أي علمها في أم الكتاب و {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}. نعتان لكتاب. أي: في كتاب غير ضال الله، أي: غير ذهب عن الله وغير ناس الله له. وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: " في كتاب " ثم ابتدأ فقال: " لا يضل ربي " أي: لا يهلك. وقيل: معنى الآية: لا يضل عن ربي علم شيء، ولا ينسى شيئاً. وقال ابن عباس: لا يخطئ ربي ولا ينسى شيئاً. وقال ابن عباس وقتادة: لا يخطئ ربي ولا ينسى شيئاً. وقال قتادة: قوله: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} أي فما أعمار القرون الأولى. فوكلها

موسى إلى الله فقال: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي}. وقرأ الحسن وقتادة وعيسى وعاصم الجحدري: {لاَّ يَضِلُّ} بضم الياء وكسر الضاد. أي: لا يضيعه. قال: ضل فلان منزله يضله إذا أخطأه. وكذلك يقال في كل شيء ثابت، لا يبرح فيخطئه. فإذا ضاع ما يزول بنفسه مثل: دابة، وناقة، وفرس مما ينفلت فيذهب بنفسه، فإنه يقال: أضل فلان بعيره يضله. ثم قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً}. أي: فراشاً يتمهدها الناس، ولم يجعلها خربة خشنة. ومن قرأ " مهداً " فهو: مصدر وصفت الأرض به. أي: ذات مهد. وقيل: " مهداً " اسم وصفت الأرض به، لأن الناس يتمهدونها فهي لهم كالمهد الذي يعرف. وقيل: هما لغتان، كاللبس واللباس، والريش والرياش. ثم قال تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي: طرقاً. ثم قال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} أي: مطراً.

54

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} خرج إلى الإخبار عن الله جلّ ذكره، لأن كلام موسى مع فرعون انتهى إلى قوله: " السماء ماء. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بجميل صنعه لخلقه في معاشهم ومعاش أنعامهم فقال: " فأخرجنا به ". وقيل: كله من كلام موسى، أخبر موسى عن نفسه، ومن معه بالزراعة والمعالجة في الحرث. فالماء هو سبب خروج النبات وبه تم وكمل. والمعالجة في الحرث غيره لبني آدم بعون الله لهم وأقادره إياهم على ذلك. فلذلك أخبر عن نفسه فقال: فأخرجنا به أزواجاً. وقد قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] فأضاف الحرث إلى الخلق، وهو الزارع المنبث للحرث لا إله إلا هو. أي: أخرجنا بالمطر من الأرض أشابهاً وضروباً من نبات شتى. " وتشى ": نعت للنبات أو للأزواج. ومعناه: مختلفة الأطعمة والرائحة والمنظر. قوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} إلى قوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى}. أي: كلوا من طيبات ما أخرجنا لكم بالغيث وارعوا أنعامكم فيه. {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي: إن في قدرة الله وسلطانه لعلامات لأولي العقول. أي: لأصحاب العقول. قال قتادة: " لأولي النهي " لأولي الورع.

" والنهي " جمع نهية. يقال: فلان ذو نهية. أي ذو عقل. وخص أهل النهى بذلك، لأنهم أهل التفكير والاعتبار والتدبر والاتعاظ. ثم قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}. أي: من الأرض خلقنا أصلكم. وهو آدم، وفي الأرض نعيدكم بعد الموت، ومن الأرض نخرجكم عند البعث في القيامة أحياء كما كنتم " تارة أخرى " أي: مرة أخرى. قال علي بن أبي طالب Bهـ: " إذا قبض الملك روح المؤمن عرج به إلى السماء فقال: قد قبضت روح فلان. فيقول الله D: " ردّ بها. أي: قد وعدته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى}. قال: فإنه ليسمع صوت نعالهم (إذا ولوا مدبرين). ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} أي: أرينا فرعون أدلتنا وحججنا الي أعطينا موسى وهارون كلها عياناً فكذب بها وأبى أن يؤمن، استكباراً وعتواً. ثم قال: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} أي: قال فرعون لموسى لما رأى الآيات: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى} أي: مكاناً عدلاً نصفاً لنا/ ولك، قاله قتادة. وقال مجاهد: " مكانا منصفاً بينهم ".

وقال ابن زيد: مكاناً مستوياً يتبين للناس ما فيه لا صيب ولا نشز، فيغيب بعض ذلك عن بعض. وقيل: معناه: مكاناً سوى ذلك المكان الذي كانوا فيه، فيكون الأحسن على هذا المعنى كسر السين. وعلى المعاني المتقدمة الضم. والكسر في السين لغتان بمعنى، وفي العدل لغة أخرى، وهي فتح السين والمد، ومنه قوله: {إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا} [آل عمران: 64 أي: عدل. ثم قال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى}. أي: ال موسى لفرعون - حين سأله فرعون الاجتماع - موعدكم يوم الزينة. يعني يوم اعيد كان لهم. وقيل: يوم سوق كان لهم يتزينون فيه.

{وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي: يساق الناس ويجمعنن من كل فج وناحية. والتقدير: وقت موعدكم يوم الزينة. وقد قرأ الحسن " يوم " بالنصب على الظرف على غير حذف. أي: موعدكم في هذا اليوم. أي: موعدكم يقع يوم الزينة " وأن يحشر الناس ". وإن في موضع رفع عطف على يوم على قراءة من رفع. أي: وقت موعدكم يوم الزينة، ووقت حشر الناس. واختار النحاس أن تكون " وإن " في موضع خفض عطفاً على الزينة. قال السدي: " يوم الزينة يوم عيد لهم. وقال ابن جبير: " هو يوم سوق لهم ". وقوله: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي يجتمعون في ذلك الوقت الموضع.

60

وعن ابن عباس أنه قال: " يوم الزينة، كان يوم عاشوراء. كذلك روى الأعمش. والضحى، مؤنثة. وتصغيرها بغير هاء، لئلا تشبه تصغير ضحوة. وقرأ الحسن: {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} بفتح الياء وضم الشين، ونصب الناس، على تقدير: وأن يحشر فرعون الناس ضحى. وقوله تعالى ذكره: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى}. إلى قوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى}. أي: فأدبر فرعون معرضاً عن موسى وعما جاءه به من الحق، فجمع مكره وسحرته، ثم أتى للموعد. قال لهم موسى لما أتوا: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً}. {وَيْلَكُمْ} نصب على المصدر. وقيل: على إضمار فعل. أي: ألزمكم الله ويلاً.

وقيل: نصبه على النداء المضاف. {لاَ تَفْتَرُواْ} أي: لا تختلقوا الكذب على الله. أي: لا تقولوا: إن الذي جئتكم به من عند الله سحر، {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ}. قال ابن عباس: معناه: " فيهلككم ". وقال ابن زيد: معنا: (فيهلككم هلاكاً ليس فيه بقية). وقال قتادة: " فيستأصلكم بالهلاك ". وفيه لغتان: سحته واستحته، إذا أهلكه وأمحقه، وقد قرئ بهما جميعاً. ثم قال: {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى}. أي: خاب من الرحمة والثواب، من اختلق الكذب. ثم قال تعالى: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى}. أي: تنازع السحرة فيما بينهم.

قال قتادة: " قال السحرة بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحراً، فسنغلبه وإن كان من السماء، فله أمر " وهو قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى}. قال وهب: " جمع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه، معه أشراف أهل مملكته، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً} فترادد السحرة بينهم، وقالوا: ما هذا بقول ساحر. وهو قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى} أي أسر السحرة والمناجاة بينهم. وقال وهب: كان سرهم: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} إلى قوله: {مَنِ استعلى}. وكذلك قال السدي. ثم قال تعالى ذكره: {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ}. أي: قالت السحرة في سرهم وتناجيهم: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسرحهما. وفي حرف ابن مسعود " إن هذان/ إلا ساحران ": أي: ما هذان يخفف " إن " يجعلها بمعنى ما.

ومن شدد " إن " ورفع " هذان "، فقد خرج العلماء فيها سبعة أقوال: فالأول: أن يكون بمعنى نعم. حكى سيبويه أن " إن " تأتي بمعنى أجل. واختبار هذا القول المبرد وإسماعيل القاضي والزجاج وعلي بن سليمان. واستبعد الزجاج قراءة أبي عمرو " إن هذين " لمخالفتها للمصحف. وقال علي بن أبي طالب: لا أحصي كم سمعت رسول الله A على منبره يقول: إن الحمدُ لله نحمده ونستعينه، يعني يرفع الحمد يجعل " إن " بمعنى " أجل ". ومعنى: أجل: نعم. ثم يقول: أنا أفصح قريش كلها، وأفصحها بعدي سعيد بن

إبان بن العاصي. وكذكل كانت خطباء الجاهلية تفتتح خطبها بـ " نعم "، وكذلك وقعت في أشعارها. قال الشاعر: قالت غدرت، فقلت: إن وربما ... نال العُلي وشقى الخليل الغادر وقال بان قيس الرقيات: بكرت على عواذ لي ... يلحينني وألومهنه ويقلن شيب قد علاك ... وقد كبرت فقلت أنه وأنشد ثعلب: ليس شعري هل للمحب شفاء ... من جوى حبهن إن اللقاء. أي: نعم. فهذا قول حسن لولا دخول اللام في الخبر. وقد قيل: إن اللام يراد بها التقديم، وهو أيضاً بيعد، إنما يجوز التقديم في اللام

وهي مؤخرة في الشعر. لكن الزجاج قال: التقدير: نعم هذان لهما ساحران. فتكون اللام داخلة على الابتداء في المعنى، كما قال: أم الحليس لعجوز شهربة. وقيل: إن اللام يراد بها التقديم. وقيل: هي في موضعها، و " لعجوز " مبتدأ، وشهرية الخبر، والجملة خبر عن اللام. والقول الثاني: ما حكاه أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء أنها لغة لبني الحارث بن كعب، يقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، وأنشدوا. - فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً باه الشجاع لصماً وأنشدوا أيضاً:

- تزود منا بين أذناه طعنة على ... رأسه تلقى العظام من الفم. وحكى أبو الخطاب أنها لغة لبني كنانة. وحكى غيره أنها لغة خثعم. وهذا القول قول، حسن، لا نطعن فيه لثقة الناقلين لهذه اللغة، وتواتر نقلهم واتفاقهم على ذلك، وقد نقلها أبو زيد، وكان سيبويه إذا قال حدثني من أثق به، فإياه يعني. ورواه الأخفش، وهو ممن روى عنه سيبويه، وقول سيبويه في ألف التثنية أنها حرف الأعراب، يدل على أن حكمه لا تتغير عن لفظها، كما لا تتغير الدال من زيد، فجاءت في هذه الآية على الأصل، كما جاء " استحوذ " على الأصل. والقول الثالث: قاله الفراء. قال: الألف في " هذان " دعامة، ليست بلام

الفعل، فزدت عليها نوناً ولم أغيرها، كما قلت " الذي " ثم زدت عليه نوناً، ولم أغيرها، فقلت " الذين " في الرفع والنصب والجر. والقول الرابع: يحكى عن بعض الكوفيين أن الألف في هذان مشبهة بألف يفعلان، فلم تغير كما لا يغير ألف يفعلان. والقول الخامس: حكاه الزجاج. قال: القدماء يقولون: الهاء مضمرة ها هنا، والمعنى: أنه هذان لساحران، ويعترض هذا القول دخول اللام في الخبر. والقول السادس: قاله ابن كيسان، قال: سألني إسماعيل ابن إسحاق عنها، فقلت: القول عندي، أنه لما كان يقال هذا في موضع الرفع والنصب والجر، وكانت التثنية يجب ألا تغير، أجريت التثنية مجرى الواحد. فقال إسماعيل: ما أحسن هذا، لو تقدمك أحد بالقول به، حتى تؤنس به. فقلت: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسم. والقول السابع: حكاه أبو عمرو وغيره، أنه من غلط الكاتب.

روي أن عثمان وعائشة/ Bهما قالا: إن في الكتاب غلطاً ستقيمه العرب بألسنتها. وعنهما: إن في الكتاب لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا القول قد طعن فيه، لأن أصحاب النبي A قد أجمعوا على صحة ما بين اللوحين، فلا يمكن أن يجتمعوا على غلط. فأما من خفف " إن " فإنه رفع ما بعدها، لنقصها عن وزن الفعل ويجوز أن يكون أعملها مخففة على الثقيلة، كما يعمل الفعل محذوفاً عمله وهو غير محذوف، وإلا أنه أتى بـ " هذان "، على الوجوه التي ذكرنا، فأتى بالألف في النصب. فأما من شدد نون " هذان "، فإنه جعل التشديد عوضاً مما حذف من هذا في التثنية. وعن الكسائي والفراء في: " إن هذان " قولان تركنا ذكرهما لبعد تأويلهما في ذلك. ثم قال تعالى: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى}.

أي: يغلبكم على ساداتكم وإشرافكم. يقال للسيد: هو طريقة قومه. ولفظ الواحد والجمع والتثنية سواء. وربما جمعوا فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم، أي أشرافهم وساداتهم. ومنه قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً}. والمثلى: نعت للطريقة، وهو تأنيث أمثل، وجاز نعت الجماعة بلفظ التوحيد. كما قال: {هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى} [طه: 8]. ويجوز أن تكون " المثلى " أنثت لتأنيث الطريقة. قال ابن عباس: {بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أي أمثلكم، وهم بنو إسرائيل. وقال مجاهد: " أولي العقول والشرف الأنساب ". وقال قتادة: " كانت طريقتهم المثلى يومئذ بني إسرائيل، كانوا أكثر الناس عدداً وأموالاً وأولاداً ". وقيل: المعنى: ويذهبا بدينكم وسنتكم التي أنتم عليها. وقل ابن وهب: " يذهبا بالذي أنتم عليه من الدين، وقرأ قول فرعون

{إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر: 26] قال: فهذا قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى}. وعن علي بن أبي طالب Bهـ أن المعنى: ويصرفان وجوه الناس إليهما. ويكون التقدير: ويذهبان بأهل طريقتكم، ثم حذف، مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. ثم قال تعالى: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً}. أي: اعزموا على أمركم واحكموه. هذا على قراءة من همزة وكسر الميم. فأما من فتح الميم ووصل الألف - وهي قراءة أبي عمرو - فمعناه: فاجمعوا كل كيد لكم وحيلة، فضموه مع صاحبه. ويشهد له قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ}. وقطع الألف أحسن، لأن السحرة لم يؤمروا بهذا إلا في اليوم الذي اجتمعوا فيه، والوقت الذي

65

أظهروا فيه سحرهم، واستعدوا بما يحتاجون من السحر، فبعيد أن يؤمروا بجميع ما قد جمعوه واستعدوا به، وإنما يؤمن بذلك من لم يجمع ما يحتاج إليه ولم يستعد به، وليس ذلك اليوم إلا يوم استعلاء وفراغ مما يحتاجون إليه من الكيد. ويحن قطع الألف، لأن معناه: اعزموا على أمركم وأحكموه. وقوله تعالى: {ثُمَّ ائتوا صَفّاً}. أي: جيئوا المصلى، وهو الموضع الذي يجتمعون فيه يوم الوعيد. فيكون {صَفّاً} مفعولاً بـ {ائتوا}. ويجوز أن يكون المعنى: ائتوا مصطفين، ليكون أعظم لأمركم، وأشد لهيبتكم، فيكون حالاً. ووحد لأنه مصدر. فهو مصدر في موضع الحال. ثم قال: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى}. أي: قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره. قال وهب: " جمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة قال: {ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى}، أي: من علا على صاحبه بالغلبة ". قوله تعالى: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} إلى قوله: {هَارُونَ وموسى}. أي: قال السحرة: {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى}.

وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجمعت السحرة كيدهم ثم أتوا صفاً، فقالوا: {ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ}. وكان السحرة يومئذ فيما ذكر ابن أبي بزة سبعين ألفاً، مع كل ساحر منهم حبل وعصاً. فألقوا سبعين ألف/ عصاً، وسبعين ألف حبل. وقيل: كانت حبالهم وعصيهم حمل ثلاث مائة بعير، فصار جميع ذلك في بطن الحية، ثم رجعت عصاً كما كانت في يد موسى فألقى موسى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، فابتلع حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك سجداً، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات. وقال السدي: " كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً، مع كل واحد حبل وعصاً ". وقال وهب بن منبه: " كانوا خمسة عشراً ألفاً مع كل ساحر حباله وعصيه ". وقال ابن جريج: كانوا تسعة مائة: ثلاث مائة من العريش، وثلاث مائة من الفيوم، وثلاث مائة من الاسكندرية.

ثم قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى}. أي: قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولاً: ما معكم إن كنتم على حق. وفي الكلام حذف. أي: فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. قيل: " إن السحرة سحروا أعين الناس، وعين موسى قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوها، فخيل إلى موسى A حينئذ أنها تسعى " قاله وهب بن منبه. وقوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى}. أي: أحس ووجد موسى خوفاً في نفسه. قيل: إنه خاف أن يفتن الناس بما صنعوا قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه. وكان السحرة في ناحية بالبعد من الناس، وكان فرعون وجنوده في ناحية، وموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم في ناحية. وقيل: إنما خاف لما أبطأ عليه الوحي بالأمر بإلقاء العصا، فخاف أن ينصرف الناس قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه فيفتتنون، فأوحى الله تعالى إليه: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أي: لا تخف على انصراف الناس وافتتانهم قبل أن تلقي عصاك فأنت الغالب. ثم قال: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني العصا {تَلْقَفْ مَا صنعوا}، فألقاها فتلقفت

حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاث مامئة بعير، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي، إلا الله. وهذه آية تشتمل على آيات، منها: انقلاب العصا ثعباناً، ومنها: ابتلاعها الحمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي. وأعظمها: أنها عادت عصا يحملها موسى في يده كما كانت أولاً، وتلاشى وقر ثلاث مائة بعير بقدرة الله، فلا أثر لذلك، فسبحان من لا يقدر على هذه القدرة أحد سواه، لا إله غيره. ثم قال: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} ما " بمعنى الذي مع {صَنَعُواْ} " ها " محذوفة. و {كَيْدُ} خبر " إن " و " الذي " اسمها. فإن جعلت " ما " كافة ل " إن " عن العمل، نصبت كيداً بـ {صَنَعُواْ} و " الكيد ": المكره أي: مكر الساحر وخدعه لا على حقيقة. ثم قال: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي: لا يظفر بسحره أين كان. وقيل: المعنى: يقتل الساحر حيث وجد. وفي حرف ابن مسعود: أين أتى. ثم قال تعالى: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً}.

71

في الكلام حذف والتقدير، فألقى موسى ما في يده فتلقفت ما صنعوا فألقيَ السحرة سجداً. قال ابن جبير: لما ألقى [موسى] ما في يده، صار ثعباناً مبيناً، قال: ففتحت فما لها مثل الرحى ثم وضعت مشفرها على الأرض ورفعت الآخرة، فاستوعبت كل شيء ألقوا من السحر ثم جاء موسى إليها، فقبض عليها، فإذا هي عصا، فخرت السحرة سجداً، وقالوا: آمنا برب هارون وموسى. ورويَ أن رئيس السحرة قال لهم: إن كان هذا سحراً من موسى فأين مضى حمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي، وأين ذهب ذلك، هذا أمر من فعل الله، وليس هو سحراً، فاخلصوا التوحيد لله جل ذكره وآمنوا وخرّوا سجّداً. قوله تعالى ذكره: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} إلى قوله {خَيْرٌ وأبقى}. المعنى: قال فرعون للسحرة الذين خرّوا سجّداً: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} يهددهم ويوعدهم أي: أصدقتم بموسى: إن موسى لكبيركم الذي علمكم السحر، {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} فكان فرعون أول مَن قطع الأيدي والأرجل من خلاف. {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل}.

أي: عليها. وكان أول مَن صلب في جذوع النخل. ويقال: إن فرعون شبه على الناس بما قال. وذلك أنه لما رأى ما نزل به، قال للسحرة: إن موسى لكبيركم الذي علملكم السحر فواطتموه على ما صنعتم وعاملتموه على ذلك ليشكك الناس في الآيات التي ظهرت، فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم حتى ماتوا، ومعنى " خلاف " أن يقطع يمين اليدين ويسرى الرجلين، أو يسرى اليدين ويمنى الرجلين. ثم قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى}. أي: أنا أشد عذاباً أو موسى. يخاطب بذلك السحرة. ومعنى: {وأبقى} وأدوم. ثم قال: {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات}. أي: قال السحرة لفرعون لما توعدهم: لن نفضلك على ما رأينا من الحجج والبراهين فنتبعك ونكذب موسى. ثم قال: {والذي فَطَرَنَا}. أي: لن نفضلك على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا. وقيل: الواو، واو قسم. و {فَطَرَنَا} خلقنا.

{فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ}. أي: افعل ما أنت فاعل. ثم قال: {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ}. أي: قال له السحرة ذلك. والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا. و" ما " كافة ل " إن " عن العمل. ولو جعلت " ما " بمعنى " الذي " رفعت " هذه الحياة الدنيا " أي: إن الذي تقتضيه هذه الحياة الدنيا. وقيل: معنى الكلام إنما يجوز أمرك في هذه الحياة الدنيا. ثم قال: {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر}. أي: ليغفر لنا خطايانا من السحر. {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر}. ف: " ما " نافيه. أي: لم تكرهنا على السحر، نحن جئنا به طائعين، فهو ذنب عظيم، نطمع أن يغفره الله لنا إذا متنا، فتكون {مِنَ} لإبانة الجنسِ. وقيل: المعنى: ليغفر لنا ربنا خطايانا، ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من السحر. فتكومن {مِنَ} للتبيين، موضعها نصب، ولا موضع لها في القول الأول. وهذا القول رويَ عن ابن عباس، قال: " ذلك غلمان دفعهم فرعون إلى السحرة يعلمهم السحر ".

74

وقال ابن زيد: " أمرهم بتعلم السحر " وقال الحسن: " كانوا إذا نشأ المولود فيهم، أكرهه على تعلم السحر. ثم قال تعالى: {والله خَيْرٌ وأبقى} أي: خير ثواباً وأبقى عذاباً. قال محمد بن كعب: معناه: " خير منك ثواباً أن أطيع، وأبقى منك عذاباً إن عصى " وهذا جواب منهم لوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى}. قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} إلى قوله: {وَلاَ تخشى}. والمعنى: إن السحرة قالوا لفرعون {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} أي مكتسباً الكفر، فإن له جهنم أي: مأواه [جهنم ومسكنه] جزاء على كفره. {لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فتخرج نفسه {وَلاَ يحيى} فتستقر نفسه في مقرها، ولكنها تتعلق بالحناجر. وعلق الإتيان بالله مجازاً في هذا. والمعنى: من يأت موعد ربه " كما قال إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] أي: إلى موعد ربي. وليس الإتيان إلى الله إتيان مقاربة منه، لأنه قريب في كل أوان لا يبعده مكان ولا يقربه مكان، ولا يحويه مكان دون مكان، ولا يحتاج إلى مكان لأنه تعالى لم يزل قديماً قبل المكان ولا تجوز صفة القرب بالمكان إلا على الأجسام، لأنها

محدثة بعد حدوث المكان، وكان الله ولا مكان. فالإتيان إلى الله إنماهو إتيان من الخلق يوم القيامة إلى ثواب الله وجزائه، وكذلك المعنى فيما كان مثله. ثم قال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات}. أي: ومن يأت ربه موحداً له قد عمل ما أمره به، وانتهى عما نهى عنه: {فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} أي: لهم درجات الجنة العلى. ثم بين تلك الدرجات ما هي، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي: حنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفاذ لها ولا فناء {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: / تجري من تحت أشجارها ماء الأنهار. خالدين فيها. أي: ماكثين فيها أبداً. ثم قال: {وذلك جَزَآءُ مَن تزكى}. هذه الإشارة بـ " ذلك " هي إلى جميع ما تقدم بعد أولئك. أي: ذلك جزاء مَن تظهر من الذنوب. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}. أي: أوحينا إلى موسى إذ أبى فرعون أن يستجيب له، أن أسر بعبادي، يعني بني إسرائيل. {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً}. أي: اتخذ لهم طريقاً في البحر يبساً. أي: يابساً. وهو مصدر نعت به الطريق. والمعنى: ذا يبس.

ثم قال: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى}. أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوه، ولا تخشى غرقاً من بين يديك. قال ابن جريج: " قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا وهذا البحر قد غشينا. فأنزل الله تعالى ذكره: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} من أحصاب فرعون، {وَلاَ تخشى} من البحر وحلاً. وتقديره عن الأخفش: لا تخاف دركاً فيه. ثم حذف " فيه ". ومن قرأ {لاَّ تَخَافُ} بالرفع جعله في موضع الحال من موسى. وقيل: هو نعت لطريق على تقدير: لا تخاف فيه. وقيل: هو مستأنف على معنى: لست تخاف وتخشى، عطف عليه في الوجوه الثلاثة. ومن قرا: لا تخف بالجزم، جعله جوباً للأمر في قوله: {فاضرب}. وقيل: هو جزم على النهي. نهى أن يخاف فرعون. ويكون {وَلاَ تخشى} مقطوعاً من الأول.

78

وأجاز الفراء أن يكون معطوفاً على {لاَّ تَخَافُ} وثبتت الألف في الجزم كما ثبتت الياء والواو وهذا غلط عند جميع البصريين لأن الألف لا تتحرك فيقدر فيها حركة. والياء والواو يتحركان فيجوز أن تقدر فيهما حركة محذوفة. وأيضاً فإن ذلك لا يجوز في الياؤ والواو إلا الشعر. قوله تعالى ذكره: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} إلى قوله: {ثُمَّ اهتدى}. في الكلام حذف، والتقدير: فسرى موسى بهم فاتبعهم فرعون بجنوده. والسرى، سير الليل. وكان فرعون ظن أن موسى ومن معه لا يفوتونه لأن البحر بين أيديهم. فلما أتى موسى البحر، ضربه بعصاه، فانفلق منه اثني عشر طريقاً. وبين الطريق والطريق الماء قائماً كالجبال فأخذ كل سبط طريقاً، فلما أقبل فرعون، ورأى الطريق في البحر، أوهم من معه أن البحر فعل ذلك لمشيئته. فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم. وروي أنهم لما تراءوا وطمع فرعون في موسى ومن معه أرسل الله ضبابة فسترت بعضهم من بعض حتى دخل موسى وقومه في البحر فلما أمنعوا في البحر، انجلت الضبابة، فنظر أصحاب فرعون فلم يروا منهم أحداً، فتقربوا حتى أتوا البحر،

فرأوه منفلقاً. فيه طريق قائمة واضحة يابسة والماء قائم بين الطريق والطريق بمنزلة الجبل العظيم لا يتحرك ولا يزول، فشاهدوا هذه الآيات العظيمة، وأوهمهم فرعون أن البحر إنما انفلق من هيبته ومخافته فدخل خلف بني إسرائيل ليلحقهم، فلما استكمل هو وجنوده في داخل البحر، انطبق عليه، فهلكوا أجمعين. وقوله: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ}. أي: ما غرقهم. وفيه معنى العظيم، ولذلك كنى عن الغرق بغشيهم. قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري. أي: شعري ما قد عرفتموه. فكنى عنه ليعظمه. ثم قال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى}. أي: وجار فرعون بقومه عن سواء السبيل. {وَمَا هدى} أي: ما سلك بهم الطريق المستقيم. يعني في الإيمان والكفر، لأنه نهاهم عن اتباع الرسول فأطاعوه.

ثم قال: {يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ}. يعني فرعون وهذا خطاب لهم بعد هلاك فرعون وجنوده في البحر. ثم قال: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى}. يذكرهم بنعمه عندهم وأياديه لديهم، وقد مضى تفسير هذا كله في البقرة. {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. أي: من شهية وحلاله. {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ}. أي: لا يظلم بعضكم بعضاً. والمعنى: لا يحملنكم السعة والخصب/ على الطغيان فتظلموا فيحل عليكم غضبي. أي: ينزل بكم ويجب. {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى}. أي: شقى وهلك، أي: صار إلى الهاوية وهي قعر جهنم، نعوذ بالله منها. ثم قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ}. قال ابن عباس: {لِّمَن تَابَ} من الشرك و {وَآمَنَ} وحّد الله {وَعَمِلَ صَالِحَاً}: أدّى الفرائض.

83

والتقدير: وإني لستار لذنوب مَن تاب من الشرك. وقل قتادة: وإني لغفار لمن تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل صالحاً فيما بينه وبين الله جل ذكره. وقوله: ثم اهتدى. معناه عند أبن عباس: لم يشكك. وقال قتادة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه. وقال أنس بن مالك: {ثُمَّ اهتدى}: أي: أخذ بسنة نبيه A. وقال ابن زيد: {ثُمَّ اهتدى} ثم أصاب العمل. وقال الفراء: " ثم اهتدى " ثم علم أن لذلك ثواباً وعليه عقاباً. قوله تعالى ذكره: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} إلى قوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري}. أي: وأي شيء أعجلك يا موسى وتركت قومك خلفك، وذلك أن الله D

أنجى موسى وقومه من فرعون وقطع به البحر وأهلك فرعون وقومه، ووعد موسى ومن معه جانب الطور الأيمن، فتعجل موسى إلى ربه، وترك قومه مع هارون يسير بهم في أثر موسى. وقال ابن إسحاق: وعد الله موسى وقومه بعد أن أنجاه وقومه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة تلقاه فيها بما شاء، واستخلف موسى على قومه هارون ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقه بهم. فلما كلم الله موسى. قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري، وعجلت إليك رب لترضى. وقيل: المعنى: أن الله تعالى ذكره وعد موسى أن يأتيه في جماعة من بني إسرائيل، ويترك باقيهم مع هارون. فخرج بجماعة من خيارهم، فتقدمهم موسى إلى الموضع الذي وعد بالإتيان إليه. فلذلك قال له تعالى ذكره

{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} أي: عن القوم الذين أتوا معك للميعاد. قيل: وعدهم أن يسمعوا كلام الله، فلذلك قال: هم أولاً على أثري أي: قريب، مني سائرون إلي. وإنماتقدمتهم لترضى عن]. ثم قال تعالى {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري}. أي: قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل وإضلال السامري لهم، دعاؤه إياهم إلى عبادة العجل. قيل: إن السامري كان من القبط، آمن بموسى، فترك الإيان فهو قوله {فَنَسِيَ} أي: فترك العهد، وأكثر الأقوال أنه من بني إسرائيل. وأنه ابن خالة موسى، ويكون قوله: " فنسي " يريد أنه من قول السامري. قال لهم: إن موسى نسي إلهكم عندي ومضى يطلبه. يريد العجل. وأراد بقوله: " قومك من بعدك " الذين تأخروا مع هارون لا الذين صحبوا موسى ومضوا معه للميقات. وهم الذين اختارهم موسى للميقات، وهم سبعون. فلذلك قال موسى لما أخذتهم الرجفة فماتوا: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} [الأعراف: 155]. يعني الذين تأخروا مع هارون وعبدوا العجل.

ثم قال: {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً}. أي: فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد تمام الأربعين ليلة غضبان على قومه لاتخاذهم العجل من بعده. {أَسِفاً} أي: حزيناً لما أحدثوا من الكفر. والأسف: يكون الحزن، ويكون الغضب. ومن الغضب، قوله تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أي: أغضبونا. ثم قال تعالى ذكره: {قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً}. أي: قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل لما رجع إليهم غضباناً حزيناً: ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً. وذلك الوعد، قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى}. وقيل: وعدهم إنزال التوراة عليهمز وقيل: وعدهم الجنة إذا أقاموا على الطاعة. وقيل: وعدهم أن يسمعهم كلامه/. ثم قال: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد}. أي: طال عليكم إنجاز الوعد. وقوله: {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي}.

كان قد وعدوه أن يقيموا على طاعته ويسيروا في أثره للموعد إلى جانب الطور الأيمن، فعبدوا العجل بعده وأقاموا، وقالوا لهارون: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى}. ثم قال تعالى: {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا}. من ضم الميم في " بملكنا ": فمعناه: ما أخلفنا موعدك بسلطاننا. أي: لم نملك الصواب ولا القدرة على ترك الأخلاف، بل كان ذلك خطأ منا. ومن كسر الميم: فمعناه: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا الصواب. ومن فتح الميم فمعناه: بقوتنا. وقيل: هي لغات يرجعن إلى معنى واحد. وقيل: إن هذا من قول الذين لم يعبدوا العجل، أي: لم نملك ردهم عن عبادة العجل، ولا منعهم من ذلك، فتبرءوا منهم واعتذروا. ثم قال: {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا}. قال ابن عباس: كان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون، فهو الأوزار من زينة القوم، أي قوم فرعون.

88

ويقال: إن بني إسرائيل لما أرادوا موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم، وقال لهم: إن الله مغنمكم ذلك، ففعلوا، فذلك الزينة الذي حمِّلوا من زينة القوم. وقوله: {فَقَذَفْنَاهَا}. أي: في النار لتذوب. وقوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري}. أي: فألقى السامري الحلي مثل ذلك، أي: ألقى ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل A فكاف في موضع نصب لمصدر محذوف. قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ}. إلى قوله: {وأطيعوا أَمْرِي}. أي: أخرج لهم السامري من الحلي الذي قذفوه في النار، وألقى هو عليه التربة التي كانت معه، عجلاً محسداً، أي: له جسد لا روح فيه. وقيل: كان لا رأس له، فلذلك قيل جسداً.

وقوله: " له خوار "، أي: له صوت مثل البقر. قال قتادة: " كان الله جل ذكره وقّت لموسى ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فلما مضت الثلاثون، قال عدو الله السامري: إنما أصابكم بالحلي الذي كان معكم، (يعني إنما أبطأ عليكم موسى عقوبة من أجلي الحلي، ثم قال لهم): فهلموا وكانت حلياً تعوروها من آل فرعون، فساروا وهي معهم، فدفعوها إليه، فصورها صورة بقرة، وكان قد صر في عمامته أو ثوبه قبضة من أثر فرس جبريل A فقذفها في الحلي والصورة فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، فجعل يخور خوار البقرة، فقال: هذ ألهكم وإله موسى. وقال السدي: إن هارون قال لهم: يا بني إسرائيل، إن الغيمة لا تحل لكم، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعاً واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحلي في حفرة، فجاء السامري بتلك القبضة التي من حافر فرس جبريل عليه السلام، فقذفها فأخرج الله

من الحلي عجلاً جسداً له خوار، وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدّوا الليلة يوماً واليوم يوماً، فلما كان العشرون خرج لهم العجل، فلما رأوه، قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، {فَنَسِيَ}، فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي. وقوله: {فَنَسِيَ} يعني فنسي السامري دينه، أي تركه حين أمرهم بعبادة العجل. قال ابن عباس: {فَنَسِيَ}: أي: ترك السامري ما كان عليه من الإيمان، فيكون {فَنَسِيَ} من قول الله جل ذكره، إخباراً عن السامري. وعن ابن عباس أيضاً: {فَنَسِيَ} أي: فنسي موسى إلاهه عندكم وذهب يطلبه، فأضله ولم يهتد إليه. فيكون {فَنَسِيَ} من قول السامري لبني إسرائيل، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد. وقيل: معناه: فنسي موسى الطريق وضل عنه. وقيل: فنسي السامري العهد الذي عهد إليه في الإيمان، فيكون/ {فَنَسِيَ} على هذا القول من الترك. وعلى القولين الأولين من النيسان. ثم قال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً}. أي: أفلا يرى هؤلاء

91

الذين عبدوا العجل أنه لا يكلمهم ولا يرد عليهم جواباً. وهذا توبيخ لهم. {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً}. أي: لا يقدر لهم على ضر ولا نفع، فكيف يكون من هذه حاله إلهاً يُعبد؟!. ثم قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون من قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم، {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي: إنما أخبركم الله به لينظر محافظتكم على الإيمان بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، فيعلم صحيح الإيمان من مريض القلب الشاك في دينه. ثم قال: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} أي: إن معبودكم الذي يستحق العبادة هو الرحمن، فاتبعوني ولا تعبدوا غيره. وأطيعوا أمري في ترك عبادة العجل. قوله تعالى ذكره: {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} إلى قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً}. أي: قال بنو إسرائيل لهارون لما نهاهم عن عبادة العجل: لن نفارق عبادة العجل حتى يرجع إلينا موسى. ثم قال: {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} في الكلام حذف. والتقدير: لما رجع موسى، قال: يا هارون: ما منعك أن تتبعني بمن لم يعبد العجل على ما كان بين وبينهم. قال ابن عباس: لما قال القوم: {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى}، أقام هارون بمن معه من المسلمين ممن لن يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل،

وخشي هارون إن مضى في أثر موسى بمن معه من المسلمين أن يقول له موىس: فرقت بين بني إسرائيل، ولم ترقب قولي. وكن هارون لموسى مطيعاً. وقال ابن جريج: أمر موسى هارون أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين فذلك قوله: ما منعك ألا تتبعني أفعصيت أمرمي أي: ألا تتبع ما أمرتك به من الصلاح عليهم. ثم قال تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}. في الكلام حذف، والتقدير: فأخذ موسى بلحية هارون يجره إليه، فقال هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي}. وقيل: المعنى: لا تفعل هذا، فيتوهموا أنه منك استخفاف وعقوبة. وقيل: إن موسى إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة، كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقوله: {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}. قال ابن زيد: خشي هارون أن يمضي في أثر موسى بمن بقي معه من المسلمين الذين لم يعبدوا العجل، ويترك الذين قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا

موسى، فيقول له موسى فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي: أي: جئت بطائفة وتركت طائفة. وهو قول ابن عباس. وقال ابن جريج: معنه: خشيت أن نقتتل فيقتل بعضنا بعضاً. ومعنى: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي: ولم تحفظ قولي. ثم قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري}. أي: فما شأنك، وما الذي دعاك إلى ما صنعت؟ قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ}: أي: علمت ما لم يعلما. قال ابن جريج: لما قتل فرعون الولدان، قالت أم السامري: لو نحيته حتى لا أراه ولا أرى قتلته. فجعلته في غار، فأتى جبريل عليه السلام فجعل كف نفسه في فيه، فجعل يرضع العسل واللبن، فجعل يختلف إليه حتى عرفه، فمن ثم معرفته إياه حين قبض قبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام. وقيل: معنى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي: أبصرت ما لم يبصروا يعني: فرس جبريل. ومن قرأ بالياء، جعله إخباراً عن بني إسرائيل.

ومن قرأ بالتاء. جعله خطاباً لموسى وبني إسرائيل. ثم قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول}. أي: من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام. وقرأ الحسن وقتادة: فقبصت قبصة بالصاد غير المعجمة، وذلك الأخذ بأطراف الأصابع. " والقبضة " على قراءة الجماعة قبضك على الشيء بملء كفك مرة واحدة. " والقُبضة " بضم القاف، مقدار ما يقبض كالغرفة والغرفة. وقوله: {فَنَبَذْتُهَا}. أي: ألقيتها في العجل ليخور. {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}. أي: زيّنت لي نفسي أن الحلي إذا سبك وألقيت فيه القبضة أنه يصير عجلاً جسداً. وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال/: " لما خرج موسى عليه السلام ببني

إسرائيل السبعين رجلاً، أمرهم أن ينتظروه في أسفل الجبل، وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وليلة، وكتب له في الألواح وأن بني إسرائيل عدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فاستبطأوا موسى بعد ذلك، فاتخذوا العجل من بعده، قال: فبلغنا - والله أعلم - أن الله قال لموسى عند ذلك أن قومك قد اتخذوا العجل من بعدك، قال: عجلاً جسداً له خوار. فقال مسى: رب، من جعله لهم؟ فقال السامري، فقال موسى: رب، السامري جعل لهم العجل وأنت فتنت قومي بالخوار، وجعلت الروح فيه، فما أصنع؟ فرجع موسى إلى قومه معه السبعون رجلاً، ولم يخبرهم موسى بالذي أحدث بنو إسرائيل بـ عده من عبادة العجل، وبالذي قال له ربه، فلما غشي موسى ومن معه محلة قومه، سمع اللغط حول العجل، فقال السبعون الذين معه: ما هذا في المحلة؟ أقتال؟ فقال موسى A: ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة، فلما دخل موسى، ونظر إلى ما يصنع بنو إسرائيل حول العجل، غضب،

فألقى الألواح، فتسكرت، وصعد عامة الذي كان فيها من كلام الله وأخذ موسى برأس أخيه يجره إليه، فقال له هارون: يا أخي {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، فأرسله ثم أقبل على السامري، فقال: ما خطبك يا سامري، ولِمَ صنعت ما أرى، فقال له ما نص الله علينا، فأمر موسى بالسامري أن يخرج من محلة بني إسرائيل، وأن لا يخالطهم في شيء، وأمر بالعجل فذبح، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في اليم، ثم أتاهم موسى بكتاب ربهم فيه الحلال والحرام، والفرائض والحدود فلما نظروا إليه قالوا: لا حاجة لنا في الذي آتيتنا به، فإن العجل الذي حرقت كان أحب إلينا من الذي آتينا به فلسنا بقابليه ولا آخذين بما فيه. فقال موسى: رب إن عبادك بني إسرائيل قد ردوا كتابك وكذبوا نبيك، فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا الجبل فغشوا به بني إسرائيل حتى ظلوا به عسكرهم، فحال بينهم وبين السماء، فقال موسى A: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقى عليكم الجبل، فقالوا: سمعنا وعصينا الذي جئتنا به، ثم أخذوا ولم يجدوا من أخذه بداً، فرفع عنهم الجبل فنظروا في الكتاب، فبين راض وكاره ومؤمن وكافر فعفا الله تعالى عنهم، فهو قوله: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

[ثم قال: وكذلك سولت لي نفسي]. وقال ابن زيد: كذلك حدثتني نفسي. ثم قال تعالى جلّ ذكره: {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ}. أي: قال موسى للسامري: فاذهب فإنك لك في حياة الدنيا: أي: أيام حياتك أن تقول لا مساس، أي لا أمس، أي: عقوبتك في الدنيا أن لا تكلم ولا تخالط. وقيل: معناه: لك في [الحياة] الدنيا أن تعيش مع البهائم والسباع والوحوش في البرية، مستوحشاً لا تقرب أحداً ولا تمس أحداً ولا يمسك أحد. وروي أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه، ولا يخالطوه ولا يبايعون، فلذلك قال له: أن تقول لا مساس وذلك فيما يذكر في قبيلته إلى الآن. وقال قتادة: كان السامري عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل. وقال ابن جبير: كان من أهل كرمان. وقوله: {لاَ مِسَاسَ} منصوب على التبرئة ك (لا رجل في الدار).

ويجوز: {لاَ مِسَاسَ} بكسر السين وتبنيه على الكسر. ثم قال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} يعني القيامة. ومن كسر اللام، أراد لن تغيب عنه، وهو قول قتادة، أي: تأتي إليه طائعاً أو كارهاً وفيه معنى التهديد والوعيد، ولفظه لفظ الخبر. ومن فتح اللام، أراد لن يخلفكه الله، ثم رد إلى ما لم يسم فاعله. ثم قال: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً}. أي: انظر إلى العجل الذي عبدته من دون الله، وأقمت بعدي على عبادته لنحرّقنّه بالنار قطعة بعد قطعة، لأن في التشديد معنى التكثير. وقرأ الحسن: بتخفيف الراء على معنى: لنحرقنه/ مرة واحدة. وقرأ أبو جعفر القارئ: {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} بفتح النون وضم الراء، بمعنى لنبردنه

بالمبارد، يقال: أحرقه وحرقه بالنار، يحرقه ويُحَرِّقه: إذا نحته بمبرد أو غيره. وقراءة أبي جعفر تروى عن علي وابن عباس. قال علي ابن أبي طالب Bهـ: أمر موسى بالعجل فبرج في البحر فلم يشرب منه أحد ممن عبد العجل إلا اصفّر لونه، فقالوا: ما توبتنا قال: أن يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين، فكان الرجل يقتل أباه وأخاه حتى قُتِلَ منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إليه: مرهم فليرفعوا القتل، فقد رحمت مَن قتل منهم، وقد تبت على مَن بقي. وقوله: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} أي: لنذرينه في البحر ذرواً. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}. أي: إنما معبودكم الذي تجب له العبادة والإخلاص لله الذي لا معبود إلا هو، وسع كل شيء علماً أي: أحاط بكل شيء علماً فلا يَخفى عليه شيء. قال قتادة: معناه: ملأ كل شيء علماً. يقال: فلان يسع هذا الأمر، إذا أطاقه وقَوِيَ عليه. ثم قال تعالى: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ}.

أي: كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى وقومه، كذلك نقص عليك من أخباكر من قد سبق قبلك مما لم تشاهده، ولا عاينته. ثم قال: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً}. أي: وقد أعطيناك يا محمد من عندنا ذكراً تتذكر به وتتعظ. وهو القرآن. {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً}. أي: من لم يؤمن به ويعمل بما فيه، فإنه يحمل يوم القيامة إثماً عظيماً {خَالِدِينَ فِيهِ} أي: [ما كثين] في عقوبته في النار. ثم قال تعالى وجل ثناؤه: {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً}. أي: وساء لهم الوزر حملاً. أي: بئس الوزر لهم. يعني ذنوبهم. ثم قال تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور}. {يَوْمَ} بدل من يوم الأول، والمعنى: يوم ينفخ ملك الصور فيه. ثم رد إلى ما لم يسم فاعله، وكانت الياء أولى عند من قرأ بها، لأن النفخ في الصور لا يتولاه الله جل ذكره، إنما يتولاه الملك، بأمره وقدرته. ولا حجة في " ونحشر " لأن النافخ الملك والحاشر الله.

ومَن قرأه بالنون، فلأن بعده، ونحشر فأتى بالفعلين على الإخبار عن الله جل ذكره للمطابقة لأن الله تعالى هو الفاعل لجميع الأحوال المقدر لها. ثم قال تعالى: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً}. أي: زرق الأعين من العطش الذي يكون بهم في الحشر. وقال ابن عباس: يكونون يوم القيامة في حال عمياً، وفي حال زرقاً. وقال جماعة زرقاً: عمياً. ويروى: أنهم يقومون من قبروهم يبصرون، ثم يصيرون عمياً. ويروى: أنهم لا يبصرون شيئاً إلا جهنم. وقيل: زرقاً شعثين متغيرين كلون الرماد. ثم قال: يتخافتون بينهم. أي: يسرون القول بينهم، يقولون بعضهم لبعض، إن لبثتم في الدنيا إلا عشراً.

105

وأصل الخفت في اللغة السكون. أي: ما لبثتم من النفخة الأولى إلى البعث، إلا عشراً، وبين النفختين أربعون سنة. ثم قال: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي: نحن أعلم بسرهم إذ يقول: أمثلهم طريقة أي: أعلمهم في أنفسهم إن لبثتم إلا يوماً، وذلك من شدة هول المطلع، ينسون ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم وطول العمر حتى يتخيل إليهم من شدة ما هم فيه أنهم لم يعيشوا في الدنيا إلا يوماً واحداً. وقيل: ذلك تقديرهم فيما بين النفختين. وقيل: عني بذلك إقامتهم في القبور، ظنوا أنهم لم يلبثوا فيها إلى يوماً بعد انقطاع العذاب عنهم في القبور، لأنهم في طول مكثهم يعذبون، ثم ينقطع عنهم العذاب فيما بين النفختين. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} إلى قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}. المعنى: ويسألك يا محمد قومكم عن الجبال، فقل يذريها ربي تذرية. وهو تصييرها هباء منبثاً، فَيَذَرُها قَاعاً. أي: فيذر أماكنها قاعاً، أي: أرضاً ملساء صفصفاً:

أي: مستوياً لا نبات فيها ولا نشز ولا ارتفاع. وقيل: معناه يجعلها رملاً، ثم يرسل عليها الرياح تنسفها وتفرقها حتى يصير مواضعها قاعاً مستوياً. فالصفصف، المستوى. قال ابن عباس: قاعاً صفصفاً/: مستوياً، لا نبات فيه. والقاع في اللغة، المكان المنكشف. والصفصف: المستوى الأملس. وقال بعض أهل اللغة: القاع: مستنقع الماء. والصفصف الذي لا نبات فيه. ثم قال: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً}. معناه عند ابن عباس: لا ترى فيها وادياً ولا رابية. والأمت عند أهل اللغة، أن يكون في الموضع ارتفاع وانهباط وعلو وانخفاض. وقال قتادة: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} أي: صدوعاً، {ولا أَمْتاً} أي: دوعاً، {ولا أَمْتاً}

أي: أكمة. وعن ابن عباس أيضاً: {عِوَجاً}: ميلاً، والأمت: الأثر: مثل الشراك. ثم قال تعالى {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ} أي: يومئذ إذ يتبع الناس صوت الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة، {لاَ عِوَجَ لَهُ} أي: لا عوج لهم عنه، ولكنهم يأتمون به، ويأتونه. قال محمد بن كعبك القرظي: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة، تطوى السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه. وقوله: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن}. أي: وسكنت أصوات الخلائق للرحمن. فلا تسمع إلا همساً. أي: حس الأقدام إلى المحشر، قاله: ابن عباس وعكرمة والحسن. وقيل: هو الصوت الخفي الذي يوجد لتحريك الشفتين، وأصله الصوت الخفي. يقال: همس فلان إلى فلان بحديث، إذا أسره إليه وأخفاه. وعن ابن عباس أيضاً: {هَمْساً} صوتاً خفياً. وهو قول مجاهد.

ثم قال: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن}. أي: لا تنفع الشفاعة، إلا شفاعة من أذن له الرحمن في الشفاعة، {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي: قال: لا إله إلا الله. {يَوْمَئِذٍ} بدل من الأولى. وإن شئت جعلته متعلقاً به {يَتَّبِعُونَ} فتبتدئ به إن شئت، ولا تبتدئ به في القول الأول. ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. قال قتادة: " ما بين أيديهم من أمر الشفاعة وما خلفهم من أمر الدنيا ". وقيل: معناه: علم ما بين أيدي هؤلاء، الذين يتبعون الداعي من أمر القيامة، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب، وما خلفهم أي ما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا. {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي: لا يحيط خلقه به علماً، وهو يحيط بهم علماً. وقيل: المعنى، لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علماً. فتكون الهاء تعود على " ما ". وقال الطبري: الضمير في أيديهم وخلفهم، يعود على الملائكة، وكذلك هو في يحيطون. أعلم الله بذلك الذين كانوا يعبدون الملائكة، وأن الملائكة لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها يوبخهم بذلك. وإن من كان هكذا، كيف يعبد، وأن العبادة إنما

111

تصلح لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهو الله لا إله إلا هو. قوله تعالى: {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} إلى قوله: {زِدْنِي عِلْماً}. قال ابن عباس: {عَنَتِ}: ذلك أي: استسلمت. وقال مجاهد: {عَنَتِ} خشعت. وقال طلق بن جبيب: هو وضعك جبهتك وأنفك وركبتك وكفيك وأطراف قديمك في السجود فهذا يراد به أنها عنت في الدنيا، والأقوال غير هذا يراد بها الآخرة. وقال ابن زيد: {عَنَتِ} استأسرت للحي القيوم. أي: صاروا أسارى. وقال الفراء: {عَنَتِ} الوجوه نصبّ وعملته، والعاني الأسير. وهذا قول أهل اللغة، أن العاني الأسير، سمي بذلك لأنه يذل ويخضع. ومنه الحديث: " النساء عندكم عوان " ومنه: افتتحت الأرض عنوة، ومنه: عنيت فلانا.

ثم قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}. أي: قد خسر من حمل يوم القيامة شركاً بالله، قاله: قتادة وابن زيد وغيرهما. ثم قال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً}. أي: مَن يؤد الفرائض التي افترض الله عليه، وهو مصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله، فلا يخاف ظلماً، أي: لا يخاف أن تحمل عليه سيئات غيره ويعاقب عليها. {وَلاَ هَضْماً} أي: نقصاً من ثوابه. قاله قتادة وغيره. ومن قرأ: فلا يخف بالجزم، جعله نهياً، نهاه الله جل ذكره عن الخوف من أن يصيبه ظلم أو هضم. وقال ابن جريج/: {الصالحات} هنا: الفرائض. وقال الضحاك: {وَلاَ هَضْماً}: هو أن يقهر الرجل الرجل بقوته وأصل الهضم، الانتقاص يقال: هضمني فلان حقي، أي: نقصني، ومنه امرأة هضيم الكشح، أي: ظاهرة البطن. وهذا دواء يهضم الطعام. أي: ينقصه، فيزول ثقله. ثم قال تعالى ذكره: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد}. المعنى: كما رغب أهل الإيمان في صالح الأعمال فوعدهم ما وعدهم، كذلك حذر بالوعيد أهل الكفر، فقال: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي: أنزلناه بلغتكم أيها

العرب لتفهموه. {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} أي: وخوفناهم بضروب من الوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ما فيه من الوعيد أو يحدث لهم ذكراً فينقلبون عما هم مقيمون عليه من الكفر بالله، يعني: أو يحدث لهم القرآن ذكراً. قال قتادة: " ذكرا ": ورعاً. وقيل: معناه: أو يحدث لهم شرفاً بإيمانهم به، كما قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: شرفكم إن آمنتم به. روي ذلك أيضاً عن قتادة. ثم قال تعالى ذكره: {فتعالى الله الملك الحق} أي: فتعالى الله الذي له العبادة من جميع خلقه، ملك الدنيا والآخرة جميعاً على ما يصفه به المشركون من خلقه. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}. أي: لا تعجل بالقرآن فتقرئه أصحابك أو تقرأه عليهم من قبل أن يقضى إليك وحيه، أي: بيان معانيه فأمر النبي A ألا يكتب القر آن أو يتلوه على أحد حتى يبينه له، قال: ابن عباس وقتادة.

115

وقيل: إن النبي A كان يستعجل القراءة من قبل أن يفرغ جبريل مما يأتيه به، خوف النيسان. ومنه {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16]. {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي: زدني علماً إلى ما علمتني. أمره الله تعالى أن يسأل ذلك. وذكر ابن وهب أن الحسن قال: أتت امرأة النبي A فقالت: " إن زوجي لكم وجهي " قال لها: بينكما القصاص، فأنزل الله تعالى: ولا تعجل بالقرآن. . . الآية. فأمسك النبي A حتى نزلت: {الرجال قوامون عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [النساء: 34]. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ} إلى قوله: {وَلاَ تضحى}. المعنى: أن يترك هؤلاء المشركون أمري، ويتبعوا أمر عدوهم إبليس، فقديماً فعل أبوهم آدم ذلك. فلقد عهدنا إليه أن إبليس عدوه، فنسي، وأطاعه، أي: فترك ما عهد إليه، وأطاع إبليس إذ وسوس إليه. قال ابن عباس ومجاهد: " نسي " ترك أمر الله.

وقال الحسن: " نسي ": ترك: ولو كان من النيسان، لم يكن عليه شي. وقال ابن زيد: العهد الذي عهد الله جلّ ذكره إلى آدم هو قوله: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} أي: نسي العداوة التي أعلم بها. وقيل: قول عدوه، فيكون نسي من النسيان على هذا القول لا من الترك. وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنسانً لأنه عهد إليه فنسي. ثم قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}. قال قتادة: {عَزْماً}: صبراً. وقال عطية: {عَزْماً} خفظاً لما أمر به. وروي ذلك عن ابن عباس. وقال ابن زيد: " العزم ": المحافظة والتمسك بأمر الله. وعن ابن عباس: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} أي لم نجل له عزماً. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم، يعني: عقولهم جمعت منذ خلق الله آدم

إلى أن تقوم الساعة، وضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة [الأخرى] لرجح حلمه بأحلامهم وقد قال الله تعالى ذكره {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}. وقيل: المعنى: " ولم نجد له عزماً " على ترك المعصية. وأصل العزم في اللغة، اعتقاد القلب على الشيء، فيكون المعنى على هذا، ولم نجد له عزم قلب على الصبر على الوفاء بما عهد إليه. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ} أي: واذكر يا محمد، إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدمك أي اجعلوه قبلة لأنهم أمروا بالعبادة له والسجود له دون الله، فسجدوا إلا إبليس أبى. وهذا تذكير من الله تعالى لنبيّه بما كان من قصة آدم، وأن أولاده لن/ يعدوا أن يكونوا على منهاجه في ارتكاب المعاصي إلا من عصمه الله. ثم قال تعالى: {فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ}. ولذلك لم يسجد لك وخالف أمري. {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى}. أي: لا تطيعاه فيما يأمركما به فيخرجكما من الجنة. أي: فيكون عيشك من كد

يمينك، فهو من شقاء الدنيا لا من شقاء الآخرة. قال ابن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويسمح العرق عن جبينه، فذلك قوله: " فتشقى " فكان ذلك شقاوه. وجرى الخطاب لآدم وحده، إذ قد علم أن حكم حواء حكمه، ولأن ابتداء الخطاب كان لآدم وحده في قوله " يا آدم إن هذا عدو لك " ولأن التعب في المعيشة في الدنيا على الرجل يجري أكثره، فخصّ بالخطاب لذلك. ثم قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى}. أي: إن لك الشبع في الجنة والكسوة والري والسترة. ومعنى " ولا تضحى " لا يصيبك حرّ الشمس، ولا تظهر إليها، لأن الشمس جعلها الله دون الموضع الذي كان فيه، فليس في الجنة شمس ولا في السماء السابعة. " والظمأ " العطش، مقصور مهموز. والظمى مقصور على غير مهموز سعة في الشفتين. وقد قال ابن عيينة في الآية، أنه يراد بها الأرض.

120

فالهاء في " فيها " في الموضعين تعود على الأرض، وهي في القول الأول تعود على الجنة. قوله تعالى ذكره: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} إلى قوله: {مَعِيشَةً ضَنكاً}. أي: فألقى إلى آدم الشيطان، فقال له: {ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} أي: على شجرة من أكل منها خلد فلم يمت، {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} أي: لا ينقضي. وقال السدي: على شجرة الخلد: أي: على شجرة إن أكلت منها كنت ملكاً مثل الله D، أو تكونا من الخالدين "، لا تموتان أبداً. ثم قال تعالى: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي: فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها، وأطاعا أمر إبليس، فبدت لهما سواءتهما. أي ظهرت وانكشفت لهما عورتهما، وكانت مستورة عن أعينهما. قال السدي: إنما أراد إبليس اللعني أن يظهر لهما سوءاتهما، لأنه علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يعلم ذلك آدم، وكان لباسهما الظفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتدمت حواء فأكلت منها. ثم قالت: يا آدم، كُلْ [فإني] قد أكلت،

فلم يضرني، فلما أكل آدم منها بدت لهما سوءاتهما. ثم قال: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} أي: أقبلا. وقيل: معناه: جعلا يخصفان عليهما ورق التين. قاله السدي. وقال قتادة: {يَخْصِفَانِ} يوصلان. ثم قال تعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى}. أي: وخالف آدم أمر به، فتعدى إلى الأكل من الشجرة فغوى. ثم قال: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ}. أي: اصطفاه [واختاره] ربه بعد معصيته وهداه للتوبة ووفقه لها. ثم قال: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. أي: قال الله لآدم وحواء اهبطا من الجنة جميعاً إلى الأرض، أي: انزلا. وهذا يدل على أن الجنة في السماْ. {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. أي: أنتم عدو إبليس وذريته، وإبليس عدوّكما، وعدو ذريتكما.

قال الضحاك: أُهبط آدم بالهند على جبل يقال له الوسي على رأسه أكليل من ريحان الجنة، وفي يده قبضة من حشيشها فانتثر في ذلك الجبل، فكان منه الطيب، وأهبطت حواء بجدة وأهبط إبليس بالبصرة. ثم قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى}. يعني: آدم وحواء وإبليس. أي: بيان لسبيلي وما اختاره لخلقي من ديني. {فَمَنِ اتبع هُدَايَ} أي: بياني وعمل به. {فَلاَ يَضِلُّ} أي: ليس يزول عن حجة الحق. {وَلاَ يشقى} أي: في الآخرة بعذابها. قال ابن عباس: فضمن الله لمن قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، أن لا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. أي: وقاه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب. ثم تلا هذه الآية. وقال ابن جبير: من قرأ القرآن واتبع ما فيه، عصمه الله من الضلالة ووقاه. ثم قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}. أي: من لم يؤمن بالقرآن، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً}. قال ابن عباس/: هي الشقاء.

وقال مجاهد: معيشة ضيقة. وهو قول قتادة. وذلك في جهنم، لأنه جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم. قاله: الحسن وابن زيد وقتادة. وقيل: عني بذلك أكلهم في الدنيا الحرام، فالحرام ضيق بسوء عاقبته وإن اتسع في الظاهر. قاله: عكرمة والضحاك. وعن ابن عباس أنه: كل ما أنفق في غير ذات الله فهو معيشة ضنك. وعن أبي سعيد الخدري أنه: عذاب القبر يضيق عليه في قبره، حتى تخلتف أضلاعه، وقاله السدي: وهو مروي عن النبي A. روي عنه أنه قال: " أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال

عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده، إنه يسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون عحية لكل حية سبعة رؤوس ينفخن في جسمه ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة ". وروى أبو هريرة Bهـ أن النبي A قال: " إن المؤمن إذا ألحد في قبره أتاه ملكان أرزقان أسودان، فيأتيانه من قبل رأسه، فتقول صلاته لا يؤتى من قبلي، فرب ليلة قد بات فيها ساهراً حذاراص لهذا المضجع فيوتى من قبل رجليه، فتقول رجلاه لا يؤتي من قبلنا، فقد كان ينصب ويمشي علينا في طاعة الله حذاراً لهذا المضجع فيؤتى من قبل يمينه فتقول صدقته لا يؤتى من قبلي، فقد كان يتصدق حذاراً لهذا المضجع، فيؤتى من قبل شماله، فيقول صومه لا يؤتى من قبلي، فقد كان يجوع ويظمأ حذاراً لهذا المضجع، فيوقظ كما يوقظ النائم، ثم يسأل ". قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} إلى قوله: {لأُوْلِي النهى}. قال مجاهد: أعملى عن حجة، لا حجة له يهتدي بها، وقاله أبو صالح. وقيل: معنى ذلك، أنه لا يهتدي إلى وجه ينال منه نفعاً ولا خيراً، كما لا يهتدي الأعمى إلى الجهات المنافع في الدنيا. وقيل: " أعمى " من عمى البصر، كما قال: ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً.

ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً}. قال مجاهد، معناه: لِمَ حشرتني ولا حجة لي، وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها عند نفسي في الدنيا. وقال إبراهيم بن عرفة: كلما ذكر الله جلّ وعز في القرآن من العمى، فذمّه فإنما يريد به عمى القلب. قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}. وقيل: معناه، وقد كنت ذا بصر أنظر به الأشياء في الدنيا. وقيل: معنى الآية: ونحشره يوم القيامة أعمى عن حجته، ورؤية الأشياء، لأن الآية عامة. وقوله: " لم حشرتني أعمى "، أي: أعمى عن حجتي وعن رؤية الأشياء وقد كنت بصيراً، أي بصيراً بحجتي في الدنيا رائياً للأشياء. وهذا سؤل من العبد لربه أن يعلمه الجُرم الذي استحق ذلك عليه، لأنه جهله وظن أنه لا ذنب له، فقال الله جلّ ذكره: {قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} أي: فعلت ذلك بك كما أتتك آياتنا، وهي ما أنزل في كتابه من فرائضه. {فَنَسِيتَهَا}. أي فتركتها، أي: أعرضت عنها، ولم تؤمن بها.

{وكذلك اليوم تنسى}. أي: كما نيست آياتنا في الدنيا، ولم تؤمن بها، كذلك تترك اليوم في النار. وقال قتادة: {وكذلك اليوم تنسى} أي: تنسى من الخير، ولم تنسى من الشر. ثم قال: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ}. أي: وهكذا نتيبُ من أسرف فعصى ربه، ولم يؤمن برسله وكتبه، فنذيقه معيشة ضنكاً في البرزخ {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى}. أي: ولعذاب الله إياهم في الآخرة أشد من عذاب القبر " وأبقى " أي: أدوم. ثم قال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون}. أي: أفلم يهد يا محمد لقومك كثرة ما أهلكنا قبلهم من القرون الماضية، يمشرون في مساكنهم وآثارهم، ويرون آثار العقوبة التي أحللنا بهم لما كفروا، فيؤمنون بالله وكتبه ورسله خوفاً أن يصيبهم بفكرهم مثل ما أصاب القرون قبلهم، فيكون " كم " فاعلة ليهد على هذا التقدير، كأنه قال: أفلم يهد لهم القرون التي هلكت. " ويهد " بمعنى، يبين، وشاهد هذا التقدير أن في حرف/ ابن مسعود: أفلم يهد لهم من أهلكنا قبلهم فكم في موضع " من ". وقيل: " كم " استفهام، فلا يعمل ما قبلها فيها، وهي في موضع نصب

129

ب " أهلكنا ". وهذا القول هو الصحيح عند البصريين، لا يعمل ما قبل " كم " فيها خبراً كانت أو استفهاماً، إنما يعمل فيها عندهم ما بعدها، كأي في الاستفهام. وكانت قريش تسافر إلى الشام، فيرون آثار عاد وثمود ومن هلك بكفره قبلهم وبعدهم، فحذرهم الله أن يصيبهم مثل ما عاينوا. وقيل: التقدير: أفلم يهد لهم الأمر، بإهلاكنا من أهلكنا، فالفاعل مضمر. وقال المبرد: الفاعل المصدر، ودل " يهدي " عليه، كأنه قال: يهدي الهدى. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى}. أي: إن في ما يعاين هؤلاء من مساكن القرون الهالكة التي كذبت رسلها قبلهم لدلالات وعبراً ومواعظ لأولى القعول. وقال ابن عباس: {لأُوْلِي النهى}: لأولي التقى. وقال قتادة: لأولي الورع. قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} إلى قوله: {خَيْرٌ وأبقى}.

أي: ولولا أن الله قدر أن كل من قضى له أجلاً، فإنه لا يحترمه قبل بلوغ ذلك الوقت، والأجل المسمى " لكان لزاماً " أي: لكان العذاب لزاماً لهم. وقيل: المعنى: لولا أنه قد سبق في علم الله تأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان العذاب لازماً لهم على كفرهم. وقل: معنى: {كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أي: أنه لا يعذبهم حتى يبلغوا آجالهم. ومعنى: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة. وقال مجاهد: " الأجل المسمى هو الدنيا. وقال قتادة: الأجل المسمى، الساعة، يقول الله تعالى: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]. قال ابن عباس: " لكان لزاماً " لكان موتاً. وقال ابن زيد: اللزام: القتل. ثم قال: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ}. أي: اصبر يا محمد على قول هؤلاء المكذبين بآيات الله بأنك ساحر وأنك مجنون، وأنك شاعر، ونحو ذلك. ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}.

وقال ابن عباس: هي الصلاة المكتوبة أي: وصَلِّ بثنائك على ربك. وقيل: قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} معناه: بحمدك ربك، وقوله: {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} يعني بعد صلاة الصبح وقيل غروبها، صلاة العصر وقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} أي: ومن ساعات الليل فسبح، يريد صلاة العشاء الآخرة. وأطراف النهار يعني: صلاة الظهر والمغرب لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول وفي أول طرف النهار الآخر فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس، وعند ذلك تصلي المغرب، فلذلك قيل أطراف النهار، لأن النهار أربعة أطراف، عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند زوال الشمس وعند وقوفها للزوال. وقيل: إنه جمع في موضع تثنية. كما قال: فقد صغت قلوبكما. وقيل: قوله {وَمِنْ آنَآءِ الليل} أوله وأوسطه وآخره قاله الحسن: يعني: به النافلة. وقال ابن عباس: " هو جوف الليل ".

وقوله: {لَعَلَّكَ ترضى} أي: في الآخرة. ولعل من الله واجبة. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ}. أي: لا تنظر يا محمد إلى ما جعلناه لهؤلاء المعرضين عن آيات الله وأشكالهم من متعة متعوا بها في الدنيا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم فيما متعناهم به. وروي أن النبي A مر على إبل لبعض العرب قد سمنت فتقنع ثم مر ولم ينظر إليها، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ. . .} الآية. " وزهرة " منصوبة بمعنى: متعنا، لأن " متعنا " بمعنى: جعلنا، أي: جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة. ثم قال تعالى ذكره: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى}. أي: وعده لك بما يعطيك في الآخرة خير لك " وأبقى " أي: " وأدوم ":. ويروى أن هذه الآية نزلت على النبي A من قبل أنه بعث إلى يهدي يستسلف منه طعاماً، فأبى أن يسلفه إلا برهن فحزِن النبي لذلك، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا} الآية، ونزلت {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 87 - 88] الآية. وقوله: {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} يعني: زينتها.

132

وقوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}. أي: / لنبتليهم فيه. وقيل: لنجعل لهم ذلك فتنة. قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} إلى آخر السورة. أي: وامر أهلك بالدوام على الصلاة، واصطبر على القيام عليها والإتيان بها بحدودها. {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً} أي: أن ترزق نفسك ولا ترزق أحداً من العباد. وكان عمر رضي لله عنه إذا قام من الليل صلى، فإذا كان من السحر أيقظ أهله فقال: الصلاة الصلاة وتأول هذه الآية، وامر أهلك بالصلاة. . . الآية. وكان رسول الله A إذا نزل بأهله ضيق أو شدة، أمرهم بالصلاة ثم قرأ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة}. . . الآية. وكان رسول الله A إذا حزبه أمر يصلي. وقال A في رواية عثمان بن عفان عنه: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين غفر له ".

قال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث طلبت تصديقه في كتاب الله D، فطلبت تصديق هذا فوجدته في كتاب الله D في قوله: لنبيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1 - 2] فجعل تمام النعمة أن غفر له ذنبه، وقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] فعلمت حين جعل تمام النعمة على النبي A المغفرة أنها هنا، مثل ذلك حين قال: وليتم عليكم فهو المغفرة. ثم قال: {والعاقبة للتقوى}. أي: والعاقبة الصالحة من عمل كل عامل لأهل التقوى. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ}. أي: وقل المشركون هلاّ يتينا محمد بآية من ربه، كما أتى صالح قومه بالناقة من ربه، وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. ثم قال تعالى جواباً لهم: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى}. أي: ما في الكتاب التي قبل هذا الكتاب من أخبار الأمم من قبلهم التي

أهلكناهم لما سألوا الآيات. فكروا بها لما أتتهم كيف عجلنا لهم العذاب. فالمعنى: فيما يؤمنهم إن أتتهم آية أن يكون حالهم كحال أولئك. قال مجاهد: {مَا فِي الصحف الأولى}: التوراة والإنجيل. وقال قتادة: {الصحف الأولى} الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم. ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ}. أي: ولو أنا أهلكنا هؤلاء المشركين الذين يكذبون بهذا القرآن بعذاب من قبل ننزله عليهم. وقيل: من قبل أن نبعث داعيً يدعوهم إلى ما فرضنا عليهم. فالهاء تعود على القرآن، أو على النبي. ثم قالت: {لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً}. أي: لقالوا يوم القيامة إذا وردوا على الله تعالى، فأراد عقابهم: ربنا هلاّ أرسلت إليها رسولاً يدعونا إلى طاعتك فنتبع آياتك، أي: حججك وأدلتك وأمرك ونهيك من قبل أن تذل بتعذيبك لنا ونخزي بها.

روى الخدري عن النبي A أنه قال: " يحتج على الله D يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير. فيقول المغلوب على عقله: لم يجعل لي عقلاً أنتفع به، ويقول الهالك: لم يأتني رسول ولا نبي، ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك لك، وقرأ {لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} ويقول الصغير: كنت صغيراً لا أعقل قال فترفع لهم النار فيقال لهم ردوها. قال: فيردها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي. فيقول: إياي عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم ". ثم قال: {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ}. أي قل يا محمد: كلكم أيها المشركون متربص، أي: منتظر دوائر الزمان، فتربصوا، أي: فترقبوا، وانتظروا {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي}. أي: من أهل الطريق المعتدل المستقيم، أنحن أم أنتم؟. {وَمَنِ اهتدى}. أي: وستعلمون حينئذ من المهتدي الذي هو على سنن الطريق القاصد، غير الجائر عن قصده منا ومنكم. " وممن " استفهام في موضع رفع، / لا يعمل فيها ستعلمون. وأجاز الفراء: أن تكون في موضع نصب قوله: ستعلمون. بمنزلة

{والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220]. فإن جعلت " مَنْ " غير استفهام، جاز أن يعمل فيها ما قبلها. وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري: " السَّوَّى " بتشديد الواو من غير همز على " فعلى " أراد السوأي. ثم سهل الهمزة على البدل والإدغام وأنثها لأن الصراط يؤنث، والتذكير فيه أكثر.

الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأنبياء [سورة] "الأنبياء" -مكية. قوله تعالى ذكره: {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} إلى قوله: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}. معناه: دنا حساب الله لناس على أعمالهم ونقمته منهم {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} يعني: في الدنيا. روى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " في غفلة في الدنيا ". وروي أن أصحاب النبي عليه السلام كان يقول بعضهم لبعض كل يوم، ما الخبر؟. أي: ما حدث؟. فمر رجل برجل يبني حائطاً له، فقال له: ما الخبر؟ فقال: نزلت: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ". فنزل وترك البناء، فلم يبن ذلك الحائط بعدها. فالمعنى: قرب [من الناس حسابهم وهم قد غفلوا عما يراد بهم من محاسبة

ربهم لهم على أعمالهم. قال ابن عباس: " عنى بذلك الكفار " دليله، قوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. ومعنى الآية ما يأتي الكفار. وقال ابن عباس: " اقترب للناس حسابهم " معناه: قرب عذابهم. قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ}. أي: ما يأتيهم من قرآن يذكرهم الله به ويعظمهم إلا استمعوه وهم يلعبون، لا يعتبرون ولا يتفكرون في وعده ووعيده. ومعنى " محدث " أي: محدث عند النبي A، لأنه لم يكن يعلمه فعلمه بإنزال جبريل صلى الله عليهما وسلم إياه عليه فهو محدث في علم النبي عليه السلام ومعرفته. غير محدث عند الله تعالى ذكره. وقد قيل: عني بذلك: أن النبي A كان يذكرهم ويعظهم فتذكيره لهم محدث على الحقيقة. وقال: {مِّن رَّبِّهِمْ} لأنه لا ينطبق إلا بما يؤمر به، قال تعالى ذكره:

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] فالله أمره بوعظهم، وتذكيرهم، فلذلك قال: " من ربهم ". ثم قال: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ}. أي: غافلة، لا يتدبرون حكمه ولا يتفكرون فيما أودعه كتابه. ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ}. أي: أسر هؤلاء الناس الذين اقترب حسابهم، النجوى بينهم، أي: أظهروا المناجاة بينهم، فقالوا: هل محمد إلا بشر مثلكم، وهو يزعم أنه رسول من عند الله إليكم. وقيل: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} أي: قالوا ذلك سراً. وقال أبو عبيدة: " هو من الأضداد ". وقوله: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} [الأنبياء: 4]. الآية يدل على أنه بمعنى أخفوا. ثم قال: {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}. زعموا أن محمداً A وشرف وكرم ساحر، وأن ما جاء به سحر. أي تقبلون ما جاءكم به وهو سحر وأنتم تبصرون أنه بشر مثلكم. وفي الضمير الذي أتى بلفظ الجمع في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} مع

الكلام على موضع " الذين " من الإعراب ستة أقوال: الأول: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} بدلاً من الواو في {وَأَسَرُّواْ}. فيكون التقدير: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ}. والثاني: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} رفعاً بابتداء مضمر، والتقدير: " هم الذين ظلموا ". والثالث: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} رفعاً بفعلهم. والتقدير: يقول الذين ظلموا هل هذا. والرابع: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} في موضع نصب بإضمار، أعني. والخامس: أن يكون على لغة من جمع الفعل مقدماً، كما حكي: أكلوني البراغيث، وهو قول الأخفش. والسادس: أن يكون {الذين ظَلَمُواْ} بدلاً من الناس أو نعتاً. كأنه قال: اقترب للناس الذين ظلموا حسابهم. والوقف على {وَأَسَرُّواْ النجوى} حسن على القول الثاني والثالث والرابع.

4

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض} إلى قوله: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. أي: قل يا محمد: ربي يعلم قولكم بينكم، {أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} ويعلم غير ذلك في السماوات والأرض وهو السميع لجميع ذلك/، العليم بجميع خلقه، فيجازي كلا على قدر أعمالهم. ثم قال تعالى: {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ}. أي: بل قال المشركون: الذي جاء به محمد أضغاث أحلام. أو هم أضغاث أحلام. أي: لم يصدقوا بالقرآن، ولا آمنوا به ولكن قالوا: هو أضغاث أحلام، أي رؤيا رآها في النوم. " الأضغاث " الأخلاط. ومنه {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً}. وقال بعضهم: بل هي فرية واختلاق من عند نفسه. وقال بعضهم: بل محمد. . . شاعر، فنقض بعضهم قول بعض. ثم قالوا بعد ذلك. ونقضوا قولهم كلهم ورجعوا عن ما قالوا، فقالو: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} أي: بل يأتينا محمد بآية تدل على صدقه، كما جاءت به الرسل قبل محمد؟ من مثل الناقة، وإحياء الموتى وشبهه. وذلك منهم تعنت، لأن الله تعالى قد

أعطاه من الآيات ما لهم فيها كفاية، وإنما دخلت " بل " في هذا وليس في الكلام جحد لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فدخلت " بل " لذلك. ثم قال تعالى ذكره: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ}. في هذه الآية بيان لإثبات القدر، لأن المعنى: أن امتناع من تقدم من الكفار من الإيمان حتى هلكوا لا يوجب امتناع من بعدهم، لكن كل ذلك بقدر من الله جل ذكره؛ وتحقيق المعنى على قول المفسرين، مآ آمن قبل هؤلاء الذين كذبوا محمداً من أهل قرية عذبناها بالهلاك في الدنيا إذ كفروا بعد مجيء الآية. {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} استفهام معناه التقرير. أي: فهؤلاء المكذبون محمداً السائلون الآية، يؤمنون إن جاءتهم آية. فلم يبعث الله تعالى إليهم آية لعلمه أنهم يكذبون بها، فيجب عليهم حلول العذاب. وقد تقدم في علمه أن ميعادهم الساعة. قال تعالى: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 48]. فلما كان أمر هذه الأمة وعقوبتها، أخّرها الله إلى قيام الساعة، لم يرسل إليها آية مما اقترحوا به من الآيات التي توجب حلول العذاب عليها إذ كفرت بعد ذلك كما فعل بالأمم الماضية. ثم قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أي: وما أرسلنا قبلك يا محمد من الرسل إلا رجالاً مثل الأمم المرسل إليها. يوحي الله إليهم ما يريد. أي: لم يرسل

ملائكة، فما أنكر هؤلاء من إرسالك إليهم وأنت رجل مثلهم؟ وهذا جواب لقول المشركين: {هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. ثم قال: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. أي: اسألوا: أهل الكتب التي نزلت قبل كتابكم، يخبرونكم أنه لم تكن الرسل التي أتتهم بالكتب إلا رجالاً مثلهم. قال سفيان: " يريد: اسألوا من أسلم من أهل التوراة والإنجيل ". ويراد بالذكر: التوراة والإنجيل. وروي عن عبد الله بن سلام: " أنه قال: " نزلت في {فاسئلوا أَهْلَ الذكر} فهذا يدل على أن " الذكر " التوراة. وقال قتادة: {أَهْلَ الذكر}: " أهل التوراة ". وقيل: {أَهْلَ الذكر} " أهل القرآن " من آمن منهم. وقال علي: " نحن أهل الذكر ". وقال ابن زيد: " الذكر: القرآن. لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} ".

ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام}. أي: وما جعلنا الرسل الذين أرسلنا في الأمم الخالية، جسداً لا يأكلون الطعام. أي: لم نجعلهم ملائكة، ولكن جعلناهم مثلك، يأكلون الطعام. وقال قتادة: معناه: " ما جعلناهم جدساً إلا ليأكلوا الطعام ". وقال الضحاك: معناه: " لم أجعلهم جسداً لا روح فيه، لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجساداً فيها أرواح يأكلون الطعام ". والجَسَدُ وُحِّدَ وقَبلَهُ جماعة، لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: وما جعلناهم خلقاً لا يأكلون الطعام. والتقدير: ذوي جسد. وهذا جواب لقوهم {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7]. فأعلمهم [الله] أن الرسل تأكل الطعام، وأنهم يموتون. وهو معنى قوله: وما كانوا خالدين. ثم قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد}. أي: صدقنا الرسل الوعد بإهلاك قومهم إذ سألوا الآيات، فأتتهم وكذبوا بها. كقوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ} [المائدة: 115]. {فَأَنجَيْنَاهُمْ}. أي: أنجينا الرسل لما أتى العذاب لأممها. {وَمَن نَّشَآءُ} أي: وأنجينا من نشاء،

يعني: من آمن بالرسل، {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} يعني: الذين أسرفوا/ على أنفسهم فكذبوا الآيات بعد أن أتتهم، فازدادوا كفراً بذلك، فهو إسرافهم. ثم قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ}. يخاطب قريشاً. أيك فيه شرفكم إن آمنتم به، لأنه عليكم نزل، وبلغتكم. وهو قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} قاله ابن عباس. وقال مجاهد: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي: حديثكم. وقال سفيان: " نزل القرآن بمكارم الأخلاق "، فهو شرف لمن اتبعه وآمن به. والذكر: يستعمل بمعنى الشرف: يقال فلان مذكور في هذا البلد، إذا كان فيه رفيعاً مذكوراً بالشرف والفضل. وقيل: معناه: فيه [ذكركم أي]: ذَكَّرْنَاكُم به أَمْرَ دينكم وأمر آخرتكم ومعادكم فجعله ذكرهم، إذ كان به يذكرهم ما وصفنا. وقد قال الله تعالى:

11

{إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46]. أي اخترناهم ليذكروا أمر معادهم وآخرتهم. وفيه قول آخر، تراه في موضعه. وقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. تقرير توبيخ وتنبيه على فهم ذلك وقبوله [أي]: أفلا تعقلون أن ذلك على ما أخبرناكم به. قوله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} إلى قوله: {عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. المعنى: وكثيراً أهلكنا من أهل القرى كانوا ظالمين بكفرِهم ف " كم " في موضع نصب بقصمنا، وهي خبر، وفيها معنى التكثير. وانقصم أصله الكسر. يقال انقصم سنه، وقصمت ظهر فلان، أي: كسرته. وروى ابن وهب عن بعض رجاله، أنه كان باليمن قربتان، فبطر أهلها وأترفوا حتى ما كانوا يغلقون أبوابهم، فبعث الله تعالى إليهم نبياً فدعاهم، فقتلوه، فألقى الله في نفس بخث نصر غزوهم، فبعث إليهم جيشاً، فهزموه، ثم بعث آخر فهزموه. فخرج

إليهم بنفسه، فهزمهم، فخرجوا يركضون فسمع مناد يقول: {لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ}. فرجعوا، فسمعوا صوتاً يقول: يا لثارات النبي فقتلوا كلهم. فهي التي عنى الله في هذه السورة حصدوا بالسيف. قال مجاهدك " قصمنا ": أهكلنا. وجرى الخبر عن القرية والمراد أهلها، لأن المعنى مفهوم. ثم قال: {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} أي: أحدثنا بعد إهلاك هؤلاء الظالمين قوماً آخرين سواهم. ثم قال: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ}. أي: فلما عاين هؤلاء الظالمون من أهل القرى العذاب، ووجدوا مسه، إذا هم مما أحسوا يركضون. أي: يهربون سراعاً يعدون. وأصله من ركض الدابة إذا حركت رجليك عليها فعدت. فقوله: {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ}.

لا يرجع إلى قوله: {قَوْماً آخَرِينَ} لأنه لم يذكر لهم ذنباً يعذبون من أجله، لكنه راجع إلى قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}. ثم قال: {لاَ تَرْكُضُواْ}. أي: لا تفروا ولا تهربوا. {وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ}. أي: إلى ما أنعمتم فيه من عيشكم وإلى، {وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تسألون عن دنياكم شيئاً. على وجه السخرية بهم والاستهزاء. قاله: قتادة. وقال مجاهد: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي: تنتهون. وقيل: معناه: لعلكم تسألون شيئاً مما شغلكم عما لكم فيه الصلاح، على التهدد. وقيل: معناه: لعلكم تسألون عما نزل بكم من العقوبة وعاينتموه من العذاب. ثم قال تعالى: {قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. أي: قالوا لمّا حلَّ عليهم العذاب: يا ويلنا. وهي كلمة يقولها من وقع في هلكة وتقال لمن وقع في هلكة.

{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بكفرنا بربنا. ثم قال تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}. أي: فما زالت تلك الكلمة دعواهم وهي الدعاء بالويل، والإقرار بالظلم. {حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ}. أي: حتى هلكوا فحصدوا من الحياة كما يحصد الزرع أفصاروا مثل الحصيد من الزرع. {خَامِدِينَ} أي: قد سكنت حركتهم كما تخمد النار فتطفأ. قال الضحاك ومقاتل ومجاهد: " حصدوا قتلاً بالسيف ". قال قتادة: " لما عاينوا العذاب، لم يكن لهم هِجِّيرَي إلا قولهم: يا ويلنا، إنا كنا ظالمين. حتى دمّر الله تعالى عليهم فأهلكهم. قال ابن عباس: " خامدين خمدوا النار، أي طفئت ولم ينتفعوا بالإيمان والندم/ عند معاينة العذاب، لأنه وقت قد رفع عنهم فيه التكليف. وإذا رفع التكليف، ارتفع القبول. وإنما القبول منوط بالتكليف. ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين}. أي: ما خلقناهما لعباً وعبثاً، إنما خلقناهم حجة عليكم أيها الناس، لتعتبروا

وتعلموا أن الذي خلقهما ودبرهما لا يشبهه شيء، وإنه لا تكون العبادة إلا له. وقيل: المعنى، ما خلقناهما وما بينهما لعباً ولا باطلاً، أي: ليظلم بعض الناس بعضاً، ويكفر بعضهم، ويخالف بعضهم ما أمر به، ثم يموتوا فلا يجازون بأفعالهم. وقيل: المعنى: ما خلقناهما لعباً، بل خلقناهما ليؤمر الناس بحسن وينهوا عن قبح. ثم قال تعالى: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً}. أي: زوجة وولداً، {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي: من عندنا. أي مما نخلق. لكنا لا نفعل ذلك، ولا يصلح لنا فعله. قال الحسن: اللهو: المرأة. وقاله مجاهد. وقال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن - المرأة. وقال ابن عباس: " لهواً: ولداً ".

وقيل: لهواً: نكاحاً. وقوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}. أي: ما كنا فاعلين. قاله قتادة. وقيل: إن: للشرط. والتقدير: إن كنا فاعلين، ولسنا ممن يفعله. واقل ابن جريج: " قالوا: مريم صاحبته، وعيسى ولده. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فأنزل الله: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ} الآية. ومعنى: " من لدنا " عند ابن جريج: " من عندنا من أهل السماء ولم نتخذه من أهل الأرض الذي تلحقهم الآفات والنقص ". {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} أي: ما كنا نفعل ذلك. ثم قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل}. قال مجاهد: الحق: القرآن، والباطل الشيطان. وكذلك كل ما في القرآن من

الباطل فهو الشيطان عنده. وتقديره في العربية ذو الباطل فتقديره: بل ننزل القرآن على الكفر وأهله {فَيَدْمَغُهُ} أي: فيهلكه. ولذلك قيل للشجة التي تبلغ الدماغ: (الدامغة) وقيل من سلم منها. قوله {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}. أي: ذاهب مضمحل. ثم قال تعالى: {وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ}. أي: ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته بقولكم: إنه اتخذ ولداً وزوجة. وقيل: معناه: ولكم واد في جهنم يستعيذ أهل جهنم منه. ثم قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ}. أي: كيف يجوز أن يتخذ ولداً من له من في السماوات والأرض، ومن عنده من الملائكة الذين ادعيتم أنهم بنات الله لا يستكبرون عن عبادتهم إياه {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي: ولا يعيون ولا ينقطعون عن عبادته. " وعند " في هذا بمعنى: قرب المنزلة عند الله لهم، وليس بمعنى قرب المسافة، لأنه لا تحويه الأمكنة فقد علمتم أنه ليس يستعبد والد ولده، ولا صاحبته، وكل من

في السماوات والأرض عبيده، فيكف يكون له صاحبة وولد، أفلا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم. ثم قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ}. أي: لا يكلون من تسبيحهم. قال كعب: " التسبيح لهم بمنزلة النفس لبني آدم ". وعنه أنه قال: " الهموا التسبيح كما ألهمتم الطرف والنفس ". وذكر علي بن معبد أن عمر بن الخطاب قال لكعب: خوفنا يا كعب. قال: " إن لله D ملائكة من يوم خلقهم قيام، ما ثنوا أصلابهم، وآخرين وركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين سجوداً ما رفعوا رؤوسهم حتى ينفخ في الصور النفخة الآخرة، فيقولون جميعاً: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك كما ينبغي لك أن تعبد ثم قال: والله لو أن رجلاً عمل عمل سبعين نبياً لا ستقل عمله من شدة ما يرى يومئذ، والله لو دلي من غسلين دلو واحد من مطلع الشمس، لغلت منه جماجم قوم من مغربها والله لتزفرن جهنم زفرة ولا يبقى ملك مقرب إلاّ خرّ

جاثياً على ركبتيه ". وروى ابن المبارك في حديث عن بعض شيوخه: " أن ملكاً لما استوى الرب جل ذكره على عرشه سجد فلم يرفع رأسه ولا يرفعه إلى يوم القيامة. فيقول يوم القيامة: لم أعبد حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً ". وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: " إن الله جزأ الخلق عشرة أجزاء، فجعل الملائكة تسعة أجزاء، وسائر الخلق جزء. وجزأ الملائكة/ عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء يسبحون الليل والنهار لا يفترون وجزءاً لرسالته. وجزأ سائر الخلق عشرة أجزاء فجعل الجن تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً. وجزأ بني آدم عشرة أجزاء، فجعل يأجوج ومأجوج تسعة أجزاء، وسائر بني آدم جزءاً ". وعنه أيضاً أنه قال: " الملائكة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء منهم الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفتون، وجزءاً واحداً لرسالته ولما شاء من أمره ". وقال ابن عباس: " كل تسبيح في القرآن، يعني: به الصلاة ". ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض}. أي: اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض: {هُمْ يُنشِرُونَ} أي: هذا الآلهة تحيي الموتى. بل الله هو الذي يحيي الموتى. وقرىء {هُمْ يُنشِرُونَ} بفتح الياء. والمعنى: هم يحيون فلا يموتون أبداً، كالله

24

الحي الذي لا يموت. ثم قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا}. أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير والله. و " إلا " بمعنى: غير: فاعرب الاسم الذي بعد " إلا " كإعراب " غير " لو ظهرت فرفع. هذا مذهب البصريين وسيبويه. وقال الفراء: " إلا " بمعنى سوى. ومعنى الآية: لو كان المعبود آلهة أو إلهين لفسد التدبير، لأن أحدهما يريد ما لا يريد الآخر، فإذا تم ما أراد أحدهما، عجز الآخر. والعاجز لا يكون إلهاً. وإذا فسد وجود إلهين أو آلهة، ولم يكن بد من خالق مقدر للأشياء، يقدم المقدم منها، ويؤخر المؤخر منها، ويوجدها بعد عدمها، ثبت أنه واحد. ثم قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي: فتنزيه لله تعالى وتبرئة له عما يفتري عليه هؤلاء المشركون من الكذب. ثم قال تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. أي: لا سائل يتعب عليه فيما يفعله بخلقه من حياة وموت وصحة ومرض، وغير ذلك وجميع الخلق. مسؤولون عن أفعالهم ومحاسبون عليها. قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} إلى قوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}. المعنى: اتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهة تنفع وتضر، وتحيي وتميت. قل

لهم يا محمد هاتوا برهانكم إن كنتم تزعمون أنكم محقون في أقوالكم أي: هاتوا حجة ودليلاً على صدقكم. وقيل: معناه: بل اتخذوا آلهة. وهو بعيد لقوله: " هم ينتشرون " لأنه يصير أنه أوجب ذلك لهم. وذلك لا يجوز. ثم قال: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي}، أي: هذا الذي جئتكم به من القرآن خبر من معي مما لهم من ثواب الله على إيمانهم، وما عليهم من عقاب الله على معصيتهم إياه، وكفرهم به. " وذكر من قبلي " من الأمم التي سلفت قبلي. أي خبرهم، وما فعل الله بهم في الدنيا، وما هو فاعل بهم في الآخرة. قال قتادة: " ذكر من معي " القرآن فيه الحلال والحرام. " وكذكر من قبلي " ذكر أعمال الأمم السالفة وما صنع الله بهم، وماهو صانع بهم وإلى ما صاروا. وقال ابن جريج: معناه: هذا حديث من معي، وحديث من قبلي. وقيلأ: المعنى: " وذكر من قبلي " يعني الكتب المتقدمة. أي: هذا القرآن وهذه الكتب المتقدمة لا يوجد في شيء منها. أن الله اتخذ ولداً، ولا كان معه إله. فالمعنى

على هذا أنه جواب ورد لقوله: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}. وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} أي: هذا ذكر من معي وهو القرآن وذكر من قبلي وهو التوراة والإنجيل هل فيهما أن العبادة للآلهة أو فيهما أن الله تعالى أذن لأحد أن يتخذ إلهاً من دونه. ول فيهما إلا أن الله إله واحد. ودل على ذلك كله أيضاً قوله بعد ذلك: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}. وقرأ يحيى بن يعمر " هذا ذكر " من معي " وذكر " من قبلي بالتنوين وكسر الميم من " مِن " وتقديره: هذا ذكر مما أنزل إلى وذكر مما قبلي. وأنكر أبو حاتم هذه القراءة، ولم يعرف لها وجهاً. ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق} أي: لا يعلمون الصواب من الخطأ. فهم معرضون عن الحق جهلاً به. وقال قتادة: " معناه: فهم معرضون عن كتا بالله. وقرأ الحسن: " الحقُّ " بالرفع، على معنى: هذا الحق، أو هو الحق. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون}. أي: ما أرسلنا الرسل من قبلك يا محمد إلا بالتوحيد وإلا بالعبادة لله

وحده، فهذا الأصل الذي لا بد منه/، والشرائع بعد ذلك تختلف، في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي القرآن شريعة. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48]. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً}. أي: قال الكافرون بربهم اتخذ الرحمان ولداً من ملائكته " سبحانه " ينزه نفسه وبيرؤها مما قالوا: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ}. أي: بل هم عباد مكرمون، أي: بل الملائكة الذين جعلوهم بنات الله عباد مكرمون. وقيل: عهنى به، الملائكة وعيسى عليه السلام. قال قتادة: " قالت اليهود إن الله جل ذكره صاهر الجن، فكانت منهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم: " بل هم عباد مكرمون ". وعنه أيضاً أنه قال: قالت اليهود وطوائف من الناس ذلك. ثم قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول}. أي: لا يتكلمون إلا بما أمرهم به قاله قتادة. {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي: لا يأمرون حتى يأمر.

وقيل: يعملون ما أمروا به. ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. أي: يعلم ما بين أيدي ملائكته مما لم يبلغوه وهم قائلون وعاملون. {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: وما مضى قبل اليوم مما خلفوه وراءهم من الأزمان والدهور وما عملوا فيه. قال ابن عباس: معناه: " يعلم ما قدموا وما أضاعوا من أعمالهم ". ثم قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى}. أي: لا يشفع الملائكة إلا لمن Bهـ. قال ابن عباس: " إلا لمن ارتضى " أي: ارتضى له بشهادة أن لا إله إلا الله وهذا من أبين الدلالة على جواز الشفاعة بشرط الرضا من الله D وقال مجاهد: " لمن رضي علمه ". ثم قال: {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. أي: من خوف الله وحذر عقابه حذرون خائفون. ثم قال تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}. أي: من يقل نم الملائكة إن إله من دون الله فَثَوَابُهُ جهنم. وقيل: عنى به إبليس، لأنه كان من الملائكة، ولم يقل ذلك أحد من الملائكة

غيره. قاله: ابن جريج وقتادة. ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين}. أي: كذلك نجزي كل من عبد غير الله، أو ادعى ما لايجب من الألوهية. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا}. أي: أو لم يعلم هؤلاء المشركون بقلوبهم فيعلمون أن السماوات والأرض كان كل واحد منهما لا صدع فيه. لا تمطر السماء ولا تنبت الأرض، {فَفَتَقْنَاهُمَا}. أي: فصدعهما الله بالماء والنبات، فأنزل الله من السماء الماء، وأخرج من الأرض النبات. هذا معنى قول عكرمة. قال: " فتقت السماء بالمطر، وفتقت الأرض بالنبات وهو قوله: {والسمآء ذَاتِ الرجع * والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11 - 12] وهو أيضاً قول عطية وابن زيد. وهذا القول اختيار الطبري، لأن بعده: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي: من الماء الذي فتقنا السماء به. ووحد رتقاً، لأنه مصدر. يقال: رتق فلان الفتق. إذا سده، فهو يرتقه رتقاً. وقيل: معنى: الآية كانتا ملتصقتين ففصلنا بينهما بالهواء، قاله: الحسن وقتادة.

وقال مجاهد: " كانت السماء مرتتقة طبقة واحدة، ففتقها الله سبع سماوات وكذا الأرض. وهو قول أبي صالح والسدي. وعن ابن عباس أن المعنى: " أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين بالظلام لأن الليل خلق قبل النهار، ففتقهما الله تعالى بضوء النهار ". وقوله: " إن السماوات " تدل على قول مجاهد. وقد قيل: إنما قال السماوات يريد به السماء، لأن كل قطعة منها سماء. وقيل: إنما قال: " السماوات " لأن املطر وري أنه ينزل من السماء السابعة. وروي أنه ينزل من الرابعة. وقد قالوا: ثوب أخلاق، فجمعوا لأن كل قطعة منه خلقة، فجمع لأن فيها قطع كثيرة. وقوله: " كانتا "، ولم يقل " كنَّ "، فإنما كان ذلك لأنهما صنفان، كما قال تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وقيل: إنما كان ذلك لأن السماوات كانت سماء واحدة، فعبر على الأصل. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.

31

أي: كل شيء له حياة وموت كالإنسان والبهيمة والزرع والشجر، لأن لها موتاً إذا جفت ويبست فحياة جميع ذلك بالماء. وقيل: هو حياة جميع الحيوان، إنما جيء بالماء الذي بنباته يعيش كل [شيء] حي. وقيل: عنى بالماء هنا، النفطة خاصة. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ}. إلى قوله: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}. أي: وجعلنا الأرض جبالاً لئلا تميد بالناس. قال قتادة/: " كانوا على الأرض تمور بهم، ولا يثبت عليها بناء فأصبحوا وقد خلق الله الجبال أوتاداً حتى لا تميد الأرض ". والميد التحرك والدوران. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً}. قال قتادة: " فجاجاً ": إعلاماً. " سبلاً ": طرقاً. قال ابن عباس: " وجعلنا فيها فجاجاً " أي: في الرواسي. وعنه: " الفجاج " كل شعب في جبل أو واد له منفذ.

وعنه أيضاً: " فجاجاً " بين الجبال. والفج في اللغة، الطريق بين الجللين. وقيل: الضمير في فيها يعود على الأرض، وهو اختيار الطبري لقوله تعالى: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}. أي: يهتدون إلى السير في الأرض. والأرض تؤنث وتذكر. والتأنيث أكثر. وحكى أبو زيد أرضون وأراض وأروض في جميع الأرض. ويجوز في القياس أرضات. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً}. أي: سقفاً للأرض محفوظاً بالملائكة من الشياطين. وقيل: معناه: محفوظاً من أن يقع على الأرض. وقيل: محفوظاً بالنجوم من الشياطين. وهو أولى، ودليله قوله تعالى ذكره: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [الصافات: 7]. وقال ابن جبير: السماء بحر مكفوف. ورفعه إلى النبي A.

وروى الحسن البصري أن النبي A قال: " السماء موج مكفوف ". قال قتادة: {سَقْفاً مَّحْفُوظاً} أي: مرفوعاً، وموجاً مكفوفاً. ثم قال تعالى: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}. أي: وهم عن شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من آياتنا، معرضون عن التفكر فيها، وتدبر ما فيها من الحجج والدلائل على توحيد الله وقدرته. ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر}. أي: ابتدعها. فمن ابتدع هذه الأشياء وخلقها، فله تجب العبادة لا لغيره. قال عكرمة: سئل ابن عباس عن الليل أكان قبل النهار أم قبل الليل؟ فقال: أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاص، أكان بينهما إلا ظلمة ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار. والليلة اسم للزمان من غروب الشمس إلى الانفجار الثاني. واليوم: اسم للزمان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وكذلك النهار، واليوم ألزم لهذا الوقت من النهار، لأن بعض العرب يجعل النهار من طلوع الشمس إلى غروبها.

حكى ذلك عن بعضهم أبو حاتم في كتابه صفة البرد والحر وصفة أوقات الليل والنهار. وقد يقع اليوم، اسماً للزمان، من طلوع الشمس إلى غروبها. وذلك مما جرت به العادات من الاستجارات ونحوها مما تعارق ذلك بين الناس، والأصل في اليوم، أنه اسم للزمان الذي تَعَبَّدَ الله به خلقه بالصيام والنهار مثله في أكثر اللغات. وأصل الليل والنهار أنهما صفتان لزمانين معلومين على ما ذكرنا. وقد قال الخليل: النهار ما بين الفجر إلى الغروب. ثم قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. قال مجاهد: " الفلك " كهيئة حديدة الرحى. وقاله ابن جريج. وقال الضحاك: " الفلك " هو سرعة جري الشمس والقمر والنجوم وسيرها. وقيل: " الفلك ": موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقيل: " الفلك " القطب الذي تدور به النجوم. وقال ابن عباس وقتادة: " في فلك السماء ".

وقال ابن زيد: " الفلك " الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر. وقرأ: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61]. وقال: فلك البروج بين السماء والأرض، وليست في الأرض. وعن الحسن أن الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل. وقال: " يسبحون " لأنه أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل. فأتى بالواو والنون في فعلها. ومعنى: " يسبحون " يجرون وينصرفون ويدرون. ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد}. أي: ما خلدنا أحداً من بني آدم في الدنيا، فنخلدك يا محمد فيها. أفئن مت فهؤلاء المشركون خالدون بعدك في الدنيا. وتقديره: أهم الخالدون إن مت. ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت}. أي: كل نفس معالجة غصص الموت، ومتجرعة كأسه. {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً}. أي: ونختبركم أيها الناس بالرخاء والشدة وبما تحبون وما تكرهون، لننظر صبركم عند البلاء وشكركم عند الرخاء.

وقال ابن عباس: معناه: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة/ والمعصية والهدى والضلالة. ثم قال تعالى: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. أي: تردون فتجازون بأعمالكم. والرجوع إلى الله في هذا وفي كل ما في القرآن، إنما معناه: إلى حكمه وإلى قضائه وعدله، وليس برجوع إلى مكان الله، ولا إلى ما قرب منه، لأنه لا تحويه الأمكنة، إنما هو بمنزلة قولك: رجع أمرنا إلى القاضي وإلى الأمير. فقرب المسافة لا يجوز على الله جل ذكره، فافهمه. ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً}. أي: يسخرون منك يا محمد إذا رأوك. يقول بعضهم لبعض: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} بسوء ويعيبها، تعجباً من ذلك. فيعجبون يا محمد من ذكرك آلهتهم وهي لا تضر ولا تنفع. وهم بذكر الرحمان الذي خلقهم، وأنهم عليهم كافرون ثم قال تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}. يعني: آدم خلق من العجلة وعلى العجلة. وقال ابن جبير: " لما نفخ في آدم الروح إلى ركبتيه ذهب لينهض فقال الله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}. وقال سلمان الفارسي: " لما خلق الله من آدم وجهه ورأسه، جعل ينظر، وهو

يخلق، قال وبقيت رجلاه. فلما كان بعد العصر قال: يا رب عجل قبل الليل. فقال: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}. ذكره ابن وهب عن رجاله. وقال قتادة: " معناه: خلق الإنسان عجولاً. وقال السدي: لما نفخ الله في آدم الروح فدخل في رأسه، عطس، فقال له الملائكة: قل الحمد لله. فقال: الحمد لله. فقال الله تعالى له: رحمك ربك. فلما دخل الروح في عينيه. نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن ينتهي الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}. وقيل: معناه: خلق آدم آخر النهار من يوم الجمعة قبل غروب الشمس فكان خلقه على استعجال. قاله ابن جريج: وغيره. قال ابن جريج: خلق الله آدم بعد خلق كل شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق. فلما آتى الروح عينيه ولسانه ورأسه، ولم يبلغ أسفله، قال: يا رب، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس، فذلك قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.

38

وقد قال ابن زيد: معناه: خلق الإنسان على عجل. خلق آدم آخر النهار من يوم الجمعة، فخلقه الله على عجل وجعله عجولاً. وقال الأخفش: إنما خلق الإنسان من عجل، لأنه خلق على تعجيل من الأمر، لأنه إنما قال له كن فكان. فخلق على استعجال وقال جماعة من النحويين: هو مقلوب. والمعنى: خلق العجل من الإنسان. وقيل: المعنى: خلق الإنسان من طين، لأن العجل من الطين. ثم قال: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}. أي: سأوريكم أيها المستعجلون ربهم بالآيات، القائلون لنبيه " فليأتنا بآية " فلا تستعجلون بالآيات فستأتيكم. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} إلى قوله: {ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. أي: ويقول المشركون متى يأتنا هذا الذي تعدنا يا محمد والوعد بمعنى الموعود. كما قيل: الخلق بمعنى المخلوق. والوزر بمعنى الموزور. {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يخاطبون النبي A والمؤمنين. و" متى " في موضع رفع عند البصريين. وفي موضع نصب عند الكوفيين

وكذلك الجواب عند الكوفيين إذا كان معرفة، نصب. يقول: متى وعدك؟ فالجواب عندهم يوم الجمعة بالنصب، فإن كان الجواب نكرة، كان نكرة مرفوعاً. لو قلت يوم قريب ونحوه رفعت. وحكى الفراء: اجتمع الجيشان: المسلمون جانب، والكفار جانب صاحبهم برفع الأولى لأنه نكرة. ونصب الثاني لأنه معرفة. والرفع عند البصريين، في جميع هذا الوجه، إذا كان الظرف متمكناً تقول: موعدك غُدْوة وبُكْرَة فترفع. فإن قلت موعدك بَكْرَاً. نصبت لأن بكراً غير متمكن. ويدل على صحة البصريين إجماع القراء المشهورين على الرفع في قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} [طه: 59]. ثم قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار}. أي: لو يعلم هؤلاء المستعجلون عذاب الله ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وظهورهم ولا يقدرون أن يكفوا ذلك عن أنفسهم، ففي " يكفون " ضمير " المشركين ". {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي: ولا ناصر لهم من عذاب الله يستنقذهم منه/. وفي الكلام حذف. قيل: التقدير: لو علموا ذلك، ما أقاموا على كفرهم.

وقيل: التقدير: لو علموا ذلك ما سألوا العذاب واستعجلوه. فقالوا: متى هذا الوعد، فهو جواب " لو " محذوف لعلم السامع. وقيل: التقدير: لو يعلمون ذلك، لا تعظوا وازدجروا عن كفرهم. وقيل: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة. فالمعنى: لو يعلمون ذلك علم يقين، لعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيه. ودل على هذا المعنى قوله: " بل تأتيهم بغتة " هذا قول الكسائي ومثله، {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 5]. أي: لو علمتم ذلك يقينً ما ألهاكم التكاثر. ثم قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا}. أي: ألهؤلاء المستعجلون ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم من دون الله إن حل عليهم العذاب. ثم وصف تعالى ذكره الآلهة بالضعف، فقال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} فمن لا يقدر أن ينصر نفسه، فكيف يقدر أن ينصر غيره.

وقوله: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ}. أي: لا تصحب آلهتهم من الله تعالى بخير. قاله قتادة. وقال مجاهد: {يُصْحَبُونَ}. أي: ينصرون. وعن مجاهد أيضاً: {يُصْحَبُونَ} يحفظون. وعن ابن عباس: {يُصْحَبُونَ} يمنعون. وعن ابن عباس: {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} أي: ولا الكفار منا يجارون من قوله: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} وهذا القول: اختيار الطبري ليكون الضمير يعود على الكفار. ويحتمل قول من قال: يحفظون ويمنعون وينصرون أن يكون الضمير يعود على الكفار. ثم قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر}. أي: متعناهم بالحياة، ومتعنا آباءهم من قبلهم، حتى طال عليهم العمر. وهم على كفرهم مقيمون. {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ}. أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون أنا نأتي الأرض نخربها من نواحيها بقهرنا أهلها

وقتلهم بالسيف، فيتعظوا بذلك، ويحذروا أن ينزل بهم مثل ذلك. وقال قتادة: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} يعني بالموت. وقال الحسن والضحاك: يعني فتح البلدان والأرض، يراد بها أرض مكة. ثم قال تعالى: {أَفَهُمُ الغالبون}. هذا تقريع وتوبيخ: أي: ليس هم الغالبون. ولكن رسول الله A الغالب. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي}. أي: بالقرآن. {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء}. أي: من أصم الله قلبه عن قبول الذكر، فليس يسمع سماعاً ينتفع به، إنما ينتفع به المؤمن. فعُني بالصم هنا المعرضون عن ذكر الله. فمن أعرض عن قبول شيء، فهو بمنزلة من لا يسمعه، وقت ما ينذر به. ثم قال تعالى: {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ}. أي: ولئن مسهم نصيب وحظ من عذاب ربك، " يقال: نفخ فلان لفلان من عطائه إذا أعطاه قسماً أو نصيباً من المال.

47

وقال قتادة: نفحة: عقوبة. وقيل: النفحة ها هنا: الجوع الذي أخذهم الله به بمكة. وقيل: " نفحة "، أقبل شيء من العذاب، وأدنى شيء منه. {لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. أي: ظلمنا في عبادتنا الأصنام وتركنا عبادة الله الذي خلقنا، وأنعم علينا. قوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط} إلى قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين}. أي: ونضع الموازين العدل في يوم القيامة. " اللام ": بمعنى: " في ". وقيل: " اللام " على بابها. والتقدير لأهل يوم القيامة. {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً}. أي: لا يؤخذ/ أحد بذنب غيره، أو بذنب لم يعلمه، أو يسقط له عما عمله من خير. قال ابن عباس: هذا بمنزلة قوله: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} [الأعراف: 8]. وروي أن الميزان له كفتان، وأن الأعمال تمثل بما يوزن. ويروى أنه إنما يوزن خواتمها.

وقال سلمن الفارسي: توضع الموازين يوم القيامة، فلو وضع في إحدى الكفتين السماوات والأرض، لوسعتهن. فتقول الملائكة: ربنا لمن وضعت هذا؟ فيقول: لمن شئت من عبادي. فيقولون: سبحان ربنا ما عبدناك حق عبادتك. وعن حذيفة: أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل A وشرّف وكرّم. وعن مجاهد: " الموازين ": العدل. وقال النبي A: " لا يذكر أحد حميمه عند الميزان ". وقوله: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}. أي: إن كان له عمل من الحسنات أو [عليه] عمل من السيئات وزن حبة من خردل، جئنا بها، فوفينا كلاً ما عمل. وقال ابن زيد: " أتينا بها " أي كتبناها، وأحصيناها له وعليه.

وقرأ مجاهد: " أتينا بها، بمعنى: جازينا بها. {وكفى بِنَا حَاسِبِينَ}. أي: وكُفينا حاسبين. أي حسب من شهد الموقف ذلك اليوم بنا حاسبين. إذ لم يغب عنا من أعمالهم شيء. " وحاسبين " نصب على الحال، أو على التمييز. وروى أحمد بن صالح عن قالون عن نافع: " القطط " بالصاد، لأجل الطاء والأصل، السين. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ}. أي: أعطيناهما الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل. وهو التوراة،

قاله قتادة. قال ابن زيد: الفرقان: الحق أتاه الله موسى وهارون، ففرق به بينهما وبين فرعون. قضى بينهم بالحق، وهو مثل: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] يعني: يوم بدر. وهذا القول اختيار الطبري لقوله: وضياء. فالضياء هو التوراة، أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم. وفي دخول الواو في " وضياء " دليل علكى أن الضياء غير الفرقان. وقوله: {وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} أي: وذكراً لمن اتقى الله بطاعته، وخاف ربه بالغيب أن يعاقبه في الآخرة. {وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ}. أي: من قيام القيامة حذرون أن تقوم عليهم، فيردوا على ربهم مفرطون فيما يجب عليهم من طاعته. وقرأ ابن عباس: " الفرقان ضياء " بغير واو. فيكون الفرقان على هذا القراءة التوراة بغير اختلاف.

ثم قال تعالى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ}. يعني القرآن. {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}. تقرير وتوبيخ للمشركين الذين أنكروه وقالوا: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. ثم قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ}. أي: ولقد وفقنا إبراهيم فأعطيناه هداه من قبل موسى وهارون. قال مجاهد: " معناه: هديناه صغيراً ". وقال ابن عباس: لما خرج وهو صغير من الموضع الذي جعل فيه، رأى كوكباً في السماء، وهي الزهرة تضيء فقال: هذا ربي. فلما غابت، قال: لا أحب الآفلين. ثم فعل ذلك مع الشمس والقمر. ثم قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79]. وقوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}. أي: عالمين أنه ذو يقين وإيمان بالله. إذ قال لأبيه: " أي حين {قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. أي: ما هذه الصور التي أنتم عليها مقيمون. يعني أصنامهم التي كانوا يعيدون. ثم قال: {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}. أي: قالوا لإبراهيم إنما عبدنا هذه الأصنام لأنَّا وجدنا آباءنا لها عابدين.

قال لهم إبراهيم A: { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: في ذهاب عن الحق بعبادتكم هذه لأصنام. " مبين " أي: ظاهرين. قالوا لإبراهيم {أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي: أحق ما تقول. أم أنت لاعب من اللاعبين. قال لهم إبراهيم: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} أي: بل جئتكم بالحق لا باللعب. " ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن " أي: خلقهن. {وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} أي: أنا شاهد من الشاهدين أن ربكم رب السماوات والأرض/ دون التماثيل التي تعبدون. ثم قال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}. أقسم إبراهيم بهذا في نفسه سراً من قومه، لم يسمعه منهم أحد إلا الذي أفشاه عليه. إذ قال: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]. قال مجاهد: قال ذلك إبراهيم حين استأذنه قومه إلى عيد لهم فأبى وقال: " إني سقيم "، فسمع منه وعيد أصنامهم رجل منهم استأخر وهو الذي يقول: " سمعنا فتى يذكر يقال له إبراهيم ". ثم قال تعالى ذكره: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ}.

أي: فجعل الأصنام حطاماً إلا صنماً كبيراً لهم، فإنه تركه لم يحطمه، وعلق الفأس في عنقه ليحتج به عليهم إن فطنوا به، وهو صنم كبير في الصورة. وقيل: هو أكبرها عندهم، لا أكبرها في صورته. وقوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}. أي: لعلهم يؤمنون به إذا رأوها مكسرة لم تدفع عن أنفاسها ضر من أرادها، ولم يدفع عنها كبيرها شيئاً. قال السدي: " قال أبو إبراهيم له، إن لنا عيداً لو خرجت معنا، والله قد أعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه، معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق، ألقى نفسه وقال: إني سقيم أشتكي رجلي وهو صريع. فلما مضوا، نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فسمعوها منه. ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، فإذا هن في بهو عظيم، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الآلهة. قالوا: إذا كان حين نرجع، رجعنا وقد

60

باركت الآلهة في طعامنا، فأكلنا. فلما نظر إليها إبراهيم، وإلى ما بين أيديها من الطعام. قال: {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}. فلم تجبه. فقال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} فأخرج حديدة فنقر كل صنم في حافتيه، ثم علق الفأس في عنق الأكبر، ثم خرج، فلما رجعوا، قالوا: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين}. " والجذاذ " بالضم جمع جذاذة، كزجاجة وزجاج. وقيل: هو مصدر كالحطام والرفات. ومن كسر جعله جمع جذيذ وجذيذ معدول عن مجذود كجريح بمعنى مجروح، فيكون ككبير وكبار وصغير وصغار وثقيل وثقال. وقال قطرب: هو مصدر ضم أو كسر أو فتح، وهي لغات فيه بمعنى والجذاذ. أي: الحطام والفتات، ومنه الجذيذة. قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} إلى قوله: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين}. أي: قال الذين سمعوه [حين] قال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ}،

{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي: يذكرهم بسوء. وقيل: يذكرهم: يسبهم ويعيبهم. {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي: يقال له يا إبراهيم. وقيل: التقدير: يقال له: هو إبراهيم، أو المعروف به إبراهيم: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}. أي: قال بعضهم لبعض: فجيئوا به على رؤوس الناس لعلهم يشهدون عليه أنه هو الذي فعل هذا. قال قتادة: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة. وقيل: معناه: لعلهم يعاينون العقوبة التي تختص به. ثم قال: {قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم}. في الكلام حذف والتقدير: فأتوا به، فلما أتوا قالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال لهم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} إنه غضب من أن تعبد معه هذه الصغار، وهو أكبر منها فكسرها. وقيل: التقدير: بل فعله كبيرهم هذا، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. أي: إن

كانت الآلهة المكسرة تنطق، فإن كبيرهم هو الذي كسرهم غضباً أن تعبد معه وهو كبيرهم. وقد أتت الأخبار عن النبي A أنه قال: إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله. قوله تعالى: بل فعله كبيرههم هذا. وقوله: " إني سقيم " وقوله في سارة: " إنها أختي " وهذا عند أهل العلم غير مكروه، لأنه يجوز أن يكون الله تعالى أذن له في ذلك كما أذن/ ليوسف أن يقول مؤذنه لأخوته " إنكم لسارقون " ولم يكونوا سرقوةا شيئاً. وقد خرجَّ العلماء لإبراهيم عليه السلام الأشياء الثلاثة وجوهاً تخرج إلى غير الكذب. فسارة أخته في الدين، وقوله: " إني سقيم " معناه: مغتم بضلالكم حتى أنا كالسقيم. وقيل معناه: إني سقيم عندكم، وقيل: يجوز أن يكون ناله من ذلك الوقت مرض. وقيل: معناه: إني سأسقم، لأن كل من كان مصيره إلىلموت، فلا بد من أن يسقم.

وقيل: لا يكون الكاذب إلا الآثم، وما ليس فيه إثم، فليس بكذب. دل على ذلك قول الملكين {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} [ص: 22] ولم يكونا خصمين ولا كان بغي ولكن عرضا بذلك لداود للقصة التي جرت له في المرأة التي تزوجها. والمبرد معناه إذا كنا خصمين فبغى أحدنا على صاحبه فما الحكم؟. ثم قال تعالى: {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون}. أي: ففكروا حين قال لهم إبراهيم، بل فعله كبيرهم هذا. ورجعوا إلى عقولهم ونظر بعضهم إلى بضع فقالوا إنكم إيها القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقِيلكم له " من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ". فهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها. ثم قال تعالى: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ}. أي: ثم [غلبوا] في الحجة واحتجوا على إبراهيم بما هو حجة له عليهم، فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء الأصنام ينطقون. أي: لا تتكلم فتخبرنا من فعل بها هذا. وقال قتادة: " نكسوا عن رؤوسهم: " انقطعت حجتهم ". يقال: نكس الرجل على رأسه إذا انقطعت حجته، كأنه طأطأ رأسه استحياء.

وعن قتادة أيضاً أنه قال: " أدركت القوم حيرة سوء "، يعني: حين قاله لهم إبراهيم: فاسألوهم إن كانوا ينطقون. وقيل: المعنى: نكسوا في الفتنة والشرط بعد المعرفة: قاله: ابن عباس والسدي فيكون معناه: ثم رجعوا كما عرفوا، وتيقنوا من حجة إبراهيم عليهم السلام. فقالوا: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. ثم قال تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ}. أي: قال إبراهيم لقومه لما أقروا أن آلهتهم لا تنطق، أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم، لأن من لا ينفع نفسه فيدفع عنها الضرر، فليس ينفع غيره. ثم قال لهم إبراهيم: {أُفٍّ لَّكُمْ}. أي: قبحاً لكم، وشراً لكم وللآلهة التي تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون خطأكم في عبادتكم ما لا ينفع ولا يضر، وترككم عبادة الذي بيده النفع والضر. وقد تقدم شرح أف في " سبحان ". ثم قال تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.

أي: قال بعضهم لبعض، حرقوا إبراهيم بالنار وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها ولم تريدوا ترك عبادتها. رويَ أن الذي قاله: رجل من اكراد فارس. وروي أن الله تعالى ذِكْرُهُ خَسَفَ به الأرضَ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقال ابن عمر: الذي أشار بذلك، رجل من أعراب فارس. وهم الكرد، فأعراب فارس يقال لهم الكرد. ثم قال تعالى ذكره: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ}. في الكلام حذف، والتقدير: فأوقدوا له ناراً وألْقوه فيها، فقلنا يا نار كوني

برداً وسلاماً. قال السدي: حبسوه في بيت، وجمعوا له حطباً، حتى إن كانت المرأة لتمرض، فتقول: إن عافاني الله، لأجمعن حطباً لإبراهيم. فلما جمعوا وأكثروا، بنوا بنياناً وأوقدوا النار حتى أن الطير لتمر بها فتحترق من شدة وهجها وحرها. ثم عمدوا إلى إبراهيم A وشرَّفَ وكرَّم، فَرَفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه إلى السماء فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة: ربنا إبراهيم يحرق فيك. فقال جل وعز: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه. وقال إبراهيم A حين رفع رأسه إلى/ السماء: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض من يعبدك غير حسبي الله ونعم الوكيل. فقذفوه في النار فناداها " يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ". فكان جبريل، هو الذي ناداها ". وقال أرقم " إن إبراهيم عليه السلام حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك "؟ قال كعب: " ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار، ولا أحرقت بالنار يومئذ شيئاً إلا وثاق إبراهيم عليه السلام.

قال ابن عباس: " لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها. فلم تبق يومئذ نار في الأرض. إلا طفئت ظنت أنها هي تعنى. فلما طفئت النار، نظروا إلى إبراهيم عليه السلام، فإذا هو ورجل آخر معه، وإذا رأس إبراهيم A في حجره يمسح عن وجهه العرق. وذكر أن لك الرجل هو ملك الظل. وأنزل الله تعالى ناراً فانتفع بها بنو آدم وآخرجوا إبراهيم A فأدخلوه على الملك نمرود ولم يكن قبل لك دخل عليه ". قال كعب: ما أحرقت النار منه إلا وثاقه. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: " لولا أنه قال: " وسلاماً " لقتله بردها ". قال بكر بن عبد الله: لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار، قالت الخليقة: يا رب، خليلك يلقى في النار؟ فأذن لنا حتى ننصره. فقال الله D: هو خليلي، ليس لي

خليل غيره. وأنا إلهه ليس له إله غيري، فإن استغاث بكم فأغيثوه. فجاء ملك القطر فقال: يا رب، إئذن لي فلأطفينها عنه. فقال الله D هو خليل ليس لي خليل غيره، وأنا إلهه، ليس له إله غيري إن استغاث بك فأغثه. فقال الله D: { قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ}. فما أحرقت ذلك اليوم عراكاً. وقال قتادة: " كانت الدواب كلها تطفئ عن إبراهيم النار إلا الوزغ ". وروى عن إبراهيم A أنه قال: ما كنت أياماً قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار. ولما رفع عن إبراهيم الطبق ورآه والده يرشح جبينه، قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم، فكان ذلك أحسن شيء قاله: أبو إبراهيم. قال: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة وذبح إسحاق هو ابن سبع سنين، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين ولما علمت سارة بما أراد بإسحاق

بطنت يومين وماتت في اليوم الثالث. وروى معتمر بن سليمان أن جبريل A لما جاء إبراهيم وهو يوثق ويقمط ليلقى في النار. قال يا إبراهيم: ألك حاجة؟ قال: أما إليك. فلا. ويروى أن إبراهيم كان في زمان نمرود، فملا كسر إبراهيم A أصنامهم كما قص الله علينا في كتابه بنى نمروج بناء طوله ثمانون ذراعاً في عرضه أربعون ذراعاً، وأقد فيه النيران، ثم جعل إبراهيم في منجنيق فقذف به في النار، فقال الله جل ذكره للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فبردت ذلك اليوم، فلم ينتفع به أحد. ولولا ما قال تعالى: " وسلاماً " لآذت إبراهيم ببردها.

وروى أن جبريل عليه السلام أتى إبراهيم وهو في المنجنيق، فقال يا إبراهيم، سلني حوائجك، إن كنت تريد أن أجعل الأرض عليهم عاليها سافلها فعلت. فقال إبراهيم عليه السلام: إني رفعت حوائجي إلى الله، ولست أسأل أحداً غيره. فقال جبريل A: لو كان ينبغي لله أن يتخذ خليلاً، لاتخذك خليلاً. فاتخذ الله إبراهيم خليلاً، فلما رمي إبراهيم في النار، أشرف نمرود ينظر إلى النار فرأى فيها عدة يذهبون ويجيئون، فدعا حاجبه، وفتح بابه، وأدخل عليه أشراف قومه فقال لهمه: كم طرحتم في النار؟ فقالوا: إبراهيم وحده. قال فهو هذا معه عدة قد صار الجحيم عليهم مثل الأرض، فركب نمروج حتى أتى النار فصاح: يا إبراهيم، فقال إبراهيم: ما تشاء. قال: إنك لحي، قال نعم والحمد لله. قال: فمن هؤلاء النفر معك؟ قالم ملائكة ربي. قال: تقدر أن تخرج؟ قال: نعم. قلا: فاخرج. فانفرج/ له الجحيم فخرج A وقد زاده الله جمالاً ونوراً. فقال نمرود: إنك لكريم على ربك. فقال إبراهيم: كذا هو لمن أطاعه. فقال: نمرود: أتراني إن تقربت إليه بقربان يقبله مني؟ فقال إبراهيم: إنما يتقبل الله من المتقين. فذبح نمرود أربعة آلاف كبش. فأكل الناس منها حتى أكل الطير والسباع والهوام. ثم قال يا إبراهيم أرني جند ربك الذي تهددني بهم فقال إبراهيم A: اللهم أره أضعف جندك. فنزلت سحابة فقال إبراهيم: في هذه جند ربي فقال: أرنيهم. فانتشر منها بعوض فما برح نمرود حتى رأى عظام من حضر من

أصحابه، وعظام خيلهم قد أكلتهم البعوض إلا العظام. ثم وقعت واحدة في شفة نمرود السفلى فصح حتى أمر بها فقطعت، فارتفعت إلى شفته العليا، فاستغاث فقطعت، ثم دخلت في مخره، فما كان يهدأ ليلاً ولا نهاراً. وكان يضرب رأسه بمرزبة من حديد، فأقام في ذلك أربع مائة سنة. وقال الحسن: لما ألقي إبراهيم A في النار، لم يؤذه حرها، فقالوا: سحرها فما لها حر. ويروى أنهم بنوا له بنياناً ارتفاعه أربعون ذراعاً وطوله على وجه الأرض ثمانون ذراعاً، فأوقدوا فيه النار، ووضعوا إبراهيم عليه السلام في المنجنيق وألقوه في الجحيم، فقال الله تعالى للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، ولو لم يقل تعالى ذكره: " وسلاماً " لمات إبراهيم من البرد في وسط النار، فكان إبراهيم جالساً في النار على زرابية من الجنة. قال الحسن: فلما رأوه لا يؤذه حرها، قالوا: سحرها. فقال لهم إبراهيم A: جربوها برجل منكم. فألقو فيها رجللاً فأكلته. ويروى عنه أنه قال: لما أوثقوه ليلقوه في النار، قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد والك الملك لا شريك لك. وذكر الشعبي عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما ألقي إبراهيم في البنيان والنار، قال حسبي الله ونعم الوكيل. فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم. وقال زيد بن أسلم: قال إبراهيم حين أرادوا أن يلقوه في النار: اللهم أنت إلهي، الواحد في السماء وأناع عبدك الواحد في الأرض حسبي الله ونعم الوكيل. فقال الله تعالى للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.

71

ثم قال: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} أي: الهالكين. قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً} إلى قوله: {لَنَا عَابِدِينَ}. أي: ونجينا إبراهيم ولوطاً من أعدائهما نمرود وقومه، من أرض العراق الأرض التي باركنا فيها للعالمين. وهي أرض الشام قاله قتادة والحسن، وقاله أُبي بن كعب وغيره. وكان لوطاً ابن أخي إبراهيم. ويروى أن سارة زوج إبراهيم أخت لوط، يريدون أخت لوط لأمه، إلا يحل تزوج أخت ابن الأخ لأب أو لأب وأم. ولوط هو ابن هارون بن بارح أبي إبراهيم. وهارون هو أخو إبراهيم. كان نمرود إله أريكوثا من أرض العراق فهاجر إلى أرض الشام، خرجا إليها مهاجرين. ويروى أن جميع الأمواه العذبة تخرج من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. ويقال: هي أرض المحشر والمنشر. وبها تجتمع الناس وبها ينزل عيسى، وبها يهلك الله مسيح الضلال الكاذب الدجال. قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم مهاجراً إلى ربه، وخرج معه لوط مهاجراً، وتزوج إبراهيم سارة بنت عمه، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على

عبادة ربه، حتى نزل حران، فمكث بها ما ش اء الله أن يمكث. ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، فنزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام ونزل لوط بالمؤتفكة. وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعث الله نبياً. وقيل: إن سارة إنما هي بنت ملك حران، تزوجها واشترط لها ألا يغيرها. وكان لوط ابن أخت إبراهيم. وكان مسك لوط بحران. وقال ابن عباس قوله: {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}. مكة ونزول إسماعيل البيت، ودل على ذلك قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]. ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي: ولد الولد/ فالنافلة يعقوب. قاله: ابن عباس وقتادة.

وقال ابن جريج: النافلة: إسحاق ويعقوب. ومعنى النافلة: عطية. أي: وهبناهما له عطية من عندنا وكذلك قال مجاهد. فعلى القول الأول، يقف على " إسحاق " وعلى هذا القول، لا تقف عليه. ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ}. أي: وكلهم جعلنا عاملين بطاعة الله. ثم قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}. أي: أئمة يهتدى بهم في أمر الله، قاله قتادة. وقيل: جعلهم أئمة يؤتم بهم في الخير. وقيل: المعنى: يهدون الناس بأمر الله إياهم بذلك، ويدعونههم إلى الله وإلى عبادته. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات}.

74

أي: أن أفعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة، أي: أمرناهم بذلك. فالمصدرن يقدر بأن والفعل. ثم قال تعالى: {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ}. أي: خاشعين لا يستكبرون عن عبادتنا. و" عابدين " وقف إن نصبت " ولوطاً " بإضمار فعل. أي: واذكر لوطاً. قوله تعالى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ}. المعنى: وآتينا لوطاً آتيناه حكماً وهو فعل القضاء بين الخصمين وعلماً بأمر دينه. {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث}، أي: من العذاب الذي نزل بالقرية، وهي قرية سدوم التي بعث لوط إلى أهلها، والخبائث هو إتيان الذكور في أدبارهم وإظهار المنكر في مجالسهم، فاخرجه الله مع ابنتيه ومن آمن إلى الشام حينأ راد الله إهلاك قومه، لأنهم كانوا قوم سوء " فاسقين ". أي: خارجين عن طاعة الله تعالى مخالفين لأمره. ثم قال: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ}. أي: أنجيناه من العذاب فدخل في الرحمة. وقال ابن زيد: هو دخوله في الإسلام.

{إِنَّهُ مِنَ الصالحين}. أي: من العالمين بطعة الله. ثم قال تعالى ذكره: {وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ}. أي: واذكر نوحاً إذ نادى ربه من قبلك. ومن قبل إبراهيم ولوط، وسأل أن يهلك قومه الذين كذبوه فاستجبنا له دعاءه، ونجيناه وأهله. يعني أهل الإيمان من ولده وحلائله من الكرب العظيم، وهو الغرق الذي حل بقومه، وبجميع من في الأرض. ثم قال: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}. أي: ونصرناه على القوم المكذبين، فأنجيناه منهم وأغرناقهم أجمعين، لأنهم كانوا قوم سوء، يعصون الله، ويكذبون رسوله. ف " من " بمعنى " على ". ثم قال: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ} أي: بالنجاة. وقيل: في الإسلام. " إنه من الصالحين " من العالمين بطاعة الله. ثم قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم}. أي: واذكر داود وسليمان حين يحكمان في الحرث. قال قتادة: ذكر لنا أن غنم القوم وقعت في كرم ليلاً.

وقال ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد أنبت عناقيده. يقال: نفشت الغننم، إذا رعت ليلاً. فهي نفاش ونفاش ونفش وإذا رعت النهار قيل: سرحت وسَرَبَت وهملت. قال الزهري: النفش بالليل والهمل بالنهار. وقوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي: الحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم شاهدين، لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب. ثم قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي: ففهمنا القضة سليمان دون داود، {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} أي: وكلهم، يعني داود وسليمان والرسل المذكورين في هذه السورة. {آتَيْنَا حُكْماً} يعني النبوة وعلماً بأحكام الله. قال ابن عباس: دخلت الغنم ليلاً، فأفسدت الكرم، فاختصموا إلى داود. فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فمروا على سليمان، فأخبروه فقال: كان غير هذا الحكم أرفق بالجميع. فدخل صاحب الغنم، فأخبر داود، فقال لسليمان: كيف الحكم عندك. فقال: يا نبي الله، تدفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيصيب من ألبانها وأصوافها وأولادها، وتدفع الكرم إلى صاحب الغنم يقوم به حتى يرجع إلى حاله. فإذا رجع إلى

حاله، سلم الكرم إلى صاحبه والغنم إلى صاحبها. وكذلك قال مجاهد وشريح وقتادة وجماعة من الكوفيين يزعمون أن هذا الحكم منسوخ، وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً ليلاً أو نهاراً أنه لا يلزم أصحابها شيء/. قال: هو منسوخ بقوله A: " العجماء جبار " ولم يقل بهذا أحد غير أبي حنيفة. وقد حكم بالضمان لما أفسدت البهائم بالليل ثلاثة من الأنبياء: داود وسليمان ومحمد A. قضى النبي أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.

وقال أبو حنيفة: لا ضمان. ومعنى قوله A: " جرح العجماء جبار " إنما يعني به ما أصابت البهيمة فلا أرض فيه إذا لم يكن على صاحبها حفظها، لأن العلماء قد أجمعوا على أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها، إذ عليه حفظها ولا خلاف فيها إلا خلاف من لا يعد خلافاً. فإذا الزم ما أصابت بيديها الدابة فليس بجبار إلا إذا لم يكن على صاحبها حفظها وتضمين أصحاب الماشية ما أصابت بالليل. وهو قول مالك والشافعي. فالذي يحكم به في مثل هذه القضية في الإسلام أن يقوم ما أفسدته الماشية من الكرم، ويغرمه أرباب الماشية لأهل الكرم، لأن حفظ الليل كان عليهم لازماً، فلما فرطوا ضمنوا الجناية. ويروى أن ناقة للبراء بن عازب رعت نباتاً لقوم، فقضى رسول الله عليه السلام أن على أهل الثمار حفظها بالنهار، وضمن أصحاب المواشي ما أصابت مواشيهم بالليل.

وخالف أبو حنيفة هذا الحكم، وزغم أنه منسوخ بقول النبي A: " العجماء جبار " والرواية عند أهل الحديث: العجماء جرحها جبار. وقد أجمع أن على راكب الدابة ما أصابت بيديها، فدل ذلك أن ما أصابت جبار إذا لم يكن صاحبها معها أو قائدها. فخالف أبو حنيفة، في هذا داود وسليمان ومحمداً A وجميع العلماء. " وجبار " مشتق من جبرت العظم، إذا لامته، وجبرت الرَّجْلَ، إذا نعشته فكان صاحبها يجبر وينعش بإسقاط ما جنته الدابة عنه من غير أن يكون له فيه فعل. ويجوز أن يكون من أجبرت الرجل على الشيء، إذا قهرته عليه، فتكون الدابة كلها مجبرة من حيث عليه أن لا يأخذ في الجناية بشيء. وقد قيل: إن الذي أفسدت الماشية كان زرعاً فقضى فيه سليمان أن يأخذ صاحب الزرعغ الماشية ينتفع بألبانها. وأصوافها إلى أن يأتي حول ثاني، ويزرع له صاحب الماشية مثل زرعه. فإذا بلغ الحد الذي كان عليه وقت رعته الماشية، دفعه إلى صاحب الزرع، وأخذ ماشيته. وقيل: كانا نبيين يحكمان في وقت بأمر الله ووحيه. فكان داود يحكم بحكم أمره الله به. فيحكم به في الزرع، ثم نسخه الله، فأوحى إلى سليمان نسخه فحكم به في ذلك. فكل حكم بحكم الله تعالى وأمره له. وحكم سليمان ناسخ لحكم داود بأمر الله له ووحيه إليه. ولذلك قال: وكلاً آتينا حكماً وعلماً.

ثم قال تعالى: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}. قال زيد بن أسلم: الحكم، أو الحكمة العقل. وقال مالك: وإنه ليقع بقلبي أن الحكمة، الفقه بدين الله D، ولين يدخله الله القلوب من رحمته وفضله. ثم قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ}. أي: يسبحن معه إذا سبح. وقال قتادة: " معنى " يسبحن هنا، يصلين معه إذا صلى. " والطير " يجوز أن يدخلن في التسبيح مع الجبال، وهو الأولى، ويجوز أن يدخلن في التسخير لا غير. ثم قال: {وَكُنَّا فَاعِلِينَ}. أي: فاعلين بقدر ما نريد. وقيل: المعنى: وكنا فاعلين للأنبياء مثل هذه الآيات. وقيل: معناه: وكنا قضينا أن نفعل ذلك به في أم الكتاب. ثم قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ}. أي: وعلمنا لداود صنعة سلاح وهو الدرع هنا. واللبوس في كلام العرب: السلاح كله: الدرع والسيف والرمح وغير ذلك. وكان أول من صنع هذه الحلق

81

والسرد داود. وقوله: {لِتُحْصِنَكُمْ} أي: ليُحرزكم إذا لبستموها، ولقيتم أعداءكم من القتل، فهل أنتم أيها الناس شاكرون الله على نعمه عندكم. قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} إلى قوله: {وذكرى لِلْعَابِدِينَ}. أي: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة. وعصوفها، شدة هبوبها، تجري بأمر سليمان إلى الأرض التي/ باركنا فيها، يعني إلى أرض الشام. كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث شاء، ثم تعود به إلى منزله بالشام. وقال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج من مجلسه عكف عليه الطير وقام له الإنس والجن، حتى يجلس على سريره. وكان امرأ غزاء، قلما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا تاه حتى يذله، كان إذا أراد الغزو، أمر بعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه النساس والدواب وآلة الحرب كلها، حتى إذا حمل معه ما يريد، أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته، حتى إذا استفلت، أمر الرخاء، فمرته شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد. وهو قوله تعالى ذكره: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ} وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. ثم قال تعالى: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}. أي: بصلاح كل الخلق، وبما أعطينا سليمان مما فيه صلاح له وللخلق، عالمين بذلك، لا يخفى علينا منه شيء.

ثم قال تعالى: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ}. أي: وسخرنا له من الشياطين قوماً يغوصون له في البحر، " ويعملون عملاً دون ذلك " يعني البنيان والتماثيل والمحاريب وغير ذلك من الأعمال. قال الفراء: دون ذلك: أي: سوى ذلك. فإن قيل: كيف تهيأ للجن هذه الأعمال من البنيان العظيم واستخراج الدر من قعور البحار وغير ذلك، وأجسامهم رقيبة ضعيفة لا تقدر على حمل الأجسام العظام ولا تقدر على ضر الناس إلا بالوسوسة لضعفهم ورقة أجسامهم. فالجواب أن الذين سخروا لهذه الأعمال أعطاهم الله قوة على ذلك، وذلك من إحدى المعجزات لسليمان. فلما مات سليمان، سلبهم الله تعالى تلك القوة، وردههم على خلقتهم الأولى، فلا يقدرون الآن على حمل الأجسام الكثيفة ونقلها. ولو أظهروا ذلك، وقدروا عليه، لدخلت على الناس شبهة من جهتهم وتوهيناً لمعجزات الرسل. وكذلك سخر الطير له بأن زاد في فهمها عنه وقبولها لأمره، وخوفها عقابه، وذلك من معجزات سليمان. فلما مات، زال ذلك عنها، ورجعت إلى ما خلقت عليه. ثم قال تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}. أي: لأعمالهم وأعدادهم وطاعتهم له، حافظين. وقيل: المعنى: وكنا لهم حافظين، أن يفسدوا ما عملوا.

وقيل: حافظون لهم أن يهربوا منه ويمتنعوا عليه فحفظهم بما شاء من ملائكة أو جن مثلهم طائعين لله. ثم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضر}. أي: واذكر يا محمد أيوب حين نادى ربه، وقد مسه الضر والبلاء. رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له دعاءه فكشفنا ما به من ضر. ويروى أنه ما نادى إلا بعد تسع سنين، وكان الضر الذي نزل به اختباراً من الله تعالى له، وامتحاناً. وكان الله قد وصع عليه في دنياه، وأعطاه ولداً وأهلاً، فاختبره الله بهلاك ماله فشكر وعلم أنه من عند الله. ثم ابتلاه بذهاب أهل وولده فصبر وشكر، ثم ابتلاه بالبلاء في جسمه، فتناثر لحمه، وتذود جسمه وعظم عليه البلاء حتى أخرجه أهل بلده من قريتهم، ورموه على تل من الأرض خارج القرية وكان إبليس في خلال تلك المحن يتصور له ويستفزه أن يكفر بنعم الله أو بغضم لما حل عليه، ولم يجد فيه إحالة عن شكره وذكره، ولم يبق من أهله إلا امرأة واحدة تقوم عليه وتكسب له، وإبليس اللعين يتلطف أن يستفز أحدهما بزلة أو كفر، فلم يقدر على ذلك. قال وهب بن منبه: فبلغني أنها التمست له يوماً من الأيام ما تطعمه، فما وجدت شيئاً حتى جزت قرناً من رأسها فباعته برغيب فأتته فعشته أياه. قال وهب: فلبث في ذلك البلاء ثلاث سنين.

وقال الحسن البصري: مكث في ذلك البلاء تسع سنين وستة أشهر ملقى على رماد في جانب القرية، فلما اشتد بلاؤه وعظمت مصيبته أراد الله تعالى أن يفرج عنه، فقيل له: يا أيوب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك وقد وهبت لك أهلك ومثلهم معهم وولدك ومثلهم معهم، وعمرك ومثله معه، لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء، وعزاء للصابرين. فركض برجله، وانفرجت له عين فدخل فيها فاغتسل. فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء، ثم خرج وجلس، وأقبلت امرأته تلتمسه في مضعجعه، فلم تجده، وقامت كالواهلة ملتدمة، ثم قالت: يا عبد الله، هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا؟ قال: لا، ثم تبسم فعرفته واعتنقته. قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، ما فارقته من عناقه حتى موجهاً كل مال لهما وولد. ويروى أن الله جل ذركه رد عليه أهله ومثلهم معهم، وأمطر عليهم فراشاً من ذهب، فجمع حتى ملأ كل ما أراد، وأقبل يشحن في ثيابه فأوحى الله إليه، أما يكفيك ما جمعت حتى تشحن في قميصك؟ فقال أيوب: وما يشبع من خيرك؟ ويروى أن إبليس اللعين تمثل لامرأة أيوب A في هيئة شريفية ومركب له هيبة، وقال [لها]: أنت صاحبة أيوب المبتلى؟ فقالت: نعم. قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا. فقال: أنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني.

ولو سجد لي سجدة واحدة لرددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد. ثم مثل لها أباهم ببطن الوادي الذي لقيها فيه وقال إن صاحبك أكل طعاماً ولم يسمنى عليه لعوفي مما به من البلاء، فرجعت امرأة أيوب إليه، فأخبرته بما قال لها وما أراها فقال لها أيوب، قد أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك. ثم أقسم أن الله عافاه ليضربنها مائة ضربة. قال ابن عباس: لما ابتلاه الله بما ابتلاه [ولم يشأ] الدعاء في أن يكشف عنه ما به من ضر، غير أنه كان يذكر الله كثيراً ولا يزيده البلاء في الله إلا رغبة وحسن إيمان، فلما انتهى الكتاب أجله أذن له في الدعاء فدعا، فكشف ما به، ورد عليه مثل أهله وماله الذين ذهبوا، ولم يرج عليه الذي هلك، لكن وعده أن يوليه إياهم في الآخرة، قال مجاهد. قال: خُيِّرَ أيوب أن يرد عليه أهله ومثلهم معهم في الدنيا، أو يعطى في الدنيا مثل أهل، ويرد عليه في الآخرة أهله، فاختار أن يردوا عليه في الآخرة ويعطى في الدنيا مثلهم، وقال ابن عباس. وقال الحسن: رد عليه ماله الذي ذهب ومثلهم معهم من النسل. ثم قال: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ}. أي: ورحمناه رحمة ليتذكروا بذلك ويتعظوا. وروى أنس بن مالك Bهـ أن رسول الله A قال: " مكث أيوب به بلاؤه ثمانية عشر سنة. فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان

ويروحان عليه، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، له ثمان عشر سنة بهذا الضر، لم ي C فيكشف ما به، فأخبر الذي يقول أيوب بقول صاحبه بحضرتهما، فقال أيوب: ما أدري ما تقولان، غير أن الله يعلم إن كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ويحلفان، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر أن يذكر الله إلا في حق ". وروي عن الليث أنه قال: " كان الذي أصاب أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم جبار من الجبابرة في بعض ما كان من ظلمة للناس، فكلموه، فأبلغوا في كلامهم، فرفق أيوب في كلامه مخافة منه على زرعه، فقال الله له: يا أيوب أتقيت عبداً من عبيدي من أجل زرعك، فنزل به ما نزل ذكره ابن وهب ". وعن الليث أنه قال: " بلغني أنه قيل لأيوب صلوات الله عليه: ما لك لا تسأل الله العافية؟ قال: إني لأستحي من الله أن أسأله العافية حتى يمر بي من البلاء ما مر بي من الرخاء ". وقيل: إن الذي كان حدث به داء يقال له الأكلة، فكان جسمه يتآكل ويتساقط حتى شغل عن القيام بماله، فذهب ماله وزال جميع ملكه، وحتى أن قومه أخرجوه من جوارهم، فصار في طريق من أطراق البلاد بحيث لا يجد فيه غذاء إلا ما يجده الفقراء الزمناء، وهو صابر مع ذلك، يحتسب، عارف بعدل الله في ذلك أنه لم يختر له، ولافعل به إلا ما حسن نظره في باب الدين أو أنه فعل ذلك به ليعوضه من نعيم الجنة ما هو أنفع له وأصلح مما سله من ماله وصحة جسمه، فكان إبليس اللعين يؤذيه

85

بالوسوسة، ويؤذي أهله بذلك، ويوسوس إلى جيرانه في إخراجه عنهم، وإبعاده منهم. فعند ذلك دعا الله في كشف ما به، فاستجاب له لا إله إلا هو، فكشف ضره، ورزقه من المال والأهل أكثر مما كان قبل ذلك. قوله: {وذكرى لِلْعَابِدِينَ} قيل: معنه: ليتعظ العابدون فيما يصيبهم من المحن بأيوب، فيصبروا ويحتسبوا ذلك عند الله، كما فعل أيوب. ولا يجوز لأحد أن يتأول في قوله تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فهو الذي أمرضه، وألقى الضر في بدنه، ولا يكون ذلك إلا من عند الله وبأمره وأرادته يفعل ما يشاء، ويبتلي عباده بما يشاء، ليكفر عنهم سيئاتهمه، وليثيبهم بما أصابهم. ففي كل قدر قدره الله على العبد المؤمن خير له، إما في عاجل أمره أو آجله، فعلى هذا يعبد الله من فهم عنه. وقيل: إن الذي أصابه إبليس، إنما هو ما وسو إليه به وإلى أهله، فكان ذلك الذي شكا به إلى الله. قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ} إلى قوله: {نُنجِي المؤمنين}. أي: واذكر يا محمد إسماعيل وإدريس وذا الكفل. ذو الكفل رجل تكفل بكفالة من الطاعة لله فأتمه. روي أن نبياً من الأنبياء قال: من يتكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب. فقام شاب فقال: أنا. فقال: اجلس. ثم قال: من يتكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب. فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فقال: اجلس فجلس ثم عاد الثالثة فقام ذلك الشاب فقال: أنا. فصام النهار وقام الليل ثم مات ذلك النبي، فجلس ذلك الشاب مكان فقضى بين الناس، فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضرباً شديداً، فقال: من

هذا؟ فقال: رجل له حاجة فأرسل معه رجلاً فرجع فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق حتى إذا كان في السوق خلاه وذهب فسمي ذا الكفل. وقال مجاهد: لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل. قال: فجمع الناس فقال: من يتكفل بثلاثة أستخلفه؟ يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب. قال: فقام رجل تزدريه العيون فقال: أنا وقال مثلها في الثوم الثاني، فقام ذلك الرجل فاستخلفه فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم فقال: دعوني وإياه، [فأتاه] في صورة شيخ كبير قبيح الصورة فقير. وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك السريعة فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم. قال: ففتح الباب وجعل يقص عليه ويطول عليه، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة وقال له: إذا رحت فأتني وآخذ لك بحقك. فانطلق وراح وكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس فنظره فلم يره، فلما رجع إلى القائلة وأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له، فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فآتني؟ قال: إن خصمي قوم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا نمت جحدني. قال: فانطلق فإذا رحت فأتني فأتته القائلة وراج، وجعل ينظر فلا يراه، وشق عليه النعاس. فقال لأهله من الغد: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم فلما

كان تلك الساعة جاء فقال له الرجلأ: وراءك، فقال: إني قد أتيته بالأمس، وذكرت له أمري فقال: لا والله، لقد أمرنا ألا ندع أحداً يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوة فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل، فقال: يا أبا فلان، ألم آمرك؟ فقال: أما/ من قبلي والله فلم تؤت، فانظر من أين أوتيت. فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه، فقال: يا عدو الله. قال: نعم. أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك، فسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوفى به. قال مجاهد: كان رجلاً صالحاً غير نبي. وكذا قال أبو موسى الأشعري وقوله: {كُلٌّ مِّنَ الصابرين} أي: كلهم من أهل الصبر فيما نابه في الله، وعلى تبليغ

رسالاته وعلى شدائد الدنيا، وعلى القيام بعبادة الله، وعلى الصبر على الأذى في الله. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين}. أي: ممن عمل بطاعة الله. وقيل: إن ذا الكفل إنما سمي بذلك لأن الله تكفل له في عمله وسعيه بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمنه. ثم قال تعالى ذكره: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ}. أي: واذكر [يا محمد] صاحب الحوت. وهو يونس إذ ذهب مغاضباً. قال ابن عباس والضحاك: ذهب غاضباً على قومه. وعن ابن عباس أنه خرج مغاضباً على ربه لما رد العذاب عن قومه وصرفه عنهم. وهذا قول مردود، لا تغضب الأنبياء على ربها، لأن الغضب على الله معاداة

له. ومن قصد الله بالعداوة كفر. ونعيذ الله تعالى يونس A من ذلك. وكذلك لا يجوز أن تتأول في قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}. إنه من القدرة عليه، وأنه يفوت الله. كان A أعلم بالله من ذلك، إنما هو من التقدير الذي هو التضييق. ظن أن الله لا يضيق عليه مسلكه في خروجه عنهم. طمع برحمة الله له في ترك التضييق عليه. وقد فسرنا هذال المعنى. وقيل: إنما نقم الله عليه أنه خرج عن قومه فاراً من نزول العذاب بهم من غير أن يأمره الله بالخروج، وهي صغيرة والله يغفر الصغائر لغير الأنبياء، فكيف للأنبياء فنادى في بطن الحوت {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}. أي: من الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي قبل أن تأمرني بالخروج. فاستجاب الله له، وأخرجه من بطن الحوت. وتلك معجزة وآية له: تدل على نبوته وفضله. وقيل: إن الله غفر له صغيرته، ولم يحبسه في بطن الحوت بذنبه إنما أراد أن

يريه قدرته، ويجعل ذلك: آية. وخروجه من بطن الحوت عاقلاً حياً معجزة له، ودليلاً على توبته، لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر. والكبائر تغفر بالتوبة. وذلك أنهم كذبوه فيما جاءهم به فأوحى الله تعالى إليه أني مرسل إليهم العذاب يوم كذا، فأخرج من بين أظهرهم. فأعلم قومه بالعذاب الذي يأتيهم، فقالوا: ارمقوه، فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كان الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها، أدلج ورآه القوم فحذروا وخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرقوا بين كل دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله جل وعز واستقالوه فأقالهم. قيل: خرجوا إلى موضع يقال له تل الرماد، ففرقوا بين الصبيان وأمهاتهم، وبين الرجال ونسائهم، وعجوا إلى الله تعالى ذكره وخرجوا بالبهائم، فرفع الله عنهم العذاب، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال: ما فعل أهل القرية، فقال: فعلوا أن نبيهم لما خرج عنهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهمه به من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض وفرقوا بين ذات كل ولد وولدها، ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه، فقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فقال يونس عند ذلك وغضب: والله لا أرجع إليهم كذاباً أبداً، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم. ومضى

على وجهه مغاضباً. قال الحسن: بلغني أن يونس لما أصاب الذنب، انطلق مغاضباً لربه، فاستزله الشيطان. وقاله الشعبي. فقيل: إنه إنما لم يرجع إليهم لأنه استحيا منهم أن يجدوا عليه الخلف فيما وعدهم به/. وقيل: كان من سنتهم قتل من كذب، فخاف أن يظنوا أنه كذبهم فيقتلوه. وقيل: معناه: مغاضباً أي: مغاضباً من أجل ربه. أي: غضب على قومه لكفرهم بربه. وقال الحسن: أمر بالسير إلى قوم لينذرهم بأس الله، ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليه. فقيل له الأمر أسرع من ذلك، ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها. وكان رجلاً في خلقه ضيق.

فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلاً فذهب مغاضبً. وقال وهب اليماني: إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً وكان في خلقه ضيق. فلما حملت عليه أثقال النبوة - ولها أثقال لا يحملها إلا قليل من الناس - تَفَسَخَ تحتها تَفَسُّخَ الربع تحت الحمل فقذفها من يديه، وخرج هارباً منها. وقال الأخفش: إنما غاضب بعض الملوك. واختار الطبري أن يكون المعنى مغاضباً لربه. واختار النحاس أن يكون مغاضباً لقومه. وقال ابن عباس: إنما أرسل يونس بعدما نبذه الحوت، لقوله: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145]. ثم قال: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وقوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. يقال: قدرت على فلان: ضيقت عليه. ومنه قوله: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} [الطلاق: 7].

قال ابن عباس: معناه: فظن أن لن نأخذه بالعذاب الذي أصابه. وعنه أيضاً: أن المعنى: ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء فيما صنع بقومه إذ غضب عليهم وفر منهم. وقال مجاهد وقتادة والضحاك: المعنى: فظن أن لن نعاقبه. وهذه الأقوال: هي الاختيار لبعد إضافة تعجيز الله جل ذكره إلى نبي، وقد قال: جماعة، وقولهم مرغوب عنه. قال سعيد بن أبي الحسن: استزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه، وكان له سلف عبادة وتسبيح، فأبى الله أن يدعه للشيطان فأخذه فقذفه في بطن الحوت، فأقام فيه أربعين بين يوم وليلة وأمسك الله نفسه، فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه. وقال: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته لما كان سلف له من العبادة والتسبيح، فجعله من الصالحين. وقال ابن زيد: معنى الآية على تقدير الاستفهام، التقدير أفظن أن لن نقدر

[عليه]. ثم قال تعالى: {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}. يعني: فنادى يونس في ظلمه الليل وظلمه البحر، وظلمه بطن الحوت. قاله: ابن عباس وابن جريج وقتادة ومحمد بن كعب. وقيل: إن الحوت الذي ابتلع يونس ابتلعه حوت آخر. فتلك الظلمات بطن حوت في بطن حوت في ظلمة البحر. وقوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} اعتراف منه بذنبه وتوبته منه. قال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت، ظن أنه قد مات، ثم حرك رجليه، فلما تحركت، سجع مكانه، ثم نادى: يا رب، اتخذت لك مسجداً في موضع ما اتخذه أحد. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله جز وعز إلى الحوت أن خذه، ولا تخدش له لحماً، ولا تكسر له عظماً. فأخذه

ثم هوى به إلى مسكنه، فلما انتهى به إلى أسفل الأرض، سمع يونساً حساً، فقال: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: هذا تسبيح دواب البحر. فسبح وهو في بطن الحوت. قال: فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا، إنا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. قال ذلك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إلينا منه كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، كما قال: " وهو سقيم ". ثم قال تعالى: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أي: من بطن الحوت. وقيل: من غمه بخطيئته. وقيل: / منهما جميعاً. وروي عن النبي A أنه قال: " دعوة يونس في بطن الحوت لن يدعو بها رجل قط إلا استجيب له ".

قوله: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} أي: إذا استغاثوا. قال سعيد بن مالك: سمعت النبي A يقول: " اسم الله جل وعز الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى. قال: قلت: يا رسول الله: هي ليونس بن متى خاصة أم الجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة، وللمسلمين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله جل ذكره: {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين * فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} فهو شرط الله تعالى لمن دعاه به ". وروي عن ابن مسعود أنه قال: " لما خرج يونس من بطن الحوت مر بغلام يرعى غنماً فقال له: ممن أنت يا غلام؟ فقال: من قوم يونس. قال له: فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم تكن له بينة على قوله يقتل، فمن يشهد لي. فقال يونس تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة. فقال الغلام: فمرها بذلك فقال لها يونس: إن جاءكما هذا الغلام فاشهدا له أني يونس. قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه وكان له أخوة، وكان في منعة. فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس، وهو يقرأ عليك السلام. فأمر به الملك أن

89

يقتل فقالوا: إن له بينة، فأرسل معه إلى الشجرة والبقعة، فشهدتا له أن يونس لقيه. فرجع القوم مذعورين مما رأوا، فأعلموا بذلك الملك، فتناول الملك بيد الغلام فأجلسه مجلسه، وقال: " أنت أحق بهذا الملكان مني. فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة ". قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ} إلى قوله: {فاعبدون}. أي: واذكر اي محمد زكريا حين نادى ربه {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أي وحيداً، لا ولد لي ولا عصبة، فارزقني وراثاً من آل يعقوب: {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين}، فاستجبنا له دعاءه، ووهبنا له يحيى وارثاً. ثم قال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}. أي: جعلناها ولوداً بعد أن كانت عقيماً. وقال عطاء: كانت سيئة الخلق طويلة اللسان، فأصلحها الله وصيرها حسنة الخلق، وهو قول محمد بن كعب وعون بن عبد الله. ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات}. يعني زكريا وزوجته ويحيى، أي: يسارعون في طاعة الله، والعمل بما يقرب إليه.

ثم قال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}. أي: رغبة فيما يرجون من ثوابه ورهبه مما يخافون من عقابه. قال قتادة: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله. والدعاء في هذا الموضع: العبادة. كما قال: {وَأَدْعُو رَبِّي عسى} [مريم: 48] أي: أعبد ربي. قال ابن زيد: معناه: خوفاً وطمعاً. قال ابن جريج: رغباص في رحمة الله ورهباً من عذاب الله. ثم قال تعالى: {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} أي: متواضعين متذللين لا يستكبرون عن العبادة والدعاء والتضرع. قال سفيان: هو الحزن الدائم في القلب. ثم قال: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}. أي: واذكر يا محمد التي أحصنت فرجها، يعني مريم: وأحصنت، حفظت ومنعت. وعنى بالفرج جيبها وقيل: فرج نفسها. وقوله: فنفخنا فيها من روحنا: أي: من جبريل A، لأنه روح الله، نفخ في

جيب ذراعها بعد أمن منعته منه إذ لم تعرفه. وقيل: أمر الله تعالى جبريل A، فنفخ الروح الذي هو روح عيسى في فرجها فحيي بذلك. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي: عبرة لعالم زمانهما. والتقدير على مذهب سيبويه: وجعلناها آية وابنها آية، ثم حذف الأولى. أي: علماً وحجة على العالمين والمعنى: جعلها آية إذا ولدت من غير فحل، وجعله آية إذ ولد من غير نطفة، وإذ نطق في يوم ولد، وتكلم بالحكمة في ذلك اليوم. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}. أي: وإن هذه ملتكم ملة واحدة، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون، دون الأصنام والأوثان. قال مجاهد وابن عباس: " أمتكم أمة واحدة " أي: دينكم دين واحد. وأمة نصبت على الحال/.

93

قوله تعالى ذكره: {وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}. أي: وتفرقوا في دينهم الذي قضى الله به عليهم ودعاهم إليه فصاروا فيه أحزاباً، فتهودت اليهود وتنصرت النصارى، وعبدت الأوثان. ثم قال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}. أي: كلهم على اختلاف أديانهم، إلينا يرجعون. أي: إلى حكمنا فيهم، فنجازي كلاً بما صنع. وهذا كلام فيه تهديد ووعيد. قال ابن زيد: " وتقطعوا أمرهم " أي: اختلفوا في الدين. ثم قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. أي: فمن يعمل من هؤلاء الذين تفرقوا في دينهم بما أمره الله، وهو مقر بتوحيد الله. {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}. أي: فإن الله يشكر عمله الذي عمل ويثيبه عليه في الآخرة. ومعناه: إذا لم يكفر بنبي بعث إليه ولا بمن قبله من الأنبياء ولا بكتاب نبيه ولا بكتاب من تقدم من الأنبياء. ف " من " للتبعيض. أي: من يعمل شيئاً من الصالحات وهو مؤمن.

وقيل: " من " زائدة. والأول أحسن. إذ لا يحكم على الزيادة إلا بدليل ظاهر. ولا دليل يدل على ذلك. وأيضاً: فإن في تقدير زيادة " من " تكليف غاية العمل. وهذا لا يقدر عليه ولا يكلف الله نفساً فوق طاقتها، فمن ذا الذي يقدر على عمل الصالحات كلها. ثم قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}. أي: نكتب أعماله الصالحة لنجزيه على صغيرها وكبيرها. ومعنى كتبت: جمعت. ثم قال تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي: وحرام على قرية أهلكهم الله بالطبع على قلوبهم، والتمادي على الكفر، أن يرجعوا إلى الإيمان والتوبة. هذا معنى قول عكرمة وهو اختيار الطبري. وقيل: المعنى: وحرام على [أهل] قرية أمتناهم أن يرجعوا إلى الدنيا. و " لا " زائدة. ومعنى " وحرام ": وجب أن لا يرجعوا وعزم أن لا يرجعوا إلى توبة، ولا بعد موت. قال ابن عباس: في معنى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ. . .} الآية. وجب أنهم لا يرجعون.

وقال أبو عبيدة: " لا " زائدة. " وحرام ": على بابها. بمعنى المنع. وقال أبو إسحاق: " لا " غير زائدة. " وحرام ": على بابها. والتقدير: حرام على أهل قرية، أهلكناها أن يُتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون ولا يتوبون. ثم قال تعالى: {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}. أي: فتح سد يأجوج ومأجوج. روى حذيفة بن اليمان أن النبي A قال: " أول الآيات الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونرا تخرج من قعر عدن أبين تسوق النار إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدابة ثم يأجوج ومأجوج. قال حذيفة: قلت يا رسول الله، ما يأجوج ومأجوج. قال: يأجوج ومأجوج أمة. كل أمة مائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صبله وهم ولد آدم فيسيرون إلى خراب الدنيا ويكون مقدمتهم بالشام، وساقتهم بالعراق، فيمرون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحيرة طبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولون: قد قتلنا أهل الدنيا فقاتلوا من في السماء، فيرمون بالنشاب إلى السماء، فترجع نشابهم مخضبة بالدم.

فيقولون: قد قتلنا. من في السماء. وعيسى والمسلمون بجبل طور سنين، فيوحي الله جل وعز إلى عيسى أون أحرز عبادي بالطور وما يلي أيلة. ثم إن عيسى عليه السلام يرفع يده إلى السماء ويؤمن المسلمون فيبعث الله عليهم دابة يقال لها النغف تدخل في مناخرهم فيصبحون موتى حتى تنتن الأرض من جيفتهم فيجأر الناس والأرض إلى الله تعالى منهم، فيأمر الله السماء فتمطر كأفواه القرب، فتغسل الأرض من جيفهم ونتنهم فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها ". قال أبو العالية: إن يأجوج ومأجوج يزيدون على سائر الأنس الضعف. وأن الجن يزيدون على الإنس الضعف، وأن يأجوج ومأجوج رجلان اسمهما يأجوج ومأجوج. قال عمر البكالي: إن الله جل وعز جزأ الملائكة والإنس والجن عشرة أجزاء. فتسعة منهم الكروبيون وهم الملائكة الذين يحملون العرش، ثم هم أيضاً الذي يسبحون الليل والنهار لا يفترون قال: ومن بقي من الملائكة لأمر الله ووحيه

ورسالته، ثم جزأ الجن والإنس/ عشرة أجزاء، فتسعة منهم الجن، لا يولد من الإنس ولد إلا ولد من الجن تسعة، ثم جزأ الإنس عشرة أجزاء، فتسعة منهم يأجوج ومأجوج، وسائر الناس جزء [واحد]. وقال ابن عباس: يأجوج ومأجوج أمتان، في كل أمة أربعمائة ألأف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف من صلبه فصاعداً؟ وعنه أنه قال: الأرض سبعة أجزاء، ستة منها فيها يأجوج ومأجوج وجزء [واحد] فيه سائر الخلق. ومن جعل يأجوج ومأجوج مشتقاً، أجاز همزة، وهو مشتق من أجة النار، وهو حرها. ومنه أجة الحر، ومنه ملح أجاج. ولم يصرفه لأنه جعله اسماً للقبيلة وهو معرفة، ووزنها: فاعول ومفعول، ويجوز في قراءة من لم يهمز أن يكونا أعجميين، وأن يكونا مشتقين. وخففت الهمزة. وقال الأخفش: يأجوج من يججت ومأجوج من مججت وقوله: {وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}. قيل: يعني بني آدم يخرجون من كل موضع دفنوا فيه، يعني الحشر. قاله

مجاهد. وقال ابن عمر عنى به يأجوج ومأجوج، يخرجون من كل مكان يفسدون في الأرض. ومعنى: " من كل حدب " أي: من كل نشز، ومن كل شرف وأكمة. قال ابن زيد: هو مبتدأ يوم القيامة. و " ينسلون ": يمشون مسرعين كنسلان الذئب. يقال: نسل ينسل وينسل، إذا أسرع وتقارب خطوة. قال عطية الحوفي: يأجوج ومأجوج أمتان، في كل أمة أربعة ألف أمة، لا يشبه بعضهم بعضاً، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر في مائة عين من ولده. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن الرجل منهم ليموت فيدع لصلبه من الذرية ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم لثلاث أمم ما يعلم عدتهم إلا الله تعالى مسنك وتأريس وتأويل، وخروجهم بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام. قال كعب الأحبار: عرض أسكفة باب يأجوج ومأجوج السفلى أربعة

97

وعشرون ذراعاً، فتفحها حوافر خيلهم، والعليا عرضها إثنا عشر ذراعاً، فتفحها أسنة رماحهم. قوله تعالى: {واقترب الوعد الحق} إلى قوله: {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}. الواو زائدة في " واقترب " عند الكسائي والفراء. قالا: اقترب جواب " إذ " في قوله: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " اقترب الوعد. وأجاز الكسائي أن يكون جواب إذا، {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ}. وقال أبو إسحاق: الجواب: قالوا يا ويلنا، ثم حذف " قالوا " كقوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3] أي: قالوا: ما نعبدهم وحذف القول كثير من القرآن، ومعنى الآية: وقرب بعث الأموات للجزاء لا شك فيه بعد خروج يأجوج ومأجوج. قال حذيفة: لو أن رجلاً افتلى فلواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه

حتى تقوم الساعة. وقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ}. قيل: هي عماد. وقيل: هي إضمار الأبصار، والأبصر الثانية تبيين لها أي: فإذا أبصار الكافرين قد شخصت عند مجيء الوعد. يقولون {ياويلنا قَدْ كُنَّا} قبل هذا الوقت في الدنيا {فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} الذي نرى ونعاين، {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: بمعصيتنا ربنا وطاعتنا إبليس وجنوده. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ}. أي: إنكم أيها الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وَقُودُ جهنم، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: حصب جهنم: حطبها. وقال قتادة وعكرمة: حصب جهنم: يقذفون فيها. وقال الضحاك: إن جهنم إنما تحصب بهم، أي: يرمى بهم فيها، وقرأ علي وعائشة Bها حطب بالطاء.

وعن ابن عباس: {حَصَبُ} بالضاد معجمة. والحضب: ما دكيت به النار وأججتها، والحصب بالصاد غير معجمة: اسم المرمى به في النار. وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يخرج منه عُزَيْرٌ والمسيح والملائكة، لأن " ما " لما يعقل، فهي للأصنام والأوثان/. وروي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآية، قال المشركون: أليس قد عبد عزير والمسيح والملائكة وأنت تقول يا محمد أنهم قوم صالحون. فأنزل الله {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. وقيل: إن الذي قال هذا هو ابن الزبعري، وأنزل الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]. ثم قال تعالى: {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا}. أي: لو كان هؤلاء الذين تعبدون من دون الله آلهة ما وردوا جهنم. يقول الله

ذلك لهم. فلو كانت آلهة كما تزعمون لدفعت عن أنفسها وعمن عبدهها في الدنيا. ثم قال: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}. يعني الآلهة والذين عبدوا ماكثين في النار. ثم قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ}. أي: للآلهة، وللذين عبدوها في جهنم زفير {هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ}. أي: لا يسمعون ما يسرهم، لأنهم صم. وقال ابن مسعود: إذ بقي في النار من خلد فيها، جعلوا في توابيت من حديد، فلا يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره. ثم قرأ الآية. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ}. يعني: كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه. أنه مبعد من النار، وهو مذهب علي بن أبي طالب. وروي عنه أنه قرأ الآية وقال: عثمان منهم وأصحابه، وأنا منهم.

وقيل: عني به كل من عبد من دون الله، وهو لله طائع، ولعبادة من يعبده كاره مثل عيسى وعزير والملائكة. وهو مذهب مجاهد وعكرمة والحسن وأبي صالح. وهو قول ابن عباس والضحاك. و" الحسنى ": الجنة والسعادة. {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي: عن جهنم. ثم قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}. أي: حسها وصوتها إذا دخلوا الجنة. وقيل: معناه: إن ذلك في موطن من المواطن، وإلا، فلا بد من سماع زفيرها. روي عن النبي A أنه قال: " إن جهنم يؤتى بها يوم القيامة تزفر زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه خوفاً منها ". وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس، حس. ثم قال: {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}. أي: ماكثون فيما تشتهيه أنفسهم من نعيمها، لا يخافون زوالاً عنها ولا انتقالاً.

ثم قال تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر}. يعني: النار إذا أطبقت على أهلها وذبح الموت بين الجنة والنار قاله ابن جريج. وقال ابن عباس: هو النفخة الآخرة. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعبد إلى النار. ثم قال: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}. أي: تتلقاهم بالبشرى، وتقول: لهم: هذا يوم كرامتكم التي وُعِدْتُم في الدنيا على طاعتكم، وهذا، قبل أن يدخلوا الجنة. ثم قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل} أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم نطوي السماء كطوي السجل، والسجل في قول عبد الله بن عمر ملك اسمه السجل قاله السدي. والمعنى: نطوى السماء كما يطوي هذا الملك الكتاب.

وقال ابن عباس: هو رجل كان يكتب لرسول الله A. وعن ابن عباس: أنه اسم الصحيفة التي يكتب فيها. والتقدير: كطي الصحيفة على الكتاب. وقاله: مجاهد، وهو اختيار الطبري. قال: واللام بمعنى: " على ". والتقدير: نطوي السماء كما تطوى الصحيفة على ما فيها من الكتاب. وقيل: التقدير: كطي الصحيفة من أجل ما كتب فيها. كما تقول: إنما أكرمك لفلان، أي: من أجله. ثم قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}. أي: نعيد الخلق عراة حفاة غرلاً يوم القيامة، كما خلقناهم في بطون أمهاتهم. قاله مجاهد. وقال النبي A لإحدى نسائه: " تأتون حفاة عراة غلفاً، فاستترت بكم ذرعها

105

وقالت: واسوأتاه " قال ابن جريج أخبرت أنها عائشة. وقالت: يا نبي الله، لا يحتشم الناس بعضهم من بعض. فقال: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. وقال ابن عباس في معنى: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} قال: نهلك كل شيء كما/ كان أول مرة. وقيل: ذلك خلق السماء مرة أخرى بعد طيها وزوالها وإفنائها يعيدها في الآخرة كما بدأها في أول خلق فجعلها سماء قبل أن لم تكن سماء {وَعْداً عَلَيْنَآ} أي: لا بد من كون ذلك، إنه لا يخلف الميعاد. وقال ابن مسعود: يرسل الله جل ذكره ماء من تحت العرش كمني الرجل، فينبت منه لحماتهم وأجسامهمه كما تنبت الأرض المرعى. ثم قال تعالى: {وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}. أي: وعداً حقاً لا بد منه، إنا كنا قادرين على ذلك، فاستعدوا له وتأهبوا. قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} إلى قوله: {على مَا تَصِفُونَ}

آخر السورة. المعنى: ولقد كتبنا في كتب الأنبياء كلها والقرآن. وقوله: {مِن بَعْدِ الذكر}. الذكر: أم الكتاب الذي عند الله في السماء. قاله: مجاهد وابن زيد. وقال ابن جبير: الزبور: القرآن. والذكر: التوراة. وقال ابن عباس: الزبور: الكتب التي أنزلت على الأنبياء بعد التوراة. والذكر: التوراة وقاله: الضحاك. وقال الشعبي: الزبور، زبور داود، والذكر: التوراة. وقوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}. أي: أثبتنا وقضينا في الكتاب من بعد أم الكتاب، أن أرض الجنة يرثها العاملون بطاعة الله. قاله: ابن عباس ومجاهد، وهو قول ابن جبير وابن زيد.

وعن ابن عباس أنه قال: أخبر الله تعالى في التوراة والإنجيل وسابق علمه قبل أن يخلق السماوات والأرض أنه يورث أمة محمد A المقدسة. وقد قيل: ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون. ويدل على أنها أرض الجنة قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ}. قال ابن زيد: فالجنة مبتدؤها في الأرض، وتذهب درجاً علواً، والنار مبتدؤها في الأرض وتذهب سفلاً طباقاً، وبينهما حجاب سور، ما يدري أحد ما ذلك السور، وقرأ {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13]. قال: ودرج النار تذهب سفالاً في الأرض، والجنة تذهب علواً في السماوات. وقال عامر بن عبد الله: هي الأرض التي تجتمع فيها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هي أرض الكفار ترثها أمة محمد A يريد

يفتحونها. وقيل: عُني بذلك بنو إسرائيل، وقد وفى لهم في D بذلك. وهو قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ. . .} الآية. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}. أي: إن في هذا القرآن لبلاغاً لمن آمن به وعمل بما فيه إلى رضوان الله، أي: يبلغهم القرآن إلى رضوان الله. وقال أبو هريرة: هم الذين يصلون الصلوات الخمس في المسجد. وقال سفيان: الثوري: {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} بلغني أنهم أصحاب الصلوات الخمس. وقال كعب: {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أمة محمد A وأنهم لأصحاب الصلوات الخمس، سماهم الله صالحين. وقال ابن عباس: {عَابِدِينَ} عالمين. وقال ابن جريج: {إِنَّ فِي هذا} يعني: هذه السورة.

وقيل: القرآن، فيه تنزل الصلوات الخمس، من أداها كانت له بلاغاً. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. أي: للمؤمن والكافر: فهو A رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، يعافى في الدنيا من السيف، ومن حلول العذاب من الله، وفي الآخرة من النار، وهو رحمة للكافر إذ عوفي في الدنيا مما أصاب الأمم الماضية من الخسف والقذف بكفرها، قاله ابن عباس. وقال ابن زيد: العالمون من آمن به خاصة، فهو رحمة للمؤمن. ثم قال تعالى: ذكره: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} أي: إنما معبودكم الذي تجب له العبادة واحد، لا معبود غيره. {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: فهل أنتم أيها المشركون مذعنون لله، تاركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام. ثم قال تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْءَاذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ}.

أي: فإن أدبر هؤلاء المشركون عن توحيد الله والإقرار بما جئتهم به، فقل: آذنتكم على سواء أي: أعلمتكم أني وإياكم على حرب لا صلح بيننا. يعني بذلك قريشاً. وقال قتادة: {على سَوَآءٍ} على مهل/. ثم قال تعالى: {وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ}. أي: قل لهم يا محمد: ما أدري متى يحل بكم عقاب الله على كفركم. أقريب هو أم بعيد. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ}. أي: قل لهم يا محمد: إن الله يعلم سركم وجهركم، لا يخفى عليه من قولكم ولا من أحوالكم شيء. ثم قال: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ}. أي: ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم وإمهال الله إياكم على كفركم فتنة لكم أي: اختبار لكم {وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}. أي: وأمتعكم بالبقاء وتأخير العذاب إلى انقضاء المدة. وقال مجاهد: " إلى حين الموت ". وقال زيد بن أسلم: بلغنا أن رسول الله رأى في منامه بني أمية يجلسون على المنابر، فأخبر بذلك فخرج الحكم من عند رسول الله A فأخبر بذلك بني أمية فقالوا له ارجع فاسأله متى يكون هذا.

فرجع إليه فسأله، فأنز الله تعالى: {وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} إلى آخر الآية، {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}. وروى أن الحسن بن علي خطب على الناس إذ سلم الأمر إلى معاوية، وقال في خطبته وهو يلتفت إلى معاوية: قال الله جل ذكره: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ}. ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} أي: قل يا محمد: رب افصل بيني وبين من كذبني بإحلال عذابك بهم ونقمتك، وهو الحق الذي أمر الله تعالى نبيه أن يسأله إياه ومثله {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89]. وروى قتادة " أن النبي A كان إذا شهد قتالاً يقول: يا رب احكم بالحق ". وقرأ أبو جعفر يزيد: {قَالَ رَبِّ} بالرفع، وهو غلط عند النحويين لا يجوز عندهم رجل أقبل، لأنهم جعلوا يا عوضاً عن المحذوف والأصل يا أيها الرجل. وقرأ عكرمة والضحاك: {قَالَ رَبِّ} بفتح الياء {احكم} بالرفع والهمز على الابتداء. أو الخبر. واحتجا في ذلك بأن الله تعالى لا يحكم إلا بالحق، فكيف يأمره أن

يسأل أن يحكم له بالحق. معنى ذلك عند العلماء رب عجل حكمك بالحق. والتقدير عند أبي عبيد: أحكم بحكمك الحق. ثم قال تعالى: {وَرَبُّنَا الرحمن}. أي: وقيل يا محمد: {وَرَبُّنَا الرحمن} أي: الذي يرحم عباده المؤمنين. {المستعان على مَا تَصِفُونَ}. أي: الذين استعينه عليكم فيما تقولون وتصفون من قولكم: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 24] وقولكم: {بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]. وكذبكم على الله جل ذكره في قولكم: {اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] وشبهه من باطلكم.

الحج

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحج سورة "الحج" (مكية) سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في ستة نفر من قريش، ثلاثة مؤمنون وثلاثة كافرون. فالمؤمنون عبيدة بن الحرب بن عمرو وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم. دعاهم للبراز عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة فأنزل الله تعالى ذكره: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) إلى تمام الآيات الثلاث. قال أنس بن مالك: نزلت سورة الحج على النبي - عليه السلام - وهو في مسير له وأصحابه متبددون، فرفع بها صوته، فنادى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... شَدِيدٌ) فاجتمع إليه أصحابه فقال: هل تدرون أي يوم ذلك؟ ذلك يوم يقول الله

1

لآدم: ابعث بعث النار من بنيك وبناتك. فقال: يا رب، من هم؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد في الجنة، فكبر ذلك على أصحاب النبي فقال لهم النبي: أبشروا، فإنكم مع خليقتين لم يكونا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، وما أنتم في الناس إلا كالرقمة في دراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير الحديث بكامله. وقد قيل: إن سورة الحج مدنية، وحديث أنس أنها نزلت في بعض أسفار النبي - عليه السلام - يدل على أنها مدنية. فمن قال أنها مدنية. قال في قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ) إنه نزل في اختصام اليهود والمسلمين في كتابهم ودينهم. قوله تعالى ذكره: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة} إلى قوله: {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ}. المعنى: يا أيها الناس احذروا عقاب الله وأطيعوه إن زلزلة الساعة شيء عظيم. قال ابن جريج: زلزلتها: أشراطها في الدنيا. " وروى أبو هريرة أن النبي A قال: إن الله جل ذكره لما فرغ من خلق السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه، شاخص

ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر. قال أبو هريرة: وما الصور؟ قال النبي A: قرن. قال: وكيف هو؟ قال: قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين جل وعز، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيطوِّلُها، فلا يفتر، وهي التي يقول الله D: { وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي: من راحة. فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجاً، وهي التي يقول الله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} وتكون الأرض كالسفينة الموبقة تضربها الرياح تُكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الرياح فيميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بضعاً، وهو الذي يقول الله {يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ. . .} إلى قوله {. . . هَادٍ} فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر. فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظرو في السماء، فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم، قال

رسول الله A: والأموات لا ي علمون بشيء من ذلك. فقال أبو هريرة: فمن استثنى الله D حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، وهو الذي يقول جل ذكره: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ. . .} إلى قوله: {. . . شَدِيدٌ} ". وقال الحسن: " بلغني أن رسول الله A لما قفل من غزوة العسر، ومعه أصحابه، فقال: {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ. . .} إلى قوله: {. . . شَدِيدٌ}. ثم قال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قيل له: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله جل ذركه لآدم: قم فابعث بعث النار، فيقول آدم: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: ابعث لكل ألف تعسة وتسعين وتسع مائة إلى النار، وواحد إلى الجنة قال: فاشتد ذلك على الناس حتى لم يبدوا عن واضحة. فلما رأى ما في وجوههم قال لهم: اعملوا وابشروا، فوالله ما أنتم في الناس إلا كالرقمة في ذراع الدابة، أو كالشامة في جنب البعير، أنه لم يكن رسولان إلا وبينهما فترة من جاهلية، وأهل الجاهلية أهل النار بين

ظهراني خليقتين لا يعادهم أحد من أهل الأرض إلا كثروهم، يأجوج ومأجوج، وتكملة العدد من المنافقين ". وروي عن الحسن أنه قال: يخرج من النار رجل بعد ألف عام. فقال الحسن: يا ليتني أنا ذلك الرجل. وقال قوم: يراد بهذا كله يوم القيامة، فمن قال: هو يوم القيامة قال: المعنى: يوم يرون القيامة. ومن قال: هو قبل يوم القيامة قال: المعنى: يوم يرون أشراطها تذهل. وظاهر النص يدل على أن " الهاء " في " ترونها " تعود على الزلزلة. أي: يوم ترون الزلزلة، وذلك من أشراط الساعة، وهو ظاهر النص، لأن يوم القيامة لا حامل فيها ولا مرضعة. إنما ذلك في الدنيا، فهو وقت تظهر فيه الزلازل والأشراط والشدائد الدالة على قيام الساعة فتذهب المرضعات عن أولادها، وتضع الحوامل حملهن لشدة ذلك، وعظيم خوفه وصعوبته ولما يلقى فيه من الهلع والفزع.

وقل من قال: هو يوم القيامة يدل على ما رواه عمران بن الحصين قال: " بينما رسول الله A في بعض مغازيه وقد فاوت السير بأصحابه إذ نادى رسول الله بهذه الآية {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ. . .} فحثوا المطي حتى كانوا حول رسول الله A فقال: هل تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم ينادى آدم يناديه ربه، ابعث بعثة النار من كل ألف تسع مائة وتسع وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة. قال: فأبلس القوم، فما وضح منهم ضاحك، فقال النبي A: اعلموا وأبشروا، فإن معكم خليقتين ما كنتا في قوم إلا كثرتاه، فمن هلك من بني آدم ومن هلك من بني إسرائيل ويأجوج ومأجوج. ثم قال: ألا أبشروا ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الناقة "، وكذلك رواه الخدري وأنس بن مالك، فهذا الحديث أصح من الأول طريقاً وزاد الحسن في الحديث أن النبي A. قال فيه ولم يكن رسولان إلا كان بينهما فترة من الجاهلية، فهم أهل النار، وإنكم بين ظهراني خليقتين لا يعدهما أحد من أهل الأرض إلا كثروهم يأجوج

ومأجوج، وهم أهل النار. وتكمل العدة من المنافقين. وقال ابن مسعود: سمعت النبي A يقول: " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. فقال: " أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده إن لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وسأخبركم عن ذلك. إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن قلة المسلمين في الكفار يوم القيامة كالشعرة السوداء في الثور الأبيض. وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود ". ثم قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ}. أتت مرضعة بالهاء، لجريانها على الفعل ويجوز مرضع، كما قال: امرأة حائض وطامث وطالق. والأصل: الهاء. ولكن جرى عند سيبويه على معنى شيء حائض وطامث. وقال الفراء: إنما قالوا: حائض وطامث، لأن المذكر لا حظَّ له في هذا الصف. فلم يحتج إلى هاء في المؤنث. وقالوا: قائم وقامئة، فِأتوا بالهاء في المؤنث لأِنه يقع للمؤنث والمذكر وهذا القول ينتقض على الفراء لأنهم قالوا ناقة ضامر، وبعير ضامر، وناقة ساغل وبعير

ساغل، ورجل عانس وامرأة عانٍ فلم يدخلوا الهاء في المؤنث، وقد شاركه المذكر في الفعل. وحذف الهاء عند سيبويه في هذا على أصله على تقديره بشيء عانس وساغل ونحوه، وينتقض على الفراء قوله بقولهم: حاضت الجارية وطلقت المرأة. فلو كان حرف الهاء من أجل أنه لا يشترك فيه المذكر مع المؤنث، ولم تدخل علامة التأنيث في حاضت وطمثت وينقض أيضاً قوله في قولهم رجل بالغ وامرأة بالغ، ورجل آثم وامرأة آثم. ومعنى تذهل: تنسى وتترك ولدها من هول ثقل ما ترى وتضع الحامل حملها قبل بلوغ وقته. {وَتَرَى الناس سكارى} من الخوف {وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ}. قالت عائشة Bها: " كان النبي A في حجري فقطرت دموعي على خده، فاستيقظ فقال: ما يبكيك؟ فقلت: ذكر القيامة وهولها. فهل يذكرون أهلهم يا رسول الله؟ فقال: يا عائشة ثلاثة مواطن لا يذكر فيها أحد إلا نفسه، عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل. وعند الصحف حتى يعلم ما في صحيفته وعند الصراط حتى يجاوزه ". وروي عن ابن عباس أنه قال: " نزلت هاتان الآياتان على النبي A وهو يسير

فكف ثم قرأهما على الناس ثلاثة مرات ثم قال: " يا أيها الناس، أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه اليوم الذي يقول الله فيه لآدم: ابعث بعث النار من ولدك. فيقول: أي رب، من كل كم؟ فيقول؟ من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال رسول الله A: فيسكر الكبير يومئذ من غير شراب، ويشيب الصغير، ثم مضى رسول الله A حتى نزل ونزل الناس ثم راحوا إلى نبي الله، فقالوا: يا رسول الله، ما سمعنا شيئاً قط أوجع لقلوبنا ولا أشد علينا من شيء حدثتنا به اليوم. فقال لهم رسول الله A: أبشروا فإني أرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فإن الأمم عرضت علي فرأيت النبي يأتي في الثمانية ورهطب ويأتي النبي في الأربعة وياتي الآخر في الاثنين، حتى رأتي النبي وليس يأتي معه أحد من أمته، حتى رأيت أمة أعجبني كثرتها لقلت أي رب، أمتي هذه؟ فقال: لا، بل هذا موسى A ومن تبعه، ثم رأيت أمة أخرى أعجبني كثرتها، فقلت: أي رب، أمتي هذه؟ قال: لا. بل هذا يونس ومن تبعه. ثم رأيت أمة أخرى أعجبني كثرتها فقلت: أي رب، أمتي هذه؟ قال: لا، بل هذه عيسى ومن تبعه. فقلت: أي رب، فأين أمتي؟ قال لي: انظر، فنظرت قبل طريق مطة فإذا أنا بناس كثير. ثم قال: انظر: فنظرت قبل طريق الشام،

3

فإذا أنا بناس كثير ثم قال: انظر، فنظرت قبل طريق العارق، فإذا أنا بناس كثير، ثم قال: انظر، فنظرت تحتي، فإذا كل شيء ينتغش من الناس من كثرتهم فقلت: أي رب، قد رضيت. قال: فإن مع هذا سبعين ألفاً ليس عليهم حساب ولا عذاب، فقام عكاشة بن محصن الأسدي أخو بني غنم فقال: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلني منهم، قال: جعلك الله منهم فقال رجل آخر من الأنصار فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فاقل: سبقك بها عكاشة ". وقوله: {وَتَرَى الناس سكارى}. رجع من مخاطبة الجماعة من الناس إلى مخاطبة النبي A كما جاز أن يخرج عن مخاطبة النبي A إلى مخاطبة الجماعة في قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ}. قوله تعالى ذكره: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى قوله: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ}. هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يخاصم ويزعم أن الله جل ذكره غير قادر على إحياء من بلى وعاد تراباً، بغير علم له في ذلك. {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ}.

أي يتبع في قوله ذلك كل شيطان مارد. والمريد والمارد: المتجاوز في الشر القوي فيه. ومنه قيل: صخرة مرداء، أي: ملساء. ومنه: الأمرد. وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام. ثم قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ}. أي: كتب على الشيطان أي: قضى على الشيطان أنه تولاه. الهاء في " أنه " مجهول تفسره الجملة التي بعده. و " تولاه ". أي: تولى الشيطان. أي: فمن اتبع الشيطان من خلق الله، فإنه يضله. أي: فإن الشيطان يضل من اتبعه، {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير}. أي: يسوقه إليه بطاعته له، ومعصيته لله، في " عليه " و " تولاه " و " فإنه " تعود على الشيطان. ثم قال: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث}.

أي: إن كنتم في شك من أنكم تبعثون وتعودون كما كنتم فتدبروا خلقكم وابتداءكم، فإنكم لا تجدون فرقاً بين الابتداء والإعادة، إذ خلقناكم من تراب، يعني آدم. " ثم من نطفة " يعني ولد آدم، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يخرجكم طفلاً. فإذا تدبرتم ابتداءكم وانتقال أحوالكم، علمتم أن من قدر على هذا أنه قادر على الإعادة، فالنطفة ماء الرجل، والعلقة: الدم، والمضغة: لحمة صغير بقدر ما يمضغ. وقوله: {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}. قيل: هو من نعت النطفة. فالمخلقة ما كان خلقاً سوياً، وغير المخلقة ما ألقت الأرحام من النطف قبل أن تكونوا خلقاً. قال ابن عمر: إذا وقت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال مخلقة، مجتها الأرحام دماً وإن قال: مخلقة، قال يا رب: ما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ قال: فيقال: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة. قال: فينطلق الملك،

فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. وقيل: معناه، تامة أو غير تامة، وهو قول قتادة. وقال مجاهد: هو السقط، مخلق وغير مخلق. وقال الشعبي: بعد المضغة تكون مخلقة، وهو الخلق الرابع، وإذا قذفها الرحم قيل فهي غير مخلقة. وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله A يقول: - وهو الصادق المصدوق - " يجمع خلق كل أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة أربعين يوماً، ثم يكون مضغة أربعين يوماً، ثم يبعث الله إليه ملكاً، فيقول: أكتب عمله وأجله ورزقه واكتب شقياً أو سعيداً ". وقال عبد الله: والذي نفسي بيده، إن الرجل ليعمل عمل أهل السعادة، فيعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ثم يدركه الشقاء، فيعمل بعمل

أهل النار والشقاء، فيدخل النار. واختار الطبري أن تكون المخلقة المصورة خلقاً تاماً، وغير مخلقة السقط قبل تمام خلقه فيكون مخلقة وغير مخلقة من نعت المضغة، لأ، هـ ليس بعد المضغة إلا التصوير. ثم قال تعالى: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: فعلنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء. أي: ذكرنا لكم الأحوال الابتداء، لنبين لكم أثر الصنعة والقدرة. فقوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} جواب للقصة المذكورة في خلق الإنسان كلها. أي: أخبرناكم بهذه القدرة في خلقكم لنبين لكم أن البعث حق. ثم ابتدأ بخبر آخر فقال: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام} ولذلك ارتفع، ولا يجوز نصبه على العطف على " لنبين "، لأنه لم يذكر القصة في قدرته ليقر في الأرحام ما يشاء، إنما ذكرها ليدل على صحة وقوع البعث بعد الموت. والمعنى: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، أي: ونبقي في الأرحام من نشاء حياته فلا يسقط إلى وقت ولادته فيخرج طفلاً.

وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً}. أي: يخرج كل واحد منكم طفلاً. وقوله: {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} أي: ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم. وقيل: معناه: ثم نخرجكم طفلاً لتبلغوا أشدكم. والأول أحسن، لأن هذا، يوجب زيادة " ثم "، ولا يحسن زيادتها، بل لا بد لها من فائدة، وهو ما ذكرنا من التعبير ليقع به البلوغ إلى الأشد. ومعنى أشدكم. أي كمال عقولكم {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى}. أي: من قبل بلوغ أشده فيموت. {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر}. أي: من ينسأ في أجله فيعمر حتى يهرم، فيرج إلى أرذل عمره. وروي عن علي Bهـ أنه قال: أرذل العمر، خمسة وسبعون عاماً. ثم قال: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}. أي: ليصير لا علم له بالأشياء بعدما كان علماً بها. ثم قال: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً}. أي: يابسة دارسة لا نبات فيها، وأصل الهمود، الدروس والدثور. {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت} أي: تحركت بالنبات. {وَرَبَتْ} أي: وأضعفت النبات بمجيء الغيث.

قال قتادة: {اهتزت وَرَبَتْ} حسنت وعرف الغيث في ربوعها. وقيل: التقدير: فإذا أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت، فيكون المهتز الزرع، يتحرك إذا نبت على الحقيقة، فيرج المعنى إلى النبات. وظاهر الإخبار عن الأرض. وقوله: {وَتَرَى} رجوع من خطاب جماعة إلى خطاب واحد وهو حسن، قد تقدم نظائره. وقرأ أبو جعفر القاري: {وَأَنبَتَتْ} بالهمز. أي: ارتفعت حتى صارت بمنزلة الربيئة. وهو الذي يحفظ القوم على شيء مشرف يقال: هو رأبئ القوم وربيئتهم. وفعيل: للمبالغة. ثم قال تعالى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. أي: من كل نوع حسن، يعني من النبات. {بَهِيجٍ} بمعنى مبهج أي: يبهج من رآه حسنُه. ثم قال تعالى: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق}. أي: فعل الله ذلك بأنه الحق، أو الأمر ذلك بأنه الحق. أي: هذا الذي تقدم ذكره من عظيم القدرة في خلق الإنسان، والأرض وغير

9

ذلك، فعله بأنه الحق الذي لا شك فيه، وإن ما سواه باطل لا يقدر على شيء من ذلك. ومن فعل هذه القدرة، فهو قادر على قيام الساعة، وبعث من في القبور، فهو كله مَثَلٌ بعد مثل في تحقيق قيام الساعة وإحياء الموتى كما أحيا الإنسان من نطفة، ثم نقله من حال إلى حال. وكما أحيا الأرض بعد دروسها، وكذلك احتج في قوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق. . .} إلى {القبور} / وعلى إعادة الموتى وعلى ما يريج، ولذلك قال: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور}. فلا تَشُكُّوا في ذلك. ثم قال تعالى: {ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى}. أي: من يخاصم في توحيد الله بغير علم ولا هدى. أي: وبغير هادى وبغير كتاب منير، أي ينير حجته، فتضيء له. ونزلت أيضاً هذه الآية في النضر بن الحارث. قوله تعالى ذكره: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} إلى قوله {وَلَبِئْسَ العشير}. أي: يخاصم في توحيد الله بغير علم، وبغير هدى وبغير كتاب، {ثَانِيَ عِطْفِهِ}. أي: معرضاً عن الحق، متحيراً فنصبه على الحال. قال ابن عباس: " ثاني عطفه " مستكبراً في نفسه. قال: هو النضر بن

الحارث، لوى عنقه مرحاً وتعظماً. وقال مجاهد وقتادة: معناه: لاوياً رقبته. وقال ابن زيد: " لا ويا رأسه معرضاً، مولياً، لا يقبل على ما يقال له "، ومنه قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ. . .} [المنافقون: 5] لآية، وهو قوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِءَايَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً}. والعِطْفُ: ما أنثنى من العنق. ثم قال: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله}. أي جادل هذا المشرك في توحيد الله ونفى البعث ليضل المؤمنين بالله عن دينهم الذي هداهم الله إليه {لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ}. وهو القتل والهوان بأيدي المؤمنين، فقتله الله بأيديهم يوم بدر. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي: نحرقه بالنار. ثم قال: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي: يقال له إذا أذيق عذاب النار. ذلك بما قدمت يداك في الدنيا، وبأن الله ليس بظلام للعبيد. قوله {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وقف، إن جعلت {وَأَنَّ} في موضع رفع على معنى

" والأمر أن الله ". ثم قال تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ}. هذه الآية نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله A مهاجرين من باديتهم، فإذا نالوا رخاء من عيش بعد الهجرة وبعد الدخول في الإسلام أقاموا على الإسلام، وإن نالوا بعد ذلك شدة وضيق عيش أو موت ماشية ونحوه، ارتدوا على أعقابهم. فالمعنى: ومن الناس من يعبد الله على شك، فإن أصابه خير - وهو السعة من العيش اطمأن به: أي استقر بالإسلام، وثبت عليه، وإن أصابته فتنة، وهو الضيق في العيش وشبهه انقلب على وجهه أي: رجع إلى الذي كان عليه من الكفر بالله. قال ابن عباس: " كان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صح جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً، رضي به واطمأن إليه. وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً، وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية، وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقالك والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلا شراً، فذلك الفتنة ". وقال مجاهد: {على حَرْفٍ}: على شك. قال ابن جريج: كان ناس من قبائل العرب ومن حولهم من أهل القرى يقولون: نأتي محمداً عليه السلام، فإن صادفنا خيراً من معيشة الرزق ثبتنا، وإلا لحقنا بأهلنا.

وبهذا القول قال: قتادة والضحاك. قيل: هم المنافقون، كانوا إذا رأوا النبي A مستعلياً على أعدائه في أمن وخصب، أظهروا التصديق به، وتصويب دينه، وصَلُّوا معه وصاموا، وهم مع ذلك على غير بصيرة فيما هم عليه، فإذا أصابته فتنة من خوف أو تشديد في العبادة والأمر بالجهاد، انقلب عما كان يظهر من الإيمان والصوم والصلاة، فأظهر الكفر والبراءة من دين الله، فانقلب على وجهه خاسراً دنياه وأخراه. وقال ابن زيد: " هي في المنافقين، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإذا أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه، ورجع إلى الكفر. وهذا التفسير كله يدل على أن السورة مدنية. ومن قال: إنها مكية، قال: نزلت في شيبة بن ربيعة، كان أسلم ثم ارتد. وقيل: نزلت في النضر بن الحارث. وتقدير الكلام: ومن الناس من يعبد الله على حرف الدين، أي: على طرفه لا يدخل فيه/ ويتمكن.

ومعنى: {انقلب على وَجْهِهِ} [أي: انقلب] عن دينه. {خَسِرَ الدنيا والآخرة} أي: خسر دنياه لأنه لم يظفر بحاجته منها. وقيل م عناه: أنه خسر حظه في الغنيمة، لأنه لا حظ لكافر فيها. وخسر الآخرة لما له فيها من العذاب، ولأنه خاسر الثواب. ثم قال تعالى: {ذلك هُوَ الخسران المبين}. أي: خسران الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين، أي يبين لمن تفكر فيه وتدبر. ثم قال تعالى: {يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ}. وإن أصاب هذا الذي يعبد الله على حرف ضر، يدعو من دون الله آلهة لا تضره إن لم يعبدها في الدنيا، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها. {ذلك هُوَ الضلال البعيد}. أي: الطويل: والعرب تقول: لما لا يكون البتة: هذا بعيد. ثم قال: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} تقدير هذا الكلام عند الكسائي والبصريين: يدعو من لضره أقرب من نفعه. أي: يدعو إلهاً لضره أقرب من نفعه، لأن من عبد الأصنام، فضررها يعود عليه في الدنيا والآخرة، ولا نفع يعود عليه من

ذلك، وإنما احتيج إلى تقدير تأخير اللام، لأن " يدعو " فعل لا يعلق، ولا بد أن يعمل، واللام تمنعه من العمل، فأخرت اللام ليعمل الفعل في " من " ولا يعلق. وقيل: مع " يدعو " هاء مضمرة وهو في موضع حال من ذلك. والتقدير: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، فيقف على " يدعو " في هذا القول. وتقديره: ذلك هو الضلال البعيد في حالة دعائه إياه. ويكون لمن ضره أقر من نفعه مستأنفاً مرفوعاً بالابتداء، وخبره: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير}. وقيل: " يدعو " بمعنى يقول، فلا يحتاج إلى عمل، وتكون اللام في موضعها و " من " مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف. والتقدير: يقول لمن ضره أقرب من نفعه إلهي. وقيل: " يدعو " بمعنى: يسمى. وقال الزجاج: " ذلك " بمعنى الذي. وهو في موضع نصب بـ " يدعو " أو التقدير: يدعو الذي هو الضلال البعيد. ثم ابتدأ: لمن ضره أقرب من نفعه. وخبره: " لبئس المولى " وها مثل قوله: " وما تلك بيمينك ". أي: وما التي بيمينك.

وقال الفراء: يجوز أن تكون " يدعو " مكررة تأكيداً ل " يدعو " الأولى، فيقف على " يدعو " على هذا، ويبتدئ " من ضره " على الابتداء والخبر " لَبِئْس المولى ". وحكي عن المبرد أنه قال: التقدير: يدعو لمن ضربه أقرب من نفعه إلهاً. وهذا لا معنى له، لأن ما بعد اللام مبتدأ، فلا ينصب خبره، فإن جعل الخبر " لبيس المولى " لم يكن للكلام معنى ويصير منقطعاً بعضه من بعض. وقوله: {لَبِئْسَ المولى}: أي: لبيس العم، " ولبيس العشير " أي: الخليط والصاحب. قاله ابن زيد. وقيل: " المولى ": الولي الناصر. وقال مجاهد: " لبيس العشير " يعني الوثن. ولا يوقف على " البعيد " على قول الزجاج، لأن ذلك منصوب بـ " يدعو ". وقد أفردنا لهذه الآية كتاباً، وشرحنا ما فيه بأبسط من هذا. ومعنى: " لمن ضره

14

أقرب من نفعه " فأوجب أن عبادة الآلهة تضر، وقد قال قبل ذلك: " ما لا يضره وما لا ينفعه " فنفى عنها الضر. فإنما يراد بذل أنها لا تضر في الدنيا، وأراد بالآية الأخرى ضرها في الآخرة. والمعنى: لمن ضره في الآخرة أقرب من نفعه. والأخرى ما لا يضره في الدنيا. وكذلك معنى ما كان مثله. قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى قوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق}. أي: إن الله يدخل المصدقين به وبكتبه ورسله العاملين الطاعات بساتين. " تجري من تحتها الأنهار ". أي: من تحت أشجارها. {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. فيعطي ما شاء من كرامته أهل طاعته. ثم قال: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة}. أي: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً عليه السلام في الدنيا والآخرة، " فليمدد بسبب " وهو الحبل " إلى السماء " يعني سماء لبيت، وهو سقفه. " ثم ليقطع " السبب. يعني: الاختناق به. " فلينظر هل يذهبن " اختناقه، ذلك ما يغيظ. أي: ما يجد من في

صدره من الغيظ. هذا معنى قول قتادة وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. وقال ابن زيد معناه: من كان يظن أن لن ينصر/ الله محمداً A، فليقطع ذلك من أصله، من حيث يأتيه النصر، فإن أصله في السماء، فليمدد سببه إلى السماء ثم ليقطع الوحي عن النبي A { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}. أي: هل يذهب فعله ما يجد في نفسه من غيظ. في نصر الله تعالى محمداً. وقيل: النصر هنا معناه: الرزق. وحكي عن العرب، من ينصرني نصره الله. أي: من يعطني أعطاه الله فالتقدير على هذا: من كان يظن أن لن يرزق الله محمداً عليه السلام، فليختنق في حبل في سقف بيته ثم لينظر هل يذهب فعله غيظه. وقيل: معناه: من كان يظن أن لن يرزق الله تعالى محمداً فليمدد بسبب إلى السماء، فليقطع رزقه إن كان يقدر، فلينظر هل يذهب كيده غيظه. وكونها عائدة على " من " - وهو قول أبي عبيدة مع طائفة من أهل اللغة - ويكون ينصره بمعنى " ينفعه ".

وقد قيل: إن " الهاء " تعود على الدين. أي: من كان يظن أن لن ينصر الله دنيه، فليفعل ما ذكر. قال ابن عباس: معنه: إن لن ينصر الله محمداً. فالهاء لمحمد عليه السلام. وقال مجاهد: معناه: من كان يظن أن لن يرزقه الله، فليمدد بحبل إلى سارية البيت فليخنق نفسه. فالهاء على هذا ل " ظن " كأنه ق: من ظن أن الله لا يرزقه، فليقتل نفسه، إذ لا حياة له مع عدم رزق الله له. وقيل: معناه: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه في الدنيا والآخرة وأنه يتهيأ له أن يغلب نبيه أو يزيل عنه النصر الذي يريده الله به. فليطلب سبباً يصل به إلى السماء، فليقطع نصر الله عن نبيه، فلينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بكيد ويبسبب يحتاله. وهل يتهيأ له أن يقطع النصر عن نبي الله، أو يزيل بكيده وحيلته ما يغطيه من نصر الله لنبيه، فإنما هذا دلالة على ما لا يتهيأ لهم، ولا يقدرون عليه، وفيه إعلام أن النصر لمحمد من عند الله، وتنبيه على أن محمداً منصور لا يغلب. ثم قال تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} أي: وكما بينت لكم الحجة على من تقدم ذكره، كذلك أنزلت على محمد آيات واضحات يهتدي بها من وفقه الله للحق.

ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى}. أي: إن هؤلاء على اختلاف أديانهم يفصل بينهم الله يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل غيرهم النار، فهذا هو الفصل. قال قتادة: " والصابون " قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويقرأون الزبور. والمجوس، يعبدون الشمس والقمر والنيران " والذين أشركوا يعبدون الأوثان. والأديان ستة، خمسة للشيطان وواحد للرحمن. وقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. أي: شاهد على أعمالهم على اختلاف أديانهم، فإن الثانية تخبر عن الأولى. أي: سدت مسد خبرها، إذ هي داخلة على ابتداء وخبر. والابتداء والخبر يسدان مسد خبر أن في كثير من الكلام. وقيل: لما طال الكلام، صارت الأولى كأنها ملغاة، فأعيدت تأكيداً وتكريراً. والأول أحسن/. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض}. أي: يخضعون وينقادون لله. وقيل: السجود هنا مما لا يعقل، ومن الموات والكفار إنما هو ظهور أثر الصنعة عليها، والخضوع الذي يدل على أنها مخلوقة. وانقيادها لله وتصريف الله لها فيما شاء.

أن يصرفها فهو مجاز وتوسع. وهذا القول لا يصح، لأنه تعالى قد أخبرنا بأن من الحجارة ما يخشى، وأنه سخر مع داود الجبال والطير يسبحن. وهذا لا يمتنع حمله على الحقيقة، ولا يحسن حمله على معنى ظهور الصنعة فيها، لأن ذلك مع غير داود مثل ما هو مع داود. وإذا لم يكن بد من حمله على الحقيقة، حسن حمل السجود في الموات وما لا يعقل على الحقيقة أيضاً. وقيل: سجودها، هو تحول ظلها حين تطلع الشمس وحين تزول، فإذا تحول ظل كل شيء، فهو سجوده. وقال مجاهد: ظلال هذا كله يسجد. وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر وإلا يقع لله ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين. وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس} يعني: المؤمنين {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} يعني ظل الكافر يسجد لله. قاله مجاهد، وهو عنده مع هذا منقاذ لله، خاضع وهو ساجد مع ظله، إلا أن سجود ظله ميلانه مع الشمس وسجوده هو انقياده وخضوعه على صحته وسقمه ورزقه ومنعه.

وقوله: " وكثير من الناس ". قيل: معناه: وكثير من الناس في الجنة بدليل قوله: " وكثير حق عليه العذاب " لأن الجنة ضد النار. ولو قال: " وكثير لا يسجد " لكان المعنى. وكثير من الناس. أي: وكثير من الناس يسجد. وقيل: معنى: " وكثير حق عليه العذاب ": وكثير أبى السجود فحق عليه العذاب فيكون الوقف على هذا القول. " وكثير من الناس " ثم يبتدئ: " وكثير حق عليه العذاب " ولهذا المعنى رفع " كثير ". وقد عطف على ما عمل فيه الفعل. ولولا هذا المعنى، لكان النصب الاختيار. كما قال: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] " فكثير " الثاني: مبتدأ، وليس بمعطوف على الأول، فإنما هو أخبار عن خلق كثير [وجب عليه] العذاب بكفره. ما قبله إخبار عن كثير من الناس يسجدون لله، وهم المؤمنون. [ثم قال] {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}. أي: ومن يشقه الله فيهينه، فما له من مكرم يكرمه بالسعادة.

{إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} يوفق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء فيكفر. ثم قال تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ}. يعني: الذين تبارزوا يوم بدر. وقد ذكر ذلك في أول السورة. وقال ابن عباس: هم أهل إيمان، وأهل كتاب. اختصموا. قال أهل الكتاب للمؤمنين: نحن أولى بالله، وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله، آمنا بمحمد A ونبيككم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً. فكان ذلك خصومتهم في ربهم. وقال الحسن: هم الكفار والمؤمنون، اختصموا في ربهم. وكذا قال مجاهد. وقال عكرمة: " هذان " إشارة إلى الجنة والنار. اختصما في ربهما، فقال النار: خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته. فقد قص عليك من خبرهما ما تسمع. ثم قال تعالى ذكره: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ}. أي: قصماً من نحاص ونار. وقال ابن جبير: ليس في الآنية أشد حراً من النحاس.

قال مجاهد: الكافر قطعت له ثياب من نار. والمؤمن يدخله الله جنات تجري من تحتها الأنهار. ثم قال: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} أي: ماء يغلي. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه. وهو قوله: " يصهر به ما في بطونهم ". ثم يعاد كما كان. ومعنى يصهر: يذاب ما في بطونهم من الشحوم، وتشوى جلودهم فتتساقط. قال مجاهد وقتادة: يصهر: يذاب. قال ابن عباس: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون. وقال ابن جبير: إذا جاع أهل النار، يعني إذا جاعوا واستغاثوا بشجر الزقوم، فيأكلون منها، فاختلعت جلود وجوههم. فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم يصب عليها العطش، فيستغيثون فيغاثون بما كالمهل، وهو الذي انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطع عنها الجلود، " ويصره به ما في بطونهم "، أي: يذاب. يمشون في أمعائهم، وتسقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد، يسقط كل عضو على حياله،

يدعون بالويل والثبور، نعوذ بالله من ذلك. وقال عبد الله بن السري: يأيته الملك بالإناء يحمله بكلبتين، فإذا أدناه إليه يكرهه، فيرفع الملك بقمعه، فيضرب بها رأسه، فيفلق بها دماغه، فيكفي الإناء في دماغه، فيصير إلى جوفه. فذلك قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}. وقوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}. أي: عذاب مقامع أو ضرب مقامع تضربهم بها الخزنة إذا أرادوا الخروج من النار، حتى يرجعوا إليها. وقوله: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي: من العذاب، وغم الظلمة. قال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج. إن الأيدي والأرجل لموثقة، ولكن يرفعهم لهبها، وتردهم مقامعها. قال سلمن الفارسي: النار سواد مظلمة، لا يضيء لهبها ولا جمرها. قال مالك بن دينار: بلغني أنه إذا أحس أهل النار في النار، بضرب مقامع

23

الحديد، انغمسوا في حياض الحميم، فيذهبون سفالاً سفالاً مقدار أربعين سنة، كما يغرق الرجل فيذهب في الماء سفالاً سفالاً. وروي أن جهنم تجيش فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها، فيريدون الخروج، فتعيدهم الخزان بالمقامع، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق، بمعنى المحروق، كالأليم بمعنى المؤلم. فهو فعيل بمعنى مفعول. قوله: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى قوله: {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. أي: يدخلهم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار ". {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}. ومن قرأ بالنصب، فمعناه: ويحلون لؤلؤاً. {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي: ثياب من حرير. ثم قال: {وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ}. أي: هداهم ربهم في الدنيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن زيد: هدوا إلى الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله. وهو الذي قال جل ذكره: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وقال ابن عباس: هدوا: ألهموا. وقيل: هدوا إلى قوله: الحمد لله الذي صدقنا وعده. وقيل: معناه: هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من عند الله، بما لهم من دوام النعم

وبالسلام والتحية التي يبعثها الله إليهم مع الملائكة. كما قال: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار}. ومعنى: {وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد}. أي: إذا صاروا إلى الآخرة، وهدروا إلى صراط الجنة، وطريقها، فهو صراط الله D، يسلكه المؤمنون إلى الجنة ويعدل عنه الكافرون والمنافقون إلى طريق النار. والحميد هو الله. بمعنى المحمود. أي: أن يحمد على نعمه، على عباده. وقيل: معناه: وهدوا إلى صراط الحميد، أي: وهداهم ربهم في الدنيا إلى طريق الرب الحميد، وهو دين الإسلام. والحميد بمعنى المحمود عند أوليائه وخلقه. فحميد: فعيل بمعنى: مفعول. وصراط العزيز الحميد: الإسلام. وقيل: " إن قوله: لا إله إلا هو " هدوا إلى ذلك في الدنيا. ثم قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}. أي: إن الذين جحدوا توحيد الله، وكذبوا رسله ومنعوا الناس الدخول في دين الله وصدوهم عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس المؤمنين كافة لم يخصص به بعض دون بعض، هلكوا. وهذا خبر أن، محذوف من الكلام. وقيل: الخبر: يصدون. فالواو زائدة. قال أبو إسحاق: الخبر: نذقه من عذاب أليم. وهذا غلط، لأنه جواب الشرط. ثم قال: {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد}. أي: معتدل في النزول فيه، المقيم والبادي. فالبادي [المنتاب إليه من غيره].

والعاكف أهله. أي: ليس أحدهم أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر، إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل. قال ابن زيد ومجاهد: ذلك مباح في بيوت مكة. وروي أن الأبواب إنما عملت على بيوت مكة من السِّرَق، لأن الناس كانوا ينزلون أينما وجدوا. فعمل رجل باباً، فأرسل إليه عمر: اتخذت باباً من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنما جعلته متحرز متاعهم. واختلف في الآية. فقيل: عُني بها المسجد الحرام خاصة. ليس أحد أولى به من غيره. وقيل: عني بها مكة، ليس أحد أولى بمسكن فيها من غيره. والمعنى: والمسجد الحرام. أي: ويصدون الناس عن دخول المسجد الحرام والصلاة فيه، والطواف بالبيت، وهو موضع يستوي فيه المقيم والطارئ، حقهم فيه واحد. وهذا يدل على أن المراد المسجد الحرام، دون بيت مكة، وهو ظاهر اللفظ. وقد ملك الناس دور مكة وتبايعوا من أول الإسلام إلى الآن وهم يتوارثونها من أول الإسلام. فظاهر لفظ الآية إنما يدل على أن العاكف والطارئ حقهما في المسجد سواء، لا فضل لأحدهما على الآخر. وقد قال ابن عباس: ذلك في المسجد الحرام خاصة.

وعن مجاهد وعطاء: أن المعنى: أن أهل مكة والغريب بها، هما في حرمة الإسلام سواء، لا يمنع أحد من دخوله من المؤمنين، ولا يُضر أحد منه. وهذا القول يؤيده صدر الآية، لأنه تعالى إنما ذكر [صد] الكافرين المؤمنين عن المسجد الحرام ومنعهم منه. ثم أعلمنا آخر الآية أن أهله والغريب في حرمته سواء، لا يُمنع أحد منهم. ومن قرأ " سواءُ " بالرفع، جعله مبتدأ. والعاطف فيه خبره. وإن شئت جعلت العطاف مبتدأ وسواء خبر مقدم. فتقف على " الناس "، على تقدير الوجهين. ويكون: " للناس "، في موضع المفعول الثاني، تقف على " الناس ". من قرأ بالنصب، جعله مفعولاً ثانياً بـ " جعلنا " ويرتفع العاكف. والأحسن عند سيبويه في مثل هذا: الرفع، لأنه غير جار على الفعل. وقد قرئ " سواءً " بالنصب " العاكف " بالخفض، على أن يكون " سواء " مفعولاً ثانياً ل " جعلناه " والعاكف والبادي بدلاً من الناس، أو نعتاً لهم. ثم قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ} فالباء في " بإلحاد " زائدة. قاله: الأخفش وأبو عبيدة. وقال الكوفيون: إنما دخلت الباء هنا، لأن معناه: ومن يرد فيه بأن يلحد. والباء تدخل وتحذف مع " أن " كثيراً ومنع المبرد، الزيادة في كتاب الله، والقول عنده: إن يرد. يدل على الإرادة. فيدخل الباء مع الفعل. على تقدير دخلوها مع المصدر. فالتقدير عنده. ومن أراد به بأن يلحد، وهو ظالم. كما قال: أريد لأنْسَى ذِكْرَه. فأكنما تخيل لي ليلاً بكل سبيل. فأدخل اللام، على تقدير دخولها مع المصدر. أي: إرادتي لكذا. قال ابن عباس: {بِظُلْمٍ} بشرك.

وقال مجاهد: " من يرد فيه غير الله " وقاله الحسن. وقال قتادة: من أشرك في بيت الله، عذبه الله. وعن ابن عباس: أن المعنى من استحل من الحرام ما حرم الله، أذاقه الله العذاب المؤلم، ثمل القتل ونحوه. وقال مجاهد: معناه: من يعمل فيه عملاً [سيئاً]. وهذه الآية تدل على أن الإنسان/ يجب عليه العقاب بنيته لفعل الشر في الحرم. ألا ترى إلى قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم يقل: من يفعل ذلك. وإنما ذكر العقوبة على الإرادة فقط، فهو ظاهر الآية، وذلك لعظيم حرمة الحرم وجلالة قدره، وكذلك يضاعف فيه الحسنات أكثر مما يضاعف في غيره. وقال ابن عمر: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، يعني: في غير الحرم وفي غير أهل الحرم، قال: ولو أن رجلاً بِعَدَن أبينَ همَّ بقتل رجل بهذا البيت إلا أذاقه الله من العذاب الأليم. وقال الضحاك: إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها

فتكتب عليه. وعن ابن عباس أيضاً أن المعنى: من يرد إستحلاله متعمداً. وقال حبيب بن أبي ثابت: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم "، هم: المحتكرون الطعام بمكة. وروي عن عمر بن الخطاب Bهـ أنه قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد. وقال مجاهد: بيع الطعام بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم. وقال الضحاك: الإلحاد في هذا الموضع: الشرك. وقال عطاء: هو عبدة غير الله. وقيل: إنه كل ما كان منهياً عنه حتى قول الرجل: " لا والله وبلى والله ". وروى مجاهد أن ابن عمر كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله، عاتبهم في الحل. فسئل عن ذلك فقال: كنا نحدث

26

أن من الألحاد فيه أن يقول الرجل بمكة بلى والله، وكلا والله. وأصل الإلحاد، الميل عن القصد، ومنه سمي اللحد، ولو كان مستوياً لقيل ضريح. ومنه قوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ} [الأعراف: 180]. يقال: لحد وألحد بمعنى واحد. وحكى الأحمر: ألحد إذا جادل ولحد إذا عجل ومال. قوله تعالى ذكره: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت}. إلى قوله: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}. أي: واذكر يا محمد إذ وطأنا لإبراهيم، ومكنا له مكان البيت. وبوأ تتعدى إلى مفعولين، ولكن دخلت اللام في إبراهيم حملاً على معنى: جعلنا لإبراهيم. وقيل: اللام متعلقة بالمصدر، أي: واذكر تبويئنا لإبراهيم. وقال الفراء: اللام زائدة مثل {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]. وقوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي} " أن " بمعنى: أي.

وقيل: التقدير: بأن لا تشرك. وقيل: أن زائدة. مثل {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} [يوسف: 96]. قالتقدير: واذكر يا محمد نعم الله على قومك وحسن بلائه وعندهم، وهم يعبدون غيره، فمما يجب أن يذكر إذ مكنا لأبيك إبراهيم مكان البيت. قال قتادة: وضع الله البيت مع آدم حين اهبط إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه فنقض إلى ستين ذراعاً. وإن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، شكا ذلك إلى الله فقال الله D: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند ال العرش فانطلق إليه. فخرج آدم ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز على ذلك، فأتى آدم البيت، فطاف به ومن بعده من الأنبياء. وقال السدي: لما عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل " أن طهرا بيتي للطائفين " انطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسماعيل، فأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحاً يقال لها الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا

الأساس، فذلك حين يقول: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ". وقال علي بن أبي طالب Bهـ: أقبل إبراهيم من أرمينية ومعه السكينة تدله على البيت حتى يتبوأ البيت كما تبوأ العنكبوت بيتاً وكان يحمل الحجر من الحجارة يطيقه ولا يطيقه ثلاثون رجلاً. وقال كعب الأحبار: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة. ومنه دحيت الأرض. وقوله تعالى: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي} أي: عهدنا إليه ألا يشرك في عبادة الله/. {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} أي: ظهره من عبادة الأوثان. قال مجاهد: طهره من الشرك. وقال عبيد بن عيمر: من الآفات والريب. وقال قتادة: من الشرك وعبادة الأوثان. وقيل: طهراه من ذبائح المشركين، وما كانوا يطرحون حوله من الدماء والفرث والأقذار، وكانوا يطرحون ذلك حول البيت. وقيل: معناه: طهراه من دخول المشركين إياه، ومن إظهار شركهم فيه.

فأمرهما بتطهير البيت من جميع ذلك لمن يطوف ويقوم بأمره من المؤمنين، ولمن يصلي بحضرته " والطائفون " الذين يطوفون به، " والقائمون " المصلون قياماً. " والركع السجود "، يعني في صلاتهم حول البيت. ثم قال تعالى: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً}. أي: وناد إبراهيم في الناس بالحج يأتوك رجالاً وركباناً. ورجال: جمع راجل، كقائم وقيام. وقوله: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ}. أي: ويأتوك على كل بعير ضامر قد أضمره بعد المسافة من كل فج عميق. والضامر: المهزول. وقال: " يأتين " يريد به النوق. ولو قلت في الكلام: مررت بكل رجل قائمين، حسن. فكان " ضامراً " في موضع ضوامر ولكن وحد، لأن " كل " تدل على العموم. والعموم والجمع متقاربان. وروي أن إبراهيم A لما أمره الله تعالى بالتأذين بالحج، قام على مقامه، فنادى: يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا بيته العتيق. وقال ابن عباس: لما فرق إبراهيم من بناء البيت، قيل له: أذن في الناس بالحج. قال: يا رب، وما.

وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد: أن إبراهيم لما نادى: أيها الناس، كتب عليكم الحج أسمع من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. وعن ابن عباس أيضاً: أنه قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج، خفضت له الجبال رؤوسها ورفعت القرى فأذن في الناس. قال ابن عباس عنى بالناس هنا أهل القبلة ألم تسمعه قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى} [آل عمران: 96]. ثم قال: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] يقول: ومن دخله من الناس الذين أمر إبراهيم أن يؤذن فيهم فكتب عليهم الحج. قال ابن عباس: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} أي: مشاة. قال: وما آسى على شيء، فإني آسى ألا أكون حججت ماشياً، سمعت الله تعالى يقول: يأتوك رجالاً. وقال مجاهد: حج إبراهيم وإسماعيل ما شيين. وقال ابن عباس: {وعلى كُلِّ ضَامِرٍ}: الإبل.

قال مجاهد: كانوا لا يركبون، فأنزل الله تعالى ذكره: " وعلى كل ضامر " فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب. وقوله: {مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ}. قال ابن عباس وقتادة: من كل مكان بعيد. والظاهر في هذه الآية والخطاب - عليه أكثر المفسرين - أن هذ كله خطاب لإبراهيم، كان ومضى، أخبرنا الله به. وقيل: إن قوله تعالى: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً}. . . - إلى - {والركع السجود} مخاطبة لإبراهيم، وقوله: " وأذن في الناس وما بعده، خطاب للنبي A أي أعلمهم أن الحج فرض عليه، فيقف القاري على/ هذا القول، على " السجود " ويبتدئ " وأذن ". وقيل: إن قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} وما بعده، خطاب للنبي عليه السلام كله، لأن القرآن عليه نزل، وهو مخاطب به، ولا يخرج عن مخاطبته إلى مخاطبة غيره إلا بتوقيف أو دليل قاطع. وأيضاً فِإن " أن لا تشرك بي " خطاب لشاهد، وإبراهيم غائب، ومحمد A هو الشاهد الحاضر في وقت نزول القرآن، فيكون المعنى: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، فجعلنا ذلك من الدلائل على توحيد الله، وعلى أن إبراهميم كان يعبد الله وحده، فلا تشرك بي شيئاً، وظهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج: أي: أعلمهم أنه فرض عليهم.

28

وقيل: أعلمهم أنك تحج الوداع ليحجوا معك فيكون الوقف على هذا التأويل " مكان البيت " ويبتدئ في مخاطبة النبي عليه السلام " أن لا تشرك " أي وعهدنا إليك ألا تشرك بي شيئاً. ومن جعله كله خطاباً لإبراهيم، وقف على {كُلِّ ضَامِرٍ} على أن يقطع " يأتين " مما قبله. قاله: نافع والأخفش ويعقوب، وغيرهم. والعمق: " في اللغة: البعد. ومنه بنو عميقة أي: بعيدة. وقرأ عكرمة: يأتوك رجالاً، جعله راجل، أيضاً مثل ركب وركاب. ويقال أيضاً: راجل، ورجله، وراجل، ورجاله. قوله تعالى: {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} إلى قوله: {البآئس الفقير}. أي: يأتون ليشهدوا منافع لهم: وهي التجارات في الأسواق والمواسم، قاله: ابن عباس وابن جبير. وقال مجاهد: هي منافع في الآخرة، ومنافع في الدنيا، الأجر والربح.

وقيل: هو المغفرة فقط. ثم قال: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} يعني: الهدايا التي أهدوا من الإبل والبقر والغنم. قال علي بن أبي طالب: الأيام المعلومات: يوم النحر، ويومان بعده، إذبح في أيها شئت، وأفضلها أولها، وهو قول: ابن عمر، وأهل المدينة. وقال ابن عباس: المعلومات: العشر، يوم النحر، منها والأيما المعدودات: أيام التشريق إلى آخر النفر. وهو قول: عطاء ومجاهد والنجعي والضحاك، وهو قول: الكوفيين. ط وقال القتبي: المعلومات: عشر ذي الحجة. والمعدودات يوم التروية ويوم عرفة ويوم الزنية. ثم قال تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا} أي: فكلوا من بهائم الأنعام التي ذكر اسم الله عليها هنالك. وهذه إباحة لا إيجاب. واستحب مالك والليث أن يأكل الرجل من أضحيته لقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا}.

وقال الزهري: من السنة أن يأكل أولاً من الكبد. قال بعض العلماء: ذبح الضحايا ناسخ لكل ذبح كان قبله. وقيل: قوله: " فكلوا منه " ناسخ لفعل المشركين، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم. واختار جماعة من الصحابة، وغيرهم من التابعين أن يتصدق الرجل بالثلث ويطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. ومذهب علي بن أبي طالب وابن عمر أن لا يذخر من الضحايا شيئاً من بعد ثلاث، وروي ذلك عن النبي A. وقال جماعة من العلماء والصحابة: يذخر منها بعد ثلاث، ورووا: أن الحديث منسوخ بالإذخار، وأن النبي عليه السلام قال: إنما أمرتكم ألا تذخروا من أجل الدافة التي دفت عليكم روته عائشة Bها. والدفة: الجماعة. وقال الحسن البصري: العقيقة واجبة، وهي عند مالك وأكثر العلماء مثل الضحية، منذوب إليها. وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على كل من وجد إليها سبيلاً، وعلى الرجل أن يضحي عن ولده، والجماعة على خلافه لأن الله تعالى لم يوجبها في كتابه، ولا أوجبها

29

رسوله، ولا اجتمعت الأمة على ذلك. وقوله: {وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير} يعني: الزمن المقتر. وقال مجاهد: هو الذي يمد إليك يده. وقال عكرمة: البائس: المضطر الذي عليه البؤس، والفقير: المتعفف. والبائس عند أهل اللغة: الذي عليه البؤس من شدة الفقر. وقيل: البائس الذي يتبين عليه اثر البؤس والضر. قوله تعالى ذكره: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}. إلى قوله: {مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} /. قال ابن عباس: النفث: الحلق والتقصير والرمي والذبح والأخذ من الشارب واللحية ونتف الإبط وقص الأظفار. وهو الخروج من الإحرام إلى الحل. وقال ابن عمر: التفث: ما عليهم من الحج. وعنه أيضاً: التفث: المناسك كلها. وعن ابن عباس: التفث: حلق الرأس والأخذ من الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة وقص الأضفار والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة

والمزدلفة ومثله عن قتادة وابن جريج. وقوله: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} يعني: ما نذروا من البدن. وقال مجاهد: هو نذر الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج. ثم قال تعالى ذكره: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق}. يعني: بيت الله الذي هو مكة، سمي عتيقاً لأن الله أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه وهدمه، قال: قتادة ومجاهد وابن نجيح وهو مروي عن النبي عليه السلام. وقال ابن جبير: إنه إنما سمي بالعتيق لأنه أعتق من الغرف [في] زمان الطوفان. وعن مجاهد: أنه إنما سمي عتيقاً لأنه لم يملكه أحد من الناس. وقال ابن زيد: " سمي بذلك لقدمه، لأنه أول بيت وضع للناس، بناه آدم، وهو أول من بناه، ثم برأ لله موضعه إبراهيم بعد الغرق، فبناه إبراهيم وإسماعيل. ومنه قيل: للسيف القديم سيف عتيق.

وعنى بالطواف هنا طواف الإفاضة يوم النحر وبعده، وهو الذي يقال له طواف الزيارة. ثم قال تعالى: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله}. أي: الأمر، ذلك من الفروض. وقيل: معناه: ذلك الذي أمرتم به من الوفاء بالنذور، والطواف بالبيت العتيق هو الفرض الواجب عليكم في حجكم. {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} أي: ومن يجتنب مع ذلك ما أمره الله باجتنابه في حال إحرامه تعظيماً منه لحدود الله أن يواقعها، فهو خير له عند ربه في الآخرة. قال مجاهد: {حُرُمَاتِ الله} هوي مكة والحج والعمرة، وما نهى الله عنه من المعاصي كلها. وقال ابن زيد: {حُرُمَاتِ الله}: المسجد الحرام والبيت الحرام والبلد الحرام. ثم قال تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} أي: أحلها الله لكم أن تأكلوها إذا ذكيتموها، لم يحرم عليكم بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. ثم قال: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي: في كتاب الله، وذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخقة والموقدة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، فذلك رجس كله.

وقال قتادة: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ}: الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه. وقيل: هو الصيد المحرم على المحرمين. فالمعنى: أحل لكم في حال إحرامكم أكل لحم الإبل والبقر والغنم، إلا ما يتلى عليكم من تحريم الصيد عليكم وأنتم محرمون. ثم قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} أي: النتن، و " من " لبيان الجنس. وقال الأخفش: هي للتبعيض. أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو من الأوثان، أي عبادتها. وقال ابن عباس: معناه: اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان. وروي عن النبي A أنه قال: " عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور} ". وقال ابن جريج: {قَوْلَ الزور} الكذب، والفرية على الله جلّ ثناؤه. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهم.

وقيل: {قَوْلَ الزور}: قولهم: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك. وقيل: معناه: اجتبنوا تعظيم الأوثان والذبح لها. وسماها رجساً، استقذاراً لها. وكانوا ينحرون عندها، ويصبون عليها الدماء. فيقذرونها، وهم مع ذلك يعظمونها، فنهى الله المسلمين عن ذلك كله. ثم قال تعالى: {حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}. أي: اجتنبوا ذلك، ما يليق إلى الحق والتوحيد والإخلاص والإيمان بالله. ثم قال تعالى ذكر: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء}. أي: مثل من يشرك بالله في بعده من الهدى وإصابة الحق وهلاكه، ثمل من خرّ من السماء {فَتَخْطَفُهُ الطير} أي: فهلك، أو مثل من {تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}، أي: بعيد. وقيل: المعنى: من يشرك بالله يكون يوم القيامة بهذه الصفة، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يملك له أحد من الخلق نفعاً، ولا يمكنه امتناع مما يناله من عذاب الله، فكأنه في ذلك بمنزلة من خرّ من السماء، ومن هوى لا يقدر لنفسه على دفع ما هو فيه، فتخطفه الطير وتقطع جسمه بمخالبها ومناقرها، فهلاو لا يجد سبيلاً إلى دفع ذلك عن نفسه، وهو بمنزلة من تحمله الريح من موضع مرتفع، فترمي به في منحدر بعيد/

سحيق، فشبه الله المشرك بمنزلة هذا الذي خرّ من السماء، فهوت به الريح وتخطفته الطير، فكما لا يملك هذا لنفسه دفع ضر، وهو في الهُوِي، كذلك المشرك، يوم القيامة لا يقدر على دفع ما نزل له من العذاب. ثم قال تعالى: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب}. أي: ذلك أمر الله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله}، يعني: الوقوف بعرفة وتجميع ورمي لاجمال والصفا والمروة، فهذه كلها شعائر، وتعظيمها: الوقوف والعمل بها في الأوقات المفروضة والمسنونة. " والشعائر " جمع شعيرة، وهي ما جعله الله علماً لخلقه. وكذلك الشعائر لابدن واحدها شعيرة أيضاً، لأنها قد أشعرت، أي: جعلت فيها علامة تدل على أنها هدي، ولذلك قال بعض العلماء: إن الشعائر هنا البدن. وقوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي: فإن الفعلة من تقوى القلوب. أي: فإن التعظيم واجتناب الرجس من وجل القلوب من خشية الله. ثم قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}. أي: لكم في البدن منافع قبل تسميتها بدنة وإشعارها. وذلك لبنها وركوب ظهورها، وما يرزقون من نتاجها وشعرها ووبرها، وقوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: إلى وقت يوجبها صاحبها فيسميها " بدنة " ويقلدها ويشعرها، فإذا فعل ذلك، بطل ما كان له من النفع منها. هذا معنى قول ابن عباس وعطاء. وهو قول قتادة، قال: " إلى

أجل مسمى " أي: إلى أن تقلد فإذا قلدت، فمحلها إلى البيت العتيق. وعن عطاء أن المعنى: لكم في البدن التي أوجبتم هديها منافع، وذلك ركوب ظهروها إذا احتجتم إلى ذلك، وتشربون ألبانها إذا اضطررتم إلى ذلك، ويحمل عليها المضطر غير منتهك لها. وقوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني إلى أن تنحر. ويروى أن النبي A كان يأمر بالبدن إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب غير منهوكة وإن نتجت أن يحمل عليها ولدها، ولا يشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها. فإن كان في لبنها فضل فيشرب من أهداها ومن لم يهدها. ومن جعل الشعائر: الأماكن المذكورة، فالمعنى عنده: لكم فيها منافع إلى أجل مسمى، أي: لكم في حضور هذه الأماكن منافع، وذلك تجارتهم وبيعهم " إلى أجل مسمى " أي: إلى الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها. هذا معنى قول ابن عباس. وقال ابن زيد: معناه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} هو الأجر الذي ربحوا في تلك الأماكن.

34

ومعنى: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: إلى أيام معلومةن فإذا ذهبت تلك الأيام، لم يأتِ أحد لأماكن يبتغي الأجر، مثل عرفة ورمي الجمار ومزدلفة، فإنما منافعها في تلك الأيام بعينها، وهي الأجل المسمى. ثم قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق}. أي: ثم محل البدن أن يبلغ الحرم، فتنحر بها. وقيل: المعنى: ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق إذا طفتم طواف الإفاضة. وقال ابن زيد: معنا: ثم محل الحج إلى البيت العتيق. أي: إذا طافوا بالبيت طواف الإفاضة انقضت أيام الحج. قوله تعالى ذكره: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً}. إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي: ولكل جماعة سلفت قبلكم من أهل الإيمان جعلنا ذبحاً يهرقون دمه ليذكروا اسم الله [على ما رزقهم] عند ذبحهم إياه. وقوله: {مِّن بَهِيمَةِ الأنعام}. فخص لأن من البهائم ما ليس من الأنعام، كالخيل والبغال والحمير. وسميت بهائم لأنها لا تتكلم. وقال مجاهد: منسكاً: هو هراقة الدماء.

وقال ابن عباس: منسكاً عبداً. وقال عكرمة: مذبحاً. والمَنْسِك بالكسر موضع الذبح، كالمجلس موضع الجلوس لأن اسم المكان من فعل يفعل المفعل. والمَنْسَك بالفتح: المصدر فيكون معنى قراءة من كسر، ولكل أمة جعلنا موضع ذبح. ومن قرأ بالفتح، فتقديره: ولكل أمة جعلنا أن يتقربوا بذبح الذبائح. وقيل: {مَنسَكاً} متعبداً، وهو ما يعبد الله به. " والمنسك ": العبادة والناسك: العابد. وأصل المنسك أن يكون اسم المكان الذي يعبد الله فيه. ثم قال تعالى: {فإلهكم إله وَاحِدٌ}. أي: فإلهكم إله واحد فلا تذكروا معبوداً غيره على ذبائحكم. وقيل: المعنى: فاجتبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. /

{فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ}، أي: اخضعوا بالطاعة. {وَبَشِّرِ المخبتين}. أي: الخاشعين المطمئنين إلى الله، قاله مجاهد. قال ابن عيينة: " المخبتين ": المطئنين. وقال قتادة: المتواضعين. وقيل: المخبتون: الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا. والخبت في اللغة: المكان المطمئن المنخفض، والزور: الباطل. وقيل: إنه أريد به في هذا الموضع الكذب. وقيل: المخبتين: المخلصين. ثم قال تعالى: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}. أي: خشعت قلوبهم وجلاً من عقابه. قال ابن زيد: وجلت قلوبهم: لا تقسوا {والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ} أي: من

شدة في أمر الله. {والمقيمي الصلاة} " يعني المفروضة " وما رزقانهم ينفقون، أي: يزكون وينفقون على عيالهم. ثم قال {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله}. أي: هي ما أشعرهم الله به، وأعلمهم إياه من أمر دينه. فبين أن ذبح البدن هو مما أعملهم الله به من أمور دينه والتقرب إليه به. أي: من إعلام الله، أمركم بنحرها في مناسك حجكم إذا قلدتموها وأشعرتموها. " والبدن " جمع بدنة، كخشبة وخشب، إلا أن الإسكان في " بدن " أحسن، والضم في " خشب " أحسن، لأن بدناً أصله النعت، لأنه من البدانية وهو السمن وخشبة اسم غير نعت. والنعت أثقل من الاسم، فكان إسكانه وتخفيفه أولى من الاسم. " والبدن ": الإبل. وإنما سميت بدناً لأجل السمانة والعظم. وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}. أي: أجر من الآخرة بنحرها والصدقة منها وفي الدنيا: الركوب إذا احتيج إلى ركوبها. ثم قال تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} أي: انحروها واذكروا اسم الله عليها قائمة على ثلاثة تعقل اليد اليسرى. وقال ابن عباس: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} قال: الله أكبر، الله أكبر، اللهم منك

ولك. {صَوَآفَّ} قياماً على ثلاثة. وقرأ الحسن والأعرج: صَوَافِي، جمع صافية، ومعناها مخلصين في نحرها لله لا شرك فيها لأحد. وقرأ ابن مسعود: صَوَافِنَ. جمع صافنة، وهي القائمة على ثلاث. وروي عن مجاهد أنه قال: " صواف "، قائمة على أربع مصفوفة. و " صوافن ": قائمة على ثلاث. قال قتادة: معقولة اليد اليمنى. وقال مجاهد: " اليسرى ". ونحر النبي A بدنة قياماً. ودل على ذلك قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}. أي: إذا اسقطت على جنوبها. وهو قول: مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. واستحب عطاء أن تنحر باركة معقولة لئلا تؤذي بدمها أحداً. وقد روى جابر أن رسول الله A وأصحابه، كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى قائمة

على ما بقي من قوائمها. وكان النبي A يقول إذا ذبح: " بسم الله والله أكبر ". وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا}. إباحة، لأن المشركين كانوا لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص الله للمسلمين في ذلك. ثم قال: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر}. قال ابن عباس: القانع: المستغنى بهما أعطيته وهو في بيته، والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم [رجاء] أن تعطيه، ولا يسأل. وقال مجاهد: " القانع " جارك، يقنع بما أعطيته. " والمعتر ": الذي يتعرض لك، ولا يسألك. وعن ابن عباس: " القانع " الذي يقنع بما عنده ولا يسأل، " والمعتر " الذي يعترك فيسألك. وقال قتادة: " القانع ": المتعفف الجالس في بيته، " والمعتر " الذي يعتريك

فيسألك. وقال الحسن: " القانع السائل "، " والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل. وكذلك قال زيد بن أسلم وابن جبير أن القانع: السائل. وعن مجاهد: " القانع " جارك وإن كان غنياً. " والمعتر ": الذي يعتريك. وعن زيد بن أسلم أيضاً: القانع ": المسكين الطواف. " والمعتر ": الصديق الضعيف الذي يزور. وقال محمد بن كعب القرظي: " القانع ": الذي يقنع بالشيء اليسير يرضى به، و " المعتر " الذي يمر بجانبك ولا يسأل شيئاً. وقيل: " القانع " الذي هو فقير لا يسأل. " والمعتر " الفقير الذي يسأل. وعن مجاهد: " القانع ": الطامع. " والمعتر " الذي يعتر من غني أو فقير. وقال عكرمة: " القانع ": الطامع. وقال ابن زيد: " القانع ": المسكين. " والمعتر ": الذي يتعرض للحم وليس

37

له ذبيحة، يجيء إلى القوم من أجل لحمهم. وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع هو الفقير، وأن " المعتر " هو الزائر. يقال: قنع الرجل يقنع قنوعاً، إذا سأل، وقنع يقنع قناعة، إذا رضي/ " فهو قنع ". وقرأ أبورجاء: {وَأَطْعِمُواْ القانع} على معنى الذي يرضى بما عنده. وقرأ الحسن: {والمعتر} وهي لغة فيه، يقال: اعتراه إذا تعرض لما عنده وإن طلبه. ثم قال: {كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي: هكذا سخرنا لكم البدن لعلكم تشكرون على تسخيرها أيها الناس. قوله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} إلى قوله: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. أي: لن يصل إلى الله لحوم هديكم، ولا دماؤها ولكن يناله اتقاؤكم إياه وإرادتكم بها وجهه وتعظيمكم حرماته. وتقديره: لن يتقبل الله لحوم هديكم ولا دماؤها، وإنما يتقبل إخلاصكم الله وتعظيمكم لحرماته. وقيل: المعنى: لن يبلغ رضى الله لحومها ولا دماؤها ولا يرضيه ذلك عنكم، ولكن يبلغ رضاه التقوى منكم، ويرضيه ذلك عنكم. وفي الكلام مجاز وتوسع، إذا أتى " لن ينال الله " في موضع لن يبلغ رضا الله وحَسُنَ ذلك، لأن كل من نال شيئاً فقد بلغه.

وقال ابن عباس: كانوا في الجاهلية ينضحون بدم البدن ما حول البيت، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فأنزل الله الآية. ثم قال: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ}. أي: هكذا سخر لكم البدن لكي تعظموا الله على توفيقه لكم لدينه والنسك في حجكم. وقيل: معناه: لتكبروا الله على ذبحكم في الأيام المعلومات. {وَبَشِّرِ المحسنين} أي: وبشر يا محمد الذين أطاعوا الله فأحسنوا في طاعتهم إياه في الدنيا بالجنة إلى الآخرة. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا}. أي: يصرف عن المؤمنين مرة بعد مرة غائلة المشركين وما يريدون بالمؤمنين. فيكون " يدافع " على معنى: تكرير الفعل من الله، لا على معنى مدافعة اثنين. وهذا كقوله: فيضاعفه له: فيفاعل للتكرير. أي: يضعف له مرة بعد مرة، لا أن ثم فاعلين مثل: قاتل. ومن قرأ. يَدْفَعُ: أراد مرة واحدة. وعدل من يفاعل، لأن أكثر باب المفاعلة أن يكون من اثنين، والله تعالى ذكره، لا يمانعه شيء.

وقيل: معناه: أن الله يدفع عن المؤمنين شدائد الآخرة وكثيراً من شدائد الدنيا. ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}. أي: كل من خان الله فخالف أمره ونهيه، وجحد كتبه ورسله. ومعى لا يحب كل كفار أي: لا يحب إكرامه وإعزازه، بمعنى لا يريد ذلك كما يريده بالمؤمنين، فعنى الله بهذه الآية دفعه تعالى ذكره كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم. و" خوان " فعال: من الخيانة وهو من أبنية المبالغة وكذلك كفور. ثم قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ}. أي: أذن الله للذين يقاتلهم المشركون أن يقاتلوهم. ففي الكلام حذف على قرءاة من فتح التاء. ومن كسر التاء، فمعناه: أذن الله للذين يقاتلون المشركين في سبيله بالقتال لظلم المشركين لهم: فثم حذف أيضاً. وقرأ ابن عباس: {يُقَاتَلُونَ} بكسر التاء. وقال: هي أول آية نزلت في القتال لما خرج رسول الله A من مكة. وقال: عنى الله بها محمداً وأصحابه إذ أخرجوا من مكة إلى المدينة. يقول الله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. قال ابن عباس: لما خرج النبي A من

مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون، ليهلكن، فأنزل الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ. . .} الآية. قال أبو بكر الصديق Bهـ: فعرفت أنه سيكون قتال، وكذلك قال الضحاك. وقال ابن زيد: أذن لهم في قتالهم بعدما عفا عنهم عشر سنين. وقرأ: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ}. وقال: هؤلاء المؤمنين. وقيل: إن هذه الآية إذن للنبي A بالخروج من مكة وقتال المشركين، لأن الآية نزلت بمكة، ويعقبها خرج النبي من مكة إلى المدينة، ثم بعقب ذلك كانت وقعة بدر، وهو النصر الذي وعدهم الله في قوله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. ومعنى: بأنهم ظلموا " أي: لأنهم ظلموا. فمن أجل الظلم الذي لحقهم أذن لهم في قتال من ظلمهم، فأخرجهم من ديارهم ووعدهم بالنصر على من ظلمهم بقوله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}. وقال مجاهد: الآية مخصوصة، نزلت في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة/، فكانوا يمنعون، فأذن الله D للمؤمنين بقتال الكفار فقاتلوهم حين أرادوا ردهم عن الهجرة. قال مجاهد وقتادة: هي أول آية نزلت في القتال.

وقال الضحاك: " كان أصحاب النبي A أستأذنوه في قتال الكفار بمكة قبل الهجرة فأنزل الله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}. فلما هاجر رسول الله وأصحابه إلى المدينة، أطلق الله لهم قتل الكفار وقتالهم فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ. . .} الآية. فالآية ناسخة عند الجميع لكل ما في القرآن من الأمر بالصفح عنهم، والصبر على أذاهم والمنع من قتالهم. وقال ابن زيد: هذا ناسخ لقوله: {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ} وخولف في ذلك، لأن هذا تهدد ووعيد، فلا ينسخ. ومعنى: " بأنهم ظلموا " بسبب ظلمهم. ثم قال: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} هذا وعد من الله للمؤمنين بالنصر، فقد فعل تعالى ذلك بالمؤمنين، أعزهم ونصرهم، وأعلى كلمتهم. أهلك عدوهم. ثم قال: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ}. تقديره: أذن للذين أخرجوا من ديارهم بغير حق. فالذين: بدل من الذين الأولى ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ. أو في موضع نصب على إضمار أعني. وقوله: إلا أن يقولوا. " إن ": في موضع خفض بدل من حق. هذا قول: الفراء وإبي إسحاق.

وقال سيبويه: هي في موضع نصب استثناء ليس من الأول. فمعنى الآية: أذن للذين يقاتلون الذين أخرجوا من ديارهم. يعني من مكة، أخرجهم كفار قريش بغير حتق إلا بتوحيدهم الله، وذلك أن كفار قريش كانوا يسبون المؤمنين، ويعذبونهم ويوعدونهم حتى اضطروهم إلى الخروج عنهم. ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}. قال ابن جريج: معناه: ولولا دفاع الله المشركين بالمؤمنين. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: إنما نزلت هذه الآية في أصحابِ رسول الله A لولا ما يدفع الله بأصحاب محمد A عن التابعين لهدمت صوامع وبيع. وقال ابن زيد: المعنى: لولا الجهاد والقتال في سبيل الله. وقال علي بن أبي طالب: نزلت الآية في أصحاب رسول الله A. فالمعنى: لولا دفاع الله المشركين بأصحاب رسول الله، لهدمت صوامع وبيع. وقيل: معناه: لولا أن الله يدفع أي يأخذ الحقوق والشهادات لمن أوجب قبلو شهادته عمن لا يجوز قبول شهادته، فتركوا المظالم من أجل ذلك، لتظالم الناس، فهدمت صوامع، قاله: مجاهد.

وقال أبو الدرداء معنى: لولا أن الله يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزوا عمن ليس يغزو. لأتاهم العذاب ولاختلفوا، فهدمت صوامع. قال مجاهد والضحاك: هي صوامع الرهبان بينونها على الطريق. وقال قتادة: هي صوامع الصابئين. وقال البيع: بيع النصارى. وقال مجاهد: البِيَع: كنائس اليهود. وقال ابن زيد: البيع: الكنائس. وقال ابن عباس: الصلوات: الكنائس، يعني: ومواضع صلوات. وقال الضحاك: هي كنائس اليهود، يسمون الكنائس صلوات، وقاله: قتادة. وقال أبو العالية: الصَّلَوَاتُ: مساجد الصابئين. وقال مجاهد: هي مساجد لأهل الكتاب، ولأهل الإسلام على الطرق. وقال ابن زيد: هي صلوات أهل الإسلام، تنقطع إذا دخل العدو عليهم.

يعني النوافر. قال: وتهدم المساجد كما صنع بختنصر. وقوله: " وَمَسَاجِدُ " قال قتادة: هي مساجد المسلمين. وقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله}. يعني: في المساجد، لأنها أقرب إلى الضمير من غيرها. وقيل الضمير في " فيها " يعود على جميع ما ذكره ومعناه: يذكر فيها اسم الله في وقت شرائعهم وإقامتهم للحق. قال خصيف: أما الصوامع، فصوامع الرهبن وأما " البيع "، فكنائس النصارى، وأما " الصلوات " فكنائس اليهود، وأما " المساجد " فمساجد المسلمين. ومعنى: " وصلوات " أي: مواضع صلوات، قاله: أبو حاتم. وقال الحسن: هدمها: تركها. وقال الأخفش: التقدير: وتركت صلوات. وقرأ عاصم الجحدري: " وصُلُوب " بالباء المعجمة، واحدة من أسفل من غير ألف بعد الواو، وضم اللام، يريد به الصلبان، كأنه اسم للجمع على فعول. وقرأه جعفر بن محمد، بإسكان اللام، وبالتاء المعجمة، باثنتين من فوق.

ويروى أن مساجد اليهود تسمى صلوات. وعن مجاهد أنه قرأ: وَصِلْوِيتاً، بالياء والتاء، وبكسر الصاد والواو وإسكان اللام، وقال: هي القباب على شاطئ الأنهار. وقرأ الضحاك، بضم اللام من غير ألف بعد الواو على وزن فعول وبالثاء المعجمة، ثلاثة من فوق. وروي: أن مساجد الصابئين تسمى صُلُوثاً، وبذلك قرأ الكبي أعني بالثاء المعجمة ثلاثاً من فوق. ومعنى: " لهدمت " لضيعت وتركت. ومن جعل الضمير في " يذكر فيها " يعود على المساجد خاصة، وقف على صلوات، وهو قول نافع. ثم قال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي: وليعينن الله من يقاتل في سبيله فيجعل كلمته العليا، كما أنه إنما يقاتل لتكون كلمة الله هيا العليا. {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: قوي على نصر من جاهد في سبيله، ونصر دنيه منيع لا يغلبه غالب.

41

قوله تعالى ذكره: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} إلى قوله: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}. المعنى: الذين إن وطأنا لهم في الأرض، فقهروا المشركين وقتلوهم، أقاموا الصلاة بحدودها، وآتوا الزكاة مما يجب عليهم فيه الزكاة من أموالهم، " وأمروا بالمعروف " اي: دعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته. " ونهوا عن المنكر " أي: عن الشرك والعمل بمعاصيه يعني بذلك: أصحاب النبي A، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا بتوحيدهم لله وقد تقدم ذكرهم. وقيل: إن هذه الآية مخصوصة في أربعة من أصحاب النبي A، وهم الذين أذن لهم بقتال المشركين في الآية الأولى، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي Bهم. وقال الحسن: " هم أمة محمد A ". قال ابن أبي نجيح: " هم الولاة ". وروي: أن عثمان Bهـ قال للذين أرادوا قتله: فينا نزلت هذه الآية. {أُذِنَ لِلَّذِينَ. . .} إلى {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور}. وقال: نحن الذي قوتلنا وظلمنا وأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله، فنصرنا الله D، فمكننا في الأرض، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر فهذه لي ولأصحابي وليست لكم.

وقال الضحاك: هذا شرط اشترطه الله على من أعطاه الله الملك من هذه الأمة. ثم قال: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور}. أي: له آخر أمور الخلق، يثيب على الحسنات مع الإيمان، ويعاقب على السيئات مع الكفر. ثم قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}. هذه الآية تسلية لمحمد A وتعزية له، ليقوى عزمه على الصبر على ما يناله من المكذبين له، فالمعنى: أن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فيما جئتهم به من الحق، فالتكذيب سنة أوليائهم من الأومم الخالية، كذبت رسلها فأمهلتهم، ثم أحللت عليهم نقمتي، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: انظر يا محمد: كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة، فكذلك أفعل بقريش الذين كذبوك، وإن أمليت له إلى آجالهم، فإني منجزك وعيدي فيهم، كما أنجزت ذلك لغيرك من الرسل في الأمم المكذبة لهم. وقوله: {وَكُذِّبَ موسى} ولم يقل: وقوم موسى، كما قال في نوح وعاد وثمود وإبراهيم، فإنما ذلك، لأن قوم موسى هم بنو إسرائيل وكانوا مؤمنين به وإنما كذبه فرعون وقومه، وهم من القبط ليسوا من قومه فلذلك قال: وكذ موسى ولم يقل وقوم موسى.

قال أبو إسحاق: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار. ثم قال تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي: وكثير من القرى أهلكنا أهلها وهم ظالمون. فعبر عن إهلاك القرية وهو يريد أهلها، مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. فالمعنى: فما أهلكنا كثيراً من أهل القرى بظلمهم، كذلك نهلك أهل قريتك يا محمد بظلمهم إذا جاء الأجل. كل هذا تخويف وزجر لقريش/ و " كأين " هي كاف التشبيه دخلت على " أي " فصارتا بمنزلة " كم " في الخبر، هذا مذهب الخليل وسيبويه، والوقف على قولهما على الياء، لأنه تنوين دخل على " أي " فأما قراءة ابن كثير وكَائِنْ " يروى عن الخليل أنه قال: من قال كإن فإنه قدم الياء الساكنة قبل الهمزة ثم خلفها بألف، كما قالوا:، إن أصل آية: إيَّة، ثم أبدلوا من الياء الساكنة ألفاً، ثم اعتلت الياء الثانية، لأنها بعد متحرك وهو الهمز فصارت كياء قاض وارم. وقال ابن كيسان: هي أي: دخلت عليها الكاف وكثر استعمالها في الكلام حتى صار التنوين فيه بمنزلة النون الأصلية، فقالوا: كأين بنون في الوقف.

قال: وفيها لغة أخرى، يقولون: كا إن، كفاعل من كنت، قال: وأصلها في المعنى كالعدد، كأنه قال كشيء من العدد لأن " أيا " شيء من الأشياء، فكأنه قال: كعدد كثير فعلنا ذلك بهم، فخرجت في الإبهام إلى باب " كم " وأكثر ما جاءت " كأي " مفسرة بـ " من " نحو: كأين من رجل رأيت فإن حذفت " من " نصبت، فقلت كأي رجلاً، كما قتول: عندي كذا وكذا درهماً فتنصب، وتقول: عندي كذا وكذا من رهم. وتقول: كم لك من درهمه، وكم لك درهماً، ولو خفضت فقلت كأين رجل جاز، كما تقول: كم رجل جاءك في الخبر. فتقدير النصب في ذلك أن تجعله بمنزلة عدد فيه نون أو تنوين. وتقدير الخفض أن تجعله بمنزل عدد يضاف إلى ما بعده. ثم قال تعالى: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا}. أي: فالقرية خالية من سكانها فخربت وتداعت، فتساقطت حيطانها على سقوفها فصارت القرية عاليه سافلها السقوف تحت الحيطان. ثم قالت: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ}. أي: تعطلت البير بهلاك أهلها ولا وارد ولا شارب منها، وخفض " البير " على العطف على العروش، وإن كان غير داخل في معنى العروش، ولكنه مثل: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالخفض كأنه أراد وثم بير وقصر، فلما لم يكن في الكلام ما يرفعه،

عطفه على ما قبله، هذا مذهب الفراء. وقال أبو إسحاق هو عطف على " قرية ". أي: وكم من قرية وكم من بير ومن قصر. و" البير " مشتق من بأرت الأرض، إذا حفرتها، وابتأرتها، احتفرتها. وقوله: {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}. أي: مجصص، قاله عكرمة. وقال الضحاك: " مشيد " طويل. وقال أهل اللغة، شاد القصر يشيده، إذا بناه بالشيد وهو الجص. ومشيد: مفعل بمعنى مفعول، كمبيع بمعنى مبيوع. يقال قد شيد القصر: إذا طوله وأشاده أيضاً. وقال قتادة: " مشيد ": رفيع طويل. وعن ابن عباس: أن المشيد الحصين.

46

قوله تعالى ذكره: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. هذا تقرير وتوبيخ للكفار من قريش وغيرهم. ومعناه: أفلم يسر هؤلاء المكذبون بك يا محمد، فينظروا إلى مصارع أشباههم من الأمم المكذبة للرسل قبلهم، فيخافوا أن يحل عليهم مثل ذلك بتكذيبهم لك، فيرجعوا عن التكذيب إلى الإقرار والتصديق لك، ويفهموا ذلك بقلوبهم، ويسمعوه بآذانهم. وقوله: " فَتَكُونَ " جواب النفي. وقيل: هو جواب الاستفهام والمعنى: قد ساروا في الأرض فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها مصارع من كان قبلهم من الأمم الماضية، يخاطب قريشاً، لأنهم كانوا يسافرون إلى الشام فيرون آثار الأمم الهالكة، فهو في المعنى: خبر فيه تنبيه وتقرير إخبار عن أمر قد كان. كما قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. أي: قد شرحنا لك صدرك. ونصب " فَتَكُون " عند الكوفيين على الصرف، أذ معنى الكلام الخبر، فأكنهم صرفوه عن الجزم على العطف على يسيروا، فلما صرف عن الجزم، رد إلى آخر الجزم وهو النصب، فهذا معنى الصرف عندهم. ثم قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار}. أي: فإن القصة لا تعمى أبصارهم أن يبصروا بها الأشخاص، ولكن تعمى قلوبهم التي في صدورهم عن إبصار الحق ومعرفته.

قال قتادة: البصر: الناظر بلغة ومنفعة والبصر النافع في القلب. وقال مجاهد: ليس من أحد إلا له عينان في رأسه وعينان في قلبه فأما اللتان في الرأس فظارهتان يبصر بهما الظاهر، وأما اللتان في القلب، فباطنتان يبصر بهما الغيب، وذلك قول الله D: { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}. وقال ابن جبير نزلت في أبن أم مكتوم وكان أعمى {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} الآية. فالمعنى: لا تعمى الأبصار السالمة عن رؤية ما تعبتر به، ولكن تعمى القلوب عن رؤية الدلالات على صحة ما تعاينه الأبصار. وقوله: {فِي الصدور} توكيد، لأنه قد علم أن القلب لا يكون إلا في الصدور، ولكن/ أكده به كما قال: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وكما قال: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]. ثم قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ}. أي: ويستعجلك يا محمد مشركوا قومك بما تعدهم به، من عذاب الله على شركهم به، وليس يخلف الله وعده الذي وعدك فيهم من إحلال عذابه عليهم. ثم قال: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}. يعني: أحد الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. قاله ابن عباس،

وقاله مجاهد وهي ستة أيام، كل يوم مقداره ألف سنة مما تعدون. وعن ابن عباس أن ذلك هو اليوم من أيام الآخرة في مقدار الحساب. وروى أبو هريرة أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، فقيل له: وما نصف يوم؟ فقال: أو ما تقرأ القرآن: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} فهذا يدل على أن المراد بالآية أيام الآخرة، وهو قول عكرمة. وروي أيضاً عن مجاهد وهو قول ابن يد. ومعنى إضافة ذكر اليوم إلى الاستعجال بالعذاب، أنهم استعجلوا العذاب في الدنيا التي أيامها قليلة قصيرة، فاعلموا أن العذاب يحل بهم في وقتٍ اليوم منه كألف سنة من سني الدنيا، فلذلك أبقى لعذابهم وأشد. وقل: المعنى: أن الله جلّ ذكره أعلمهم أن الأيام التي بقيت لهم ويحل عليهم العذاب قليلة عنده، إذ اليوم عنده كألف سنة مما تعدون فوقت العذاب عندكم بطيء أيها المشركون، وهو قريب عند الله. وقيل معنى ذلك: وأن يوماً في الشدة والخوف

في الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا فيها شدة وخوف وصعوبة، وهذا قول حسن. وقيل: المعنى، وإن مقدار يوم واحد من أيام الدنيا يعذب فيه الكافر في الآخرة كمقدار ألف سنة من الدنيا، يعذب فيها الكافر لو عذبه فيها ذلك المقدار. وذلك في كثرة الآلام والغموم، فالشدة على المعذبين، أجارنا الله من ذلك. قال بعض المفسرين، وكذلك سبيل المنعم عليه في الجنة، ينال فيها من اللذة والنعيم في قدر يوم من أيام الدنيا مثل ما كان ينال في نعيم الدنيا ولذتها في ألف سنة لو نعم فيها منعماً مسروراً. ثم قال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ}: أي: وكم من أهل قرية أمهلتهم وأخرت عذابهم " وهم ظالمون " أي: مشركون بالله، ثم أخذتهم بالعذاب. واستغنى عن ذكر العذاب لتقدم ذكره، فعذبتهم في الدنيا بعد الإمهال وإلى المصير في الآخرة، فليقون عذاباً لا انقطاع له. وفي الكلام حذف. والتقدير: فكذلك حال متسعجليك بالعذاب يا محمد، فإن أمليت لهم إلى آجالهم، فإني آخذهم بالعذاب في الدنيا بالسيف والمصائب ثم يصيرون إلي في الآخرة فيصل بهم العذاب المقيم. كل هذا تخويف ووعيد وزجر للكفار من قريش وغيرهم. ثم قال: {قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. أي: قل يا محمد لمشركي قومك إنما أنذركم عذاب الله أن يحل بكم في الدنيا والآخرة " مُبِينٌ " أي: أبين لكم إنذاري وأظهره لتحذروا وتزدجروا وتتوبوا من شرككم لم أملك لكم غير ذلك، فأما استعجالكم بالعذاب، فليس ذلك إلي، إنما هو

إلى الله جلّ ذكره. ثم وصف مَنْ قبل إنذاره وآمن به فقال: {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}: أي، منكم ومن غيركم {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي، ستر من الله على ذنوبهم التي سلفت، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: الجنة. ثم وصف من لم يقبل إنذاره وتمادى على كفره فقال: {والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي: عملوا في الصد في أتباع النبي عليه السلام، وترك الإقرار بما جاء به ورد آيات الله، والتكذيب بها. ومعنى: {مُعَاجِزِينَ}: معاندين، قاله: الفراء. وقال ابن عباس: معاجزين: مشاقين. وقال قتادة: سابقين، قال: ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه. وقيل: معناه معاندين للنبي A مغالبين له، يفعلون من ذلكما يظنون أن النبي A يعجز عن رده وإنكاره.

ومن قرأه مُعْجِزِينَ بغير ألف مشدداً، فمعناه مثبطين مبطئين. تأويله يتبطون الناس ويبطئونهم عن اتباع النبي عليه السلام. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ}. قوله: " من رسول ولا نبي ": يدل على أن النبي هو المرسل، وأن المرسل نبي، لأنه أوجب في الآية للنبي الرسالة، لأن معنى نبي: أنبأ عن الله، ومعنى أنبأ عن الله: هو أخبر عن الله بما أرسله به، فالنبي رسول والرسول نبي. وقد قال قوم: / كل رسول نبي وليس كل نبي رسول، وهذه الآية تدل على

القول الأول. ومعنى الآية عند أهل القول الثاني: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلى أمة ولا نبي محدث ليس بمرسل. وكان نزول هذه الآية، أن الشيطان ألقى لفظاً من عنده على لسان النبي A فيما كان يتلوه من القرآن، فاشتد ذلك على رسول الله فسلّى الله بهذه الآية. قال محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس: جلس رسول الله في نادٍ من أندية قريش، كثير أهله، يتمنى ألا يأتيه من الله شيء، فينفروا عنه، فأنزل الله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] فقرأها النبي A حتى إذا بلغ. " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثلاثة الأخرى "، ألقى الشيطان في تلاوته كلمتني " تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترجى ". فتكلم بها ثم مضى فقرأ إلى آخر السورة كلها فسجد وسجد القوم معه جميعاً ورضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا تشفع لنا عنده إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك. فلما أمسى النبي أتاه جبريل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبريل A: ما جئتك بهاتين. فقال رسول الله A: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله تعالى إليه {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} إلى

قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 73 - 75] فما زال النبي A مغموماً بذلك حتى نزلت: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} إلى قوله: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وعلى هذا المعنى ذكره ابن جبير وأبو معادز وقال ابن عباس: في الآية أن النبي A بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا سمعناه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه فينما هو يتلوها وهو يقول: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألقى الشيطان أن تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فجعل يتلوها، فنزل جبريل عليه السلام فنسخها قال له: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} إلى {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وكذلك رواه ابن شهاب على هذا المعنى وان اختلفت الألفاظ. وقيل: معنى الآية: هو ما يقع للنبي A من السهو والغلط إذ قرأ فينتبه إلى ذلك أو ينبهه الله عليه، فيرجع عنه كما يعرض له من السهو في الصلاة فنسخ الله لذلك هو تنبيه نبيه عليه. وقوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ}. هو رجوع النبي A عن سهوه وغلطه إلى الصواب، كل بلطف الله وتيسيره له. وقوله: {وَأَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} أي: وسوس إليه فغلطه في قراءته. وقوله: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}. هو أن المشركين والمنافقين كانوا يطلبون

على النبي عليه السلام زلة أو غلطاً يطعنون بذلك عليه. فإذا غلط في قراءته أو سهى، تلقوا ذلكك بالقبول، وقالو: رجع عن بعض ما قرأ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يبين فيها أن الغلط والسهو لا حجة فيهما على النبي A، ولا طعن، لأنه شيء يجوز على جميع الخلق، ولا يمتنع من ذلك أحد إلا رب العالمين، فأخبرهم أن الأنبياء قبل محمد والرسل هكذ كانوا، فلا نقص في ذلك على محمد A. وقد استدل بعض الناس على أن كل نبي رسول وكل رسول نبي بهذه الآية، لأنه قال في النبي والرسول: إذا تمنى، أي قرأ ما أرسل به إلى قومه، فكلاهما مرسل ونبي، وقال: إن الأنبياء إنما يصيرون أنبياء إذا أرسلهم الله إلى عباده، ومن لم يرسله الله إلى عبده فليس بنبي، كما لا يكون رسولاً. والذي عليه أكثر الناس، أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. والرسل قليلون، والأنبياء كثيرون. وقد ذكرنا عدة هؤلاء وهؤلاء في غير هذ الموضع، وعلى هذا دلائل كثيرة تدل على صحته بطول ذكرها. ومعنى: " إذا تمنى " إذا تحدث في نفسه. وقال ابن عباس: " إذا تمنى " إذ حدث. وقال الضحاك إذا قال.

53

وقال مجاهد: إلا تلا وقرأ. وقيل: إن قوله: (والغرانيق العلى) عنى بها الملائكة، وكذلك الضمير في وأن شفاعتهم ترتجى، هو للملائكة/. واختار الطبري أن يكون تمنى، بمعنى حدث، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقيل: معنى الآية، أن النبي A إذا حدث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة فيقول: لو سألت الله أن يغنمك كذا ليتسع المسلمون، ويعلم الله الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقى الشيطان. وحكى الكسائي والفراء " تمنى " بمعنى حدّث نفسه. وقوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} أي: يبطله، من قولهم: نسخت الشمس الظل. وقوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} أي يخلصها من الباطل الذي ألقى الشيطان. والله عليهم بما يحدث في خلقه من حدث، حكيم في تدبيره إياهم. قوله تعالى ذكره: {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً}. إلى قوله: {يَوْمٍ عَقِيمٍ}. المعنى: فعل ذلك من نسخ ما ألقى الشيطان ليجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض، أي: اختباراً للذين في قلوبهم نفاق {والقاسية قُلُوبُهُمْ} هم المشركون الذين

قست قلوبهم عن الإيمان فلا تلين ولا ترعوي. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. أي: وإن مشركي قومك لفي خلاف لله، في أمر بعيد من الحق. والشقاق: أشد العداوة. ثم قال: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ}. أي: نسخ ما ألقى الشيطان ليعلم الذين أتوا العلم بالله أنه الحق من ربك. أي: أن الذي أنزله إليه هو الحق، لا ما نسخ مما ألقى الشيطان {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي: فيصدقوا به. {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي: تخضع للقرآن قلوبهم وتذعن بالتصديق به والإقرار بما فيه. ثم قال: {وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا}. أي: المرشد المؤمنين إلى الطريق القاصد والحق الواضح، فينسخ ما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله A، فلا يضرهم كيد الشيطان شيئاً. وقيل: المعنى: لهاديهم إلى طريق الجنة في الآخرة. وقيل: المعنى: لهاديهم إلى الثبات على الإيمان في بقية أعمارهم. وقال ابن جريج: {أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} يعني: القرآن. ويروى: أن قوماً من المهاجرين بأرض الحبشة بلغهم أن أهل مكة سلموا حين تقربوا من النبي عليه السلام لما سمعوا منه ما ألقى الشيطان في تلاوته، فرجعوا إلى

عشائرهم، وقالوا هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشطيان. وقوله: " الهاد " حذفت الياء في الوصل لسكونها وسكون اللام بعدها وحذفت من الخط، لأن الكاتب كتبها على لفظ الوصل، ولو كتبها على الوقف لكتبها بالياء كما كتب {بِهَادِي العمي} [النمل: 81] في النمل بالياء على الوقف، وكتب " بهاد العمي " في الروم بغير ياء على الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، لأنك إن وقفت بالياء خالفت الخط، وإن وقفت بغير ياء، حذفت لام الفعل لغير علة. وقد قال يعقوب وسلام: الوقف " الهادي " بالياء على الأصل، والأحسن ألا تقف عليه لما ذكرت لك. ولأنه ليس بتمام ولا قطع، ولأنك تفرق بين المضاف والمضاف إليه، وكلاهما كالشيء الواحد. وقد روى أبو محمد اليزيدي عن أبي عمرو في " لهاد الذين آمنوا " قال: الوصل بالياء، والوقف على الكتب. وروي ذلك عن اليزيدي أبو عبد الرحمان وأبو حمدون. ومعنى هذا أنه ينوي الياء في الوصل وإن كان لا يلفظ بها، فإذا وقف،

وقف بغير ياء اتباعاً للخط فكأنه قال: الوصل بنية الياء. وهذا كلام مستقيم. وقد استجهل اليزيدي في هذه الرواية ومجازها ما ذكرنا. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ}. أي: لا يزال الكفار في شك من القرآن. وقيل: من النبي. وقيل: من سجوده معهم في آخر النجم. وقيل: مما ألقى الشيطان في تلاوة النبي A من قوله: تلك الغرانيق العلى " قال هذا القول الأخير ابن جبير وابن زيد. قال ابن زيد: لا يخرج ذلك من قلوبهم زادهم ضلالة. وكونها تعود على القرآن أبين، لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} يعني: القرآن وهو أقرب إليه. وقوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً}. أي: حتى تأتيهم ساعة حشر الناس لموقف الحساب " بغتة " أي: فجأة، وهو مصدر في موضع الحال.

ثم قال تعالى: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}. أي: عذاب يوم القيامة، ومعنى عقيم لا ليلة له شبهت/ الليلة باليوم، بمنزلة الولد للوالدة، هذا قول الضحاك وعكرمة. وقيل: عنى به يوم بدر. وسمي عقيماً لأنهم لم ينظروا إلى الليل، قال ذلك: مجاهد وابن جبير وقتادة وأبي بن كعب. وهذا القول: حسن لأنه قد تقدم ذكر يوم القيامة في قوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فلا يكون يوم القيامة مرة آخرى، وإنما المعنى: لا يزالون في شك من القرآن حتى تقوم الساعة أو يقتلوا يوم بدر. قال أبي بن كعب: " عذاب يوم عقيم "، يوم بدر، والزام: القتال في يوم بدر، {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} [الدخان: 16] يوم بدر، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى} [السجدة: 21]، يوم بدر، فذلك أربع آيات نزلن في يوم بدر. وقيل: إنما سمي يوم بدر عقيماً لأنه عقيم فيه الخير والفرج عن الكفار. وقيل: هو يوم القيامة، عقم أن يكون بعده يوم مثله، أي: منع من ذلك.

56

قوله تعالى ذكره: {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}. إلى قوله: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. أي: السلطان لله وحده يوم مجيء الساعة لا ينازعه فيه أحد إذ قد كان في الدنيا ملوك يدعون ذلك، قد ملكهم الله أمر عباده، فيوم القيامة لا يملك الله فيه أحداً شيئاً من الأمور، بل هو المتفرد بذلك، والحاكم فيه كله، وقد كان الملك كله لله في الدنيا، إلا أنه تعالى ملك قوماً أمور عباده، وليس يكون ذلك في الآخرة، لا يملك أحد أمر أحد. {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بين خلقه، المؤمن والكافر، {فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم} يومئذ {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، أي: مذل لهم في جهنم. ثم قال تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ}. أي: والذين فارقوا أوطانهم وهجروا بلدهم في رضى الله ثم قتلوا في ذلك أو ماتوا {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً} وهو الثواب الجزيل، {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي: خير من بسط رزقه على أهل طاعته. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب النبي A اختلفوا في حكم من مات في سبيل الله، فقال بعضهم: الميت والمقتول منهم سواء، وقال آخرون: بل

المقتول أفضل فأعلمهم الله جلّ ذكره بهذه الآية أن المقتول في سبيل الله والميت فيه سوا عنده في الثواب. ثم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ}. يعني: الجنة. وقال: {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي: " لعليم بمن هاجر في سبيله ممن خرج لغنمية أو عرض من أعراض الدنيا ". " حليم " عمن عصاه من خلقه لا يعاجله بالعقوبة ثم قال: {ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}. أي: الأمر ذلك وعن عاقب. وقيل: معناه: هذا لهؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ولهم مع ذلك القضاء على المشركين الذين بغوا عليهم، وآخرجوهم من ديارهم. قال ابن جريج في الآية: هم المشركون، بغوا على النبي A وأخرجوه، فوعده الله أن ينصره وقال: إن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فكره المسلمون القتال في الشهر الحرام، وسألوا المشركين أن يكفروا عن القتال، فأبى المشركون ذلك فقاتلوهم وبغوا عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله الآية فيكون معنى {ثُمَّ بُغِيَ}: بدئ بالقتال وهو له كاره لينصرنه الله على من بَغَى عليه. وسمى الجزاء عقوبة لأنه جزاء على عقوبة فسمي

باسمه، كما قال: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] و {مَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وشبهه، ومثل {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] فالأولى: سيئة والثانية حسنة، إلا أنها سميت سيئة، لأنها وقعت إساءة بالمفعول، لأنه فعل به مايسوء، كذلك سمي الجزاء على العقوبة عقوبة لأنه عقوبة بالمبتدئ بالشر. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}. أي: لذو عفو وصفح لمن انتصر به من ظلمه من بعدما ظلمه الظالم، غفور لمن فعل بمن ظلمه. ثم قال: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي: يقول الله جلّ ذكره: هذا النصر الذي أنصر من بُغِيَ عليه بأني قادر على ما شاء، ومن قدرتي أني أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل. ومعناه: يدخل ما انتقص/ من ساعات الليل في ساعات النهار، وما انتقص من ساعات النهار في ساعات الليل، فما نقص من طول هذا، زاد في طول هذا. فالبقدرة: التي فعل هذا، ينصر محمداً وأصحابه على الذين بغوا عليهم،

وأخرجوهم من ديارهم. ثم قال: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي، وفعل ذلك بهم أيضاً، لأنه ذو سمع لما يقولون من قول خفي وغيره، عليم بكل شيء. ثم قال: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق}. أي: ذلك الفعل الذي فعل من إيلاجه الليل في النهار، والنهار في الليل، ونصره أولياءه لعى من بغى عليهم، لأنه الحق الذي لا مثل له، ولا شريك، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون آلهة من دونه، هو الباطل الذي لا يقدر على شيء. ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير}. أي: هو العلو على كل شيء وهو فوق كل شيء، وكل شيء دونه. " والكبير: " أي: العظيم الذي لا شيء أعظم منه. قال ابن جريج: " هو الباطل " يعني: الشيطان. ثم قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً}. " فتصبح " مرفوع لأن صدر الكلام واجب، ولس استفهام، إنما هو تنبيه، هذا قول الخليل. وقال الفراء: " ألم تر " خبر، كما تقول في الكلام: أعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا. وخص ذكر الصباح بهذا دون سائر أخواتها، لأن رؤية الخضرة بالنهار أوضح

منه بالليل، والمعنى: أن الأرض صارت على هذا بالليل والنهار، فتصبح بمعنى فأصبحت، وهذه أصول من باب صار وأخواتها، وأعلم أن أصل أصبح وأمسى أن تقول: أصبح الرجل وأمسى أي: وافق الصباح ووافق المساء، وكذلك أصبحنا وأمسينا، معناه: دخلنا في الصباح والمساء. ثم قالوا: أصبح زيد عالماً، وأمسى جاهلاً. أي: تبين ذلك منه في وقت الصباح والمساء ولم يرد أنه يكون في الصباح على حال لا يكون عليها في المساء، وقولهمه ظل فلان قائماً، فلا يكون ظل إلا بالنهار، كما أن بات بالليل، واشتقاقه من الظل، والظل إنما يكون بالنهار، فلذلك لم يقع " ظل " إلا بالنهار. وقولهم: " صار زيد عالماً. أصلها من صرت إلى موضع كذا، أي: بلغته، فالمصير انقطاع البلوغ. ومنه قوله: " إليه المصير "، أي: غاية البلوغ والانتهاء، ثم اتسع فيها حتى جعلت للخبر، فقيل: صار عبد الله عالماً أي: بلغ هذه الصفة، فلذلك كانت للشيء الذي ينقطع إلى وقتك تقول: صار عبد الله رجلاً. أي: بلغ ذلك هذا الوقت، وليست بمنزل " كان " التي توجب علمه قبل ذلك، فصارت لانقطاع الغاية، وانطقاع الغاية وقت خبرك، فإن أردت أن تخبر بـ " صار " إنما هو كان قبل وقتك، أدخلت " كان " فقلت: كان زيد قد صار عالمً، ورأيته أمسى صار عالماً.

64

وأما ما زال فأصلها من زال الشيء عن الموضع، إذا فارقه وما زلت عن موضع، أي: ما فارقته. ثم جعل ذلك للخبر فلزمه الجحد، فثبت الخبر عن الاسم بنفي مفارقته، فقلت: ما زال زيد عالماً، فنيت مفارقته للعلم، ونفي ذلك إيجاب له، فصار المعنى: زيد علام، ففيه معنى تراخي الزمان، فإذا قلت ما زلت سائراً، فمعناه ما زلت أسير شيئاً بعد شيء. ونظير ما زال، ما برح وما انفك، وما فتئ. فأصل ما برح، من برحت من موضع، أي: فارقته. وأصل ما انفك من انفكاك الشيء من الشيء ومفارقته إياه. وأما ما فتئ، فلم ينفرد باسم كظلت. وأما ما دام، فما فيها غير جحد، إنما هي زمان. وأصل دام، من دمت على الشيء، مكثت فيه، وطاولته، ثم جعلت لديمومة الخبر، وجعل الاسم وخبره صلة " ما " التي هي وقت. ولو قلت دام زيد عالماً، لم يكن كلاماً حتى تأتي الموصول، وهو " ما ". ولو قيل: قد دام زيد أميراً، لجاز في القياس، لأن معناه: طالت إمارته، ولكن لم يستعمل وقوله: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. أي: لطيف باستخراجه النبات من الأرض بالماء الذي ينزل من السماء. " خبير " بما يحدث عن ذلك النبت من الحب وغيره. قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}. أي: له ملك ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله لهو الغني عن خلقه. وهم

المحتاجون إليه. {الحميد} أي: المحمود عند/ عباده في أفضاله ونعمه عندهمه. ثم قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض}. أي: سخر لكم ما في الأرض من الدواب والأنعام وغير ذلك تنتفعون وتأكلون وتركبون وتلبسون منه، وسخر لكم " الفلك لتجري في البحر بأمره " أي: بقدرته وتذليله أياها لكم. ثم قال: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ}. أي: يمسكها بقدرته لئلا تقع على الأرض. {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. أي: لذو رأفة ورحمة بهم. ثم قال: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}. أي: والذي أنعم عليكم هذه النعم المذكورة، هو الذي خلقكم أجساماً أحياء بحياة أحدثها فيكم ولم تكونوا شيئاً، ثم يميتكم فيفنيكم عند مجيء آجالكم، ثم يحييكم عند بعثكم لقيام الساعة، {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي: إن ابن آدم لجحود لنعم الله عليه، إذ يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المتكررة وبغيرها. ثم قال تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ}. أي: لكل جماعة قوم لنبي خلا قبلك يا محمد، جعلنا مألوفاً يألفونه، وماكناً يعتادونه لعبادة الله تعالى، وقضاء فرائضه، وعملاً يلزمونه.

وأصل المنسك: المكان المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه لخير أو شر، وإنما سميت المناسك مناسك الحج لتردد الناس إليها للعمل الذي فرض عليهم لعمل الحج والعمرة فألفوه. وكسر " السين " لغة أهل الحجاز، وفتحها لغد أسد. قال ابن عباس: جعلنا منسكاً. أي: عيداً. وقال مجاهد: وهو أراقة الدم بمكة. وقال قتادة: " منسكاً " ذبحاً وحجاً. وقد رويَ أن المشركين جادلوا النبي A في إراقة الدم أيام النحر. فهذه الآية في ذلك والله أعلم. دل على هذا التأويل قوله: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر} أي: فلا يجادلنك في ذبحك ونسكك قولهم: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله وهو الميتة. ومعنى: " فلا ينازعنك "، أي: فلا تنازعنهم لأنهم قد نازعوه في ذلك قبل نزول الآية.

ثم قال: {وادع إلى رَبِّكَ}. أي: ادع يا محمد منازعيك من المشركين بالله في نسكك وذبحك إلى اتباع أمر ربك بأن يأكلوا ما ذبحوه بعد اتباعك والتصديق بما جئتهم به. {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أي: طريق غير زائل عن الحق والصواب. ثم قال تعالى: {وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}. أي: إن جادلك هؤلاء المشركون في نسكك، {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} أي: يقضي بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون من أمر دينكم. فتعلمون حينئذٍ المحق من المبطل. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض}. أي: يعلم ما في السماوات السبع وما في الأرضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو حاكم بين خلقه يوم القيامة على علم منه بجميع ما علموه في الدنيا، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. {إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ} أي: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ذكره قبل أن يخلق الخلق ما هوكائن إلى يوم القيامة. {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: سهل. يعني: حكمه بين المختلفين يوم القيامة. وقيل: معناه: أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب ما هو كائن يسير على الله. أي: هين. فصاحب هذا القول رده على الأقرب، وهو: " أن ذلك في كتاب ". وصاحب القول الأول رده على " يحكم بينكم ". قال ضمرة بن حبيب: إن الله جلّ ذكره كان عرشه على الماء، فخلق السماوات

72

والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجده ألف عام قبل أن يبتدئ شيئاً من الخلق. وقال كعب الأحبار " علم الله تعالى ما هو خالق، وما خلقه عاملون ". وقال ابن جريج قوله: " إن ذلك في كتاب " يعني: قوله: {الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة/ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. ثم قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}. أي: يعبد هؤلاء المشركون من دون الله ما لم ينزل لهم به حجة من السماء في كتاب من كتبه التي أنزلها على رسله، وما ليس لهم به علم، أي: لا علم لهم أنها آله، فيعبدونها بعد علم، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} ينصرهم من عذاب الله. قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} إلى قوله: {حَقَّ جِهَادِهِ}. أي: وإذا تتلى على المشركين آيات القرآن واضحات حججها وأدلتها، {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر}، أي تتبين في وجوههم ما ينكره أهل الإيمان بالله من تغيرها بسماعهم القرآن.

{يَكَادُونَ يَسْطُونَ}. أي: يبطشون بالذين يتلون عليهم كتاب الله من أصحاب النبي A، وذلك لشدة كراهيتهم أن يسمعوا القرآن ويتلى عليهم. قال الضحاك: {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} أي: يأخذون المؤمنين بأيديهم أخذاً. والسطو في اللغة: البطش. وروى أحمد عن قالون والأعشى عن أبي بكر " يصطون " بالصاد من أجل الطاء. ثم قال: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار}. أي: قل يا محمد للمشركين أفأنبئكم بشر مما تكرهونه من قراءة القرآن عليكم؟ فقالوا: ما هو فقيل لهم: النار، أي هي النار وعدها الله الذين كفروا، أي: وعدكم وأمثالكم من الكفار أياها. وروي: أن المشركين قالوا محمد وأصحابه شر خلق، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد أفأنبئكم بشر من محمد وأصحابه على قولكم وزعمكم، أهل النار فهم أنتم شرار خلق الله تعالى لا محمد وأصحابه.

وقوله: {وَبِئْسَ المصير} أي: وبيس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المشركون يوم القيامة. ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ}. {ضُرِبَ} هنا بمعنى: جعل: من قولهم: ضربت الجزية على النصارى، أي: جعلت. وضرب السلطان الخراج على الناس. أي: جعل، " والمثل " الشبه الذي جعلوه لله من الأصنام. فالمعنى: يا أيها الناس جعل شبه لي في عبادتي، يعني: الأصنام التي جعلوها شبهاً لله فعبدوها. ثم قال: فاستعموا الخبر هذا الذي جعل شبهاً لي. {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} من الأصنام والأثان، لن يخلقوا ذباباً، على صغر الذباب ولفطه، ولو أن الأصنام اجتمعت كلها لم تخلق ذلك ولا استطاعته، على أن الذباب واحد وهي كثيرة. وأن يسلبهم هذا الذباب على ضعفه وكثرتها شيئاً مما عليها من طيب وغيره، لا يقدرون بجماعتهم على استقاذ ذلك الشيء من الذباب الضعيف. روي أنهم كانوا يطلون آلهتهم بالزغفران، فكانت الذباب تختلس الزعفران، فلا تقدر الأصنام - وهي آلهة لهم - على استنقاذ ما تأخذ الذباب منها.

ثم قال: {ضَعُفَ الطالب والمطلوب}. أي: ضعفت الآلهة عن طلب ما أخذ الذباب منها، وضعف الذباب، قاله: ابن عباس. وقيل: المعنى: ضعف الطالب من بني آدم إلى الصنم حاجته، والمطلوب إليه أن يعطي سائله من بني آدم ما سأله - فهذا توبيخ من الله لقريش وتنبيه، ومعناه: كيف تجعلون الله في العبادة مثل ما لا يقدر على خلق ذباب. {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} لم يمتنع ولا أنتصر، والله خالق من في السماوات والأرض. ومالك جميع ذلك، والمحيي جميع ذلك والمفني لهم. ثم قال تعالى: {مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}. أي: ما عظموه في العبادة حق عظمته حين عدلوا به من يضعف عن الامتناع من أذى الذباب. هذا معنى قول ابن زيد. وقد قال قوم: قوله تعالى: ضرب مثل، فأين المثل، ليس في الآية مثل والمعنى فيه على ما قمنا أن معناه، ضربتم لي مثلاً، أي جعلتم لي شبهاً ونداً. كما قال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [إبراهيم: 30] {فاستمعوا لَهُ} أي: / فاستمعوا جواب ما ضربتموه شبهاً لله

ونداً، فالضرب إنما هو للمشركين الذين عدلوا الله بالأصنام، فخبرنا الله تعالى عن ضعف الشبه والند الذي جعلوه له. قال الكلبي: كانوا يعمدون إلى المسك والزعفران، فيسحقونهما جميعاً، وهو عطر العرب ويطلون بهما الأصنام، فإذا يبس تشققق فربما وقع عليه الذباب فيأخذ منه، فكان يشتد عليهم. ثم قال: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. أي: قوي على خلق ما يشاء من صغير وكبير، " عزيز " أي: منيع في ملكه، لا يقدر أحد أن يسلبه من ملكه شيئاً، وليس كآلهتهم التي يدعون من دون اكلله التي لا تقدر على خلق ذباب، ولا على الامتناع عن الذباب. ثم قال: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس}. أي: الله يختار من الملائكة رسلاً يرسلهم إلى من يشاء من خلقه، كجبريل وميكائيل صلى الله عليهما وسلم. ومن الناس، أي: يختار من شاء من الناس رسلاً يرسلهم إلى خلقه. ويقال: إن هذه الآية جواب لقول المشركين، {أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] فأنزل الله تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} أي: ذلك إليه، يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه.

ثم قال: {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي: يسمع ما يقول المشركون في محمد A، وما جاء به وغير ذلك من كلامهم وسرهم، {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته. ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. أي: ما بين أيدي ملائكته ورسله من قبل أن يخلقهم {وَمَا خَلْفَهُمْ} أي: وما هو كائن بعد فنائهم. {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي: إلى الله ترد أمور الدنيا والآخرة. ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ}. أي: يا أيها الذين صدقوا الله ورسله وكتبه، اركعوا واسجدوا في صلاتكم، {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ}، أي: ذلوا له واخضعوا بالطاعة {وافعلوا الخير} الذي أمركم بفعله {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: تدركون طلباتكم عند ربكم. وقال الطبري: لعل هنا بمعنى كي، وهي عند غيره على معنى، الرجاء و " لعل " من الله واجبة. ومذهب أهل المدينة، مالك وغيره أن لا يسجد في آخر هذه السورة، وإنما فيها سجدة واحدة عند قوله يفعل ما يشاء. ورأي جماعة من الفقهاء، السجود في آخر السورة. وروي عن ابن عباس أنه قال: فضلت سورة الحج بسجدتين على سا ئر القرآن. وعن عمر أنه سجد في آخرها. وعن ابن عباس ابن عمر أنهما لم يعدا الثانية في سجود القرآن.

ثم قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ}. أي: جاهدوا المشركين حق الجهاد. قاله: ابن عباس. وعن ابن عباس: أن المعنى: لا تخافوا في الله لومة لائم، فذلك حق جهاده. وعن النبي A أنه قال: " المجاهد من جاهد نفسه لله D ". وعنه أنه قال: " أفضل الجهاد، كلمة عدل عند سلطان جائر "، ومعنى: " حق جهاده " هو استفراغ الطاقة. يقول الله تعالى: {فاتقوا الله مَا استطعتم}. وأكثر الناس على أنه غير منسوخ وواجب على كل مسلم أن يجاهد في الله حق جهاده على قدر استطاعته ويكون قوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] بياناً لهذا وليس بناسخ له. قوله تعالى ذكره: {هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} إلى آخر السورة. أي: هو اختاركم لدينه، واصطفاكم لحرب أعدائه. وقال ابن زيد: " هو اجتباكم " أي: هَدَاكم. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} أي: من ضيق لا مخرج لكم منه، بل وسع عليكم، فجعل التوبة من بعض مخرجاً، والكفارة من بعض، والقصاص من بعض. فلا ذنب يذنبه المؤمن إلا وله في دين الإسلام منه مخرج، هذا معنى قول ابن عباس. " وقد سألت عائشة Bها النبي A عن ذلك فقال: هو الضيق " يعني أن الحرج: الضيق.

وقيل: معناه، أن الله جعل للمؤمنين/ مكان كل شي يثقل في وقت ما هو أخف منه، فجعل للصائم الإفطار في السفر، وتقصير الصلاة وللمصلي إذا لم يطق القيام أن يصلي قاعداً، أو أن يتزوج أربعاً وما شاء من ملك اليمين. وعن ابن عباس أنه قال: هذا في شهر رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شك في الهلال، وفي الفطر والأضحى إذا التبس عليكم ستهلاله. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: وما جعل عليكم في الإسلام من ضيق بل وسعه عليكم، وهو قول الضحاك. وقال ابن عباس: وسع الله في الدين ولم يضيقه فبسط التوبة، وجعل الكفارات مخرجاً. ثم قال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} اختلف في " هو " فقيل: ضمير الله جلّ ذكره. وقيل ضمير إبراهيم A أي: الله سماكم المسلمين، هذا قول: قتادة والضحاك ومجاهد. وقيل: المعنى: إبراهيم سماكم المسلمين، وهو قول الحسن وابن زيد لأن

إبراهيم عليه السلام قال: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}. وهذا القول يضعفه قوله من قبل. وفي هذا، فيكون إبراهيم سمانا مسلمين من قبل القرآن وفي القرآن، والقرآن إنما نزل بعد إبراهيم، فهذا بعيد، وإنما يجوز قول ابن زيد والحسن على معنى، إبراهيم سماكم المسلمين فيما تقدم وفي هذا، أي: وفي حكمه أن من اتبع محمداً موحد. والأحسن أن يكون سمانا بذلك، من قبل القرآن، وفي الكتب المتقدمة وفي القرآن. قال مجاهد سماكم الله مسلمين في الكتب كلها، وفي الذكر، وفي هذا القرآن. وكل من آمن بنبيه من الأمم الماضية، فإنما سميت بالإيمان ولم يسم بالإيمان والإسلام غير هذه الأمة. ثم قال: {لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ}. أي: اجتباكم وسماكم مسلمين ليكون محمد شهيداً عليكم يوم القيامة، لأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا أنتم حنيئذٍ شهداء على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أمتهم ما أرسلوا به إليهم. قال قتادة: أعطيت هذه الأمة ما لم يعطه إلا نبي كان. يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وكان يقال للنبي: إنك شهيد على قومك. وقال الله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ}، وقال: " لتكونوا شهداء على الناس " وكان يقال للنبي: سل تعطه، وقال الله جلّ ذكره: ادعوني أستجب لكم. ثم قال: {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}. أي: أقيموها بحدودها في أوقاتها، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم. ثم قال: {واعتصموا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ} أي: ثقوا بالله وامتنعوا به من عدوكم، وتوكلوا

عليه في أموركم، {فَنِعْمَ المولى} هو لمن فعل ذلك منكم {وَنِعْمَ النصير}، أي: نعم الناصر هو على من بغاه بسوء. وقوله: {مِنْ حَرَجٍ} وقف، إن نصبت ملة، بمعنى اتبعوا ملة فإن نصبته على قول الفراء على معنى كَ " مِلّةِ " إبراهيم لم تقف على " حرج " ويلزم الفراء في النصب عند عدم الكاف أن يقول زيد الأسد، فينصب الأسد، لأن المعنى، زيد كالأسد، وهذا لا يجوز عند أحد. " إبراهيم " وقف، إن جعلت " هو " من ذكر الله جلّ ثناؤه، وهو مذهب نافع ويعقوب وغيرهما. وإن جعلت " هو " من ذكر إبراهيم لم تقف على " إبراهيم "، وكان التمام " وفي هذ " إن جعلت اللام من لتكون متعلقة بفعل مضمر، فإن جعلتها متعلقة بـ: " اجتباكم " و " سماكم " لم يكن التمام إلا على الناس.

المؤمنون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المؤمنون: مكية قوله تعالى ذكره: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} إلى قوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}. قال مجاهد إن الله تعالى وجلّ ثناؤه غرس جنة عدن بيده، ثم قال حين فرغ، {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون. . .} الآيات، ثم أغلقت فلم يدخلها إلا من شاء الله، ولا تفتح إلا بالسحَر مرة، ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون. وعن ابن عباس: أنه قال: خلق الله جنة عدن بيده، فتكلمت فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} / أي: قد سعد المصدقون وبقوا في الجنة. فالمعنى: قد بقي الذي صدقوا محمداً وما جاء به في النعيم الدائم، وأصل الفلاح، البقاء في الخير. ثم قال: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ}. أي: هم متذللون لربهم إذا قاموا إلى صلاتهم.

قال أنهم خشعت قلوبهم، فلا يعرف أحدهم من عن يمينه ولا من عن شماله، كان يستجب أن لا يجاوز المصلي ببصره موضع سجوده إلا بمكة، فإنه يستحب أن ينظر إلى البيت ولم يوقت مالك في ذلك وكان يقال: نزلت أدباً لقوم كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء فنهوا عن ذلك. قال ابن سيرين كان رسول الله A ينظر إلى السماء في صلاته، فلما أنزل الله هذه الآية، جعل رسول الله وجهه حيث يسجد. وقال مجاهد والزهري: الخشوع: سكون الأطراف في الصلاة. وقال الحسن: خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك البصر، وخفضوا به الجناح. وقال علي بن أبي طالب: خشوع في القلب، لا تلتفت في صَلاتك.

وقال معمر عن الحسن: خاشعون " خائفون. وعن ابن عباس: خاشعون "، خائفون ساكنون. وحقيقة الخاشع، المنكسر قلبه إجلالاً لله ورهبة منه. وقال مالك: الخشوع في الصلاة: الإقبال عليها. السكون فيها. ثم قال تعالى ذكره: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ}. أي: هم عن الباطل وما يكرهه الله معرضون. قال ابن عباس: عن الباطل. وقال الحسن: عن المعاصي. وقال ابن زيد: هم النبي A وأصحابه، كانوا عن اللغو [معرضين]. وقال الضحاك: اللغو: الشك. وقيل: الغناء. وروى مالك عن محمد بن المنكدر أنه قال: يقول الله جلّ ذكره يوم القيامة أين

5

الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللغو ومزامير الشيطان، أدخلوهم في رياض المسك، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وثنائي علي وأخبروهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وقال الضحاك: اللغو: الشرك بالله. " واللغو " في اللغة، ما يجب أن يلغى ويطرح ويترك من اللعب والهزل والمعاصي. والمعنى، والذين شغلهم الجد عن اللغو. ثم قال تعالى: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}. أي: مؤدون زكاة أموالهم، فمدح الله مخرجي الزكاة، وإن لم يخرجوا غيرها، وذم الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يزكون. قوله تعالى ذكره: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله: {أَحْسَنُ الخالقين}. أي: والذين يحفظون فروج أنفسهم فلا يستعملونها في شيء إلا في أزواجهم التي أحلها لهم النكاح، أو في ملك أيمانهم، يعني: الإماء، فليس يلامون على ذلك. ثم قال: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون}. أي: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، فهم العادون

حد الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم. قال ابن عباس: الزاني من العادين. وقاله عطاء. قال ابن زيد: {فأولئك هُمُ العادون} يقول: الذين يعبدون من الحلال إلى الحرام. وقال الزهري سألت القاسم بن محمد عن المتعة، فقال: هي محرمة في كتاب الله، ثم تلا. {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. . .} إلى قوله: {العادون} أي: فمن طلب سوى أربع نسوة وما ملكت يمينه فهو متعد إلى ما لا يحل له. وهذه الآية عمت تحليل الأزواج وملك اليمين على كل حال، وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين اختلاف، وكذلك الجمع بين المملوكة وعمتها، وبين المملوكة وخالتها، وفيها تخصيص بالتحريم لوطإ الحائض، وتحرم وطئ الأمة إذا زوجت وتحريم وطئ المظاهر منها حتى يكفر. ثم قال تعالى: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}. أي: يقومون حفظ أماناتهم وعهدهم ويرعون ذلك. قيل: عنى بالأمانات هنا، الصلاة والطهر من الجنابة وجميع الفرائض.

وقيل: هو عام في كل أمانة. وأصل الرعي في اللغة القيامة على إصلاح ما يتولاه الراعي لأحواله. ثم قال: {والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}. أي: يحافظون على وقتها وأدائها/ بحدودها، لا يفوتهم وقتها. وقال النخعي: " يحافظون " يداومون على أداء المكتوبة. ثم قال تعالى: {أولئك هُمُ الوارثون}. أي: أولئك الذين تقدمت صفتهم هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار في الجنة. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " ما منكم أحد إلا له منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. قال: فذلك قوله: {أولئك هُمُ الوارثون} ". قال أبو هريرة: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله.

وقال مجاهد يرث [الذي] من أهل الجنة، أهله وأهل غيره، ومنزل الذي من أهل النار. فهم يرثون أهل النار، فلهم منزلان في الجنة وأهلان، وذلك أن له منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فأما المؤمن فيبني منزله الذي في الجنة، ويهدم منزله الذي في النار، وأما الكافر فيورث منزله الذي في الجنة، ويبني منزله الذي في النار. وروى عمر بن الخطاب أن النبي A قال: " لقد أنزلت عَليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ". يعني: من قام عليهن ولم يخالف ما فيهن، يعني: ثمان آيات في أول هذه السورة، وآيتين فيهما فرض الصوم والحج. ثم قال: {الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. أي: يرثون الجنة، مقامهم دائم فيها. والفردوس عند العرب، البستان ذو الكرم. وروى قتادة عن أنس أن الفردوس ربوة الجنة، أو وسطها وأفضلها. وقال كعب: خلق الله جلّ ذكره بيده جنة الفردوس، وغرسها بيده، ثم قال

لها: تكلمي، فقالت: " قد أفلح المؤمنون ". وقال داود بن بقيع لما خلقها الله قال لها: تزيني، فتزينت. ثم قال لها: تكلمي، فقالت: طوبى لمن رضيت عنه. وقال أحمد بن حنبل في كتاب التفسير: إن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل جبالها المسك الأذفر. وعن أبي هريرة أنه قال: " الفردوس جبل في الجنة من مسك تفجر من أصله أنهار [أهل] الجنة ". وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله A " الجنة مائة درجة، أعلاها وأوسطها الفردوس، ومنها تفجر أنهار الجنة ". ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ}. يعني: آدم استل من الطين والسلالة: القليل منه، وكذلك باب الفعالة، يأتي للتقليل من الشيء، كالقلالة والنخالة، فالسلالة المستلة من كل تربة فكان خلق آدم عليه السلام من تربة أخذت من أديم الأرض، وخلقت حواء من ضلعه. وقيل: خلقت من فضلة طين آدم.

قال قتادة: استل آدم من الطين، وخلقت ذريته من ماء مهين. وقيل: معناه، ولقد خلقنا الإنسان، يعني: ولد آدم من سلالة، وهي النطفة استلت من ظهر الرجل " من طين " وهو آدم الذي خلق من طين، وهو قول مجاهد، وهو اختيار الطبري كأنه قال: ولقد خلقنا ولد آدم من سلالة آدم. وآدم: هو الطين، لأنه منه خلق، ودل على صحة هذا المعنى قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}. وآدم لم يكن نطفة، إنما كان ولده نطفة، فدل على أن المراد بالإنسان ولد آدم، دون آدم. فالطين كناية عن آدم، كأنه قال: خلقنا ولد آدم من سلالة والسلالة من طين، أي: من آدم. والعرب تسمى ولد الرجل ونطفته سليلته وسلالته لأنه مسلول منه. قال ابن عباس: السلالة، صفوة الماء. وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}. أي: ثم جعلنا الإنسان الذي خلقناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين، يعني: الرحم، وسمي " مكين " لأنه مكن لذلك، وهيء له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره.

ثم قال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً}. أي: قطعة من دم {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً}، هي القطعة من اللحم، وسميت مضغة لأنها قدر ما تمضغ {فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً}. أي: كل عضو عظم، {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي: ألبسنا كل عظم لحماً. ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ}. أي: أنشأنا الإنسان خلقاً آخر. وقيل: المعنى، ثم أنشأنا/ هذا الخلق المتقدم ذكره وانتقاله خلقاً آخر، وهو نفخه الروح فيه، فيصير إنساناً، وكان قبل ذلك صورة، هذا قول: ابن عباس وأبي العالية والشعبي وأبن زيد. وقال ابن عباس: هو انتقاله في الأحوال بعد الولادة من الطفولة إلى الصبا إلى الكهولة، ونبات الشعر وخروج السن وغير ذلك من الأحوال. وقال قتادة قيل: هو نبات الشعر وقيل هو نفخ الروح.

وقال مجاهد: هو استواء شبابه. وقيل: هو خلقه ذكراً أو أنثى. وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله A وهو الصادق المصدوق قال: " إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ". وروي: أن النطفة تقيم في الرحم أربعين يوماً نطفة، ثم تصير علقة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير مضغة فتقيم أربعين يوماً، ثم تصير عظاماً مكسواً لحماً، وذلك في تمام أربعة أشهر، ثم في العشر الأول من الشهر الخامس يصور وينفخ فيه الروح ويتحرك، ولذلك جعل الله عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، لأنها تعلم في ذلك هل في جوفها حمل أو لا، إذ مدة تحرك المولود في البطن أربعة أشهر وعشر، فإذا تحرك، انتقلت عدتها إلى أن تضع حملها. ط ثم قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} أي: أحسن الصانعين قاله مجاهد. ويروى: أن هذا مما تكلم به عمر قبل أن ينزل، فنزل على ما قاله عمر

15

و " تبارك " تفاعل من البركة. وقال ابن جريج: كان عيسى يخلق بأمر الله تعالى فلذلك قال: {أَحْسَنُ الخالقين}. وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين، وهذا اختيار الطبري. لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً. قال الشاعر، وهو زهير: ولأَنْتَ تَفْرِيَ ما خَلقْتَ وَبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَيَفْري. أي: ما صنعت. وقيل: معناه، أحسن المقدرين. فالناس يقدرون. ولا يتم ما يريدزون لعجزهم والله يتمم ما يقدر، فهو خير المقدرين. وقيل المعنى، أن المشركين صنعوا تماثيل ولا ينفخون فيها الروح فخلق الله آدم ونفخ فيه الروح، فهو أحسن الصانعين، إذ لا يطيق أحد نفخ الروح غيره. ورويَ: أن عمر بن الخطاب لما سمع الآيات إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. فنزلت {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. قوله تعالى ذكره: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ}. إلى قوله: {في آبَآئِنَا الأولين}. أي: ثم إنكم يا بني آدم بعد إنشاء الله لكم خلقاً آخر تموتون تصيرون رفاتاً ثم

إنكم بعد موتكم وتصييركم رفاتاً تبعثون فتحيون للحساب والجزاء في القيامة. ثم قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ}. يعني: سماوات بعضها فوق بعض. والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. فلذلك قيل للسماوات طرائق، إذ بعضها فوق بعض. ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ}. أي: لم نغفل عن خلق السماوات أن تسقط عليكم، بل كنا حافظين لهن. وهذا بمنزلة قوله: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] أي: محفوظاً أن يسقط عليكم. وقيل: محفوظاً من الشياطين. وقيل: المعنى، إنا لحفظنا إياكم خلقنا السماوات هذا الخلق، ويجوز أن يكون المعنى: ليس يغفل عن أعمال الخلق، وأحصى أفعالهم مع كون سبع طرائق فوقهم. ثم قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ}، يعني: مياه الأرض كلها أصلها من السماء، أسكنه الله الأرض لينتفع به خلقه. قال ابن جريج: " ماء الأرض هو ماء السماء ". فماء الآبار والأدوية والعيون، هو من ماء السماء أصله، أسكنه الله الأرض.

قوله تعالى: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون}. أي: وإنا لقادرون على أن نذهب بالماء الذي أسكناه الأرض فتهلكوا بالعطش وتهلك مواشيكم وهذا مثل قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ/ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30]. فمن نعمة الله على خلقه أن أسكن لهم الماء في الأرض مخزوناً يشربونه ويسقون مواشيهم ويسقون زرعهم وأَجْنُنَهم، ويتطهرون به وغير ذلك من منافعهم به. وروى ابن عباس أن النبي A قال: " أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسى أنهار: سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنير وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها، فاستودعها الجبال وأجاراها في الأرض، وجعل فيها معايش للناس في أصناف معايشهم، وذلك قوله تعالى ذكره: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فأسكناه فِي الأرض} وإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله D جبريل A، فرفع من الأرض القرآن والعلم وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} ". ثم قال تعالى ذكره: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}. أي: فأحدثنا لكم بالماء بساتين من نخيل وأعناب {لَّكُمْ فِيهَا} أي: من

الجنات فواكه كثيرة، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. أي: ومن الفواكه تأكلون. وقيل المعنى: ومن الجنات تأكلون. وقيل المعنى: من النخيل والأعناب تأكلون. وخص ذكر النخيل والأعناب دون سائر الثمار، لأن القوم الذين نزل عليهم القرآن كان عامة فاكهة بلدهم النخيل والأعناب، فخوطبوا بهما عندهم من الثمار ليذكروا أنعم الله عليهم، فكان النخيل لأهل الحجاز والمدينة، وكانت الأعناب لأهل الطائف. ثم قال: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن}. أي: وأنشأنا لكم ذلك، يعني شجرة الزيتون تخرج من جبل فلسطين. " وطور سيناء " الجبل الحسن. فالمعنى وأنشأنا لكم شجرة خارجة من هذا الجبل. ومن كسر السين من " سيناء " جعله فعلالاً وليس بفعلاْ إذ ليس في الكلام هذا المثال فيه همزة التأنيث، ولم يصرف لأنه اسم للبقعة، ولأنه معرفة. وقال الأخفش: هو اسم أعجمي.

فأما من فتح السين، فإنه فعلاء، كحمراء، فلم ينصرف للتأنيث وهما لغتان وقال أبو عمرو: الفتح لغة بني تميم. وقال الفراء: لم يكسر السين إلا بنو كنانة. وقال مجاهد: معنى سيناء: المبارك. وقال ابن عباس: هو جبل بالشام مبارك. وقال قتادة: معنى: " سيناء " و " سينين "، حسن. وقال ابن عباس أيضاً: سيناء، الجبل الذي نودي منه موسى. وقال ابن زيد: هو الطور الذي بالشام جبل ببيت المقدس ممدود من مصر إلى أيلة. وقيل: هو جبل ذو شجر. والمعنى فيه: أن سيناء اسم معرفة، أضيف إليه الطور فعرف به كما قيل: جبلا طيء، وهو معنى قول ابن عباس: أن سيناء الجبل الذي نودي منه موسى، وهو مع ذلك مبارك.

ويلزم من قال معناه جبل مبارك أو جبل حسن أون ينون طوراً ويجعل سيناء له نعتاً. وقوله: {تَنبُتُ بالدهن} مذهب أبي عبيدة أن الباء زائدة والتقدير، تنبت الدهن. ومذهب الفراء وأبي إسحاق أن الباء متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، فالمصدر في كل الأفعال يحسن دخول الحرف معه على المفعول، وإن كان لا يحسن مع الفعل. ألا ترى أنك تقول: هو ضارب لزيد، فتدخل اللام. وتقول: أعجبني أكل للخبز زيد، ولو قلت: هو ضارب لزيد لم يجز، لأن اسم الفاعل أضعف في العمل من الفعل. فكذلك المصدر، هو أضعف في العمل من الفعل. فجاز دخول حرف الجر معه، وإن كان لا يدخل مع الفعل لقوة الفعل في التعدي. وتنبُتُ وتنبِتُ لغتان بمعنى كما يقال: مطرت السماء، وأمطرت وسرى وأسرى بمعنى والتقدير في العربية تنبت وفيها دهن أو معها دهن. وقوله: {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} يعني الزيتون.

قال ابن عباس: يصطبغ بالزيت الذي يأكلونه. يعني يأتدمون به/. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا}. أي: وإن لكم أيها الناس في الإبل والبقر والغنم والمعز لعبرة تعتبرون بها فتعرفون نهم الله عندكم، وأنه لا يعجزه شيء أراده فهو يسقيكم من اللبن الخارج من بين الفرث والدم، ولكم فيها أيضاً مع ذلك منافع كثيرة، كالإبل يحمل عليها، وكالبقر يحرث بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. أي: من لحومها تأكلون. {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي: وعلى الإبل والسفن يحملون براً وبحراً. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ}. أي: أرسل نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الإيمان بالله وإلى طاعته. فقال لهم: {ياقوم اعبدوا الله} أي: ذلوا له بالطاعة لا معبود لكم غيره {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي: تخشون بعبادتكم سواه العقوبة أن تحل بكم. ثم قال تعالى: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ}. أي: فقال جماعة أشراف قومه الذين جحدوا توحيج الله وكذبوه لقومهم: يا قوم، ما هذا إلا بشر مثلكم. أي: ما نوح إلا ابن آدم {مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يريد أن يكون له الفضل عليكم، فيكون متبوعاً وأنتم له تبع. {وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً}.

25

أي: لو شاء الله ألا نعبد سواه لأرسل إلينا ملائكة تدعونا إلى ذلك. {مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} أي: قالوا لهم: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه نوح من أنه لا إله لنا غير الله في القرون الماضية، وهم آباؤهم. قوله تعالى ذكره: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} إلى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}. أي: قال أشراف قوم نوح: ما نوح إلا رجل به جنون {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} أي: تملهوا به إلى وقت ما. قال نوح: {رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} أي: بتكذيبهم إياي. دعا A واستنصر بالله لما طال عليه أمرهم وأبو إلا تكذيبه. ثم قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}. أي: فقلنا له حين استنصرنا على كفرة قومه: اصنع الفلك بمرأى منا وتعليم لك بما تصنع. {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: قضاؤنا في قومك بالعذاب والهلاك. {وَفَارَ التنور} قد تقدم في " هود " ومعنى " فار التنور ". وقد قال علي بن أبي طالب: " فار التنور " من مسجد الكوفة. وعنه أنه قال: " فار التنور " هو تنور الصبح. قال الضحاك: كان التنور آية فيما بين الله وبين نوح، قال له: إذا رأيت الماء قد

خرج من التنور فاعلم أن الهلاك والغرق قد أتى قومك. ثم قال: {فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين}. أي: فادخل في الفلك، يقال سلكته في كذا وأسلكته أدخلته. {ن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ} أي: وأدخل أهلك في الفلك يعني ولده ونساءه. {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي: لا تحمل من سبق عليه القول من الله أنه هالك مع أهلك يعني ابنه الذي غرق. ثم قال تعالى: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا}. أي: لا تسألني في الذين كذبوك أن أنجيهم، {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي: قضيت أن أغرق جميعهم. ثم قال تعالى: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ}. أي: إذا اعتدلت أنت ومن حملته معك في السفينة، فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين {وَقُل} أيضاً يا نوح: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً}، إذا خرجت من السفينة وسلمك الله ومن معك. قاله مجاهد. {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} أي: خير من أنزل عباده المنزل المبارك ومن قرأ " مُنزَلاً "

بضم الميم، جعله مصدراً، لأن مصدر الكلام قد مضى على: أنزل، فصار بمنزلة {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] يقال: أنزلته إنزالاً ومنزلاً. ومن قرأ بفتح الميم جعله اسماً لكل ما نزل فيه، فمعناه: أنزلني مكاناً مباركاً وموضعاً مباركاً. ويجوز في النحو فتح الميم والزاي يجعله مصدر نزل، كالمدخل مصدر دخل. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ}. أي: إن فيما فعلنا بنوح وقومه من إنجائه وإهلاكهم حين كذبوه لَعِبراً لقومك وغيرهم، فيزدجروا عن كفرهم لئلا يحل عليهم مثل ما حل على قوم نوح من العذاب. وقوله/: {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي: وإن كنا لمختبرين لقومك بتذكيرنا إياهم بآياتنا لننظر ما هم عاملونه قبل حلول العقوبة بهم. وقيل معنى " لمبتلين " لمتعبدين الخلق بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، فيعرفون شكره ونعمه عليهم، فيخلصون له العبادة. ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}. أي: ثم أحدثنا من بعد إهلاك قوم نوح قوماً آخرين فأرسلنا فيهم رسولاً منهم

أن يدعوهم إلى الإيمان، فقال لهم: {أَنِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي: ما لكم معبود تجب له العبادة غير الله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي: أفلا تخافون عقاب الله بعبادتكم الأصنام من دون الله. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ}. أي: قال أشراف قومه المكذبون، الكفار بالبعث، يعني قوم هود عليه السلام. وقوله تعالى: {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا}. أي: ونعمناهم في الدنيا بسعة الرزق حتى بطروا وعتوا، فكفروا وكذبوا الرسل. {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}. أي: إنسان مثلكم، يأكل مما تأكلون منه ويشرب مثل ما تشربون، وليس بملك فتصدقه. (ولئن أطعتم بشراً مثلكم، فاتبعتموه) أي: قالوا ذلك لقومهم وسفلتهم. {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}. أي: لمغبونون حظوظكم من الشرف والرفعة باتباعكم إياه. ثم قال تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ}.

" أنّ " الثانية، بدل من الأولى عند سيبويه. المعنى عنده أنكم مخرجون إذا متم. وقال الفراء والجرمي " أنَّ الثانية مكررة للتأكيد. وحسن تكريرها لما طال الكلام. وذهب الأخفش إلى " أنّ " الثانية في موضع رفع بفعل مضمر، دل عليه إذا، ومعناه عنده: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً يحدث إخراجكم. كما تقول: اليوم القتال. المعن عنده اليوم يحدث القتال. ومعنى الآية أن الأشراف من وقم هود قالوا لقومهم: أيعدكم هود أنكم تبعثون بعد أن تكونوا تراباً وعظاماً فتخرجون من قبوركم. ثم قالوا: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}. مذهب سيبويه والكسائي أن يوقف عليها بالهاء، لأنها واحدة، وفتحت للبناء، وبنيت لأنها لم تشتق من فعل فأشبهت الحروف واختير لها الفتح للألف التي قبلها ولأن هاء التأنيث بمنزلة اسم ضم إلى اسم فصارت بمنزلة عشر في خمسة

عشر، وموضعها رفع. معناها: البعد البعد لما توعدون. وقال الفراء الوقف عليها بالتاء. فأما من كسر التاء فإنه يقف بالتاء عند الجماعة نُوِّنَ أو لم يُنَوَّنْ، لأنه جمع المؤنث لازم. وقيل: " هو " في هذا فرق بين المعرفة والنكرة وهي عند سيبويه كناية عن البعد، كما يكنى بقولهم " صه " عن السكوت. فالتقدير: البعد البعد لما توعدون من البعث بعد الموت يقوله أشراف قوم هود لقومهم. قال ابن عباس: " هيهات هيهات ": بعيد بعيد. ودخول اللام مع هيهات وخروجها جائزان تقول هيهات ما تريد وهيهات لما تريد. فإذا أسقطت اللام رفعت الاسم، كما قال [الشاعر]. فَهَيْهَات هَيْهَات العَقِيقُ وَمَنْ به ... وَهَيْهَاتَ خِلّ بالعُقِيقِ نُوَاصِلُهُ كأنه قال: بعيد العقيق ومن به وأهله.

38

وقد قيل إنها في موضع نصب على المصدر،: أنه قال: بعداً بعداً لما توعدون. ثم قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}. أي: قال الإشراف من قوم هود: ما حياتنا إلا حياتنا في الدنيا نموت فلا نرجع، ويحيى آخرون فيولدون أحياء وما نحن بمبعوثين بعد الموت، وهذا مثل قولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] فتحقيق المعنى أنهم قالوا: نموت نحن ويحيا أولادنا، ولا بعث بعد الموت. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: نحيا ونموت فلا نحيا. وقيل: المعنى: نكون أمواتاً نطفاً، ثم نحيا في الدنيا. قوله تعالى ذكره: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} إلى قوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}. أي: قالوا: ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا في قوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} وفي وعده/ إياكم بالخروج بعد موتكم وكونكم تراباً وعظاماً. {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي: بمصدقين له فيما قال. {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ}. أي: قال، هود يا رب، انصرني بتكذيبهم إياي، وذلك لما يئس من إيمان قومه، فأجابه الله جلّ ذكره: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي: عن وقت قليل ليندمن على تكذيبهم لك وذلك حين ينزل بهم العذاب.

ثم قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق}. أي: فانتقمنا منهم ونصرناه عليهم، فأرسلنا الصيحة عليهم، فأخذتهم بالحق. أي: باستحقاقهم لذلك. فمعنى " بالحق " باستحقاقهم للهلاك بكفرهم. وقيل: معنى " بالحق " بالعدل من الله لهم، لم يظلمهم فيما أنزل عليهم من العذاب. {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً}. أي: بمنزلة الغثاء، وهو ما ارتفع من السيل ونحوه مما لا ينتفع به في شيء، فهو مثل. وتقدير الكلام: فأهلكناهم، فجعلناهم كالشيء الذي لا ينتفع به. قال ابن عباس: جُعِلوا كالشيء البالي من الشجر ". وقال مجاهد: " كالرميم الهامد الذي يحتمل السيل "، وهم قوم صالح. روي أن الله جلّ ذكره بعث ملكاً من ملائكته فصاح بهم صيحة هلكوا بأجمعهم. وروي أنه جبريل A وعليهم أجمعين. وقوله تعالى: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين}. أي: أبعد الله القوم الكافرين بهلاكهم إذا كفروا بربهم فأبعدهم من كل خير ومنفعة.

وقال مجاهد أولئك ثمود. وقيل: هم عاد، لأن عاداً كانوا قبل ثمود. ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي: ثم خلقنا من بعد هلاك ثمود قروناً آخرين، ما يتقدم هلاك أمة من تلك الأمم قبل مجيء أجلها الذي أجله الله تعالى لهلاكها. {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عن الهلاك بعد مجيء الأجل الذي أجل لهلاكها وهذا كله وعيد لقريش وإعلام منه أن تأخيره في آجالهم مع كفرهم إنما ذلك ليبلغوا الأجل الذي أجل لهم، فتحل بهم نقمته كسنته فيمن قبلهم من الأمم السابقة وفيه دلالة على رد قول من يقول إن الإنسان يجوز أن يقتل قبل أجله الذي سماه الله له وقدره أجلاً لموته، وهو قول خارج عن مذاهب أهل الحق، بل كل يموت عند انقضاء أجله بموت أو قتل أو غرق أو حرق أو بغير ذلك. لا تموت نفس قبل أجلها الذي كتبه الله لها، ولا تتأخر في البقاء بعد ذلك الأجل. ثم قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}. أي: ثم أرسلنا إلى الأمم التي أنشأناها بعد ثمود رسلاً يتبع بعضها بعضاً، وبعضها في أثر بعض، قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد. ثم قال: {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} أي: بالهلاك، أهلك

بعضهم في آثار بعض. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي: يتحدث بهم من يأتي بعدهم في الشر. ولا يقال: جعلناهم أحاديث في الخير. والأحاديث جمع أحدوثة وقيل جمع حديث. ثم قال تعالى: {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}. أي: فابعد الله قوماً لا يؤمنون بالله ولا يصدقون رسله. ثم قال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} أي: ثم أرسلنا موسى بعد الرسل الذين تقدم ذكرهم وأخاه هارون بأدلتنا {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: وحجة ظاهرة لمن رآها إنها من عند الله. {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، أي وأشراف قومه من القبط، فاستكبروا عن الإيمان بها {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ}، أي: قد علوا على من في ناحيتهم وعلى بني إسرائيل بالظلم وقهروهم. وقال ابن زيد: {قَوْماً عَالِينَ} أي: علوا على رسلهم وعصوا ربهم. ثم قال تعالى: {فقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}. أي: لنا مطيعون متذللون، يأتمرون لأمرهم، ويدينون لهم. يقال لكل من دان لملك: هو عابد له. ثم قال: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين}.

أي: فكذب فرعون وملاؤه موسى وهارون فكانوا ممن أهلكهم الله. كما أهلك من قبلهم من الأمم بتكذيبها رسله. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}. أي: ولقد أعطينا موسى التوراة ليهتدي بها بنو إسرائيل ويعملوا بما فيها، {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي: حجة لنا ودلالة على قدرتنا على/ إنشاء الأجسام من غير أصل، كما أنشأنا خلق عيسى من غير أب. وقال آية، لم يقل آيتين، لأن الآية فيهما واحدة. وقيل في الكلام حذف، مثل والله ورسوله أحق أن يرضوه. تقديره: وجعلنا ابن مريم آية وأمة آية، ثم حذف إحدى الآيتين لدلالة الباقية عليها. فالآية في مريم، ولادتها من غير ذكر، والآية في عسى، إحياؤه الموتى، وإبراؤه الأكمة والأبرص وإخراجه من الطين طيراً يطير وكل بإذن الله جلّ ذكره. ثم قال: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي وضممناهما إلى ربوة، أي إلى مكان مرتفع عما حوله. قال أبو هريرة هي الرملة من فلسطين. " وروي أن النبي A قال: هي الرملة

" وقال ابن المسيب هي دمشق، وقاله ابن عباس وقال قتادة هي بيت المقدس. وكان كعب يقول بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً. وقال وهب بن منبه هي مصر وكذلك قال ابن زيد عن أبيه زيد. قال ابن زيد: الربوة من ربا مصر. وليس الربا إلا بمصر والماء يرسل فتكون الربا عليها القرى ولولا الربا لغرقت تلك القرى. قال ابن جبير الربوة: النشرز من الأرض. وقال الضحاك: ما ارتفع من الأرض. وقال ابن عباس: الربوة المستوى، وكذلك قال مجاهد. وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي: ذات أرض منبسطة وساحة واسعة وذات ماء طاهر لعين الناظر.

قال ابن عباس " ومعين " هو الماء الجاري، وهو النهر الذي قال الله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ". وقال الضحاك: " ومعين " الماء الظاهر. وقال قتادة ذات قرار أي ثمار " ومعين " وماء وهي بيت المقدس. وقوله: " ومعين " هي فعيل بمعنى مفعول على قول من جعله لما يرى بالعين فالميم زائدة. وقيل: هو فعيل بمعنى مفعول والميم أصلية. قال علي بن سليمان: يقال معن الماء إذا جرى وكثر، فهو معهين وممعون. وحكى ابن الأعرابي: معن الماء يمعن: إذا جرى وسهل وأمعن أيضاً. وقيل: يجوز أن يكون فعيلاً من المعنى مشتقاً من الماعون والمعنى في اللغة: الشيء القليل، والماعون، فاعول وهو الزكاة، مشتق أيضاً من المعن، سميت الزكا.

51

ماعوناً، لأنها شيء قليل من المال، إذا هي ربع عشرة في العين. قوله تعالى ذكره: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} إلى قوله: {إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. معناه وكلوا من الحلال الطيب دون الحرام {واعملوا صَالِحاً} أي: بما أمرتكم به. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " إن الله جل ذكره طيب لا يقبل إلا طيباً "، وإن الله أمر الأنبياء بما أمر به المؤمنين فقال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وقال: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات}. وقد قيل: إن قوله يا أيها الرسل مخاطبة للنبي وحده كما قال: " الذين قال لهم الناس " يعني نعيم بن مسعود وحده. وقيل: إنما قيل للنبي وحده {يا أيها الرسل} " لتدل بذلك على أن الرسل كلهم أمروا بأكل الطيبات وهو الحلال الذي طيبه الله تعالى لآكله. وقيل: هو مخاطبة لعيسى، وهو قل الزجاج وهو اختيار الطبري.

روى: أن عيسى كان يأكل من غزل أمه. ثم قال: " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " فتح " إن " في هذا على معنى " ولأن هذه ". هذا قول البصريين. وقال الكسائي والفراء: هي في موضع خفض عطف على ما قوله: إني بما تعلمون. وقال الفراء أيضاً: تكون في موضع نصب على إضمار فعل، والتقدير: واعلموا أن هذه أمة: نصب عل الحال. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: " أمة واحدة "، بالرفع على إضمار مبتدأ، أي: هي أمة وعلى البدل من أمتكم، أو على أنها خبر بعد خبر، والمعنى أن الأمة هنا الدين: أي: وأن هذا دينكم دين واحد قاله ابن جريج. ثم قال تعالى: {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون}.

أي فاتقون بطاعتي، تأمنوا عقابي. ثم قال: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً}. أي: فتفرق القوم الذين أمروا بالإيمان/ واتباع عيسى ليجتمعوا على الدين الواحد وزيراً، أي كتباً قد بان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي بان به الفريق الآخر، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة، وكذبوا بحكم الإنجيل والقرآن وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل وكذبوا بحكم القرآن. قال قتادة: " براً " كتباً. وقال مجاهد: كتباً لله فرقوها قطعاً. والزبر: جمع زبور، كعمود وعمد. وقيل: المعنى، فتفرقوا دينهم بينهم كتباً أحدثوها يحتجون بها لمذابهم. قال ابن زيد: هو ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب، وكل واحد منهم كان له أمر وكتب، وكل قوم يعجبون برأيهم، ليس أهل هوى إلا وهم يعجبون برأيهم وبصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم وقرأ الأعمش " زُبراً " بفتح الباء جعله جمع زبرة، ومعناه: فتفرقوا عن دينهمه بينهم قطعاً كزبر الحديد، فصار بعضهم يهود، وبعضهم

نصارى. وقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. أي: كل فريق من تلك الأمم بما اختاره من الدين لأنفسهم فرحون معجبون به لا يرون أن الحق سواه. ثم قال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ}. أي: فذر هؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً في غمرتهم، أي: في ضلالتهم وغيهم. قال ابن زيد: الغمرة العمى. {حتى حِينٍ}: أي إلى حين ما يأتيهم ما وعدوا به العذاب، وقال مجاهد " حتى حين " حتى الموت. ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات}. أي: أيحسب هؤلاء الأحزاب الذين تفرقوا في دينهم زبراً أن الذي نعطيهم في عاجل الدنيا من مال وبنين " فسارع لهم " " أي نسابق لهم في خيرات الآخرة ونبادر

فيها ثم أكذبهم فيما يحسبون، فقال: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أي: بل لا يعلمون أن امدادنا إياهم ما نمدهم به من ذلك إنما هو إملاء واستدراج لهم. وقوله: {فِي الخيرات} معه إضمار، أي: نسارع لهم به في الخيرات، قاله الزجاج. وقال هشام: تقديره: نسارع لهم فيه، ثم أطهر فقال: " في الخيرات " كما قال: ولا أدى الموت سبق الموت بشيء. وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأن الخبر لا بد أن يكون فيه ضمير يعود على اسم " أن ". وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة: " يُسارع " بالياء رده على الإمداد، فلا يحتاج هذا إلى ضمير محذوف، لأن ما والفعل مصدره ففي " يسارع " ضمير اسم أن، وهو ضمير المصدر. ومذهب الكسائي أن " إنما " حرف واحد، فلا يحتاج الكلام إلى شيء، من الإضمار والحذف، ويقف على مذهبه على " نبين " ولا يقف عليه على مذهب غيره. وتقدير الآية أيحسبون الذين نمدهم به من مامل وبنين في الدنيا نسارع لهم به في الخيرات، أي: نجعله لهم ثواباً، فليس الأمر كذلك، إنما هو استدراج ومحنة لهم. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ}.

أي: من خوف عذاب ربهم مشفقون، فهم دائمو على طاعته جادون في طلب مرضاته. ثم قال: {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ}. أي بكتابه يصدقون {والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ}. أي: يخلصون عبادتهم لربهم، لا يشركون به فيها أحداً. ثم قال تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}. أي: يعدون أهل سهمان الصدقة، ما فرض الله لهم من أموالهم فما أتوا معناه: ما أعطوهم إياه من صدقة. {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي: خائفة من أنهم إلى ربهم راجعون، فيخافون ألا ينجيهم ذلك من عذابه. قال الحسن: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة، وأن المنافق جمع إساءة وأمناً، ثم تلا هذه الآية إلى {إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. وقال الحسن: يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم خائفون ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله.

وقال ابن عباس: مال المؤمن ينفق يتصدق به وقلبه وجل أنه إلى ربه راجع. وسئلت عائشة: عن هذه الآية فقالت: كانوا يقرأونها، يأتون ما أتوا بألف. وكذلك روى عنها أنها كانت تقرأه من المجيء، تعني إتياه الذنوب، أي: يأتون الذنوب وهم خائفون. وقال ابن عمر: " يؤتون ما أتوا ": الزكاة. وقال مجاهدك المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل. وقال ابن جبير: / يفعلون ما فعلوا وهم يعلمون أنهم صائرون إلى الموت وهي من المبشرات. وقال قتادة: يعطون ما أعطوا، ويعملون ما عملوا من خير، وقلوبهم وجلة خائفة. " وروي عن عائشة Bها أنها قالت: قلت يا رسول الله. {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهم الذين يذنبون وهم مشفقون؟ فقال: لا بل هم الذين يصلون وهم مشفقون، ويصدقون وهم مشفقون، ويوصومون وهم مشفقون ".

61

وروي عن عائشة أيضاً أنها قالت: قلت للنبي: يا رسول الله، {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أي، هو الرجل يزني أو يسرق أو يشرب الخمر، قال: لا يا ابنة أبي بكر، أو قال يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يتقبل منه ". وقرأ ابن عباس: (يأتون ما أتوا من المجيء). وروى ذلك عن عائشة على تقدير: يعملون ما علموا وهم خائفون. قوله تعالى ذكره: {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} إلى قوله {سَامِراً تَهْجُرُونَ}. معناه: أولئك يسارعون في الخيرات، أي: الذين [هم] هذه صفتهم " يسارعون " أي: يسابقون في الأعمال الصالحة. قال ابن زيد: " الخيرات " المخافة، والوجل، والإيمان، والكف عن الشرك بالله. ثم قال: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}. أي: قد سبقت لهم من الله السعادة فذلك سبقهم في الخيرات كل من عنده. قال ابن عباس: " وهم لها سابقون " سبقت لهم من الله تعالى السعادة. وقيل: معناه: وهم إليها سابقون. وقيل المعنى: وهم من أجلها سابقون، أي من أجل اكتسابهم الخيرات يسبقون

إلى رحمة الله. وقيل المعنى: فهم إلى أوقاتها سابقون، لأن الصلاة في أول الوقت أفضل. ثم قال تعالى ذكره: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. أي: إلا ما تطيق من العبادة. {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} أي: وعندنا كتاب يبين بالصدق عما عملوا من عمل في الدنيا. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. أي: لا يزاد على أحد من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وهو الكتاب الذي كتبت فيه أعمال الخلق عند الملائكة تحتفظ به. ثم قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا}. أي في عمامية من هذا القرآن. وقيل: المعنى: بل قلوبهم في غطاء عن المعرفة بأن الذي نمدهم به من مال وبنين، إنما هو استدراج لهم. وقال قتادة: المعنى، بل قلوبهم في غمرة من وصف أهل البر ببرهم، وهو ما تقدم من صفة المؤمنين. والغمرة، الغطاء والغفلة. ثم قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}.

أي: ولهؤلاء الكفار أعمال من المعاصي والكفر من دون أعمال أهل الإيمان بالله، قاله قتادة. قال مجاهد: " من دون ذلك " من دون الحق. وقال الحسن: معناه: ولهم أعمال لم يعملوها، سيعملونها يعني الكفار. وقيل: معناه، لهؤلاء الكفار أعمال سبقت في اللوح المحفوظ أنهم سيعملونها ويسعلمونها. وقال مجاهد: لم يعملوها وسيعملونها. ثم قال تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب}. أي: لكفار قريش أعمال من الشر من دون أعمال أهل البر هم لها عاملون إلى أن يأخذ الله أهل النعمة والبطر منهم بالعذاب إذا هم يضجون ويستغيثون. قال ابن زيد: " المترفين " العظماء. قال مجاهد: " حتى إذا أخذنتا مترفيهم بالعذاب ". قال: بالسيوف يوم بدر. وقال الربيع بن أنس: {يَجْأَرُونَ} يجزعون. قال ابن جريج: " بالعذاب " يعني عذاب يوم بدر، {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يعني أهل

مكة يعني يضجون ويستغيثون على قتالهم. قال الضحاك: أهل بدر أخذوا بالعذاب يوم بدر. ثم قال: {لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ}. أي: لا تضجوا وتستغيثوا قد نزل بكم العذاب، فلا ناصر لكم منه. وقد قيل: هو عذاب الآخرة. وعلى القول الأول أكثر الناس. ثم قالت: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}. هنا مخاطبة للمشركين، أي: قد كانت آيات القرآن تتلى عليكم. قال الضحاك: وذلك قبل أن يعذبوا بالقتل، فكنتم تولون مدبرين/ عنها تكذيباً بها وكراهة أن تسمعوها. تقول العرب لكل من رجع من حيث جاء، نكص فلان على عقبيه. قال ابن عباس: يعني بذلك أهل مكة. ثم قال تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ}. أي: بالحرم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو مالك.

قال أبو مالك وذلك لأمنهم والناس يتخطفون من حولهم. وقيل: الهاء عائدة على الكتاب، أي مستكبرين بالكتاب. أي: يَحْدُثُ لكم بتلاوته عليكم استكبارٌ. وقوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ}. أي: تسمرون بالليل في الحرم. يقال لجماعة يجتمعون للحديث " سامر " كما يقال: " باقر " لجماع البقر، " وجامل " لجماعة الجمال. وأكثر ما يستعمل " سامراً " للذين يسمرون بالليل، وأصله من قولهم لا أكلمه السمر والقمر أي: الليل والنهار. وقال الثوري: يقال لظل القمر، السمر، ومنه السمرة في اللون وقرأ أبو رجاء: سُمّاراً، جعله جمع سامر. قال ابن عباس وابن جبير: معناه: يسمرون بالليل حول الكعبة، يقولون المنكر.

وقال الضحاك: يعني سمر الليل. قال الطبري: إنما وحد " سامر "، وهو في موضع جمع، لأنه وضع موضع الوقت، ومعنى الكلام تهجرون ليلاً، فوضع السامر موضع الليل فوحد لذلك. ومن قرأ: تُهجرون بالضم في التاء، أخذه من أهجر يهجر، إذ نطق بالفحش. وقيل: الخنا ومعناه التجاوز ومنه قيل: " الهاجرة، لأنه وقت تجاوز الشمس من الشرق إلى الغرب ". وأما معناه، فقال ابن عباس فيه: معناه، تسمرون برسول الله A وتقولون الهجر. وقال عكرمة: تشركون. وقال الحسن: تسبون النبي A. وقال مجاهد: تقولون القول السيء في القرآن. ومن قرأ بفتح التاء فهو من هجر المريض إذا هذى، هذا قول الكسائي.

ويقال هجر المحموم، إذا غلب على عقله، فيكون معناه: إنكم كالهاذي في مرضه بما لا ينتفع به، كذلك أنتم تتكلمون في النبي عليه السلام بما لا يضره. وقيل: معناه: من هَجَرَهُ، إذا لم يكلمه فمعناه على هذا: تهجرون النبي A وأصحابه. وقد قال الحسن: تهجرون نبيي وكتابي. وقال ابن عباس: معناه: تهجرون ذكر الله والحق. وقال السدي: تهجرون البيت. وقال ابن جبير: تسمرون بالليل وتخوضون في الباطل. وقال أهل اللغة: يقال هجر وأهجر في كلامه، إذا أفحش غير أن الأصمعي قال: هجر يهجر، إذا هذى، وأهجر إذا تكلم بالقبيح. " ومستكبرين " وقف عند أبي حاتم ثم تبتدئ: " سامراً تهجرون " أي في البيت. وقيل: " مستكبرون به " الوقف. وقيل: تهجرون التمام.

68

قوله تعالى ذكره: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ} إلى قوله: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}. معنى هذا القول التوقيف والتقبيح كقول العرب: الخير أحب إليك أم الشر. أي: إنك قد اخترت الشر. ومعناه: أفلم يدبر هؤلاء المشركون كلام الله فيعلموا ما فيه من العبر والحجج {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} يعني أسلافهم من الأمم المكذبة قبلهم، بل جاءهم محمد A بمثل ما أتت به الرسل قبله لآبائهم، فواجب عليهم ألا ينكروا ما جاءهم به محمد عليه السلام، لأنه أتى بمثل جاء به غيره من الرسل لآبائهم. وقيل: " أم " هنا بمعنى " بل "، والتقدير: بل جاءهم ما لم يأت أسلافهم فتركوا تكدبره إذ لم يكن عند من سلف لهم مثله ولا أرسل إليهم مثله. ثم قال: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ}. أي: أم لم يعرفوا صدق محمد وأمانته " فهم له منكرون " أي: فينكروا قوله إذ لم يعرفوه بالصدق فكيف يكذبونه وهم يعرفونه بالصدق والأمانة. ثم قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ}. أي: أيقولون بمحمد مجنون فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يفهم. {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق}. أي: جاءهم بحق لا تخفى صحته والمجنون لا يتكلم بكلام فيه حكمة ولا يصح له معنى، فكيف يكون مجنوناً من يأتي بالحق والحكمة، وإنما نسبوه إلى الجنون لأن الذي جاءهم به بَعُدَ عندهم قبولهم له كما يقال لمن سأل ما لا يتمكن فعله

هو مجنون أي: لا يسأل مثل هذا السؤال إلا مجنون/. فلما دعاهم مع شرفهم عند أنفسهم إلى اتباعه والقبول لقوله وذلك عندهم متعذر منهم، نسبوه إلى الجنون. ثم قال: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي: قد علموا أنه محمق فيما جاءهم به، وليس بمجنون، ولكن أكثرهم كاره لا تباع الحق الذي قد صح عندهم وعلموه حسداً منهم له، وبغياً عليه واستكباراً في الأرض. ثم قال تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ}. أي: ولو اتبع الله D أهواء الكفار، قاله السدي. وتقديره على قوله: ولو اتبع صاحب الحق أهواء المشركين {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} باتباع آرائهم، لأنهم لا يعلمون العواقب، وأهواء أكثرهم على إيثار الباطل على الحق، والسماوات والأرض وما بينهما لم يقمن إلا بالحق. وقيل: الحق هنا: القرآن، والمعنى: ولو نزل القرآن بما يحبون لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن. وقيل: هو مجاز، والتقدير: ولو وافق الحق أهواءهم، فجعل موافقته اتباعاً، مجازاً ويكون التقدير على هذا، لو كانوا يكفرون بالرسل، ويعصون الله، ولا يجازون على ذلك ويعاقبون لفسدت السماوات والأرض. وقيل: المعنى: لو كان الحق فيما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله لتعالت بعضها على بعض واضطرب التدبير ففسدت لذلك السماوات والأرض.

ثم قال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ}. أي: بينا لهم الحق، قاله ابن عباس. وقيل: معناه: بل آتيناهم بشرفهم إذ نزل القرآن بلغتهم وعلى رجل منهم. {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي: فاعرضوا عنه فكفروا به، ومثله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. وقال قتادة: " بذكرهم ": بالقرآن، وتقديره: بل آتيناهم بذكر ما فيه النجاة لو اتبعوه. ثم قال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}. أي: أم تسألهم يا محمد على ما جئت به أجراً فيعرضوا عما جئتهم به من أجل أخذ منهم الأجر عليه، وهو قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23]. ثم قال: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}. أي: لم تسألهم رزقاً على ماجئتهم به. فرزق ربك خير. قال الأخفش: الخَرْج والخراج واحد، إلا أن اختلاف الكلام أحسن. وقال أبو حاتم: الخرج: الجعل والخراج: العطاء. وقال المبرد: الخرج: المصدر، والخراج الاسم.

وأصل الخراج الغلة والضريبة، كخراج العبد والدار وغيرهما. وقوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}. أي: الله خير من أعطى عوضاً على عمل ورزق رزقاً. ثم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ}. يخاطب النبي A { إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو دين الإسلام، وسمي مستقيماً لأنه يؤدي إلى الجنة والنجاة من النار. ثم قال: {وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ}. أي: إن من ينكر البعث والمعاد إلى الآخرة عن محجة الحق وقصد السبيل - وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده - لناكبون أي: لعادلون. قال السدي: {عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ}: عن دين الله لمعرضون. وقيل: عن صراط جهنم لناكبون في جهنم، وذلك في الآخرة. وقيل: عن طريق الجنة لعادلون إلى طريق النار. ثم قال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ}. أي: لو رحمنا هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، {وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ}. أي: ورفعنا عنهم ما بهم من القحط والجدب، وضر الجوع. {لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: لتمادوا في عتوهم وجزاءتهم على الله. {يَعْمَهُونَ} أي: يترددون. قال ابن جريج: هو كشف الجوع عنهم.

وقيل: المعنى، لورددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجو في طغيانهم يعمهون. ثم قال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}. يعني أهل مكة أحل بهم الجوع والجدب وقتل سراتهم بالسيف، {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ} أي: فما/ خضعوا لربهم، فينقادوا لأمره ونهيه: {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي: يتذللون. ويروى أن هذه الآية نزلت على رسول الله A حين أخذ الله قريشاً بسني الجدب إذ دعا عليهم رسول الله A. قال ابن عباس: " جاء أبو سفيان إلى النبي A فقال: يا محمد نشدتك الله والرحمن، لقد أكلنا العلهز يعني الوبر بالدم، فأنزل الله {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}. الآية ". وروى في هذا الحديث " أن أبا سفيان قال للنبي عليه السلام: أليس قد بعثت رحمة للعالمين. قال: نعم قال: فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب. . .} الآية ".

قال الحسن: إذا أصاب الناس من قبل الشيطان بلا فإنما هي نقمة، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية، ولكن استقبلوها بالاستغفار، واستكينوا وتضرعوا إلى الله، وقرأ هذه الآية {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}. . . الآية. قال ابن جريج، هو الجوع والجدب. ثم قال: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ}. قال ابن عباس: هو يوم بدر، وقد مضى، وقاله ابن جريج. وقال مجاهد: هو الجوع أيضاً مثل الأول. وقال عكرمة: هو باب آخر من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربع مائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة، لو يخطر الطائر من منكب أحدهم لطار شهري قبل أن يبلغ نكبه الآخر، حتى إذا انتهوا إليه فتحه الله عليهم فهو قوله: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}. ثم قال تعالى: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}. أي: يائسون من الخير. وقيل: المبلس، الساكت المتحير. وقيل المعنى: نادمون على ما سلف.

78

قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع} إلى قوله: {مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}. أي: والله الذي أحدث لكم أيها المكذبون السمع لتسمعوا به والأبصار لتنظروا بها، والأفئدة: أي والقلوب لتفهموا بها فكيف يتعذر على من أنشأ ذلك على غير مثال الإعادة، وقد تقدم المثال. ثم قال تعالى: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}. أي: قليلاً شكركم على ما أعطاكم من النفع بهذه الجوارج وغيرها. ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض}. أي: أنشأكم فيها {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: بعد مماتكم، أي تصيرون إلى حكمه فيكم وعدله، وليس هو حشر وصيرورة إلى قرب مكان، لأن القرب والبعد في الأمكنة إنما يجوز على المحدثين الذين تحويهم الأمكنة، والله لا يجوز عليه ذلك، إنما هو حشر إلى وعده وحكمه فيهم، وكذلك كل ما كان في القرآن من قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} و {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} كله معناه تصيرون إلى حكمه ووعده ومجازاته ليس هو صيرورة إلى قرب مكان، سبحانه لا تحويه الأمكنة ولا تحيط به المواضع، وليس كمثله شيء. الأمكنة كلها مخلوقة والأزمننة محدثة وهو قديم إلا إله إلا هو، فلا يحوي المحدث إلا محدثاً. فافهم هذا واستعمله في كل ما جاءك منه في كتاب الله، ولا تتوهم فيه قرب كان ولا دنوا من موضع دون موضع ألزم فهمك ونفسك أنه تعالى لا يشبهه شيء ولا مثله شيء. ثم قال: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}. أي: والله الذي جعل خلقه أحياء بعد أن كانوا نطقاً أمواتاً فنفخ فيهم الروح، وهو يميتهم بعد إحيائهم. {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار}.

أي: هو الذي خلق الليل والنهار مختلفين. ثم قال: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. أي: تفهمون ما وُصف لكم ونُبهتم عليه. ثم قال تعالى: {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون}. أي: بل قال المكذبون لك يا محمد من قريش مثل ما قال الأولون من الأمم المكذبة بالبعث/. قالوا: أنبعث إذا كنا تراباً وعظاماً. استبعدوا ذلك فأنكروه. ثم قال: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ}. أي: لقد وعدنا ووعد آباؤنا من قبل بالبعث بعد الموت فلم نر له حقيقة، {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي: ما سطره الأولون في كتبهم من الأحاديث والأخبار التي لا صحة لها ولا حقيقة. ثم قال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين البعث من قومك: لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق إن كنتم تعلمون من مالكها، ثم اعلمه جل ذكره، أنهم سيقولون لله ملكها. فقل لهم إذا جاوبوك {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي: أفلا تعتبرون أن من خلق ذلك وابتدأه وملكه أنه يقدر على إحيائكم بعد مماتكم وإعادتكم خلقاً كما كنتم. ثم قال: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم}. أي: من خالق ذلك ومالكه، سيقولون لك: ذلك كله لله وهو ربه. فقل لهم أفلا تتقون عقابه على كفركم به، وتكذيبكم رسله.

ثم قال تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}. أي: من بيده خزائن كل شيء، قاله مجاهد. {وَهُوَ يُجْيِرُ} من عذابه من خلقه من شاء {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ}. أي: ولا يجير عليه أحد من خلقه ولا من عذابه، ومعنى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: من يملك كل شيء. وذكر اليد في هذا إنما يعني به الملكم لا الجارحة تعالى الله عن ذلك. وهذا أتى على لسان العرب. تقول: هذه الدرابيد فلان، أي: ملكه، لا يريدون أن ذلك مستقر في يده يد الجارحة، إنما يريدون أنه مستقر في ملكه. وقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي تعلمون مَن هذه صفته، فإنهم سيقولون أن ذلك هو الله، وملك ذلك كله لله، فقل لهم: {فأنى تُسْحَرُونَ}. أي: من أي وجه تصرفون عن التصديق بآيات الله والإقرار برسوله. ومن قرأ الثاني والثالث الله الله، جعل السؤال والجواب من جهة واحدة، لأن الله جل

ذكره علم بجوابهم وسؤالهم قبل خلقهم، فأخبر عن جوابهم من جهة السؤال. ومن قرأ: لله لله، أتى الجواب من عند المسؤول، وهو الأصل. قال ابن عباس: " تسحرون ": تكيدون. وحقيقة السحر أنه تخييل الشيء إلى الناظر أنه على خلاف ماهو به من هيئته. فكذلك معنى {فأنى تُسْحَرُونَ} أي: من أي وجه يخيل لكم الكذب حقاً، والفاسد صحيحاً، فتصرفون عن الإقرار بالحق الذي يدعوكم إليه محمد A وفي هذا الآيات دلالة على جواز محاجة الكفار والمبطلين وإقامة الحجة عليهم، وإظهار إبطال الباطل من قولهم ومذبهم، ووجوب النظر في الحجج على من خالف دين الله وقد أمر الله تعالى نبيه في غير ما موضع بالاحتجاج عليهم وعلمه كيف يحتج عليهم، وكذلك أخبر عن إبراهيم عليه السلام بما احتج به على قومه، وأخبرنا الله تعالى أنها حجة أتاها إبراهيم عليه السلام وعلمه إياها، فاحتج بها عقى قومه وبينا لهم خطأهم فيما يعبدون، وكذلك أخبرنا الله في غير موضع باحتجاج الأنبياء على قومهم، وإقامة حجة الله عليهم، ومناظرتهم لهم، وهو كثير في القرآن، دل على جواز إقامة الحجة على أهل الزيغ الكفر. فأما قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] فقد ذكرنا معناها في موضعها. وليست في هذا الباب، ولها معاني قد بيناها. ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

أي: ما الأمر كما يقول هؤلاء المشركون أن الملائكة بنات الله أو أن لهم آله دمن الله، بل أتيناهم بالبقين، وهو ما أتاهم به محمد A من الإسلام، وأن لا يُعبد شيء سوى الله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما يضيفون إلى الله من الولد والشريك {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ} في القدم حين ابتدع الأشياء. {مِنْ إِلَهٍ} أي: لاعتزل كل إله منهم بما خلق فانفرد به {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}. أي: ولتغالبوا، فغلب القوي الضعيف، لأن القوي لا يرضى أن يحاده الضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلهاً/، لأنه عاجز بضعفه. والعاجز مذولو مغلوب مقهور، وليس هذه من صفات المعبود الخالق، وإنما هي من صفات المخلوق المملوك. ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}. أي: عما يصفون به الله. ثم قال تعالى ذكره: {عَالِمِ الغيب والشهادة}. أي: يعلم ما غاب عن خلقه من جميع الأشياء. فلم يروه ولم يعلموه وما شاهدوه، فرأوه وعلموه. والرفع الاختيار عند النحويين البصريين والكوفيين في " عالم الغيب " على إضمار مبتدأ، أو على البعث لله في قوله: {مَا اتخذ الله} عالم الغيب، وحجة البصريين في اختيارهم الرفع أن قبله رأس آية، وقد تم الكلام دون، فاستؤنف على إضمار مبتدأ. وحجة الكوفيين منهم الفراء أن الرفع أولى به، لأنه لو كان مخفوضاً لقال:

(وتعالى) بالواو. فدخول الفاء بعده يدل على أنه أراد " هو عالم " واحتج في ذلك بأنك لو قلت: مررت بعبد الله المسحن وأحسنت إليه، جئت بالواو، لأنك خفضت ولم تستأنف، تريد: مررت بعدب الله الذي أحسن وأحسنت إليه. قال: ولو قلت: " المحسن " بالرفع، لم يكن إلا بالفاء، تريد: هو المحسن فحسنت إليه، فالفاء عنده تدل على انقطاع الكلام. وقد خالف هو نفسه هذا الأصل في المزمل، فاختار: " ورب المشرق " بالخفض، وبعده " فاتخذه " ومن أصله أن الفاء تدل على الاستئناف. ثم قال تعالى ذكره: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}. أي: قل يا محمد: رب أن ترني ما يهلك به هؤلاء المشركين، فلا تهلكني بما تهلكهم به، أي: إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم ولا تجعلني في القوم الظالمين، ولكن اجعلني فيمن قد رضيت عنه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}. أي: إنا نقدر يا محمد أن نريك تعجيل العذاب في هؤلاء المشركين فلا يحزنك كفرهم وتكذيبهم إياك، فإنما نؤخرهم ليبلغ الكتاب أجله فيستوفوا أيامهم وما قدر لهم من رزق.

96

قوله تعالى ذكره: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة} إلى قوله: {وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}. أي: ادفع يا محمد فعل هؤلاء المشركين بالخلة التي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلهم، والصبر على أذاهم، وهذا قبل أن يأمره بحربهم. فهو منسوخ بالأمر بالقتال. والسيئة هنا هي أذى المشركين إياه، وتكذيبهم له. قال مجاهد: معناه: أعرض عن أذاهم إياك. وروي عنه أنه قال: هو السلام يسلم عليهم إذا لقيهم. ثم قال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}. أي: ما يصفون الله به جل ذكره من السوء، وهو مجازيهم عليه. ثم قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين}. أي: رب استجيرك من وسوسة الشياطين ". وقال ابن زيد: " همزات الشياطين " خنقهم للناس. {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}. أي: يحضرون في شيء من أموري.

وقيل: " همزات الشياطين " الجنون الذي يعرض للناس والصرع وكان النبي A يتعوذ من الشيطان، ويقول: " من همزة ونفثه ونفخه فقيل: يا رسول الله، وما همزه فذكر هيئة الموتة الذي تأخذ الناس، وهو الجنون والصرع، فقيل له: وما نفثه؟ قال: الشِعر. فقيل له: وما نفخه؟ قال: " الكفر ". ثم قال: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت}. أي: إذا عاين أحد هؤلاء المشركين الموت ونزل به أمر الله تعالى: {قَالَ} لعظيم ما يعاين من عذاب الله: {رَبِّ ارجعون} إلى الدنيا {لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} قبل اليوم من العمل فضيعته وفرطت فيه. وذلك تندماً منه على ما فات وتلهفاً. يقول الجبار: {كَلاَّ} أي: لا ترد، وذلك لا ينفعه، لأنه وقت رفع عنه حد التكليف، فلا تنفع فيه توبة، وذلك عند اليقين بالمو، والبشارة بما أعد له من العذاب، والإعلام بما كان عليه من الخطأ في دينه، فإذا عاين ذلك كله، لم ينفعه ندم ولم يتقبل منه توبة ولم يقل من ندامته. وليست " لعل " في هذا للشك، لم يرد لعلي أعمل أو لا أعمل إنما هي لليقين، أي: إن رددت عملت، وهو لا يرد أبداً. قال ابن زيد: ذلك حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.

وروي عن النبي A أنه قال: إذا حضر الإنسان/ الموت جمع له كل شيء كان يمنعه من ماله من حقه، فجعل بين يديه، فعند ذلك يقول: {رَبِّ ارجعون. . .} الآية. وروى ابن جريج " أن النبي A قال: إذا عاين المؤمنا الملائكة، قالوا: نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدماً إلى الله جل ثناؤه، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ". قال الضحاك: يعني به أهل الشرك. وقوله: {رَبِّ ارجعون}، بالتوحيد ثم بالجمع فإنما ذلك لأن الكافر ابتدأ سؤاله إلى الله، ثم رجع إلى خطاب الملائكة الذين يتولون القبض روحه، فأتى بلفظ الجمع لأنهم جماعمة، ووحد أولاً لأن الله واحد. وقيل: إنه إنما جمع لأن الجبار يخبر عن نفسه بلفظ الجمعة تعظيماً، فإذا خوطب جرى أيضاً على ذلك، فجرى أول الكلام على التوحيد وآخره على لفظ الجمع للتعظيم. وقيل: إنما جاء " ارجعون " بلفظ الجمع، لأنه بمعنى: ارجع ارجع ففيه معنى التكرير، وكذلك قال المازني في قوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] قال: معناه: الق الق.

ثم قال: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا}. قال ابن زيد: لابد كل مشرك أن يقولها. ثم قال تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. البرزخ هو مقامهم تحت التراب إلى يوم البعث فهو حاجز بينهم وبين الرجوع. قال ابن عباس: " برزخ " أجل إلى حين. وقال ابن جبير: برزخ ما بعد الموت. وحضر أبو أمامة جنازة، فلما وضعت في اللحد قال: هذا برزخ إلى يوم يُبعثون. وقال مجاهد: " البرزخ ". ما بين الموت إلى البعث. وقال الضحاك: " البرزخ " ما بين الدنيا والآخرة. وحقيقة البرزخ في اللغة أنه كل حاجز بين شيئين. وقال رجل بحضرة الشعبي رحم الله فلاناً صار من أهل الآخةر فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. ثم قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}. أي: فإذ نفخ إسرافيل في القرن.

وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، ومعناه: فإذا نفخ في صور الناس الأرواح. قال ابن مسعود: " الصور ": قرن. وفي الحديث عن النبي A أنه قال: " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبتهه وأصغى سمعه، ينتظر متى يؤمر ". ثم قال: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ}. وقد قال في موضع آخر: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} فمعنى قول ابن عباس فيه، أنه إذا نفخ في الصور أول نفخة، تقطعت الأرحام، وصعق من في السماوات ومن في الأرض، وشغل بعض الناس عن بعض بأنفسهم، فعند ذلك لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فإذا نفخت النفخة الثانية قاموا ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فذلك في وقتين مختلفين. وقيل: معناه: لا تفاخر بينهم بالأنسان في القيامة كما يتفاخرون في الدنيا بالأنساب. ولا يتساءلون في الآخرة كما يتساءلون في الدنيا فيقولون من أي قبيلة الرجل. وعن ابن عباس: أيضاً أن رجلاً سأله عن الآيتين فقال: أما قوله:

{فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} فذلك في النفخة الأولى، لا يبقى على الأرض شيء، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وأما قوله: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فإنهم لما دخلوا الجنة، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وبذلك قال السدي. وعن ابن مسعود أن ذلك في الموقف في النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين قال وينادي مناد: هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبلهُ فليأت إلى حقه. قال: فتفرح المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو على ابنها أو على أخيها أو على زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلونن فيقول الرب D للعبد: اعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي: رب، فنبت الدنيا، فمن أين أعطيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا كل إنسان مقدار طلبته، فإن كان له فضل/ مثقال حبة من خردل ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة، ثم تلا ابن مسعود: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها}. . . الآية، وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: ربنا فنيت حسناه وبقي طالبون كثير، فيقول تعالى: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته، وصكوا له صكاً إلى النار. وقال ابن جريج في الآية: لا يسأل يومئذ أحد شيئاً، ولا يمت إليهم برحم، ولا يتساءلون. وقال قتادة: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه

102

مخافة أن يدعى عليه شيئاً، ثم قرأ: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ}. . . إلى. . . {يُغْنِيهِ}. وقال النبي A: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد من تحت العرش. يا أهل المظالم تداركوا مظالمكم وأدخلوا الجنة. ومعنى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} أي: لا يتفاخرون بالأنساب يوم القيامة ولا يتساءلون بها كما كانوا يفعلون في الدنيا. وقيل: إن يوم القيام مقداره خمسين ألف عام، ففيه أزمنة فأحوالهم تختلف فيه، فمرة يتساءلون، ومرة لا يتساءلون. قوله تعالى ذكره: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون}. إلى قوله: {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ}. أي: فمن ثقلت موازين حسناته، وخفت موازين سيئاته فأولئك هم الباقون في النعيم، ومن خفت موازين حسناته وثقلت موازين سيئاته {فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ}، أي: غبنوا أنفسهم حظها من رحمة الله في جهنم، {خَالِدُونَ} أي ماكثون {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} أي: تنفح وجوههم النار. ثم قال: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}. قال ابن مسعود: " الكالح ": الذي قد بدت أسنانه، وتقلصت شفتاه، كالرأس المشيط بالنار.

وقال ابن عباس: " كالحون " عابسون. وروي عن النبي A أنه قال: " تشوي أحدهم النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ". قال الحسن: لفحتهم النار لفحة، فلم تدع لحماً ولا جلداً إلا ألقتهُ عند العراقيب وبقيت العظام بيضاء تلوح. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}. أي: يقال لهم: ألم تكن آيات القرآن تتلى عليكم في الدنيا فكنتم بها تكذبون. ثم قال: {قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}. أي: غلب علينا ما سبق في سابق علمك وخط لنا في أم الكتاب. قال مجاهد: شقوتنا التي كتبت علينا. قال ابن جريج: بلغنا أن أهل النار نادوا خزنة جهنم أن. {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} [غافر: 49] فلم يجيوبهم ما شاء الله، فلما أجابوهم بعد حين قالوا: {فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر: 50]. قال: ثم نادوا مالكاً: {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قال: فسكت عنهم مالك خازن

جهنم أربعين سنة ثم أجابهم فقال: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، ثم نادى الأشقياء ربهم فقالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}: قال: فسكت عنهم مقدار الدنيا، ثم أجابهم بعد ذلك {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ}. وروى أن لأهل جهنم أربع دعوات، أولها ما حكى الله جل ذكره في غافر من قولهم: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 11]، والثانية، ما حكى الله عنهم في غافر أيضاً قوله: {وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} [غافر: 49] فأجابتهم الخزنة: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}، قالوا: " بلى "، قالت لهم الخزنة: {فادعوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر: 50]. والثالثة ما حكى الله تعالى عنهم في الزخرف من قوله: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} فأجابهم مالك فقال: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}، والرابعة في قد أفلح: قوله: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيجيبهم الرب اخسئوا فيها ولا تكلمون، فتصير لهم همهمة كنباح الكلاب. ومعنى: " اخسئوا " ابعدوا من رحمتي وعطفي، يقال: خسأت الكلب، أبعدته، وقال تعالى ذكر، ينقلب إليك البصر خاسئاً " أي مبعداً. وقال/ محمد بن كعب: بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب، فردوا عليهم ما قال الله جل ذكره، فلما يئسوا نادوا: يا

مالك، وهو عليهم، وله مجلس في وسطها تمر عليه ملائكة العذاب، وهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك، سألوا الموت فمكثوا لا يجيبهم ثمانين سنة من سني الآخرة، ثم لفظ إليهم فقال: إنكم ماكثون، فلما سمعوا ذلك قالوا: فاصبروا، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله قال: فصبروا، فطال صبرهم، فنادوا: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}، أي: منجى، فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق}، إلى قوله: {أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، فلما سمعوا مقالته، مقتوا أنفسهم قال فنودوا: {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} إلى قوله: {مِّن سَبِيلٍ}. . . قال فيجيبهم الله جل ذكره فيها: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} إلى {الكبير}. قال: فيقولون: ما أيأسنا بعد. قال ثم دعوا مرة أخرى، فيقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}. . . إلى. . . {مُوقِنُونَ}. قال: فيقول الرب: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. قال فيقولون: ما أيأسنا بعد قال: فيدعون مرة أخرى: {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل}. قال: فيقول لهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ}. . الآية. قال: فيقولون: ما أيأسنا بعد ثم قالوا مرة أخرى: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ}. قال: فيقول لهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ} من تذكر. . . {مِن نَّصِيرٍ}. . . قال: ثم مكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}، فلما سمعوا ذلك قالوا: الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك: ربنا غلبت علينا شقوتنا أي: الكتاب الذي تقدم فيه أنا أشقياء، {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ. . .} إلى {. . . ظَالِمُونَ}. فقال لهم ذلك: اخسئوا فيها ولا

تكلمون قال: فلا يتكلمون فيها أبداً. قال: فانطقع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم، وأقبل بعضهم بنبح في وجه بعض، فأطبقت النار عليهم قال عبد الله بن المبارك: فذلك قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. وروي عن زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون. وقال أبو الدرداء يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ألا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون، فيغاثون بطعام ذي غصة، فيغصون به، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلابيب الحديد، فإذا دنا من وجوههم، شوى وجوههم، فإذا دخل بطونهم، قطع أمعاءهم وما في بطونهم، فيدعون خزنة جنهم، فيقولون لهم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب كالحديث الأول. وقوله: {وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ}. أي: ظللنا عن سبيل الرشد وقصد الحق. والشقوة والشقاوة لغتان بمعنى عند الكسائي والفراء. وقيل: معنى ذلك: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسميت اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها، كما قال: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً}. فسمى أكل مال

اليتيم ناراً لأنه يؤدي إلى النار. ومعنى: " اخسئوا فيها ": تباعدوا تباعد سخط. يقال: خسأت الكلب، إذا زجرته ليتباعد. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا}. أي: كان جماعة من عبادي، وهم أهل الإيمان بالله. قال مجاهد: هم صهيب وبلال وخباب وشبههم من ضعفاء المسلمين، كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم، وكانوا يقولون ربنا آمنا. فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها علينا وارحمنا وأنت خير من رحم أهل البلاء. {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} أي جعلتم تهزءون منهم. هذا على قراءة من كسر السين/ ومن ضمها فمعناه فجعلتم تسخرونهم. هذا مذهب أبي عمرو وأبي عبيدة وقطرب. وهو قول الحسن وقتادة. وهما لغتان عند الكسائي والفراء. بمعنى الهزء، فإذا كان بمعنى السخرة والتسخير فهو بالضم لاغير، نحو:

111

{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32]، ثم قال: {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}. أي: لم تزالوا تستهزءون بهم حتى أنساكم ذلك من فعلكم بهم ذكري فألهاكم عنه. قال ابن زيد: أنساهم الاستهزاء بهم والضحك ذكر الله، وقرأ: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ}. . إلى قوله. . {لَضَالُّونَ} [المطففين: 29 - 32]. ومثله في إضافة الفعل إلى غير فاعله قوله {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] أي: ضل بهن كثير من الناس لم يكن له صنام فعل يضل به الناس. الناس هم الضالون لعبادتهم الأصنام، فكذلك أنسوكم ذكري، لم ينسيهم المؤمنون ذكر الله بل نسوا ذلك، أي تركوه. قوله تعالى ذكره: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا}. إلى آخر السورة أي: إني جزيت الذين اتخذهم الكفار سخرياً يصبرهم على دينهم وعلى ما كانوا يلقون في الدنيا من أذى الكفار، الفوز وهو النجاة من النار، والخلود في الجنة. ثم قال: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ} أي: قال الله لهؤلاء الأشقياء الذين كانوا يظنون أنهم لا يبعثون، وأن الدنيا باقية: كم لبثتم في الأرض من الزمان بعد موتكم، فأجابوا وقالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، فنسوا عظيم ما كانوا فيه من البلاء وطول مكثهم في القبور في العذاب لما حل عليهم من نقم الله في الآخرة حتى ظنوا أنهم لم يلبثوا في البرزخ إلاّ يوماً أو بعض يوم.

وروي أن الله جل ذكره ينسبهم ما كانوا فيه من العذاب من النفخة الأولى إلى الثانية. وقوله: {فَسْئَلِ العآدين}. أي: قالوا: فاسأل الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم بني آدم ويحصون عليهم ساعاتهم. قال مجاهد: العادين الملائكة. وقال قتادة: هم الحساب. وعنه: يعني أهل الحساب. وقوله: " عَدَدَ سنين " منصوب على التفسير. وقرأ الأعمش: " عدداً " بالتنوين، فيكون " سنين ". في موضع نصب على التفسير أيضاً، أو على البدل من عدد. ثم قال: {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي: ما لبثتم على قولكم إذاً في الأرض إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون مقدار لبثكم فيها، وقد كنتم تزعمون أن الدنيا باقية أبداً، لا بعث ولا حشر، ثم قلتم الآن لم نلبث إلا يوماً أو بعض يوم، فقد صار الباقي عندكم يوماً أو بعض يوم. وجعل الله لبثهم قليلاً لفنائه وقلة دوامه، فكل ما يفنى، فبقاؤه قليل وإن تطاول زمانه قال الله

جل ذكره: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] أي ما تستمتع به الخلق من طلول أيام الدنيا قليل، إذ مصيره إلى الفناء والذهاب. ثم قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً}. أي: أفحسبتم أيها الأشقياء أنا إنما خلقناكم لعباً وباطلاً، وإنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا ترجعون فتجزون بأعمالكم في الدنيا. ثم قال: {فَتَعَالَى الله الملك الحق}. أي: فتعالى الله عما يصفه به هؤلاء المشركون من اتخاذه الولد والشريك. {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي: لا مبعود ولا رب إلا الله الملك الحق {رَبُّ العرش الكريم}. ثم قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}. أي: ومن يعبد مع الله معبوداً آخر، لا حجة له بما صنع وبينة {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ}. أي: حساب عمله السيء عند ربه فيوفيه جزائه إذا قدم عليه. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} أي: لا ينجح ولا يدرك البقاء والخلود في النعيم أهل الكفر بالله. وهذا يدل على أن الحق يثبت بالبرهان والحجة، والباطل يذهب بالبرهان، والحجة على بطلانه. فالتقليد لمن قدر على الحجة والبرهان خطأ منه. ثم قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم} أي: استر علي ذنوبي بعفوك عنها، وارحمني بقبول توبتي منها، وأنت خير من رحم من أذنب فقبلت توبته.

النور

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سورة النور مدنية قوله تعالى ذكره: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا}، إلى قوله: {طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}. سورة مرفوعة على إضمار مبتدأ، أي هذه سورة، وأنزلناها نعت للسورة، وقبح رفعها على الابتداء لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرات إذ لا فائدة فيها، وقد أجازه أبو عبيدة. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب على معنى: اتل سورة، أو على معنى: أنزلنا سورة أنزلناها.

ومن شدد {فَرَضْنَاهَا} جعله بمعنى: فضلناها، فجعلنا فيها فرائض مختلفة. وقيل: معنى التشديد أنه فرضها على من أنزلت عليهم، وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة، فشدد ليدل على معنى التكثير من المأمورين. ومن خفف جعله على معنى: أوجبنا ما فيها من الأحكام فجعلناه فرضاً عليكم. وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، يدل على اختيار التخفيف، لأنه فيه معنى تكثير المأمورين، لنه فرض علينا وعلى من بعدنا ومن قبلنا، وفيه فرائض مختلفة أيضاً، وقد أجمع على تخفيفه. قال ابن عباس {فَرَضْنَاهَا} بيناها.

وقيل {فَرَضْنَاهَا} فرضنا العمل بما فيها، وهذا يدل على التخفيف. وقول ابن عباس يدل على اتشديد. وقوله: {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، أي دلالات وحجج على الحق، واضحات لمن تأملها وآمن بها. قال ابن جريج: آياتٍ بينات: يعني الحلال، والحرام، والحدود. {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي تذكرون بهذه الآيات التي أنزل عليكم. ثم قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}. كل القراء على الرفع إلا عيسى بن عمر فإنه قرأ بالنصب، وهو اختيار

الخليل وسيبويه لأن الأمر بالفعل أولى، وسائر النحويين على خلافهما في هذا الاختيار، واستدل المبرد على خلافهما، بإجماع الجميع على الرفع في قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] وإنما اختار النحويون الرفع لأنه مبهم لا يقصد به شخص بعينه (زنى)، وتقدير الرفع عند سيبويه والخليل " وفيما يتلى عليكم الزانية والزاني، ويحسن الرفع بالابتداء وما بعده خبره، والمعنى من زنى من الرجال والنساء، وهو حر بكر غير محصن فاجلدوه ضرباً مائة جلدة. {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} أي رقة، ورحمة

عند الجلد في دين الله، أي في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحدود، فكل من أقام الحد. فهو ممن لا تأخذه رأفة في حدود الله. والرأفة من الآدميين، رقة القلب، وهي من الله تعالى رحمة وإنعام ولا يجوز عليه رقة القلب. وقوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} لأن لا تقصروا في إقامة الحدود. {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وهذا يدل على أن إقامة حدود الله من الإيمان بخلاف ما تدعيه المرجئة من أن الإيمان قول بلا عمل. وقال ابن المسيب والحسن: معناه لا تخففوا الضرب ولكن أوجعوا،

قالا: هو الجلد الشديد. وقيل: معناه انزعوا الثياب عنهما قبل الجلد، قاله حماد. وقال الزهري: يجتهد في حد الزاني والفرية، ويخفف في حد الشارب. وقال قتادة: يخفف في الشارب والفرية، ويجتهد في الزاني فهذا حد الزاني، وليس في كتاب الله تعالى دلالة على كيفية الجلد، ولكن أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط سوط بين السوطين.

وروي أن عمر Bهـ أتي برجل وجب عليه حد فدعا بسوط فقال: إيتوني بألين منه، فأتي بألين منه، فقال: إيتوني بأشد، فأوتي بسوط بين السوطين، فقال: اضرب ولا ترين إبطك، وأعط كل عضو حقه. والزنا من أعظم الكبائر والفواحش. قال علي بن أبي طالب Bهـ: بلغنا أنه يرسل يوم القيامة على الناس ريح منتنة حتى تؤذي كل بر وفاجر حتى إذا بلغت من الناس / كل مبلغ، وكادت أن تمسك بأنفاس الناس ناداهم مناد يسمع صوته كلهم: أتدرون ما هذه الريح التي آذتكم؟ فيقولون: لا ندري غير أنها قد بلغت منا كل مبلغ، فقال: ألا إنها ريح فروج الزناة

الذين لقوا الله بزناهم لم يتوبوا منه، ثم ينصرف بهم ولم يذكر جنة ولا ناراً. وهذه الآية ناسخةٌ للآيتين اللتين في سورة النساء، قوله تعالى {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} [النساء: 15] إلى {رَّحِيماً} [النساء: 16]. ورأى عثمان بن عفان Bهـ، وأبو عبيدة بن الجراح، وابن مسعود والمغيرة ابن شعبة: أن لا يجرد ثوب المضروب، وبه قال الشعبي

والنخعي وطاوس وقتادة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه ضرب قاذفاً مجرداً. وقال الأوزاعي: الإمام مخير إن شاء نزع، وإن شاء ترك. وقال مالك: لا تجرد المرأة، ويترك عليها ما يسترها.

وقال علي بن أبي طالب Bهـ: يضرب الرجال قياماً، والنساء قعوداً، وهو قوله الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: يضرب المرأة والرجل وهما قاعدان، ومنع ابن مسعود والحسن والثوري وابن حنبل من مد المضروب.

وقال الشافعي: لا يمد ويترك له يد يتقي بها ولا يربط. وأمر عمر بضرب امرأة، فقال: اضرباها ولا تحرق جلدها. وقال الحسن: يضرب السكران ضرباً غير مبرح. وقال مالك: يضرب ضرباً لا يشق ولا يضع سوطاً فوق سوط. قال الشافعي: لا يبلغ أن ينهمر الدم في شيء من الحدود والعقوبات؛ لأنه من أسباب التلف، وليس يراد بالجلد التلف، إنما يراد به النكال والكفارة. وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، يعطى كل عضو من الضرب حقه. قال الشافعي: ويترك الجلاد في الوجه والفرج. وقال الشافعي: يجلد العليل المضني بأنكول النخل، ولم يرد ذلك مالك، ولا أرى أنه يبرئ الرجل من يمينه إذا حلف على ضربات وإن كان فيه قضبان كثيرة.

وثبت عن النبي A: نفي البكر، والزاني بعد جلد مائة، وكذلك فعل أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. وروي ذلك عن ابن عمر، وأبيّ بن كعب، وبه قال عطاء، وطاووس، ومالك، والثوري، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.

وروي عن ابن عمر أنه رأى نفي المملوك البكر إذا زنى، وهو قول الشافعي، وأبي ثور. وقال الشافعي، وحماد بن أبي سليمان، ومالك، وأحمد، وإسحاق: لا نفي على المملوك. ونفى عمر إلى فدك. وقال الشعبي: ينفى الزاني عن عمله إلى عمل غير عمله. وقال ابن أبي ليلى: ينفى سنة إلى بلد غير البلد الذي فجر فيه. وقال مالك: يغرب عاماً في بلد يحبس فيه لئلا يرجع إلى البلد الذي نفي منه. ثم قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين}.

قال مجاهد وابن أبي نجيح: أقل الطائفة رجل، وكذلك قال النخعي. وقال الحسن، والشعبي: الطائفة رجل فما زاد. وقال عطاء، وعكرمة: أقل الطائفة هما رجلان. وقال الزهري: الطائفة ثلاثاً فصاعداً.

وقال قتادة: هم نفر من المسلمين. وقال ابن زيد: الطائفة هنا أربعة، وكذا قال: مالك، والليث. وإنما جعلت الطائفة أربعة ليشهدوا أنه محدود على الزنا متى قذفه أحد بالزنا، فسقط حد القذف عن القاذف بتلك الشهادة، والزنا لا يقبل فيه أقل من أربعة، ومنع الزجاج أن تكون الطائفة واحداً، لأن معناه معنى الجماعة، ولا تكون الجماعة لأقل

من اثنين، واختار الطبري قول من رأى أن أقل الطائفة رجل واحد. قال: واستحب لأن لا يقصر على أربعة عدد، من تقبل شهادته على ذلك لأنه إجماع. وأجاز جماعة من أهل اللغة أن يقال للواحد طائفة، وللجماعة طائفة، لأن معنى طائفة: قطعة، يقول: أكلت طائفة من الشاة، أي قطعة منها. واستدل من قال: إن الطائفة تقع على الواحد بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} [التوبة: 123] ولم يختلف أن الواحد إذا نفر من جماعة لطلب العلم والتفهم / في الدين: أنه يجزئ: فهو طائفة.

3

قوله تعالى ذكره: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً}، إلى قوله: {عَلَى المؤمنين}. هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين استأذنوا النبي A في نكاح نسوة من أهل الشرك معروفات، كن يكرين أنفسهن للزنا، فأنزل الله تعالى تحريمهن على المؤمنين فقال: الزاني من المؤمنين لا يتزوج امرأة من أولئك البغابا، فإن تزوجها فإنما يتزوج زانية أو مشركة لأنهن كن مشركات، والزانية من أولئك البغايا لا ينكحها إلا زان من المؤمنين أو مشرك مثلها. {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين}، أي حرم الله نكاحهن على المؤمنين. قال ابن عمر: استأذن رجل من المؤمنين النبي A في امرأة يقال لها: أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فنزلت الآية. قال مجاهد: وقتادة، والزهري: نزلت الآية في نساء معلوم منهن الزنا في الجاهلية، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فالآية على هذا القول مخصوصة محكمة في نساء بأعيانهن.

وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب: هي عامة ولكنها نسخت بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} الآية، فكل من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها بعد الاستبراء، وهو قول ابن عمر، وسالم، وجابر بن زيد، وعطاء، وطاووس، ومالك وأبي حنيفة، والشافعي. قال الشافعي: الآية منسوخة إن شاء الله، كما قال ابن المسيب. قال الشافعي: الآية منسوخة إن شاء الله، كما قال ابن المسيب. وروي عن بعض أهل العلم أنه قال: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم ظهر له أن

يتزوجها فليتعرض لها في الزنا فإن قبلت منه، وساعدته فلا يتزوجها، وإن أبته من العودة فليتزوجها إن شاء. وعن ابن عباس: أن النكاح هنا الوطء، أي الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان من أهل القبلة مثلها أو مشرك. {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين}. أي وحرم الزنا على المؤمنين، واختار الطبري هذا القول، واحتج في ذلك بأن الزانية من المسلمين لا يحل أن تتزوج مشركاً بحال، ولا يجوز للزاني من المسلمين أن يتزوج مشركة وثنية بحال، فيكون المعنى: الزاني من المسلمين لا يزني إلا بزانية من المسلمين لا تستحل الزنا أو بمشركة تستحل الزنا والزانية لا تزني إلا بزان من المسلمين لا يستحل الزنا أو بمشرك يستحل الزنا، وأنكر هذا القول بعض العلماء، لقوله تعالى ذكره: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} لأنه لا يلزم على قول ابن عباس أن يكون المعنى وحرم الزنا على المؤمنين وليس هو محرم على المؤمنين خاصة، وإنما التقدير: حرم هذا النكاح على المؤمنين، أي نكاح البغايا، والزنا محرم على المؤمن والكافر.

وقال الحسن: معنى الآية: الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة أو مشركة، وكذا الزانية. وهو مذهبه. وروي عن أبي هريرة أن النبي A قال: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله ". فعلى قول الحسن تكون المشركة هنا يراد بها الكتابية، وليس على هذا القول أحد من فقهاء الأمصار، والحديث عندهم منسوخ بإنكاح الأيامى في القرآن. قال أحمد بن يحيى: حقيقة النكاح الوطء. تقول العرب: أنكحت الأرض الحنطة، وأنكر هذا أبو إسحاق وقال: النكاح ليس هو الوطء، إنما هو عقده.

4

وقيل الآية محكمة، والمعنى الزاني المشهور ثلاثاً لا يحل لمؤمنة أن تتزوجه، والزانية المشهورة بالزنا لا يحل لمؤمن أن يتزوجها. وقيل: هو منسوخ بإجماع المسلمين، إن المؤمن لا يحل له نكاح مشركة ولا لغير زان، وكذلك الزانية المؤمنة لا يحل لها نكاح مشرك أي زواجه بإجماع. قوله تعالى ذكره: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ}. أي والذين يشتمون العفائف من الحرائر المسلمات / فيرمونهن بالزنا ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون عليهن بالزنا، {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون}، أي الخارجون عن أمر الله وطاعته، ومعنى أبداً مدة حياتهم، ووقع اللفظ على رمي النساء، ورمي الرجال مثل ذلك، كما وقع الحكم على رمي الرجال في قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات}، والنساء كذلك يحددن إن قذفن.

وقيل إن المعنى: والذين يرمون الأنفس المحصنات فهو للرجال والنساء. وهذه الآية نزلت في الذين رموا عائشة Bها بما رموها به من الإفك، قاله ابن جبير. وقال الضحاك: هي في نساء المسلمين. وقال ابن زيد: الفاسقون: الكاذبون. ومعنى الإحصان هنا العفة. ثم قال تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. أي إلا من تاب من بعد قذفه، وأخذ الحد منه وهو استثناء من قوله:

{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً}، فإذا تاب قبلت شهادته وهو مذهب أكثر الفقهاء منهم: الشعبي، والزهري، وأبو الزناد، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وهو قول عمر بن الخطاب، وابن أبي طلحة عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وطاوس، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عتبة، وابن المسيب.

وقال شريح: لا تجوز شهادته وإن تاب، يجعل الاستثناء من الفاسقين لأنه قد منع قبول شهادته بالأبد، فلا تقبل أبداً. وروي عن النبي A أنه قال: " لا تجوز شهادة محدود في الإسلام "، وبهذا القول يقول ابن عباس في رواية عنه، وبه قال سعيد بن جبير، والنخعي والثوري، وأصحاب الرأي. فيكون أبداً وقف على قول من قال: لا تقبل شهادته ولا يوقف عليه، وعلى قول من قال: تقبل إذا تاب.

6

واحتج الشافعي على من منع قبول شهادته إذا تاب بأنهم يقبلونها إذا تاب قبل أن يحد، فينبغي إذا حد أن يكون قبولها أولى، لأن الحدود كفارات للذنوب، وهم كلهم يقبلون شهادة المحدود في الزنا، وشرب الخمر، والمسكر إذا تاب، وكذلك الزنديق، والمشرك. وقد قال تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}، فهو راجع إلى كل من تقدم ذكره، إلا أن يأتي خبر يدل على الخصوص. قال تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين}. ارتفعت الشهادة بالابتداء، أي فعليه أن يشهد أربع شهادات بالله، وكسرت إن في " إنه لمن "، و " إنها لمن " لأنها جواب القسم.

وقوله: " أربع " من نصبه أعمل فيه فشهادة أحدهم، لأن التقدير: فإن شهد أحدهما أربع شهادات بالله فهو مصدر ولا يحسن أن يكون مفعولاً به، لأنّ شهد لا يتعدى إلا أن يكون من الحضور نحو: شهدت العيد أي حضرته، ومعنى الآية والذين يرمون نساءهم بالزنا، وليس لهم من يشهد بصحة قولهم فالذي يقوم مقام الشهداء في دفع الحد عنه أن يحلف بالله أربعة أيمان أنه صادق في قوله فيها، يقول: أشهد بالله إني لصادق أربع مرات. وقيل بل يقول: بالله الذي لا إله إلا هو أربع مرات أنه رأى رجلاً جامع امرأته، ويقول في الخامسة: اللهم العنيّ إن كنت كذبت عليها، وقيل: بل يقول في

الخامسة: لعنة الله عليه إن كان كاذباً عليها ومن نصب الخامسة عطفها على أربع شهادات، وتقديره: ويشهد الشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان كاذباً فيما رماها به من الزنا، والذي يزيل عنها حد الزنا أن تحلف أيضاً بعد يمينه أربع شهادات أنه لكاذب عليها، وتقول في الخامسة: غضب الله / عليها إن كان صادقاً في قوله. وهذه الآية نزلت في هلال بن أمية رجل من الأنصار وغيره رأوا زنا نسائهم وتيقنوه فأتوا النبي عليه السلام فأخبروه، فشق ذلك على النبي وهمَّ بحدهم على القذف، فأنزل الله ما يقوم مقام الحد لمن لم يكن عنده شهداء، فدعا رسول الله بامرأة هلال، فتلاعنا بين يديه ففرق رسول الله بينهما، وقضى بالولد لأمه ولا يدعى لأب.

قال ابن عباس: ولا يجتمعان أبداً فمن لم يحلف منهما أقيم عليه الحد. وقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب}، يعني الحد أي يدفع عنها حد الزانية شهادتها بالله أربع شهادات أنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. وقيل: العذاب هنا: الرجم، ومعناه العذاب الذي عهدتم من فعل نبيكم، ولذلك أتى بالألف واللام. وقيل: هو الجلد إن كانت غير محصنة، والرجم إن كانت محصنة، ولو امتنعت هي أو هو من الخامسة لوجب الحد، ولا يجب عليها الحد إلا إذا امتنعت من الالتعان بعد التعان الزوج أو من الخامسة، لأن التعان الزوج قد جعله الله يقوم مقام أربعة شهداء، فكا يلزمها الحد لو أتى بأربعة شهداء، كذلك يلزمها إن التعن. فإن التعنت هي دفع ذلك عنها الحد، ولا يكون لعان إلا أن يقول: رأيت بعيني أو ينكر الحمل، ويدعي الاستبراء قبله، أو ينكر ولداً فإن أنكر الحمل فولدت لأقل من ستة أشهر فلا لعان بينهما وعليها الحد، فإذا تلاعنا فرق بينهما، ولم يلحقه

10

الولد ولا يتزوجها أبداً. فإن اعترف بعد ذلك بالولد لحق به وحُدَّ حَدّ الفرية. وإذا امتنعت من الالتعان أو من الخامسة فحُدَّت بالرجم ورثها زوجها وإن كان لم يدخل بها فحدت بالجلد بقيا على نكاحهما، وإنما يسقط الميراث، ويقع الفراق بإكمالها للالتعان. جواب لولا محذوف أي: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم، لأن الله تواب يتوب على من تاب إليه من الزنا ومن غيره، حكيم في تدبيره. قال: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم.

{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ}،، أي لا تحسبوا ما جاءوا به من الكذب عليكم شراً لكم عند الله وعند الناس، بل هو خير لكم عند الله وعند المؤمنين، لأن الله يجعل ذلك كفارة لمن كذب عليه، وتطهيراً له، ويجعل له منه مخرجاً. ويروى أن الذي عني بالذين جاءوا بالإفك حسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش.

قال عبد الله بن عباس: عبد الله بن أبي بن سلول المنافق وهو الذي تولى كبره. والخطاب في هذه الآيات كلها لعائشة Bها وأهلها. وقوله تعالى: {لَّكُمْ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم}، يعني لكل واحد من الذين جاءوا بالإفك جزاء ما جاء به من الإفك. ثم قال: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، يعني والذي يحمل معظم الإثم، والإفك منهم وهو الذي بدأ بالخوض في ذلك. روي أنه حسان بن ثابت، وكان قد ذهب بصره في كبره.

وقالت عائشة Bها: لعل الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره في الدنيا، رحمة ورقة عليه Bها. وقيل: هو عبد الله بن أبيّ بن سلول، قال ابن عباس وابن زيد، ومجاهد، وهو ابتدأ الكلام في ذلك. وحديث الإفك طويل مشهور في أكثر الكتب فتركته لطوله واشتهاره.

12

قوله تعالى ذكره: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات}. هذه الآية عتاب " من الله تعالى لأهل الإيمان فيما وقع في أنفسهم من أمر عائشة، فالمعنى: هلا إذ سمعتم أيها المؤمنون ما قال أهل الإفك في عائشة، ظننتم خيراً بمن قذف، ولا تظنوا الفاحشة. قال ابن زيد معناه: هلا ظن المؤمن أن المؤمن لم يكن يفجر بأمه. ثم قال: {هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ}،، أي وقال المؤمنون: هذا الذي جاء به هؤلاء كذب ظاهر. ثم قال تعالى: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ}، أي هلا جاء هؤلاء المبطلون القائلون في عائشة الكذب بأربعة شهداء على تصحيح قولهم فيها، فإذ لم يأتوا بالشهداء على ما رموها به فأولئك عند الله هم الكاذبون فيما جاءوا به من الإفك. ثم قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، يعني الخائضين في الإفك. {لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، أي لعجل عليكم بالعقوبة، ولكن تفضل عليكم بتأخيرها، ورحمكم فقبل توبتكم من ذلك. ثم قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}، أي لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم

حين تتلقونه بألسنتكم، أي تتلقون الإفك: أي يأخذه بعضكم عن بعض، ويقبله منه. روي أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول: أو ما بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ لتشيع عليها الفاحشة. قال مجاهد: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} يرويه بعضكم عن بعض. وقرأت عائشة Bها: " إذ تلقونه " بكسر اللام وضم القاف مخففاً. يقال: ولق، يلق إذا أسرع في الكذب واشتقاقه من الولق، وهو الخفة والسرعة. وقوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي تقولون من الخبر الذي تروونه ولا تعلمون حقيقته ولا صحته. وقال {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً}، أي وتحسبون أن قول ذلك وروايتكم الكذب

16

والبهتان هيناً أي سهلاً، لا إثم فيه عليكم، وهو عند الله عظيم؛ لأنكم تؤذون به النبي A وحليلته. ولا يوقف على ذلك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} لأنه عامل في " إذ "، والوقف على {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ}. قال: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا}، أي هلا إذ سمعتم الإفك أيها الخائضون فيه قلتم: ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك أي تنزيهاً لك وبراءة لك من السوء، هذا القول بهتان عظيم. قال تعالى: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً}، أي يذكركم الله، وينهاكم بأي كتابه لئلا تعودوا لمثله، أي لمثل فعلكم في تلقيكم الإفك، وقبولكم له، وخوضكم فيه {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}، أي إن كنتم تتعظون بعظات الله وتأتمرون لأمره. قال: {وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} أي يبين ما تهلكون بوقوعكم فيه لتجتنبوه. {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، أي عليم بخلقه ومصالحهم، حكيم في تدبيره.

19

قال تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}،، أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا في الذين صدقوا الله ورسوله لهم عذاب مؤلم في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بعذاب النار إن مات مصراً على ذلك غير تائب منه. قال ابن زيد: عني به الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، هو أشاع على عائشة ما أشاع من الفرية. ثم قال تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، أي والله يعلم كذب الذين جاءوا بالإفك وأنتم أيها الناس لا تعلمون ذلك لأنكم لا تعلمون الغيب. وقيل: المعنى والله يعلم مقدار هذا الذنب، والمجازاة عليه، وأنتم لا تعلمون ذلك. أي ولولا أن الله تفضل عليكم أيها الناس ورحمكم لهلكتم فيما أفضتم فيه، ولكن الله ذو رأفة، ورحمة بخلقه فلم يعاجلكم بالعقوبة.

21

قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}، أي لا تسلكوا سبيل الشيطان وطرقه فتشيعوا الفاحشة في من لم يأتها. {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان}، أي من يسلك طرقه وسبله. {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر}، أي بالزنا والمنكر من القول. ثم قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ / وَرَحْمَتُهُ مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً}، أي يطهر من يشاء من خلقه. قال ابن عباس: {مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئاً من الشر يدفعه عن نفسه. وقال ابن زيد: " ما زكى " ما أسلم، قال: وكل شيء في القرآن زكى وتزكى فهو الإسلام. {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، أي سميع لما تقولون بألسنتكم وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من سائر الأمور.

22

وقال الكسائي: {مَا زكى مِنكُمْ}، جواب لولا الأولى والثانية. قال تعالى:: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى}، أي: ولا يحلف بالله ذو الفضل والجدة أن لايؤتوا أولي القربى. ويأتل: يفتعل من الآلية، وقرأ أبو جعفر، وزيد بن أسلم: يتأل على يفتعل من الآلية أيضاً، عني بذلك أبا بكر Bهـ حلف ألا ينفق على مسطح وهو ابن خالته، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً، وكان قد خاض في أمر الإفك مع من خاض فيه. ثم قال: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا}، أي لِيَعْفُ أبو بكر عما فعل مسطح من

الإشاعة في أمر عائشة، وليترك عقوبته على ذلك. ثم قال تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ}، أي ألا يحب أبو بكر أن يستر الله عليه ذنوبه {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قالت عائشة Bها: قال أبو بكر لما نزلت هذه الآية: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه. وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. وقال ابن عباس: معناها لا تقسموا ألا تنفعوا أبداً. وعن ابن عباس أن ناساً رموا عائشة بالقبيح، فأقسم ناس من

23

أصحاب النبي A منهم أبو بكر ألا يتصدقوا عليهم ولا يصلوهم، فنزلت الآية في ذلك فرجعوا إلى الصلة والصدقة هذا معنى قوله. وكذلك قال الضحاك: كان أبو بكر وغيره من المسلمين ينفقون كالأول فلذلك أتى الخطاب بلفظ الجماعة. وقد قيل: إن معنى {وَلاَ يَأْتَلِ}، لا يقصر، من قولهم ما ألوت في كذا أي ما قصرت، فيكون التقدير: ولا يقصر أولو الفضل عن أن يؤتوا أولي القربى، وعلى القول الأول: ولا يحلف بالله أولوا الفضل كراهة أن يؤتوا، ولئلا يؤتوا. قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات}، أي إن الذين يرمون بالفاحشة المحصنات، أي العفيفات الغافلات عن الفواحش، المؤمنات بالله ورسوله لعنوا في الدنيا والآخرة، أي أبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة.

{وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. قال ابن جبير: هذا في عائشة خاصة لأن الزنا أشد من قذف المحصنة وقد جعل الله في الزنا التوبة. وقال الضحاك: ذلك لأزواج النبي A كلهن خاصة. وقال ابن زيد: هو في عائشة، ولمن صنع ذلك اليوم في المسلمات فله مثل ذلك. وقال ابن عباس: هي في أزواج النبي A رماهن أهل النفاق فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي A ثم نزل

24

بعد ذلك: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ}، [النور: 4] إلى {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 5] فأنزل الله D الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل والشهادة ترد. فقول ابن عباس، والضحاك يوجب أن من قذف أزواج النبي A فهو ملعون في الدنيا والآخرة، ومن قذف غيرهن فهو فاسق. واختار النحاس أن يكون عاماً للمذكر والمؤنث والتقدير: والذين يرمون الأنفس المحصنات، فيدخل فيه المذكر والمؤنث، وإنما غلب المؤنث هنا لأنه إذا قذف امرأة فقد قذف معها رجلاً فاستغنى بذكر المرأة عن الرجل. أي ولهم عذاب عظيم في يوم تشهد عليهم جوارحهم بعملهم، يعني: يوم القيامة، وألسنتهم تشهد عليهم بعد الختم على أفواههم.

25

وقيل: إن ألسنة بعضهم تشهد على بعض. وقد روى الخدري أن النبي A قال: " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقول الله D: أتحلفون؟ فيحلفون ثم يصمتهم الله وتشهد ألسنتهم، ثم يدخلهم النار ". قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق}، أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بالحق يوفيهم الله في جزاءهم الحق على أعمالهم، والذين: الجزاء والحساب. ثم قال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين}، أي ويعلمون يومئذ أن الله هو الحق،

26

أي هو الذي يبين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، فمجازاة الكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاة المحسن بالفضل والإحسان. قال تعالى ذكره: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ}، الآية. قال ابن جبير، وعطاء، ومجاهد: معناها الكلمات الخبيثات للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من القول والطيبات من الكلام للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول. وتقديره: الكلمات الخبيثات لا يقولهن إلا الخبيث من الناس، والكلمات الطيبات لا يقولهن إلا الطيب من الناس، ودل على صحة هذا المعنى قوله: {أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي عائشة وصفوان بن المعطل مبرءون مما

يقول الخبيثون والخبيثات، وجمع وهما اثنان كما قال تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} يريد أخوين فأكثر وقيل: معناه الخبيثات من الكلام إنما يلصق بالخبيثين والخبيثات من الناس، لا بالطيبين والطيبات. وقيل: المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، قاله ابن زيد، قال: كان عبد الله بن أبيّ خبيثاً فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله A طيباً وكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة طيبة، فكانت أولى بأن يكون لها الطيب، ولذلك سميت عائشة بالطيبة. وقيل: سميت بالطيبة لأن الله طيبها لرسول الله A. روي أن جبريل عليه السلام أتاه بها في سرقة من حرير قبل أن تصور في

رحم أمها فقال له، هذه عائشة ابنة أبي بكر زوجتكها في الدنيا، وزوجتكها في الجنة. وقيل: إن هذه الآية مبنية على صدر السورة في قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3]، فبين في هذا أن الخبيثات وهن الزواني للخبيثين من الرجال، وهم الزناة، والخبيثون من الرجال وهم الزناة للخبيثات من النساء وهن الزواني وكذلك الطيبات المؤمنات العفائف للطيبين المؤمنين الأعفاء، فهذا مثل ما في أول السورة، ثم نسخ ذلك كله بما نسخ به ما في أول السورة، وقد مضى ذكره على الاختلاف المتقدم الذكر، وهذا كله هو يرجع إلى قول ابن زيد المذكور، فالمعنى على هذا نكاح الزواني للزناة، ونكاح الزناة للزواني، ونكاح العفائف للأعفاء، ونكاح الأعفاء للعفائف، ثم نسخ ذلك بقوله جل

27

ذكره: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] فهم جميع الأيامى. ثم قال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، أي لعائشة، وصفوان ستر من الله على ذنوبهما ولهم الجنة كذلك. قال قتادة: ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ}، الآية، يعني به البيوت التي لها أرباب، أمر المؤمنين ألا يدخلوها حتى يستأذنوا، ويسلموا على أربابها، ثم أعلمهم أن ليس عليهم جناح أن يدخلوا البيوت التي ليس لها أرباب ولا سكان بغير استئذان / هذا قول ابن جبير. وروي عن ابن عباس، وعكرمة أن الآية فيها تقديم وتأخير يعني: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، ثم استثنى البيوت التي على طرق الناس، والتي ينزلها

المسافرون فقال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} [النور: 29]، ومعنى متاع لكم أي منفعة لكم، ومنعة من الحر والبرد وغير ذلك. وعن ابن جبير أنه قال: أخطأ الكاتب إنما هو حتى تستأذنوا، وهذا القول منكر عند أهل العلم، لأن الله قد حفظ كتابه من الخطأ. ومعنى: حتى تستأنسوا: تستأذنوا، قاله عكرمة. وقال مجاهد: هو التنحنح والتنخم. وقال أهل اللغة: معنى تستأنسوا: تستعملوا، من قوله:

28

{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] أي إن علمتم. فالمعنى حتى تستعلموا أيؤذن لكم أم لا؟ ثم قال: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ}، أي الاستعلام، والسلام على أهل البيت خير لكم لأنكم لا تدرون لو دخلتموه بغير استئذان على ما تهجمون أعلى ما يسؤكم أم على ما يسركم؟ ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، أي لتذكروا بفعلكم ذلك أمر الله لكم فتطيعوه. قوله تعالى ذكره: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ}. أي فإن لم تجدوا في البيوت التي تستأذنون فيها أحداً يأذن لكم بالدخول فلا

29

تدخلوها، لأن دخولها لا يحل إلا بإذن أهلها، فإن قال لكم أهل البيوت: ارجعوا عنها فارجعوا ولا تدخلوها {هُوَ أزكى لَكُمْ}، أي الرجوع أزكى لكم: أي أطهر لكم عند الله. ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، أي بما تعملون من رجوعكم إذا قيل لكم ارجعوا، وطاعتكم لما أمركم به. ثم قال: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}، أي ليس عليكم إثم أن تدخلوا بيوتاً لا يسكنها أحد بغير استذان. قال محمد بن الحنفية: هي الخانات التي تكون في الطرق، والخانات: الفنادق. وقال قتادة: هي الخانات وبيوت أهل الأسفار.

وقال الضحاك: هي البيوت التي تكون في الطرق والخربة. وقوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}، أي منفعة للمسافرين في الشتاء والصيف يأوي إليها، وعن ابن الحنفية: أنها بيوت مكة. وقال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: هي الخرب، ومعنى {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ}، يعني الخلاء، والبول، والاستتار فيها. وقال ابن زيد: هي البيوت التجار فيها أمتعة الناس يعني الحوانيت والتي في القياسير. وتحقيق الآية: لا حرج على من دخل بيتاً لا ساكن له، ولا دافع عنه من غير أن يستأذن، فبيوت التجار مملوكة لهم لا يحسن دخولها إلا بإذنهم إلا أن يكون قد

30

علم منهم أنهم إنما فتحوها ليدخل عليهم فلا يستأذن، لأن فعلهم كالإذن. ثم قال: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}، أي ما تظهرون من الاستئذان على أهل البيوت المسكونة {وَمَا تَكْتُمُونَ}، أي ما تضمرون في صدوركم عند فعلكم ذلك؛ أطاعة الله تريدون أو غير ذلك. قال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، أي يكفوا عن نظر ما لا يحل لهم والنظر إليه {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}، أن يراها من لا يحل له أن يراها، أي يلبسوا ما يسترها عن أبصارهم. وقيل لا يستمتعون إلا لمن يحل لهم من زوجة أو ملك يمين. ولما كان استعمال الفرج فيما لا يحل منهياً عنه، لم تدخل " من " فلم يقل ويحفظوا من فروجهم، ولما كانت النظرة الأولى لا تملك، قال: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فدخلت " من " للتبعيض. وروي عن النبي A أنه قال: " إن من خير عين تنشر يوم القيامة عين رجل من بني إسرائيل، بينما هو قائم يصلي نظر إلى امرأة بإحدى عينيه، فهوى إلى الأرض فأخذ عوداً ففقأ به العين التي نظر بها إلى المرأة ". ثم قال: {ذلك أزكى لَهُمْ}، أي حفظها، وغض أبصارهم أطهر

31

لهم عند الله، {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، أي ذو خبر بما يصنعون مما أمركم به من غض البصر، وحفظ الفرج. قال أبو العالية: كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا في هذه الآية، يريد أنه إنما أمروا أن يستروا فروجهم لئلا يراها من لا يحل له رؤيتها. قال: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}، يعني التستر. قال ابن عباس: يغضوا من أبصارهم عن سوآتهم. قال ابن زيد: يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له، إذا رأى ما لا يحل

له، غض بصره، ولا ينظر إليه، ولا يستطيع أحد أن يغض بصره كله، إنما قال: " يغضوا من أبصارهم "، يريد أن النظرة الأولى لا يقدر أحد أن يملكها، فالنهي إنما وقع على النظرة بعد النظرة الأولى، ولذلك قال: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولم يقل: يغضوا أبصارهم؛ لأن النظرة الأولى لا يقدر على الكف عنها، لأنها فجأة. قال بعض العلماء: حرم الله على المسلمين نصاً أن يدخلوا الحمام بغير مئزر. وأجمع المسلمون أن السوءتين عورة من الرجل، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها، فإنهم اختلفوا فيهما. وأكثر أهل العلم: على أن من سرة الرجل إلى ركبته عورة، لا يجوز أن ترى. و" سأل جرير بن عبد الله النبي A عن نظرة الفجأة، فقال: اصرف

بصرك، لأنه لو لم يصرف بصره لكان تاركاً لما أمره الله به، ناظراً اختياراً ". وروي عن النبي A أنه قال لعلي بن أبي طالب يا علي: " إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة ". وروي عن أم سلمة: زوج النبي عليه السلام: أنها قالت: " استأذن ابن أم مكثوم، وأنا وعائشة عند النبي عليه السلام، فقال لنا:

احتجبن فقلنا: أو ليس بأعمى لا يبصرنا، فقال: أفَعَمْيَاوَانِ أنتما ". قال أبو محمد: وهذه الآية تضمنت خمسة وعشرين ضميراً بين مرفوع ومخفوض، كلها تعود على المؤمنات، أولها الضمير المرفوع في {يَغْضُضْنَ} وآخرها الضمير المخفوض في قوله تعالى: {مِن زِينَتِهِنَّ} ولا أعلم لهذه الآية نظيراً في القرآن في كثرة ضمائرها فاعلمه. ثم قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أي ولا يظهرن لمن ليس بذي محرم زينتهن في بيوتهن، كالخلخال، والسوارين، والقُرْطِ، والقلادة. ثم قال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.

قال ابن مسعود: هي زينة الثياب، وكذلك قال النخعي، والحسن. وقال ابن عباس: هو الكحل، والخاتم. وقال ابن جبير: هو الوجه والكف. وقال عطاء: الكفان والوجه. وقال قتادة: الكحل، والسوار، والخاتم.

وعن ابن عباس أنه قال: الزينة الظاهرة الوجه، وكحل العين، وخضاب الكف، والخاتم، قال: فهذا ما تظهر في بيتها لمن دخل عليها من الناس. وقالت عائشة Bها: هو القُلْبُ والفَتْحَة، يعني السوار والخاتم. وقيل: الفتحة حَلَقٌ من فضة، تجعلها النساء في أصابعهن. وقول من قال: هو الوجه والكفان أحسنها، لأن العلماء قد أجمعوا أن للمرأة أن تكشف وجهها، وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك. وقد روي عن النبي A: " أنه أباح لها أن تبدي من ذراعيها إلى قرب النصف "، فالكحل، والخاتم، والخضاب، والبنان داخل تحت هذا، فإذا كان لها ذلك مباحاً في الصلاة علم أنها ليس بعورة، وإذا لم يكن عورة جاز لها إظهاره، كما أن ما ليس بعورة من الرجل جائز له إظهاره، فيكون هذا مما استثناه الله جل ذكره.

ثم قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}، أي وليلقين خمرهن، وهو جمع خمار على جيوبهن، ليسترن شعورهن وأعناقهن. ثم قال تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}، وما بعد ذلك من القرابة، يعني الزينة التي هي غير ظاهرة كالخلخال والدملج والقرط، وما أمرت أن تغطيه بخمارها من فوق الجيب، وما وراء ما أبيح لها كشفه وإبرازه في الصلاة للأجنبيين من الناس، من الذراعين إلى ما فوق ذلك /. وقال قتادة: يبدين لهؤلاء الرأس. قال ابن عباس: الذي يبدين لهؤلاء هو قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالاها ومعضداها، ونحرها وشعرها، فإنه لا تبديه إلا لزوجها.

وقال ابن مسعود: أي هو الطوق والقرطان. وقيل: معنى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}، أي ليغط شعرها وصدرها وتوائبها، وكلما زين وجهها، ومعنى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ}، ومن بعدهم أي لا يضعن جلابيبهن، وهي المقانع التي فوق الخمار، إلا لهؤلاء المذكورين. وقوله: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني بذلك نساء المسلمين، يعني المؤمنات منهن. قاله ابن جريج، قال: ولا يحل لمسلمة أن تري مشركة عورتها، إلا أن تكون لها، فذلك قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة

ابن الجراح Bهما " أما بعد فإنه بلغني، أن نساء يدخلن الحمامات/ معهن نساء أهل الكتاب، فامنع ذلك وحل دونه "، ثم إن أبا عبيدة قام في ذلك المقام متبتلاً، فقال: اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة، ولا سقم، تريد البياض لزوجها، فسود وجهها يوم تبيض الوجوه. وقوله تعالى ذكره: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، يعني الماليك، لها أن تبدي له من الزينة، ما تبدي لغيره من ذوي المحارم، وهو قول عائشة وأم سلمة جعلنا العبد بمنزلة ذي المحرم في هذه الآية، فلا يحل له أن يتزوج سيدته، وهو في ملكها، لأنه ما دام مملوكاً فهو بمنزلة (ذوي المحارم)، وهذا هو قوله: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} [النور: 58].

وقيل: إنه ليس للعبد أن يرى منها إلا ما يرى الأجنبي. قال ابن عباس: لا ينظر عبدها إلى شعرها ولا إلى نحرها وهو مذهب: ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، فأما الخلخالان عند ابن عباس فلا ينظر إليه إلا الزوج، فيكون التقدير على هذا القول الثاني: أو ما ملكت أيمانهن غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة ثم حذف. وقيل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}، إنما هو للإماء خاصة. قال ابن المسيب. وقيل: للصغار خاصة. وقوله: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال}، أي والذين يتبعونكم لطعام يأكلونه عندكم ممن لا أرب له في النساء من الرجال. قال قتادة: " هو الرجل يتبعك ليصيب من طعامك ".

وقال ابن عباس: هو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء، وقاله الزهري. قال مجاهد: هو الذي يريد الطعام ولا يريد النساء، ولا يهمه إلا بطنه ولا يخاف منه على النساء. وقالت عائشة Bها: كان رجل يدخل على أزواج النبي A، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل عليه النبي يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، فقال: إنها إذا أقبلتْ بأربع، وإذا أدبرتْ أدبرتْ بثمان، فقال النبي A لأرى هذا يعلم ما ها هنا، لا يدخلن عليكم

فحجبوه. وقال عكرمة: " غير أولي الإربة "، هو المخنث، الذي لا يقوم له: يريد العنين. وقيل: هو الشيخ الهرم، والخنثى، والمعتوه، والطفل، والعنّين. والإربة والأرب: الحاجة. ومن نصب غيراً نصبه على الحال. وقيل: على الاستثناء، ومن خفضه جعله نعتاً للتابعين. وقوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء}، أي الذين لم يكشفوا عن هورات النساء لجماعهن فتطلعوا عليها.

قال مجاهد: الذين لم يدروأ ما هي من الصغر قبل الحلم، وقيل: لم يظهروا: لم يطيقوا ذلك، كما يقال: ظهر فلان على فلان: أي قدر عليه وغلبه. والطفل هنا بمعنى الأطفال، دل على ذلك نعته بالذين. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، أي لا يجعلن في أرجلهن من الحلي ما إذا مشين أو حركنهن علم الناس ما يخفين من ذلك. قال ابن عباس: هو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال أو يكون في رجليها خلاخل فتحركهن عند الرجال / فنهى الله جل ثناؤه عن ذلك لأنه من عمل الشيطان. وقال السدي: عن أبي مالك: كانت المرأة تلبس

في رجليها الخلاخل، وتمر على المجلس، فتضرب برجليها ليسمع صوت خلاخلها، فنزلت هذه الآية في ذلك. وعن ابن عباس أنه قال: لا تضرب إحدى رجليها بالأخرى ليقرع الخلخال الخلخال فيظهر صوته. ثم قال: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون}، أي ارجعوا إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر، وحفظ الفرج، وترك دخول بيوت غيركم إلا بعد الاستئذان، وغير ذلك من أمره ونهيه. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لعلكم تدركون طلباتكم عنده بالنجاة والبقاء في النعيم. روى ابن مسعود أن النبي A قال: " الندم على الدنيا توبة ". وروى ابن مسعود: أن النبي عليه السلام قال: " لله أفرح بتوبة عبده إذا

32

تاب إليه من رجل ضلت منه راحلته بداوية قفر عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا جهده الطلب، قال: أرجع فأموت في موضع رحلي، فجاء موضع رحله فوضع رأسه فبينما هو كذلك، إذا هو براحلته عليها طعامه، وشرابه عند رأسه ". قوله تعالى ذكره: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ}، إلى قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وزوجوا أيها المؤمنون الأيامى منكم، أي من لا زوج لها من المسلمات الحرائر، ومن لا زوجة له من الرجال، وأهل الصلاح من عبيدكم، ومن مملوكاتكم. والأيامى جمع أيم مشبهة بيتيمة ويتامى، يقال: أيم وأيامى، وأيايم، وأيام مثل: جيد وجياد. والإيم عند أهل اللغة: من لا زوج لها كانت بكراً أو ثيباً. حكى ذلك أبو عمرو والكسائي وغيرهما، وهو قول مالك وغيره. يقال: رجل أيم، وامرأة أيم وأيمة: إذا لم يكن لواحد منهما زوج.

وقرأ الحسن: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ} وعبيد اسم للجمع. وروى عكرمة عن ابن عباس: أنه قال: من كانت له جارية فلم يصبها، أو لم يزوجها، أو كان له عبد فلم يزوجه، فما صنعا من فاحشة فإثم ذلك على السيد. وهذا يدل على أن الآية على الحتم والأمر للسادة بذلك. ثم قال تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}، أي إن يكن هؤلاء الذين أمرتم بإنكاحهم ذوي فاقة، وفقر يغنهم الله من فضله، فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم. وقال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}. وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح، يقول الله سبحانه:

33

{إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}. ويروى عن عمر أنه قال: عجبت لامرئ كيف لا يرغب في الباءة، والله يقول: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ}. وقيل: معنى الآية: يغنهم الله من فضله بالنكاح، وكذلك: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] أي بالنكاح يعني بالتزويج، لأنه لم يجعل كل زوج مقصوراً على زوج أبداً. وقوله تعالى: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، أي واسع الفضل يغني من يشاء من فضله عليم بمصالح خلقه وأعمالهم. قوله تعالى ذكره: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً}. أي وليمتنع عن الحرام الذين لا يجدون ما ينكحون حتى يوسع الله

عليهم من فضله، فالنكاح في هذا الموضع: اسم لما ينكح به من المهر، والنفقة فسمي ما ينكح به نكاح، كما قيل: لما يلتحف به كاف ولما يرتدي به رداء، ولما يلبس لباس. ثم قال: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، هذا ندب ندب الله عباده إليه ومعنى {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إن علمتم فيهم مقدرة على التكسب لأداء ما كتب عليه مع القيام بما يلزمه من أمر نفسه، ومع إقامة / فروضهم، فالمكاتبة معلومة ما هي، وولاء المكاتب لمن كاتبه. وقد قال ابن جريج: فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم فيه خيراً، إذا سأله العبد ذلك، وقال عطاء، وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وهو

اختيار الطبري لأن ظاهر الآية الأمر بالمكاتبة، وأمر الله فرض، إلا أن يدل على أنه ندب إجماع أو سنة. ومذهب أهل المدينة مالك وأصحابه: أنه ندب من غير فرض. وقال الثوري: لا يجير السيد على المكاتبة. وكره ابن عمر أن يُكَاتَبَ العبد إذا لم تكن له حرفة وقال: تطعمني أوساخ أيدي الناس. قال ابن عباس: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، أي إن علمتم أن لهم حيلة لا يُلقون مؤنتهم على الناس. وقال مالك: إنه ليقال: الخير القوة والأداء، وهو قول ابن زيد.

وقال الحسن: معناه: إن علمتم فيهم صدقاً، ووفاء وأداء الأمانة. وقال مجاهد وطاوس: مالاً وأمانة. وعن ابن مسعود: الخير إقامة الصلاة، وكذا قال ابن سيرين، وعبيدة. وقال مالك: الخير القوة على الأداء، وقال أبو صالح وعطاء: إن علمت فيهم خيراً لنفسك يؤدي إليك، ويصدقك ما حدثك فكاتبه. وقال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن جريج: معناه: إن علمتم

لهم مالاً. ويقال: إن هذه الآية نزلت في صبيح القبطي مملوك الحاطب بن أبي بلتعة، وكان صالحاً، ثم هي عامة لجميع المسلمين. قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ}، يعني هبوبهم من مال الكتابة. قال علي بن أبي طالب: ربع الكتابة يحطها عنه.

وقال ابن عباس: ضعوا عنهم مما قاطعنموهم عليه، وكان ابن عمر: يضع عن المكاتب في آخر كتابته ما شاء، وهو قوله مالك. وقال النخعي: هو أمر للمسلمين أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم يتقوون بها على أداء الكتابة، وهو قوله: (في الصدقات وفي الرقاب). وقيل: إن قوله: " وآتوهم " ترغيب لكل الناس من الموالي وغيرهم حضهم الله أن يعطوا المكاتبين من صدقاتهم ليتقووا بها على أداء كتابتهم. وقيل: هو خطاب لغير الموالي المخاطبين بالمكاتبة رغّب الناس أن يعطوهم من زكواتهم، والضميران مختلفان بمنزلة قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] هو خطاب للأولياء، وصدر الكلام خطاب

للأزواج. وقال ابن زيد: ذلك من الزكاة. ثم قال: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء}، أي: الزنا {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: تعففاً {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا}، أي: ليكسبن لكم من زنائهن. وقيل قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} متعلق بقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ * إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً}. ويقال: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، كانت له جاريتا: معاذة وزينب، وكانتا تردان عليه خرجاً من زنائهما، قبل أن يسلما، فلما دخلتا في الإسلام، امتنعتا من الزنا فكان يكرههما على الزنا، فنهى الله عن ذلك، وأعلم المكره إنه له غفور رحيم.

وقوله: {وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، ومعاذة هذه أم خولة، وخولة هي التي جادلت رسول الله A في زوجها، وفي ذلك نزل: {قَدْ سَمِعَ الله} [المجادلة: 1] الآية. ويروى أن عبد الله بن أبي: أمر جاريته أن تزني فجاءته ببرد، فأمرها أن تعود إلى الزنا، فأنزل الله جل ذكره: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء} الآية. وقال جابر: كانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها مسيكة، وكان يأمرها بالبغاء لتكسب له فنهى الله عن ذلك. قال مجاهد: معناه: فإن الله للمكرهات من بعد إكراههن غفور رحيم. وقيل إن معاذة وزينب جاريتا عبد الله بن أبي لما أسلمتا أتيا إلى النبي عليه السلام، فشكتا إليه أن مولاهما يكرههما على الزنا فنزلت الآية في ذلك.

34

ومن قال: إن {فَكَاتِبُوهُمْ} ندب، و {وَآتُوهُمْ} حتم، وقف على {خَيْراً} ثم ابتدأ بالحتم بعد / تقدم الندب، لأنه ليس بمعطوف عليه لاختلاف معنييهما، وهذا قول الشافعي. قال: المكاتبة: ندب، ويجير السيد أن يضع عن عبده من المكاتبة. ومن قال: هما واجبان لم يقف إلا على {آتَاكُمْ} لأن الثاني معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً: عنده الحتم. ومن قال: كلاهما ندب لم يقف أيضاً إلا على {آتَاكُمْ} لأن الثاني أيضاً معطوف على الأول إذ معناهما جميعاً الندب وهو مذهب مالك والثوري. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}، من كسر الياء من {مُّبَيِّنَاتٍ}.

فمعناه موضحات للأحكام والشرائع، لدلالة قوله: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} [التوبة: 64] فأضاف الفعل إلى السورة، والبيان في الحقيقة إلى الله جل ذكره، ولكن أضيف إلى السورة وإلى الآيات لعلم السامعين بالمراد، فمن كسر الياء جعل الآيات فاعلات، وأما من فتح الياء، فمعناه مفصلات، كما قال تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]، ويدل على صحة قوله {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118]، فهي الآن مبينة، فالله جل ذكره هو الذي بينها كما قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118] فمنه فتح الياء جعل الآيات مفعولاً بها والفاعل هو الله، لأنه تعالى بيّنها وأظهرها، والكسر يدل على أن الايات فاعلات أي بينات لكم الأحكام والفرائض، والفاعل هو الله في المعنى في القراءة بالكسر على ما ذكرنا فافهم. والمعنى: ولقد أنزلنا إليكم دلالات وعلامات مفصلات أو موضحات، على ما تقدم من الفتح والكسر.

35

وقوله تعالى ذكره: {مَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ}، أي مضوا قبلكم من الأمم. {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} أي لمن اتقى الله فخاف عقابه. قال تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض}. قال أبو محمد: قد كثر الاختلاف في معنى هذه الآية ونحن نذكر ما بلغنا فيها. قيل: المعنى: الله ذو السماوات والأرض مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقيل: معناه: الله هادي أهل السماوات والأرض قاله ابن عباس ثم استأنف فقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الآية، أي مثل هداه في قلب المؤمن كالكوة التي هي غير نافذة. {فِيهَا مِصْبَاحٌ} وذلك المصباح في زجاجة، الزجاجة صافية اللون كالكوكب الدري، يوقد ذلك المصباح من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء من غير نار لصفاه، الكوة التي هي غير نافذة أجمع للضوء فيها إذا كان فيها المصباح، والمصباح إذا كان في زجاجة كان أظهر

لضوئه، فإن كانت الزجاجة صافية اللون كان ذلك أظهر للضياء، وإذا كان الزيت الذي فيها صافياً، كان أظهر وأكثر للضوء، فذلك كله مبالغة للضياء والنور، فكذلك الهدى في قلب المؤمن. ومعنى هذا القول مروي: عن ابن عباس فهو مثل ضربه الله لنور الهدى والإيمان في قلب المؤمن. وعن ابن عباس أيضاً، وعن مجاهد: {الله نُورُ السماوات والأرض}، أي مدبرهما: شمسهما وقمرهما ونجومهما. وقال أبي بن كعب: بدأ الله بنوره وذكره، ثم ذكر نور المؤمن في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ}.

وقيل المعنى: مثل ما أنار الله من الحق بهذا التنزيل كمشكاة على هذه الصفة، فالهاء في نوره تعود على الله جل ذكره أي مثل هداه في قلب المؤمن وهو القرآن. والتقدير: الله هادي أهل السماوات بآياته البينات، مثل هداه وآياته التي هدى الله بها خلقه في قلوب المؤمنين، كنور هذا المصباح الموصوف بهذه الصفات. وهو قول ابن عباس الذي تقدم ذكره. وقال: كعب الأحبار: النور هنا لمحمد، والهاء لمحمد عليه السلام والمعنى: مثل نور محمد A كمشكاة، وكذلك روي عن ابن جبير. فيكون المعنى: الله هادي أهل السماوات والأرض ثم استأنف فقال: مثل نور محمد إذا كان مستودعاً في الأصلاب كمشكاة هذه صفتها، والمصباح عني به قلب محمد A، شبه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة. {المصباح / فِي زُجَاجَةٍ}، يعني قلبه في صدره كأنها كوكب دري أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان والحكمة، {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} يعني به الزهرة

{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، أي استنار نور محمد من نور إبراهيم، فإبراهيم هو الشجرة المباركة ومحمد عليه السلام على ملته ودينة، فمنه استنار ثم مثل الله. إبراهيم فقال: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي إن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب، فهو في الضياء مثل هذه الزيتونة التي لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا إذا طلعت فزيتها على هذا أطيب، وأصفى وأضوى. وهذا التفسير قد روي من طرق وغيره أشهر وأكثر، وقد ذكرناه ونذكره أيضاً فيما بعد إن شاء الله. وقال زيد بن أسلم والحسن: الهاء لله والتقدير: الله نور السماوات والأرض مثل نوره، ونوره القرآن أي مثل هذا القرآن في القلب كمشكاة هذه صفتها.

وعن ابن عباس: إن النور هنا الطاعة سمى طاعته نوراً. وقيل: الهاء تعود على المؤمن أي مثل نور المؤمن والذي في قلبه من الإيمان، والقرآن كمشكاة، قاله: أبي بن كعب. وقال ابن جبير والضحاك: {مَثَلُ نُورِهِ}، مثل نور المؤمن كمشكاة والمشكاة كل كوة لا منفذ لها. وقيل: هو مثل ضربه الله لقلب محمد عليه السلام. قال كعب الأحبار: المصباح قلب محمد في زجاجة الزجاجة صدره كأنها كوكب دري، شبه صدر النبي عليه السلام بالكوكب الدري، ثم

رجع في المصباح إلى قلبه فقال: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي لم يمسها شمس المشرق، ولا شمس المغرب {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء}، أي يكاد محمد A يتميز للناس، ولو لم يتكلم، أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم يتمسه نار {نُّورٌ على نُورٍ}. وقال ابن عباس: المشكاة كوة البيت. وقال آخرون: عني بالمشكاة صدر المؤمن، والمصباح القرآن والإيمان والزجاجة قلبه. وهذا المثل ضربه الله للمؤمنين. هذا قول أبي بن كعب. قال أبيّ: جعل القرآن والإيمان في صدر المؤمن كمشكاة، فالمشكاة صدره {فِيهَا مِصْبَاحٌ} المصباح القرآن والإيمان اللذان جعلا في صدره. {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، قال: فالزجاجة قلبه فيه القرآن والإيمان {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} قال: فمثل ما استنار فيه من القرآن والإيمان كأنه كوكب دري أي مضيء

{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، فالشجرة المباركة أصله وهو الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي مثله كمثل شجرة التفت بها شجرة، فهي ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد ابتلي بها فثبته الله فيها فهو بين أربع خلال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات. ثم قال تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ}، فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة: إلى الجنة. وقال ابن عباس: {مَثَلُ نُورِهِ} مثل هدى الله في قلب المؤمن.

وقال قتادة: مثل نور الله في قلب المؤمن، فالهاء في نوره تعود على الله والنور معنى الهدى. وقيل: تعود على المؤمن. وقيل: على محمد عليه السلام. وقد مضى هذا. قال القتبي: هو مثل ضربه الله تعالى لقلب المؤمن، وما أودعه من الإيمان والقرآن من نوره، لكنه بنفسه فقال: {الله نُورُ السماوات والأرض}، أي بنوره يهتدي من في السماوات والأرض. ثم قال {مَثَلُ نُورِهِ}، يعني مثل نور المؤمن. وقيل: معناه: مثل نور الله في قلب المؤمن ونور الله الإيمان به. وكان أبيّ يقرأ (مثل نور المؤمن) وقد مضى أكثر هذا، فالمعنى على قول ابن

عباس وغيره: الله هادي أهل السموات وأهل الأرض إلى أمور دينهم ومصالحهم / والكلام فيه توسع ومجاز لأنه قد علم أن الله لا يكون نوراً ولا ضياء ولا من جنس النور ولا الضياء، لأن النور والضياء مخاوقان لله جل ذكره، ومعنى {مَثَلُ نُورِهِ} أي صفة هدى الله للمؤمنين في قلوبهم. وهذا يدل على أن معنى {الله نُورُ السماوات والأرض}، أي هاديهن وليس الله هو النور لأنه قد شبه النور المذكور بالمشكاة الموصوفة، والله لا يشبهه شيء، ولا يُشَبَّه بشيء، فنوره إنما هو هداه ودلالة خلقه إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم، فإنما شبه هداه لخلقه بما يعقلون من المشكاة فيها المصباح الذي هو في زجاجة، تلك الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد بزيت من شجرة صفتها كذا، وذلك كله مبالغة في صفة هدى الله عباده.

وقوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}. قال قتادة: " لا يفيء عليها ظل الشرق ولا ظل الغرب ضاحية، وذلك أصفى للزيت كأنه يقول: إن الشمس ى تفارقها ". وقال الحسن: ليست من شجر الدنيا. وعن ابن عباس ومجاهد: أنه مثل للمؤمن، غير أن المصباح وما فيه مثل فؤاد المؤمن، والمشكاة مثل الجوف. وقال الحسن: معناه مثل القرآن في قلب المؤمن كمشكاة هذه صفتها. وقال ابن زيد: {مَثَلُ نُورِهِ}، نور القرآن الذي أنزله الله على رسوله، فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره، ويعملون به، ويأخذون به، وهو لا ينقص. فهذا مثل ضربه الله لنوره. وقال مجاهد: المشكاة القنديل.

وقيل: هو الحديد الذي يعلق فيه القنديل: قال أيضاً مجاهد: واختار الطبري أن يكون هذا المثل، مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به، فقال: الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد - الذي أنزله إليهم فآمنوا به، في قلوب المؤمنين - مثل مشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو نظير الكوة التي تكون في الحيطان التي لا منفذ لها، وإنما جعل ذلك العمود مشكاة لأنه غير نافذ وهو أجوف مفتوح إلى الأعلى، وهو كالكوة في الحائط التي لا تنفذ. ثم قال: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}، وهو السراج، والمصباح، مثل لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات. ثم قال: {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، يعني إن السراج الذي في المشكاة، في القنديل وهو الزجاجة وذلك مثل القرآن، يقول: القرآن الذي في قلب المؤمن الذي أنار الله به قلبه في صدره، ثم مثل الصدر في خلوصه من الكفر بالله والشك فيه،

واستنارته، بنور القرآن بالكوكب الدري، فقال: {الزجاجة} وذلك صدر المؤمن الذي فيه قلبه {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} ومعنى قراءة من قرأ {دُرِّيٌّ} بالتشديد وضم الدال أنه نسبه إلى الدر ومعناه: أن فضل هذا الكوكب في النور على سائر الكواكب كفضل الدر على سائر الحَبّ، ومن قرأ دِرئ بكسر الدال والمد والهمز جعله من إندرأ الحريق إذا اندفع. وحكى الأخفش سعيد: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا. وقيل: هو فعيل من درأت لأن معناه يدفع ويرجم به الشياطين.

وأنكر أبو عبيدة هذه القراءة إن كانت من درأت إذا دفعت وضعفها لأن الكواكب كلها تندفع فلا فضل لأحدهما على الآخر فلا فائدة في وصفه له بالاندفاع لأنها كلها تندفع. فأما قراءة من قرأ بضم الدال والمد والهمز، فقد أنكرها جماعة، إذ ليس في الكلام. فُعَيلٌ، وقد جوزها أبو عبيدة وقال: هو فعول مثل سيوح، وأصله درؤ وأبدلوا من الواو ياء كما قالوا: عني. وأنكر هذا القول على أبي عبيدة لأِنه لا يشبع عتي إن كان جمع عات، فالبدل فيه لازم لأن الجمع باب تغيير والواو لا يكون طرفاً في الأسماء وقبلها ضمة، فاعتلاله لازم، فإن كان عتياً مصدراً فيجب قلب الواو لأنها ظرف في فعول وليست الواو في دري / إذا جعل أصله دروي ظرفاً فلا يشتبهان، ووجه هذه القراءة، عند بعض النحويين أنه فعيل كَمُريق، على أن مُريقاً أعجمي، فلا يجب أن يحتج به. والكوكب الذي شبه بالزجاجة، هو الزهرة قال الضحاك. ومن قرأ {يُوقَدُ} على تفعل جعله فعلاً ماضياً خبراً عن المصباح.

وقيل، خبراً عن الكوكب. ومن قرأ بالياء، على يفعل جعله فعلا مستقبلاً لم يسم فاعله راجعاً إلى المصباح. ومن قرأ بالتاء على تفعل جعله فعلاً لم يسم فاعله مستقبلاً أيضاً راجعاً على الزجاجة لأنها أقرب إليه، فلما كان الاتقاد فيها جاز أن توصف هي به لعلم السامعين بالمعنى، كما قالوا: ليل نائم، وسر كاتم، وقد نام ليلك، كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] فوصف اليوم بالعصوف والعصوف للريح، لكن لما كان الريح في اليوم جعل وصفاً لليوم لعلم السامعين بالمعنى وهو كثير في كلام العرب. وأنشد الفراء: " يومين غيمين، ويوماً شمساً " ... فجعل الغيمين وصفاً لليومين لأنهما في اليومين يكونان، فكذلك وصف الزجاجة بأنها توقد لأن الإيقاد فيها يكون.

ومعنى قوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ}، أي توقد من دهن شجرة. وقوله: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}. قال ابن عباس: لا شرقية بغير غرب ولا غربية بغير شرق. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة في الأرض، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه تمثل بالنور. وقال أبو مالك: لا يصيبها الشمس وقت الشرق ولا وقت الغرب ولكنها بين شجر في فجوة من ذلك فهي في ظل أبداً قد سترها ما حولها من الشجر. وقيل إنها يصيبها الشمس عند الشروق وعند الغروب، ولم تخلص للشروق فيقال لها شرقية، ولا للغروب فيقال لها غربية، ولكنها قد جمعتهما كما يقال: فلان لا أبيض ولا أسود إذا كان فيه بياض وسواد، ويقال: هذا لا حلو ولا حامض أي لم

يخلص له أحد الطعمين، فهذا قول مختار وهو معنى قول ابن عباس المتقدم. وقال عكرمة: لا تخلو من الشمس وقت الغروب والشروق، وذلك أصفى لذهنها وهذا موافق لمذهب ابن عباس أيضاً. وعن مجاهد أنه قال: لا يُكنها جبل ولا وادي. وقال قتادة: هي شجرة بارزة للمشس. وقال الضحاك: لا تصيبها الشمس، وعنه مثل قول قتادة. وعن مجاهد أيضاً أنه قال: هي شجرة تكون فوق جبل تطلع عليها الشمس وتغرب عليها. وقال القتبي: المعنى أنها: ليست بارزة للمشس، لا يصيبها الظل فيقال لها شرقية، وليست في الظل لا تصيبها الشمس فيقال لها غربية. وقال الطبري: معناه: ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالغداة، من الشرق دون العشي، ولا غربية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب، فهي شرقية غربية، وهذا أيضاً قول ابن عباس

بعينه وهو قول عكرمة. وقوله: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، قال الطبري: معناه أن هذا القرآن من عند الله، وأنه كلامه، فجعل مثله ومثل كونه من عنده، مثل المصباح الذي يوقد من الشجرة المباركة التي وصفها بعده. وقوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء} يعني أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر. وقوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ}، أي ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً، فأنزل القرآن إليهم منبهاً لهم على توحيده، فكيف وقد نبههم وذكرهم بآياته فزادهم حجة إلى حجة عندهم قبل ذلك. فذلك بيان من الله جل ذكره ونور على البيان. وقوله: {نُّورٌ على نُورٍ} النور الأول النار، والثاني الزيت الذي يكاد يضيء من صفاه قبل أن تمسه النار، قاله مجاهد. قال: الطبري: هو مثل للقرآن، أي هذا القرآن نور من عند الله أنزله على خلقه يستضيئون به.

وقوله {على نُورٍ} يعني / الحجج والبيان الذي نصبه الله لهم مما يدل على وحدانيته قبل مجيء القرآن. قال ابن زيد: {نُّورٌ على نُورٍ}، يضيء بعضه بعضاً يعني القرآن. قوله: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ}، أي يوفق الله لاتباع نوره وهو القرآن من يشاء من عباده. ثم قال: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ}، أي ويمثل الله الأمثال للناس، يعني به ما مثل لهم من مثل القرآن في قلب المؤمن، بالمصباح في المشكاة، وسائر ما في الآية من الأمثال. ثم قال: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ}، أي عليم بالأشياء كلها، ومن قال: {مَثَلُ نُورِهِ} أي نور المؤمن جاز له أن يقف على {الله نُورُ السماوات والأرض}، ومن قال المعنى: مثل نور الله لم يقف إلا على مصباح {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، تمام، {دُرِّيٌّ} تمام {تَمْسَسْهُ نَارٌ}، تمام [للناس]، قطع. و [عليم]،

تمام إن جعلت في " بيوت " متعلقاً بيسبح. فإن جعلته على قول ابن زيد متعلقاً بقوله: {فِيهَا مِصْبَاحٌ}، لم تقف إلى {عَلَيِمٌ} وكذلك إن جعلته متعلقاً {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وهو قول الطبري. وكذلك إن جعلته حالاً مما تقدم لم تقف على {عَلَيِمٌ} وهو قول: أحمد بن يحيى. وفي هذه الآية، قول غريب منه ما يوافق ما تقدم، ومنه ما يخالف. ذكره الدمياطي في تفسيره وهو أن قوله {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور محمد عليه السلام إذ كان مستودعاً في صلب عبد المطلب كمشكاة يعني كوة غير نافذة على لغة الحبش، {فِيهَا مِصْبَاحٌ} يعني قلب النبي، ضبهه بالمصباح في ضيائه ونوره لما فيه من الحكمة والإيمان. {المصباح فِي زُجَاجَةٍ}، يعني قلبه في صدره {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ}، أي صدره في صفاه ونوره لما فيه من الإيمان

36

والحكمة {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} يعني الزهرة. {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، أي استنار نور محمد من نور إبراهيم، فإبراهيم هو الشجرة المباركة، ومحمد عليه السلام على ملته ودينه، فمنه استنار، ثم مثل إبراهيم فقال: {زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي إن إبراهيم لم يكن يصلي إلى المشرق ولا إلى المغرب فهو في الضياء مثل هذه الزيتونة التي لا تصيبها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، فزيتها أضوى وأطيب. وقيل معنى {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}، أي إن إبراهيم لا يهودي ولا نصراني بل هو حنيف مسلم. وهذا التفسير مخالف في أكثره لجميع ما قدمناه. والله أعلم بحقيقة ذلك، فهذا ما وصل إلينا في تفسير هذه الآية، والله أعلم بصحة معناها وبما أراد فيها. قوله تعالى ذكره: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}. أي الله نور السماوات والأرض مثل نوره أي نور القرآن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}

{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} فيكون قوله: {فِي بُيُوتٍ} ظرف للمصباح ويتعلق به فيكون على قول ابن زيد: يسبح له فيها: من صفة البيوت. وقيل: المعنى {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ} {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} فيكون متعلقاً {يُوقَدُ} ويسبح أيضاً وما بعده صفة للبيوت. وقيل: المعنى كمشكاة في بيوت، فيسبح أيضاً وما بعده صفة، فلا يقف على هذه الأقوال على ما قبل {فِي بُيُوتٍ} وقيل: المعنى: يسبح له رجال في بيوت فتقف على هذا على ما قبل {فِي بُيُوتٍ}. قال ابن عباس وأبو صاح، ومجاهد، والحسن، وابن زيد: هي المساجد.

قال ابن عباس: نهي عن اللغو فيها. وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله A يقولون: المساجد بيوت الله، وأنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وقال عكرمة: هي البيوت كلها. وقال: الحسن: يعني به بيت المقدس. وعن مجاهد أنه قال: هي بيوت النبي A. وقيل: في الكلام معنى الإغراء والمعنى: صلوا في بيوت أذن الله أن ترفع أي يرفع قدرها وتصان وتجل، وأذن الله أن يذكر فيها اسمه، وهي المساجد. وروى ابن زيد / عن أبيه أن النبي A قال: " ما من أحد يغدو أو يروح إلى

المسجد يؤثره على ما سواه، إلا وله عند الله منزلاً يعد له في الجنة، كلما غدا وراح، كما أن رجلاً منكم لو زاره من يحب زيارته لاجتهد في كرامته ". وقوله: {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ}، قال مجاهد: ترفع: تبنى. وقال الحسن: ترفع: تعظم لذكره وتصان. وقول مجاهد أولى لقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وإسماعيل} [البقرة: 127]، أي يبنيان. وقوله: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} أي وأذن لعباده أن يذكروا فيها اسمه. قال ابن عباس: {يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [البقرة: 114]، أي يتلى فيها كتابه.

ثم قال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}، أي: يصلي لله في هذه البيوت بالغدوات والعشيات رجال، يعني صلاة الصبح، وصلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة. وعن ابن عباس: أن كل تسبيح في القرآن فهو صلاة. قال الحسن: أذن أن تبنى يصلى له فيها بالغدو والآصال. وواحد الآصال: أُصُلٌ وواحد الأُصُل أصيل، والآصال: جمع الجمع. وذكر ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عباس أنه قال: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله D وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال}. كأن ابن عباس جعل تسبيح الغدو صلاة الضحى.

37

قال: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}، أي: لا يُشغلهم عن صلاتهم في هذه المساجد شيء. ونظر سالم بن عبد الله إلى قوم من أهل السوق، قاموا وتركوا أشغالهم يريدون الصلاة فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}. وذكر الله هنا: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس وغيره. قال عطاء: {عَن ذِكْرِ الله}، أي: عن حضور الصلاة المكتوبة. وعن عبد الله بن عمر، وعن ابن مسعود مثل قول سالم بن عبد الله. في القائمين عن أشغالهم إلى الصلاة.

وروت أسماء بنت يزيد الأنصارية أن رسول الله A قال: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة نادى مناد يسمع الخلائق كلهم سيعلم الله الجمع من أولى بالكرم اليوم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} الآية قال: فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانت {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}، إلى قوله: {الأبصار} قال: فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون وهم قليل. قال: ثم يحاسب سائر الناس ". وروى أبو هريرة أن النبي A قال في هذه الآية: " هم الذين يضربون في

الأرض يبتغون من فضل الله. ثم قال: {وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة} "، أي: ولا يلهيهم شيء عن إقامة الصلاة عند مواقيتها، وعن أداء الزكاة عند وقتها. وإقام مصدر أقمت وأصله إقواماً، ثم قلبت الواو ألفاً، فاجتمع ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي إقاماً فدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، فصارت إقامة، فلما أضيف المصدر: قالم المضاف إليه مقام الهاء التي دخلت عوضاً من الألف المحذوفة فإذا اضفت هذا المصدر جاز حذف الهاء، لأن المضاف إليه يقوم مقامها. ألا ترى أنك تقول: وعدته عدة فتثبت الهاء لأمها عوضاً من الفاء، فإن أضفته جاز حذف الهاء. قال الشاعر: إن الخليط أَجَدُّوا البين فانجردوا ... واخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا يريد عدة الأمر.

وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله جل ذكره، والإخلاص، وكذلك عنده {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} وقوله {يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} [مريم: 55] وقوله: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} [مريم: 31]، وقوله: {مَا زكى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: 21]، وقوله: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 164]، وقوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً} [مريم: 13]، هذا كله ونحوه عنده. عني به الطاعة لله والإخلاص. / ثم قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار}، أي: تعرف القلوب فيه الأمر عياناً ويقيناً، فتنقلب عما كانت عليه من الشك والكفر إلى اليقين، ويزداد المسلمون يقيناً، ويكشف عن الأبصار غظاؤها فتنظر الحق، ومثله {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]، وقيل: المعنى. تتقلب فيه

38

القلوب من هوله بين طمع بالنجاة، وحذر من الهلاك، وتنقلب الأبصار في نظرها، أي ناحية يؤخذ بهم لذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يوتون كتابهم، أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة. وقيل: معناه تنقلب في النار من حال إلى حال، ومن عذاب إلى عذاب مرة إنضاج، ومرة إحراق، ومرة لَفْح. وقيل: هو تقلبها على جمر جهنم، كما قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [الأحزاب: 66]، وكما قال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، أي: نقلبها في النار. قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ}، أي وأطاعوا، وعملوا ما تقدم ذكره خوف عقاب الله ولكي يثيبهم يوم القيامة بأحسن أعمالهم في الدنيا،

39

ولكي يزيدهم من ثوابه ومن فضله. {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي يتفضل على من يشاء بما لم يستحقه من ثواب عمله بغير محسبة، ولا يوقف على {الآصال} لأن رجالاً مرفوعون بيسبح، فأما على قراءة من قرأ يسبح على ما لم يسم فاعله، فيقف على {الآصال} لأن رجالاً عند سيبويه: مرفوعون بإضمار فعل، كأنه قيل: من يسبحه؟ فقيل: يسبحه رجال. ومن رفع رجالاً على هذه القراءة بالابتداء، و {فِي بُيُوتٍ} الخبر لم يقف على {الآصال}. قال تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ}، هذا مثال ضربه الله لأعمال الكفار، أي والذين جحدوا آيات الله، أعمالهم التي عملوها في الدنيا مثل سراب. والسراب ما لصق بالأرض وذلك يكون نصف النهار، وحين يشتد

الحر. وإذا أري من بعد ظن أنه ماء. والآل ما رأيت أول النهار وآخره الذي يرفع كل شيء. وقوله {بِقِيعَةٍ} هو جمع قاع، كالجيرة: جمع جار، هذا قول الفراء. وقال: أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، والقاع والقيعة ما انبسط من الأرض، ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب. و {يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً}، أي يحسب العطشان ذلك السراب ماء حتى إذا جاء السراب ليشرب منه لم يجده شيئاً. وقيل: المعنى: جاء موضع السراب لأن السراب ليس بشيء، وكذلك الكافر بالله، عمله يحسب أنه ينجيه عند الله من عذابه. حتى إذا هلك وجاء وقت حاجته إلى عمله لم يجده شيئاً يفعله إذا كان على كفر بالله. ثم قال: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ}، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على

عمله بالمرصاد، فوفاه حساب عمله وجازاه عليه. هذا معنى قول ابن عباس وأبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد. فالضمير في لم يجده و {جَآءَهُ} للظمآن، والضمير في {وَجَدَ} للكافر الذي ضرب الله مثلاً بالظمآن. فالمعنى أن الكافر يأتي يوم القيامة أحوج ما كان إلى عمله فلا يجد شيئاً، كهذا الظمآن يأتي إلى السراب الذي يظنه ماء أحوج ما كان إليه لشدة عطشه فلا يجد شيئاً. وقوله {والله سَرِيعُ الحساب}، أي لا يحتاج إلى عقد عند حساب، هو عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وإنما، سماه حساباً لأنه أعطاه جزاء عمله على قدر ما استحقه.

40

وقال {سَرِيعُ الحساب}، لأن محاسبته لعبد وإعطاءه جزاء عمله لا يشغله عن محاسبة غيره من عبيده، لأنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن. قوله تعالى ذكره: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} [39]، إلى قوله (لَعِبْرَةً) (لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [42]. الكاف في {كَظُلُمَاتٍ}، في موضع / رفع عطف على الكاف في {كَسَرَابٍ}، والكاف في {كَسَرَابٍ}، في موضع رفع خبر الابتداء، وهو أعمالهم. وقيل: التقدير أو هي كظلمات، فتقف على هذا القول على ما قبل {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} ولا تقف على القول الأول لأنه معطوف على ما قبله. وهنا مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ، وفساد،

وضلالة من، فأعمالهم مثل ظلمات في بحر لجي، أي عميق كثير الماء، ولجة البحر معظمه ووسطه. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، أي يغشى البحر موج، من فوق ذلك الموج موج، من فوق ذلك الموج سحاب. {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ}، فالظلمات مثل لأعمال الكفار، والبحر اللجي مثل لقلب الكافر، أي عمله بنية قلب قد غمره الجهل، وغشيته الضلالة والحيرة. كما يغشى هذا البحر موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب الكافر الذي عملُه كالظلمات يغشاه الجهل بالله، إذ الله ختم عليه، فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه، فلا يسمع مواعظ الله، وعلى بصره غشاوة، فلا يبصر حجج الله، فتلك الظلمات بعضها فوق بعض. قال: ابن عباس: الظلمات: الأعمال، والبحر اللجي: قلب الإنسان. وقوله:

{يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، إلى {فَوْقَ بَعْضٍ}، يعني به الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر. وقال أبي بن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومدخله ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة في النار، فأعلمنا الله بهذه الآيات أمثال المؤمنين وأعمالهم، وأمثال الكفار وأعمالهم، وأن المؤمن يجد عمله عند الله فيجازيه عليه، ويزيده تفضلاً، وأن الكافر لا يجد شيئاً إذ لم يكن معه توحيد تقبل الأعمال معه. ولا تقف على {يَغْشَاهُ مَوْجٌ}، لأن {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ}، نعت له، وكذا {مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ}، لا تقف عليه لأن {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ}،

نعت له، وتقف على {سَحَابٌ} على قراءة من رفع " سحاباً " و " ظلمات " وإن كسرت التاء، وأضفت سحاباً إلى ظلمات لم تقف على سحاب لأنه مضاف إلى الظلمات، فإن نونت وكسرتها، لم تقف على سحاب أيضاً، لأن ظلمات بدل من ظلمات الأول. ثم قال تعالى: {إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، أي إذا أخرج الناظر يده من هذه الظلمات التي وصفت لم يكد يراها، أي رآها بعد تعب وشدة. رؤية خفية، فإن قيل: كيف رآها مع هذه الظلمات المتضاعفة، فالجواب: أنه كقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة أي ما رأيتك إلا بعد نظر وشدة، وتعب، فكذلك هذا. وقيل: المعنى إذا أخرج يده رائياً لها لم يكد يراها، أي لم يقرب من أن

41

يراها، فهو لم يراها من شدة الظلمة. وقيل: المعنى: إذا أخرج يده لم يراها، ويكد داخل كدخول الظل فيما معناه اليقين كقوله تعالى: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} [فصلت: 48]. وقيل: المعنى لم يرها ولم يكد أي لم يقرب من الرؤية لشدة الظلمة. ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}، أي من لم يرزقه الله إيماناً وهدى من الضلالة، ومعرفة بكتابه فما له من هدى ولا إيمان ولا معرفة. وقال الزجاج: ذلك في الدنيا: أي من لم يجعل الله له هداية إلى الإسلام في الدنيا لم يهتد. وغيره يتأوله في الآخرة، أي من لم يجعل الله له نوراً إلى الجنة، والنور الإيمان بالله. قال تعالى ذكره: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ}،

أي أَلَم يا محمد بعين قلبك أن الله يصلي له من في السماوات والأرض من مَلَكٍ، وإنس، وجن، والطير صافات أيضاً في الهواء تسبح لله، كل قد علم الله صلاته وتسبيحه، فال مجاهد: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من الخلق. وقيل: المعنى كل قد علم صلاة الله. أي الصلاة التي فرض الله وتسبيح الله. وقوله: {والله عَلِيمٌ / بِمَا يَفْعَلُونَ}، يدل على قوة قول من قال: معناه: قد علم الله صلاته وتسبيحه. وإظهار اسم الله في {والله عَلِيمٌ}، يدل على قول كون الضمير في الموضعين لغير الله، إذ لو كان لله لم يظهر الاسم، لتقدم ذكره في قوله تعالى: {أَنَّ الله يُسَبِّحُ}، وكان يلزم أن يكون " وهو عليم ". وإنما يجوز في هذا لأن المعنى لا يشكل، فلا يظن فيه أن الثاني غير الأول، وهو مثل: " لا أرى الموت يسبق الموت شيء ".

وقيل: معنى التسبيح من الخلق كلهم، في هذا هو أن ما في الخلق من الدلالة على قدرة الله، تنزيه له من كل سوء، ومن أن يعبد غيره، وليس هو تسبيح على الحقيقة، إذ لو كانت الطير تسبح على الحقيقة لكانت مكلفة بالطاعة، ولكانت بمنزلة العقلاء من الناس المكلفين، فهو مجاز في ما لا يعقل. والقول الأول عليه أكثر الناس. ومعنى {عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، أي هو ذو علم بما يفعل كل مصل ومسبح منهم، لا يخفى عليه شيء. وتقف على {تَسْبِيحَهُ}، إذا جعلت الضمير يعود على المصلي والمسبح، ثم تبتدئ {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، وإن جعلت الضمير يعود على الله أو جعلت الضمير في علم الله، لم تقف إلا على {يَفْعَلُونَ} لأن الاسم قد ظهر وهو أفخم عند سيبويه من إضماره في مثل هذا المعنى لا يشكل.

42

قال تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: له سلطانهما وملكهما دون كل من هو دونه من سلطان ومَلِكٍ. ثم قال: {وإلى الله المصير}، أي: الله مرجعكم بعد موتكم فيوفيكم أجور أعمالكم فأحسنوا العمل تدركوا الأمل. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، يزجي يسوق السحاب حيث يريد {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ}، أي: يؤلف قطعه أي يلصق بعضها إلى بعض ويقربها، لأن السحاب يحدث قطعاً، قطعاً. وقيل: معناه يؤلف متفرقة لأن السحاب جمع سحابة. وقال عبيد بن عمر: " الرياح أربع: يبعث الله الريح الأولى: فَتَقُمُّ

الأرض قَمّاً، ثم يبعث الثانية فتنشئه سحاباً، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً، أي متراكماً بعضه على بعض، ثم يبعث الرابعة فتمطره، والودق المطر ". ومعنى: {مِنْ خِلاَلِهِ}، أي: من بين السحاب، والهاء من {خِلاَلِهِ} تعود على السحاب والخلال جمع خَلَلٍ. وقرأ ابن عباس، والضحاك: من خلَلِه بالتوحيد لأنه مثل: جمل وجمال: ثم قال تعالى ذكره: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ}، فمن يرد صفة للجبال، كما يقول: أعطيتك من طعام من بُرٍٍّ، فالجبال هي من برد مخلوقة، وفيها صفة أيضاً لجبال، كأنه قال: وينزل من السماء من جبال مستقرة في السماء مخلوقة من برد. وقيل: المعنى: وينزل من السماء قدر جبال أو أمثال جبال، من برد إلى الأرض.

فيكون {مِن بَرَدٍ}، في موضع نصب على البيان كقوله: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} [المائدة: 95]. وقال الزجاج: معناه وينزل من السماء من جبال من برد فيها. كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، أي خاتم حديد في يدي وإنما جئت في (هذا) وفي الآية بـ (من) لما فرقت، ولأنك إذا قلت: هذا خاتم من حديد، وخاتم حديد، كان المعنى واحداً، ويجوز أن يكون من برد في موضع نصب كما تقول: مررت بخاتم حديداً على الحال عند سبيويه. وعلى البيان عند المبرد، وإن شئت كان في موضع خفض على البدل كما تقول: مررت بخاتم حديد على البدل. وقيل: التقدير من جبال برد يتنوينهما، قاله الفراء. كما تقول: الإنسان من لحم ودم، والإنسان لحم ودم، فالجبال عنده هي البرد وليست الآية كالتمثيل الذي مثل، لأن حرف العطف في التمثيل وليس في الآية حرف عطف.

وذهب الأخفش إلى أن من زائدة فيهما، ومن جبال، ومن برد في موضع نصب عنده. وقوله: {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ}، أي: فيصيب بالبرد من يشاء فيهلكه أو يهلك به زرعه، ويصرفه عن من يشاء أي عن إهلاك من يشاء. ثم قال: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ}، أي: ضوؤه يذهب بالأبصار لشدة لمعانه. وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع: {يَذْهَبُ بالأبصار}، بالضم وخطأه / الأخفش، وأبو حاتم لأن " الباء " تعاقب الهمزة. وقيل: إن " جوازه " على زيادة الباء.

44

وقيل: الباء متعلقة بالمصدر. والتقدير: يذهب إذهابه بالأبصار. وكذلك أجازوا أُدِخِلَ بالمُدْخَلِ " السجن " الدار فجمعوا بين الهمزة والباء على أن يتعلق الباء بالمصدر. وهو قول علي بن سلمان عن المبرد. ثم قال: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار}، أي: يقلب من هذا في هذا، ومن هذا في هذا. وقيل: معناه يعقب بينهما: إذا ذهب هذا أتى هذا، فيقلب موضع الليل نهاراً وموضع النهار ليلاً. ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}، أي: إن في إنشاء السحاب، ونزول المطر والبرد، وتقليب الليل والنهار لعبرة لمن اعتبر، والكاف من ذلك خطاب للنبي A. قوله تعالى ذكره: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ}، إلى قوله: {أولئك هُمُ الظالمون}، معناه: والله خلق كا ما يدب من نطفة، فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات، ومنهم من يمشي على رجلين: كبني آدم، والطير، ومنهم من يمشي على أربع كالبهائم.

وجاز أن تأتي {مَّن} هنا لأنه لما خلط من يعقل لمن لا يعقل غَلَّبَ ما يعقل فقوله: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ}، قد يدخل فيه الناس وغيرهم من البهائم ولذلك قال: " فمنهم " ولم يقل: فمنها ولا منهن. {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ}، أي: يحدث من يشاء من الخلق {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ثم قال تعالى: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}، أي: علامات واضحات دالات على طريق الحق. وقوله: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ}، أي: يرشد من يشاء من خلقه إلى دين الإسلام وهو الطريق المستقيم. وقوله: {على أَرْبَعٍ}، تمام. قوله مبينات، قطع حسن. ثم قال: {وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا}، أي: ويقول المنافقون: صدقنا بالله وبالرسول وأطعناهما. {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك}، أي: ثم تُدْبِرُ طائفة منهم من بعد قولهم وإقرارهم بالإيمان.

ثم قال تعالى: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين}، أي: ليس قائلو هذه المقالة بمؤمنين. {مِّن بَعْدِ ذلك} قطع. ثم قال تعالى: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، يعني هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى كتاب الله، وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ}، أي: يعرضون عن قبول الحق. ثم قال تعالى: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ}، أي: إن يكن لهؤلاء المنافقين حق قِبَلَ الذين يدعونهم إلى كتاب الله يأتون إلى رسول الله منقادين لحكمه طائعين غير مكرهين. يقال: أذعن فلان بالحق إذا أقر به طائعاً. قال مجاهد: مذعنين سراعاً.

51

وقال عطاء: هم قريش. ثم قال: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا}، أي: أشكّوا في رسول الله أنه نبي ورسول فيأبوا الإتيان إليه أم يخافون أن يحيف الله عليهم، أن يجور عليهم بحكمه فيهم ومعناه: أن يحيف رسول الله، ولكن بدأ باسمه جل ذكره تعظيماً. كما يقال: قد أعتقك الله ثم أعتقك، وما شاء الله ثم شئت. ويدل على ذلك قوله: {لِيَحْكُمَ}، ولم يقل ليحكما. ثم قال: {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون}، أي: لم يخافوا أن يحيف رسول الله عليهم فيتخلفون عنه لذلك، بل تخلفوا لأنهم قوم ظالمون لأنفسهم بخلافهم أمر ربهم. قوله تعالى ذكره: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين}. قرأ الحسن {قَوْلَ} بالرفع على اسم كان، وهذه الآية تأديب للمؤمنين ليسارعوا إلى طاعة الله ورسوله إذا دعوا إلى حكم. ولفظه لفظ الخبر ومعناه التحضيض أن يفعل المؤمنون كذلك. وقوله: {وأولئك هُمُ المفلحون}، معناه المدركون طلباتهم بفعلهم. ثم

53

قال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ}. قال ابن أبي كُريمة: معناه من يطع الله فيوحده، ورسوله فيصدقه، ويخش الله فيما مضى من ذنوبه، ويتقه فيما بقي من عمره فأولئك هم الفائزون. الفوز في اللغة: النجاة، والفلاح: البقاء في النعيم. وقيل: المعنى: من يطع الله فيما أمره به، ونهاه عنه ويسلم لحكمه له / وعليه، ويخشى عاقبة معصية الله، ويتق عذاب الله، فأولئك هم الفائزون أي الناجون من عذاب الله. قال: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ}، أي: وحلف هؤلاء المعرضون عن حكم الله ورسوله إذا دعوا إليه: جهد أيمانهم، أي: أغلظ

أيمانهم وأشدها لئن أمرتهم يا محمد بالخروج إلى الجهاد ليخرجن. قل لهم يا محمد: لا تقسموا أي لا تحلفوا هذه طاعة معروفة بينكم فيها التكذيب. وقيل: المعنى لا تحلفوا طاعة معروفة أمثل: من قسمكم. وقال مجاهد: معنى طاعة معروفة: أي قد عرفت طاعتكم أي أنكم تكذبون. ثم قال: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، من طاعتكم له ولرسوله وخلاف أمرهما وغير ذلك من أموركم. وأجاز الزجاج: {طَاعَةٌ} بالنصب على المصدر {لاَّ تُقْسِمُواْ}، تمام. ثم قال: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}، أي: قل يا محمد لهؤلاء المقسمين ليخرجن

معك إذا أمرتهم: أطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعوا الرسول {فَإِن تَوَلَّوْاْ}، يصلح أن يكون ماضياً، ومستقبلاً، ولكن هو هنا مستقبلاً بدليل قوله: {عَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ}، ولو كان ماضياً لقال: عليهم ما حملوا. ومعنى: " عليكم ما حملتم " أي عليكم ما أمركم به الرسول. وعليه ما حمل أي ما كلف من التبليغ. ثم قال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ}، أي: إن تطيعوا الرسول فيما أمركم به، ونهاكم عنه: تهتدوا أي ترشدوا وتصيبوا الحق {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين}، أي: ليس على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلغهم رسالات الله بلاغاً بيناً، ويفهمهم ما أراد الله منهم فيما أرسله به إليهم.

55

قوله تعالى ذكره: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ}. أي وعد الله المؤمنين منك أيها الناس، وعملوا الأعمال الصالحات {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} قيل: أرض المشركين بعد النبي. فأخبر الله نبيه ووعده أنه سيمكن من آمن به من ملك أرض العدو، وأنه سيستخلفهم في تلك آمنين، فكان ما وعد به، وهذا من أدل ما يكون على صحة نبوة محمد عليه السلام لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون، فكان كما أخبر A، فلا يكون ذلك إِلا عن وحي من الله إليه بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا الإخبار من متخرص يصيب ويخطئ، ويصيب بعضاً ويخطئ في بعض لأنه قد كان كل ما وعدهم به، لم يمتنع منه

شيء، والمتخرص يقع خبره كذباً في أكثر أقواله، وربما وافق بعض ما أخبر به، وأخطأ في بعض، ولا يصيب المتخرص في كل ما وعد به، فلما كان كل ما أخبر به النبي A لم يمتنع منه شيء علمنا أنه بوحى، والوحي لا يكون إلا للنبي والرسول الصادق في أخباره، فكان في ذلك دلالة على نبوة محمد عليه السلام. لأن الله تعالى ذكره قد أنجز له وعده. وفيها دلالة على خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي Bهم، وعلى أمانتهم، لأنه لم يستخلف بعد رسول الله أحد ممن خوطب بهذه الآية غيرهم. لأن هذه الآية نزلت قبل فتح مكة. وقال النبي A: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " وهذا موافق للآية ومعنى: {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ}، عني به بنو إسرائيل إذ أهلك

الله الجبابرة بالشام وجعلهم ملوكها وسكانها، فدل ذلك أن الله هو الذي استخلفهم في الأرض، وبأمره صاروا خلفاء وأئمة، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئاً. ثم قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ}، أي: ليوطنن لهم دينهم وهو الإسلام الذي ارتضاه لهم وأمرهم به، وإنما جاء {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} في جواب {وَعَدَ} لأن الوعد قول فصار بمنزلة: قال لهم: ليستخلفنهم. ثم قال: {يَعْبُدُونَنِي}، أي: يخضعون لي بالطاعة، لا يشركون في عبادتهم في الأوثان والأصنام، و " يعبدون ": حال أي وعدهم في هذه الحال، ويجوز أن يكون مستأنفاً على الثناء عليهم. ويروى أن بعض أصحاب النبي عليه السلام شكى إليه ما هم فيه من العدو، وتضييقه عليهم، وشدة الخوف، وما يلقون من الأذى / فنزلت هذه الآية بالوعد الجميل لهم. فأنجزه الله لهم، وملكهم ما وعدهم وأظهرهم على عدوهم.

56

قال أبو العالية: مكث النبي عليه السلام عشر سنين خائفاً، يدعو إلى الله سراً وجهراً ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها واصحابه خائفين يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع هنا السلاح. فقال النبي A كلمة معناها: لا تَغْبُرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبياً ليس بيده حديدة، فأنزل الله هذه الآية. وقوله: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك}، أي: من كفر بالنعمة لا بالله قاله: أبو العالية. قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة}، أي: بحدودها {وَآتُواْ الزكاة}، يعني التي فرض الله {وَأَطِيعُواْ الرسول}، يعني فيما أمر به ونهى عنه

57

{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، أي: لعل ربكم يرحمكم، ولعل من الله خبر واجب يفعله بفضله. قال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض}، من قرأه بالياء فالمفعول الأول لحسب محذوف على قول الفراء. والتقدير لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين. وقال علي بن سليمان: {الذين كَفَرُواْ}، في موضع نصب. والتقدير لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين. ويجوز أن يكون المعنى: لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين. فأما من قرأ بالتاء فهو الأمر الظاهر، والنبي عليه السلام هو المخاطب، وهو الفاعل، و {الذين كَفَرُواْ}، في موضع نصب. و {مُعْجِزِينَ}، مفعول ثان. ومعنى الآية لا تحسبن يا محمد الذين كفروا

58

معجزين في الأرض إذا أراد الله هلاكهم، وتم الكلام على الأرض. ثم ابتدأ بخبر آخر عن عاقبة أمرهم، فقال: {ومأواهم النار}. قيل: هو معطوف على محذوف تقديره: بل هم تحت القدرة ومأواهم النار بعد هلاكهم. {وَلَبِئْسَ المصير} أي: بئس الذي يصيرون إليه. قال: {يا أيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم}. قال ابن عمر: هي محكمة. ودل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، يعني البالغين، أي يستأذن هؤلاء الأطفال إذا بلغوا على كل حال، كما استأذن البالغون في كل وقت، يعني من الرجال خاصة. وقيل: عني به من مَلَكْتَهُ من الرجال والنساء ألا يدخل عليك في هذه الثلاثة الأوقات إلا بإذن. وقوله: {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ}، يعني من لم يحتلم من الأحرار.

ثم قال: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ}، أي: في ثلاث مرات، يعني: بالمرات ثلاث أوقات. ثم بين الثلاث أوقات متى هن فقال: {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر}، إلى قوله: {صلاة العشآء}، ولو حُمِلَ الكلام على ظاهره لوجب ألا يدخل إلا بعد استئذان ثلاث مرات، وليس الأمر كذلك إنما هو إذن واحد. قال ابن عباس: إن الله رفيق حليم رحيم بالمؤمنين يحب السترة عليهم، وكان القوم ليس لهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم والولد واليتيم على الرجل، وهو مع أهله في حال جماع، فأمر الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات الثلاث، ثم جاء الله باليسر وبسط في الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وعنه أنه قال: الآية محكمة،

والعمل بها لازم، ولكن الناس لا يعملون بها. وقيل: إنما أمروا بالاستئذان لأنها أوقات يُتجرد فيها من الثياب، وتنكشف العورات، ودلت الآية على أن البالغين من ذوي المحارم عليهم الاستئذان في هذه الأوقات، وفي غيرها، وهؤلاء المذكورون في الآية إنما يستأذنون في هذه الأوقات خاصة. وقال ابن المسيب: هي منسوخة: لا يُعمل بها اليوم. يعني أن الأبواب قد صنعت، والستور قد منعت من دخول هؤلاء وغيرهم على الإنسان، ودل على ذلك ما قال ابن عباس. قال ابن عباس: جاء الله باليسر، وبسط الرزق فاتخذ الناس الستور والحجال، فرأى الناس ذلك قد كفاهم من الاستيذان الذي أمروا به. فكأنها على هذا القول ندب. ثم قال: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}، من نصب ثلاث رده على ثلاث مرات.

وقيل: هو ظرف / والتقدير أوقات ثلاث عورات، والرفع على الابتداء وما بعده الخبر، والعورات الساعات التي تكون فيها العورة، والخلوة سميت عورة لكون ظهور العورة فيها، كما قالوا: ليلك نائم: لكون النوم فيه. وقيل: التقدير: ثلاث أوقات ظهور عورات. ثم قال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، أي: ليس عليكم معشر أهل البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء، والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار إثم في الدخول عليكم بغير استئذان بعد الأوقات. وهذا يدل على أن على الموالي من الاستئذان في الدخول على العبيد في هذه الأوقات، مثل ما على العبيد. لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}، أي: بعد هذه الأوقات في الدخول حرج. ويدل عليه أيضاً قوله: {طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ}، أي: يطوفون عليهم، كما يطوفون عليكم في هذه الأوقات، فعليكم من الاستئذان مثل ما عليهم. لكن خص الله الموالي بالخطاب والذكر، لأنهم هم الذين عرفت لهم الخدمة من عبيدهم. ثم قال تعالى: {طوافون عَلَيْكُمْ}، أي: هؤلاء المماليك والصبيان الصغار: طوافون عليكم: أي يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن. وقوله: {بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ}، أي: يطوف بعضكم على بعض في سوى هذه

59

الأوقات الثلاثة. ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات}، أي: كما بين لكم أوقات الاستئذان كذلك يبين لكم جميع أعلامه، وأدلته {والله عَلِيمٌ}، أي: ذو علم بمصالح عباده، حكيم في تدبيره إياهم. ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ}، أي: إذا بلغ الأطفال من أولادكم وأقربائكم الحلم فليستأذنوا أي إذا أرادوا الدخول عليكم في كل الأوقات. {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني البالغين. وقيل: يعني الكبار من ولد الرجل وأقربائه الأحرار. قال ابن عباس: أما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله، إلا بإذن على كل حال. وهو معنى الآية {وَإِذَا بَلَغَ}. وقال عطاء: واجب على الناس كلهم إذا بلغوا الحلم أن يستأذنوا على من كان من الناس. وقال الزهري وابن المسيب: يستأذن الرجل على أمه. ثم قال: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} معناه كالأول.

60

قوله: {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} قال يعقوب: هو تمام. وقال غيره: التمام العشاء. لأن ما بعد مرات تبيين لها، فأما من قرأ {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ}، بالنصب فلا يكون الوقت على قوله إلا ثلاث عورات لكم، (وبعدهن) تمام. قوله تعالى: {والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً}. أي: واللواتي قعدن من النساء عن التزويج وعن الولد من الكبر، ولا يرجون نكاحاً، ولا يرغب في نكاح مثلهن، فلا إثم عليهن، أن يضعن القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء عند أولي المحارم من الرجال غير متبرجات بزينة. خفف الله تعالى عنهن في وضع ثيابهن، إذ لا يرغب في النظر إليهن الرجال، ولا في نكاحهن، والنظر إلى شعورهن وما هو عورة منهن، لا يجوز لأحد فعله بمثل الشابة. وإنما خفف الله تعالى ذلك عنها ولم يبح للرجال النظر إلى شيء من

61

عوراتهن من شعر وغيره، وإن كن لا يرغب في نكاحهن. واحدتهن قاعد بغير هاء وحذفت الهاء عند البصريين على النسبة. وقال الكوفيون: لما كان لا يقع إلا لمؤنث حذفت الهاء. وقيل: حذفت منه الهاء ليفرق بينه وبين القاعدة التي هي الجالسة. وقوله تعالى: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ}، أي: ألا يضعن ذلك خير لهن. وقال مجاهد: معناه: أن يلبسن جلابيبهن فلا يضعنه خير لهن: {والله سَمِيعٌ}، أي: يسمع ما تنطق ألسنتهم عليم بما تضمره صدورهم. قال: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ}، الآية. هذه الآية نزلت ترخيصاً للمسلمين أن يأكلوا مع العميان والعرج /

والمرضى، وأن يأكلوا في بيوت غيرهم، وعلى بمعنى " في " وذلك أنهم تحرجوا من ذلك لما نزلت {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل}، قاله ابن عباس. وقال الضحاك: كان أهل المدينة قبل النبي A لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا أعرج، ولا مريض على طريق التقزز. وقيل: على طريق التحرج. لأن المريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج المحتبس لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله تعالى إباحة ذلك في هذه الآية. وقيل: نزلت ترخيصاً لأهل الزمانة في الأكل من بيوت من سمى الله في

هذه الآية. لأن قوماً من أصحاب النبي A كانوا إذا لم يكن عندهم في بيوتهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو بعض من سمى الله، وكان أهل الزمانة يتحرجون أن يطعموا ذلك الطعام، قال ذلك مجاهد. وقيل: نزلت ترخيصاً لأهل الزمانة أن يأكلوا من بيوت من خلفهم في بيوته من الغزاة. وكان الغزاة يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك. قاله الزهري. وقيل: بل عني بذلك الجهاد، أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد. ثم ابتدأ كلاماً آخر فقال: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ}، قاله ابن زيد. وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27]،

فإذا فرض عليهم ألا يدخلوا حتى يستأذنوا، فالدخول والأكل آكد ألا يفعل إلا بعد إذن، ولا يأكل حتى يدخل، وقد فرض عليه ألا يدخل إذا لم يجد فيها أحداً، فالأكل ممتنع لامتناع الدخول فهو ناسخ له. قال ابن زيد في قوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ}، الآية. هذا شيء قد انقطع ونسخ؛ إنما كان هذا في أول الإسلام، ولم تكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت ولا أحد فيه، وهو جائع فيجد طعاماً فسوغه الله أن يأكله، وقد ذهب ذلك، اليوم البيوت فيها أهلها وإذا خرجوا أغلقوها ولا يحل لأحد أن يفتح باب أحد، فليأكل متاعه بإجماع. وأكثر أهل النظر على أن الآية منسوخة بقوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188]، وبقوله: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]

وبقول النبي A: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه ". وقيل: نزلت ترخيصاً لمن كان يتقي مؤاكلة الزمنى. فالآية على قول ابن زيد: منسوخة، وهي ناسخة لتحرجهم عن الأكل مع الزمنى على قول ابن عباس المتقدم، وهو قول جماعة من أهل العلم. وقوله {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}، يعني وكيل الرجل وقيِّمه في ضيعته أنه لا بأس أن يأكل من الثمر ونحوه. قال ابن عباس. قال أبو عبيد: هذا كله إنما هو بعد الإذن لأن الناس توقفوا أن يأكلوا

لأحد شيئاً بإذن أو بغير إذن لما نزلت: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [البقرة: 188]. وقيل: عني به منزل الرجل نفسه. أنه لا بأس عليه أن يأكل منه. وقال مجاهد: يعني خزائن الرجل ومتاعه. وقرأ قتادة: {مَّفَاتِحهُ} وهي لغة، ومفتح أكثر من مفتاح والمفتح: الخزانة. وقرأ ابن جبير: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ}، على من لم يسم فاعله، ومعنى {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ}، ولا عليكم أيها الناس. ولما اجتمع مخاطب وغير مخاطب غلب المخاطب. فقوله {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ}، وما بعده من المخاطبة، يراد به جميع من ذكر من الأعمى، والأعرج، والمريض، وأصحاب البيوت.

وقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}، قال قتادة: فلو أكلت من بيت صديقك من غير أمره لم يكن بذلك بأس. وقوله: {أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ}، وما بعده، ولم يذكر بيوت الأبناء يدل على أن بيت الابن داخل في بيت الرجل، فهو داخل في قوله: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ}، فبيت ابن الرجل مثل بيته، ذلك على صحة قول النبي A: " أنت ومالك لأبيك ". فمال ابن الرجل كمال الرجل، إلا ما أحكمته السنة في غير المأكول في بيت الإبن، وهذه الآية تدل على أن / للرجل أن يأكل من بيت ابنه بغير إذنه، كما يأكل من بيته نفسه، لأن له أن يأخذ ماله ويستحل كسبه، وهو غني عن ذلك، فإن كان الأب فقيراً، فليس له على الابن إلا ما أحكمته السنة من النفقة بالمعروف. ثم قال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، أي إثم وحرج أن تأكلوا جميعاً أي مع الفقراء

والزمنى {أَوْ أَشْتَاتاً} أي متفرقين، وأشتاتاً نصب على الحال، وكذلك جميعاً. قال ابن عباس: كان الرجل الغني يدخل على الفقير، من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى الطعام، فيتحرج أن يأكل معه، لأنه فقير، فأمروا أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً. وقيل: عني بذلك حي من العرب، كان لا يأكل أحدهم شيئاً وحده، ولا يأكل إلا مع غيره، فأذن الله أن يأكل من شاء منهم وحده، ومن شاء مع غيره. وعن ابن عباس أيضاً قال: كانوا يأنفون أن يأكل الرجل وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم في ذلك. وقال ابن جريج: كانت بنو كنانة يستحي الرجل منهم أن يأكل وحده،

حتى نزلت الآية. وقال الضحاك: كانوا لا يأكلون متفرقين ديناً لهم فأنزل الله إباحة ذلك. وقيل: عني به قوم من الأنصار. كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ذيف إلا مع ضيفهم فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. روي في ذلك عن أبي صالح وعكرمة. وروى مطرف عن مالك عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: أنه كان يقول في هذه الآية: إنها نزلت في ناس كانوا إذا خرجوا مع رسول الله A في مغازيه وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى، والأعرج، والمريض، وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم، إذا احتاجوا إلى ذلك، فكانوا يتقون أن يأكلوا منها، ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم طيبة بذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية أباح لهم الأكل منها.

وقوله: {مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ}، ولم يذكر الأبناء، يدل على أن بيت الابن بيت الأب مع قول النبي A " أنت ومالك لأبيك "، ولما كانت بيوت الأب لا يملكها الابن قال: {أَوْ بُيُوتِءَابَآئِكُمْ}، لو كان يملكها لكانت كبيته وبيت أبيه. وقوله عن أم مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: 35] يدل على أن الرجل يملك أمر ابنه وماله حتى يبلغ، إذ لم تنذر أم مريم إلا فيما تملك، فإذا بلغ الولد فعل بنفسه ما شاء بالإجماع على ذلك. ثم قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ}، أي يسلم بعضكم على بعض، أي سلموا على أهليكم وعيالكم.

قال عمرو بن دينار: فإن لم يكن في البيت أحد فقل السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله. وقال ابن عباس: يقول إذا لم يكن في البيت أحد: السلام علينا من ربنا. وعن ابن عباس أنه: عني به المساجد تسلم إذا دخلت فإن لم يكن فيها أحد قلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال النخعي: إذا لم يكن في المسجد أحد فقل: السلام على رسول الله، وإذا لم يكن في البيت أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال الحسن معناه: إذا دخلتم بيوتاً من بيوت المسلمين فليسلم بعضكم

62

على بعض. وقيل معناه: إذا دخلتم بيوتاً لا أحد فيها: فسلموا على أنفسكم. وقوله: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله}، أي ليحيي بعضكم بعضاً، والتحية البركة، ويكون في غير هذا الملك نعتت بطيبة لأن سامعها يستطيب سماعها. ثم قال تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات}، أي هكذا يفضل لكم معالم دينكم، لعلكم تعقلون عنه أمره، ونهيه، وأدبه. قوله تعالى ذكره: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}. أي إنما المؤمنون حق الإيمان: الذين صدقوا الله ورسوله وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجتمع إليه الجميع من حرب، أو صلاة، أو تشاور في رأي / يعم نفعه لم يذهبوا عنه حتى يستأذنوه. ثم قال: {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} أي إن الذين

يستأذنونك يا محمد في الانصراف، ولا يمضون عنك بغير رأيك أولئك هم المؤمنون بالله ورسوله حقاً. ثم قال تعالى لنبيه: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي: لبعض حاجاتهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ}، في الانصراف عنك {واستغفر لَهُمُ الله}، أي: وادع لهم الله أن يتفضل عليهم بالمغفرة، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. وقيل: المعنى: واستغفر لهم الله لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذراً. ويروى: أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب Bهـ: استأذن النبي A في العمرة فأذن له ثم قال: " يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك "، فأمر الله نبيه بالإذن لمن استأذنه، وأمره، يستغفر لهم، ودل قوله:

63

{أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ}، على أن العمل بأوامر الله هو من الإيمان، فالعمل بالاستئذان الذي أمرهم به من الإيمان. قال تعالى يخاطب المؤمنين: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، أي: اتقوا دعاء الرسول عليكم إن مضيتم بغير أمره، فتهلكوا ولا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فإن دعاءه مجاب. قال ابن عباس. وقال مجاهد: أمروا أن يدعوا الرسول بلين وتواضع، ولا يدعوه بغلظ وجفاء، كما يخاطب بعضكم بعضاً. وهذا مثل قوله: {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي، وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ} [الحجرات: 2].

وقال قتادة: أمروا أن يفخموه ويشرفوه، وقول ابن عباس: أليق بما تقدم قبله من المعنى. ثم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً}، الآية، هذه الآية نزلت في حفر الخندق حول المدينة، وذلك أن اليهود سعت في البلاد على حرب النبي A، فأتت قريش وقائدها أبو سفيان، وأتت

غطفان من قيس وقائدها عيينة بم حصن، فلما سمع بهم رسول الله A ضرب الخندق على المدينة، وذلك في شوال من سنة خمس من الهجرة فعمل رسول الله A في الخندق بيده، وعمل معه المسلمون، وتخلف عن العمل رجال من المنافقين، وجعلوا يعتذرون بالضعف ويتسللون إلى أهليهم بغير إذن من رسول الله وجعل المؤمنون يستأذنون النبي عليه السلام غذا عرضت لهم حاجة، فأنزل الله هذه الآية في ذلك. قال الضحاك: كان يستتر بعضهم ببعض فيقومون. ولواذاً مصدر لاوذ ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي متلاوذين أي مخالفين، يلوذ بعضهم ببعض، فيستتر به لئلا يُرى عند انصرافه. قال مجاهد: لواذاً خلافاً. ولم يعتل لواذاً، كما اعتل قياماً، لأن الواو صحت في

الفعل، فقيل لاوذ يُلاوذ فصحت في المصدر واعتلت في الفعل من قيام، فقيل: قام يقوم فوجب أن يعتل في المصدر، فقيل: من أجل ذلك قياماً فما عرفه. ثم قال: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}، أي ليحذر من يخالف أمر النبي عليه السلام أن تصيبه فتنة وهي: أن يطبع على قلبه فلا يؤمن، أي يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه. قال ابن زيد: هؤلاء المنافقون الذين يرجعون بغير إذن النبي A، وقال: اللواذ: الروغان، ثم قال: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي في الدنيا على صنعهم ذلك. وقال أبو عبيدة: " عن " هنا زائدة. وذلك بعيد، على مذهب سيبويه، وغيره لأن " عن " و " على " لا تزادان. ومعناه يخالفون بعدما أمرهم النبي عليه السلام. وقال الطبري: المعنى: فليحذر الذين يولون عن أمره، ويدبرون عنه

64

معرضين. قال: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}، أي ملك ما فيها، فلاينبغي لخلوقٍ مملوكٍ أن يخالف أمر مالكه، وخالقه فيستوجب عقوبته. / {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} من الطاعة والمعصية والمعنى: قد علم ذلك، فيجازيكم على ذلك. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ}، أي يرجع الذين يخالفون عن أمر الله {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ}، أي يخبرهم بأعمالهم السيئة ويجازيهم عليها. {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ}. أي ذو علم بكل شيء، من عملكم وغيره، وعمل غيركم لا يخفى عليه شيء من ذلك فهو يجازي كلاًّ بعمله يوم الرجوع إليه وهو يوم القيامة.

الفرقان

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفرقان مكية وقال الضحاك: هي مدنية - وفيها آيتان مكيتان أو ثلاثة. قوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [68] الآيتان، وقيل إلى قوله (كِرَاماً) [72]. قوله تعالى ذكره: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} [1]، إلى قوله (رَجُلًا مَسْحُورًا) [8]. قال ابن عباس تبارك من البركة. وقال الفراء هي في العربية وتقدس واحد وهما العظمة.

وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة ومعنى البركة الكثرة من كل خيره. وقيل: تبارك: تعالى عطاؤه، أي: زاد وكثر. وقيل: معناه: دام وثبت إنعامه. وقيل: معناه: دام بقاء {الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ}، وثبتت نعمه على عباده، وهو كله مشتق من برك الشيء: إذا ثبت ومنه برك الجمل. وقال النحاس، تبارك: تفاعل من البركة. وهو حلول الخير، ومنه فلان: مبارك أي: ألخير يحل بحلوله، مشتق من البرك، والبركة وهما المصدر. والفرقان: القرآن، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر. وقوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، أي: الذي أنزل عليه الفرقان ليكون لجميع الجن والإنس.

2

{نَذِيراً}، أي: منذراً لهم عقاب الله والنذير: المخوف عقاب الله، والنذير هو محمد A. وقيل: هو القرآن. وقوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] يدل على أنه: محمد A ومثله {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] وأنذركم بالوحي ونذير بمعنى: منذر ولكن تضمن بناء فعيل للتكثير. قال: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: سلطان ذلك كله وملكه. {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}، هذا رد على من أضاف إليه الولد. ثم قال: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ}، هذا رد وتكذيب لمن عبد مع الله غيره، ورد على قول العرب فب التلبية: (لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه

3

وما ملك). ثم قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، أي: اخترعه {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}، أي: هيأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. وقيل: معناه: خلق الحيوان وقدَّر له ما يصلحه ويهيئه. قال: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}، أي: اتخذ مشركو قريش آلهة يعبدونها من دون الله يقرعهم بذلك، ويعجب أهل النهي من فعلهم وعبادتهم ما لايخلق شيئا وهو يُخلق، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً أي: لا يملك الآلهة دفع ضر، ولا استجلاب نفع. ولا يملك إماتة حي، ولا إحياء ميت، ولا ينشره بعد مماته. وتركوا عبادة من يملك الخير والنفع ويحيي ويميت، خلق كل شيء وهو

4

مالك كل شيء، ينشر الأموات إذا أراد، ويرزق الخلق بمشيئته. قال: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه}،: أي: قال هؤلاء المشركون: ما هذا الذي أتى به محمد إلا كذب وبهتان إخترعه واختلقه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}، يعنون أن اليهود هم يعلمون محمداً A. ما يأتي به من القرآن قاله مجاهد. وعن ابن عباس: أنهم عنوا بقولهم {قَوْمٌ آخَرُونَ}، يسارا أبا فُكيهة مولى الحضرمي وعداساً وجبراً. ثم قال: {فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً}، أي: أتى هؤلاء القائلون: إن الذي أتى به محمد A إفك افتران بظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، إذ وصفوا كلام الله بغير صفته. والزور أصله تحسين الباطل، والمعنى: فقد جاء هؤلاء القائلون: إن القرآن: إفك وزور بكذب مُحَسَّنٍ.

5

قال تعالى: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين}، أي: قال أيضاً هؤلاء المشركون: الذي جاء به / محمد A: وهو أساطير الأولين أي: أخبارهم، وما سطروا في كتبهم، {اكتتبها}، محمد {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ}، أي تقرأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، أي: غدوة وعشياً. ويروى أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة. قال ابن عباس، كان النضر من شياطين قريش، وكان يؤذي النبي A، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك فارس، وكان النبي A إذا جلس مجلساً

6

فذكر فيه بالله، وحذر قومه، ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقم الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ويقول: ما محمد أحسن حديثا مني، فأنزل الله جل ذكره في النضر ثمان آيات كل ما ذكر فيها {أَسَاطِيرُ الأولين}، ففيه نزل. وقال ابن جريج {أَسَاطِيرُ الأولين}، أشعارهم وكهانتهم. وواحد الأساطير أسطورة مثل: أحدوثة وأحاديث. وقيل واحدها: أسطار كأقوال وأقاويل. وأسطار جمع سطر، فهو جمع الجمع على هذا القول. قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض}، أي: قل يا محمد

7

لهؤلاء المشركين أنزل القرآن الذي يعلم سراً من السماوات والارض، ولا يخفى عليه شيء. قال ابن جريج: يعلم ما يسر أهل الأرض وأهل السماء. {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}، أي: لم يزل يصفح عن خلقه ويرحمهم. قال: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق}. أي: ما له يأكل ويمشي، أنكروا عليه ذلك، ثم قالوا: {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}، أي: هلا نزل معه ملك من السماء فينذرنا معه {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ}، أي: يطلع على كنز من كنوز الأرض {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}،. أي يحدث الله له جنة يأكل منها. قال ابن عباس: اجتمع أشراف قريش بظهر الكعبة وعرضوا عليه أشياء يفعلها لهم من تسيير جبالهم، وإحياء آبائهم، والمجيء بالله والملائكة قبيلا، وما ذكر

الله في بني إسرائيل. وقالوا له سل ربك يبعث معك ملكا نصدقك بما تقول، وسله يجعل لك قصورا، وجنانا وكنوزا من ذهب وفضة، تغنيك على ما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق، وتلتمس المعاش، كما نلتمسه حتى يعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم. فقال النبي A، ما أنا بفاعل ذلك، فحكى الله ذلك من قولهم له. ثم قال تعالى ذكره {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي: قال ذلك بعضهم لبعض. وقيل، قالوه للمؤمنين، أي: تتبعون رجلا له سَحر، والسَّحْر: الرئة أي:

9

وما تتبعون إلا رجلاً مخلوقاً مثلكم من بني آدم. قوله تعالى ذكره: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال}. أي: انظر يا محمد كيف شبه لك هؤلاء المشركون الأشياء بقولهم: هو مسحور، فضلوا بذلك عن قصد السبيل {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً}، أي: لا يجدون طريقاً إلى الحق الذي بعثتك به. قال ابن عباس. وقال مجاهد: لا يجدون مخرجاً يخرجهم عن الأمثال التي ضربوا لك. ومعناه: إنهم ضربوا هذه الأمثال ليتوصلوا بها إلى تكذيب محمد A فضلوا بذلك عن سبيل الحق وعن بلوغ ما أرادوا. قال {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك}، أي: خيراً ممّا قال المشركون لك هلا أوتيته. قاله مجاهد.

11

وقال ابن عباس: خيراً من ذلك، أي: من مشيك في الأسواق، والتماسك المعاش. ثم بين ما هو الذي يجعل له فقال: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}، قال خيثمة: " قيل للنبي A: إن شئت أن يعطوك خيرا من الدنيا ومفاتيحها، ولم يعط ذلك من قبلك، ولا يعطه أحد بعدك، وليس ذلك يناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة. فقال: يجمع لي ذلك في الآخرة "، فأنزل الله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ / خَيْراً مِّن ذلك} الآية. قال: مجاهد: قصوراً بيوتا مبنية مشيدة. وكانت قريش ترى البيت من حجارة قصراً كائناً ما كان. قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً}، أي: ما فعل

هؤلاء المشركون، ما فعلوا من تكذيب يا محمد إلا لأنهم كذبوا بالبعث، والنشر والقيامة. ثم قال تعالى ذكره: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً}، أي: ناراً تسعر عليهم وتتقد. {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}، أي: إذا رأت النار أشخاصهم من مكان بعيد. {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}، أي: غلياناً وفواراً. يقال، فلان يتغيظ على فلان: إذا غضب عليه فغلى صدره من الغضب عليه. وزفيراً: أي: صوتها حين تزفر، والتقدير سمعوا صوت التغيظ من التلهب والتوقد. وقيل: معناه: سمعوا لمن فيها من المعذبين تغيظاً وزفيراً. وقال المسيب بن رافع: يكون الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي، فتخرج عنق من النار. فتقول: إني وكلت بثلاثة بمن دعا مع الله إلهاً آخر وبالعزيز الكريم، وبكل جبار عنيد. فتنطوي بهم فتدخلهم النار قبل

الناس بنصف يوم. ثم ينطلق الفقراء إلى الجنة فتقول لهم خزنة الجنة: أنَّ لكم هذا قبل الحساب؟ فيقولون والله ما أعطيتمونا أموالاً وما كنا أمراء فتصدقهم الملائكة فتأذن، فيدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم ويبقى الحساب على الأغنياء والأمراء، فيقول الرب تبارك وتعالى: (إياكم أعطيت، وإياكم ابتليت) فيحاسبون. وقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ}، أتى على لفظ التأنيث، والسعير مذكر، فإنما ذلك: لأن التأنيث راجع إلى النار، لأن السعير هي النار وهذا كقول الشاعر: إن تميما خلقت ملوما ... فقال خلقت لأن تميما قبيلة، ثم رجع إلى لفظ تميم فقال: (مَلُومَاً) ثم رجع إلى الجماعة فقال: قوما ترى واحدهم صهميما. ... والصهميم: الجمل القوي الشديد النفس.

قال ابن عباس: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي، وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن مالك؟ قالت: إنه يستجيرك مني فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار. فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك. فيقول: أرسلوا عبدي، وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهيق البغل إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جأث. وقيل: معنى {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}، إذا رآه خزانها من مكان بعيد {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}، حرصا على عذابهم رغضبا لله عليهم، فأخبر عن النار والسعير، والمراد خزان النار الموكلون بها، كما قال تعالى {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [الحج: 48]، يريد أهل القرية، وكما قال {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13]، يريد أهل القرية بدلالة قوله بعد ذلك {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] فرجع الخبر عن أهل القرية.

13

قال تعالى: {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ}، أي: وإذا أُلقِيَ هؤلاء المكذبون بالله من النار مكاناً ضيقاً، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، وقرنوا مع الشياطين. {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً}، أي: هلاكاً، قاله الضحاك. وقال ابن عباس: ثبوراً: ويلا، وأصل الثبور في اللغة: الانصراف عن الشيء، يقال: ما تبرك عن هذا الأمر؟ أي: ما صرفك عنه. والمثبور المصروف عن الخير. وروي عن النبي A: أنه قال: " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ". وقال بعضهم، إنها لتضيق عليهم كما يضيق الرمح في الزج، قال ابن عمر وغيره.

15

وقيل الثبور هنا دعاء بالندم، على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا، كقول الرجل واندماه، وكقوله، واحسرتاه على ما / فرطت. وفي الحديث أن أنس بن مالك روى عن النبي A قال: " أول من يكسى حلة من جهنم إبليس فيضعها على جنبه ويسحبها، يقول: واثبورا، وتتبعه ذريته تقول، واثبوراه، فإذا وقفوا على النار دعوا بالثبور، فتقول لهم الملائكة خزان جهنم لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبوراً كثيراً " وفي هذا دليل على طول مُقامهم فيها ريأسهم من النجاة. قال تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}، أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بالساعة أذلك خير، " وذا " إشارة إلى ما تقدم، من ذكر النار والسعير،

{أَمْ جَنَّةُ الخلد}، والخلد: الذي يدوم ولا ينقطع. {التي وُعِدَ المتقون} أي: وعدها الله من اتقاه فيها أمره ونهاه {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً}، أي: جزاء لأعمالهم في الدنيا {وَمَصِيراً}، أي: يصيرون إليها في معادهم وإنما جاز التفضيل بين الجنة والنار بالخير، وقد علم أن النار لا خير فيها لأن الجنة والنار قد دخلا في باب المنازل في صنف واحد. حكى سيبويه: عن العرب الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ وقد علم أن الشقاء لا يحبه أحد وإنما جاء ذلك على التنبيه. وقيل: إنما جاء ذلك في الآية لأن " خيراً " ليس هو أفعل، ولا تأويل فيه لإضمار من، وإنما هو كما يقال، عنده خير، وكما قال:

16

فشركما لخيركما الفداء. وقيل: المعنى: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}، على علمكم وما تعقلون. وقيل: إن قوله: {أذلك خَيْرٌ}، مردود إلى قوله: {أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7]، وما قالوا بعده. وقيل: هو مردود إلى قوله {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} [الفرقان: 10]، فذلك إشارة إلى هذا المذكور فقال: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}، فهذا يدل على أن قوله: {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} [الفرقان: 10] يعني به في الدنيا التي ينقطع نعيمها، ثم فاضل بين ذلك وبين ما في الآخرة التي لا ينقضي نعيمها. قال تعالى: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ}، أي: في الجنة {خَالِدِينَ} أي: مقيمين فيها أبداً. {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً}، أي: كان إعطاء الله المؤمنين: جنة الخلد في الآخرة وعداً وعدهم على طاعتهم غياه ومسألتهم إياه ذلك، وذلك أن المؤمنين

17

سألوا ربهم ذلك في الدنيا حين قالوا {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فقال الله تعالى: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً}، قاله ابن عباس وابن زيد. وقال محمد بن كعب، وعدا مسؤولا: أي: بمسألة من الملائكة للمؤمنين، وهو قول الملائكة {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8]. وقيل معناه: وعداً واجباً، والعرب تقول: لا أعطينك ألفاً وعداً. {مَّسْئُولاً}، أي: واجباً أي: هو واجب لك فاسأله. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}، أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المكذبين بالساعة. {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله}، من الملائكة والانس والجن.

18

قال مجاهد وابن جريج: يعني، عيسى، وعزيرا، والملائكة، فيقول: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ}، أي: أزلتموهم عن طريق الهدى، ودعوتموهم إلى الغي. {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل}، أي: أخطأوا سبيل الرشاد والحق. وقيل: هي الأصنام والأوثان يحييها الله تعالى يوم القيامة فتجيبه بذلك. قوله تعالى ذكره: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}، أي قال عيسى A وعزيراً، الملائكة تنزيهاً لك يا ربنا وبراءةً مما

أضاف إليك هؤلاء المشركون. {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} بل أنت ولينا من دونهم. {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ} بالمال في الدنيا والصحة {حتى نَسُواْ الذكر} أي: ذكرك. {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى. قيل: إن أعمارهم طالت بعد موت الرسل فنسوا وهلكوا. قال الحسن: البور الذي ليس فيه خير، وكذلك قال: ابن زيد، والعرب تقول لما فسد وهلك أو كسد: بائر ومنه بارت السوق / " ومن في {مِنْ أَوْلِيَآءَ} زائدة، زيدت للتوكيد بعد النفي، وأولياء في موضع نصب يتخذه، والمعنى: ما كان ينبغي لنا نتخذ من دونك أولياء، فكيف يتخذها أحد أولياء من دونك،

وكيف نرضى بذلك، نحن لا نرضى بذلك لأنفسنا، فكيف نرضاه لغيرنا، ووقع هذا الجواب على المعنى لا على اللفظ، لأنه ليس بجواب لقوله {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} ولكن حمل الجواب على المعنى لأن من عبد شيء فقد تولاه، ومن تولى شيئا فالمتولي ولي للمتولي، فكلاهما ولي للآخر، فلذلك قالوا: {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} فجاء الجواب على المعنى هذا يسمى التدريج عند بعض أهل النظر، ومثله قوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] فأتى الجواب على المعنى، فقالوا: {سُبْحَانَكَ} [سبأ: 41] فكأنه قال: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون، اتخذوكم أولياء يعبدونكم فقالوا: {أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} وكذلك قوله {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} معناه: أنتم اتخذتم عبادي أولياء فضلوا. فقالوا: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}. وقرأ الحسن وأبو جعفر {أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} بضم النون وفتح الخاء. قال أبو عمرو: لو كانت نُتخذ لحُذفت " من " الثانية: فقلت أن نتخذ من

دونك أولياء. وأجازه الفراء والكسائي: على بُعد وقُبح، وذلك لا يجوز عند البصريين لأن أولياء ليس بمفعول على هذه القراءة واحد في معنى الجمع وإنما تدخل " من " على الواحد الذي في معنى الجماعة، ألا ترى أنك تقول، ما رأيت رجلاً، فإن أردت النفي العام قلت: ما رأيت من رجل، وليس {أَوْلِيَآءَ} في قراءة من ضم النون واحدا في معنى جماعة، ألا ترى أنك لو قلت: ما اتخذت أحداً وليّاً لي جاز أن تقول ما اتخذت من أحد وليا، لأن أحدا في معنى الجماعة، أحداً من ولي لم يجز إذ ليس ولي في معنى الجماعة، فكذلك القراءة بضم النون، تقبح مع ثبات " من " قبل أولياء فافهمه. ويتمكن على هذه القراءة عند من جوزها أن يكون المحشورون المسؤولون هم: الأصنام والأوثان، يحييها الله فتقول ذلك. ثم قال

تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي: فقد كذبكم أيها الكافرون، من زعمتم أنهم أضلوكم ودعوكم إلى عبادتهم. " بما تقولون "، أي: بقولكم فمعناه كذبوكم بكذبكم. وقال ابن زيد معناه، فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد A من عند الله أي: بما تقولون من الحق. قال: أبو عبيد تقديره فقد كذبوكم فيما يقولون. هذا كله على قراءة من قرأ بالتاء، فأما من قرأ بالياء فمعناه: فقد كذبوكم بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ} الآية، {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً}. قال: ابن جريج: معناه: صرف العذاب عنهم ولا ينتصرون.

20

وقيل: المعنى: فما يستطيعون لك يا محمد صرفاً عن الحق ولا نصراً لأنفسهم مما هم فيه من البلاء. وقيل: معناه: فريضة ولا نافلة. قال ابن زيد: ينادي منادٍ يوم القيامة: مالكم لا تناصرون، أي: من عُبد من دون الله لم ينصر اليوم من عَبده. ثم قال تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} أي: من يشرك بالله فقد ظلم نفسه بذلك. قال الحسن وابن جريج: الظلم هنا: الشرك قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام}، الآية: رد على المشركين الذين قالوا: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} أي: لقد علموا يا محمد أنه ما أرسل من قبلك من رسول إلا أنه ليأكل الطعام لأنه بشر من بني آدم، ويمشي في الأسواق فليس عليك في ذلك لا نقص ولا حجة.

ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}، أي: بلاءً واختباراً، اختبرنا بعضكم لبعض، فجعلنا هذا نبياً، وهذا ملكاً، وهذا فقيراً، وهذا غنياً. قال الحسن: في معنى الآية، يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان. وقال ابن جريج: يمسك عن هذا، ويوسع على هذا فيقول: لم / يعطين مثل ما أعطى فلاناً، ويُبتلى بالوجع كذلك فيقول: لم يجعلني ربي صحيحاً مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء، ليعلم من يصبر ممن يجزع وقيل في معنى الآية، إن الشريف كان يريد أن يسلم فيمنعه من ذلك أن من هو دونه قد أسلم قبله فيقول: أعيّر بسبقه إياي. وإنه بعض الزمنى والفقراء كان يقول لم أكن غنياً صحيحاً فأسلم. ثم

21

قال D: { أَتَصْبِرُونَ}، أي: إن صبرتم فقد علمتم أجر الصابرين. قال الضاحك: معناه أتصبرون على الحق. وقيل: معناه: لنعلم أتصبرون، وبه يتم الجواب، لقوله {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}. ثم قال تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}، أي: إن ربكم لبصير بمن يصبر، ويجزع، قوله تعالى ذكره: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة}، أي وقال المشركون الذين لا يخافون العذاب، ولا يؤمنون ببعث ولا حساب لمحمد A: هلا أنزل علينا الملائكة فتخبرنا أنك رسول حقا

{أَوْ نرى رَبَّنَا}، فيخبرنا بذلك. قاله ابن جريج وغيره. غلطوا في صفات الله جل ثناؤه، ولم يعلموا أنه لا يُرى في الدنيا فسألوا ما لا يمكن كونه، كما غلط اليهود إذ قالوا {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] وهذا مثل قولهم في سورة " سبحان " {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 92] ثم قال جل ذكره: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ} أي: تعظموا إذ سألوا مثل هذا الأمر الجليل وقوله {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً}، أي: تقول الملائكة لهؤلاء المشركين: حراماً محراماً عليكم اليوم البشرى، قاله الضاحك وقتادة. وأصل الحجر المنع، ومنه حجر القاضي على فلان، ومنه حِجر الكعبة لأنه لا يدخل إليه في الطواف.

وقال: ابن جريج: هو قول من المجرمين، وذلك أن العرب كانت إذا كرهت شيئا قالت: حجرا محجورا. فما رأى المجرمون ما يكرهون يوم القيامة. قالوا حجراً محجوراً. يقولون ذلك للملائكة على عاداتهم في الدنيا أي: لا تعرضوا لنا، وذلك لا ينفعهم. وكذا قال: مجاهد: هو من قول المجرمين يستعيذون من الملائكة. قال أبو عبيدة: في معنى الآية: كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا لقي رجلا في الشهر الحرام وبينه وبينه تِرة أو طلب، قال: حجراً محجوراً: أي: حرام عليك دمي وأذاي، قال: فإذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة قالوا: حجراً محجوراً: أي: حرام دماؤنا يظنون أنهم في الدنيا، وأن ذلك ينفعهم. وعن ابن عمر أنه قال: إذا كان يوم القيامة تلقت الملائكة المؤمنين بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكفار قالوا لهم بشرونا، فتقول لهم الملائكة: حجراً محجوراً أي: حراماً محرماً عليكم البشرى فيأسون من الخير.

23

ثم قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ}، الآية أي: وعمدنا وقصدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون، وأتى لفظ / القدوم بمعنى القصد لأنه أبلغ في الخطاب، وذلك أنه يدل على أنه تعالى عاملهم معاملة القادم من سفر لأجل إمهاله لهم كالغائب، ففي لفظ " قدمنا " معنى التحذير من الاغترار بالإمهال. وقيل: المراد بالقدوم الملائكة لما كان الله تعالى: هو يقدمهم إلى ذلك أخبر عن نفسه به. وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}، أي: باطلاً لا ينتفعون به. لأنهم للشيطان عملوا، والهباء الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوة يحسبه الناظر غباراً، وليس بشيء تقبض عليه الأيدي، ولا تمسه، ولا يرى ذلك في الظل. هذا قول علي بن أبي طالب Bهـ، وابن عباس وعكرمة والحسن، ومجاهد. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هو ما تسفيه الرياح من التراب وتذروه من

24

حطام الشجر، وكذلك قال قتادة. وعن ابن عباس: هو الماء المهراق، وهو جمع هبأة فالمعنى أن الله أحبط أعمالهم فلا نفع لهم فيها، كما لا نفع في هذا الغبار. قال تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}، وإنما أتى أفعل في هذا وقد علم أنه لا خير عند أصحاب النار، على معنى أنكم لما كنتم تعملون عمل أصحاب النار صرتم كأنكم تقولون: إن في ذلك خيراً، فخوطبوا على ظاهر أحوالهم، وما يؤول إليه أمرهم. وقيل: المعنى: خير مستقراً مما أنتم فيه، وقال نفطويه في كتاب التوبة له:

العرب تجعل هذا على وجهين أحدهما أن يكون في كلا الاسمين فضل والأول أفضل. والوجه الثاني: أن يكون الكلام إثباتا للأول ونفياً للثاني. كقوله تعالى {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}، فهذا فيه نفي الخير عن النار وأصحابها، هذا معنى كلامه. ومذهب سيبويه: أنها لا تأتي إلا لتفضيل اثنين يكون أحدهما أزيد من الآخر، إما في فضل، وإما في شر لا بد عنده أن يكون في الذي معه " من " أو الذي يضاف إليه " أفعل " بعض ما في الأول. تقول: زيد أفضل من عمرو، وعمرو أفضل القوم، فالثاني فيه بعض ما في الأول. وقيل: خير ليست من أفعل، إنما هي خير التي في قولك: زيد فيه خير،

فيكون التقدير {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً}، أي: لهم خير، فنصب " مستقر " على هذا، على الظرف، وعلى الأقوال الأُوَل على البيان. والمقيل المقام في وقت القائلة وهو النوم نصف النهار، والتقدير: وأحسن قراراً في أوقات القائلة في الدنيا، وليس في الجنة قائلة ولكن خوطبوا على ما يعقلون. فالمستقر لهم: تحت ظل العرش والمقيل لهم: في الجنة، ويراد بالمقيل المقام، إذ لا في الجنة يوم للقائلة. وقد روي: أن أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار، من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا في الجنة مساكنهم، فذلك معنى قوله تعالى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}،. قال ابن عباس: قالوا في الغرف في الجنة، وكان حسابهم أن عرضوا على

ربهم عرضة واحدة وذلك الحساب اليسير، فهو قوله جل ذكره: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق: 8]. وقال: الأعمش: عن ابراهيم في الآية: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة إلى نصف النهار، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. وقال ابن جريرج، لم ينتصف النهار حتى قضي بينهم، فقال أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وروى ابن جبير عن ابن مسعود وابن عباس: أنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار ثم قرأ: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}. وفي بعض الروايات عن النبي A أنه قال: " إن يوم القيامة يقصر على المؤمن

25

يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ". قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام}، الآية أي: تشقق عن الغمام كما يقال: رميت / بالقوسى، وعن القوس، وعلى القوس بمعنى واحد. قيل: ذلك غمام أبيض، مثل الغمام الذي ظل على بني إسرائيل. وقال مجاهد هذا الغمام هو قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} [البقرة: 210]. وقال ابن جريج: الغمام الذي يأتي الله فيه هو غمام في الجنة. وقال ابن عباس: إن هذه السماء إذا انشقت نزل منها من الملائكة أكثر من الجن والإنس وهو يوم التلاق، يلتقي أهل السماوات وأهل الأرض، فيقول أهل الأرض: جاء

ربنا فيقول لم يجيء، وهو آت، ثم تنشق السماء الثانية سماء سماء، وينزل من كل سماء من الملائكة على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة، وينزل منها من الملائكة أكثر ممن نزل من السماوات ومن الجن والإنس. قال: فتنزل الملائكة الكروبيون ثم يأتي ربنا تعالى ذكره في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملكٍ وركبتِه مسيرة سبعين سنة. قال: وكل مَلكٍ منهم لم يتأمل وجه صاحبه قط. وكل ملَكٍ منهم واضع رأسه بين ثدييه، يقول: سبحان الملك القدوس. وصف الله جل ذكره وثناؤه بالمجيء، والإتيان ليس على جهة الانتقال من مكان إلى مكان، إنما هو ثفة له تعالى، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقد قيل: إن معناه: يأتي أمره، ويجيء أمره، والله أعلم بحقيقة ذلك فلا ينبغي لأَحدٍ أن يعتقد في صفات الله جل ذكره ما يعتقد في صفات المحدثين، وعليه أن يتذكر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ويسلم الأمر إليه، ولا يتعدى في صفات الله

26

بالتشبيه، بما يعقله من صفات المخلوقين، فليس الخالق كالمخلوق سبحانه لا إله إلا هو. قال: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن}، أي: الملك الذي هو حق لا دَخَل فيه، للرحمن يوم القيامة، إذ الملك الزائِلُ كلا مُلكٍ. وأجاز الزجاج، " الحق " بالنصب على معنى أحق الحق وأعني الحق، ولم يقرأ به أحد. قوله: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً}، أي: كان يوم تشقق فيه السماء بالغمام، وتنزل الملائكة على الكافرين، يوماً ضيقاً شديداً صعباً. قوله تعالى ذكره: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}. أي: واذكر يا محمد يوم يعض الظالم نفسه، المشرك بربه على يديه، تندما وأسفا على فرط في جنب الله يقول: يا ليتني اتخذت في الدنيا مع الرسول سبيلاً،

أي: طريقاً إلى الجنة وإلى النجاة من عذاب الله. والظالم هنا: عقبة ابن أبي معيط و (فلاناً) كناية عن (أُبيّ بن خلف). قال ابن عباس: كان أُبيّ بن خلف يحضر عند النبي عليه السلام، فزجره عقبة بن أبي معيط، فالظالم: عقبة، وفلاناً: أبي بن خلف. وقال: الشعبي: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأمية بن خلف. فأسلم عقبة، فقال أمية، وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمداً فكفر، فهو الذي قال: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني أمية بن خلف. وقال: مقسم: اجتمع عقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف وكانا خليلين، فقال أحدهما: بلغني أنك أتيت محمداً، فاستمعت منه، والله لا أرض عنك حتى تتفل

في وجهه، وتكذبه، فلم يسلطه الله على ذلك، فقتل عقبة يوم بدر صبرا، وأما أُبيّ بن خلف فقتله النبي يوم أحد في القتال، وهما اللذان ذكرا في هذه الآية. وقال مجاهد دعا عقبة بن أبي معيط مجلساً فيهم النبي A لطعام، فأبى النبي عليه السلام أن يأكل فقال: لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالها، فلقيه أمية بن خلف، فقال: صبوت، فقال، إن أخاك على ما تعلم، ولكني صنعت طعاماً، فأبى أن يأكل حتى أقول ذلك فقتله، وليس من نفسي، فأما

عقبة فكان في الأسرى يوم بدر، فأمر النبي A بقتله فقال: أقتل دونهم، فقال: نعم بكفرك وعتوك، فقال من للصّبية؟ فقال: النار، فقام علي / بن أبي طالب فقتله، وأما أبيّ بن خلف، فقتله النبي A بيده، وكان قد قال: والله لأقتلن محمداً، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال: أنا أقتله إن شاء الله، فالعاض على يديه هو عقبة. روي: أنه يعض على يديه يوم القيامة، أسفاً على ما فاته من الإسلام، وما فعل من الكفر، فيأكلها حتى يبلغ إلى المرافق ثم تنبت، فلا يزال هكذا كلما أكلها تنبت، ندامة على ما فرط ويقول: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني: أبي بن خلف الذي رده عن الإيمان.

وقيل، عني بالظالم: كل ظالم ظلم نفسه بالكفر بالله، ولذلك قال {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً}، فأتى بلفظ فلان الذي يصلح أيضا لكل إنسان، فالظالم اسم عام، وفلان اسم عام، فالندم والتحسر يكون من كل ظالم لنفسه بالكفر. ومعنى {لَّقَدْ أَضَلَّنِي} لقد أضللت بقوله ومساعدته على الكفر واتباعي له. وقال مجاهد: عني بفلان: الشيطان. وهو قول: أبي رجاء، فالظالم كل من كفر بالله، واتبع خطوات الشيطان فيندم على ذلك يوم القيامة، ويعض على

30

يديه ويقول: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر} أي: أضلني الشيطان عن الإيمان بالقرآن بعد إذ جاءني من عند الله، ودل على هذا التأويل قوله، بعقب الآية. {وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً}، أي: يسلمه لما ينزله به من البلاء ويخذله فلا ينجيه منه. وقالت: الرافضة لعنها الله: هما رجلان معروفان، وذكروا رجلين من أجلّ أصحاب النبي A، كذباً منهم وبهتاناً. قال تعالى: {وَقَالَ الرسول يارب}، الآية: أي: يقول الرسول يوم يعض الظالم على يديه: يا رب إن قومي الذين بعثتني إليهم بالقرآن: اتخذوه مهجوراً. قال مجاهد: يهجرون فيه بالقول فيقولون هو سحر.

31

وقال ابن زيد: مهجوراً: أي: لا يريدون أن يسمعوه، أي: هجروه، وأعرضوا عنه فلا يسمعونه. قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} الآية، أي: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك، كذلك جعلنا لكل نبي عدوا، فلم نخصصك بذلك من بينهم، فعلم النبي أنه جاعل له عدوا من المجرمين كما جعل لمن قبله. قال ابن عباس، يراد به: أبو جهل. ثم قال: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً} فمن نصب هادياً على الحال أو على البيان، ومعناه، كفاك ربك هادياً يهديك إلى الحق، ويبصرك الرشد، {وَنَصِيراً}، أي: وناصراً على إهدائك. قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ} أي: قال

مشركوا قريش: هلا نزل القرآن على محمد عليه السلام: جملة واحدة. كما نزلت التوراة والإنجيل. قال الله تعالى وجل ذكره: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: فرقنا نزوله، لنثبت به فؤادك فلا بد من إضمار فعلٍ إذا وقفت على كذلك. وقيل، الوقف على " واحدة "، ثم تبتدئ {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ}. أي نزل متفرقاً لنثبت به فؤادك. وقيل، إن " ذا " من كذلك: إشارة إلى التوراة. أي: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة مثل ذلك أي: مثل التوراة، فتقف على {كَذَلِكَ}، وتبتدئ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: فعلنا ذلك لنثبت، أي: ونزلناه متفرقا لنثبت، فتضمر ما يتعلق به اللام، ويكون الكاف في موضع نصب نعت لجملة. ومن ابتدأ بكذلك جعل الكاف في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي: نزلناه تنزيلاً

{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: فرقنا نزوله {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، لأنهم سألوا ما الصلاح في غيره، لأن القرآن، كان ينزل متفرقاً جواباً عما يسألون عنه، وكان ذلك من علامات النبوة، إذ لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي. فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، وبين الله هذا المعنى بقوله: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33]، فكان في نزوله متفرقاً الصلاح، والرشد، ولو نزل جملة لكان قد سبق الحوادث التي ينزل فيها القرآن، ولو نزل جملة واحدة بما فيه من الفرائض لثقل ذلك عليهم، فعلم الله جل ثناؤه ما فيه من الصلاح، فأنزله متفرقاً، ولو نزل جملة لزال معنى التثبيت، ولم يكن فيه ناسخ ولا منسوخ، إذ لا يجوز أن يأتي في مرة واحدة افعلوا كذا ولا تفعلوا.

قال ابن عباس: / نزل متفرقاً على النبي A ليعلمه عن ظهر قلب. وقيل معنى: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لتعيه. لأنه لم يكن A: يكتب، فلو نزل مرة واحدة، لصعب عليه حفظه مرة واحدة، ولشق ذلك عليه، فأنزله الله متفرقاً شيئاً بعد شيء، ليسهل عليه حفظه، وليعيه على وجهه. و" ذا " من كذلك إشارة إلى التفريق، والمعنى أنزلناه متفرقاً {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، فالوقف على هذا على {وَاحِدَةً}،. وقيل: ذا: إشارة إلى التوراة والإنجيل: قاله الفراء وغيره. فيكون الوقف " كذلك "، وفيه بعدٌ لأنه إشارة إلى ما لم يجر له ذكر، فأما القول الاول: فإن معنى التفريق قد تضمنه قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً}، لأن معناه لم نزل متفرقا؟ فقال الله تعالى نزل: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}، أي: نزل متفرقاً لنثبت به فؤادك يا محمد. وقيل: إن " ذا " إشارة إلى التثبيت، أي: تثبيتا كذلك التثبيت.

33

ثم قال: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، أي: أنزلناه آية وآيتين، وآيات جوابا لما يسألون عنه، وخبراً ليتعظوا به ووعظا، ليزدجروا به، وكان بين نزول أوله وآخره نحو من عشرين سنة. قال ابن زيد {وَرَتَّلْنَاهُ}، بيناه، وفسرناه. قوله تعالى ذكره: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق}. أي: ليس يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه لك، ليحتجوا به عليك إلا جئناك من الحق أي: من القرآن بما يُبْطِلُ ما جاءوا به. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}، أي: أحسن تفصيلاً. قال: {الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ}، أي: الذين يساقون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم شر مستقراً في الدنيا والآخرة، من أهل الجنة في الجنة، وأضل منهم طريقاً في الدنيا. قال مجاهد: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر أن يمشيهم على وجوههم إلى جهنم.

35

وروى أنس: " أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه [وسلم]،: كيف يا رسول الله: يحشر الكافر على وجهه فقال: الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه ". قال أبو هريرة: يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف. صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم. فقيل له: كيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامه قادر أن يمشيهم على وجوههم. وقيل: إن هذا تمثيل. كما تقول: ستمضي على وجهك أي: كارهاً. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب}، الآية، اي: آتينا موسى التوراة. كما آتيناك يا محمد القرآن {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} أي: معيناً وظهيراً

{فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} يعني فرعون وقومه {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي: أهلكناهم. وفي الكلام حذف والتقدير: فذهبا فكذبوهما، فدمرناهم، فدخول الفاء تدل على هذا الحذف. وقال الفراء: المأمور بالذهاب في المعنى موسى وحده، بمنزلة قوله تعالى: {فَنَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] والناسي يوشع وحده. وبمنزلة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرجان من الملح. وهذا قول مردود لأنه قد كرر في كثير من الآيات إرسال هارون مع موسى إلى فرعون، فلا يحتاج فيه إلى هذا المجاز. والوقف {بِآيَاتِنَا}، وقرئت {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً}، على الخبر عن موسى وهارون. وقرئت {فدمِّرانِهم}، على الأمر لموسى وهارون

وتشديد النون، فلا يحتاج في هاتين القراءتين إلى إضمار ولا حذف، وهما قراءتان شاذتان، والوقف على هاتين القراءتين {تَدْمِيراً}. قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ}، أي: واذكر قوم نوح. وقيل: هو معطوف على المفعول في {فَدَمَّرْنَاهُمْ} [الفرقان: 36]. وقيل: التقدير: وأغرقنا قوم نوح، لما كذبوا الرسل أغرقناهم وهذا حسن. والمعنى: وأغرقنا قوم نوح من قبل قوم فرعون لما كذبوا الرسل {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً}. وقوله: {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل}، قيل: إنهم كذبوا رسلاً قبل نوح فلذلك جمع. وقيل: إن من كذَّب نبياً، فقد كذب جميع الأنبياء. فجمع على المعنى.

ثم قال {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ}، أي: لهم ولمن هو / مثلهم في الظلم والكفر {عَذَاباً أَلِيماً}، في الآخرة سوى الذي حل بهم في الدنيا. قال: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس}، كل هذا معطوف على قوم نوح أي: واذكر. وقيل: ذلك معطوف على الضمير في {جَعَلْنَاهُمْ}. وقيل: التقدير: وأعتدنا للظالمين عذاباً أليماً، وعبنا عاداً وثموداً. وقوله: {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً}، أي: وتبرنا كلاً، أي: أهلكنا كلاً وقوله: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال}، أي: وذكرنا كلاً، ووعظنا كلاً {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال}، فتضمر هذا ونحوه، لأن ضرب الأمثال وعظ وتذكير. وقيل: وعاداً وما بعده معطوف على المفعول في {فَدَمَّرْنَاهُمْ}، أي: دمرنا عاداً وثموداً

وأصحاب الرس. قال ابن عباس: أصحاب الرس قرية من ثمود. وقال قتادة الرس: قرية من اليمامة يقال لها الفلج. وعن ابن عباس وعكرمة: الرس: بئر. وقاله مجاهد. قال أبو عبيدة الرس: المعدن، وصاحب الرس: نبي يقال له: حنظلة بن صفوان: قتلوه وطرحوه في البئر. والرس عند جماعة من أهل اللغة: الركية التي لم تصلو.

وروى محمد بن كعب القرظي أن النبي A قال: " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة: العبد الأسود وذلك أن الله جل ذكره: بعث نبياً إلى أهل قريته، فلم يؤمن أحد من أهلها إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً وألقوه فيها. ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم، قال: فكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه، فيبيعه فيشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة، ويعينه الله تعالى عليها، فيدلي طعامه وشرابه إليه، ثم يرجعها كما كانت، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون ثم ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه، وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها، وجد سِنَةً فاضطجع فنام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم إنه

هب فتمطى فتحول لشقه الآخر، فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب فاحتمل حزمته، ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمتة، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع، ثم ذهب إلى الحفرة فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه، فاستخرجوه، وآمنوا به وصدقوه، فكان النبي A يسألهم عن ذلك الأسود، ما فعل فيقولون ما ندري حتى قبض الله النبي، وأتى الأسود بعد ذلك، قال النبي A، إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة فهؤلاء لا ينبغي أن يكونوا أصحاب الرس لأنهم آمنوا " ، وقد حكى الله عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلآ أن يكونوا أحدثوا حدثاً بعد نبيهم. وقوله: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً}، أي: ودمرنا قروناً بين أضعاف هذه الأمم التي ذكرنا.

40

وقال: قتادة أصحاب الأيكة وأصحاب الرس أمتان أرسل إليهما جميعاً شعيب، فكفرتا فعذبتا بعذابين. قال قتادة: القرن سبعون سنة. وقيل: القرن أربعون سنة. قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء}. أي ولقد أتى هؤلاء الذين اتخذوا القرآن مهجوراً على القرية التي أمطرت

مطر السوء وهي سدوم قرية قوم لوط و {مَطَرَ السوء}، الحجارة التي أهلكهم الله بها. وقال ابن عباس خمس قريات أهلك الله أربعا، وبقيت الخامسة واسمها سفن كان أهلها لا يعملون ذلك العمل، وكانت سدوم أعظمها وهي التي نزل لوط، ومنها بعث، وكان إبراهيم صلى الله عليه [وسلم]، ينادي نصيحة لهم يا سدوم يوم لكم من الله أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله، وكان لوط ابن أخي إبراهيم. ثم قال {أَفَلَمْ يَكُونُواْ / يَرَوْنَهَا}، أي: أفلم يكن هؤلاء المشركون يرون تلك القرية وما نزل بها، فيحذروا أن ينزل بهم مثل ذلك.

41

ثم قال {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً}، أي: لم يكذبوا محمداً، لأنهم لم يكونوا يرون القرية وما حل بها، ولكنهم كذبوه من أجل أنهم قوم لا يخافون نشوراً بعد الموت، أي: لا يؤمنون بالآخرة. وقيل: المعنى: بل كانوا لا يرجون ثواب الله عند النشور، فاجترأوا على المعاصي. قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً}، أي: وإذا رآك يا محمد هؤلاء المشركون ما يتخذونك إلا هزؤاً، أي: سخرياً يسخرون منك يقولون: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً}، من بين خلقه، احتقارا له. {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا}، أي: قد كاد يضلنا {عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا}، أي: على عبادتها. قال الله جل ذكره: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي: سيتبين لهم حين يعاينون عذاب الله، ويحل بهم، من السالك سبيل الردى والراكب طريق الهدى أنت أم هم. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}، أي: جعل إلهه ما يشتهي،

44

ويهوى من غير حجة ولا برهان على اتخاذه إياه إلهاً. كان الرجل من المشركين يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به، وأخذ الآخر فعبده. ثم قال: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}، يخاطب النبي A أي: أفأنت تجبره على ترك ذلك. وقيل: معناه: أفأنت تكون عليه حفيظاً، في أفعاله مع عظيم جهله. وقيل: معناه أفأنت يمكنك صرفه عن كفره، ولا يلزمك ذلك، إنما عليك البلاغ والبيان. أي: لست بمأخوذ بكفرهم، ادع إلى الله وبين ما أرسلت به فهذا ما يلزمك لا غير. قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}، أي: يسمعون ما يتلى عليهم، فيعون أو يعقلون، ما يعاينون من حجج الله فيفهمون {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام}، أي ما هم إلا كالأنعام التي لا تعقل ما يقال لها: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}،

45

من البهائم لأن البهائم تهدتي لمراعيها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء الكفار، لا يطيعون ربهم ولا يشكرون نعمة من أنهم عليهم. وقيل، لأن الأنعام تسيح وتجتنب مضارها. وقيل: لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، كا، وا كأنهم لم يسمعوا ولم يعقلوا. قال: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل}،. مد الظل هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وقيل له ممدود، لأنه لا شمس معه، ولذلك قال في ظل الجنة: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] أي ليس معه شمس قاله ابن عباس، وابن جبير، وعكرمة

والضحاك، وابن زيد. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً}، أي: دائما لا تذهبه الشمس ولا تنقصه. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد يعنون كظل الجنة الذي لا تذهبه شمس. وقال مجاهد: لا تيصبه الشمس ولا يزول. وقال الحسن: لو شاء لتركه ظلاً كما هو. وقيل: هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها. لأن الظل في هذه المدة يعم الأرض ومن عليها {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً}، أي: لأقامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل، وبدا فيها

النقصان، فبطلوع الشمس يبدو النقصان في الظل، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادته ونقصه. وكلما علت الشمس نقص الظل، وكلما دنت للغروب زاد الظل، فهو قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}، يعني في وقت علو الشمس في السماء ينقص الظل يسيراً بعد يسير، وكذلك زيادته بعد نصف النهار، يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعدم الأرض كلها، فأما زوال الظل كله، فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت. وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً}، أي: ثم دللناكم بنسخ الشمس إياه عند طلوعهما / عليه، أنه خلق من خلق ربكم يوجده إذا شاء، ويغيبه إذا أراد، أي: ثم جعلنا الشمس على الظل دليلاً.

وقيل: معنى ذلك: أنه لو لم يكن شمس تنسخه لم يعلم أنه شيء، إذ كانت الأشياء إنما تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل في أشباه لذلك. وقوله: جل ذكره: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}، أي: قبضنا ذلك الدليل من الشمس على الظل إلينا قبضاً خفياً سريعاً بالشمس الذي يأتي فتنسخه. قال مجاهد ثم قبضناه: جري الشمس إياه. وقيل: إن الهاء في {قَبَضْنَاهُ}، عائدة على الظل، فمعنى الكلام ثم قبضنا الظل إلينا بعد غروب الشمس، وذلك أن الظل إذا غربت الشمس يعود فيقبضه الله بدخول الظلمة عليه قبضاً خفياً، ليس يذهبه مرة واحدة، بل يذهب قليلاً قليلاً.

47

وقال ابن عباس {يَسِيراً}، سريعاً. وأصل اليسير أنه فعيل من اليسر وهو السهل اللين. وقال مجاهد: يسيراً: خفياً. قال ابن جريج: مثل قول مجاهد وزاد: إنما بين الشمس والظل مثل الخيط. وقال: {دَلِيلاً} والشمس مؤنثة لأنه ذهب إلى الضوء. وقيل: ذكر لأن الشمس لا علامة فيها للتأنيث. وذهب أبو عبيدة: أن العرب تقول: هي عديلي للتي تعادله، وهي وحي. قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً}. أي: والذي مد الظل، ثم جعل الشمس عليه دليلاً، هو الذي جعل لكم الليل لباساً أي: ستراً وجُنة تسكنون فيه: فصار ستراً تستترون في ظلمته، كما

48

تستترون بالثياب التي تلبسونها. وقوله: {والنوم سُبَاتاً}، أي: راحة تستريح به أبدانكم، وتهدأ جوارحكم. وقوله: {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً}، أي: يقظة وحياة من قولهم نشر الميت إذا حيي. قال تعالى: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، أي: أرسل الرياح الملقحة حياة أمام رحمته، وهي المطر، ثم قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً}، الطهور فعول من أبنية المبالغة، والفرق بين طهور وطاهر: أن الطهور يكون طاهراً مطهراً لما فيه من المبالغة، لأن بناء فعول للمبالغة وضع، ولولا معنى المبالغة التي أحدثت بنيته، مما جاز أن يدل على أنه مطهر لغيره، لأن فعله: طَهَر أو طَهُر وكلاهما غير

49

متعد، فكذلك يحب أن يكون اسم الفاعل غير متعد، والطاهر لا يدل على أنه مطهر لغيره، إذ ليس فيه مبالغة في بنائه وإذ هو اسم فاعل من فعل غير متعد تقول: طهر الماء، وطهر فلا يتعدى إلى مطهر، فكذلك اسم الفاع لا يجوز أن يتعدى إلى مطهر إلا أن يحدث فيه بناء يدل على المبالغة فيحسن أن يدل على مطهريه فاعرفه. قال: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً}، إنما جاء ميتاً على التذكير لأن البلدة والبلد سواء. وقيل: إنه رده على الموضع لأن البلدة موضع ومكان. ثم قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً}، أي: نسقي هذا الماء الذي أنزلنا من السماء {أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}. قال الأخفش: واحد الأناسي: إنسي، ككرسي، وكراسي. قاله المبرد،

50

وهو أحد قولي الفراء وله قول آخر. قال واحد الأناسي: إنسان كأن أصله أناسين، ثم أبدل من النون ياء، ثم أدغم الياء التي قبلها فيها. قال تعالى ذكره ": {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ}، أي: قسمنا هذا الماء بين الخلق ليذكروا نعم الله عليهم ويشكروا {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً}، أي: فأبى أكثرهم إلا جحوداً لنعم الله تعالى عليهم. وقال ابن عباس: ما عام أكثر من عام مطرا، ولكن الله يصرفه بين خلقه في الأرضين كيف يشاء. ثم قرأ الآية. وقال ابن مسعود ليس عام أمطر من عام، ولكن الله يصرفه، ثم قرأ الآية. وقوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً}، يقولون مطرنا بنوء كذا. قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً}، أي: لو شئنا لأرسلنا إلى أهل كل مصر نذيراً ينذرهم بأمر الله / فيخف عنك يا محمد كثير من عبء ما

53

حملناك، ولكن حملناك ثقل نذارة جميع القرى. لتستوجب بصبرك، ما أعد الله لك من الكرامة عنده، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ}، أي: بالقرآن حتى ينقادوا. قاله ابن عباس. وقيل " به ": الإسلام، قاله ابن زيد. وقيل: معناه: {وَجَاهِدْهُمْ}، بترك الطاعة لهم، لقوله: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين}. قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ}. أي: والله الذي خلط البحرين الحلو والملح في رأي: العين، ومرج بمعنى خلط. وقيل: معناه: خلى.

54

وقيل: معناه أدام ماء البحرين جعل إدامته الماء فيهما مرجاً وحبساً للماء، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً}، قال مجاهد: محبساً. وقال ابن زيد: ستراً. {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي: منعاً لئلا يفسد العذب المالح، فبينهما حاجز من قدرة الله تعالى وجلّ ثناؤه. قال {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}، أي: النطفة: خلق منها الإنسان {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً}. قال ابن عباس: النسب سبع وهي في قوله تعالى ذكره: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم}، إلى {وَبَنَاتُ الأخت} [النساء: 23] والصهر سبع وهي في قوله: {وأمهاتكم الاتي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] إلى آخر ذكر الصهر.

وقال الضحاك: النسب: الأقرباء، والصهر ذوات الرضاع. وقيل: النسب الذكور من الأولاد، والصهر: الإناث من الأولاد لأن المصاهرة من جهتهن تكون. وقال الأصمعي: الختّن كل شيء من قبل المرأة مثل ابن المرأة وأخيها، والأصهار يجمع هذا كله يقال: صاهر فلان إليهم وأصهر. وقال ابن الأعرابي: الأَختَان: أبو المرأة وأخوها وعمها، والصهر: زوج

55

ابنة الرجل، وقرابته، وأصهاره: كل ذي محرم من زوجته. وقيل: عني بقوله: {خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً}، آدم خلقه من الأرض التي أصلها مخلوقة من ماء. وقد أخبرنا الله جلّ ذكره أنه خلق جميع الحيوان من ماء: فقال: {خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ} وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ}، أي: يعبد هؤلاء المشركون من دون الله ما لا يحب لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرراً. ثم قال تعالى: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً}، أي: معيناً للشيطان على ربه

مظاهراً له على معصيته. قال ابن جريج: هو أبو جهل ظاهر الشيطان على ربه. وقاله ابن عباس. وقال عكرمة: الكافر: إبليس وعن ابن عباس أن الكافر يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه. وعنه أنه قال: هو أبو جهل، كان عوناً لمن عادى الله ورسوله. وقيل معناه: إن الكافر يستظهر بعبادته الأوثان، وبمن يعبدها معه من الكفار على الله D لأنهم يطمعون أن يغلبوا رسول الله صلى الله عليه [وسلم]، والكافر اسم لجنس جميع الكفار. وقيل: معناه: وكان الكافر على ربه هيّنا، من قولهم ظهرت به، فلم ألتفت

56

إليه، إذا جعلته خلف ظهرك فلم تلتفت إليه. فكأن الظهير أصله مفعول، ثم صرف إلى فعيل وهو قول أبي عبيدة. أي: لم نرسلك يا محمد إلا لتبشر أهل الطاعة بالجنة، وتنذر أهل المعصية بالنار. قال {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: ما أطلبكم على إنذاري لكم بأجر، فتقولون: إنما تطلب أموالنا فيما تدعونا إليه فلا نتبعك. وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}، هو استثناء منقطع أي: من شاء منكم أن يتخذ إلى ربه طريقاً بإنفاقه من ماله في سبيل ربي، فتعطوني من أموالكم وما ينفقه في ذلك، فتتخذوا بذلك طريقاً إلى رحمة ربكم، وقيل ثوابه. قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ}، أي: توكل يا محمد على

59

الحي الذي له الحياة الدائمة. . . {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}، أي: واعبده شكراً منك له على نعمه / {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}، أي: لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، و {خَبِيراً} أبلغ من خابر. قال تعالى: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}، أي: اخترع ذلك في ستة أيام، وقال: {وَمَا بَيْنَهُمَا}، فأتى بلفظ التثنية وقد تقدم ذكر جمع، لأنه أراد النوعين، والستة الأيام أولها يوم الأحد، وآخرها الجمعة. {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}، وذلك يوم السبت فيما قيل، ولا يجوز أن يتوهم أحد في ذلك: جلوساً ولا حركة ولا نقلة، ولكنه استوى [على]، العرش كما شاء، لا يمثل ذلك، جلوساً ولا يظن له انتقال من مكان إلى مكان، لأن ذلك لمن صفة المحدثات. وقد قال تعالى ذكره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلا يحل لأحد أن يمثل صفات ربه - الذي ليس كمثله شيء - بصفات المخلوقين الذين لهم أمثال وأشباه - فكما أنه تعالى لا يشبهه شيء، كذلك صفاته ليست كصفات المخلوقين. فالاستواء معلوم، والكيف لا نعلمه، فعلينا التسليم لذلك.

وقد قيل: استوى: استولى، والمعنى: ثم استولى بمقدرته على العرش، فرفعه فوق السماوات والأرض المخلوقة هي وما بينهما في ستة أيام، والعرش مخلوق بعد السماوات والأرض. ثم استولى بقدرته عليه، على عظمه، فرفعه فوق السماوات والأرض. والله أعلم بمراده في ذلك، فهذا موضع مشكل وإنما ذكرنا قول من تقدمنا لم نأت بشيء من عندنا في هذا وشبهه. ثم قال: {الرحمن فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}، الرحمن مرفوع على البدل من المضمر في استوى أو على: هو الرحمن، أو على الابتداء والخبر: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً}، ويجوز الخفض على النعت للحي، ويجوز النصب على المدح، ومعناه: فاسأل عنه خبيراً. الباء بمعنى: عن. كما قال جلّ ذكره: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]، أي: عن عذاب، ومعناه

60

عند الأخفش: فاسأل عن الرحمن أهل العلم يخبروك، فخبير مفعول للسؤال. وقال علي بن سليمان: الباء على بابها. والتقدير: فاسأل بسؤالك الذي تريد أن تسأل عنه: خبيراً، فخبير مفعول به مثل الأول. وقيل: خبيراً: حال من الهاء في به: والتقدير: إذا أخبرتك شيئاً يا محمد فاعلم أنه كما أخبرتك أنا الخبير: وهو قول ابن جريج. قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن}، أي: إذا قيل للكفار اسجدوا للرحمن خالصاً قالوا: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}، وزادهم هذا القول نفوراً من الإيمان، وعن إخلاص السجود لله. ومعنى نفوراً فراراً. وقيل: إنما عتوا هنا بالرحمن: رحمان أليمامة: مسليمة الكذاب لأنه يسمى الرحمن. وقد كانوا مقرين بالرحمن الذي خلقهم. قال الله تعالى عنهم: {لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، وعلى هذا القول يحسن

61

القراءة بالياء والتقدير: أنسجد لما يأمرنا رحمان اليمامة، ومن قرأه بالتاء: جعله خطاباً للنبي A. وقيل: إن قراءة الياء على معنى: قول بعضهم لبعض: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} محمد صلى الله عليه [وسلم]. قال تعالى ذكره: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً}، أي: قصوراً. كما قال {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وقيل: البروج: منازل الشمس والقمر؛ قاله مجاهد وقتادة، والنجوم كلها هي في البروج. ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً}، يعني الشمس {وَقَمَراً مُّنِيراً} أي:

62

مضيئاً. ومن قرأ " سُرُجاً " بالجمع جعل البروج: القصور،، والسروج: النجوم. ومن قرأ سراجاً بالتوحيد جعل البروج المنازل والسراج: الشمس، والضمير في " فيها " على القراءة، من قرأ: " سرجاً " بالجمع يعود على البروج التي هي القصور، ومن قرأ " سرجاً " بالتوحيد كان الضمير يعود على السماء، وإن شئت على البروج. ويكون السراج يؤدي على الجمع كما قال: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] / أي جعل فيها مضيئة. وقرأ الأعمش و " قُمرا " بضم القاف وإسكان الميم، جعله جمعاً وهي قراءة شاذة. قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً}.إلى قوله

(وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [67]. أي: جعل كل واحد من الليل والنهار خلقاً من الآخر ما فات في أحدهما من عمل الله أدرك قضاؤه في الآخر. قاله عمر Bهـ، وابن عباس والحسن قال مجاهد: معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفاً لصاحبه جعل هذا أسود وهذا أبيض. وعن مجاهد أيضاً: أن المعنى: أنه جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وكذلك قال ابن زيد، وخلفة: مصدر ولذلك وحد.

قال ابن زيد: لو كان الدهر كله ليلاً لم يدر أحد كيف يصوم، ولو كان نهاراً لم يدر أحد كيف يصلي. وقيل: المعنى: جعل الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، لمن أراد أن يتذكر نعم الله عليه في ذلك. ويشكره على ما فعل بمعاقبة الليل والنهار، إذ لو كان الدهر كله ليلاً لبطلت المعائش والتصرف فيها، ولم يتم زرع ولا ثمر. ولو كان الدهر كله نهاراً لبطلت الأجساد عند عدم الراحة، ولبطلت الزراع والثمار: لدوام الشمس عليها، فجعل كل واحد يخلف الآخر لمن أراد أن يتذكر نعمة الله في ذلك على خلقه، وحسن تدبيره لهم في منامهم.

63

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}، عباد رفع بالابتداء، والخبر محذوف عند الأخفش. وقال الزجاج وغيره: الخبر {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 57]. وقيل: الخبر {الذين يَمْشُونَ}، {سَلاَماً}، منصوب على المصدر، وإن شئت " تعالوا ". وقوله: {قَالُواْ سَلاَماً}، منسوخ بالأمر بالقتال: إنما كان هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ولم يتكلم سيبويه في شيء من الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، وهو من التسليم، لا من التسليم تقول: " سلاماً منك " أي: تسلماً منك. قال سيبويه في الآية: ولم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين،

ولكنه على قولك لا خير بيننا ولا شر، وقد ردت على سيبويه هذه العبارة. إنما كان حسبه أن يقول: ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يحاربوا المشركين. ومعنى قول سيبويه على الصحة، ولم يؤمر المسلمون يومئذ لأن يُسَلّموا على المشركين، ولكن أمروا أن يَسْلَموا منهم ويتبرءوا ثم نسخ ذلك بالأمر بالحرب. ومعنى الآية: وعباد الرحمن الذين يرضاهم لنفسه عباداً: هم الذين يمشون على الأرض في سكون، وتواضع، وخشوع، واستكانة. وهذا هو ضد مشي المختال الفخور المرح الذي هو مذموم الحال. ومعنى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}، أي: إذا خاطبهم أهل الجهل من العصاة والكفار بالقبيح صانوا أنفسهم عن مساواتهم في القبيح، قالوا قولاً حسناً يسلمون به من مساواتهم في القبيح.

وهم الذين يبيتون لربهم: يصلون ويقولون كذا وكذا، ما حكى الله عنهم. قال أبو هريرة: هم الذين لا يتجبرون ولا يتكبرون. وقيل معنى: {يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً}، أي بالسكينة والوقار، وغير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين بفساد. قال ابن عباس: يمشون بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال مجاهد: يمشون بالسكينة والقوقار والحلم. وقال زيد بن أسلم: التمست تفسير هذه الآية فلم أجدها عند أحد، فأتيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض. وقال ابن زيد هم الذين لا يتكبرون في الأرض، ولا يتجبرون ولا يفسدون،

وهو قوله تعالى: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} [القصص: 83]. وقال الحسن يمشون حلماء علماء، لا يجهلون، وإن جهل عليهم لم يجهلوا. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}، إذا خاطبهم الجاهلون بالله بما / يكرهون من القول أجابوهم بالمعروف والسداد من الخطاب، فقالوا: تسلماً منكم وبراءة بيننا وبينكم. قال الحسن: إن المؤمنين قوم ذلل، ذلت والله منهم الأسماع، والأبصار، والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى، وما بالقوم من مرض وإنهم لأصحاب القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، فلما وصلوا إلى بغيتهم قالوا: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] والله ما حزنهم حزن الدنيا، ولا تعاظم في أنفسهم بما طلبوا به الجنة: أبكاهم الخوف من النار، وإنه

64

من لا يتعزى بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل عمله وحضر عذابه. أي يبيتون يصلون. قال فضيل: هم قوم إذا جنّهم الليل قاموا على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم. قال: {عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}، أي: يدعون الله أن يصرف عنهم عذابه حذاراً منه. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}، أي: دائماً لا ينقطع. قال محمد بن كعب القرطبي: إن الله جلّ ثناؤه سأل الكفار ثمن نعمه فلم يؤدوها فأغرمهم فأدخلهم النار. وقال الحسن: قد علموا أن كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم. فيكون

66

المعنى على هذين القولين، إن عذابهما لازم لمن حل به، لا يفارقه أبداً، ولم ينصرف جهنم للعجمة والتعريف، وإن شئت للتأنيث والتعريف. أي: ساءت من المستقرات مستقراً. قال تعالى: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ}، أي: لم يزيدوا في النفقة، ويبذروا ولم يضيقوا. حكى الأصمعي: قَتَر يَقْتُر ويقتر وقَتّر يُقَتّر، وأقتر يُقتر: إذا ضيق وقد أنكر أبو حاتم على من جعله من أقتر. وقال: إنما يقال: أقتر إذا افتقر. كما قال: {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} وقد غاب عنه وجه ما حكى الأصمعي وغيره. ثم قال: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، أي: وكان الإنفاق قواماً بين الإسراف والإقتار أي: عدلاً.

وقد أجاز الفراء: أن يجعل بين {ذَلِكَ} اسمَ كان وهو مفتوح، وجاز فتحه في موضع الرفع لأنه أكثر ما يأتي منصوباً، فترك على أكثر أحواله في حال الرفع، ومنه قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11]، دون في موضع الرفع لأنه أكثر ما يأتي منصوباً فترك على أكثر أحواله. قال ابن عباس: الإسراف: النفقة في معصية الله، والإقتار منع حقوق الله. وقاله مجاهد وابن جريج. وقال إبراهيم: لا يجيع عياله بالتقتير ولا يغرنهم، ولا يوسع حتى يقول الناس: قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: كانوا يريدون من الثياب ما يستر عورتهم،

68

ويكتنّون به من الحر والبرد، ويريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، لا يلبسون للجمال، ولا يأكلون للذة. وقال عون بن عبد الله الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق. وقيل: الإقتار: التقصير عما يجب عليك {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}، النفقة بالعدل. وقال مجاهد: لو أنفق رجل ماله كله في حلال، أو طاعة الله لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً في حرام لكان مسرفاً. قال سفيان الثوري: لم يضعوه في غير حقه، ولم يقصروا به عن حقه، وكل نفقة في معصية الله فهي سرف، وإن قلت، وكل نفقة في غير معصية الله فليست بسرف، وإن كثرت. قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ}. أي: والذين يخلصون لله العبادة، والدعاء، ولا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها

إلا بالحق، وهو كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس فيقتل بها، ولا يزنون فيأتون ما حرم الله. ثم قال تعالى ذكره: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً}، أي: من يفعل / العبادة لغير الله أو يقتل نفساً بغير حق، أو يزني يلق عذاب الآثام أي: عقابها، وعقابها: مضاعفة العذاب، والتخليد في النار مهاناً. قال مجاهد وعكرمة: الآثام: واد في جهنم. وسيبويه وغيره من النحويين: يقدرونه بمعنى يلق جزاء الآثام. قال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً}، الآية وروي: أن هذه الآية نزلت في قوم من المشركين، أرادوا الدخول في الإسلام، وقد عملوا في الكفر أشياء من هذه الذنوب فخافوا ألا ينفعهم مع ما سلف من ذنوبهم. فنزلت هذه

الآية، ونزل: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية، ونزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ}، فهي مخصوصة فيمن أسلم، وقد كان عمل هذه الكبائر في حال كفره، ويدل على أن هذا الاستثناء في الكفار قوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ}، فقرن الإيمان مع التوبة. وقيل: هذه الآية منسوخة بالتي في النساء قاله زيد بن ثابت وذكر أن آية النساء التي نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر. وقال الضحاك: بين السورتين ثماني حجج. وذكره تعالى للإيمان مع التوبة يدل على أنه محكم في الكفار، وآية النساء إنما هي في المؤمنين: يقتلون المؤمنين

فكلاهما محكم غير منسوخ في وجه النظر. وعن ابن عباس أنه قال: قرأنا هذه الآية: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق}، الآية، بسنتين حتى نزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}، الآية قال: فما علمت رسول الله A فرح بشيء فرحه بها، وبسورة: {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1]. ثم قال تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}، قال ابن عباس: معناه: كانوا قبل إيمانهم على السيئات، فرعب الله بهم عن ذلك، فحولهم إلى الحسنات، فأبدلهم الله مكان السيآت حسنات. أي: مكان عمل الحسنات. وعن ابن عباس أنه قال: يبدل بكل مكان سيئة عملها حسنة يعملها في الدنيا. وقيل معناه: أولئك يبدل الله قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في

الإسلام فيبدله بالشرك إيماناً. قال ابن جبير: نزلت في وحشي وأصحابه. قالوا: كيف لنا بالتوبة، وقد عبدنا الأوثان وقتلنا المؤمنين، ونكحنا المشركات؟ فأنزل الله تعالى {إِلاَّ مَن تَابَ}، الآية. فأبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الله، وبقتالهم المؤمنين: قتالهم المشركين، وينكاح المشركات نكاح المؤمنات. وروي عن عائشة Bها: أن النبي A قال: " يعطى العبد كتابه بيمينه، فيقرأ سيآته، ويقرأ الناس حسناته ثم يحول صحيفته، فيحول الله سيآته حسنات، فيقرأ هو حسناته ويقرأ الناس من سيئاته حسنات، فيقول الناس: ما كان لهذا العبد من سيئة، قال: ثم يعرف بعمله، ثم يغفر الله له ". وعن ابن عباس: أبدلوا بالشرك إيماناً، وبالقتل إمساكاً، وبالزنا إحصاناً.

وقال ابن المسيب: روى عطاء عن ابن عباس: تصير سيآتهم حسنات لهم يوم القيامة. وروى أبو ذر: أن النبي A قال: " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة. ثم ثال: يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: نَحُّوا كِبارَ ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت كذا في يوم كذا، وعملت كذا في يوم كذا، قال: فيقول: يا رب لقد عملت أشياء ما أراها هنا، قال: فضحك رسول الله A حتى بدت نواجذه. قال: فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة ".

71

قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة يوم القيامة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدلهم الله إيماناً من الشرك، وإخلاصاً من الشرك، وإحصاناً من الفجور. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة حسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة. واختار الطبري: أن يكون المعنى: يبدل الله أعمالهم في الشرك حسنات في الإسلام ينقلهم عن ما / يسخطه إلى ما يرضاه. ثم قال تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً}، أي: ذا غفر عن ذنوب من تاب من عباده، وراجع طاعته، وذا رحمة به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها. أي: ومن تاب من الشرك

72

بالله، وآمن بالله ورسوله، وعمل صالحاً فيما أمره الله به {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً}، أي: توبة مؤكدة لأنه إذا تاب من الشرك، فقد تاب من عظيم، فإذا عمل صالحاً فقد أكد توبته. قال تعالى: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، يعني الشرك، قاله الضحاك. وقيل: المعنى: فإنه يرجع إلى الله رجوعاً فيجازيه على توبته وعمله. والثاني ليس من الأول لأنه يراد به العبث، والأول يراد به الرجوع عن الكفر، والمعاصي. وقال مجاهد الزور: الغناء، أي: لا يسمعون الغناء، وهو قول محمد بن الحنفية. وقال ابن جريج: هو الكذب. وقيل: إنهم كانوا إذا ذكروا النكاح كَنَّوا عنه. وعن ابن عباس: أن الزور هنا أعياد المشركين وكنائسهم. والزور الباطل. وعن ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم قرأ الآية، وروي

مثل ذلك عن النبي A أنه قالها في خطبة له. تقديره: يشهدون الشهادة الزور. وقيل: الزور: الكذب والخنا والسفه، فهو في المعنى: لا يشهدون كل مشهد يكون فيه ذلك، أي: لا يحضرونه، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بغير صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فالشرك يحسن عند متبعه، والغناء كذلك، وكذلك الكذب. فمعنى الآية على هذا المعنى: والذين لا يحضرون شيئاً من الباطل. ثم قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً}، أي: إذا مروا بمن يلغو عليهم من المشركين ويؤذيهم مروا كراماً، أي: أعرضوا عنهم وصفحوا. وقيل معناه: إذا مروا في كلامهم بذكر النكاح كنوا عنه، قاله مجاهد. وقيل: المعنى: إذا مروا بما كان المشركون فيه من الباطل مروا منكرين له.

73

قاله ابن زيد. وقال الحسن: اللغو هنا المعاصي كلها، واللغو في كلام العرب: كلُّ ما يجب أن يلغى ويطرح من كلام، أو فعل باطل. وقيل: هذه الآية منسوخة بقتال المشركين، لأنه أمرهم بعد ذلك إذا مروا باللغو الذي هو الشرك أن يقاتلوا أهله، وإذا مروا باللغو الذي هو معصية أن يغيروه، ولم يكونوا أمروا بذلك بمكة. ومعنى {مَرُّوا كِراماً}، أي: أكرموا أنفسهم عن الجلوس والخوض مع من يلغو. أي: والذين إذا ذكرهم مذكر بحجج رهم وأدلته، لم يقفوا على تلك الحجج صمّاً لا يسمعونها، وعمياً لا يبصرونها. ولكنهم أيقاظ القلوب فهماء العقول. والكافر بخلاف ذلك لأنه لا ينتفع بما يسمع وما يبصر، فصار بمنزلة من لا يسمع ولا يبصر، ومعنى {يَخِرُّواْ} يقيموا على ذلك، كما يقال: شتمت فلاناً فقام يبكي، أي: فظ يبكي، ولا قيام هناك، ولعله كان مضطجعاً. ويقول: نهيت فلاناً

74

فقعد يشتمني أي: فجعل يشتمني، ولعله كان قائماً. فجرى ذلك على مخاطبة العرب، ولا خُرور ثَمَّ، وقيل المعنى: لم يتغافلوا عنها ويتركونها فيكونون بمنزلة من لا يسمع ولا يرى. وقيل المعنى: لم يسجدوا صماً وعمياناً بل سجدوا سامعين، فيكون بمنزلة قول الشاعر: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت أي: إنما أغمدوها بعد أن كثرت القتلى. وقيل المعنى: إنهم إذا أمروا بمعروف، أو نهوا عن منكر لم يتغافلوا عن ذلك وقبلوه. قوله تعالى: ذكره {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا / مِنْ أَزْوَاجِنَا}. أي: والذين يرغبون إلى الله في دعائهم، ومسألتهم أن يهب لهم قرة أعين، من

أزواجهم، وذرياتهم؛ أي: ما تقر به أعينهم من أولادهم، وذلك أن يريهم إياهم يعملون بطاعة الله. قال الحسن: ذلك في الدنيا وهو المؤمن يرى زوجه وولده مطيعين لله، وأي شيء أقر لعين المؤمن أن يرى زوجته وولده مطيعين لله. قال ابن جريج: معناه: يعبدونك فيحسنون عبادتك. وقال ابن زيد: يسألون لأزواجهم وذرياتهم الإسلام. ثم قال تعالى ذكره: {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}، أي: اجعلنا يقتدي بنا من بعدنا في الخير، قاله ابن عباس، وعنه أيضاً: المعنى اجعلنا أئمة هدى يهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة لأنه قال في السعادة {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، وقال في أهل الشقاء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41].

75

قال مجاهد: معناه: واجعلنا أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا. وقوله {إِمَاماً} وحد لأنه مصدر كالقيام والصيام. وقيل: هو واحد يدل على الجمع كالعدو. وقيل: هو جمع آثم وإمام كقائم وقيام. قال تعالى ذكره: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ}، أي: هؤلاء الذين تقدم ذكرهم يجزون الغرفة أي يثابون على أعمالهم: الغرفة، وهي منزل من منازل الجنة. {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: دائمين المقام، ماكثين فيها. {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}، أي: حسنت تلك الغرفة مستقراً، أي: قراراً {وَمُقَاماً}، أي: إقامة. قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ}، أي: قل يا محمد لهؤلاء

الذين أرسلت إليهم: ما يعبأ بكم ربي، أي: أي شيء يصنع بكم ربي، لولا دعاؤكم إلى الإيمان؟ قال ابن عباس: لولا دعاؤكم: لولا إيمانكم، فأخبر جلّ ذكره الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يجعلهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين. وقال مجاهد: لولا دعاؤكم: أي: لولا دعاؤكم إلى الله لتعبدوه وتطيعوه. قال الفراء: لولا دعاؤكم: لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام. ومعنى: ما يعبأ أي: ما يصنع بكم قال الزجاج: لولا دعاؤكم. أي لولا توحيدكم إياه. ومعنى: ما يعبأ

بكم أي: وزن لكم عنده من قولك: ما عبأت بفلان أي: ما كان له عندي وزن ولا قدر. قال: وأصل العبء في اللغة: الثقل. وقوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}، هو يوم بدر. وقيل: هو ما لوزم بين القتلى يوم بدر. والتقدير: فسوف يكون عاقبة تكذيبهم اللزام. وعن مجاهد أنه قال في معناه: لولا دعاؤه إياكم لتطيعوه فقد كذبتم فسوف يكون عذابكم لزاماً وقد مضى اللزام وهو يوم بدر.

وقيل: المعنى: لا منفعة لله في خلقه إياكم إذ لا يضره فقدكم، لولا ما أراد من دعائه إياكم إلى طاعته، ليجازيكم على ذلك إن قبلتموه ويعاقبكم إن عصيتموه فقد كذبتم فسوف تعلمون. وقال القتيبي: المعنى: ما يعبأ بعذابكم ربي لولا دعاؤكم غيره، أي: لولا شرككم به. وقال الضحاك: لولا عبادتكم إياه. ثم قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}، أي: فقد كذبتم رسولكم فسوف يكون عقاب تكذيبكم لرسولكم لزاماً، أي: ملازماً لكم، أي: عذاباً ملازماً وهو ما حل بكم يوم بدر. وقال ابن مسعود: اللزام: يوم بدر. وقال أبي بن كعب: هو القتل يوم بدر: وهو قول مجاهد والضحاك، وقال ابن زيد: اللزام: القتل يوم بدر.

وقال ابن عباس: اللزام: الموت. وقال أبو عبيدة: فسوف يكون لزاماً أي: جزاء يلزم كل عامل يعمله من خير أو شر.

الشعراء

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشعراء مكية / قوله تعالى ذكره: {طسم} [1] إلى قوله (يَسْتَهْزِئُونَ) [5]. قال ابن عباس: طَسِم: قسم، أقسم الله جلّ ذكره به، وهو من أسماء الله. وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن، فالتقدير على قول ابن عباس: والسميع إن هذه الآيات التي أنزلتها على محمد في هذه السورة، آيات الكتاب التي أنزلتها من قبلها الذي يبين لمن تدبره بفهم وفكر فيه. يعقل أنه من عند الله لم ينخرصه محمد، ولا تقوله من عند نفسه والمعنى في {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين}، أي:

3

هذه الآية التي كنتم وعدتم بها على لسان موسى، لأنهم قد وعدوا في التوراة والإنجيل بإنزال القرآن. قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي: لعلك قاتل نفسك يا محمد لأجل تأخرهم عن الإيمان بك. قال تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً}، أي: إن نشأ يا محمد ننزل عليهم لأجل تكذيبهم لك من السماء آية. {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}، أي: فظل القوم ختضعة أعناقهم لها. قال قتادة: معناه لو شاء الله لأنزل آية يذلون بها، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله. قال ابن جريج: معناه لو شاء لأراهم أمراً من أمره، لا يعمل أحد بعده بمعصية.

وقيل: المعنى: لو نشاء لأنزلنا عليهم عليهم آية تلجئهم إلى الإيمان من غير أن يستحقوا على ذلك ثوابه ولا مدحاً، لأنهم اضطروا إلى ذلك، ولم يفعله الله بهم ليؤمنوا طوعاً. فيستحقوا على ذلك الثواب، إذ لو آمنوا كرهاً بآية لم يستحقوا على ذلك الثواب. وقال مجاهد: أ'ناقهم: كبراؤهم. وقال أبو زيد والأخفش: أعناقهم: جماعاتهم، يقال: جاءني عنق من الناس، أي: جماعة، ويقال: جاء في عنق من الناس أي: كبراؤهم. وهذا قول مجاهد. وقال عيسى بن عمر: خاضعين، وخاضعة هنا واحد وهو اختيار المبرد. فمن قال: خاضعين رده على المضاف إليه. ومن قال: خاضعة رده على الأعناق لأنهم إذا ذلوا ذلت رقابهم، وإذا ذلت رقابهم ذلوا. ثم قال تعالى ذكره {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ}، أي: ما يأتي هؤلاء المشركين من تذكير يحدثه الله

6

إليك، ويوحيه إليك إلا أعرضوا عنه ولم يسمعوه، فهو محدث عند النبي عليه السلام، وعند من نزل عليه، وليس بمحدث في الأصل إنما سمي محدثاً لحدوثه عند من لم يكن يعلمه، فأنزل الله إياه، وهو غير محدث لأنه كلام الله، صفة من صفاته، ولو كان القرآن محدثاً لكانت الأخبار التي فيه لم يعملها الله حتى حدثت تعالى الله عن ذلك. ولو كان محدثاً لكان قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] الآية، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] السورة محدثاً فيكون التوحيد لله محدثاً، وتكون صفاته التي أخبرنا بها في القرآن محدثة؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. أي: كذبوا بالذكر الذي أتاهم فسيأتيهم أخبار ما قد كذبوا به واستهزءوا منه، وهذا تهديد من الله لهم أنه سيحل بهم العقوبة على تماديهم على تكذيبهم وكفرهم وإنما أخبر

7

عنهم بالكذب، لأنه أخبر عنهم بالإعراض عن القرآن، ومن أعرض عن شيء فقد تركه، ومن ترك قبول شيء فقد كذب به، فلذلك أخبر عنهم بالتكذيب. وهذا من التدريج والإيماء، ودل قوله: {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أن من كذب بشيء فقد استهزأ به، واستخف به. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا}. المعنى: أَوَلَمْ ير هؤلاء المكذبون بالبعث إلى الأرض كم أنبتنا فيها بعد أن كانت مينة لا نبات فيها {مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، أي: من كل جنس حسن، فكما أحيينا الأرض بهذا النبات، كذلك نحييهم بعد الموت للبعث/ يوم القيامة، لأن أصلهم من الأرض فهم كالأرض. قال الشعبي: الناس من بنات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم، ومن صار إلى النار فهو لئيم.

9

قال الفراء: الزوج اللون. قم قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي: إن في إنباته النبات في الأرض لدلالة لهؤلاء المنكرين للبعث على كون البعث، وأن القدرة التي أنبت الله بها في الأرض ذلك النبات، ليقدر بها على نشر الموتى بعد مماتهم. ثم قال {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ}، أي: قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون فأخبر عنهم ما سبق في علمه منهم. قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} أي: لا يمتنع عليه شيء يريده {الرحيم}، أي: ذو الرحمة لمن تاب من كفره. قال ابن جريج: كل شيء في الشعراء من قوله " عزيز رحيم " فمعناه عزيز حين انتقم من أعدائه، رحيم بالمؤمنين حين أنجاهم ممن أهلك.

10

قال تعالى: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى أَنِ ائت القوم الظالمين}، أي: واذكر يا محمد، إذ نادى ربك " موسى " بأن إئت القوم الظالمين، ثم بيَّنهم فقال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}، أي: فقل لهم: ألا يتقون، وجاء باليا، لأنهم غيب عن المخاطبة. ودل قوله: {أَلا يَتَّقُونَ}، على أنهم كانوا لا يتقون، ودل أيضاً على أنه أمر موسى أن يأمرهم بالتقوى، فهذا من باب الإيماء إلى الشيء بغيره، لأنه أمره بأن يأتي القوم الظالمين ولم يبين لأي شيء يأتيهم، فدل قوله {أَلا يَتَّقُونَ}، لأي شيء يأتيهم وهو الأمر بالتقوى والتقوى اسم جامع للخير كله من الإيمان والعمل. فكأنه قال: أن إئت القوم الظالمين ومرهم بالتقوى فهذا مفهوم الخطاب. ثم قال تعالى: حكاية عن قول موسى: {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}، أي: أخاف من قوم فرعون أن يكذبون بقولي: إنك أرسلتني إليهم، ويضيق صدري

من تكذيبهم إياي، ولا ينطلق لساني بالعبارة عما ترسلني إليهم به للعلة التي في لساني. ثم قال: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ}، يعني أهاه، أي: ليؤازرني ويعينني، فالمعنى اجعله رسولاً لك معي. ثم قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ}، أي: ولقوم فرعون علي ذنب أذنبته إليهم، وهو قتله القبطي بالوكزة {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}، يعني قود بالنفس التي قتلت منهم. {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}، وقف، و {أَلا يَتَّقُونَ}، التمام و {أَن يُكَذِّبُونِ}، وقف إن رفعت {وَيَضِيقُ} على الاستئناف، فإن رفعت عطفت على {أَخَافُ}، أو نصبت عطفت على {يُكَذِّبُونِ}، كان التمام {أَن يَقْتُلُونِ}.

17

ثم قال: {قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ}، أي: لن يقتلوك انزجر عن الخوف من ذلك فإنهم لا يصلون إليك. فاذهب أنت وأخوك بآياتنا، أي: بإعلامنا، وحججنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ}، ووجه قوله: {مُّسْتَمِعُونَ} أنه بمعنى سامعون لأن الاستماع إنما يكون بالإصغاء، وذلك لا يجوز على الله جلّ ذكره، وأخبر عن نفسه بلفظ الجماعة وذلك جائز. وقال: {مَعَكُمْ} وهما اثنان لأن الاثنين جمع، كما قال: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] يريد أخوين ويحتمل أن يكون ثم قال: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين}، وحد رسولاً وهما اثنان لأنه أراد به المصدر بمعنى الرسالة. يقول: أرسلت رسالة ورسولاً. وتقديره: إنا ذوا رسالة. وقيل: رسول اسم للجمع كالعدو والصديق، فلذلك أتى موحداً. أي: بأن أرسل معنا بني إسرائيل أي: بأن

18

تطلقهم وتخلي سبيلهم. قال: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} أي: قال فرعون لموسى حين قال له: أرسل معنا بني إسرائيل - ألم نربك ميتاً صغيراً، وفي الكلام حذف والتقدير: فلما ذهبا إليه قالا ذلك. وقوله: / {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}، بمن فرعون على موسى بتربيته عنده إلى أن قتل القبطي. وروى الخفاف عن أبي عمرو " عُمْرك " بإسكان الميم، وحكى سيبويه فتح العين وإسكان الميم في القسم في " لعمرك " فلا يستعمل في القسم عنده إلا مفتوحاً لخفته، وكثرة استعمالهم له في القَسَم. قال تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ}، يعني قتله القبطي، يوبخ فرعون موسى بذلك. وقرأ الشعبي {فَعْلَتَكَ} بكسر الفاء يريد به الحال

والهيئة كما تقول: هو حسن المثبه والركبة والجلسة. وقوله: {وَأَنتَ مِنَ الكافرين}. قال السدي: معناه: وأنت من الكافرين على ديننا هذا التي تعيب؛ أي: أنت ساتر على ديننا. قال ابن زيد: معناه: كفرت نعمتنا عليك، وتربيتنا لك فجازيتنا أن قتلت نفساً منا وكفرت نعمتنا. وكذلك قال ابن عباس: يريد كفر النعمة. وقيل المعنى: وقتلت نفساً منا وأنت الآن من الكافرين لنعمتي، وتربيتي إياك. فقال موسى لفرعون: {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين}، أي: قتلت النفس وأنا من الجاهلين، لأن ذلك قبل أن يأتيه الوحي من الله بتحريم قتله. يقال: جهل فلان الطريق وضل الطريق بمعنى، وفي حرف ابن مسعود من الجاهلين.

21

وقال ابن زيد: معناه: وأنا من الخاطئين لقتله لم أتعمده، قال أبو عبيدة: من الضالين: من الناسين. وقال الزجاج: وأنت من الكافرين لنعمتي ويجوز من الكافرين لقتلك الذي قتلت فنفى موسى الكفر، واعترف بأنه فعل ذلك جهلاً. وقيل: معنى: الضالين: أي: قتلت القبطي وأنا ضال في العلم بأن وكزتي له تقتله، لم أتعمد قتله ولا قصدت لذلك. قال تعالى {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}، أي: هربت منك خوفاً أن تقتلوني بقتلي القبطي منكم {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً}، قال السدي: نبوة. وقال الزجاج: الحكم: تعليمه التوراة التي فيها حكم الله.

{وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين}، أي إلى خلقه. ثم قال موسى لفرعون {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي وتربيتك إياي، وتركك استعبادي كما استعبدت بني إسرائيل نعمة منك تمنها عليّ، وفي الكلام حذف، والتقدير: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني لم تيتعبدني. وقال الأخفش قيل المعنى: وتلك نعمة على الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع. وقال الفراء: في الكلام حذف والتقدير: هي لعمري نعمة إذ مننت علي فلم تستعبدني، واستعبدت بني إسرائيل.

وقال الضحاك: المعنى إنك تمن علي بأن عبدتني وأنا من بني إسرائيل، لأنه روي أنه كان رباه على أن يستعبده. وقيل المعنى: وأنت من الكافرين لنعمتي، وتربيتي لك فأجابه موسى فقال: نعم هي نعمة أن هبّدت بني إسرائيل ولم تستعبدني. وأن في موضع رفع على البدل من نعمة. وقيل: هي في موضع نصب على معنى: بأن عبدت، يقال عبدت الرجل وأعبدته: إذا اتخذته عبداً. وقيل: وتلك نعمة تمنها عليّ أن استعبدت بني إسرائيل فكلفتهم تربيتي. لأن فرعون لم يربه إنما أمر من يربيه من بني إسرائيل أمه وغيرها. فلما منّ عليه فرعون بتربيته له. قال له موسى أثر بيتك إيأي: باستعبادك بني إسرائيل وتكليفك لهم

23

تربيتي نعمة لك علي لا نعمة لك في ذلك علي؛ لأن بني إسرائيل هم الذين تولوا تربيتي باستعبادك إياهم على ذلك. قوله تعالى ذكره: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين}، هذا يدل على أن موسى دعاه إلى طاعة رب العالمين. قال فرعون: {وَمَا رَبُّ العالمين}، فهذا حذف، واختصار يدل عليه جواب فرعون. وهذا من إعجاز القرآن، وإيتان اللفظ القليل بالمعاني الكثيرة. ومثل هذا لا يوجد في كلام الناس: أي: قال فرعون: وأي: شيء رب العالمين. قال موسى {قَالَ رَبُّ / السماوات والأرض} أي: مالكهن {وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ}، فأجابه موسى بصفات الله التي يعجز عنها المخلوقون، ولم يكن عنده رد على موسى غير أن قال لمن حوله: {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ}، أي: ألا تستمعون جواب موسى، لأن فرعون سأل موسى عن الأجناس أي: من أي: جنس رب العالمين فلما لم يكن الله جلّ ذكره جنساً من الأجناس

27

المعلومات ترك جوابه، وأجابه بدلالة أفعال الله، ومحدثاته من السماوات والأرض، ولم يخبره أنه جنس إذ لا يجوز، فعجّب فرعون قومه من جواب موسى له فقال لمن حول من القبط: ألا تستمعون إلى قول موسى، فزادهم موسى من البيان ما هو أقرب عليهم من الأول وأقرب إلى أفهامهم، فقال لهم {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين}، أي الذي دعوته إليه وإلى عبادته: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين}، أي: خالقكم، وخالق آبائكم الأولين فدل عليه بأفعاله، وترك ظاهر جواب فرعون، لأنه سأل عن الجنس، والأجناس كلها محدثة، فلم يجبه موسى عن ذلك إذ سؤاله ممتنع، وأجابه بأفعاله الدالة على قدرته، وتوحيده، فأتى بدليل يقرب من أفهامهم فلم يحتجّ فرعون عليه فيما قال بأكثر من أن نسبه إلى الجنون، لأنه قد قرر عند قومه أنه لا رب لهم غيره. فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، أي: لمغلوب على عقله، لأنه يقول قولاً لا نعرفه ولا نفهمه؛ يُلبس بذلك على قومه. يريد فرعون أن موسى مجنون إذ

أجابني بغير ما سألته عنه. فلم يجبهم موسى إلا بما يجوز أن يوصف به رب العالمين. فقال موسى عند ذلك محتجّاً على فرعون وزائداً له في البيان {رَبُّ المشرق والمغرب}، أي: مشرق الشمس، ومغربها وما بينهما من شيء. {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}، ما يقال لكم فأخبرهم أن ملك الله جلّ ذكره ليس كملك فرعون الذي لا يملك إلا بلداً واحداً، فلما علم فرعون صحة ما يقول موسى وتبين له ولقومه ذلك توعد موسى استكباراً وتجبراً فقال {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين}، أي: لئن أقررت بمعبود غيري لأسجننك مع من في السجن من أهله، فرفق به موسى، وقال له {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ}، أي: بآية ظاهرة تدلك على صدق ما نقول، وما ندعوك إليه إن قبلت، قال له فرعون: فأت بها إن كنت صادقاً، فإني لا أسجنك بعد ذلك {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ}، أي: تحولت ثعباناً ذكراً، وهي الحية. {وَنَزَعَ يَدَهُ}، أي:

أخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء تلمع للناظرين من غير برص. قيل: كان بياضهما يغلب على ضوء الشمس. وقيل: نزعها من قميصه. وقال المنهال: ارتفعت الحية في السماء قدر ميل، ثم سفلت حتى صار رأس فرعون بين نابيها فجعلت تقول: يا موسى: مرني بما شئت، فجعل فرعون يقول: يا موسى أسألك بالذي أرسلك قال: فأخذه بطنه، ثم قال فرعون للملا حوله أي للأشراف من قومه {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، قال ذلك بعدما أراه الآيتين، وأزال عنه ما خاف منه من الثعبان أن يبتلعه فلم بمكنه إنكار ما رأى فقال لقومه، ما قال عند ذلك: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ}، أي: يريد أن يخرج بني إسرائيل من أرضكم إلى الشام بقهره إياكم بالسحر، فالخطاب منه لأشراف قومه من القبط والمراد بنو

إسرائيل لأن القبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل. فالمعنى: يريد أن يخرج خدمكم من أرض مصر إلى الشام، ويبين هذا قوله في طه: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47] وقوله: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 17]، ثم قال فرعون لأشراف قومه من القبط: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} يشاورهم في أمر موسى فهذان كلامان اتصلا باللفظ، وهما من آيتين ومثله: اتصال كلام يوسف بكلام امرأة العزيز في قولها {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [يوسف: 51] انقضى كلام امرأة العزيز فقال / يوسف {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] ومثله اتصال كلام بلقيس بكلام الله جلّ ذكره في قوله: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] تم كرمها فقال الله جل ذكره: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] وقد قيل: إنه من كلام سليمان عليه السلام، ولهذا نظائر

38

كثيرة {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}، أي: أخرهما {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ}، يجمعون إليك، كل ساحر علم بالسحر. قال تعالى: {فَجُمِعَ السحرة لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}، أي: فجمع الحاشرون السحرة لوقت معلوم، تواعد فرعون وموسى بالاجتماع فيه وذلك يوم الزينة. {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59]، {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ}، لتنظروا لمن الغلبة ألموسى أم للسحرة؟ وقيل: المعنى: وقال بعض الناس لبعض: هل أنتم مجتمعون لننظر لمن الغلبة لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين موسى. وروى: أن الاجتماع كان بالاسكندرية قاله ابن زيد. فبلغ ذنب الحية يومئذ من وراء البحيرة وهربوا وأسلموا فرعون فهمّت

به فقال: خذها يا موسى، وكان مما يلي الناس به منه أنه لا يضع على الأرض شيئاً فأحدث يومئذٍ تحته، وكان إرساله الحية في القبة الخضراء. فكل ذلك قاله ابن زيد. وقال ابن لهيعة: كان فرعون لحيته خضراء، وكانت تضرب ساقه إذا رهب، وكانت له جمة خضراء مثل ذلك من خلفه، وكان إذا ركب غطى شعره، من خلفه الظهر، ومن بين يديه لحيته. ثم قال: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً}، أي: لما جاء السحرة فرعون لموسى قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً قبلك على سحرنا إن كنا نحن الغالبين موسى. قال لهم فرعون: نعم لكم الأجر قبلي إن غلبتهم وإنكم إذا غلبتهم لمن المقربين مني، فقالوا عند ذلك لموسى {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} [الأعراف: 15]، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه وقد نصه تعالى في غير هذا الموضع ولم يحذفه للإفهام وحذفه هنا للاختصار

والإيجاز، ودلالة الكلام عليه. فقال لهم موسى {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ}، يعني من حبالهم وعصيهم، فألقوا ذلك. {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ}، أي: أقسموا بعزة فرعون وسلطانه {إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون}، موسى {فألقى موسى عَصَاهُ}، حين ألقت السحرة حبالها وعصيها {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}، أي: تزدري ما يأتون به من القرية والسحر الذي لا حقيقة له. روي: أن حبالهم وعصيهم كانت حمل ثلاث مائة بعير، فابتلعت العصا جميع ذلك، ثم دنا موسى فقبض عليها بيده فصارت عصا، كما كانت أولاً وليس لتلك الحبال والعصي أثر، فألقي السحرة عند ذلك ساجدين مذعنين

أي تبين لهم كذب ما أتوا به وصدق ما جاء به موسى وإنه لا يقدر على ذلك ساحر، وقالوا في سجودهم {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين}، الذي دعا موسى إلى عبادته. {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}، والتقدير: فألقي الذين كانوا السحرة ساجدين لأنهم لم يسجدوا حتى آمنوا، وزال عنهم ذنب السحر فلا يسموا سحرة إلا على ما كانوا عليه. وذكر ابن وهب عن القاسم بن أبي بزة أنه قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل موسى {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] فأوحى الله إليه {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف: 117] فألقى عصاه فغذا هي ثعبانٌ مبين فاغرٌ فاه يبلغ حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك ساجدين، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات، قال: وكانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن هي رجعت عن قولها فهي

52

امرأته فلما أتوها / رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت بيتها في الجنة، فمضت على قوله وانتزع روحها فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. قوله: قال فرعون {آمَنتُمْ لَهُ}، أي: قال فرعون للسحرة آمنتم له أي: بأنّ ما جاء به حق {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}، في ذلك أي: قبل أن آمركم به. قال ابن زيد خطاياهم: السحر، والكفر اللذان كانوا عليهما. قال ابن زيد: كانوا يومئذ أول من آمن بموسى، وكان قد آمن بموسى ست مائة ألف وسبعون ألفاً من بني إسرائيل، فأول من آمن من عند ظهور الآية السحرة. قال {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ}، أي: أوحينا إلى موسى إذ تمادى فرعون في غيه، أن اسر ببني إسرائيل من أرض مصر {اإِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} أي: يتبعكم

53

فرعون وجنوده ليمنعوكم الخروج من أرض مصر. أي: جامعين يجمعون الناس لطلب موسى ومن معه، والمدائن يجوز أن يكون مفاعل ويكون همزها سماعاً على غير أصل، فتكون مشتقة من دان يدين. ويجوز أن يكون فعائل، ويكون همزها على الأصل وتكون مشتقة من مدن، وهذا أحسن من الأول. أي: قال فرعون لمن جمع من الناس: إن موسى ومن معه لشرذمة قليلون. والشرذمة الطائفة، وشرذمة كل شيء بقيته القليلة. قال أبو عبيدة: كانوا ست مائة ألف وسبعين ألفاً فوصفهم بالقلة.

قال عبد الله بن شداد بن الهاد: اجتمع يعقوب، وولده إلى يوسف وهم اثنان وسبعون وخرجوا مع موسى وهم ست مائة ألف غير من نات، وخرج فرعون على فرس أدهم حصان في عسكره ثمان مائة ألف. قال الزجاج: كانت مقدمة فرعون: سبع مائة ألف، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة. وقال قيس بن عباد: كانت مقدمة فرعون ست مائة ألف، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة، في يده حربة وهو خلفهم في الدهم، فلما انتهى موسى ببني إسرائيل البحر، قالت بنو إسرائيل: يا موسى أين ما وعدتنا؟ هذا البحر بين

أيدينا، وهذا فرعون وجنوده قد دهمنا من خلفنا، فقال موسى للبحر: إنفلق يا أبا خالد، فقال: لا أنفلق يا موسى، أنا أقدم منك خلقاً، فنودي موسى {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} فضربه فانفلق البحر، وكانوا اثني عشر سبطاً، فسار لكل سبط طريق، فلما انتهى أول جنود فرعون إلى البحر، هابت الخيل البحر، ومثل الحصان منها وديق فرس، فوجد ريحها فاشتد، واتبعته الخيل فلما تتام آخر جنوده في البحر، وخرج آخر بني إسرائيل، أمر البحر فانطبق عليهم، فقالت

بنو إسرائيل: ما مات فرعون وما كان ليموت أبداً، فسمع الله تكذيبهم لنبيه، فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمر فرآه بنو إسرائيل. قال مالك: خرج مع موسى رجلان من التجار إلى البحر، فلما أتيا إليه قالا له: ماذا أمرك ربك به؟ قال: أمرني ربي أن أضرب البحر بعصاي هذه فيجف، فقالا / له " إفعل ما أمرك به ربك فلن يخلفك، قال ثم ابتدرا إلى البحر، فألقياه أنفسهما فيه تصديقاً به. قال ابن جريج: أوحى الله جلّ ذكره إلى موسى قبل أن يسري بهم أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضأن فأضربوا بدمائها على

الأبواب فإني سآمر الملائكة ألا تدخل بيتاً على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون ثم أخبزوا خبزاً فطيراً، فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنهي البحر، فيأتيك أمري، ففعل فلما أصبحوا، قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه، قتلوا أبكارنا، فأرسل في أثرهم ألف ألف وخمس مائة ألف وخمس مائة ملك مصور، مع كل ملك ألف رجل، وخرج فرعون في الكرسي العظيم، وقال: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}، وكانوا ست مائة ألف، منهم أبناء عشرين سنة إلى الأربعين. وقال ابن عباس كان مع فرعون يومئذ ألف جبار كلهم عليه تاج، وكلهم أمير على خيل. قال ابن جريج: كان ثلاثون ألفاً يعني من الملائكة ساقة، خلف

55

فرعون يحسبون أنهم معهم، وجبريل عليه السلام أمامهم يرد أوائل الخيل على آخرها، فأتبعهم حتى انتهوا إلى البحر. أي: بقتلهم أبكارنا. وقيل: معناه: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} بذهابهم بالعواري التي كانوا استعاروها من الحلي. وقيل: {لَغَآئِظُونَ} بخروجهم من أرضنا بغير رضانا. وقال عمرو بن ميمون: قالوا لفرعون: إن موسى قد خرج ببني إسرائيل، فقال: لا تكلموهم حتى يصيح الديك، فلم يصح تلك الليلة ديك فلما أصبح: أحضر شاة فذبحت، وقال: لا يتم سلخها حتى يحضر خمسمائة ألف فارس من القبط فحضروا.

56

قوله: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) من قرأ بألف وبغير ألف فمعناه عند أبي عبيدة واحد، وهو مذهب سيبويه لأنه أجاز أن تعدى بحذراً كما يعدى حاذراً. وقال الجرمي: لا يجوز حذر زيداً إلا على حذف (من). وقال الكسائي والفراء والمبرد: رَجُل حَذِرٌ. إذا كان الحَذَرُ في خلقته فهو متيقظ منتبه، فلا يتعدى على هذا المعنى كما لا يتعدى كريم وشريف. ومعنى حاذر عندهم: مستعد فيكون المعنى على قراءة من قرأ بغير ألف: وإنا لجميع قد استشعرنا الحذر حتى صار كالخلقة وقيل معناه: وإنا لجميع حاملون السلاح، وإن بني إسرائيل لا سلاح معهم. ومن قرأ بألف فمعناه: مستعدون بالسلاح، فهو أمر محدث فيهم.

57

قال ابن مسعود حاذرون مؤدون في الكراع والسلاح أي: معهم أداة ذلك. وقيل حاذرون: شاكون في السلاح: وقرأ ابن عمار حادرون بالدال غير معجمة بمعنى: ممتلئين غيظاً. تقول العرب جمل حاذر: إذا كان ممتلئاً غيظاً. وقيل: حاذرون ممتلئون بالسلاح. قال تعالى ذكره: {}، أي: أخرج الله فرعون وقومه من بساتين وعيون، وكنوز ذهب وفضة. {}، أي: حسن، يعني المنابر. وقال عبد الله بن عمرو: نيل مصر: سيد الأنهار، سخر الله له كل

59

نهر بين المشرق والمغرب وذلَّله له، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر يمده، فتمده الأنهار بمائها، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله، أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وقال: كانت الجنات بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعاً من أسوان إلى رشيد. وقال: المقام الكريم: الفيوم. أي: هكذا أخرجناهم من ذلك، كما وصفت لكم في هذه الآية. {وَأَوْرَثْنَاهَا}، أي: أورثنا تلك الجنات، والعيون والكنوز، والمقام

60

الكريم: بني إسرائيل. أي: اتبع فرعون وأصحابه موسى ومن معه وقت الشروق. وقال أبو عبيدة نحو المشرق، يقال أشرقنا: دخلنا في الشروق، كما يقال: أصبحنا دخلنا في الصباح. ويقال: شرقنا، إذا أخذوا نحو المشرق، وغربنا إذا أخذوا نحو المغرب. فعلى هذا لا يصح قول أبي عبيدة إلا لو كان مُشْرِقين. قال مجاهد: خرج موسى ليلاً فكسف بالقمر، وأظلمت الأرض وقال أصحابه: إن يوسف أخبرنا أنا سنُنَجَّى من فرعون، وأخذ علينا العهد لنخرجن بعظامه معنا: فخرج موسى من ليلته سأل عن قبره، فوجد عجوزاً بيتها على قبره، فأخرجته له بحكمها، وكان حكمها أن قالت: احملني فاجر بي معك، فجعل عظام يوسف في كسائه، وجعله على رقبته، وخيل فرعون في ملء أعنتها خضراء في

61

أعينهم، وهي لا تبرح، حبست عن موسى، وأصحابه حين تراءوا. الوقف عند نافع " كذلك " وعند أبي حاتم {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58]. قال تعالى {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان}، أي: رأى بعضهم بعضاً: قال أصحاب موسى {لَمُدْرَكُونَ}، أي: الملحقون. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير بالتشديد وهو مفتعلون، ومعنى التخفيف لملحقون، ومعنى التشديد: لمجتهد في لحاقنا، كما

يقال: كسبت بمعنى أصبت وظفرت. وأكسبت بمعنى اجتهدت وطلبت. وروي: أنهم قالوا ذلك تشاءموا بموسى وقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا. قال: السدي: لما نظرت بنو إسرائيل إلى فرعون، وقد ردفهم قالوا: إنا لمدركون، قالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا، فكانوا يذبحون أبناءنا، ويستحيون نسائنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا، وفرعون من خلفنا. وعن ابن عباس أنه قال: لما انتهى موسى البحر، هاجت الريح العواصف والقواصف، فنظر أصحاب موسى خلفهم إلى الرهج وإلى البحر أمامهم فقالوا يا موسى: إنا لمدركون. {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، أي: ليس الأمر كما ذكرتم لا

يدركونكم، إن معي ربي سيهدين طريقاً أنجو فيه من فرعون وقومه. قال عبد الله بن شداد بن الهاد: لقد بلغني أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفاً من دهم الخيل سوى ما في جنده من شية الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف، طلع فرعون في جنده من خلفهم ثم قال تعالى {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} روي: أن الله جلّ ذكره: أمر البحر أن لا ينغلق حتى يضربه موسى بعصاه. قال السدي تقدم هارون فضرب البحر، فأبى البحر أن ينفتح: وقال: من هذا الحبل الذي يضربني حتى أاه موسى فكناه أبا خالد وضربه فانفلق.

64

قال ابن جريج انفلق على اثني عشر طريقاً، في كل طريق سبط وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً فكانت الطريق كجدران، فقال كل سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى، دعا الله فجعلها لهم بقناطر كهيئة الطيقان ينظر بعضهم إلى بعض، على أرض يابسة، كأن الماء لم يصبها قط حتى عبروا. وقوله تعالى: {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم}، أي: كالجبل العظيم. قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين}، أي: قربنا " ثم " أي: هنالك الآخرين يعني قوم فرعون من البحر، وقدمناهم إليه. قال ابن عباس: أزلفنا قدمناهم / إلى البحر. وقال ابن جرير: قربنا، وكذلك قال قتادة.

وقال أبو عبيدة: أزلفنا: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة. أي: ليلة جمع. وقيل: أزلفنا أهلكنا: وقرأ أبيُّ بن كعب: " أزلقنا " بالقاف. قال السدي، دنا فرعون وأصحابه بعدما قطع موسى ببني إسرائيل البحر من البحر، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقاً قال: ألآ ترون: أن البحر فرق مني، قد تفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم، فلما قام فرعون على أفواه الطرق أتت خيله أن تقتحم، فنزل جبريل عليه السلام على ما ذيانة فشمت الحُصُ، ريح الماذية، فاقتحمت في إثرها حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم.

65

قال تعالى ذكره {وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ}، يعني بني إسرائيل {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين}، يعني فرعون وقومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: إن في فعلنا بهم لعلامة، وحجة، ووعظاً لقومك يا محمد أن ينالهم مثل ذلك على تكذيبهم لك. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، أن أكثر قومك يا محمد لم يكونوا مؤمنين، في سابق علم الله. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز}، أي: عزيز في انتقامه ممن كفر به، رحيم بمن أنجاه من الغرق {لآيَةً}، قطع كاف، و {مُّؤْمِنِينَ} تمام، و {الرحيم} تمام. قال تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}، أي: واقصص يا محمد على مشركي قومك خبر إبراهيم، حين قال لأبيه وقومه، أي: شيء تعبدون {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}، أي: نثبت خدماً مقيمين على عبادتها. قال ابن جريج: هو الصلاة لأصنامهم. قال إبراهيم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}، أي: هل يسمعون دعاءكم إذ تدعونهم.

73

قال الأخفش التقدير هل يسمعون منكم أو هل يسمعون دعاءكم ثم حذف، وقرأ قتادة: هل يُسمِعونكم بضم الياء، أي: هل يُسمعونكم كلامهم. وقيل: المعنى: هل يسمعونكم إذا دعوتموهم لصلاح أموركم، وهل يستجيبون لكم، ويعطونكم ما سألتموهم، وهل ينفعونكم إذ عبدتموهم وهل يضرون من لا يعبدهم، كل ذلك توبيخاً لهم وتقريعاً. وقوله: {أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}، أي: هل تنفعكم هذه الأصنام فترزقكم شيئاً على عبادتكم لها، أو يضرونكم إذا تركتم عبادتها. فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، أي: نحن نفعل ذلك، كما فعله آباؤنا وإن كانت لا تسمع ولا تنفع، ولا تضر، إنما نتبع في عبادتها فعل آبائنا لا غير. وهذا الجواب: حائد على السؤال لأنه سألهم: هل يسمعون الدعاء، أو ينفعون أو يضرون، فحادوا عن الجواب وقالوا: {وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وليس هذا

جوابه، ولكن لما لم يكن لهم جواب، حادوا لأنهم لو قالوا: يسمعون، وينفعون، ويضرون لبان كذبهم عند أنفسهم وعند جماعهم، ولو قالوا: لا يسمعون، ولا ينفعون، ولا يضرون، لشهدوا على أنفسهم بالخطأ والضلال في عبادتهم من لا يسمع، ولا ينفع ولا يضر، فلم يكن لهم يد من الحيدة عن الجواب، فجاوبوا بما لم يسألوا عنه وقالوا: {وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، ولم يُسألوا عن ذلك، وهذا من علامات انقطاع حجة المسؤول، ويبين أنهم حادوا عن الجواب، إدخال بل مع الجواب، وبل للإضراب عن الأولى والإيجاب للثاني فهم أضربوا عن سؤاله، وأخذوا في شيء آخر لم يسألهم عنه انقطاعاً منهم عن جوابه، وإقراراً بالعجز.

75

قوله تعالى ذكره: قال {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}. أي: ما تعبدون من الأصنام انتم وآباؤكم المتقدمون قبلكم. {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي}، أي: يوم القيامة كما قال {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] وأخبرنا الله تعالى عن الأصنام، كما يخبر عن من يعقل. جاز أن يقول هنا: عدو لي ". وعدو يقع للجمع والمؤنث بلفظ واحد وقد قالوا: عدوة الله بمعنى معادية. وقيل: هذا من المقلوب، لأن الأصنام لا تعادي أحداً، ولا تعقل، والمعنى فإني عدو لهم أي: عدو لمن عبدهم. وأصل العداوة، من عدوت الشيء، إذا تجاوزته وتخلفته.

78

ثم قال تعالى ذكره: {إِلاَّ رَبَّ العالمين}، هو استثناء ليس من الأول أي: لكن رب العالمين، ويجوز أن يكون من الأول، على أن يكونوا قد كانوا يعبدون الله والأصنام، وتقدير الآية: أفرأيتم كل معبود لكم، ولآبائكم فإني منه بريء لا أعبد إلا رب العالمين. قال تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}، أي: يهدين للصواب من القول والعمل. {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}، أي: وهو الذي يغذيني بالطعام والشراب، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}، أي: يبرءني ويعافين {والذي يُمِيتُنِي}، إذا شاء {ثُمَّ يُحْيِينِ}، إذا أراد بعد مماتي. أي: يوم الجزاء على الأعمال، والطمع ها هنا بمعنى اليقين، كما جاء الظن بمعنى اليقين. وقيل: الطمع على بابه. لكن أراد أنه يطمع أن يغفر الله للمؤمنين ذنوبهم

يوم القيامة بإيمانهم، وهو على يقين من مغفرة الله له، لكن إجراء الخبر عن نفسه، والمراد غيره من المؤمنين. قال مجاهد: الخطيئة قوله {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} [الأنبياء: 63] وقوله في سارة إنها أختي، حين أراد فرعون من الفراعنة أن يأخذها. وقرأ الحسن: خطاياي: بالجمع، وقال: ليست: خطيئة واحدة، والخطيئة تقع معنى الخطايا كما يقع الذنب بمعنى الذنوب. قال تعالى ذكره: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} [الملك: 11] أي: بذنوبهم، وكما

83

قال: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] أي: الصلوات. قال {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً}، أي: نبوة {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين}، أي: أرسلني إلى خلقك حتى أكون ممن ائتمنته على وحيك، {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين}، أي: ذِكراً جميلاً، وثناء حسناً باقياً فيمن يجيء من القرون بعدي. قاله ابن زيد. وقيل: ذلك اللسان الصدق: إيمان جميع الأمم به. فأعطاه ذلك؛ فليس يهودي ولا نصراني ولا غيرهما من أهل الكتاب إلا يؤمن به ويحبه ويثني عليه، ويقول: هو خليل الله، وقد قطع الله تعالى ولاية جميع أهل الكتاب منه لما تولوه وادعوه، فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً} [آل عمران: 67] ثم ألحق ولايته بهذه الأمة فقال: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ} [آل عمران: 68] وهذا كله أجره الذي عجل له وهي الحسنة. إذ يقول {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه، هذا كله قول عكرمة. أو معنى قوله.

85

وقيل: معنى سؤاله، هو أن يجعل الله من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، ويدعو إليه، وهذا الدعاء هو لمحمد A، لأنه الذي قام بذلك في آخر الزمان وهو من ولد إبراهيم، فأجاب الله دعاءه، وبعث محمداً من ولده، فأقام الحق وبين الدين، فهو اللسان الصادق الذي أتى في الآخرين. أي: أورثني من منازل من هلك من أعدائك من الجنة. {واغفر لأبي} من شركه بك فلا تعاقبه عليه. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين}، أي: ممن ضل عن السبيل الهدى، وكفر بك. أي: لا تذلني بعقابك إيأي: يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة. روى أبو هريرة أن النبي A قال: " يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب / وعدتني

88

ألا تخزني يوم يبعثون. فيقول الله جلّ ذكره: إني حرمت الجنة على الكافرين ". وروى أبو هريرة أيضاً أن النبي A قال: " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة ". أي: لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا، ما كان له من مال وبنين. أي: لا ينفع إلا القلب السليم من الشك في توحيد الله، والبعث بعد الممات. قاله مجاهد. وقال قتادة: هو السليم من الشرك. قال ابن زيد: سلم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد. وقال الضحاك: السليم، الخالص. وقال سفيان: بلغني في قول الله تعالى {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، إنه الذي

90

يلقى ربه وليس في قلبه أحداً غيره. أي: أدنيت وقربت، أي: قرب دخولهم إياها. قال تعالى {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ}، أي: أظهرت النار للذين غووا. يروى: أن جهنم يؤتى بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام، تتلظى على أعداء الله. {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله}، أي: قيل للغاوين: أين الذين كنتم تعبدونهم من دون الله، هل ينصرونكم من عذاب الله، أو ينتصرون لأنفسهم فينحونها مما يراد بها. أي: رمي بهم في الجحيم، بعضهم على بعض مكبين على وجوههم. وأصل كبكبوا: كببوا: فأبدل من الباء الثاني كاف، استثقالاً لثلاث باءات.

95

وعن ابن عباس: كبكبوا: جمعوا فيها. قال ابن زيد: كبكبوا: طرحوا، والمعنى: فكبب هؤلاء الأنداد التي كانت تعبد من دون الله في الجحيم والغاوين. قال قتادة: الغاوون هنا: الشياطين، فيكون معنى الآية: فكبب فيها الكفار والشياطين. وقال السدي: فكبكبوا: يعني مشركي قريش، والغاوون الآلهة وجنود إبليس. وحقيقة معنى كبكبوا: تكرير الانكباب، كأنه إذا ألقي ينكب مرة، بعد مرة حتى يستقر فيها نعوذ بالله منها. أي: وكذلك جاث فيها مع

96

الأنداد جنود إبليس، وجنوده كل من كان من تباعه، ومن ذريته كان أم من غير ذريته. وقيل: جنود إبليس هنا: كل من دعاه إلى عبادة الأصنام، فساعد إبليس على ما يريد فهم جنوده. قال تعالى: {قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}، أي: في جهنم: يعني قول الغاوين للأنداد، وجنود إبليس، وتخاصمهم في جهنم، {تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: إنا كنا لفي ضلال مبين، أي: في حيرة ظاهرة. وقال الزجاج: المعنى تالله ما كنا إلا في ضلال عن الحق ظاهر. في العبادة والتعظيم.

99

(وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [99]، يعني إبليس وابن آدم القاتل أخاه. قوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ}، أي: فما لنا من شافع يشفع لنا عند الله من الأباعد، ولا صديق من الأقارب. قال ابن جريج من شافعين: من الملائكة، ولا صديق حميم من الناس. وقال مجاهد: حميم شقيق. وقال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع، وأن الحميم إذا كان صالحاً: شفع. وقال بعض أهل اللغة: الحميم الخاص. قال تعالى: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ}، أي: رجعة إلى الدنيا. {مِنَ المؤمنين}، بالله. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: لعلامة وذا إشارة إلى ما تقدم ذكره، والكاف خطاب النبي A، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}، أي: الشديد الانتقام، ممن عبد غيره من دونه ثم لم يتب من، كفره، / الرحيم

105

لمن تاب منهم. أي: كذبت جماعة قوم نوح المرسلين. وإنما جمع المرسلين ولم يرسل إليهم إلا نوح، لأن من كذب رسولاً بمنزلة من كذب جميع الرسل، ويجوز أن تكون قد كذبت الرسل مع تكذيبها لنوح، ولم تؤمن برسول كان قبله. وقيل: إنما أخبر عنهم: بتكذيب الرسل، لأنهم كذبوا نوحاً فيما أتاهم به عن الله، وكذبوا كل من دعا إلى توحيد الله من سائر المسلمين قبل نوح، الذين بلغهم خبرهم، ودعاتهم إلى توحيد الله، فقد كان قبل نوح رسل، ودعاة إلى الله جلّ ذكره إدريس وغيره. قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}، سمي نوح أخاهم لأنه كان من قبيلتهم.

107

{أَلاَ تَتَّقُونَ}، أي: تتقون عقاب الله على كفركم. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، أي: رسول من الله إليكم، أمين على وحيه إلي، ورسالته إيأي: إليكم. {فاتقوا الله}، أي: عقابه على كفركم به {وَأَطِيعُونِ}، وأطيعون في نصيحتي لكم، وأمري إياكم. {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: لا أسألكم على نصحي لكم، من ثواب ولا جزاء. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين}، أي: ما جزائي وثوابي على دعائي لكم إلا على رب العالمين، دونكم، ودون جميع الخلق. {فاتقوا الله}، أي: عقابه على كفركم، وخافوا حلول سخطه بكم على كفركم. قال: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون}، أي: كيف نؤمن لك، ونصدقك، وإنما اتبعك منا سفلة الناس، دون الأشراف وذوي الأموال.

روي: أنه إنما اتبعه، وآمن به سفلة الناس، وأصحاب الصناعات الخسيسة مثل الحاكة: فاتقوا أن تكونوا مثلهم، وتفعلوا فعلهم تجبراً على الله وكفراً به. {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، أي: إنما لي منهم ظاهرهم دون الباطن. وقيل: " كان " زائدة. والتقدير: وما علمي بما يعملون الآن، فأما ما كانوا يعملون فقد كان يعلمه. وقيل: معنى قوله: {وَمَا عِلْمِي}، وما علمي بما يعملون أي: لست أسأل عما كانوا يعملون، ولا أطلب علم ذلك. ذلك إلى الله يحاسبهم على أعمالهم، ويجازيهم عليها، فقد أظهروا الإيمان فليس لي إلا ما ظهر، والله المطلع على الباطن، فأما فقرهم فلا يضرهم ذلك عند الله، يعني من يشاء، ويفقر من يشاء. ليس الفقر بضار في الدين، ولا الغني بنافع في الدين، إنما ينفع الإيمان ويضر الكفر. قال مجاهد وقتادة: الأرذلون: الحاكة. وقيل: هم الحجامون.

113

وقرأ يعقوب: وأتباعك يعني إنه تعالى: يعلم سر أمورهم وعلانيتها. قال ابن جريج: معناه هو أعلم بما في أنفسهم. أي: قال لهم نوح: وما أنا بطارد من آمن بي، واتبعني. أي: ما أنا إلا منذر لكم عذاب الله، مبين عما جئتكم به. أي: لئن لم تنته عما تقول، وتدعونا إليه، وتعيب به آلهتنا لتكونن من المشتومين أي: لنشتمنك. وقيل: من المرجومين بالحجارة حتى نقتلك. أي: كذبون فيما أتيتهم به من الحق.

118

{فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي: احكم بيني وبينهم حكماً. وقال قتادة: معنى ذلك: فاقض بيني وبينهم قضاء. وكذلك قال ابن زيد. {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي} أي: نجني من ذلك العذاب، أي يأتي به حكمك: {وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين}، {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} يعني: {فِي الفلك المشحون}، والفلك جمع واحدة فلك، كأسد وأسد. وقيل: هو واحد وجمع، بلفظ واحد. قال ابن عباس: كانوا ثمانين رجلاً، فلم يتناسل منهم أحد إلا لولد نوح، عليه السلام. وهو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] فجميع العالم بعد نوح ليس بنسب إلا لنوح. قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: لعلامة وحجة على قدرة الله، وتوحيده، وذلك إشارة إلى ما تقدم من ذكر ما فعل بنوح، ومن آمن معه، وما فعل بالكفار من

122

الغرق. وبالكاف خطاب للنبي A. { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، يعني قوم نوح. أي: في انتقامه ممن عطاه. {الرحيم}، بالتائب منهم أن يعذبه بعد توبته. قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين}. قد تقدم ذكر علة الجمع في {المرسلين}. و " عاد " قبيلة وانصرف لخفته. وقيل: هو اسم الأب لهم {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}، أي: تتقون عقاب الله، ونقمته لكم على كفركم. أي: رسول من عند الله. أمين على ما أرسلني به، فلا أبلغكم إلا ما أرسلت به، ولا أخفي عنكم منه شيئاً.

126

أي: اتقوا عقاب الله، وأطيعوني فيما آمركم به، وأنهاكم عنه. {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: لا أسألكم على تبليغي لكم رسالة الله جعلاً ولا ثواباً. {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين}، أي: ما ثوابي وجزائي على نصحي لكم وتبليغي إياكم ما جئتكم به إلا على الله. أي: قال لهم هود موبخاً لهم: أتبنون بكل مشرف من الأرض بنياناً عَلَمَاً. قال ابن عباس: بكل ريع: بكل شرف. وعنه: بكل طريق. وقال مجاهد: بكل فج، وعنه: الريع: الشية الصغيرة.

129

وعنه: الفج ما بين الجبلين. وقال عكرمة: بكل فج وواد وقال الضحاك: بكل طريق. وقوله: {آيَةً تَعْبَثُونَ}، قال مجاهد هي بروج الحمامات، والرّيع والرَّيْعُ: لغتان. وقيل الريع: جمع ريعة. ومعنى {تَعْبَثُونَ} تلعبون. قال تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ}، قال مجاهد: هي قصور مشيدة. وقال قتادة وسفيان: هي مصانع الماء. والمصانع جمع مصنعة، وكل بناء تسمية العرب مصنعة.

130

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}، قيل: لعل هنا، استفهام بمعنى التوبيخ والمعنى: أتخلدون ببنياكم لها. وقيل: هي بمعنى: كما تخلدون أي: كيما تخلدون. وقيل: هي بمعنى: لأن تخلدوا. قال الزجاج. أي: إذا غضبتم، وسطوتم، سطوتم، قتلاً بالسيف وضرباً بالسياط. وهذا إنما يكره في الظلم، وهو جائز في الحق. {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}، أي: اتقوا عقاب الله، وأطيعون فيما آمركم به، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، يعني بالبنين والأموال، والبساتين، والعيون، والأنهار. يوم القيامة. أي: معتدل عندنا وعظك إيانا، وتركك الوعظ.

137

{إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين}، أي: دين الأولين: قاله ابن عباس. وقال قتادة: معناه خلقة الأولين أي: هكذا كانت خلقتهم يموتون ويحيون، فنحن نعيش كما عاشوا، ونموت كما ماتوا. وقال الفراء، معناه: عادة الأولين. ومن أسكن اللام فمعناه: تخرص الأولين وكذبهم أن ثم بعثاً، وحساباً، وعقاباً. {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}. قوله تعالى ذكره: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ}. فمعنى قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، أي: فكذبوا هوداً فيما جاءهم به، فأهلكوا بتكذيبهم. {} أي لعبرة: أي: إن في إهلاكنا عاداً بتكذيبهم رسلنا

141

لعظة. {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}، أي: أكثر عاد لم يكونوا مؤمنين. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} في انتقامه {الرحيم} بمن تاب وآمن. قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين}، ثمود: اسم للقبيلة عند من لم يصرفه، ومن صرفه جعله اسماً للأب، وتفسير قوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ}، إلى قوله {رَبِّ العالمين}، قد تقدم نظيره، وهو مثل ذلك. قال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ}، أي: أيترككم ربكم في هذه الدنيا: آمنين لا تخافون شيئاً. {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، أي: بساتين تجري فيها العيون. قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}، قال ابن عباس: هضيم: أي أينع وبلغ فهو هضيم. قال عكرمة: هو الرطب اللين.

149

قال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة: فتركب بعضه على بعض فهو حيمئذٍ هضيم. وقال الزهري: هو الرخص اللطيف، أول ما يطلع وهو الطلع النضيد، لأن بعضه فوق بعض. وأصل الهضيم في اللغة انضمام الشيء، وتكسره، للينه، ورطوبته. ومنه: قولهم: هضيم فلان فلاناً حقه: إذا انتقصه وأبخسه، وهضيم مفعول صرف إلى فعيل. وقيل: هضيم منه ما قد أرطب ومنه / ما هو مذنب. وقيل: هضيم أي: هاضم مرئ، فيكون على هذا فهيل، بمعنى: فاعل. أي: تنقبون في الجبال بيوتاً أشرين بطرين. وقال قتادة: معجبين، وعنه عن الحسن: آمنين.

وقال الضحاك: كيسين. وقال مجاهد: شرهين وقال أبو صالح: حاذقين. وكذلك روي أيضاً عن الضحاك. وكذلك، قال معاوية بن قرة، ومنصور بن المعتمر. وقد روي ذلك عن ابن عباس أيضاً. وقال ابن زيد: فرهين: أقوياء. وقال أبو عبيدة: مرحين. ومن قرأ: فارهين: بألف، فقيل: الهاء بدل من حاء. وقيل: هما لغتان. يقال فَرِه: يَفْرَه فهو: فاره، وفَرِه، يَفْرُهُ فهو فَرِهٌ وفاره: إذا

150

كان نشيطاً. قد مضى تفسيره. أي: المسرفين على أنفسهم، في تماديهم على معصية الله جلّ وعز. يعني الرهط التسعة بينهم. أي: يسعون في أرض الله بمعاصيه، ولا يصلحون أنفسهم بالعمل الصالح. قال مجاهد وقتادة: من المسحرين: من المسحورين. وقال ابن عباس: من المخلوقين. أي: ممن له سحر، والسِّحْر والسَّحْر: الرئة. وقيل: السحر: الصدر الذي يجري فيه الطعام إلى المعدة. وقيل: معناه من المعلَّلين بالطعام والشراب. {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}، أي: أنت من بني آدم: تأكل كما نأكل. تقول ذلك

ثمود لصالح. {فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين}، أي: فأتنا بدلالة وحجة تدل على أنك محق فيما تقول، فأتاهم بالناقة تدل على صدقه، وقال لهم: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}. روي أنه أخرجها لهم من صخرة. وقال لهم: لها يوم تشرب فيه فلا تعترضوا في شربها، ولكم أنتم شرب يوم آخر، لا تشارككم هي فيه. وروي: أنهم سألوا صالحاً عليه السلام: فقالوا له: إن كنت صادقاً فادع الله يخرج لنا ناقة من هذا الجبل. حمراء عُشَراء فتضع بكراً، ونحن ننظر، ثم ترد الماء فتشربه، وتغدو علينا بمثله لبناً، فجاءهم الله عزّ وجلّ بها، وجعل لها شرباً في يوم، ولهم شرب في يوم. فكانت يوم ترد الماء لا يردونه هم، ولكنهم تسقيهم مثل ما شربت لبناً، ويوم لا ترد هي يردونه هم فيشربون ويدخرون، فحذرهم صالح عقرها فعقروها فأهلكوا. وروي: أنهم لما سألوه آية قال لهم: أي: آية تريدون؟ فقالوا: أخرج

156

لنا من هذا الجبل الذي تنزل بسفحه: ناقة عشراء حتى نؤمن أنك رسول الله، فأمرهم أن يجتمعوا: ليخرج الله لهم الناقة من الجبل، على ما سألوه، فاجتمعوا ودعا صالح بإذن الله له فتحرك الجبل وانصدع، فخرجت منه ناقة، عظيمة الخلق وهي عشراء حاملة من غير فحل، فولدت فصيلاً بعد ذلك، فجعل الله لهم فيها آيات من ذلك خروجها من جبل، وعظم خلقها، وحملها من غير فحل، فلم يؤمنوا مع ما رأوا من الآيات، وأقاموا على كفرهم، ثم نهاهم عن عقرها، فخالفوه فعقروها، فأهلكهم الله أجمعين. والشِّرب: الحظ والنصيب من الماء. والشِّرْب، والشَّرْب، والشُّرْب مصادر كلها بلغات، والمضموم أشبهها بالمصادر، لأن المفتوح والمكسور يشتركان في شيء آخر. فيكون الشرب: الحظ من الماء، ويكون الشرب جمع شارب، كتاجر وتجر، واختار: أبو عمرو والكسائي الفتح في مصدر شرب. قال تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء}، أي: بعقر، وضرب وشبهه. {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، أي: يحل عليكم عذاب يوم القيامة.

157

أي: فخالفوا أمر صالح، فعقروا الناقة، فأصبحوا نادمين على عقرهم لها، لما أيقنوا بالعذاب، فأخذهم العذاب الذي كان صالح يوعدهم به فهلكوا. وقيل: إنهم لما ندموا على عقرها. ولم يتوبوا من كفرهم، طلبوا صالحاً ليقتلوه، فتنحى من بين أيديهم، هو ومن آمن معه، فأخذهم العذاب. قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، إلى قوله {الرحيم}، وقد تقدم تفسيره. قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين}، / إلى قوله {رَبِّ العالمين}، قد تقدم تفسيره. قال: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين}، أي: أتنكحون الذكور الذين حرم الله عليكم نكاحهم، وتَدَعُون النساء اللواتي أحل الله لكم نكاحهن. وعن زيد بن أسلم، أن المعنى: أتأتون أدبار الرجال وتدعون النساء.

167

ثم قال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي: تتجاوزون، ما أباحه الله لكم إلى ما حرم عليكم. وأكثر أهل التفسير: على أن الإشارة في النساء هنا إنما هي الفروج. وقيل: عادون: معتدون. قال: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين}، أي: لئن لم تنته عما تقول لنا وتنهانا عنه، لنخرجنك من بين أظهرنا، ومن بلدنا. قال لهم لوط: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ}، يعني من إتيان الذكور {مِّنَ القالين}، أي: من المبغضين المنكرين. ثم قال مستغيثاً لمَّا تواعدوه بالإخراج: {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ}، أي: من عقوبتك إياهم على ما يعملون. فاستجاب الله له دعاءه. فنجاه. {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}. أي: في الباقين: أي: فيمن بقي من العذاب، يعني

172

امرأته، لأنها كانت تدل قومها على أضياف لوط عليه السلام. وقيل: إنما قيل: {فِي الغابرين}، بمعنى أنها بقيت حتى كبرت وهرمت. وقيل: إنما كانت ممن بقي بعد قومها، ولم تهلك معهم في قريتهم، وإنما أصابها الحجر بعدما خرجت من قريتهم مع لوط فكانت من الباقين بعد قومها، ثم أهلكها الله بما أهلك به بقايا قوم لوط من الحجارة. وقال قتادة: قيل من الغابرين: لأنها غبرت في عذاب الله أي: بقيت فيه. وأبو عبيد: يذهب إلى أن المعنى: من الباقين في الهرم. أي: بقيت حتى هرمت. أي: ثم أهلكنا الآخرين: يعني من بقي من قوم لوط.

173

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً}، يعني من كان غائباً من قوم لوط أرسل عليه حجارة، فأما من كان في المدينة فإنه قلبت عليه عاليها سافلها، وأرسلت الحجارة على من لم يكن في المدينة، فتلقطتهم في الآفاق فأهلكتهم. قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}، إلى قوله {الرحيم} قد مضى تفسيره. قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ المرسلين}. قال أبو عبيد: ليكة اسم قرية. والأيكة اسم البلد كله. وترك الصرف على قراءة نافع ومن تبعه يدل على ما قاله قتادة: أرسل شعيب إلى قوم أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة.

والأيكة غيضة من شجر ملتف. وكان عامة شجرهم الدوم وهو شجر المقل وكان شعيب من ولد أبي أهل مدين ولذلك قال: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}، ولم يكن من ولد أبي أصحاب الأيكة. ولذلك قال {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}، ولم يقل أخوهم شعيب، كما قال في من تقدم ذكره من الأنبياء: أخوهم نوح، أخوهم هود، أخوهم صالح. لأن هؤلاء كانوا من ولد أبي القوم، وشعيب هو ابن ثوبة من ولد مدين بن إبراهيم، وأصحاب ليكة من صنام من العرب،

178

وأصحاب مدين من ولد مدين بن إبراهيم. قال الضحاك: خرج أصحاب ليكة. يعني حين أصابهم الحر، فانضموا إلى الغيضة والشجر، فأرسل الله عليهم سحابة، فاستظلوا بها، فلما تتاموا تحتها أحرقوا. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ}، أي: تتقون عقاب الله على معصيتكم إياه. أي: أمين على ما جئتكم به. قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}، إلى {رَبِّ العالمين}، قد تقدم تفسيره. أي: أوفوا الناس حقوقهم من الكيل، ولا تكونوا ممن ينقصهم حقوقهم. أي: بالميزان المقوم الذي لا بخس فيه على من وزنتهم لهم به. {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} أي: لا تنقصوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن. قال ابن عباس ومجاهد: القسطاس: العدل.

184

ثم قال تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ}، أي: لا تكثروا في الأرض الفساد. أي: وخلق الخلق الأولين. وفي الجبلة لغات: جبلة، وجُبُله، وجُبْلة ومن هذا قولهم: جبل فلان على كذا: أي: خلق عليه. وقد تقدم تفسير. {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين}، إلى الكاذبين. قال / D: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء}، أي: يقول قوم شعيب له: أسقط علينا جانباً من السماء. ومن قرأ: بفتح السين جعله جمع: كسفة، كسدرة وسدر، وكسرة وكسر. ويجوز أن يكون من أسكن، جعله أيضاً جمع كسفة: كثمرة وتمر، فيكون المعنى: فأسقط علينا قطعاً من السماء، إن كنت صادقاً فيما جئتنا به. أي: قال شعيب لقومه: ربي أعلم بما تعملون من عملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

189

قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة}، يعني بالظلة السحابة التي ظلتهم فلما تتاموا تحتها التهبت عليهم ناراً. قال ابن عباس: بعث الله عليهم رمدة وحراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا البيوت، فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله جلّ وعزّ عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً. فنادى بعضهم بعضاً، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. ومثل هذا المعنى قال قتادة. وروي: أن الله جلّ ذكره بعث عليهم سموماً فخرجوا إلى الأيكة وهي شجر الدوم، يستظلون تحتها من الحر. فأضرمها الله عليهم ناراً فاحترقوا أجمعين. وقيل: إن الله بعث عليهم حراً شديداً أو بعث العذاب في ظلة، فخرج رجل

190

فوجد برداً تحت الظلة فأنذرهم، فخرجوا بأجمعهم ليجدوا برد الظلة، فأهلكهم الله بها. قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم}، إلى قوله {الرحيم} قد تقدم تفسير ذلك. قال: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين}، يعني وإن الذكر، قالها: تعود على الذكر من قوله: {مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} وقال قتادة: تعود على القرآن. والمعنى واحد، أي: إن القرآن لتنزيل الله على جبريل: نزل به جبريل عليه السلام. {على قَلْبِكَ}، أي: تلاه عليك يا محمد. {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين}، أي: من رسل الله الذين ينذرون الأمم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، أي: تنذر به قومك بلسانهم العربي الظاهر لهم، لئلا يقولوا: إنه نزل بغير لساننا، فلا نفهمه، وهذا تقريع

196

من الله، وإظهار الحجة عليهم، إذ أعرضوا عنه بغير عذر يعتذرون به. أي: وإن هذا القرآن لفي كتب الأولين. فهذا لفظ عام ومعناه الخصوص، معناه: وإن هذا القرآن لفي بعض كتب الأولين، أي ذكره، وخبره في بعض ما أنزل على الأنبياء من الكتب. وقد قيل: معناه: وإن الانذار بمن أهلك لفي كتب الأولين. أي: أولم يكن لقريش علامة على صدقك، وحجة على أن القرآن من عند الله، وأن محمداً رسول الله A، أن علماء بني إسرائيل الذين أسلموا: يجدون ذكر محمد مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. قال ابن عباس: كان ابن

198

سلام من علماء بني إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بالقرآن فقال لهم الله: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ}. قال ابن عباس: الأنبياء كلهم من بني إسرائيل إلا أحد عشر: إدريس، ونوح، وصالح، وهود، وشعيب، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ومحمد A وعليهم أجمعين. أي: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق، فنطقت به ما آمنوا، ولقالوا: لولا فصلت آياته حتى نفهمه، والأعجمون جمع أعجم، وهو الذي لا يصفح، وإن كان غير أعجمي في

199

أصله والعجمي هو الذي أصله من العجم، وإن كان فصيح اللسان. قوله تعالى ذكره: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي: كما ختم على قلوب هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن، ولو نزلناه على بعض الأعجمين، فقرأه عليهم، كذلك سلكه التكذيب / والكفر في قلوب المجرمين، ومعنى: سلكناه: أدخلناه. والهاء في سلكناه، تعود على قوله {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، التقدير: كذلك أدخلنا ترك الإيمان في قلوب المجرمين. قال ابن جريج: سلكناه: يعني الكفر. وقال ابن زيد: الشرك، فليس يؤمنون حتى يعاينوا العذاب. وكذلك قال الحسن.

202

قال: {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: يأتهم العذاب فجأة وهم لا يعلمون بمجيئه. فيقولوا حين يأتهم فجأة: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}، أي: يؤخر عن هذا العذاب وينسأ في آجالنا لتتوب من شركنا. أي: يستعجل هؤلاء المشركون بالعذاب لقولهم لن نؤمن لك حتى تسقط السماء، كما زعمت، علينا كسفاً. قال: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ}، أي أرأيت يا محمد إن أخرنا في آجالهم سنين ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون. " ما " الأول في موضع نصب بأغنى. و " ما " الثانية: الفاعلة ويجوز أن تكون ما الأولى نافية، والثانية فاعلة، وتقدر حذفها من آخر الكلام. والتقدير: لم يغن عنهم الزمان الذي كانوا

208

يمتعونه. وقال عكرمة: عنى بالسنين: عمر الدنيا. قال: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} أي: وما أهلكنا من قرية من القرى التي تقدم ذكرها، ومن غيرها إلا لها منذرون، ينذرونهم عذاب الله، ويكذرونهم نعمه، " ذكرى " في موضع نصب على المصدر، لأن منذرون بمعنى: مذكرون. فتقف على هذا على " ذكرى " وكذلك إن نصبت " ذكرى " بإضمار فعل: أي جعلنا ذلك ذكرى لهم. وقيل: " ذكرى " في موضع رفع على إضمار المبتدأ تقديره: تلك ذكرى، وذلك ذكرى، وإنذارنا ذكرى. {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}، أي: ما كنا نظلم قرية، فنهلكها من غير إنذار وتذكرة. فتقف على هذا " منذرون " ثم تبتدئ " ذرى " أي: هذا القرآن ذكرى للمتذكرين، ودل على هذا الإضمار قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} [الشعراء: 210] الآية، أي:

210

القرآن ذكرى للمتذكرين، لم تنزل به الشياطين {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211]. أي: ما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد A، ولكن نزل به عليه الروح الأمين وهو جبريل A. وقرأ الحسن: الشياطون بالواو وهو غلط لأنه جمع مكسر إعرابه في آخره. أي: وما يتأتى للشياطين أن ينزلوا بالقرآن، ولا يصلح لهم ذلك ولا يستطيعون أن ينزلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء. أي: إن الشياطين عن سمع القرآن في المكان الذي هو به لمعزلون، فكيف يستطيعون ان ينزلوا به، والسمع مصدر في موضع الاستماع.

213

قال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ}، أي: قل يا محمد: لمن كفر لا تدع مع الله إلهاً آخر. {فَتَكُونَ مِنَ المعذبين}، وقيل: هو خطاب للنبي A، والمراد به جميع الخلق. ومعناه إنه خوطب بذلك ليعلمه الله حكمه فيمن عبد غيره كائناً ما كان، ودليل هذا قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}، فهذا خطاب للنبي A بلا اختلاف، والمعنى: أنذرهم لئلا يتكلوا على نسبهم، وقرابتهم منك فيدعوا ما يجب عليهم. " ولما نزلت هذه الآية بدأ النبي A ببني جده، وولده فحذرهم " وقالت عائشة Bها: " لما نزلت هذه الآية قال رسول الله A: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت رسول الله، يا بني عبد المطلب: إني لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم ".

وقال ابن عباس: " لما نزلت هذه الآية: قام رسول الله A على الصفا ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه فبين رجل يجيء وبين آخر يبعث رسوله، فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني / أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟. . {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} " السورة.

215

قال تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك}، أي: ألن لهم جانبك. أي إن عصاك عشيرتك في إنذارك لهم وأبوا إلا الإقامة على كفرهم أي: من عملكم، وعبادتكم الأصنام. قال: {وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز}، أي العزيز في نقمته من أعدائه، {الرحيم} لمن تاب من كفره. أي: تقوم إلى صلاتك. قال مجاهد: حيت تقوم أينما كنت. أي: ونرى تقلبك في صلاتك حين تركع وتسجد، وتقوم وتقعد. قاله ابن عباس وعكرمة، وعن ابن عباس معناه: وتقلبك في الطهور من طهر إلى طهر.

220

أي: السميع دعاءك، وتلاوتك، العليم بما تعمل أنت وغيرك. أي: على من تنزل الشياطين من الناس. أي: كذاب أثيم، أي: آثم. قال قتادة: هم الكهنة تسرق الجن السمع، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس. أي: يلق الشياطين ما استمعت إلى الكهنة. قاله مجاهد. وأكثر الكهنة كاذبون. وقيل: المعنى يلق الكهنة السمع أي: يسمعونه ويعقلونه {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}،. يعني الكهنة أيضاً. قالت عائشة: كانت الشياطين تسترق السمع فتجيء بكلمة حق فتقذفها في

224

أذن وليها. قالت: وتزيد فيها أكثر من مائة كذبة. أي: الشعراء يتبعهم أهل الغي، لا أهل الرشد. قال ابن عباس: الغاوون: رواه الشعر. وقال مجاهد، وقتادة هم الشياطين. وقال عكرمة، هم عصاة الجن. وقيل: هم السفهاء. وعن ابن عباس: أنها نزلت في رجلين: أحدهما من الأنصار، والآخر من غيرهم، تهاجيا على عهد النبي A، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه. أي: سفهاء. وكذلك

225

قال الضحاك. وقيل: الغاوون: ضلال الجن والإنس. وقال ابن زيد: الغاوون: المشركون، والشعراء هنا: شعراء، لأن الغاوون لا يتبع إلا غاوياً مثله. قال الطبري: هم شعراء المشركين، يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين، وعصاة الجن. هذا مثل ومعناه: أنهم في كل فن من القول الباطل يذهبون، يمدحون هذا بما ليس فيه، ويذمون هذا بما ليس فيه، فهم يذهبون، كالهائم على وجهه، قال ابن عباس: معناه في كل لغو يخوضون.

226

قال: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}، أي: يكذبون، ثم قال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}،. فهذا الاستثناء يدل على أن الأول في المشركين نزل والسورة مكية إلا هذه الآيات نزلت بالمدينة في: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وهم شعراء رسول الله A، ثم هي لكل من كان مثلهم. هذا قول ابن عباس، وأدخل الضحاك هذه الآيات في الناسخ والمنسوخ. فقال: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ}، نسخت ما قبلها. والصحيح أنه استثناء والاستثناء عند سيبويه بمنزلة التوكيد لأنه يبين به كما يبين بالتوكيد. قال قتادة: قوله: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، نزلت في

حسان، وكعب بن مالك، وعبد الله الأنصاري الذين هاجوا عن النبي A. ثم قال تعالى: {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً}، أي: ذكروه في حال كلامهم، ومحاورتهم ومخاطبتهم الناس / قاله ابن عباس. وقال ابن زيد: وذكروا الله كثيراً في شعرهم. وقيل المعنى: لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله. إنما ناضلوا من كذّب رسول الله A، وهو أحق الناس بالهجاء {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ}، أي: هجوا من هجاهم، من شعراء المشركين، وجاوبوهم عن هجائهم. قال ابن عباس: يردون على الكفار الذين هجوا المسلمين. قال سالم مولى تميم الداري: لما نزلت: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} الثلاث

الآيات: جاء حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى النبي A، يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآيات أنا شعراء، فتلا النبي A: { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، إلى {ظُلِمُواْ}. وقال: أنتم. ثم قال تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، يعنى مشركي مكة، الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله، سيعلمون أي: مرجع يرجعون، وأي: معاد يعودون بعد مماتهم، وأي منصوب ينقلبون على المصدر، وليس بمفعول به، لأن " ينفعل " لا يتعدى: نحو: ينطلق، فإنما نصبه على أنه نعت لمصدر محذوف عمل ما فيه {يَنقَلِبُونَ}، ولا ينتصب " سيعلم " لأن " سيعلم " خبر، أو " أي " استفهام ولا يعمل ما قبل الاستفهام فيه.

النمل

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النمل مكية قوله تعالى ذكره: {طس تِلْكَ آيَاتُ القرآن}. قال ابن عباس: طس: قسم، وهو من أسماء الله فيكون معناه على هذا التأويل: واللطيف السميع: إن هذه الآيات التي أنزلها الله على محمد A لآيات القرآن، وآيات كتاب مبين، أي يتبين لمن تدبره، وتفكر فيه، يفهم أنه من عند الله، لم تتخرصه أنت يا محمد، ولا أحد سواك، من خلق الله، إذ لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.

2

قال تعالى: {هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي هو هدى للمؤمنين به يهديهم إلى سبيل الرشاد ومبشراً لهم بالجنة والمغفرة. ثم نعت المؤمنين فقال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة}، يعني المفروضة يقيمونها بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُونَ الزكاة}، يعني المفروضة ويخرجونها في أوقاتها إلى مستحقها. {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ}، أي يصدقون بالبعث والحشر بعد الموت والجزاء. قال: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}، أي لا يصدقون بالبعث بعد الموت {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ}، أي حببناها لهم يعني الأعمال السيئة. وقال بعضهم: يعني الأعمال الجسنة: زينها لهم وبينها لهم، فخالفوا، وهذا مذهب المعتزلة، والأول مذهب أهل السنة. وهو ظاهر التلاوة والنص. {فَهُمْ يَعْمَهُونَ}، أي يترددون في ضلالهم، ويتحيرون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ثم وصف هذا الجنس أيضاً فقال: {أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب} يعني في الدنيا، عني به الذين قتلوا يوم بدر من مشركي قريش.

6

{وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون}، أي أخسر الناس لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وفي الآخرة تبيين، وليس يتعلق في الأخسرين، ويجوز أن يكون في الكلام حذف، والتقدير: وهم الأخسرون: في الآخرة هم الأخسرون. أي وإنك يا محمد، لتحفظ القرآن وتتعلمه من عند رب حكيم بتدبير خلقه، عليم بمصالحهم، والكائن من أمورهم، والماضي من ذلك. قال تعالى: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً}، العامل في: {إِذْ} اذكر. وقيل: العامل في {إِذْ} عليم، والتقدير: عليم، حين قال موسى لأهله: {إني آنَسْتُ نَاراً}، وذلك حين خرج موسى A من مدين إلى مصر، وقد آذاهم برد ليلهم، وضاع زنده. {إني آنَسْتُ نَاراً}، / أي أبصرت وأحسست. {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ}، في الكلام حذف، والتقدير: إني

8

آنست ناراً، فامكثوا سآتيكم من النار بخبر، أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون بها من البرد. قال ابن عباس: كانوا شاتين، قد أخطأوا الطريق. وأصل الطاء: ثاء، لأنه من صلى النار فهو يفتعلون، فأبدل من التاء طاء لتكون في الإطباق كالصاد، وأصله: يصتليون، ثم أعلى على الأصول، وأبدلت التاء طاء، كما قالوا: مصطفى، وأصله: مصتفى: لأنه مفتعل من الصفوة. قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار}، إلى قوله: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، معناه: فلما جاء موسى النار نودي أن بورك: أي بأنه بورك، ويجوز أن يكون (أن) في موضع رفع بنودي ولا يقدر جاراً، ومعنى بورك: قدس أي طهر من في النار، قاله ابن عباس.

وعن ابن عباس أنه قال: كان نور رب العالمين في الشجرة. وقال ابن جبير: ناداه وهو في النور. وقال الحسن: هو النور. وقال قتادة: نور الله بورك. وقيل: من في النار: الملائكة، الموكلون بها، ومن حولها الملائكة أيضاً يقولون: سبحان الله رب العالمين. وعن مجاهد معناه: بوركت النار. حكاه عن ابن عباس. قال محمد بن كعب: النار: نور الرحمن، والنور هو الله سبحان الله رب العالمين. وقال ابن جبير: النار: حجاب من الحجب وهي التي نودي منها وذكر الحجب: فقال: حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار،

وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء. قال عبد الرحمن بن الحويرث: مكث موسى عليه السلام، أربعين ليلة لا يراه أحد، إلا مات من نور رب العالمين. يعني إذ تجلى إلى الجبل. قال الطبري: إنما قال: بورك من في النار، ولم يقل: بورك على من في النار، على لغة الذين يقولون: باركك الله. والعرب تقول: باركك الله، وبارك عليك، حكى ذلك الكسائي عن العرب. وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، يعني من حول النار من الملائكة. قاله الحسن وغيره. وقال محمد بن كعب القرطبي: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، يعني موسى والملائكة. ثم قال تعالى: {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين}، أي تنزيهاً لله مما يصفه به الظالمون. ثم قال تعالى: {ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم}، أي إنّ الآمر أنا الله، العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبير أمر خلقه.

ثم قال: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أخبر عن العصا ها هنا أنها انقلبت كالجان، والجان: صغير الحيات، وأخبر عنها في موضع آخر أنها انقلبت ثعباناً مبيناً، والثعبان: كبير الحيات. ومعنى ذلك أن عصا موسى انقلبت له على ثلاث حالات، آيات من الله، انقلبت حية تسعى وهي الأنثى، وجان وهو الصغير من الحيات، وثعبان مبين: وهو الذكر الكبير من الحيات. وقيل: إنها انقلبت ثعبان تهتز كأنها جان ولها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه، وهي حية تسعى. والعرب تقول: هذه حية، وهذا حية. وقيل: إن الله أقلب له العصا في أول مرة جاناً، وهو الحية الصغيرة لئلا يخاف ويجزع، فلما أنس بها وأخذها وأرسلها. أرسله إلى فرعون، فألقاها في الحال الأخرى بين يدي فرعون فصارت ثعباناً مبيناً، والله أعلم، وفي لفظ الآية

اختصار وحذف، والتقدير: فألق عصاك، فألقاها: فصارت حية تهتز، فلما رآها تهتز كأنها جان أي حية، والجان جنس من الحيات معروف. وقوله: {ولى مُدْبِراً}، أي هارباً خوفاً منها، {وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أي ولم يرجع. يقال: عقب فلان: إذا رجع على عقبيه إلى حيث بدأ. قال قتادة: ولم يعقب: لم يلتفت. قال ابن زيد: لما ألقى موسى A العصا صارت حية، فرعب منها وجزع، فقال الله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، فلم يركن لذلك فقال الله: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31]، قال: فلم يقف أيضاً على شيء من هذا حتى قال الله جل ذكره: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21]، قال: فالتفت موسى، فإذا هي عصا كما كانت / فرجع فأخذها، ثم قوي بعد ذلك عليها حتى صار

يرسلها على فرعون ويأخذها. وقوله جل ثناؤه: {لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، أي عندي. ثم قال: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء}، أي من ظلم فعمل بغير ما أذن له في العمل به. قال ابن جريج: لا يخاف الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه الله حتى يأخذه منه. وقال الحسن: في الآية إنما أخيف لقتله النفس، وقال الحسن أيضاً: كانت الأنبياء تذنب، فتعاقب ثم تذنب والله فتعاقب. وقوله: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ}، استثناء منقطع عند البصريين، لأن حق الاستثناء أن يكون ما بعده مخالفاً لما قبله في المعنى. وقوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، يدل على أمنهم. وقوله: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، يدل على أمن من ظلم، ثم فعل ذلك فقد حصل المعنى فيهما واحد، فوجب أن يكون ليس من الأول و " إلا " بمعنى لكن، والتقدير،

لكن من ظلم من المرسلين وغيرهم ثم تاب فليس يخاف ومثله من كلام العرب ما اشتكى إلا خيراً، فالخير لا يشتكى. وقوله: ما اشتكى يدل على أنه حل به الخبر. وقوله: إلا خيراً قد صار مثل الأول في المعنى، فوجب أن يكون منقطعاً، و " إلا " بمعنى لكن خيراً، وكأنه قال: ما أذكر إلا خيراً. وقال الفراء: الاستثناء من محذوف، والتقدير عنده: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون}، إنما يخاف غيرهم، إلا من ظلم ثم تاب فإنه لا يخاف، وأجاز الفراء أيضاً أن تكون " إلا " بمعنى الواو، ومثله عنده {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150] أي والذين، وقد رد عليه القولان، لأن الاستثناء من محذوف لا يجوز، إذ لا يعلم ما هو، ولو جاز هذا، لجاز: إني لأضرب القوم إلا زياً. على معنى وأضرب غيرهم إلا زيداً. وهذا ضد البيان، ونقض الكلام، ولا يجوز كون " إلا " بمعنى الواو. لأنه تقلب

المعاني، فيلزم إذا قلت له: عندي عشرة إلا أربعة أن تكون قد أقررت بأربعة عشر وهذا محال. وقوله: {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء}، يريد التوبة. وقرأ: مجاهد {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً}، بالفتح على معنى عملاً محسناً. {فَإِنِّي غَفُورٌ}، أي ساتر لذنوبه. {رَّحِيمٌ}، به إن عاقبته. وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} وقف إن جعلت {وَسُبْحَانَ الله} لم ينادي به موسى، وإنما هو من قوله: لما خاف. فإن جعلت {وَسُبْحَانَ الله} من النداء، كان الوقف " {رَبِّ العالمين} {وَأَلْقِ عَصَاكَ} وقف {وَلَمْ يُعَقِّبْ} وقف و {لاَ تَخَفْ} وقف. {المرسلون} وقف، إن جعلت {إِلاَّ مَن ظَلَمَ} منقطعاً، فإن جعلته مستثنى على معنى: إن المرسلين لا يخافون إلا أن يذنبوا

12

فيخافون العقوبة، كما قال الحسن وغيره. لم تقف إلا على {سواء}، والتمام {رَّحِيمٌ}. قوله تعالى ذكره: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}. قال مجاهد: كانت على موسى يؤمئذ مدرعة فأمره الله أن يدخل كفه في جيبه، ولم يكن لها كُمٌّ. وقيل: أمره أن يدخل يده في قيمصه، فيجعلها على صدره ثم يخرجها بيضاء تشبه شعاع الشمس أو نور القمر. قال ابن مسعود: إن موسى أتى فرعون حين أتاه في زرمانقة يعني جبة صوف. وقوله: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء}، أي تخرج اليد بيضاء مخالفة

للون موسى من غير برص. وقيل: من غير مرض. وفي الكلام اختصار وحذف. والتقدير: واجعل يدك في جيبك، وأخرجها تخرج بيضاء. ثم قال: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ}، أي من تسع آيات، و " في " بمعنى " من ". وقيل: بمعنى " مع ". وقيل: المعنى: هذه الآية داخلة في تسع آيات. والمعنى في تسع آيات مرسل أنت بهن إلى فرعون، والتسع الآيات: العصا، واليد، والجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقد تقدم تفسيرها بالاختلاف بأشبع من هذا. وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، يعني فرعون وقومه من القبط. ثم قال: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، أي لما جاءت فرعون وقومه أدلتنا

14

وحججنا، وهي التسع الآيات مبصرة أي مبينة: أي يبصر بها من نظر إليها ورأى حقيقة ما دلت عليه. قال ابن جريج: مبصرة، مبينة. قال فرعون وقومه {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ}، أي بين للناظرين فيه أنه سحر. / قال: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ}، أي كذبوا بالآيات أن تكون من عند الله، وقد تيقنوا في أنفسهم أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق: قاله ابن عباس. وقوله: {ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي اعتداءً وتكبراً. والعامل في ظلم وعلو: جحدوا، وفي الكلام تقديم وتأخير. ثم قال تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين}، أي عاقبة تكذيبهم، كيف أغرقوا أجمعين. هذا كله تحذير لقريش أن تحل بهم ما كان حل بمن كان قبلهم.

15

ثم قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً}، أي علم منطق الطير، والدواب وغير ذلك. {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين}، أي فضلنا بعلم لم يعلمه أحد في زماننا. وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله A قال: " أوحى الله إلى داود A أن العبد من عبيدي ليأتيني بالحسنة، فأحطه في جنتي، قال داود: وما تلك الحسنة، قال: يا داود: كربة فرجها عن مؤمن ولو بتمرة. قال داود: حقيق على من عرفك حق معرفتك أن ييأس ولا يقنط منك ". قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}، أي ورث علمه وملكه. وقال قتادة: ورث منه النبوة والملك. وروى أن داود كان له تسعة عشر ولداً، فورث سليمان النبوة والملك دونهم.

ثم قال تعالى ذكره: {وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير}، أي فهمنا كلامها، وسماه منطقاً لما فهمه عنها كما يفهم بنطق الرجل. قال محمد بن كعب: بلغنا أن سليمان كان في عسكره مائة فرسخ: خمس وعشرون منها للإنس، وخمس وعشرون للجن، وخمس وعشرون للوحش، وخمس وعشرون للطير، وكان لع ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة صريحة، وسبع مائة سرية، فأمر الريح لعاصف فرفعته، وأمر الرخاء فسيرته، فأوحى الله D وهو يسير بين السماء والأرض: أي قد زدت في ملكك، أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرتك. قال وهب بن منبه: أرادت الشياطين كيد سليمان، وتحاوروا بينهم في ذلك،

ليخلصوا من السحرة، فأمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد من الخلائق إلا وضعته في اذن سليمان، فبذلك سمع كلام النملة. وذكر وهب: أن سليمان مر بجنوده من السماء والأرض، فرآه رجل من بني إسرائيل، كان في حرثه يفجر الماء فقال: لقد آتاكم الله آل داود، فاحتملت الريح قوله فقذفته في أذن سليمان. فقال سليمان للريح: إحبسي فحبست، ونزل سليمان متقنعاً ببرد له حتى أتى الرجل فقال له: ما قلت؟ فقال له الرجل: رأيتك في سلطانك الذي آتاك الله، وما سخر لك فقلت: لقد آتاكم الله آل داود. فقال له سليمان: صدقت، ولكن جئتك، خوف الفتنة عليك، تعلم والذي نفس سليمان بيده لثواب سبحان الله كلمة واحدة عند الله يوم القيامة أفضل من كل شيء أوتيته آل داود في الدنيا. فقال له الرجل: فرجت همي فرج الله عنك همك.

17

فقال له سليمان: وما همي؟ قال: أن تشكر ما أعطاك الله، قال: صدقت. وانصرف عنه سليمان إلى مركه. ثم قال تعالى: {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ}، يعني من كل شيء من الخيرات، يؤتاه الأنبياء والناس، وهذا على التكثير كما تقول: ما لقيت أحداً إلا كلمته. ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين}، أي إن الذي أوتيناه من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا الظاهر. قال: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير}، يقال: إن الجن سخرت له، بأن ملك مضارها ومنافعها، وسخرت له الطير بأن جعل فيها ما تفهم عنه فكانت تستره من الشمس وغيرها. وقيل: لهذا تفقد الهدهد. ومعنى الآية: وجمع سليمان جنوده في مسير له {فَهُمْ يُوزَعُونَ}.

قال قتادة: أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا. قال ابن عباس: جعل على كل صنف منهم وزعة يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك. وقال ابن زيد: يوزعون: يساقون. وقال الحسن: / يوزعون يتقدمون. والوازع في اللغة: الكاف: يقال: وزع فلان فلاناً عن الظلم، أي كفه عنه، ومنه قيل للذين يدفعون الناس عن القضاة والأمراء: وزعة لأنهم يكفون الناس عنهم، أي يمنعونهم منهم.

18

قال {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل}، يعني أتى سليمان وجنوده على واد النمل، وهو واد كان بالشام نمله على قدر الذباب، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} أي بيوتكم {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}، أي يكسرنكم. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي يكسرونكم بوطئهم غير عالمين بكم. فتكون الجملة في موضع الحال من سليمان وجنوده، والعامل في الحال يحطمنكم، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من النملة، ويكون العامل في الحال: قالت. أي قالت نملة ذلك في حال غفلة الجنود، كما تقول: قلت خيراً والناس نيام. وقيل: إن قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، راجع إلى النمل. أي والنمل لا يشعر أن سليمان يفهم مقالتها، فتكون حالاً من النملة أيضاً والعامل فيه: قالت. كما تقول: شتمتك وأنا غير عالم بك. أي شتمتك في حال جهلي بك. ولما

فهم سليمان قول النمل وصارت بمنزلة من يعقل في الفهم عنها، أخبر عنها كما يخبر عن من يعقل، فلذلك قال: {قَالَتْ}، وقال: {ادخلوا} ولذلك أضاف إلى الطير منطقاً في قوله: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} [النمل: 16]. وروي: أن الله جلّ ذكره: فهم سليمان كلام الإنس باختلاف لغاتها، وفهمه كلام الطير والبهائم، وكان إذا أراد أن يسير على الأرض أمر بالكرسي فوضع له فجلس عليه، ثم أمر بكراسي فوضعت لأصحابه فأجلس عليها من أراد، فالذين يلونه الإنس، ثم الجن، ثم الشياطين ثم يأمر الريح فتحملهم بين السماء والأرض، وإذا أراد صار على الخيل في الأرض، فبينما سليمان ذات يوم يسير بين أيدي الناس على الأرض، ورجلان معه أحدهما ختنه: زوج ابنته، والآخر عن يساره من أهل مملكته كريم عليه، ولم يكن أحد يسير بين يديه تواضعاً لله، إذ مر على واد النمل وهو واد فيه نمل، فسمع نملة تقول: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} وكان قد أعطى الله سليمان زيادة في ملكه ألا يذكره أحد إلا حملت

19

الريح ذلك الكلام إليه حتى يسمعه، فلما فهم سليمان كلام النمل تبسم ووقف فوقف الناس معه، فقال الرجلان: ما يضحك نبي الله؟ فأخبرهما بكلام النملة، فلم يزل واقفاً حتى دخلت النمل مساكنها ثم سار. وروى الأعمش عن نوف أنه قال: كانت نمل سليمان أمثال الذباب، وكانت هذه النملة مثل الذيب في العظم. قوله تعالى ذكره: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا}، أي فضحك سليمان من قول النملة، وقال: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}، أي ألهمني الشكر على ما أنعمت به علي وعلى والدي وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه. وقيل: معناه كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك. {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين}، أي مع عبادك الصالحين، يعني الأنبياء، أي أدخلني معهم الجنة.

قال ابن زيد: {عِبَادِكَ الصالحين}: هم الأنبياء والمؤمنون. ثم قال: {وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد}، سأل ابن عباس، عبد الله بن سلام: لم تفقد سليمان الهدهد من بين سائر الطير؟ فقال عبد الله: إن سليمان نزل منزلة في مسير له، فلم يدر ما بعد الماء، فقيل: من يعلم ما بعد الماء؟ فقالوا: الهدهد، فذلك حين تفقده. وروي: أن الهدهد كان يدل سليمان على مواضع الماء في أسفاره، فأخذ الناس عطش في مفازة فسألوا سليمان الماء، فسأل عن الهدهد، فقالوا: غاب ولم يكن معه إلا هدهد واحد. قال ابن عباس: تفقد سليمان - عند سؤالهم الماء - الهدهد، فسأل عنه، ودعا أمين الطير فسأله عنه، ولم يكن معه إلا هدهد واحد. فقال الأمين: ما أدري / أين ذهب ولا استأمرني. فكان الهدهد إذا وضع منقاره في الأرض أخبره كم بعد الماء،

فغضب سليمان عند ذلك، وتألاّ لنعذبنه عذاباً شديداً، أي ينتف ريشه حتى يتركه أقرع لا ريش عليه، فلم يكن إلا يسيراً حتى أتى الهدهد بعذر بين، فقال: اطلعت على ما لم تطلع عليه {فَوَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} [النمل: 22]، أي بخبر صادق. قال ابن عباس: لما أقبل الهدهد قيل له: إن سليمان قد حلف ليعاقبنك حين فقدك. فقال الهدهد: هل استثنى؟ قالوا: نعم، فأقبل حتى قام بين يديه فأخبره بعذره. وروي: أن الطير كانت تظله من الشمس في مسيره. فلما غاب الهدهد أصابته الشمس من موضع الهدهد، فسأل عنه إذ فقده. وقال ابن عباس: كان سليمان يوضع له ست مائة كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس، فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو

الطير فتظلهم، قال: ثم يدعو الريح فتحملهم فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر. قال: فبينما هو في مسيرة إذا احتاج إلى الماء، وهو في فلاة من الأرض قال: فدعا الهدهد، فجاءه فنقر في الأرض فيبصر موضع الماء. قال: فتجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب، ثم يستخرجون الماء. فاعترض على ابن عباس نافع بن الأزرق، فقال له: كيف يبصر الهدهد الماء تحت الأرض، ولا يبصر الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر. وذكر أن الهدهد كان يرى الماء في الأرض، كما يرى الماء في الزجاجة. ومعنى قوله: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين}، أي أخطأه بصري فلا أراه، وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق؟ " وكان " ها هنا بمعنى صار لأنه لم يستفهم وهو حاضر، إنما استفهم عنه وهو غائب، وإذا حملت " كان " على لفظها صار المعنى أنه استفهم عنه وهو حاضر، ولم يكن كذلك بل كان غائباً وقت الاستفهام فكان محمولة على معنى صار. وبذلك يتم المعنى.

21

وقيل: إن مثله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} [الأنفال: 67] أي أن يصير له أسرى، لأن الأسرى كانوا بالحضرة لم يكونوا غيباً، ولا متوقعين ولا منتظرين و " يكون " يدل على أنه أمر متوقع منتظر، وليس هو كذلك، بل كانوا بالحضرة، فالمعنى أن تصير له أسرى. قال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً}، في الكلام اختصار وحذف، والتقدير: فقيل له غاب، فقال: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً}، أي لأنتفن ريشه، وأشتمه. قاله ابن عباس. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجة ظاهرة يقوم له بها عذر في غيبته عني. قوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} ليس هو بجواب قسم لسليمان. مثل أو (لأعذبنه أو لأذبحنه) هذا جواب قسم لسليمان وليس {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي} بجواب قسم له، لأنه لم يقسم على أن يأتيه بحجة تدفع عنه العذاب، لكنه جرى على لفظ ما قبله من قوله: {لأُعَذِّبَنَّهُ} أو {لأَاْذبَحَنَّهُ} على باب المجازات لا أنه مثله.

22

ومثله قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 90] فهذا جواب قسم ثم قال: {فَلَقَاتَلُوكُمْ} فليس هذا بجواب قسم ولكن دخلت اللام على طريق المجازات، {لَسَلَّطَهُمْ} لا على الجواب. قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، أي فمكث سليمان غير وقت طويل من حين سأل عن الهدهد، حتى جاء الهدهد فقال له الهدهد لما سأله سليمان عن علة تخلفه وغيبته: أحطت علماً بما لم يحط به علمك. قال ابن زيد: معناه علمت ما لم تعلم. {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، أي بخبر صحيح، ومن صرف {سَبَإٍ} جعله اسماً للأب أو للحي أو لرجل أللبلد. ومن لم يصرفه جعله اسماً للقبيلة، أو لامرأة هي أم القبيلة أو للبلدة. قال أبو إسحاق: سبأ مدينة تعرف بمأرب من اليمن، بينها وبين

صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. / وروي: " أن النبي A سأله رجل عن سبإ فقال: يا رسول الله أخبرني سبإ ما هو أرض أم امرأة؟ فقال النبي A: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان وأما الذين تيامنوا فكندة، والأشعرون، والأزد ومذحج وحمير، وأنمار. فقال رجل: ما أنمار؟ فقال رسول

23

الله A: الذين منهم خثعم وبجيلة " وكذلك رواه ابن عباس عن النبي A. بهذا المعنى فيجب صرفه على هذا القول. وكل النحويين على أنه إن سمي به رجل صرف فدل على أنه مذكر في الأصل. قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}، أي قال الهدهد لسليمان مخبراً بعذره في الغيبة: إني وجدت امرأة تملك شيئاً، وأوتيت من كل شيء. . أي من كل شيء يؤتاه الناس في دنياهم. وقيل: معناه: من كل شيء يؤتاه مثلها من الأموال والعدد والرجال والخصب والنعم، وغير ذلك. فقام له العذر عند سليمان في غيبته لأن سليمان عليه السلام كا لا يرى في الأرض أحداً له مملكة معه، وكان قد حبب إليه الجهاد، والغزو، فلما دله الهدهد على ملك معه ودله على موضع جهاد عذره وترك تعذيبه. قال قتادة: هي امرأة يقال لها بلقيس بنت شراحيل وكان أحد أبويها

من الجن، وكان مؤخر قدمها كحافر الحمار. وقوله: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}، يعني ذا سعة، وحسن صنعة يعني به السرير. قال ابن عباس: عرش عظيم: سرير كريم حسن الصنعة. وكان سريراً من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ. وروي: أنه كان سريراً من ذهب تجلس بلقيس عليه، طوله ثمانون ذراعاً، وعرضه أربعون ذراعاً، وارتفاعه في السماء: ثلاثون ذراعاً، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، قوائمه من زبرجد أخضر، وكان اسم المرأة بلقيس ابنة اليشرح الحميرية. روي: أنه كان سريراً عالياً تجلس عليه، وتكلم الناس من فوقه. وذكر قوم: أن الوقف {وَلَهَا عَرْشٌ}، ثم تبتدئ {عَظِيمٌ} {وَجَدتُّهَا} وروي ذلك عن نافع، وليس بشيء لأن " عظيماً " من

24

نعت العرش، ولو كان متعلقاً بما بعده لقال: عظيم أن وجدتها أي عظيم وجودي لها كافرة. قال تعالى: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله}، أي يعبدون الشمس {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ}، أي حسن لهم عبادة الشمس من دون الله {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل}، أي فمنعهم بتزيينه لهم الباطل، أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله فهم لا يهتدون إلى الحق. قال: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} أن من {أَلاَّ} في موضع نصب على البدل من الأعمال عند: اليزيدي. وقال: أبو عمرو والكسائي، " أن " في موضع خفض بدل من السبيل، ويجوز أن يعمل فيها " يهتدون ". وقرأ الكسائي: ألا بالتخفيف، على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فجعلها: " ألا " التي للتنبيه، ويا: حرف نداء، واحتج الكسائي أن حرف أبي وابن مسعود:

" هلا يسجدوا " فهلا تحقيق وأن اسجدوا أمر، واحتج أيضاً أن السجود هنا مروي عن النبي A، ومن شدد لا يلزمه سجود، لأنه خبر عن قوم أنهم لم يسجدوا، وليس هو أمر. وليس فيه بمعنى الأمر. ومن الدليل على صحة قراءة الجماعة، حذف الألف من يا من الخط، وحذف ألف الوصل من اسجدوا ويدل على ذلك أنه كله من كلام الهدهد وحكايته. ولم يكن في الوقت أحد يؤمر بالسجود فيكون هذا أمراً له، ولا يلزم ترك السجود على قراءة الجماعة، لأنه لما أخبر أنهم لا يسجدون، وجب لمن يؤمن بالله أن يسجد لله عند ذكر تركهم للسجود تعظيماً لله، وخلافاً لما فعلوا من ترك السجود. وقوله: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} قيل: هو من قول الله جلّ ذكره ينبه عباده أن

السجود لا يصلح إلا لله. واختلف العلماء في سجود القرآن، ويقال لها: عزائم القرآن. فكان ابن عمر، وابن عباس يقولان: سجود القرآن إحدى عشرة سجدة: في الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج، أولها، والفرقان / والنمل، وآلم السجدة، وصَ، وحَم السجدة، وهذا مذهب مالك. قال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم: أجمع الناس على أن عزائم سجود القرآن إحدى عشر سجدة ليس في المفصل منها شيء. يعني بقوله أجمع الناس: أهل المدينة. وقد روي عن ابن عباس: أنه أسقط صَ وجعلها عشرة. ومذهب الشافعي: أنها أربع عشرة سجدة زاد في الحج آخرها، وفي والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك، ونقص سجدة (صَ) وكذلك قال: أبو ثور، إلا أنه أثبت السجود في (صَ) وأسقطه من والنجم. وقال إسحاق: سجود القرآن خمس عشرة سجدة، زاد على مذهب الشافعي

سجدة أخرى في الحج، واختلفوا في الموضع الذي يسجد فيه في (حَم) السجدة. فقال ابن عباس، وابن عمر والحسن البصري، وابن سيرين: يسجد آخر قوله: {إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقد حكى ذلك عن مسروق عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال مالك والليث بن سعد. وقال ابن المسيب، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى وإسحاق: يسجد عند آخر قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} [فصلت: 38]. وقد روي ذلك أيضاً: عن ابن عباس، وابن سيرين، وفي سجود القرآن فضل عظيم. روى أبو هريرة أن النبي A قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله أمر هؤلاء، أو هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ". وروت عائشة Bها أن النبي A: " كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ". وكره مالك السجود بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا يسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وإذا كان القارئ في الصلاة فسجد، سجد بغير تكبير،

27

ويرفع رأسه بتكبير، فإن كان في غير صلاة لم يكبر في الرفع ولا قبله، وعلى من سمع قراءة السجدة أن يسجد مع الإمام. وقوله: {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض}، أي يخرج المخبوء في السماوات من غيث، والأرض من نبات. وقال مجاهد: هو الغيث. وقال ابن زيد: خبء السماوات المطر، وخبء الأرض النبات. وقال قتادة: الخبء: السر، " وفي " في موضع " من ". ثم قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}، أي يعلم ما يسرون وما يظهرون. ثم قال: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم}، هذا كله من إخبار الله عن قول الهدهد. قاله ابن زيد وابن إسحاق. قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) أي قال سليمان للهدهد: سننظر أصدقت فيما اعتذرت به لغيبتك أم كنت من الكاذبين فيه. وقوله:

28

{أَمْ كُنتَ} معناه أم أنت، لأن سليمان لم يرد أنه ينظر أن كان فيما مضى من الزمان من الكاذبين، إنما أراد إن كان هو في حاله ذلك الوقت من الكاذبين. ومثله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. قال: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ}، أي قال سليمان للهدهد: اذهب بكتابي إليهم فألقه إليهم، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ}، أي منصرفاً، ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. وقيل: الكلام على بابه لا تقديم فيه، وانظر فيما انتظر أي فألقه إليهم فانتظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. قال ابن زيد: كانت لها كوة مستقبلة الشمس ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها، واستبطأت الشمس فقامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه، وطار حين قامت تنظر إلى الشمس. فهذا التفسير يدل على أنه نظر إليها ماذا ترجع قبل إلقائه الصحيفة، ثم

ألقاها ورجع إلى سليمان. وقيل: المعنى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} قريباً منهم فانظر ماذا يرجعون؟ ودل على هذا سماع الهدهد قولها لأهل مملكتها بعد إلقائه الكتاب إليهت، وهذا القول هو اختيار الطبري. واختار الزجاج القول الأول أن يكون على التقديم والتأخير. ثم قال: {قَالَتْ يا أيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}، في الآية اختصار وحذف، والتقدير فذهب الهدهد بكتاب سليمان فألقاه إليها، فلما قرأته قالت: يا أيها الملأ: تريد أشراف قومها. / قال ابن عباس: كتب سليمان إليها بسم الله الرحمن الرحيم: من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة اليشرح الحميرية: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، أي لا تتعظموا عن طاعتي وأتوني مسلمين فذهب الهدهد بالكتاب فانتهى إليها ظهيرة وهي قائلة في قصرها، وقد غلقت عليها الأبواب، فلا يصل إليها شيء،

والحرس حول قصرها. وكان لها من قومها اثنى عشر ألف مقاتل، كان كل رجل منهم على مائة ألف سوى نسائهم وذراريهم. وكانت تخرج إلى قومها فتقضي بينهم في أمورهم، وحوائجهم، في كل جمعة يوماً قد جعلت على عرشها أربعة أعمدة من ذهب، ثم جعلت عليه حريرة تجلس خلفها فهي تراهم ولا يرونها، فإذا أراد الرجل منهم قام بين يديها فنكس رأسه ولا ينظر إليها، ثم يسجد ولا يرفع رأسه حتى تأذن له إعظاماً لها. فإذا قضت حوائجهم أمرت بأمرها ودخلت قصرها فلم يورها إلى مثل ذلك اليوم. وكان ملكها ملكاً عظيماً، فلما أتاها الهدهد بالكتاب، وجد الأبواب قد غلقت دونها والحرس حوالي قصرها، فدار الهدهد حوالي القصر يطلب السبيل إليها حتى وصل إليها من كوة في القصر فدخل منها إلى بيت ثم مر من بيت إلى بيت حتى انتهى إليها في أقصى سبعة أبواب على عرشها مستلقية،

نائمة ليس عليها إلا خرقة على عورتها وكذلك كانت تصنع إذا نامت، فوضع الكتاب إلى جنبها على العرش ثم تولى فوقع في كوة ينتظرها حتى تقرأ الكتاب فمكث طويلاً لا تستيقظ، فلما أبطأ عليه ذلك انحط، فنقرها نقرة فاستيقظت، فبصرت بالكتاب إلى جنبها على السرير فأخذته وفزعت، وجعلت تنظر ما حال الكتاب، وكيف وصل الكتاب إليها فإذا الأبواب مغلقة، فخرجت فإذا الحرس حوالي القصر، فقالت هل رأيتم أحداً دخل علي أو فتح باباً؟ قالوا: لا، أما رأيت الأبواب مغلقة كما هي ونحن حوالي القصر، ففتحت الكتاب، وكان مطبوعاً فقرأته ولم تشك أنه من السماء سقط عليها فأرسلت إلى قومها وشاورتهم كما قص الله علينا في كتابه. قال وهب بن منبه: كتب سليمان مع الهدهد {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}: من سليمان بن داود إلى بلقيس وقومها: أما بعد، فلا تعلوا

علي وأتوني مسلمين. فأخذ الهدهد الكتاب برجله فانطلق به حتى أتاها، وكانت لها كوة في بيتها إذا طلعت الشمس نظرت إليها فسجدت لها، فأتى الهدهد الكوة فسدّها بجناحه حتى ارتفعت الشمس ولم تعلم من ألقى الكتاب من الكوة فوقع عليها في مكانها الذي هي فيه فأخذته. وقال قتادة: كان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام. ومعنى وصفها للكتاب بالكريم أنه كان مطبوعاً. وقيل: وصفته بذلك لحسن ما فيه واختصاره. وقوله: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ}، أي لا تتكبروا علي، ولا تتجبروا علي، وأتوني مذعينين مستسلمين. وقال: إنما وصفته بالكريم على معنى كتاب من رجل كريم، رفيع القدر يطيعه الجن، والإنس والطير. لأنها كانت قد سمعت بخبر سليمان، فلما رأت اسمه في الكتاب عرفته، وعرفت قدر ملكه، وأخبرتهم أنه من سليمان وأن فيه بسم الله الرحمن الرحيم.

وهذه جملة من علل بسم الله الرحمن الرحيم: فمن ذلك ما روي عن عيسى A: أنه قعد بين يدي مؤدب، فقال له المؤدب قل: بسم الله الرحمن الرحيم: فقال عيسى وما بسم الله. فقال المؤدب: لا أدري؟ فقال عيسى: الباء: بهاء الله / والسين سناء الله، والميم ملكه. وكذلك قال الحسن إلا أنه قال: والميم مجده. والباء متعلقة بفعل مضمر، والمعنى: ابدأ بسم الله، فإذا اختلفت الأفعال التي تريد أن تسمي الله عليها، أضمرت لكل معنى فعلاً يشاكله، فإذا أردت القيام فقلت بسم الله: أضمرت أقوم بسم الله، وإذا أردت القعود قدّرت أقعد بسم الله، وكذلك الركوب وشبهه. وقيل: إن الاضمار في جميع ذلك أبداً وهو أحسن عند الحذاق، وإنما حذف الفعل ولم يذكر إيجازاً واختصاراً، إذ ما بقي من الكلام يدل عليه، وهذا

الحذف كثير في الكلام، وإنما اختيرت الباء لأنها للإلصاق، وأنت تحتاج أن تلصق ابتداءك بالتسمية، فجئت بالباء لأنه موضعها، وإنما سميت الباء، ومن وعن وشبهها بحروف الجر لأنها تجر الأفعال إلى الأسماء: تقول: مررت بزيد وانتهيت إلى عمرو. فلولا الحروف ما انجرت الأفعال إلى الأسماء. وإنما خفضت هذه الحروف الأسماء لأن معناها الإضافة، تضيف فعلاً إلى اسم، أو معنى إلى اسم. كقولك: مررت بزيد، وعمرو كزيد. وإنما كسرت الباء. لتكون حركتها مثل عملها؛ هذا قول الجرمي. ولم تكسر الكاف لتفرق بين ما يكون حرفاً واسماً، وبين ما لا يكون إلا حرفاً، وإنما عملت الخفض لأنها لا معنى لها في الأفعال فلزمت الأسماء، فلما لزمت الأسماء عملت إعراباً لا يكون إلا في الأسماء، وهو الخفض، وقد فتحوا لام الجر مع المضمر. ردت إلى أصلها لأنها إنما كسرت مع المضمر ليفرق بينها وبين لام

التأكيد، وتركت الباء على كسرها مع المضمر إذ ليس فيها علة توجب فتحها، وكسرت لام كي لأنها هي لام الجر بعينها، وكسرت لام الأمر للفرق بينها وبين لام التأكيد، والفرق بين لام الجر، ولام الأمر وكلاهما مكسور، أن لام الجر لا تدخل على الأفعال ولام الأمر لا تدخل على الأسماء، فعملت لام الجر إعراباً لا يكون إلا في الأسماء للزومها الأفعال وهو الجزم. وأصل هذه الحروف كلها الفتح، كواو العطف، وفائه، وألف الاستفهام. وكانت في الأصل لا حركة لها ولم يمكن الابتداء بساكن فلم يكن بد من حركة فأعطيت أخفّ الحركات وهي الفتحة، وإذا قلت: بسم الله فهو الله في المعنى كما قال لبيد:

إلى الحلول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر يريد ثم السلام عليكم فرفع اسماً بالابتداء لما قدمه ولم يعمل فيه الإغراء لأنه متأخر لا يتقدم عليه معموله، ومثله قول الشاعر: يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا أي هذا دلوي، ويجوز النصب بإضمار فعل تقديره: ثم الزم اسم السلام. وحذفت الألف من بسم لأن الباء كفت منها، فوصلت اللسان إلى النطق بالسين. وكان الخليل يسمي ألف الوصل سلم اللسان، وحذفت من الخط لكثرة الاستعمال، هذا مذهب الجرمي، والمبرد، والكسائي والفراء. وقال الاخفش: حذفت

من الخط لما وصلت إلى السين بالباء فألزمه الفراء أن تحذف الألف من الخط في قولهم: فاضرب واضرب ولا يحسن حذف هذا. وقال الكسائي: في قوله: {بِسْمِ الله مجراها} [هود: 41] إن شئت أثبت الألف في الخط وإن شئت حذفتها. وإنما دخلت ألف الوصل الأسماء، وحقها أن تدخل على الأفعال على التشبيه بالأفعال، كما أضافوا إلى الأفعال وليس بابها أن يضاف إليها على التشبيه أيضاً بالأسماء. وقيل: إنما دخلت هذه الأسماء اللف لأنهم لما حذفوا من أواخرها أرادوا العوض من المحذوف، فلم يمكن أن يعوضوا منه آخراً، فعوضوا منه أولاً، وسكنوا السين ليسوغ دخول الألف، والعوض في كلام العرب كثير ألا ترى أنهم يقولون: زنادقة وزناديق. فيعوضون الياء من الهاء، وإنما حذفوا من هذه الأسماء

لأن آخرها / حرف علة ياء، أو واو، وقد كان يجب أن ينقلبا ألفا غذ هما ظرفان، فكان الحذف أخف من الإعلال والإقلاب، فلما حذف من آخرها حرف أشبهت الأفعال، لأن الحذف أكثر ما يكون في الأفعال نحو: لم أبل ولا أدر فلما ضارع الاسم الفعل في باب الحذف آخراً ضارعه في باب الزيادة أولاً فدخلته ألف الوصل، ولم يمكن أن تدخل على متحرك فسكن أوله، وهذا قول حكي عن الخليل. والمحذوف من اسم عند البصريين واو وأصله سمو على مثال قنو، دليله قولهم: أسماء كأقناء وكذلك أب وأخ. المحذوف منهما واو يدل على ذلك قولهم: الأبوة والأخوة. وقولهم: أبوان وأخوان. وقد كان يجب أن تدخل ألف الوصل على أب، وأخ على ما قدمنا من العلة إلا أنه لما كان في أول أب وأخ همزة ثقل دخول همزة أخرى عليها، والعرب تستثقل الجمع بين همزتين في كلمتين ولا تجيزه في كلمة إلا بالتخفيف، فتركوا ما يستثقلون.

واسم مشتق من السمو. وقيل: من السمة. وقيل: هو أمر من قولك اسم فلاناً أي أعله وكذلك ابن أصله الأمر من قولك: ابن البناء يا رجل. وقول ما قال: هو من السمة. قول صحيح في المعنى لأن صاحبه يعرف به كالسمة في البعير يعرف بها، لكنه غير جائز في الاشتقاق، والأصمول، وذلك أنه ليس في كلام العرب مصدر فعل معتل فاؤه واو تدخله ألف الوصل، فيكون هذا مثله، ألا ترى أنك لا تجد مثل أعد وأزن في وعد ووزن وأيضاً فإنه يجب أن يقال في تصغيره وسيم كما تقول في تصغير عدة وعيدة وذلك لا يقال. وقولك: بسم في موضع نصب عند الكوفيين فبين لأن التقدير أُبدأ بسم.

وقال البصريون: موضعه رفع على إضمار مبتدأ، والتقدير أول ابتداء بسم الله، وقد أجاز النحويون: ابتدأت ببسم الله فأدخلوا الباء على الباء، وليس هذا بجائز في غيره، وإنما ذلك، لأن هذه الباء لما لزمت الاسم ولم تفارقه، وكثر الاستعمال بها صارت كأحد حروف الاسم، فدخلت عليها الباء كما تدخل على سائر الأسماء، وإنما خصت الألف بالزيادة والتعويض من المحذوف في اسم لأن أولى الحروف بالزيادة من حروف المعجم الياء والواو والألف، وهنا حروف المد واللين، ولا يكون الإعراب إلا بواحد منها، أو بحركة هي منها. قالوا: ولا تزاد أولاً، وكذلك الياء، فزادوا ألفاً، والألف لا تكون إلا ساكنة وبعدها السين ساكنة فكسرت الألف لالتقاء الساكنين وإنما سميت الهمزة ألفاً لأن صورتهما واحدة، ولأن الألف تبدل من الهمزة في يأكل ويأتي، والهمزة تبدل من الألف في رسائل وقلائد، وإنما ردت ألف الوصل في قولك امرئ وهو غير محذوف الآخر لأن آخره وهو الهمزة لا تثبت على حال يكون في الرفع واواً، وفي النصب

ألفاً، وفي الخفض ياء، فضعف فصار بمنزلة المحذوف فزيدت الألف في أوله لضعف الآخر. وقال المبرد: لما كان امرؤ لا يقوم بنفسه حتى يضيفه إلى غيره. فتقول هذا امرؤ سوء، وشبه الأفعال إذ كانت لا تقوم بنفسها ولا بد لها من فاعل فدخلته ألف الوصل لذلك، وإنما لقبت هذه الألف بألف وصل عند الكوفيين لأنها تذهب في الوصل فلقبت بضد حالها كما سمي اللذيع سليماً، والمخافة مفازة. وقيل: سميت ألف وصل لأنها تصل الكلام الذي قبلها بالذي بعدها ويستغنى عنها. وهذا القول هو القول الأولى في المعنى. وقال البصريون: لقبت ألف وصل: لأنه يوصل بها إلى الساكن الذي بعدها. وحكي عن الخليل: أنه كان يسمي ألف الوصل: سلم اللسان.

32

قوله تعالى ذكره {قَالَتْ يا أيها الملأ أَفْتُونِي}. أي قالت بلقيس لأشراف قومها: أشيروا / علي في أمري الذي قد حضرني في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلي. {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ}، أي قالت: ما كنت قاضية أمراً في جواب هذا الكتاب حتى تشهدون أي تحضروني. قال لها أشراف قومها لما شاروتهم في أمرها: {نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ}، أي أصحاب قوة في القتال {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي ذوو بأس في الحرب شديد، والأمر أيّتها الملكة إليك في القتال وغيره {فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ}. روي: أن قومها كانوا أولي قوة، وأن أحدهم كان يركض الفرس حتى إذا امتلأ في جريه ضم فخذيه عليه فحبسه بقوته.

34

روى الأعمش عن مجاهد أنه قال: كان مع ملكة سبأ اثنى عشر ألف قيول مع كل قيول مائة ألف. وعن ابن عباس أنه قال: كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل بلسانهم الملك. قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}، أي قالت بلقيس لأشراف قومها: إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة وغلبة أفسدوها. {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً}، تم كلامها. ثم قال الله D تصديقاً لقولها في الملوك إذا غلبوا على قرية:

{وكذلك يَفْعَلُونَ}، وقد أجاز بعضهم أن يكون ذلك من قولها على التأكيد لصدر ما قالت. وقيل: هو من قول سليمان. ومثله في اتصال كلامين مختلفين قوله: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في يوسف، فهو من قول امرأة العزيز فاتصل له كلام يوسف. فقال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52]، ومثله في قصة فرعون. {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35]، وانتهى كلام الأشراف من قوم فرعون ثم اتصل به كلام فرعون لهم وهو قوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} يخاطب أشراف قومه. والقرية كل مدينة تجمع الناس مشتقة من قريت الماء: أي جمعته. ثم قال تعالى عنها: أنها قالت لهم: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ}، أي إني مرسلة إلى سليمان بهدية، لنختبر بذلك سليمان ونعرف أملك أم نبي؟ فإن يكن نبياً لم يقبل الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن يكن ملكاً قَبِل الهدية

وانصرف. قال ذلك ابن عباس. قيل: إنها لما لم يشر عليها قومها برأي رجعت إلى رأيها فأرسلت الهدية. قال ابن عباس: بعثت إليه بوصائف ووصف ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أنثى، فقالت: إن زيل بينهم حتى يعرف الذكر من الأنثى، ثم رد الهدية فإنه نبي، وينبغي لنا أن نترك ملكنا، ونتبع دينه ونلحق به. وكذلك قال ابن جريج، ومجاهد، والضحاك. وروي عن ابن عباس أنه قال: أهدت إليه اثني عشر غلاماً فيهم تأنيت مخضبة أيديهم قد مشطتهم، وألبستهم لباس الجواري، وقالت لهم: إذا كلمكم فردوا عليه كلاماً فيه تأنيث، وأهدت إليه اثني عشر جارية فيهن غلظ، واستأصلت رؤوسهن وأزرتهم، وألبستهن النعال، وقالت لهن: إذا كلمكن فردوا عليه كلاماً

صحيحاً وأرسلت إليه بعود يخرج بالمسك والعبير والحرير في الأطباق على أيدي الوصفاء والوصائف، وأرسلت إليه اثني عشر بختية، كل بختية تحلب كذا وكذا من اللبن. وأرسلت إليه بخرزتين إحداهما مثقوبة ملتوية الثقب، والأخرى غير مثقوبة، وأرسلت إليه بقدح ليس فيه شيء، وأرسلت ذلك كله مع امرأة، وتقدمت إليها أن تحفظ جميع أمره وكلامه حتى تخبرها عنه، وقالت لهم: قوموا بين يديه قياماً، ولا تجلسوا حتى يأمركم، فإنه إن كان جباراً لم يأمركم بالجلوس وأرضيناه بالمال فيسكت عنا، وإن كان نبياً أمركم بالجلوس، وأمرتها أن تقول له أن يثقب الخرزة الصحيحة بغير حديدة، ولا علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له: أن يميز الغلمان من الجواري، وأمرتها أن تقول له: يدخل في الخرزة المثقوبة المعوجة / خيطاً بغير علاج إنس ولا جان، وأمرتها أن تقول له أن يملأ القدح ماءً مزبداً ليس من الأرض ولا من السماء. قال: وكتبت إليه تسأله عن ألف باب فانطلقت المرأة بهديتها، حتى أتت بها سليمان، فوضعتها بين يديه، وقاموا قياماً ولم يجلسوا، فنظر

إليهم سليمان لحظاً لم يحرك يداً ولا رجلاً، ثم رفع رأسه إلى رسولها فقال: إن الله رفع السماء ووضع الأرض، فمن شاء قام ومن شاء جلس، فجلسوا، فقدمت إليه الخرزتين وقالت: إنها تقول لك: أدخل في هذه الخرزة المثقوبة خيطاً ينفذ إلى الجانب الاخر من غير علاج إنس ولا جان، وأن تثقب الأخرى ثقباناً فذاً من غير علاج إنس ولا جان، ثم قربت إليه القدح، وقالت: تقول لك أن تملأ هذا القدح من ماء مزبد رواء ليس من الأرض ولا من السماء، ثم قربت إليه الوصفاء والوصائف، وقالت: تقول لك: أن تفرق بين الغلمان والجواري ففرق بينهم بالوضوء فبدأ الجواري بالمرافق، وبدأ الغلمان بالإيدي، وملأ لهما القدح من عرق الخيل، ودخلت دودة الثمرة بالخيط في الخرزة حتى خرجته من الجانب الآخر، وتولت دودة الخشب ثقب الخرزة الأخرى حتى نفذتها، ورد الهدية عليها.

وقال ثابت البُناني: أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلما بلغ سليمان ذلك أمر الجن فموهوا له الآجر بالذهب، ثم أمر به فألقي في الطرق، فلما جاءوا رأوه ملقى لا يلتفت إليه، صغر في أعينهم ما جاءوا به. قال ابن زيد: قالت: إن هذا الرجل إن كانت همته الدنيا فسنرضيه، وإن كان إنما يريد الدين فلن يقبل غيره. وقال ابن جبير: أرسلت بمأتي وصيف ووصيفة وقالت: إن

كان نبياً فسيعلم الذكر من الأنثى، فأمرهم فتوضأوا، فمن توضأ منهم، فبدأ بمرفقه قبل كفه قال: هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال: هو من الذكور. وروى أنها: وجهت إليه بمائة وصيف، ومائة وصيفة، وألبست الجواري ثياب الغلمان، وألبست الغلمان ثياب الجواري، وقالت: إن كان ملكاً لم يعرف حتى يعريهم، وإن كا نبياً علم ولم يعريهم، فلما قدموا على سليمان أمر فوضع لهم ماء يتوضأون، فكل من بدأ بالمرفق فغسله إلى اليد علم أنها جارية، وكل من بدأ باليد إلى المرفق علم أنه غلام، فأمر بنزع ثياب الغلمان فردها على الجواري، ونزع ثياب الجواري وردها على الغلمان، ثم ردَّ ما أهدت إليه. وقوله: " إليهم " تريد به سليمان وحده لأن الملوك يخاطبون مخاطبة الجماعة، كما يخبرون عن أنفسهم بلفظ الجماعة. وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون}، أي فأنظر بأي شيء يرجع رسلي

36

بقبول الهدية أم بردها؟ قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} إلى قوله: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، أي فلما جاء رسولها سليمان بالهدية، قال سليمان: أتمدونني بمال، فالذي أعطاني الله من الملك في الدنيا {خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}، أي ما أفرح بما أهديتم إلي بل أنتم تفرحون بها، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا، ومكاثرة بها. روي: أن رسولها لما رجع إليها بالهدية وأخبرها خبر سليمان، قالت لقومها: هذا أمر من السماء لا ينبغي لنا معاندته فعمدت إلى عرشها فجعلته في آخر سبعة أبيات، وأقامت عليه الحرس، ثم أقبلت إلى سليمان فرجع الهدهد وأخبر سليمان بذلك، فقال عند ذلك: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}، أي بسريرها {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، فيحرم علي ما لهم. وقوله: {فَلَمَّا جَآءَ}، فوحد وقد قال عنها {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35]،

فجمع فمعناه: فلما جاءوها سليمان. وقيل: إن الرسول كان واحداً، وإنما قالت هي: {المرسلون}، فجمعت لأن الرسول لا بد له من خدمة وأعوان، فجمعت على ذلك المعنى. وقد قيل: إن الرسول الذي وجهته إلى سليمان كانت امرأة. وقيل: بل كانوا جماعة، وإنما قال " جاء " فوحد على معنى الجمع ودل / على ذلك أن في حرف ابن مسعود {فَلَمَّا جَآءَ} بالجمع وقوله: {ارجع إِلَيْهِمْ}، يدل على أنه كان واحداً والله أعلم. ثم قال تعالى: {ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا}، أي قال سليمان لرسول المرأة: ارجع إليهم بهديتهم فلنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها. {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً}، أي لنخرجنهم من بلدتهم صاغرين إن لم يأتوني مسلمين.

ثم قال تعالى: {يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}. قال ابن عباس: كان إتيان العرش إليه قبل أن كتب إليها. لأنه لما أتاه الهدهد فأخبره بملك سبأ وعرشها، أنكر سليمان أن يكون لأحد سلطان في الأرض غيره، فقال لمن عنده من الجن والإنس: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} قال سليمان أريد أعجل من هذا. {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، وهو رجل من الإنس كان عنده علم من الكتاب فيه اسم الله الأكبر، فدعا بالاسم، فاحتمل العرش احتمالاً حتى وضع بين يدي سليمان بقدرة الله، فلما أتاه العرش صدّق الهدهد في قوله، ووجهه بالكتاب وكذلك روى الضحاك. وقال وهب بن منبه وغيره: بل كتب معه الكتاب قبل أن يأتيه العرش. والكلام في التلاوة على رتبته ووصل إليه العرش بعد رده الهدية. قال وهب بن منبه: لما رجعت إليها

الرسل بالهدية، وأ'لموها بما كان من أمر سليمان. وقوله: قالت: قد والله علمت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة وبعثت إليه إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك؟ وما تدعو إليه من دينك؟ ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه، وكان من ذهب مفصص بالياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض ثم أقفلت على الأبواب، وكانت إنما يخدمها النساء، معها ست مائة امرأة يخدمنها، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك، وسرير ملكي فلا يخلص إليه أحد ولا ترينه حتى آتيك، ثم شخصت إلى سليمان في إثني عشر ألف قيل، معها من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة، فجعل سليمان يبعث الجن فيأتونه

بمسيرها، ومنهاها كل يوم وليلة، حتى إذا دنت، جمع من عنده من الإنس والجن ثم قال: {يا أيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، أي بسريرها، وذلك أنه خشي أن تسلم فيحرم عليه أخذه، وقد وصف له، وأعجب به، فأراد أن يأخذه قبل إسلامها فيحل له. قاله قتادة. قال قتادة: كان السرير من ذهب وقوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ. قال ابن جريج: كان من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ. وقيل: إنما فعل ذلك ليختبر عقلها به هل تنتبه إليه إذا رأته أم لا؟ قاله ابن زيد.

قال ابن عباس: معنى {مُسْلِمِينَ}، طائعين أي مستسلمين لي. وقال ابن جريج: معناه قبل أن يدخلوا في الإسلام فتمتنع علي أموالهم. وهو قول قتادة المتقدم. وإنما خص سليمان السرير دون غيره من مملكتها لأنه أعجب به. فعل ذلك لإعجابها به، واحتياطها عليه، فأراد أن يريها قدرة الله عجزها، وأن السبعة الأبيات التي قفلت عليه لا تنفع شيئاً، فيكون ذلك حجة عليها في نبوته. وقوله: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ}، العفريت النافذ في الأمور المبالغ فيها الذي معه خبث ودهاء، وفيه لغات:

عفريت وعفرية وعفر وعفارية. وقرأ أبو رجاء: قال: " عفرية " وجمع عفرية على عفار وجمع: عفريت على عفاريت، وإن شئت عفار لأن التاء زائدة كما تقول في طاغوت طواغ، وإن شئت عوضت فقلت عفاري. / قال مجاهد: عفريت من الجن: أي ما ورد من الجن. وقال قتادة ومعمر: داهية من الجن. وقيل: عفريت: رئيس من الجن. قال وهب: كان اسم العفريت: كودتا.

وعن ابن عباس: أنه صخر الجني. فالمعنى: قوي على حمله، أمين على فرج هذه. وعن ابن زيد: نحوه. وقوله {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ}، قال مجاهد: مقعدك الذي تقضي فيه. وقال قتادة: يقال مقام ومقامة: للمكان الذي يقام فيه قيل: كان سليمان يجلس للناس إلى وقت نصف النهار، ثم يقوم إلى عبادة ربه، وإلى أهله. قال ابن عباس: كان من قوة العفريت حين وصف نفسه بالقوة: أنه كان يضع قدمه حيث ينال طرفه، فقال سليمان: أنا أحب أعجل من ذلك: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب} قيل: هو جبريل عليه السلام. وقيل هو سليمان نفسه. وذهب ابن وهب: أنه الخضر. وقيل: هو أصف بن برخيا.

وقوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}، أي لقوي على حمله: أمين على ما فيه من الذهب والجوهر لا أخون فيه. وعن ابن عباس: أمين على فرج المرأة. ثم قال: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، أي قال الإنسي الذي عنده علم من كتاب الله جلّ ذكره. قال مجاهد: فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش تحت الأرض حتى خرج إليهم. قال الزهري: دعا الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت: إيتني بعرشها. قال: فتمثل له بين يديه. قال قتادة: كان اسمه يلجا.

وقيل: كان اسمه آصف بن برخيا. وقال النخعي: هو جبريل A. وقيل: هو سليمان نفسه. ودل على ذلك قوله: {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي}. ومعنى: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، أي قبل أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك، أي قبل أن يأتيك أقصى ما ترى. وقال وهب معناه: أنا آتيك به قبل أن تمتد عينك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى آتيك فأمثله بين يديك فدعا فغاص العرش تحت الأرض ثم نبع إليه. وقال وهب: توضأ آصف، وركع ركعتين، ودعا فنبع السرير من تحت الأرض، فقال سليمان: {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي}، أي هذا النصر من فضل ربي ليختبرني أشكر أم أكفر، ومن شكر فلنفسه يشكر، لأن النفع إليه يرجع، ومن

41

كفر فإن ربي غني عنه، ونفسه ظلم. كريم أي تفضل على من كفر ويرزقه. قال مالك: كانت باليمن وكان سليمان بالشام. وروى ابن وهب عن ابن لهيعة قال: بلغني أن الذي قال لسليمان {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أنه الخضر. قال الأعمش: قال الذي عنده علم من الكتاب لا إله إلا أنت رب كل شيء إيتني به. قال: فإذا هو بين يديه. قوله تعالى ذكره: {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي}. أي قال سليمان لما أتي بالعرش وقدمت إليه بجندها: غيروا سريرها. قاله قتادة. قال ابن عباس: زيد فيه ونقص منه. وقال الضحاك. " ننظر أتهتدي " أي ألها عقل تهتدي به إلى عرشها، أم لا تهتدي إليه؟.

42

قال الفراء: كان الشياطين قد قالوا لسليمان: إنها لا عقل لها، وإن رجلها كحافر حمار، فأراد أن يعرف صحة ذلك، فغير السرير وصنع الصرح من زجاج تحته ماء فيه حيتان. وقيل: المعنى ننظر أتهتدي لهذه العظمة التي أتت بسريرها مع عظمه وبعد موضعه، وأن الناس لا يتهيأ لهم حمل مثله، فتعلم أنه لا يأتي به إلا نبي من عند الله، فتدع الضلالة وترجع إلى الإيمان بهذه المعجزة التي رأتها من حمل سريرها من موضعه، وهي لا تشعر به ولا قومها، أم تكون من الذين يجهلون ذلك. قال: {فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}، أي فلما جاءت بلقيس سليمان أخرج لها العرش، وقال لها: أهكذا عرشك؟ فشبهته به وقالت: / {كَأَنَّهُ هُوَ}، ولم تقطع أنه هو، لأنها تركته خلفها وغلقت عليه الأبواب. وقوله تعالى {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا}، هذا خبر من قول سليمان، أي قال سليمان: وأعطينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء جل ذكره من قبل هذه المرأة

43

{وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}، من قبلها، قاله مجاهد وغيره. وقيل: العلم هنا التوحيد. قال: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله}، أي وصدها عبادتها الشمس من دون الله عن أن تعلم ما علمنا، وعن أن تسلم " فما " في موضع رفع بفعلها على هذا التقدير. وقيل: المعنى: وصدها الله أو وصدها سليمان عما كانت تعبد. ثم حذفت " عن " فتعدى الفعل إلى " ما " في موضع نصب على هذا التقدير، ومثله في الحذف ما أنشد سيبويه: نبئت عبد الله بالجو أصبحت ... مواليها لئيماً صميمها أي عن عبد الله.

44

وقرأ ابن جبير: " أنها كانت " بفتح أن وموضعها نصب على البدل من " ما " على مذهب من جعل " ما " في موضع نصب، ويجوز أن تكون في موضع نصب على حذف اللام، وفي موضع خفض على إرادة اللام. وهو قول الكسائي. وفي موضع رفع على البدل من " ما " على مذهب من جعل " ما " في موضع رفع. والوقف لمن كسر " إن " {مِن دُونِ الله}، ومن فتحها وقف على {كَافِرِينَ}. قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح}، قال وهب بن منبه: أمر سليمان بالصرح فعملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً، ثم أرسل الماء تحته، ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعطفت عليه الطير، والجن، والإنس. وقيل: إنه ألقى في الماء الحوت، فنظرت إلى ماء فيه حوت على ظهره سرير، ولم تر الزجاج لصفائه، فرفعت ثيابها، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء إلى سليمان. فقيل: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ}، أي من زجاج، والممرد: الأملس، ومنه الأمرد.

وقيل: إنما فعل ذلك ليختبر عقها بذلك على نحو ما اختبرته يعني في توجيهها إليه الوصائف والوصفاء، ليميز بين الذكور والأناث يعاتبها بذلك. فقال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً أعز من ملكها، وسلطاناً أعظم من سلطانها. {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا}، لا تشك أنه ماء تخوضه، فقيل لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ}، فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وعابها في عبادة الشمس من دون الله، فقالت بقول الزنادقة، فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت، وسجد معه الناس، وسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلما رفع رأسه قال: ويحك ما قلت؟ فأنسيت ما قالت، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين}، فحسن إسلامها.

وقيل: إن سليمان إنما أمر ببناء الصرح، لأن الجن خافت سليمان أن يتزوجها، فأرادوا ان يزهدوه فيها فقالوا: إن رجلها رجل حمار، وإن أمها كانت من الجن. فأراد سليمان أن يعلم حقيقة ما أخبرته الجن به. قاله محمد بن كعب القرظي. وقال: إن سليمان لما عمل له الصرح سخر فيه دواب البحر: الحيتان والضفادع، فلما نظرت إلى الصرح، قالت: ما وجد ابن داود عذاباً يقتلني به إلا الغرق. فحسبته لجة وكشفت عن ساقيها، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً. قال: فضن سليمان بساقيها عن الموسى، فأحدثت النورة لذلك السبب لسيلمان. قال مجاهد: والصرح: بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير

ألبسها إياه. قال: وكانت بلقيس هلباء شعراء قدمها كحافر حمار وأمها جنية. وعن ابن عباس قال: سمعت الجن بشأن بلقيس فوقعوا فيها عند سليمان ليكرهوها إليه، وخافوا أن يتزوجها، فتظهره على أمورهم، وكانت تعلم ذلك لأن أحد / أبويها كان جنياً. فقالوا: أصلح الله الملك إن في عقلها شيئاً، ورجلها كحافر حمار، فلما قالوا له ذلك، أراد أن يرى عقلها، ويرى قدميها، فأمر بالصرح وأجرى تحته الماء وجعل فيه الضفادع والسمك، وأمر بعرشها فزيد فيه ونقص منه، فلما نظرت إليه جعلت تعرف وتنكر، وقالت في نفسها: من أين تخلص إلى عرشي، وهو تحت سبعة أبواب والحرس حوله؟ فلم تعرف ولم تنكر وقالت {كَأَنَّهُ هُوَ} فقيل لها {ادخلي الصرح}، إلى القصر فظنته ماء، وكشفت عن ساقيها لتخوض

الماء إلى سليمان، فرأى سليمان أحسن ساق بخلاف ما قيل له فيها. روى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " كان أحد أبوي صاحبة سبأ جنياً ". ومعنى: {حَسِبَتْهُ لُجَّةً}، أي لما رأت الماء تحت الزجاج الأبيض، ودواب الماء تحته، ظنته لجة بحر وكشفت عن ساقيها لتخوض إلى سليمان. قال مجاهد: لما كشفت عن ساقيها، فإذا هما شعراوان فقال سليمان: ألا شيء من يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، قال الموسى له أثر، فأمر بالنورة، فصنعت، فكان أول من صنع النورة.

وقيل: إنه لما تزوجها قالت له: إني لم يمسني حديد قط، فعملت النورة. ومعن: " ممرد " أي مشيد. {مِّن قَوارِيرَ}، أي من زجاج. وقيل: الصرح: القصر. وقيل الصحن: هو ساحة الدار. وأصل الممرد: الأملس. ومنه: الأمرد، ومنه قولهم: شجرة مرداء: إذا سقط عنها ورقها. وقيل: الممرد: الطويل. ومنه قيل لبعض الحصون: مارد. ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}. وقد تقدمت قصة صالح في مواضع، فأغنى عن إعادتها.

46

وقوله: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}، إنما جمع لأن كل فريق جمع، ويجوز يختصمان، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما دعاهم صار قومه فريقين يختصمون: مؤمن وكافر، ومصدق له ومكذب يختصمون في أمره فيما جاءهم به. قوله تعالى ذكره: {قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة}، أي قال صالح لقومه: لم تستعجلون بعذاب الله قبل رحمته؟. قال مجاهد: وقيل السيئة: العذاب، والسنة: العافية، وهذا يدل على أنه طلبوا منه أن يحل بهم العذاب الذي توعدهم به، واستعجلوه لوقوعه أنهم تكذيباً منهم للعذاب، ولما جاءهم به. قوله: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} أي هلا تسألون الله المغفرة من كفركم ليرحمكم. قال تعالى: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ}،. أي قالت ثمود لصالح

48

تشاءمنا بك وبمن معك لما يصيبنا من القحط والشدة، وقلة نماء الأموال، وذلك من اتباعك، فقال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِندَ الله}، أي ما يصيبكم مما تكرهون عند الله علمه، ومن عند الله يأتيكم. قال قتادة: معناه: علمكم عند الله. وقال الفراء: عند الله، ومعناه: أي في الوح المحفظ ما يصيبكم. مثل: قوله {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 19]، أي ما يصيبكم من خير وشر لازم لكم في رقابكم. وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، أي تختبرون، أي يختبركم ربكم برسالتي إليكم، فينظر طاعتكم له فيما بعثني به إليكم. قال تعالى: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ}، أي كان في مدينة قوم صالح تسعة أنفس {يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ}، أي يكفرون بالله ولا يؤمنون به، وخص هؤلاء بالذكر، وقد علم أم جميعهم كافرون، لأنهم هم الذين سعوا في عقر الناقة، وتعاونوا عليها، وتحالفوا على قتل صالح من بين ثمود.

49

قال ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً وما لنا به علم، فدمرهم الله أجمعين. قال عطاء بن أبي رباح: بلغني عنهم أنهم / كانوا يقرضون الدراهم. وقال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة، وكانوا يفسدون، ويأمرون بالفساد، فجلسوا تحت صخرة عظيمة على نهر، فقلبها الله عليهم فقتلهم. قال تعالى: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ}، أي تحالفوا كأنه أمر بعضهم بعضاً أن يتحالفوا بالله، ويجوز أن يكون تقاسموا فعلاً ماضياً في معنى الحال والتقدير: قالوا: متقاسمين بالله، والمعنى: قال تسعة الرهط: تحالفوا بالله أيها القوم،

50

أي ليحلف بعضكم بعضاً لنبيتن صالحاً الليلة، وأهله فلنقتلنه {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ}، أي ولي دمه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}. قال مجاهد: تحالفوا على إهلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا هم وقومهم أجمعون. قال أبو إسحاق: قال التسعة الرهط الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً أي فيما يوعدنا به من العذاب بعد الثلاث عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته. فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم متشادخين قد رضخوهم بالحجارة. وقوله: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، أي نقول لوليه: وإنا لصاقون أنا ما شهدنا مهلك أهله. أي مكر هؤلاء التسعة بسيرهم إلى صالح ليلاً ليقتلوه، وصالح لا يشعر بذلك. {وَمَكَرُواْ مَكْراً} أي فأخذناهم بالعقوبة وهم لا يشعرون بمكر الله. فالمعنى: ومكروا مكراً بما عملوه، ومكرنا مكراً أي جازيناهم على مكرهم. وقيل: مكر الله بهم هو: إعلامه لصالح ومن آمن به بهلاكهم، وأمره لهم بالخروج من بين أظهرهم، ففعلوا، وأخذ العذاب الكفار دون غيرهم.

51

وقيل: المكر من الله الإتيان بالعقوبة المستحقة من حيث لا يدري العبد. وقيل: المكر من الله: أخذه من أخذ منهم على غرة وغفلة. قال إبراهيم بن عرفة: المكر من المخلوقين هو إظهار غير ما في النفوس ليوقعوا الحملة، ويبلغوا ما يريدون، والمكر من الله إظهار النظرة وترك العقوبة عاجلاً حتى يأخذه على غرة. ألم تسمع إلى قوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182] أي أطيل لهم المدة. روي في خبر صالح مع قومه: " أنهم قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه، ومن أهله قبل ثلاث. وكان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فخرجوا إلى كهف وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم، فبعث الله عليهم صخرة من أهضب جبالهم فخشوا أن تشدخهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم في ذلك، فلا يدر قومهم أين هم؟ ولا يدرون ما فعل بقومهم؟ فعذب الله هؤلاء هنا، وهؤلاء هنا، وأنجى صالحاً ومن معه. قال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}، أي فانظر يا محمد بعين قلبك إلى عاقبة غدر ثمود لنبيهم صالح كيف كان. {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ}، أي أهلكناهم وقومهم أجمعين.

52

ومن فتح {أَنَّا} ففيه خمسة أوجه: الأول: أن يقدر اللام معها ثم يحذفها فتكون " أن " في موضع نصب على حذف حرف الجر منها. الثاني: أن تكون " أن " في موضع رفع بدل من عاقبة، وكيف خبر كان في الوجهين. الثالث: أن تكون في موضع نصب على خبر كان: أي كيف كان عاقبة مكرهم، تدميرهم، وتكون " كيف " ظرفاً عمل فيه جملة الكلام بعده، كما تقول: اليوم كان زيد منطلقاً. الرابع: أن تكون " أن " فيوضع رفع على إضمار مبتدأ للعاقبة والتقدير للعاقبة والتقدير هي إنا دمرناهم. الخامس: ذكره الفراء: أن يجعل " أن " بدلاً من كيف، وهذا الوجه بعيد. فأما من كسر " إنا " فإنه يجعل " كيف ": خبر كان و " عاقبة " اسم كان / ثم يستأنف فيكسر. قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا}، خاوية نصباً على الحال، ويجوز الرفع من خمسة أوجه: الأول: أن ترفع " تلك " بالابتداء " وبيوتهم " بدل من تلك " وخاوية " خبر الابتداء.

53

والثاني: أن ترفع " تلك " بالابتداء و " خاوية " و " بيوتهم " خبر ثاني عن الابتداء كما يقال هذا حلو حامض. الثالث: أن ترفع " خاوية " على إضمار مبتدأ: أي هي خاوية. الرابع: أن تجعل " خاوية " بدلاً من بيوتهم كأنك قلت: فتلك خاوية. الخامس: أن تقدر في بيوتهم الانفصال، فتجعل خاوية نعتاً للبيوت تقديره فتلك بيوت لهم خاوية. والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية منهم ليس فيها منهم أحد، قد أهلكوا بظلم أنفسهم. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، أي إن في فعلنا بثمود ما قصصنا عليك لعظة لمن يعلم. وروي: أن بيوتهم هذه المذكورة: هي بوادي القرى: وهو موضع بين المدينة والشام معروف. أي أنجينا من عذابنا، ونقمتنا التي حلت بثمود صالحاً والمؤمنين به، وكانوا يتقون العذاب والنقمة، فآمنوا خوفاً من ذلك، فكذلك ننجيك يا محمد، ومن آمن بك عند حلول عقوبتنا بمشركي قومك. وروي: أن صالحاً A لما أحل الله تعالى ذكره بقومه ما أحل من العذاب، خرج هو والمؤمنين به إلى الشام فنزل رملة فلسطين. قال: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة}، أي واذكر لوطاً وإن

56

شئت، وأرسلنا لوطاً: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} يعني نكاح الرجال في أدبارهم. {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ}، أي تبصرون أنها فاحشة، إذ قد علمتم أنه لم يسبقكم إلى من تفعلون أحد. {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال}، أي في أدبارهم شهوة منكم لذلك، من دون فروج النساء التي أباح الله لكم بالنكاج {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، أي تجهلون حق الله عليكم فخالفتم أمره. قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ}، أي فلم يكن جواب قوم لوط له لما نهاهم عن نكاح الرجال، إلا قول بعضهم لبعض: {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، عما نفعله نحن من إتيان الذكران. قال ابن عباس: أي يتطهرون من إتيان النساء والرجال في أدبارهم. وقاله مجاهد. قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا}، يعني أنجاهم من العذاب. {إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا}، أي جعلناها بتقديرنا {مِنَ الغابرين}، أي من الباقين في العذاب. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً}، أي حجارة من السماء، أي

59

أمطرنا الحجارة على من لم يكن حاضراً في المدائن المنقلبة على من فيها منهم. {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} أي فساء المطر مطر القوم الذين أنذرهم الله عقابه على معصيتهم إياه. قال: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} أي قل يا محمد الحمد لله. وقال الفراء معناه: قل يا لوط الحمد لله على هلاكهم. {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} والقول الأول أحسن لأن القرآن على النبي A نزل، فهو المخاطب والمعنى: قل يا محمد لله على نعمه وتوفيقه لكم. {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ}، أي وأمنه من عقابه الذي عاقب به قوم لوط، وصالح، على عباده الذين اجتباهم لمحمد A فجعلهم له أصحاباً ووزراء على الذين الذي بثه بالدعاء إليه. قال ابن عباس: {على عِبَادِهِ الذين اصطفى}، أصحاب محمد عليه السلام وقاله الثوري.

ثم قال: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أجاز أبو حاتم تحقيق الهمزتين في " ءالله " ولم يوافقه على ذلك أحد، والمعنى: أثواب الله خير أم ثواب ما تشركون؟ وقيل: " خير " هنا ليست أفعل. والمعنى: الله ذو خير ما تشركون؟ وقيل: إنما أتى هذا لأنهم كانوا يعتقدون، ويظنون أن في عبادة الأصنام خيراً، وفي عبادة غيرها شراً، فخوطبوا على ما كانوا يظنون، ويعتقدون، لا على غير ذلك. وقيل: المعنى الخير في هذا الذي تشركونه به في العبادة. وحكى سيبويه: الشقاء أحب / إليك أم السعادة؟ وهو يعلم أن السعادة أحب إليه. وقيل: لفظ الاستفهام في هذا مجاز، ومعناه التبيين لهم أن الله خير لهم مما يشركون به من الأصنام، وهذا النص يدل على أن الدعاوى في الديانات لا تصح إلا ببرهان وحجة تدل على صحة ذلك، ولو كان الأمر على غير ذلك لم يطلب

60

من هؤلاء برهان وحجة على ما يدعون. والمعنى: عند الطبري: قل يا محمد للمشركين، الله الذي أنعم على أوليائه بالنعم التي قصها عليكم: {خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} من أوثانكم التي لا تنفعكم، ولا تضركم، ولا تدفع عن أنفسها، ولا عن أوليائها شراً، ولا تجلب نفعاً. قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}، أي أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض فهو مردود على ما قبله على المعنى الذي تقدم ذكره. وفيه معنى التوبيخ، والتقريع لهم، وفيه أيضاً معنى التنبيه على قدرة الله، وعجز آلهتهم، وكذلك معنى ما بعده في قوله " أمن "، " أمن " هو كله مردود على الله {خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وفيه من المعاني ما ذكرنا من التوبيخ، والتقريع، والتنبيه فافهمه كله.

61

والحدائق: جمع حديقة وهي البستان عليه حائط محوط، فإذا لم يكن عليه حائط فليس بحديقة. وقال قتادة: هي النخل الحسان. قال عكرمة: الحدائق: النخل، والبهجة: الزينة والحسن. ثم قال: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا}، أي لم تكونوا قادرين على إنبات شجرها، لولا ما أنزل الله من الماء {أإله مَّعَ الله}، أي أمعبود مع الله خلق ذلك؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، أي يعدلون عن الحق ويجورون على عمد منهم لذلك، ويجوز أن يكون المعنى: بل هو قوم يعدلون بالله الأوثان. قال: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً}، أي أعبادة ما تشركون خير أم عبادة من جعل الأرض قراراً أي تستقرون عليها لا تميد بكم. {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً}، أي وجعل بين أبنيتها أنهاراً. {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}، وهي الجبال. {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} أي بين الملح والحلو، لئلا يفسد أحدهما صاحبه. {أإله مَّعَ الله}، أي أمعبود يعبد مع الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي

62

لا يعلمون قدر عظمة الله جل ذكره، وما عليهم من الضرر في إشراكهم مع الله غيره. قال: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوء}، أي أعبادة ما تشركون خير أم عبادة من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به. قال ابن جريج: السوء: الضر ثم قال تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض}، أي سيتخلفكم بعد أمواتكم في الأرض {أإله مَّعَ الله}، أي أمعبود مع الله {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}، أي قليلاً ما تذكرون عظمة الله، وقبيح ما تفعلون. قال تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر}، أي أعبادة أوثانكم خير، أم عبادة من يهديكم في ظلمات البر والبحر، إذا ضللتم فيهما الطريق، وخفيت عليكم السبيل فيهما. {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً} أي يرسلها حياة للأرض {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، أي قدام الغيث الذي يحيي الأرض.

64

ثم قال: {أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي أمعبود مع الله، تعالى الله عن شرككم به. قال تعالى: {أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ}، أي أعبادة أوثانكم خير أم عبادة من يبدأ الخلق من غير أصل، ثم يفنيه، ثم يعيده إذا شاء كهيئته {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض}، أي بالبعث والنبات. {أإله مَّعَ الله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي إن زعمتم أن مع الله إلها غيره يفعل ذلك، فقل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم على ذلك، ودليلكم عليه إن كنتم صادقين في دعواكم. وقد وقعت أمن في السواد موصولة، وكان حقها أن تكون مفصولة، ولكن كتبت على لفظ الإدغام. قوله تعالى ذكره: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله}، أي قل يا محمد لمن سألك عن الساعة متى هي: لا يعلم غيبها إلا الله. وعن عائشة أنها قالت: " من زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم الله

66

الفرية، والله يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} الآية. وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} ويقول: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ}. ثم قال: {وَمَا يَشْعُرُونَ / أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}، أي لا يدري أحد متى يبعث لقيام الساعة. قال تعالى: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة}، أي بل تكامل علمهم في الآخرة، أي يتكامل ذلك يوم القيامة، والماضي بمعنى المستقبل، فالمعنى: أنهم يتكامل علمهم بصحة الآخرة، إذا بعثوا وعاينوا الحقائق. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} يعني في الدنيا لأنهم إذا بعثوا وعاينوا الحقائق يوم القيامة، رأوا كل ما وعدوا به معاينة. وقيل المعنى: يتابع علمهم اليوم بعلم الآخرة. وفي: بمعنى الباء، ومن قرأه: إدرك على وزن إفعل: فمعناه: كمل في الآخرة كالأولى.

وقيل: معناه: الإنكار، فدل ذلك قوله: {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}، وقيل: المعنى بل إدارك علمهم بالآخرة فأيقنوا بها، وعلموها حين لم ينفعهم يقينهم بها، إذ كانوا بها في الدنيا مكذبين. وقاله ابن عباس وهو اختيار الطبري. في معنى هذه القراءة. وعن ابن عباس: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أي غاب علمهم، وقال ابن زيد: ضل علمهم في الآخرة. أي بالآخرة: فليس لهم فيها علم هم منها عمون. وقال قتادة: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ} أي لم يبلغ لهم فيها علم، وقال مجاهد: {بَلِ ادارك} معناه: إم إدارك. وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا}، أي هؤلاء المشركون في شك من الآخرة لا يوقنون بها. {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ}، أي بل هم من العلم بقيامها عمون.

67

وعن ابن عباس: أنه قرأ " بل أدارك " بلفظ الاستفهام وبلى بالألف، وفيها بعد عند النحويين، لأن بلى إيجاب، والاستفهام في هذا الموضوع إنكار. وقرأ ابن محيصن: بل بغير ألف أدارك بالاستفهام، وفيها أيضاً بعد. ومعنى الاستفهام هما: التوقيف، وتقديرها: أدرك علمهم في الدنيا حقيقة الآخرة لم يدرك. وفي حرف أبي: " بل تدارك " أتى به على الأصل ولم يدغم التاء في الدال. قال: {وَقَالَ الذين كفروا أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ}، أي قال

69

الكافرون بالله المنكرون للبعث: أإنا لمخرجون من قبورنا أحياء، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل محمد، فلم نر لذلك حقيقة. {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي ما هذا الوعد إلا ما سطره الأولون من الأحاديث في كتبهم، والعامل في إذ فعل مضمر، والتقدير: أنبعث إذا كنا تراباً. قال تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض}، أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من أخبار الأمم قبلهم: سيروا في الأرض فانظروا آثار من كان قبلكم من المكذبين رسل الله مثل ما كذبتم أنتم، واعتبروا بهلاكهم، وقطع آثارهم، واحذروا أن يحل عليكم بتكذيبكم إياي مثل ما حل عليهم. قال: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، أي لا تحزن يا محمد على إعراض هؤلاء المشركين عنك وكفرهم بما جئتهم به {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}، أي لا يضيق صدرك يا محمد عن مكرهم بك، فإن الله ناصرك عليهم، ومهلكهم قتلاً بالسيف. ثم قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي يقول مشركو

72

قومك يا محمد: متى يأتي هذا الوعد الذي تعدنا به من العذاب الذي يحل بنا على ما تقول؟ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، في ما تعدنا به. قال: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} أي قل يا محمد لهم: عسى أن يكون اقترب لكم ودنا بعض الذي تستعجلون من عذاب الله. وقال ابن عباس: ردف لكم: اقترب لكم. وقال مجاهد: أعجلكم. وعنه أيضاً: أزف لكم، وهو قوله الضحاك. وقال أبو عبيدة: جاء بعدكم، وهو من ردفه: إذا جاء في إثره. وقيل: تقدير الآية: قل يا محمد: عسى أن يكون بعض الذين تستعجلون ردف لكم لأنه ليس من الجائز أن يلي فعل فعلاً. وقيل: إن بعد يكون إضمار القصة، أو الحديث وشبهه. و " بعض " مرفوع بردف، ودخلت اللام في ردف لكم حملاً على المعنى لأن معناه: اقترب لكم ودنا لكم.

75

وقيل: هي زائدة. والمعنى: ردفكم. وقيل: هي متعلقة بمصدر ردف. ثم قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}. أي لذو فضل عليهم بتركه معاجلتهم بالعقوبة على / معصيتهم، وكفرهم به. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ}، أي لا يشكرون نعمه عندهم، بل كثير منهم يشركون معه في العبادة ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ولا فضل له عندهم ولا إحسان. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ}، أي ما يضمرون فيها، {وَمَا يُعْلِنُونَ}. أي وما يظهرون، فهو يعلم الخفي والظاهر. أي وما من مكتوم وخفي أمر في السماء والأرض {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يعني في أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من لدن ابتداء الخلق إلى يوم القيامة.

76

قال ابن عباس: معناه: ما من شيء في السماء والأرض سراً وعلانية إلا يعلمه. أي يخبرهم بالحق في أكثر الأشياء التي اختلفوا فيها، وفي غير ذلك، كاختلافهم في عيسى ونحوه. أي وإن القرآن لبيان من الله ورحمة لمن صدق به وعمل بما فيه. قال تعالى: {إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ}، أي يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل بحكمه، فينتقم من المبطل، ويجازي المحسن، وهو العزيز في انتقامه العليم بالمحق منهم والمبطل. ثم قال تعالى ذكره: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله}، أي ثق به في جميع أمورك {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين}، أي الظاهر.

80

قوله تعالى ذكره: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء}. المعنى: إنك يا محمد لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلبه فأماته، ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصم الله سمعه {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} أي إذا هم أدبروا معرضين عنه، فأما قراءة ابن كثير " ولا يسمع " بالياء " الصم " بالرفع، فمعناها: ليس يسمع الصم الدعاء في حال إعراضهم، وتوليتهم عنه. قال: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ}، أي وما أنت يا محمد بهادي من أعماه الله جل ذكره عن الهدى فجعل على بصره غشاوة {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا}، أي ما يقدر أن يفهم الحق أحد إلا من يصدق بآياتنا {فَهُم مُّسْلِمُونَ}. قال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم}، أي إذا وجب على المختلفين من بني إسرائيل والمشركين من العرب وغيرهم، غضب من الله جل ذكره، إذا لم يكن في علم الله منهم راجع عن كفره، ولا تائب من ضلاله

{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ}. أي تخبرهم وتحدثهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. وقرأ ابن عباس، وعكرمة، وعاصم الجحدري وطلحة: {تُكَلِّمُهُمْ} بفتح التاء وتسكين الكاف من كلمه إذا جرحه أي تسمهم. قال مجاهد: وقع القول: حق القول. وقال قتادة: وجب القول. وقال ابن جريج: القول: العذاب. وقال قتادة: القول: الغضب. وخروج الدابة في قول جماعة من العلماء، إنما يكون حين لا يأمر الناس بمعروف، ولا ينهون عن منكر.

قال ابن عمر وغيره: وخروجها والله أعلم بعد خروج الدجال، لأن الدجال يخرج فيفتتن الناس به إلا من شاء الله، ثم يقتله عيسى ابن مريم، وتصير الأديان ديناً واحداً وهو الإسلام، ثم تحدث الحوادث، وتتغير الأمور بعد موت عيسى عليه السلام، فتخرج الدابة فتسم الكافر بسواد في وجهه، والمؤمن ببياض في وجهه. وقد قال الضحاك - في صفة الدجال: إنه وافر الشارب، لا لحية له رأسه كالقلة العظيمة طول وجهه ذراعان، وقامته في السماء ثمانون ذراعاً، وعرض ما بين منكبيه ثلاثون ذراعاً، ثيابه، وخفاه، وسيفه وسرجه، ولجامه: بالذهب والجوهر على رأسه تاج مرصع بالذهب والجوهر، في يده طبرزين هيئته هيئة المجوس، قوسه الفارسية، وكلامه بالفارسية، تطوى له

الأرض ولأصحابه طياً طياً، يطأ مجامعها، ويرد مياهها إلا المساجد الأربعة: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد بين المقدس، ومسجد الطور، فخروج الدابة هو آخر الآيات / وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] وهو خروج الدابة. وروي أنه ترفع عند ذلك التوبة، وتخبر الكافر أنه كافر، والمؤمن أنه مؤمن. وروي: أنه يجعل الله لها من الطول ما تشرف به على الناس

لتكلمهم بكلام يفهمونه، ويسمعونه، وتخبرهم أن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، وينغلق عند ذلك باب العمل ويجهل فلا ترى عالماً بالدين، ويحصل كل امرئ على ما قدم من خير أو شر. وهو معنى قوله: {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} أي وجب عمله كل امئ لنفسه إن خيراً فخير. وإن شراً فشر. قال ابن عمر: تخرج الدابة من صدع في الصفا. وروى حذيفة عن النبي A أنه قال: " تخرج الدابة من أعظم

المساجد حرمة على الله، بينما عيسى بن مريم يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم، تحرك القنديل، وينشف الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يبدو رأسها، ملصقة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب ولا يفوتها هارب، تسم الناس مؤمن وكافر، أما المؤمن فتترك زجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه نكتة بيضاء مؤمن، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء كافر ". روى أو هريرة أن رسول الله A قال: " تخرج الدابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتختم أنف الكافر بخاتم، ثم إن أهل الدار يجتمعون فيقولون هنا يا مؤمن ويقول هنا يا كافر ". وقد كثرت في ذلك الأخبار عن حذيفة وابن عمر كلها ترجع إلى معنى هذا الحديث.

ويروى أن موسى A: " سأل الله تعالى أن يريه الدابة، فمكث ثلاثة أيام، وثلاث ليال لا يظهر منها إلا رأسها، وعنقها، وظهرها ". وعن ابن عمر أنه قال: تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب، ورجلاها في الأرض ما خرجتا، فتمر بالإنسان يصلي فتقول: ما الصلاة من حاجتك فتخطمه، قال: وتخرج ومعها خاتم سليمان وعصا موسى. فأما الكافر فتختم بين عينيه بخاتم سليمان فيسود، وأما المؤمن فتمسح وجهه بعصا موسى فيبيض. قال ابن عباس: هي والله تكلمهم وتكلمهم، تكلم المؤمن وتكلم الكافر.

83

قال تعالى ذكره: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً}، أي واذكر يا محمد يوم نحشر من كل قرن وملة فوجاً، أي جماعة منهم وزمرة {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا}، أي يجحدها {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على آخرهم فيجتمع جميعهم ثم يسافرون إلى النار. قال ابن عباس: يوزعون: يدفعون. قال مجاهد: يحبس أولهم على آخرهم. وقال قتادة: لهم وزعة: ترد أولهم على آخرهم. قال تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي}، أي جاء الأفواج واجتمعوا، قال لهم الله جل ذكره: {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي}، أي بحججي وأدلتي {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً}، أي ولم تعرفوها حق معرفتها أماذا {كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيها من تصديق أو تكذيب. وقوله: {وَلَمْ تُحِيطُواْ}، معطوف

على {أَكَذَّبْتُم} فيه معنى التوبيخ والتقدير. على معنى: {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} " أي أكذبتم بها وقد أحطتم بها علماً، لأن الألف إذا دخلت على النفي نقلته إلى الإيجاب بمنزلة {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 7] أي قد شرحناه لك، ودل على حذف الألف من ولم تحيطوا. قوله: " أما ذا كنتم ". ولو لم تقدر الألف ويجري على معنى الإيجاب الذي أصله النفي وردته الألف إلى الإيجاب لكان ذلك عذراً لهم إنهم إنما كذبوا لما لم يحيطوا بعلمها، وليس الأمر كذلك بل كذبوا بعد إحاطتهم بعلمها ونزولها، والدعوة إلى الإيمان بها. وقد قيل إنه لا إضمار ألف في هذا، والمعنى: أنهم كذبوا وهم غير محيطين

86

بالعلم وبالآيات، ودليله قوله: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] فإذا أجريته على هذا المعنى: كانت " أم " عديلة الألف في " أكذبتم " فإذا أجريته على المعنى الأول كانت " أم " عديلة الألف المحذوفة في " أولو " ودالة عليها، ومعنى الكلام: التقريع، والتوبيخ، والتقدير على ما قدموا، ولفظه لفظ الاستفهام، ومعناه على غير ذلك. قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل / لِيَسْكُنُواْ فِيهِ}، أي ألم ير هؤلاء المكذبون تصريف الله جل ذكره الليل، والنهار، وجعله الليل يسكنون فيه، أي يهدءون فيه لراحة أبدانهم من تعب التصرف والتقلب نهاراً.

87

ثم قال {والنهار مُبْصِراً}، أي مضيئاً يبصرون الأشياء فيه، ويتقلبون فيه لمعاشهم، فيعلموا أن مصرف ذلك هو الإله الذي لا يعجزه شيء أراده. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي إن في تصرف الليل والنهار لعلامات ظاهرة لقوم يؤمنون بالله وقدرته. قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور}، أي واذكر يا محمد يوم نفخنا في الصور وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل. روى أبو هريرة: أن النبي A قال: " هو قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهو الذي ذكر الله في قوله:

{وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي ما لها من راحة فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترتج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة} فتكون الأرض كالسفينة المرنقة في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها أو كالقنديل المعلق بالوتر ترجحه الأمواج فيميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع ويولي الناس مدبرين يوالي بعضهم بعضاً وهو الذي يقول: {يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، فأخذهم لذلك من

88

الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم. قال رسول الله A: والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك، قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله D إذ يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} قال: أولئك الشهداء ". وإنما يصل الفزع إلى الأحياء {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه، ويجوز أن يكون العامل في " يوم ينطقون ". وقال مقاتل: إلا من شاء الله ": جبريل وإسرافيل، وميكائيل، وملك الموت صلى الله على جميعهم وسلم، ومعنى داخرين: صاغرين. قال تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، أي وترى يا محمد الجبال يؤمئذ

89

تحسبها جامدة. قال ابن عباس: قائمة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب}، أي تسير سيراً حثيثاً مثل سير السحاب {صُنْعَ الله} أي صنع الله ذلك صنعاً. وقيل: المعنى: انظروا {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، أي أحكمه وأوثقه. ومن نصب {صُنْعَ الله} على المصدر لم يقف على السحاب، لأن الجملة دلت على الفعل العامل، ومن نصبه على انظروا نع الله، جاز الوقف على السحاب. قال تعالى. {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، أي من جاء بالحسنة فله من ثواب الله ما هو خير من عمله، وله أفضل من ثواب عمله، لأن الله جل ذكره يعطي من الثواب فضلاً لا يستحقه العبد بعمله، زيادة منه وتفضلاً وإحساناً. وقوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة}، أي بالسيئات التي فيها الشرك {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار}، ولم يذكر زيادة لأنه تعالى إنما يعذبهم على قدر كفرهم.

وقيل: من جاء بالتوحيد والإيمان فله عند الله خير من أجل ما جاء به وهو الجنة. {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، من نون " فزعاً " فمعناه: أنهم آمنون من كل فزع؛ فزع ذلك اليوم، وفزع ما يخافون العقوبة عليه من أعمالهم السالفة. ومن لم ينون فمعناه: وهم من فزع ذلك اليوم آمنون. ثم قال تعالى. {وَمَن جَآءَ بالسيئة}، أي بالشرك / {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار}. قال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة: الشرك. وقال قتادة: الحسنة: الإخلاص، والسيئة: الشرك. قال عكرمة: كل شيء في القرآن، السيئة: فهو الشرك قال علي بن الحسين: أنا في بعض خلواتي حتى رفعت صوتي، أقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. قال: فرد علي رجل: ما تقول يا عبد الله؟ قال: قلت: أقول ما تسمع،

91

قال: فها إنها الكلمة التي قال الله تعالى. {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}. قال ابن عباس: {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، أي فمنها وصل إليه الخير. وقال ابن زيد: أعطاه الله بالواحدة: عشراً فهدأ خير منها. قال: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة}، أي قل ذلك يا محمد. البلدة: مكة، والذي حرمها نعت للرب: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين}، أي أمرني ربي بذلك {وَأَنْ أَتْلُوَ القرآن}، أي وأمرني ربي بتلاوة القرآن. {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}، أي من آمن بي نفع نفسه لدفعه عنها العذاب في الدنيا والآخرة. {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] أي ومن كفر بي وجحد نبوتي، وما جئت

به فإنما يضر نفسه، إذ يوجب لها العذاب والسخط عند الله بكفره وضلاله عن الهدى. وقوله: {فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين}، أي إنما أنا ممن ينذر قومه عذاب الله وسخطه، وقد أنذرتكم ذلك. {وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا}، أي وقل يا محمد لهؤلاء القائلين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين: الحمد لله على نعمه علينا، وفقنا للإيمان، وللإسلام الذي أنتم عنه عمون {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي آيات عذابه فتعرفونها أي يريكم علامات عذابه فتعرفونها، يعني في أنفسكم، وفي السماء، والأرض، والرزق. ثم قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، أي وما ربك يا محمد بغافل عما يعمل هؤلاء المشركون، ولكن يؤخرهم إلى أجل هم بالغوه. ومن قرأ بالتاء فجعل المخاطبة للمشركين.

القصص

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القصص مكية قوله تعالى ذكره: (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) [1]، إلى قوله: (كَانُوا خَاطِئِينَ) [7]. قد تقدم تفسير " طسم "، والمعنى هذه آيات الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد المبين: أنه من عند الله، لم تتقوله ولا تخرصته، وفي هذا إشارة إلى أن الله قد أعلم من قبل محمد من النبيين أنه سينزل على نبي كتاباً مبيناً، فذلك معنى الإشارة في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ}، أي هذه الآيات التي وعد الله أن ينزلها وكذلك ما شابهه مثله.

3

وقال قتادة: المعنى: المبين بركته ورشده وهداه. وقيل: المعنى: المبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد عليه السلام. يقال: أبان الشيء وبان. قال تعالى: {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ}. أي نقرأ عليك يا محمد رسولنا، ونقص عليك من خبر موسى وفرعون {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي لقوم يصدقون بهذا الكتاب، فيزدادون عند سماع ما لم يكونوا يعلمون تصديقاً وإيماناًَ ويعلمون أن من عاداك مصيره كمصير من عادى موسى. قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض}، أي تجبر وتكبر، لم يرد علو مكان، وعلى ذلك ما وصف الله بالعلو، ليس هو علو مكان {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً}، أي فرقاً

يذبح طائفة، ويستحيي طائفة، ويعذب طائفة، ويستعبد طائفة. {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين}، أي ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحق القتل، واستعباده من ليس له استعباده، وتجبره بغير حق. قال السدي: رأى فرعون في / منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فدعا السحرة والكهنة والقافة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه، يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه ذهاب مملكتك، وكان بنو إسرائيل لا يولد لهم غلام إلا ذبحه، ولا يولد لهم جارية إلا تركت. وقال للقبط: انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فأدخلوهم، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة، فجعل بنو إسرائيل في أعمال غلمانهم، وأدخلهم غلمانهم، فذلك قوله: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً}

5

وواحد الشيع: شيعة، وهي الفرقة التي يشيع بعضها بعضاً أي يعاونه. قال أبو إسحاق: إنما فعل ذلك لأن بعض الكهنة قال له: إن مولوداً يولد مع ذلك الحين يكون سبب زوال ملكه. فالعجب من حمق فرعون إن كان الكاهن عنده صادقاً فما يغني القتل، وإن كان كاذباً فما يصنع بالقتل. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض}، يعني نبي إسرائيل الذين استضعفهم فرعون، فكان يذبح أبناءهم ويستحس نساءهم، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً، بالسبط الذي كان منهم موسى الذي كان فرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم. وهم سبط النبوة، وكان فرعون جعل على نساء ذلك السبط حفظة من النساء، فإذا حملت المرأة دونها عنده في الدواوين فإن وضعت ذكراً ذبحه، وإن وضعت أنثى تركها، وكان الكهان يأتون فرعون كل يوم فيخبرونه بما يرون في كهانتهم. قوله: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي ولاة وملوكاً. {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين}، قال قتادة: يرثون الأرض من بعد فرعون وقومه.

6

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض}، أي نوطئ لهم في أرض الشام ومصر. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ}، أي: نريهم زوال ملكهم على يد الرجل الذي قد حذروا أمره، وقتلوا الولدان من جهته، وهو موسى A. وذكر ابن وهب عن رجاله: أن فرعون ولي بني إسرائيل أربعمائة عام وأربعين عاماً، فأضعف الله ذلك لبني إسرائيل، فولاهم على آل فرعون بعده ثمانمائة عام وثمانين عاما. قال: وإن كان الرجل ليعمر ألف سنة في القرون الأولى، وما يحتلم حتى يبلغ عشرين ومائة سنة. وروى ابن زيد عن أبيه، قال: كان في الزمان الأول يمر بالرجل أربعمائة سنة قبل أن يرى فيها جنازة. فقوله: {أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا} إلى قوله: {الوارثين} هو قوله: {مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ}، فهذا هو الذي كان فرعون يحذر، كان يحذر أن يمن الله على الذين استضعفوا في الأرض عند فرعون، وأن يجعلهم أئمة، وأن يجعلهم الوارثين لأرض فرعون وملكه.

7

قال تعالى ذكره: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، أي وقذفنا في قلب أم موسى، إذ ولدته أن ترضعه، وقيل: هي رؤيا رأتها. قال السدي: أمر فرعون أن يذبح الأولاد من بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة فعلت بموسى في السنة التي يذبحون فيها الأولاد، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه فأوحى الله إليها أن أرضعيه. الآية. قال ابن جريج: أمرت أن ترضعه ما أمنت عليه، فإذا خافت عليه ألقته في البحر. فلما بلغ أربعة أشهر وصاح، وابتغى من الرضاع أكثره، ألقته حينئذ في

8

اليم إذ خافت عليه. وقال السدي: وضعته وأرضعته ثم دعت له نجاراً فعمل له تابوتاً، وجعلت مفتاح الثابوت من داخل، وجعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل. ثم قال: {وَلاَ تَخَافِي}، أي لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه {وَلاَ تحزني} لفراقه. قال ابن زيد: لا تخافي البحر عليه، ولا تحزني لفراقه. {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ}، للرضاع فترضعيه أنت {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} أي باعثوه رسولاً إلى هذه الطاغية. قال تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}، يعني التقطه من النيل جواري امرأة فرعون آسية. خرجن يغتسلن فوجدن التابوت، فأدخلنه إلى آسية، فوقعت عليه رحمتها وحنينها، فلما أخبرت به فرعون، أراد أن يذبحه، فلم تزل تكلمه حتى تركه لها. وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل /، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، ولذلك قال تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}.

وقال محمد بن قيس: كانت ابنة فرعون برصاء، فجاءت إلى النيل فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج، فأخذته ابنة فرعون، فلما فتحت التابوت، فإذا هي بصبي، فلما نظرت إلى وجهه برأت من البرص، فجاءت إلى أمها، وقالت: إن هذا الصبي مبارك، لما نظرت إليه برأت. فقال فرعون: هذا من صبيان بني إسرائيل، هلم حتى أقتله فقالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ}. وقال ابن إسحاق: وأجمع فرعون في مجلس له على شفير النيل، كان يجلسه على كل غداة فبينما هو جالس إذ مر النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا الشيء في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه، حتى جاءوا به، ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته وعطف عليه نفسه. قالت امرأته آسية: {لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}.

وحكى الكسائي: في تصغير آل: أويل والأكثر على رده إلى الأصل، فيقولون: أهيل وإذا أضيف إلى اسم صحيح ليس بموضوع لمعرفة ردوه إلى الأصل. فقالوا: هم أهل الرجل، وأهل المرأة. وكذلك إن أضافوا إلى مضمر أو إلى بلد. قالوا: هم أهلك، وأهل الكوفة، وقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}. اللام لام كي، والمعنى أنه لما كان في علم الله أن يكون لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم إنما التقطوه لكي يصير لهم عدواً وحزناً، فصاروا كأنهم التقطوه لذلك، وإن لم يقصدوا ذلك إنما آل أمرهم إلى أن كان لهم عدواً وحزناً، صاروا كأنهم التقطوه لذلك، ومثله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20]. لم يعرف إبليس أنهما إذا أكلا بدت لهما سوآتهما، ولا قصد لذلك إنما قصد ليوقعهما في الخطيئة، فبدت لهما سوآتهما عند مواقعة الخطيئة فصار كأنه فعل ذلك ليبدي لهما سوآتهما وإن

لم يكن قصده لذلك. وهي لام العاقبة ولام الصيرورة وهذا كما قال: " فللموت ما تلد الوالدة " لم تلد المولود ليموت ولا للموت، ولكن كانت العاقبة إلى الموت، تكون صارت كأنها ولدته لذلك والحُزن والحَزن لغتان، كالسُقم والسَقم. وقيل: الحَزَن: الاسم، والحُزن المصدر. وقوله تعالى: {كَانُواْ خَاطِئِينَ}، أي آثمين بفعلهم، يقال خطئ يخطأ: إذا تعمد الذنب. ويروى: أن فرعون كان له رجال مخضبة أيديهم بالحناء قد شدوا أوساطهم بالمناطق وفيها السكاكين يذبحون الأطفال، فولدت أم موسى موسى، ولا علم عندهم به، فأوحى الله إليها أن ترضعه، فإن خافت عليه ألقته في اليم يعني النيل، فخافت عليه، فجعلته في تابوت وغلقت عليه، وعلقت المفاتيح في التابوت، وألقته في النيل، وكان لامرأة فرعون جوار يسقين لها الماء من موضع من النيل لا

تشرب من غيره، فلما أتى الجواري يستقين وجدن التابوت، فأردن فتحه، ثم قال بعضهم البعض: إن فتحناه قبل أن تراه سيدتنا اتهمنا. وقالت: وجدتن فيه شيئاً غير هذا، ولكن دعنه على حاله حتى تكون هي التي تفتحه وهو أحصى لكن عندها، فذهبن بالتابوت إليها، فتحت التابوت فإذا موسى، فكان من قصته ما ذكره الله لنا، وقد تقدم من قصته في مريم نحو هذا أو أشبع منه. قوله تعالى ذكره: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ}. أي قالت آسية لفرعون: هذا الغلام قرة عين لي ولك، لا تقتلوه. ومعنى: قرة عين: أي برد لعيني وعينك (لا تستحر) أعيننا بالبكاء،

فهو من القر، وهو البرد. وقيل هو من قر بالمكان أي لم يبرحه. وروي: أن امرأة فرعون لما قالت له هذا قال: أما لك فنعم، وأما لي فلا، فكان كما قال. قال ابن عباس: لما أتت امرأة فرعون بموسى فرعون قالت: قرة عين لي ولك، قال فرعون: يكون لك /، وأما لي فلا حاجة لي فيه. فقال النبي A: " والذي يحلف به لو أقر فرعون أنه يكون له قرة عين كما أقرت لهاده الله جل ذكره به كم هدى به امرأته، ولكن الله حرمه ذلك " وقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُوهُ}،

10

بلفظ الجماعة إنما ذلك لأنها خاطبته كما يخاطب الجبار، وكما يخبر الجبار عن نفسه بلفظ الجماعة. ويروى: أنها إنما قالت لفرعون ذلك، يوم نتف موسى لحية فرعون، فأراد فرعون قتله. وقيل: بل قالته له حين التقطه آل فرعون فأراد فرعون قتله. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي لايشعرون أن هلاكهم على يديه، وفي زمانه. قال قتادة. وقال مجاهد: أَنَّه عَدُوٌ لَهُمْ. وقيل: هذا الضمير على بني إسلائيل يعود، والمعنى: وبنو إسرائيل لا يشعرون ذلك. قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} أي أصبح فارغاً من كل شيء سوى ذكر موسى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة والضحاك. وقال ابن زيد معناه أصبح فارغاً من الوحي الذي قال لها الله فيه: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص: 7]،

فحزنت عليه وخافت. قال: جاءها إبليس فقال: يا أم موسى: كرهت أن يقتل فرعون موسى، فيكون لك أجره، وثوابه، وتوليت قتله، وألقيته في البحر وغرقته. قال الحسن: أصبح فارغاً من العهد الذي عهد إليها والوعد الذي وعدت أن يرد عليها ابنها، فنسيت ذلك كله، حتى كادت أن تبدي به لولا أن ربط الله على قلبها بالصبر لأبدت به. قال ابن إسحاق: كانت أم موسى ترجع إليه حين ألقته في البحر، هل تسمع له بذكر حتى أتاها الخير بأن فرعون أصاب الغداة صبياً في النيل في التابوت، فعرفت القصة، ورأت أنه قد وقع في يدي عدوه الذي فرت به منه، فأصبح فؤادها فارغاً من عهد الله جل ثناؤه إليها فيه، قد أنساها عظيم البلاء، ما كان من العهد عندها من الله فيه. قال ابن زيد: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، أي بالوحي. وقال ابن عباس: كادت تقول: وابناه. وكذلك قال قتادة.

قال أبو عبيدة: فارغاً من الحزن لما علمت أنه لم يغرق. قال السدي: لما أخذ ثديها في الرضاع كادت تقول: هو ابني، فعصمها الله. وعن ابن عباس: أن معناه: أصبح فؤاد أم موسى فارغاً من كل شيء إلا من ذكر موسى، كادت أن تخبر به، فتقول: الذي وجدتموه في التابوت هو ابني، ونسيت ما وعدها الله به أنه يرده عليها، فثبتها الله، وربط على قلبها بالصبر، حتى رجع إليها كما وعدها الله. وروى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك: أنه قال: فارغاً هو ذهاب العقل في رأيي، يقول الله تعالى: {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا}. وعن ابن عباس: إن كادت لتبدي به، قال: إن كادت لتقول: يا بنياه. وقال زيد بن أسلم: معناه: فارغاً من الوحي الذي أوحى الله إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر.

11

وقال الأخفش: لتبدي به بالوحي، كقول ابن زيد: وقوله: {لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا}، أي عصمناها من إظهار خبره. وقال قتادة: ربطنا على قلبها بالإيمان لتكون من المؤمنين. قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي قصي أثره أي اتبعي أثره، فانظري أخرجه أحد من البحر، ومن التابوت أم لا؟ فإن أخرج فانظري ماذا يفعلون به .. وقيل معناه: انظري أحي هو أم أكلته دواب البحر؟ ثم قال: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ} وفي الكلام حذف، والتقدير: فقصت أخت موسى أثره، فبصرت بموسى عن بعد، ولم تقربه لئلا يعلم أنها من قرابته، يقال: بصرت به وأبصرته، ويقال: عن جنب وعن جنابة، ومنه قولهم: فلان أجنبي. قيل عن جنب: أي أبصرته عن شق عينها اليمنى. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، بها أنها أخته.

12

وعن ابن عباس: على جنب والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه/، لا يشعر به. وحكى بعض المفسرين: عن جنب: عن شوق. قال أبو عمرو: وهي لغة لجذام، يقولون: تجنبت إليك أي تشوقت. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي وآل فرعون لا يشعرون أنها أخته جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده. وقيل معناه: وهم لا يشعرون ما يصير إليه أمر موسى، ولا يعلمون كرامته على الله. قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ}. أي ومنعنا موسى المراضع أن يرتضع منهن من قبل رده إلى أمه. وقيل: من قبل أمه. وقيل معناه: منعناه قبول ذلك.

وقيل: هو من المقلوب. ومعناه: وحرمنا على المراضع رضاعه، والتحريم بمعنى المنع، معروف في اللغة، وواحد المراضع: مرضع، ومن قال: مراضع، فهو جمع: مرضاع، ومفعال، بناء للتكثير، ولا تدخل الهاء في مؤنثه إذ ليس بجار على الفعل، وقد قالوا: مرضاعة، فأدخلوا الهاء للمبالغة لا للتأنيث، كما قالوا: مطرابة. ثم قال: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}. قال السدي: أرادوا له المرضعات فلم يأخذ من ثدي أحد من النساء وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع. ويروى: أن فرعون بلغ منه الغم بامتناعه من الرضاع كل مبلغ حتى كان أخذه فرعون على يديه وجعل يطلب له الرضاع بنفسه ويشفق عليه من البكاء، فلما قالت لهم أخته ما قالت استراح فرعون إلى قولها، وطمع أن يقبل موسى رضاعها فقال: جيئني بها، فذهبت

إلى أمها فجاءت بها، فأمرها فرعون برضاعه، فقبل ثديها، وسكت، فسر بذلك فرعون وهذا من عجيب لطف الله. ومعنى: يكفلونه: يضمونه. وقالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}، روي: أنها لما قالت ذلك، قالوا لها: ومن هي؟ قالت: أمي، قالوا لها: أو لأمك لبن؟ قالت: نعم، لبن أخي هارون. وكان هارون ولد في سنة لم يكن فيها ذبح. روي: أن فرعون كان يذبح سنة ويترك سنة. وروي: أنه كان ترك الذبح أربع سنين، فولد هارون في آخرها، فأرسلت امرأة فرعون إلى أم موسى، وقالت لها: هذا الصبي أرضعيه، ولك عندنا الكرامة، مع ما لك من القدر عندنا، ولزوجك، فأخذته وأتم الله وعده لها برده إليها، فلما صار موسى إليها لم يبق أحد من خاصة فرعون إلا أكرمها، وكان زوجها عمران قد احتبسه فرعون عنده، فرده عليها. ويروى أن فرعون قال لأم موسى: كيف ارتضع هذا الصبي منك؟ ولم يرتضع من غيرك؟ فقالت: لأني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، فلا أكاد أوتى

13

بصبي إلا ارتضع مني. وروي: أنها لما قالت: {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}، أخذوها، فقيل لها: قد عرفته، فقالت: إنما عنيت أنهم للملك ناصحون، قال السدي وابن جريج. قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ}، أي رددنا موسى إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن عليه، وليتم الوعد الذي وعدها الله به في قوله جل ذكره: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني} [القصص: 7]، وهو قوله: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق، ولا يصدقون به. قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى}، أي استكمل نهاية قوة الرجل. قال مجاهد وقتادة: واستوى: بلغ أربعين سنة.

15

وقيل: الاستواء: ستون سنة. وقال ابن عباس: الأشد: ثلاث وثلاثون سنة، وقاله مجاهد وقتادة. وقيل: هو اثنان وعشرون سنة، فبها تبلغ الزيادة في الطول حدها في الاستواء. {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً}، أي فهماً في الدين ومعرفة به. قال مجاهد: هو الفقه، والعقل، والعمل. وذلك قبل النبوة. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}، أي كما جازينا موسى على طاعته، كذلك نجزي كل من أطاع، وإنما جعل الله إتيانه العبد الحمك والعلم جزاء على الإحسان، لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين. واختلفت في الأشد: فقيل: هو جمع أشد. وقيل: لا واحد له. / وقيل: هو جمع: شدة. قوله تعالى ذكره: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}، إلى قوله:

(مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [18]. أي ودخل موسى مَنْفَا من مصر على حين غفلة من أهلها، وهو نصف النهار. وقيل: بين المغرب والعشاء. قال السدي: كان موسى حين كبر، يركب مراكب فرعون، ويلبس ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى بن فرعون، ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب موسى في إثره، فأدركه المقيل بمنف فدخلها نصف النهار، وليس بطرقها أحد. وقال ابن إسحاق: كانت لموسى لما كبر وفيهم شيعة من بني إسرائيل، يسمعون منه، ويقتدون به، ويطيعونه، ويجتمعون إليه، فلما اشتد رأيه، وعرف ما هو

عليه من الحق، رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقاً في دينه، فتكلم، وعادى، وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه، وخافهم، وحتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا مستخفياً، فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها. وقال ابن زيد: معناه: على حين غفلة من ذكر موسى، ليس غفلة ساعة، وذلك أن فرعون خاف موسى، فأخرجه عنه، فلم يدخل عليهم حتى كبر، فدخل وقد نسي ذكره، وغفل عن أمره. قال ابن عباس: دخل نصف النهار وقت القائلة، وعنه: دخل بين المغرب والعشاء. ثم قال: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ}، أي أحدهما إسرائيلي من أهل دينه، والآخر قبطي من قوم فرعون وعلى دينه، وذكر أنهما اقتتلا في الدين الإسرائيلي على دين موسى والقبطي على دين فرعون، فعند ذلك حميت نفس موسى في الدين، فوكز القبطي، فأتى عليه ومات من وكزته. وعدو عنا بمعنى أعداء، وكذلك يقال في المؤنث. ومن العرب من يدخل

الهاء يجعله بمعنى: معادية. ثم قال: {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ}. قال ابن جبير: مر موسى برجل من القبط قد سخر رجلاً من المسلمين فلما رأى المسلم موسى استغاث به، فقال: يا موسى، يا موسى، فقال موسى: خل سبيله، فقال القبطي: قد هممت أن أحمله عليك، فوكزه موسى فمات، قال: حتى إذا كان الغد نصب النهار، خرج ينظر الخبر، فإذا ذاك الرجل قد أخذه آخر، فقال: يا موسى، فاشتد غضب موسى على القبطي فأهوى إليه، فخاف المسلم أن يكون إنما أتاه يريده، فقال له: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس}. فقال القبطي: يا موسى أراك أنت الذي قتلت بالأمس. قال ابن عباس: لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا بسخرة، حتى امتنعوا كا الامتناع. فبينا هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذا هو برجلين يقتتلان: أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى، فوكز الفرعوني فقتله، ولم يرهما أحد إلا الله جل ذكره، فقال موسى لما مات:

17

{هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}، وفي هذا الحديث اختصار. قال مجاهد: وكزه بجمع كفه. وقال قتادة: وكزه بالعصا ولم يتعمد قتله فقضى عليه أي ففزع منه. وروى أنه دفنه لما مات في الرمل. ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ}. أي قال موسى: يا رب إني أسأت إلى نفسي بقتلي القبطي، فاستر علي ذنبي فستره الله عليه. قال ابن جريج: إنما قال: ظلمت نفسي بقتلي، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر. {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم}، أي الساتر الذنب من آمن به واستغفره. {الرحيم}، للتائبين أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد أن تابوا منها. أي قال موسى: يا رب بعفوك عني في قتل هذه النفس فلن أكون عويناً للمجرمين.

18

وتقدير الكلام عند الفراء أنه بمعنى الدعاء، كأنه قال: اللهم فلن أكون عويناً للمجرمين. وقيل: معنى الكلام الخبر، وتقديره /، لا أعصيك لأنك أنعمت علي، وهذا معنى قول ابن عباس. قال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} أي أصبح موسى خائفاً من قوم فرعون، يترقب الأخبار، أن يعرفوا القصة فيقتلوه بالقبطي. {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ}، أي فإذا الإسرائيلي الذي استنصر موسى بالأمس على الفرعوني، يستصرخ موسى، أي يصيح وهو من الصراخ. ثم قال له موسى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، يوبخ الإسرائيلي، لأن موسى نادم على ما قد سلف منه من قتله القبطي بالأمس. ومعنى: {لَغَوِيٌّ}، أي لذو غواية {مُّبِينٌ}، أي أبنت غوايتك بقتالك أمس رجلاً، واليوم آخر. قال ابن عباس: أتي إلى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً

من آل فرعون فخذ لنا بحقنا، ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوا لي قاتله ومن شهد عليه، لا يستقيم أن نقضي بغير بينة، ولا ثبت فاطلبوا ذلك. فبينما هم يطوفون لا يجدون شيئاً، إذ مر موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي بقاتل فرعوني، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمد يده وهو يريد الفرعوني، فقال للإسرايئلي لما فعل بالأمس واليوم {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال هذا، فإذا هو غضبان كغضبه بالإمس، فخاف أن يريده موسى، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً} الآية. فسمع كلامه فطلب موسى. قال السدي: قال موسى للإسرائيلي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}، ثم أقبل لينصره

20

فظن الإسرائيلي أنه إياه يريده فأشهره، هذا معنى كلام السدي. وقال ابن أبي نجيح: أراد الإسرائيلي أن يبطش بالقبطي فنهاه موسى ففرق الإسرائيلي من موسى، فقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي}، الآية. فسعى بها القبطي. وكذلك قال ابن عباس: إن القبطي هو الذي أفشى الخبر على موسى، ورفع الحديث إلى النبي A. قوله تعالى: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المدينة يسعى}، أي جاء مخبر لموسى يخبره أن فرعون قد أمر بقتله، وأنهم يطلبونه، وذلك أن قول الإسرائيلي سمعه سامع فأمشاه فأمر فرعون بطلب موسى وقتله. قال ابن عباس: انطلق الفرعوني الذي كان يقاتل الإسرائيلي إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي حين قال لموسى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس} [القصص: 18]. فأرسل فرعون الذباحين لقتل موسى، فأخذوا الطريق الأعظم وهم لا

يخافون أن يفوتهم، فكان رجل من شيعة موسى في أقصى المدينة، فاختصر طريقاً قريباً حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر. قال قتادة: كان الرجل مؤمناً من آل فرعون. وقيل: كان اسمه شمعون. وقيل: شمعان. وقيل: هو حزقيل مؤمن آل فرعون أنذر موسى أن أشراف آل فرعون يطلبونه، فخرج موسى إلى مدين خائف يترقب، وإنما خرج إلى مدين للنسب الذي بينهم وبينه، لأن مدين ولد إبراهيم، وموسى من بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم. ومعنى يسعى: تعجل ويسرع من أقصى مدينة فرعون. وقوله: {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}، أي إن قوم فرعون يتآمرون بقتلك، أي يأمر بعضهم بعضاً بذلك. قال أبو عبيدة: يأتمرون: يتشاورون في قتلك.

وقيل: معناه: يهمون بك وكذلك قوله تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] أي هموا به وأعزموا عليه. ثم قال: {فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين}، أي من الناصحين في مشورتي عليك بالخروج، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ}، أي خائفاً منقتله النفس أن يقتل به، يترقب: أي ينتظر الطلب أن يدركه. قال ابن إسحاق: خرج على وجهه خائفاً يترقب لا يدري أي وجه يسلك، وهو يقول: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين}. وقال: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ}، أي ولما جعل موسى وجهه قبل مدين قاصداً إليها {قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ / السبيل}، أي قصد الطريق إلى مدين، ولم يكن يعرف الطريق إلى مدين. قال: ويروى أنه لما دعا الله بذلك، قيض له ملكاً سدده للطريق

23

وعرفه إياها. قال ابن عباس: خرج موسى متوجهاً نحو مدين وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بريه، فإنه قال: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل}. قال ابن جبير: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينهما مسيرة ثمان، فلم يكن له طعام إلا ورق الشجر. قال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ}، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه وكان بمدين يومئذ قوم شعيب. قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ}، أي لما ورد موسى ماء مدين: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ}، أي جماعة يسقون غنمهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ}، أي تحبسان غنمهما عن ورود الماء حتى يسقس الناس غنمهم إذ لم يتهيأ لهما مزاحمة الرجال على الماء. يقال: ذاد فلان غنمه: إذا حبسها أن تتفرق وتذهب. وكذلك ذاده إذا قاده.

ومعنى قاده: حبسه على ما يريد، فكانتا تحبسان غنمهما لأنهما لا طاقة لهما بالسقي، وكانت غنمهما تطرد عن الماء. وقيل: المعنى كانت تذودان غنمهما عن الماء حتى يصدر الناس ثم تسقيان لضعفهما. وقيل: المعنى: كانت تذودان الناس عن غنمهما. {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}، أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما وما أمركما في ذودكما غنمكما عن الماء. قال ان عباس: قال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس. قال ابن إسحاق: وجد لهما رحمة ودخلته فيهما خشية لما رأى من ضعفهما، وغلبة الناس على الماء دونهما، فقال لهما: ما خطبكما؟ أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما. {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء} أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم. {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي لا يقدر يحضر فيسقس، فاحتجنا أن نخرج ونحن نساء.

24

ومن قرأ " يصدر " بفتح الاياء: فمعناه يصدر الرعاء عن الماء، ومن ضم فمعناه: حتى يصدر الرعاء مواشيهم عن الماء. قال تعالى: {فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل}، أي فسقى لهما موسى قبل الوقت الذي تسقيان فيه ثم تولى إلى الظل، وهو الموضع الذي لن يكن عليه شمس. والفيء: الموضع الذي كانت عليه شمس، ثم زالت، والظل ها هنا: ظل الشجرة. وقال السدي: الشجرة: سمرة. روي أنه فتح لهما عن رأس بئر كان عليه حجر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ثم استقى {فسقى لَهُمَا}، قال مجاهد والسدي.

قال السدي: أروى غنمهما فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان. من فُضول الحياض. قال عمر بن الخطاب: لما فرغ الناس من سقيهم أعادوا الصخرة على البئر، ولا يصير لرفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23]، فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا دلوا واحداً حتى رويت الغنم، ورجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه و {تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]. {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء} [القصص: 25]، واضعة ثوبها على وجهها {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25]، قال لها: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فيصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها {وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} [القصص: 25]. {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يا أبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26]. قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته: فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته، فقال لي: امشي خلفي وصفي لي الطريق، فإني

أكره أن يصيب الريح ثيابك، فيصف لي جسدك. قال عبد الرحمن بن أبي نعيم: قال لها أبوها: ما رأيت من قوته؟ قالت: رأيته يملأ الحوض بسجل واحد، قال: فما رأيت من أمانته؟ قالت: لما دعوته: مشيت بين يديه، فجعلت الريح تضرب ثيابي فتلتصق إلى جسدي فقال لي: كوني خلفي فإذا بلغت الطريق فآذنيني. وروى عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أن النبي A قال: " إن سئلت /، أي الجلين قضى موسى، فقل: خيرهما وأوفاهما، وإن شئت أي المرأتين تزوج، فقل الصغرى منهما: وهي التي جاءت إليه، وهي التي قالت: {يا أبت استأجره} ". قال ابن عباس: سأل النبي جبريل A: " أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما ". وروى عتبة بن المنذر السهمي من أصحاب النبي A قال: لما أراد

موسى فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها من نتاج غنمه، ما يعيشون به فأعطاهما ما وضعت غنمه من قالب لون ذلك العام. قال رسول الله A: " فلما وردت الحوض، وقف موسى بإزاء الحوض، فلم تمر به شاة إلا ضرب جنبها بعصاً، فوضعت قوالب ألوان كلها، ووضعت اثنين وثلاث كل شاة ووصفت النبي عليه السلام أنه لا عيب في شيء منها من عيوب الغنم، وقال: إذا فتحتم الشام وجدتم بقايا منها " ، وهي السامرية. قال ابن عباس: فجعل يغرف لهما في الدلو ماءً كثيراً حتى كانتا أول الرعاء رياً فنصرفتا إلى أبيهما بغنمهما. وقال عمر بن الخطاب Bهـ: لما سقى الرعاء غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها، فسقى لهما دلواً واحداً لم يحتج إلى غيرها.

ثم قال تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، أي محتاج، سأل النبي A ربه ولم يطلب أجراً على سقيه. روي أنه كان A بجهد شديد فأسمع ذلك المرأتين تعريضاً لهما أن يطعماه مما به من شدة الجوع. والخير هنا شبعة من طعام، قاله ابن عباس وغيره. قال ابن عباس: جاع موسى عليه السلام حتى كادت ترى أمعاؤه من ظاهر الصفاق. وقال: ورد الماء وإن خضرة البقل لترى في بطنه من الهزال. قال مجاهد: ما سأل ربه إلا الطعام. قال ابن عباس: لقد قال موسى {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، وما أحد أكرم على الله جل ذكره منه، ولقد افتقر إلى شق ثمرة، ولقد لزق بطنه بظهره من الجوع، والفعل من فقير، فقر، وافتقر.

25

قوله تعالى ذكره: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء}، أي فجائته موسى إحدى المرأتين تمشي على استحياء. قيل: أتته مستترة بكم ذرعها، واضعة يدها على وجهها. وقيل: على استحياء منه، وفي الكلام حذف. والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما قبل وقتهما، فخبرتاه بخبر موسى وسقيه، فأرسل وراءه بإحداهما فجاءته تمشي على استحياء، فقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ}، أي ليثيبك أجر سقيك غنمنا. {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص}، أي فمضى موسى معها، فلما جاءه وأخبره خبره مع فرعون وقومه من القبط، قال له شعيب: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين}، ولم يكن لفرعون يومئذ سلطان على مدين وناحيتها. وقيل: إنه لم يكن شعيباً، إنما كان مؤمناً جد أهل ذلك الماء والأول أشهر،

وفيه اختلاف سنذكره. قال ابن عباس: استنكر شعيب سرعة صدورهما بغنمهما، فقال: إن لكما اليوم لشأناً، فأخبرتاه الخبر، فأرسل إحداهما خلفه. قال السدي: أتته تمشي على استحياء منه فقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، فقام معها، وقال لها: امشي فمشت بين يديه، فضربتها الريح، فنظر إلى عجيزتها، فقال لها موسى: امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت، فلما جاء الشيخ، وقص عليه خبره قال له. {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين}. وروي: أنه قال لها: إنا لا ننظر في أدبار النساء، فأخبرت أباها بقوله. قال مالك: مشى خلفها ثم قال لها: امشي خلفي، فإني عبراني لا أنظر في أدبار النساء، فإن أخطأت فصفي لي الطريق، فمشى بين يديها وتبعته، ثم قالت إحداهما لأبيهما {يا أبت استأجره}، أي لرعي غنمك، والقيام عليها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين}.

وروي عن ابن عباس: أنه قال: لما قالت له {القوي الأمين} اختطفته الغيرة فقال لها أبوها: وما يدريك ما قوته، وأمانته؟ فقالت له: أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا لم أر رجلاً/، قط أقوى في ذلك السقاء منه، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه، وشخصت له، فلما علم أني امرأة صوب برأسه فلم يرفعه، ولم ينظر إلي حين بلغته رسالتك، ثم قال لي: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فلم يفعل ذلك إلا وهو أمين، فسري عنه وصدقها، فمعناه القوي على حفظ ماشيتك وإصلاحها، الأمين عليها، فلا تخاف منه فيها خيانة. وقيل: إنه رفع عن البئر حجراً لا يرفعه إلا فئام من الناس، فتلك قوته. قاله مجاهد.

27

وقيل: استقى بدلو لم يكن يرفعه إلا جملة من الناس. واسم إحدى المرأتين " ليا " والأخرى " صفور " وهي امرأة موسى، وهي الصغيرة. وقيل: اسمها صوريا. قال ابن إسحاق: اسم إحداهما صقورة والأخرى شرقا. ويقال: ليا، واختلف في أبيهما. فقال الحسن: يقولون هو شعيب النبي A. وقال أبو عبيدة: هو بيرون بن أخي شعيب. وهن ابن عباس: أن اسمه يثرى. قال تعالى: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ}.

أي قال أبو المرأتين لموسى: إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، أي على أن تثيبني من تزويجكها رعي ماشيتي ثماني سنين، فجعل صداقها خدمته ثمانية أعوام، وقد استشهد بعض العلماء على أن الاختيار أن يقال في الصدقات أنكحه إياها بقوله: {أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي}، وهو عنده أولى من أنكحها إياه. ومنه قوله تعالى: " زوجناكها " ولم يقل زوجناها إياك. وقد قال مالك: إن من غيره نكاح البكر ما في القرآن، قال الله D: { إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي} ولم يذكر في هذا استشاراً. ثم قال له: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ}، أي أن زدتني في الخدمة عامين حتى تصير إلى عشر فبإحسان منك، وليس مما اشترطه عليك {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}، باشتراطي ذلك عليك {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، أي ستجدني في إتمام ما قلت لك والوفاء به، وفي حسن الصحبة من الصالحين. وفي هذا النكاح أشياء هي عند أكثر العلماء خصوص لموسى ومن زوجه، من ذلك قوله {إِحْدَى ابنتي}، ولم يعينها، وهذا لا يجوز إلا بالتعيين. ومن ذلك أن

28

الأجرة لم تعين في خدمة ثمانية أعوام أو عشرة فهذا خصوص لموسى ومن زوجه عند أهل المدينة. وكذلك النكاح على عمل البدن لا يجوز لأنه غرر، وفيه أنه دخل ولم ينقد شيئاً وقد أجازه مالك إذا وقع، والأحسن أن ينقد شيئاً من جملة الصداق المعلوم المتفق عليه. قال تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ}، ما من " أيما " زائدة أي مضافة إلى الأجلين، ومعناه أي قال موسى لأبي المرأتين ذلك واجب علي في تزويجي إحدى ابنتيك، فما قضيت من هذين الأجلين فليس لك علي مطالبة بأكثر منه: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}، هذا من قول أبي المرأة، والتقدير: والله على ما أوجبه كل واحد منا على نفسه شهيد وحفيظ. قال ابن عباس: الجارية التي دعته هي التي تزوج. قال السدي: أمر أبو المرأتين إحدى ابنتيه أن تعطي موسى عصاً، فأتته بعصاً كان قد استودعها عنده ملك في صورة رجل، فلما رآها الشيخ قال: لا، إيتيه

بغيرها، فألقتها تريد أن تأخذ غيرها، فلا يقع في يدها إلا هي، وجعل يرددها فلا يخرج في يدها غيرها، فأعطاها له، فخرج موسى معه فرعى بها، ثم إن الشيخ ندم وقال: كانت وديعة، وخرج يتلقى موسى، فلما لقيه قال: أعطيني العصا، فقال موسى: هي عصاي، فأبى أن يقضي بينهما، فقال: ضعوها في الأرض، فمن حملها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ فرعاها له عشرة سنين. قال ابن عباس: كان موسى أحق بالوفاء. قال كعب: تزوج موسى التي تمشي على استحياء وقضى أوفى الأجلين. وقال ابن زيد: قال أبو الجارية لموسى: ادخل ذلك البيت، فخذ عصاً تتوكأ عليها، فدخل موسى، فلما وقف على باب البيت، طارت إليه تلك العصا فأخذها، فقال /، الشيخ: أرددها وخذ أخرى مكانها، فردها ثم ذهب ليأخذ أخرى فطارت إليه كما هي، فقال: أرددها حتى فعل ذلك ثلاثاً، فقال: أرددها، فقال: لا آخذ

29

غيرها اليوم، فالتفت إلى ابنته، فقال: يا بنية إن زوجك لنبي. قال عكرمة: كان آدم قد خرج بعصا موسى من الجنة، ثم قبضها بعد ذلك جبريل A فلقي بها موسى ليلاً، فدفعها إليه. قال تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل}، أي العشر سنين. وروي: أنه زاد مع العشر عشراً. قاله مجاهد، وابن جريج. وروى ابن عباس أن النبي A قال: " سألت جبريل عليه السلام: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما " ومعنى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي انصرف بامرأته شاخصاً إلى مصر {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً}، أي أحس وأبصر من جانب الجبل الذي اسمه الطور ناراً {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا}، أي تمهلوا وانتظروا لعلي آتيكم من النار بخبر، أي أعلم لم أوقدت {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار}، أي قطعة غليظة من الحطب فيه نار لكم. {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، أي تتسخنون من البرد الذي بكم.

30

وروي أن موسى عليه السلام كان رجلاً غيوراً لا يصحب الرفاق، فأخطأ الطريق بالليل للأمر الذي أراده الله، فرأى بالليل ناراً فقال لأهله: أقيموا لعلي آتيكم من عند هذه النار بخبر يدلنا على الطريق {أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، كان بهم برد بالليل، {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ. . . ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 30]، وأمر أن يلقي عصاه على ما أعلمنا الله به. قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن}، أي فلما أتى موسى النار، نودي من شاطئ الوادي أي من عدوته وجانبه الأيمن، أي مِن على يمين موسى {فِي البقعة المباركة}، أي المطهرة، لأن الله كلم

موسى فيها وقوله {مِنَ الشجرة} سئل بعض العلماء عن هذا فقال: كلمة من فوق عرشه، وأسمعه كلامه من الشجرة. قال قتادة: من عند الشجرة وهي عوسج. وقال وهب بن منبه: هي العليق. وقيل: هي سمرة. وقيل: كانت عصا موسى من عوسج، والشجرة من عوسج. وقوله: {أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين}، أي نودي بهذا ثم قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ونودي بأن إلق عصاك، فألقاها موسى، فصارت حية تسعى، فلما رآها موسى تهتز، أي تتحرك كأنها جان، الجان نوع معروف من الحيات،

وهي منها عظام {ولى مُدْبِراً}، أي هارباً منها {وَلَمْ يُعَقِّبْ}، أي لم يرجع على عقبيه. قال قتادة: لم يلتفت من الفرق. روي أنه ألقاها صارت ثعباناً، فلم تدع صخرة ولا شجرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى صريف أسنانها، فحينئذ ولى مدبراً خائفاً، فناداه ربه لا إله إلا هو: {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين}، فذهب عنه الخوف، وكان سنة في ذلك الوقت أربعين سنة، ثم أمر بأن يدخل يده في جيبه، ففعل، فخرجت نوراً ساطعاً، وأمر بضم يده إلى صدره من الخوف، ففعل فذهب خوفه. وروي: أنه ليس من خائف يضم يده إلى صدره إلا نقص خوفه، وقوله: {ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ}، أي قال الله: يا موسى أقبل إلي ولا تخف

32

من الذي تهرب منه {إِنَّكَ مِنَ الآمنين}، من أي تكون تضرك إنما هي عصاك. قال وهي: قيل له: ارجع إلى حيث كنت، فرجع، فلف ذراعته على يده فقال له الملك: أرأيت إن أراد الله جل ثناؤه أن يصيبك بما تحذر، أينفعك لفك يدك؟ فقال: ولكني ضعيف خلقت من ضعف، فكشف يده، فأدخلها في فم اليحة، فعادت عصاً. وقيل: إنه أدخل يده في فم الحية بأمر الله فعادت عصاً. قال تعالى: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء}، أي أدخل يدك في جيب قميصك تخرج بيضاء من غير برص، قاله قتادة. قال الحسن: فخرجت كأنها المصباح، فأيقن موسى أنه لقي ربه. {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب}، قال ابن عباس ومجاهد: يعني يده. وقال ابن زيد: الجناح: الذراع، والعضد والكف، واليد.

قال الضحاك عن ابن عباس: معناه أدخل يدك فضعها على صدرك حتى يذهب عنك الرعب. قال/، ابن عباس: فليس من أحد يدخله رعب بعد موسى، ثم يدخل يده فيضمها إلى صدره، إلا ذهب عنه الرعب. وقال الفراء: الجناح هنا: العص، وهذا قول شاذ. وحكى أهل اللغة أن الجناح من أسفل العضد إلى آخر الإبط، وربما قيل لليد: جناح. وقد قال أبو عبيدة: جناحك: يدك. وقوله: {مِنَ الرهب} أي من الخوف والفزع الذي داخلك من الحية. ثم قال: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ} أي فهذان اللذان أريناك برهنان من ربك، أي آيتان وحجتان إلى فرعون وملإه على نبوتك يعني اليد والعصا.

33

وحكى بعض أهل اللغة: في " ذا " المد والقصر، ذاء وذا. ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، أي خارجين عن الإيمان. و" من " في قوله: " من الرهب " متعلقة " بيعقب: أي ولم يعقب من الرهب. وقيل: هي متعلقة " يولى مدبراً من الرهب ". قال تعالى ذكره: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}، أي إني أخاف إن آتيتهم فلم أين عن نفسي أن يقتلون بالنفس التي قتلت، وكانت في لسانه عقدة لا يبين معها ما يريد من الكلام فقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً}، أي أحسن مني بياناً {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}، أي عوناً يصدقني. قاله مجاهد وقتادة، وهو قول أهل اللغة. يقال أردأته: أي أعنته ومن فتح الدال فعلى تخفيف الهمزة. وقيل: إنما سأل موسى في إرسال أخيه معه، لأن الاثنين إذا اجتمعا على الخبر

35

كانت النفس إلى تصديقهما أسكن منها إلى تصديق خبر الواحد. قال ابن زيد. وعن ابن عباس {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}: كي يصدقني. وقال مسلم بن جندب: الردة: الزيادة. وقال السدي: كيما يصدقني إني أخاف أن يكذبون فيما أرسلتني به إليهم، ومن جزم " يصدقني " جعله جواباً للطلب، ومن رفع فعلى الاستئناف. وتقف على " ردءاً " ويجوز الرفع على أن تجعله نعتاً لردءاً، أي ردءاً مصدقاً، ويجوز أن تجعله حالاً من الهاء في " فأرسله " ولا تقف على هذين الوجهين على رداً. قال تعالى ذكره: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}، أي قال الله جل

ذكره لموسى: سنشد عضدك بأخيك أي نقويك، ونعينك بأخيك. وذكر العضد لأن قوة اليد بالعضد {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً}، أي حجة فلا يصلون إليكما، أي لا يصل فرعون وقومه إليكما بضر. وقوله: " بآياتنا " متعلقة " بسلطان " والمعنى: ونجعل لكما حجة بآياتنا يعني العصا واليد. فلا تقف على هذا التقدير على " إليكما ". وقيل: التقدير فلا يصلون إليكما بآياتنا تمتنعان بآياتنا فلا تقف أيضاً على " بآياتنا " إلا أن تقدر الفعل في ابتدائك فتقف على " إليكما ". وقال الأخفش والطبري: التقدير: أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا، ثم قدمت الآيات، وهذا لا يجوز لأنه تقديم صلة على موصول، وقد أجازه الأخفش، على أن يكون بياناً مثل: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} فعلى هذا تقف على

36

{إِلَيْكُمَا}. ويروى: أن الله جعل في الحية التي انقلبت من العصا عِظمَاً وقوة، ما لو تركت على فرعون وقومه لأهلكتهم، فكانوا من خوف هذه الحية، ولما شاهدوا من عِظمها لا يتجرءون على قتل موسى وهارون ولا يطمعون في الوصول إليهما بسوء، فذلك قوله D: { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ}، أي لا يتجرءون على قتلكما مع ما ظهر إليهم من عظم الآيات والخوف منها على أنفسهم، يشغلهم الخوف من عظيم ما عاينوا عن أن يقدروا على أذى موسى وهارون. قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم موسى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى}، أي قال فرعون وقومه: ما هذا الذي جئتنا به يا موسى إلا سحر افتريته، أي تخرصته من عند نفسك، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه في أسلافنا الأولين. قال لهم موسى: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ}، أي ربي أعلم بالمحق من المبطل وبمن جاء

38

بالرشاد {وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار}، أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة منا {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون}، وهذه مخاطبة جميلة من موسى عليه السلام لفرعون، فترك موسى أن يقول له: بل الذي غر قومه، وأهلك جنده، وأضل أتباعه، أنت لا أنا، ورجع إلى ملاطفته فقال: {ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ / عَاقِبَةُ الدار}، فبالغ موسى بهذا في ذم فرعون وقومه بخطاب جميل. قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي}، أي قال ذلك فرعون لأشرف قومه لئلا يصدقوا موسى فيما جاءهم به من عبادة الله. {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين}، يريد عمل الآجر، وهو أول من عمله وبنى به {فاجعل لِّي صَرْحاً}، ابن لي بنياناً مرتفعاً {لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى} أي انظر إلى معبود موسى الذي يدعونا إلى عبادته {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين}، أي أظن موسى فيما يقول: إن له معبوداً، كاذباً. والظن هنا شك، فكفر الملعون بالشك.

39

قال السدي: فبنى له هامان الصرح، وارتقى فوقه فأمر بنشابة، فرماها نحو السماء فردت عليه وهي ملطخة دماً، فقال: قد قتلت إله موسى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قوله تعالى ذكره: {واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}، أي تجبَّر فرعون وقومه، في أرض مصر عن تصديق موسى واتِّباعه على توحيد الله وعبادته بغير الحق أي تعدياً وعنواً على ربهم وظنوا أنهم لا يبعثون بعد مما تهم، وأنه لا ثواب ولا عقاب. قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم}، أي أخذنا فرعون وجنوده فأغرقناهم في البحر، فانظر يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين}، أي انظر بعين قلبك، وفكر بفهمك، فكذلك نفعل بمن كذبك فقتلهم الله بالسيف. قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار}، أي جعل الله فرعون وقومه

42

أئمة للضلال، يأتم بهم أهل العتو على الله، يدعون الناس إلى الضلال الذي هو سبب الدخول إلى النار. {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ}. أي لا ينصرهم من عذاب الله أحد، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون. قال تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً}. أي ألزمنا فرعون وقومه في هذه الدنيا حزناً وغضباً، وبعداً من الله {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين}. قال قتادة: لعنوا في الدنيا والآخرة وهو مثل قوله: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود} [هود: 99]. ق ابن جريج: {هُمْ مِّنَ المقبوحين} مستأنف " فأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة ". فيجب على قوله: أن يقف القارئ على {القِيَامَةِ}،

43

والوقف عند نافع: " لعنة ". ومعنى {مِّنَ المقبوحين}، أي من الذين قبحهم الله وأهلكهم بتكذيبهم رسوله موسى عليه السلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى}،. أي ولقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، وغير ذلك من الأمم. {بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ}، أي ضياء لبني إسرائيل في أمر دينهم. {وَهُدًى}، أي وبياناً {وَرَحْمَةً} لمن عمل به منهم. {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، أي تذكرون نعم الله بذلك عليهم فيشكرونه، ولا يكفرون. قال أبو سعيد الخدري: ما أهلك الله جل ذكره بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مسخ أهلها قردة، ألم تر أن الله يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً}. قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر}، هذا الكلام

تضمن إضماراً دل عليه المعنى. والمعنى: لم تكن يا محمد في جانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمرك، وذَكَرْنَاكَ بخير ذكر، لأن هذا الكلام لا يستعمل إلا في رجل جرى ذكره إما بخير أو بشر، ولا يذكر الله نبيه إلا بخير، ووصى باتِّباعِهِ إذا بعث، دل على ذلك قوله: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر}، فنسوا الوصية وتركوها لطول الزمان عليهم. وقوله: {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}، أي لم تكن يا محمد بحاضر لما وصاهم الله به في أمرك. وقيل: الشهود بمعنى الشهادة أي لم تكن بشاهد عليهم فيما وصاهم به من أمرك /، والإيمان بك. وقوله: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر}، إيماء إلى نقضهم العهد، وتركهم للوصية بالإيمان بمحمد عليه السلام وما يأتيهم به، وقد أخبرنا أن محمداً

تجده اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ويجدون صفته. يروى: أن الله أعلم موسى A أنه يبعث نبياً من ولد إسماعيل يسمى محمداً، وأنه أخذ ميثاقه على أمة موسى أن يؤمنوا به، فطالت عليهم الأزمنة فنسوا ما عهد إليهم به. فالمعنى: أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، أي فرغنا إلى موسى الأمر، يعني ما ألزم الله تعالى موسى وقومه، وعهد إليهم من عهده. {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}، أي لم تشهد يا محمد ذلك ولم تحضره. قال قتادة وابن جريج: {بِجَانِبِ الغربي} أي بجانب غربي الجبل. وقيل: المعنى: لم تكن يا محمد في ذلك المكان إذ أعلمنا موسى أن أمة محمد خير الأمم. {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين}، أي لم تشهد يا محمد ذلك ولم تحضره. وقال أبو عبيدة: {بِجَانِبِ الغربي} حيث تعغرب فيه الشمس والقمر والنجوم. ثم قال تعالى: {وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر}، أي خلقنا أمماً من بعد ذلك فتطاول عليهم العمر. {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ}، أي مقيماً فيهم.

46

{تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، أي لم تشهد يا محمد شيئاً من ذلك، أي ما ابتليت يا محمد بشيء من ذلك بل الثاوي شعيب وهو المبتلى بهم. قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا}، أي إذ نادينا موسى بقولنا: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} [الأعراف: 156] إلى قوله: {المفلحون} [الأعراف: 157]. وقيل: نادى الله جل ذكره: يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني، فقال موسى: يا رب جعلت وفادتي لغيري. وذلك حين اختار موسى قومه سبعين رجلاً للميقات. وقال أبو زرعة: رواه الأعمش عن علي بن مدرك عنه: نادى أمة محمد: أعطيتكم قبل أن تسألوني، وأجبتكم قبل أن تدعوني. وأسند أبو زرعة هذه الألفاظ عن أبي هريرة، وأسنده إبراهيم بن عرفة إلى أبي هريرة أيضاً.

47

ثم قال: {ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} رحمة نصب على المصدر عند الأخفش والتقدير: ولكن رحمة ربك رحمة، وهو مفعول من أجله عند الزجاج أي فعلنا ذلك للرحمة وهو عند الكسائي خبر كان مضمره، والتقدير: ولكن كان ذلك رحمة، والمعنى: لم نشهد ذلك يا محمد، فتعلمه، ولكن: عرفناكه، وأنزلنا عليك، واقتصصنا ذلك كله عليك في كتابنا، وابتعثناك بما أنزلنا إليك من ذلك رسولاً إلى من ابتعثناك إليه رحمة لك ولهم: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ}، يعني العرب. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، فيظهر لهم خطأ ما هم عليه من الكفر. قال تعالى: {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، جواب

48

لولا محذوف. والتقدير: لولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك إليهم يا محمد إذا حل عليهم العذاب على كفرهم قبل إرسالك إليهم، هلا أرسلت إلينا رسولاً من قبل أن يحل بنا سخطك {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين}، لعاجلهم العذاب. قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} أي فلما جاء هؤلاء الذين لم يأتهم من قبلك يا محمد رسول الحق من عندنا وهو محمد A بالرسالة من الله إليهم. قالوا تمرداً على الله وتمادياً في الغي: هلا أوتي محمد مثل ما أوتي موسى من الكتاب، فقال الله جل ذكره لنبيه: قل لهم يا محمد أو لم يكفر الذين علموكم هذه الحجج من اليهود بما أوتي موسى من قبل. قال مجاهد: يهود تأمر قريشاً أن تسأل محمداً مثل ما أوتي موسى عليه السلام. يقول الله جل ذكره لمحمد: قل لقريش تقول لهم: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ}.

وقيل: معنى {مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى}، يعنون به العصا وانفلاق البحر /، {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}، أي قالت اليهود موسى وهارون عليهما السلام ساحران تعاونا على السحر، قاله مجاهد. وقال الحسن: عيسى ومحمد عليهما السلام. ومن قرأ: " سحران " فمعناه: التوراة والفرقان. قاله ابن عباس وابن زيد. وقال عكرمة: التوراة والإنجيل. وقال الضحاك: الإنجيل والقرآن.

49

ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}، أي بما أوتي محمد A وغيره نكفر. يقول ذلك أهل الكتاب. قوله تعالى ذكره: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله}، أي قل يا محمد للقائلين في التوراة والإنجيل إنهما {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أو محمد وموسى، أو موسى وهارون إنهما ساحران، {فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى}، من هذين الكتابين أو من هذين الرسولين، وإذا جعلت " منهما " للرسولين، فعلى قراءة من قرأ لساحران لا بد من حذف، والتقدير هو أهدى من كتابيهما {أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي إن جئتم بالكتاب أتبعه إن كنتم صادقين في قولكم: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا}. قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ}، أي إن لم يجيبوك إلى ما تدعوهم إليه من الإتيان بكتاب، فاعلم أنهم إنما يتبعون أهواءهم في كفرهم وجحدهم لكتب الله وأنبيائه. ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله}، أي من أضل عن

51

طريق الرشد ممن اتبع هواه بغير بيان عنده من الله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}، أي لا يوفقهم لإصابة الحق، أي لا أحد أضل ممن هذه صفته. وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) أي ولقد وصلنا يا محمد لقومك من قريش، ولليهود من بني إسرائيل القول بأخبار الماضين، والنبأ عما أحللنا بهم من العقوبات، إذ كذبوا الرسل {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، أي يتفكرون، ويعتبرون. وأصل " وصلنا " من وصل الجبال بعضها ببعض. قال أبو عبيدة: وصَّلْنا أتممنا. قال قتادة: معناه: وصَّلْنا لهم خبر من مضى بخبر من يأتي. وقال ابن عيينة وصَّلنا: بَيَّنَّا.

52

وقال ابن زيد: وصّلنا لهم خبر الدنيا بخبر الآخرة، حتى كأنهم عاينوا الآخرة وشهدوها وهم في الدنيا، بما نريهم من الآيات في الدنيا. قال مجاهد: وصّلنا لهم: يعني قريشاً. وقيل: عني به اليهود. وقرأ الحسن: " وصلنا " بالتخفيف. وقيل: معنى {وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} أي جعلنا بعضه ينزل إثر بعض مشاكلاً بعضه لبعض في باب الحكمة وحسن البيان. قال تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}، يعني من آمن بمحمد عليه السلام من أهل الكتاب. قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب، كانوا على شريعة من الحق

يأخذون بها وينتهون، حتى بعث الله جل ثناؤه محمداً آمنوا به وصدقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بصبرهم على الكتاب الأول، واتباعهم محمداً A، وصبرهم على ذلك. وقيل: أعطاهم الله أجرهم مرتين بإيمانهم ببعث محمد A قبل بعثه، وإيمانهم به بعد بعثه، فبصبرهم على ذلك أعطوا أجرهم مرتين. ويقال: إن منهم سلمان، وعبد الله بن سلام.

قال الضحاك: هم ناس من أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل، ثم أدركوا محمداً فآمنوا به، فآتاهم الله أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد قبل أن يبعث، وباتباعهم إياه حين بعث، فذلك قوله عنهم: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}. وقال الزهري: هم النجاشي وأصحابه وجه بثني عشر رجلاً، فجلسوا مع النبي عليه السلام، وكان أبو جهل وأصحابه قريباً منهم، فآمنوا بالنبي A، فلما قاموا من عنده، تبعهم أبو جهل ومن تبعه فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركباً أحمق ولا أسفل منكم، فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشداً {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. وقوله: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}، أي من قبل إتيان محمد لأنا وجدنا صفته في كتابنا فآمنا به، ثم بعث فآمنا به. والهاء في " قبله " تعود على /، النبي عليه السلام، أو على

القرآن، فالتقدير: وإذا يتلى عليهم القرآن قالوا: آمنا به إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبل هذا القرآن - أي من قبل نزوله - مسلمين. وقيل: نزلت في عشرين رجلاً من النصارى، قدموا على النبي عليه السلام وهو بمكة حين بلغهم خبره، فوجدوه في المجلس، فجلسوا إليه، وكلموه وساءلوه. ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا عن مسألتهم له فيما أرادوا، دعاهم النبي عليه السلام إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن، فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا، وصدقوا، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه، اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم وصدقمتوه بما قال، ما نعلم ركباً أحمق منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً.

54

وقيل: كانوا ثمانين رجلاً، منهم أربعون من نصارى نجران واثنان وثلاثون من نصارى الحبشة، وثمانية من الروم، وفيهم نزل من قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} إلى قوله: {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55]. قال تعالى: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ}، وقد تقدم تفسير هذا في الآية التي قبل هذه. ثم قال: {وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة}، أي ويدفعون بالحسنة من أعمالهم السيئة، أي يدفعون بالاستغفار والتوبة: الذنوب. وقال الزجاج: ويدفعون بما يعملون من الحسنات ما تقدم لهم من السيئات. وقوله: {بِمَا صَبَرُواْ} قال قتادة: صبروا على الكتاب الأول، وعلى اتباع محمد، وهو قوله ابن زيد. وقيل: صبروا على الإيمان بمحمد قبل أن يبعث، وعلى اتباعه بعد أن بعث،

55

قاله الضحاك. وعن مجاهد: في قوله: {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ}، أنها نزلت في قوم مشركين أسلموا، فكان قومهم يؤذونهم، فأعطوا أجرهم مرتين بصبرهم. قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ}، أي وإذا سمع هؤلاء الذين أوتوا الكتاب اللغو: وهو الباطل من القول، أعرضوا عنه. وقيل: المعنى إذا سمعوا ما زيد في كتاب الله وغير مما ليس منه، أعرضوا عنه، قاله ابن زيد. وقال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب أسلموا، فكان المشركون يؤذونهم، فكانوا يصفحون عنهم ويقولون: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} فمعنى {أَعْرَضُواْ عَنْهُ} لم يصغوا إليه ولا التفتوا. {لَنَآ أَعْمَالُنَا} أي قد رضينا بها لأنفسنا {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، أي قد رضيتم بها لأنفسكم {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، أي أمنة لكم منا أن نسابكم أو تسمعوا منا ما لا

56

تحبون {لاَ نَبْتَغِي الجاهلين}، أي لا نريد محاورة أهل الجهل. وقيل: معناه: لا نطلب عمل أهل الجهل. وقال بعض العلماء: الآية منسوخة، نهى النبي A عن الابتداء بالسلام على الكفار. وهذا لا يصح لأن الآية ليست من السلام الذي هو تحية، إنما هو من المتاركة والمباراة. وقال جماعة: هي منسوخة بالأمر بالقتال. وقيل: الآية محكمة، وإنما هذا قول حسن ومخاطبة جميلة. قوله تعالى ذكره: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، أي إنك يا محمد لا تهدي من أحببت هدايته، ولكن الله يهدي من يشاء هدايته

من خلقه، فيوفقه للإيمان. {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}، أي والله أعلم بمن سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد. ويروى: أن هذه الآية: نزلت على النبي A لما امتنع عمه أبو طالب من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان. روى أبو هريرة: " أن النبي A قال لعمه أبي طالب عند الموت: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. قال: لولا أن تعيرني /، قريش. يقولون ما حمله إلا جزع الموت أقرت عينك بها؟ فنزلت {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، الآية ". وروى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه النبي A، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية بن

57

المغيرة، فقال رسول الله: يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله يعرضها عليه، ويعيد تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي A: " أما والله لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك " فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية. وأنزل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآيات ". قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: نزلت في أبي طالب على ما ذكرنا. قال تعالى: {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ}، أي وقال كفار قريش: إن نتبع الذي جئتنا به، ونتبرأ من الأنداد والآلهة: يتخطفنا الناس من أرضنا، لاجتماع جميعهم على خلافنا، وحربنا، يقول لهم الله جل ذكره: {إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} أي نوطئ لهم بلداً: حرم فيه سفك الدماء، ومنع من أن يتناول سكانه فيه بسوء، وأمن أهله من أن تصيبهم فيه غارة أو قتل أو سبي. قال ابن عباس: كان من أحدث حدثاً في بلد غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم أمن إذا دخله، ولكن لا ينبغي لأهل مكة أن يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكسوه، فإذا خرج

من الحرم أخذ وأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث فيه حدثاً أخذ بحدثه فيه. قال مجاهد: إذا أصاب الرجل الحد في غير الحرم، ثم أتى الحرم، أخرج من الحرم، فأقيم عليه الحد، وإن أصاب الحد في الحرم أقيم عليه الحد في الحرم. وقال ابن جبير: نحوه، وأكثر الفقهاء: على أن الحد يقام في الحرم على من وجب عليه حد أحدثه في الحرم أو غير الحرم، ولا يمنع الحرم من الحق من حقوق الله، ولا من حق أوجبه الله، فالمعنى: أن من مكن لكم حرماً آمناً، لا يتعدى على أحد فيه، قادر على أن يمنع منكم من خالفكم في الدين إن آمنتم، لأنهم اعتذروا أنهم يخافون أن تجتمع عليهم العرب، فتقتلهم إن آمنوا أو خالفوا دين العرب، فأعلمهم أن من جعل لكم الحرم آمناً يقدر على أن يمنعكم من العرب إن آمنتم. قال ابن عباس: " الحارث بن نوفل هو الذي قال:

58

{إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ}. قوله: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}، أي تجبى إليه من كل بلد. {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا}، أي رزقاً لهم من عندنا. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، نعم الله عليهم. قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}، أي وكثير من القرى أهلكنا أهلها، و {كَمْ} في موضع نصب بـ {أَهْلَكْنَا}، و {مَعِيشَتَهَا}، نصب على حذف " في ". والتقدير عند " المازني " بطرت في معيشتها، ونصبه عند الفراء على التفسير، ونظيره {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً} [النساء: 4]. والبطر: الأشر في النعمة {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ}، أي دورهم: {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً}، أي إلا وقتاً قليلاً، فتلك إشارة إلى مساكن عاد بناحية الأحقاف واليمن. وإلى منازل ثمود بناحية وادي القرى، ومساكن قوم لوط بالمؤتفكات وغير ذلك من مساكن الأمم المهلكة. وقيل: المعى لم يسكن منها إلا القليل، وباقيها خراب، والمعنى: إلا قليلاً منها فإنه سكن. {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين}، أي لا وارث لهم فيها.

59

ثم قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً}، أي لم يكن ربك يا محمد مهلك القرى التي حوالي مكة في زمانك وعصرك {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً} أي في مكة / لأنها أم القرى. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}، أي القرآن، والرسول محمداً A. { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}، أي لم نكن مهلكي القرى وهي بالله مؤمنة، إنما نهلكها بظلمها أنفسها. قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا}، أي ما أعطيتم من شيء من مال وأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه {الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا}. ليس مما يغني عنكم شيئاً، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم، {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ}، مما متعتم به في الحياة الدنيا، وإبقاء لأهل طاعته وولايته لأنه دائم لا نفاذ له. وقيل معناه: خير ثواباً وإبقاء عندنا.

61

{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، أي أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشر، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين. قال تعالى: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ}، أي أفمن وعده الله من خلقه على طاعته إياه أن ينجز له ما وعده {فَهُوَ لاَقِيهِ} لاق ما وعد به، كمن متعه الله في الدنيا متاعاً زائلاً {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين}، أي من المشهدين عذاب الله وأليم عقابه. وقال قتادة: هو المؤمن يسمع كتاب الله جل وعز وصدق به، وآمن بما وعده الله فيه. {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا}، وهو الكافر {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين}، عذاب الله. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في النبي A، وفي أبي جهل بن هشام لعنه الله.

62

وعن مجاهد أيضاً: أنها نزلت في حمزة، وعلي، وأبي جهل،. وقيل: نزلت في حمزة وأبي جهل. أي ويوم ينادي رب العزة الذين أشركوا به في الدنيا، فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}، في الدنيا أنهم لي شركاء، فالمعنى: أين شركائي على قولكم وزعمكم؟ وهذا النداء إنما هو على طريق التوبيخ لهم، وإلا فقد عرفوا في ذلك اليوم بطلان ما كانوا عليه، وعرفوا أن أولئك الشركاء الذين كانوا يعبدون لا ينفعونهم بشيء. قوله تعالى: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول}، أي وجب عليهم العذاب

64

والغضب واللعنة. قال قتادة: هم الشياطين يعني الذين يغوون الناس. وقيل: {حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وجبت عليهم الحجة فعذبوا. {رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ}، أي دعوناهم إلى الغي، {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}، أي أضللناهم كما ضللنا. {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ}، أي تبرأ بعضنا من بعض وعاداه، وهو قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67]. قوله: {مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، أي ما كانوا يعبدوننا. وقيل: هم دعاة الكفار إلى الكفر من الإنس. قوله تعالى ذكره: {وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ}، أي وقيل للمشركين: ادعوا شركاءكم الذين كنتم تدعون في الدنيا من دون الله، {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ}، أي لم يجيبوهم لحجة، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم

اختلقوهم وأضافوهم إلى العبادة. وقوله: {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ}، أي فودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون للحق في الدنيا. وقيل: المعنى لو أنهم كانوا يهتدون لما اتبعوهم لما رأوا العذاب. وقيل: التقدير لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لأنجاهم الهدى. ثم قال تعالى:: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}، أي يوم ينادي الله لهؤلاء المشركين فيقول لهم: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}، الذين أرسلوا إليكم يدعونكم إلى توحيد الله. ثم قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ}، أي خفيت عليهم الأخبار. وقيل المعنى: فعميت عليهم الحجج فلم يدروا بما يحتجون. قاله مجاهد. وقال ابن جريج: {مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين}: بلا إله إلا الله / هي التوحيد.

68

وقيل: إنهم تجبروا فلم يدروا ماذا يجيبون لما سئلوا. وقوله: {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ}، أي بالأنساب والقرابة، قالهه مجاهدد. ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، أي من تاب من شركه، وآمن وعمل بما أمره الله ورسوله: {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين}، أي من المنجيين المدرركين طلبتهمم عند الله الخالدين في جنانه، و " عسى " من الله واجب. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ}، أي يخلق ما يريد، ويختار الرسل، {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي ليس يرسل الرسل باختيارهم: أي باختيار المشركين، فالوقف على هذا المعنى {وَيَخْتَارُ}، و " ما " نافية. قال علي بن سليمان: لا يجوز أن تكون " ما " في موضع نصب، لأنه لا عائد عليها. وفي كون ما للنفي رد على القدرية، ولو كانت " ما " في موضع نصب لكان ضميرها اسم كان، في كان مضممراً، وللزم نصب {الخيرة}، على خبر كان.

وأجاز الزجاج: أن تكون " ما " في موضع نصب بيختار وتقدر حذفاً من الكلام، والتقدير: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة، فلإتمام على هذا القول على و {يَخْتَارُ}، ولا يقف إلا على {الخيرة}. وجعل " ما " نافية، والوقف على {وَيَخْتَارُ}. وهو مذهب أكثر العلماء. وكان الطبري ينكر أن تكون " ما " نافية، ولا يحسن عنده أن تكون " ما " إلا في موضع نصب بمعنى الذي، والتقدير عنده: ويختار لولاية الخيرة من خلقه من سبقت له منه السعادة، وذلك أن المشركين كانوا يختارون خيار أموالهم، فيجعلونها لآلهتهم. فقال الله: وربك يا محمد {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}، أن يخلقه، ويختار للهداية من خلقه من سبق له في علمه. السعادة نظير ما كان من اختيار هؤلاء المشركين لآلهتهم خيار أموالهم وقد قال ابن عباس في الآية: كانوا يجعلون لآلهتهم خيار أموالهم. فالطبري: يجعل " ما " لمن يعقل بمعنى " الذي " ويقدر رفع " الخيرة "

بالابتداء {لَهُمُ الخيرة}، والجملة خبر كان وشبهه بقولك: " كان زيد أبوه منطلق " وهذا كلام لا وجه له ولا معنى لأنه عائد يعود على اسم كان، فإن قدرت فيه محذوفة جاز على بعد، وكان هو خبر " الخيرة "، ولهم: ملغى وأحال الطبري كون " ما " للنفي لأنها لو كانت للنفي لكان المعنى: أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى قبل نزول الآية، ولهم ذلك فيما يستقبلون، لأنك إذا قلت: " ما كان لك هذا " كان معنى الكلام: لم يكن فيما مضى وقد يكون له فيما يستقبل. قال أبو محمد مؤلفه Bهـ: وهذا لا يلزم، بل هي نفي عام في الماضي والمستقبل، وقد أجمع اللغة على أن " ما " تنفي الحال والاستقبال كليس. ولذلك عملت عملها. دليله: قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} [البقرة: 114]. وقوله: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} [الأحزاب: 38] فهذا نفي عام في الماضي والمستقبل، ولو كان الأمر على ما أصل الطبري لكان لهم دخولها فيما يستقبل غير خائفين، ولكان على النبي الحرج فيما فرض الله له فيما يستقبل، وهذا كثير في القرآن على خلاف ما تأول الطبري

69

وأحاله أيضاً، لأنه لم يتقدم كلام يكون هذا نفي له، وهذا لا يلزم لأن الآي إنما كانت تنزل على ما يسأل النبي عليه السلام عنه وعلى ما هم عليه مصرون من الأعمال السيئة. وعلى ذلك أكثر أي القرآن، فلا يلزم أن يكون قبل كل آية تفسير ما نزلت فيه ومن أجله. أي ما يسرون وما يظهرون، أي يختار من شاء من خلقه للرسالة، لأنه يعلم سرهم وظاهرهم، فهو يختارهم من خلقه على علم بهم. قال تعالى: {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ}، أي والمعبود هو الله لا معبود غيره {لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة}، أي في الدنيا والآخرة {وَلَهُ الحكم}، أي فصل القضاء بين خلقه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي تردون بعد مماتكم فيقضي بينكم بالحق. قال تعالى ذكره: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة}، أي دائماً لا نهار إلى يوم القيامة. والعرب تقول لكل ما كان متصلاً لا ينقطع من رخاء أو بلاء: هو سرمد.

74

وقوله: {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} /، أي من معبود غير الله يأتيكم بضياء النهار {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ}، ما يقال لكم فتتعظون. قال أبو إسحاق: بضياء: أي بنهار تتصرفون فيه في معاشكم. وكذلك قوله في النهار فمن {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}، أي تهدءون وتستريحون من حركاتكم، فلو كان أحدهما دائماً لهلك الخلق، ولكنه تعالى خلق للخلق الليل والنهار رحمة للخلق، وهو قوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ}، أي في الليل، ولتبتغوا من فضله، يعني في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فعل ذلك، أي خلق لكم ذلك لتنتفعوا به ولتشكروا على ما فعل بكم من الرفق. أي ويوم يناديهم ربك يا محمد فيقول لهم: أين شركائي الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم

75

شركائي؟ والمعنى: أين شركائي على زعمكم وقولكم؟. قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً}، أي أخرجنا من أمة شهيداً منهم ليشهد عليهم بأعمالهم. يقال: إنهم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا. ويروى: أن كل قرن لا يخلو من شهيد يشهد عليهم يوم القيامة بأعمالهم. وقيل المعنى: أحضرنا من كل أمة نبيها الذي يشهد عليها بما فعلت. قاله قتادة ومجاهد. {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ}، أي حجتكم على إشراككم بالله مع مجيء الرسل إليكم بالحجج، والآيات {فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ}، أي أيقنوا أن الحجة لله عليهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، أي اضمحل وذهب الذي كانوا يشركون بالله في الدنيا فلم ينتفعوا به بل ضرهم وأهلكهم.

76

قوله تعالى ذكره: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى}، " قارون " فاعول اسم أعجمي معرفة فلذلك لم ينصرف ومعنى {كَانَ مِن قَوْمِ موسى} أي من عشيرته، وكان ابن عمه لأبيه وأمه، وكان عند موسى من عباد المؤمنين. وهو قارون بن يصهر بن قاهث، وموسى: هو موسى بن عمران بن قاهث. قاله ابن جريج، والنخعي، وقتادة، ومالك ابن دينار. وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى لأب وأم. وقوله: {فبغى عَلَيْهِمْ}، أي تجاوز حده في التكبر عليهم. وقيل: كان بغيه أنه أحدث زيادة شبر في طول ثيابه، قاله شهر بن حوشب.

وقال قتادة: كان بغيه عليهم بكثرة ماله. قيل: إنه لكثرة ماله استخف بالفقراء، وازدرى بني إسرائيل، ولم يرع لهم حق الإيمان بالله. وقيل: إنه كان ابن عم موسى، وكان عالماً بالتوراة فبغى على موسى، وقصد إلى الإفساد عليه والتكذيب له، وكان من طلبه للإفساد أن بغيّاً كانت مشهورة في بني إسرائيل فوجه إليها قارون، وكان أيسر أهل زمانه، فأمرها أن تصير إليه، وهو في ملإ من أصحابه، فتكذب على موسى، وتقول: إن موسى طلبني للفساد، وضمن لها قارون إن هي فعلت ذلك أن يخلطها بنسائه، وأن يعطيها على ذلك عطاء كثيراً، فجاءت المرأة، وقارون جالس مع أصحابه ورزقها الله التوبة، وقالت في نفسها: مالي مقام توبة مثل هذا، فأقبلت على أهل المجلس وقارون حاضر، فقالت لهم: إن قارون هذا وجه إلي يأمرني ويسألني أن أكذب على موسى وأن أقول: قد أرادني للفساد، وأن قارون كاذب في ذلك. فلما سمع قارون كلامها تحير وأبلس، واتصل الخبر بموسى عليه السلام فجعل الله أمر قارون إلى موسى، وأمر الأرض أن تطيعه فيه، فورد موسى على قارون، فأحس قارون بالبلاء، فقال: يا موسى ارحمني، فقال: يا أرض

خذيه، فخسفت به إلى سرته، ثم قال: يا أرض خذيه، فخسفت به إلى عنقه، واسترحم موسى فقال: يا أرض خذيه، فخسفت به حتى ساخت الأرض به وبداره، وه قوله جل ذكره: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81]. وقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز}، أي كنوز الأموال {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ}، أي خزائنه. وقيل: هي التي يفتح بها الأبواب، والواحد في الوجهين: مفتاح، وروى الأعمش عن خيثمة أنه قال: كانت مفاتح قارون تحمل على ستين بغلاً، كل مفتاح منها /، لباب كنز معلوم مثل الإصبع من جلود. قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل. وقال أبو صالح: كانت خزائنه تحمل على أربعين بغلاً. وقال الضحاك: مفاتحه: أوعيته.

وقيل: كانت مفاتح أقفال خزائنه لا تنقل من مكان إلى مكان إلا بعشرة أنفس من أهل القوة. قال ابن عباس: {لَتَنُوءُ بالعصبة}، أي لتثقل بالعصبة. وقال أبو عبيدة: مجازه ما إن العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه، والصحيح عند أهل اللغة أنه يقال: نؤت بالحمل: أي نهضت به على ثقل، ونأنى، وأنأني: إذا أثقلني. وقيل المعنى: لتنيء العصبة: أي تميلهم من ثقلها، كما يقال: ذهبت به، وأذهبته. والعصبة عند ابن عباس: أربعون، وكذلك قال الضحاك وأبو صالح. وقال قتادة: هي ما بين العشرة إلى الأربعين.

وقال خيثمة: هم ستون، وقال: كانت مفاتحه تحمل على ستين بغلاً. وقيل: كانت تحمل على ما بين ثلاثة إلى عشرة. وروى الضحاك عن ابن عباس: {لَتَنُوءُ بالعصبة} قال: العصبة: ثلاثة، وعنه: العصبة ما بين الثلاثة إلى العشرة. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: العصبة ما بين عشرة إلى خمسة عشر. وروى ابن جريج عن مجاهد: العصبة خمسة عشر رجلاً. وحكى الزجاج: أن العصبة هنا: سبعون رجلاً، والعصبة في اللغة: الجماعة، يتعصب بعضهم لبعض. وقوله: {أُوْلِي القوة}، أي ذوي الشدة. قال مجاهد: {أُوْلِي القوة} خمسة عشر رجلاً.

ثم قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله}، أي لا تبطر ولا تأشر {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين}، أي البطرين الأشرين الذين لا يشكرون على ما آتاهم الله من فضله، أمروا بالتواضع والاستكانة لله. قال قتادة: {الفرحين}، المرحين، وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: المتبذخين. وقيل: {الفرحين} المستهزئين. وذكر الفراء: أن موسى الذي قال له ذلك وحده، فأخبر عنه بلفظ الجماعة كما قال: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. وفرق الفراء بين الفرحين والفارحين، فقال: الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين: الذين يفرحون فيما يستقبل، ومثله عنده طمع وطامع، وميت

77

ومايت، وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] يدل على خلاف ما قال الفراء، لأن هذا للمستقبل، ولم يكونوا في حال موت إذ خوطبوا بهذا، ولم يقل: مايت ومايتون. وقال الزجاج: معنى {لاَ تَفْرَحْ} أي تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي فيه الحق. قال تعالى: {وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة}، أي وقال قوم قارون له: التمس في المال الذي أعطاكه الله الدار الآخرة بالعمل الصالح فيه {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا}. قال ابن عباس: معناه لا تترك العمل في الدنيا لله بطاعته وهو معنى قول مجاهد وغيره. قال ابن زيد: لا تنس أن تقدم من دنياك لآخرتك. وقيل معناه: بل من لذات الدنيا المحللة، لأن ذلك ليس بمحظور عليك. وقيل: معناه لا تترك أن تطلب بدنياك الآخرة فهو حظك من دنياك.

78

وقال قتادة: معناه لا تخسر ما أحل الله لك فيها فإن لك فيها غنى وكفاية وقال الحسن: معناه قدم الفضل وأمسك ما يبلغك. وقال ابن جريج: الحلال فيها. وعن مالك Bهـ: أنه الأكل والشرب في غير سرف. ثم قال تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ}، أي وأحسن في الدنيا بإنفاق مالك في وجهه، كما وسع الله عليك. {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض}، أي لا تلتمس ما حرم الله عليك من البغي على قومك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين}، أي لا يحب بغاة البغي والمعاصي. قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي}، أي قال قارون لقومه لما وعظوه: إنما أوتيت هذا المال: {على عِلْمٍ عندي} أي بفضل علم عندي علمه الله مني، فرضي بذلك عني، وفضلني عليكم بالمال لذلك، فلم يرض بأن يكون الله هو

المنعم عليه بذلك، فأضاف اكتساب ذلك إلى نفسه لا بشكر الله عليه، فصار كافراً بذلك، وببغيه على بني إسرائيل، وكان قارون أقرأ الناس للتوراة. / قيل: كان يعرف عمل الكيمياء، وأنكره الزجاج، وقال: الكيمياء باطل. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ}، أي بطشاً {وَأَكْثَرُ جَمْعاً}، أي جمعاً للأموال فلم تغن عنه أمواله شيئاً، فلا فضل لمن أوتيها. ثم قال: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون}. قال قتادة: يدخلون النار يغير حساب. وقيل: المعنى أن الملائكة لا تسأل عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم، كقوله جل ذكره: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] قاله مجاهد، وسيماهم: زرقة العيون، وسواد الوجوه. وقيل: المعنى ولا يسأل هلاء عن ذنوب من مضى وأهلك من الأمم الكثيرة الأموال.

79

وقيل المعنى: لا يسألون سؤال اختيار فيختلف الضمير في ذنوبهم على مقدار المعاني المذكورة. قوله تعالى ذكره: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}. قيل: خرج في ثياب الأرجوان. قال جابر: خرج في القرمز. وقال مجاهد: خرج في ثياب حمر على براذين بيض عليها سروج الأرجوان عليهم المعصفرات. قال ابن جريج: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان، وثلاثمائة جارية على البغال الشهب عليهن ثياب حمر. وقال الحسن: خرج في ثياب حمر وصفر. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم خرجوا على أربعة آلاف دابة عليهم وعلى دوابهم الأرجوان.

80

وقال ابن زيد: خرج في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات. وقال شهر بن حوشب: زادوا على الناس في طول ثياب أربعة أشبار. {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا}، أي يحبون زينة الدنيا من قوم قارون {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ}، من زينة الدنيا. {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو نصيب عظيم في الدنيا. قال تعالى: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم}، أي اليقين والإيمان {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله}، أي اتقوا الله وأطيعوه، فثواب الله لمن آمن به وبرسله {خَيْرٌ} مما أوتي قارون من زينته وماله. {وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون} أي لا يوفق لقول هذه الكلمة وهي {ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، إلا الصابرون. أي إلا الذين صبروا عن زينة الحياة الدنيا، وآثروا ما عند الله من النعيم على شهوات الدنيا. قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} أي فخسفنا بقارون وأهل داره الأرض. روي: أن موسى عليه السلام أمر الأرض أن تأخذه، ومن كان يتبعه من جلسائه في داره، وكان معه جماعة وهم على مثل حاله من النفاق على موسى. قال ابن عباس: لما نزلت الزكاة أتى موسى قارون فصالحه على كل ألف دينار ديناراً، وعلى كل ألف درهم درهماً، وعلى كل ألف شاة شاة. ثم أتى قارون بيته

فحسبه فوجده كثيراً، فجمع بني إسرائيل، فقال: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ من أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، فمرنا بما شئت، فقال: آمركم تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً فتقذفه بنفسها، فدعوها فجعلوا لها جعلاً على أن تقذفه بنفسها، ثم أتى موسى، فقال لموسى إن بني إسرئيل قد اجتمعوا لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وهم في براح من الأرض، فقال يا بني إسرائيل: من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه بثمانين، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة جلدناه حتى يموت أو رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها، فإن قالت فهو كما قالت، فلما أن جاءت، قال لها موسى: يا فلانة، قالت: لبيك، قال: أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا وقد كذبوا، وقد جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي فوثب وسجد وهو بينهم فأوحى الله إليه: مر الأرض بما شئت، فقال يا أرض خذيهم، فأخذتهم /، إلى أقدامهم، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم، ثم كذلك حتى أخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى، ويتضرعون إليه، فقال: يا أرض خذيهم، فأطبقت عليهم، فأوحى الله إليه: يا موسى، يقول لك عبادي يا موسى، يا موسى لا ترحمهم، أما لو إياي دعوا لوجدوني قريباً مجيباً. قال ابن عباس: خسف به وبداره إلى الأرض السابعة. قال ابن جريج: بلغنا أن قارون يخسف به كل يوم قامة، ولا يبلغ إلى أسفل

82

الأرض إلى يوم القيامة. وقال مالك بن دينار: بلغنا أن قارون يخسف به كل يوم مائة قامة. ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ}، أي من فرقة ترد عنه عذاب الله. وما كان ممن ينتصر من عذاب الله. قال: {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}، أي قال الذين قالوا: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] لما أن خسف به، وبداره، وأمواله {وَيْكَأَنَّ الله}. قال الخليل، وسيبويه، والأخفش والكسائي: في {وَيْكَأَنَّ}: إن القوم تنبهوا أو انتبهوا فقالوا: وي. والمتندم من العرب يقول في حال تندمه: وي. قال الخليل: هي " وي " مفصولة من كأن. والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم أو ما يشبه أن يكون ذلك عندكم هكذا. فالمعنى على هذا القول أن القوم تندموا على ما سلف من قولهم: {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] الآية.

ومن شأن المتندم إذا أظهر ندامته أن يقول " وي " فالوقف على هذا المعنى " وي ". وقال المفسرون: معناها: ألم تر. وحكى الفراء: أن أصلها " ويلك " ثم حذفت اللام، فيكون الوقف. " ويك "، وهذا بعيد عند كل النحويين، لأن القوم لم يخاطبوا أبداً، ويلزم على قوله أن تكون أن مكسورة إذ لا شيء يفتحها مع أن حذف اللام من " ويلك " غير معروف. وقدره بعض من يقول بقول الفراء " ويلك " إعلم أنه وهو بعيد لما ذكرنا، ولأن العرب لا تعلم العلم مضمراً. وقال بعض الكوفيين: فيه معنى التقرير: ومعناه: أما تروا أنه لا يفلح. وحكي: أنه سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال لها: ويكأنه وراء البيت، على معنى أما ترى أنه وراء البيت؟ وحكى يونس عن العرب: وي ما أغفله. وحكى قطرب: " وي " لأمه.

83

وقال معمر: معناه: أو لا يعلم أنه لا يفلح. فالمعنى: أن القوم لما عاينوا ما نزل بقارون، قالوا: ألم تر أن {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} ويضيقه على من يشاء، ليس يعطي أحد الفضل فيه ولا يمنع أحد لنقص فيه، بل يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء. وكتبت " ويكأن " متصلة لكثرة الاستعمال، كما كتبوا يا ابن أم متصلة. وروي عن الكسائي: أنه يقف " وي " ويبتدئ كأن. وحكي عن أبي عمرو: أنه يقف " ويك ". والمستعمل وصل ذلك اتباعاً للمصحف، ولا يوقف على بعضه دون بعض. قال: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً}، أي لا يريدون تكبراً عن الحق، ولا ظلم الناس بغير حق. قال عكرمة: العلو: التجبر.

84

قال ابن جبير: العلو: البغي. وقال ابن جريج: علواً، تعظماً وتجبراً، {وَلاَ فَسَاداً}، عملاً بالمعاصي. وروي عن علي Bهـ أنه قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله: {تِلْكَ الدار الآخرة}. وقوله تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}،. قال قتادة والضحاك معناه: والجنة للمتقين: يعني الذين اتقوا المعاصي وأدوا الفرائض. قال تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا}، أي من جاء يوم القيامة بالإخلاص فله منه خير. قال عكرمة: ليس شيء خيراً من لا إله إلا الله. وإنما المعنى: من جاء بلا إله إلا الله فله منها خير أي حظ خير.

85

وقيل المعنى: من جاء يوم القيامة بالحسنات فله ما هو خير له من ثوابها، وهو التفضل الذي يزيده الله على ثوابها، لم يستحقه لعمله، وإنما هو تفضل من الله عليه، فيكون الثواب على عمله، والتفضل خير له من الثواب وحده. وقيل: ذلك الخير: الجنة. {وَمَن جَآءَ بالسيئة}، يعني الشرك بالله {فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ}، أي لا يثابون إلا جزاءَ / أعمالهم لا يزاد عليهم. قال تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}،. هذا مخاطبة للنبي A، والمعنى: إن الذي أنزل عليك القرآن يا محمد. قاله مجاهد وغيره. وقيل معنى: فرض عليك العمل بما فيه. {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}، أي إلى الجنة، قاله ابن عباس، والخدري، وأبو مالك، وأبو صالح، لأن أباه منها خرج، فجاز أن يقال للنبي: إلى معاد فيها، وإن كان هو

لم يخرج منها. وقيل: إنما جاز ذلك لأنه دخلها ليلة الإسراء، فالله تعالى يرده إلى الموضع الذي دخله، ويعود به إليه. وقال عكرمة، وعطاء، ومجاهد: إلى معاد: إلى يوم القيامة. وكذلك قال الحسن: معاده الآخرة. وعن ابن عباس: إلى معاد: إلى الموت، وقاله ابن جبير. وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد: إلى معاد: إلى مكة، وهو الموضع الذي خرج منه، فكان ذلك بعد مدة، وهذا من دلالات نبوته A لأنه أخبر بمكة أنه إذا خرج منها سيعود إليها، فكان ذلك. والسورة مكية ورجع إلى مكة بعد هجرته إلى المدينة وبقائه بها تسعة أعوام أو نحوها، وذلك كله بوحي الله جل ذكره إليه بذلك في كتابه بقوله: {لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ}.

86

واختار الزجاج قول من قال: إلى يوم القيامة، لأن المعنى لرادك إلى الحياة التي كنت فيها. ثم قال تعالى: {قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى}، أي: من جاء بالهدى منا ومنكم {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، منا ومنكم، أي في جور عن قصد السبيل. قال تعالى: {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب}، أي لم تكن يا محمد تظن أن القرآن ينزل عليك فتعلم به أخبار الأمم قبلك، وما يحدث بعدك، إلا أن ربك رحمك فأنزله عليك ف {إِلاَّ رَحْمَةً} استثناء منقطع، فهذا تذكير من الله لنبيه بنعمه عليه. {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ}، أي عوناً لمن كفر بربه على كفره. قال تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ}، أي لا يصرفك يا محمد الكفار عن تبليغ آيات الله وحججه بعد إذا أنزلت إليك بقولهم:

88

{لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى} [القصص: 48]، {وادع إلى رَبِّكَ}، أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين}، أي ولا تترك تبليغ ما أرسلت به، فتكون كالمشركين في ترك ما أمرت به. قال: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ}، أي لا تعبد يا محمد A مع معبودك الذي له عبادة كل شيء معبوداً آخر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، أي لا معبود تصلح له العبادة إلا له، الذي {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}، أي إلا إياه. وقال سفيان معناه: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه. وحكى بعض أهل اللغة أن معناه: إلا جاهه، يقال: فلان وجه القوم أي جاه القوم، فالتقدير: كل شيء في العباد هالك إلا الوجه الذي يتوجهون به إلى الله جل ذكره.

{لَهُ الحكم}، أي بين خلقه دون غيره، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي تردون بعد مماتكم، فيقضي بينكم بالعدل.

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ المجلد التاسع العنكبوت - الصافات 1429 هـ 2008 م

العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العنكبوت سورة العنكبوت مكية قوله تعالى ذكره: {الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} إلى قوله: {فِي صُدُورِ العالمين}. معن الاستفهام هنا التقرير والتوبيخ. والمعنى أنا الله أعلم. أحسب الذين خرجوا يا محمد من أصحابك من أذى

المشركين أن نتركهم بغير اختبار وامتحان. قال أبو إسحاق: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا: إنا مؤمنون فقط ولا يمتحنون بما يتبيّن به حقيقة إيمانهم. قال مجاهد: لا يفتنون: لا يبتلون في أنفسهم وأموالهم. وقال قتادة: لا يقتلون. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ}. أي ولقد اختبرنا الذين من قبل قومك يا محمد، بإرسال الرسل وبالأذى من المشركين كأذى القبط وفرعون لبني إسرائيل، فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم إنا

مؤمنون وليعلمنّ الكاذبين في قتيلهم ذلك. وقد كان الله جلّ ذكره عالماً بهم في كل حال/، ولكن معناه فليظهرن الله ذلك بالابتلاء والاختبار. وقيل: المعنى: فليعلمنّ الله الذين ثبتوا في الحرب من الذين انهزموا فيكون " صدقوا " مأخوذاً من الصَّدْقِ وهو الصَّلْبُ. وكذبوا من كذب إذا انهزم. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين عذّبهم المشركون مثل عمار بن ياسر، وعياش بن [أبي] ربيعة، والوليد بن الوليد، وهشام بن عمار، وسمية

أم عمارة، وغيرهم، ففتن بعضهم وصبر بعضهم على الأذى حتى فرّج الله عنهم. وقيل: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وتخلفوا عن الهجرة، فالفتنة تخلفهم عن الهجرة. وقال الشعبي: نزلت في قوم أقروا بالإسلام في مكة فكتب إليه أصحاب النبي A أنه لا يقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فابتعهم المشركون فردوهم، فنزلت هذه الآية فيهم، فكتبوا إليهم أنه قد أنزلت فيكم آية كذا وكذا. . فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل، ومنهم من نجا فأنزل الله فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ} [النحل: 110] الآية.

ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} أي: أحسب الذين يشركون بالله أن يعجزونا فلا تقدر عليهم، ساء الحكم الذي يحكمونه وقوله " ساء ما " يجوز أن تكون " ما " نكرة على تقدير ساء كثيراً يحكمون، كنعم رجلاً زيد. ويجوز أن تكون معرفة على تقدير ساء الشيء يحكمون. وأجاز ابن كيسان أن تكون ما والفعل مصدراً، أي: ساء حكمهم. ولكن لا يقع لفظ المصدر بعد ساء وإن كان الكلام بمعنى ذلك، كما نقول عسى أن تقوم، ولا يجوز عسى القيام، وهو بمعناه. فأجاز أن تكون ما زائدة، ولكنها سدت مسد اسم ساء. ثم قال تعالى ذكره: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} أي: من كان يخاف يوم لقاء الله. وقيل من كان يخاف الموت فليقدم عملاً يقدم عليه. {فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ} فهو الموت لا بدّ منه. وعمل يرجو على بابها بمعنى الطمع.

والمعنى: من كان يطمع في ثواب الله فإن أجل الله الذي أجله لبعث خلقه لآت قريباً، وهو السميع لقوههم آمنا بالله، العليم بصدق قولهم. ثم قال: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي: من جاهد واجتهد في الأعمال الصالحة فإنما ينفع نفسه، ليس لله في ذلك نفع لأنه تعالى ذكره عني عن جميع الخلق. وقيل: المعنى ومن جاهد عدوه، لنفسه لا لله ولا ابتغاء ثوابه على جهاده، فليس لله في جهاده حاجة لأنه غني عن جميع خلقه. ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}. أي: والذين مع إيمانهم عند الاختبار والابتلاء وعملوا الأعمال الصالحة، لنكفرنّ عنهم ما سلف من ذنوبهم في شركهم. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: ولنثيبنهم على صالحات أعمالهم في إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون في حال شركهم مع تكفير سيئاتهم. ثم قال {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي: وصيناه أن يفعل حسناً. وقيل: في وصينا مضمر مكرر ناصب لحسن. وقيل: التقدير: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن.

ومن قرأ " إحساناً " فمعناه أن يحسن إحساناً. ثم قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ} أي: خالفهما في ذلك. {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: معادكم فأخبركم بأعمالكم في الدنيا من صالح وسيئ، ثم أجازيكم عليها. روي أن هذه الآية نزلت بسبب سعد بن أبي وقاص لما هاجر قالت أمه: والله لا يظلني ظل بيت حتى يرجع، فأمره الله بالإحسان إليها، وأن لا يطيعها في الشرك. وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة كان قد هاجر مع عمر Bهـ حتى وصلا المدينة، فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام وهما أخوا عياش لأم

وأمهم امرأة من بني تميم. فلما وصلا المدينة قبل هجرة النبي عليه السلام قالا: لعياش: ألست تزعم أن من دين محمد صلة الرحم وبرّ الوالدين، وقد جئناك ونحن/ إخوتك وبنو عمك، وأنّ أمُّنا قالت ألاّ تطعم طعاماً ولا تأوي بيتاً حتى تراك وقج كانت لك أشدّ حباً منا، فاخرج معنا حتى ترضي والدتك، ففي رضاها رضى ربك ورضا محمد، ومع هذا تأخذ مالك. واستشار عمر فقال: هم يخادعونك ويمكرون بك. ومعي مال، ولك الله عليّ D، إن أقمت معي ولم ترجع عن هجرتك أن أقسِّم مالي بيني وبينك نصفين، فما زالوا به حتى أطاعهم وعصى عمر، فقال له عمر: أما إذا عصيتني فخذ ناقتي، فليس في الدنيا بعير يلحقها. فإن رابك منهم أمر فارجع، فمضى معهم حتى أتى البيداء فقال أبو جهل لعياش: إن ناقتي قد كَلّتْ فاحملني معك، قال له: نعم، قال: فانزل حتى أوطئ لنفسي ولك، فلما سار معهم في الأرض وهم ثلاثة كان معهم الحارث بين يزيد العامري شدوه وثاقاً، ثم جلده كل وحد منهم مائة جلدة، ثم

ذهبوا به إلى أمه، فقالت له: والله لا تزال في العذاب حتى ترجع عن دين محمد فأنزل الله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ}. الآيات. ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي: ندخل الصالحين، وذلك الجنة. ثم قال: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} أي: ومن الناس من يقول أقررنا بالله (فوحّدناه)، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة فارتد عن إيمانه. ثم قال: {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ}. يعني نصر لك يا محمّد وللمؤمنين، {لَيَقُولُنَّ} أي: ليقول هؤلاء المرتدّون عن الإيمان، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أيها المؤمنون ننصركم على أعدائكم، كذباً منهم وإفكاً. يقول الله تعالى: {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} أي: يعلم ما في صدر كل واحد من خلقه، فكيف يخادع من لا يخفى عليه خافية ولا يستترعنه سر ولا علانية؟ قال ابن عباس: فتنته أن يرتد عن الإيمان إذا أوذي في الله. قال مجاهد: هم أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في

أنفسهم افتتنوا فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة. وقال الضحاك وابن زيد: هم منافقون كانوا بمكة إذا أوذو أو جاءهم بلاء رجعوا إلى الكفر. وقال ابن عباس: كان نقوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يخفون الإسلام، فأخرجهم أهل مكة يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97]. فكتب بها إلى (من) بقي بمكة من المسلمين فلم

11

يكن لم عذر فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيه هذه الآية: {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا} الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ونزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} [النحل: 110] الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إن الله جلّ ثناؤه قد جعل لكم مخرجاً فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل. وقال قتادة في الآيتين إلى {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}، هذه الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة، وهذه الآيات العشر مدنية إلى ها هنا وسائرها مكي. قال مجاهد: جعل فتنة الناس كعذاب الله، أي: جعل أذى الناس له في الدنيا كعذاب الله على معصيته، فأطاعهم كما يطيع الله من خاف عقابه. وقيل: المعنى: خاف من عذاب الناس كما خاف من عذاب الله. ثم قال {لَيَقُولُنَّ} فردّه على المعنى فجمع، ورده أولاً على اللفظ فوحد. وقوله: {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين} أي: يعلم أنهم لكاذبون في قولهم: إنا كنا معكم. قوله تعالى ذكره: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ} إلى قوله: {عَلَى الله يَسِيرٌ}.

فمعنى قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}. أي: وليعلمنّ أولياء الله وحزبه أهل الإيمان بالله منكم من أهل النفاق وهو قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين}. ثم قال تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا} أي: كونوا على ما نحن عليه من الكفر {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} إن بعثتم وجوزيتم، فنحن نحمل/ آثام خطاياكم عنكم. وذلك قول الوليد بن المغيرة: قال للمؤمنين: كونوا على ما نحن عليه من الكفر ونحن نحمل خطاياكمز قيل: هو من الحمالة وليس من الحمل على الظهر. فالمعنى اتبعوا ديننا ونحن نضمن عنكم كل ما يلزمكم من عقوبة ذنب، وما هم بحاملين: أي: بضامنين ذلك. وقيل: ذلك قول كفار قريش لمن آمن منهم: أنكروا البعث والجزاء فقالوا للمؤمنين أنكروا ذلك كما ننكره نحن، فإن بعثتم وجوزيتم فنحن نحمل عنكم خطاياكم.

قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم. ثم قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} أي: وليحملنّ هؤلاء المشركون أوزارهم وأوزار من أضلّوا وصدوا عن سبيل الله. {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون. ومثله قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} [النحل: 25]. قال قتادة: في حديث رفعه " من دعا إلى ضلالة كُتبَ عليه وزرها ووِزرُ من عَمِل بها ولا يَنْقُصُ منه شيء ". وقال أبو أمامة الباهلي: " يُؤْتى بالرّجل يومَ القيامة يكونُ كثيرَ الحسناتِ فلا يزَالُ يقتصُّ منه حتى تَفْنى حسانته، ثم يُطالبُ فيقولُ الله جلّ وعزّ: اقتصُّوا من عبدي فتقول الملائكة، ما بقيَتْ له حسناتٌ، فقولُ خذوا من سيّئاتِ المظلومِ واجعلوها عليه. قالَ أبو أمامة: ثم تلى النبيّ A: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} ".

ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً}. وهذه الآية وعيد من الله للمشركين من قريش القائلين للمؤمنين منهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم. فيها تسلية للنبي A مما لحقه من قومه. فالمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإن مصيرك ومصير من آمن بك إلى النجاة، ومصير من كفر بك إلى البوار والهلاك كفعلنا بنوح وقومه. ذكر عون بن أبي شداد: أن الله جلّ ذكره أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً. ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة. وروى ابن وهب عمّن سمع عبد الوهاب بن مجاهد يقول: مكث نوح

يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، يدعوهم إلى الله يسره إليهم. قال: ثم يجهر به إليهم، قال: فيأخذونه، فيخنقونه حتى يُغشى عليه فيسقط مغشياً عليه، ثم يفيق فيقول: اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون قال: ويقول للرجل ابنه: يا أبه، ما لهذا الشيخ يصبح كل يوم لا يفيق، فيقول له: أخبرني جدي أنه لم يزل على هذا منذ كان. وقوله تعالى ذكره: {فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ}. أي أهلكهم الماء الكثير في حال كفرهم وظلمهم لأنفسهم. وكل ماء كثير فاش فهو عند العرب طوفان. وكذلك الموت الذريع الكثير، يقال له: طوفان. مشتقّ من طاف يطوف وهو اسم موضوع لما أحاط بالأشياء. ثم قال تعالى ذكره: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} أي: أنجينا نوحاً ومن معه في السفينة من ولده وأزواجهم. {وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أي: وجعلنا السفينة عبرة وعظة للعالمين وحجة عليهم. قال قتادة: أبقاها الله آية للناس على الجودي.

وقيل: المعنى: وجعلنا عقوبتنا آية. ثم قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله}. قال الكسائي: " وإبراهيم " عطف على الهاء في " انجيناه " وهي: نوح. أي: أنجينا نوحاً وإبراهيم. وقيل: المعنى: وأرسلنا إبراهيم. وقيل: المعنى: واذكر إبراهيم. {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله واتقوه} أي: اتقوا سخطه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.

{ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: هذا الفعل خير لكم من غيره {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ما هو خير لكم مما هو شر لكم. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَوْثَاناً} أي: أصناماً. {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي: توقولون كذباً. وقال ابن عباس: معناه: تصعنون كذباً. وعن ابن عباس: تخلقون: تنحتون، أي: تصورون إفكاً. وقاله الحسن. فالمعنى أن الذين تعبدمون من دون الله أصنام وأنتم/ تصنعونها. ثم قال: {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} يعني الأصنام التي عبدوها من دون الله لا تقدر لهم على نفع فترزقهم. {فابتغوا عِندَ الله الرزق} أي: التمسوا من عند الله الرزق لا من عند الأوثان. {واعبدوه} أي: ذلوا له. {واشكروا لَهُ} على رزقه إياكم. {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: تردون من بعد مماتكم فيجازيكم على أعمالكم ويسألكم

على شكر نعمه عندكم. ثم قال تعالى: {وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} أي: إن تكذبوا أيها الناس محمدّاً فيما دعاكم إليه، فقد كذب جماعات من قبلكم رسلها فيما أتتهم به من الحق، فحلّ بهم سخط الله، فكذلك سبيلكم سبيل الأُمم فيما هو نازل بكم، إذا كذبتم رسولكم. {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} أي: ما على محمد إلاّ أن يبلغكم من الله رسالته الظاهرة لمن سمعها. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: ألم يرَ هؤلاء المنكرون للبعث كيف يُبدئ الله خلق الإنسان من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم ينقله حالاً من بعد حال حتى أن يصير رجلاً كاملاً. فمن قدر على هذا فهو قادر على إعادة المخلوق بعد موته، وذلك عليه هيّن لأن الإعادة عندكم أسهل من الابتداء، إذ الابتداء كان على غير مثال والإعادة هي على مثال متقدم، فذلك أسهل وأيسر فيما يعقلون. وقيل: معناه: كيف يُبدئ الله الثمار وأنواع النبات فتفنى بأكلها ورعيها وشدّة الحرّ عليها، ثم يعيدها ثانية أبداً أبداً، وكيف يُبدئ الله خلق الإنسان فيهلك، ثم يحدث منه ولداً، ثم يحدث للولد ولداً، وكذلك سائ الحيوان يبدئ الله خلق الوالد ثم يعيد منه خلق الولد، ويهلك الوالد، وهكذا أبداً. . فاحتجّ الله عليهم بذلك لأنه أمر لا ينكرونه، يقرون به فمن قدر على ما تقرون قادر على إعادته بعد موته، وذلك أهو عليه فيما تعقلون، وكل عليه هيّن. ومعنى {يَرَوْاْ}: يعلموا.

20

قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا} إلى قوله: {مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين}. أي: قل يا محمد للمنكرين للبعث: سيروا في الأرض فاستدلّوا بأنواع صنع الله، وانظروا إلى آثار كان قبلكم. وإلى ما صاروا إليه من الموت والفناء، فتعلموا أن الله بدأ الخلق في الأرض وأفناهم، ثم أحدثكم بعدهم. فكذلك سيفنيكم بالموت ثم يحييكم في الآخرة كلكم. فكما خلقكم في الدنيا بع أن لم تكونوا كذلك فيها وخلق من كان قبلكم بعد أن لم يكونوا فيها كذلك يحييكم بعد موتكم، فاعلموا أن الله على كل شيء قدير. وانظروا كيف بدأ لله الخلق للأشياء وأحدثها، فكما أنشأها وابتدأها، كذلك يقدر على إعادتها بعد إفنائها. وليس يتعذّر الإعادة على من ابتدأ الشيء. وقوله: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ [النشأة] الآخرة}. يعني البعث بعد الموت. ومن مده جعله اسماً في موضع المصدر كما قالوا: (عطاء) في موضع: " إعطاء ". ولم يمد جعله مصدراً جرى على غير المصدر لأنه لو جرى على المصدر لقال ينشئ الإنشاء الآخر. ولكنه على تقدير: ثم الله ينشئ الخلق بعد موتهم فينشئون النشأة الآخرة.

{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: إن الله على إنشاء جميع خلقه بعد فنائه كهيئته قبل ذلك قادر، لا يعجزه شيئ أراده. وقيدر أبلغ من قادر. ثم قال تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي: يعذّب من يشاء ممن سبق له الشقاء، ويرحم من يشاء ممن سبق له السعادة، وإليه تردون. وقيل: يعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، ويرحم من يشاء ممن يستحق الرحمة. ثم قال: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا أهل السماء بمعجزين في السماء، أي: ليس يفوت الله أحد. وقيل: المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها. وقال المبرد: التقدير: ولا من في السماء، على أن تكون (من) نكرة، وفي السماء من نعتها، ثم أقام النعت مقام المنعوت. وقد ردّ عليه هذا/ القول علي بن سليمان، وقال: لا يجوز، لأن (من) إذا كانت نكرة فلا من صفتها، فصفتها كالصلة، ولا يجوز حذف الموصول وترك

الصلة. والمعنى عنده: أن الناس خوطبوا يعقلون - من في السماء الوصول إليه أبعد - وأما المعنى: وما أنتم بمعجزين في الأرض، ولو كنتم في السماء ما أعجزتم، ومثله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. فالمعنى: لا تعجزوننا هرباً ولو كنتم في السماء. قال ابن زيد: معناه: لا يعجزه - تعالى ذكره - أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه. فالتقدير على هذا: وما أنتم بمعجزين الله في الأرض ولا من في السماء بمعجزي الله. على حرف (من) مرة واحدة، كما قال: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: إلاّ من له مقام. وقيل: المعنى: وما أنتم معجزين من في الأرض من الملائكة ولا من في السماء منهم، على إضمار (من) في الموضعين، وهو بعيد. ثم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي: ليس يمنعكم من عذاب الله ولي ولا نصير ينصركم إن أراد بكم سوءاً. ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أي: كفروا بالقرآن وبالبعث: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} أي: في الآخرة لمّا عاينوا لهم ما أعد لهم من العذاب. {وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم موجع.

قال قتادة: إن الله جلّ ذمّ قوماً هانوا عليه فقال: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي}، وقال: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87]. فينبغي للمؤمن ألاّ ييأس من رحمة الله، وأن لا يأمن عذابه وعقابه. وصفة المؤمن أن يكون راجياً خائفاً. ثم قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} يعني: قوم إبراهيم. وهذا جواب لقوله عن إبراهيم: إنه قال لقومه اعبدوا الله واتقوه. وجميع ما جرى بين ذلك إما أتى به تسلية للنبي A وعظة لقريش، وتذكيراً لهم وتوبيخاً. {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ}. أي: قال بعضهم لبعض اقتلوه أو حرّقوه بالنار ففعلوا، فأنجاه الله منها ولم يسلط [عليه]، بل جعلها برداً وسلاماً. قال كعب: ما أحرقت منه إلاّ وثاقه.

{إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في إنجاء الله إبراهيم من النار وتصييرها عليه برداً وسلاماً، لدلالة وحجة لقوم يصدقون بما آتاهم من عند الله. ثم قال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً} أي: قال لهم إبراهيم: اعبدوا الله واتّقوه، وقال لهم: إنما اتخذتم من دون الله آلهة هي أوثاناً للمودة، أي: فعلتم ذلك للمودة. وهذا على قراءة من نصب. و (ما) مع (إن) حرف واحد. والمعنى: إنما اتخذتموها مودة بينكم، أي: تتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها. فأما من رفع المودة فإنه جعلها خبر إن، وما بمعنى الذي. أو على إضمار مبتدأ، أي: هو مودة أو تلك مودة. أي: إلفتكم وجماعتكم مودة بينكم. وإن شئت

جعلت (مودة) مبتدأ، وفي الحياة الدنيا الخبر. ومن أضاف المودة إلى بين أخرجها عن أن تكون ظرفاً، ولا يجوز أن تكون ظرفاً وهو مضاف. ثم قال تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي: يكون أمركم بعد هذه المودة في الدنيا على عبادة الأوثان إلى أن يتبرأ بعضكمم من بعض، ويلعن بعضكم بعضاً. {وَمَأْوَاكُمُ النار} أي: مصير جميعكم إليها أيها العابدون الأوثان. {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي: ما لكم من نصنير من الله فينقذكم من عذابه. " أوثاناً " وقف إن رفعت مودة على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ. ثم قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} أي: صدقه لوط وقال إبراهيم: إني مهاجر إلى ربي، يعني إلى الشام. قل ابن عباس: هاجرا جميعاً إلى الشام. قال قتادة: كانا بكوثى قرية من سواد الكوفة فهاجرا إلى الشام. وقيل:

الذي قال إني مهاجر إلى ربي هو لوط، لما انفرد بالإيمان بإبراهيم لم يقم بين أظهر الكافرين، فقال: إني مهاجر لقومي وبلدي، أخرج (من) بين أظهر الكفار إلى حيث يأمرني ربي. فهاجر من سواد الكوفة إلى الشام. ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم} أي: الذي لا يذل من نصره، الحكيم في تدبيره/. ثم قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي: وهب الله لإبراهيم ولده إسحاق وولده يعقوب بن إسحاق {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب} أي: والكتب فدلّ الواحد على الجمع. يعني الكتاب الذي أنزل على موسى وداود وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم، كلهم من ذرية إبراهيم. {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} أي: أعطيناه ثواب بلائه فينا في الدنيا {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي: في المجازاة لا ينقص من أجره شيء والأجر هنا الثناء الصالح والولد الصالح، قاله ابن عباس. قال عكرمة: أجره في الدنيا هو أن أهل كل ملة يتولاه وهو عند الله من

29

الصالحين في الآخرة. وقال قتادة: أجره في الدنيا عافية وعمل صالح وثناء حسن، فلست تلقى أحداً من الملل إلاّ يرضى إبراهيم ويتولاه. وقيل: أجره في الدنيا أن الله لم يبعث نبياً بعد إبراهيم A إلاّ من ذريته، وليس من أهل دين إلاّ (وهم) يتحلون حب إبراهيم A يدعون دينه، وذلك كله لا ينقصه من ثوابه في الآخرة، فلذلك قال: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي: إن له في الآخرة منازل الصالحين. ومثله قوله تعالى: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} [ص: 46 - 47]. يعني في الآخرة لم ينقصهم ما تفضل به عليهم في الدنيا من أجرهم في الآخرة شيئاً. ثم قال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} أي: واذكر لوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة، وهي إتيان الذكور. {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين} أي: لم يتقدمكم أحد إلى إتيان الذكور. قوله تعالى ذكره: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} إلى قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}. أي: تأتون الرجال في أدبارهم، وتقطعون الطريق على المسافرين. روي أنهم كانوا يفعلون ذلك بمن يمر بهم من المسافرين، ومن يرِدُ ديارهم من

الغرباء، قاله ابن زيد. روي أنهم كانوا - مع فسقهم - يقطعون الطريق ويقتلون ويأخذون الأمول حتى انقطعت الطريق فلا يسلكها أحد. وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر}. روي عن عائشة أنه الفراط، يعني أنهم كانوا يتفارطون في مجالسهم. " وروت أم هانئ أنها سألت النبي A عن قوله تعالى ذكره: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر} قال: " كانوا يَخْذِفون أهلَ الطريقِ ويَسْخَرُونَ منهم، فهوَ المنكر الذي كانوا يأتون "، وقاله عكرمة والسدي.

وقل مجاهد: المنكر هنا أنهم كانوا يجامع بعضهم بعضاً في المجالس. وهو قول قتادة وابن زيد. والحديث المروي عن النبي A أولى بالاتباع. وروي ذلك عن ابن شهاب: " إنّ على مَنْ عمِلَ عمَلَ قومِ لوطٍ الرجم أُحْصِنَ أو لم يُحْصَن ". قال مالك: إذا شهدَ على الفاعل والمفعول به أربعة شهداء عدول رُجما، ولا يرجمان حتى يُرى كما يرى المِرْوَد في المِكحلة أُحْصِنَا أو لم يُحْصَنَا إذا كانا قد بلغا الحُلمَ.

وقد روى أبو هريرة أن النبي A قال: " اقتلوا الفاعلَ والمفعولَ بهِ ". وقال عليّ بن أبي طالب: يحرق الفاعل والمفعول به في النار. وروي أن أبا بكر شاور علياً في هذا فأمر بحرقها. وفعل ابن الزبير مثل ذلك في أيامه، وفعله هشام ابن عبد الملك. وقيل إنما فعلوا الحرق بعد القتل.

وروى أبو هريرة أن النبي A " أمر برجمِهما " وأكثر الروايات عن النبي A في ذلك " القتل لهما جميعاً " وفي بعض الحديث: " ومن وقَعَ على ذاتِ مَحْرَمٍ قاتلوهُ ". وروى أنس أن النبي A قال: " إذا علا الذّكرَ الذّكَرُ اهتزّ العرشُ وقالت السماوات: يا ربّ مُرْنا أن نَحْصِبَهُ، وقالتِ الأرضُ: يا ربِّ مُرْنَا نَبْتَلِعَهُ، فيقولُ:

دعوهُ فإنّ ممرَّهُ بي ووقوفَهُ بينَ يديَّ ". ثم قال تعالى ذكره: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله} أي: ما جاوب لوطاً قومه لما نهاهم عن المنكر، وخوفهم من عذاب الله إلاّ أن قالوا: جئنا بعذاب الله الذي توعدنا به إن كنت صادقاً في قولك. {قَالَ رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين} أي: قال لوط مستغيثاً لما استعجله قومه بالعذاب: يا ربّ انصرني على القوم المفسدين/. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} أي: جاءته الملائكة من الله بالبشرى بإسحاق ومن ولده بيعقوب. {قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} وهي: سدوم قرية قوم لوط. {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي: ظالمين أنفسهم بمعصيتهم الله. ثم قال تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} أي: قال ذلك إبراهيم عليه السلام. قال ابن عباس: فجادل إبراهيمُ الملائكة في قوم لوط عليه السلام أن يتركوا، فقال أرأيتم إن كان فيها عشرة أبيات من المسلمين أتتركون؟ فقالت الملائكة: ليس فيها عشرة أبيات ولا خمسة ولا أربعة ولا ثلاثة ولا اثنان، فقال إبراهيم: إن فيها لوطاً.

{فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي: من الباقين في العذاب. وقيل: المعنى كانت من الذين أبقتهم الدهور والأيام وتطاولت أعمارهم، فإنها هالكة مع قوم لوط. وحسن وصفها بلفظ المذكور، فقال من الغابرين ولم يقل من الغابرات لما كانت مع الرجال، فجعل صفتها كصفتهم. وروي أن إبراهيم A قال للملائكة: إن كان فيهم مائة يكرهون هذا أتهلكونهم؟ قال: لا قال: فإن كان فيهم تسعون قالوا: لا، إلى أن بلغ إلى عشرين. قال: إن فيها لوطاً. قالت الملائكة: نحن أعلم بمن فيها. روي أنه كان في المدينة أربع مائة ألف. ثم قال تعالى: {وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ} أي: ساءته الملائكة بمجيئهم إليه، وذلك أنهم تضيفوه فرأى جمالهم وحسنهم فخاف عليهم من قومه، إذ قد علم أنهم كانوا يظلمون مثلهم في حسنهم وجمالهم فساؤوه بذلك. قال قتادة: ساء ظنّه بقومه وضاق وبضيفه ذرعاً لما علم من حيث فعل قومه. قال ابن أبي عروبة: كان قوم لوط أربعة آلاف ألف، فلما رأت الرّسل غمّه

وخوفه عليهم من قومه، قالت الرسل للوط: لا تخف علينا أن يصل إلينا قومك ولا تحزن مما أخبرناك من أنا مهلكوهم، فإنا ننجيك وأهلك إلاّ امرأتك. ثم قال تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء} أي: عذاباً بفسقهم. ثم قال تعالى: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً} أي: أبقينا فعلتنا بهم عبرة وعظة ظاهرة لقوم يعقلون عن الله حججه وتلك الآية: اندراس آثارهم ومعالمهم. ونتبع الحجرة إياهم حيث كانوا. ثم قال تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} أي: وأرسلنا إلى مديَن أخاهم شعيْباً. فقال لهم يا قوم اعبدوا الله وحده وارجوا بعبادتكم إياه اليوم الآخر، أي: جزاء اليوم الآخر وهو يوم القيامة. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي: لا تكثروا الفساد في الأرض بمعصية الله تعالى وإقامتكم عليها. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي: فكذب أهل مدين شعيباً فيما جاءهم به عن الله جلّ ذكره، فإخذهم العذاب، فأصبح بعضهم على بعض جثوماً موتاً في ديارهم. قال قتادة: أرسل شعيب مرتين إلى أمتين، إلى أهل مدين، وإلى أصحاب الأيكة، وكان شعيب من ولد مدين، وأهل مدين من ولده أيضاً، فلذلك قال: أخاهم، ولم

يكن بين شعيب وأصحاب الأيكة نسب فلذلك لم يقل أخاهم. قال قتادة: جاثمين: ميتين. وأصله المد والسكون وقطع الحركة. ثم قال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} نصب عاد وثمود عند الكسائي على العطف على قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] وفتنا عاداً وثموداً. وقال الزجاج: التقدير: وأهلكنا عاداً وثموداً. وقال الطبري: التقدير: واذكر عاداً وثموداً، وقد تبيّن لكم من مساكنهم، يعني خرابها وخلاءها منهم. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي: حسّنها لهم فتمادوا على كفرهم وتكذيبهم. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} أي: عن سبيل الله. {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} أي: في ضلالتهم، أي: معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى

وصواب، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة. وقيل: المعنى: كانوا قد عرفوا الحق من الباطل. فهو مثل قوله تعالى ذكره: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14]. قال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ}. هذا معطوف على عاد على الاختلاف المتقدم. {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ موسى بالبينات} أي: الآيات الواضحات. {فاستكبروا فِي الأرض} أي: عن التصديق بالآيات. {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} أي: فائتين بأنفسهم، بل القدرة عليهم غالبة من الله. ثم قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أي: فأخذنا جميع هذه الأمم المذكورة بذنوبهم وأهلكناهم. {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} أي: حجارة من سجيل والعرب تسمي الريح التي تحمل الحصى حاصباً. وهم قوم لوط. {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} قال ابن عباس: هم ثمود. وقال قتادة هم قوم

42

شعيب. {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض} قال ابن عباس وقتادة: هو قارون. {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} قال ابن عباس: هم قوم نوح. وقال قتادة هم قوم فرعون. {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي: وما كان الله ليهلك هذه الأمم بغير ذنب. {ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: بعبادتهم غير من ينعم عليهم ويرزقهم. ثم قال تعالى: {مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} أي مثل من اتخذ من دون الله آلهة في ضعف ما يرجون منها كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها اتخذت بيتاً ليُكِنّها، فلم يغن عنها شيئاً عند حاجتها، فكذلك هؤلاء الذين عبدوا الأوثان لتنفعهم عند حاجتهم إليها. قال ابن عباس: هو مثلٌ ضربه الله لمن عبد غيره. ثم قال تعالى ذكره: {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: إن أضعف البيوت لبيت العنكبوت لو علموا ذلك يقيناً. قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إلى قوله: {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون}. أي: يعلم حال ما تعبدون من دون الله أنه لا ينفعكم ولا يضركم، وأن مثله في

قلة غنائه عنكم مثل بيت العنكبوت في قلة غنائه عنها. {وَهُوَ العزيز} أي: في انتقامه ممن كفر به. {الحكيم} في تدبيره. و " من " في قوله: " من شيء " للتبعيض، ولو كانت زائدة للتوكيد بعد النفي لا نقلب المعنى. فما ليست نفياً، وهي بمعنى الذي. ثم قال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي: وتلك الأشباه والنظائر نضربها للناس، أي: نمثلها للناس وتحتج بها عليها. {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} أي: وما يعقل الصواب لما ضرب له من الأمثال إلاّ العالمون بالله وآياته. ثم قال تعالى: {خَلَقَ الله السماوات وَالأَرْضَ بالحق} أي: انفرد بخلق ذلك للحق. {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: لعلامة وحجة على خلقه في توحيده وعبادته لمن آمن به. ثم قال تعالى: {اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} أي: اقرأ يا محمد ما أنزل عليك من القرآن. {وَأَقِمِ الصلاة} أي: أدّها بفروضها وفي وقتها. {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الْفَحْشَآءِ والمنكر}. قال ابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله جلّ ذكره. وقال ابن مسعود: من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بها إلاّ بعداً من الله جلّ ذكره.

وروى الحسن عن النبي A مثل قول ابن مسعود. وهو قول قتادة وغيره. وقيل: المعنى: إن الصلاة تنهى من كان فيها عن الفحشاء والمنكر فتحول بينه وبين ذلك لشغله بها. وروي عن ابن عمر أنه قال: الصلاة هنا: القرآن. قال: القرآن الذي يقرأ في المساجد ينهى عن الفحشاء والمنكر. والفحشاء الزنى، والمنكر المعاصي. ثم قال: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} قال ابن عباس في معناه: ولذكر الله أكبر إذا ذكرتموه عندما أمركم به، ونهى عنه أكبر من ذكركم إياه. وهو قول مجاهد وعكرمة وغيرهما. وروي ذلك عن أبي الدرداء. وقيل: المعنى: ولذكر الله إياكم أفضل من

ذكركم أياه. وهو اختيار الطبري. وقيل: المعنى: ولذكركم الله أفضل من كل شيء. أي: ذكركم الله في الصلاة والدعاء وغير ذلك أفضل من الصلاة وسائر العبادات بلا ذكر. وروي عن النبي A أنه قال: " ليس يتحسَّرُ أهلُ الجنّة على شيءٍ إلاّ على ساعاتٍ مرّت بهم لم يذكُروا الله D فيها " وقال ثبت البُناني: " بلغني أن أهل ذكر الله يجلسون إلى ذكر الله وإن عليهم من الآثام مثل الجبال، وإنهم ليقومون منها عطلاً ما عليهم منها شيء ". وسئل سلمان عن أيّ الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن،

{وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} لا شيءَ أفضل من ذكرِ الله. وقالت أم الدرداء: إن صليت فهو من ذكر الله، وإن صمتَ فهو من ذكر الله، وكل خير فعلته فهو من ذكر الله، وكل شيء تجنبته لله فهو من ذكر الله، وأفضل من ذلك تسبيح الله جلّ وعزّ. وقال قتادة: ولذكر الله أكبر، لا شيء أكبر من ذكر الله. وقيل: المعنى: ولذكر الله العبد في الصلاة أفضل من الصلاة. قاله السدي.

وقيل: المعنى: والصلاة التي أنت فيها، وذكرى الله فيها أكبر مما نهتك الصلاة عنه من الفحشاء والمنكر. وقيل: المعنى: ولذكر الله الفحشاء والمنكر كبير. {والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي: ما تفعلون في صلاتكم من إقامة حدودها وغير ذلك من ترككم الفحشاء والمنكر. ثم قال تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي: لا تجادلوا أيها المؤمنون اليهود والنصارى إلاّ بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله والتنبيه على حججه. {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} هذا بدل من " أهل "، ويجوز أن يكون استثناء. والمعنى: إلاّ الذين امتنعوا من إعطاء الجزية ونصبوا دونها الحرب فلكم قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. قاله مجاهد وغيره، وهو اختيار الطبري.

وقال ابن جبير: هم أهل الحرب ومن لا عهد له، فلك أن تجادله بالسيف. وقيل المعنى: لا تجادلوا من كفر منهم بمحمد A فيما يخبرونكم به من نص كتابهم إلاّ بالقول الجميل، وأن تقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم، إلاّ الذين ظلموا منهم. يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد A، وأقاموا على كفرهم. فالآية محكمة على هذا القول. روي هذا القول عن ابن زيد. وقال قتادة: هي منسوخة بالأمر بالقتال لأنها مكية. وقال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال النبي A: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبهم، وقولوا آمنّا بالَّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا. . " الآية.

ومعنى: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} أي: ظلموكم في منعهم الجزية ومحاربتكمم. والكل ظالمون لأنفسهم بكفرهم من أدى الجزية ومن لم يؤد. {وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} أي: معبودنا ومعبودكم واحد. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: خاضعون ومتذللون بالطاعة له. ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} أي: وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد، كذلك أنزلنا إليك الكتاب. {فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: من كان من بني إسرائيل قبل محمد A. { وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ} يعني: الذين كانوا من أهل الكتاب على عهد النبي عليه السلام، منهم من لم يؤمن بما أنزل على محمد. {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} أي: بأدلتنا وحججنا، {إِلاَّ الكافرون} أي: إلاّ الذين جحدوا نعمتنا بعد معرفتهم بها. قال قتادة: إنما الجحود بعد المعرفة. ثم قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ} أي: ما كنت يا محمد تقرأ قبل هذا الكتاب كتاباً آخر. {وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي: تكتبه، بل كنت أمياً لا علم عندك من ذلك حتى أنزل الله عليك الكتاب وعلمك ما لم تكن تعلم، ولو كنت تقرأ قبل ذلك كتابا وتخطّه بيمينك. {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} أي: لشكّ فيك من أجل ذلك القائلون إنه سجع

49

وإنه كهانة وأساطير الأولين، هذا معنى قول ابن عباس وقتادة وغيرهما. وقال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبي عليه السلام لا يخطّ بيمينه ولا يقرأ كتاباً، فنزلت هذه الآية. قال مجاهد: {إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} أي: إذاً لقالوا إنما هذا شيء تعلمه محمد A وكتبه، ويعني بالمبطلين: كفار قريش. فكأنّ كونه لا يقرأ ولا يكتب، ثم أتاهم بأخبار الأنبياء، والأمم دليل على نبوته وأن ذلك/ من عند الله جل ذكره. قوله تعالى ذكره: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} إلى قوله جلّ ذكره وثناؤه: {وَهُوَ السميع العليم}. قال الحسن: معناه بل القرآن آيات ظاهرات في صدور المؤمنين بمحمد A. وقرأ قتادة: " أية بيّنة " بالتوحيد على معنى بل النبي بينة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.

وفي حرف عبد الله " بل هو آيات " أي: بل آيات القرآن آيات بينات. وقال ابن عباس والضحاك وابن جريج: كان الله جلّ ذكره أنزل بشأن محمد A في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعل لهم آية فقال: إن آية نبؤته أن يخرج حين يخرج لا يعلم كتاباً ولا يخطه بيمينه. والمعنى: بل العلم بأنه لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات في صدور العالمين من أهل الكتاب. وروي ذلك أيضاً عن قتادة. وهو اختيار الطبري. ثم قال تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون} أي: ما يجحد نبوة محمد وينكر العلم به إلاّ الذين ظلموما أنفسهم يكفرهم بالله ونبيه. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله}. أي: وقال المشركون من قريش: هلاّ أنزل على محمد A آيات من ربّه. وهوقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى

تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} إلى قوله: {كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93]. هذا على قراءة من جمع، ويؤكد الجمع أن بعده: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} فوجب أن يكون السؤال مثل الجواب، ويؤكده أيضاً أن الخط بالتاء. فأما من قرأ آية، معناه: هلاّ أنزل على محمد آية تكون حجة علينا كالناقة لصالح، والمائدة لعيسى، ويؤكد التوحيد أجماعهم على التوحيد في يونس: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ}. وفي الرعد: {آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ}. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} أي: لا يقدر على الإتيان بها إلاّ الله. {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم بأس الله وعذابه مبين لكم إنذاره.

ثم قال تعالى ذكره: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} أي: أوَ لم يكفِ هؤلاء القائلين لولا أنزل عليه من ربه من الآيات والحجج أنّا أنزلنا عليك الكتاب يقرأ عليهم. {إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في هذا الكتاب لرحمة للمؤمنين وذكرى يتذكرون به ويتعظون. ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين استحسنوا أشياء من بعض كتاب أهل الكتاب. ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} أي: قل يا محمد لهم: كفى الله بيننا شهيداً لأنه يعلم المحق من المبطل، ويعلم ما في السماوات والأرَ ولا يخفى عليه فيهما شيء. ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ بالباطل} أي: بالشرك. {وَكَفَرُواْ بالله} أي: جحدوا توحيد الله فعبدوا معه غيره. {أولئك هُمُ الخاسرون} أي: المغبونون في صفقتهم. ثم قال تعالى ذكره: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} أي: يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب، وهو قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} إلى قوله " {أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

{وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} أي: لولا أن لهم وقتاً يستوفونه لجاءهم العذاب عاجلاً. {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة وهم لا يشعرون بوقت مجيئه. هذا كله معنى قوله قتادة. ثم قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} أي: محدقة بالكافرين ولم يبق لهم إلا دخولها. قال عكرمة: هو البحر محيط بهم. ثم قال: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} قال قتادة: في النار أي: جهنم محيطة بالكافرين في هذا اليوم. فلا يوقف على " بالكافرين " على هذا التأويل. ويجوز أن ينتصب على واذكر يوم يغشاهم فيبتدئ به على هذا القول. {وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: جزاء عملكم. وأصل الذوق باللسان ولكن اتسع فيه فاستعمل في كل شيء يصل إلى البدن منه ألم أو لذة.

ثم قال تعالى: {ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} أي: أنها لم تضق عليكم، فغيروا الموضع الذي لا يحل لكم فيه المقام، ولكن إذا عمل في مكان منها بمعاصي الله فلم تقدروا على تغييره فأهربوا منها قاله ابن جبير. وقال عطاء: إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا إن أرضي واسعة. وقال مجاهد: إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا. وقال ابن زيد: يريد بهذا من كان بمكة من المؤمنين. وقال مُطَرِّف بن الشِّخِّير: معناه إن رزقي لكم واسع، أي: فابتغوه في

الأرض. وقيل: المعنى: ما خرج لكم من أرضي من الرزق واسع لكم. وقيل: المعنى: إن أرض الجنة واسعة فأعبدوني حتى أعطيكموها. وقوله: {فَإِيَّايَ فاعبدون} أي: أخلصوا لي عبادتكم. ثم قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} أي: أخلصوا لي العبادة فإنكم لا بد لكم من الموت والرجوع إليّ فأجازيكم على أعمالكم وإخلاصكم. ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً}. أي: والذين صدقوا بكتبي ورسلي وعلموا الأعمال الصالحة لنسكننهم غرفاً جارية من تحتها الأنهار في الجنة. {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: دائمين فيها. {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي: نعم الجزاء جزاء العاملين بطاعة الله الجنة. ومن قرأ: لَنثوِيّنهم " فمعناه: لنعطينهم ولننزلنهم.

حكى الفراء: بوأته منزلاً وأثويته منزلاً بمعنى: وأصل الثواء الإقامة. ومعنى: {مِن تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها. ثم قال تعالى: {الذين صَبَرُواْ} أي: على أذى المشركين في الدنيا. {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: في أرزاقهم وجهاد عدوهم. ثم قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} هذا تعزية للمؤمنين المهاجرين الذين فارقوا أموالهم في الله، فقيل لهم: وكم من دابة لا تحمل رزقها ولا تدخره من اليوم إلى غد؟ الله يرزقها، فلا تخافوا أنتم عيلة ولا فقراً، فإن الله رازقكم. {وَهُوَ السميع العليم} لأقوالكم: نخشى بفراقنا أَوْطَانَنَا الفقر والعيلة. {العليم} بما في أنفسكم وتصير إليه أموركم. وليس يدخر من جميع الحيوان إلا الإنسان والنملة والفأرة. وهو من الحمالة، أي: لا تحملم لنفسها رزقها، وليس هو من الحمل على الظهر ونحوه.

61

قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} إلى آخر السورة. أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قريش، من ابتدع السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر لعباده يجريان دائبين لمصالح الخلق؟ ليقولن الله. {فأنى يُؤْفَكُونَ} أي: فمن أين يصرفون عن عبادة من فعل ذلك بإقرارهم، فيعبدون معه من لم يخلق شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً. ثم قال تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي: يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيق على من يشاء منهم فلا تتخلفوا عن هجرة وجهاد عدوكم بخوفكم العيلة والفقر. {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: عليم بمصالحكم فيوسع على من لا يصلحه إلا التوسع في الرزق، ويضيق على من لا يصلحه إلا لضيق في الرزق. ثم قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا}. أي: ولئن: سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قريش عَنْ مَنْ نزّل من السماء مطراً فأحيا بذلك المطر الأرض بعد جدوبها وقحطها {لَيَقُولُنَّ الله}، فقل يا محمد: {الحمد لِلَّهِ}، أي: على نعمه. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي: لا يعقلون ما لهم فيه النفع من أمر دينهم وما لهم فيه الضرر. ثم قال تعالى: {وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي: ما يتمتع به هؤلاء المشركون في الدنيا إلا تعليل النفوس بما تلتذ به، ثم ينقضي ويضمحل عن قليل، فهو اللهو واللعب والزائل من ساعته.

ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} أي: لفيها الحياة الدائمة والنعيم المقيم الذي لا أنقطاع له. والحية والحيوان واحد، يقال نهر لاحيوان ونهر الحياة، وأصل الحيوان: الحييان ثم أبدلوا من إحدى الياءين واواً ومثله حيوة أصله حيية. ثم أبدل. ويقال حييت حياً كعييت عياً. فالحي المصدر، والحيوان والحياة اسمان. قال العجاج/: " وقد نَرَى الحياةُ حييّ ". يريد: إذِ الحياة حياة ". وقد قيل: إن الحيي جمع على فِعُول كعِصي. ثم قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: فإذا ركب هؤلاء

المشركون في السفينة في البحر فخافوا الغرق والهلاك أخصلوا لله الدعاء، وتركوا آلهتهم التي يعبدون. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي: يعبدون مع الله غيره. ثم قال تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}. أي: لما نجاهعم الله من الغرق إلى البَرِّ عبدوا غيره ليجحدوا نعمه عليهم. فاللام لام كي لأنها شرط لقوله {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}. ثم قال: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ}. هذه اللام لام الأمر، فمن كسر لم يعتد بالواو ووجعلها كالمبتدأ بها. ومن أسكن أعتد بالواو. ويحسن أن تكون عند من كسر، لام كي عطف على {لِيَكْفُرُواْ} والأحسن أن تكون لام أمن لأن الكلام فيه معنى التهديد، فالأمر به أولى ليكون وعيد وتهدد بعقبة وعيد وتهدد. وأيضاً فإن تمتعهم بدنياهم ليس من شرط قوله: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} إذا لم يشركوا

ليتمتعوا، إنما أشركوا ليكفروا. فأما من أسكن اللام، فلا يجوز إلا أن تكون لام أمر لأن لام كي لا تسكن، إذ قد حذف معها أن، فلا يحسن حذف حركتها، فيجتمع في الكلمة حذفان وفي حرف أبي: {وَلِيَتَمَتَّعُواْ}، بغير لام، فهذا يدل على التهدد والوعيد. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} أي: ألم ير هؤلاء المشركون من قريش، ما خصصناهم به من النعم عليهم دون سائر الخلق إذ جعلنا بلدهم محرماً على الناس أن يدخلوه بغارة أو حرب، يأمن فيه من سكنه وآوى إليه من السِّبَاءِ والخوف والجذام.

{وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} أي: ويستلب الناس من حولهم قتلاً وسبباً. {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} أي: بالشرك بالله يقرون، وبنعمة الله التي خصهم بها يكفرون، أي: يجحدون. ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي: لا أحد أظلم ممن أختلف الكذب على الله، فقال إذا فعل فاحشة: الله أمرنا بها. {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} أي: منزلاً ومسكناً لمن كفر بالله وجحد نعمه عليه. وهو تقرير وتوبيخ ووعيد. ثم قال تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا} أي: والذين قاتلوا المشركين في نصر دين الله، {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي: لنوفقهم لاصابة الحق والطريق المستقيم، وهو الاسلام. {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} أي: من أحسن فجاهد أعداء الله. ومع هنا حرف، ويجوز أن تكون اسماً، وهي إذا فتحت حسن أن تكون اسماً وحرفاً وإذا سكنت لم تكن إلا حرفاً.

الروم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الروم مكية قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} إلى قوله {بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} قد ذكر تقدم ذكر " ألَمَ ". قال الفراء: في قوله " غَلَبِهِمْ ": الأصل غَلَبَتِهِم ثم حذفت التاء كما حذفت من " وإِقَامِ الصّلوَاتِ " والأصل وإقامة الصلاة وهذا غلط عند البصريين لأن التاء في وإقامة عوض من الحذف الذي وقع في المصدر لأن أصله إِقْوَام مثل إكرام ثم أُعِلَّ وحذف، فدخلت التاء عوضاً من المحذوف. وليس في غلبهم حذف فيجب أن يكون أصله التاء، يقال غلبته غَلَباً حكاه الأصمعي وغيره.

وسنين جَمعٌ مُسَلّم أتى فيما لا يعقل على الشذوذ. وقيل: جعل له الجمع المسلم عوضاً عن مما حذف منه. ويجوز أن يجعل الإعراب في النون كالمُكَسَّر. والأول أكثر، وكسرت السين لتدل على أنه جمع على غير بابه وأصله. والمحذوف من سنة واو، وقيل: المحذوف هاء. والمعنى غلبت فارس الروم على بيت المقدس، والروم بعد غلب فارس لهم سيغلبون فارساً على بيت المقدس في بضع سنين. وأدنى الأرض، أي في أدنى الأرض من أرض الشام إلى فارس.

وقرأ ابن عمر وأبو سعيد الخدري " غلبت " الروم بفتح الغين. وسئل ابن عمر على أي: شيء غلبت؟ فقال: على ريف الشام. والبِضْعُ عند قتادة أكثر من الثلاث ودون العشر. وعند الأخفش/ والفراء من دون العشرة. وعند أبي عبيد ما بين ثلاث إلى خمس.

وحكى أبو زيد فتح الباء فيه. وهو مشتق من بَضَعه إذا قطعه، ومنه بَضْعةٌ من لحم. وهو يملك بُضعَ المرأة يريد أنه يملك قطع فرجها. وقال ابن عباس: " كان المسلمون يحبون أن تغلِبَ الروم لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثانكَهُمْ، فذكر المشركون ذلك لأبي بكر رضي لله عنه، فذكره أبو بكر للنبي A، فقال النبي عليه السلام: أما إنهم سَيُهْزَمُون - يعني فارساً -، فذكر ذلك أبو بكر للمشركين فقالوا أفتجعل بيننا وبينك أجلاً فإن غلبوا كان لك كذا وكذا، وإن لم يغلبوا كان لك كذا وكذا، فجعلوا بينهم وبينه أجلاً خمس سنين، فمضت ولم يغلبوا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي عليه السلام فقال له: أفلا جعلته دون العشرة " قال أبو سعد الخدري: التقينا مع مشركي العرب يوم بدر، والتقت

اليوم الروم فارساً فنصرنا الله على مشركي العرب ونصر الروم على فارس، فذلك قوله جل ذكره: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله}. قال ابن عباس: لقي النبي A مشركي العرب يوم التقت الروم فارساً فنصر الله أهل الكتاب على العجم. " وروي أنه جرى بين أبي بكر وبين أمية بن خلف في ذلك كلام حتى وقع بينهما رهان على ثلاث قلائص إلى أجل ثلاث سنين. قال أبو بكر: إن الروم ستغلب فارساً إلى ثلاث سنين، وأنكر ذلك ابن خلف، فأتى أبو بكر النبي عليه السلام فأعلمه بما جرى بينهما فقال له النبي A: " ارجع واسْتَزِدْ في القَلائِصِ والسّنِين فَصَيّرِ الرّهَانَ إلى سَبع قلائِص وإلى سبع سنين ". فكان أول رهان في الإسلام وآخره ثم حرم الله الرهان "، فأخرج أبو بكر Bهـ في حين

عقد الرهان ثم القلائص، وأخرج أمية بن خلف ثم القلائص فاشتروا قلائص بنصف المال فنحروها وقسموها جزورً وأخروا نصف المال حتى غلبت لروم فارساً فرجع ذلك إلى أبي بكر. وروي: " أنهم جعلوا الأجل ست سنين، فمضت الستُّ، والفُرسُ ظَاهِرُونَ عَلَى الرُّوم، فأخذ المشركون رهان أبي بكر وارتاب ناس كثير وفَرِحَ بذلك المشركون. فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فكَبَّرَ المسلمون تكبيرة واحدة بمكة فآمن عند ذلك خلقٌ كثيرٌ من المشركين ". وإنما تعلق قريش بالفرس لأنهم مثلهم في التكذيب بالبعث، وتعلق المسلمون بالروم لأنهم مثلهم في الإيمان بالبعث. وقيل: كان ذلك لأن الفرس لا كتاب لهم كالمشركين، والروم لهم كتاب كالمسلمين. وروي: " أن النبي A أخبر أن الروم ستغلب فارساً، وأنكر ذلك المشركون فخاطرهم أبو بكر على ذلك، وكان الذي خاطره على ذلك أمية بن خلف الجمحي فأعلم النبي بذلك فقال النبي A لأبي بكر " ارجع فَزِد في الخَطِر وَالأَجَلِ " ففعل.

وضمن أبا بكر عن الخطر ولده عبد الرحمن وضمن أمية بن خلف صفوان ابن أمية، فغلبت الروم فارساً على بيت المقدس، وأخذ الخطر من قريش. قال ابن مسعود " خَمس " قَد مَضَينَ: الدخان واللّزَام والبطشة والقمرُ والرومُ ".

قال عكرمة: " اقتتل الروم وفارس في أدنى الأرض، وأدنى الأرض يومئذ أذْرِعَات بها التقوا، فهزمت الروم فبلغ ذلك النبي A وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبي A يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم. وفرح الكفار بمكة فلقوا المؤمنين من أصحاب النبي فقالوا له: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن واثبتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله جل ذكره: {الم * غُلِبَتِ الروم} الآيات، فخرج أبو بكر إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهرو إخوانكم الكفار على أخواننا، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله لتظهرن الروم على فارس، أخبرنا به نبينا A، فقال أبي بن خلف: كذبت يا أبا فضيل. فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: أنا حِبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتُ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمَت إلى ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى النبي A فأخبره فقال: ما هكذا ذَكَرتُ إِنَّما البِضعُ مَا بَينَ

الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فَزَايِدْهُ في الخَطَرِ وَمَادَّهُ فِي الأَجَلِ " فخرج أبو بكر فلقي أُبَيَّا فقال: لعلك ندمت فقال: لا تعال - ازايدك في الخطر وأمادك في الأجل فأجعلها مائة قلوص بمائة قلوص إلى تسع سنين، فقال: قد فعلت ". قال قتادة وذلك قبل أن ينهي عن القمار. وقال قتادة: قغلبت الروم فارساً عند رأس التسع سنين. وكان قد تم الأجل وطلب المشركون قمارهم فزايدهم المسلمون في القمار ومادوهم في الأجل، فغلبت الروم. وكان ذلك من دلائل نبوة محمد A لأنه أخبرهم عما يكون قبل أن يكون بسنين على ما أوحى الله إليه وأعلمه فكان في ذلك دلالة على صدقه فيما يأتي به وما يقول في أمور الغيب وغيرها، وهذا إنما كان قبل أن تُحَرَّمَ المخاطرة، فأما الآن فقد

حَرَّمَ ذلك النبي A فلا تجوز المخاطرة لأنها من أكل الأموال بالباطل. وقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}. أي: من قبل غلبة الروم فارس ومن بعد غلبة فارس اليوم، يقضي ما شاء في خلقه. وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله} أي: يوم ستغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بنصر الله، لأن في ذلك، دليلاً على صحة نبوة من أخبرهم بغلبة الروم فارساً في بضع سنين، ولأن فيه ظفراً بالمشركين إذا كان يكرهون أن تغلب الروم فارساً. ثم قال: {وَهُوَ العزيز} أي: الشديد في انتقامه من أعدائه. {الرحيم} بمن ناب من خلقه وراجع طاعته.

ثم قال تعالى ذكره: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} أي: وعد الله المؤمنين وعداً أن تغلب الروم فارساً، فلا يخلف الله وعده. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أكثر قريش لا يعلمون أن الله سينجز المؤمنين ما وعدهم من غلبة الروم فارساً وأنه لا خلف في وعده. ثم قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} أي: يعلم هؤلاء المشركون أمر معاشهم وما يصلحهم في الدنيا وتدبير ذلك، وهم في غفلة عن امر آخرتهم وما فيه النجاة من عذاب الله. قال ابن عبس: المعنى يعلمون متى يحصدون، ومتى يدرسون، ومتى يزرعون. وقال الحسن. وقال عكرمة: هم الخرازون والسراجون. وقيل: ما يزيدهم من الكذب على متأتيهم به الشياطين من استراق السمع. وقيل الظاهر هنا الباطل قال تعالى {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} [الرعد: 33] أي: باطل وقيل:

الظاهر البادي. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ الله السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق}. أي: أولم يتفكر هؤلاء المكذبون بالبعث في (خلق) أنفسهم وأنهم لم يكونوا شيئاً ثم صاروا رجالاً، وينظروا في لطف الصنع وإحكام تدبير خلقهم فيدل ذلك على توحيد الله، وعلى أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، فيعلموا أن الذي فعل ذلك يقدر على أن يعيدهم بعد إفنائهم خلقاً جديداً، فيجازيهم بأعمالهم. وقوله {إِلاَّ بالحق} أي: بالعدل وإقامة الحق. {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: مؤقت معلوم عنده، فإذا بلغ آخره أفنى ما أراد منه، وبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبعث الأموات فبرزوا لله جميعاً. ثم قال تعالى ذكره: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}. أي: الجاحدون منكرون البعث بعد الموت والجزاء على الأعمال، غفلة منهم وتفريطاً في أمر معادهم. قوله تعالى ذكره: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ}. " في أنفسهم " ظرف للتفكر، وليس بمفعول به للتفكر تعدى إليه بحرف جر.

فالمعنى: أولم يتفكروا في أنفسهم فيعلموا أن ما تقدم ذكره حق. أي: يُسِرُّوا التَّفَكُّر في أنفسهم فهما معنيان. وفي أنفسهم: تمام الكلام. وقيل: بل ما بعده متصل به أي: يُسِرُّوا التفكر في أنفسهم أن ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق. فأن مضمرة كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق} [الروم: 24] أي: أن يريكم، وكما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات} [الروم: 22] أي: أن خلق السماوات. قوله تعالى ذكره: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) [8] إلى قوله: (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [18]. أي: أولم يسير هؤلاء المكذبون بالبعث في الأرض/ فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذبة رسلها، كيف كان عاقبة أمرها، فقد كانوا أشد من هؤلاء قوة، (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: استخرجوها وحدثوها وعمروها أكثر مدة مما عمر هؤلاء الأرض، (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) فكذبوهم، فأهلكهم الله وما كان الله ليظلمهم بعقابه إياهم على تكذيبهم رسله، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعصيتهم ربهم. ثم قا ل تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).

أي: ثم كان آخر من كفر من هؤلاء الذين أثاروا الأرض السوأى: أي الخلة التي هي أسوأ من فعلهم: البوار والهلاك في الدنيا، والنار في الآخرة خالدين فيها. قال ابن عباس: السوأى جهنم والحسنى الجنة. قال قتادة: كان عاقبة الذين أشركوا النار. والسوآى اسم. وقيل مصدر كالتقوى. قال مجاهد: السوآى: الإساءة. ثم قال: (أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) أي: عاقبتهم النار لأن كذبوا ومن أجل أن كذبوا بحجج الله ورسله. (وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) أي: بحجج الله وأنبيائه يسخرون. ثم قال تعالى: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي: ينفرد بإنشاء جميع خلقه من قدرته، ثم يعيده بعد إفنائه له خلقا جديدا. (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي: يردون فيجازيهم بأعمالهم. ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) أي: واذكر يا محمد يوم تقوم الساعة ييأس الكافرون من كل خير.

وأصل الإبلاس: انقطاع الحجة والسكوت والحيرة. قال قتادة: "يبلس المجرمون" أي: في النار. وقال ابن زيد: المبلس الذي قد نزل به الشر. وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة. (ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ). أي: ولم يكن للمجرمين من شركائهم في الكفر والمعصية وأذى الرسل شُفَعَاء ينقذونهم من عذاب الله. وقيل: شركاؤهم هنا الأصنام والأوثان التي عبدوها من دون الله، أضيفت إليهم لأنهم هم اخترعوها وابتدعوا عبادتها. (وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ) أي: جاحدون ولا يتهم متبرئين منهم وهو معنى قوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الآية. ثم قال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) أي: يتفرق المؤمنون من

الكافرين. قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها. ثم بين تعالى ما يؤول إليه الافتراق. فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ). أي: هم في الرياض والنبات الملتف بين أنواع الزهر في الجنات يسرون ويلذذون بطيب العيش والسماع. وذكر الله جل ذكره الروضة لأنهم لم يكن عند العرب شيء أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض وعبقها. "أما" عند سيبويه: مهما يكن من شيء فالذين آمنوا.

وقال أبو إسحاق: معناها دع ما كنا (فيه) وخذ في غيره. وقال أبو عبيدة: الروضة ما كان في سفل، وإن كان مرتفعاً فهي ترعة. وقال الضحاك: "في روضة" في جنة، والرياض الجنان. والحبرة في اللغة كل نعمة حسنة، والتحبير التحسين وقال ابن عباس: يحبرون: يكرمون.

وقال مجاهد: ينعمون. قال الكسائي: حبرته: أكرمته ونعمته. ثم قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا توحيد الله وكذبوا وسله، وأنكروا البعث. (فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) أي: في عذاب الله مجموعون، قد أحضرهم الله إياه. ثم قال تعالى ذكره: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) سبحان مصدر يؤدي عن معنى سبحوا الله تسبيحاً في هذه الأوقات الأربعة، أي: نزهوه من السوء. وقيل: سبحان مأخوذ من السبحة، والسبحة الصلاة، وسبحة الضحى: صلاة الضحى. وقرأ عكرمة: "حيناً تمسُون وَحِيناً تُصْبِحُون" بتنوين حين ونصبه في الوجهين على الظرف. والتسبيح هنا الصلاة، فالمعنى صلوا أيها المؤمنون حين تمسون

صلاة المغرب والعشاء الآخرة، وحين تصبحون صلاة الصبح، وعشياً صلاة العصر، وحين تظهرون صلاة الظهر. وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). أي: له الحمد من جميع خلقه دون غيره من سكان السماوات والأرض. قال ابن عباس: هذه الآية في الصلوات الأربع: الظهر والعصر والصبح والمغرب، وصلاة العشاء في قوله تعالى/ (وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) هذا معنى قوله. روي عنه: وعشياً: المغرب والعشاء. وقال زِرٌّ: "خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس في شيء، ثم قال نافع لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله؟ قال ابن عباس: نعم ثم قرأ عليه: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ): المغرب، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفجر، (وَعَشِيًّا): العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ): الظهر، "ومن بعد صلاة العشاء": العشاء. وعن ابن عباس قال: جمعت هذه الآية الصلوات الخمس وقال "حين تمسون":

المغرب والعشاء. وقال مجاهد: "حين تمسون": المغرب والعشاء، "وحين تصبحون": الفجر، "وعشياً": العصر، "وحين تظهرون": الظهر. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ هذه الآية وقال: "هذا حين افترض وقت الصلاة". وأول وقت الظهر زوال الشمس إجماعاً. وآخر وقتها عند مالك: إذا كان ظل كل شيء مثله بعد الزوال وهو قول الثوري والشافعي وأبي ثور.

وقال يعقوب ومحمد بن الحسن: آخر وقتها أن يكون الظل قامة. وقال عطاء: آخر وقتها إلى أن تصفر الشمس. وقال طاوس: لا يفوت الظهر والعصر حتى الليل.

وقال النعمان: آخر وقتها ما لم يصر الظل قامتين. وأول وقت العصر: إذا كان ظل كل شيء مثله. هذا قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور. وقال النعمان: أول وقتها أن يصير الظل قامتين بعد الزوال. وآخر وقتها أن يصير [ظل] كل شيء مثليه على الاختيار، فإن صلى بعد ذلك فقد فاته الاختيار ولم يفته وقت الصلاة، قاله الثوري والشافعي وقال أحمد وأبو ثور: آخر وقتها ما لم تصفر الشمس.

وقال إسحاق بن راهويه: آخر وقتها غروب الشمس قبل أن يصلي المرء منها ركعة. وعن ابن عباس وعكرمة: أن آخر وقتها غروب الشمس على الإطلاق. ووقت المغرب غروب الشمس وقتاً واحداً، هذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: وأحمد وإسحاق: آخر وقتها الشفق. وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق إجماعاً. والشفق الحمرة في قول مالك والثوري وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وأبي ثور ويعقوب ومحمد. وهو قول أهل اللغة، يقال ثوب مشفق أي: محمر.

وروي عن أنس وابن عباس وأبي هريرة أن الشفق: البياض وهو قول النعمان وزفر. وقال النخعي: آخر وقتها إلى ربع الليل. وعن عمر وأبي هريرة وعمر بن عبد العزيز: أن آخر وقتها ثلث الليل. وبه قال الشافعي وقد كان يقول آخر وقتها نصف الليل ولا يفوت إلى الفجر. وعن عمر أيضاً أن آخر وقتها نصف الليل، وبه قال الثوري وابن المبارك.

وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي: وعن ابن عباس وعطاء وعكرمة وطاوس: أن آخر وقتها إلى طلوع الفجر. وأول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر إجماعاً. وأجمعوا على أن من صلى بعد الفجر وقبل طلوع الشمس أنه قد صلى الصبح في وقتها. ثم قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي: صلوا ما أمرتم به لله الذي يفعل هذا لا يقدر على فعله أحد غيره، يخرج الإنسان الحي من الماء الميت، ويخرج الماء الميت من الإنسان الحي، ويحيي الأرض بالماء فينبتها ويخرج زرعها بعد موتها. (وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) أيها الناس من قبوركم للبعث والمجازاة. وقال الحسن: معناه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وذكر أبو عبيد أن سهل بن معاذ بن أنس روي عن أبيه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

6

قوله تعالى ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} إلى قوله: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ}. أي: ومن علاماته وحججه على وحدانيته وأنه لا شريك له وأنه يحييكم بعد موتكم، أنه خلقكم من تراب، أي: خلق أصلكم وهو آدم من تراب. {إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ} أي: من ذرية من خلق من تراب. {تَنتَشِرُونَ} أي: تنصرفون وتنبسطون في الدنيا. ثم قال تعالى ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض}. أي: ومن أدلته وحجته/ في قدرته على إحيائكم بعد موتكم أنه خلق السماوات والأرض، وهن أعظم خلقاً منكم فاخترعها وأنشأها، وجعل ألسنتكم مختلفة في الأصوات واللغات، وجعل ألوانكم مختلفة على كثرتكم، وهذا ألطف خلقا من خلق أجسامكم، فأتى تعالى ذكره بتمثيل الخلق العظيم واللطيف. {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} أي: لعلامات وأدلة في قدرة الله تعالى ووحدانيته، يعني: الجن والإنس.

وهذا على قراءة من فتح اللام. ومن كسرها فمعناه لم علم قدرة الله وأيقن بها. وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا}. أي: خلق لأبيكم آدم من ضلعه زوجة ليسكن إليها. وقيل: خلق الزوجة من نطفة الرجل. {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي: بالمصاهرة والختونة يعطف بعضهم على بعض. قال ابن عباس: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن لا يمسها بسوء. وقال مجاهد: المودة الجماع، والرحمة الولد. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: لمن تفكر في الله ووحدانيته، أي: من قدر

على هذا فهو قادر على إحياء الموتى، وأنه واحد لا شريك له. ثم قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ} أي: ومن حججه وأدلته على توحيده وقدرته على إحياء الموتى، أنه يقدر الساعات والأوقات، ويخالف بين الليل والنهار، فجعل النهار تبتغون فيه الرزق والمعاش، وجعل الليل سكناً لتسكنوا فيه وتناموا. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالنهار، وحذف حرف الجر من النهار لا تصاله بالليل وعطفه عليه. والواو تقوم مقام حرف الجر إذا اتصلت بالمعطوف عليه في الاسم الظاهر خاصة. ومثله في التقديم والتأخير قوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: فيما نص من قدرته لدلالة وحججاً وعبرة وعظة لمن سمع مواعظ الله فيتعظ بها ويعتبر. ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً} أي: ومن آياته أنه يريكم البرق. " وخوفاً وطمعاً " مفعولان من أجلهما. وقيل التقدير: ويريكم البرق خوفاً وطمعاً من آياته.

والمعنى: من حججه وأدلته على توحيده وإحياء الموتى أنه يريكم البرق خوفاً للمسافر أن يؤذيه المطر، وطمعاً للمقيم أن يسقي زرعه وتخصب أرضه. {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: وينزل من السحاب مطراً فيحيي بذلك الماء الأرض الميتة التي قد يبست ولم تنبت نبتاً، فتنبت بعد جدوبها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: يعقلونَ عن الله حججه وأدلته. ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} أي: ومن حججه وأدلته على توحيده وقدرته قيام السماوات والأرض بأمره خضوعاً له بالطاعة بغير عمد. {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: إذا دعاكم للبعث خرجتم من بطن الأرض مستجيبين لدعائه إياكم. روي عن نافع أنه وقف " دعاكم دعوة ". وكذلك قال يعقوب. ثم يتبدئ " من الأرض ".

{إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي: إذا أنتم تخرجون من الأرض. والوقف عند أبي حاتم: من الأرض ". أي: دعاكم وأنتم في الأرض، كما تقول دعوت فلاناً من بيته. أي: وهو في بيته. والأحسن عند أهل النظر أن على " تخرجون "، لأن إذا الثانية جواب للأولى على قول الخليل وسيبويه، كأنه قال: إذا دعاكم خرجتم. ثم قال تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي: هم عبيد له ومُلك له، لا إله إلا هو. {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي: مطيعون. وطاعة الكفار منهم انقيادهم على ما شاء من صحة وسقم وفقر وغنى، روى الخدري عن النبي A قال: " كُلُّ قُنُوتٍ فِي الْقُرآنِ

27

فَهُوَ طَاعَة ". قال ابن عباس: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي: مطيعون في الحياة والنشوز من الموت وإن كانوا عاصين له في غير ذلك. وهو اختيار الطبري وقيل: معناه أنهم مقرين/ كلهم بأنه ربهم وخالقهم، دليله قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87]. وقيل: معنى الآية الخصوص: يريد بها المؤمنين بالله خاصة. قال ابن ز يد: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون وليس شيء إلا هو قانت مطيع لله إلا ابن آدم، كان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. قال: والقنوات في القرآن الطاعة إلا في قوله جل ذكره: {وَقُومُواْ للَّهِ قانتين} [البقرة: 238] معناه: ساكتين لا يتكلمون كما يفعل أهل الكتاب. قوله تعالى ذكره: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إلى قوله: {بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. أي: والذي له هذه الصفات هو الذي يبدؤ الخلق من غير أصل وأمثال ثم يفنيه ثم يعيده بعد إفنائه كما بدأ.

{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: وإعادته هين عليه، قال ابن عباس. وقيل: المعنى: الإعادة أهون على المخلوق لأنه يقوم بشراً سوياً، وقد كان في الابتداء ينقل من حال إلى حال. روي ذلك أيضاً عن ابن عباس. وعن ابن عباس: أن معناه: وهو أيسر عليه. وقاله مجاهد. فيكون هذا بمنزلة قوله: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 30]. وقال عكرمة: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى فنزلت هذه الآية. فالمعنى عنده: إعادة الخلق أهون عليه من ابتدائه. وقال قتادة: إعادة أهون عليه من بدايته، وكل شيء عليه هين.

وفي حرف ابن مسعود: " وَهُوَ عَلَيَّ هَيّن ". وقيل أهون على بابها، على معنى أسهل عليه من الابتداء. وجاز ذلك في صفات الله كما قال: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} [النساء: 30]. وحسن ذلك كله لأن الله خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون البعث أسهل من الابتداء، فجعله مثلاً لهم لأنهم كذلك يعرفون في عادتهم أن إعادة الشيء مع تقدم مثال أسهل من اختراع الشيء بغير مثال تقدم، فهو مثل لهم على ما يفهمون، ألا ترى أن بعده: {وَلَهُ المثل الأعلى}، معناه: أنه لا إله إلا هو لا مثال له. قال ابن عباس: {وَلَهُ المثل الأعلى} ليس كمثله شيء. وقال قتادة: مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره.

وقيل: المعنى ما أراد كان. وحقيقته في اللغة أن المثل الوصف. فمعنه وله الوصف الأعلى من كل وصف. {وَهُوَ العزيز} في انتقامه من أعدائه {الحكيم} في تدبيره خلقه على ما يشاء. ثم قال تعالى ذكره: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: مثل الله لكم أيها القوم مثلاً من أنفسكم. ثم بيّن ذلك المثل فقال: {هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: هل من مماليككم شركاء في أموالكم أنتم وهم في المال سواء. {تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: تخافون من عبيدكم في أموالكم أن يرثوكم بعد وفاتكم كما يرث بعضكم بعضاً. وقيل: المعنى تخافونهم كما يخاف الشريك شريكه إذا تعدى في المال بغيره - أي: شريكه -. وقيل: المعنى تخافونهم أن يقاسموكم كما يقاسم الشريك شريكه فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسهم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم شركاء لله في العبادة، وأنتم وهم عبيد الله وخلقه، وهو تعالى ذِكْرُهُ مالك الجميع، فجعلتم له شركاء من مماليكه وخلقه، ولا ترضون أنتم أن يكون لكم شركاء من مماليككم. هذا معنى قول قتادة.

ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: نفصل الآيات تفصيلاً، كذلك، أي: نفصلها في كل سورة ونبينها كما فصلنا هذه الآيات في هذه السورة لمن يعقل عن الله حججه. ثم قال تعالى: {بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: عبدو الأصنام وأحدثوا لله شركاء اتباعاً منهم لما تهوى أنفسهم جهلاً منهم بطريق الحق. {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله} أي: من يسدد للصواب ويوفق للإسلام من أضله الله عن الاستقامة والرشاد. {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي: وما لمن أضل الله من ناصر ينصره من الضلالة. ثم قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}. أي: اتبع الذي أمرك الله به حنيفاً أي: مستقيماً. {فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} انتصب " فطرت " على معنى اتبع فطرة الله وقيل: هو مصدر عمل فيه الجملة التي قبله. والمعنى فطر الله الناس/ على ذلك فطره. فالحَنَفُ: الاستقامة، ولذلك قيل للمعوج الرِّجل: (أحنف) على التفاؤل، كما قيل للمهلكة مفازة، والمفازة: النجاة، وقيل للأعمى بصير على التفاؤل في ذلك.

قيل معنى حنيفاً: مائلاً عن كل الأديان إلى الإسلام. فيكون الحَنَف على هذا: الميل، كما قيل للمائل الرِّجل: أحنف وقيل: على بمعنى اللام، والتقدير: التي فطر الناس لها، أي: لاتباعها، أي: دين الله خلق الناس لاتباعه. كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. فالمعنى دين الله المفطور له الناس، أي: المخلوق الناس له أي: خلقوا لاتباع الدين. قال ابن زيد " فطرت الله " الإسلام، منذ خلقهم يقرون بذلك، وقرأ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} [الأعراف: 172] الآية. وهو قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} [البقرة: 213] وقاله مجاهد أيضاً. وفي الحديث: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَى يَكُونَ أبَواهُ هُمَا اللَّذَانَ يُهَوِّدَانِهِ

أَوْ يُنَصّرَانِهِ ". قال الأوزاعي وحماد بن سلمة: هذا الحديث مثل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ} الآية فالمعنى: كل مولود يولد على العهد الذي أخذ عليه. وفي الحديث: " أَخْرَجَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ عَلَى ذَلِكَ الْعَهْدِ يُولَدُ " وقيل: معنى الآية: خلقة الله التي لا يعرفونها لا تميز شيئاً.

وقال ابن المبارك: هذا لمن يكون مسلماً، يذهب إلى أنه مخصوص. وقال محمد بن الحسن: هذا قبل أن تنزل الفرائض ويؤمر بالجهاد. وقوله جلّ ذكره: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}. معناه: لا تبديل لدين الله، أي: لا ينبغي لك أن تفعل ذلك، قاله مجاهد وعكرمة قتادة والضحاك والنخعي وابن زيد. وقال ابن عباس: معناه لا تغيير لما خلق الله من البهائم، لا تخصى، وكره خصاء البهائم وقرأ الآية. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الدين القيم} أي: هذا الذي تقدم ذكره هو الدين المستقيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك. ثم قال تعالى ذكره: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتقوه} أي: أقيموا وجوهكم للدين حنفاء منيبين إليه، أي: راجعين إلى طاعته. وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} هو خطاب للنبي A والمراد به أمته فلذلك جاء الحال بلفظ الجمع. فلا تقف على يعلمون. وقيل: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين إليه.

قال ابن عباس: " منيبين ": مقبلين بكل قلوبكم. قال ابن زيد: المنيب: المطيع. وأصله في اللغة الراجع عن الشيء. {واتقوه} أي: وخافوه أن تفرطوا في طاعته. {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي: بحدودها في أوقاتها. {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} أي: ممن عبد مع الله غيره وضيع فرائضه. ثم بينهم فقال تعالى ذكره: {مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} يعني اليهود والنصارى، قاله قتادة. وقال ابن زيد: هم اليهود. وقالت عائشة Bهـ وأبو هريرة: هي في أهل القبلة. ومعنى {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي: أحزاباً. {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: كل طائفة تفرح بما هم عليه من الدين وتظن أن الصواب معها. وهذا أمر من الله جل ذكره بلزوم الجماعة وترك تفريق الكلمة وتنبيه منه أن

33

الفرقة معها الضلالة. قوله تعالى ذكره: {وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} إلى قوله {أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ}. أي: وإذا مس هؤلاء المشركين وغيرهم ضر من مرض أو جدب ونحوه {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: أخصلوا له الدعاء والتضرع، {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً}، إي: فرج عنهم الضر {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} يعني المشركين. ثم قال تعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ}. إن جعلت اللام لام كي لم تقف على " يشركون "، ولكن تقف على {آتَيْنَاهُمْ}، وإن جعلتها لام أمر لأن الكلام فيه معنى التهديد ابتدأت بها إن شئت، ووقفت على {يُشْرِكُونَ}، ولم تقف على {آتَيْنَاهُمْ}. وقوله: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يدل على أنها لام أمر لأن هذا وعيد وتهديد لا شك فيه، فحمل الكلام على معنى واحد أحسن. والمعنى على الأمر: اكفروا وتمتعوا بالصحة والرخاء فسوف تعلمون عاقبتكم إذا أوردتم على ربكم. ثم قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي: كتاباً وحجة في عبادتهم الأوثان. {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: فذلك الكتاب ينطق بصحة شركهم. فالمعنى: لم ننزل عليهم شيئاً من ذلك إنما اختلفوا من عند أنفسهم اتباعاً لأهوائهم.

قال ابن عباس: كل سلطان في القرآن فهو عذر وحجة/. ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا} أي: وإذا مس الناس خصب ورخاء وصحة فرحوا بذلك. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: وإن تصبهم شدة جدب أو مرض أو إتلاف مال بذنوبهم المتقدمة {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي: يئسون من الفرح، والقنوط: اليأس. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ} أي: ألم ير هؤلاء الذين ييأسوا عند الشدة ويفرحون عند الرخاء أن الله يوسع على من يشاء في رزقه، {وَيَقْدِرُ} أي: ويضيق على من يشاء في رزقه. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي: إن في توسيعه الرزق على بعض خلقه وتضييقه على بعض، لدلالات وحججاً على قدرة الله لمن آمن بالله. ثم قال تعالى: {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ}. قال مجاهد وقتادة: هو قريب الرجل، صلة الرحم له فرض من الله جل ذكره. وقال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه محتاجه. وقال قتادة: إذا لم تعط ذا قرابتك وتمش إلأيه برجليك فقد قطعته.

وقيل: القربى هنا قرابة رسول الله A. مُنَزَّلة مَنْزِلة قوله تعالى ذكره: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الأنفال: 41] فيكون المعنى: فأعط يا محمد ذا القربى منك حقه عليك. وقوله: {والمسكين وابن السبيل} أي: وَفِّيهم حقهم إن كان يُسْر، وإن لم يكن عندك شيء فقل لهم قولاً معروفاً. وابن السبيل: الضيف. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي: إتيان هؤلاء حقوقهم التي ألزمها الله جل ذكره عباده خير للذين يريدون بما يعطون ثواب الله. {وأولئك هُمُ المفلحون} أي: الباقون في النعيم الفائزون. ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} أي: ما أعطى بعضهم بعضاً ليرد الآخذ على المعطي أكثر مما أخذ منه فلا أجر فيه للمعطي لأنه لم يبتغِ في إعطائه ثواب الله، إنما ابتغى الازدياد من مال الآخذ، فذلك حلال لكم ولا أجر لكم فيه.

وهو محرم على النبي عليه السلام خاصة بقوله تعالى {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] أي: لا تعط عطية لتأخذ أكثر منها. قال ابن عباس: هو الرجل يهدي الهدية فيطلب ما هو أفضل منها. فليس له أجر ولا عليه إثم، وهو معنى قول مجاهد والضحاك وقتادة. وقيل: هو الرجل يعطي الرجل العطية ليخدمه ويعينه لا لطلب أجر. وقيل: هو الرجل يعطي الرجل ماله ليكثر مال لآخذ للثواب. وقيل: هو الربا المحرم. ومعنى: {فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} عند من قال: هو المحرم، لا يحكم به لأحد، بل هو للمأخوذ منه. قال تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} أي: وما

أعطيتم من صدقة تريدون بها ثواب الله لا الازدياد من مال الآخذ ولا الثناء عليها، فأولئك الذين يكون لهم الأضعاف من الأجر، يضاعف لهم الحسنات. وقيل: المعنى يضاعف لهم الخير والنعيم. ويلزم من قال هذا التفسير أن يكون اللفظ: {المضعفون} بفتح العين لأنهم فعول بهم. لكن تحقيق المعنى مع كسر العين: فألئك هم الذين أضفعوا لأنفسهم حسناتهم، أي: هم المضعفون لأنفسهم الحسنات، لأن من اختار عمل الحسنة فقد اختبار عمل عشر حسنات لنفسه، ويضاعف الله لمن يشاء أكثر من عشر على الحسنة الواحدة. ثم قال تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ} أي: اخترعكم ولم تكونوا شيئاً، ثم رزقكم وخولكم ولم تكونوا تملكون شيئاً، ثم هو يميتكم ثم هو يحييكم ليوم القيامة، فالعبادة لا تصلح إلا لمن هو هكذا. {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذلكم مِّن شَيْءٍ} أي: هل يفعل شيئاً من خلق أو موت أو بعث أو رزق أو ضر أو نفع، آلهتكم التي تعبدون، فلا بُدَّ لهم أن يقروا أنها لا تفعل شيئاً من ذلك فيعلمون أنهم على باطل. ثم قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيها لله وبراءة له عما يشركون به. ثم قال تعالى: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} أي: ظهرت المعاصي لله في الأرض وبحرها بذنوب الناس. قال مجاهد وعكرمة: البحر هنا الأمصار، والبر: الفلوات، ظهرت/ فيها معاصي ابن آدم.

وقال قتادة: هذا قبل مَبْعَثِ النبي A، امتلأت الدنيا ضلالة والظلمة، فلما بُعِثَ النبي عليه السلام رجع راجعون من الناس، قال أما البر فأهل العَمُود وأما البحر فأهل القرى والريف. والتقدير على هذه الأقاويل: ظهر الفساد في مواضع البر والبحر. وقيل: المعنى ظهر الفساد في مدن البر ومدن البحر. والفساد: الجدب بذنوب بني آدم. وقيل: الفساد ظهور المعاصي فيها وقطع السبيل والظلم وعن مجاهد: أن البر القرى والأمصار، والبحر بحر الماء المعروف قال: في البر: ابن آدم الذين قتل أخاه، وفي البحر: الذي كان يأخذ كل سفينة غضباً. وهو قول ابن أبي نجيح.

43

وقال قتادة: الفساد الشرك. وعن ابن عباس أنه قال: الفساد نقصان البركة بأعمال العباد حتى يتوبوا. فالمعنى على هذا: ظهر الجدب في البر والبحر، وظهور الفساد في البحر انقطاع مادة صيده وذلك بذنوب بني آدم. وقال الحسن: أفسد الله بذنوبهم بَرَّ الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة لعلهم يرجعون، أي: يرجع من يأتي بعدهم. ثم قال تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} أي: ليصيبهم بعقوبة بعض ذنوبهم. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: ينيبون إلى ترك المعاصي ويتوبون. ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا} الآية. هي مثل " أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ " في أول السورة. وقد تم تفسيرها. ومعنى {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} أي: مثلكم يا قريش. قوله تعالى ذكره: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القيم} إلى قوله: {فَهُمْ مُّسْلِمُونَ}. أي: اتبع يا محمد الدين أمرك الله به فهو المستقيم. فالمعنى: أسلم على الدين القيم واعمل به أنت ومن اتبعك من قبل ان ينقطع وقت العمل بالموت وقيام الساعة. والخطاب للنبي A والمراد أمته.

{مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي: لا بد من إتيانه وهو يوم القيامة. {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أي: يتفرقون في ذلك اليوم، فريق في الجنة وفريق في السعير. يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع لأنه تفرق شعب الرأس. ثم قال تعالى ذكره {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: إثم وزره. {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} أي: من آمن وأدى ما افترض الله عليه. {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي: فلأنفسهم يستعدون ويوطئون. قال مجاهد: يمهدون في القبر. ثم قال: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ} أي: يومئذ يتفرقون ليجزي المؤمنين من فضله، أي: يومئذ يتفرقون لهذا الأمر، فيخص بالجزاء المؤمنين خاصة لأنه لا يحب الكافرين. ثم قال تعالى ذكره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} بالغيث. {وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ} أي: ولينزل عليكم من رحمته، وهي الغيث الذي يحيي به البلاد. {وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ} أي: السفن في البحر بأمره إياها.

{وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: تلتمسوا من رزقه الذي قسمه في سفركم في البحر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون على هذه النعم. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات} هذه الآية تسلية للنبي A إذ كذبه قريش، فأعمله الله أنه قد أَرْسَل من قبله رسلاً إلى قومهم كما أرسله إلى قومه، وأن أولئك الرسل أَتَوْا أقوامهم بالبينات، أي: بالحجج الظاهرة كما جئت أنت يا محمد قومك بذلك. {فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} في الكلام حذف والتقدير فكذبوا الرسل فانتقمنا من المكذبين، فكذلك تفعل بقومك يا محمد في تكذيبهم إياك. {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} أي: ونجينا المؤمنين إذ جاء بأسنا، وكذلك نفعل بك يا محمد ومن آمن بك. وقيل: المعنى: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين على الكافرين، فكذلك ننصرك ومن آمن بك على الكافرين من قومك. وفي الحديث: " مَنْ رَدَّ عَلَى عِرْضِ صَاحِبِهِ رَدَّ الله عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ ثُمَّ تَلَى رَسُولُ الله: " وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤمِنِينَ " والتمام عند نافع آخر واو.

وقف بعض الكوفيين، " وَكَانَ حَقًّا " أي: فكان انتقامنا/ حقاً، ثم يبتدئ " عَلَيْنَا نَصْرُ المؤُمِنِينَ ". نصر ابتداء، وخبره علينا. والوقف عند أبي حاتم: " نَصْرُ المُؤمِنِينَ ". ثم قال تعالى: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي: ينشئ الرياح سحاباً، {فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ} ويجمعه. قال قتادة: يبسطه: يجمعه. ثم قال تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} أي: ويجعل الله السحاب في السماء قطعاً متفرقة، وهو جمع كسفة، وهي القطعة منه. ومن أسكن السين فمعناه: أنه يجعل السحاب قطعة واحدة ملتئمة. ويجوز أن يكون معناه كالأول على التخفيف. ثم قال تعالى: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي: المطر يخرج من بين السحاب. قال عبيد بن عمير: الرياح أربع: يبعث الله جل ذكره ريحاً فتعم الأرض

قماً، ثم يبعث الريح الثانية فتثير سحاباً فتجعله كسفاً، أي: قطعاً متفرقة، ثم يبعث الريح الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاماً، ثم يبعث الرابعة فتمطر. ومعنى {مِنْ خِلاَلِهِ}: من خلال الكسفة، لأن كل جمع بينه وبين واحده الهاء فالتذكير فيه حسن. وخلال جمع خلل. وقد قرأ الضحاك: " يَخْرُجُ مِنْ خَلَلِهِ ". ثم قال تعالى: {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ} أي: بالمطر {مَن يَشَآءُ} أي: أرض من يشاء من عبادة استبشروا وفرحوا. ثم قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي: وإن هؤلاء الذين أصابب بالغيث أرضهم كانوا يئيسين من الخير قبل أن ينزل عليهم الغيث. وقوله: {مِّن قَبْلِهِ} تأكيد للأول عند الأخفش.

وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل: التقدير من قبل تنزيل الغيث [من قبل رؤية السحاب. وقيل: المعنى وإن كانوا من قبل تنزيل الغيث] عليهم من قبل أن يزرعوا لمبلسين، ودل المطر على الرزع لأنه خرج بسبب المطر، ودل على ذلك أيضاً {فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} يعني الزرع. ثم قال تعالى: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله} أي: انظر يا محمد إلى أثر المطر في الأرض كيف حييت بعد موتها، وأنبتت بعد قحطها، واهتزت بعد جدبها، فكذلك يحيي الله الموتى بعد فنائهم. ومن قرأ " أَثَرِ رَحْمَةِ اللهِ " بالتوحيد ورده على التوحيد في: " فَيُبْسِطُهُ "، و " يَجْعَلُهُ "، و " مِنْ خِلاَلِهِ "، " وَأَصَابَ بِهِ "، " وَمِنْ قَبْلِهِ ".

ومن قرأ بالجمع رده على الأسباب المتقدمة وهي: إرسال الريح، وإثارتها السحاب، وبسطه آياه في السماء، وجعله إياه كسفاً، وإخراجه الودق، فهذا كله آثار جليلة وليست بأثر واحد فجمع على ذلك. ثم قال: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الموتى} أي: إن الذي يحيي هذه الأرض بعد موتها لمحيي الموتى بعد موتهم. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: لا يمتنع عليه فعل شيء أراده. والمضر في " يحيي الأرض " يجوز أن يكون للمطر، ولله جل ذكره، وللأثر. وقرأ محمد اليماني " كَيْفَ تُحْيِي " بالتاء رده على الرحمة، أو على الآثار. ثم قال تعالى ذكره: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} أي: ولئن أرسلنا ريحاً مفسدة لما أنبت الغيث فرأوا ما أنبت الغيث مصفراً قد فسد بتلك الريح. {لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} أي: لصاروا من بعده فرحهم واستبشارهم بالغيث

54

يفكرون، أي: يجحدون نعم الله، فالهاء في " رَأَوْهُ " للنبات من زرع وغيره. وقيل: الهاء للسحاب. وقيل: للريح. ثم قال تعالى: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} الآية. أي: إنك يا محمد لا تقدر أن تسمع من مات قلبه، ولا من أصم الله أذنه عن سماع الإيمان وهو الكافر لأنه كالميت الأصم. وهذا مَثَلٌ [ضربه] الله للكفار. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِهَادِ العمي عَن ضَلاَلَتِهِمْ} الآية. أي: لست يا محمد تقدر أن تهدي من أعماه الله تعالى عن الهدى. {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ} أي: تسمع إلا من وفقه الله للإيمان، وقد تقدم تفسير الآيتين بأشبع من هذا في " الأنبياء ". قوله تعالى ذكره: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} إلى آخر السورة.

هذه الآية احتجاج على من أنكر البعث، فتقرر عندهم أنه تعالى خلفهم من ضعف وهو النطفة، فجعله بشراً قوياً، ثم رد القوي إلى الضعف وهو الهرم والشيب، فمن فعل هذا يقدر على إحيائكم بعد موتكم. والضعف بالفتح: المصدر، والضعف بالضم الاسم. وروى عطية عن ابن عمر أنه قال: " قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيّ A الَّذي خَلَقَكُم مِنْ ضَعْفٍ " فقال لي: " مِنْ ضُعْفٍ ". وقرأ عيسى بن عمر " مِنْ ضُعُف " بضمتين/. وأجاز الكوفيون ضَعَفٍ بفتح الضاد والعين لأجل حرف الحلق. ثم قال: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}.

أي: يخترع ويحدث ما يشاء. {وَهُوَ العليم} أي: بخلقه، {القدير} أي: القادر عليهم. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون} أي: ويوم تجيئ ساعة البعث فيبعث الله الخلق، يحلف الكفار ما لبثوا فيب قبورهم غير ساعة واحدة. قال قتادة: لما عاينوا الآخرة هان عندهم ما لبثوا. {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} أي: كما كذبوا في قولهم في الآخرة ما لبثها في قبورنا غير ساعة، كذلك كانوا في الدنيا يكذبون، أي: يصرفون الصدق إلى الكذب. وقيل معنى ذلك: أن الكفار لابد لهم من خمدة بين النفختين فلم يدروا مقدار ذلك فقالوا: ما لبثنا غير ساعة. وقيل: معناه: ما لبثنا في الدنيا غير ساعة، هان عليهم مكثهم في الدنيا لا نقطاعه وزواله، فادعوا أنهم ما لبثوا فيها غير ساعة. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث فهذا يَوْمُ البعث}. هذا رد من المؤمنين على الكفار يوم القيامة دعواهم أنهم ما لبثوا غير ساعة، تقديره عند قتادة: وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث.

وقال ابن جريج " تقديره: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان بالله وبكتابه لقد لبثتم إلى يوم البعث. وقيل: المعنى على غير تقدير ولا تأخير، والتقدير: وقال الذين أعطاهم الله العلم به والإيمان لقد لبثتم في اللوح المحفوظ إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، أي: يوم يبعث الناس من قبورهم، ولكنكم كنتم لا تعلمون في الدنيا أنه يكون وأنكم تبعثون بعد الموت، ولذلك كذبتم به. وقيل: التقدير: لقد لبثتم في حكم الله وتقديره إلى يوم البعث. ثم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ}. أي: لا ينتفعون بعذر يعتذرون به من كفرهم وجحودهم ونفيهم للبعث. {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يقيمون في أنفسهم ولا يسترجعون. روي أنه لما رد المؤمنون عليهم سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذرا ولا استعتبوا. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي: مَثَّلْنَا للناس في القرآن من كل مثل يدلهم على الهدى احتجاجاً عليهم وتنبيهاً لهم. ثم قال تعالى: {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} أي: وإن جئتم يا محمد بدلالة على صدق ما تقول لهم. {لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا} أي: الذين جحدوا آيات الله ورسله.

{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} فيما جئتم به. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: كتم الله على قلوب الذين لا يعلمون حقيقة ما تأتيهم به يا محمد من عند الله. ثم قال جل ذكره لنبيه A: { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}. أي: اصبر على أذاهم وتكذيبهم إياك، إن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم حق لا بد منه. {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} أي: لا يستخفن حلمك هؤلاء المشركون بالله الذين لا يوقنون بالمَعَاد، ولا يصدقون بالبعث.

لقمان

بسم الله الرحمن الرحيم سورة لقمان سورة لقمان مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ) إلى تمام الثلاث الآيات. قوله تعالى ذكره: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} إلى قوله: {عَذَابٌ مُّهِينٌ}. أي: هذه الآيات آيات الكتاب المحكم هادياً وراحماً الله به من آمن بالله وكتبه ورسله. وإن رفعت " رحمة ". فالتقدير هو هدى ورحمة لمن أحسن لنفسه فآمن بالله

وكتبه ورسله. ثم قال: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي: يقيمونها بحدودها في أوقاتها. {وَيُؤْتُونَ الزكاة} أي: التي افترض الله عليهم. {وَهُمْ بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} أي: يصدقون بالبعث بعد الموت والجزاء. ثم قال تعالى: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} أي: على إيمان. {وأولئك هُمُ المفلحون} أي: الباقون في النعيم/ الفائزون. ثم قال جل ذكره: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ}. قال قتادة: معناه: من يختاره ويستحسنه يعني الغناء. وروي عنه أنه قال: لعله لا ينفق مالاً ولكن اشتراؤه استحبابه. وكذلك قال مطرف. وقال ابن مسعود في الآية: " الغِنَاءُ والله الذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، يُرَددِّهُهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ".

" والغِنَاءُ يُنْبِتُ فِي الْقَلْبِ النِّفَاق ". وقال ابن عباس: " هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الجَارِيَّةَ المُغَنِّيَة تُغَنِّيهِ لَيْلاً وَنَهَاراً ". وروى أبو أمامة عن النبي A أنه قال: " لاَ يَحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ بِِهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ، وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية " وَمِنَ النَّاسِ. . . " روى أنس بن مالك أن النبي A قال: " مَنْ جَلَسَ إِلَى قَيْنَةٍ يٍسْتَمِعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وروى مالك عن ابن المنكدر أنه قال: " إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ: " أَيْنَ الذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَنِ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ، أَدْخِلُوهُمْ فِي رِيَّاضِ المِسْكِ. ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ: أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَثَنَأءً عَلَي وأَخْبِرُوهُمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ". روت عائشة Bها أن النبي A قال: " مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلاَ تُصَلُّوا عَلَيْهِ " رواه مكحول عنها. وقال ابن عمر: هو الغناء، وكذلك قال عكرمة ومكحول وغيرهم. والتقدير: على هذا: ومن الناس من يتشتري ذات لهو أو ذا لهو. وعن الضحاك: إن لهو الحديث: الشرك. ورواه عنه جويبر أنه قال:

الغناءُ مَهْلَكَةُ للمال مَسْخَطَةٌ للرب مَعْمَاة للقلب. وسئل القاسم بن محمد عنه فقال: الغناء باطل، والباطل في النار. وقال معمر: هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يشتري الكتب التي فيها أخبار فارس والروم، ويقول: محمد يحدثكم عن عناد وثمود وأنا أحدثكم عن فارس والروم، ويستهزئ بالقرآن إذا سمعه. وروى ابن جريج عن مجاهد في لهو الحديث: أنه الطبل.

7

ثم قال: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن دين الله، وما يقرب إليه. وقال ابن عباس: عن القرآن وَذِكْرِ الله، وهو رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: جعلا منه بأمر الله فعل ذلك. ثم قال: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} أي: ويتخذ سبيل الله هزؤاً. قاله مجاهد. وقال قتادة: ويتخذ الآيات هُزُؤاً. {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: في الآخرة. قوله تعالى ذكره: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِءَايَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً} إلى قوله: {إِلَيَّ المصير}. أي: وإذا يتلى على الذي يشتري لهو الحديث القرآن أدبر يستكبر عن سماع الحق، {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} أي صمماً وثقلاً فهو لا يستطيع أن يسمع ما يتلى عليه. {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: مؤلم، يعني في يوم القيامة، وذلك عذاب النار. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم}. أي: إن الذين صَدَّقُوا محمداً وما جاء به وعملوا الأعمال الصالحة، لهم بساتين النعيم ما كثين فيها إلى غير نهاية. {وَعْدَ الله حَقّاً} أي: وعدهم الله ذلك [وعداً] حقاً لا خلف فيه.

{وَهُوَ العزيز} أي: الصنيع الشديد في انتقامه من أهل الشرك. {الحكيم} في تدبيره لخلقه. ولا يحسن الوقف على: " خالدين فيها " عند سيبويه، لأن الجملة عاملة في: " وَعْدَ الله " إذ هو عنده مصدر مؤكد. وأجازه أبو حاتم لأنه يضمر فعلاً ينصب به " وعداً الله "، وتقديره: وعدهم الله بذلك وعداً حقاً. ثم قال تعالى ذكره: {خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}. قال ابن عباس: عمدها قاف، وهو الجبل المحيط بالدنيا، وهو من زبرجدة خضراء. من زبرجد الجنةن وخضرة السماء منه، وخضرة البحار من السماء، والسماء مقبة على الجبل الذي اسمه قاف، ولكنكم لا ترونه. وروي عنه أنه قال: لعلها بعمد لا ترونها. وقاله عكرمة. فيكون ترونها على هذا القول في موضع خفض نعتاً للعمد، والتاء متعلقة

بخلق. وقال الحسن: لا عمد لها البتة. فيكون " ترونها " على هذا القول في موضع نصب على الحال من السماوات والباء متعلقة بِتَرَوْنها. ويجوز أن يكون " ترونها " مستأنفاً، أي أنتم ترونها/ فتقف على: " بعير عمد " ولا تقف على القولين الأولين إلا على: " ترونها "، فإذا كان الضمير في ترونها للعمد، فترونها نعت للعمد، وليس ثم عمد، والمعنى فلا عمد مرئية البتة ويحتمل على هذا الوجه، فلا عمد مرئية لكم، أي ثم عمد ولكن لا ترونه. [فإذا جعلت الضمير في ترونها يعود على السماوات، كان ترونها] حالاً من السماوات. والمعنى ترون السماوات بغير عمد تمسكها، فلا عمد ثم البتة، كالتأويل الأول. ثم قال تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي: أن تحرك بكم يميناً وشمالاً، أي: حمل على ظهر الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بكم. قال قتادة: لولا ذلك ما أقرت عليها خلقاً.

{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} أي مطراً. {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي في الأرض بذلك الماء. {مِن كُلِّ زَوْجٍ} أي: نوع من البنات. {كَرِيمٍ} قال قتادة: حسن. وقال ابن عباس: من كل لون حسن. وتأوله الشعبي على الناس لأنهم مخلوقون من الأرض، فمن كان منهم إلى لاجنة فهو الكريم، ومن يصير إلى النار فهو اللئيم. وتأويله غير في النطفة لأنها مخلوقة من تراب في الأصل. ثم قال تعالى ذكره: {هذا خَلْقُ الله} أي فرق في الأرض من كل أنواع الدواب، ثم قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} أي: هذا الذي تقدم ذكره خلق الله الذي لا تصلح العبادة والألوهية إلاّ له، فأروني أيها المشركون أي شيء خلق الذي عبدتم من دونه. ثم قال تعالى: {بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: هؤلاء المشركون في عبادتهم الأصنام في جور عن الحق وذهاب عن الاستقامة ظاهر لمن تأمله. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة أَنِ اشكر للَّهِ}.

قال مجاهد: كان لقمان رجلاً صالحاً ولم يكن نبياً. وروي عنه أنه كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً غليظ الشفتين مصمفح القدمين قاضياً على بني إسرائيل. وقال سعيد بن المسيب: كان لقمان أسوداً من سودان مصر. وقال ابن عباس: كان عبداً حبشياً. وروي أنه كان في وقت داود. وعن عكرمة أنه قال: كان نبياً.

قال مجاهد: الحكمة التي أوتي لقمان: الفقه والعقل، والإصابة في القول في غير نبوة. وقال قتادة: الحكمة التي أوتي: الفقه في الإسلام. قال قتادة: لم يكن نبياً ولم يوح إليه. وعن مجاهد: أن الحكمة التي أوتي: القرآن. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: قال لقمان لابنه: إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهم إلى الآخرة سراعاً يذهبون، وإنك قد استدبرت الدني منذ كنت، واستقبلت الآخرة، وإن داراً تصير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها، يا بني ليس غنى كصحة ولا نعيم كطيب نفس. وروى أشهب عن مالك: أن لقمان كان يقول لابنه: اتق الله جهد نفسك.

قال: وكان يقول له: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشيهم، (اتق لا ينزل) عليهم عذاب من السماء فيصيبك معهم، يا بني جالس العلماء وماشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم. وروي عنه: أنه كان عبدً حبشياً نجاراً. وقيل: كان خياطاً. وقيل: كان راعياً، فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، فقال له: أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخر اللسان والقلب، ثم مكث ما شاء الله، ثم قال له: اذبح لنا هذه الشاة فذبحها، فقال له: أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب، فقال له مولاه في ذلك منكراً عليه وممتحناً له: [أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فأخرجتهما وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخجرتهما]، فقال لقمان: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وروي أنه أتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال: ألست الذي كنت

ترعى معي الغنم في موضع كذا؟ قال: نعم. [قال]: فما بلغ بك ما أمرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني. قال وهب بن منبه: قرأت من حكمته أرجح من عشرة آلاف باب. وقوله: {أَنِ اشكر للَّهِ} أن بمعنى أي: لا موضع لها. وأجاز سيبويه أن كون في موضع نصب على معنى بأن أشكر، كما تقول كتبت إليه أن قم، أي: بأن قم. والمعنى: أن أحمد الله على ما آتاك من الحكمة، فقوله: " أَنْ أشْكُرْ " بيان عن الحكمة لأن من الحكمة التي أوتيها شكر الله على ما أتاه. ثم قال: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي: من شكر نعم الله عليه فإنما يشكر

لنفسه لأنه يتزيد لنفسه من/ النعم بالشكر، ويؤدي ما على نفسه من الشكر، ويكتب له الأجر والذخر، بالشكر فلنفسه يعمل وأياها ينفع. ثم قال: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ} أي: ومن كفر نعمة الله فلنفسه أساء، إذ الله تعالى معاقبه على ذلك، وهو غني عن شكره، ولا يزيده شكر العبد في سلطانه ولا ينقص تركه منه. {حَمِيدٌ} أي: محمود على كل حال. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} أي: واذكر يا محمد إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك، أي: لا تعبد معه غيره. {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أي: الخطأ كبير. وروي أن اسم ابنه ثاران. ثم قال: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} أي: يبرهما. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} أي: ضعفاً على ضعف وشدة على شدة، ومنه: " وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي ". قال ابن عباس: شدة بعد شدة وخلقاً بعد خلق. وقال الضحاك: ضعفاً على ضعف.

وقال قتادة: جهداً على جهد. فهذا كله يعني به الحمل، يعني: ضعف الحمل، وضعف الطلق، وضعف النفاس. وعن ابن عباس أنه قال: مشقة وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها. والوهو في اللغة الضعف: يقال: وَهَنَ يَهِنُ وَوَهُنَ يُوْهَنُ، وَوَهِنَ يَهِنُ مثل وَرِمَ يَرِمُ. ثم قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي: وفطامه من الرضاع في انقضاء عامين مثل وسئل القرية. {أَنِ اشكر لِي} أن بمعنى أي: أو في موضع نصب على ما تقدم. وكونها بمعى (أي) أحسن. والمعنى: وعهدنا إليه أن أشكر نعتمي عليك، وأشكر لوالديك تربيتهما لك، ومحنتهما فيك.

15

{إِلَيَّ المصير} أي: مصيرك فسائلك عن شكرك لي ولهما وعن غير ذلك. وروي أن هذه الآية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه، وذلك أن أمه حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يتحول عن دينه، فأبى عليها، فلم تزل كذلك حتى غشي عليها فلما أفاقت دعت عليه، فنزلت الآية. قوله تعالى ذكره: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي} إلى قوله: {وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور}. أي: وأن جاهداك أيها الإنسان والداك على أن تشرك بي في العبادة ما لا تعلم أنه لي شريك، فلا تطعهما فيما أراداك عليه من الشرك. {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} أي: بالطاعة لهما فيما لا إثم عليك فيه. {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} أي: واسلك طريق من تاب ورجع عن شركه إلى الإسلام. قال قتادة: " مَنَ أَنَابَ إِلَيّ " أقبل إلي. قال الليث: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، كان بَرّاً بأمه، فلما أسلم كلمها بعض قومها أن تكلمه أن يرجع إلى دينه، فقالت: أنا أكفيكموه، فكلمته في

ذلك، فقال: أما في هذا فلا أطعيك ولكن أطعيك فيما سوى ذلك. قال الليث: فصارت له ولغيره وأن لا يطاع أحد في شرك ولا في معصية لله. وروي أنها نزلت في أبي بكر Bهـ فهو الذي أناب إلى الله، وأمر الله أن يتبع سبيله، وذلك أن أبا بكر حين أسلم أتاه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأتاه قبل ذلك عثمان وطلحة والزبير Bهم، فسألوه هل أسلم؟ فقال: نعم، فنزلت {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة} الآية إلى قوله:

{أُوْلُواْ الألباب} [الزمر: 10]. فلما سمعوا ما نزل الله في أبي بكر أتوا رسول الله A فآمنوا وصدقوا فنزلت فيهم: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا وأنابوا إِلَى الله لَهُمُ البشرى} إلى قوله: {أُوْلُواْ الألباب} [الزمر: 17 - 18]. قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: مصيركم بعد مماتكم. {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فأخبركم بجميع ما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر، ثم أجازيكم عليه. وهذه القصة كلها معترضة فيما بين كلام لقمان لابنه، وإنما جاز الاعتراض هنا لأنها أيضاً مما كان وصى به لقمان ولده، فجعلها الله جل ذكره خبراً من عنده لنا لنتبعها ونعمل بها، مما دعل على ذلك قوله تعالى عن لقمان أنه قال لولده: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} أي: إن القصة التي سألتني عنها/ أو المسألة. روي أنه كان يسأل والده عن ذكل، فجرى الإضمار عن سؤال ولده له. وقيل: التقدير: إن الخطيئة أو المعصية إن تكن مثقال حبة. هذا على قراءة من نصب " مثقال حبة " فأما من رفع. فلا إضمار في " كان " عنده، ورفع إلقاء ثبت في

" تك " حملاً على المعنى لأن المقصود الحبة، فكأنه قال: إنها إن تك حبة. يقال: عندي حبة فضة ومثقال حبة فضة بمعنى واحد، وقد قالوا: اجتمعت أهل اليمامة. فالمعنى على الرفع: إن الخطيئة إن تك حبة، أي إن وقعت حبة من خرذل. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً -، والتقدير: إن تك حبة خرذل في موضع يأت بها الله. والتقدير في هذا كله: زنة حبة من خير أو شر. ثم قال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض}. روي أن ابن لقمان سأل لقمان فقال: أرأيت الحبة تكون في مثل البحر أمن يعلمها الله فأعمله أن يعلمها في أخفى الموضع لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في السماء. وهذا مثل لأعمال العباد، أن الله يأتي بأعمالهم يوم القيامة. روي أن لقمان لما وعظ ابنه هذه الموعظة أتى بحبة خرذل فألقاها في اليرموك -

في عرضه -، ثم مكث ما شاء الله ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته. من رواية ابن وهب وروي عن ابن عباس [أنه] وزن رطل لحم وجعله للذَّرِّ حتى اسود من كثرة الذر عليه، ثم أخذه بما عليه من الذر ووزنه فلم يزد شيئاً، فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره أراد أن يرغبكم وأن يحضكم على ثواب الآخرة، وأما الذر والخرذل. فلا مثاقيل لها، ولكن في عظمة الله وقدرته وعلمه ما يعلم به مثاقيل الذر والخرذل. ويروي أن عائشة Bها: " تصَّدقَتْ بحبة عنب فقالت لها مولاتها بُرَيْرَةُ يا أُمَّ المؤمنين: أي شيء حبة عنب؟ فقالت لها عائشة: كم ترين فيها من مثقال ذرة ". ويقل: إن الصخرة هنا هي الصخرة الخضراء التي على ظهر الحوت وهو النون الذي ذكره الله D في قوله: نون والقلم والحوت في السماء والسماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي

ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض. وقال قتادة: " فتكن في صخرة " أي: في جبل من الجبال. وقيل: معنى {يَأْتِ بِهَا الله} بعلمها الله. {إِنَّ الله لَطِيفٌ} أي: باستخراجها. {خَبِيرٌ} أي: يمكن ومستقرها لا يخفى عليه شيء. ثم قال تعالى: {يابني أَقِمِ الصلاة} أي: بحدودها في أوقاتها. {وَأْمُرْ بالمعروف} أي: آمر الناس بطاعة الله. {وانه عَنِ المنكر} أي: إنه الناس عن معصية الله. {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} أي: من أذى الناس ومحن الدني في ذات الله إذا أنت أمرتهم بالطاعة ونهيتهم عن المصعية. {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} أي: إن الصبر على ذلك مما أمر الله له من الأمور عزماً. ثم قال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي: لا تعرض بوجهك، على من كلمك تكبراً واستخفافاً. وأصله من الصعر وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها. ورؤوسها، تلتوي منه

أعناقها فقيل هذا للمتكبر لأنه تكبر لوى عنقه على من تكبر عليه. قال ابن عباس: معناه لا تتكبر فتحقر عباد الله وتعرض عنهم بوجهك، إذا كلموك وهو معنى قول مجاهد والضحاك. وعن مجاهد أنه قال: هو الرجل يكون بينه وبين أخيه إحْنَةٌ فيراه فيعرض عنه فنهاه عن ذلك. وقال النخعي: هو التشدق. ثم قال: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً}. قال الضحاك: لا تمش بالخيلاء.

وقال قتادة: نهاه عن التكبر. {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: كل متكبر مفتخر بما أعطى وهو لا يشكر الله. ثم قال تعالى ذكره: {واقصد فِي مَشْيِكَ} أي: تواضع في مشيك إذا مشيت، ولا تستكبر ولا تستعجل ولكن اتئد. قال مجاهد: واقصد في مشيك التواضع. وقال قتادة: نهاه عن الخيلاء. وقال يزيد بن أبي حبيب: نهاه عن السرعة. ثم قال: {واغضض مِن صَوْتِكَ} أي: اخفض منه واجعله قصداً إذا/ تكلمت. وقيل: معناه إذا ناجيت ربك لا تصح، وبالخفاء دعا زكرياء ربه. قال قتادة: أمره بالاقتصاد في صوته. ثم قال: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير}.

قال مجاهد والضحاك والأعمش وقتادة: معناه إن أقبح الأصوات. قال قتادة: أوله زفير وآخره شهيق. قال عكرمة: معناه إن شر الأصوات. وقال الحسن: معنها إن أشد لاأصوات. قال ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله للحمير. ووحج الصوت لأنه مصدر. وفي الحديث: " ما صاح حِمَارٌ ولا نَبَحَ كَلْبٌ إلا أن يرَى شَيْطَاناً ".

ثم قال: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يعني: شمسها وقمرها ونجومها وجبالها وعيونها وبحرها وجميع منفعها التي هي صلاح للعباد في أنفسهم وفي معاشهم وتصرفهم. ثم قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. [من جمع النعم ظهرة وباطنة حالا]. ومن وحد جعلها نعتاً. وقال ابن عباس في توحيد النعمة: هي الإسلام. وقال مجاهد: هي لا إله إلا الله. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس. فيكون المعنى: ظاهرة على الألسن وعلى الأبدان والجوارح عملاً، وباطنة في القلوب اعتقاداً ومعرفة. وروى الضحاك، عن ابن عباس أنه سأل النبي A عن ذلك فقال: " الظاهرة

الإسلام وما أحسن من خَلْقِكَ، والباطِنَةُ ما سَتَرَ عليك من سيئ عَمَلِكَ ". ثم قال تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله}. أي: يخاصم في تويحد الله وإخلاصه العبادة له بغير علم عنده لما يخاصم به {وَلاَ هُدًى} أي: ولا إيمان يبين به صحة ما يقول {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} أي: ولا تنزيل من الله عنده بما يدعي يبين به صحة دعواه. قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث. ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله} أي: وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في الله بـ غير علم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من القرآن. {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} من عبادة الأوثان. قال الله جل ذكره: {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير}. هذا على التوبيخ له: أي: أَوَلَوْ كان الأمر هكذا أكان يجب لهم أن يتبعوه. ثم قال تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: من يتذلل إلى الله بالعبادة وهو مطيع لما أمره الله به فقد استمسك بالأمر الأوثق الذي لا يخاف معه، أي: يمسك من رضى الله تعالى بما لا يخاف معه غداً عذاباً. قال ابن عباس: العروة الوثقى: لا إله إلا الله. {وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور} أي: إليه ترجع أمور الخلق فيجازيهم بأعمالهم.

23

قوله تعالى ذكره: {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} إلى آخر السورة. أي: لا يغمك يا محمد كفر من كفر ولم يؤمن، فإن رجوعه إلى الله فيخبره بسور عمله ويجازيه عليه، وهذا مثل قوله " {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] ". ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: يعلم ما تكنه صدورهم من الكفر بالله. ثم تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً} أي: يمهلهم في الدنيا إمهالاً قليلاً ووقتاً قليلاً. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي: يلجئهم إلى الدخول في عذاب النار - نعوذ بالله منها -. ثم قال تعالى ذكره: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} أي: إن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك من خلق السماوات والأرض؟ أقروا بأنه الله، فقل يا محمد عند إقرارهم بذلك: الحمد لله: أي الذي خلق ذلك وتفرج به لأنهم لم يخلقوا شيئاً. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون من يجب له الحم والشكر. ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} أي يملكها. {إِنَّ الله هُوَ الغني}: أي: عن خلقه. {الحميد} أي المحمود على نعمه. ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ}. أي: ولو أن شجرة الأرض كلها بريت أقلاماً، والبحر لها مداد، ويمدها سبعة أبحر مداداً - أي الأقلام - {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله}.

وفي الكلام حذف، والتقدير: يكتب بذلك كلام الله لتكسرت الأقلام وجفت وفرغ المداد ولم تنفذ كلمات الله. ومن رفع " البحر " فعلى الابتداء، أو على موضع أن. " وما " عملت فيه، أو على موضع " ما "، إذ لم يظهر فيه الإعراب. قال قتادة: قال المشركون: هذا الكلام يوشك أن ينفد/ فنزلت هذه الآية. وروي أن هذه الآية نزلت على النبي A في سبب مجادلة كانت من اليهود له. قال ابن عباس: " قالت أحبار يهود للنبي A بالمدينة: يا محمد أرأَيْتَ قَوْلُكَ " وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمُكَ؟ فقالَ النبي A: " كَلاَّ "، قالوا: ألسْتَ تَتْلُو فِيما جَاءَك أنَّا قَد أوتينَا التَّوراة فيها بيان كل شيء؟ فقال النبي A:

" فإنَّها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما تكفيكم " فأنزل الله في ذلك: " ولو أنما في الأرض من شجرة " إلى تمام الثلاث الآيات. وهذا معنى قول عكرمة. ويروى أن النبي A ق قال لهم: " وَقَدْ أَتَاكُم اللهُ ما أن عَمِلْتُم بِهِ انْتَفَعْتُم وهو في عِلْمِ الله قَلِيلٌ ". ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي: ذو عزة في انتقامه ممن أشرك به وادعى معه إلهاً غيره، {حَكِيمٌ} في تدبيره خلقه. ثم قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: ما خلقكم إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون قليلاً كان أو كثيراً. هذا معنى قول مجاهد. ثم قال: {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي: سامع لما يقوله المشركون وغيرهم، {بَصِيرٌ} بأعمال الخلق كلهم. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل}. أي يزيد من كل واحد في الآخر، فينقص من أحدهما بمقدار ما زاد في الآخر.

ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي: سخرهما لمصالح العباد. {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: يجري بإذن الله إلى وقت معلوم، إذا بلغاه كورت الشمس والقمر. {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: ذو خبر بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها. والمراد بها الخطاب المشركون. ثم قال عالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق}. أي: هو الخالق الحق لا ما تعبدون. {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي: ما تعبدون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي يضمحل ويفنى. ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله هُوَ العلي} أي: ذو العلو على كل شيء، وكل من دونه متذلل منقاد له، {الكبير} أي: الذي كل شيء يتصاغر له. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله} أي: السفن تجري في البحر بنعمة الله على خلقه. {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} أي: من حججه وقدرته فتتعظوا. وقد قيل: نعمة الله ها هنا الريح التي تجري السفن بها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: إن في جري الفلك في البحر لعلامات وحججاً على قدرة الله وضعف ما تدعون من دونه. {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} أي: لكم من صبر نفسه عن محارم الله وشكر على نعمة. قال مطرف: إن من أحب عباد الله إليه الصبور الشكور.

وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله. وقال قتادة: إن من أحب عباد الله إليه من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر. ثم قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل}. أي: وإذا غشي هؤلاء الذين يشركون بالله غيرهم في حال ركوبهم لابحر موج كالظلم، شبه سواد كثرة الماء وتراكب بعضه على بعض بالظلم، وهي الظل جمع ظلة. وقال الفراء: الظل هنا: السحاب. {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: إذا غشيهم الموج فخافوا الغرق فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له لا يشركون به هنا لك شيئاً، ولا يستغيثون بغيره. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر} أي: نجاهم من ذلك الموج والغرق فصاروا في البر. {فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي: في قوله وإقراره بربه، وهو مضمر للكفر بعد ذلك، وقال أبن زيد: المقتصد على صلاح من الأمر. وفي الكلام حذف، كأنه قال: ومنهم كافر بربه الذي نجاه من الغرق. ودل على ذلك قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} أي: وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلا كل غدار عنيد. فدل الجحود المذكور على الكفر المحذوف.

وقيل: التقدير: ومنهم جائر لأن الاقتصاد ضده الجور، فدل على ضده، قال معنى ذلك مجاهد والحسن وقتادة والضحاك/. والختر عند العرب أشد. ثم قال {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ}. أي: اتقوه في قبول طاعته والعمل بمرضاته، {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} يعني: وخافوا يوم القيامة فإنه يوم لا يشفع فيه أحد لأحد إلا بالإيمان والأعمال الصالحة. {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: إن مجيء هذا اليوم الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم حق. {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} أي: لا يخدعنّكم نُزهَتُها ولذاتها فتميلوا إليها، وتدعوا الاستعداد لما فيه خلاصكم من عذاب الله تعالى ونعيمكم أبداً. {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور}. أي: ولا يخدعكم بالله خادع، فالغرور هو كل ما غر من إنسان أو شيطان. ومن ضم الغين جعله مصدراً. وقيل: هو أن تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، قاله أبن جبير.

ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة}. أي: يعلم متى تكون، فاتقوا أن تأتيكم بغتة. {وَيُنَزِّلُ الغيث}: أي: لا يعلم متى ينزله. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام} أي: لا يُعْلَمُ ذلك غيره. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أي: ما تعمل من خير وشر. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي: في أي مكان يلحقها أجلها فتموت فيه، كل ذلك لا يعلمه إلا الله. {إِنَّ الله عَلَيمٌ} أي: ذو علم بكل الأشياء، {خَبِيرٌ} بما هو كائن وما كان. وقال النبي A " مفاتح الغَيب خَمْسة. ثم قرأ هذه الآية. . ".

السجدة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة السجدة سورة السجدة مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في رجلين من قريش. وهن قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا) إلى آخر الثلاث الآيات. قوله تعالى ذكره: {الم * تَنزِيلُ الكتاب} إلى قوله: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}. من رواية أبن وهب: أن النبي A قال: " مَنْ قَرَأَ آلم تَنْزِيلُ السِّجْدَةِ، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ فَكَأَنَّمَأ وَافَقَ لَيْلَةَ القَدْرِ ".

وعنه أنه قال: " آلم تنْزِيلُ السَِّجْدَةِ وَتَبَارَكَ يَفْصُلاَنِ عَلَى السُّوَرِ بِسِتِّينَ حَسَنَة ". وقال جابر بن عبد الله: " مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ A يَنَامُ حَتَّى يَقْرَ آلم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكِ " قد تقدم ذكر {الم}. وقوله: {تَنزِيلُ} رُفِعَ بالابتداء، و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} الخبر. ويجوز أن يكون خبر الابتداء محذوف، أي: ها المتلوا تنزيل الكتاب. ويجوز أن يكون [التقدير]: هذه الحروف تنزيل الكتاب، {الم} بدل من الحروف دالة عليها فهي موضع الابتداء، و {تَنزِيلُ} الخبر. ويجوز: " تنزيل " بالنصب على المصدر. والمعنى: تنزيل الكتاب المنزل على محمد لا شك فيه أنه من رب العالمين، وليس بسحر ولا سجع ولا كهانة ولا كذب. وهذا تكذيب لمن قال ذلك في القرآن من المشركين.

ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه}. قال أبو عبيدة: معناه: بل يقولون. وهو خروج من حديث إلى حديث. وقال الزجاج: التقدير: أيقولون. والتقدير عند الطبري: أيقولون، يعني المشركين أيقولون اختلق محمد A هذا القرآن من قبل نفسه، وأم عنده تقرير كالألف. ثم أكذبهم الله في قولهم فقال: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ} أي: هو الصدق من عند ربك أنزله عليك، لتنذر قوماً بأس الله أن يحل بهم على كفرهم لم يأتهم نذير من قبلك. {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: يهتدون إلى طريق النجاة من عذاب الله. أجاز بعض النحويين الوقف على {رَّبِّكَ}، على أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف، والتقدير: وأنزله عليك لتندر. وأجاز أبو حاتم الوقف على {افتراه}. ثم قال تعالى ذكره: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الآية. أي: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش في اليوم/ السابع، قاله

قتادة. ثم قال [تعالى]: {مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ}. [أي]: يلي أمركم [فينصركم] منه إذا أراد بكم ضراً، {وَلاَ شَفِيعٍ} أي: يشفع لكم إن عاقبكم على كفركم، فاتخذوه أيها الناس ولياً واستعينوا بطاعته على أموركم. {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي: تتذكرون هذه الموعظة فتعلموا أنه لا معبود لكم غيره/ فتفردوا له العبادة وتخلصوا له العمل. (في) ستة أيام تمام عند نافع، وعلى العرض أتم منه. ثم قال تعالى [ذكره]: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض}. أي: هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}. قال مجاهد: يعني نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في

يوم واحد، وذلك اليوم مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمس مائة عام. وهو معنى قول قتادة والضحاك وعكرمة، وقاله ابن عباس. وهو اختيار الطبري. وقال ابن عباس: إن المعنى أن هذا اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض وما بينهما كألف سنة من سني الدنيا. وعن ابن عباس: أن المعنى ثم تعرج إليه الملائكة بالأمر في يوم مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدنيا. وعن مجاهد: أن المعنى: كان مقدار ذلك التبدير ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: التقدير: كان مقدار ذلك العروج ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: المنى: يدبر الله أمر الدنيا وما حدث فيها مما يجازي عليه الناس وغيرهم

من أهل السماء إلى أن تقوم الساعة ويبعث الناس إلى الحساب، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، وهو يوم القيامة. وقيل: معناه يدبر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض لأنها على أهل الأرض تطلع، وفوق الأرض تطلع إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم [كان] مقداره في المسافة ألف سنة. والهاء في يَعْرُجُ إليه: قيل تعود على السماء لأنها تذكر. وقيل: تعود على الله جل ذكره. فأما قوله في " المعارج ". {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]. فمعناه على قول ابن عباس: أنه يوم القيامة يراد [به] قال: جعله الله على الكفار مقدار خسمين ألف سنة/. وقال وهب بن منبه: [ما] بين أسفل الأرض إلى العرش مقدار خمسين ألف

سنة من أيام الدنيا. وقيل عنه: الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم [كم] مضى منها ولا كم بقي. وقيل: يوم القيامة أيام، فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة. واليوم في اللغة بمعنى الوقت. فالمعنى تعرج الملائكة والروح إليه [في وقت مقدار ألف سنة و] في وقت آخر مقدار خمسون ألف سنة. " إلى لأرض " تمام عند الأخفش. ثم قال تعالى: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة}. أي: الذي تقدمت صفته في قدرته

وسلطانه هو علم الظاهر والباطن والسر والجهر، وهو الله (الذي) لا إله إلا هو. {العزيز} أي: الشديد في انتقامه ممن كفر به، {الرحيم} بمن تاب من كفره. ثم قال تعالى: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}. أي: وهو الذي أعطى كل شيء خلقه، الإنسان للإنسان، والفرس للفرس، فقرن كل جنس بشكله. قاله مجاهد. " وأحسن " على هذا القول بمعنى أعلم، تقول [العرب] فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه. هذا على قراءة من أسكن اللام من " خلقه " فيكون " خلقه " مفعولاً به. ويجوز عن سيبويه أن ينتصب على المصدر المؤكد. مثل {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وقيل: هو منصوب، على التفسير، كقولك: زيد أوسعكم

داراً، والتقدير: أحسن كل شيء خلقاً. وقيل: أحسن على هذه القراءة بمعنى أعلم وألهم. فيكون خلقه مفعولاً به. وهو القول الذي ذكرنا عن مجاهد أولاً. ومن فتح اللام جعله فعلاً ماضياً. والمعنى الذي أتقن كل شيء خلقه وأحكمه. والهاء في موضع نصب، والفعل في موضع خفض على النعت لشيء. فالمعنى على قول ابن عباس: الذي أحكم كل شيء خلقه. أي: جاء به على ما أراد لم يتغير عن إرادته. وروي عنه أنه كان يقرأ بفتح اللام، ويقول: أما إن أَسْتَ القرد ليست بحسنة ولكنه أحكمها.

وعن مجاهد في الفتح: أحسن بكل شيء خلقه. وعن ابن عباس: في معنى الإسكان أحسن كل شيء في خلقه، أي: حعل كل شيء في خلقه حسناً. وأجاز الزجاج " خَلقُه " بالرفع على معنى: ذلك، خلقه، ولم يقرأ به أحد. ثم قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} يعني: آدم A. { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} أي: جعل ذريته من سلالة، والسلالة ما ينسل من الشيء. فالمعنى جعل/ ذريته من الماء الذي ينسل منه/ ومعنى {مَّهِينٍ} حقير ضعيف. ثم قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ} يعني آدم، أي سوَّى خلقه معتدلاً سوياً. {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} أي: من روحه الذي يحيى به [الموتى] فصار حياً ناطقاً. ثم قال [تعالى]: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي أنعم عليكم بسمعكم وأبصاركم وقلوبكم تنتفعون بمها وتسمعون وتبصرون وتفهمون ووحد السمع لأنه مصدر.

ثم قال [تعالى]: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: أنعم عليكم بهذه النعم، وشكركم قليل عليها. ثم قال [تعالى]: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} أي: وقال المشركون: أئذا صارت لحومنا وعظامنا تراباً في الأرض أَنُبْعَثُ؟ إنكاراً للبعث. وقال مجاهدك: " ضللنا ": هلكنا، لأن كل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك. وقرأ أبو رجاء وطلحة: " ضِللْنا " بكسر اللام، وهي لغة شاذة. وقرأ الحسن: " صَلَلْنَا " بالصادر غير معجمة وفتح اللام.

11

وروي عنه بكسر اللام. والمعنى أنتنا، وكسر اللام شاذ، يقال صلَّ اللحم وأصَلَّ إذا أَنْتَنَ وَتَغَيَّر، وكذلك. خَمَّ وَأَخَمَّ. ثم قال الله تعالى: {هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي: جاحدون للبعث بعد الموت والرجوع إلى الله (جلّ وعزَّ). قوله تعالى ذكره: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} إلى قوله: {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين للبعث: يتوفاكم ملك الموت. أي: يستوفي عددكم بقبض أرواحكم، ثم إلى ربكم بعض قبض أرواحكم تردون يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم. قال قتادة: ملك الموت يتوفاكم ومعه أعوان من الملائكة. ودليله قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]. وملك الموت اسمه: عزرائيل، وهو بالعربية عبد الجبار A، وعلى جميع الملائكة والنبيين والمرسلين.

قال مجاهد: جوبت لملك الموت الأرض، فجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء. ثم قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ}. أي: لو رأيت يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ناكسوا رؤوسهم عند ربهم حياء منه للذي سلف من كفرهم وإنكارهم للبعث يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}. أي: أبصرنا ما كنا نكذب به من عذابك، ومعادنا إليك، وسمعنا منك، وتصديق ما كانت الرسل تأتنا به وتأمرنا به. {فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} أي: أرددنا إلى الدنيا نعمل فيها/ بطاعتك. {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي: قد أيقنا الآن منا كنا به في الدنيا جهالاً من توحيدك وإفرادك بالعبادة. وقيل: المخاطبة هنا للمجرمين. والمعنى: قل يا محمد للمجرم: لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم لندمت على ما كان منك. وجواب لو محذوف، والتقدير: لرأيت ما تعتبر به اعتباراً شديداً. ومعنى: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} أي: يقولون يا ربنا أبصرنا ما كنا نكذب به. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} أي: رشدها وتوفيقها إلى الإيمان،

وهذا مثل قوله: {لَهَدَى الناس جَمِيعاً} [الرعد: 31]. و {لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. {ولكن حَقَّ القول مِنِّي} أي: وجب العذاب مني. {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس} يعني: من أهل الكفر والمعاصي. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أنه قال: سألني رجل أمس عن القدر؟ فقلت له: نعم قال الله D في كتابه {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى (قوله): {أَجْمَعِينَ} حقت كلمة ربك لأملأن جهنم منهم، فلا بد أن يكون ما قال: قال قتادة: لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، لو شاء لأنزل عليهم آية من السماء تضطرهم إلى الإيمان. فالمعنى: لو شئنا لأعطينا كل إنسان توفيقاً يهتدي إلى الإيمان في الدنيا.

وقيل المعنى: لو شئنا لرددناهم إلى الدنيا كما سألوا فيعملوا بالطاعة. ولكن حقَّ القول مني لأعذبنَّ من عصاني، وقد علم الله أنهم لو ردوا لعادوا إلى كفرهم كما قال في " الأنعام ". ثم قال تعالى (ذكره): {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} أي ذوقوا عذاب الله بترككم العمل للقاء يومكم. {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} إي: تركناكم في النار. وقيل: إن الأول من النيسان لأنهم لما لم يعملوا/ ليوم القيامة كانوا بنزلة الناسي له. ثم قال [تعالى]: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. أي: ويقال لهم: ذوقوا عذاباً تخلدون فيه إلى مَا لاَ نِهَايَة له بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي. ثم قال [تعالى ذكره]: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} أي: إذا ذكروا ووعظوا خروا لله سجداً تذللاً واستكانة لعظمته وإقراراً له بالعبودية.

{وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: سبحوا لله في سجودهم بحمده وَبَرَؤَّه مما وصفه به الكافرون. {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}: أي: عن السجود له والتسبيح. وروي أن هذه الآية/ نزلت على النبي A لأن قوماً من المنافقين كانوا يخرجون من المسجد إذا أقيمت الصلاة. ثم قال تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} أي: ترتفع وتنبوا جنوب هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من المؤمنين عن مضاجعهم. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي: خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته. قاله قتادة. و {تتجافى}: تتفاعل من الجفاء [وهو] النَّبْؤ. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي: يزكون ما يجب عليهم في أموالهم. قال أنس في قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]. قال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وكذلك {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}.

وقال عطاء بن أبي سلمة: عني بذلك صلاة العتمة. وقال الحسن: عني بذلك قيام الليل. وقاله الأوزاعي. وهو قول مالك بن أنس. وعن أنس: أنه عني بذلك أيضاً صلاة العتمة. وقال ابن عباس: عني بذلك ملازمة ذكر الله، فكلما انتبهوا ذكروا الله، إما في صلاة، وإما في قيام، وإما في قعود، أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله. وهو قول الضحاك.

وروى معاذ بن جبل أن النبي A قال له: " ألاَ أدُلُّكَ عَلَى أبْوَابَ الْخيرِ؟ [قال]: الصَّوْمُ جنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِئَةَ، وَقِيَّامُ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وتَلاَ هذِهِ الآية: {تتجافى جُنُوبُهُمْ} ". ثم قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. أي: ما خبئ لهؤلاء الذين تصدمت صفتهم في الآيتين مما تَقِرُّ به أعينهم في الجنة جزاء بأعمالهم. وقرأ ابن مسعود: " ما نُخْفِيَ لَهُمْ " بالنون. فهذا شاهد لقراءة حمزة بإسكان الياء، فالقراءتان جرتا على الإخبار عن الله جلَّ ذكره، و " ما " في موضع نصب

ب " تعلم " إن جعلتها بمعنى الذي في جميع القراءات وإن جعلتها استفهاماً كانت في موضع رفع على قراءة الجماعة، وفي موضع نصب على قراءة حمزة وابن مسعود بأخفي. وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه [وسلّم] " قرأ " (مِنْ قرَّاتِ أعيْنٍ) بالجمع ". وروى أيضاً عن النبي عليه السلام أنه قال: " قَالَ رَبُّكُمْ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ. بَشَرٍ، فاقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أخْفِيَ (لَهُمْ) الآية ".

وقال ابن مسعود: " مَكْتُوبٌ فِي التَّوْراةِ: لَقَدْ أعدَّ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمُ عَنِ المَضَاجِع مَا لَمْ تَرَ/ عَيْنٌ، وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْبِ بَشرٍ، وَلَمْ تَسْمعْ أٌُذُنُ وَمَا لاَ يُعْلَمُه ملَكٌ مُقَرَّبٌ. قَالَ: وَنَحْنُ نَقْرَؤهَا: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة: أن النبي A قال: " سَأَلَ موسَى ربَّه فَقَال: أيّ ربِّ أخبِرْنِي بِأدْنَى أهل الجنة مَنْزِلةً فَقَالَ: رَجُلٌ أَتى بَعدمَا أُنْزِلَ، أهل الجَنَّةِ مَنَازِلَهُم وأخَذُوا أخَذَاتِهِم، فَقِيلَ له: ادخل الجنة، فقال: أيْ رَبّ، وقد نَزَل النَّاسُ مَنَازِلَهُم وَأخَذُوا أخَذَاتِهُم، فقيل له: أترضى مثل مُلْكِ مَلِكٍ من مُلُوكِ الدنيا؟ قال: رَضِيتُ أي ربِّ، فَقَالَ: فَإِنَّ لَكَ ما اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَمِثْلُه [معه]، وِمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ إنْ رَضيتَ، فقال: رَضيتُ أيْ ربِّ، قال: فإن لَكَ ما اشتهت نفسك وَلَذَّت عينك، قاغل: أي رب، فأخْبِرنِي بأعْلَى أهل الجنة مَنزِلَةً، فقال: أولئك الذِينَ أَرَدْتُ وَسَوفَ أخْبِرُكَ عَنْهُمْ، إنّي غَرَسْتُ كَرَامَتَهُم بِيَدي وَخَتَمْتُ عليها، وَلَمْ تَدْرِ نفسٌ وَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أذْنٌ وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْب بَشَرٍ وَمِصْداقٌ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ D

18

{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم} الآية ". وقيل: إن معنى الآية في ثواب الجهاد، أي: لا تعلم نفس ما أخفي لها من ثواب الجهاد في سبيل الله، ذكره ابن وهب عن رجاله. قال سليمان بن عامر: الجنة مائة درجة فأولها درجة من فضة، أرضها فضة ومساكنها فضة، وآنيتُها فضة، وترابها مسك، والثانية ذهب، وأرضها ذهب، ومساكنها ذهب وآنيَّتُها ذهب وترابها مسك، والثالثة لؤلؤ (و) أرضها لؤلؤ ومساكنها لؤلؤ وآنيَّتُها لؤلؤ وترابها مسك، وسبعة وتسعون درجة بعد ذلك ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم} الآية. وعن ابن سيرين أنه قال في الآية: إنه النظر إلى الله D. قوله تعالى ذكره: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} إلى قوله:

{أَفَلاَ يَسْمَعُونَ}. أي: أيكون الكافر المكذب كالمؤمن المصدق، لا يستوون عند الله. قال قتادة: لا والله ما يستوون في الدنيا ولا في الآخرة ولا عند الموت. وإنما جمع يستوون لأن " مَنْ " تؤدي عن جمع فحمله على المعنى. وقيل: إن المراد به أثنان بأعيانهما، وذلك أن الآية نزلت في قول ابن عباس وعطاء وغيرها في المدينة في عل ي بن أبي طالب رضي لله عنه، والوليد بن عقبة بن أبي معيط قال عطاء: كان بين الوليد وعلي كلام، فقال/ [الوليد] " أنا أبْسطُ منك لساناً وأحَدُّ منك سِنَاناً، فقال له علي [اسكت] فإنك فاسق، فنزلت {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} الآية فيهما. فيكون يستوون على هذا قد جمع في موضع التثنية، لأن التثنية جمع في الأصل.

ويجوز أن تكون لما نزلت في اثنين بأعيانهما، ثم هي عامة في جميع الكفار والمؤمنين حمل الكلام على معنى العموم، فجمع يستوون لذلك. ثم قال تعالى [ذكره] {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى} أي: الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله ورسوله فلهم بساتين المساكن التي يكسنونها في لجنة ويأوون إليها. ويجوز أن يكون التقدير: فلهم بساتين جنة المأوى. {نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: أنزلهم الله فيها نزلاً بعملهم. ثم قال: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي: كفروا بالله. {فَمَأْوَاهُمُ النار} أي: مساكنهم في النار في الآخرة. ثم قال: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا}. قد تقدم هذا في " الحج ". ثم قال: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: في الدنيا. ثم قال [تعالى]: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى} أي: لنذيقن هؤلاء الفسقة من مصائب الدنيا في الأنفس والأموال في الدنيا دون عذاب النار في الآخرة. قاله ابن عباس وأُبي بن كعب والضحاك.

وقال ابن مسعود: " العذاب الأدنى " يوم بدر. وقال مجاهد: هو الجوع والقتل لقريش في الدنيا. روي أنهم جاعوا حتى أكلوا العِلْهِزَ، وهو القُرَدُ يفقأ دمها في الوبر ويحمل على النار فيؤكل. وعن ابن عباس أيضاً: أنه الحدود. وعن مجاهد أيضاً: أنه عذاب القبر وعذاب الدنيا. وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار. وقيل: هو القتل يوم بدر.

ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ}. أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بحجج الله وآي كتابه فأعرض عن ذلك وكذب به. ثم قال: {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} أي: من الذين اكتسبوا السيئات منتقمون في الآخرة. وقيل: عني بالمجرمين [هنا] أهل القدر، وكذلك قوله: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] الآيات في أهل القدر أيضاً. [وقال] / معاذ بن جبل: سمعت النبي صلى الله عليه [وسلّم] يقول

" ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهنَّ فقَدْ أجْرَمَ: مَنِ اعْتَقَدَ لِواءً في غير حقٍّ، أوْ عَقَّ وَالِِدَيْه، أو مَشَى مَعَ ظَالِم يَنْصُرُ فَقَدْ أجْرَمَ، يقولُ اللهُ جلَّ ذِكرُهُ {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} ". ثم قال تعالى [ذكره]: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} أي التوراة. {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أي: في شك من أنك لقيته أو تلقاه ليلة الإسراء، قاله قتادة. وبذلك أتى الخبر عن النبي A أنه لقيه ليلة الإسراء، روى ابن عباس: أن النبي A / قال: " أرِيتُ لَيْلَةَ أسْرِي [بي] موسى بن عِمْرِان رَجلاً آدَمَ

طوَّالاً جَعْداً، كَأنَّهُ مِنْ رِجَال شَنوءةَ، وَرَأيت عِيسَى رَجُلاً مَربُوعَ الخَلْق، إلى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطَ الرَّأسِ، وَرَأيتُ مَالِكاً [خَازِنَ] النَّارِ والدَّجَّال " فالهاء لموسى، وقيل: الهاء عائدة على الكتاب. والتقدير: فلا تكن في شك من تلقي موسى الكتاب بالقبول، وتكون المخاطبة على القول الأول للنبي خاصة، وعلى القول الثاني لجميع الناس.

وعن الحسن أنه قال في معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب، فأوذي وكذب فلا تكن في شك يا محمد من أنه سيلقاك مثل ما لقيه موسى من التكذيب والأذى. فالهاء عائدة على معنى محذوف كأنه قال: من لقاء ما لاقى، والمخاطبة على هذا للنبي عليه السلام خاصة. ويجوز أن يكون هذا خطاباً للشاك في إتيان الله موسى الكتاب، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والهاء في {لِّقَآئِهِ} تعود على الرجوع إلى الآخرة والبعث، والتقدير: قل يتوفاكم ملك المت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون، {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} أي: من لقاء البعث والرجوع إلى الحياة بعد الموت فهو خطاب للنبي عليه السلام، والمراد به من ينكر البعث. وقوله: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} كلام اعترض بين كلامين. ثم قال بعد ذلك: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ}. أي: الكتاب جعله الله هادياً لهم من الضلالة إلى الهدى. وقال قتادة: {وَجَعَلْنَاهُ} أي: جعلنا موسى هدى لهم.

ثم قال (تعالى ذكره) {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}. أي: وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير يؤتم بهم. قال قتادة: {أَئِمَّةً} رؤساء الخير. {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: أي يرشدون أتباهم بإذننا هم وتقويتنا إياهم على ذلك. {لَمَّا صَبَرُواْ} أي: حين صبروا على طاعة الله وعلى أذاء فرعون لهم، فيكون المعنى: إنهم إنما جعلوا أئمة حين وُجِدَ منهم الصبر. ومن قرأ " لِمَا " بكسر اللام فمعناه فعلنا بهم ذلك لصبرهم على طاعة الله. فيكون المعنى: فهل بهم ذلك الجزاء لهم الصبرهم المتقدم في الله. ثم قال (تعالى): {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} أيك بحججنا وكتابنا يصدقون. وفي قراءة أُبي: " كَمَا صَبَروا ". وفي قراءة أبن مسعود: " بِمَا صَبَروا ". فهذا شاهد لمن كسر اللام، وهو حمزة والكسائي.

ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة}. أي: يحكم بين جميع خلقه فيما اختلفوا فيه في الدنيا من أمور الدين، فيوجب للمحسن الجنة وللمسيء النار. ثم قال تعالى [ذكره]: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون}. قال الفراء: كم في موضع رفع فاعل ليهدي. ولا يجيزه البصريون لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وقال المبرد: الفَاعِل المَصَدر مَحْذُوف لأِن يَهْدِي يَدُلُّ عَلَى مَصْدرِهِ، تقديره: أَوَ لَمْ يَهْدِ الهُدَى لَهُم. وقيل التقدير: أولم يهد الله لهم. وهذا إن شاء الله أحسنها. ويقوي ذلك أن أبا عبد الرحمن السلمي وقتادة قرأ: أو لم نهدِ بالنون.

27

وكم في موضع نصب " أهلكنا ". ومعنى الآية على قول ابن عباس: " أَوَلَمْ يتبين لهم، أي لقريش كم أهلكنا من قبلهم من القرون فيتعظوا ويزدجروا. وقدر بعض النحويين الآية على قول الفرء فقال: التقدير: أو لم يتبين لهم كثرة من أهلكنا من قبلهم من الأمم فيتعظوا. ثم قال تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي: تمشي قريش في مساكن الأمم الخالية، فكيف لا تتعظ وتزدجر وتعلم أن مصيرها إن كفرت إلى ما صارت إليه هذه الأمم. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} أي: إن في خلاء مساكن من مضى، وأهلاك الله إياهم لعبرا وحججاً لقريش، أفلا يسمعون عظات الله وتذكيره إياهم وتعريفه مواضع حججه عليهم. وقيل: {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ}، معناه: أفلا يعقلون، مثل " سَمِع اللهُ لِمَنْ حَمِدَه ". قوله تعالى [ذكره]: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز} إلى آخر السورة. أَلَم يرَ هؤلاء المكذبون بالبعث [بعد الموت] أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها/.

وأصل الجِّرزِ من قولهم: رجل جَرُوزٌ، إذا كان لا يُبقي شيئاً إلا أكله. وحكى الفراء وغيره فيه أربع لغات: أرض جُرْزٌ، وَجُرْزٌ وَجَرَزٌ وَجَرْزٌ، وكذلك حكوا في البُخل والرُّعب والرُّهب، هذه الأربع على أربع لغات، قال ابن عباس: هي أرض باليمن. يروى أنه ليس فيها أنهار وأنها بعيدة من البحر يأتها كل عام واديان عظيمان بسيل عظيم من حيث لا يعلمون فيزرعون عليه ثلاث مرات في السنة. وقال مجاهد: هي أَبْين. وقال عكرمة: هي الظَّمأى. وقال ابن عباس: الجرز: التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً.

وقال الضحاك: هي الميتة العطشى. وقال أهل اللغة: هي التي لا نبات فيها. ثم قال [تعالى] {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} أي: بالماء. {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ} اي: ترعاه مواشيهم، ويأكلون منه هم. وقوله: {وَأَنفُسُهُمْ} أي: وهم يأكلون منه. والنفس يراد بها جملة الشيء وحقيقته، منه قوله تعالى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، أي: تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم. وتكون النفس الجزء من الإنسان كقولك [خرجت] نفسه. ثم قال: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} أي: أفلا يرون ذلك بأعينهم فيعلمون أن من قدر على ذلك هو قادر على إحيائهم بعد موتهم. ثم قال [تعالى]: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. أي: يقول لك يا محمد هؤلاء المشركون: متى يجيئ هذا الحكم بيننا وبينك، أي: متى يكون هذا الثواب والعقاب.

قال قتادة: قال أصحاب النبي A: إن لنا يوماً يوشك أن نستريح فيه ونتنعم، فقال المشركون: {متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. وقال القتبي: يعني فتح مكة. وقال مجاهد وغيره: هو يوم القيامة. وقوله تعالى [ذكره]: {قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ} يدل على أنه يوم القيامة لأنه قد نفع من آمن من الكفار إيمانهم يوم فتح مكة. وروي أن المؤمنين قالوا: سيحكم الله بيننا يوم القيامة فيثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقال الكفار على التهزي: متى هذا الفتح؟، أي: هذا الحكم. يقال للحاكم فاتح وفتاح لأن الأحكام تنفتح على يديه. وفي القرآن: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 88] أي احكم. ثم قال تعالى: {قُلْ يَوْمَ الفتح} أي: قل لهم يا محمد: يوم الفتح لا ينفع من كفر

بالله وآياته إيمانه في ذلك الوقت، وذلك يوم القيامة. قال ابن زيد " يوم الفتح "، أي: إذا جاء العذاب. وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون للتوبة/ والرجوع إلى الدنيا. ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن هؤلاء المشركين. وهذا منسوخ نسخة آية السيف قوله جل ذكره {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] الآية، قاله ابن عباس وغيره. ثم قال: {وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أي: انتظر ما الله صانع بهم. إنهم منتظرون ما تعدهم من العذاب ومجيئ الساعة.

الأحزاب

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأحزاب سورة الأحزاب مدنية. قوله تعالى ذكره: {يا أيها النبي اتق الله} إلى قوله: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل}. النبي عند جميع النحويين نعت لأي، إلا الأخفش فإنه جعله صلة لأي. وهو غلط لأن الصلة لا تكون إلا في جملة. وأكثر النحويين على منع جواز النصب في {النبي} لأنه نعت لا بد منه، فهو المقصود بالنداء.

وأجاز بعضهم النصب على الموضع، وهذا في الكلام لا في القرآن. والمعنى: يا أيها النبي اثبت على تقوى الله، لأنه كان متقياً. وقيل: هو مخاطبة للنبي والمراد به أمته. ثم قال تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين}. إن جعلته خطاباً للنبي A خاصة فمعنه: لا تطعهم في قولهم لك: اصرف عنا أتباعك من فقراء المؤمنين حتى نجالسك، ولا تطع المنافقين الذين يظهرون لك الإيمان والنصيحة وهم لا يسألونك وأصحابك خبالاً فلا تقبل لهم رأياً. ومن جعله خطاباً للنبي A والمراد به أمته فمعناه: لا تطيعوهم فيما نهيتم عنه فتفعلوه/ ولا فيما أمرتم به فتتركوه. {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} أي: بخلقه وما في نفوسهم واعتقادههم. {حَكِيماً} في تدبيره إياهم. ثم قال: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} أي: اعمل بما ينزل إليك من وحي الله. {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: ذو خبر وعلم باعمالكم في هذا القرآن وفي غيره،

ومن قرأه بالياء رده على المنافقين والكافرين، أي بما يعمل هؤلاء خبيراً. ثم قال تعالى ذكره {وَتَوَكَّلْ على الله} أي: فوض أمرك إلى الله. {وكفى بالله وَكِيلاً} أي: وحسبك بالله في أمرك حفيظاً. ثم قال تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه}. هذا تكذيب لقوم من المنافقين زعموا أن النبي A ذو قلبين. قاله ابن عباس. وعن ابن عباس أيضاً أنه نزلت في رجل من قريش يسمى من حدة ذهنه ذا القلبين فنفى الله ذلك عنه. وقال مجاهد: قال رجل من بني فهر. إن في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فكذبه الله. وقال الحسن: كان رجل يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني، فأنزل الله فيه ما

تسمعون. وقال قتادة وعكرمة: كان ارجل يمسى ذا القلبين، فأنزل الله فيه هذه الآية. وعن قتادة أنه قال: كان رجل لا يسمع شيئاً إلا وعاه، فقال الناس: ما يعي هذا إلا أن له قلبين، فكان يسمى ذا القلبين فأنزل الله ذلك ونفاه. وقال الزهري: نزلت في زيد بن حارثة. ضرب الله له مثلاً يقول: ليس ابن رجل هو ابنك يا محمد. وقيل: المعنى: ما جعل الله لرجل قلباً يحب به، وقلباً يبغض به، وقلباً يكفر به، وقلبً يؤمن به. ثم قال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}. أي: ولم نجعل أزواجكم بقولكم: هي على كظهر أمي أمهاتكم، بل جعل ذلك قولكم كذباً، فألزمكم الكفارة عليه عقوبة على كذبكم.

5

ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ}. أي: ولم يجعل ابن غيرك هو ابنك بدعواك ذلك وقولك. ونزل هذا على النبي A لأجل تبنيه لزيد بن حارثة، قاله مجاهد وغيره. ثم قال: {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} أي: دعواكم يا بُنَيَّ لمن ليس هو ابن لكم قول منكم لا حقيقة له. {والله يَقُولُ الحق} أي: الصدق. وقيل: المعنى قولكم لأوزاجكم: هي علي كظهر أمي، قول منكم لا حقيقة له لأنها ليست بأم لكم. ثم قال: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} أي: يبين لعباده طريق الحق والرشاد. وقوله تعالى ذكره: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} إلى قوله: {مِّيثَاقاً غَلِيظاً}. أي: انسبوا أدعياءكم إلى آبائهم فهو أعدل عند الله. {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ} أي: تعرفوا أسماء آبائهم فتنسبوهم إليهم. {فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين} أي: فهم إخوانكم في الدين إذا كانوا أهل ملتكم. {وَمَوَالِيكُمْ} أي: وهم مواليكم أي: أوليائهم، أي بنو عمكم. ثم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي: لا إثم عليكم في الخطإ يكون

منكم في نسب من تنسبونه إلى غير أبيه إن كنتم ترون أنه أبوه، وليس بأبيه. {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. أي: ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتم من ذلك فنسبتم الرجل إلى غير أبيه معتمدين ذلك، هذا معنى قول قتادة ومجاهد وغيرهما. و" ما " في موضع جر عطف على " ما " الأولى. ويجوز أن تكون في موضع رفع على خبر ابتداءٍ محذوف، والتقدير: ولكن الذي تأثمون فيه ما تعمدت قلوبكم. وقد أجرى بعض الفقهاء الفتيا في غير التعمد على ظاهرة هذه الآية، فجعلها عامة في كل شيء لم يتعمده فاعله. قال عطاء: إذا حلف رجل أنه لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأخذ منه ما يرى أنه حقه فوجدها زائدة أو ناقصة، إنه لا شيء عليه لأنه لم يتعمد. وكذا إذا حلف أنه لا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعلم، إنه لا حنث عليه لأنه لم يتعمد ذلك. وأكثر الفقهاء على خلافه، فالآية عندهم مخصوصة في هذا بعينه. إنما كان هذا قبل

النهي عندهم، أو في دعاء الرجل الرجل لغير أبيه مخطئاً. فهي مخصوصة في أحد الحكمين لا عامة في كل ما لم يتعمد الإنسان، دليله ما أوجبه الله جل ذكره/ على القاتل خطأ. ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً} أي ذا ستر على ذنب من دعا إنساناً بغير اسم أبيه وهو لا يعلم. ومن قال: إن الآية مخصوصة فيما كان قبل النهي، أو هي مخصوصة في أن يدعو الإنسان الرجل إلى أب وهو عنده أبوه، وليس هو كذلك، لم يقف على " ومواليكم " لأن ما بعده متصل به، ومن جعل {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} عاماً في هذا وغيره جعله مستأنفاً، حسن الوقف على {وَمَوَالِيكُمْ}، ثم استأنف ما بعده لأنه عام. فإذا جعلت (ما) في موضع خفض لم تقف على {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [لأن ما بعده معطوف عليه. فإن جعلت (ما) في موضع رفع على ما تقدم وقفت على " أخطأتم به "]. ثم تستأنف: {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}. ثم قال تعالى ذكره: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. أي: أولى بهم من بعضهم لبعض، مثل: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85]

وقيل: المعنى: أمر النبي أولى بالاتباع مما تأمر به النفس. وقال ابن زيد: المعنى: ما قضى فيهم النبي من أمر جاز، كما كلما قضيت على عبدي جاز. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَأَنَا أَوْلَى النَّاس بِه فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَؤْوا إِنْ شِئْتُمْ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم "، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَلَوَرَثَتِهِ وَلِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً أَو ضِيَاعاً فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاَهُ ". وحكى قتادة والحسن: بأنه كان يقرأ في بعض القراءات: " مِنْ أنفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ "، ولا ينبغي أن يقرأ بذلك الآن لمخالفته المصحف والإجماع. ثم قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الحرمة كالأم، فلا يحل تزوجهن من بعد وفاة النبي A كما لا يحل تزويج الابن الأم، وهن في الحق والتعظيم والبِرِّ كالأم.

ويروى أنه إنما فعل ذلك بهم لأنهن أزواجه في الجنة. ثم قال تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} أي: وأولوا الأرحام الذين ورثت يا محمد بعضهم من بعض أولى بالميراث من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون بالهجرة دون الرحم. هذا قول الطبري. قال قتادة: لم يزل المؤمنون زماناً يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فخلط المسلمون بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملل. وقيل: التقدير: وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين أولى بالميراث من غيرهم ممن لا رحم بينهم من المؤمنين المهاجرين. وقال ابن زيد: كان النبي A قد آخى بين المهاجرين والأنصار أول ما كانت الهجرة، فكانوا يتوارثون على ذلك. قال فلما ظهر الفتح انقطعت الهجرة وكثر الإسلام وتوارث الناس على الأرحام، فنسخ التوارث بالهجرة، قال ذلك في كلام طويل تركته إذ الفائدة فيما ذكرت منه. فمعنى الآية على هذا التأويل: وأولوا الأرحام من المهاجرين والأنصار بعضهم أولى ببعض بالميراث من أن يتوارثوا بالهجرة.

ثم قال تعالى: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً}. أي: إلا أن توصوا لقرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة. وقال مجاهد: معناه إلا أن تمسكوا بالمعروف والإحسان بينكم وبين حلفائكم من المهاجرين والأنصار. وقيل: المعنى: إلا أن توصوا لمن حالفتموه واخيتموه من المهاجرين والأنصار، قاله ابن زيد. وقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً}. أي: كان أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مكتوباً، قاله ابن زيد وغيره. وقيل: المعنى: كان منع أن يرث المشرك المسلم مكتوباً في الكتاب، قاله قتادة.

ثم قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ}. المعنى عند الطبري: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً}، أي كتبنا ما هو كائن في اللوح المحفوظ، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ}، كان ذلك أيضاً، في الكتاب مسطوراً، يعني العهد والميثاق. فالعامل في " إذ " على هذا: " كان ". والعامل فيها عند أبي إسحاق/ " اذكر " مضمرة، أي: واذكر إذ أخذنا. قال ابن عباس: أخذ منهم الميثاق على قومهم. وقال ابن أبي كعب: هو مثل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية فأخذ ميثاقهم على الأنبياء منهم الذين كانوا السراج، ثم أخذ ميثاق النبيين خاصة على الرسالة. روى قتادة أن النبي A قال: " كُنْتُ أَوَّلَ الأَنْبِياءِ فِي الخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ ". فلذلك وقع ذكره هنا مقدماً قبل نوح وغيره لأنه أولهم في الخلق.

8

وقيل: المعنى: إن الله جل ذكره أخذ الميثاق على النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً. قال مجاهد: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ}: في ظهر آدم، فالمعنى أخذ الله عليهم الميثاق إذ أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام كالذَّرّ. قوله تعالى ذكره: {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} إلى قوله: {بالله الظنونا}. أي: أخذنا من النبيين ميثاقهم ليسأل الله المؤمنين منهم عما أجابتهم به أمهاتهم. ومعنى سؤال الله جل ذكره عن ذلك الرسل، وهو عالم به، أنه على التبكيت والوبيخ للذين كفروا كقوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ} [المائدة: 116] الآية. ثم قال: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} أي: أعد للمذكبين الرسل عذاباً مؤلماً، أي موجعاً. ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي: اذكروا تفضل الله علكيم فاشكروه على ما فعل بكم.

{إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} يعني جنود الأحزاب من قريش وغطفان. ويهود بني قريظة وغيرهم. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} كانت الريح التي نُصِِرَ بها النبي A: الصبا. قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي تنصري رسول الله A، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بالليل. قال: فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. قال أبو سعيد الخدري: " قُلْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ، قَال: قُولُوا اللهُمَّ اسْتُر عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا. قَال: فَضَرَبَ اللهُ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ باِالرّيحِ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ بِالرّيح ". قال ابن عمر: كانت معي يوم الخندق تُرْسٌ وكان فيها حديد فضربتها الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد.

قال مجاهد: أُرْسِلَتْ على الأحزاب يوم الخندق ريح حتى كفأت قدورهم على أفواهها ونزعت فساطيطهم حتى أظعنتهم. قال قتادة: {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} يعني: الملائكة، قال: نزلت هذه الآية يوم الأحزاب وقد حصر رسول الله A شهراً، فخندق رسول الله حوله وحول أصحابه خارج المدينة، وأقبل أبو سفيان بقريش من تبعه من الناس حتى نزلوا بِعُصْرَةِ رسول الله. [وأقبل عيينة بن حصن أحد بني بدر ومن تبعه من الناس حتى نزل بعصرة رسول الله A] . وكاتبت اليهود أبا سفيان وظاهروه بذلك، حيث يقول تعالى ذكره: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} فبعث الله عليهم الرعب والريح فذكر لنا أنهم

كل ما بنوا بناء قطع الله أطنابه، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها، وكلما أوقدوا ناراً. أطفأها الله حتى لقد ذكِرَ لنا أن سيد كل حي يقول: يا بني فلان هَلُّم إِلَيَّ، حتى إذا اجتمعوا عنده قال: النَّجَاءُ أتيتم، لِمَا بعث الله عليهم من الرغب. قال ابن إسحاق: كانت الجنود قريشاً وغطفان وبني قريظة، وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح: الملائكة، وكانت الريح مع قوتها شديدة البد، وكان في ذلك أعظم آية النبي A. وكانت سبب الأحزاب: أن النبي A لما أجلى بني النضير إلى خيبر، وكانوا قد سادوا العرب وعرفوا بكثرة المال، وهم من بني هارون النبي عليه السلام، فلما انتقلوا إلى خيبر، وحول خيبر من العرب أسد وغطفان حزبت اليهود على النبي العَرَبُ من أسد وغطفان وغيرهم. وخرجوا في ستة آلاف، ثم تدرج كبراء اليهود إلى مكة فحزبوا قريشاً على النبي عليه السلام، وأتبعتهم كنانة واجتمعوا في نحو عشرة آلاف وأتوا المدينة، فنزلوا عليها، فخندق النبي A على المدينة، وكان إخوة بني/ النضير من قريظة وَادَعُوا النبي عليه السلام فلم يزل بهم بنو النضير حتى نقضوا العهد وعاونوهم على النبي عليه السلام، وفيهم نزل:

{وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26]، أي من حصونهم فأرسل الله على جميعهم الريح فزعزعتهم وانقلبوا خائبين، ثم نهض النبي A إلى محاصرة قريظة الذين أعانوا عليه ونقضوا عهده فحاصرهم ونزلوا على حكم سعد، وكانوا ست مائة، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار. قال مالك: كانت وقعة الخندق سنة أربع. وقال ابن إسحاق: فكانت وقعة الخندق وهي الأحزاب في شوال سنة خمس. قال ماك: كان الخندق وقريظة في يوم واحد، انصرف النبي A من وقعة

الخندق، وقد انصرف المشركون، فاغتسل فأتاه جبريل، فقال له: أَوَضَعْتَ الَّلأْمَةَ ولم تضعها الملائكة، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، فخرج إليهم، فحكموا سعداً فيهم، فحكم بسبي الذراري وقتل الرجال ففعل بهم ذلك. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: كانت وقعة أحد على رأس أحد وثلاثين شهراً من الهجرة، وعند منصرف النبي عليه السلام من أحد خرج إلى بني النضير وأجلاهم إلى خيبر وإلى الشام على صلح وقع بينهم قد ذكر في غير هذا الموضع. ثم قال: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي: بأعمالكم في ذلك اليوم وغيره، بصير لا يخفى عليه شيء. ثم قال تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}. العامل في إذ عند الطبري {تَعْمَلُونَ}، أي: وكان الله بصيراً بعملكم إذ جاؤوكم. وقيل: التقدير: اذكر إذ جاؤوكم. وقيل: هي بدل من إذ الأولى.

والاختيار لمن قرأ " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا " بألف أن يقف عليها لأنها إنما جيئ بالألف في هذا على التشبيه بالقوافي والفواصل التي يوقف عليها بالألف فيجب أن تجرى مجرى ما شبهت به. وهي مع ذلك تمام ووقف حسن. وقيل: إن هذه الألِفَات إنما جيئ بها لبيان حركة ما قبلها كهاء السكت، فهذا مؤكد الوقف عليها لمن أثبتها في الوصل والوقف. ويدل على قوة الوقف عليها لمن أثبتها، قراءة الكسائي وابن كثير وحفص بألف فيهن في الوقف دون الوصل. ومعنى الآية: واذكروا إذ جاءتكم جنود الأحزاب من فوقكم ومن أسفل منكم.

قال يزيد بن رومان: الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاؤوهم من أسفل منهم قريش وغطفان. ومعنى {وَمِنْ أَسْفَلَ} من ناحية مكة. وكان النبي A قد أقر بني قريظة ولم يؤذهم وكتب لهم عهوداً، وكتبوا له في الموادعة والصلح، فنقضوا العهود وجمعوا الجموع ونافقوا [عليه] مع قريش، وكان المتولي لذلك حُيي بن أخطب، استمد علكى النبي A بقريش ومن اتبعه من العرب، واستمدت قريش بعيينة بن بدر فأقبل بمن أطاعه من غطفان. " واستمدت غطفان بحلفائهم من بني أسد، واستمدوا الرجال من بني سليم فخرجوا في جمع عظيم، فهم الذين سمّاهم الله الأحزاب، فلما بلغ النبي A خروجهم

أخذ في حفر الخندق، فوضع النبي A يده في العمل فعملوه مستعجلين يبادرون قدوم العدو، ورأى المسلمون أن النبي A بطش معهم في العمل ليكون أجد لهم وأقوى بإذن الله. فذكر أنه عرض لهم حجر في محفرهم، فأخذ رسول الله A معولاً من أحدهم فضرب به ثلاثاً، فكسر الحجر في الثالثة، فذُكِر أن سلمان الفارسي أبصر عن كل ضربة بُرْقَةً ذَهَبَتْ ثَلاَثَةَ وُجُوهٍ، كل مرة يتبعها سلمان بصره، فذكر ذلك سلمان لرسول الله A، فقال: قد رأيتُ كهيئة البرق وموج الماء عند كل ضربة ضربتها يا رسول الله، ذهبت إحداهن نحو المشرق، والأخرى نحو اليَمَن، والأخرى نحو الشام، فقال النبي A: " أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلمَان؟ قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ ذَلِكَ/ قَالَ: فَإِنَّهُ ابْيَضَّ إِحْدَاهُنَّ مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَدَائِنُ تِلْكَ البِلاَجِ، وَفِي الأُخْى مَدِينَةُ الرُّومِ والشَّامِ، والأخْرَى مَدَائِنُ اليَمَنِ وقُصُورُهَا، والتِي رَأَيْتُ [بِالبَصَرِ] تَبْلُغُهُنَّ الدَّعْوةُ إِنْ شَاءَ اللهُ ". وكان حفر الخندق في شوال في سنة أربع من الهجرة، فلما تم الحفر أقبل أبو

سفيان ومن معه من المشركين فنزلوا بأعلى وادي [فينا] من تلقاء الغاية فحاصروهم قريباً من عشرين يوماً. وقيل أكثر من ذلك. فلما اشتد البلاء على المسلمين نافق كثير من الناس وتكلموا بكلام قبيح، فلما رأى النبي A ما الناس فيه من البلاء جعل يبشرهم ويقول: " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِيُفَرِّجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ، وَإِنِي لأَرْجُوا أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ العَتِيقِ آمِناً، وَأَنْ تُدْفَعَ إِلَيَّ مَفَاتِيحُ الكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللهُ قَيْصَراً وَلَنُنْفِقَنَّ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ". فقال رجل من المنافقين: ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب لغائط، ما يعدنا إلا غروراً. وقال آخرون منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال آخرون: إئذن لنا فإن بيوتنا عورة، فوجه النبي A إلى بني قريظة ليذكرهم حلفهم ويناشدهم، فسبوا الرسل وعندوا عن الحق وأبو إلا نقض العهد والخلاف عليه فشقَّ ذلك على النبي عليه السلام والمسلمين، فلما اشتدّ الأمر على المسلمين قال النبي عليه السلام: " اللهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ عَهْدكَ وَوَعْدَكَ، اللهُمَّ إِنْ تَشَاء لاَ تُعْبَد ".

وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي، من المشركين على فرس له ليقحمه على الخندق، فوقع في الخندق فقتله الله وَكَبتَ به المشركين، وعظم في صدورهم، فأرسلوا إلى النبي A يسألونه أن يعطوه الدية على أن يدفعه إليهم ليدفنوه فأبى أن يأخذ منهم شيئاً، ولم يمنعهم من دفنه. ورمي يومئذ سعد بن معاذ رمية فطعت الأَكْحَلَ من عضده، فقال: اللهم اشْفِنِي من بني قريظة قبل الممات، فرقاً الدم بعدما انفجر. وكان هو الذي وجهه النبي عليه السلام إلى بني قريظة يذكرهم العهد ويناشدهم الله فيما عقدوا مع النبي، فسبوه وأبلغوا فيه، فرجع إلى النبي مغضباً عليهم، فلما فرج الله تعالى عن المسلمين وتفرقت الأحزاب عنهم، أمر الله نبيه بقتال بني

قريظة، فخرج النبي عليه السلام إليهم فقاتلم، فتحصنوا في حصونهمه، فحاصرهم بضع عشر ليلة فعظم عليهم البلاء، فسألوا رسول الله A أن يحكم فيهم رجلاً، وأن يختاروا من شاؤوا من أصحابه، فاختاروا سعداً فنزلوا على حكمه، فحكم فيهم سعد بأن يقتل مقاتلهم وتسبى نساؤهم وذراريهم وتقسم أموالهم، فروي أن النبي A قال لسعد: " حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ ". فقتل رسول الله مقاتلهم - وكانوا ست مائة مقاتل -، وسبى ذراريهم، ثم أعقب الدم على سعد فلم يَرْقأ حتى مات Bهـ، فروي أن النبي A قال: " أَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام حَيْثُ قُبِضَ سَعْدٌ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ مُعْتَجِراً بِعِمَامَةٍ مِنِ اسْتَبْرَقٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدَ مَنْ هَذَا الحَبِيبُ الِّي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوابُ السَّمَاءِ واهْتَزَّ العَرْشُ، فَقَمَ النَّبِيُّ A سَرِيعاً يَجُرُّ ثَوْبَهُ إِلى سَعْدِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ، وقَالَ حَمَلَةُ نَعْشِ سَعْدٍ: إِنْ كَانَ لَبَادِناً وَمَا حُمِلَتْ جَنَازَةٌ أَخَفَّ مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ A فَقَالَ: إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرُكُمْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ اسْتَبْشَرَتِ المَلاَئِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ واهْتَزَّ لَهُ العَرْشُ ".

ابن القاسم عن مالك قال: حدثني يحيى بن سعيد: لقد نزل الموت سعد سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبلها. ثم قسم رسول الله أموالهم بين من حفر من المسلمين المهاجرين خاصة، وكان جميع الخيل التي مع النبي A ستة وثلاثين فرساً، فقسم لكل فرس سهمين، وأخرج حيي بن أخطب فقال له النبي عليه السلام/: " هَلْ أَخْزَاكَ اللهُ؟ فَقَالَ: قَدْ ظَهَرْتَ عَلَيَّ، وَمَا لمتُ نَفْسِي فِي جِهَادِكَ والشِّدَّةِ عَلَيْكَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ A فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، كُلُّ ذَلِكَ بَعَيْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ". وروي أن النبي A كاتبهم، وذلك أنه دس على الأحزاب من قال لهم: إن بني قريظة أرسلوا إلى النبي يدعونه إلى الصلح على أن يرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم ويدفعون إليه الرهن الذي عندهم من رجال قريش، وذلك أن بني النضير قالت لقريش: لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين رجلاً منكم رهناً عندنا، فلما بلغ ذللاك قريشاَ عظم عليهم الأمر ووجهونما إلى بني النضير أن يقاتلوا معهم، فقالت بنو النضير: وجهوا إليها الرهن، ونقاتل، فتحقق الأمر عند قريش، فعملوا على الانصراف [عن] النبي عليه السلام مع ما حلَّ بهم من الريح، وما دخل قلوبهم من الرعب، فكان ذلك كله من

سبب تفرقهم عن النبي لطفاً من الله بالمؤمنين. وروي أن الرجل الذي مضى بذلك إلى قريش هو نعيم بن مسعود، فلما قضى الله قضاءه في بني قريظة وصرف المشركين عن النبي نزل القرآن يعرف الله المؤمنين نعمته التي أنعم عليهم من الريح والجنود التي أرسل على عدوهم. وقوله: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} هو ما كان المنافقون يخوضون فيه في أمر النبي A وأصحابه، وقولهم: ما وعدنا الله ورسوله إلاَّ غروراً، وقولهم: لا مقام لكم، فأمر بعضهم بعضاً بالانصراف عن نصرة رسول الله A، ثم ذكر الله تعالى المسلمين وصبرهم على البلاء، وأن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يبدلوا ديناً ولا نية على ما كانوا عليه. وروي أن قوله: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ}، نزلت في قوم من المؤمنين تخلَّفوا عن بدر لعذر منعهم، فعاهدوا الله لئن جاءهم مثل يوم بدر ليرين مكانهم، فلما كان يوم أحد قاتل بعضهم حتى مات، ووفى بعهده، فهو قوله جل ذكره: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ}، وبقي بعضهم سالماً، وهو قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ}، ثم أخبر عنهم أنهم ما بدلوا، يعني:

عهدهم بم ينقصوه. ثم ذكر أنه تعالى رد الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأنه كفى الله المؤمنين قتالهم، ثم ذكر بني قريظة ونصره للمؤمنين عليهم، فقال: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب} أي: عاونوا قريشاً ومشركي العرب على حرب النبي A، واصحابه. {مِن صَيَاصِيهِمْ} أي: من حصونهم، يعني بني قريظة، وأنه قذف في قلوبهم الرعب. {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي تقتلون المقاتلة، وتسبون النساء والأطفال، وأنه أورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم وأنزل الله في ذلك تسعاً وعشرين آية أولها: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ}. ومعنى: {زَاغَتِ الأبصار}: شخصت من الخوف. والبصر الناظر، وجملة العين المقلة وهي شحمة العين: البياض والسواد، وفي المقلة الحدقة، وهي السواد الذي في وسط المقلة، وفي الحدقة الناظر، وهو موضع البصر يسمى الإنسان، والعين كالمرآة يرى فيها الوجه وفيها الناظر، وهما عرقان على حرف الأنف يسيلان من المؤقين إلى الوجه، وفيها أشياء كثيرة قد ذكرت في خلق الإنسان. وقوله: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} أي نَبَتْ عن أماكنها من الرعب. قال قتادة: لولا أن الحلقوم ضاقت عنها لخرجت.

11

والمعنى كادت تبلغ الحناجر. وقيل: المعنى بلغ وجفهَا من شدة الفزع الحلوق، فهي بالغة الحلوق بالوجيف. ثم قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} أي: ظننتم أن رسول الله A يغلب. هذا خطاب للمنافقين، ظنوا ظنوناً كاذبة فأخلف الله ظنهم بنصره للمؤمنين. قوله تعالى ذكره: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} إلى قوله {وَذَكَرَ الله كَثِيراً}. هنالك ظرف زمان، والعامل فيه " ابتلي ". والتقدير: وقت ذلك اختبر المؤمنون فعرف المؤمن من المنافق، والابتداء به حسن على هذا. وقيل: إن العامل فيه " {وَتَظُنُّونَ} " أي: وتظنون بالله الظنون الكاذبة هنالك/، والابتداء به على هذا التقدير. ثم قال تعالى: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} أي: حركوا وأزعجوا بالفتنة إزعاجاً شديداً. ثم قال: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: شك في الإيمان وضعف في الاعتقاد. {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}.

يروى أن قائل ذلك معتب بن قشير، قاله يزيد بن رومان، وقد تقدم ذكر هذا. ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يا أهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} أي: قال طائفة من المنافقين: يا أهل يثرب لا تقيموا مع النبي وارجعوا إلى منازلكم، ويثرب اسم أرض ومدينة النبي A في ناحية من يثرب. ثم قال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} أي: يستأذن طائفة من المنافقين النبي في الانصراف إلى منزلهم اعتلالاً بالخوف على منزله من السرق، وليس به إلا الفرار والهرب. قال ابن عباس: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا مخلاة نخاف عليها السرق. قال قتادة: يقولون بيوتنا مما يلي العدو وإنا نخاف عليها السرق. ففضحهم الله، وقال: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أي: ما يريدون إلا الهرب. يقال: أعور المنزل إذا ضاع ولم يكن له ما يستره أو سقط جداره. وقرأ يحيى بن

يعمر وأبو رجاء " عَوِرَةٌ " بكسر الواو، فمعنى عورة: ضائعة. وقيل: معنى قراءة الإسكان: إن بيوتنا ذات عورة، يقال للمرأة: عورة، فالمعنى ذات نساء نخاف عليهن العدو. ويجوز أن تكون عورة مسكنة من " عَوِرَة ". ويجوز أن تكون مصدراً. ويجوز أن تكون اسم فاعل على السعة، كما يقال: رجل عَدْلٌ أي عَادِلٌ.

ثم قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا}. [أي: لو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين: إن بيوتنا عورة من جوانبها قاله قتادة. {ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا}] أي: لو سئلوا الشرك لأعطوه من أنفسهم طائعين، ومن قطر لأتوه، فمعناه: لجاؤوا الكفر طوعاً. وقيل: المعنى: ولو دخلت عليهم البيوت من نواحيها ثم سئلوا الشرك لقبلوه وأتوه طائعين. ثم قال تعالى: {وَمَا تَلَبَّثُواْ} أي بالمدينة. قاله القتبي. وقيل: المعنى: وما تلبثوا بالفتنة. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} أي: ولقد كان هؤلاء الذين يستأذنون رسول الله في الانصراف عنه عاهدوا الله من قبل لا يولون عدوهم الأدبار فما أوفوا بعهدهم. {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} أي: يسأل الله ذاك من أعطاه إياه من نفسه. وذكر أن ذلك نزل في بني حارثة لما كان من فعلهم، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة، وهو قوله جل ذكره: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} [آل عمران: 122]، ثم عاهدوا الله لا يولون العدو الأدبار ولا يعودون لمثلها فذكر الله لهم ما قد أعطوا من أنفسهم ولم يفوا به.

قال قتادة: كان ناس غابوا عن وقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أصحاب بدر من الكرامة والفضل فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن، فساق الله إليهم ذلك حتى كان ناحية المدينة. ثم قال تعالى: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل} أي: قل لهم يا محمد لا ينفعكم هروبكم إن هربتم من الموت أو القتل لأن ذلك إن كان كتب عليكم فلا ينفعكم فراركم شيئاً، لا بد لكم مما كتب عليكم. {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لا يزيد لكم فراركم في أعماركم شيئاً بل إنما تمتعون في هذه الدنيا إلى الوقت الذي كتب لكم، لا تجاوزوه، هو قليل لأن الدنيا كلها متاع قليل، فما بقي من أعماركم أقل من القليل. ثم قال تعالى: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله} أي: يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً في أنفسكم أو عاقبة وسلامة، فليس الأمر إلا ما قدر الله. ثم قال: {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي: لا يجدون لأنفسهم من يليهم بالكفالة مما قدر الله عليهم من سوء، ولا نصيراً ينصرهم مما أراد بهم. ثم قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} اي: قد يعلم الله الذين يعوقون الناس فيصدونهم عن رسول الله في حضور الحرب. وهو مُشتق من عاقني عن كذا، أي: صرفني عنه ومنعني، وعوق على التكثير لعاق فهو مُعَوِّقٌ.

ثم قال: {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي تعالوا إلينا ودعوا محمداً فإنا نخاف عليكم الهلاك. {وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} أي: الحرب والقتال، لا يشهدون ذلك إلا تعذيراً، ودفعاً للمسلمين عن/ أنفسهم ورياءً، وهذا كله في المنافقين. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لأخوانهم ما محمد وأصحابه إلا أُكْلَةُ رأسٍ ولو كانوا لَحْماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه دعوا هذا الرجل فإنه هالك. وقال ابن زيد: نزلت في آخوين أحدهما مؤمن والآخر منافق، جرى بينهما كلام في أمر رسول الله A، فقال المنافق للمؤمن: هلمَّ إلى الطعام فقد نعق بك وبصاحبك والذي يحلف به، لاستقبلهما محمداً أبداً، فقال له المؤمن: كذبت والذي يحلف به، ثم أخبر النبي A بذلك، فنزلت: {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}. ثم قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}. قال الفراء: هو منصوب على الذم، وأجاز نصبه على الحال، وقدره: يعوقون أشحة. وقيل: هو حال، والتقدير: والقائلين لأخوانهم أشحة.

وقيل: التقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً، يأتونه أشحة، أي أشحة على الفقراء بالغنيمة جبناء. وقال الطبري: التقدير هلمَّ إلينا أشحة. وقال السدي بنصبه على الحال، والتقدير: ولا يأتون البأس إلا قليلاً بخلاً عليهم بالظفر والغنيمة. ومن جعل العامل في أشحة " المُعَوِّقِينَ " أو " القائلين " فقد غلط لأنه تفريق بين الصلة والموصول. قال قتادة: معنا أشحة عليكم في الغنيمة. وقال مجاهد: أشحة عليكم في الخير. وقيل: التقدير: أشحة عليكم بالنفقة على الضعفاء منكم. والتأويل: جبناء عند الناس أشحاء عند قسم الغنيمة. وقال يزيد بن رومان: أشحة عليكم للضغن الذي في أنفسهم.

ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} أي: فإذا جاء يا محمد القتال وخافوا (الهلاك) رأيتهم ينظرون إليك لواذاً عن القتال تدور أعينهم خوفاً من القتال. {كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي يُغشى عليه من الموت النازل به. ثم قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي: فإذا زال القتال عفوكم بألسنة ذربة. يقال للرجل الخطيب: مِسْلَقٌ وَمِسْلاقَ وَسَلاقٌ بالسين والصاد فيهن، أي: بليغ. والمعنى: أنهم عند قسم الغنيمة يتطاولون بألسنتهم لشحهم على ما يأخذ المسلمون، يقولون: أعطونا أعطونا، فإنا شهدنا معكم، وهم عند البأس أجبن قوم، هذا معنى قول قتادة. ويدل على صحة هذا التأويل قوله بعد ذلك: {أَشِحَّةً عَلَى الخير} أي: على الغنيمة إذا ظفر المسلمون. وقيل: بل ذلك أذى المنافقين للمسلمين بألسنتهم عند الأمان. قاله ابن عباس

ويزيد بن رومان. ثم قال تعالى ذكره: {أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ} أي: هؤلاء المنافقون الذين تقدمت صفتهم لم يصدقوا بالله ورسوله بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم، أي: أذهبا وأبطلها. ويروى أن الذي وُصِفَ بها كان بدرياً فأحبط الله عمله، قاله ابن زيد. {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} أي: وكان إحباط أعمالهم على الله هيناً حقيراً. وتقف على " {إِلاَّ قَلِيلاً} " إذا نصبت " أشحة " على الذم، ولا تقف عليه على غير هذا التقدير. قال تعالى: {يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي: يحسب هؤلاء المنافقون من جبنهم وخوفهم أن الأحزاب لم ينصرفوا وأنهم باقون قريباً منهم. ثم قال تعالى: {وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب} أي: وإن يأتكم الأحزاب لحربكم ودّ هؤلاء المنافقون لو أنهم في البادية غيب عنكم يسألون عن أخباركم من بعيد جبناً منهم وهلعاً من القتل، يقولون: هل هلك محمد وأصحابه؟ يتمنون أن يسمعوا هلاكهم. وقرأ طلحة: " لَو أَنَّهُمْ بُدًّى " فِي الأَعْرَابِ مثل: غُزىًّ.

22

ثم قال تعالى: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لو كانوا معكم لم يقاتلوا معكم إلا تعذيراً لكم لأنهم لا يحتسبون في ذلك ثواباً ولا جزاءً. ثم قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} هذا عتاب من الله للمستخفين عن رسول الله A بالمدينة من المؤمنين، أي: كان لكم أن تتأسوا به، وتكونوا معه حيث كان ولا تتخلفوا عنه. ثم قال: {لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله} / أي: ثواب الله في الآخرة. {واليوم الآخر} أي: ويرجوا عاقبة اليوم الآخر. {وَذَكَرَ الله كَثِيراً} أي: وأكثر ذكر الله في الخوف والشدة والرخاء. قوله تعالى ذكره: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} إلى قوله: {غَفُوراً رَّحِيماً}. أي: ولما عاين المؤمنون جماعة من الكفار، وقالوا تسليماً منهم لأمر الله وتصديقاً بكتابه: {هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} يعنون قوله تعالى ذكره: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} [البقرة: 214]. ثم قال: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} أي: ما زادتهم الرؤية لذلك إلا إيماناً بالله وتسليماً لأمره، وإنما ذكِرَ " زادهم " لأن تأنيث الرؤية غير حقيقي. ودل " رأي " على الرؤية، هذا قول الفراء وعلي بن سليمان.

وقال غيرهم: التقدير: وما زادهم اجتماع المشركين عليهم إلا إيماناً، هذا كله مأخوذ من قول ابن عباس وقتادة وغيرهما. قال الحسن: معناه ما زادهم البلاء إلا إيماناً بالرب وتسليماً إلى القضاء. ثم قال تعالى: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} أي: أوفوا بالصبر على البأساء والضراء إذ قد عاهدوا الله أن يصبروا إذا امتحنوا. ثم قال: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} أي: فرغ من العمل الذي قدره الله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بَدْر وبعض يوم أُحُد وبعض في غير ذلك من المواطن. {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} قضاءه والفرغ منه على الوفاء لله بعهده. وأصل النحب في كلام العرب النذر، ثم يستعمل في الموت والخطر العظيم، وقيل: النحب: العهد. قال الحسن: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} موته على الصدق. وقال قتادة: على الصدق والوفاء. قال ابن عباس: نحبه هو الموت على ما عاهد الله، ومنهم من ينتظر الموت على

ما عاهد الله عليه. ويروى أن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدو بدراً، فعاهدوا الله إن لقوا قتالاً للمشركين مع رسول الله أن يبلوا من أنفسهم، فشهدوا ذلك مع رسول الله، فمنهم من وفى فقضى نحبه، ومنهم من بدّل وهم الذين قال الله D فيهم: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأحزاب: 15] الآية، ومنهم من وفى ولم يقض نحبه فهو منتظر للموت. قال أنس: تغيَّب أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: تغيَّبت عن أول مشهد شهده رسول الله A، لئن رأيت قتالاً ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وهزم الناس لقي سعد بن معاذ فقال: والله إني لأجد ريح الجنة فتقدم فقَاتَل حتى قُتِلَ، فنزلت هذه الآية: {مِّنَ المؤمنين}، وقال أنس: فوجدناه بين القتلى به بعضاً وثمانين جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه حتى عرفته أخته.

25

وقيل: معنى {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} الإسلام. وقوله: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أي: ما غيّروا العهد ولا الذين كما غيره المعوقون القائلون لأخوانهم هلم إلينا. قال قتادة: معناه ما شكوا ولا ترددوا في دينهم ولا استبدلوا به غيره. ثم قال تعالى: {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} أي: صدقوا ليثبت أهل الصدق منهم بصدقهم الله على ما عاهدوا عليه. {وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ} بكفرهم ونقضهم ما عاهدوا الله عليه، أو يتوب عليهم، أي يخرجهم من النفاق إلى الإيمان به. ومعنى الاستثناء في هذا أن المعنى: ويعذب المنافقين بأن لا يتوب عليهم، ولا يوفقهم للتوبة، فيموتوا على نفاقهم إن شاء، فيجب عليهم العذاب، فعذاب المنافق لا بد منه لأنه كافر، والاستثناء إنما هو من أجل التوفيق لا من أجل العذاب، ويبين ذلك قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فالمعنى ويعذب المنافقين إن لم يهدهم للتوبة، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم. ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي: أن الله لم يزل ذا ستر على ذنوب التائبين، رحيماً بهم أن يعذبهم بعد توبتهم. قوله تعالى ذكره: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً}. أي: ورد الله الأحزاب بغيظهم أي بِكَرْبِهِم وعمهم لفوتهم ما أملوا من الظفر لم

ينالوا من المسلمين مالاً ولا غيره. {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالريح/ والجنود التي أنزل الله من الملائكة. روى عبد الرحمن بن أبي سعدي الخدري عن أبيه أنه قال: حُبِسْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ عَنِ الصَّلاةِ فَلَمْ نُصَلِّ الظُّهْرَ وَلاَ العَصْرَ وَلاَ المَغْرِبَ وَلاَ العِشَاءَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ العِشَاءِ بِهَويٍّ فَكَفَيْنَا فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى: {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} الآية " فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ A بِلالاً فَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصلَّى الظُّهْرَ فَأَحْسَنَ صَلاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى المَغْرِبَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ كَذَلِكَ، لِكُلِّ صَلاَةٍ إِقَامَةٌ. وقوله: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} أي: قوياً في أمره عزيزاً في نقمته. ثم قال تعالى: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ} يعني بني النضير وبني قريظة عاونوا المشركين على النبي وأصحابه، فأنزلهم الله من حصونهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} يعني المُقَاتِلَةَ. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} يعني النساء والصبيان كما حكم فيهم سعد، لأنهم حكموه في أنفسهم لحلف كان بينهم وبين قوم سعد فطمعوا أن يميل معهم، فلم تأخذه في الله

لومة لائم، وحكم بقتل ماقتلهم وسبي ذراريهم، وقد مضى ذكر ذلك. وأصل الصَّيْصَّةِ ما تمنتع به، فلذلك قيل للحصن صيصية لأنه يمتنع به، ولذلك يقال لقرون البقر صياصي لأنها يمتنع بها. وذكر قتادة وغيره: " أن النبي A بعد ذهاب الأحزاب عنه دخل بيت زينت بنت جحش يغسل رأسه فبينما هو يغسله إذ أتاه جبريل A، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة فإني قطعت أوتادهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبَلْبَالِ فاسْتَلأَمَ A، ثم سلك شق بني غنم، فاتَّبَعَهُ الناس، فأتاهم رسول الله فحاصرهم، وناداهم يا أخوة القرود، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فاحشاً، فنزلوا على حكم سعد فحكم بقتل مقاتلهم - وكانوا ست مائة -، وسبي ذراريهم، وقسم عقارهم بين المهاجرين دون الأنصار، فقال

قومه: أَأَثَرْتَ المهاجرين بالعقار علينا، قال: فإنكم كنتم ذوي عقار وأن المهاجرين لا عقار لهم ". ثم قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أي: ملككم ذلك بعد مهلكهم. ثم قال: {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا}. قال الحسن: هي أرض فارس والروم ونحوهما من البلاد. وقال قتادة هي مكة. وقال يزيد بن رومان: هي خيبر. وكذلك قال ابن زيد. ثم قال: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي: لا يعتذر عليه ما أراد. ثم قال: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} الآية أي: إن كنتن تَخْتَرنَ الحياة الدنيا على الآخرة. {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} بما أوجب الله على الرجال لنسائهم من المتعة عند مفارقتهن بالطلاق.

ومعنى {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}: أطلقكن طلاقاً جميلاً، أي: على ما أذن الله به وأدب به عباده، وهو قوله {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. ثم قال: {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ} رضي الله ورسوله، {فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} أي: للعاملات منكن بأمر الله ورسوله أجراً عظيماً. روي أن هذه الآية نزلت من أجل عائشة سألت رسول الله شيئاً من عرض الدنيا، واعتزل رسول الله لذلك نساءه شهراً، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر والرضى بما قسم لهن والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن. وروي أن النبي A " لم يخرج لصلوات فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأَْعْلَمَنَّ لكم ما شأنه، فأتى النَّبِيَّ فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيَّ شيء أكلم به رسول الله لعله يَنْبَسِطُ؟ قال: فقلت يا رسول الله لو رَأَيْتَ فُلاَنَةَ وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال: ذَلِكَ حَبَسَنِي عَنْكُمْ، فأتى عمر حفصة فقال لها: لا تسألي رسول الله A شيئاً، ما كانت لك من حاجة فإليّ، ثمَّ

تتبع نساء النبي فجعل/ يكلمهن، فقال لعائشة: أَيَغُرُّكِ أنك امرأة حسناء وأن زوجك يحبك، لتنتهين أو لينزلن الله فيكن القرآن، فقالت له أم سلمة: يا ابن الخطاب أو ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله A وبين نسائه، من يسأل المرأة إلا زوجها، ونزل القرآن: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً}، فبدأ بعائشة وخيرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدَأْتَ بأحد من نسائك قبلي؟ قال: لا، قالت: فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ولا تخبرهن بذلك، ثم تتبعهن فجعل يخبرهن ويقرأ عليهن القرآن ويخبرهن بما صنعته عائشة فتتابعن على ذلك ". قال قتادة والحسن: خيَّرهن بين الدنيا والآخرة والجنة والنار في شيء كُنَّ أَرَدْنَهُ من الدنيا. وقال عكرمة: في غَيْرَةٍ كانت غارتها عائشة، وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة ابنة أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم

سلمة بنت أبي أمية، وكانت تحته صفية بن حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بن الحارث من بني المُصْطَلِق، فبدأ بعائشة فاختارت الله ورسوله، فرُئِيَ الفرح في وجه رسول الله A فتتابعن كلهن على ذلك. قال الحسن وقتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك فقال: لاَ

يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ " الآية، فقصره الله عليهن. وقال ابن زيد: كان سبب ذلك الغيرة. وقد روي في ذلك أخبار كثيرة يختلف لفظها والمعنى يرجع إلى ما ذكرنا في جميعها. قال ابن شهاب: امرأة واحدة اختارت نفسها فذهبت وكانت بدوية. قال ربيعة: فكانت البتمة. قيل كان اسمها عمرة بنت يزيد الكلابية، اختارت الفراق وذهبت، فابتلاها الله تعالى بالجنون. ويقال: إن أباها تركها ترعى غنماً له فصارت إحداهن، فلم يعلم

ما كان من أمرها وخبرها إلى اليوم. ويقال: إنها كِنْدِية، ويقال: إنها لم تختر، وإنما استعاذت من رسول الله A فردَّها، وقال: " لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمُعَاذٍ ". ويقال إنه دعاها، فقالت: إنا قوم نُؤتى ولا نأتي. وإذا خيّر الرجل امرأته فاختارت نفسها فهي البتة، وإن اختارت واحدة أو اثنتين أو لم تختر شيئاً، أو قالت: أخترت زوجي، فلا شيء في ذلك كله بالمدخول بها، وهي زوجة على حالها.

30

قال ابن عبد الحكم: معنى خيّرهن: قرأ عليهن الآية. ولا يجوز أن يخيّرهن بلفظ التخيير لأنا لتخيير إذا قُبِلَ ثلاثاً، والله أمره أن يطلق النساء لعدتهن، وقد قال: سَرَاحاً جَمِيلاً، والثلاث ليس مما يَجْمُلُ مِنه، فالسراح الجميل هو واحدة لا الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير. قوله تعالى: {يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} إلى قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}. قال الطبري: الفاحشة هنا الزنا. {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب} أي: على فعلها، وذلك في الآخرة. {ضِعْفَيْنِ} أي: على عذاب أزواج غير النبي عليه السلام إذا أتين بفاحشة. وقيل: إذا أتت الفاحشة المبينة فهي عصيان الزوج ومخالفته، وكذلك معناها في هذه الآية لا الزنى. فإذا أتت الفاحشة بالألف واللام فهي الزنا واللواط. وإذا أتت نكرة غير منعوتة ببينة فيه تصلح للزنا وغيره من الذنوب. قال قتادة: يعني عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

وقال ابن عباس: يعني به عذاب الآخرة. وقال أبو عبيدة: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} يجعل ثلاثة أضعاف، أي: ثلاثة أعذبة. وقال أبو عمرو: {يُضَاعَفْ} للمرار الكثيرة ويَضَعَّفُ مرتين. ولذلك قرأ " يُضَعَّفُ ". وأكثر أهل اللغة على خلافها لأن يضاعف ضعفين ويضعف ضعفين واحد، بمعنى مثلين كما تقول: إن دفعت إلي درهماً دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه يعني درهمين، ويدل على صحة هذا قوله: {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} فلا يكون العذاب أكثر من الأجر، وقد قال تعالى: {[رَبَّنَآ] آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 68] أي مثلين.

ثم قال تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: ومن/ يطع منكن الله ورسوله وتعمل بما أمرها الله به، {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي ثواب عملها مثلي ثواب غيرها من نساء المؤمنين. {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي في الآخرة، يعني به: في الجنة. ثم قال تعالى: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن} أي: لستن في الفضل والمجازاة كأحد من نساء هذه الأمة، إن اتقيتن الله بالطاعة له ولرسوله. ووقع أحد في موضع واحدة لأنه أعم إذ يقع على المؤنث والمذكر الواحد والجمع بلفظ واحد. فقوله: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} أي: لا تُلِنَّ القول للرجال. {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: شك ونفاق، أي يطمع في الفاحشة استخفافاً بحدود الله. قال عكرمة {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي شهوة الزنا. قال قتادة: {مَرَضٌ} نفاق. ثم قال تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي: قولاً أَذِنَ الله لكن فيه وأباحه لكن. قال ابن زيد: معناه: قولاً جميلاً معروفاً في الخير. ثم قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي: اثبتن في بيوتكن.

هذا على مذهب من قرأ بكسر القاف، يكون عند الفراء وأبي عبيد من الوقار، يقال وَقَرَ يَقِرُّ وُقُوراً إذا ثبت في منزله. وقيل: هو من قَرَّ في المكان إذا ثبت أيضاً، فيكون الأصل: واقْرِرْنَ فحذفت الراء الثانية استثقالاً للتضعيف، وألقيت حركة الأولى الباقية على القاف فاستغني عن ألف الوصل، فصار وَقِرْنَ كما تقول ظِلْتُ أفعل بكسر الظاء. فأما قراءة من فتح القاف، وهي قراءة نافع وعاصم، فهي لغة لأهل الحجاز، يقولون: قَرَرْتُ بالمكان أَقَرَّ، بمنزلة قَرِرْتُ به عيناً أَقَرُّ، حكاه أبو عبيد في

" المصنف " عن الكسائي. فيكون التقدير: واقْرِرْنَ [في بيوتكن]، ثم أُعِلَّ في الأولى فيصير: وَقَرْنَ. ويجوز أن يكون من قرة العين هذا على الحذف، والاعتلال أيضاً، وشاهده قوله: {ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] فيكون التقدير: واقررن عيناً في بيوتكن. وروي أن عماراً قال لعائشة Bها: إن الله قد أمرِك أن تَقَرّي في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، زا زلت قَوَّالاً بالحق، فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} أي: إذا خرجتن من بيوتكن. قال قتادة: التبرج في هذا الموضع التبختر والتكسر، وكانت الجاهلية الأولى

مشية فيها تكسير وتغنج فنهاهن الله عن ذلك. وقيل التبرج إظاهر الزينة للرجال. وحقيقتها إظهار ما ستر الله، وهو مأخوذ من السعة. يقال في أسنانه بَرَجٌ إذا كانت متفرقة. والجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد عليه السلام. وروي أن هذه الفاحشة كانت ظاهرة في هذا الوقت، وكانت ثم بغايا يقصدن للفاحشة. وقيل: ما بين نوح وآدم عليه السلام كان بينهما ثمان مائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون، ورجالهم أحسن ما يكون، فكانت المرأة تريد الرجل على نفسه. وقال ابن عباس هو ما بين إدريس ونوح عليه السلام، وكان ذلك ألف سنة، وأن بطنين من وُلْدِ آدم أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبال

صِبَاحاً والنساء قباحاً، وكان نساء السهلِ صِباحاً والرجال قباحاً، وأن إبليس أتى رجلا من السهل في صورة غلام فأجر نفسه منه فكان يخدمه، واتخذ إبليس شيئاً من الذي يرمز فيه الرِّعَاء فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون له في السنة، فتبرج الرجال حسناً، وتبرج النساء للرجال وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوةا إليهن، فنزلوا معهن، فظهرت الفاحشة فيهم فهو قوله جل ذكره: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى}. وقوله: {الجاهلية الأولى} يدل على أن ثم جاهلية أخرى في الإسلام، دل على ذلك/ قول النبي A " ثَلاثَ مِنْ عَمَلِ أهلِ الجَاهِلِيَّة لا يَدَعْهُنَّ النَّاسُ: الطَّعْنُ بِالأنْسابِ، والاسْتِمْطارُ بالكَواكِبِ وَالنِياحَةُ ". (وقال ابن عباس لعمر لما سأله عن الآية، فقال له: وهل كانت الجاهلية إلا

واحدة؟)، فقال ابن عباس: هل كانت أولى إلا ولها آخرة؟ فقال له عمر: لله دَرُّكَ يا ابن عباس/، كيف قلت؟ فأعاد ابن عباس الجواب. وقال النبي صلى الله عليه سلم لأبي الدرداء وقد عيّر رجلاً فوعاه يا ابن فلانة، فقال له: " يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنَّ فِيكَ جَاهِليَّةٌ، فَقَالَ أَجَاهِليَّةُ كُفْرٍ أَوْ إِسْلامٍ؟ قَالَ: بَلْ جَاهِليَّةُ كُفْرٍ "، قَالَ أَبُو الدَّردَاء: " فَتَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ ابْتَدَأْتُ إِسْلامِي يَوْمَئِذٍ ". ثم قال [تعالى]: {وَأَقِمْنَ الصلاة} أي: المفروضة. {وَآتِينَ الزكاة} يعني الواجبة في الأموال. {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي: فيما أمركن به ونهاكن عنه. ثم قال (تعالى): {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} أي: الشر والفحشاء يا أهل بيت محمد. {وَيُطَهِّرَكُمْ} أي من الدنس والمعاصي تطهيراً. قال ابن زيد: الرجس هنا الشيطان.

34

وقيل: عُنِيَ بأهل البيت هنا النبي A وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما لسلام، رواه الخدري. عن النبي A أنه قال " نَزَلَتِ الآيَةِ فِي خَمْسٍ: فِيَّ وَفِي علي وحَسَنٍ وحُسَينٍ وَفَاطِمَةَ " وهو قول جماعة من الصحابة. وقال عكرمة أن يقرأ عنكن. وقيل عني بذلك: نساؤه وأهله. قوله تعالى (ذكره): {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً}. أي: واذكرن نعمة الله عليكن إذ جعلكن في بيوت تتلى فيها (آيات) الله والحكمة، أي: اشكرن الله على ذلك.

والحكمة هنا: ما أوحي إلى النبي A من أمر دينه مما لم ينزل به قرآن، وذلك السنة. قال قتادة: الحمكة السنة امتَنَّ (الله) عليهن بذلك. وقيل: معناه الحكمة من الآيات. ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً} أي (ذا) لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي يتلى فيها القرآن والسنة. {خَبِيراً} بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجاً. ثم قال تعالى (ذكره) بعقب (ذِكِرُ) ما أَمَرَ به أزواج نبيه A. { إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية، أي: (المتذللين) بالطاعة والمتذللات. وأصل الإسلام/ التذلل والانقياد والخضوع. {والمؤمنين والمؤمنات} أي: المصدقين الله ورسوله والمصدقات. وأصل الإيمان التصديق.

{والقانتين والقانتات} أي: والمطيعين والمطيعات الله ورسوله، فيما أمروا به ونهوا عنه. وأصل القنوت الطاعة. {والصادقين والصادقات} أي صدقوه فيما عادهوه عليه. {والصابرين والصابرات} أي: صبروا لله في البأساء والضراء على الثبات على دينه. {والخاشعين والخاشعات} أي خشعوا لله وجلاً من عقابه وتعظيماً له. {والمتصدقين والمتصدقات} أي: تصدقوا بما افترض الله عليهم في أموالهم. {والصائمين والصائمات} أي: صاموا شهر رمضان الذي افترضه الله عليهم. {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} أي: حفظوها إلا عن الأزواج أو ما ملكت أيمانهم. {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} أي: ذكروه بألسنتهم وقلوبهم. {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أي: ستراً لذنوبهم وثواباً في الآخرة من أعمالهم وهو الجنة. قال مجاهد: لا يكون ذاكراً لله حتى يذكره قائماً وجالساً ومضطجعاً. وقال أبو سعيد الخدري: من ايقظ أهله وصَلَّياً أربع ركعات كُتِباَ من الذاركين الله كثيراً والذاكرات. قال قتادة: دخل نساء على نساء النبي A فقلن قد ذكركن الله في القرآن ولم

نذكر بشيء، أما فينا من يذكر؟ فأنزل الله جل ذكره: {إِنَّ المسلمين} الآية. وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟ فنزلت الآية: " إن المسلمين " الآية. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: أن يتخيروا من (أمرهم غير) الذي قضى الله ورسوله، ويخالفوا (ذلك) فيعصونهما، {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} أي: فيما أُمِرَ أو نُهِيَّ. {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} أي: جار عن قصد السبيل، وسل: غير طريق الهدى. ويروى أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله على فتاة زيد بن حارثة فامتنعت من إنكاحه (نفسها). قال ابن عباس: خطبها رسول الله على فتاه زيد بن حارثة فقالت: لسْتُ بِناكِحَتِهِ، فقال رسول الله A: " بَلَى فانْكَحِيهِ، فقالت يا رسول الله/ أؤامِرُ نفسي؟

فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله فقالت رَضِيتَهُ/ لي يا رسول الله منكحاً، قال: نعم، قالت: إذاً لا أعْصِي رسول الله A، قد أَنْكَحْتُه نفسي ". قال قتادة: لما خطب رسول الله زينب بنت جحش، وهي بنت عمته، ظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد امتنعت، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} الآية، فأطاعت وسلمت. وقيل: ننزلت في [أم كلثوم] بنت عقبة بن أبي معيط وذلك أنها وهبت نفسها للنبي فزوجها زيد بن حارثة، قاله ابن زيد. قال: وكانت أول من هاجر من النساء، فوهبت نفسها للنبي A، فقال: قد قبلت، فزوجها زيد بن حارثة، فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده، فنزلت الآية.

وروي أن النبي A لما خطبها لزيد قالت: لا أرضى به، وأن أَيِّمُ نساء قريش، فقال لها النبي عليه السلام: قد رضيته لك، فأبت عليه فنزلت الآية، فرضيت به وجعلت أمرها لرسول الله A، فأنكحها من زيد بن حارثة، فمكثت عند زيد ما شاء الله، ثم أتاه رسول الله زائراً له فأبصرها قائمة فأعجبته، فقال: سبحان الله مقلب القلوب، فرأى زيد أن رسول الله قد هويها، فقال: يا رسول الله ائذن لي في طلاقها، فإن بها كبرة وأنها تؤذيني بلسانها، فقال له رسول الله A: " اتق الله وأمسك عليك زوجك "، وفي قلبه ما في قلبه، ثم إن زيداً طلّقها بعد ذلك، فلما انقضت عدتها أنزل الله نكاحها من السماء على رسوله وأنزل عليه الآيات: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} إلى: {مَّقْدُوراً}. وعن عائشة أنها قالت: لو كتم رسول الله A شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية. قال أنس: " لما انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ مِنْ زَيْدٍ قال رسول الله A لزيد: اذكُرْنِي لَهَا، فَأنْطَلَقَ زَيْدَ إِلَى زَيْنَب فقال لها: أَبْشِرِي أَرْسَلَ رسول الله يَذْكُرُكِ، فَقَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ

شَيْئاً حَتَّى أُؤمِرَ رَبِّي فَقَامَتْ إلى مَسْجِدِهَا وَصَلَّتْ، وَنَزَلَ القُرآنُ عَلَى رَسُولِهِ: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} الآيتان. فجاء إليها رسول الله A حتى دخل عليها بغير إذنها ". وروي أنها كانت تقول لرسول الله: لست كأحد من النساء لأن الله زوجنيك. ثم قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله}، هذا عتاب من الله للنبي A، أي: واذكر يا محمد إذ تقول للذي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق - وهو زيد بن حارثة مولى رسول الله A - أمسك عليك زوجك واتق الله في مفارقتها للفرار. روي أن النبي A رأى زينب بنت جحش وهي ابنة عمته بعد أن تزوجها زيد فأعجبته، فألقى الله نفس زيد كراهتها لما علم ما وقع في نفس النبي منها، فأراد زيد فراقها فذكر ذلك للنبي A، فقال له النبي: " {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله} فيما عليك لها " وهو يحب لو قد بانت منه لينكحها، وهو الذي أخفى غي نفسه، فقد أبداه الله كما ذكره. ثم قال تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} أي: وتخاف أن يقول الناس أمَرَ رجلاً

بطلاق امرأته ثم نَكَحَها حين طَلَّقها، والله أحق أن تخشاه مِنَ الناس، هذا كله معنى قول قتادة وابن زيد. قال الحسن: ما أنزلت عليه آية أشد منها، ولو كان رسول الله A كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها. وقال علي بن الحسين: كان الله جل ذكره أَعْلَمَ نبيه عليه السلام أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها، قال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله}، وهو يخفي في نفسه ما قد أعلمه الله من تزويج زينب، والله مبديه، أي مظهره بتمام التزويج، وطلاق زيد لزينب. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} أي حاجته وأربه. {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} أي لِئَلاَّ يكون على المؤمنين ضيق/ وإثم في نكاح أزواج من تبنوا بعد طلاقهم إياهن، إذا قضوا منهن حاجتهم، وهو قوله جل ذكره: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم} [النساء: 23]، فدل على أن اللاتي من الأبناء من غير الأصلاب حلال نكاحهن.

38

وفي قوله: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} إشارة إلى أيقاع الطلاق، وكذلك في قوله: {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً}. ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: ما قضى الله من قضاء كائناً لا محالة، ذلك ما قضى الله من تزويج النبي A من زينب بنت عمته. وقال الشعبي: كانت زينب تقول للنبي عليه السلام: إني لأَدِلُّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تَدِلُّ بهن: إن جَدِّي وَجَدُّكَ وَاحِدٌ، وإنّي أنْكَحَنِكَ الله مِنَ السَّماءِ، وإنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ A. وروى أنس بن مالك أن زيداً كان مسبباً من الشام ابتاعه حيكم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة زوج النبي، فوهبته خديجة للنبي A فتبناه النبي. قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ} إلى قوله: {سَرَاحاً جَمِيلاً}. أي ليس على محمد A إثم في نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه أياها. قال قتادة: ما فرض الله له، أي ما أحل الله. وفي الكلام معنى المدح كقوله:

{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ثم قال: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}. انتصبت " سُنَّة " على المصدر، والفاعل فيه ما قبله لأنه بمعنى سن الله له ذلك سنَّة، والمعنى لا إثم عليه في ذلك كما لا إثم فيه على من خلا قبله من النبيين فيما أحل الله لهم. قال الطبري في معناه: لم يكن الله لِيُؤُثِمَ نبيه فيما أحل الله له مثالَ فِعْلِه بمن قَبْلَهُ مِنَ الرسل. ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي: قضاء مقضياً. [وقيل: قَدَرُ أحَدٍ قَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قبل خلق الأشياء كلها مقدوراً] أي أنه ستكون الأشياء على ما تقدّم علمه. ولا تقف على: {فَرَضَ الله لَهُ} لأن " سنة " انتصبت على عامل قام ما قبلها مقامه. ثم قال تعالى: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ} أي: سنة الله في الذين خلوا من قبل محمد من الرسل الذين يبلغون رسالات الله إلى من أُرْسِلوا إليه؟ {وَيَخْشَوْنَهُ}: أي: يخافون الله. {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} أي: لا يخافون غيره، فَمِن هؤلاء فَكُن يا محمد، فإن الله يمنع منك وينصرك كما فعل بمن قبلك من الرسل. " الذين " بدل من " الدين " في قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين} أو نعت لهم أو عطف

بيان. ثم قال: {وكفى بالله حَسِيباً} أي: وكفاك يا محمد حافظاً لأعمال خلقه ومحاسباً لهم عليها. ويجوز أن يكون (حسيب) بمعنى محاسب، كما تقول آكِيلٌ وشَرِيب، معنى مُواكِل وُمَشَارِب. ويجوز أن يكون بمعنى محسب، أي مكف كما قالوا السميع بمعنى المسمع وأليم بمعنى مؤلم. يقال: أحسبني الشيء بمعنى كفاني. ثم قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} أي: لم يكن محمد أبا زيد ابن حارثة، ولا أباً لغيره لأنه لم يكن له ابن وقت نزول هذه الآية. قال قتادة: نزلت في زيد بن حارثة أنه لم يكن بابنه، ولعمري لقد ولد له ذكور وإنه لأبو القاسم وإبراهيم والمطهر. فالمعنى على هذا: لم يكن محمد أباً لِمَنْ تَبَنَّى من رجالكم، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم. ثم قال تعالى: {ولكن رَّسُولَ الله} أي: ولكن كان رسول الله. {وَخَاتَمَ النبيين} أي: آخرهم. هذا على قراءة من فتح التاء. ومن كسرها فمعناها: أي طبع على النبوة فلا

تفتح لأحد بعده. روى جابر أن النبي A: " أَنَا خَاتِمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ ". والخاتم الذي يلبس، فيه أربع لغات: خَاتَمٌ وخَاتِمٌ وخَاتَامٌ وخَيْتَامٌ. ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} أي: اذكروه بقلوبكم وجوارحكم ولا تخلوا أنفسكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم. ثم قال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: صلوا له غدوة وعشياً، يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، والأصيل العَشِيُّ وجمعه أصائل. والأصيل بمعنى الأُصُل وجمعه آصال، هذا لفظ المبرد. وقال غيره: أُصُل عنده جمع أَصِيل كرغيف ورغف.

ثم قال تعالى: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} أي: ربكم الذي أمرتم بذكره كثيراً هو الذي يرحمكم ويثني عليكم فيشيع عنكم الذكر الجميل وملائكته تدعو لكم. روي أنه لما نزل/: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] أتاه المؤمنون يهنؤنه بذلك، فقال أبو بكر يا رسول الله: هذا لك خاصة فَمَا لَنا؟ فأنزل الله جل ذكره: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ}، أي: يدعون لكم بالرحمة. وروى الحسن أن النبي A قال في حديث طويل: " إِنَّ الله قالَ لمُوسَى: أَخْبِرْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ صَلاَتِي عَلى عِبَادِي لَتَسْبِقُ رَحْمَتِي غَضَبِي وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَهْلَكْتُهُمْ ". وقال عطاء بن أبي رباح: " صلاته على عباده: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ لَتَسْبِقُ رَحْمَتِي غَضَبِ ". وفي حديث آخر عن النبي A: " سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ". ثم قال: {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} أي: تدعو ملائكة الله ليخرجكم الله من

الكفر إلى الإيمان. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء. وسمي الركوع والسجود صلاة للدعاء الذي يكون في ذلك. وقال المبرد: أصل الصلاة الترحم، فالصلاة من الله رحمة لعباده، ومن الملائكة رقة لهم واستدعاء للرحمة من الله لهم، والصلاة من الناس سميت صلاة لطلب الرحمة بها. قال أبو عبيدة: الأصِيلُ ما بين العصر إلى الليل: وقال: {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} أي: يبارك عليكم. قال ابن عباس: لا يقضي الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غَيرَ الذِّكر، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله. ثم قال: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} أي: ذا رحمة أن يعذبهم وهم له مطيعون. {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} أي: تحية بعد هؤلاء المؤمنين في الجنة سلام، أي أمنة لنا ولكم من عذاب الله. قال البراء بن عازب: معناه يوم يلقون ملك الموت يسلم عليهم لا يقبض

روح مؤمن حتى يسلم عليه. قال قتادة: تحية أهل الجنة السلام. وقال البراء بن عازب في معناه: إن (ملك) الموت لا يقبض روح المؤمن/ حتى يسلم عليه. قال الزجاج: هذا في الجنة، واستشهد عليه بقوله تعالى: وَ {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [إبراهيم: 23] ودليله أيضاً قوله جل ذكره: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]. وفرق المبرد بين التحية والسلام، فقال: التحية تكون لكل دعاء، والسلام مخصوص، ومنه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً} [الفرقان: 75]. ثم قال تعالى ذكره: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} أي: أعد لهم الجنة على طاعتهم له في الدنيا.

ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها النبي إِنَّآ أرسلناك شاهدا وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا} أي: أرسلناك يا محمد شاهداً على أمتك بإبلاغك إياهم ما أرسلت به، ومبشراً لمن أطاعك بالجنة، ونذيراً لمن عصاك بالنار، قاله قتادة وغيره. ثم قال: {وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ} أي: إلى توحيد الله، وطاعته. قال قتادة: " ودَاعياً إلَى الله " إلى شهادة أن لا إله إلا الله. {بِإِذْنِهِ} أي: بأمره إياك بذلك. {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} أي: مضيئاً للخلق يبين لهم أمر دينهم ويهتدون به كما يُهْتَدَى بالسرج المضيء. ثم قال تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيراً} أي: من ثواب الله أضعافاً كثيرة. وقيل: المعنى: وذا سراج: أي ذا كتاب بين مضيء. قال ابن عباس: " لما نزلت هذه الآية: {يا أيها النبي إِنَّآ أرسلناك شاهدا} الآية، دعى النبي A علياً ومُعاذاً فقال: " انْطلِقَا فَيَسِّرا وَلاَ تُعَسِّرَا فَإِنَّه قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ: {إِنَّآ أرسلناك شاهدا} الآية وقرأ الآية ". ثم قال: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} أي: لا تسمع دعاءهما إليك على التقصير في

تبليغ رسالات الله. {وَدَعْ أَذَاهُمْ}. قال مجاهد أعرض عنهم. وقال مجاهد: دع الأذى لا تجازهم عليه حتى تؤمر فيه بشيء. وقيل: المعنى لا تؤذيهم، وكان هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسخ ذلك بالقتال. قال قتادة: معناه: اصبر على أذاهم. ثم قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي: فوِّض إلى الله أمرك وثق به، فإن الله كافيك. {وكفى بالله وَكِيلاً} أي: وحسبك بالله فيما يأمرك به حافظاً لك وكَالِئاً. ثم قال تعالى ذكره: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات} الآية، أي إذا تزوجتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن والمجامعة - والنكاح هنا العقد - فلا عدة لكم عليهن/ {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي: أعطوهن ما يستمتعن به من عرض أو عين. {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي: خلوا سبيلهن تخلية بمعروف. قال ابن عباس: إذا طلق التي لم يدخل بها واحدة بانت منه ولا عدة عليها،

تتزوج من شاءت، فإن كان سمى لها صداقاً فلها نصفه، وإن كان لم يسم متعها على قدر عسره ويسره. وقيل: منسوخة بقوله جل ذكره: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، قاله ابن المسيب وقتادة: وهذه الآية خصصت آية البقرة وبينتها وهي قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] فظاهر الآية أن ذلك في كل مطلقة. فبينت آية الأحزاب أن آية البقرة في المدخول بها. وكذلك آية الأحزاب خصصت وبينت آية الطلاق، وهي قوله: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فبينت آية الآحزاب أن الثلاثة الأشهر لهذين الصنفين، إنما ذلك للمدخل بها، كذلك أيضاً الطلاق خصصت وبينت أن آية البقرة في غير الصنفين المذكورين في سورة الطلاق فصار في آية البقرة تخصيصان وبيانان من سورتين. وصارت آية الأحزاب مخصصة ومبينة لآيتين من سورتين فآية الأحزاب أحكم إذ لا تخصيص فيها. فالإعتداد للرجال، أي: هم يستوفون من النساء ما عليهن من العدة. فالعدة

50

على النساء، والاعتداد للرجال أن العدة التي على النساء حق للأزواج ليستْبرِءوا أرحامهن لئلا يلحق أولادهم بغيرهم، أو يلحق بهم غير أولادهم. قوله تعالى: {يا أيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً}. أي: أحل لك يا محمد أزواجك اللاتي أعطيتهن صدقاتهن، وأحل لك ما ملكت يمينك من السبي، وأحل لك بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك من هاجر منهن معك دون من لم يهاجر. هذا معنى قول الضحاك. قال ابن زيد: كل امرأة أتاها مهرها فقد أحلها الله له. وروى أبو صالح عن أم هانئ أنها قالت: " خَطَبَنِي رَسُولُ الله A فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ فَعَذَرَنِي، ثمَّ أَنْزَلَ الله تعَالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إِلى قَوله: {هَاجَرْنَ مَعَكَ}، وَلم أَكُنْ هَاجَرْتُ وَإِنَّمَا كُنْتُ منَ الطُّلَقَاءِ، فَكُنْتُ لا أَحِلُّ لَهُ ".

وفي قراءة ابن مسعود: " واللاتي هاجرنَ معك " بالواو فهذا يدل على أنه قد أحل له من هاجر ومن لم يهاجر. وقوله: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} أي: وأحللنا له امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بغير صداق. {إِن وَهَبَتْ} شرط، وجوابه محذوف، والتقدير: إن وهبت نفسها حلت له، أي: إن تهب نفسها تحل. ويجوز أن يكون الجواب هو المحذوف الناصب لامرأة. وقرأ الحسن: " أنْ وَهَبَتْ " بفتح أن. أي لأن وهبت، أي: من أجل أن وهبت. وقيل: هي بدل من " امرأة " على بدل الاشتمال.

وفي قراءة ابن مسعود: " وامْرأَةً مُؤمِنَةً وَهَبَتْ " بغيرِ إِنْ. والمعنى على ما مضى نقول: كُلْ طعاماً إِنْ ملكته، وكل طعاماً ملكته، اي: ملكته في ما مضى. ثم قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي: ينكحها فحلال له نكاحها إذا وهبت له نفسها بغير مهر. {خَالِصَةً لَّكَ} أي: لا يحل ذلك لأحد غيرك. قال قتادة: ليس لأمرأة أن تهب نفسها لرجل بغير أمر ولي ولا مهر إلا للنبي A كانت له خاصلة دون سائر أمته. وروي أنها نزلت في ميمونة بن الحارث وهبت نفسها للنبي عليه السلام، قاله الزهري وعكرمة ومحمد بن كعب وقتادة. وقيل: لم يكن عند النبي أمرأة وهب له نفسها بغير صداق، وإنما المعنى: إِنْ وقع ذلك فهو حلال لك يا محمد قاله مجاهد وابن عباس. وقال علي بن الحسين وعروة والشعبي: هي أم شريك وقيل: هي زينب بنت

خزيمة ولا تكون إلا مكسورة على قول ابن عباس ومجاهد لأنها بمعنى: إن وقع ذلك فيما يستقبل. ويجب أن تكون مفتوحة على قول غيرهما لأنه شيء قد وقع وكان على قولهم. وقوله: {خَالِصَةً لَّكَ} يرجع على المرأة التي وهبت نفسها دون ما قبلها من قوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ} / وما بعده. وإنما قال تعالى للنبي ولم يقل لك، لئلا يتوهم أنه يجوز ذلك للغير كما جاز ذلك في: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ}. أي: بنات العم والعمة والخال والخالة يحللن للناس. وقيل: إنما جاز ذلك لأن العرب تخبر عن الحاضر بأخبار الغائب ثم ترجع فتخاطب. وروي أن النبي A كان قبل نزول الآية يتزوج أن النساء شاء فقصره الله على هؤلاء، فلم يعداهن وقصر سائر أمته على مثنى وثلاث ورباع. ثم قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ} يعني المؤمنين لا يحل لأحد نكاح إلا بولي وعقد وصداق وشهود عدول، وأن لا يزوج الرجل أكثر من أربع وما ملكت اليمين، قاله قتادة وغيره (فالمعنى) قد علمنا ما في ذلك من الصلاح.

وقال أبي بن كعب في معناها: هو مثنى وثلاث ورباع. ثم قال تعالى: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي: أحللنا لك ما تقدم ذكره لئلا يكون عليك إثم وضيق في نكاح من نكحت من هؤلاء الأصناف المسميات لك في هذه الآية. ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: غفوراً لك ولأهل الإيمان بك، رحيماً بك وبهم أن يعاقبهم على ذنوب تابوا منها. ثم قال تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} أي: تؤخر يا محمد من تشاء من أزواجك وتضمّ من تشاء. يقال: أرْجَأْتُ الأمْرَ: أَخَّرْتَهُ. ومن ترك الهمزة في " ترجي " فيحتمل أن يكون أبدل من الهمزة ثم أسكنها استثقالاً للضمة. وقيل: هي لغة، يقال: أرْجَيْتُ بمعنى أرْجَأْتُ. كما يقال قريْتُ. بمعنى قَرَأتُ. وقال المبرد: هو من رجا يرجو، يقال: رجاء وأرَجَيْتَهُ إذا جَعَلْتَه يَرْجُو. قال مجاهد في معنى الآية: تعزل يا محمد بغير طلاق من أزواجك من تشاء

وتؤدي إليك من تشاء، أي تردها إليك. قال قتادة: جعله الله في حل من ذلك أن يدع من يشاء منهم بغير قسم وكان صلى الله عليه يقسم. وقال أبو رزين: لما أشفق النبي A أن يطلقهن، قلن يا رسول الله: اجعل لنا في مالك ونفسك ما شئت فكان ممن أرجأ منهم سودة بنت زمعة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان ممن أوى عائشة وأم سلمة وحفصة زينب. فالمعنى على هذا القول أنه صلى الله عليه أخر هؤلاء فلم يقسم لهن ولم يطلقهن، وضم هؤلاء فقسم لهن، وهو قول الضحاك. وعن ابن عباس أن المعنى من شئت خليت سبيله منهم ومن شئت أمسكت منهن. وقال الحسن: المعنى أن النبي A كان إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها

حتى يتركها أو يتزوجها. فالمعنى: اترك نكاح من شئت من أمتك، وانكح من شئت. وقال ابن زيد في ذلك كلاماً معناه: إن الله جل ذكره أمر نبيه أن يخير نساءه بين الدنيا والآخرة في قوله: {قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28 - 29] فلما اخترن الآخرة واخترنه أبيح له أن يعزل من شاء منهم فلا يقسم لها، ويضم من شاء فيقسم لها، ومن ابتغى ممن عزل عن نفسه، فله أن يرجع ويقسم لها، فخيرهن أيضاً في الرضى بهذا أو يفارقهن فرضين بذلك إلاَّ امرأة بدوية ذهبت. فقال الله جل ذكره: {ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي: أن يسكن ولا يغرن ويرضين كلهن بما فعلت من ضم أو عزل، إذ ذلك كله من حكم الله لك فيهن، وذلك إشارة إلى ما تقدم مما أباحه الله لرسوله عليه السلام فيهن. قال قتادة: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ " أي: لك أن تأتي من شئت منهم لا إثم عليك في ذلك، وهو قول الحسن. وقال ابن عباس: معناه من مات من نسائك اللواي عندك، أو خليت سبيله فلا إثم عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك، ولا يحل أن تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك شيئاً.

قال الزجاج: معناه إن أردت أن تؤوي إليك من عزلت فلا جناح عليك. وهو القول الأول بعينه، وهو أحسنها إن شاء الله تعالى. ثم قال تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ} أي: من ميلكم إلى بعض من عندكم من النساء دون بعض بالهوى والمحبة فلذلك وضع عن رسول الله A الحرج في ذلك لأن القلب لا يملك، والهوى سلطان غائب عن الإنسان. ثم قال: {وَكَانَ/ الله عَلِيماً} أي: ذا علم بأعمالكم وغيرها. {حَلِيماً} أي: ذا حلم عن عباده أن يعاجل أهل الذنوب بالعقوبة. ثم قال تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ} أي: من بعد من عندك من النساء. قال قتادة: لما اخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن تسع. وقيل: المعنى: لا يحل لك النساء بعد اللواتي أحللنا، يعني في قوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} قاله أُبي بن كعب والضحاك. وقال مجاهد: المعنى: من بعد المسلمين، فحرم عليه نكاح اليهوديات والنصرانيات. وهو قول ابن جبير وعكرمة.

وروي عن عائشة أنها قالت: " ما مَاتَ رَسُولُ اللهِ A حَتَّى أحَلَ اللهُ لَهُ النِّسَاءَ "، فتكون الآية منسوخة بالسنة. وقد روي ذلك عن أم سلمة، وهو قول علي وابن عباس والضحاك. وقيل: الآية محكمة، ولا يحل له النساء بعد نزول هذه الآية، وهو قول أُبي بن كعب، اختيار الطبري. ثم قال تعالى: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا يحل لك أن تستبدل من عندك غيرهن من المسلمات، قاله الضحاك. وقال مجاهد: لا تستبدل بمن عندك من المسلمات كتابية. وقال ابن زيد: لا تبدل زوجتك بزوجة رجل آخر، وهو فعل كان في الجاهلية وقوله: {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: فذلك حلال. وقال ابن زيد: إلا ما ملكت يمينك، فلك أن تبادل غيرهن ولا تفعل ذلك في

53

الحرائر. قوله تعالى ذكره: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي} إلى قوله: {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}. المعنى: أن الله جل ذكره أمر أصحاب النبي عليه السلام ألا يدخلوا عليه إلا أن يأذن لهم إلى طعام لم يكونوا منتظرين وقته وإدراكه. وإنّاه مصدر أنَّى يَأْتِي إِنّاً وَإِنْياً وَأَنًّا ممدود، وفيه لغة أخرى، يقال: أن يَئين أنْياً، ويقال في معناه: نَالَ لَك وأنَالَ لكَ. ومعنى آن: حان. " وغير " منصوب على الحال من الكاف والميم في " لكم "، ولا يحسن خفضه على النعت لطعام لأنه لا يلزم منه إظهار الضمير، فتقول: غير ناظرين أنتم إناه، لأن اسم الفاعل إذا جرى صفة على غ ير من هو له، أو خبراً لم يكن بد من إظهار الضمير الذي فيه. والمعنى غير منتظرين حينه ونضجه. ثم قال: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا} أي: إذا دعاكم رسول الله A إلى بيته لطعام فادخلوا. {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} أي: فتفرقوا إذا أكلتم من بيته. {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: لا متحدثين بعد فراغكم من أكلكم. وكان نزول هذه الآية في قول أكلوا عند رسول الله A في وليمة زينب بنت

جحش، ثم جلسوا يتحدثون في مجلس رسول الله، ولرسول الله إلى أهله حاجة، فمنعه الحياء أن يأمرهم بالخروج من منزله. روى معنى ذلك أنس بن مالك، قال أنس: وكان قد أَوْلَمَ رسول الله بتمر وسَوِيقٍ. وكان أنس ذلك اليوم ابن عشر سنين. وروي أن عمر بن الخطاب Bهـ أمر نساء النبي A بالحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله جل ذكره: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ}. وهذا أدب لأصحاب النبي عليه السلام ولمن بعدهم. وقال قتادة: كان هذا في بيت أم سلمة أكلوا وأطالوا الحديث، فجعل النبي A يدخل ويخرج، ويستحي منهم والله لا يستحي من الحق.

ثم قال: {إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي} أي: دخولكم في بيت النبي من غير أن يؤذن لكم، وجلوسكم فيها مستأنسين لحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له كان يؤذي النبي فيستحي منكم أن يخرجكم منها. وأن يمنعكم من الدخول إذا دختلم بغير إذن مع كراهته لذلك منكم. {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} أن يبينه لكم. ثم قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أي: وإذا سألتم أزواج النبي A طعاماً أو غيره فخاطبوهن من وراء حجاب، أي: من وراء ستر/ ولا تدخلوا عليهن بيوتهن. ثم قال جل ذكره: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي: مخاطبتكم لهن من وراء حجاب أطهر لقلوبكم، وقلوبهن من عوارض الفتن. وذكر مجاهد أن النبي A كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره ذلك النبي، فنزلت آية الحجاب. وروى أنس أن عمر قال: " قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ أنَّ نِسَاءَكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ، قال فنزلت آية الحجاب " وروي: " أنَّ سُودَة خرجَت ليلاً لِلبِرازِ عشاءً، وكانت طويلة فناداها عُمَر بِصَوْتِهِ الأَعلى: " قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا

سُودَة حِرْصاً على أن يَنْزِلَ الحِجَابُ فنزلَت آيةُ الحِجَابِ ". ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} أي: ما ينبغي ولا يصلح لكم أذى نبيكم ولا نكاح أزواجه من بعده لأنهن أمهاتكم، فلهن حرمة الأمهات. روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت آية الحجاب قال رجل من أصحاب رسول الله: أينهانا رسول الله A أن ندخل على بنات عمنا، أما والله لئن مات رسول الله وأنا حَيٌّ لأتزوجن عائشة، فأنزل الله تعالى وجل ذكره: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} إلى: {عَلِيماً}. فأعلمهم أنه يعلم ما يخفون في أنفسهم وما يبدون. قال قتادة: قال رجل من أصحاب رسول الله عليه السلام: إن مات رسول الله تزوجت فلانة، امرأة من أزواج النبي. قال معمر: الذي قال هذا طلحة لعائشة. ثم قال: {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} أي: إن أذاكم نبيكم ونكاحكم أزواجه من

بعده عند الله عظيماً من الإثم. ثم قال تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي: إن تظهروا شيئاً بألسنتكم من جميع الأمور أو تخفوه في قلوبكم فلا تظهروه، فإن الله كان بكل شيء ذا علم لا يخفى عليه شيء. ثم قال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ} أي: لا إثم على أزواج النبي في الظهور إلى آبائهم ولا إلى من ذكر بعد ذلك من ذوي المحارم. قال مجاهد: معناه: لا إثم عليهن في أن تضع الجلباب ومعها من ذكر. وقال قتادة: رخص لهؤلاء أن لا يحتجبن منهم. وهذا القول أليق بسياق الآية. والآية عامة في أزواج النبي عليه السلام وأزواج المؤمنين ألا يحتجب من الآباء ولا من الأبناء ولا من الإخوة ولا من أبناء الإخوة. قال الشعبي: ولم يذكر في ذلك العم حذاراً من أن يصفهن لأبنائه. وكره الشعبي وعكرمة أن تضع خمارها عند عمها وخالها، لأنهما يصفانها إلى ابنيهما، ونكاحها إلى كل واحد من ابنيهما يحل. وقيل: إنما لم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقوله: {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} أي: ولا يحتجبن من نساء المؤمنين. وقال ابن زيد: هذا كله في الزينة، وقوله: {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ} يعني المؤمنات الحرائر،

قال: ولايجوز للمرأة أن تنظر إلى شيء من عورات المرأة. ثم قال تعالى: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني المماليك. قال ابن زيد: كان أزواج النبي A لا يحتجبن من المماليك. قيل: إن ذلك في النساء من المماليك خاصة. وقيل: في النساء والرجال من المماليك. ثم قال تعالى: {واتقين الله} أي: وخفنَ الله أن تتحدَّيْنَ في ما حدّ الله لكن في الحجاب. {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} هو شاهد على ما تفعلنه من حجابكن وغير ذلك من أموركن. ثم قال تعالى ذكره: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي}. أجاز الكسائي رفع الملائكة. وأجاز: إن زيداً وعمرو متطلقان. ومنعه جميع النحويين في البسملة. وأجازه بعضهم في الآية على حذف، والتقدير: إن الله يصلي على النبي وملائكته

57

يصلون على النبي، ثم حذف من الأول لدلالة الثاني وقد قرد بعض النحويين هذا التقدير في الآية مع النصب، وقال: يبعد أن يجتمع ضمير الله جل ذكره مع غيره إجلالاً له وتعظيماً، ثم استدل على ذلك بإنكار النبي A على الذي قال: ما شاء الله وشئت فقال: " ما شاء اللهُ، ثُمَّ شِئْتَ " فالواو كالجمع. فالمعنى/: إن الله وملائكته يباركون على النبي، قاله ابن عباس. وقيل: إن الله يرحم على النبي وملائكته يدعون له، فهذا التقدير أيضاً مما يقوي تقدير الحذف من الأول، ويكون يصلون للملائكة خاصاً لأن الصلاة من غير الله دعاء، وقد علمنا النبي A كيف نصلي عليه، فقال: " قُولُوا اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محَمد وعلَى آلِ مُحَمَدٍ كما صَلَّيْتَ علَى إبْرَاهِيمَ، وبَارك عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمدٍ كَمَا بَارَكتَ عَلَى إبْراهيم في العَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجيدٌ، والسَّلاَمُ كَمَا قَد عَلمتُم ". قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} إلى آخر السورة. أي: إن الذين يؤذون أولياء الله، قاله الشعبي. روى أبو هريرة أن النبي A قال: " قال الله D: " شَتَمَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ

يَشْتُمَنِي، وَكَذَبَنِي عَبْدِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي فَأَمَا شَتْمُهُ إِيَّيَ فَقَوْلُهُ: إِنِّي اتَّخَذْتُ وَلَداً، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ. وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنْ لَنْ يُبْعَثَ - يَعْنِي بَعدَ المَوْتِ - " وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير. وقيل: إنهم يعصون الله ويركبون ما حرم عليهم فذلك أذاهم. ثم قال تعالى: {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا}. قال مجاهد: يَقْفُونَ فيهم بغير ما عملوا. وقيل: إنها نزلت في الذين طعنوا على النبي A حين نكح صفية بنت حُيي. ثم قال: {لَعَنَهُمُ الله فِي الدنيا والآخرة} أي: أبعدهم من رحمته. ثم قال: {فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} أي: وزر كذب وفرية شنعية، {وَإِثْماً مُّبِيناً} أي: بَيِّنٌ لسامعه أنه إثم وزور. والبهتان أفحش الكذب.

ثم قال تعالى: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين} الآية. أي: قل لهن يرخين عليهن أرديتهن لئلا يشتبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن فيكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن يدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق. قال ابن عباس في معناها: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، وبيدين عيناً واحدة. وعنه أيضاً أنه قال: كانت الحرة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب أن تقنع به وتشده على جبينها. وقال أبو مالك والحسن: كان النسء يخرجن بالليل في حاجاتهن فيؤذيهن المنافقون ويتوهمون أنهن إماء فأنزل الله الآية. وكان عمر رضي الله إذا رأى أمة قد تقنعت علاَهَا بالدِّرَة. وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} فقال: تغطي

حاجبها بالرداء أو ترده على أنفها حتى يغطي رأسها ووجهها وإحدى عينيها. وقال مجاهد: يتجلببن حتى يعرفن فلا يؤذين بالقول. وقال الحسن: {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} أي: يعرفن حرائر فلا يؤذين. قال ابن عباس وابن مسعود: الجلباب الرداء. وقال المبرد: الجلباب كل ملحفة تستر من ثوب أو ملحفة. ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلف منهم من ترك إدنائهن جلابيبهن عليهن، {رَّحِيماً} بهن أن يعاقبهن بعد موتهن. ثم قال تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: لئن لم ينته الذين يسرون الكفر. {والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: شهوة من الزنى من المنافقين. {والمرجفون فِي المدينة} أي: أهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل يشيعون

ما يخوفون به المؤمنين، وهم المافقين، أيضاً هم أجناس قد جمعوا هذه الأسماء كلها. قال قتادة: أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فتوعدهم الله بهذه الآية فكتموا نفاقهم وستروه. ثم قال تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم، وقد أغراه بهم بقوله جل ذكره: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وأمره بلعنهم. وقال المبرد: قد أغراه بهم في قوله: {أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} قال: وهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم، أي: هذا حكمهم إذ قاما على النفاق والإرجاف في المدينة. وهو مثل قول النبي A: " خَمسٌ يُقتَلْنَ فِي الحَرَمِ " ففيه معنى الأمر ولفظه خبر.

وقيل: إنهم انتهوا عن الإرجاف/. وقيل: إنه لقوم بأعيانهم. قال ابن عباس: " لنغرينك " لنسلطنك. وقال قتادة: لنحرشنك. وقد استشهد من قال بجوار ترك إنفاذ الوعيد بهذه الآية، وقال: قد تواعدهم الله بأن يغري نبيه عليهم ولم يفعل. وقال من يخالفه: قد أغراه بهم، وأنفذ وعيده فيهم. وبقاء المنافقين مع النبي A في المدينة إلى أن توفي يدل على أن الله لم ينفذ الوعيد فيهم لأن من تمام وعيده فيهم: قوله: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} وهو مذهب أهل السنة. إذ المعروف من عادات الكرماء وأهل الفضل والشرف إتمام وعدهم وتأخير إنفاذ وعيدهم بالعفو والمعروف بالإحسان، ولا أحد أكرم من الله ولا أبين فضلاً وشرفاً منه فهو أولى بالعفو والإحسان وترك إنفاذ وعيده في المؤمنين. ثم قال: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إن لم ينتهوا عن الإرجاف سلطتك عليهم

ولا يقيموا معك في المدينة إلا وقتاً قليلاً. وهذا وقف إن جعلت {مَّلْعُونِينَ} نصباً على الذم. فإن جعلته حالاً وقفت على {مَّلْعُونِينَ}. وهو قول الأخفش وغيره وهو حال من المضمر في {يُجَاوِرُونَكَ}. وأجاز بعض النحويين أن يكون حالاً من المضمر في {أُخِذُواْ}، وذلك لا يجوز لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله. ولا يحسن الوقف على " تقتيلاً "، لأن " سُنَّةَ " انتصبت على فعل دل عليه ما قبله، فما قبله يقوم له مقام العامل. ومعنى {مَّلْعُونِينَ} أي: مطرودين ومبعدين. {أَيْنَمَا ثقفوا} أي: وجدوا، {أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ} لكفرهم بالله. ثم قال تعالى: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي: سن الله ذلك سنة في الذين ينافقون على الأنبياء ويرجفون بهم أن يُقَتَّلوا حيث ما وجدوا. ثم قال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي: ولا تجد يا محمد لسنة الله التي سنها في خلقه تغييراً.

ثم قال تعالى: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة} أي: عن قيامها ومتعى تكون. {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} أي: علم وقت قيامها عند الله لا يعملها إلا هو. ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} أي: وما يشعرك يا محمد، لعل قيام الساعة يكون منك قريباً قد دنا وحان. وذكر قريباً على معنى الوقت والقيام. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} أي: أبعدهم من كل خير وأعدَّ لهم في الآخرة ناراً ماكثين فيها أبداً، لا يجدون ولياً يمنعهم منها، ولا نصيراً ينصرهم فيخرجهم من عذابها. ثم قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} أي: لا يجدون ولياً ولا نصيراً في هذا اليوم الذي تقلب فيه وجوههم في النار. قائلين: {ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} أي: في الدنيا ندامة وحسرة ما فات. ثم قال: {وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} أي: وقال هؤلاء الذين تقدمت صفتهم في النار: يا ربنا إنا أطعنا في الكفر سادتنا، أي أئمتنا وكبراءنا. {فَأَضَلُّونَا السبيلا} أي: أزالونا عن محجة الحق وطريق الهدى. {رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي: عذّبهم مثلي عذابنا. {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} أي: أخزهم خزياً كبيراً. ففي هذه الآية زجر عن التقليد لأنهم لو نظروا لظهر لهم أنهم على ضلال، ولكنهم قلدوا ضلالاً فضلوا. ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى} أي: لا تؤذوا رسول الله A

بقول يكرهه، فتكونوا أمثال بني إسرائيل الذين رموا موسى بعيب كذب، فبراءه الله مما رموه به. {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} أي: ذا منزلة ودرجة رفيعة كلمه تكليماً. روى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " كانَ مُوسَى رَجُلاً حَيِيّاً فَكَانَ لا يُرَى مُتَجَرِّداً، فقالَ بَنُو إِسْرائيلَ: إنَّهُ آدرُ، فذَهَبَ مُوسَى يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى حَجَرٍ فَمَرَّ الحَجَرُ يَسْعَى بِثِيَابِهِ فَتَبِعَهُ مُوسَى فقالَ: ثِيابِي حَجرٌ! ومرَّ بمجلسِ بني إسرائيل فَرَأَوْهُ فبرَّأه الله مما قالوا " وكذلك ذكر ابن عباس وابن زيد وغيرهما. وعن أبي هريرة أنه رموه بالبرص فبرأه الله من ذلك. وروي عن البي عليه السلام أنه قال: " إنَّ موسى كانَ رجلاً حَيِياً سِتِّيراً لا يكاد يُرى من جِلدِهِ شَيءٌ استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل/، وقالوا: ما استَتَرَ هذا إلاَّ من عَيبٍ بِجلدِهِ، إِمَّا أَدْرَة وإِمَّا بَرَصٌ، وإمَّا آفة، فبرَّأه الله مما قالوا بِالحَجَرِ ".

وقال علي بن أبي طالب Bهـ: " صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته وكان أشد حُبّاً لنا منك وأَلْيَنَ لنا منك، فآذوه بذلك فأمر الله الملائكة فحملته، حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرأه الله من ذلك فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع أحد من خلق الله على قبره إلا الرَّخم فجعله الله أصَمَّ أَبْكَمَ ". ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} أي: لا تعصوه. {وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أي: قولوا في رسول الله قولاً عدلاً حقاً. قال مجاهد. وقال عكرمة: " قولاً سديداً " لا إله إلا الله وما أشبهها من الصدق. ثم قال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: يوفقكم لصالح الأعمال.

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي: لا يعذبكم عليها بعد توبتكم منها. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} أي: فيما أمر به ونهى عنه. {فَقَدْ فَازَ} أي: نجا وظفر بالكرامة. {فَوْزاً عَظِيماً} أي: نجا نجاة عظيمة. {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض} الآية. قال ابن جبير والحسن الأمانة: الفرائض التي افترضها الله على عباده، فلم تقدر على حملها، وعرضت على آدم فحملها. {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً} أي لنفسه، {جَهُولاً}. أي جاهلاً بالذي له فيه الحظ. قال جويبر: فلما عرضت على آدم، قال: أي رب [وما الأمانة]؟ فقيل له: إن أدّيتَها جُزِيتَ وإن أضَعتَها عُوقِبْتَ، قال أي رب، حملتها بما فيها، قال: فما مكث في الجنة إلا قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس حتى عمل بالمعصية فأُخْرِجَ منها. وروي هذ القول عن ابن عباس، قال ابن عباس: عرضت الفرائض على السماوات والأرض والجبال فكرهن ذلك وأشفقن من غير معصية، ولكن تعظيماً

لدين الله ألا يقيمن به، ثم عرضها على آدم فقبلها. والحمل ها هنا من الحمالة والضمان، وليس من الحمل على الظهر ولا في الصدر. وقيل: الأمانة ها هنا أمانات الناس والصلاة والصوم والوضوء. وهذا القول كالأول لأنه كله فروض وأداء أمانات الناس فرض فهو القول الأول بعينه. وقيل: هو ائتمان آدم ولده قاببيل على أخيه هابيل فقتله، رواه السدي عن ابن عباس في حديث مرسل. وقيل: المعنى: إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة والجن والإنس، فأبين أن يحملنها، أي يحملن وزورها، وحملها الإنسان، يعني الكافر والمنافق. وذكر القتبي: أن الله جل ذكره عهد إلى آدم وأمره حرم عليه وأحل له فعمل بذلك، فلما حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من سيخلفه بعده ويقلده من الأمانة ما قلد، فأمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال بالشرط الذي شرطه الله عليه من الثواب إن وفى والعقاب إن عصى، فأبين أن يقبلن ذلك شفقاً من عقاب

الله، ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فقبله بالشرط لجهله لعاقبة ما تقلد. ولذلك ظهر إيمان المؤمن ونفاق المنافق وكفر الكافر، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات} إلى آخر السورة. فقال أبو إسحاق في الأمانة: إن الله جل ذكره ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السماوات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأما السماوات والأرض والجبال فأعلمتا بطاعتهن له، قال تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} الآية، {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]. وأعلمنا أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم (والملائكة) يسبحون لله، فأعلمنا أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وتأديتها، - وأداؤها طاعة الله فيما أمر به وترك المعصية - وحملها الإنسان. قال الحسن: الكافر والمنافق حملا الأمانة، أي: خاناها ولم يطيقاها. وتصديق

ذلك قوله: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين} الآية. وقيل: المعنى: أن الله جل ذكره عرض على السماوات أن ينزل قطرها في إبَّانِه بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الأرض أن يخرج نباتها وأنهارها وما يكون/ منها في آجاله بلا ملائكة يوكلون بها، وعلى أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت، وعرض على الجبال أن تفجر أنهارها وتخرج ثمارها وأشجارها على أن لها الثواب وعليها العقاب فأبت وأشفقت الجميع من العقاب، وعَرض على آدم أداء الفرائض على أنه له الثواب وعليه العقاب، قال: بين أذني وعاتقي فولك معه ملائكة يسددونه ويوفقونه. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}. قال الضحاك: ظلوماً لنفسه، جاهلاً فيما احتمل بينه وبين ربه. وقال قتادة: ظلوماً لها - يعني الأمانة - جهولاً عن حقها. ثم قال: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات} إلى آخر السورة، أي: حملها الإنسان كي يعذب الله هؤلاء، ويتوب على هؤلاء. وقرأ الحسن: " وَيَتُوبُ " بالرفع. ثم قال: {وَكَانَ الله غَفُوراً} أي: ساتراً لذنوب المؤمنين والمؤمنات.

{رَّحِيماً} أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها. قال قتادة: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ": هما اللذان خاناها اللذان ظلماها - يعني الأمانة - هما المنافق والكافر " ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات " هما اللذان أدياها. وكذلك كان الحسن يقول.

سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم سورة سبأ مكية قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات} إلى كقوله: {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}. معناه: جميع الحمد من جميع الخالق لله الذي هو مالك السماوات والسبع والأرضين السبع والذي له الحمد في الآخرة كالذين له في الدنيا. وقيل: معناه: هو قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10]. وقيل: هو قول أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74]. ثم قال: {وَهُوَ الحكيم الخبير} أي: الحكيم في تدبير خلقه، الخبير بهم.

ثم قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} أي: مايدخل فيها من قطر وغيره. [{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من نبات وغيره. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} أي من وحي ومطر وغيره]. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: من أمر وملائكة وغير ذلك. ويعرج: يصعد، ويلج: يدخل. فالمعنى في ذلك: أنه تعالى ذكره العالم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض مما ظهر ومما بطن. ثم قال: {وَهُوَ الرحيم} أي: بأهل التوبة من عباده، لا يعذبهم بعد توبتهم. {الغفور} لذنوبهم إذا تابوا منها. ثم قال تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} أي: لا نبعث بعد موتنا، إنكاراً منهم للجزاء وتكذيباً. ثم قال تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي: قل لهم يا محمد: بل وحق ربي لتأتنيكم الساعة ولتبعثن للجزاء بأعمالكم. ثم قال تعالى: {عَالِمِ الغيب} أي: هو عالم الغيب، أي: ما غاب عنكم من إتيان الساعة وغيرها. ومن رفعه. فعل إضمار مبتدأ، أي: هو عالم الغيب. ومن خفضه. جعله

نعتاً لربي. ثم قال: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} أي: لا يغيب عنه شيء وإن قَلَّ أوْ جَلَّ، وهو قوله: {وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ} أي: لا يغيب عنه ما هو أصغر من زنة ذرة ولا ما هو أكبر منها أين كان ذلك. ثم قال: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: كل ذلك (مثبت) في كتاب بَيِّنٍ للناظر فيه الله قد أثبته وأحصاه وعلمه، فلم يغب عنه منه شيء. وأجاز نافع الوقف على: قُلْ بَلى. وقال الأخفش: الوقف " لتأتِيَنكُمْ " على قراءة من رفع " عالم " ومن قرأ بالخفَ في " عالم " لم يقف على " لتأتينكم ". ثم قال: {لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: لا يغيب عنه شيء من الأشياء إلا وهو في كتاب مبين، ليجزي المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحة. وقيل: التقدير: لتأتينكم ليجزي المؤمنين. ثم قال: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي: ستر على ذنوبهم التي تابوا منها. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: وعيش هنيء في الجنة.

ثم قال: {والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ}. قال قتادة: ظنوا أنهم يعجزون الله ولن يعجزوه. فالمعنى: ظنوا أنهم يفوتونه ويسبقونه فلا يجازيهم. يقال عاجزه وأعجزه إذا غلبه وسبقه. ومن قرأ " مُعَجّزِيَن ". فمعناه: مثبطين للمؤمنين، قاله ابن الزبير. فالمعنى: أثبتَ الله ذلك في الكتاب ليثيب المؤمنين، وليجيز الذين سعوا في آيات معاجزين، أي: سعوا في إبطال/ أدلته وحججه مفاوتين يحسبون أنهم يسبقون الله فلا يقدر عليهم. وقيل: معاندين مشاقين.

قال ابن زيد: معجزِين: جاهدين في بطلان آيات الله، وهم المشركون، وهو قوله تعالى عنهم: أنهم قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. ثم قال تعالى ذكره: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}. قال قتادة: الرجز: سوء العذاب، والأليم: الموجع. ثم قال تعالى ذكره: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق} أي: أثبت ذلك في كتاب مبين ليجزي المؤمنين وليرى الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك يا محمد هو الحق، وهو القرآن، وهم المسلمون من أهل الكتاب كابن سلام وأصحابه الذين قرءوا الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن كالتوراة والإنجيل. قيل: عني بالذين أوتوا العلم: أصحاب النبي A، قاله قتادة. ثم قال: {ويهدي إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} أي: وهو يهدي إلى طريق الله ودينه. ولا يحسن أن يُعطف " يهدي " على " ويرى "، لأنه لم يثبت ذلك ليهدي جميع الخلق إلى دين الله.

ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} الآية أي: قال بعض الكفار لبعض، متعجبين من البعث بعد الموت، منكرين له، هل ندلكم أيها الناس على رجل يخبركم بالبعث بعد الموت، وكونكم ممزقين بَعْدُ قد أكلتكم الأرض وصرتم عظاماً ورفاتاً. والعامل في " إذا " فعل مضمر، أي: إذا مزقتم تبعثون. وقيل: العامل " مُزّقتم " على أن يكون هذا للمجازاة فلا تضاف إلى ما بعدها. وإذا لم تقفْ عمل ما بعدها فيها. وأكثر ما يجازى بإذا في الشعر، ولا يجوز أن يعمل فيها " يُنَبِئكُم " لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت، ولا يعمل فيها ما بعد أن، لأن " أن " لا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولة. ثم قال: {أفترى عَلَى الله كَذِباً} أي: قال المشركون: افترى محمد في قوله: إنا نبعث. {عَلَى الله كَذِباً} أي: اختلق هذا القول من عند نفسه وأضافه إلى الله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي: به جنون، فتكلم بما لايكون ولا معنى له. ثم قال تعالى: {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب} أي: ما الأمر كما قال هؤلاء المشركون في محمد، ولكن هم في عذاب الآخرة وفي الضلال البعيد عن الحق، فمن أجل ذلك يقولون هذا المنكر. ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض} أي: ألم ينظر

10

هؤلاء المكذبون بالبعث إلى ما قدامهم من السماء والأض وما خلفهم من ذلك، فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن الأرض والسماء محيطان بهم من كل جانب، فيرتدوا عن جهلهم وتكذيبهم بآيات الله حذاراً أن يأمر الله الأرض فتخسف بهم، أو يسقط عليهم قطعة من السماء فتهلكهم، وهو قوله: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} هذا كله معنى قول قتادة. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي: إن في إحاطة السماء والأرض لجميع الخلق لدلالة على قدرة الله لكل عبد أناب إلى الله بالتوبة. قال قتادة: المنيب: المقبل التائب. وقيل: المعنى: أو لم يتأملوا ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض من عظيم القدرة في خلق ذلك فيعلموا أن الذي خلق ذلك يقدر على بعثهم بعد موتهم، وعلى أن يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم قطعة من السماء. قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} إلى قوله: {مِّنْ عِبَادِيَ الشكور}. أي: وقد أعطينا داود منا فضلاً، وقلنا للجبال {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} أي: سبحي معه إذ سبح، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد. والتأويب في كلام العرب: الرجوع، ومبيت الرجل في منزله وأهله، وأصله من

سرعة رجع أيدي الإبل وأرجلها في السير الحثيث، وهو التأويب. وَقُرِئَتْ " أوبِي " بالتخفيف. من آب يؤوب، بمعنى تصرفي معه. ثم قال: {والطير} فمن نصب فعل معنى: سخرنا له الطير، هذا قول أبي عمرو. وقال الكسائي: هو معطوف على " داود " أي: وآتيناه الطير. ونصبه عند سيبويه على موضع يا جبال. ويجوز أن يكون مفعولاً معه، فيكون المعنى: يا جبال أوبي معه ومع الطير. وقد قرئ بالرفع/ على العطف على لفظ الجبال أو على المضمر في " أوبي "

وحسن ذلك لما فرقت بـ معه. وقوله: {أَنِ اعمل} أن لا موضع لها بمعنى أي: ويجوز أن تكون في موضع نصب على معنى: لأن اعمل. وقيلأ: التقدير: وعهدنا إليه بأن أعمل، وقاله الطبري. ثم قل: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد}. قال قتادة: سخر الله له الحديد بغير نار، فكان يسويه بيده ولا يدخله ناراً ولا يضربه بحديد. وروي أنمه كان في يده بمنزلة الطين. وهو أول من سخر له الحديد. وقيل: أعطاه الله قوة يثني به الحديد. قال الحسن: كان داود يأخذ الحديد فيكون في يده بمنزلة العجين. وقوله: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} أي: دروعاً كوامل توام. قال قتادة: كان داود أول من صنع الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح.

ثم قال تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السرد}. قال قتادة: كان يجعلها بغير نار ولا حديد، والسرد: المسامير. وقال ابن عباس: السرد حَلَق الحديد. وقال ابن منبه. والسرد في اللغة كل ما عمل متسقاً متتابعاً يقرب بعضه من بعض ومنه سرد الكلام. ومنه قيل للذي يعمل الدروع زَرَّادٌ وسِرَّاد. قال وهب بن منبه: كان داود يخرج متنكراً يسأل عن سيرته في الناس فيسمع حسن الثناء عليه، فيزداد تواضعاً لله، وعلى الخير حرصاً، قال: فخرج ذات يوم وبعث الله ملكاً إليه في صورة آدمي، فقال له داود: كيف ترى سيرة هذا العبد داود - A -، وهو يظن أنه آدمي، فقال له الملك: نِعْمَ العبد داود، ما أنصحه لربه وأقربه من المساكين، لولا خصلة في داود ما كان لله عبد مثل داود، قال له داود: وما تلك الخصلة؟ قال: إنه يأكل من بيت المال وما من عبد أقرب إلى الله جل ذكره من عبد يأكل من كد يمينه، فانصرف داود ودخل محرابه وابتهل إلى ربه وسأله أن يرزقه عملاً بيده يغنيه عن بيت المال، فعلمه الله صنعة الدروع، فكان أول من عمل الدروع وألان

الله له الحديد فكان في يده بمنزلة العجين. والمعنى على قول مجاهد: وقدر المسامير في حلق الدروع حتى تكون بمقدار لا يضيق المسمار وتضيق الحلقة فتقسم الحلقة، ولا توسع الحلقة وتصغر المسمار وتدقه فتسلى الحلقة. ثم قال: {واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أيْ اعمل يا داود أنت وأهلك عملاً صالحاً، إني بعملكم بصير. والطير وقف ولا تقف على الحديد أن مابعده متعلق به. ولا تقف على " بصير " إلاّ على قراءة من رفع. " الريح ". فإن نصبته فهو معطوف عند الكسائي، على " وألنا ". والتقدير عن الزجاج: سخرنا له الريح.

ثم قال: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} أي: سيرها به إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، وسيرها به من انتصاف النهار إلى الليل مسيرة شهر، قاله قتادة وغيره. قال ابن يد: كان لسليمان مركب من خشب، وكان له فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت، يركب معه فيه الإنس والجن، تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ظل المركب هم والعُطَّارُ - والعصار الريح العاصف - فإذا ارتفع ظله أتت الرُّخاء فسارت به وصاروا معه، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر، ويسمي عند قوم بينهم وبينه شهر فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلم معه الجيوش والجنود. ثم قال تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي: وأذينا له عين النحاس كانت بأرض اليمن، قاله قتادة، قال: وإنما ينتفع الناس اليوم مما أخرج الله لسليمان. ثم قال: {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: منهم من يطيعه، يأتمر لأمره فيعمل بين يديه لما يأمره به طاعة لله جل ذكره. فمعنى {[بِإِذْنِ] رَبِّهِ}: أمر الله له بذلك، وتسخيره له إياه. فأمن في موضع رفع الابتداء والمجرور المتقدم الخبر ويجوز أن تكون " من " في موضع نصب على

العطف على ما قبله. والتقدير: وسخرنا له من الجن من يعمل. فتقف على " القطر " في القول الأول، ولا تقف عليه في القول الثاني. ثم قال: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي: ومن يزل ويعدل من الجن عما أمر به من طاعة سليمان. {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} في الآخرة وهو عذاب النار المتوقدة. ثم قال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ} أي: من كل شيء مشرف. والمحراب في اللغة كل شيء مشرف مرتفع، وكل موضع شريف، ومنه قيل/ للموضع الذي يصلي فيه الإمام محرام لأنه يعظم ويشرف ويرفع. وقيل: المحراب مقدم كل بيت ومسجد ومصلى. قال مجاهد: المحاريب في الآية: بنيان دون القصور.

وقال قتادة: " محاريب ": قصور ومساجد. قال الضحاك: " محاريب ": مساجد. وقال ابن زيد. محاريب مساكن وقراء قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب} [آل عمران: 39]. أي: في مسكنه، وقد تقدم ذكره. ثم قال: {وَتَمَاثِيلَ} قال مجاهد: تماثيل من نحاس. وقال الضحّاك تماثيل: تماثيل الصور. وهذا عند أكثر العلماء منسوخ بنهي النبي A عن عمل الصورة، وتوعده لمن عملها أو اتخذها. وكان في ذلك صلاح في الدين أنه بعث على الله D والصور تعبد،

فكان الأصلح إزالتها. وقد قال قوم: عمل الصور جائز بهذه الآية وبما صح عن (المسيح) عليه السلام. ثم قال تعالى: {وَجِفَانٍ كالجواب} أي كالحياض. كانوا ينحتون له ما يشاء من جفان كالحياض، وهو جمع حابيَّة يجيبى فيها الماء، أي يجمع. وروي عن مجاهد أن الجوابي جمع جوبة وهي الحفرة الكبيرة تكون في الجبل يجتمع فيها الماء. وقاله أيضاً ابن عباس. وعنه: كالحياض.

وهو قول الحسن وقتادة والضحاك. وقيل: إنها كانت تُعمل له كهيئة الطير. ثم قال: {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} أي: ثابتات لا تحرك من موضعها لعظمها قال ابن القاسم: قال مالك: " وجفان كالجواب: " كالجوبة من الأرض. قال: وقدور راسيات " هي قدرو لا تحمل ولا تحرك. والجوبة من الأرض: الموضع يستنقع فيه الماء. قال ابن زيد: قدور أمثال الجبال من عظمها يعمل فيها الطعام لا تحرك ولا تنقل، كما قال الجبال راسيات. وعن ابن زيد أيضاً: أنها قدور من نحاس تكون بفارس. وقال الضحاك: هي قدور كانت تعمل من الجبال حجارة. ثم قال تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} أي: اعملوا لله الشكر، أي: من أجل الشكر على نعمه عليكم، فيكون شكراً مفعولاً من أجله.

ويجوز أن يكون مصدراً على معنى: اشكروا له شكراً، وقام " اعملوا " مقام اشكروا. وروي أن النبي A صعد يوماً إلى المنبر قائلاً: " اعملوا آل داود شكراً " فقال: ثلاثة مَنْ أُوتيهن فقد أُوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وَخَشية الله في السرو العلانية ". وقال مجاهد: لما قال الله جل ذكره: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}، قال داود لسليمان: إن الله قد ذكر الشركر، فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا قدر، قال: فكافني صلاة الظهر قال: نعم، فكفاه. قال الزهري: اعملوا آل داود شكراً، قولوا: الحمد لله. وروي أن داود عليه السلام كان قد جزأ الصلاة على أهل بيته وولديه ونسائه وأهله، فلم تكن تأتي ساعة من الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داود يصلي فعمتهم هذه الآية

{اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً}. وروي أن محرب داود صلى الله عليه وكان لا يخلو من مصل، فإذا أراد المصلي حاجة لا يخرج حتى يأتي غيره من آل داود يصلي في المحراب. وقال محمد بن كعب: الشكر تقوى الله والعمل بطاعته. وقيل: كل عمل من الخير شكر. وروي أن داود صلى الله عليه قال: إلهي كيف لي أشكرك ولا أصل إلى شكرك إلا بمعونتك، فأوحى الله إليه: يا داود، ألسْتَ تَعْلَمُ أن الذي بك من النعم مني؟ قال بلى يا رب، قال: [فإن الرضى بذلك منك، شكر]. ثم قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} أي: قليل منهم الموحدون المخلصون

العمل لله. وذكر أبو عبيد في كتاب " مواعظ الأنبياء " أنه لما نزل على داود {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} قال داود: يا رب كيف أشكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر، فالنعمة منك والشكر منك، فكيف أطيق شكرك؟ مقال: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي. قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر والصوم شكر، وكل عمل يعمل لله شكر، وأفضل الشكر الحمد. قال محمد بن كعب: كل عمل يبتغى به وجه الله فهو شكر. وأجاز أبو حاتم الوقف على " داود "، ويبتدئ/ بـ " شُكْراً "، على معنى: أشكروا شكراً.

14

ولا يجوز عند غيره لأن اعملوا قام مقام اشكروا فلا يفرق بينهما. قوله تعالى ذكره: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} إلى قوله: {إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين}. أي: فلما جاء أجل سليمان فمات، ما دّلَّ الجن على موته إلا دابة الأرض، وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئاً عليها فأكلتها، وهي المنسأة. قال قتادة: أكلت عصاه حتى خر. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وأصل المنسأة الهمز لأنها مشتقة من نسأت الدابة إذا ضربتها بعصا أو غيرها لتسير. ولكن نافعاً وأبا عمرو أبدلا من الهمزة ألفاً لغة مسموعة. وليس البدل في وحو هذا بالمطرد إلا في الشعر.

وقد كان أبو عمرو يقول: لست أدري مِمَّ هي إلا أنها غير مهموزة. فرأى ترك همزها على طريق الاحتياط مع نقله ذلك عن أئمته أولاً وإنما كان ترك الهمزة للاحتياط، إذ جهل الاشتقاق لأن كل ما يهمز يجوزك ترك همزة، وليس كل ما لا يهمز يجوز همزه. ثم قال: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} أي: فلما سقط سليمان عند انكسار الصعا تبينت الجن. {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} أي: علم أن الجن لم تكن تعلم الغيب، لأنها لو كانت تعلم الغيب ما بقيت في العمل والتعب لسليمان وهو ميت. قال قتادة: كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون الغيب، فلما مات سليمان ولم تعلم الجن بموته وبقيت في السخرة بجهد طائعة لميت عاملة له، فعند ذلك تبينت الجن للإنس أنهم لا يعلمون الغيب. وروى ابن عباس أن النبي A قال: " كان سليمان نبي الله إذا صلى، رأى شجرة نابتة بين يديه فيسألها ما اسْمُكِ؟ فإن كانت

تُغرَسُ غُرِسَتْ وإن كانت لِدَواءٍ كُتِبَتْ، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه فقال: ما اسمك؟ قالت الخروب فقال لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب أهل هذا البيت، فقال: اللهم عَمّ على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولاً، ومات وهو متوكئ وهم لا يعلمون، فسقطت فعُلِمَ أن الجن لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة فشكرت الجن الأرضة ". وفي مصحف عبد الله: " تبيَّنَتِ الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ". وأن في قوله: " أن لو كانوا " في موضع رفع على المبدل من الجن. وقيل: هي في موضع نصب على معنى بأن.

قيل: المعنى: فلما خرَّ تبين أمر الجن، فأن بدل من الأمر على المعنى. وروي عن النبي A في حديث طويل: " أن سليمان كان يَتَجَرَّد في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل وأكثر، يُدْخِلُ طعامَه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، فمات متكئاً على عصاه لا يعلم أحد بذلك، والشياطين يعملون له يخافون أ، يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تَجتَمِع حول المِحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه ومن خلفه فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق، فمر ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع لم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا مِنْسَأَتَهُ - وهي العصا بلسان الحبش - قد أكلتها الأرضة. ولم يعلموا منْذُ كَمْ مات، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة ". وروي أن الجن كانت تظن أن الشياطين كانوا يعلمون الغيب، فأحب الله أن يبين لهم أن الغيب لا يعلمه غيره، فمات سليمان A وهو متكئ على عصاه، والشياطين

دائبة في العمل له وفي الطاعة، فأقام أربعين يوماً متكئاً على العصا فبعث الله D الأرضة - وهي السُّوسَة - فأكلت العصا فانكسرت فخر سليمان، فلما خر تبينت الجن أن الشياطين لا يعلمون الغيب، إذ لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا وقت موت سليمان، ولم يتمادوا في العمل والسُخرة له وهو ميت. ويروى أن الشياطين قالت للأرضة لو كُنْتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب/، ولكننا سننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون لها ذلك حيث كانت، وذلك هو الطين الذي يكون في جوف الخشب تأتيها به الشياطين شكراً لها. وذكر ابن وهب عن أبي شهاب: أنه لما توفي داود عليه السلام أقبلت الطَّيْرُ فصفت عليه حتى حبست عن الناس الرَّوْحَ، ووجدوا غماً شديداً، فقالوا لسليمان: يا نبي الله هلكنا الغنم، وأمر سليمان الطيرَ فقبضت جناحاً وأرسلت جناحاً فدخل عليهم الرَّوْح. ثم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}. أي: كان لهم في ذلك دلالة وعلامة أنه لا رب لهم إلا الذين أنعم عليهم تلك النعم " وجنتين " بدل من آية.

وسبأ في فيما روي عن النبي A أبو اليَمَنِ، " كان لَه عشرة من الولد، تَيامن منهم سِتَّةٌ: كندة وَحِمْيَرُ والأزْدُ وَالأشْعَرِيُّونَ ومَذحِجُ وَأنْمَارُ الذين منهم بجيلة وخثعم، وتشاءم منهم أربعة: عَامِلَةُ وجُذام ولخم وغسان ". قال قتادة: كانت لهم جنتان بين جبلين، وكانت المرأة تخرج بمكتلها على رأسها تمشي بين جبلين، فيمتلئ مِكتَلُها وما مسّت بيدها شيئاً، فلما طغوا بعث الله عليهم دابة يقال لها حدث فنقبت عليهم - يعني السد - فغرقتهم، فما بقي لهم إلا أثلٌ وشيء قليل من سدرٍ. وقيل: إن قربتهم كان لا يُرى فيها ذبابة ولا بعوض ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرّكْبُ يأتون في ثيابهم القمل والذباب فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتهم

فيموت ذلك، قاله ابن زيد قال: وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت القفة بأنواع الفاكهة ولم يتناول شيئاً بيده. ثم قال: {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ} إي: كلوا مما أنعم عليكم به من هاتين الجنتين وغيرهما، واشكروا نعمه على ذلك. ثم قال: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: هذه بلدة طيبة لا سبخة. {وَرَبٌّ غَفُورٌ} لذنوبكم إن أطعتموه. ثم قال تعالى: {فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} أي: فأعرضت سبأ عن طاعة الله وقبول ما أتاهم به الرسل، فأرسلنا عليهم سيل العرم. قال وهب بن منبه: بعث الله جل جلاله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً، فكذبوهم فأرسله عليهم سيل العرم. قال ابن عباس: " العرم " الشديد السيل. وقال عطاء اسم الوادي.

وروي ذلك عن ابن عباس قال: وَادٍ كان باليمن وكان يسيل إلى مكة. قال قتادة: ذكر لنا أن العرب وادي بسبأ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية فعمدوا فَسَدُّوا ما بين الجبلين بالقارِّ والحجارة، وجعلوا عليه أبواباً وكانوا يأخذون من مائة ما احتاجوا ويسدون ما لا يحتاجون. قال الضحاك: كانت أودية اليمن تسيل كلها إلى وادي سبأ وهو العرم فسَدُّوا ما بين الجبلين فحجزوه بالصخر والقار، فاستد زماناً من الدهر. قال قتادة: فأرسل الله عليهم جُرَذَاً فهدم عرمهم، أي سدهم، ومزق الله جناتهم وخرب أرضهم عقوبة لهم. وقيل: بل كثر الماء عليهم وغلب حتى هدم السد فغرق الجنات وأفسدها. وعن ابن عباس: أنه إنما حاد السيل الذي يسقي جنتيهم عن مجراه فلم يسقها فهلكت. وروي أن العرم مما بنته بلقيس صاحبة سليمان، وذلك أن قومها اقتتلوا على

الماء فاعتزلتهم، فسألوها الرجوع على أن يطيعوها فرجعت وأمَرَتْهُم فسدوا ما بين الجبلين فحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض، وبَنَتْ من دونه بِرْكَةً ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، فإذا أتى المطر احتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فيجري ماؤه في البركة، ثم كذلك حتى ينتفعوا بجميع الماء. والعرم بكلام اليمن المِسْنَاة. وقال المبرد: العرم كل ما حاجز بين شيئين. وروي أن الله جل ذكره أرسل عليهم ماء أحمر فشق السد وهدمه وحفر الوادي، فارتفعت حفتاه عن الجنتين فغاب عنهما الماء فيبستا، ولم يكن الماء الأحمر من السد، إنما كان عذاباً أرسله الله عليهم من حيث شياء. ثم قال تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} أي: جعلنا/ لهم مكان الجنتين اللتين كانتا تثمر عليهم أطيب الفواكه {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ}. قال ابن عباس: هو الأراك. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك.

وقال ابن زيد: أُبْدِلُوا مكان العنب أرَاكاً، ومكان الفاكهة أثْلاً، وبقي لهم شيء من سدر قليل. فالأثل على هذا ثمر الأراك. وقال الخليل: الخَمْطُ الأراك، فهذا يدل على قطافه كأنه قل ثم أراك. ومن نون جعل الثاني بدلاً من الأول. قال المبرد: الخَمْطُ كل ما تغير إلى ما لا يشتهى، يقال خمط اللبن إذا حمض. وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة فيها مرارة ذات شوك. وقال القُتَبِي: يقال للحامضة خمطة، وقيل: الخمطة التي قد أخذت شيئاً من الريح. والأثْلُ: الطْرفاء، قاله ابن عباس. وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء.

وقيل: هو السَّمُرُ. ثم قال: {ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} أي: عاقبناهم بكفرهم بالله ورسله، أي: هذا الذي فعلنا بهم جزاءً منا لهم بكفرهم. وقيل: التقدير: وجزيناهم ذلك بكفرهم. ف {ذلك} في موضع نصب على هذا، وفي موضع رفع على القول الأول على الخبر للابتداء المحذوف. ثم قال: {وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} أي: وهل يكافأ إلا من كفر بالله، فأما جاء المؤمنين فهو تفضل من الله لا مكافأة، لأنه جعل لهم بالحسنة عشراً، فذلك تفضل منه، وجعل للمسيء بالواحدة واحدة مكافأة له على جرمه، فالمكافآت لأهل الكبائر. والكفر، والمجازاة لأهل الإيمان مع التفضل. قال مجاهد: {نجازي} يعاقب. قال قتادة: إذا أراد بعبد كرامة يقبل حسناته، وإذا أراد بعيد هواناً أمسك عليه

ذنوبه حتى يوافى بها يوم القيامة. وقيل: المعنى: ليس يجازى بمثل هذا الجزاء الذي هو الاصْطِلاَمُ والهلاك إلا من كفر. وروت عائشة Bها أن النبي A قال: " مَنْ حُوسِبَ هَلَكَ، قالت: فقلت يا ني الله، فأين قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الإنشاق: 8] قال: إنما ذلك العرض، ومن نوقِش الحِسَابَ هَلَكَ ". ثم قال تعالى ذكره: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} أي: مما أنعم الله به على هؤلاء، أي: جعل بينهم وبين القرى التي بارك فيها - وهي الشام - قرى ظاهرة، قاله مجاهد وقتادة.

قال ابن عباس: هي الأرض المقدسة. وقوله: {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: متصلة متقاربة تتراءة من كان في قرية رأى القرية التي تليها لقربها منها. قال الحسن: كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح إلى قرية أخرى. قال الحسن: كانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها تشتغل بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار، يرقد من غير أن تحترف شيئاً، بل يمتلئ الزنبيل مما يتساقط من الثمار في حال مسيرها تحت الثمار لاتصال بعض الثمار ببعض. وقال ابن عباس: {قُرًى ظَاهِرَةً} أي: عربية بين المدينة والشام، وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: كان بين قريتهم وبين الشام قرى ظاهرة. قيلأ: وإن كانت المرأة لتخرج ومعها مغزلها ومِكْتَلها على رأسها، تروح من قرية إلى قرية وتغدوا أو تبيت في قرية، لا تحمل زاداً ولا ماءً فيما بينها وبين الشام.

وقال المبرد: الظاهرة: المرتفعة. ثم قال: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي: جعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها مسيراً مقدراً من منزل إلى منزل، لا ينزلون إلا في قرية ولا يغدون إلا من قرية. وقال الفراء: جعل الله لهم بين كل قريتين نصف يوم. ثم قال: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي: سيروا في هذه القرى التي قدرنا فيها المسير إلى القرى التي باركنا فيها - وهي بيت المقدس - آمنين، لا تخافون ظلماً ولا جوعاً ولا عطشاً. قال قتادة: آمنين لا يخافون ظلماً ولا جوعاً، إنما يغدون فيقيلون في قرية ويروحون، فيأتون قرية أهل خير ونهر، حتى لقد ذكر لنا: أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها وتمتهن بيدها فيمتلئ مكتلها من الثمرة قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تحترف بيدها شيئاً، وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زاداً ولا سِقاءً مما بسط الله للقوم. فهذا الذي ذكر الله من قصة سبأ وغيرها، إنما ذكره لنا ليبين لنا إحسان المحسن وثوابه، وإساءة المسيء وعقوبته/، ليتجافى الناس عن المعاصي ويرغبوا في الطاعة ويسارعوا إلى ما رغَّبهم فيه، ويزدجروا عن ما نهاهم عنه ويخافون أن يحل بهم ما حل بمن قص عليهم عقوبته، ويبادروا إلى فعل من قص عليهم كرامة لهم، فهي مواعظ وأمثال تكرر في القرآن ليتنبه لها الغافل ويجتهد المتنبه إحساناً من الله تعالى ونعمة علينا،

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الروم: 58]. وقال: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} [إبراهيم: 45]. وهذا كثير مكرر للأفهام في القرآن. ثم قال تعالى: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}. قرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وأبو صالح: (رَبُّنا) بالرفع " بَاعَدَ بالفتح وألِفِ على الخبر. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر: (رَبُّنَا) بالرفع " بَعَّدَ " بالتشديد وفتح العين والدال. وقد رويت عن ابن عباس وهو خبر أيضاً. وقرأ سعيد بن أبي الحسن أخو الحسن: " رَبَّنَا " بالنصب " بَعُدَ " بضم العين وفتح الدال بين بالرفع.

ورواه الفراء وأبو إسحاق الزجاج بَيْنَ وهو خبر أيضاً، ومعانيها ظاهرة، والمعنى على قراءة من جزم الفعل أنهم بطروا وجهلوا قدر النعمة عليهم، فسألوا أن يجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز ليركبوا فيها الرواحل ويتزودوا لها، فعجل لهم الإجابة كما عجل للقائلين: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} [الأنفال: 32] الآي فتقلهم يوم بدر، فكذلك هؤلاء مزقوا بين الشام وسبأ. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام، والأزد بعمان وخزاعة بتهامة، وفرقوا أيادي سبا وتقطعوا في البلدان بظلمهم لأنفسهم وكفرهم بنعمة الله. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: فما تقدم من النعم على هؤلاء والانتقام منهم لما بطروا النعمة وكفروا، لدلالات وعظات لكل من صبر على طاعة الله ومحبته وشكر على نعمته.

قال مُطَرِّف: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلي صبر. وصبار شكور بناءان للمبالغة. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي: صدق عليهم في ظنه، وذلك أنه ظن ظناً على غير يقين فكان ظنه كما ظن بكفر بني آدم وطاعتهم له، منهم أهل الجنتين وغيرهم. ومن شدد " صدق " ونصب " ظنه " بوقوع صدق عليه، لأن ظنه كان غير يقين، فصدقه بكفر بني آدم واتباعهم له. قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصاً، وإنما ظن ظناً فكان كما ظن بوسوسته لهم. والمعنى: أن إبليس لما أنذره الله قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولأحتنكن ذرية آدم، وذلك ظن منه أنه يكون، لم يتيقن ذلك. فلما وصل من بني آدم إلى ما أراد من

21

إضلالهم صدق ظنه فيهم. وقرئ " صدق " بالتخفيف، و " إبليس ظنّه " بالرفع فيهما على أن الظن بدل الاشتمال من إبليس. وقوله: {إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين} أي: لم يصدق فيهم ظنه ولا أطاعوه، وثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس. قال ابن عباس: هم المؤمنون كلهم. وقيل: هم بعض المؤمنين لقوله: " إلا فريقاً " ولم يقل إلا المؤمنين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد اتبعوا إبليس فصدق عليهم (ظنه) لأنه لم يصدق عليهم ظنه حتى اتبعوه. ومن خفف صدق ونصب الظن فعلى تقدير حرف الجر، أي في ظنه. قوله تعالى ذكره: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} إلى قوله: {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.

أي ما كان لإبليس على أصحاب الجنتين وغيرهم ممن اتبعه من حجة يضلهم بها إلا سلطناه عليهم لنعلم من يطيعه فينكر الجزاء والبعث ممن يعصيه فيؤمن بالجزاء البعث، وذلك أمر قد علمه الله جل ذكره، ولكن المعنى: لنعلم ذلك علم مشاهدة، فعليها يقع الجزاء والثواب. وقيل: المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم كما قال: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [القصص: 62]، أي على/ قولكم وزعمكم. فقوله: " إلا لنعلم " ليس في الظاهر بجواب لقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي: من حجة لكنه محمول على المعنى، لأن المعنى {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ}: ما جعلنا له عليهم من سلطان إلا لنعلم. فبهذا يتصل بعض الكلام ببعض ويظهر المعنى. ثم قال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} أي: وربك يا محمد على أعمال هؤلاء الكفرة وغير ذلك من الأشياء كلها حفيظ لا يغرب عنه علم شيء، مجاز جميعهم بما كسبوا، أي في الدنيا من خير وشر. ثم قال تعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله} أي: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من قومك: ادعوا من زعمتم أنه شيك لله فاسئلوهم يفعلوا بكم بعض ما فعل بهؤلاء الذين تقدم ذكرهم من خير ونعمة فإنهم لا يملكون زنة مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: فليس يملكون شيئاً على الانفراد ولا على الشركة، فكيف يكون من هذه حالة شريكاً لمن يملك جميع ذلك، وإذا لم تقدر ألهتكم على شيء من ذلك، فأنتم مبطلون في دعواكم. فمفعول زعمتم جملة محذوفة دل عليها الخطاب، والتقدير: الذين زعمتم أنهم ينصرونكم من دون الله،

يعني الملائكة لأنهم عبدوهم من دون الله وزعموا أنهم ينصرونهم. ثم قال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ} أي: وما لله جل ذكره من آلهتهم من عوين على خلق شيء. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لا تنفع شفاعة شافع لأحد إلا لمن أذن الله له في الشفاعة، والله لا يأذن بالشفاعة لأحد من أهل الكفر، وأنتم أهل كفر فيكف تعبدون من تعبدون من دون الله زعماً منكم أنكم تعبدونه ليقربكم إلى الله وليشفع لكم عند ربكم، " فَمَنْ " على هذا التأويل للمشفوع له، والتقدي: إلا لمن أذن له أن يشفع فيه. وقيل: هي للشافع - يراد به الملائكة، أي لمن أذن له أن يشفع في غيره من الملائكة مثل قوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]. قيل: من قال لا إله إلا الله. ودل على ذلك قوله: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ}. ثم قال تعالى: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي: كشف عنها الفزع. ومن فتح فمعناه: إذا كشف الله عن قلوبهم الجزع. وقرأ الحسن: " فُزِّعَ " الراء والعين غير معجمة. وروي عنه بالراء وعين معجمة.

والمعنى أزيل عن قلوبهم الفزع. قال ابن عباس: " فزع عن قلوبهم " جُلِيَ. وقال مجاهد: كشف عنهم الغطاء. وهم الملائكة، وذلك أن ابن مسعود قال: إذا حدث أمر عند ذي العرش، سمع من دونه من الملائكة صوتاً كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم نادوا ماذا قال ربكم؟ فيقول من شاء الله: قال الحق وهو العلي الكبير. وروى أبو هريرة أن نبي الله قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ". وقال ابن جبير: ينزل الأمر من عند رب العزة إلى سماء الدنيا فيسمعون مثل وقع الحديد على الصفا، فيفزع أهل السماء الدنيا حتى يستبين لهم الأمر الذي نزل فيه فيقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير.

وروي عن النبي A أنه قال: " إذا أراد الله جل ذكره أن يُوِحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رَجْفَةٌ - أو قال رعدة شديدة - خوفاً من الله، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعِقُوا وَخَرُّوا لله سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل A، فيكلمه الله جل وعز من وَحْيِهِ بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة صلى الله عليهم، كلما مرَّ بسماء سألته ملائكتها ماذا قال ربنا جبريل؟ فيقول جبريل A: قال الحق وهي العلي الكبير. قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله D ". قال قتادة: يوحي الله جل ذكره إلى جبريل/ A فتفرق الملائكة مخافة أن يكون شيئاً من أمور الساعة، فإذا أجلي عن قلوبهم وعلموا أن ذلك ليس من أمور الساعة قالوا: ماذا قال ربكم. وقال الضحاك: زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، فإذا أرسلهم الرب وانحدروا سمع لهم صوت شديد

فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً، وهذا كلما مروا عليهم يفعلون ذلك من خوف الله. وذكر ابن سحنون محمد. حدثنا بسنده إلى ابن عباس أنه قال: إن الله تبارك وتعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماوات صوتاً كصوت الحديد وقع على الصفا فيخرون سجداً، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالو: الحقَّ وهو العلي الكبير. وروى محمد حدثنا بسنده إلى ابن مسعود أنه قال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل A، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم فإذا قاموا نادوا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحقَّ، فينادون الحق الحق وهو العلي الكبير. وقال ابن زيد: هذا في بني آدم عند الموت أقروا بالله حين لم ينفعهم الإقرار. فالمعنى فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وما كان يضلهم، أي: قالوا: ماذا قال ربكم، فيكون هذا الكلام مردوداً على من تقدم ذكره من الذين صدق عليهم

إبليس ظنه، وتكون الأقوال المتقدمة مردودة على {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي لمن أذن له من الملائكة أن يشفع. و {العلي} الجبار و {الكبير} السيد. ثم قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماوات والأرض} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من يرزقكم من السماوات والأرض؟، أي: من ينزل عليكم الغيث من السماء ويخرج النبات من الأرض لأقواتكم ومنافعكم؟ ثم قال تعالى: {قُلِ الله} وفي الكلام حذف، أي: فإن قالوا لا ندري فقل: الله، وكذلك كل ما كان مثله قد حذف منه الجواب لدلالة الكلام عليه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: أحدنا على خطأ في مذهبه، والتقدير: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين أو أياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ثم حذف " هدى " وقد علم المعنى في ذلك كما تقول، أنا أفعل كذا وأنت تفعل كذا وأحدنا مخطىء، وقد عُرف من هو المخطئ. و {لعلى هُدًى} خبر عن إياكم، وخبر الأول محذوف لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون خبراً للأول، وهو اختيار المبرد. فيكون خبر الثاني هو المحذوف. ولو عطفت على الموضع فقلت: وأنتم لكان لعلى هدى خبراً للأول لا غير. وقيل: المعنى، وإنا لعلى هدى وإياكم لفي ضلال مبين. " أو " بمعنى الواو.

25

وهو قول أبو عبيدة. وقال البصريون: أو على بابها: وليست للشك، وإنما تكون في مثل هذا في كلام العرب تدل على أن المخبر لم يرد أن يبين، وهو عالم بالمعنى لكنه لم يرد أن يبين من هو المهتد. وقيل: أو على بابها، ولكن معنى الكلام الانتقاص للمشركين والاستهزاء بهم، أي: قد بين أن آلهتهم لا ترزق شيئاً لا تنفع ولا تضر، وهو مثل قولك للرجل: والله إنَّ أحدنا لكاذب، وقد علمتَ من هو الكاذب، ولكن أردت توبيخه واستنقاصه وتكذيبه فدللت عن ذلك بلفظ غير مكشوف. فأمر الله النبي A أن يكذبهم ويعيرهم في دينهم بلفظ غير مكشوف. قوله تعالى ذكره: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} إلى قوله: {فِي الغرفات آمِنُونَ}. أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لا تسئلون أنتم عن ذنوبنا ولا نسأل عن ذنوبكم، وقل لهم يا محمد: يجمع بيننا ربنا في الآخرة ثم يفتح بيننا بالحق، أي يحكم ويقضي بيننا بالحق فيظهر عند ذلك المهتدي هنا من الضال. ثم قال: {وَهُوَ الفتاح العليم} أي: والله الحاكم القاضي بين خلقه لا يخفى عليه حالهم ولا يحتاج إلى شهود، العليم بجميع الأمور/.

ثم قال تعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ} أي: قل لهم يا محمد أروني الذين جعلتم لله شركاء في عبادتكم إياه هل خلقت شيئاً، أو رزقتكم شيئاً، أو نفعتكم، فعرفوني ذلك وإلاَّ فلِمَ عبدتموها؟ {كَلاَّ} أي: كذبوا، ليس الأمر كما ذكروا من أن لله شركاء في ملكه، بل هو الله المعبود وحده، العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبيره خلقه. وقيل: إن " كلا " رد لجوابهم المحذوف، كأنهم قالوا هي هذه الأصنام، فرد عليهم قولهم، أي: ليس الأمر كما زعمتم، أي: ليست شركاء له بل هو (الله) العزيز الحكيم. وأروني هنا من رؤية القلب. والمعنى عرفوني ذلك، فشركاء مفعول ثان، ويجوز أن يكون من رؤية العين، فيكون شركاء حالاً. ثم قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} أي: ما أرسلناك يا محمد إلا جامعاً لإنذار الناس وتبشيرهم، العرب والعجم. ومعنى كافة اللغة الإحاطة. ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن الله أرسلك كذلك إلى جميع الخلق.

قال قتادة: أرسل الله جل ذكره محمداً A إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعُهُم له. قال قتادة: ذكر لنا أن النبي عليه السلام قال: " أنَا سابقُ العرب، وَصُهَيْبٌ سابقُ الروم، وبلال سابق الحبشة، وسلمان سابق فارس ". ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: متى يأتي العذاب الذي تعدنا به يا محمد؟ قل لهم يا محمد: لكم أيها القوم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون، أي: لا يؤخرون للمؤنة إذا جاءكم ولا يتقدم العذاب إليكم قبله. ثم قال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لن نؤمن بما جاء به محمد ولا بما أتى قبله من الكتب، أي لا نصدق بذلك كله. ثم قال تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} أي: لو تراهم يا محمد موقوفين يتلاومون يحاور بعضهم بعضاً، يقول الذين استضعفوا في الدنيا للذين كانوا يستكبرون عليهم في الدنيا: لولا أنتم لكنا في الدنيا للذين كانوا يستكبرون عليهم في الدنيا: لولا أنتم لكنا من الدنيا مؤمنين. {قَالَ الذين استكبروا} أي: في الدنيا للذين استضعفوا فيها. {أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى} أي: منعناكم من اتباع الحق بعد إذ جاءكم من عند الله. {بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} بإيثاركم الكفر بالله على الإيمان.

ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين استضعفوا} أي: في الدنيا للذين استكبروا فيها عليهم. {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ} أي: بل مكركم بالليل والنهار صدنا عن الهدى إذ تأمروننا أن نكفر بالله. {وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} أي: أمثالاً وأشباهاً في العبادة والألوهية. وأضيف المكر إلى الليل والنهار على الإتساع، لأن المعنى معروف لا يشكل كما يوقلون: نهارك صائم وليلك قائم. وقال ابن جبير: معنه بل مر الليل والنهار فغفلوا. وقال الأخفش: رفعه على معنى بل هذا مكر الليل. ثم قال تعالى: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي: أظهروها. وقيل: المنى: تبينت الندامة في أسرار وجوههم لأن الندامة إنما هي في القلوب فلا تظهر، إنما تظهر بما توليد عنها. والمعنى: ندموا على ما فرطوا فيه من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعده لهم. وقال قتادة: وأسروا الندامة بينهم لما رأوا العذاب.

ثم قال: {وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي: أغللنا أيدي الكافرين بالله في جهنم إلى أعناقهم جزاء بما كانوا في الدنيا يكفرون بالله. قال الحسن: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب، ولكن إذا طفى بهم اللهب ترسبهم في النار. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} أي: ما بعثنا في أهل قرية نذيراً ينذرهم بأس الله أن ينزل بهم على كفرهم. {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ} أي: كبراؤها ورؤوسها في الضلالة. {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} كما قال لك مشركوا قومك يا محمد. ثم قال: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} أي: وقال أهل الاستكبار على الله ورسله من كل قرية أرسلنا فيها نذيراً: نحن أكثر من الأنبياء أموالاً وأولاداً وما نحن في الآخرة بمعذبين/، لأن الله لو لم يكن راضياً عنا في ديننا لم يعطنا ذلك ويفضلنا به، كما قال قومك يا محمد لك. ثم قال تعالى ذكره لنبيه: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي: يوسع على من يشاء في رزقه ويضيق على من يشاء. وليس التوسع في الرزق بفضل ومنزلتة وقربة لمن وسع عليه، ولا التضييق في الرزق لبغض ولا مقت ولا إهانة لمن ضيق عليه، بل ذلك كله لله تعالى، يفعل ما يشاء محنة لعباده وابتلاء منه ليعلم الشاكر من الكافر، علما ً يجب عليه الجزاء، وقد كان علمه قبل أن يبلتي أحداً بذلك، ولكن يريد أن يعلمه علم مشاهدة يقع عليها الجزاء. ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن الله إنما يفعل ذلك اختباراً وامتحاناً فيظنون أنه إنما وسع على قوم لفضلهم ومحبتهم، وضيق على قوم لبغضهم ومقتهم. ثم قال: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} أي: ليس ما كسبتم من

الأموال والأولاد مما تقربكم إلى الله، إنما يقرب من الله تعالى الإيمان والعمل الصالح، فلا فائدة لكم في احتجاجكم أنكم أكثر أموالاً وأولاداً من الرسل. وقوله: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ} نصب الاستثناء. وقال الزجاج: من في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في تقربكم. وهو غلط لأن الغائب لا يبدل من المخاطب. لو قلت: رأيتك زيداً، لم يجز. وهو معنى قول الفراء. وأجاز الفراء أن تكون " من " في موضع رفع بمعنى ما هو إلا من آمن. وهو بعيد في المعنى، وإنما وحد " التي " وقد تقدم ذكر أموال وأولاد لأنه على حذف، والتقدير: وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالتي تقربكم، ثم حذف الأول لدلالة الثاني. وقال الفراء: التي تكون للأموال والأولاد جميعاً.

38

ثم قال تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ} أي: إلا من آمن وعمل صالحاً وأنه تقربه أمواله وأولاده بطاعتهم لله في ذلك وأدائهم حق الله فيه دون أهل الكفر، فيضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها وفي سبيل الله إلى سبع مائة ضعف. وقال ابن زيد: إلا من آمن فلن تضره أمواله ولا أولاده في الدنيا، وقرأ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقال: الحسنى: الجنة والزيادة: ما أعطاهم الله في الدنيا لا يحاسبهم كما يحاسب الكفار. ثم قال تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} أي: من العذاب، ومعنى " زلفى " قربى، قاله مجاهد وغيره. قوله تعالى ذكره: {والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} إلى قوله: {عَلاَّمُ الغيوب}. أي: والذين سعوا في إبطال حجج الله وأدلته معاجزين، أي: يظنون أنهم يفوتون الله ويعجزونه فلا يجازيهم على فعلهم. {أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ} أي: في عذاب جهنم يوم القيامة. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: يوسع في الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وليس ذلك لفضل في أحد ولا لنقص ولا لمحبة ولا لبغض. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: ما أنفقتم في طاعة الله فإن الله يخلفه عليكم.

قال ابن جبير: ما كان في غير إسراف ولا تقتير. قال ابن عباس: في غير إسراف ولا تقتير. وقال الضحاك: يعني النفقة على العيل وعلى نفسه، وليس النفقة في سبيله الله. قال مجاهد في قوله: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}: أي: إن كان خالفاً فمنه، وربما أنفق الرجل ماله كله ولم يخلف حتى يموت. قال مجاهد: إذا كان بيد الرجل ما يقيمه فليقتصد في النفقة، ولا تؤوَّلُ هذه الآية فإن الرزق مقسوم، ولا يدري لعل رزقه قليل. يعني: وأجله قريب. ثم قال تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أي: خير من يرزق. وجاز ذلك لأن من الناس من يسمى برازق على المجاز، أي: رزق غيره مما رزقه الله، والله يرزق عباده لا من رزق رزقه غيره، فليس رازق مرزوق كرازق غير مرزوق. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ} الآية أي: واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء الكفار، ثم نقول للملائكة: أهؤلاء الكفار كانوا يعبدونكم من دوني؟ فتبرأ منهم الملائكة، فقالوا: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} أي: تنزيهاً لك وبراءة من السوء الذي أضافه هؤلاء إليك، " أنت ولينا من دونهم " أي: لا نتخذ ولياً من دونك.

{بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم} أي: بالجن. {مُّؤْمِنُونَ} أي: مصدقون، أي بعبادتهم. وقيل: المعنى: أكثر هؤلاء الكفار بالملائكة مصدقون أنهم بنات الله. قال قتادة في قوله تعالى للملائكة: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} هو كقوله لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116]. ثم قال تعالى/: {فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي: لا تملك الملائكة للذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ضراً ولا نفعاً. ثم قال: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: عبدوا غير الله. {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي: في الدنيا. ثم قال تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي: وإذا تقرأ على هؤلاء الكفار آيات القرآن ظاهرات الدلائل والحجج في توحيد الله وأنهن من عنده. {قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ} أي: قالوا: لا تتعبدوا محمداً فما هو إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان آباؤكم يعبدون من الأوثان ويغير دينكم. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} أي: وقال بعضهم ما هذا الذي أتانا به محمد إلا كذب مختلف متخرص.

ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} يعني به محمداً A وما جاء به: هذا سحر مبين، أي: ما جاء إلا بسحر ظاهر. ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي: لم يعط هؤلاء الكفار كتباً قبل كتابك يا محمد يقرؤونها وفيها ما يقولون لك من البهتان. {وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} أي: لم نبعث إليهم قبلك من ينذرهم من عذاب الله. قال قتادة: ما أنزل الله جل ذكره على العرب كتاباً من قبل القرآن ولا بعث إليهم رسولاً قبل محمد A. ثم قال تعالى: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} يعني من الأمم الماضية كعاد وثمود كذبت رسلها، ولم يبلغوا هؤلاء معشار ما أوتي إليك من القوة والبطش والنعم أي عشر ذلك. وقيل عشر عشر ذلك. والمِعْشَارُ قيل هو عشر العشر جزء من مائة. أي: لم يبلغ قومك يا محمد في القوة والبطش والأموال عشر عشر من كان قبلهم، فقد أهلك من كان قبلهم بكفرهم، فكيف تكون حال هؤلاء الذين هم أقل قوة وبطشاً من أولئك. وهذا كله تهديد ووعيد وتنبيه لقريش، فالمعنى: فلم ينفع

أولئك ذلك وأهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم الرسل. فإذا كان أولئك الأمم على ما فضلهم الله به من القوة والبطش والأموال والدنيا قد أهلكوا لما كذبوا الرسل، فكيف تكون حال هؤلاء على ضعفهم وقلة أموالهم وَوَهَنِهِمْ إذا كذبوا الرسل. وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: كيف كان إنكاري لهم بالهلاك والاستئصال. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك: إنما أعظكم بواحدة. قال مجاهد: " " بواحدة " بطاعة الله. وروى ليث عنه " بواحدة ": بلا إله إلا الله. وقيل: المعنى: إنما أعظكم بخصلة واحدة، وهي: " أن تقوموا لله مثنى وفرادى " أي: اثنين اثنين وواحداً واحداً، فأن بدل من واحدة، وهو قول قتادة واختيار الطبري.

قال قتادة: الواحدة التي أعظكم بها أن تقوموا لله. وقيل: " أنْ " في موضع رفع على معنى: وتلك الواحدة أن تقوموا لله بالنصيحة وترك الهوى اثنين اثنين وواحداً واحداً، أي: يقوم الرجل منكم مع صاحبه، ويقوم الرجل وحده فيتصادقوا في المناظرة فيقولوا: هل علمتم بمحمد صلى الله عليه جنوناً قط؟ [هل علمتموه ساحراً قط؟]، هل علمتموه كاذباً قط؟ وقيل: " مثنى "، أي: يقوم كل واحدة مع صاحبه فيعتبرا هل علما بمحمد جنوناً أو سحراً أو كذباً؟. ومعنى " فرادى ": أي ينفرد كل واحد بعد قيامه مع صاحبه فيقول في نفسه هل علمت بمحمد شيئاً من جنون أو سحر أو كذب؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك وتصادقتم علمتم أن الذي ترمونه به من الجنون والسحر والكذب باطل، وأن الذي أتى به حق، فاعتبروا ذلك وتفكروا فيه فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم لا جنون به. وقوله: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} أي: تفكروا فيه في أنفسكم فتعلموا - إذا أعطيتكم الحق من أنفسكم - أنه ليس به جنون، وأنكم مبطلون في قولكم إنه مجنون. ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي: ما محمد إلا ينذركم على كفركم بالله عقابه. وروي عن نافع أنه وقف " بواحدة ".

وهو جائز على معنى: وتلك الواحدة أن تقوموا، أو هو أن تقوموا، ولا يجوز على غير هذا التقدير/. والوقف عند أبي حاتم " ثم تتفكروا ". وخولف في ذلك لأن المعنى: ثم تفكروا هل جربتم على محمد كذباً أو رأيتم به جنة، فتعلمون أنه نبي. ثم قال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين ردوا إنذارك: الذي سألتكم - على إنذاري لكم عذاب الله - هو لكم لا حاجة بي إليه، إني لم أسألكم جُعْلاً على ذلك فتتهموني وتظنوا أني إنما أنذركم لِمَا آخذه منكم من الجُعْل. قال قتادة: المعنى: لم أسألكم على الإسلام جُعْلاً. ثم قال تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي: ما ثوابي على إنذاري لكم إلا على الله. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: والله على حقيقة ما أقول لكم شهيد، شهد به لِي وعليَّ غير ذلك من الأشياء كلها. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق} أي: يأتي بالحق وهو الوحي ينزله من السماء فيقذفه إلى نبيه.

49

{عَلاَّمُ الغيوب} أي: ما غاب عن الأبصار. قوله تعالى: {قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل} إلى آخر السورة. أي: قل لهم يا محمد جاء الحق وهو الوحي. {وَمَا يُبْدِىءُ الباطل} أي: وما يبتدي الشيطان خلقاً ولا يعيد خلقاً بعد موته. والباطل هنا الشيطان، وهو إبليس اللعين، أي وما يخلق إبليس أحداً ولا يعيد خلقاً بعد موته. والوقف على " الحق " حسن إن رفعت " علم " على إضمار مبتدأ أو نصبته على المدح وهي قراءة عيسى بن عمر. فإن رفعت على أنه خبر، أو خبر بعد خبر، أو على النعت على الموضع، أو على البدل من المضمر، لم تقف على " بالحق ". ثم قال تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي} أي: على نفسي يعود ضرره. {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} فبالذي يوحيه إليَّ من الهدى اهتديت، وإن شِئْتَ جَعلتَ والفعل مصدراً. والتقدير: وإن اهتديت إلى الحق فبوحي ربي اهتديت. {إِنَّهُ سَمِيعٌ} أي: سميع لِمَا أقول لكم، حافظ له مجازٍ لي عليه، {قَرِيبٌ} أي: قريب مني غير بعيد لا يتعذر عليه سماع ما أقول لكم ولا غيره. ثم قال {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} اختلف في وقت هذا الفزع، فقيل: ذلك في

الآخرة، وقيل: في الدنيا. فالمعنى على قول ابن عباس: أي لو ترى يا محمد إنّ فزع هؤلاء المشركون عند نزول العذاب بهم فلا فوت لهم من العذاب. {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي: من الدنيا بالعذاب. قال ابن عباس: هذا من عذاب الدنيا. قال ابن زيد: هؤلاء قتلى المشركين من أهل بدر، وهم الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار. وقال ابن جبير: هم الجيش الذين يخسف بهم بالبيداء، يبقى منهم رجل يخبر الناس بما لقي أصحابه. وروى حذيفة بمن اليمان " أن النبي A " ذكر فتنة " تكون بين أهل الشرق والمغرب، قال: فَبَيْنَمَا هم كذلك إذْ خَرجَ عليهم السّفْيَانِيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين، جيشاً إلى المشرق، وجيشاً إلى المدينة، حتى ينزلوا بابِلَ في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاث آلاف، ويبقرون

فيها أكثر من مائة امرأة، ويقتلون بها ثلاث مائة كبْشٍ من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج رَايَةُ هُدىَ من الكوفة: فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقلتونهم لا يفلت منهم مخْبِرٌ، ويَسْتَنْفِذُونَ ما في أيديهم من السَّبْيِ والغنائم، وَيَحُلُّ جيشه الثاني بالمدينة فَيَنْتَهِبونَهَا ثلاثة أيام ولياليها، ثم يخرجون متوجيهن إلى مكة حتى إذا كانوا بالبَيْداءَ بعث الله عليهم جبريل عليه السلام، فيقول: يا جبريل اذهب فأبِدْهُمْ، فيضربها برجله ضربة يَخْسِفُ الله بهم، فذلك قوله تعالى ذكره: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} فلا يفلت منهم إلا رجلان، أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، فذلك جاء المثل: " وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليقِينُ ". وقال الحسن وقتادة: معنى الآية: ولو ترى يا محمد إذ فزع المشركون يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم. قال قتادة: " وأخذوا من مكان قريب " حين عاينوا العذاب.

وجواب لو محذوف والتقدير: لو رأيت ذلك يا محمد لعاينت أمراً عظيماً ولرأيت عبرة. وقوله {فَلاَ فَوْتَ} / أي: فلا سبيل لهم أن يفوتوا بأنفسهم وينجوا من العذاب. قال ابن عباس " فلا فوت " فلا نجاة. وقال علي بن سعيد: " فلا فوت " قال: جالوا جولة. وقال إبراهيم بن عرفة: " فلا فوت " أي: لم يسبقوا ما أريد منهم. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولو ترى إذ فزعوا وأخذوا من مكان قريب فلا فوت، أي: فلا يفوتونا. وقال الضحاك: " فلا فوت " فلا هرب. {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي: أخذوا بعذاب الله من مكان قريب لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب.

وقال مجاهد: أخذوا من تحت أقدامهم. ثم قال: {وقالوا آمَنَّا بِهِ}. قال: مجاهد: " به " بالله. وقيل: بمحمد A، وذلك حين عاينوا العذاب. وقال ابن زيد: ذلك بعد القتل قالوه. ثم قال: {وأنى لَهُمُ التناوش} أي: من أي وجه لهم تناول التوبة؟ {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي: من الآخرة. وقيل: من بعد القتل. ومن هَمز " التناوش "، أخذه من النئيش وهو الحركة في إبطاء. فيكون المعنى: ومن أين لهم الحركة فيما قد بَعُدَ ولا حيلة فيه، ويجوز أن يكون همز الواو لا نضمامها، فيكون من ناش ينوش إذا تناول كقراءة من لم يهمز.

قال أبو عبيدة: " وأني لهم " أي: كيف ومن أين. وقيل: من مكان فوتت من تحت أقدامهم. قال ابن عباس: {وأنى لَهُمُ التناوش} يسألون الرد وليس بحين رد. وقال مجاهد وقتادة: التناوش تناول التوبة. وقال ابن زيد: التناوش من مكان بعيد وقرأ {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]. وقال: ليس لهم توبة. وقرأ {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] ": الآية، وقرأ: {رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا} [السجدة: 12] الآية. وقال الضحاك: التناوش: الرجعة. قال مجاهد: من مكان بعيد ": من الآخرة. ثم قال تعالى: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي بمحمد، من قبل في الدنيا قبل موتهم. وقيل: وقد كفروا بما يسألون ربهم عند نزول العذاب بهم. قال قتادة: " كفروا به " أي بالإيمان في الدنيا.

ثم قال تعالى: {وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي: يقذفون محمداً اليوم بالظنون والأوهام، فيطعنون عليه وعلى ما جاءهم به، فيقول بعضهم: ساحر وبعضهم: شاعر. قاله مجاهد وقتادة. وقال ابن زيد: {بالغيب} أي بالقرآن. والعرب تقول لكل من يتكلم بما لا يحقه ولا يصح عنده هو يقذِف بالغيب ويرجم بالغيب. وقوله: {مَّكَانٍ بَعِيدٍ} مثل لمن يرجم ولا يصيب ويقول ويخطئ. ثم قال تعالى ذكره: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي: وحيل بين هؤلاء المشركين وبين الإيمان في الآخرة لأنها ليست بدار عمل إنما هي دار جزاء، فلا سبيل لهم إلى توبة ولا إلى إيمان. قال ذلك الحسن. وقال مجاهد: حيل بينهم وبين الرجوع. وقال قتادة: عمل الخير. وقيل: حيل بينهم وبين أموالهم وأولادهم وزهرة الدنيا، روي ذلك عن مجاهد أيضاً.

وقيل: المعنى: وحيل بينهم وبين النجاة من العذاب. ثم قال تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} أي كما فعل بهؤلاء المشركين من قومك يا محمد في المنع من الرجوع والتوبة كما فعل بنظرائهم من الأمم المكذبة لرسلها من قبلهم، قلم تقبل منهم توبة ولا رجوع عند معاينة العذاب. والأشياع جمع شِيَّع، وشِيَّع جمع شِيعَةٍ، فهي جمع الجمع. ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ} أي: كانوا في الدنيا في شك من نزول العذاب بهم. {مَّرِيبٍ} أي: يريب صاحبه. يقال أراب الرجل إذا أتى ريبة وركب فاحشة.

فاطر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة فاطر مكية قوله تعالى ذكره: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} إلى قوله: {كَذَلِكَ النشور}. أي: الشكر الكامل والثناء الجميل لله الذي ابتدع خلق السماوات والأرض وابتدأهما. قال ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر حتى اختصم أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها. ثم قال: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} أي: أرسلهم إلى من يشاء من خلقه وفيما شاء وبما شاء من أمره ونهيه، والرسل هم ها هنا: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت صلى الله عليهم وسلم. ومعنى {أولي أَجْنِحَةٍ} أي: أصحاب أجنحة، منهم من له اثنان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، أربعة من كل جانب، وهو قوله/: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، قاله قتادة وغيره.

وإنما تتصرف هذه الأعداد لعلتين، وذلك أنه معدول عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة، والثانية أنه عدل في حال النكرة. وقيل: العلة الثانية أنه صفة. ثم قال تعالى: {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ} أي: يزيد في خلق الملائكة وفي عدد أجنحتها وغير ذلك ما يشاء. وقال الزهري: هو حُسْنُ الموت. فيكون {وَرُبَاعَ} وقفاً كافياً على القول الأول، وتماماً على القول الثاني. وقال قتادة: هو مَلاحَةٌ في العينين. وروي عن ابن شهاب أنه قال: " سأل رسول الله جبريل A أن يتراءَى لَهُ في صُورَته، فقال له جبريل: لا تُطيقُ ذلك، إِنِّي أحبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَخَرَجَ رسول الله إلى المصلّى فأتاهُ جبريل على صورته فَغَشِيَ على رسول الله A حين رآه. ثم أفاق وجبريل A مُسْنِدُهُ واضِعٌ إِحْدَى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول

الله: سبحان الله ما كنت أرَى شَيْئاً مِنَ الخَلْقِ هَكَذا. فقال جبريل A: فكيف لو رأيْتَ إِسْرَافِيل A، إنَّ لهُ لاثني عشر جناحاً منها جناح في المشرق وجناح في المغرب، وإن العرش لعلى كاهليه وأنه ليتضاءل الأحيان من عظمة حتى يعود مثل الوَصَعِ - وَالوَصَعُ عُصْفُورٌ صَغيرٌ - حتى ما يحمِلُ عرْشَهُ إلاّ عظمَته " ذكر هذا الحديث علي بن سعيد. وقال ابن عباس في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38]: إنّ الرّوح ملك يقوم وحده صفاً مثل جميع ملائكة السماوات، له ألف وجه، في كل وجه ألف لسان، كل لسان يسبّح الله بثنتين وسبعين لغة، ليس منها لغة تشبه الأخرى، لو أن الله تعالى أَسْمَعَ صوته أهل الأرض لخرجت أرواحهم من أجسامهم من شدّة صوته، ولو سُلِّطَ على السماوات السبع والأرضين السبع لأدخلهنّ في فيه من أحد شدقيه، يذكر الله في كل يوم مرتين فإذا ذكر الله خرج من فيه من النور قطع كأمثال الجبال العظام، لولا أن الملائكة الذين من حول العرش يذكرون الله لا حترقوا من ذلك النور الذي يخرج من فيه، موضع قدميه مسيرة سبعة آلاف سنة، له ألف جناح، فإذا كان يوم القيامة قام هو

وحده صفاً وقامت الملائكة صفاً واحداً فيكون مثل صفوفهم. وقد روى مالك أن النبي A قال: " إنَّ اللهَ أَذِنَ لي أنْ أتحدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ الملائِكَةِ: إنّ بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ ليَخْفِقُ الطَّيْرُ سبعِينَ عاماً ". ثم قال: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: يقدر على ما يشاء من الزيادة في الخلق والنقص منه وعلى غير ذلك من الأشياء كلها. ثم قال تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي: ما يعطي الله للناس من خي فلا ممسك له، وما يحبس من ذلك فلا مرسل له من بعده، له الأمر ومفاتيح الخير بيده يفعل ما يشاء. وقيل: هو في المطر يرسله متى يشاء. وقيل: هو في الدعاء. ثم قال: {العزيز} أي: في نقمته ممن انتقم منه من خلقه بحبسه رحمته عنه. {الحكيم} في تدبيره خلقه. وقيل: الرحمة هنا الغيث. ثم قال تعالى: {يا أيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} هذا خطاب للمشركين، أي: اذكروا تفضُّلَ الله عليكم وتدبّروا أنه لا يرزقكم من السماء والأرض أحد غيره فيجب لكم ألاّ تعبدوا غيره. {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود غيره، يرزقكم المطر من السماء والنبات من الأرض. ومن رفع " غير " جعله نَعْتاً لخالقٍ " على الموضع.

وقد ذكر اليزيدي أنه على التقديم والتأخير، وأن المعنى: هل غَيْرُ الله من خالق. ويجوز أن يرفع " غير " بفعله فيكون تقدير الكلام: هل من خالق إلاّ الله. فلما جعلت " غير " موضع إلاّ، رفعت كإعراب الاسم الذي بعد إلاّ. ومن خفض جعله نَعْتاً ل " خالقٍ " على اللفظ. ويجوز النصب على الاستثناء. ثم قال: {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: فمن أي وجه تصرفون عن خالقكم ورازقكم، أي: من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث. قال حميد الطّويل: قلت للحَسَنِ: من خلق الشّر؟ فقال: سبحان الله/ هل من خالق غير الله. قال: خلق الخير والشّر.

ثم قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} هذا تسلية للنبي A، أي: إن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله من قومك، فإن ذلك سنة أمثالهم من كفرةِ الأمم من قبلهم في تكذيبهم الرُّسُلَ. قال قتادة: يُعزِّي نبيّه A كما تسعمون. ثم قال: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي: يرجع أمرك وأمرهم فيجازيهم على فعلهم. ثم قال: {يا أيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} أي: إن وعدَ الله لكم بالعذاب على كفركم حق فلا يعرّنكُمْ ما أنتم فيه من العيش والمال في الدنيا، أي: لا يخدعنكم ذلك. ثم قال: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} أي: لا يخدعنّكم بالله الشيطان فيُعَنِّيكم بأن لا حساب ولا عقاب ولا بعث، فيحملكم ذلك على الإصرار على الكفرة، قاله ابن عباس وقتادة. وقال ابن جبير: الغرور الحياة الدنيا ونعيمها، يشتغل الإنسان بها عن عمل الآخرة حتى يقول: {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]. وقُرِئَ " الغُرورُ " بالضمّ على أنه جمغ غارّ، كما يقال جالس وجُلوس فيكون معناه كمعنى الأول.

وقيل: هو جمغ غرّ وغَرّ مصدر. وقيل: هو مصدر، وفيه بُعْدٌ لأن الفعل مُتعدٍّ ولم يأتِ في مصدر المتعدّي فعومل إلاّ في أشياء مسموعة مثل لزمته لزوماً ونهكه المرض نهوكاً. ثم قال تعالى: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} أي: إن الشيطان الذي نهيتكم ألاّ يخدعكم ويغرّكم لكم عدو. {فاتخذوه عَدُوّاً} أي: أنزلوه منزلة العدو لكم واحذروه ولا تطيعوه، فإنما يدعو من أطاعه وهم حزبه. {لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} أي: من المخلّدين في نار جهنّم. ويقال: السعير: الطبقة السادسة من جهنم لأنها سبع طباق، وطبقة تحت طبقة، لكل طبقة باب، كما قال: لها سبعة أبواب. فكل باب تحت الباب الذي فوقه أعاذنا الله منها. وعدو هنا بمعنى معاد، فيجوز تثنيته وجمعه وتأنيثه، فإن جعلته بمعنى النسب لم تجمع ولم تثن ولم يؤنث. وعلى هذا قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77]. ثم قال تعالى: {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يعني عذاب النار.

ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، أي: آمنوا بالله ورسله وكتبه وعملوا بطاعته. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} أي: ست على ذنوبهم. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}: الجنة، قاله قتادة وغيره. ثم قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ [فَرَآهُ حَسَناً} مَنْ: رُفِعَ بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: أفمن زين له سوء عمله] فرآه حسناً ذهبت نفسك عليهم حسرات. والمعنى: أن الله نهى نبيه A أن يغتمّ بمن كفر به وألاّ يحزن عليهم، وهذا مثل قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الكهف: 6] أي: قاتلها. وقال الأصمعي في قول النبي A: " أَهْلُ اليَمَنِ هُمْ أَرَقُ قُلُوباً وَأَبْخَعُ طَاعَةً " إنّ معنى " أبخع ": أنصح، قال: وباخع نفسك من هذا، كأ، هـ من شدّة نصحه لهم قاتل نفسه.

قيل: التقدير في خبر الابتداء: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً كمن هداه الله، ودلّ على هذا المحذوف قوله بعد ذلك: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}. ويدل على المحذوف في القول الأول: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ}. فلا يحسن الوقف على هذين القولين على " حسناً "، وتقف على القول الثاني على {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}. ولا تقف على القول الأول إلاّ على {حَسَرَاتٍ}. والمعنى زين له الشيطان سوء عمله فأراه إياه حسناً. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي: ذو علم بعملهم ومحصيه عليهم ومجازيهم به. ثم قال تعالى: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي: الله الذي أرسل الرياح فتجمع سحاباً وتجيء به وتخرجه، قاله أبو عبيدة. ثم قال تعالى: {فَسُقْنَاهُ} أي نسوقه. {إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي: مجدب لا نبات فيه. {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي: فنحيي به الأرض بعد جدوبها وننبت فيها الزرع بعد المَحْلِ. {كَذَلِكَ النشور} أي: كذلك ينشر الله الموتى بعد ابتلائهم في قبورهم فيحييهم. روى أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يكون بين النفختين ما شاء الله أن

10

يكون، فليس من بني آدم خلق إلاّ وفي الأرض منه شيء، قال فيرسل الله جلّ ذكره ماء من تحت العرش مَنِيًّا كَمَنِيِّ الرّجلِ فتَنْبَتُ أجسادهم وَلحُمانُهُم/ من ذلك ما تَنبُتُ الأرض من الثرى، ثم قرأ: {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} [الروم: 48] الآية. قال: ثم يقوم ملك الصُّورِ بين السماء والأرض فينفخ فيها فتنطلق كل نفس إلى جسدها فتدخل فيه. قوله تعالى ذكره: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. أي: من كان يريد العزّة بعبادة الأوثان والأصنام فإن لله العزّة جميعاً، قاله مجاهد. وقال قتادة: معناه: من كان يريد أن يتعزز فليتعزز بطاعة الله. وقال الفراء: معنه من كان يريد علم العزة فإنها لله جميعاً، أي: كلها له. وقيل المعنى: من كان يريد العزّة التي لا ذلة تعقبها فهي لله، لأنّ العزّة إذا أعقبتها ذلة فهي ذلة إذ قصاراها للذلة.

و " جميعاً " منصوب على الحال. أي: إن العزة في حال اجتماعها، له في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى ذكره: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} أي: إلى الله يصعد ذكر العبد ربّه، ويرفع ذكر العبد ربَّه العمل الصالح، وهو العمل بطاعة الله. ويُقال: الكلم الطيب هو لا إله إلاّ الله، يرفعه عمل الفرائض، فإذا قال العبد لا إله إلاّ الله نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان عمله موافقاً لقوله صعدا جميعاً ولهما دوي كدوي النحل حتى يقف بين يدي الله تعالى، فنظر إلى قائلها نظرة لا يَيْؤُسُ بعدها أبداً، وإذا كان عمله مخالفاً لقوله، وقف حتى يموت من عمله. قال عبد الله: إنّا إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله D، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله وبحمده الحمد لله لا إله إلاّ الله والله أكبر تبارك الله، أخذهن ملك فجعلهنّ تحت جناحه ثم يصعد بهنّ إلى السماء فلا يَمُرُّ بِهِنَّ على جَمْعٍ نم الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهنّ، ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ}. وقال كعب: إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر لدويًّا حول العرش كدويّ النحل يذكرن بصاحبهنّ. والعمل في الخزائن. قال ابن عباس: {الكلم الطيب} ذكر الله، و {والعمل الصالح} أداء فرائضه فمن ذكر الله في أداء فرائضه، حمل عمله ذكر الله فصعد به إلى الله سبحانه.

ومن ذكر الله ولم يؤدّ فرائضه رُدَّ كلامه على عمله فكان أولى به. وكذلك قال الحسن وابن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وقال شهر بن حوشب: " الكلم الطيب " القرآن، و " العمل الصالح " يرفع القرآن. أي التوحيد يرفع القرآن. روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا حدثناكم بحديث آتيناكم بتصديقه من كتاب الله D: خمس ما قالهنّ عبد مسلم إلاّ قبض عليهن ملكٌ فجعلهنّ تحت جناحه فيصعد بهن لا يمر بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها الرحمن: الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر وتبارك وتعالى، ثم قرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ}.

وعن قتادة أنه قال: العمل الصالح يرفعه الله. ويجب على القول أن يكون الاختيار نصب " العملَ الصالحَ ". وقيل: إن المعنى: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب. ويجب أيضاً على هذا التأويل أ، يكون الاختيار نصب " العمل الصالح "، ولم يقرأ به أحد غير عيسى بن عمر. وما تقدم عند هذين من التأويلات لا يلزم فيها نصب " العمل " لأن الضمير لا يعود على العمل. ثم قال: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} أي يكتسبونها. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} يعني عذاب جهنم. ثم قال: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي: وعمل هؤلاء المشركين هو يبطل ويهلك لأنه لم يكن لله. قال قتادة: يبور: يفسد. يقال بار، يبور إذا هلك. وقال شهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء.

وقال أبو اسحاق: وقد بيّن الله مكرهم في سورة الأنفال فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]. " الكلم الطيب " وَقْفٌ إلاّ على قراءة من نصب " والعمل ". ثم قال تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي: خلق آدم الذي هو أبوكم من تراب، ثم خلقكم يا ذرّيته من نطفة الرجل والمرأة {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً} أي أجناساً. / وقيل: معناه: زوج الأنثى للذكر. قاله قتادة وغيره. ثم قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أي: هو عالم يوقت حمله ووقت وضعه وما هو أذكر أم أنثى. ثم قال: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أي: ما يطول في عمر أحد ولا ينقص غيره من مثل ما عمره إلاّ في كتاب قبل أن تحمل به أمة، وقبل أن تضعه، يجعل عمر هذا طويلاً وعمر هذا أنقص منه، فلا يزاد في ذلك ولا ينقص منه. وقال ابن عباس قولاً معناه: ليس أحد قضى الله له طول عمر ببالغ دون ذلك، ولا أحد قضى الله له قصر عمر ببالغ أطول من ذلك، كل في كتاب مبين. يعني اللوح المحفوظ، وهذا هو القول الأول بعينه.

وكذلك قال الضحاك وابن زيد. قال ابن زيد: أن الإنسان يعيش مائة سنة، والآخر يموت حين يولد. وهو مذهب الفراء، فالها تعود على غير المعمر، والمعنى: وما يعمر من إنسان تعمر ولا ينقص من ذلك العمر من عمر إنسان آحر إلاّ وهو في كتاب مبين. ويجوز أن تكون تعود على المعمر على حذف، والتقدير: وما يعمر من معمّر ولا ينقص آخر من مثل عمر المعمر الأول إلاّ في كتاب. وقال ابن عباس وابن جبير: المعنى: ما يعمر من إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان إلاّ في كتاب، أي كلّما نقص من عمر ابن آدم فهو في كتاب، أي يكتب نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، في كتاب آخر إلى أن يستوفى أجله فيموت. قال ابن جبير: ما مضى من عمره فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره، وهذا اخيار أبي إسحاق وقوله. وكان كعب الأحبار يذهب إلى أن الإنسان يجوز أن يزاد في عمره ما لم يحضر الأجل. وروي أنه لما طُعِنَ عُمر Bهـ قال: لو شاء الله لزاد في أجله فأنكر عليه ذلك

المسلمون، وقالوا: إن الله جلّ ذكره يقول: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، فقال: وإن الله يقول: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ}. وقيل: إن معنى الآية: لن يكون بحكم أن عمرَ الإنسان مائة سنة إن أطاع الله وتسعون إن عصاه فأيّهما بلغ فهو في كتاب. ثم قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: إحصاء أعمار خلقه عليه يسير سهل. ثم قال تعالى ذكره: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ}. أي ما يعتدلان. والفرات: أعذب العذب، والملح الأجاج: ماء البحر. والأجاج: المر وهو أشد المياه ملوحة في مرارة. ثم قال: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} أي: ومن كل البحار، يعني الحم الحوت وغيره من صيد البحرين. ثم قال تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يعني اللؤلؤ والمرجان. فقال: {وَمِن كُلٍّ}، فَعَمَّ، هما إنما يخرجان من الملح، كما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أي من أحدهما، هذا قول أبي اسحاق. وقيل: إن الأصداف التي منها الدُّرُّ وغيره إنما تستخرج من المواضع التي فيها

13

الماء العذاب والملح نحو العيون. وقال المبرد: قوله: {وَمِن كُلٍّ} يراد به الملحق خاصة كما قال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73]، وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيراً كثيراً تريد به الحسن خاصة. والمعنى على قول المبرد: ومن كل الملح تستخرجون. ثم قال تعالى: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ}. قال قتادة: تجري مقبلة ومدبرة. يقال: مخَرَتِ السفينة مَخْراً إذا خرقت الماء. قال ابن عباس: " مواخر " جواري، يعني في الملح خاصة، فلذلك قال " فيه ". والفُلْكُ جمع فَلَك كأسَدٍ وأُسُدٍ، وَوَثَنٍ وَوُثْنٍ. ثم قال تعالى: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: في السفن يطلبون الرزق بالأسفار فيها. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون على تسخيره إياها لكم وعلى غير ذلك. قوله تعالى ذكره: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار} إلى قوله: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}.

أي: يزيد من الليل في النهار، ومن النهر في الليل. وأصل الإيلاج الدخول. فالمعنى يدخل مِنْ هذا في هذا، وَمِنْ هذا في هذا. قال ابن عباس: هو انتقاص أحدهما من الآخر. ثم قال: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: سخرهما في الجري نعمة منه وفضلاً لتعلموا عدد السنين/ والحساب، والليل من النهار، يجريان لوقت معلوم لا يتقدمانه ولا يتأخران عنه. قال قتادة: لا يقصر دونه ولا يتعداه. وقيل: الأجل المسمى هنا: القيامة. ثم قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} أي: الذي يفعل هذه الأفعال هو الله معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلاّ له. ثم قال: {لَهُ الملك} أي: له الملك التام، كل ما في سلطانه وملكه يفعل ما يشاء. ثم قال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} أي: الأوثان والأصنام التي تعبدون من دون الله لا تملك شيئاً من ذلك ولا مقدار قطمير فما فوقه، وهي القشرة الرقيقة التي على النواة. وقال ابن عباس: قَطمير هو الجلد الذي يكون على ظهر النواة.

وقال مجاهد: لفافة النواة كسحاة البيضة. وقال قتادة: هو الذي على رأس النواة. وقال جرير عن بعض رجاله: هو القمع الذي على رأس الثمرة ثم ق ل: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ} يعني الأصنام لأنها جمادات لا روح لها. ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} أي: لو كان لها روح فسمعت لم تستجب، إذ هي ليست ممن ينطبق وليس كل ما سمع ينطق. فكيف تعبدون من هذه حالة وتتركون عيادة من خلقكم وأنعم عليكم بتسخير الليل والنهار والشمس والقمر وغير ذلك من نعمه. قال قتادة: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} أي: ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه. ثم قال: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي: تتبرأ آلهتكم التي كنتم تعبدون في الدنيا من أن تكون لله شركاء. قال قتادة: معناه يكفرون بشرككم إياهم، ولا يرضون به ولا يقرّون به. وهو

قوله: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28]. ثم قال: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فالله جلّ ذكره هو الخبير أن هذا سيكومن في القيامة. ثم قال: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد} أي: أنتم ذووا الحاجة إلى الله فإياه فاعبدوه، والله هو الغني عن عبادتكم إياه وعن غير ذلك، (المحمد) على نعمه فله الحمد والشكر بكل حال. {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي: يهلككم لأنه أنشأكم من غير حاجة به إليكم. {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: بخلق سواكم يطيعونه. {وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بعزيز على الله، أي شديد عليه، بل ذلك هيّن سهل. ثم قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: لا تحمل نفس حاملة حِمْلَ نفس أخرى، يعني من الذنوب والآثام. روي أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، قال لمن أسلم من بني مخوم: ارجعوا إلى دينكم القديم وأنا أحمل عنكم أوزاركم. وفيه نزلت:

{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [النجم: 36 - 38]. ثم هذا كله عام في من ادّعى أن يحمل ذنب غيره لا يجوز له شيء من ذلك ولا ينتفع به المحمول عنه. ثم قال: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} أي: إن تدع نفس مثقلة بالأوزار والذنوب إلى أن يحمل غيرها عنها من ذلك شيئاً، لا يحمل أحد عنها من ذلك شيئاً، ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي. قال بن عباس: لا يؤخذ أحد بذنب أحد. قال عكرمة: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل يوم القيامة فيقول: [" ألم أكن قد أسديت إليك يداً؟]، ألم أكن قد أحسنت إليكم؟، فيقول: بلى، فيقول: انفعني، فلا يزال المسلم حتى ينقص من عذابه، وإن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك باراً وعليك مشفقاً وإليك محسناً؟ وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمّل عني سيئة، فيقول: إن الذي سألتني ليسير ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك، فيرد عليه نحواً من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن حسن العشرة لك؟ فتحمّلي عني خطيئة لعلي ألْحق، فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه، ثم تلا عكرمة: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا} الآية. وهذا القول أيضاً هو قول مجاهد وقتادة. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} أي: إنما تنذر يا محمد الذين

يخافون/ عقاب الله يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك، لكن آمنوا بما جئتهم به من الخير بذلك عن الله وصدقوا به. قال قتادة: معناه يخشون النار والحساب، وإنما خصّ هؤلاء بلإنزار، وإن كان A نذيراً لجميع الخلق لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك. ثم قال تعالى: {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: أدوا فروضها في أوقاتها بحدودها. ثم قال: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} أي: ومن تطهر من دنس الكفر والمعاصي بالتوبة إلى الله، فإنما يتطهر لنفسه، أي على نفسه يعود نفع تزكيته لأنه يكسبها رضى الله جلّ ذكره والفوز بالنجاة من النار والحلول بالجنة. قال قتادة: ومن يعمل صالحاً فإنما يعمل لنفسه، فهو مثل قوله: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]. ثم قال: {وَإِلَى الله المصير} أي: رجوع كل عامل عملاً إلى الله تعالى فيجازيه عليه. ثم قال تعالى ذكره: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} أي: الكافر والمؤمن. أي: {وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} الكفر والإيمان. {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور}. أي: الجنة والنار.

قال الأخفش: لا زائدة في " ولا النور " و " لا الحرور ". وقيل: إن " لا " لها فائدة في دخولها مع الواو خلاف خروجها وذلك أنها تدل على أن كل واحد من الاثنين لا يتساويان، فإذا قلت لا يستوي الأعمى ولا البصير، فمعناه لا يساوي الأعمى البصير ولا البصير الأعمى. وإذا قلت [لا يستوي الأعمى والبصير، فمعنها لا يساوي الأعمى البصير]. وليس فيه دلالة على أن البصير لا يساوي الأعمى، وهذا القول فيه دخَلٌ. لأن من لم تساوه لم يساوك، فدخول لا مثل خروجها. قيل: معنى الآية: لا يستوي الأعمى عن دين الله الكافر به، والبصير في دين الله المتبع له، ولا ظلمات الكفور ونور الإسلام. وقال ابن عباس: الظل الجنة، والحرور: النار، والظلمات: الضلالة، والنور: الهدى. وقيل: الظل ضد الحر، والحرور الحر الدائم، والسموم لا يكون إلاّ بالنهار،

24

والحر بالنهار والليل، هذا قول الفراء. وقال رؤبة: الحرور بالليل، والسموم بالنهار. قال: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات} أي: الأحياء القلوب بالإيمان، والأموات القلوب بغلبة الكفر عليها، فلا تعقل عن الله شيئاً .. قال ابن عباس: هذا كله مثل ضربه الله لأهل الطاعة والمعصية. ثم قال: {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} أي: يوقف من يشاء لقبول كتابه فيتعظ به. {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور} أي: لست يا محمد تسمع الموتى كتاب الله فتهديهم به، فكذلك لا تقدر أن تسمعه من أمات قلبه فيهتدي به. ثم قال تعالى: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي: تنذر من أُرسِلت إليه ليس عليك غير ذلك. قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً} إلى قوله: {الفضل الكبير}.

أي: أرسلناك يا محمد بالدين الحق بشيراً بالجنة لمن أطاعك فآمن، ونذيراً تنذر بالنار من عصاك فكفر بك. ثم قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} أي: وما من أمة كانت قبلك يا محمد إلاّ وقد جاءها نذير ينذرها عذاب الله على الكفر. قال قتادة كل أمة كان لها رسول. ثم قال تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: إن يكذبك يا محمد مشركوا قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم، جاءتهم الرسل بالبينات، أي بحجج الله الواضحة {وبالزبر} أي: بالكتاب من عند الله. {وبالكتاب المنير} أي: منير لمن تبينه وتدبره. ثم قال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} اي: أهلكتهم بكفرهم. {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي انظر يا محمد كيف كان تغييري بهم وإنكار لكفرهم، وحلول عقوبتي بهم. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي: منها الأحمر والأسود والأصفر. ثم قال: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ} أي: طرائق، وهي الجدد جمع جُدّة، وهي الطريقة في الجبل. قال الأخفش: ليس جُدَد يجمعك على جديد لأنه يلزم أن تقول فيه جُددٌ بالضم،

قال: والجُدَد ُ جمع جُدَّة. والجُدَدُ الخطوط تكون في الجبال بيض وسود وحمر. فلذلك قال: {مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي: ألوان الجدد. ثم قال/: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي: وسود غرابيب، فهو مؤخر يراد به التقدم. والعرب تقول: هو أسود غربيب إذا وصفوه بشدة السواد. ثم قال: {وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي: خلق مختلف ألوانه. {كَذَلِكَ} أي: مثل الجدد، أي كما اختلفت ألوان الطرائق في الجبال، كذلك تختلف ألوان الناس والأنعام وغيرهم، قدرة من الله تعالى ينبه خلقه عليها. ومن أجل حذف الموصول قال: " ألوانه "، أي: خلق مختلف ألوانه، ولم يقل ألوانهم ولا ألوانها. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أي: إنما يخاف الله ويتقي عقابه العلماء بقدرته على ما يشاء وأنه يفعل ما يريد، لأنّ من علم ذلك أيقن بالمعاقبة على المعصية فخاف الله واتقاها. قال ابن عباس: هم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.

وقال قتادة: كفى بالرهبة علماً. قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله. وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً والاغترار به جهلاً. قال ابن منصور بن زاذان: نُبِّئتث أن بعض من يُلقَى في النّار يتأذى الناس بريحه، فيقال: ويلك ما كنت تعمل؟ أما يكفي ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك وينتن ريحك؟ فيقول: كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي. وقال عمران القصير: بلغني أن في جهنّم وادياً تستعيذ منه جهنم كل يوم أربع مائة مرة مخافة أن يرسل عليها فيأكلها، أعد الله ذلك الوادي للمرائين من القراء. ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي: عزيز في انتقامه. {غَفُورٌ} للذنوب لمن تاب وأطاع.

{كَذَلِكَ} تمام حسن عند الجميع، و {أَلْوَانُهَا} تمام، و {العلماء} تمام. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: يقرؤون القرآن ويدومون على أداء الصلاة لمواقيتها بحدودها. ومعنى أقاموا: يقيمون. ثُمّ قال: {وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} يعني: الزكاة المفروضة يعطونها خفية وجهاراً. وأنفقوا بمعنى ينفقون. وقل: المعنى: أنهم يتصدقون بعد أداء الفرض الواجب عليهم. ثم قال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} أي: يطلبون بفعلهم تجارة لن تبور، أي: لن تكسد ولن تهلك. ثم قال: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} أي: طلبوه ذلك ورجوه لكي يوفيهم أجورهم على فعلهم ذلك ويزيدهم من فضله، وهو ما زاد على الحسنة بحسنة، وذلك تسع حسنات إلى ست مائة وتسع وتسعين، هو تفضل من الله على عباده. قال قتادة: كان مُطرِّف إذا مرَّ بهذه الآية: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله} قال: هذه آية

القراء. ثم قل: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي: غفور لهؤلاء الذين تقدمت صفتهم، شكور لحسناتهم، قاله قتادة. ثم قال تعالى: {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} أي: من القرآن، يخاطب محمّداً A. { هُوَ الحق}، أي: هو الحق عليك وعلى أمتك، أن تعملوا به وتتبعوا ما فيه دون غيره من الكتب التي نزلت قبله. ثم قال: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: يصدق ما قبله من الكتب: التوراة والإنجيل وغيرها. ثم قال: {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي: ذو خَبَرٍ بِهِمْ وعلم، بصيرٌ بما يصلحهم. ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} أي: الذين اخترنا، يعني أمة محمد A. واختُلِفَ في هذه الثلاثة الأصناف المذكورين في هذه السورة وفي سورة " الواقعة ". فقيل: الأصناف في هذه السورة هم الأصناف في سورة " الواقعة "، فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد هم أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه هم أصحاب المشئمة. وأكثر الناس على أن الثلاثة الأصناف في هذه السورة، هم أمّة محمد A،

لأنه قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا}، وأصحاب المشئمة المذكبين الضّالين لم يورثوا كتاباً، ولا اصطفاهم الله ولا اختارهم، وقد أخبرنا في هذه السورة أنه إنما أورث الكتاب من اختباره واصطفاه. فالظالم لنفسه ليس هو من أصحاب المشئمة، والثلاثة الأصناف في " الواقعة " يراد بها جميع الخلق من الأولين والآخرين، والثلاثة الأصناف في هذه السورة في أمة محمد A خاصة لقوله: / {أَوْرَثْنَا الكتاب} ولقوله: {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا}، ولما نذكره من قول الصحاب والتابعين وما روي في ذكل عن النبي A. من ذلك قول ابن عباس، قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} أي: الذين اخترنا من عبادنا، قال: معناه اخترنا منهم، فالظالم لنفسه هو الذي يموت على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد هو الذي مات على صغائر - ولم يصب كبيرة - لم يتب منها، والسابق هو الذي مات تائباً من كبيرته وصغيرته، أو لم يصب ذلك فيحتاج إلى توبة. ولا يسلم من الصغائر واحد إلاّ يحيى بن زكريا، فأمّا الكبائر فالأنبياء معصومون منها، وسائر الخلق غير معصومين منها إلاّ من شاء الله أن يعصمه. ومعنى " اصطفينا ": اخترنا منهم، يعني أمة محمد A، أورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله، فالظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وروى ابو الدرداء: أنّ النبي A قال: " يَجِيءُ هَذَا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ، وَيَجِيءُ هَذَا الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ، وَيَجِيءُ هَذَا الظَّالِمُ فَيُوقَفُ وَيُعَيَّرُ وَيُجْزَى وَيُغَرَّف ذُنُوبَهُ يُدْخِلُهُ اللهُ الجَنَّةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ

فَهُمْ الّذِينَ قَالُوا (الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي غفر الذنب الكبير وشكر العمل القليل ". وروى أيضاً أبو الدرداء: أنّ النبي A قال: " أَمَّا السَّابِقُ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَالْمُقْتَصِدُ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَأَمَّا الظَّالِمُ فَيُحْبَسُ فِي طُولِ المَحْبَسِ ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ ". وقال عمر Bهـ: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له. وقال ابن مسعود: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوبهم عظام فيقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء؟ وهو أعلم، فتقول الملائكة: هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا بك، فيقول الرب جلّ ثناؤه: أدخِلوا هؤلاء في سعة رحمتي. ثم تلا عبد الله هذه الآية. وقال كعب لما قرأ هذه الآية أو قُرئت عليه: دخلوها وربّ الكعبة. وقال: الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة. ألم ترَ أن الله يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، ثم قرأ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} إلى قوله:

{كُلَّ كَفُورٍ}. وقال محمد بن الحنيفة: إنّ أمة محمد A مرحومة: الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات عند الله جلّ ذكره وثناؤه، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله جلّ ذكره. وروي عن عمر وعثمان وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وعائشة Bها أنهم قالوا: الثلاثة في الجنة ما لم يكن الظالم كافراً أو فاسقاً، أو منافقاً. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الكتاب الذي أورث هؤلاء: شهادة أن لا إله إلاّ الله وهو قول مجاهد. وروي أن كعب الأحبار لما أسلم قالت يهود: ما حملك على رأيك الذي رأيت؟ ألم تكن سيدننا وابن سيدنا في أنفسننا؟، قال لهم: أتلوموني إن كنت من أمة وجت مجتهدهم يدخل الجنة بغير حساب، ووجدت مقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً،

ووجدت ظالمهم يغفر له ذنبه. وعن عائشة أنها قرأت هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا} فلما بلغت: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، قالت: دخلت - ورب الكعبة - هذه الأصناف الثلاثة الجنة، فلما دخلوها واستقروا بها قالوا: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن}، أي: حزن ما عيانوه من أهوال الموقف. وقيل: قالوا ذلك حين أيقنوا بذهاب الموت وأمنوا، فذهاب الموت وفقده حسرة على أهل النار وفرحة لأهل الجنة. وقيل: الحزن أنهم علموا أعمالاً في الدنيا كانوا في حزن ألاّ تقبل منهم، فلما قبلت زال الحزن. وقال ابن عباس: المصطفون/ أمة محمد A. قال: فالظالم لنفسه: المنافق وهو في النار، والمقتصد والسابق في الجنة. وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: جعل الله أهل الآية على ثلاث منازل، كقوله: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال} [الواقعة: 41]. {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27]. {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10 - 11] قال عكرمة اثنان في الجنة وواحد في النار.

وقال مجاهد والحسن وقتادة: " فمنهم ظالم لنفسه ": هذا المنافق، " ومنهم مقتصد ": هذا صاحب اليمين، و " منهم سابق بالخيرات ": هذا المقرب. وروى ابن وهب أن عثمان بن عفان قال: سابقنا أهل الجهاد منا. ومقتصدنا أهل حاضرنا، وظالمنا أهل بدون. وقال قتادة: الناس ثلاث منازل في الدنيا، وثلاث منازل عند الموت، وثلاث منازل في الآخرة. أما الدنيا فمؤمن ومنافق ومشرك، وأما عند الموت فمقرب وصاحب يمين وضال. وقرأ: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين} إلى: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88 - 94]، وأما في الآخرة فصاحب يمين وصاحب شمال وسابق. ثم قرأ: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون * أولئك المقربون} [الواقعة: 8 - 11]. فالضمير المرفوع في {يَدْخُلُونَهَا} على هذه الأقوال يعود على المقتصد والسابق. وعلى الأقوال الأولى يعود على الأصناف الثلاثة. وقد قيل: إن المصطفين هنا: الأنبياء، والظالم لنفسه: المكتسب منهم الصغائر، وهذا قول شاذ، والأول أشهر.

33

قال المبرد: المقتصد: الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. وقيل: الظالم هنا صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فيكون ضمير يدخلونها يعود على السابقين بالخيرات لا غير. وروي عن بن عباس: أن الكتاب هنا كل كتاب أنزل. ثم قال: {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} أي: هو الذي وفق هذا، له من عمل الخيرات فضل كبير من الله عليه. ويجوز أن يكون المعنى هذا الذي أورث الله هؤلاء من الكتاب فضل كبير من الله عليهم. قوله تعالى ذكره: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ} إلى قوله: {مِن نَّصِيرٍ}. أي: بساتين إقامة لا زوال منها، يدخل هؤلاء المتقدمون ذكرهم، على ما ذكرنا من الاختلاف في الآية التي قبلها، ورجوع الضمير على الكل أو على البعض. ثم قال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أي: يلبسون ذلك في هذه البساتين. وأساور جمع الجمع واحده أَسْوِرَة، وواحد أَسْوِرَة سَوار وسِوَار لغتان فيه. وحكي إِسْوَارٌ، وجمعه أساوير. وفي حرف أُبَيّ: " أساوير " على هذا المعنى.

وقال بعض أهل اللغة: قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} عام في النساء والرجال، وقوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يعني به النساء خاصة، وهو غلط لأنه كان يجب أن يقول يحلين، ولكن هو للرجال. ويجوز أن يكون لها جميعاً فيغلب المذكر على المؤنث. ثم قال: {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} من خفض فعلى العطف على " أساور ". ومن نصب فعلى مومضع " أساور ". وروي أن كل واحد يحلّى في يده ثلاث أسوِرة: واحد من فضة، وآخر من ذهب، وآخر من لؤلؤ، والذهب في الوسط في كل يد. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن}. قال ابن عباس: الحزَن: حزن دخول النار، وهو قول الحسن. وقال عطية الحزنَ: الموت. وقال شمر: الحزنَ: حزن الخبر.

وقال قتادة: كانوا في الدنيا يعملون وينصبون وهم في حزن فحمدوا الله على ذهاب ما كانوا فيه. وروى أبو الدرداء أن النبي A قال: " أَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَيُصِيبُهُ فِي ذَلِكَ المَكَأنِ مِنَ الغَمِّ وَالحُزْنُ فَذَلِكَ قَوْلُهُم: الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ " يعنون ما كانوا فيه - في الموقف - من الخوف. وقال الزجاج: معناه الذي أذهب عنا الغم بالمعيشة، والخوف من العذاب وتوقع الموت. وقيل: هو عام في جميع الحزن. وقيل: الحزن هو أعمال عملوها من الخير فكانوا تحت خوف منها أن تقبل منهم أولا تقبل، فلما قبلت حمدوا الله على ذلك. وروى زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله A: " لَيْسَ عَلَى أَهْلِ لا إِلَهَ إِلاّ الله وَحْشَةٌ فِي قُبُورِهِم وَلا يَوْمَ نُشُورِهِمْ، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ لا إِلَهَ إلاَّ اللهَ

يَنْفُضُونَ التُّرابَ/ عَنْ رُؤُوسِهِمْ يَقُولُونَ: الحَمْدُ للهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ ". ثمّ قال: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} قيل: إنه من قول الثلاثة الأصناف. قال قتادة: غفور لذنوبنا شكور لحسناتنا. قال شمر: غفر لهم ما كان من ذنب وشكر لهم ما كان من عمل. وقيل: هو من قول الظالم لنفسه، أي: غفر الذنب الكثير وشكر العمل القليل. رواه أبو الدرداء عن النبي A في الحديث المتقدم ذكره في قوله: {أَوْرَثْنَا الكتاب}. وذكر ابن وهب عن أبي رافع أنه قال: بلغنا أنه يُجاء لابن آدم يوم القيامة بثلاثة دواوين، ديوان فيه الحسنات، وديوان فيه النِّعم، وديوان فيه السيّئات، فيقال لأصغر تلك النّعم: قومي فاستوفي ثمنك من الحسنات فتستوعب عمله ذلك كله فتبقى ذنوبه والنّعم كما هي، فمن ثم يقول العبد: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}. وعن ابن عباس أنه قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد

يُحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يحاسب حساباً شديداً ويحبس حبساً طويلاً. فإذا أدخل هؤلاء الظلمة لأنفسهم الجنة قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزَنَ - الذي كنا [فيه] حين حبسنا - إنّ ربنا لغفور شكور، غفر الذنوب العظيمة وشكر العمل القليل. ثم قال تعالى ذكره: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} أي: أنزلنا وأدخلنا دار الإقامة. والمقامة والإقامة سواء، وهي الجنة. {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي: تعب ولا وجع. {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي: عياء. يقال: لغب يلغبُ لُغُوباً. قال ابن عباس: اللغوب: العياء. والنَّصبُ بفتح النونو والصاد التعب والنُّصْبُ بضم النون وتسكين الصاد: الشَّرُّ، والنُّصُبُ بضمّتين: ما يُنصَبُ لذبح أو غيره. وقرأ أبو عبد الرحمن: " لَغوب " بفتح اللام جعله مصدراً كالوَقود والطَّهور. وقيل: هو ما يغلب منه.

ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} قال قتادة: لو ماتوا استراحوا، ولكن لا يموتون. ثم قال: {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا} أي: لا ينقص عنهم من النوع الذي هم فيه من العذاب. ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي: نكافئ كلّ جَحُود لنعمة ربه يوم القيامة. ثم قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} أي: يستغيثون فيها ويضجون، ويسألون الرجعة إلى الدنيا ليعلموا صالحاً، فيقال لهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}. قال ابن عباس: هو أربعون سنة أعذر الله فيه لابن آدم، وقاله مجاهد. وقال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله جلّ ثناؤه.

وقيل: هي ثماني عشر سنة. وعن ابن عباس أيضاً: إنها ستون سنة، وهو قول علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس أن النبي A قال: " إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نُودِيَ أَيْنَ أَبْنَاءُ السِّتِّينَ وَهُوَ العُمْرُ الَّذِي قَالَ اللهُ تَعالَى ذِكرُهُ: أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ". وروى أبو هريرة أنّ النبي A قال: " لَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ فِي العُمْرِ إِلَى صاحبِ السِّتِّينَ سنَة والسَّبْعِينَ ". ثم قال: {وَجَآءَكُمُ النذير}. قال ابن زيد: هو محمد A، وقرأ: {هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى} [النجم: 56]. وقيل: هو الشّيب.

38

والمعنى عمرتهم هذا العمر فلم تتعظوا ولم تعملوا ولم تؤمنوا. ثم قال: {فَذُوقُواْ} أي: عذاب جهنّم. {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أي: ما لهم من ينصرهم من عذاب الله فيستنقذهم منه. قوله تعالى ذكره: {إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات} إلى قوله: {لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً}. أي: يعلم ما يخفى جميع الخلق وما يسرّون، وما لم يخفوه. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: ما تخفون في أنفسكم. ثم قال: {هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض} أي: استخفلكم في الأرض بعد الأمم الماضية. قال قتادة: أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن. وفيه معنى التنبيه والتخويف أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم قبلهم. ثم قال تعالى: {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: على نفسه ضرر كفره راجع، مثل: {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46]. وقيل: معناه: فعليه جزاء كفره. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} أي: بعداً من الله ورحمته. {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} أي: هلاكاً. والمقت/ عن أهل اللغة أشد البغض.

ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله، {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض}، أي: هل خلقوا شيئاً، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} - إن لم يكونوا خلقو في الأرض شيئاً - أم أعطاكم الله كتابً أن تشركوا بها، وتعبدونها من دون الله، فأنتم على حجج من عبادتكم لها إن كان معكم شيء من ذلك، فهل عبدتموها لأمر من هذه الأمور: فيقوم لكم بذلك عذر، أم عدبتموها لا لمعنى، فتظهر لكم خطايكم. وكذلك فعلوا، ألا ترى أنهم لم يجدوا حجة من عبادتهم لها إلا أن {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53]. ومعنى " أرأيتم " عند سبيويه: أخبروني عن كذا، على (معنى) التوقيف، وأجاز سيبويه: " قد عَلِمْتُ زَيْدٌ أبو مَنْ هُوَ " بالرفع لأن زيداً في المعنى مستقفهم عنه، ولو جعلت موضع علمت أرأيت، لم يجز الرفع لأنه بمعنى أخبرني عن زيد، فلا يصلح أن يعلق، إذْ خرج عن حد ما يدخل على الابتداء والخبر، وحسن تعليق علمت لأنها داخلة على الابتداء والخبر. ثم قال: {بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} أي: ليس لآلهتهم شيء من هذه الخِلال،، فقولهم: ما نعبد آلهتنا إلا لتقربنا إلى الله زلفى خداع من بعضهم لبعض، وحس إضافة الشركاء إليهم لأنهم هم اختلقوها وجعلوها شِرْكاً لله. و" بَيّنَت " في الحظ بالتاء، وذلك يدل على أنه جمع لأنه لو كان واحداً لم يكتب

بالتاء لأنه مُنَوَّنٌ، وإنَّ ما وقع بالتاء من هذا النوع ما كان غير منونٍ نحو " رَحْمَتِ رَبّي ". و [. . .] الله وشبه ذلك. وأيضاً فإن كثيراً من المصاحف كتبت " بيِّنَاتِ " فيه بألف قبل التاء فمن قرأ بالتوحيد فلا يخلو من أن يكون خالف الخط، ومخالفته لا يتجوز، أو تكون قراءة على لغة الذين قالوا في طلحة: طلحت فوقفوا بالتاء، هي لغة شاذة. ثم قال: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} أي: لئلا تزولا عن مكانهما. {وَلَئِن زَالَتَآ} قال الفراء: " لئن " بمعنى لو. والمعنى: ولو زالتا. وحسن ذلك عنده لأن: (لئن ولو) تجابان بجواب واحد فشبيهتان في المعنى. قال قتادة: " أن تزولا ": أي من مكانهما. وروي أن رجلاً جاء إلى عبد الله، فقال له: من أين جئت؟ فقال من الشام، فقال: مَنْ لَقِيتَ؟ قال: لقيت كعباً، قال: ما حدثك كعب؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك، قال: فصدقته أو كذبته؟ قال: ما صدقته ولا كذبته، قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله يقول:

{إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات} الآية. وروي عنه أن الرجل قال له: قال كعب: إن السماء في قطب كقطب الرحى، [والقطب عمود]، والعمود على منكب ملك. وقيل: إن المعنى أن النصارى لما قالت: إن المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزي ابن الله كادت السماوات أن تنفطر، وكادت الجبال أن تزول، وكادت الأرض أن تنشق، فأمسك الله جل ذكره ذلك حِلْماً منه وأنَاةً وتفضلاً، وهو قوله تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91]. وقوله جل ذكره: {وَلَئِن زَالَتَآ} يعني به يوم القيامة لأنها تزول فيه. س وقيل: إن المعنى: لو وقع هذا، على ما ذكرنا عن الفراء. ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي: حليماً عن مَنْ عصاه أن يعالجه بالعقوبة، فإمساكه السماوات والأرض والجبال عند قولهم ذلك، وإضافتهم الولد إليه مِن حلمه، غفوراً لمن تاب من كفره. ثم قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أقسم هؤلاء المشركون أشد

الإيمان وأبلغها. {لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} ينذرهم بأس الله {لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم} أي: ليكونن أسلك لطريق الحق واتباع الرسول من إحدى الأمم الماضية، فلما جاءهم نذير وهو محمد A ازدادوا في كفرهم وغيهم ونفروا عن الأيمان أكثر مما كانوا قبل أن يأتيهم، استكباراً منهم في الأرض وأنفة أن يُقِرُّوا بنبوة محمد A. ثم قال تعالى: {وَمَكْرَ السيىء} أي: وخدعة سيئة، وذلك أنهم صدوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. قال قتادة: " ومكر السيء " هو الشرك. وأصل المكر السيء في اللغة الكذب/ والخديعة بالباطل. وقوله " جهد " نصبه على المصدر، أي: جهدوا في مبالغة الإيمان جهداً. " واستكباراً " ومكراً " انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما، أي فعلوا ذلك لهذا أي للاستكبار والمكر. وأكثر النحويين على رد قراءة حمزة بإسكان همزة " السَّيِّءْ في الوصل ". وقال قوم: هو جائز في كلام العرب سائغ، وإنما فعل ذلك في الوقف، فوصل على نبية الوقف كما أثبت هاء السكت وألف " أنا " في الوصل من أثبتهما على نية الوقف.

44

وقال قوم: إنما أسكن استخفافاً لأنه قد اجتمع في الكلمة ياءان: الثانية مكسورة، والكسرة مقام ياء، وبعد ذلك همزة، وهي ثقيلة، فأسكن لاجتماع هذه الثقل. وقد خففت العرب كسرتين نحو: إِبِلٍ " " وإِطِلٍ "، فقالوا: إِبْلٍ وإِطْلٍ، وخففوا ضمتين فقالوا: " رُسُلٍ وسُبُلٍ ". فشبهوا حركة الإعراب بحركة البناء عند اجتماع كسرتين على حرفين ثقيلين قبلهما حرف ثقيل. وقيل: إنه إنما كان يخفي الحركة وليس يسكن. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي: لا يحل مكروه الباطل وعقوبته إلاّ بمن فعله. ثم قال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين} أي: سنتنا في إهلاكه الأمم الماضية على كفرهم. {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً} أي: لا تجد يا محمد لعادة الله في إهلاك الكفار تغييراً. {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً} أي: انتقالاً: بل ينتفقم منهم، وينزل عليهم سخطه، فإن أمهلهم وأملى لهم فلا بد من عادة الله فيهم بالانتقام كما مضت فيمن كان قبلهم من الأمم. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} إلى آخر السورة.

أي: أولم يسر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد في الأرض، فينظروا عاقبة الأمم الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فيتعظوا ويزدجروا عن إنكارهم لنبوتك وتكذيبك فيما جئتهم به، ويخافوا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك الأمم من العقوبات. والمعنى: أنهم قد ساروا ونظروا لأنهم كانوا تجاراً إلى الشام، فيمرون على مدائن قوم لوط وغيرها من المدن التي أهلك الله قومها لكفرهم بالرسل، كما تقول للرجل ألم أحسن إليك؟ أي: قد أحسنت إليك. ثم قال: {وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي: وكان أولئك الأمم أشد من هؤلاء قوة في الأبدان والأموال والأولاد، فلم ينفعهم ذلكإ ذ كفروا، فأحرى أن لا ينتفع هؤلاء بقوتهم وكثرة أموالهم وأولادهم إذ هم دون أولئك. ثم قال: {قُوَّةً وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض} أي: لم يكن شيء يفوت الله بهرب ولا غيره، بل كان تحت قبضته فلا محيص عنه ولا مهرب في السماوات ولا في الأرض. بل هذا وعيد وتهديد وتخويف لمن أشرك بالله وكذب محمداً عليه السلام. ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أي: بخلقه وما هو كائن، ومَنِ المستحق منهم تعجيل العقوبة، ومن هو راجع عن ضلالته ممن يموت عليها. {قَدِيراً} أي: قادراً على جميع ذلك لا يتعذر عليه شيء. ثم قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} أي: لو عجل الله عقوبة بني آدم الآن بظلمهم لم يبق أحد إلا هلك، ولكن يؤخر عقابهم إلى وقت معلوم، وهو الأجل المسمى الذي لا يتجاوزونه ولا يتقدمون قبله. قال قتادة: فعل الله ذلك بهم مرة في زمن نوح فأهلك ما على ظهر الأرض من

دابة، إلا ما حمل نوح في السفينة. قال أبو عبيدة: " مِنْ دَابَّةٍ " يعني الناس. وقيل: هو الناس وغيرهم مما يدب. قال ابن مسعود، كاد الجُعَلُ يعذب بذنب بني آدم ثم تلا: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} الآية. وذكر ابن وهب عن الليث بن سعد أنه قال: إن رجلاً زنى بامرأة في عهد (موسى) عليه السلام فمات في تلك الليلة لذنبهما مائة ألف من بني إسرائيل، فدل الله هارون على مكانهما فاتنظمهما بحربة، ثم أقبل بهما على بني إسرائيل، وأقبل الدم حتى إذا دنا من يد هارون استدار حتى عاد كالترس ولم يصب الدم مِنْ يَدِ هارون. ثم قال: {فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} أي: إذا جاء وقتهم فهو تعالى بصير بمن يستحق العقوبة ومن يستوجب الكرامة.

يس

بسم الله الرحمن الرحيم سورة يس مكية قوله تعالى (ذكره): {يس * والقرآن الحكيم} إلى قوله: {فَهُم مُّقْمَحُونَ}. قال ابن أبي ليلى: لكل شيء قلب وقلب القرآن يس، من قرأها نهاراً كُفِي همه، ومن قرأها ليلاً كُفِي ذنبه. وقال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة وطه ويس فقط.

روى عن عقبة بن عامر أنه كان يحدث: (أن) النبي A قال: " مَنْ قَرَأَ يَس فَكَانَّما قَرَأَ القُرْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ " من رواية ابن وهب. قرأ عيسى بن عمر: " يَاسِينَ " بفتح النون، جعله مبنياً على الفتح، ويجوز أن يكون فتح لالتقاء السكانين، وأراد به الوصل واختار الفتح، كما قالوا: كيف وأين. وأجاز سيبويه أن يكون مفعولاً به على معنى: اقرأ ياسين، أو: اذكر ياسين. لكنه لم ينصرف لأنه اسم للسورة، فهو اسم أعجمي عنده كهابيل.

وذكر الفراء: كسر النون لالتقاء الساكنين كما قالوا: جَيْرٍ لا أَفْعَل. قال ابن عباس: " يس " قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى ذكره. وعنه أيضاً: " يس " يا إنسان يريد محمداً A. وروى عكرمة عنه: " يس ": يا إنسان بالحبشية. وقال مجاهد: " يس " مفتاح كلام افتتح الله جل ذكره به كلامه. وقال قتادة: (كل هجاء) في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن.

وقال الزجاج: جاء في التفسير " يس " معناه: يا إنسان، وجاء (يا) رجل، وجاء: يا محمد. وقوله: {والقرآن الحكيم} قسم، والحكيم: المحكم آياته. {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جواب القسم، (أي) لمن المرسلين بوحي الله إلى عباده. {على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على طريق لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام، قاله قتادة. وقيل: على طريق الأنبياء قبلك. والوقف على {يس} جائز إذا جعلته اسماً للسورة، أو تنبيهاً.

ولا يحسن الوقف على {المرسلين} لأن ما بعده متعلق به. و (قد) أجازه أبو حاتم. وهو غلط. ثم قال (تعالى): {تَنزِيلَ العزيز الرحيم} من رفعه جعله خبراً ثانياً لإنَّ. ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ، أي: هذا القرآن تنزيل المنيع بسلطانه وقدرته، الشديد في انقامه ممن كفر به الرحيم بخلقه. ومن نصب " تنزيل " فعلى المصدر، أي: نزله تنزيلاً.

ولا يحسن الوقف على " الرحيم "، لأن اللام بعده متعلقة بما قبله، أي نزله تنزيلاً لتنذر. ويجوز أن يتعلق بالمرسلين، أي: إنك لمن المرسلين لتنذر. (والمعنى لتنذر) يا محمد قوماً لم يُنْذَر آباؤُهم من قبلهم، قاله قتادة فما جحد. وقال عكرمة: قد أُنْذِرَ آباؤهم. فتكون " ما " والفعل مصدراً [أي إنذاراً مثل إنذار آبائهم. ويجوز أن تكون " ما " بمعنى الذي على هذا القول]، أي لتنذر قوماً الذي أُنْذِرَ آباؤهم، أي: الذي أُنْذِرُوا. {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي: غافلون عن دين الله وما لله صانع بهم إن ماتوا

على كفرهم به. وهذا يدل على أن (ما) نافية، لأنهم لو كان آباؤهم أنذِروا لم يكونوا غافلين. ويدل على ذلك أيضاً قوله (تعالى): {وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44]. ثم قال: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} أي: وجب عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون. وقيل: معناه: وجب (عليهم العذاب)، كما قال: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71]. وهذا إثبات للقدر، وأن الأمر كله قدره الله وفرغ منه، فحق وقوعه على ما قدره وعلمه. وكذلك: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} [يس: 9] الآية. كله يدل على أن القدر قد سبق في علم الله، يضل من يشاء فَيَخْذِلُهُ، ويهدي من يشاء فيوفقه.

ثم قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان} قال الضحاك: منعناهم من النفقة في سبيل الله (كما) قال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]. وقيل: ذلك يوم القيامة إذا دخلوا النار. فجعل (بمعنى يجعل). قال الطبري: التقدير: إن جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال فلا تنبسط لشيء (من) الخير. وفي قراءة ابن/عباس وابن مسعود: ((إنَّا جَعَلْنَا) فِي أَيْمَانِهِمْ أَغْلالاً)

وقرأ بعضهم: " في أَيْدِيهِمْ ". والكناية في (فهي) ترجع إلى الإيمان، (لأن) الكلام دل على الأيمان، لأن الغل لا يكون في العنق دون اليد ولا في اليد دون (العنق). فالمعنى: فالأيدي إلى الأذقان. والذَّقْنُ مُجْتَمَعُ اللِّحْيَيْنِ. ثم قال: {فَهُم مُّقْمَحُونَ}. قال مجاهد: رافعوا رؤوسهم [و] أيديهم على أفواههم. وقال قتادة: {مُّقْمَحُونَ} مغللون عن كل خير. (و) قال أبو عبيدة: (هو الذي) يحدث وهو رافع رأسه.

9

قال الفراء: هو الرافع رأسه الغاض بصره. وقيل: المقمح: الرافع رأسه لمكروه نزل به. وأراهم علي بن أبي طالب الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألقصهما ورفع رأسه. (وحكى) الأصمعي: أكْمَحْتَ الدابة إذا أَخَذْتَ لجامها لترفع رأسها/ والكاف بدل من القاف وقالوا: (الكانونين) شَهْرَا قِمَاحٍ لرفع الإبل فيهما رؤوسها عند الماء لبرده. قوله (تعالى ذكره): {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إلى قوله {قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} قد تقدم ذكر السَّدِّ والسُّدِّ في الكهف، والمعنى: جعلنا من بين أيدي هؤلاء الكفار حاجزاً ومن خلفهم حاجزاً.

{فَأغْشَيْنَاهُمْ} أي: جعلنا على أعينهم غشاوة. وروي عن ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر: " فَأَعْشَيْنَاهُمْ "، بالعين غر معجمة من عَشَى العين. قال الطبري في " سُدّاً ": من فتح كان من فعل بني آدم، وإذا كان من فعل الله كان بالضم. وقيل: معناه أنهم زين لهم سوء أعمالهم فهم يعمهون فلا يبصرون شيئاً. قال مجاهد: سداً عن الحق فهم يترددون. وقال ابن زيد: جعل هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان فهم لا يخلصون

إليه. وقرأ: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ}، وقرأ: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، وقرأ شبه ذلك. وقيل: هو تمثيل، والمعنى: أنه تعالى منعهم من الهدى بالضلال فلم ينتفعوا بالإنذار. قال ابن إسحاق: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية من خلف يترصدون النبي A ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم فقرأ أول {يس} وفي يده تراب فرماهم به، وقرأ: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} إلى رأس العشر، فأطرقوا حتى مر رسول الله A. وقال ابن عباس: أقسم أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي لأدمغنه، فأخذ حجراً

والنبي عليه السلام يصلي ليرميه به، فلما أومأ به إليه رجعت يده إلى عنقه والتصق الحجر بيده، فهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 8]. قال عكرمة: كانوا يقولون: هذا محمد، فيقول أبو جهل: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره. ثم قال: {وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} أي: الإنذار وتركه على هؤلاء الذين حق عليهم القول سواء، فيهم لا يؤمنون لما سبق لهم في أم الكتاب، وهو قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179]. قال ابن عباس: ما آمن منهم أحد، يريد من القوم الذين تقدم ذكرهم. ثم قال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} أي: من آمن بالقرآن. {وَخشِيَ الرحمن بالغيب} أي: وخاف الله حين يغيب عن أبصار الناس لأن

المنافق يستخف بدين الله إذ خلا. ويجوز أن يكون المعنى: وخاف الله من أجل ما أتاه من الأخبار التي غابت عنه فلم يعاينها، ولكنه صدقها فخاف من عواقبها، فهو مثل قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3]. ثم قال: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} أي: بستر من الله لذنوبه إذا اتبع الذكر وخاف الله. {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: وثواب في الآخرة حسن، وذلك الجنة. ثم قال: (تعالى ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى} يعني في الآخرة للنشور. {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي: من أعمالهم في الخير والشر. وتقديره: ونكتب ذكر ما قدموا. {وَآثَارَهُمْ} أي: ما أخروا بعدهم من الأعمال والسنن التي يتبعون عليها (ويقتدى بهم فيها). فهو ما أبقى الرجل بعده من عمل يجري عليه ثوابه أو إثمه.

وقيل/ هو تصرفهم وتقلبهم في (الدنيا) وخطاهم مكتوب (كله). وروي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا أن يقربوا من مسجد رسول الله A ليقرب عليهم. فيكون المعنى: ونكتب ثواب خطاهم ومشيهم إلى المسجد على بعد مساكنهم وقربها. قال ابن عباس: كانت (منازل) الأنصار متباعدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فنزلت {وَنَكْتُبُ مَاَ (قَدَّمُواْ) وَآثَارَهُمْ} فقالوا: نثبت مكاننا. وقال جابر: أَرَادَ بَنُوا سَلِمَة قُرْبَ المَسْجِدِ، فَقَالَ رَسُولُ الله A: " يَا بَنِي سَلِمَةَ دِيَّارَكُمْ إِنَّهَا تُثْبِتُ آثَارُكُمْ ". وقال مجاهد (والحسن) وقتادة: آثارهم خطاهم. قال جابر بن عبد الله: " هَمَمْنَا أَنْ نَنْتَقِلَ إِلَى قُرْبِ المَسْجِدِ، واسْتَشَرْنَا رَسُولَ الله

A، فَقَالَ: امْكُثُوا (مَكَانَكُمْ)، فَإِنَّ لَكُمْ فَضِيْلَةٌ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً ". وروى جابر " أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ A فقال: يَا رَسُولَ الله أَرَدْنَا نَتَحَوَّلَ إِلَى قُرْبِ المَسَجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: " لا تَفْعَلُوا فَإِنَّ بِكُلِّ خُطْوَةٍ (حَسَنَةً) ". وروى عقبة بن عامر عن النبي أنه قال: " يُكْتَبُ لَهُ بِرِجْلٍ حَسَنَةً وَيُحَطُّ عَنْهُ بِرِجْلٍ سَيِّئَةً/، ذَاهِباً وَرَاجِعاً إِذَا خَرَجَ إِلَى المَسْجِد ". ثم قال (تعالى): {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: ما كان وما هو كائن

أثبتناه في أم الكتاب. ومعنى {مُّبِينٍ} أي: بَيّنٍ عن حقيقة ما أثبت فيه، وهو اللوح المحفوظ. قاله مجاهد وقتادة وابن زيد. ثم قال (تعالى): {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون} أي: اذكر لهم يا محمد مثلاً لهم مثلاً. يقال هذا من ضرب هذا، أي: من أمثاله وجنسه. أصحاب القرية بدل من مثل، والتقدير مثل أصحاب القرية. قال عكرمة: هي أَنْطَاكِيَة. وقاله الزهري.

وهو مروي عن ابن عباس أيضاً. قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن عيسى بن مريم عليهما السلام بعث رجلين من الحواريين إلى أنْطاكِيَة مدينة الروم فكذبوهما، فقواهما الله بثالث فكذبوهم. وقال وهب بن منبه: كان بمدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يعبد الأصنام، يقال له: أنطيخس بن أنطيخس، فبعث الله (إليه) المرسلين وهم ثلاثة صَادِقٌ وصَدُوقٌ وَشَلُومٌ، فقدم الله إليه وإلى أهل مدينته اثنين منهم فكذبوهما، وهو قوله: {قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي: لستم بملائكة، إنما أنتم بنو آدم مثلنا فلا نقبل منكم، {وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} قالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}. (أي من عنده)، {وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين} أي: ليس يلزمنا إلا أن

نبلغ إليكم ما أُرْسِلْنا به (إليكم) ونبينه لكم. قال وهب: ثم عزز الله بثالث، فلما دعته الرسل ونادته بأمر الله وعابت دينه قالوا لهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: تَشَاءَمْنا بِكُمْ، {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ}، أي: لئن لم تسكتوا عما تقولون لنقتلنكم رجماً ولنعذبنكم عذاباً (أليماً). وتأول الفراء: أن الثالث أرسل قبل الاثنين، وأنه شمعون ولو كان كما قال لكان القرآن: فعززنا بالثالث. ومعنى: {فَعَزَّزْنَا} فقوينا وشددنا، وأصله من عَزَّنِي إذا غلبني، ومنه قوله: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23]، أي غلبني. ثم قال (تعالى): {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أي: قالت لهم الرسل لما تشاءموا

بهم أعمالكم معكم وحظكم من الشر والخير معكم ليس ذلك من شؤمنا، أَمِنْ أجل أَنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ بالله وبعقابه تطيرتم بنا. وقيل: التقدير: قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم فمعكم طائركم، يقدره على التكرير، وهو مذهب بعض البصريين. وقرئت {أَئِن ذُكِّرْتُم} بهمزتين مفتوحتين. والمعنى: لأن ذُكِّرْتُم تطيرتم بنا فهو على ما مضى، وقراءة الجماعة على ما يأتي. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي: في المعاصي.

20

قوله (تعالى ذكره): {وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا المدينة رَجُلٌ (يسعى)} إلى قوله: {إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه: أن رجلاً من أهل أنطاكية، اسمه حبيب النجار، (كان) يعمل الجرير، وكان مقيماً (قد أسرع فيه) الجذام/، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة (قاصياً)، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين، فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه عن عمل ربه، فلما اجتمع قومه. يعني أهل أنطاكية - على قتل الرسل بلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم الله ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال لهم ما قص الله علينا.

قال قتادة: ذُكِرَ لنا أن اسمه حبيب وكان يعبد ربه في غار. ويروى أنه كان نجاراً، وقيل: (إنه) كان حطاباً، لما بلغه أمر الرسل أتى مسرعاً بحزمته فآمن، وقال للناس: {ياقوم اتبعوا المرسلين}. ثم أقبل على المرسلين فقال: أتريدون مالاً نعطيكم، فقالو: لا، فأقبل على الناس يقول: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} فقيل له: أَفأَنْتَ تتبعهم، فقال: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي}، إلى قوله: {ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، ثم أقبل على المرسلين فقال لهم: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} فتألب عليه الناس فقتلوه. قال ابن عباس: هو حبيب النجار. ويروى أنه لما سمع بخبر الرسل جاء يسعى فقال لهم: أتطلبون (على) ما جئتم به أجراً، قالوا: لا، فأقبل على قومه فقال: {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين} إلى قوله:

{إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} يقول هذا للرسل. قال قتادة: فرجمه قومه، فقال: اللهم اهد قومي، أحسبه قال: فإنهم لا يعلمون فقتلوه رجماً، فأدخله الله الجنة، فلم ينظر الله قومه حتى أهلكهم. روي أن جبريل A وضع جناحاً في أقطارها فقبلها عليهم فبقوا خادمين ساكنين. وعن كعب الأحبار أنه قال: الرسولان والذي جاء يسعى خُدَّ لهم أُخْدود وحرقوا بالنار فيه. وأكثر الناس على أنس الرسل كانوا من حواريي عيسى عليه السلام، تنبأهم الله بعد/ عيسى، وأرسل منهم اثنين إلى أنطاكية فكذبوهما وضربوهما وحبسوهما،

فقواهم الله برسول ثالث. وقد قيل: إن الثالث شمعون، (وهو) من أصحاب عيسى، وأنه أرسل قبل الاثنين إلى أنطاكية فكذبوه، وإلى ذلك ذهب الفراء. قال كعب ووهب: وثبوا على الذي جاء يسعى وثبة رجل واحد فقتلوه. وقوله: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} أي: على استقامة من الحق، فاهتدوا بهداهم. ولا يحسن الوقف على " المرسلين " لأنَّ مَنْ بدل " من " المرسلين بإعادة الفعل. وقوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} (أي): وأَي شيء لي في ترك عبادة خالقي. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: تصيرون أيها القوم. قال ابن إسحاق على روايته عن ابن عباس وكعب ووهب: فنادى قومه

بخلاف ما هم عليه وأظهر لهم دينه، وعاب آلهتهم فقال: {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ}. أي: لا شفع لي آلهتكم عند ربي إذا عذبني على الكفكر ولا ينقذون من عذابه ولا تدفع عني ضراً ولا تجلب إليَّ نفعاً. ثم قال: (تعالى): {إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: لفي جور عن الحق ظاهر، إن اتبعت آلهتكم وعبدتها من دون الله. ثم قال: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون}. قال بن إسحاق: هذا مخاطبة لقومه. والمعنى: أني آمنت بربكم الذي كفرتم به فاسمعوا قولي. [وقيل بل خاطب بذلك الرسل قال لهم: اسمعوا قولي فاشهدوا لي] بما أقول

لكم عند ربي، فعندما قال هذا وثبوا عليه فقتلوه. قال ابن مسعود وابن عباس وكعب ووهب: وثبوا عليه فرطؤوه بأقدامهم على سقمه ومرضه حتى مات. ثم قال: {قِيلَ ادخل الجنة قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} قال هذا بعد أن قتل. وقوله: {فاسمعون} هو آخر قوله لقومه في الدنيا، وبه تم كلامه. ثم حكي الله عنه حاله في الآخرة وما قال وما قيل له بقوله: {قِيلَ ادخل الجنة}. وقد قيل: إنه إخبار من الله عما يقال له يوم القيامة وما يقول، (أي): فلما قتلوه قيل: له: ادخل، (فلما) دخلها وعاين ما أكرمه (الله به)، قال: يا ليت قومي يعملون بغفران ربي لي، وجعله إياي من المكرمين. (أي): فعل ذلك على إيماني،

فلو عاينوا ذلك لآمنوا واستوجبوا مثل ما استوجبت. قال النبي A: " نَصَحَ قَوْمَهُ حَيّاً وَمَيِّتاً ". قال قتادة: فلما دخلها، قال ذلك، فلا تلقى المؤمن إلا ناصحاً. (فما) والفعل مصدر، ويجوز أن تكون بمعنى الذي. ثم قال (تعالى): {وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء} أي: من رسالة ولا نبي بعد قتله، قاله قتادة ومجاهد. وعن ابن مسعود: أن المعنى: أن الله غضب لقتله غضبه فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه فلم يبعث إليهم جنوداً من السماء بعد قتله، وما كانت إلا صيحة واحدة فلم يبقَ منهم باقية قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله حتى

أهلكم. وقوله: {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} ظاهر الكلام أن " ما " نافية. وقال بعض النظر: " ما: اسم في موضع خفض على " جند " على اللفظ، أو في موضع نصب عطف على موضع جند لأن " من " زائدة. وتقديره: وما أنزلنا على قومه من جند من السماء، وما كنا منزلين على الأمم الكافرة من نحو الحجارة والغرق والمسخ والريح وغير ذلك، إنما أخذتهم صيحة فهلكوا. وقوله: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي: ما كانت عقوبتهم على قتله إلا صيحة واحدة. وقيل: التقدير: وما كانت هلكتهم إلا صيحة. وقرأ أبو جعفر: برفع الصيحة الواحدة، على أنه اسم كان، والتقدير: أن

كانت عليهم إلا صيحة واحدة. وقيل: التقدير: إن وقعت إلا صيحة. ومنعه أبو حاتم لأجل التأنيث الذي في الفعل، وقال: لا يجوز: ما جاءتني إلا جاريتاك وإنما يقال: ما جاءني (لأن التقدير ما جاءني) أحد. وهذا الذي منع جائز على أن يكون التقدير: ما جاءتني امرأة إلا جاريتاك. وقول أبي حاتم أولى لأنه نفي عام فلا يضمر إلا أحد. وفي حرف ابن مسعود: " إِنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةَ واحدة " بالرفع. (وزقية) في موضع صيحة. والمعروف في اللغة: زقا يزقو زقوة: إذا صاح، ويُقْرَأُ به لأنه مخالف لخط

المصحف. وقوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي: هالكون وساكتون بمنزلة الرماد الخامد. ثم قال (تعالى): {ياحسرة عَلَى العباد} أي: تعالي يا حسرة فهذا إبانك/ ووقتك يَتَحَسَّرُ بِكِ العباد على أنفسهم. هذا مذهب سيبويه. ونصبت لأنها نكرة. وقال الطبري: معناه: يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندماً وتلهفاً في استهزائهم برسل الله. وذُكِر أن بعض القراءات: " يا حسرة على العباد على أنفسها ". روي عن قتادة: يا حسرة العباد على أنفسها ما ضيعت من أمر ربها وفرطت في

جنب الله. قال ابن عباس: " يا حسرة على العابد " معناه: يا ويلاً على العباد. وقال أبو العالية: العباد هنا الرسل. والمعنى أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا: يا حسرة على العباد، أي: على الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إليهم، تحسروا عليهم أن يؤمنوا بهم. ثم قال جل ذكره: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. وقال بعض أهل اللغة: (المعنى): يا لها حشرة على العباد. وحقيقة الحسرة أن يحلق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً، أي منقطعاً. ثم قال (تعالى): {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون} أجاز الفراء أن تكون

" كم " في موضع نصب يروا، واستدل على ذلك أن في حرف ابن مسعود: " أَلَمْ يَرَوا مَن أهلكنا ". ولا يجوز هذا عند البصريين لأن " كم " استفهام، ولا يعمل فيها ما قبلها. والعامل فيه أهكلنا، وأنها عند سيبويه بدل من كم. ورد ذلك عليه المبرد، والتقدير عنده: بأنهم. والمعنى: الم ير هؤلاء المشركون من قومك يا محمد كم أهلكنا قبلهم من القرون بتكذيبهم الرسل، فيخافوا أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك، أي: ألم يعلموا ذلك.

32

وقرأ الحسن: " إِنَّهُم " بالكسر على الاستئناف. {لاَ يَرْجِعُونَ}: لا يعودون بعد موتهم وهلاكهم. قوله (تعالى ذكره): {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} إلى كقوله: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. أي: الكل محضرون يوم القيامة. و" ما " زائدة عند أبي عبيدة، والتقدير: وإن كل الجميع محضرون. و" إِنْ " مخففة من الثقيلة، وكل مبتدأ، (والجميع) الخبر. ويجوز/ أن يكون جميع بدلاً من ما، أو نعتاً لها، والتقدير: وإن كل لخلق أو لبشر جميع، وحسن كون " ما " لذلك لأن من يعقل وما لا يعقل أن يحضر يوم القيامة منه بهيمة وإنسان.

ومن شدد فهي بمعنى إلا، حكى سيبويه: سألتك بالله لّما فعلت، بمعنى: إلا فعلت. وأنكر الكسائي هذا. وقال الفراء: المعنى لِمَنَ مَا جميع، ثم أدغم وحذفت إحدى الميمات تخفيفاً كما يقال: " عَلْمَاءِ بنو فلان). فيحذفون ويدغمون، والأصل: عَلَى المَاءِ. ثم قال (تعالى): {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} أي: دلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله وتوحيده: إحياؤنا للأرض الميتة بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}. ثم قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي: في الأرض التي أُحْيِيَتْ بالمطر، {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون} أي: عيون الماء ليشربوا منها ويسقموا ثمارهم.

ثم قال: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} الهاء في ثمره تعود على ماء العيون، لأن الثمر من الماء اندرج وتَكَوَّنَ، فأضيف إليه، أي: فعلنا لهم ذلك ليأكلوا ثمرة النخيل والأعناب. ووحد الثمر في قوله {ثَمَرِهِ} فوحد الضمير، لأن العرب تأتي بالاثنين وتقتصر على خبر أحدهما. ومن فتح الثاء جعله جمع ثَمَرَةٍ وثَمَرٍ كَخَشَبَةٍ وَخَشَبٍ. ومن ضم جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثماراً على ثُمُرٍ كحمار وحُمُرٍ، ويجوز أن يكومن جمع ثمرة أيضاً كخشبة وخشب. وقوله (تعالى): {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي: ومن ثمر الذي عملته أيديهم، يعني الذي غرسوا وزرعوا. ويجوز أن تكون " ما " نافية، أي لم يعمل ذلك الذي أحياه المطر أيديهم.

ومن حذف الهاء في " عملته " جعل " ما " والفعل مصدراً، او نافية، أو بمعنى الذي لا غير. ومن أثبتها جعلها بمعنى الذي لا غير. {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي: يشكر هؤلاء على هذه النعم. ثم قال (تعالى): {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا} (أي): تنزيهاً وتبرئة لله جل ذكره مما يضيف إليه هؤلاء المشركون من الشركاْ، وهو الذي خلق الألوان كلها والأجناس كلها من نبات الأرض. {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ}، أي: وخلق من أولادهم ذكوراً وإناثاً. {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: وخلق أجناساً من الأشياء التي لم يطلعهم الله عليها. ثم قال (تعالى): {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار}، أي: وعلامة أيضاً لهم على قدرة الله وتوحيده: الليل ينزع منه ضياء النهار.

{وَمِنْ} هنا بمعنى (عن)، أي: ينزع عنه ضياء النهار، ومثله: {فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175] أي/: عنها وتركها. وقوله: {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي: صاروا في ظلمة. وقال قتادة: معناه: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل. وهذا بعيد في التأويل ليس هذا موضعه ولا يدل عليه الكلام. وحقيقة سلخت: أزلت الشيء من الشيء وخلصته منه حتى لم يبق منه شيء. ثم قال: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} أي: لموضع قرارها. قال القتبي: مستقرها أقصى منازلها في الغروب لا تتجاوزه، يعني إلى أبعد مغاربها ثم ترجع. وروى أبو ذر أن النبي A قال: " عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَا أَبَا ذَرّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟ فقلت: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ، إِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا جَلَّ ثَنَاؤُهْ ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ بِالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّها قَدْ قِيْلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ،

فَتَطْلَعُ مِنْ مَكَانِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرُّها ". وروى أبو ذر أيضاً قال: " سَأَلْتُ النَّبِيَّ A عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} فقال: مستقرها تحت العرش ". قال قتادة: لمستقرها وقت واحد لا تعدوه. وقيل: المعنى: (إنها) تجري إلى أبعد منازلها في الغروب ثم ترجع فلا تتجاوزه، وذلك أنها لا يتزال تتقدم كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مطالعها ثم ترجع. وعن أبي ذر قال: " قُلْتُ (يا) رَسُولَ الله {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ/ لَّهَا} قَالَ: بَيْنَ يَدَيْ العَرْشِ ".

وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " لا مُسْتَقَرُّهَا "، على معنى: هي جارية لا تثبت في موضع واحد: أي هي كل ليلة في موضع لا تكون فيه في الليلة التي تليها تتقدم أو تتأخر. ثم قال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} أي: هذا الذي تجري عليه الشمس من التقدير، هو تقدير العزيز في انتقامه العليم بمصالح خلقه. ثم قال (تعالى): {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [أي: وآية لهم القمر قدرناه منازل. وقيل: التقدير: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام واتصل الضمير، كمنزلة: " كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ " [المطففين: 3]، والمعنى: قدرناه منازل في النقص والزيادة

والتمام، فهو منذ يطلع كل ليلة في منزلة - ومنازله ثمانية وعشرون منزلة (معروفة) - ثم يستتر ليلتين فلا يُرى. {حتى عَادَ كالعرجون} أي: في النقص كالعذق اليابس من القدم لأن العذق كلما قدم يبس وتقوس وانحنى، ولا يوجد مستوياً أبداً لا أخضر ولا يابس، فكذلك القمر في آخر الشهر ينقص ويتقوس وينحني. هذا قول ابن عباس وقتادة والحسن وغيرهم. والعِذق بكسر العين هو الكِبَاسَة والقنو. وأهل مصر يسمونه

الإسْبَاطَة. والعَذَقُ بفتح العين هو النخلة. ثم قال (تعالى): {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر} أي: لا ينبغي ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر فيذهب ضوؤه بضوئها (فتكون الأوقات كلها نهاراً. {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} أي: ليس يفوته بظلمته). فتكون الأوقات كلها مظلمة ليلاً. وفي هذا - لو كان - إبطال التدبير الذي بنيت عليه الدنيا، ألا ترى أن الدنيا إذا ذهبت، وزال تدبير الشمس والقمر جمع بينهما. قال الله جل ذكره في حال يوم القيامة: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9]، ففي جمعهما زوال تدبير الدنيا بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، فليس في الآخرة ليل يدخل على النهار، ولا شمس ولا قمر، وذلك تدبير أخر، تبارك الله أحسن الخالقين. قال الضحاك: معناه: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم

يكن للشمس ضوء. وهو معنى قول ابن عباس. قال قتادة: لِكُلِّ (حد) وعلم لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا. وعن ابن عباس في الآية: إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر، وإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر. وقيل: المعنى: إن القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فلا يدرك أحدهما الآخر. وقيل: المعنى: إن سير القمر سير سريع، والشمس سيرها بطيء فهي لا تدركه. وَسُئِلَ ابن عمر، فقيل له: ما بال الشمس تصلانا أحياناً، وتبرد أحياناً؟ فقال: أما في الشتاء فهي في السماء السابعة تحت عرش الرحمن، وأما في الصيف فهي في السماء الخامسة، قيل له: ما كنا نظن إلا أنها في هذه السماء، قال: لو كانت كذلك ما قام لها

41

شيء إلا أحرقته. وقوله: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار}. استدل به بعض العلماء على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بالخلق. وقيل: المعنى: إن كل واحد/ منهما يجيء في وقته ولا يسبق صاحبه. ثم قال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (أي): وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون. قال ابن عباس: في فَلَكٍ كَفَلَكِ المغزل. وجاء يسبحون بالواو لأنه لما أخبر عنهن بلفظ من يعقل أجرى ضميرهم مجرى ضمير من يعقل ولم يقل يسبحن، ولو قيل لَحَسُنَ، ولكن جاء على هذا المعنى. قوله (تعالى ذكره): {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ (فِي الفلك)} إلى قوله: {إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}.

أي: وآية لأهل مكة أنا حملنا ذريات نوح في الفلك المشحون، أي: الموقر. فالضميران على هذا مختلفان. وقد قيل: إن المعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا أولادهم وضعفاءهم ومن لا يقدر على المشي في السفينة في البحر. فالضميران متفقان، والفلك في القول الأول سفينة نوح واحد في المعنى. وقيل: المعنى: إن الآباء يسمون ذرية. فالمعنى: وآية لأهل مكة أنا حملنا آباءهم في الفلك المشحون، وهي سفينة نوح. وإنما جاز ذلك لأن الذرية مِنْ: ذَرَأَ الله الخلق. (فسمي الولد/ ذريه لأنه ذري من الأب، ويسمى الأب ذرية لأن الابن ذري منه. فكما جاز أن يقال للابن ذرية لأبيه) لأنه ذري منه، فكذلك يجوز أن يقال للأب ذرية للابن لأن ابنه ذري منه. فالمراد بها سفينة نوح، ويراد بها في القول الثاني: سفينة من السفن، وهي المَرْكَبُ، فيجوز أن يكون واحداً وجمعاً، فإذا كان جمعاً فواحده فَلَكٌ كُوَثَنٍ وَوُثْنٍ.

قال الحسن: (المشحون) المحمول. وقيل: الممتلئ، قاله ابن عباس. ثم قال (تعالى): {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}. قال ابن عباس: هي السفن الصغار، ودل على ذلك: {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ}. وقال الضحاك: يعني السفن التي أتُّخِذَتْ بعد سفينة نوح. وقاله قتادة وابن زيد وأبو صالح وغيرهم. وعن ابن عباس: أنها الابل، قال: فالإبل سفن البر. وقال مجاهد: يعني الأنعام. وقال الحسن أيضاً: هي الإبل.

واختيار الطبري قول من قال هي السفن، لقوله (تعالى): {وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} إذ لا غرق في البر، والمعنى: إِنْ نشأ نغرق هؤلاء المشركين إذا ركبوا الفلك في البحر. {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي: لا مغيث لهم إذا نحن أغرقناهم. {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أي: ينجون من الغرق. وصريخ بمعنى مُصرخ: أي مغيث. يقال صرخ الرجل إذا صاح، وأصرخ إذا أغاث وأعان، فهو مُصْرِخ والأول صارخ. ثم قال تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا}. فنصب " رحمة " عند الزجاج لأنه مفعول من أجله. وهي عند الكسائي نصب على الاستثناء. والمعنى: ولا هم ينقذون إلا الأجل الرحمة والإمتاع بالحياة إلى وقت، هذا

التقدير على قول الزجاج. والتقدير على قول الكسائي: ولا هم ينقذون إلا أن يرحمهم فيمتعهم إلى أجل. قال قتادة: {إلى حِينٍ} إلى الموت. ثم قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ [وَمَا خَلْفَكُمْ} أي: إذا قيل لهؤلاء المشركين من قومكم يا محمد اتقوا ما بين أيديكم]، أي: احذروا ما تقدم قبلكم من نقسم الله في الأمم الماضية بكفرهم وتكذيبهم الرسل أن يحل بكم مثل ذلك. {وَمَا خَلْفَكُمْ} أي: وما أنتم لا قُوهُ من عذاب الله تعالى إن هلكتم على كفركم وتكذيبكم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لتكونوا على رجاء من الرحمة. هذا قول سيبويه، وقال الطبري: معناه: ليرحمكم ربكم. قال قتادة: " ما بين أيديكم ": وقائع الله جل ذكره فيمن خلا من الأمم، " وما

خلفكم " أي: من أمر الساعة. وقال مجاهد: ما بين أيديهم، ما مضى من ذنوبهم، وما خلفهم: (قال): ذنوبهم لتي (هم) عاملوها. وقال ابن جبير: " ما بين أيديكم " الآخرة. وما خلفكم ": الدنيا. وجواب إذا محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أَعرضوا. ثم قال (تعالى): {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي: ما يأتي هؤلاء المشركين من حجة من حجج إلا أعرضوا عنها لا يفكرون ولا يتدبرون. ثم قال (تعالى): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي: أَدُّوا زكاته لأهل الضعف منكم. {قَالَ الذين كَفَرُواْ} أي: كفروا بالله ورسوله {لِلَّذِينَ آمنوا} بهما.

{أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} قالوه على التهزي. وقوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} يجوز أن يكون من قول الكفار للمؤمنين. ويجوز أن يكون من قول الله جل ذكره (وثناؤه) للمشركين الذين قالوا: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ}. قال الحسن: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ} هم اليهود. [ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: متعى نبعث ونعذب، استعجالاً بالعذاب وتكذيباً للبعث، يقوله المشركون للمؤمنين وللنبي A] . ثم قال (تعالى ذكره): {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً} أي: ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون وعيد الله إلا صيحة واحدة، وذلك نفخة الفزع عند قيام الساعة، وهي النفخة الأولى تأخذهم وهم في بيعهم وشرائهم. {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: لا يقدرون أن يوصوا ولا يرجعوا إلى أهلهم. وقوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} قيل: هي النفخة الثالثة، وقيل: هي الثانية يقوم بها

الأموات. وقيل: هي ثلاث نفخات، و (قد) ذكرناها في غير موضع من كتابنا هذا، روى أبو هريرة أن النبي A قال: " إن الله جل ثناؤه لما فَرَغَ من خَلْقِ السماوات والأرض خَلَقَ الصُوْرَ فأعطاه إسْرَافِيلَ، فهو واضعه على فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إلَى العَرْشِ ينتظر متى يُؤْمَرُ ". قال أبو هريرة: " يا رسول الله، وما الصّور؟ قال: قَرْنُ. قال: وكَيْفَ هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فيه ثلاثُ نَفَخَاتٍ، الأُولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيَّامِ لِرَبِّ العَالَمِينَ جَلَّ ذِكْرُهُ، وَيَأْمُرُ الله إسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الأُوْلَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ الله، وَيَأْمُرُهُ

الله فَيُدِيمُهَا ويُطَوِّلُهَا فَلاَ تَفْتُرُ، وهي التي يَقُولُ: مَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ثُمَّ يَأْمُرُ الله إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الصَّعْقِ، فَيَصْقَقُ: أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ الله فَإِذَا هُمْ فِيهَا خَامِدُونَ، ثم يُميتُ مَنْ بَقِيَ فإذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الله الوَاحِدُ الصَّمَدُ بَدَّلَ الأَرْضَ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، فَيَبْسُطُهَا وَيَسْطَحُهَا وَيَمُدُّهَا مَدَّ الأدِيمِ العُكَاضِيّ لا تَرَى فِيهَا عِوَجَاً وَلاَ أَمْتاً، ثُمَّ يَزْجُرُ الله الخَلْقَ زَجْرَةً فإِذَا هُمْ فِي (هَذِهِ) المُبَدَّلَةِ فِي مِثْلِ مَوَاضِعِهِمْ مِنَ الأُولَى مَا كَانَ في بَطْنِهَا وَمَا كَانَ عَلى ظَهْرِهَا ". قال قتادة: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ (الله) A كَانَ يَقُولُ: " تَهِيجُ السَّاعَةُ بِالنَّاسِ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَا شِيَّتَهُ، وَالرَجُلُ يُصْلِحُ حَوْضَهُ، والرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي سُوقِهِ،

والرَّجُلُ يَخْفِضُ مِيزَانَهُ وَيَرْفَعُهُ، وَتَهِيْجُ بِهِهْ وَهُمْ كَذَلِكَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} ". قال عبد الله بن عمر: وَلَيُنْفَخَنَّ في الصّورِ، والنَّاسُ فِي طُرُقِهِمْ وأَسْوَاقِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، (و) حَتَّى إِنَّ الثُّوْبَ لَيَكُونَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يَتَسَاوَمَانِ فما يُرْسِلُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَهِي التِي قَالَ الله D: { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} الآية. ومعنى قوله: {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي: لا يرجعون إلى أهلهم بعد موتهم أبداً. وقيل: لا يرجعنن من أسواقهم إلى أهلهم، يموتون مكانهم، وهو اختيار الطبري. وهو قول قتادة.

وقيل: المعنى: ولا إلى أهلهم يُرجِعُونَ قَوْلاً، يُشْغَلُونَ بأنفسهم. ومعنى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: لا يمهلون حتى يوصوا بما في أيديهم. ثم قال (تعالى): {وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}. قال قتادة: الصور هنا جمع صُورَةٍ، أي: نَفَخَ في الصُّوَرِ الأَرْوَاحَ. وهو قول أبي عبيدة كَبُسْرَةٍ وَبُسْرٍ. وقرأ ابن هرمز " في الصُّوَرِ " جعله كظُلْمَةِ وَظلْمٍ. وقيل: هو القرن على ما تقدم. وهذه النفخة هي الثالثة، وهي نفخة البعث.

52

والأجْدَاثُ: القُبُور، يقال جَدَثٌ وَجَدَفٌ. ومعنى: {يَنسِلُونَ}: يخرجون سراعاً. والنَّسَلاَنُ: الإسراع في المشي. وقال الحسن في الآية: وثب القوم من قبورهم لمَّا سمعوا الصرخة ينفضون التراب عن رؤوسهم يقول المؤمنون: سبحانك ويحمدك وما عبدناك حق عبادتك. قال وهب بن منبه: (يبلون) في قبورهم، فإذا سمعوا الصرخة عادت الأرواح إلى الأبدان، والمفاصل بعضها إلى بعض، فإذا سمعوا النفخة الثانية، وثب القوم قياماً على أرجلهم ينفضون التراب عن رؤوسهم. (قوله تعالى ذكره): {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} إلى/ قوله: {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}. أي: يقول ذكل المشركون إذا نُفِخَ في الصَّورِ نفخة البعث.

قال أُبَيٌّ بن كعب: ناموا نومة قبل البعث. وكذلك قال قتادة. قال مجاهد: يهجع الكفار قبل يوم القيامة هجعة يذوقون فيها النوم، فإذا قامت القيامة قالوا: {قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}. ثم قال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن}. قال قتادة: قال لهم أهل الهدى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون}. وقال مجاهد: قال ذللك لهم المؤمنون (المرسلون). وقال ابن زيد: هو من قول بعضهم لبعض، صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به من البعث بعد الموت. وقال الفراء: هو من قول الملائكة لهم. وهذا القول موافق لقول قتادة، لأن الملائكة أهل هدى. وكذلك يتأول قوله:

{إِنَّ الذين آمَنُواْ/ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7]. وكذلك الحديث: " المُؤْمِنُ عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا خَلَقَ " وهو قول القتبي. والوقف على " مَرْقَدِنَا " إجماع إلا ما حكى أحمد بن جعفر أنه يوقف على " هذا "، ثم يتبدئ: {مَا وَعَدَ الرحمن}، أي: بعثكم ما وعد الرحمن. وقرأ ابن عباس: " مِنْ بَعْثِنَا " بكسر الميم وخفض البعث. فالوقف على {ياويلنا} جائز إلا على هذه القراءة لأن من متعلقة بما قبلها.

ثم قال تعالى: {إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي: قد حضروا للعرض على الله. وقد تقدم ذكر هذا. ثم قال (تعالى): {فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} لا يُنْقَصُ من أجرها ولا يُحْمَل عليها وزر غيرها. {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولا تكافؤون إلا مكافأة أعمالكم في الدنيا. ثم قال (تعالى): {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}. قال مجاهد: شغلهم افتضاض (الأبكار). [وقال ابن مسعود: افتضاض العذارى]. وهو قول ابن المسيب.

وقال أبو قِلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهل إذ قيل له تحول إلى أهلك. وقيل: " فِي شُغْلٍ " في نعمة. وقيل: في شغل عما فيه أهل النار. والشُّغْلُ والشُّغُلُ لغتان كالبُخْلُ والبُخُلُ. وقرأ أبو جعفر: (فَكِهُونَ). وهو عند الفراء مثل فاكهين في المعنى كَحَذِرٍ وحَاذِرٍ. وقال أبو زيد: رجل فَكِهٌ إذا كان طيب النفس ضَحُوكاً.

وقال قتادة: " فكهون " معجبون. قال ابن عباس: " فاكهون " فرحون. وقال بعض أهل اللغة: الفاكه الكثير الفاكهة، وكذلك تَامِرٌ وَلاَ حِمٌ وَشَاحِمٌ إذا كثر ذلك عنده. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف: " فَاكِهِينَ " بالنصب على الحال، وجعل في شغل الخير. ثم قال: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ} يعني أزواجهم من أهل. وظلال جمع ظُلُةٍ كقُلَّةٍ وَقِلاَلٍ، ويجوز أن يكون جمع ظِل. ومن قرأ " ظُلَلٍ " جعله أيضاً جمع ظُلَّة. كغُرفة وغُرَف، وظلْمَةٍ وظُلَمٍ، وَحُلَّةٍ وَحُلَلٍ.

وقوله: {عَلَى الأرآئك} أي: على السُّرُرِ في الحجال، واحدها أريكة. وقيلأ: (كل) فراش أريكة. والقول الأول هو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة. قال أبو إسحاق: {الأرآئك} الفرش في الحجال، (وقيل الفرش)، وقيل: الأسرة. واختار أن تكون الفرش كانت في حجال أو فيغير حجال. وقيل: الأرائك أسرة الذهب مكللة بالزَّبَرْجَدِ والدُّرِّ واليَاقُوتِ. والأريكة الواحدة مثل ما بين صَنْعَاءَ إلى أَيْلَةَ، وليس في الجنة نوم، إنما هو

الاتكاء عليها. ثم قال: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} أي: يتمنون، ويدعون: يفتعلون من دعا، و " ما " في موضع رفع بالابتداء، و " لهم " الخبر. ثم قال: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} سلام بدل من " ما "، ومعناه: ولهم أن يسلم الله عليهم، وذلك غاية أمنيتهم. ويجوز أن تكون " ما " نكرة، " وسلام " نعت لها، بمعنى مسلم لهم. ويجوز أن يكون " سلام " خبراً عن " ما ". وفي حرف ابن مسعود: " سَلاَماً "، نصب على المصدر أو في موضع الحال بمعنى مسلماً لهم. " وقولاً " مصدر، أي: يقولونه قولاً يوم القيامة، أو يقوله الله لهم قولاً.

قال محمد بن كعب القرظي لعمر بن عبد العزيز: إذا فَرَغَ الله (من) أهل الجنة وأهل النار، أقبل في ظل من الغمام والملائكة إلى أول درجة، فيسلم عليهم فيردون السلام/، وهو في القرآن {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، فيقول: اسألوا، فيقولون: ما نسألك وعزتك وجلالك لو أنك قسمت بيننا أرزاق الثقلين لأطعمناهم وسقيانهم وكسوناهم، (فيقول: سلوني)، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: رضائي أَحَلَّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي. فيفعل ذلك بأهل كل درجة. قال: ولو أن امرأة من الحُورِ تَطَلَّعَتْ لأَهْلِ الأرض لأطفأ ضوء سِوَارِهَا الشمس والقمر، فكيف بِالمُسَوَّرَةِ. وأجاز أبو حاتم الوقف على: " سلام " وهو لا يجوز، لأن الجملة التي قبل قَوْلٍ عملت فيه فقامت مقام العامل. ثم قال (تعالى) " {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} (أي): اعتزلوا وانفردوا

أيها الكافرون عن المؤمنون. قال قتادة: عزلوا عن كل خير. وروى محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة: أن النبي A قال: " إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَمَرَ الله جَلَّ ذِكرُهُ جَهَنّمَ، فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنُقٌ سَاطِعٌ مُظْلِمٌ، ثُمَّ يَقُولُ/: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} إلى قوله: {كُنتُمْ] تُوعَدُونَ} ثم يقول: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون}، فَيَتَميَّزُ النَّاسُ ويَحْثُونَ، وهو قوله (تعالى ذكره): {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} (كُلُّ أُمَّةٍ) {تدعى إلى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28]. وقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} أي: (ثم قال): ألم أوصيكم وآمركم في الدنيا ألا تطعيوا الشيطان في المعاصي، وأعلمتكم أنه لكم عدو مبين، وأنه أخرج أبويكم من

الجنة لِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا. ثم قال: {وَأَنِ اعبدوني} أي: ألم أعهد إليكم أن اعبدوني وأخلصوا العبادة لي. {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: عبادتكم إياي خالصاً هو الصراط المستقيم. ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} أي: أضل الشيطان منكم خلقاً كثيراً فأطاعوه، وجِبِلاًّ بكسر الجيم، والتشديد جمع جِبِلَّة. و (من) قرأ بضم الجيم والباء والتخفيف جعله جمع جَبِيلٍ كَسَبِيلٍ وَسُبُلٍ. وَجَبِيلٍ معدول عن مَجْبُولٍ كَجَريحٍ بمعنى مَجْرُوحٍ. وكذلك قراءة من أسكن الباء وضم الجيم وخفف، إنما أراد الضم ولكن أسكن استخفافاً.

65

ثم قال: {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون أنه لا ينبغي أن يطاع من هو عدو، والكلام كله بمعنى التوبيخ والتقرير، أي قد عهدت إليكم ذلك. ثم قال: {هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي: في الدنيا، فتكذبون (بها). (و) جهنم أول باب من أبواب النار. ثم قال: {اصلوها اليوم} (أي): احترقوا فيها، وَرَدُوهَا جزاء بكفرهم في الدنيا بها وبالله ورسله. قوله (تعالى ذكره): {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} إلى آخر السورة. أي: نطيع (على) أفواه المشركين. {وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: بما عملوا في الدنيا. {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} أي: بما سعت فيه من المعاصي. روي أن الذي ينطبق (من) أرجلهم أفخاذهم من الرجل اليسرى.

قال أبو موسى: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة، فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه، فيعترف فيقول: نعم إني عملته، قال: فيغفر الله (منه) ذنوبه ويستره منها. ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله، فيجحده فيقول: أي: ربي وعزتك لقد كتب عَليَّ هذا المَلَكُ ما لم أعمل، فيقول له المَلَكُ: أما عملت كذا يوم كذا؟ فيقول: (لا) وعزتك، (أي): رب ما عملته، فإذا فعل ذلك ختم الله على فِيهِ. قال أبو موسى: فإني أحسب أول ما ينطق منه لفخذه اليمنى ثم تلى الآية: {اليوم نَخْتِمُ. . .}. وعن النبي A أنه قال: " أَوَّلُ شَيْءٍ يَتَكَلَّمُ مِنَ الإنْسَانِ يَوْمَ يُخْتَمُ عَلَى الأَفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنْ رِجْلِهِ اليُسْرَى "، رواه عقبة بن عامر عنه. ثم قال (تعالى): {وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} أي: لأعميناهم عن الهدى فلا

يهتدون إلى طريق الحق أبداً. قاله ابن عباس. وقال الحسن: (معناه): لو شاء لتركهم عمياً يترددون. وكذلك قال قتادة. وهو اختيار الطبري، لأن القوم كانوا كفاراً، فلا معنى لعماهم (عن) الهدى وهم كذلك كانوا، والمعنى عنده: لو نشاء لعاقبناهم على كفرهم فأعميناهم فلا يبصرون طريقاً في تصرفهم إلى منازلهم ولا إلى غيرها. وقيل معنى: {فاستبقوا الصراط} أي: فبادروا إذا حدث بهم العمى إلى منازلهم/ ليلحقوا بأهلهم. والأَطْمَسُ هو الذي لا يكون بين عينه شق. وحكى الكسائي طَمَسَ يَطْمِسُ وَيَطْمُسُ.

ثم قال (تعالى): {وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ} أي: لأفقدناهم جزاء على كفرهم، فلا يستطيعون أن يمضوا إلى أمامهم ولا يرجعون إلى ورائهم، هذا قول الحسن وقتادة. وقال ابن عباس: معناه: لأهلكناهم في منازلهم. وقيل: المعنى: لو شاء الله لمسخهم في الموضع الذي اجترؤوا فيه على معصية الله، فلا يقدرون على المضي ولا على الرجوع. وقال ابن سلام: هذا كله في القيامة، قال إذا كان يوم القيامة مُدَّ الصِّرَاطُ، ونادى مُنادٍ لِيَقُمْ محمد A وأمته، فيقومون بَرُّهم وفَاجِرُهُمْ يتبعونه فيتجاوزوا الصراط فإذا صاروا عليها، طمس الله أعين فُجَّارهم، فاستبقوا الصراط فمن/ أين يبصرونه حتى يجاوزوه، (قال): ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته فيقومون فيتبعونه بَرُّهُمْ وفاجِرُهُم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذلك سائر الأنبياء. والعرب تقول

مَكَانٌ وَمَكَانَةٌ، وَدَارٌ وَدَارَةٌ. وحتى ابن الأعرابي: أن العرب تجمع مكاناً على أمكنة ومكنات. ثم قال (تعالى): {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} أي: نرده إلى مثل حاله الأولى من الضعف وقلة العلم والفهم، بمنزلة قوله: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70]. ثم قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر} أي: لم نُعَلِّمَ محمداً الشعر، بل علمناه القرآن، وليس هو شعر كما قال المشركون. {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} أي: ما ينبغي له أن يكون شاعراً. وقيل: معناه: ما يسهل له قول الشعر. وقالت عائشة: " لَمْ يَتَمَثَّلْ رَسُولُ الله A بِبَيْتِ شِعْرٍ قَطُّ إِلاَّ بِبَيْتِ طَرَفة

فَجَعَلَ آخِرَهُ أَوَّلَهُ وأَوَّلَهُ آخِرَهُ، وهو قول طرفة: " سَتُبْدِي لَكَ الأَّيَّاُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً " البيت. فكان يقول: وَيَأْتِيكَ مَنْ لمَمْ تُزَوِّدِ بِالأَخْبَارِ. فأما ما روي عنه من قوله A: " أنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ ... أَنَ ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ". فإنه فيما ذُكِرَ أنه كان يعرب: (كذباً) و (المطلب)، وإذا أعربها لما يكن شعراً. ثم قل: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} أي: ما هذا القرآن إلا ذكر وليس شعر، أنزله على محمد لينذر من كان حياً، وهو المؤمن، مثل قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11].

وقال الضحاك: مَنْ كَانَ حَيَّاً هو العاقل. ثم قال: {وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} أي: ويجب عليهم العذاب الذي تقدم لهم في علم الله أنهم صائرون إليه بكفرهم. ثم قال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} أي: أو لم ير هؤلاء المشركون أنا خلقنا لهم من خَلْقِنَا أنعاماً، وهي المواشي والإبل، ومعنى {أَيْدِينَآ} أي: بقوتنا وقدرتنا كان خَلْقُنَا لَهُمْ. [ثم قال: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي: مصرفون لهم كيف شاؤوا]. ثم قالوا: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} (أي): سهلناها لهم فلا تعدو عليهم. {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي: ما يركبون. وقرأت عائشة " رَكُوبَتُهُمْ ". قال أبو عبيدة: الرَّكُوبَة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا

للجماعة. قال البصريون: حذفت الهاء من " ركوبهم " على النسب، والأصل الهاء. قال الكوفيون: العرب تفرق في فَعُول بين ماله الفعل، وبين ما الفعل واقع عليه، فيقولون: امرأة صبور وشكور، بغير هاء، ويقولون: شاة حَلُوبَةٌ ونَاقَةٌ رَكُوبَةٌ. ثم قال (تعالى): {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (أي): لحوم الإبل والمواشي. (ثم قال تعالى): {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} يعني في أصوافها وأوبارها وجلودها وغير ذلك. ثم قال: {وَمَشَارِبُ} يعني ألبانها. {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي: يشكرون الله على هذه النعم التي خلق (لهم).

ثم قال [تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً}] يعني: هؤلاء المشركين اتخذوا الأصنام آلهة. {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}، (أي): طمعاً أن ينصروهم من عقاب الله. {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي: من عقاب الله، أي لا تستطيع الآلهة نصر هؤلاء المشركين ولا غيرهم. ثم قال: {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ} [أي: هؤلاء المشركون] لآلهتهم جند محضرون عند الحساب، قاله مجاهد. وقال قتادة: معناه محضرون في الدنيا يغضبون إذا ذكرت/ آلهتهم بسوء. وقيل: المعنى: أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون يوم القيامة فيتبعونه إلى

النار، فهم جند لهم محضرون معهم في النار. ثم قال (تعالى): {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} يقول لنبيه A: لا تحزن من قولهم: إنك شاعر، ولا من تكذيبهم لك. {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي: نعلم إنما يدعوهم إلى ذلك الحسد وأنهم يعلمون أنك جئتهم بالحق، ونعلم ما يعلنون من كفرهم وجحودهم لما جئتهم به. ثم قال (تعالى ذكره): {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ} قيل: " عني به أمية بن خلف أتى رسول الله A بعظم حائل، ففته ثم ذراه في الريح، فقال: مَنْ يُحِيي العظام وهي رميم، قاله قتادة ومجاهد. وروى قتادة أن النبي A أجابه، فقال له: " الله يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ "، فَقَتَلَهُ رَسُولُ الله يَوْمَ أُحْدٍ ".

وقال ابن جبير: وهو العَاصِي بنُ وائِل السَّهْمِي. وقيل: عني به عبد الله بن أُبَيّ. قاله ابن عباس. وفي هذا نزلت: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} إلى آخر السورة. قال ابن عباس: " جاء أُبي بن خلف إلى النبي A بعظم حائل بَالٍ فكسره وفته بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا (وهو رميم)؟ (فقال له) (النبي A) : " يَبْعَثُ الله هَذضا ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ ".

وكذلك ذكر ابن جبير في العاصي بن وائل. وروى ابن وهب: أن الذي قال ذلك هو أبي بن خلف الجمحي. وهو الذي قتله النبي A بيده فمات من طعنة رسول الله بالحربة بعد أن رجع إلى مكة. وعن ابن عباس: أنه عبد الله بن أبي. والسورة مكية وعبد الله بن أبي لم [يكن بمكة إنما كان بالمدينة، فأُبي بن خلف أشبه به لأنه بمكة] كان معانداً للنبي A. فالمعنى: ألم يَرَ هذا الذي قال: من يحيي العظام وهي رميم، أنا خلقناه من نطفة، وهي أضعف من العظم، فسويناه بشراً سوياً، فيعلم أن من فعل هذا قادر على إحياء العظام بعد كونها رميماً. وقوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي: ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه: إني فاعله، فينكره.

ثم قال: [تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ}]. أي: ضرب مثلاً بالعظم الرميم، فقال من يحييه؟ وأنكر إحياءه، ونسي أنه خلق من نطفة من ماء معين حقير، فجعله الله بشراً سوياً ناطقاً. ثم قال (تعالى): {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: قل له يا محمد: الذي خلق هذه العظام من ماء حقير مهين، هو الذي يحييها بعدما تكون رميماً. ثم قال (تعالى): {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي: ذو علم بجميع خلقه، يُحيي ويُميت، ويُبدئ ويُعيد، لا يخفى عليه شيء. يعلم ما تنقص الأرض (من) لحومهم وعظامهم وسائر جثمانهم، فيعيدها كما كانت أول مرة. ثم قال (تعالى ذكره): {الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً} يعني: المَرَخُ

والعُفَّارُ، يستعمل منه الأعراب الزنود. فالذي خلق النار واستخرجه لكم من شجر أخضر مائي - والماء ضد النار بِحَرِّهِ وَيُبْسِهِ - هو الذي يقدر على أن يحيي العظام وهي رميم. وهذه الآية تدل على جواز القياس لأنه جَعَلَ خلق الشيء دليلاً على خلق غيره. ثم قال (تعالى): {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم}. هذا كله تنبيه للمُنْكِرِ للبعث، والمعنى: أوليس الذي خلق السماوات والأرضين على عظمهن وسعتهم، وما في السماوات من الآيات كالشمس والقمر والنجوم، وما في الأرض من الآيات كالبحار والجبال والشجر بقادر على أن يعيد مثل هؤلاء الذين قد صاروا رميماً، فليس إعادة الخلق بعد الموت بأعظم من (خلق) السماوات والأرض وما فيهن من الآيات، فمن لم يتعذر عليه خلق العظيم كيف يتعذر عليه خلق اليسير؟! ثم قال (تعالى): {بلى وَهُوَ الخلاق العليم} أي: بل يخلق مثلهم، وهوالخلاق

لما يشاء، العليم بكل (ما) خلق. ثم قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} قال قتادة: ليس من كلام العرب شيء هو أخف من كُنْ ولا أهون، فأمر الله كذلك. ثم قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: فتنزيه للذي بيده ملك/ كل شيء وخزائنه (يفعل) ما يشاء وإليه تردون بعد مماتكم وتصيرون. قال قتادة: ملكوت كل شيء: مفاتيح كل شيء. وملكوت وملكوتي في العرب بمعنى مِلْك. قال نافع: " بَلَى " تمام.

وكذلك قال محمد بن عيسى والقتبي. وقل: " مِثْلَهُمْ " التمام، والأول أحسن. (و) " فيكون " تمام.

الصافات

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الصافات مكية وقوله (تعالى ذكره): {والصافات صَفَّا} إلى قوله: {(بَلْ عَجِبْتَ) وَيَسْخَرُونَ}. أي: ورب الصافات، وهي الملائكة بإجماع. وهو جمع صافة، كأنها جماعات مصطفة لذكر الله وتسبيحه. قال ابن عباس: الملائكة صفوف، لا يعرف كل منهم مَنْ إلى جانبه لم يتلفت منذ

خلقه الله. يسبحون ويهللون ويحمدون الكله (ويمجدونه). والزاجرات: جمع أزجرة، أي: تزجر عن معاصي الله، وهي الملائكة، قال ذلك ابن مسعود والسدي. وقيل: الزاجرات: الملائكة تزجر السحاب، تسوقه إلى المواضع التي يريد الله سقيها، قال مجاهد والسدي أيضاً. وقال قتادة: الزاجرات: ما زجر الله (عنه) في القرآن. فهي أي القرآن

التي زجرنا الله بها. قال قتادة: الزاجرات كل ما زجر عنه. ثم قال (تعالى): {فالتاليات ذِكْراً}. يعني: الملائكة تتلو ذكر الله وكلامه، قاله مجاهد والسدي. وقال قتادة: هو يُتْلَى عليكم في القرآن من أخبار الأمم قبلكم. ثم قال: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} أي: إن معبودكم واحد. وإن جواب القسم. ثم قال: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: مالك ذلك ومدبره. {وَرَبُّ المشارق} أي: مَالِكُ مشارق الشمس، ومدبرها في الشتاء والصيف، وحذف ذكر المغارب لدلالة الكلام عليه لأن ذكر المشارق يدل على أن ثم مغارب. قال السدي: المشارق ستون وثلاث مائة مشرق، والمغارب مثلها عدد أيام

السنة. قال ابن عباس: للشمس كل يوم مشرق، وكل يوم مغرب، فتلك المشارق والمغارب، وللصيف مشرق ومغرب، وللشتاء مشرق ومغرب، فذلك كقوله: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17]. ثم قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} من أضاف زينة فمعناه تتزين الكواكب، أي بحسنها. ومن نوّن زينة وخفض " الكواكب "، جعل الكواكب بدلاً من زينة. ومن نون زينة ونصب " الكواكب " أعمل زينة في الكواكب، وإن شئت جعلت " الكواكب " بدلاً (من زينة) على الموضع.

وإن شئت نصبت على إضمار: أعني. وقرئت بتنوين " زينة " ورفع " الكواكب "، على تقدير بأن زينتها الكواكب. ثم قال: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي: وحفظناها حِفْظاً. فحِفْظٌ نصب على المصدر. وقال بعض الكوفيين: هو مفعول من أجله، والواو زائدة. والتقدير عنده: إنا زينا السماء الدنيا حفظاً لها، أي للحفاظ. معنى: {السمآء الدنيا} السماء التي تليكم، وهي أدنى إليكم من غيرها من السماوات، ودل على ذلك على أن سائر السماوات ليس فيها من الكواكب ما في هذه السماء القريبة منا. والمارد: العاتي الخبيث. ثم قال (تعالى): {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى} أي: لا يميلون بسمعهم إلى ما تقول الملائكة (في) السماء للحفيظ الذي في السماء. تقول: سَمِعْتُ إليه يقول كذا، أي أملت بسمعي إليه.

قال ابن عباس: (هم) لا يسمعون وهم (لا) يتسمعون. فهذا شاهد للتخفيف. ويدل على قوة قراءة التخفيف قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212] ولم يقل عن التسمع. ومن قرأ بالتشديد فمعناه: أنهم مُنِعُوا من السَّمع ومن التَّسَمُّعِ، وإذا مُنِعوا من السمع فهم عن التَّسَمُّعِ أعظم منعاً. فالتسمع في النفي أبلغ. قال ابن عباس: " كانت للشياطين مقاعد في السماء، وكانوا يسمعون الوحي، وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا تُرْمَى. قال: فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً. قال: فلما بعث الله محمداً A، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه سهاب فلم/ يُخْطِئه حتى يحرقه. قال: فَشَكُواْ ذلك إلى إبليس فقال: ما هو

إلا من حَدَثٍ. قال: " فَبَثَّ جُنودَه فإذا رسول الله قائم يصلي. قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه، فقال: هذا الذي حدث ". ثم قال (تعالى): {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً} أي: ويُرْمون من كل جانب من السماء دحوراً، ودحوراً مصدر دحرته (أي) دفعته وأبعدته، قال اللهمَّ ادْحَرْ (عَنَّا) الشَّيْطَانَ، أي: ادفعه عنّا وأبعِده. قال قتادة: " دحوراً " قذفاً بالشّهب. وقال مجاهد: من كل مكان مطرودين. فيقذفون مستأنف، وليس بمعطوف على يسمعون، لأنه نفي ويقذفون أيجاب. ثم قال: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي: وللشيطان من الله عذاب دائم، قاله ابن

عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد. وقال أبو صالح والسدي: " واصب " موجع. وعلى القول الأول أهل اللغة. ثم قال: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} مَنْ في موضع رفع على البدل من المضمر في " يسمعون "، أو في موضع نصب على الاستثناء من المنفي عنه السمع، والبدل أحسن. وقيل: هو في موضع نصب على الاستثناء من قوله: " ويقذفون "، لأنه إيجاب. ويجوز أن تكون في موضع (رفع) على معنى: لكن من خطف. ومعنى الآية: من استرق السمع من الشياطين. {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي: مضيء متوقد. ق ابن عباس: تحرقهم الشهب من غير موت ولا قتل.

قال السدي: يحرقه حين يرمى به. قال الضحاك: للشياطين أجنحة بها يطيرون إلى السماء. يقال: إذا أخذ الإنسان الشيء بسرعة خَطَفَه وخَطِفَهُ واخْتَطَفَهُ وتَخَطَفَه. وأصله: اختطفه، ثم أدغمت التاء في الطاء (وأُلْقِيَت حركتها على الخاء فاستغني عن ألف الوصل، ويقال: خطفه وأصله أيضاً اختطفه وأُدْغِمت التاء في الطاء) وحُذِفَتْ حركتها. ثم حُرِّكَت الخاء إلى الكسر لإلتقاء الساكنين واستغني عن ألف الوصل أيضاً، ويقال: خطفه على هذا التقدير، إلا أنه كسر الطاء اتباعاً لكسرة الخاء. أجاز يعقوب (أن نقف على:) " من كل جانب ". ومنعه غير لأنه قام مقام العامل في دحوراً. التمام " دحوراً ".

والشهب التي يرمون بها ليست من الكواكب الثابتة، لأنها نراها ونرى حركتها، فهي أقرب إلينا من الكواكب الثابتة، ولذلك لا نرى حركات الكواكب الثابتة، وهي تجري بلا شك، لكن لا يُرى جريها لبعدها منا. ثم قال (تعالى): {فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [أَم مَّنْ خَلَقْنَآ]} أي: سل يا محمد هؤلاء المشركين المنكرين للبعث، أهم أشد خلقاً أم من تقدم ذكره من الملائكة والسماوات والأرضين والجن؟. وفي قراءة ابن مسعود " (أَمْ) مَنْ عَدَدْنَا ". ثم قال (تعالى): {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} إي: لا حق علك، يعني آدم لأنه خُلِق من ماء وتراب و (نار) وهواء. والعرب تقول للذين يلزق هو لازب، ولازم، ولابث.

قال ابن عباس: اللازب الحر الجيد اللازق. وقال ابن جبير: اللازب الجيد. وقال قتادة: اللازب اللزق الذي يلتزق باليد. وهو قول ابن زيد. ثم قال (تعالى ذكره): {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي: عجبت يا محمد مما يأتون به من إنكارهم للتوحيد وللبعث، وهم يسخرون. ودليل إضافة العجب إلى النبي A قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]. فأما من ضم التاء فإنه أضاف العجب إلى الله جل ذكره، والعجب منه تعالى ذكره مخالف للعجب من عباده، لأن العجب من الخلق إنما هون أن يطرأ عليهم ما لم يكونوا يظنون فيعجبون منه، وهذا لا يضاف إلى الله لأنه

13

تعالى بجميع الأشياء، ولكن معناه (من الله) جل ذكره، بل جعلته عجباً ورأيت من أفعالهم ما يُتَعَجَّبُ منه وظهر منه عجب، ودليله قوله: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5]، أي: فقولهم مما يجب أن يعجب منه. وقيل: المعنى: قل يا محمد: بل عَجِبْتُ. فيكون مضافاً إلى النبي كفتح التاء. والمعنى على قول قتادة: عجب محمد من هذا القرآن حين أعطيه، وسخر منه الكفار. قوله (تعالى ذكره): {وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} إلى قوله {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ}. أي: وإذا ذُكِّرَ هؤلاء/ الكفار بالله وأياته وخُوِّفوا عذابه، لا يذكرون ولا يخافون، وإذا رأوا آية من آيات القرآن يهزؤون. ثم قال: {وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: وقال المشركون ما هذا الذي جئتنا به

إلا سحر مبين لمن تأمله ورآه أنه سحر. ثم قال: {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي: قالوا: أَنُبْعَث إذا كنا تراباً، وعظاماً في التراب. {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} أي: أَوَ يبعث آباؤنا الماضون، أَنْكَروا البعث فقال (الله) جل ذكره لنبيه. {قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} أي: قل يا محمد لهم: نعم تبعثون من قبوركم وأنتم صاغرون. ثم قال (تعالى): {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي: صيحة واحدة، وذلك هو النفخ في الصور. {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي: شاخصة أبصارهم/ ينظرون إلى ما كانوا يوعدونه من قيام الساعة. وقيل: " ينظرون " معناه: ينظر بعضهم بعضاً. وقيل: معناه ينتظرون ما يفعل بهم.

ثم قال: {وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين} أي: وقال هؤلاء المذكذبون بالبعث لما عاينوا ما كانوا يوعدون: يا ويلنا هذا يوم الجزاء والحساب - وقد تقدم ذكر معنى الويل -، فقالت لهم الملائكة: {هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: يوم القضاء بين الخلق. والوقف على: " الدين " حسن لأن ما بعده من قول الملائكة لهم. وأجاز أبو حاتم أن نقف على " يا ويلنا "، على أن يكون " هذا يوم الدين " وما بعده قول الملائكة لهم. ثم قال: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} أي: فيقال: اجمعوا الذين ظلموا في الدنيا وأشياعهم على الكفر بالله. {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} من دون الله من الأصنام والأوثان. قال ابن عباس: " وأزواجهم " نظراؤهم وأبتاعهم في الظلم. وقال قتادة وأبو العالية: (" وأزواجهم ") أشياعهم، الكفار مع الكفار. وقال ابن زيد: " وأزواجهم " في الأعمال. وقال مجاهد: " وأزواجهم " أمثالهم.

وقال عمر بن الخطاب Bهـ: الزاني مع الزاني، وشرب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقال أهل اللغة: أزواجهم قرناؤهم، (و) منه زوجت الرجل، (أي) قرنته بامرأته. ثم قال (تعالى): {فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} أي: فأرشدوهم ودولهم إلى طريق جهنم. والجحيم: الباب الرابع من أبواب النار. ثم قال (تعالى): {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} أي: واحبسوهم أيها الملائكة إنهم مسؤولون. روي عن ابن مسعود أنه قال: يقال لهم: هل يعجبكم ورود الماء؟ فيقولون: نعم، فيريهم جهنم وهي كهيئة السراب. وقيل: المعنى أنهم مسؤولون عما كانوا يعبدون من دون الله.

ثم قال: {مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} أي: لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم تعلمون في الدنيا. {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} أي: مستسلمون لأمر الله وقضائه، فهم موقنون بعذبه. ثم قال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ}. قال قتادة: أقبل الإنس على قرنائهم من الجن يتساءلون، قال الإنس للجن: {قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} أي: من قبل الدين (والحق) فتخدعوننا بأقوى الوجوه. واليمين: القوة والقدرة في كلام العرب. وقيل: معنى {(عَنِ) اليمين} من جهة إيماننا لأن إبليس اللعين قال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} [الأعراف: 17]. فمن أتاه الشيطان

(من) عن يمينه أتاه من قبل الذين فيلبس عليه الحق، ومن أتاه (من) عن شماله أتاه من جهة الشهوات، ومن اتاه من بين يديه أتاه من جهة التكذيب بالجزاء والبعث، ومن أتاه من خلفه أتاه من جهة الفقر على نفسه وعلى من يخلفه بعده. وعن اليمين: من قبل الدين أيضاً. (وهو أيضاً) قول مجاهد والسدي وابن زيد. وقال قتادة أيضاً: " عن اليمين ": من قبل الخير فتنهوننا عنه. وقال السدي: " عن اليمين ": من قبل الدين، به يزينون لنا بالباطل ويصدوننا عن الحق. وليس هذا بمناف لقوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [الأنبياء: 10]، لأن معنى هذا: لا يتساءلون بالأنساب والأرحام

كما كانوا في الدنيا فيقول بعضهم لبعض: أسألك بالله والرحم. وقيل: معنى قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} عنى به المشركين، يقول بعضهم لبعض: كنتم تأتوننا عن اليمين، أي: من الجهة التي نحبها ونتفاءل بها. والعرب تتفاءل/ بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقل: معنى: تأتوننا إتيان من إذا حلف لنا صدقناه. فأجابوهم فَقَالُوا (لهم) {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: مقرين بتوحيد الله. {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي: من قدرة ولا حجة فنصدكم بها عن الحق والإيمان، {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ} (أي طاغين) على الله، متعدين إلى ما ليس لكم بحق (من) معصية الله.

قال قتادة: هو من قول الجن للإنس. ثم قال (تعالى): {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ} أي: فوجب علينا/ عذاب ربنا إنا لذائقون نحن وأنتم العذاب، هذا خبر من الله جل ذكره عن قول الجن والإنس. ثم قال: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي قالت الجن للإنس: فأضللناكم عن الحق بالوسوسة والاستدعاء والتزيين، أو كنا ضالين. قال الله جل (ثناؤه) وذكره: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي: كما اشتركوا في الدنيا في الكفر بالله والضلال، كذلك يشتركون في الآخرة والعذاب. قال ابن زيد: اشترك المشركون والشياطين في عذاب جهنم. ثم قال (تعالى): {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي: يقول الله جل ذكره: إنا هكذا نفعل بالذين اكتسبوا الكفر والمعاصي في الدنيا، ثم بَيَّنَ أَنّ مِنْ كُفرهم أنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، يستكبرون، أي: إذا قيل لهم في الدنيا: قولوا لا إله إلا الله، يستكبرون عن قولها، أي: يتعظمون، وحذفت قولوا لدلالة الكلام عليها. قال السدي: يعني بذلك المشركين خاصة.

قال عمر بن الخطاب: احضروا موتاكم ولقنوهم: لا إله إلا الله، فإنهم يرون ويسمعون. ثم قال (تعالى): {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أي: وكانوا في الدنيا - يعني المشركين - (يقولون): أنترك عبادة الأصنام والأوثان، لما يأمر به شاعر مجنون من أن نقول: لا إله إلا الله، يعنون بذلك محمداً A. قال الله جلَّ ذكره: {بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} أي: بل جاء محمد A بالحق ولم يأت بشعر، وصَدَّقَ بما جاء به المرسلون، أي: كتبهم، لأن في كتب المرسلين قبله أنه سيبعث بكتاب من عند الله، وفي ما جاء به محمد ذكر المرسلين وتصديقهم بما أتوا به من كتب. ثم قال (تعالى): {إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم} أي: إنكم أيها القائلون

لمحمد A: ( شاعر مجنون، والمتعظمون عن قول: لا إله إلا الله)، لذائقوا العذاب الموجع في الآخرة. {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ثواب عملكم في الدنيا. ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم يوم خلقهم لرحمته، فإنهم لا يذقون العذاب الأليم. ومن قرأ بكسر اللام فمعناه: إلا عباد الله الذين أخلصوا له العمل والتوحيد. ثم قال: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ}. قال قتادة: هو الجنة. وقيل: هو الفواكه التي خلقها (الله) لهم في الجنة. ثم قال: {فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النعيم} أي: الرزق المعلوم كونهم ذوي فواكه وإكرام الله لهم بكرامته في جنات (النعيم).

45

قال مالك بن دينار: بلغني أن جنات النعيم بين جنان الفردوس وبين جنان عدن، وأن فيها جواري خلقن من وَرْدِ الجنة، وأن سكانها (الذين) إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمة الله فراقبوه، والذين تنثني أصلابهم من خشية الله، والذين يجوعون ويعطشون من مخافة الله، وأنه يصرف العذاب عن الناس بهم. ثم قال: {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي: بعضهم يقابل بعضاً، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض والسرر جمع سرير. قوله (تعالى ذكره): {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} إلى قوله: {مِنَ المحضرين}. أي: يطوف عليهم الخدم بكأس من خمر جارية، قاله قتادة وغيره. وحكى أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم

يكن فيه خمر فهو قدح. وقال بعضهم: كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فهو إناء. كذلك الخِوَانُ إذا كن عليه طعام قيل له مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام قيل له خوان. ومثله الهودج يقال له: إذا كانت فيه امرأة، فإذا لم تكن/ فيه قيل له هودج. قال الضحاك: / كل كأس في القرآن فهو خمر. وهو قول السدي. وقال ابن عباس: هو الخمر. وقال مجاهد: هي خمر بيضاء. قال الزجاج: " من معين " أي: تجري كما تجري العيون في الأرض.

وقوله: {بَيْضَآءَ}: يعني به الكأس، وهو مؤنثة، {لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي: ذات لذة والمعنى: يلتذ بها شاربها. ثم قال (تعالى ذكره): {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي: لا تغتال هذه الخمر عقل شاربها كما تفعل خمر الدنيا. وقال ابن عباس: " لا فيها غول " (أي): ليس في الخمر صداع. وعنه: ليس فيها وجع بطن. وكذلك قال مجاهد. وقال ابن زيد: ليس فيها وجع البطون، وشاب الخمر يشتكي بطنه. وقال السدي: لا تغتال عقولهم.

وقال ابن جبير: لا فيها أذى ولا مكروه. وقيل: معناه: لا فيها إثم. وذكر الليث: أن ابن عباس أشكل عليه تفسير الغَوْل حتى سمع إعرابياً يقول لصاحبه: إني لأجِدُ في بطني غَوْلاً فقال ابن عباس: جاءت والله (الغَوْل): الوجع يجده في بطنه. ثم قال (تعالى): {هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} من فتح الزاي فمعناه لا تذهب عقولهم. قاله ابن عباس ومجاهد والسدي. وقال قتادة: لا تغلبهم على عقولهم. تقول العرب: نُزِفَ الرَّجُلُ فهو مَنْزُوف إذا ذهب عقله، (ونزف دم فلان إذا ذهب). فنفى الله جل ذكره عن خمر الجنة

الآفات من الصداع والسكر اللذين يحدثان من خمر الدنيا. فأمّا من قرأ بكسر الزاي، فمعناه: لا يفنى شرابهم. يقال أَنْزَف الرجل إذ نفد شرابه. وحكى الفراء: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وأَنْزَفَ إذا ذهب عقله. فيكون على هذا القول الأخير كقراءة من فتح الزاي. ثم قال (تعالى ذكره): {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ} أي: وعندهم حور قصرن طرفهن على الأزواج فلا يبغين غيرهم، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي. قال عكرمة: " قاصرات الطرف " أي: محبوسات على أزواجهن. وقال ابن زيد: " قاصرات الطرف " (لا ينظرن إلا) إلى أزواجهن، ليس كما يكون نساء أهل الدنيا.

وقوله: {عِينٌ}: يعني به النُّجْل العيون لعظامها، وهو جمع عَيْناء، والعيناء المرأة الواسعة العين العظيمة العين، (وهي) أحسن ما يكون من العيون. وسألت أم سلمة Bها النبي A فقالت: " يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: " وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ "، (قال): " العِينُ: الضِّخَامُ العُيُونِ (شَفَرُ) الحَوْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَنَاحِ النَّسْرِ ". وقال (تعالى): {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}. قال ابن جبير: كأنهن بطن البيض. يريد: أنه شبههن في بياضهن ببطن البيض. وقال السدي: كأنهن البيض حين يقشر قبل أن تمسه الأيدي. وهو قول

قتادة. وهو اختيار الطبري، شبهن ببياض البيضة قبل أن تمسه الأيدي، إذهن لم يمسسهن قبل أزاجهن إنس ولا جان، فَشُبِّهْن في صفاء اللون (وبياضه) (و) في صيانتهن ببياض البيضة في قشره، وبياض البيض عند الطبري هو القشر الرقيق الذي على البيضة من داخل القشر. وروي أن النبي A قال لأم سلمة، إذ سألته عن ذلك: " رِقَّتُهُنَّ كَرِقَّةِ الجِلْجَةِ التِي رَأيتَهَا فِي دَاخِلِ البَيْضَةِ التِي تَلِي القِشْرَةَ وَهِيَ الغِرْقِىءُ ". وقال ابن زيد: كأنهن البيض الذي يكنه الريش مثل بيض النعام، فهي

إلى الصفرة تبرق. وقال ابن عباس: " كأنهن بيض مكنون " يعني: اللؤلؤ المكنون في الصدف. ثم قال (تعالى): {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي: أقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، قاله قتادة وابن زيد. ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا في مساءلتهم: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَءِذَا مِتْنَا [وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ]}. [فقوله: " إنا لمدينون " جواب للاستفهامين في قوله: " أنَّكَ لمن المصدقين إإذا متناً "]. أي: قال قائل من أهل الجنة إني كان لي صاحب ينكر البعث بعد الموت ويقول لي: أتُصَدِّقُ بأنك تبعث بعد أن تكون عظاماً ورفاتاً، وتجزى بعملك؟ هذا معنى قول ابن عباس. وقال مجاهد: القرين كان شيطاناً/.

قال ابن عباس: لما صار المؤمن إلى الجنة ذكر ذلك فرأى صاحبه في سواء الجحيم، أي: في وسطه، قال: {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ}. أي: والله إنك قاربت أن تهلكني لو قبلت/ منك، ولولا نعمة ربي إذ ثبتني على الإيمان لكنت من المحضرين معك في النار. وروي أنه كان شريكان، وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر: ليس عندك حرفة ولا أراني، إِلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه. ثم إن الرجل صاحب الحرفة اشترى داراً بألف دينار كانت لِمَلِكٍ مَاتَ، فدعا صاحبه الذي لا حرفة له فأراه الدار، وقال: كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال: ما أحسنها. فلما خرج قال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، فَتَصَدَّقَ بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم تزوج امرأة بألف دينار، ثم دعا الذي لا حرفة معه وصنع له

(طعاماً) فلما أتاه قال: إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار، (فقال: ما أحسن هذا! فلما انصرف قال: يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار وإني أسألك امرأة من الحور العين، فَتَصَدَّق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه) فأراه ذلك، وقال: إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار، (قال: ما أحسن هذا! فقلما خرج قال: يا رب إن صاحبي هذا اشترى بستانين بألفي دينار)، وإني أسألك بستانين من الجنة، فتصَدَّقَ بألفي دينار، ثم إن المَلَك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دار مُعْجبة فإذا امرأة تطلع يضيء منها ما تحتها من حُسْنَها ثم أدخله بستانين وشيئاً الله (به) عليم، فقال المتصدق عند ذلك: ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا، قال: فأنت ذلك ولك هذان البستانات والمرأة. قال: فإنه كان لي صاحب يقول: أئنك لمن المصدقين؟ قيل له: فإنه في الجحيم، فقال: هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال عند ذلك: " تَاللهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلاَ نَعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مَنَ المُحْضَرِينَ " أي: المحضرين في النار معك. ذكر

هذه الحكاية بن ثعلبة البهراني. وهو تأويل يوجب أن تكون القراءة: من " المُصَّدِقينَ " بالتشديد للصاد من الصدقة. وقراءة الجماعة إنما هي من التصديق بالحساب والبعث والمجازاة بالأعمال. وقال ابن عباس: " لمدينون " لمجازون بالعمل. وقال مجاهد: لمحاسبون. قال قتادة: سأل ربه أن يطلعه (فأطلعه) فأطلع فرأى صاحبه في وسط النار.

قال مطرف بن عبد الله: لولا أن الله عَرَّفه به ما عرفه لتغير حبره وسبره بعده. وروي أنه أطلع فرأى جماجم القوم تغلي. وروى ابن المبارك عن معمر عن عطاء الخرساني مثل الحكاية بعينها إلا أن فيها اختلاف ألفاظ، قال كان رجلان شريكان بينهما ثمانية ألاف دينار فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى داراً بألف دينار وأرضاً بألف دينار، وتزوج امرأة بألف دينار واشترى أثاثاً بألف، فقال الآخر: اللهم إني أشتري منك في الجنة داراً وأرضاً وامرأة وأثاثاً بأربعة ألاف دينار، ثم تصدق بها كلها، ثم احتاج فتعرض لشريكه أن ينيله مما عنده، فقال له: أين مالكظ فأخبره بما فعل، فقال له: وإنك لمن المصدقين بهذا، اذهب فوالله لا أعطيك شيئاً. وطرده فنزلت فيهما (هذه) الآيات، فتذكر المتصدق أمر

شريكه وهو في الجنة فاطع ليراه في وسط الجحيم. قال قتادة: رأى جماجم (القوم) تغلي. قال ابن المبارك: وبلغنا أنه سأل به أن يطلعه عليه. قال أبو محمد مؤلفه (نضر الله وجهه) نقلت معنى الحكاية واختصرت بعض لفظها. ويروى أن الله جل ذكره جعل بين أهل الجنة وأهل النار كِوىً ينظر إليهم أهل الجنة إذا أحبوا ليعلموام قدر ما أنجاهم الله منه وقد ما أعطاهم، ودل على ذلك قوله (تعالى): {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} أي: أطلع من الكوى فرآه في وسط الجحيم.

58

قوله (تعالى ذكره): {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا/} إلى قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين}. أي: قال المؤمن ليس نحن بميتين إلا موتتنا/ (الأولى في الدنيا). {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} قال ذلك سروراً منه واغتباطاً منه بما أعطاه الله من كرامته. ثم قال: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي: إن ما أعطانا الله من أنا لا نعذب ولا نموت لهو النجاء العظيم. قال قتادة: هذا قول أهل الجنة. {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي: لمثل هذا الذي أُعْطِيَ هذا المؤممن من الكرامة في الآخرة فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون. قال قتادة: آخر كلام المؤمن: " لهو الفوز العظيم "، ثم قال الله جل ذكره: " لمثل هذا فليعمل العاملون ". ثم قال (تعالى ذكره): {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} أي: الذي تقدم من ذكر النعيم للمؤمنين خير أم ما أعد الله لأهل النار من الزقوم. والنزول: الرزق

الذي له سعة، ومعناه في الأصل: أنه الطعام الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه. ولما ذكر الله هذه الآية، قال المشركون: كيف ينبت الشجر في النار، والنار تحرق الشجر؟ فقال الله جل ذكره: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} يعني المشركين الذين قالوا في ذلك ما قالوا، ثم أخبرهم الله بصفة هذه الشجرة، فقال (جل ذكره): {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم}. قال قتادة: غُذِّيت بالنار ومنها خُلِقت. قال السدي: قال أبو جهل لما نزلت هذه الآية: إن شرجة الزقوم: أتعرفونها في كلام (العرب)؟ أنا آتيكم بها، فدعا جاريته فقال: إيتني بزبد وبتمر، فقال: دونكم تزقموا فهذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد A، فأنزل الله تعالى ذكره تفسير هذا: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً} إلى آخر الآيات. فالظالمون هنا أبو جهل

وأصحابه. وهي مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد وشدة، فقيل لها شجرة الزقوم أنهم يتزقمونها (أي) يبتلعونها من شدة جوعهم، فيبتلعونها على جهد وتقف على حلوقهم يختنقون بها لخشونتها ومرارتها وكراهتها ونتنها فيتعذبون بها على أن تصل إلى أجوافهم فيملؤون بطونهم من ذلك من شدة الجوع ثم لا ينفعهم ذلك ولا يجدون له نفعاً ولا لذة. ثم قال (تعالى ذكره): {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} أي: طلعها في قبحه وسماجته كرؤوس الشياطين، وهذا تمثيل لأنهم لم يكونوا يرون الشياطين، ولكن من شأن العرب أنها إذا بلغت في صفة القبح والسماجة قالت: كأنه رأس شيطان، فخوطبوا بما يعقلون وما يجري بينهم ويفهمون. وقيل: بل مُثِّل لهم الطلع بما يعرفون، وذلك أن ضرباً من الحيات قباح الصور والمناظر يقال لها شيطان، فشبهت لهم الطلع (بذلك).

(وقيل): الشياطين نبت باليمن قبيح المنظر، يقال له: الأَسْتَنُ والشيطان شبه الطلع به، وطلعها ثمرها كأنه أول ما يخرج. ثم قال (تعالى): {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا} أي: فإن هؤلاء المشركين لآكلون من هذه الشجرة فمالئون منها البطون، ثم إن لهم على ما يأكلون منها لشوباً من حميم، أي: خلطاً من ماء قد انتهى حره. وحميم فعيل مصروف عن مفعول، والشوب مصدر شاب طعامه إذا خلطه يشوبه شَوْباً وَشَابَةً وَشِيَاباً. وقال ابن عباس: لشوباً لمزجاً. وقال قتادة: لمزاجاً.

وقال السدي: حميم يشاب لهم بغساق بما يغسق أعينهم وصديد من قيحهم ودمائهم. ثم قال (تعالى): {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم}. قال قتادة: فهم (في) عناء وعذاب من نار جهنم، وتلا: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيم - انٍ ". قال بعض المفسرين: هذا النص يدل على إنهم في وقت أكلهم للزقوم وشربهم للحميم ليسوا في النار المتوقدة، هم في عذاب آخر، ثم يردون إلى الجحيم، والجحيم النار المتوقدة. قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثم تلا: " أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمّئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ". ثم قال (تعالى): {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} أي: وجودهم على الضلال

والكفر بالله وعبادة الأصنام. {فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي: فهم مسرعون في اتباع ما كان عليه أباؤهم من الكفر. قال مجاهد/ وقتادة: {يُهْرَعُونَ} يسرعون. وقال ابن زيد: يستعجلون. قال (الفراء: الإهراع: الإسراع فيه شبيه) بالرعدة. قال المبرد: المُهْرَعُ المُستحث. يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها. وحكى الزجاج: هُرِع وأُهْرِع/ إذا استُحث وأزعِج، كأنهم يزعجون من الإسراع إلى اتباع آبائهم.

ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} أي: ولقد ضل عن الإيمان والرشد قبل مشركي قريش أكثر الأمم الخالية. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي: في الأمم الخالية رسلاً منذرين تنذرهم بأس الله وعقابه على الكفر والتكذيب، فكذبوهم، وحذف فكذبوهم لدلالة الكلام عليه. ثم قال: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي: فَتَأَمَّل يا محمد كيف كان عقابة الأمم الذين قبلك إذ كَذَّبوا رسلهم كيف أهلكهم الله فصيرهم عبرة لمن اغتر وعظة لمن اتعظ. ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا من آمن بالرسل من الأمم فأخلص لله العمل والإيمان بما جاء به الرسل. هذا على قراءة من كسر اللام. ومن فتحها

فمعناه: إلا من آمن بالرسل، وأخلصه الله في سابق علمه الإيمان والتصديق فوفقه له. ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون} أي: نادى فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، وبقوله: {دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح: 5] وما بعده، فلنعم المجيبون كنا له إذ دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه. {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي: من الأذى والمكروه الذي كان فيه (من الكافرين) من قومه. وقيل: من الطوفان والغرق قاله السدي. ثم قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} أي: هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، وذلك أن الناس كلهم من ذرية نوح بعد الغرق. قال ابن المسيب: فجميع الخلق من ذرية سام وحام ويافت.

[ورواه سمرة بن جندب عن النبي A قال: " هُمُ البَاقِينَ " هم حَام وسَام ويَافت] ". فالعرب كلهم والروم والفرس من ولد سام، وجميع أجناس السودان من السند والهند والزغاو النؤبة وغيرهم من البربر من ولد حام، والصقالية والترك ويأجوج ومأجوج من ولد ثافت، والخير في ولد سام ". ثم قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين}. قال قتادة: أبقى الله عليه الثناء (الحسن) في الآخرين، وهو قول السدي. وقيل: في " الآخرين ": أمة محمد A، لأنها آخر الأمم فهي تثني على نوح

وتصلي عليه وتترحم عليه. ثم قال (تعالى): {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين} أي: يقال: سلام على نوح، (أي): أبقينا عليه في الآخرين أن يقال ذلك، يعني أن في أمة محمد A، ولذلك رفع " سلام " لأنه محكي. وقيل: التقدير: " في الآخرين " تم الكلام، ثم ابتدأ " سلام " على نوح ابتداء وخبر. وفي حرف ابن مسعود: " سَلاماً " بالنص، أعمل فيه تركنا فنصبه، ومعناه في الرفع أمنة من الله لنوح في العالمين أن يذكره أحد بسوء. قال أبو إسحاق معناه: وتركنا عليه أن يُصلى عليه إلى يوم القيامة. وقل: (معناه): أبقينا (عليه) الثناء الحسن في الآخرين. ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: إنا كما فعلنا بنوح ومن آمن معه

83

كذلك نجزي من أحسن فآمن بالله وصدق الرسل. ثم قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: إن نوحاً من الذين صدقوا وأخلصوا العبادة لله والتوحيد له. ثم قال: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} أي: بعد أن أنجينا نوحاً ومن آمن معه إغرقنا الذين بقوا بعده ممن كفر به وكذبه. قال قتادة: أنجاه الله ومن معه في السفينة وأغرق بقية قومه. قوله (تعالى ذكره): {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}. أي: من تُبَّاع نوح وعلى منهاجه لإبراهيم. قال ابن عباس: {مِن شِيعَتِهِ}: ومن أهل دينه. وهو معنى قول قتادة ومجاهد.،،،،

فالهاء تعود على نوح. وقال الفراء: الهاء لمحمد A، أي: وإن من شعية محمد لإبراهيم، وهو عنده مثل: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] يعني ذرية من سبقهم. ثم قال: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. أي: من الشركة، قاله مجاهد وقتادة. وقال عروة بن الزبير: لم يلعن شيئاً قط. وقال ابن سيرين: القلب السليم الناصح لله في خلقه. وقيل: / القلب السليم الذي يحب للناس ما يحبه لنفسه/، قد سلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلم لله بقلبه ولسانه ولا يعدل به غيره. ثم قال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} أي: أَيّ شيء تعبدون. {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ} أي: أكذاباً معبوداً غير الله تعبدون، والإفك،،

منصوب بـ " تريدون "، و " آلهة " بدل منه. قال المبرد: (الإفك) أسوأ الكذب. ثم قال: {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} أي: أَيّ شيء تظنون بربكم أيها القوم أنه يصنع بكم أن لقيتموه وقد عبدتم غيره، قاله قتادة. ثم قال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم}. ذُكِرَ أن قوم إبراهيم A كانوا أهل نجوز وكانوا يهربون من الطاعون، فطمع أن يتركوما بيت آلهتهم ويخرجوا فيخالفهم إليها فيكسرها، فرأى نجماً قد طلع فعصب رأسه (وقال إني مطعون). قال ابن عباس: قالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج معنا، فقال: إني مطعون، وتركوه مخافة الطاعون.

وقال الضحاك: تركوه لما قال إني مطعون مخافة أن يعديهم. وقال ابن زيد: أرسل إليه ملكهم أن غداً عيدنا فاحضر معنا. قال: فنظر نظرة إلى النجوم، فقال: إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي، فقال: إني سقيم. قال ابن عباس: " سقيم ": مريض. وقال الحسن: " فنظر نظرة في النجوم ". أي: فكر فيما يعمل إذا كلفوه الخروج، فالمعننى على هذا القول: فنظر نظرة فيما نجح له من الرأي، أي: فيما طلع له. يقال نَجَمَ القول والنَّبْتُ إذا طلعا. أي: فكر فعلم أنه لا بد لكل حي أن يسقم، فقال: إني سقيم. قال الخليل: يقال للرجل إذا فكر في الشيء كيف يدبره: نظر في النجوم. وقيل: المعنى: فنظر فيما نجم من الأشياء، أي: طلع منها، فعلم أن لها خلقاً

ومدبراً، (وعلم) أنها تتغير، وعلم أن ذلك يلحقه، فقال: إني سقيم. فتكون النجوم في هذين القولين مصدراً. (و) على القول الأول جمع نجم. وقيل: إنهم كانوا يعرفون أن نجماً إذ طلع يطلع بالطاعون، فكان إذا طعن رجل منهم هربوا منه، فطلع ذلك النجم، فقال إبراهيم: إني سقيم، أي: مطعون، فهربوا منه، وكان غلاماً أمرد، فهو معنى قوله: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ}. وقيل: إنه كان يُحَمُّ في ساعة قد اعتاده ذلك، فنظر في الأوقات، (وقت) الساعة التي تأتيه الحُمى فيها، فوجدها تلك الساعة التي دُعِي إلى الخروج معهم إلى جمعهم فقال: إني سقيم. أي: إن هذه الساعة أسقم فيها بالحمى التي اعتادتني، فجعل ذلك علة لتخلفه عنهم، وكان فيما قال صادقاً، لأن الحمى كانت تأتيه في ذلك الوقت، فكان قد أضمر كسر أصنامهم إذا تخلف بعدهم وغابوا ففعل ذلك. وقيل: معنى قوله: " إني سقيم " أي: سأسقم لأن من كان في عقبه الموت سقيم،

وإن لم يكن في وقته ذلك سقيماً قال تعالى ذكره لنبيه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]. أي: ستموت ويموتون. وقيل: إن ذلك (من) إبراهيم كان تحيلاً عليهم في ذات الله. وروي عن النبي A أنه قال: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام غَيْرَ ثَلاَثِ كَذِبَاتٍ، اثْنَتَيْنِ فِي ذَاتِ الله ": قوله: " إِنّي سَقِيمٌ "، وقوله: " بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا "، وقوله في سارة: " هِيَ أُخْتِي ". ثم قال: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي: مضوا عنه خوفاً أن يعديهم السقم الذي ذكر أنه به، وذلك أنهم كانوا يفرون من الطاعون.

ثم قال: {فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ} إي: مال إليها بعدما خرجوا عنه، {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ}. في الكلام معنى التعجب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فقرب إليها طعاماً فلم تأكل، فقال لها: ألا تأكلون، فلم تجاوبه، فقال: ما لكم لا تنطقون؟ مستخفاً بها مستهزئاً. وقيل: إنهم جعلوا لآلهتهم الطعام قبل أن ينصرفوا عنه، فلما انصرفوا ورآها لا تأكل قال: ألا تأكلون، فلما لم تكلمه قال: ما لكم لا تنطقون؟ وإنما خاطبها مخاطبة من يعقل، لأنهم أجروها في العبادة وجعل الطعام لها مجرى من يعقل. ثم قال: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين}. روي أنه أخذ فأساً/ فضرب بها حافتيها ثم علقها في عنق [أكبرها/. و {باليمين}: بالقوة. وقيل: باليمين: بقسمه في قوله: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] بعد أن تولوا مدبرين، فبر بيمينه بفعله.

وقال (ابن) عباس: جعل يضربها بيمينه، ليقيم عليهم الحجة بأن الأصنام إذا كانت لا تنفع أنفسها فتدفع الضر عن أنفسها فهي أبعد من ألا تنفع غيرها، فعبادة من لا ينفع نفسه ولا غيره من أعظم الخطأ وأبينه. ثم قال: {فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي: يمشون سراعاً. يقال: زَفَّ يَزِفُّ زَفِيفاً، إذ أسرع، وأصله من زفيف النعام، وذلك أول عدوه. قال ابن زيد: " يزفون ": يستعجلون. ومن قرأ بضم الياء فمعناه: جعلوا أنفسهم يسرعون. يقال: أطردت الرجل أي: صيرته إلى ذلك، وطردته: نحيته. فيكون المعنى:

وجاء على هذه الهيئة بمنزلة المزفزفة على هذه الحال. وقد أنكر أبو حاتم هذه القراءة، وأجازها غيره على هذا التأويل. (وقرئت) " يَزِفُونَ " بالتخفيف، لغة بمعنى يسرعون، يقال: وَزَفَ يَزِفُ إذا أسرع. ولم يقرأ بها الفراء ولا الكسائي. وقيل: معنى يزفون: يمشون بجمعهم في رجوعهم مشياً على مهل، لأنهم كانوا آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بضر. ثم قال (تعالى): {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}. في (هذا) الكلام حذف، والتقدير: قالوا له: لِمَ كسرتها؟ قال: أتعبدون، أي:

قال إبراهيم لقومه: أتبعدون ما تنحتون بأيديكم من الأصنام، والله خلقكم وعملكم. وأجاز النحويون أن تكون ما بمعنى الذي، وأن تكون وما بعدها مصدراً، وهو أحسن. وأجازوا أن تكون نافية بمعنى: وما تعملون شيئاً ولكن الله خالقه. ثم قال (تعالى): {قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم}. الجحيم عند العرب جمر النار بعضه على بعض، والنار على النار. يقال رأيت حجمه النار، أي تلهبها. والمعنى: أنه لما أقام عليهم الحجة في عبادتهم ما لا ينفع ولا يضر لم يجدوا لحجته مدفعاً، فتركوا جوابه، وقالوا: ابنو له بنياناً فألقوه في الجحيم، فعملوا ناراً عظيمة لا يقدر أحد أن يتقرب منها لشدة حرها، فاحتالوا (له) في رميه فيها فعملوا

المنجيق ورموه فيها، فجعلها الله بردا وسلاماً على إبراهيم. وقد مضى تفسير هذه في " سورة الأنبياء " بأشبع من هذا. ثم قال (تعالى): {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} أي أراد قوم إبراهيم عليه السلام به كيداً، وهو طرحهم إياه في النار. قال الله جل ذكره: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين} أي: الأذلين حجة، فلم يضره ما فعلوا به. ثم قال (تعالى): {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: وقال إبراهيم بعد أن نجاه الله من كيد قومه وأعلى حجته عليهم، إني مهاجر إلى ربي من بلد قومي إلى الأرض المقدسة. وقال قتادة: معناه: ذاهب إلى ربه بعقله وقلبه ونيته. وقيل: إنما قال ذلك حين أرادوا أن يلقوه في النار.

وروي أن النار (لما) لم تضره قال ابن لوط أو ابن أخي لوط: إن النار لم تحرقه من أجلي، وكان بينهما قرابة، فأرسل الله D ( عنقاً من النار) فأحرقته. ثم قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين} أي: هب لي ولداً صالحاً من الصالحين. قال الله جل ذكره: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ}. أي: حليم إذا كبر، وهو إسحاق في قول عكرمة وقتادة. وهو قول ابن مسعود وكعب. وقال أبو هريرة وابن عمر والشعبي وابن جبير ومجاهد: هو إسماعيل، واختلف في ذلك عن ابن عباس.

102

قال قتادة: لم يثن الله على أحد بالحِلْم غير إبراهيم وإسحاق. وذكر ابن وهب عن عطاء بن أبي رباح: أن عبد الله بن عباس قال: المُفْدَى إسماعيل. وزعمت اليهود أنه إسحاٌ، وكذبت اليهود، وقد ذكرنا الاختلاف في الذبيح بحجج كل فريق في كتاب مفرد فلم نعده هنا لطوله. قوله (تعالى ذكره): {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}. قال ابن عباس: السعي العمل. وقال مجاهد: لما شب حتى أدرك سعيُه سَعْيَ [على] إبراهيم في العمل. وقال قتادة: لما مشى مع إبراهيم. وقال ابن زيد: السّعي هنا العبادة.

ثم قال/: {يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: سأذبحك. روي أنه أُمِرَ في المنام بذبحه. وذكر أنه حين بُشِّرَ به نذر أن يجعله إذا وُلِدَ له ذبيحاً. فلما وُلِدَ وبلغ (معه) السعي - مع أبيه -، أُري في المنام فقيل له: فد الله بنذرك. ورؤيا الأنبياء يقين. قال السدي: لما قال جبريل/ A لسارة أبشري بولد إسمه إسحاق، ضرب وجهها عجباً، وقالت: أألد وأنا عجوز، وهذا بعلبي شيخاً، إن هذا لشيء عجيب، فقالت سارة لجبريل A: ما آية ذلك؟ فأخذ جبريل عليه السلام عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتز خضرة، فقال إبراهيم: هو الله إذاً ذبيحاً، فلما كبر إسحاق أتي إبراهيم في النوم، فقيل له: أوْفِ لله بنذرك الذي نذرت، إن الله رزقك غلاماً من

سارة، فقال لإسحاق: انطلق نقرب قرباناً إلى الله D، وأخذ سكيناً وحبلاً، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ قال: با بني إني رأيت في المنام أني أذبحك فانظر ما ترى؟، {قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين}. ثم قال له إسحاق: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لاينضح عليها من دمي بشيء فتراه سارة فتحزن، وأسرِع مر السكين على حلقي ليكون أهون للموت علي، فإذا أتيت سارة فاقرأ عليها من السلام، فأقبل عليه أبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي، حتى استنقع الدموع تحت خد إسحاق، ثم إنه جر السكين على حلقه فلم تحك السكين، وضرب الله صفحة من نحاس (على حلق إسحاق)، فلما رأى ذلك ذوب به على جبينه وحز في قفاه، فذلك قوله (تعالى): {فَلَمَّا أَسْلَمَا} (أي): أسلما الأمر لله ورضيا بالذبح، الذابح والمذبوح، وتله: صرعه. والجبين: ما عن يمين الجبهة و (عن) شمالها. قال قتادة: تله: كبه وحول وجهه إلى قفاه.

قال ابن عباس: كبه على جبهته. (قال السدي): فنودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بالحق، فالتفت فإذا بكبش فأخذه وخلى عن ابنه، وأكب على ابنه يقبله، وهو يقول: اليوم يا بني وُهِبْتَ لي، فهو قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فرجع إلى سارة فأخبرها الخبر فجزعت، وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني. قال عكرمة في معنى {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}: قال له الغلام: (يا أبت) اقذفني للوجه كي لا تنظر إلى وجهي فترحمني [وأنظر أنا إلى الشفرة فأجزع. قال مجاهد: " وتله للجبين " وضع وجهه على الأرض]، فقال له: يا أبت لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني، فلا تحن علي، اربط يدي إلى

(المرفقين)، ثم ضع وجهي في الأرض. ومن قرأ (تَرَى) بفتح التاء والراء، فمعناه: ماذا عندك من الرأي فيما قلت لك، على معنى الامتحان لإسحاق، لا (على) معنى الاستشارة له في أمر الله. ومن ضم التاء، فمعنى قراءته: ماذا ترى [من صبرك أو جزعك. وقيلأ: معنى الكلام: ماذا] تشير، امتحاناً له. وغلط أبو عبيد وأبو حاتم في هذا فجعلاه من رؤية العين، وليس كذلك،

إنما هو في معنى الرأي. تقول أريت فلاناً الصواب وأريته رشده. قال ابن عباس: إن الله لما أمر ابراهيم بالمناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسبقه إبراهيم، ثم ذهب به جبريل A إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرمى بسبع حصيات حتى ذهب، [ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب]. ثم تلّه للجبين وعلى إسماعيل قميض أبيض، فقال (له): يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غير هذا، فاخلعه عني فكفني فيه، فالتفت إبراهيم A فإذا بكبس أعين أبيض أقرن فذبحه.

قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبعُ هذا الضرب من الكباش. وجواب لما محذوف، والتقدير: فلما أسلما سُعِدَا وأجزل لهما الثواب. وقال الكوفيون: الجواب: ناديناه، والواو زائدة. وقوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} التي أريناك في منامك أن تذبح ولدك. ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: كما خلصنا الذبيح والذابح من الشدة والكرب، كذلك نخلص من أحسن بالعمل الصالح من الشدة والكرب. ثم قال: {إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} إي: إن أمرنا لك بذبح ابنك لهو الاختبار الظاهر. وقال ابن زيد: / البلاء في هذا الموضع الشر والمكروه. وقيل: المعنى: إن هذا الفداء الذي فديناه به من الذبح لهو النعمة الظاهرة. وقيل: لا يقال في الاختبار إلا الابتلاء. يقال أبلاه الله إذا أنعم عليه أو

امتحنه وبلاه إذا اختبره. والذِّبْح بالكسر المذبوح، والذَّبح بالفتح المصدر. وقال كعب الأحبار/: لما أري ابراهيم A [ ذبح إسحاق قال الشيطان] [والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم] لا أفتن منهم أحداً أبداً (فتمثل الشيطان لهم رجلاً يعرفونه، فأقبل حتى خرج إبراهيم بإسحاق ليذبحه، دخل على سارة، فقال لها: (أين أصبح) إبراهيم غادياً بإسحاق؟ قالت سارة: غدا لبعض حاجته. قال

الشيطان: (لا) والله ما لذلك غدا، قالت سارة: فَلِمَ غدا به؟ قال: غَدَا بِهِ ليذبحه، قالت سارة: ليس من ذلك شيء، لم يكن ليذبح ابنه، قال الشيطان: بلى والله. قالت سارة: فَلِمَ يذبح؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فهذا أحسن أن يطيع ربه إن كان أمره بذلك. فخرج الشيطان من عند سارة حتى أدرك إسحاق، وهو يمشي على إثر أبيه، فقال له: أين أصبح أبوك غادياً بك؟ قال: غدا بي لبعض حاجته، قال الشيطان: لا والله ما غدا بك لبعض حاجته، ولكنه غدا بك ليذبحك، قال إسحاق، ما كان أبي ليذبحني، قال: بلى، قال: لِمَ؟ قال: زعم أنه ربه أمره بذلك. قال إسحاق: فوالله لئن أمره بذلك ليطيعنه. فتركه الشيطان وأسرع إلى إبراهيم، فقال: أين أصبحت غادياً بابنك؟ قال: غدوت به لبعض حاجتي، قال: أما والله ما غدوت به إلا لتذبحه، قال: لِمَ أذبحه؟ قال: زعمت أن ربك أمرك بذلك، قال إبراهيم: فوالله (إِنْ) كان أمرني بذلك لأفعلن. قال كعب: أوحى الله إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجبت لك فيها، قال: إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي، أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك شيئاً فأدخله الجنة. وروي أن الكبش الذي فدي به هو الكبش الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قربه. وقال ابن عباس: " بذبح عظيم " (بكبش قد) رعى في الجنة أربعين سنة.

وقال الحسن: ما فدي إلا بتيس من الأوري أُهْبط عليهما من ثبير. وقيل: فدي بوعل. الوعل: التيس الجبلي. وأجاز بعض العلماء نسخ الشيء قبل فعله، واستدل بأن هذه الآية قد نسخ الله فيها الأمر بالذبح بالفداء (له) بالكبش قبل فعله. ومثله عنده أمر الله النبي A بفرض خمسين صلاة، ثم رده إلى خمس. ومثله الأمر بالصدقة قبل مناجاة النبي A في سورة المجادلة، ثم نسخه بالترك.

[وقال غيره: لا يجوز في هذا نسخ لأنه بَدَاء، لو قلت: قم، ثم قلت لا تقم لكان] بداء، وذلك لا يجوز على الله جل ذكره بل فعله إبراهيم ما أمر به من أخذ السكين والإضجاع وغير ذلك. وهذا عند الحذاق من العلماء، إنما هو من تأخير البيان.

ومن قال: إنه نسخه، فإنما فعل ذلك لأن تأخير البيان لا يجوز عنده، وهو (الغاساني). ولو جاز أن يقال: إن هذا منسوخ لجاز في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة: 67] ثم بَيَّنَهَا بعد ذلك فيكون البيان ناسخاً لما تقدم، وهذا لم يقله أحد. ويدل على جواز تأخير البيان قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]. وثم تدل على

108

التراخي. وقد بينا هذا في كتاب " الناسخ والمنسوخ " بأبين من هذا. ويروى أن إبراهيم A لمَّا أراد أن يذبح ابنه قال له: اربطني، فلما أسلما لأمر الله ووضع السكين على حلقه، بعث الله نحاساً فكان على حلقه فجر على النحاس، ثم نودي فالتفت فرأى الذبح وراءه، فقال إبراهيم: يا بني إنك نبي وإن لك لدعوة أُعطيتَها كما أُعطي الأنبياء فاسأله، فقال إسماعيل: وإني أسأل أن يغفر لكل عبد مات ولا يشرك به شيئاً. قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين} إلى قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ}. أي: وأبقينا على إبراهيم ثناء حسناً في الآخرين من الأمم، قاله قتادة. وقال ابن زيد: سأل إبراهيم عليه السلام ربه فقال: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84]، أي

الثناء الحسن، فأبقى الله عليه يقال: {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ} أي: أمنة/ من الله أن يذكر الإنجيل. ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: كما جزينا إبراهيم على طاعته، كذلك نجزي من أطاع الله وأحسن عبادته. ثم قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين} أي: بشرناه - بعد أن فدينا إسماعيل بالذبح - بإسحاق مقدراً له النبوة والصلاح. ومن قال: إن الذبيح إسحاق فمعناه عنده: (وبشرنا إبراهيم) / بعد الفداء بنبوة إسحاق نبياً. وفيه بُعْدٌ لأنك (لو) قلت: بشرتك بقدوم زيد قادماً، لم يكن للحال فائدة، ولم يوضع لغير فائدة. قال قتادة: بشر بنبوته بعدما جاد لله بنفسه.

ثم قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ} أي: ثبتنا عليهما النعمة. {وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} وهوالمطيع. {وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} وهو الكافر. وذكر الطبري عن السدي أنه قال: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس ويضيفهم، فبينما هو يطعم الناس إذ رأى شيخاً كبيراً يمشي في الحرة، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه فأطعمه فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها في فيه فيدخلها في أذنه مرة وفي عينه مرة ثم يدخلها في فيه، فإذا أدخلها في فيه، خرجت من دبره. وكان إبراهيم A قد سأل ربه ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت. فقال إبراهيم للشيخ حين رأى حاله: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال يا إبراهيم الكبر، قال له: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر إبراهيم بسنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتين، فإذا بلغت ذلك صرت مثله، قال نعم، فقال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقالم الشيخ فقبض روح إبراهيم. وكان ملك الموت قد تمثل في صورة شيخ لإبراهيم، ومات إبراهيم وهو ابن مائتي سنة.

وقيل: ابن مائة وسبع وتسعين سنة. ثم قال (تعالى): {وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ} أي: تفضلنا عليهما بالنبوة والرسالة. {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} أي: ومن آمن معهما، يعني بني إسرائيل. {مِنَ الكرب العظيم} أي: من الغرق. ثم قال (تعالى): {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الغالبين} أي: ونصرنا موسى وهارون وقومهما على فرعون وآله بتغريقنا إياهم فكانوا هم الغالين. وقال الفراء: الضيمر في {وَنَصَرْنَاهُمْ} و {فَكَانُواْ} {هُمُ الغالبين} يعود على موسى وهارون وأن التثنية ردت إلى الجمع. ودل على ذلك قوله (جل ذكره). {وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين * وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين * سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ}. وقال قوم: إنما جع في موضع التثنية لأنهما عظيماً الشأن جليلا القدر. والعرب

تخبر عن الواحد من هذا النوع بلفظ الجمع، فالإخبار عن اثنين منهما بلفظ (الجمع) آكد وأحسن. ومعنى {المستبين}: المتبين هداه وفضله وأحكامه، يعني التوراة، والصراط المستقيم: الإسلام. {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين} أي: أبقينا عليهما الذكر الجميل والثناء الحسن، فكذلك نفعل بمن أحسن في طاعتي وأدى فرائضي. وفيه من الاختلاف ما تقدم في قصة نوح، وهو يقتضي قوله: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84]. (ثم قال): {إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: الذين أخلصناهم واخترناهم للطاعة وهديناهم للإيمان. ومن كسر اللام فمعناه: إنهما من عبادنا الذين أخلصوا العمل ولم يشركوا فيه غيري. قال (تعالى): {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين}. قال ابن إسحاق: (وهو إلياس) (بن) ياسين بن فنحاص بن العزار بن

هارون بن عمران. وكان إلياس من سبط يوشع بن نون، بعثه الله تعالى إلى أهل بعلبك، (وكانوا يعبدون صنماً) يقال له بعل. وقيل هو إدريس. قاله قتادة. والمعنى: (إنه) لَمِنَ الذين أرسلهم الله إلى الخلق، فقال لقومه: ألا تتقون الله فتخافون عقابه على عبادتكم رباً غيره. (و) هو قوله: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين}. والبعل: الرب لغة أهل اليمن مشهورة، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي.

وري ذلك عن ابن عباس. وقال الضحاك: هو صنم لهم يسمى بعلاً. وقال ابن زيد: هو صنم كانوا يعبدونه ببعلبك مدينة وراء دمشق. وقيل: إن بعلاً تيس كانوا يعبدون. وقال ابن إسحاق: بلغني أن بعلاً امرأة كانوا يعبدونها/ من دون الله جل ذكره. قال وهب بن منبه: بعث الله إلياس إلى بني إسرائيل حين نسواك ما عهد الله إليهم، حتى (نصبوا) الأوثان وعبدوها من دون/ الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله D، وجعلوا لا يسمعون منه شيئاً. وكان (له مَلِكٌ) من ملوك بني إسرائيل يطيعونه يقال له: جاب. وكان إلياس يقرب من الملك، وكان الملك يطيع إياس (فيما) يقول له، ويراه الناس على هدى. وكان ملوك بني إسرائيل قد افترقت في

البلاد وأخذ كل واحد ناحية يأكلها، ويعبدون الأصنام، فقال الملك يوماً لإلياس: والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلاً، والله ما أرى (فلاناً) وفلاناً - يذكر ملوكاً من ملوك بني إسرائيل - إلا قد عبدوا الأوثان من دون الله، وهم (على) نحو ما نحن عليه (من نعيم)، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، ما تنقص دنياهم عبادتهم الأوثان التي تزعم أنها باطل وما نرى لنا عليهم من فضل، فعظم الأمر على إلياس، واقشعر جلده وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه وعبد الأوثان، فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك والعبادة لغيرك فغير ما بهم من نعمة! أو كما قال: (قال) ابن إسحاق: فذكر لنا أنه أوحي إليه أنا قد جعلنا أمر أرزاقهم بيدك وإليك حتى تكون أنت الذي تأذن في ذلك. فقال إلياس: اللهم أمسك عنهم القطر، فحبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت الماشية والدواب والشجر، وجهد الناس جهداً شديداً، وكان إلياس حين دعا عليهم قد استخفى شفقاً على نفسه منهم. وكان

حيث ما كان وضع له رزق، وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في دار أو بيت قالوا: قد دخل إلياس هذا المكان فطلبوه ولقي أهل ذلك المنزل شراً. ثم إنه أوى ليلة إلى امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب به ضر، فآوته وأخفت أمره فدعا إليا لأبنها فعوفي من الضر الذي كان به واتبع اليسع إلياس. وفآمن به وصدقه ولزمه، وكان يذهب معه حيث ما ذهب، وكان إلياس قد أسن وكبر، وكان اليسع غلاماً شاباً، فَذُكِر أن الله جل ذكره أوحى إلى إلياس: إنك قد أهلكت خلقاً كثيراً بخطايا بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر. فذكر - والله أعلم - أن إلياس قال: أي رب، دعني أكن أنا الذي أدعوا لهم به، وأكن أنا الذي آتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلهم يرجعون عن عبادة غيرك، فقيل له: نعم، فأتى إلياس إلى بني إسرائيل، فقال لهم: إنكم قد هلكتم جهداً وهلكت البهائم والدواب والطير والشجر بخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، أو كاما قالهم، فإن كنتم تحبون (علم) ذلك، وتعلمون أن الله عليكم ساخط فيما أنتم عليه، والذي أدعوكم إليه الحق، فاخرجوا بأصنامكم هذه التي تبعدونها وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون. فإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله يفرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء،

قالوا: أنْصَفت، فخرجوا بأوثانهم وما يتقربون به إلى الله من أحداثهم، فدعوها فلم تستجب لهم ولم تفرج عهنم ما كانوا فيه من البلاء، فعرفوا ما هم في من الضلال والباطل، فقالوا لإلياس: يا إلياس إنا قد هلكنا، فادع الله لنا، فدعا إلياس لهم بالفرج مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس بإذن الله على ظهر البحر وهم ينظرون، ثم ترامى إليهما السحاب ثم أُدْحِيت، ثم أرسل الله المطر فأغاثهم، فحييث بلادهم وفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء. فلم يرجعوا ولانزعوا، وأقاموا على ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس من كفرهم، دعا ربه يقبضه إليه فيريحه منهم، فذكر أن الله D أوحى إليه: أخرج إلى بلك كذا وكذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس وخرج معه اليسع حتى إذا كانا بالبلد الذي ذكر له في المكان الذي أمر به أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه فانطلق به (فناداه) اليسع يا إلياس (يا إلياس) ما تأمرني به؟ فكان آخر عهدهم به، فكساه الله الريش، / وألبسه النور، / (وقطع) عنه لذة المطعم والمشرب، وكان في الملائكة

إنيساً ملكياً أرضياً سماوياً. قال أبو محمد Bهـ: وهذا الخبر إذا صح فإنما يصح على قول من قال: إنه إدريس A لقوله تعالى ذكره في إدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57]. وقوله: {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} أي: خالقكم الذي هو أحسن المقدرين للأشياء. {الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين} أي الماضين. [ثم قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: محضرون في عذاب الله]. ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: الذين اختارهم (الله) فأنجاهم من العذاب بتوفيقه إياهم. ثم قال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ} أي: وأبقينا عليه الثناء الحسن بعده، فيال: " سلام على آل ياسين "، أي: سلام على أهل دينه، فيسلم على أهله من أجله، فهو داخل في أفضل الثناء.

ومن قرأ " اليَاسِينَ " غير مقطوع. فقال ابن إسحاق: هو اسمه مثل ابراهيم. وذهب أبو عبيد إلى أنه جُمِعَ جَمْعَ السلامة على معنى أنه وأهل مذهبه يسلم عليهم. وقال علي بن سليمان: العرب تُسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون: المهالبة لأصحاب المهلب، كأنهم سموا كل واحد بالمهلب فعلى هذا قيل الياسين، يريد قومه المؤمنين كأنه سمَّى كل واحد منهم بإلياس. وذكر سيبويه أن هذا المعنى إنما يجيء على معنى النسبة حكى الأشعرون،

يريد به النسب. واحتج أبو عمرو وأبو عبيد على تركه لقراءة آل ياسين، أنه ليس في السور سلام على آل فلان من الأنبياء، فكما سمي الأنبياء في هذا المعنى سمي هو. ولا حجة في هذا لأنه إذا أثني على قومه المؤمنين من أجله فهو داخل في ذلك وله منه أوفر الحظ، وهو أبلغ في المدح ممن أثني عليه باسمه، وأيضاً فإن الحظ مثبت بالانفصال. وقال الفراء: هو مثل {طُورِ سَيْنَآءَ} [المؤمنون: 20] و {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]، والمعنى واحد. ومعنى ذلك: أن إلياس اسم أعجمي، [والعرب إذا استعملت الأسماء الأعجميه في كلامها غيرتها بضروب من] التعبير، فيقولون: إبراهيم وإبراهام وإبرهام، وميكائيل ومْيكائيل وميكاين وميكال، وإسماعيل وإسمعيل، وإسرائيل وإسرائين، وشبهه. فكذلك إلياس والياسين هو واحد. قال السدي: " سلام على الياسين " هو: إلياس.

قال الفراء: إن أخذته من الأَلْيَسِ صرفته، فيكون وزنه على هذا إفعال مثل أخراج. وقرأ الحسن بوصل الألف (بجعله الألف) واللام اللتين للتعريف دخلتا على ياسين. ثم قال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي: كما فعلنا بإلياس كذلك نفعل بأهل الطاعة والإحسان. ثم قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: من الذين آمنوا وأطاعوا ولم يشركوا. ثم قال (تعالى): {وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين} أي: لمن الذين أرسلهم الله بالإنذار والإعذار. ثم قال (تعالى): {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي: من العذاب الذي أحللنا بقومه على كفرهم.

وفي الكلام حذف، والتقدير: وإن لوطاً لمن المرسلين إلى قومه بالإنذار فكذبوه فنجيناه وأهله. ثم قال: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} أي: في الباقين، يعني امرأة لوط. قال الضحاك: يعني امرأته تخلفت فمسخت حجراً. وقال السدي: " في الغابرين " في الهالكين. وقيل: في " الغابرين ": في الذين بلغوا العمر الطويل، وقد تقدم هذا بأشبع شرحاً. ثم قال: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أي: أهلكناهم بالحجارة. ثم قال: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} هذا خطاب لقريش، أي: إنكم لتمرون في أسفاركم على آثارهم وديارهم وموضع هلاكهم في النهار وفي الليل، فلا تتعظون، لا تزدجرون وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ولا تعقلون ما يراد بكم، وأنه من سلك مثل ما سلكوا من الكفر والتكذيب أنه صائر إلى مثل ما صاروا إليه. " وبالليل " وقف كاف، و " تعقلون " التمام. ثم قال (تعالى): {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} أي: لمن الذين أُرْسِلَ إلى قومه

بالإنذار والإعذار. {إِلَى الفلك المشحون} (أي): هرب. وقال المبرد: أصله تباعد. وقيل له/: آبق لأنه خرج بغير أمر الله D مستتراً من الناس إلى الفلك وهي السفينة. والمشحون: المملوء الموقر. " فَسَاهَمَ " أي: فقارع. قال السدي: فاحتبست بهم السفينة فعلموا أنها إنما احتبست من/ حدث أحدثوه، فتساهموا فقُرع يونس فرمى بنفسه، فالتقمه الحوت. وقوله: {فَكَانَ مِنَ المدحضين} أي: من المقروعين. قال طاوس، لما ركب السفينة ركدت فقالوا: إن فيها رجلاً مشؤماً، فقارعوا فوقعت القرعة عليه ثلاث مرات فرموا به، فالتقمه الحوت، وأصل دحضت من الزلق في الماء والطين. يقال: أدحض الله حجته ودحضت، وحكي: دحض الله حجته، وهي

143

قليلة وقوله: {فالتقمه الحوت} أي: ابتلعه. {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي: وهو قد أتى ما يلام عليه (من) خروجه بغير أمر (من) الله. يقال: ألاَمَ الرجل إذَا أتى ما يلام عليه. والمَلُوم: الذي يلام باللسان (إن) استحق ذلك أو لم يستحقه. قال مجاهد: {مُلِيمٌ}: مذنب. قوله (تعالى ذكره): {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} إلى قوله: {أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون}. أي: لولا أنه كان من المصلين قبل البلاء والعقوبة للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة. روي عن النبي A أنه قال: " إِنَّ يُونُسَ حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُو الله وَهُوَ فِيْ بَطْنِ الحُوتِ، قَالَ: اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمِينَ. فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ

نَحْوَ العَرْشِ، فَقَالَتِ المَلاَئِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلاَجٍ غَرِيْبَةٍ، فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: يَا رَبِّ، وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ذَلِكَ عَبْدِ يُونُسَ، قَالُوا: أَعَبْدُكَ يُونُسَ الذِي لِمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ! أَفَلاَ يَرْحَمُ بِمَا كَأنَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيَهُ مِنَ البَلاَءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الحُوتَ فََطَرَحَهُ بِالعَرَاءِ ". قال ابن عباس وابن جبير والسدي: " من المسبحين ": من المصلين. وكان الضحاك بن قيس يقول على منبره: اذكروه في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبداً ذاكراً فلما أصابته الشدةة دعا الله فذكروه الله بما كان منه، ففرج عنه، وكان فرعون طاغياً باغياً فلما أدركه الغرق قال: آمنت، (الآن وكنت)،

من المفسدين، فلم يسمع قوله. قال الحسن: فَوَالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت. قال ابن جبير: لما قال في بطن الحوت: {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] قذفه الحوت. قال قتادة في قوله: {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}: أي: لصار له بطن الحوت قبر إلى يوم القيامة. قال السدي عن أبي مالك: لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوماً. ثم قال: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء} أي: ألقاه الحوت في المكان الخالي، هذا قول أهل اللغة. وقال ابن عباس: " بالعراء ": بالساحل.

وقال قتادة: بأرض ليس فيها شيء ولا نبات. وقال السدي: " بالعراء ": بالأرض. وقوله: {وَهُوَ سَقِيمٌ}. قال السدي: كهيئة الصبي. قال ابن عباس: لفظه الحوت بساحل البحر، فطرحه مثل الصبي المنفوس، لم ينقص من خلقه شيء. قال ابن عباس: كانت رسالة يونس بعد أن ألقاه الحوت. وقال ابن مسعود: أرسل قبل وبعد إلى قومه بأعينهم الذين صرف عنهم العذاب، وهو قول مجاهد والحسن. وروي عن ابن مسعود وغيره: أن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام ففرقوا بين كل والدة وولدها، وخرجوا فجاروا إلى الله

واستغفروه فكف عنهم العذاب. ولم يكف عنهم العذاب بعد معاينته، إنما رأوا مخايله وعلامات له ذكرهما لهم يونس A، فآمنوا وتابوا وتضرعوا (إلى الله) قبل معاينة العذاب، ولو عاينوه لم ينفعهم الإيمان لأن من عاين العذاب نازلاً به سقط عنه حد التكليف، ولم يقبل منه الإيمان كفرعون لما آمن عند معاينة الغرق. وكقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158]. فمن عاين العذاب لم يقبل منه توبته ولا إيمان، كذلك من عاين الموت وغرغر لم تقبل منه توبة. وإنما قبلت توبة قوم يونس، وإيمانهم قبل معاينتهم لنزول العذاب لما فقدوا يونس، وقد أوعدهم العذاب/ وعلموا صدقه ورأوا مخايل العذاب وأمارته، أيقنوا بنزول العذاب، فقبل الله توبتهم. ولو فعلوا ذلك فور معاينة العذاب لم ينفعهم ذلك كما لم ينفع ذلك فرعون/ وأشباهه لأن معاينة العذاب تسقط التكليف، وإذا سقط التكليف لم يقبل ما تكلفه العبد من العمل. فاعرف هذا الأصل. ويروى أن قوم يونس لما عيانوا العذاب قام رجل منهم فقال: اللهم إن ذنوبنا عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، فافعل فينا ما أنت أهله [ولا تفعل فينا ما نحن أهله]. فكشف عنهم العذاب فخرج يونس ينتظر العذاب فلم يَرَ شيئاً،

وكان حكمهم أنه من كذب ولم تكن له بينة قتل، فخرج يونس مغاضباً على قومه، فأتى قوماً في سفينة فحملوه، فلما دخل السفينة ركدت، والسفن تسير يميناً وشمالاً، فقالوا ما لسفينتكم؟ قالوا: لا ندري: فقال يونس A: إن فيها عبداً آبقاً من ربها وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا: أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك، قال: فاقترعوا فمن قرع فليقع، فاقترعوا فقرع يونس ثلاث مرات فوقع، فوكل الله جل ذكره حوتاً فابتلعه فهو يهوي به إلى قرار الأرض فسمع يونس تسبيح الحصى، {فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87]. يعني ظلمة الليل والبحر وظلمة بطن الحوت. قال: {فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ}. قال كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. فروي أنه طرح على شاطئ البحر وهو ضعيف كالطفل المولود، فلما طعت عليه الشمس نادى من حرها، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهو القرع، وهو

جمع يقطينة، وقيل: هو كل شجرة لا تقوم على سائق كالقرع والبطيخ ونحوهما. وقال المبرد: كل شجرة لا تقوم على ساق فهي يقطينة، فإن قامت على ساق فهي شجرة. واشتقاق يقطين: من قطن بالمكان إذا أقام به. وعلى أنها القرع: ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جبير وابن زيد. وقيل: هي شجرة أظلته سماها الله يقطيناً، وليست بالقرع. وقيل: البطيخ، روي ذلك عن بن عباس أيضاً. قال ابن جبير: أرسل الله على الشجرة دابة فقرضت عروقها فتساقطت

ورقها (فلحقته الشمس فشكاها، فقيل له جزعت من حر الشمس). ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا فتاب الله عليهم. روي أنهم لما رأوا علامات إتيان العذاب خرجوا وتابوا، وأفردوا الأطفال والبهائم، وضجوا إلى الله مستغيثين تائبين فصرف عنهم العذاب وتاب عليهم. قال ابن مسعود في حديثه: فكان يستظل بها ويصيب منها فيبست فبكى عليها. فأوحى الله (إليه) أتبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم، قال: وخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال يا غلام: من أنت؟ فقال: من قوم يونس عليه السلام، قال: فإذا جئتهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس، فقال له الغلام: إِنْ كُنْتَ يونس فقد علمت أنه من كذب قُتِل إذا لم تكن له بينة، فمن يشهد لي؟ قال: هذه الشجرة وهذه البقعة، قال: فَمُرْهُمَا، قال لهما يونس: إذا

جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم، فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة، وكان له إخوة فأتى المَلِكَ فقال: إني (قد) لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام. قال: فأمر به أن يقتل، فقالوا: إن له بينة، فأرسلوا معه فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما: نشدتكما الله أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين، يقولون: شهدت له الشجرة والأرض، فأتوا الملك فأخبروه بما/ رأوا. قال عبد الله: فتناول الملك يد الغلام وأجلسه مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبد الله: فأقام ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. ثم قال (تعالى): {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}. قال أبو عبيدة: أو هنا بمعنى بل. ومثله عنده: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] أي:

بل مجنون، فليست أو للشك في هذا، إنما هي (بمعنى) بل وهو قول الفراء. وروي عن ابن عباس ذلك. وقال القتبي: أو بمعنى الواو. وقال المبرد: أو على بابها. والمعنى: وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو يزيدون على ذلك. فخوطب العباد بما يعرفون. وقيل: أو على بابها لكنه بمنزلة قولك: جاءني زيد أو عمرو، (و) أنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب. وقل: " أو " للإباحة. قال ابن عباس: / كانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً.

وقال ابن جبير: يزيدون سبعين ألفاً. وروي عن النبي A أنه قال: {يزيدون عشرين ألفاً} قال ابن جبير: كان العذاب قد أرسله الله إليهم، فلما فرقوا بين النساء وأولادهن والبهائم وأولادها، وعجوا إلى الله جل وعز، كشف عنهم العذاب ومطرت السماء عليهم (ماء). وقوله: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي: أخرنا عنهم العذاب ومتعناهم بالحياة إلى بلوغ آجالهم. ثم قال: {فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون} أي: سل يا محمد مشركي قريش مسألة تقرير وتوبيخ عن ذلك، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله.

150

قال السدي: كانوا يعبدون الملائكة. قوله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً} إلى قوله: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}. أي: أم شهد هؤلاء القائلون: إن الملائكة بنات (الله)، خلق الله الملائكة إناثاً. هذا كله على التقرير والتوبيخ. ثم قال: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله} أي: ألا إن هؤلاء المشركين من كذبهم ليقولن ولد الله، وهو جعلهم الملائكة بنات الله. ثم قال: {أَصْطَفَى البنات على البنين} هذا أيضاً توبيخ لهم، والمعنى عند الزجاج: سلهم هل اصطفى البنات على البنين. ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}. هذا أيضاً تقريع وتوبيخ ومعناه: بئس الحكم تحكمون أيها القوم، أن يكون لله البنات ولكم البنون، فأنتم لا ترضون البنات

لأنفسكم فتجعلون لله ما لا ترضون به لأنفسكم. ثم قال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي: تتدبرون ما تقولون فتعرفون خطأه فتنتهون عنه. {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} أي: حجة ظاهرة على ما تقولون. قال قتادة: " سلطان مبين " عُذْرٌ بَيِّنٌ. {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: فأتوا بحجتكم من كتاب جاءكم من عند الله بما قلتم من الإفك إن كنتم صادقين فيما قلتم. ثم قال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً}. قال ابن عباس: زعم أعداء الله أنه جل ثناؤه وإبليس أخوان. وكذلك قال الضحاك. وقال غيرهما: الجِنَّة هنا الملائكة، جعلهم كفار قريش بنات الله جل عن ذلك وتعالى، وهو قول مجاهد والسدي. وروي أن أبا بكر قال لقريش: من أمهاتهن؟ فقالوا: سَرَوَاتُ الجِنِّ.

وقال قتادة: قالت اليهود: إن الله جل ذكره تزوج إلى الجنة فخرج بينهم الملائكة. فسميت الملائكة جِنة لأنهم لا يُرَون. وقال السدي: سموا بذلك لأنهم على الجنان. [ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: ولقد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا لمُشْهِدُون الحساب والنار ومعذبون]. ثم قال: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} أي: تنزيهاص له وبراءة عما يقولون ويتفرون. ثم قال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا عباد الله الذين أخلصهم لرحمته، فإنهم لا يحضرون العذاب. ثم قال (تعالى): {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} أي: فإنكم أيها المشركون وما تعبدون من الآلهة ما أنتم على ما تعبدون من ذلك بفاتنين، أي: بمضلين من أحد إلا من هو صالِ الجحيم، أي: من سبق له في علم الله أنه يضل فيدخل النار. وقيل: " عليه " في قوله " ما أنتم عليه " بمعنى له. هذا كله معنى قول ابن عباس والحسن/ وقتادة والسدي وابن زيد.

والتقدير عند جميعهم: لستم تضلون أحداً إلا من سبق في علم الله أنه من أهل الشقاء وأهل النار. وفي هذه الآية رد على القدرية لأن الضلال والهدى كل بمشيئة الله وقضائه، خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للشقاء فالشياطين لا تضل إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي. فأما من تقدم له في علم الله الهدى فإنه تعالى يحول بينهم وبينه فلا يصلون إلى إضلاله. قال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يُعْصَى لم يخلق إبليس وإنه لبَيِّنٌ في كتاب لله في آية علمها من علمها وجهلها من جهلها، ثم قرأ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم}. وقوله: " صال الجحيم " أصله صالي بالياء، ولكن كتب على لفظ الوصل، ولا يحسن الوقف عليه، فإن وقف عليه واقف، فمن القراء من يكره مخالفة الشواذ فيقف بغير ياء.

ومذهب سلام ويعقوب: أن يقف عليه بالياء/ على الأصل، لأن العلة التي من أجلها حذفت الياء قد زالت بالوقف. وقرأ الحسن: " صال الجحيم ". على أن يرده على معنى " من " فيجمع بالواو والنون، وتحذف النون للإضافة والواو لالتقاء الساكنين في الوصل. ولا تجوز هذه القراءة على غير هذه الأشياء. ذكر بعض النحويين: أن يكون قرأه على القلب كأنه رد لام الفعل، وهي الياء في الواحد قبل اللام، فصار الإعراب (في اللام)، فضمت ثم حذفت الياء، وهذا بعيد.

ثم قال تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}. التقدير عند الكوفيين: وما منا إلا من له مقام، ثم حذفت من. ولا يجوز هذا عند البصريين لأنه حذف موصول وترك صلته. والتقدير عند البصريين: وما منا ملك إلا له مقام. وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملائكة، أي قالوا: وما منا معشر الملائكة إلا ملك له مقام معلوم في السماء. ثم قال تعالى حكاية عن قول الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} روت عائشة Bهـ أن النبي A قال: " مَا فِي السَّمَاءِ مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلاَّ عََلَيْهِ (مَلَكٌ) سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ ". فالمعنى أنهم قالوا: وإنا لنحن الصافون لله بعبادته. {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي: المصلون له. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس: ما من السماوات سماء إلا وما فيها موضع شبر، إلا وعليه جبهة ملك، أو قدماه، ثم قرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون}.

ومعنى الكلام من أوله: أن الملائكة استعظمت فعل من يعبدها وتعجبت من ذلك وتبرأت منه فقالت: " وما منا إلا له مقام معلوم {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون} {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} " فكيف يُعْبَدُ من هو على هذه الحال ثم قال (تعالى): {وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي: قالت قريش قبل مبعث النبي A لو أن عندنا ذكراً من الأولين، أي: كتاباً من السماء فيه ذكر الأمم الماضية كالتوراة والإنجيل، فلما جاءهم ذلك كفروا به. ثم قال: {لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} (أي): الذين أخلصوا لله الطاعة. هذا على قراءة من كسر اللام. ومن فتحها فمعناه: لكنا عباد الله الذين أخلصهم الله وأختارهم لطاعته. قال قتادة: قالت هذه الأمة ذلك قبل مبعث النبي A، فلما جاءهم الكتاب والنبي كفروا به.

قال الضحاك: هذا قول مشركي أهل مكة، فلما جاءهم ذِكْرُ الأولين والآخرين كفروا به، فسوف يعلمون، (أي: يعلمون) ما لهم من العقاب على كفرهم. فالهاء في " به " تعود على القرآن وهو الذكر. وقيل: على محمد A. ثم قال (تعالى ذكره): {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} أي: سبق القضاء في أم الكتاب ووجب القول من الله أن المرسلين هم المنصورون على من ناوأهم بالحجج والغلبة قاله قتادة والسدي. وقال الفراء: لهم المنصورون بالشفاعة. ثم قال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} أي: حزب الله هم الغالبون حزب الشيطان بالحجج والغلبة والظفر.

176

ثم قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ}. قال/ قتادة: " حتى حين ": إلى الموت. وقال السدي " إلى يوم بدر. ثم قال: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: انظروهم وأخرهم فسوف يرون ما يحل بهم من العقاب. قوله (تعالى ذكره): {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إلى آخر السورة. أي: أفبنزول عذابنا يستعجلون، وهذا قولهم للنبي A، متى هذا الوعد. ثم قال: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي: نزل بهم العذاب. والعرب تقول نزل بساحة فلان العذاب ويِعُقُوتِهِ إذا نزل به، والساحة فناء الدار. وقوله: {فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} أي فبئس الصباح صباح القوم الذين أُنْذِرُوا بأس الله فلم يتعظوا.

قال السدي: " بساحتهم " بدارهم. قال أبو إسحاق: كان عذاب هؤلاء بالقتل. يعني (يوم) بدر. وقيل: الحين الأول: إلى حين ينصرك الله عليهم فيهلكهم بأيدي أصحابك، والحين الثاني: قيام الساعة بعذابهم في الآخرة. فهو قوله: " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين "، أي: إذا نزل العذاب بالسيف عليهم، ثم قال له بعد نزول السيف " فتول/ عنهم حتى حين " أي: إلى الوقت. ثم قال: {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} أي: أعرض عنهم يا محمد حتى يأذن الله بهلاكهم يوم بدر. وقيل: بالموت. وقيل: في الآخرة. [ثم قال: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: أنظروهم وأخرهم فسوف يرون ما يحل بهم في الآخرة]. ثم قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة} أي: تنزيهاً وبراءة لربك يا محمد من السوء، {رَبِّ العزة} أي: رب القوة والبطش، عما يصفونه من اتخاذ الأولاد وشركهم وافترائهم على ربهم.

وسئل محمد بن سحنون عن قوله تعالى: {رَبِّ العزة} - والعزة صفة من صفات ذات تعالى كالقدرة والعلم، ولا يقال: رب القدرة ولا رب العلم - فقال: إن العزة تكون صفة فعل وصفة ذات نحو قوله: (فلله العزة) فهذه صفة ذات، ونحو قوله: " رَبِّ الْعِزَّة " فهذه صفة فعل، أي العزة التي يتعازز بها الخلق فيما بينهم الله خلقها. فرب العزة معناه: خالق لعزة التي يتعزز بها الناس فيما بينهم. قال محمد بن سحنون: وجاء في التفسير أن العزة في قوله: " رب العزة ": الملائكة، فصارت مربوبة، وكل ما كان مربوباً فهو فعل لله. فالعزة في هذا الموضع: الملائكة كما قال أهل العلم. قال محمد: وقال بعض علمائنا: من حلف بعزة الله، فإن أراد عزة الله التي

(هي) صفته ففيه الكفارة إن حنث، وإن أراد العزة التي جعلها الله بين العباد عزة فحنث فلا كفارة عليه ولا يجور رب القدرة، ولا رب العظمة لأنها صفات ذات غير مربوبة. هذا معنى قول محمد بن سحنون مشروحاً مبيناً. قوله: {وَسَلاَمٌ على المرسلين} أي: وأمنة من الله جل ذكره للمرسلين من فزع العذاب الأكبر. روى قتادة أن النبي A قال: " إِذَا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُوا عَلَى المُرْسَلِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مِنَ المُرْسَلِينَ ". ثم قال: {والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي: الحمد من جميع الخلق لله خالصاً، رب الثقلين: الإنس والجن. وروي عن النبي A أنه قال: " مَنْ قَالَ: {والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ على المرسلين} فَقَدِ اكْتَالَ بِالجَرِيبِ الأَوْفى ". يعني من الأجر الثواب. وروى الخدري عنه أنه كان يقولها في دبر صلاته.

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ المجلد العاشر ص - الجاثية 1429 هـ - 2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

ص

بسم الله الرحمن الرحيم سورة ص مكية قوله تعالى ذكره: {ص والقرآن ذِي الذكر} - إلى قوله - {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. روي أن ابن المسيب كان لا يدع كل ليلة قراءة صاد. وسئل ولده عن ذلك فقال: بلغني: أنه ما من عبد يقرأها كل ليلة إلا اهتز العرش لها.

وقرأ الحسن بكسر الدال لالتقاء الساكنين على نية الوصل. وقيل: هو فعل للأمر من صادى يصادي إذا عارض، ومنه " {فَأَنتَ لَهُ تصدى} [عبس: 6] والمعنى: صاد القرآن بعملك، أي: قابله به. وقد روي هذا التفسير عن الحسن أنه فسّر قراءته به.

وقرأ عيسى بن عمر بفتح الدال على معنى: اتل صاد. فنصب بالإغراء ولم ينصرف لأنه اسم للسورة. وكل مؤنث سميته بمذكر - قلّت حروفه أو كثرت - لا ينصرف. ويجوز أن يكون فُتح لالتقاء الساكنين على نية الوصل، واختار الفتح للإتباع. ويجوز أن يكون منصوباً على القسم، إذ قد حذف الجر، كما تقول: الله لأفعلن. وقرأ ابن أبي إسحاق بالخفض والتنوين على إضمار حرف القسم، وإعماله

على مذهب سيبويه. وقيل: إنه كسر لالتقاء الساكنين، وشبه بما لا يتمكن من الأصوات فَنَوَّنَهُ. قال ابن عباس: صَ قسم أقسم الله جلّ ذكره به، وهو من أسماء الله D. فعلى هذا القول يكون، والقرآن عطف على صاد، أي: اقسم بصاد، وبالقرآن. وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن أقسم به. وقال الضحاك:

صاد: " صدق الله سبحانه ". وعن ابن عباس أيضاً: صاد صدق محمد A والقرآن ذي الذكر. فتكون صاد: جواب القسم قبله، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد A صدق من عنده. وقوله: {ذِي الذكر}، " ذي الشرف " قاله ابن عباس وابن جبير والسدي

(وقيل معناه: ذي الذكر لكم. وهو اختيار الطبري). وقيل معناه: ذكركم الله فيه، مثل قوله: " فيه ذكرهم ". وقيل: ذي الذكر: فيه ذكر الأمم وغيرها. ثم قال تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}، أي: في تكبر وامتناع عن قبول الحق، مثل / قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206]. ومعنى: " وشقاق ": ومخالفة، وكأنهم في شق والمسلمون في شق. وجواب القسم: " بل الذين كفروا "، قاله قتادة. فعلى هذا القول يكون: والقرآن عطف على صاد، أي: اقسم بصاد وبالقرآن وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن اقسم به وقال الضحاك.

صاد صدق الله سبحانه. عن ابن عباس أيضاً: صاد صدق محمد A والقرآن ذي الذكر فتكون صاد جواب القسم قبله، أقسم الله جل ذكره أن الذي جاء به محمد A صدق من عنده. صدق الله والقرآن، وهو قول الضحاك. وقيل: الجواب محذوف، والتقدير: صاد والقرآن ذي الذكر، ما الأمر كما يقول هؤلاء الكفار، ودل عليه قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. وهذا اختيار الطبري

وهو مستخرج من قول قتادة. ثم قال: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ}، أي كثير من القرون أهلكنا قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا رسلهم. {فَنَادَواْ}، أي: فضجوا إلى ربهم وَعَجُّوا واستغاثوا بالتوبة حين نزل بهم العذاب. {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}، أي: وليس ذلك الوقت حين فرار ولا هرب من العذاب بالتوبة لأنه أوان لا تنفع فيه التوبة. " ولات " حرف مشبه بليس، والاسم في الجملة مضمر. (أي: ليس) حينكم حين مناص. هذا مذهب سيبويه. والتاء دخلت لتأنيث الكلمة، وحكُي أن من العرب من يرفع بها. وهو قليل على حذف الخبر. والوقف عليها عند سيبويه والفراء وابن كيسان وأبي إسحاق بالتاء لشبهها

بليس، ولأنها كذلك في المصاحف، وهو مذهب الفراء. والوقف عليها عند الكسائي والمبرد بالهاء كرُبَّه وثَمه. ومناص: مَفْعَلٌ من ناص ينوص إذا تأخر. فالنوص التأخر، والبوص التقدم. ثم قال تعالى ذكره: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ}، أي: عجب مشركو قريش أن جاءهم منذر منهم ينذرهم بأس الله على كفرهم ولم يأتهم ملكه. ثم قال: {وَقَالَ الكافرون}، أي: المنكرون وتوحيد الله D { هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. " هذا " إشارة إلى النبي A. ثم قال تعالى عنهم: إنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} أي: أجعل محمد المعبود معبوداً واحداً؟! {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، أي: عجيب

قال قتادة: عجب المشركون أن دُعُوا إلى الله وحده وقالوا: يسمع لحاجتنا جميعاً إله واحد، ما سمعنا بهذا (في الملة الآخرة). رُوي أن النبي A قال للمشركين: " أسألكم أن تجيبوني إلى واحدة تدين بها لكم العرب، وتعطيكم بها الخرج العجم. فقالو: ما هي؟! قال: تقولون لاَ إله إلا الله. فعند ذلك قالو: أجعل الآلهة إلها واحداً، تعجباً من ذلك ". وذكر ابن عباس أنه " لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا إنّ ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعث إليه فنهيته. فبعث إليه فجاء النبي A فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس إلى جنب أبي طالب. فلم يجد رسول الله A مجلساً قرب عمّه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب. أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال: فأكثروا عليه القول. وتكلم الله A فقال: يا عمّي إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. وقال القوم كلمة واحدة: نعم، وأبيك عشراً، قالوا: فما هي؟! قال أبو طالب: أيُّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: لا إله إلا الله " قال: فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً.

6

إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. فنزلت هذه الآية إلى قوله: {لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} [ص: 8]. وفرّق الخليل بين العَجيب والعُجاب، فالعجيب، العَجَب، والعُجاب: الذي قد تجاوز حد العَجضب، وكذلك عنده الطَّويل الذي فيه طول، والطُّوال الذي قد تجاوز حد الطول. وقيل: هما بمعنى، يقول: طَويل وطُوال، وجَسيم وجُسام، وخَفيف وخُفاف، وسَريع وسُراع، ورَقيق ورُقاق، بمعنى. قوله تعالى ذكره: {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} - إلى قوله - {قَبْلَ يَوْمِ الحساب}. أي: وانطلق الأشراف من مشركي قريش القائلين: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} [ص: 5]

يقولون للعوام: أمشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، أي: اصبروا على دين آبائكم. وكان لهم يومئذ ثلاث مائة صنم وستون صنماً / يعبدونها من دون الله سبحانه وروي أن قائل ذلك كان عقبة بن أبي معيط. وقوله: {أَنِ امشوا}، معناه: تناسلوا، كأنه دعا لهم بالنمار وهو من قول العرب: مَشَى الرجل وأُمْشَى إذا كثرت ماشيته، وأمشت المرأة: كَثُرَ وَلَدُها. قال الشاعر: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... * والشَّاةُ لا تُمْشَى على الهمَلَّعِ أي: لا تُنْهى عن الذنب. (والهملع: الذئب). ثم قال عنهم إنهم قالو: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ}، أي: لشيء يريد بنا محمد - A - يطلب علينا الاستعلاء به، وأن يكون له فينا اتباع. ثم قالو: {مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة}. قال ابن عباس: يعنون النصرانية دين عيسى. أي: لم نسمع في دين عيسى A

أن محمداً يبعث رسولاً إلينا ولا يأتينا بكتاب. {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق}، أي: ما هذا إلا كذب. وعن ابن عباس أن المعنى: لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرنا به النصارى. وقال مجاهد: معناه ملة قريش. وقال قتادة: معناه في زماننا وديننا. قال أبو إسحاق: {فِى الملة الآخرة}: في النصرانية ولا في اليهودية ولا فيما أدركنا عليه لآباءنا. ثم قال: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق}، أي: ما هذا الذي أتانا به محمد A إلاّ كذب اختلقه وتخرصه وابتدعه حسداً منهم لمحمد A. ودل على أنه حسد منهم قوله عنهم: {عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا}، أي: كيف خُصَّ محمد بنزول القرآن عليه من بيننا.

وهذا كقولهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي: من إحدى القريتين، مكة والطائف، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف. والمعنى: على أحد رجلين من إحدى القريتين. ثم قال تعالى: {بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي}، أي: في شك من القرآن. {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ}، أي: لم يذوقوا العذاب، ولو ذاقوه لأيقنوا حقيقة ما هم فيه وعملوا أن الذين كذَّبوا به حق. ثم قال: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب}، أي: أم عند هؤلاء المكذبين مفاتيح ربك وعطاياه، فَيَخُصُّوا من شاءوا بالرسالة. العزيز في سلطانه، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من رسالته وكرامته. ثم قال جل ذكره: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب}، أي: إن كان لهم مُلْكُ ذلك فليصعدوا في أبواب السماء أو طرفيها، لأن من كان له ملك ذلك لم يتعذر عليه الصعود فيه، هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن زيد

وقال الضحاك: فليرتقوا إلى السماء السابعة. وقال الربيع بن أنس: الأسباب أَرَقُّ من الشعر وأشَدُّ من الحديد، وهو مكان ولكن لا يُرى. والسبب هو: كل شيء يوصل به إلى المطلوب من حبل أو جبل أو ستر أو رحم أو قرابة أو طريق أو باب. يقال: رَقِيَ يَرْقَى رَقْياً إذا صعد، كرَضِيَ يرضى. ومثله: ارتقى يرتقي إذا صعد ويقال: رقي يرقِي رقياً من الرقية مثل: رمى يرمي رمياً. ثم قال: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب}. يعني بقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ}: الذين قال فيهم: {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} وهم أشراف قريش الذين هُزِموا وقُتلوا يوم بدر. والتقدير: هم جند مهزوم هنالك. ومعنى {مِّن الأحزاب}: من القرون الماضية.

قال قتادة: وعد الله تعالى نبيه A وهو بمكة أنه سيهزم جنداً من المشركين، فجاء يوم بدر تأويلها. وقال الفراء: معناه: هم جنود مغلوب أن يصعد السماء. وقيل: هم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله A فأتوا إلى المدينة فهزمهم الله D بالريح والخوف. فأعلم الله D نبيه A ومن معه من المؤمنين أنه سيتحزب عليهم المشركون، وأنهم سيهزمون. فكان في ذلك أبين دلالة لهم على نبوة محمد A وصِدْقِه في جميع ما يَعِدُهُم به، ولذلك قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] الآية لأنه أخبرهم بذلك وهم في مكة ثم جاءهم ما أخبرهم به وهم في المدينة. ثم قال تعالى ذكره: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}، أي: قبل قريش، وكذلك عاد {وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد}. فرعون هو: الوليد بن مصعب.

وقيل هو: مصعب بن الديان. وقيل: كان يسمى كل من مَلَكَ مصر فرعون، كما يسمى كلُّ من ملك اليمين تبّعاً، ومن مَلَكَ فارس كسرى، ومن مَلَكَ الروم قيصر وهرقل. قال المبرد: كَسرى بالفتح. وقال غيره: بالكسر. وإنما نُعِتَ فرعون بالأوتاد لأنه كانت له أوتاد يلعب له عليها؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن جبير. وقال السدي: كان يُعِّبُ الناس بالأوتاد؛ يعذبهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع (الصخرة تمد بالحبال) ثم تُلقى عليه فتشدخه. وقال الضحاك: {ذُو الأوتاد}: ذو البُنيان. وقد تقدم ذكر الأيكة في الشعراء.

وقوله: {أولئك الأحزاب}، أي: الجماعة المتحزبة على معاصي الله تعالى والكفر به سبحانه وتعالى. ثم قال: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل}، أي: ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب الرسل فيما جاؤهم به. {فَحَقَّ عِقَابِ}، أي: وجب عليهم عقاب الله تعالى ثم قال تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}، أي: وما ينتظر هؤلاء المشركون بالله سبحانه إلا صيحة واحدة - وهي النفخة الأولى في الصور - ما لها من فتور ولا انقطاع. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " لَمَّا فَرَغَ الله مِنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ وأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ. فَهْوَ واضِعُهُ عَلَى فيهِ، شَاخِصٌ إلى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ. قال: وكيف هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيه ثَلاَثَ نَفَخَاتٍ: نَفْخَة الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّماواتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهَ. وَيَأْمُرهُ الله فَيُدِيُمَها وَيُطَوِّلُهَا فَلاَ تَفْتُرُ. وَهِيَ الَّتي يَقُولُ اللهُ جَلّ وعزّ: {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} ".

وقال ابن عباس: {فَوَاقٍ}: ترداد. وعنه: من رجعة وقال مجاهد: " من رجوع ". وقال قتادة: من مثنوية ولا رجوع (ولا ارتداد). وقال السدى: معناه: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك من إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا. وقال ابن زيد معناه: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذاباً يهلكهم. فالصيحة عنده: العذاب. {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}، أي لا يفيقون منها كما يفيق الذي يُغشى عليه. وأصل هذا من فواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين من الراحة. فالمعنى: ما لها من راحة، أي: لا يروحون حتى يتوبوا ويرجعوا عن كفرهم. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب}، أي: وقال هؤلاء المشركون من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة. والقط من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة. والقط في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة.

17

فإنما سألوا تعجيل حظهم من العذاب، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. فهو مثل قولهم: " {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] " الآية. وقال السدي: إنما سألوا تعجيل رؤية حظهم من الجنة ورؤية منازلهم ليعلموا حقيقة ما يعدهم به محمد A. وقال ابن جبير: سألو تعجيل حظهم من الجنة يتنعمون به في الدنيا. وقيل: إنما سألو تعجيل رزقهم قبل وقته. وقيل: إنما سألو تعجيل كتبهم التي تؤخذ بالإيمان والشمائل، لينظروا أبأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم، فيعلمون أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار، استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله جل ذكره. هذا قوله تعالى ذكره: {اصبر على مَا يَقُولُونَ} - إلى قوله - {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} منسوخ بالأمر بالقتال، أمر الله جل ذكره نبيه A بالصبر على قول المشركين والاحتمال منهم، وقد علم تعالى أنه سيأمرهم بقتالهم في وقت آخر، فينسخ الآخر الأول.

ثم قال: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد}، أي: ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله D والصبر على طاعته. يقال: أيد وآد للقوة كما يقال: العيب والعاب قال قتادة: " أُعْطِيَ داود قوة في العباد وفقهاً في الإسلام، وذُكِرَ أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر. وقوله: {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رَجَّاع عما يكره الله D إلى ما يرضاه أواب وهو فعَّال للتكثير من آب يئوب إذا رجع. قال مجاهد: أواب: رجاع عن الذنوب. قال قتاجة: كان مطيعاً لله D كثير الصلاة. وقال السدى: الأوَّاب: المسبح.

ويروى أنه قام ليلة إلى الصباح فكأنه أُعْجِبَ بذلك فقيل لضفدع كلميه في أصل مِحْرَابِه، فقالت له: يا داود، تَعْجَبُ لقيام ليلة! هذا مقامي منذ عشرين سنة شكراً لله D حين سلَّم / بيضي. قال وهب: كان داود قد قسم الدهر أثلاثا، فيصير: يوم للعبادة، ويوماً للقضاء بين الناس، ويوما لقشاء حوائج أهله. ثم قال تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق}، أي: يسجن مع داود من وقت العصر إلى الليل، ومن صلاة الصبح إلى وقت صلاة الضحى. يقال: أشرقت الشمس: إذا أضاءت وصفت، وشرقت إذا طلعت. قال قتادة: كان داود إذا سبح سبحت الجبال معه. واستدل ابن عباس على نص صلاة الضحى في القرآن بهذه الآية {بالعشي والإشراق}، لأنه من أشرقت الشمس إذا وصفت وأضاءت. فإذا صلى داود

العصر وسبَّحَ سبحت الجبال معه، وإذا صلى الضحى (سبح وسبحت) الجبال معه. {والطير مَحْشُورَةً}، أي: وسخرنا الطير مجموعة تسبح معه. {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رجاع لأمره ومطيع له. فالهاء لداود وقيل: إلهاء لله D. والمعنى كل لله مطيع، مسبح له. فكل " في القول الأولى للطير، وفي هذا الثاني: يجوز أن يكون للطير، ويجوز أن يكون لداود والجبال والطير. ورُوي أنه كان إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه. وقال قتادة: محشورة: مسخرة. ثم قال: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}.

قال السدي: كان حرسه في كل يوم وليلة أربعة آلاف. وذكر ابن عباس أن الله جل ذكره شدد ملكه هيبة لقضية قضاها في بنى إسرائيل وذلك أن رجلاً استعدى على رجل من عظمائهم فاجتمعا عند داود، فقال المُسْتَعْدَى: إن هذا غصبني بقراً لي. فسأل الرجل عن ذلك فجحده، فسأل الآخر البيِّنة فلم تكن له بينة، فقال لهما: قُوَما حتى أنظر في أمركما فقاما. فأوحى الله D إلى داود في منامه أن يقتل الرجل الذي ستُعدي عليه. فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأَوْحَى إليه مرة أخرى أن يقتُلَه، وأوحى إليه ثالثة (أن يقتله) أو تأتيه العقوبة من الله D، فأرسل داود إلى الرجل أن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك، فقال الرجل: تقتلني بغير بينة ولا تثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفِّذْنَ أمرالله عز جل فيك. فلما عرف الرجل أنه قاتله قاله له: لا تعجل عليّ حتى أخبرك، إني والله ما أُخِذْتُ بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت وَلَدَ هذا فقتلته فبذلك قُتِلْتُ. فأمر به داود، فَقُتِلَ. فاشتدت هيبته في بني إسرائيل لذلك وشد الله به ملكه.

ثم قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكمة}. قال السدى: هي النبوة. وقال قتادة: الحكمة: السُّنَّة. وقوله: {وَفَصْلَ الخطاب}. قال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل الخطاب: الفهم في علم القضاء. وقال ابن زيد: أعطي فصل ما يتخاطب الناس به بين يديه في الخصومات. وقال شريح فصل الخطاب: الشاهدان على المدعي، واليمين على المنكر، وهو قول قتادة.

وقال الشعبي: يمين وشاهد، وعن الشعبي: هو: أما بعد. ثم قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب}، أي: وهل أتاك يا محمد خبر الخصم. والخصم هنا يراد به الملكان، لكن لا تظهر فيه تثنية ولا جمع لأنه مصدر من خصمته خصماً. والأصل فيه: وهل أتاك نبأ ذوي الخصم ويجوز أن يثنى ويجمع، ودل على ذلك قوله: خصمان. وقوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب}، أي إذ دخلوا عليه من غير بابه. والمحراب: مقدم كل شيء ومجلسه وأشرفه. ثم قال تعالى: {إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ}، أي: لما دخلوا على داود المحراب. {فَفَزِعَ مِنْهُمْ}، أي: فراعه دخولهما من غير مدخل الناس عليه. وقيل: إنما فزع

لأنهما دخلا عليه ليلاً من غير وقت نظره بين الناس. {قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى}، أي: قال الملكان: لا تخف منا نحن خصمان. {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ}، أي: تعدَّى أحدنا على صاحبه. {فاحكم بَيْنَنَا بالحق}، أي: فاقض بيننا بالعدل. {وَلاَ تُشْطِطْ}، أي: لا تجر، وقال قتادة ولا تمل، وقال السدى: لا تخف. وقرأ الحسن وأبو رجاء: " ولا تَشْطُطْ " بفتح التاء وضم الطاء الأولى. بمعنى: ولا تبعد عن الحق. يقال: أَشَطَّ يُشِطُّ إذا جار في القول والحكم، وشَطّ يَشُطُّ إذا بَعُد. ثم قال تعالى: {واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} /، أي: وارشدنا إلى قصد الطريق المستقيم في الحق. ثم قال تعالى: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، الآية.

هذا مثل ضربه الملكان لداود، وذلك أن داود كان له تسع وتسعون امرأة، وكانت للرجل الذي أعزاه داود حتى قُتل، امرأة واحدة، فلما قتل تزوجها فيما ذكر. قال وهب بن منبه: إن هذا أخي، أي على ديني. والعرب تُكَنِّي عن المرأة بالنعجة والشاة. وقرأ الحسن بفتح التاء من " تَسع وتَسعين " وهي لغة قليلة. وقرأ ابن مسعود: " تِسْعٌ وتَسِعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى " على التأكيد، كقولهم: رجل ذَكَر؟. ولا يؤنث بهذا التأنيث إلا ما تأنيثه وتذكيره في نفسه كالرجل والمرأة، فإن كان تأنيثه وتذكيره في اسمه (لم يُقَلْ) فيه أنثى ولا ذكر، نحو: دار، وملحفة، وشبه ذلك.

وقيل: عنى بذلك أنها حسنة. فأنثى تدل على أنها حسنة. ثم قال تعالى ذكره: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}، أي: أنزل عنها وضُمَّها إليَّ. قال ابن زيد: أكفلنيها: أعطنيها، أي: طلقها لي أنكحها. {وَعَزَّنِي فِي الخطاب}، أي: صار أعزَّ مني في مخاطبته إياي لأنه إن تكلم فهو أبين مني، وإن بطش كان أشد مني فقهرني وغلبني. قال قتادة: وعزني في الخطاب: ظلمني وقهرني. وقرأ ابن مسعود: " وَعَازَّنِي ". يقال: عَازَّه (إذا غالبه، وَعَزَّهُ): إذت غلبه، ومنه قولهم: " مَنْ (عَزَّ بَزَّ). ثم قال تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ}، أي: قال داود للمتكلم منهما: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله إيله أن يضم نعجتك إلى نعاجه. {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ}، أي: وإن كثيراً من الشركاء

ليَتَعَدَّى بعضهم على بعض {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}. قوله تعالى ذكره: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} - إلى قوله - {الصافنات الجياد} أي: وأيقن داود أنما اختبرناه. {فاستغفر رَبَّهُ}، أي: سائل ربه المغفرة. {وَخَرَّ رَاكِعاً}، أي: ساجداً لله. {وَأَنَابَ}، أي: رجع عن خيئته وتاب منها. وكان سبب اختيار الله D له - فيما ذكر ابن عباس - أن داود قال: يا رب، قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لَوَدِدْتُ أنك أعطيتني مثله. فقال الله جل ذكره له: إني ابتليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بمثل ما ابتليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، فأقام ما شاء الله أن يُقيم وطال ذلك حتى كاد أن ينساه. فبينما هو في محرابه إذ وقعت عليه حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة كانت في المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت. فاطَّلع من الكوة فرأى امرأة تغتسل. فنزل نبي الله A من المحراب وأرسل إليها، فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرِيَّةِ أن يُؤَمِّرَهُ على السرايا لِيَهْلَكَ زوجها، ففعل. فكان يصاب أصحابه وينجو وربما نصروا. وإن الله لما رأى الذي وقع فيه داود أراد أن يستنفذه، فبينما داود ذات يوم في محرابه إذ تسور عليه الخصمان من قبل وجهه. فلما رأهما وهو يقرأ فَزِعَ وسكت، وقال: لقد استُضعفت في مُلكي حتى إن الناس يتسورون علي في محرابي، قالا له: لا تخف، خصمان بغى بعضنا على بعض فلم

يكن لنا بد من أن نأتيكما فاسمع منا. قال أحدهما. {إِنَّ هَذَآ أَخِي} - إلى {وَعَزَّنِي فِي الخطاب}. قال له داود: أنت كنت أحوجَ إلى نعجتك منه، لقد ظلمك بسؤاله إياك نعجتك ونسي نفسه A. فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخرة فرآه داود أنه فتن، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب أربعين ليلة حتى نبتت الخضرة من عينينه ثم شدد الله له ملكه. روى ابن أبي الدنيا أن وهب بن منبه قال: لم يرفع داود عليه السلام رأسه من السجود حتى قال له الملكان: أول أمرك ذنب وآخره معصية، ارفع رأسك، فرفع رأسه. وعن وهب أنه قال: لما رفع داود رأسه من (السجدة رفع رأسه) وقد زَمِنَ ورعش. قال: فاعتزل نساءه ثم بكى حتى خددت الدموع وجهه. وقال عطاء الخراساني: " إن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها، فكان

إذا رآها اضطربت يداه. وقال وهب بن منبه: كتب داود في كفه: داود الخطاء. وقال يحيى بن أبي كثير لما أصاب داود الخطيئة نفرت / الوحوش من حوله، فنادى: إلهي، رُدَّ عليَّ الوحش كي آنس بها فرد الله تبارك وتعالى عليه الوحش فَأَحَطْنَ به وأصغين بأسماعهن نحوه. قال: روفع صوته يقرأ الزبور ويبكي على نفسه فنادته هيهات هيهات يا داود، ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك. وروي عن النبي A أنه قال: " مَثَلُ عَيْنَيْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَثَلُ الْقِرْبَتَيْنِ تَنْظِفَانِ بِالمَاءِ. لَقَدْ خَدَّدَتِ الدُّمُوعُ وَجْهَ دَاودَ خَديدَ المَاءِ في الأرْضِ ".

وروى أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: قالو: لو جُمِعت دموع أهل الأرض إلى دموع آدم A لكانت دمخوع آدم أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم إلى دموع ابن آدم الذي قتل أخاه لكانت دموع ابن آدم أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض، ودموع آدم، ودموع ابن آدم إلى دموع يعقوب لكانت دموع يعقوب أكثر، ولو جمعت دموع أهل الأرض ودموع آدم ودموع ابن آدم ودموع يعقوب إلى دموع داود لكانت دموع داود أكثر. قال سعيد: " كان داود يجلس على ستة أفرشة فيبكي فيبل الأول فيُرْفع حتى يبللها كلها، كلما كلما بَلَّ واحداً رُفِع؛ وإن كان ليؤتى بالإناء ليشرب فما يفرغ منه حتى يتدفق من دموعه وروى إسماعيل بن عبيد الله: إن داود النبي A كان يعاتب في

كثرة البكاء، فيقول: ذروني أبكي قبل يوم البكاء، قبل تحريق العظام واشتعال اللحى، وقبل وقبل أن يؤمر بي {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. قال محمد بن المنكدر مكث آدم A في الأرض أربعين سنة ما يبدي عن واضحة ولا ترقئ له جمعة. فقالت له حواء: إنَّا قد استوحشنا إلى أصوات الملائكة فادع ربك فيسمعنا أصواتهم. فقال لها: ما زلت مستحياً من ربي D أن أرفع طرفي إلى أديم السماء مما صنعت. وقال محمد بن خوات: إن داود النبي A لما أطال البكاء على نفسه، قيل له: اذهب إلى قبر زوج المرأة فاستوهبه ما صنعت، فأتى القبر، وأَذِنَ الله لصاحب القبر أن يتكلم، فناداه: أنا داود ولك عندي مظلمة، قال: قد غفر تهالك، قال: فنصرف داود وقد طابت نفسه، فأوحى الله D إليه أن ارجع فبين له الذي صنعت فرجع، فأخبره، فناداه صاحب القبر يا داود، هكذا يفعل الأنبياء! قال بكر بن عبيد الله المزُني: مكث داود النبي عليه السلام ساجداً أربعين يوماً يبكي على خطيئته حتى نبت البقل من دموعه، ثم زفر زفرة فهاج العودة فاحترق،

فنودي أظمآن أنت فَتُسقَى؟ أجائع فتطعم؟ أعادي فتُكسى؟ قال: لا، ولكن خطيئتي أثقلت ظهري، فلم يُرْجَعُ إليه بشيء، فازداد بكاء حتى انقطع صوته، فكان لا يُسمع له إلاّ كهيئة الأنين، فعند ذلك غُفِرَ له. وقال الحسن: بكاء داود عليه السلام بعد ما غُفرت له الخطيئة أكثر من بكائه قبل المغفرة، فقيلك له: قد غُفر لك يا نبي الله؟! قال: فكيف بالحياء من الله D. قال كعب: كان داود عليه السلام يختار مجالسة المساكين، ويُكثر البكاء ويقول: رب اغفر للمساكين والخطائين حتى تغفر لي معهم، وكان قبل ذلك يدعو على الخطائين. قال أبو عبد الرحمن الحبلي: ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد خطيئته حتى مات. ورُوي أنه كان إذا ذكر عقاب الله D تلعت أوصاله، فإذا ذكر

رحمة الله تراجعت. وروى أشهب عن مالك أنه قال: بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريباً من داود وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها، فكانت قرب يده، ثم طارت فَاَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغسل ولها شعر طويل. فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجداً حتى نبت العشب من دموع عينيه. ويراد بالركوع في هذا الموضع: السجود. قال السدي: كان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس ويوماً يخلو فيه لعبادة ربه D، ويوماً يخلو فيه لنسائه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وكان فيما يقرأ من الكتب: فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. فلما وجد ذلك فيما يقرأ من الكتب قال: يا رب، إن الخير قد ذهب / به آبائي، فأعطني مثل ما أعطيتهم. فأوحى الله إليه أن آباءك ابتلوا ببلاء لم تبتل به، ابتلي إبراهيم بذبح ابنه فصبر، وابتلي إسحاق بذهاب بصره، وابتلي يعقوب بحزنه على يوسف، وإنك لم تبتل

أنت من ذلك الشيء. فقال: ابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم. قال: فأوحى الله D إليه أنك مبتلى فاحترس، قال: فمكث ما شاء الله أن يمكث إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب حتى وقع عند رجليه وهو قائم يصلي قال: فمد يده ليأخذه فتنحى، فتبعه قتباعد حتى وقع في كوة، فذهب ليأخذه، فطار من الكوة فنظر أين (يقع فيبعث) في أثره، قال: فأبصر امرأة تغتسل في سطح لها، فرأى امرأة من أجمل الناس خَلْقاً، فحانت منها التفاتة فأبصرته، فألقت شعرها فاستترت به. قال: فزاده ذلك فيها رغبة. قال: فسأل عنها فأخبر أن لها زوجاً وأن زوجها غائب بمسلحة كذا وكذا). قال: فبعثه ففتح له قال: فكتب إليه بذلك. قال فكتب إليه ثالثة فبعثه فقتل. قال: وتزوج امرأته، فلما دخلت عليه لم تلبث عنده إلا يسيراً حتى بعث الله ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فتسوروا عليه المحراب. قال: فما شعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين قال: {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} فقالا: {لاَ تَخَفْ} لا تخف، إنما نحن {خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} - إلى قوله -

{سَوَآءِ الصراط}، قال: قصّا قصتكما قال: فقال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، وهو يريد أخذ نعجتي فيكمل بها نعاجه مائة! فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: إن لي (تسعاً وتسعين) نعجة ولأخي هذا نعجة واحدة. قال: فأنا أريد أن آخذها منه فأكمل بها نعاجي مائة؟! قال: (وهو كاره). قال: إذا (لا ندعك) وذلك. قال: ما أنت على ذلك بقادر. قال: فإن ذهبت تروم ذلك (أو لم ترد ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يريد طرف الأنف، وأصل الأنف، والجبهة قال: يا داود، أنت أحق أن يضرب منه هذا وهذا حيث لك تسع وتسعون امراة ولم يكن لاوريا إلا امرأة واحدة، (فلم تزل) تعرضه للقتل حتى قُتل، وتزوجت امراته. قال: فنظر داود الرجلين فلم ير شيئاً فعرف ما قد وقع فيه فخر ساجداً. - وهو موضع السجود عند مالك.

وروي أن رجلاً من الأنصار - على عهد النبي A - كان يصلي من الليل مستتراً بشجرة وهو يقرأ " ص "، فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة، فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً، وارزقني بها شكراً، وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته. فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لرسول الله A. فقال رسول الله: نحن أحق أن يقول ذلك. فكان A إذا سجد يقول ذلك. قال عقبة بن عامر الجهني: من قرأ (ص) ولم يسجد فيها فلا عليه ألا يقرأ بها.

قال: فبكى أربعين يوماص لا يرفع رأسه إلا لحاجة، ثم يقع ساجداً يبكي حتى نبت العشب من دموع عينيه، قال: فأوحى الله D إليه بعد أربعين يوماً: يا داود، ارفع رأسك فقد غفرت لك. قال: يا رب، كيسف أعلم أنك قد غفرت لي وأنت حكم عدل لا تحيف في القضاء، إذا جاء أوريا يوم القيامة آخذ رأسك بيمينه، أو بشماله، تشخب أوداجه دماً، يقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ قال: فأوحى الله D إليه: إذا كان ذلك (دعوت أوريا). فاستوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه بذلك الجنة. قال: رب، الآن علمت أنك قد غفرت لي. قال: فلما استطاع أن يملأ عينيه من السماء حياء من ربه حتى قبض A. وقيل: اسم الرحل أوريا بن حيان. وقال الحسن: جزأ داود الدهر أربعة أجزاء: يوماص لنسائه، ويوماً لعبادة ربه، ويوماً لقضاء بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه، ويبكيهم ويبكونه. قال: فلما كان يوم بني إسرائيل، قال: ذَكَرُوا فقالو: هل أتى على الإنسان يوم / لا يصيب فيه ذنباً؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك. فلما كان يوم عبادته أغلق أبوابه وأمر ألا يدخل عليه أحد، وأكب على التوراة.

فبينما هو يقرؤها إذا حمامة من ذهب، فيها من كل لون (حَسَنْ، قد وقعت بين يديه، فأهوى إلها ليأخذها، قال: فطارت فوقعت غير بعيدة من غير أن تؤيسه من نفسها. قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها. قال: فلما رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها فزاده ذلك إعجاباً بها. وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسر إلى مكان كذا وكذا - مكانٌ إذا صار إليه لم يرجع - قال: ففعل، فأصيب، فخطبها، فتزوجها. قال قتادة: بلغنا أنها أم سليمان. قال الحسن: فبينما هو في المحراب إذ تسور الملكان عليه - وكان الخصمان إذا أتوه يأتونه من باب المحراب - ففزع منهم حين تسوروا المحراب، فقالا: لا تخف، خصمان يغى بعضنا على بعض. وذكر نحو الحديثين المتقدمين. وقيل: إن خطيئته هي قوله: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه من غير ثبت بينة ولا إقر ار من الخصم ولا سؤال لخصمه: هل كان هذا هكذا أو لم يكن. وهو قول شاذ.

وقال ابن الأعرابي: قال كعب: سجد داود نبي الله A أربعين ليلة لم يرفع رأسه حتى رقأ دمعه ويبس رأسه. فكان من آخر دعائه وهو ساجد أنه قال: يا رب رزقتني العافية، فسألتك البلاء، فلما ابتليتني لم أصبر فلم تعذبني فأنا أهل ذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل ذلك - يقولها في نفسه - فعلم الله D ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله D ما قال فإذا جبريل عليه السلام على رأسه قائم يقول له: يا داود، إن الله قد غفر لك فارفع رأسك فلم يتلفت إليه، وناجى ربه وهو ساجد فقال: يا رب، وكيف تغفر لي وأنت الحكم العدل، وقد فعلت بالرجل ما فعلت؟ قال: فنزل الوحي عليه: صدقت يا داود أنا الحكم العدل، ولكن إذا كان يوم القيامة دفعتك إلى أوريا سلماً، ثم استوهبتك منه، فيهبك لي، فأثيبه الجنة. قال داود: الآن أعلم أنك قد غفرت لي. قال: فذهب داود يرفع رأسه فاذا هو يابس لا يستطيع. قال: فمسحه جبريل عليه السلام بريشة فانبسط. قال: فأوحى الله D إليه بعد ذلك: يا داود: قد أحللت لك امرأة أوريا فتزوجها، فتزوجها داود A، فولدت له سليمان عليه السلام، لم تلد قبله شيئاً ولا بعده. قال كعب: فوالله لقد كان داود بعد ذلك ليظل صائماً في اليوم الحار فيقرب إليه الشراب فإذا قربه إلى فيه ذكر خطيئته فيبكي في الشراب حتى يفيض ثم يرده ولا يشربه.

وروى الأوزاعي عن بعض أهل المدينة أنه قال: مثل عيني كمثل القربتين تنظفان الماء، لقد خدد الدمع في وجهه كخديد الماء في الأرض. ويروى أن داود بات لربه D مصلياً حتى أصبح فذهب إلى نهر ليتوضأ، فقال: الحمد لله، لقد عبدت الله الليلة عبادة ما عبده أحد إياه من أهل الأرض. فكَلَّمَه ضفدع من الماء فقالت: جلا يا أبا سليمان، فوالله إن لي لثلاثاً من الدهر ما جمعت بين فقمي تسبيحاً لله. وروي عن ابن مسعود وابن عباس أن داود عليه السلام ما زاد على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك، فعاتبه الله على ذلك ونبهه عليه. ثم قال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}، أي ذلك الذنب.

{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى}، أي: لقربة يوم القيامة. قال الضحاك: لمنزلة رفيعة. ثم قال: {وَحُسْنَ مَآبٍ}، أي: حسن مصير. قال السدي: حسن منقلب. وقال الضحاك: يبعث داود النبي عليه السلام وذكر خطيئته، ووجلُه منها في قلبه، منقوشةٌ في كفه. فإذا رأى أهاويل الموقف لم يجد منها متعوذاً وامحرزاً إلا برحمة الله تبارك وتعالى قربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال وقربه، فيلجأ إليه تبارك وتعالى، فيشار إليه أن هاهنا عن يسار العرش، ثم يعلق فيقال له: هاهنا عن يمين العرش. وذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}. وقال مالك بن دينار: يقال داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، ثم يقول: يا داود، مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به / في الدنيا.

فيقول يا رب، كيف وقد سلبتنيه؟! فيقول: إني سأرده عليك. قال: فيدفع داود بصوت يستفرغ به نعيم أهل الجنان. {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}: تمام حسن. ثم قال تعالى: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض}، فغفرنا له ذلك الذنب، وقلنا له: يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، أي استخافناك في الأرض من بعد من كان قبلك من رسلنا حكماً بين أهل الأرض. {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق}، أي: بالعدل والإنصاف. {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى}، أي: لا توثر هواك في قضائك على العدل فتجور في الحكم فيضلك هواك عن سبيل الله. {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، أي: يميلون عن الحق الذي أمر الله به. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ}، أي: يوم القيامة. {بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب}، أي: بتركهم العمل ليوم القيامة.

قال عكرمة: هذا من التقديم والتأخير. والتقدير عنده: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا أي: بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل. فالعامل في " يوم " في القول الأول: " نسوا " هو مفعول به والعامل فيه في القول الثاني " لهم " وهو ظرف. وكان ابن عباس يسجد عند قوله: " وأناب "، ويقول: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90]. ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً}، أي: عبثاً ولعباً بل خُلِقَا ليُعمل فيهما بالطاعة. ثم قال تعالى ذكره: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ}، أي: خلق السماء والأرض وما بينهما لغير حساب ولا بعث ولا عمل، هو ظن الذين كفروا فويل لهم من النار. ثم قال: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض}. هذا رد لقول الكفار، لأنهم كانوا يقولون: ليست ثمَّ عقوبة ولا نار، فالكافر والعاصي يَسْعَدَان باللذات، والمطيع يشقى، ومصيرهما إلى شيء واحد فرد الله عليه بأنه لم يجعل المتقين كالفجار في الآخرة، ولا الصالح كالمفسد. ثم قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}، (أي: هذا القرآن كتاب أنزله الله إليك يا

محمد مبارك) على من آمن به، أنزله: {ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} ليعتبروا آياته وليتذكر به أولوا العقول. ثم قال: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}، أي: وُلِدَ إليه. {نِعْمَ العبد}، أي: ممدوح في طاعة ربه. {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رجاع إلى طاعة الله D تواب إليه سبحانه، وقيل: الأواب: الكثير الذكر. وقال ابن عباس: الأواب: المسبح. وقال قتادة: مطيعاً كثير الصلاة. وقال ابن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب. وقيل: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء، ثم يتوب منه ويستغفر. ثم قال تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد}، أي: هو تواب في هذا الوقت. والصافنات: جمع صافن من الخيل، والأنثى: صافنة. والصافن: الذي يجمع بين يديه، ويثني طرف سنبك إحدى رجليه. وقيل: هو الذي يجمع بين يديه.

32

وزعم الفراء أن الصافن هو القائم. وقال مجاهد: صفون الفرس: " رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر ". وقال قتادة: صفونها: قيامها وبسطها قوائمها. وقال ابن زيد: الصافنات: الخيل، أخرجها الشيطان لسليمان من مرج من مروج البحر. والصفن أن تقوم على ثلاث وترفع رجلاً واحدة تكون على طرف الحافر على الأرض. قال ابن زيد: وكانت لها أجنحة. (والجياد: السريعة. روي أنها كانت عشرين فرساً ذات أجنحة). قوله تعالى ذكره: {فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} - إلى قوله - {لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}. قال ابن عباس: كان مما ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس لا يعلم في

الأرض مثلها. وكان أحب إليه من كل ما ورث، وكان معجباً بها، فجلس مجلسه وقال: اعرضوا علي خيلي، فعرضت عليه بعد الظهر إلى غيبوبة الشمس وأغفل صلاة العصر: فقال: ما صليت العصر! ردوها علي فطفق يعرقبها ويضرب رقابها وكان الذي عرض عليه تسع مائة، وبقيت مائة لم تعرض عليه. فقال: هذه المائة التي لم تلهني عن صلاتي أحب إلي من التسع مائة. في الآية حذف دل عليه الكلام، والتقدير: إنه أواب إذ عُرض / عليه بالعشي الصافنات الجياد، فلهى عن الصلاة حتى فاتته فغابت الشمس ولم يصل، وهو قوله {حتى تَوَارَتْ بالحجاب}. {فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير}، أي: الخيل. والعرب سمي الخيل: الخير، والمال أيضاً يسمونه الخير. وفي الحديث: " الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَواصِيَها الخَيْرُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " ولما ورد زيد

الخيل على النبي A قال له: أنت زيد الخير. وهو زيد بن مهلهل الشاعر. وقيل: المعنى، إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربي، وذلك أنه كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غُنمت، فأشار بيده أنه يصلي. {حتى تَوَارَتْ بالحجاب}، أي: توارت الخيل، فسترها جدر الإصطبلات، فلما فرغ من صلاته قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق}، أي: يمسحها مسحاً. فالضمير في " توارت " على هذا القول للخيل. وأكثر الناس على أنه للشمس وإن (لم يجر) لها ذكر، ولكن لما قال بالعشي دل على أن بعده غياب الشمس. قال علي بن أبي طالب Bهـ التي فاتته في صلاة العصر وهو قول قتادة

والسدي. وقيل: المعنى: إني آثرت حب الخير عن ذكر ربي، أي: على ذكر ربي، ومنه قوله: {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17]، أي: آثروا الضبه على الهدى. وقيل: معنى أحببت: قعدت وتأخرت. يقال أحب الجمل وأحببت الناقة، إذا بركت وتأخرت. فالمعنى: إني قعدت عن ذكر ربي لحب الخير {حتى تَوَارَتْ بالحجاب}. إنى قعدت عن صلاة العصر حتى غابت الشمس. فيكون حب الخير مفعولاً به على قول من جعل أحببت بمعنى آثرت. ويكون مفعولاً من أجله على قول من جعل أحببت بمعنى تأخرت وقعدت. ولا يحسن أن ينصب على المصدر لأن المعنى على غير ذلك. ثم قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ}، أي: ردوا الخيل عليَّ التي شغلتني على الصلاة. {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق}، أي: طفق يضرب أعناقها وسوقها. قال الحسن: قال سليمان: لا، والله لا تشغلني عن عبادة ربي فكشف عراقيبها وضرب أعناقها. ولم يكن له فعل ذلك إلا وقد أباح الله ذلك له.

وقال ابن عباس: " جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها لها ". قال بعض أهل العلم: هذا القول أحسن، لأنه نبي، ولم يكن ليعذب حيواناً بغير ذنب ويفسد مالاً بلا سبب. قال وهب بن منبه: كانت الريح تحمل سليمان وجنوده، وكانت تأتيه تُسمعه كلام كل متكلم، ولذلك سمع كلام النملة. قال: وإنه لمسير ذات يوم بجنده والريح تحمله (إذ مر برجل) من بني إسرائيل وهو في حرث له يثير على مجساة له يفجر في حرث له من نهر له إذ التفت فرأى سليمان وجنده بين السماء والأرض تهوي به الريح. فقال: لقد آتاكم الله آل داود. قال: فاحتملت الريح كلامه فقذفته في إذن سليمان عليه السلام فقال سليمان للريح: احبس، فحبست. فنزل مقتنعاً بِبُرْدٍ لَهُ حتى أتى الرجل فقال له: ماذا قلت؟!

قال: رأيتك في سلطان الله الذي أتاك وما سخر لك، فقلت: لقد آتاكم الله آل داود. فقال: صدقت، كذلك قلت، كذلك سمعت ولذلك حينئذ تخوفاً عليك من الفتنة. تعلم، والذي نفس سليمان بيده، لثواب " سبحان الله " كلمة واحدة عند الله يوم القيامة أفضل من كل شيء رأيته أو أوتيه آل داود في الدنيا. قال له الرجل: فَرَّجْتَ هَمِّي، فرج الله همك. فقال له سليمان: وما همي؟ قال: أن تشكر ما أعطاك الله D. قال له سليمان: صدقت. وانطلق إلى مركبه. ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}، أي: اختبرناه وابتليناه. {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً}، أي: شيطاناً مثل بإنسان. ذكر أن اسمه صخر الجني، قاله ابن عباس، قال: الجسد: الجِنِّي الذي دفع إليه سليمان خاتمه فقذفه في البحر. وكان ملك سليمان في خاتمه. وهو قول الحسن وابن جبير ومجاهد. قال مجاهد: فقعد الجني على كرسي سليمان، ومنعه الله من نساء سليمان فلم يقربنه وأنكرنه.

قال مجاهد: قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك / أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فساح سليمان وذهب ملكه. فكان سليمان يستطعم الناس فيقول: أتعرفوني؟! أطعموني، أنا سليمان! فيكذبونه حتى أطعمته امرأة يوماً حوتاً فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر الجني في البحر. وكان مدة ذلك فيما ذكر: أربعين يوماً. وقال قتادة: " أمر سليمان ببناء المقدس، فقيل له: ابْنِه، ولا يُسمع فيه صوت حديد. فطلب (علم ذلك فلم يقدر عليه، فقيل له: إن شيطاناً في البحر يقال له صخر، سيد الماردين. قال: فطلبه). وكانت عين في البحر يَرُدها ذلك الشيطان في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجُعل فيه خمر. فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر، فقال: إنَّكِ لشراب طيب، إلا أنك لتصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً!) ثم شربها حتى غلبت على عقله. قال: فأُرِيَ

الخاتم، أو ختم به بين كتفيه فَذُلَّ - وكان ملك سليمان في خاتمه - فقال: إنا قد أمِرْنَا ببناء هذا البيت، وقيل: لنا: لا يسمعن فيه صوت حديد. قال: فأتى إلى بيض الهدهد فجعل عليه زجاجة، فجاء الهدهد فدار حولها، فجعل يرى بيضه ولا يقدر (عليه فذهب فجاء) بالماس فوضعه على الزجاج فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه. فأخذوا الناس فجعلوا يقطعون به الحجارة. فكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء لم يدخل بخاتمه، فانطلق يوماً إلى الحمام وذلك الشيطان معه - وذلك عند مفارقة ذنب قارفه بعض نسائه - قال: فدخل الحمام، وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه في البحر فالتقمته سمكة، ونُزِعَ ملك سليمان منه، وأُلقِي على الشيطان شبه سليمان فجاء فقعد على كرسيه، وسُلِّطَ على مُلك سليمان كله غير نسائه. فكان يقضي بين الناس ينكرون منه أشياء حتى قالوا: لقد فتن سليمان الله. وكان (فيهم رجل فيه قوة)، فقال: والله لأجربنه فقال له: يا نبي الله - وهو لا يرى إلا أنه نبي - أحدنا تصيبه الجنابة (من الليل) في الليلة الباردة فيدع الغسل مستمداً حتى تطلع الشمس، أترى عليه بأساً؟ قال: لا.

قال: فبينما هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله سليمان خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم ". وذكر السدي في هذه القصة مثل ذلك إلا أنه قال: " كانت لسليمان مائة امرأة، امرأة منهن يقال لها جرادة - وهي أَعَزُّ نسائه عنده وآمَنَهُنَّ - وكان يترك الخاتم عندها إذا دخل الخلاء، فجاءته يوماً (من الأيام) فسألته أن يقضي لأخيها في خصومة بينه وبين رجل، فقال لها: نعم، ولم يفعل، فابتلي. فأعطاها خاتمه ودخل الخلاء فأتاها الشيطان في صورة سليمان فأعطته الخاتم فذهب ملك سليمان وجلس الشيطان على كرسي سليمان فقد ذهب عقله! فبكى النساء عند ذلك فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرؤوا، فطار بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه، فابتلعه حوتٌ. قال: وأقبل سليمان

في حاله التي كان فيها وهو جائع حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر فاستطعمه من صيده. فقال: إني أنا سليمان، فقام إليه بعضهم فضربه بعصاً فشج وجهه، فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر. فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، ثم أعطا سليمان سمكتين مما قد مَذَرَ عندهم - أي: نتن - فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما، فجعل يغسل، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه ولبسه فَرَدَّ الله عليه بهاءه ومُلكه. وجاءت الطير حتى حامتا عليه فعرف / القوم أنه سليمان فقاموا يعتذرون مما صنعوا فقال: (ما أحببكم) على عذركم ولا ألومكم عل ما كان منكم، كان هذا الأمر لا بد منه. فجاء حتى أتى مُلكه، فأرسل إلى الشيطان فجيء به - وسخر له الريح والشياطين يومئذ (ولم يسخر) له قبل ذلك - فجعل الشيطان في صندوق من حديد، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أَمَرَ، فأُلقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة " وقيل: أنه ولد له ولد ميت، وذلك أنه طاف على (جَوَارٍ له) وقال: أرجو أن تلد كل

واحد منهن (ذكرا، ولم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل إلا واحدة منهن) ومات الولد وألقي على كرسيه. وقوله: {ثُمَّ أَنَابَ}، أي: أناب سليمان فرجع إلى ملكه بعد زواله عنه. قال الضحاك: دخل سليمان على امرأة تبيع السمك فاشترى منها سمكة فشق بطنها فوجد خاتمه، فجعل لا يمر على شجرة ولا صخرة (ولا شيء) إلا سجد به، ثم أوتي مُلكه وأهله، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنَابَ}، أي: رجع. وقيل: " أناب ": [تاب ورجع عما كان عليه. ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغفر لِي}، أي: استر على ذنبي الذي أذنبت]. بيني وبينك.

{وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ}، أي: لا تسلبنيه كما سلبنه هذا الشيطان. قاله قتادة. وقيل: المعنى: لا يكون مثله لأحد من بعدي. {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب}، أي: تهب ما تشاء لمن تشاء. وقيل: المعنى: أعطني فضيلة ومنزلة. روى أبو عبيد في كتابه مواعظ الأنبياء أن سليمان عليه السلام لما بنى مسجد بيت المقدس ودخله خر ساجداً شكراً لله D وقال: يا رب، من دخله من تائب فَتُبْ عليه، أو مستغفر فاغفر له، أو سائل فأعطه. قال: ولما مات داود عليه السلام أوحى الله إلى سليمان أن سَلْنِي حاجتك. قال: أسألك أن تجعل قلبي يخشاك كما كان قلب أبي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلبي أبي. فقال الله جل ذكره: أرسلت إلى عبدي أسأله حاجته، فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني، وأن أجعل قلبه يحبني! لأَهَبَنَّ له مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده. فوفقه الله إلى أن سأل ذلك فأعطاه ذلك، وفي الآخرة لا حساب عليه فيه.

ورُوي عن النبي A أنه قال: " أرأيتم سليمان وما أُعطي من ملكه فإنه لم يرفع رأسه إلى السماء تخشعاً حتى قبضه الله D ". وروى أبو عبيد أن نملة قالت لسليمان: إني على قدري أشكر لله منك! وكان على فرس ذنوب فخر عنه ساجدا: (ثم قال: لولا أن أبخلك لسألتك أن تنزع عني ما أعطيتني). ثم قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً}، أي: فاستجبنا دعاءه وأعطيناه مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء. قال الحسن: إن نبي الله سليمان لما عُرضت عليه الخيل شغلته عن صلاة العصر، فغضب لله، فأمر بها فعُقِرَت، فأبدله الله مكانها أسرع منها، فسخرت له الريح تجري بأمره رخاء.

{حَيْثُ أَصَابَ}: حيث شاء. قال مجاهد: رخاء: طيبة. وقال قتادة: رخاء: طيبة سريعة ليست بعاصف ولا بطيئة. وقال ابن زيد: الرخاء: اللينة. وقال ابن عباس: رخاء: مطيعة، وقال الضحاك. وقال السدي: رخاء: طوعاً. وقوله: {حَيْثُ أَصَابَ}، أي: حيث أراد: قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وابن زيد من قولهم: أصاب الله بك خيراً، أي: أراده الله بك خيراً. وقال مجاهد: " حيث أصاب: حيث شاء ". ثم قال {والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ}، أي: كل بناء يبني له ما يشاء من المحاريب والتماثيل، وكل غواص يستخرج له الحلي من البحار، وسخر له كل من ينحت له جفافاً وقدوراً، وآخرين مقرنين في الأصفاد، وهم: المردة من الشياطين. هذا كله قول قتادة.

والأصفاد: السلاسل، قال السدي: مقرنين: تجمع يداه إلى عنقه. وواحد الأصفاد: صَفَد، كحَجَر. وقيل: واحدها: صفْد. كعدْل. وهي: الأغلال والسلاسل من الحديد، وكل من شددته شداً وثيقاً بالحديد فقد صفدته، وكذلك لكل من أعطيته عطاء جزيلاً ما يرتبط له. واسم العطية / الصفد. قال الضحاك: أعطى الله سليمان ملك داود وزاده الريح والشياطين. ثم قال تعالى ذكره: {هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: هذا المُلك عطاؤنا فاعط ما شئت منه وامنع ما شئت من الشياطين في وثاقك وسرح ما شئت منهم. وعن ابن عباس أن هذا إشارة إلى ما أُعطي سليمان من القوة على الجِمَاع. قال: كان في ظهره مائة مائة رجل، وكان له ثلاث مائة امرأة، وتسع مائة سرية. فالمعنى: فجامع من شئت، واترك جِمَاع من شئت بغير حساب عليك. وقال ابن مسعود: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: هذا عطاؤنا بغير حساب، فامنن أو أمسك، فالمعنى: هذا عطاؤنا بغير منة عليك.

ثم قال تعالى ذكره: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}، أي: وإن لسليمان في الآخرة عند الله لقربة منه وحسن مرجع ومصير. وإنما رغب سليمان إلى الله في هذا الملك ليعلم منزله عند الله، ودرجته، وقبول توباته، ومقدار إجابته له، لا لمحبته في الدنيا ورغبته فيها وجلالة قدرها عنده، بل كانت أهون هنده من ذلك. ويجوز أن يكون سأل ذلك ليقوى به على الجهاد في سبيل الله D، لا لمحبته في الدنيا وملكها. وقوله: {لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي}، الأحسن في تأوليه: (لا أسلبه) كما سلبت ملكي قبل هذا، لا أنه بَخَّلَ على من بعده أن يكون له مثل ملكه بعد موته. وقيل: معناه: لا ينبغي لأحد من أهل زماني فيكون ذلك لي واختصاصي به دون غيري، حجة لي على نبوتي وأني رسولك إليهم. وإذا أتى بمثل ملكي غيري من أهلي زماني لم يكن له حجة على من أرسلت إليه، إذ قد أوتي غيري مثل ما أوتيت. فانفرادي بذلك يدل على نبوتي وصدقي. إذْ كانت الرسل لا بد لها من أعلام تفارق بها سائر الناس. وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أن سليمان عليه السلام كان إذا رأى ما هو

41

فيه مما أعطاه الله قال: نموت وننسى. قوله تعالى ذكره: {واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} - إلى قوله - {إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: واذكر يا محمد أيوب إذ نادى ربه مستغيثاً به مما نزل به. {أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}. قال قتادة: هو ذهاب المال والأهل، والضر الذي أصابه في جسده، ابتُلي سبع سنين وأشهراً ملقى على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، ففرج الله عنه، وعظم له الأجر، وأحسن عليه الثناء. قال السدي: معناه: بنصب في جسدي، وعذاب في مالي. وروى الطبري عن وهب بن منبه أنه قال: كان أيوب A رجلاً من الروم من ذرية عيصا بن إسحاق بن إبراهيم. ومن الرواة من يقول في عيصا: العيص بن إسحاق. وروي أن أيوب تزوج ابنه يعقوب واسمها ليا؛ وهي التي أقسم أيوب ليضربها مائة ضربة، فبَّر الله D يمينه. وكانت أم أيوب بنت لوط.

وقيل: كانت زوجة أيوب: رحمة ابنه أفريق بن يوسف بن يعقوب. قال وهب: إن إبليس اللعين سمع تجاوب ملائكة السماوات بالصلاة على أيوب حين ذكر ربه وأثنى عليه، فأدرك إبليس الحسدُ والبغيُ، فسأل الله D أن يسلطه عليه ليفتنه عن دينه، فسلط على ماله دون جسده وعقله، فأذهب الله ماله كله، فشكر أيوب ربه D ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه سبحانه. فسأل إبليس الله D أن يُسلطه على ولده، فأهلك ولده، فشكر أيوب ربه ولم يغيره ذلك عن عبادة ربه تعالى. فسأل إبليس الله أن يسلطه على جسده، فسلط عليه دون لسانه وقلبه وعقله، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده؛ فصار أمره إلى أن تناثر لحمه، فأخرجه أهل القرية من القرية إلى كناسة خارج القرية، فلم يغيره ذلك عن ذكر (ربه وعبادته). قال ابن عباس: لما أصاب أيوب البلاء، أخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس. فجاءته امرأة أيوب، فقالت له: أتداوي رجلاً به علة كذا وكذا؟ قال: نعم، بشرط على أني (إن شفيته قال لي): أنت شفيتني لا أريد منه / أجراً غير هذا. فجاءت امرأة أيوب إلى أيوب، فقال: ذلك الشيطان! والله لئن بَرَأْتُ

لأضربنك مائة فلما برأ أخذ شمراخاً فيه مائة عرجون فضربها به ضربة. فيكون " النُّصْبُ " على هذا، ما ألقاه الشيطان إليه ووسوس به إلى امرأته. وقرأ الحسن: " بَنَصَبٍ " بفتح النون والصاد. وهما لغتان، كالحُزْن والحَزَن. وقيل: من ضم النون جعله جمع نَصَب، (كَوَثَن وَوُثْن). فأما قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] "، فهو جمع نصاب. وقوله {اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. في الكلام حذف، والتقدير: فاستجبنا له إذ نادى، وقلنا له اركض برجلك الأرض، أي: حركها وادفعها برجلك. والركض: حركة الرجل. قال المبرد: الركض: التحريك، ولهذا قال الأصمعي: يقال: رَكَضْتُ

الدابة، ولا يقال: رَكَضَتْ (هي، لأن الركض حركة الرِّجْلِ من راكبها، ولا فعل لها في ذلك الوقت. وحكى سيبويه: (ركضتُ) الدابة فركضت، مثل جَبَرْتُ العظم فجبر. قوله: {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. قال قتادة: " ضرب برجله أرضاً يقال لها الجابية، فإذا عينان تنبعثان، فشرب من إحداهما واغتسل من الأخرى ". قال وهب: فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل فأذهب الله D عنه كل ما كان فيه من البلاء. قال الحسن: فركض برجله فنبعث عين فاغتسل منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها فذلك قوله: {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فالموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلاً.

ثم قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ}. قال مجاهد: رَدَّ الله عليه أهله وأعطاه مثلهم معهم في الآخرة. وقال الحسن وقتادة: فأحيا الله جل وعز له أهله بأعيانهن وزاده في الدنيا مثلهم. (وهو قول ابن مسعود). وقيل: إنمل رد الله عليه من غاب من أهله وولده مثل من مات منهم، وأعطي من نسلهم مثلهم. وقوله: {رَحْمَةً مِّنَّا} أي: رحمناه رحمة. وقال الزجاج: نصب رحمة على أنه مفعول له. ثم قال: {وذكرى لأُوْلِي الألباب}، أي: فعلنا به ذلك للرحمة وليتذكر وليتعظ به أولوا العقول إذا ابتلوا فيصبرو كما صبر أيوب. وروي أن أيوب كان نبياً في عهد يعقوب النبي A. وكان عمر أيوب ثلاثاً وتسعين سنة، وذا الكفل هو ولد أيوب، واسمه شبر بن أيوب. وفيه اختلاف،

وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. وروى أنس أن النبي A قال: " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشر سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه به، كانا يغدوان إليه ويروحان. فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين! قال له صاحبه: وما ذاك؟! قال: منذ ثماني عشرة سنة لم ي C فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال له أيوب: ما أدري ما تقول، غير أن الله D يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله - أي: يحلفان به - فأرجع إلى بيتي (فأكفر عنهما) كراهية أن يذكر الله إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، قال: فلما كات ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله جل ذكره إلى أيوب في مكانه أن اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب. فاستبطأته فتلقته وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على خير ما كان. فلما رأته قالت: بارك الله فيك، هل رأيت نبي

الله، هذا المبتلى؟ فوالله - على ذلك - ما رأيت رجلاً أِبه به منك إذ كان صحيحاً! قال: فإني أنا هو!! قال: وكان له أندران: أندر اقمح، وأندر الشعير قال: فبعث الله D سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر الشعير الورق حتى فاض ". وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} الضغث: ما يجمع من شيء من الرطب ويحمل الكف من الحشيش أو الشماريخ ونحو ذلك. قال ابن عباس، أُمر أن يأخذ حزمة من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضربها به. قال الحسن مكث أيوب مطروحاً على كناسة سبع سنين وأشهراً، ما يسأل الله أن يكشف ما به. قال: وما على الأرض أكرم على الله من أيوب. فقال بعض الناس: لو كان لرب هذا فيه ما ضيع هذا. قال: فعند ذلك / دعا أيوب ربه فكشف ما به.

قال قتادة: كان إبليس قد تعرض لامرأته فقال لها: لو تكلمت كذا وكذا شفيته. فحلف أيوب لئن شفاه الله ليجلدنها مائة جلدة. فأمر أن يأخذ أصلاً فيه تسعة وتسعون قضيباً، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة فيبر من يمينه ويخفف الله بذلك عن امرأته. قال الضحاك: ضغثاً، يعني: من الشجر الرطب. كان حلف على يمين فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه فضرب به ضربة واحدة فَبَرَّت يمينه، وهو في الناس اليوم: يمين أيوب. من أخذ بها فهو أحسن. قال عطاء: هذا لجميع الناس، وقال مجاهد وغيره: هو خاص لأيوب، لا يعمل به غيره ولا يجزيه، وهو قول مالك، وهو قول جماعة العلماء إلا الشافعي فإنه أجاز لمن حلف على عشر ضربات فضرب بشمراخ فيه عشر قضبان مرة فأصابت المضروب أنه يبر قال ابن جبير: يعني بالضغث قبضة من

المكانس. ثم قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً}. أي: على البلاء. {نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ}، أي: رجاع من معصية الله إلى طاعته. قال ابن عباس: اتخذ إبليس تابوتاً وقعد على الطريق يداوي الناس، فأتته امرأة أيوب، فقالت: إن هاهنا إنساناً مبتلى من أمره كذا، هل لك أن تداويه؟ قال: نعم، على أني شفيته أن يقول كلمة واحدة. يقول: أنت شفيتني؛ لا أريد منه أجراً غيرها. فأخبرت بذلك أيوب. فقال: ويحك! ذلك الشيطان! لله عَلَيَّ إنشفاني الله أن أجلدك مائة جلدة. فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثاً (فيضربها به). فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها به ضربة واحدة. وقال غير ابن عباس، إنما نذر أن يضربها حين باعت شعرها بالطعام فافتقده

45

وخافها على نفسها. ويروى أن أيوب عليه السلام لم يدع في بلائه، وصبر حتى نال ثلاثة أشياء، فعند ذلك دعا الله D: وذلك أن صديقين له بالشام بلغهما خبره فتزودا ومضيا لزيارته فوجداه في منزله لم يبق منه إلا عيناه، فقالا له: أنت أيوب! فقال: نعم فقالا له: لو كان عملك - الذي رأيناه - يُفْضَى به إلى الله D ما لقيت الذي نرى. فقال لهما: وأنتما تقولان ذلك لي! فَبَلَغَ ذلك منه. والثانية أم امرأته قطعت ثلاثة ذوائب لها وباعتها في طعامه. فلما علك ذلك، عَظُمَ عليهن وبلغ ذلك منه. فهذه ثانثة والثالة: قبول امرأته من إبليس إذا أراد أن يحتال عليها، فعند ذلك تواعدها، وأقسم لئن شفاه الله ليضربها مائة ضربة. وعند ذلك دعا إلى الله فشفاه الله. قوله تعالى ذكر: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ} - إلى قوله - {فَبِئْسَ المهاد}، أي: اذكر إبراهيم وولده إسحاق، وولد ولد يعقوب. ومن قرأ " عِبَادَنَا " بالجمع، أدخل الجمع في العبودية وجعل ما بعده بدلاً منه. ومن قرأ بالتوحيد خص إبراهيم بالعبودية وجعل ما بعده معطوفاً عليه.

وقوله: {أُوْلِي الأيدي}. قال ابن عباس: يقول: أولى القوة والعبادة. والأبصار: الفقه في الدين. الفقه في الدين. قال: مجاهد: أولي الأيدي: القوة في أمر الله D والأبصار: العقول. وقال قتادة: أُعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين. وقال السدي: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر بعقولهم في دينهم. وقيل: الأيدي: جمع يد، من النعمة، أي: هم أًحاب النعم التي أنعم الله D عليهم بها. وقيل: " هم أًحاب النعم والإحسان، لأنهم قد أحسنوا وقَدَّمُوا خيراً ". وأصل " اليد " أن تكون للجارحة، ولكن لما كانت القوة فيها، سميت القوة

يداً. والبصر هنا عُني به بصر القلب الذي به معرفة الأشياء. وأجاز الطبري أن يكون المعنى أنهم أصحاب الأيدي عند الله D بالأعمال الصالحة التي قدموها تمثيلاً باليد تكون عند الرجل الآخر. وقرأ عبد الله: " أولي الأيدي " بغير ياء على معنى أولي التأييد والمعونة من الله لهم. ويجوز أن يكون مثل الأول لكن أسقط الياء واكتفى بالكسرة. وذكر الطبري عن السدي أنه قال: تزوج (إسحاق بامرأة) فحملت بغلامين في بطن، فلما أرادت أن تضع، اقتتل الغلامان في بطنها أيهما يخرج أولاً. فقال أحدهما للأخر: لئن خرجت قبل لأعترضن في بطن أمي فلأقتلنها! فتأخر الآخر وخرج القائل ذلك، فسمي عيصا لعصيانه في بطن أمه، وخرج الثاني فسمي يعقوب لأنه خرج آخراً بعقب عيصا. وكان يعقوب أكبرهما في البطن لكن عيصا خرج قبله. والروم من ذرية عيصا. ثم قال: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار}.

من نَوَّن " خالصة " / جعل " ذكرى " بدلاً من " خالصة ". والمعنى: إنّا اخترناهم واختصصناهم بأن يذكروا معادهم ويعملوا له. (فلا هَمَّ لهم غيره). هذا قول مجاهد والسدي، وهو اختيار الطبري. والاختيار عنده على قراءة من أضاف أن يكون المعنى: بخالصة ما ذكر في الدار الآخرة. ويجوز أن يكون رفع " ذكرى الدار " على إضمار مبتدأ. وقيل: المعنى: اختصوا بأن يذكروا الناس الدار الآخرة ويدعوهم إلى طاعة الله D، قاله قتادة. ومن قرأ بالإضافة فمعناه: إنا اختصصناهم بأفضل ما في الآخرة؛ قاله ابن

زيد. وقال مجاهد أيضاً: المعنى في الإضافة: إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم. وقال الفضيل: هو الخوف الدائم في القلب. وقال ابن جبير: معناه: عقبى الدار. وعن مجاهد أيضا - في الإضافة - معناه: بخالصة أهل الدار. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار}، أي: لمن الذين صَفَوْا من الذنوب (ومن الأدانس) واختيروا. والأخيار، جمع خير، على التخفيف كميْت وأموات. ثم قال تعالى ذكره: {واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار}، أي: أذكرهم يا محمد وما أبلوا فيه من طاعة الله D فَتَأَسَّ بهم، وأسلك مناهجهم في الصبر على ما نالك في الله جل ذكره. وسمي ذو الكفل بذلك، لأنه تكفل بعمل رجل صالح يقال، إن ذلك الرجل كان يصلي في كل يوم مائة صلاة، فتوفي؛ فتكفل ذو الكفل بعمله.

وقيل: إنه تكفل بأمر أنبياء من أنبياء الله D فخلصهم من القتل فسمي ذا الكفل. والكفل في كلام العرب: الحَظُّ والنصيب. وقيل: تكفل لبعض الملوك بالجنة فكتب له كتاباً بذلك وقيل: لم يكن نبياً وقوله {وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار}، أي: كل هؤلاء من الأخيار المذكورين. ثم قال تعالى: {هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}، أي: هذا القرآن ذكر لك يا محمد ولقومك. وقيل: معناه: هذا ذكر جميل لهؤلاء في الدنيا، وإن لهم في الآخرة مع هذا لحسن مرجع. وقيل: معنى: وإن للمتقين لحسن مئاب، أي: لمن اتقى الله فأطاعه لحسن مرجع ومنقلب. ثم بين ذلك فقال: {جَنَّاتِ عَدْنٍ}، أي: جنات إقامة وثبات، قال قتادة: سأل عمر كعباً: ما عدن؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قصور في الجنة من ذهب يسكنها النبيئون والصديقون والشهداء وأئمة العدل. وقال ابن عمر: " جنة عدن: قصر في الجنة، له خمسة آلف باب، على كل باب

خمسة آلاف خَيْرَة، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد ". وقوله {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب}، أي: تفتح لهم الأبواب منها بغير فَتْحِ سكانها لها بيد، أو بمعاناة، ولكن تنفتح بالأمر دون الفعل. قال الحسن: " تُكَلَّم، فتتكلم، انفتحي، انغلقي ". و" مفتحة ": نعت ل " جَنَّتات "، والضمير محذوف، والتقدير: مفتحة لهم الأبواب منها. ثم قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا}، أي: في الجنات {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}، أي: بفاكهة وشراب من الجنة فيأتيهم على ما يشتهون. ثم قال تعالى: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ}، أي: وعند هؤلاء الذين تقدم ذكرهم نساء قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يُرِدْنَ غيرهم، ولا يَمدُدن أعينهن إلى

سواهم، قاله قتادى وغيره. وقال السدي: قًصرت أطرافهن وقلوبهن وأسمعاهن على أزواجهن فلا يُرِدْنَ غيرهم. قال مجاهد: " أتراب: أمثال ". وقال السدي: مستويات. وقيل: معناه: على سن واحد. وقيل: معناه: أحباب لا يتباغضن ولا يتعادين ولا يتغايرن ولا يتحاسدن. رُوي ذلك (أيضاً عن السدي). وأصله في اللغة، أنهن أقران. {هذا ذِكْرٌ} تام عند أبي حاتم على أن يكون " المتقون " عام لا يراد به من

تقدم ذكر. فإن أردت به من تقدم ذكره من النبيين - على معنى: هذا ذكر جميل لهؤلاء الأنبياء في الدنيا، وإن لهم لحسن مصير في الآخرة - (لم تقف) على ذكر " لأنه جملة واحدة في معنى واحد ". ثم قال: {هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب}. من قرأ بالياء، فمعناه: هذا ما يوعد هؤلاء المتقون ليوم الجزاء. ومن قرأ بالتاء / جعله على المخاطبة، أي: هذا الذي تقدم ذكره من النعيم هو ما توعدون ليوم تجزى كل نفس بما كسبت. ثم قال: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}، أي: إن ما تقدم ذكره لَرِزق الله D المتقين كرامة لهم ليس له من فراغ ولا انقطاع، وذلك أنهم كلما أخذوا ثمرة عادت مكانتها أخرى. ثم قال: {هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}، أي: لَشَرَّ مَرجِع ومصير منقلب. ثم بيَّن ذلك ما هو فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد}، أي: فبيس الفراش الذي افترشوه لأنفسهم بأعمالهم السيئة. والوقف على " هذا " حسن، ثم يبتدئ بـ: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ}، على معنى: الأمر

57

هذا، أو على معنى: هذا الذي وصفته للمتقين. ثم يستأنف خبر الطاغين وما لهم عند الله D. ( قوله تعالى ذكره): {هذا فَلْيَذُوقُوهُ} إلى قوله - {نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. " هذا " مرفوع بالابتداء، و " حميم " الخبر. فلا تقف على هذا إلا على " أزواج ". ويجوز أن يكون الخبر " فليذوقوه "، فتقف على " فليذوقوه " ويجوز أن يكون (خبر ابتداء محذوف، أي: الأمر هذا)، فتقف على " هذا " إن شئت. ويجوز أن يكون " هذا " في موضع نصب (بإضمار قول يفسره " فليذوقوه "، مثل): زيداً

فاضربه على هذا التأويل " فليذوقوه " وترفع " حميم وغساق "، على معنى: هو حميم، أو منه حميم. والحميم: الذي قد انتهى حره. قاله السدي. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم تجمع في حياض النار فيسقونه. قال قتادة: الغساق، ما يسيل من بين جلده ولحمه. قال السدي: الغساق: الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم. وقال ابن زيد: هو الصديد الذي يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، يجمع في حياض في النار فيسقونه، وقال مجاهد: الغساق: أبرد البرد. وقال ابن عمر: هو القيح الغليظ؛ لو أن قطرة منها تهراق في المغرب لأنتنت

أهل المشرق، ولو تهراق بالمشرق لأنتنت أهل المغرب. وقال كعب: " الغساق: عين في جهنم يسيل إليها حُمَّةُ كل ذان حُمَةٍ من حية أو عقرب فتُستنقع فيُؤتى بالآدمي فيُغمس غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام حتى يغلق جدله إلى كعبيه وعقبيه، ويجر لحمه جر الرجل ثوبه ". وروى الخدري أن النبي A قال: " لَوْ أَنَّ دَلْواً مِنْ غَساقٍ يُهْرَاقُ في الدُّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيا ".

وقيل: هو ماء قد انتهى في البرودة ضد الحميم، يحرق كما يحرق الحميم. والعرب تقول: غسقت عينه، إذا سالت. فمن شدد جعله مثل سيال، ومن خفف جعله مثل سائل. فهو على هذا الاشتقاق ما سيل من أجسام أهل النار. ولم يعرف الكسائي ما هو. ومن شدد جعله صفة، ومن خفف أجاز أن يكون صفة واسماً. ثم قال تعالى: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}. من جمع {وَآخَرُ} حمله على لفظ " أزواج ". ومن وحد حمله على " شكله " ولم يقل شكلها، فالمعنى لمن جمع {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ} ما ذكرنا.

وقيل: المعنى: من شكل الغساق. وقوله: (أَزْوَاجٌ) يريد به الحميم والغساق والآخر، فذلك ثلاثة. قال ابن مسعود: هو الزمهرير. والمعنى: مِنْ ضَرْبِهِ ومن نحوه، ومعنى " أزواج ": أنواع وألوان. ثم قال تعالى: {هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ}، أي: هذه فرقة مقتحمة معكم " في النار، وذلك دخول أمة من الكفار بعد أمة. والتقدير: يقال هذا فوج يدخل معكم في النار، فهو قول الملائكة لأهل النار حين أتوهم بفوج يُدْخِلُوَنه معهم. ثم قال: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ}. هذا خبر من الله جل ذكره عن قول أهل النار لما قيل لهم: " هذا فوج مقتحم معكم " فقالوا: لا مرحبا بهم. فهذا مثل قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]. ومعنى: {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ}: لا اتسعت مداخلهم ومنازلهم في النار. ثم قال: {إِنَّهُمْ صَالُواْ النار}. هذا أيضاً من قول المتقدمين في النار للداخلين عليهم، أي: قالوا لا مرحباً

بهم إنهم وأردوا النار. وقيل: هو من قول الملائكة الذين قالوا لأهل النار: " هذا فوج مقتحم معكم إنهم صالو النار ". ثم قال تعالى: {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ}، أي: قال الفوج الداخلون على من تقدمهم لما قالوا لا مرحبا بهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، أي: لا اتسعت أماكنكم بكم. {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}، أي: أنتم أوردتمونا هذا / العذاب بإضلالكم إيانا ودعائكم إيانا إلى الكفر فاتبعناكم فاستوجبنا سكنى جهنم. ثم قال تعالى {قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار}، أي: قال الفوج المقتحم: ربنا من قدم لنا هذا بدعائه إيانا إلى العمل الذي أوجب لنا النار فزده عذاباً ضعفاً في النار، أي: أضعف لهم العذاب الذي هُمْ فيه. وقيل: المعنى: أضعف له العذاب مرتين: عذاباً بكفره، وعذاباً بدعائه إيانا. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار}، أي: وقال الكافرون الطاغون الذين تقدمت صفتهم - وقيل: هم أبو جهل والوليد بن المغيرة وذووهما - قالوا في النار: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار، أي: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا - قيل: (عنوا بذلك صهيباً وخباباً) وبلالاً

وسلمان: قاله مجاهد. ثم قال تعالى: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً}. من ضم: فمعناه: كنا نسخرهم في الدنيا ونستذلهم، ومن كسر فمعناه: كنا نسخر منهم في الدنيا، وقيل: هما لغتان بمعنى الهُزْء والسُّخرية. فالمعنى: أَهُمْ في النار لا نعرف مكانهم، أم لم تقع أعيننا عليهم؟ ومن قرأ بقطع الألف من " اتخذناهم " ابتدأ به، ومن وصل الألف لم يبتدئ به

لأنه صفة للرجال، هذا قول أبي حاتم. وتكون " أم " عديلة لاستفهام مُضمَر، تقديره: أمفقودون هم أم زاغت عنهم الأبصار. ويجوز أن تكون معادلة ل " ما " في قوله: " ما لنا "، كما قال تعالى: {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20]، وقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ} [القلم: 36 - 37]، فذلك جائز حسن. وقد وقعت " أم " معادلة ل " مَنْ " في الاستفهام، قال الله جل ذكره: {فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ} [النساء: 109]. ثم قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار}، أي إن هذا الذي أخبرتك به من خبر أهل النار لحق هو تخاصم أهل النار. ويجوز أن تكون " تخاصم " خبراً ثانياً ل " إن " أو بدلاً من " لحَقٌّ " أو من المضمر في " لَحَقٌّ ". فإن جعلته خبراً ثانياً (أو بدلاً " لم تقف على لحَقٌّ ". وإن

جعلته مرفوعاً على إضمار مبتدأ، أي: هو تخاصم، وقفت إذا شئت على " لحق ". ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ}، أي: نذير لكم من بين يدي عذاب شديد. {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار}، أي: وما من معبود تجب له العبادة إلا الله الواحد، أي: المتفرد بالعبادة القهار لكل ما دونه بقُدرته. {رَبُّ السماوات والأرض}: أي: ما لكهما ومالك ما بينهما من الخلق. {العزيز}، أي: المنيع في نقمته. {الغفار} لذنوب من تاب من كفره، وأطاع ربه. ثم قال تعالى: - {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}، أي: قل يا محمد لقومك: هذا القرآن الذي قلتم فيه: " إن هَذَا الاخْتِلاَقُ "، نبأ عظيم، أي: خبر عظيم، أنتم عنه معرضون، أي: قد كفرتم وانصرفتم عن الإيمان به والعمل بما فيه، وقيل: المعنى: هو خبر جليل، وقيل: معناه: خبر عظيم المنفعة. ثم قال: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، أي: قل يا محمد للمشركين الذين ينكرون ما جئتهم به ويكذبونك: ما كان لي من علم بالملائكة إذ اختصموا في آدم إذ شوِروا في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]

الآيات، قاله ابن عباس وغيره. أي: لولا (ما أوحاه) إلي ربي وأعلمني به. فإعلامي ذلك لكم دليل على صدقي ونبوتي بأن هذا القرآن من عند الله D. وهذا كله معنى قوله قتادة والسدي وغيرهما. وفي الحديث: " يَخْتَصِمُون في الْكَفَّارَاتِ وَفي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ في الْمكَارِهِ وَانْتِظَارِ الصَّلاَة بِعْدَ الصَّلاِةِ ". قال الحسن: " لما صُعِد بالنبي A إلى السماء ليلة الإسراء به مر في سماء منهن، فإذا هو بأصوات الملائكة يختصمون، (قال لجبريل: يا جبريل، ما هذه الأصوات؟ قال: أصوات الملائكة يختصمون) في كفارات بني آدم. فقال النبي عليه اللاسم: وما يقولون فيها؟ قال: يقولون: هي نقل الأقدام إلى الجماعات (والصلوات، وإسباغ) الوضوء عند المكروهات، والتعقيب في المساجد بعد الصلوات. قال: ثم أوحى

الله D إلى النبي A: " ما كان لي من علم بالملأ الأعلى " الآيتين. وعن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله A: " قال لي ربي: فيمَ يختصم الملأ الأعلى / يا محمد؟ (فقلت: أنت أعلم يا رب، فقالها ثانية، فقلت: أنت أعلم يا رب. فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض. فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات، فقال: وما الكفارات؟ فقلت: المشي ونقل الأقدام غلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء أماكنه في المكروهات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات قال: من فعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ". وأجاز النحاس أن يكون المعنيَّ بالاختصام قريشاً لأن منهم من قال: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى. فالمعنى على هذا: ما كان لي من علم بالملائكة إذ يختصم فيهم قريش. وأجاز أن يراد بالملأ الأعلى أشراف قريش يختصمون فيما بينهم فيخبر الله نبيه A ( بما شاء من ذلك فيعلمهم النبي بذلك).

71

ثم قال: {إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}، أي: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين عن الله D وحيه، و " أنما " اسم ما لم يسم فاعله. قوله: تعالى ذكره: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ}، إلى آخر السورة - أي ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حين قال ربك للملائكة {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ}، يعني بذلك خلق آدم A. ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}، أي: سويت خلقه وصورته ونفخت فيه من روحي، قال الضحاك: من روحي: من قدرتي. والأحسن في هذا وما جانسه أن يقال: إنه تعالى أضاف الروح إلى نفسه لأنه إضافة (خلق إلى خالق). فالروح خلق الله أضافه إلى نفسه، على إضافة الخلق إلى الخالق، كما يقال: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] و {أَرْضُ الله} [النساء: 97] و " سماء الله "، وشبهه كثير في القرآن، فهو كله على هذا المعنى. هذا قول أهل النظر والتحقيق فافهمه.

قوله: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}، أي: خروا له سجوداً. {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}، يعني: ملائكة السماوات والأرض. {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر}، أي: تعاظم وتكبَّر عن السجود. {وَكَانَ مِنَ الكافرين}، أي: ممن كفر في علم الله السابق، قاله ابن عباس. ثم قال: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، أي: قال الله D لإبليس: (يا إبليس)، أي: شيء منعك من السجود لآدم الذي خلقته بيدي. قال ابن عمر: خلق الله أربعة بيده: العرش وعدن والقلم وآدم، ثم قال لكل شيء كن فكان. والذي عليه أهل العلم والمعرفة بالله أن ذكر اليد وأضافتها إلى الله سبحانه ليست على جهة الجارحة، تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء. وذكر اليد في مثل هذا وغيره صفة من صفات الله لا جارحة. وقد اختلف في الترجمة عن ذلك: فقيل: معناه: لما خلقت بقدرتي.

وقيل: بقوتي. وقيل: معناه " لما خلقته. وذكر اليدين تأكيد، والعرب إذا أضافت الفعل إلى الرجل ذكروا اليدين. تقول لمن جنى: هذا ما جنيته، وهذا ما جنته يداك. وقد قال الله D: { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] بمعنى: بما كسبتم. (فيضاف الفعل إلى اليد والمراد صاحب اليد). وإنما خُصَّتِ اليد بذلك لأن بها يبطش وبها يتناول. فجرى ذلك على عادة العرب. وقوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين}، أي: أتعاظمت عن السجود لآدم أم كنت ذا علو وتكبر على ربك سبحانه ومعنى الكلام التوبيخ. قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وكان خازن الجنان، وكان أميناً

على السماء الدنيا والأرض ومن فيها، فأعجبته نفسه ورأى أن له فضلاً على الملائكة، ولم يعلم بذلك أحد إلا الله D يعني: علمه في اسبق علمه قبل خلقه للأشياء، وعلمه متى يكون، وعلمه وقت حدوثه في نفس إبليس. فلما أمر الله D الملائكة بالسجود لآدم امتنع وتكبر. ثم قال تعالى حكاية عن قول إبليس: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، أي: لم أترك السجود استكباراً عليك، ولكن تركته لأني أفضل منه وأشرف، إذْ خَلْقِي من نار وخَلْقُه من طين، والنار تأكل الطين. وهذا كله تقريع من الله جل ذكره وتوبيخ للمشركين إذ أبوا الانقياد والإذعان لما جاءهم به محمد A واستكبروا عن أن يكونوا تَبَعاً له، فأعلمهم الله D قصة إبليس وهلاكه باستكباره وترك إذعانه لآدم. ثم قال تعالى: {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}، أي: أخرج من الجنة فإنك مرجوم، أي ملعون، وقيل: مرجوم بالكواكب والشعب. {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين}، / أي: عليك إبعادي لك وطردي لك من الرحمة ومن الجنة إلى يوم يُدَانُ الناس بأعمالهم. {قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أي: قال: إبليس: يا رب أخِّرْنِي وَلاَ تَهْلِكني

إلى يَوْم بعث خلقك من قبورهم. قال الله: {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين}، أي: من المؤخرين {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم}، فأخره الله D إلى وقت هلاكه وهو يوم يموت جميع الخلق ولم يؤخر إلى وقت بعث الخلق كما سأل. فأخره الله سبحانه تهاوناً له لأنه لا يضل إلا من تقدم في علم الله ضلاله. ثم قال تعالى حكاية عن قول إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، أي: قال إبليس: فبقدرتك وسلطانك، لأضلنهم باستدعائي إياهم إلى المعاصي. {أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين}، أي: إلا عبادك الذين أخلصتهم بعبادتك وطاعتك، فلا سبيل لي إليهم. ومن كسر اللام، فمعناه: إلا عبادك الذين أخلصوا دينهم لك. ثم قال تعالى: {قَالَ فالحق والحق أَقُولُ}، أي: قال الله: فاتبعوا الحق، (أو: فاستمعوا) الحق. فهو مفعول به. ونصب " والحق أقول " على إعمال " أقول "، أي: وأقول الحق وقيل: نصبه على معنى " أحق الحق.

وأجاز الفراء وأبو عبيد أن ينتصب على إعمال " لأملأن "، كأنه قال: لأملأن جهنم حقا. ومنعه غيرهما لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها، ولا يجوز عند أحد: زَيْداً لأَضْرِبَنَّ. ومن رفع " فالحقُ " فعلى الابتداء، والخبر محذوف، أي: فالحق مني. أو على إضمار مبتدأ، أي: فأنا الحق. ويجوز أن يكون خبره " لأملأن ". وأجاز الفراء " فالحقُّ " بالخفض على حذف القسم كما تقول: الله لأفعلن، وأجازه سيبويه، وقيل: الفاء بدل من حرف القسم، قال مجاهد: معناه: أنا الحق والحق أقول. وقال ابن جريج: الحق مني والحق أقول.

وقال السدي: " هو قسم أقسم الله به ". {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ}، أي: من نفسك ومن ذريتك، وممن تبعك من بني آدم كلهم. ثم قال تعالى: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، أي: قل يا محمد لمشركي قومك: ما أسألكم على ما جئتكم به من القرآن ثواباً وجزاءً. {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين}، أي: ممن يتكلف القول من عند نفسه ويتخرصه. {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}، أي: ما هذا القرآن الذي جئتكم به من عند الله إلا ذكر من الله يتذكر به جميع الخلق من الجن والإنس. {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ}، أي: ولتعلمن يا قريش وغيرهم من المشركين خبر هذا القرآن وحقيقته وما فيه من الوعد والوعيد يوم القيامة. قال ابن زيد: نَبَأَهُ، أي: صِدقَ ما جئتكم به من القرآن والنبوة. قال قتادة: بعد حين: " بعد الموت ". قال الحسن:: ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين "، وعن السدي: بعد حين: يوم بدر، قال ابن زيد: بعد حين: " يوم القيامة ".

الزمر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الزمر سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة إذ المدينة، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يطيق أن ينظر إليه فتوهم أن الله، - عز وجل - لم يقبل إيمانه، الله تعالى فيه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر الثلاث الآيات. قوله تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} - إلى قوله - {بِذَاتِ الصدور}.

" تنزيل " رفع بالابتداء، والخبر " من الله ". ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، أي هذا تنزيل الكتاب. وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه مفعول به، أي: اقرؤوا تنزيل واتبعوا كتاب الله تنزيل. وعلى الإغراء مثل: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، أي الزموا كتاب الله. والمعنى: الكتاب الذي أنزله الله على محمد A هو: من الله العزيز في انتقامه، الحكيم في تدبيره. ثم قال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق}، أي: أنزلنا إليك القرآن بالعدل. روى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: فصل القرآن من الذكر، يعني اللوح المحفوظ. قال: فوضع في بيت العزة في سما الدنيا، فجعل جبريل ينزله على النبي A تنزيلاً. قال سفيان: خمس آيات ونحوها، ولذلك قال تعالى:

{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] (يعني نجوم) القرآن. قال أبو قلابة: نزل القرآن لأربع وعشرين ليلة من شهر رمضان، والتوراة / لست، والإنجيل لاثنتي عشرة. ثم قال: {فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي: فاخشع لله بالطاعة وأخلص له العبادة ولا ترائي بها غير الله. روي أنه يؤتى بالرجل يوم اليامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات، فيقول رب العزة تبارك وتعالى: أَصَلَيْتَ يوم كذا وكذا ليقال: صلى فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص. أتصدقت يوم كذا وكذا ليُقال تصدق فلان! أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص. فما يزال يمحو بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء فيقول ملكاه:

يا فلان: الغير الله كنت تعمل؟. قال السدي: الدين هنا التوحيد. وروى أبو هريرة " أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء الذي أريد به وجه الله وثناء الناس (!) فقال النبي: " وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَقْبَلُ الله تَعَالى شَيْئاً شُورِك فِيه، ثُمَّ تلا رسول الله A: { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} ". قال قتادة: إلا لله الدين الخالص: شهادة إلا إله إلا الله. ثم قال: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}، أي: من دون الله آلهة يتولونهم ويعبدونهم من دون الله يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} أي: قُرْبَة شفاعتهم لنا. وفي قراءة أبيِّ: " ما نعبدكم ". وفي قراءة ابن مسعود: " قالوا ما نعبدهم ".

قال مجاهد: قريش تقوله للأوثان. قال قتادة: قالت قريش: ما نعبدهم إلا ليشفعوا لنا عند الله، وهو قول ابن زيد. ثم قال: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، أي: يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من عبادة الأوثان. ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، أي: لا يهدي إلى الحق من هو مفتر على الله الكذب كافر لنعمته. ثم قال: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً}، أي لو أراد الله اتخاذ ولد - ولا ينبغي له ذلك - لاختار من خلقه ما يشاء. {سُبْحَانَهُ}، أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد. {هُوَ الله الواحد}، أي: المنفرد بالألوهية، لا شريك له في ملكه. {القهار} لخلقه بقدرته. ثم قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق}، أي ابتدع ذلك بالعدل. {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} قال ابن عباس: يحمل هذا على هذا (وهذا على هذا). وقال قتادة: يغشي هذا على هذا.

وقال السدي: يذهب هذا بهذا وهذا بهذا، هو قول ابن زيد. وقال أبو عبيدة: هو مثل: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} [الحج: 61]. وأصل التكوير في اللغة: اللف والجمع. ثم قال تعالى ذكره: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر}، أي: سخر ذلك لعباده ليعلموا عدد السنين والحساب، ويتصرفوا في النهار لمعايشهم ومصالح أمورهم، ويسكنون في الليل. ثم قال: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى قيام الساعة فتكور الشمس وتنكدر النجوم. وقيل: المعنى: إن لكل واحد منازل لا يعدوها في جريه ولا يقصر دونها. ثم قال تعالى: {أَلا هُوَ العزيز الغفار}: أي: ألا إن الله الذي فعل هذه الأفعال وأنعم على خلقه بهذه النعم هو العزيز في انتقامه مما عاداه، الغفار لذنوب التائبين من عباده. ثم قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، أي: من آدم عليه السلام وخلق حواء من ضلعه.

وإنما ذكر الخلق قبل حواء وهي قبلهم في الخلق، لأن العرب ربما أخبرت عن رجل بفعلين. فترد الأول منهما على المعنى " بثم " إذا كان من خبر المتكلم يقال: قد بلني ما كان منك اليوم ثم بما كان منك أمس أعجب. وقيل معناه: " ما روي عن النبي A إن الله جل ذكره لما خلق آدم مسح ظهره وأخرج كل نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة ثم أسكنه بعد ذلك الجنة، (فخلق بعد ذلك) حواء من ضلع من أضلاعه ". وقيل المعنى: خلقكم من نفس وحدها ثم جعل منها زوجها. ثم قال

تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وهي المفسرة في سورة الأنعام: الإبل والضأن والمعز والبقر كل زوجين ذكر وأنثى. وإنما أخبر عنها بالنزول، لأنها إنما نشأت وتكونت بالنبات، والنبات إنما نشأ وتكوّن بالمطر، فالمطر هو المُنْزَلُ، فأخبر عما اندرج وتكوّن منه بالإنزال. وهذا من التدريج وله نظائر كثيرة، ومنه قوله: {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} [الأعراف: 26] فاللباس لم ينزل لكنه تكوّن عما نبت بالمطر الذي هو مُنْزَلٌ، فسمي ما تكوَن عن المطر: منزل. ثم قال {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ}، / أي: يبتدئ خلقكم في بطون أمهاتكم نطفه ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، هذا قول جماعة المفسرين إى ابن زيد فإنه قال: معناه: يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد الخلق الأول في الأصلاب. وقوله: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ}، يعني به ظُلْمَةُ البطن وظلمة الرحم وظلمة

المَشِيمَةِ، هذا قول جميع المفسرين إلا أبا عبيدة فإنه قال: هي ظلمة الصلب ثم ظلمة الرحم ثم ظلمة البطن. ثم قال: {ذلكم الله رَبُّكُمْ} ذا: إشارة إلى اسم الله جلّ ذكره، والكاف والميم للمخاطبة. والمعنى: الذي فعل هذه الأشياء الله ربكم لا الأوثان التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع. {لَهُ الملك لا إله إِلاَّ هُوَ}، أي: لا ينبغي أن يكون معبوداً سواه، له ملك كل شيء. {فأنى تُصْرَفُونَ}، أي: كيف تُصْرَف عقولكم عن هذا ومن أين تعدلون عن الحق بعد هذا البيان. ثم قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ}. قال ابن عباس: هو خاص (عنى به الكفار الذين) لم يرد الله أن

8

يطهر قلوبهم. وقوله: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر}، أي: لعباده الذين أخلصهم لطاعته وحبّب إليهم الإيمان. وقيل: هو عام للجميع وهو الاختيار، إذ ليس يرضى الله الكفر لأحد من خلقه. فإن جعلت " يرضى " بمعنى: يريد حسن القول الأول، وفيه نظر. ثم قال تعالى: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}، أي: إن تطيعوه يرضه لكم. ثم قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}، أي: لا يحمل أحد ذنباً عن أحب، ولا يؤخذ أحد بذنب أحد. ثم قال تعالى {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ}، أي: مصيركم إليه في الآخرة فيخبركم بما كنتم تعلمون في الدنيا من خير وشر فيجازيكم عليه، ولا يخفي عليه من أمركم شيء. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}، أي: عليم بما أضمرتم في الصدور وغير ذلك مما ظهر وبطن، فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم بل يجازيكم بها: المحسن بالإحسان، والمسيء بما يستحقه ويجب عليه. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ} - إلى قوله - {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.

أي: إذا مس الإنسان ضرّ في بدنه أو شدة أو ضيق استغاث بربه الذي خلقه في كَشْفِ ما نَزَلَ به، تائباً إليه مما كان عليه قبل ذلك من الكفر والشرك. قال قتادة: منيباً إليه: مخلصاً. وقوله {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ}، أي: أعطاه عافية وفرجاً مما نزل به. يقال لمن أعطي غيره عطية: قد خوّله كذا وكذا. وقوله: {نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ}، أي: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به، و " ما " والفعل مصدر، والمعنى: ترك كون الدعاء منه إلى الله D. ومن جعلها بمعنى " الذي " جعل " ما " لمن يعقل فيكون لله سبحانه. والمعنى: ترك ما كان يدعو الله من قَبْلِ كَشْفِ الضُّر عنه. ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً}، أي: شركاء. قال السدي: هذا كله في الكافر خاصة.

قال السدي: الأنداد هنا من الرجال يطيعونهم في معاصي الله جلّ ذكره. وقيل: الأنداد: الأوثان. ثم قال: {لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} من ضم الياء، فمعناه: فعل ذلك ليزيل الناس عن توحيد الله سبحانه والإقرار به والدخول في دينه، ومن فتح الياء، فمعناه: ليَضِلَّ في نفسه عن دين الله سبحانه. والتقدير: إنه لما كان أمره لعبادة الأوثان يؤول إلى الضلال كان كأنه إنما فعل ذلك ليصير ضالاً. وقد تقدم شرح هذا بأبين من هذا. ثم قال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار}، أي: قل يا محمد لهذا الكافر (لنعم الله) تمتع بكفرك إلى أن تستوفيَ أجلك إنك في الآخرة ما الماكثين في النار. وهذا لفظ معناه التهدد والوعيد، مثل قوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ

وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]. ثم قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً} من خفف " من " جعله نداء أو رفعه بالإبتداء، ويكون الخبر محذوفاً. والتقدير: أهذا أفضل (أومن) جعل لله أنداداً. ومن شدد ف " من " في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف على ما قدمنا في التخفيف. وقيل: التقدير: أهذا المذكور أفضل أم من هو قانت لأنه ذكر من جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. ثم قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ}، أي: أهذا المذكور أفضل أم من هو قانت؟ ودل على

ذلك قوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقيل: " أم " بمعنى / الألف، كأنه قال: أمن هو قانت، ويكون الجواب مضمراً بعده كأنه قال: أم من هو قانت كمن مضت صفته من الكفار. قال ابن عباس: القنوت هنا: قراءة القرآن. وآناء الليل: ساعاته، واحدة، أني كمعي وفيه وجوه قد تقدم ذكرها. وقيل القنوت: الطاعة، وهو أصله. وروى الخدري أن النبي A قال: " كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله D ".

وروى جابر أن النبي A سئل: " أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. فتأوله جماعة من أهل العلم أنه طول القيام ". وسئل ابن عمر عن القنوت، فقال:: " ما أعرف القنوت إلا طول القيام، وقراءة القرآن. وقال مجاهد: من القنوت: طول الركوع، وغض الطرف. ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق Bهـ. وعن ابن عمر: إنها نزلت في عثمان Bهـ. وكانوا يستحبون حسن الملبس في الصلاة.

روى نافع أن ابن عمر قال له: قم فصل. قال نافع: فقمت أصلي - وكان عليّ ثوب خلق - فدعاني ابن عمر فقال لي: أرأيتك لو وجهتك في حاجة وراء الجدار، أكنت تمضي هكذا؟! قال: فقلت: كنت أتزين! قال: فالله جل وعز أجل أن يتزين له!!. قوله: {سَاجِداً وَقَآئِماً}، أي: يقنت ساجداً أحياناً وقائماً أحياناً {يَحْذَرُ الآخرة}. أي: عذاب الآخرة. {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ}، أي: يرجو أن يرحمه ربه فيدخله الجنة. ثم قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذي يعلمون ما لهم في طاعة الله D من الثواب وما عليهم في معصيته من العقاب، والذين لا يعلمون ذلك. يعني: من يؤمن بالبعث والحساب والجزاء والذين لا يؤمنون بذلك. فالمعنى: لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم، والذين لا يعلمون هو من لا ينفع بعلمه، ومن لا علم عنده. ثم قال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب}، أي: إنما يعتبر حجج الله D فيتعظ بها

ويتدبرها أصحاب العقول والبصائر. ويقف القارئ على " رحمة ربه " إن شدّد الميم، لأن الخبر المحذف مقدر قبل " قل هل ". ومن خفف وجعل " من " مرفوعة بالابتداء وقف أيضاً على " ربه " ويقدر الخبر أيضاً محذوفاً قبل " قل هل ". ومن جعله نداء لم يقف على " ربه "، لأن " قل هل " متصل بالمنادي. والمعنى: يا من قانت قل هل، فإن قدرت محذوفاً تتم به فائدة النداء، وقفت على " ربه ". والتقدير: " يا من هو قانت أبشر، ثم تبتدئ قل هل ". ثم قال تعالى: {قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ}. روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر: " يا عبادي " بياء مفتوحة.

والمعنى: قل يا محمد لعبادي المؤمنين: يا عباد الذين آمنوا، أي: صدقوا بالله ورسوله. {اتقوا رَبَّكُمْ}، أي: اتقوه بطاعته واجتناب معاصيه. ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب (الطيّار في الجنة) وأصحابه من المؤمنين لما قيل لهم: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ}، خرجوا مهاجرين من مكة إلى أرض الحبشة، وقيل لهم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، يعني: الصابرين على دينهم يفرّون به من بلد إلى بلد. ثم قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ}، أي: للذين أطاعوا الله في الدنيا، حسنة في الدنيا وهي العافية والصحة، قاله السدي. وقيل: الحسنة التي لهم في الدنيا: موالاة الله إياهم وثناؤه عليهم. وقيل: المعنى: للذين أطاعوا الله فيالدنيا حسنة في الآخرة، وهي الجنة. وقوله: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ}، يعني: أرض الجنة.

وقيل: المعنى: أرض الدنيا واسعة، فهاجروا من أرض الشرك إلى أرض السلام. قال مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] أي: أرض الدنيا واسعة فهاجروا واعتزلوا الأوثان. وقيل: المعنى: أرض الجنة واسعة لمن طلبها وعمل لها. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: إنما يعطي الله أهل الصبر على طاعته أجرهم في الآخرة بغير حساب. قال قتادة: ما هناكم مكيال ولا ميزان، وقال السدي: ذلك في الجنة. قال مالك، " هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها، وقد بلغني أن الصبر من / الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ". " وروى نافع عن ابن عمر أنه قال: لما نزلت {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ

فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية: قال النبي A: رب زد أمتي. فنزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ} فقال النبي A: يا رب زد أمتي، فنزلت: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ". وقيل: " بغير حساب ": بغير تقدير. وقيل: المعنى، يزاد في أجره بغير مطالبة على ما أعطي كما يطالب بالشكر على نعيم الدنيا. ويقال: (فلان صابر): إذا صبر عن المعاصي، فإن أردت أنه صابر على المصيبة، قلت: صابر على كذا. ثم قال تعالى: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين}، أي قل يا محمد لقومك: إن الله أمرني أن أخلص له العبادة والطاعة، ولا نشرك في عبادته أحداً من أوثانكم وآلهتكم ولا من غيرها. {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين}، أي: وأمرني الله لأن أكون أول من أسلم

14

منكم، وأخضع له بالتوحيد، وأخلص له العبادة. واللام في " لأن " تدل على محذوف تقديره: وأمرت بذلك لأن أكون أول من أسلم. ثم قال تعالى: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، يعني: يوم القيامة - أي، إن عصيته فيما أمرني به عذبني. قوله تعالى ذكره: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي} - إلى قوله - {لأُوْلِي الألباب}، أي: قل يا محمد لقومك: أعبد الله مخلصاً له عبادتي لا أشرك في عبادتي له، بل أفرده بالعبادة من الأنداد والشركاء. ثم قال: {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ}، هذا تهدد أيضاً ووعيد. والمعنى: اعبدوا ما أحببتم ستعلمون وبال عاقبة عبادتكم إذا لقيتم ربكم وهذا كله قبل أن يؤمر بالقتال. ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة}، (أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إن الخاسرين في الحقيقة هم الذين خسروا) أنفسهم

بإيرادهم إياها في العذاب الجائم، وخسروا أهليهم، فليس لهم أهل. قال ابن عباس: هم الكفار، خلقهم الله للنار وخلق النار لهم، فخسروا الدنيا والآخرة. وعن ابن عباس أنه قال: ليس من أحد إلا وقد خلق الله له زوجه في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله، وكذلك قال قتادة. ثم قال تعالى ذكره: {لْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين}، أي: ألا إن خسارة هؤلاء المشركين (لأنفسهم وأهلهم) يوم القيامة، هو الخسران الظاهر. ثم قال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي: لهؤلاء في جهنم ما يعلوهم مثل الطفل، وما يسفل عنهم مثل الظل، وهو مثل قوله: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]. وقيل: هو توسع، أصل الظلة: ما كان من فوق دون ما كان من أسفل.

وقيل: إنما سمى ما تحتهم: ظلل لأنها ظلل لمن تحتها ففوقهم ظلل لهم، وهي ظلل لمن فوقهم أيضاً سمين لمن هو فوقهم ظلل لأنها ظلل لمن تحتهم. وقيل: إنما سمي الأسفل باسم الأعلى، على نحو قوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] سمي المجازي به باسم الأول، كذلك سمى الأسفل باسم الأعلى على طريق المجازاة لما كان الأسفل ناراً مثل الأعلى سمي باسمه لأنه كله نار يحادي الأخرى. ثم قال: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ}، أي: هذا الذي أخبرتم به أيها الناس يخوّف الله به عباده ويحذرهم به. {ياعباد فاتقون}. روى عصمة أن أبا عمرو أثبت الياء في " يا عبادي " ساكنة، وروى

عياش بفتح الياء. والمعنى: يا عباد فاتقون بأداء الفرائض واجتناب المحارم. ثم قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا}، أي: والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله. وقيل: هو إبليس اللعين. قال الأخفش: " الطاغوت جمع. ويجوز أن يكون واحدة مؤنثة وقال الزجاج: الطاغوت: الشياطين. ويروى أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف

وسعد وسعيد وطلحة والزبير Bهم لما آمن أبو بكر بالنبي A وصدّقه أتاه هؤلاء فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا وصدقوا، فنزل فيهم: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} الآية. / ونزل فيهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. قال مالك: الطاغوت: (ما يعبد) من دون الله.

ثم قال تعالى: {وأنابوا إِلَى الله}، أي: تابوا ورجعوا عن معاصيه وأجابوا داعيه. لهم البشرى: قال السدي: لهم البشرى ف الدنيا بالجنة في الآخرة. ثم قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. روى أبو عبد الرحمن وأبو حمدون عن اليزيدي " عباديَ " بياء مفتوحة في الوصل، وبغير ياء في الوقف اتباعاً للخط، وحكى ذلك أيضاً ابن واصل عن اليزيدي، (وكذلك حكى إبراهيم بن اليزيدي (وابن

سعدان) كلاهما عن اليزيدي). ولم يذكر ابن سعدان الوقف ولا إبراهيم. وأنكر أبو عبد الرحمن الوقف بغير ياء، وقال: لا بد من الوقف بالياء لتحركها. وقد روى الشموني عن الأعمش عن أبي بكر " عباديَ " بياء مفتوحة. ومعنى الآية: فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أرشده وأهداه إلى الحق وأدله على توحيد الله D والعمل بطاعته. وقال السدي: معناه: فيتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعلمون به. وقال الضحاك: القول هنا: القرآن.

ومعنى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، أي: يتبعون ما أمر الله به الأنبياء من طاعته فيعملون به أي: يستمعون العفو عن الظالم والعقوبة، فيتبعون العفو ويتركون العقوبة وإن كانت لهم. وإنما نزل ذلك فيما وقع في القرآن في الإباحة فيفعلون الأفضل مما أبيح لهم فيختارون العفو على القصاص والصبر على الانتقام اقتداء بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]. وقيل: المعنى: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. ثم قال: {أولئك الذين هَدَاهُمُ الله}، أي: وفقهم الله للرشاد وإصابة الحق {ائك هُمْ أُوْلُواْ الألباب}، أي: العقول. وَلَبَّ كل شيء: خالصه. وروي أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحدّوا الله وتبروا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يبعث النبي A وهم فيما روى زيد بن أسلم: زيد بن عمرو بن

نفيل وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله. فيكون المعنى: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم وأنابوا إلى الله سبحانه، أي: رجعوا إلى توحيد الله D. وقوله: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، هو: لا إله إلا الله. {أولئك الذين هَدَاهُمُ الله}، أي: أرشدهم بغير كتاب ولا نبي. وقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} تمام عند أبي حاتم وغيره، لأنه رأس آية. ورفع " الذين " بإضمار رافع، أو بنصبهم على إضمار ناصب. ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} أي: أفأنت

تنقذه. ودخلت الألف في الخبر للتأكيد. وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب يتخلص أو ينجو، أي: أفمن سبق في علم الله أنه يدخل النار ينجوا أو يتخلص. قال قتادة معناه: أفمن حق عليه كلمة العذاب بكفره أفأنت يا محمد تنقذه من العذاب. وقيل: هو جواب لقصة محذوفة، كان النبي A، دعا لقوم من الكفار أن يرزقوا الإيمان. فقيل له: أفتدعو لمن حق عليه العذاب، أفأنت تنقذ من في النار. ثم قال: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ}، أي: اتقوه بأداء فرائضه واجتناب محارمه لهم في الجنة غرف {فَوْقِهَا غُرَفٌ}. قال الزجاج: معناه: لهم في الجنة منازل رفيعة فوقها منازل أرفع منها. {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}، أي: من تحت أشجارها. ثم قال تعالى: {وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد}، أي: وعد الله ذلك وعداً. وسيبوية يسميه مصدراً مؤكداً بمنزلة: صنع الله وكتاب الله.

وأجاز أبو حاتم الوقف على " الأنهار " وهو غير جائز على مذهب سيبويه لأن ما قبل " وعد " يعمل فيه لقيامه مقام العامل. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض}، أي: أنزل من السماء مطراً فأجراه عيوناً. قال الحسن: هو العيون، وقال الشعبي: كل عين في الأرض من السماء نزل ماؤها. وقيل، المعنى: أنزل من السماء مطراً فأدخله في الأرض فجعله البنابيع، أي: عيوناً. والمعنى / كالأول سواء، وواحد الينابيع ينبوع. ثم قال {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ}، أي: يخرج بالماء أنواعاً من الزرع من بين شعير وحنطة وسمسم وأرز ونحو ذلك من الأنواع، هذا قول الطبري واختياره. وقال غيره: معنى مختلفاً ألوانه: أخضر وأسود وأصفر وأبيض.

22

وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ}، أي: يجف عند تمامه. قال الأصمعي: يقال للنبات إذ تمّ، قد هاج يهيج هيجاً. وحكى المبرد عنه: هاجت الأرض تهيج إذا إدبر نبتها وولّى. وقوله: {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً}، أي: قد يبس فصار أصفر بعد خضرته ورطوبته .. {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً}، أي: فتاتاً، يعني: تبن الزرع والحشيش. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب}، أي: إن في فعل ذلك والقدرة عليه لتذكرة وموعظة لأصحاب العقول فيعلمون أن من قدر على ذلك لا يتعذر عليه ما شاء من إحياء الموتى وغير ذلك. قوله تعالى ذكره: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} - إلى قوله - {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}. في هذه الآية حذف واختصار لدلالة الكلام عليه على مذاهب العرب. والتقدير: أفمن شرح الله صدره فاهتدى، كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته. ثم بيّن ذلك بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله}، أي: عن ذكر الله D فلا يثبت ذكر الله سبحانه فيها. وقيل: الجواب والخبر: {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. وقوله: {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} معناه: على بصيرة ويقين من توحيد ربه.

ويروى أن قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} نزلت في حمزة وعليّ Bهـ. وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} نزلت في أبي لهب وولده قال قتادة: {فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}، يعني به: كتاب الله D، المؤمن به يأخذ وإليه ينتهي. " وروي أن أصحاب النبي A قالو له: " أَوَ يَنْشَرِحُ القَلْبُ "!؟ قال: نَعَمْ. إذاَ أَدْخَلَ الله فِيهِ النُّورَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ. قالوا: فَهَلْ لِذَلِكَ مشنْ عَلاَمَةٍ تُعْرَف؟ قال: نَعَمْ، التَّجَافي عَنْ دَارِ الغُروُرِ، وَالإِنَابَةِ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ قَبْلَ المَوْتِ ". قال المبرد، يقال: (قسا وعتا) إذا صلب، وقلب قاس لا يلين ولا يرق. فالمعنى: فويل للذين جَفَتْ قلوبهم عن قبول ذكر الله D وهو القرآن فلم

يؤمنوا به ولا صدّقوه. قال الطبري: " مِنْ " هنا، بمعنى: " عن "، أي: عن ذكر الله. فيكون المعنى: غلظت قلوبهم وصلبت عن قبول ذكر الله. وقيل: " من " على بابها. والمعنى: كلما تلي عليهم من ذكر الله قست قلوبهم. ثم بين حالهم فقال: {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: في ضلال عن الحق ظاهر. ومن جعل جواب: {أَفَمَن شَرَحَ} محذوفاً وقف على {نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}. ومن جعل الجواب: {أولئك فِي ضَلاَلٍ} لم يقف عليه. ثم قال: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ}، أي: يشبه بعضه بعضاً لا اختلاف فيه ولا تضاد، هذا قول قتادة والسدي. وقال ابن جبير: يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً ويدل بعضه على بعض.

وقوله: {مَّثَانِيَ} معناه: ثنى فيه الأخبار والقصص والأحكام والحجج. وقال الحسن وعكرمة: " ثنى الله D فيه القضاء ". وقال قتادة: ثنى الله فيه ذكر الفرائض والقضاء والحدود. وقال ابن عباس: ثنى الله D ( الأمر فيه) مراراً. وقيل: مثاني: ثنى فيه ذكر العقاب والثواب والقصص. وقيل: المثاني، كل سورة فيها أقل من مائة آية أي: ثنى في الصلاة. ثم قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}، أي: تقشعر من سماعه إذا تلي وذكر فيه العذاب والعقاب خوفاً وحذراً. وقوله: {رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله}، أي: إلى العمل بما في كتاب الله D والتصديق به. وقيل: تلين إلى ذكر الثواب والرحمة والمغفرة، وتقشعر إلى ذكر (العقاب والعذاب).

روى ابن عباس أن أصحاب النبي A قالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا. فنزلت: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} الآية. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى الله}، أي: ما يصيب هؤلاء القوم من اقشعرار جلودهم عند سماع العقاب ولينها عند سماع الثواي هو هدى الله / وفقهم لذلك. {يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ}، أي: يهدي بالقرآن من يشاء. وقيل: ذلك هدى الله إشارة إلى القرآن، فيكون المعنى: ذلك القرآن بيان الله يوفق به من يشاء. ثم قال تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، أي: من يخذل الله عن التوفيق فما له من موفق. وقوله: (مثاني) وقف إن قطعت " تقشعر " مما قبله. وإن جعلته نعتاً " للكتاب " لم يجز الوقف على " مثاني ". ثم قال تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة} " من " بمعنى " الذي مرفوعة بالابتداء والخبر محذوف. والتقدير عند الأخفش: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل، أم من يتقيه.

وقيل: التقدير: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب خير أم من ينعم في الجنان. وقيل: التقدير: كمن يدخل الجنة، وقيل: التقدير: كمن هداه الله فأدخله الجنة، وقيل: التقدير: كمن لا يصيبه العذاب. وهذه المعاني كلها قريب بعضها من بعض وإن اختلفت الألفاظ. (وقيل معنى) الآية: أفمن يرمي به مكبوباً على وجهه في جهنم. قال مجاهد: " يجر على وجهه النار ". وقيل: المعنى: إنه ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمي به فيها. فأول ما تمس النار وجهه، روى ذلك عن ابن عباس. وقيل: يرمي بالكافر في النار مغلولاً فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه. وقيل: الإتقاء في هذا بمعنى الاستقبال كرهاً.

وخصّ الوجه لأنه أعز ما في الإنسان على الإنسان وفيه الحواس الخمس. تقول العرب: اتقيت فلاناً بحقه، أي: استقبلته به. وقد كان الإنسان في الدنيا يتقي عن وجهه السوء بجميع جوارحه لشرفع وعزته عليه. فأعلمنا الله D أن الوجه هو أعز الجوارح به يتقي الكافر سوء العذاب يوم القيامة، فما ظنك بجميع الجوارح التي هي دون الوجه، أعاذنا الله من ذلك ونجّانا منه. ثم قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، أي: وقيل للظالمين أنفسهم ذوفوا عذاب عقاب كسبكم في الدنيا معاصي الله سبحانه. وهذا فعل ماض عُطِفَ، وليس قبله ما يُعْطَفُ عليه، لكنه محمول على المعنى والحكاية. والتقدير: ويقال ذلك يوم القيامة. ثم قال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: كذبت الأمم رسلهم من قبل هؤلاء المشركين فجاءهم عذاب الله من حيث لا يعلمون بمجيئه. {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا}، أي: عجّل لهم الهوان والعذاب في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله إياهم في الآخرة أكبر من العذاب الذي نالهم في الدنيا لو كانوا يعلمون ذلك. والخزي، أصله: المكروه، وهو أشد الهوان وأبلغه. قال المبرد: " يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته،

أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما ". ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ}، أي: ولقد مثلنا للناس، يعني: المشركين في هذا القرآن من كل مثل من مثال القرون الخالية تخويفاً وتحذيرا {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيرجعون عمّا هم عليه من الكفر والشرك. ثم قال: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}. نصب " قرآناً " عند الأخفش على الحال. وقال علي بن سليمان: " عربياً " هو الحال، " وقرءاناً " توطئة للحال (كما تقول مررت بزيد رجلاً صالحاً، " فصالح " هو المنصوب على الحال ورجلاً توطئة للحال).

29

قال الزجاج: " عربياً ". منصوب على الحال، " وقرآناً " توكيد. وقوله: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}. قال مجاهد: معناه، " غير ذي لبس " وقال الضحاك غير مختلف. وقال ابن عباس: غير مخلوق. ثم قال: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: يتّقون ما حذّرهم الله D من بأسه وعذابه. قوله (تعالى ذكره): {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ} - إلى قوله - {بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. هذا مثل للمؤمن والكافر، فالكافر يعبد أرباباً كثيرة مختلفين من الشياطين والأصنام. فهو بينهم مقسم وجميعهم مشتركون فيه. والمؤمن يعبد الله وحده لا شرك لأحد فيه، قد تسلم له عبادته فهو سالم من الإشراك.

قال الفراء: متشاكسون: مختلفون: هذا معنى قول قتادة وهو قول ابن عباس، وقال مجاهد والضحاك هو مثل للحق والباطل، والشركاء: الأوثان. قال الزجاج: ضرب هذا المثل لمن وحد الله D ( ولم يجعل معه شريكاً). فالذي وحّد الله / مثله مثل السالم لرجل لا يشركه فيه غيره. ومثل الذي عبد غير الله مثل صاحب الشركاء المتشاكسين، أي: المختلفون العسرون. وحكى المبرد: متشاكسون: متعاسرون، من شكس يشكُسُ وهو شَكِسٌ، مثل عَسُرَ يَعْسُرُ فهو عَسِرٌ. يقال: رجل شَكِسُ أي: عسير لا يرضى بالإنصاف. وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}، أي: هل يستوي من يخدم جماعة هم فيه شركاء قد اختلفت مراداتهم فيلقى من (التعب والنصب ما لا قوام) له به من غير أن يبلغ

ضى الجميع، أو الذي يخدم واحداً لا ينازعه فيه منازع، إذا أطاع عرف موضع طاعته فأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه. فالمعنى: أي هذين أحسن حالاً وأروح جسماً. قال ابن عباس: هل يستويان مثلاً، أي: هل يستوي من اختلف فيه ومن لم يختلف فيه. ثم قال {الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: الشكر لله كله والحمد كله له دون من سِواه، بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الفرق بين من فيه أرباب مشتركون ومن ليس له إلا رب واحد. فلجهلهم يعبدون آلهة شتى. ومعنى: ضرب الله مثلا " (مَثَّلَ الله مثلاً). وقال " مثلاً " ولم يقل " مثلين " لأنهما كليهما ضرباً مثلاً واحداً فجرى المثل فيهما بالتوحيد لذلك كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]. ولم يقل آيتين إذ كان معناهما واحداً في الآية.

ثم قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ}، أي: إنك يا محمد ستموت عن قليل، وإن هؤلاء المكذبين من قومك والمؤمنين منهم سيموتون. {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، (قال ابن عباس يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال). وقال ابن زيد وابن جبير: يختصم أهل الإسلام وأهل الكفر. وقال ابن عباس: بلغ من الخصومة يوم القيامة حتى إن الروح ليخاصم الجسد. فيقول الروح: رب، هذا الذي عمل العمل فخلد عليه العذاب. فيقول الجسد: رب، وما كنت أنا، به كنت أبسط، وبه كنت أقبض، وبه كنت أعمل، وبه كنت أقوم وأقعد، فخلد عليه العذاب. فيقال لهما: أرأيتما لو أنّ اعمى وصحيحاً دخلا حائطاً مثمراً، فقال البصير: لا أَنَالُهُ. فقال الأعمى: أنا أحملك على عنقي (حتى تناله فتأخذ): فحمله حتى أخذ من التمر، فأكلا جميعاً، على من يكون العذاب؟ فيقول: عليهما جميعاً!.

وعن النبي A أنه قال: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ ". وقيل: هو اختصام أهل الإسلام فيما بينهم. وروي عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه الآية (وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وقال النخعي: لما نزلت هذه الآية) قالوا ما خصومتنا بيننا ونحن إخوان؟ قال: فلما قتل عثمان Bهـ قالوا: هذه خصومتنا بيننا.

قال: أبو العالية: هم أهل القبلة يختصمون يوم القيامة في مظالم بينهم. وروي عن النبي A أنه قال في الآية: " يَخْتَصِمُونَ في الدِّمَاءِ في الدِّمَاءِ " قاله مرتين). " وروي عن الزبير أنه قال: يا رسول الله، أنختصم يوم القيامة بعدما كان بيننا؟ قال: " نعم، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه ". قال الزبير: إن الأمر إذن لشديد ". وفي الحديث المسند: " أول ما تقع فيه الخصومات الدماء ". وقوله: " مثلاً " تمام عند أبي حاتم وغيره.

وليس ذلك بمختار لأن الممثل به لم يذكر بعد فهو متصل بما قبله. وقيل: إن " مثلاً " تقديره أن يكون مؤخراً بعد " سلما لرجل "، أي: ضرب الله هذا مثلاً وفي الكلام حذف، والتقدير: ضرب الله مثلاً لمن أشرك به غيره. وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}: المثل في هذا بمعنى الصفة كما قال: {مَّثَلُ الجنة} [الرعد: 35]، أي: صفة الجنة. ثم قال تعالى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله}، أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له ولداً وصاحبة. و" من " استفهام، معناه: الجحد، أي: لا أحد أظلم منه. {وَكَذَّبَ بالصدق}، أي: بالقرآن وبمحمد A إذ جاء رسولاً. ثم قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}، أي: أليس فها مأوى ومسكن لمن كفر بالله D ورسله صلوات الله عليهم، ومتبه بل فيها مأوى ومسكن لهم. ثم قال تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} " الذي " هنا واحد يدل على الجمع. وقيل: كان أصله: " الذين "، فحذفت النون لطول الاسم. وقيل: " الذي " للواحد وهو النبي A، جاء بـ " لا إله إلا الله " وصدق

بذلك: هذا قول ابن عباس. وقال مجاهد: جاء محمد بالقرآن وصدّق به، وقال الشعبي. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: الذي جاء بالصدق رسول الله A وصدّق به أبو بكر Bهـ. وقال قتادة: الذي جاء بالصدق رسول الله A جاء بالقرآن والإسلام وصدّق به يعني المؤمنين، وكذلك قال ابن زيد وقال السدي: الذي) جاء بالصدق: جبريل A، جاء بالقرآن من عند الله وصدّق به، يعني: محمداً A. وقال مجاهد: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} هم: المؤمنون يجيئون بالقرآن يوم القيامة، يقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه ". وعن مجاهد أيضاً: (والذي جاء بالصدق) يعني A " وصدق به "

يعني علي بن أبي طالب Bهـ، وقيل: هو أبو بكر رضي الله وأصحابه. فمن جعله لجماعة استدل بقوله: {أولئك هُمُ المتقون}. ومن جعله لواحد حسن عنده (أولئك) بعد الواحد، لأن الجليل القدر يخير عنه بلفظ الجماعة. وقرأ أبو صالح: (وصدق به) بالتخفيف، (يعني به النبي A. والباء بمعنى: في. والمعنى: جاء بالقرآن وصدق فيه. واختار الطبري أن يحمل على العموم، فيكون معنى: والذي جاء بالصدق كل من دعا إلى توحيد الله D والعمل بطاعته، ويكون الصدق: القرآن والتوحيد

والشرائع، والمصدق: المؤمنون والأنبياء وغيرهم من جميع من صدق به. ودل على هذا العموم ما قبله من العموم في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق} فهذا عام في جميع المكذبين بالقرآن والتوحيد والشرائع، وفي جميع الكاذبين على الله سبحانه فكذلك يجب أن يكون التصديق عقيبه عاما في جميع المصدقين والصادقين فيترتب الشيء وضده على نظام واحد لأن الذين كانوا عند بعث النبي A قوم مكذبون لما أتاهم به كاذبون على الله سبحانه، ثم أعقبهم ممن آمن قوم مصدقون بما أتى به النبي A صادقون في قولهم. وفي قراءة ابن مسعود: " والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به بالجمع. ثم قال تعالى {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} يعني، يوم القيامة لهم ما تشتهيه أنفسهم. ثم قال: {ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين}، ذلك: إشارة إلى قوله: لهم ما يشاءون. والكاف في " ذلك " للنبي A، أي: هذا الذي لهم عند ربهم جزاء كل محسن في الدنيا بطاعة الله D. ثم قال: {لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ}، أي: فعل بهم ذلك لكي يكفر عنهم أسوأ ما عملوا في الدنيا مما بينهم وبين ربهم {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ}، أي: في الآخرة. {بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا (لا بأسوئه).

36

قوله تعالى ذكره: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} - إلى قوله - {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي أليس الله بكاف محمداً A أمر أعداء المشركين. قال مجاهد: بكافيه الأوثان. وروي أنهم قالوا للنبي A: لئن لم تنته عن سب آلهتنا لنأمرنها فتخبلك. فالمعنى: يخوفك يا محمد هؤلاء المشركون بالأوثان أن تصيبك بسوء، ألي الله بكافيك؟! أي: هو كافيك ذلك. ومن قرأ " عباده " بالجمع أدخل فيه النبي A ومن تقدمه من الأنبياء صلوات الله عليهم الذين توعدتهم أممهم بمثل ما توعدت به أمة محمد محمداً A. قال مجاهد: نزلت هذه الآية حيثن قرأ النبي A سورة " والنجم " عند باب الكعبة. ثم قال تعالى {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ}، أي: من

يخذل الله فيضله عن طريق الحق فما له سواه من مرشد، ومن يوفقه الله إلى طريق الحق فماله من مضل. ثم قال تعالى {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام}، أي: أليس الله يا محمد يعزيز في انتقامه ممن / كفر به، ذي انتقام منهم. ثم قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله}، (أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين منْ خلق السماوات والأرض ليقولن الله) خلقهن، فإذا أقروا بذلك فقل لهم يا محمد: أفرأيتم هذه الألهة التي تدعون من دون الله إن أرادني الله بضرّ، أي: سقم أو شدة في معيشتي هل هن كاشفات عني ما أصابني، وإن أرادني الله D برحمة، أي بصحة وَسَعَةٍ في الرزق هل هن ممسكات عني ما أعطاني. والجواب في هذا محذوف لعلم السامع بالمعنى. والتقدير: فإنهم سيقولون لا نقدر على شيء من ذلك، فإذا قالوا ذلك فقل يا محمد حسبي الله، أي: كافيِي الله مما سواه من الأشياء. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون}، أي: من هو متوكل فليتوكل عليه لا بغيره. وقال قتادة: ولئن سألتهم من خلق السماوات، يعني:

الأصنام فيكون المسؤول في هذا القول: الأصنام. والقول الأول عليه أكثر المفسرين. ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} معنى الكلام التهدد والوعيد، أي: اعلملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه مثل قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. وقال مجاهد: معناه اعملوا على ناحيتكم، (أي: على) ناحيتكم التي اخترتموها وتمكنت عندكم، إني عامل على ناحيتي. وقيل: المعنى إنى عامل على عمل من سلف من الأنبياء عليهم السلام قبلي. {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون من يهان ويذل ممن يكرم وينعم إذا جاءكم بأس الله D فيظهر لكم المحق منا من المبطل وهو معنى قوله: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}. ثم قال تعالى {إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق}، أي: أنزلناه تبياناً بالحق. {فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ}، أي من آمن به واتبعه فلنفسه عمل، لأنه أكسب نفسه باتباعه الحق وإيمانه الفوز والرضى من الله D والخلود في النعيم المقيم.

ثم قال: {وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، أي: ومن جار على ما أنزل إليك فإنما يجُورُ على نفسه، لأنه أكسبها بكفره وجوره عن الحق العطب والخزي الدائم، والخلود في نار جهنم. ثم قال: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، أي: ما أنت يا محمد على من أرسلناك إليهم برقيب ترقب أعمالهم وتحفظ أفعالهم، إنما أنت رسول وما عليك غير البلاغ المبين وحسابهم علينا، قال قتادة، والسدي: بوكيل: بحفيظ. ثم قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (أي يقبض الأرواح عند فناء آجالها وانقضاء مدة حياتها ويقبض أيضاً التي لم تمت في منامها) كما يتوفى التي ماتت عند مماتها فيرسل نفس النائم ويمسك نفس الميت، فإذا جاء وقت أجل النائم قبض نفسه ولم يردها إليه. قال ابن جبير: يقبض الله D أرواح الأحياء النائمين وأرواح الموتى فتلتقي أرواح الأحياء وأرواح الموتى، ثم يرسل الله الأحياء النائمين، ويمسك أرواح الموتى.

وعن ابن عباس أنه قال: يلتقي أرواح الموتى وأرواح النائمين فيتساءلون بينهم، ثم يمسك الله D أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى أجل مسمى، وهو الموت. قال الفراء: المعنى: ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها، قال: وقد يكون توفيها نومها، فالتقدير عنده: والتي لم تمت، نومها: وفاتها. وقال ابن جبير: معناه أن الله جل ذكره يجمع بين أرواح الأحياء والموتى، فيتعارف منهما ما شاء الله أن يتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجسادها. وقال السدي: يقبض الله D روح النائم في منامه الأرواح بعضها بعضاً أرواح الموتى وأرواح النيام (فتلتقي فتسأل).

قال فيخلي الله D عن أرواح الأحياء فترجع إلى أجسادها إلى أجل مسمى - أي: إلى بقية آجالها - وتريد الأخرى أن ترجع فيحبس التي قضى عليها الموت، وهو قول ابن زيد. وقال بعض أهل اللغة: النفس على معنيين: نفس التمييز، ونفس الحياة. ونفس التمييز هي من نفس الحياة وليس / نفس الحياة هي نفس التمييز لوجدنا النائم معه نفس الحياة ولا تمييز له. فنفس التمييز ترتبط بنفس الحياة في حال وتفارقها في حال. فتنفرد نفس الحياة، وليس تنفرد التمييز بالبقاء البتة في الجسد، وتنفرد نفس الحياة بالبقاء في البدن. فالتي تقبض عند النون هي نفس التمييز لا نفس الحياة، والتي تقبض عند الموت هي نفس الحياة، (فذهاب نفس الحياة) لا عودة بعده في الدنيا، وذهاب نفس التمييز له رجعة في الدنيا. ونفس الحياة بها يكون التمييز والحركة والنفس، ونفس التمييز لا تكون إلا تابعة لنفس الحياة فهي جزء منها. ألا ترى أن التمييز يذهب والحياة والنفس والحركة

باقية، ولو ذهبت نفس الحياة لم يبق (تمييز ولا نفس) ولا حركة. فالجملة نفس واحدة إلا أنها تنقسم في المنافع. فصاحب هذا القول ينحو إلى أن النفس التي هي التمييز هي العقل، كأن التمييز هو العقل الذي تميز به الأشياء فهو مرتبط بالحياة، فسمي نفساً لارتباطه بالنفس والحياة. وقيل: إن المعنى على هذا التأويل: الله يتوفى الأنفس حين موتها بإزاله أرواحها وتمييزها ويتوفى التي لم تمت في منامها بإزالة تمييزها دون حياتها، وهذا هو القول الذي قبله مختصراً. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: في قبض الله D نفس النائم وردّها عليه، وقبضه نفس الميت ومنها من الرد عليه، لَعِبَراً وعظات لمن تفكر وتدبر، وبياناً أن من فعل هذا يقدر على أن يحيى الموت إذا شاء. ثم قال تعالى ذكره وجل ثناءه: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ}، أي اتخذ هؤلاء المشركون من دون الله آلهتهم التي يعبدون (شفعاء) تشفع لهم عند الله.

45

ثم قال: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ}، أي: قل لهم يا محمد: أتتخذونهم آلهة وإن كانوا لا يملكون لكم ضراً ولا نفعاً ولا يعقلون عنكم شيئاً. ثم قال تعالى: {قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: قل يا محمد: لله الشفاعة جميعاً فاعبدوه ولا تعبدوا ما لا يملك لكم شفاعة ولا غيرها. {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: له سلطان ذلك وملكه، فما تعبدون أيها المشركون داخل في ملكه وسلطانه فاعبدوا المالك دون المملوك، فإليه ترجعون بعد موتكم فيجازيكم على أعمالهم. قال قتادة: أم اتخذوا من دون الله شفعاء، يعني: الآلهة. قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً يعني: لا يملكون الشفاعة. قال مجاهد: قل لله الشفاعة جميعاً، أي: " لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ". قوله تعالى ذكره: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت} - إلى قوله - {وَكُنتَ مِنَ الكافرين}، أي: إذا أفرد الله D بالعبادة والذكر فقيل: لا إله إلا الله نفرت وانقبضت قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث. {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ}، يعني: الأصنام. {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، أي: يفرحون.

عنى بذلك ما ألقى الشيطان على لسان النبي A في سورة " والنجم " إذ قرأ: تلك الغرانيق العلى ووإن شفاعتهم لترتجى. قال قتادة: " اشمأزت، أي: كفرت واسكتبرت ". وقال مجاهد: اشمأزت انقبضت وهو قول المبرد. وقال مجاهد: وذلك يوم قرأ عليهم " والنجم " عند باب الكعبة. وقال السدي: اشمأزت: نفرت، وهو قول أبي عبيدة. ثم قال تعالى: {قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة}، أي: قل يا محمد: يالله، يا خالق السماوات والأرض، يا عالم ما غاب وما ظهر.

{أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ}، أي: تفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من تقبضهم عند توحيدك، واستبشارهم عند ذكر الأوثان وفي غير ذلك. ثم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ}، أي: كفروا بالله D، { مَا فِي الأرض جَمِيعاً} يعني: يوم القيامة. {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} لفدو به أنفسهم لو قُبِل ذلك منهم، فكيف وهم لا يكون لهم شيء من ذلك يوم القيامة، ولو كان لهم لم يقبل منهم. ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ}، (أي: وظهر لهؤلاء الكفار يوم القيامة من عذاب الله لم يكونوا يحتسبون) انه أعده لهم. وقال مجاهد: معناه: أنهم علموا / أعمالاً توهموا (أنها حسنات، فإذا هي سيئات. وقيل: معناه: أنهم " علموا أعمالاً توهموا) أنهم يتوبون قبل الموت منها فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة ". وقيل: معناه أنهم توهموا أنهم يغفر لهم من غير توبة فبدا لهم من الله دخول النار على ما قدموا. وقيل: معناه أنهم عملوا أعمالاً توهموا أنها تنفعهم فأحبطها الشرك.

قال محمد بن المنكدر: وعملوا أعمالاً كانوا يظنون أنها تنجيهم (فإذا بها) قد أهلكتهم وأوبقتهم. ثم قال: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ}، أي: وبدا لهم عقاب سيئات أعمالهم. وقيل: المعنى: وظهر سيئات عملهم في كتبهم إذا أُعْطَوْهَا بشمائلهم. ثم قال تعالى: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: وجب عليهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزءون به إذا ذكر لهم، وخوفوا به تكذيباً له وإنكاراً. ثم قال: {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا}، أي: إذا أصابه بؤس وشدة دعا الله مستغيثاً به، فإذا خوّله نعمة منه وفرج عنه {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ}، أي: قال: إنما الرخاء والسعة في المعيشة والصحة في البدن على علم من الله بأني له أهل ومستحق لشرفي، ورضاه بعملي. وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي بالتجارة والطلب وغير ذلك. وقيل: المعنى: أوتيته على علم عندي، أي: إذا أوتيت هذا في الدنيا إن لي عند الله منزلة. فرد الله تعالى عليه ذلك فقال تعالى:

{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} [القصص: 78] وقد مضى ذكر هذا في القصص ". وقوله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}، معناه: بل أعطينا إياهم تلك النعمة ابتلاء ابتليناهم بها واختباراً. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: لا يعلمون أنه ابتلاء واختبار لسوء رأيهم وجهلهم. ثم قال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي قد قال في نعم الله D عليه، أي: إنما أوتيته على علم الذين كانوا من قبل هؤلاء من القرون الخالية لرسلهم تكذيباً لهم واستهزاءً، فلم يغن عنهم حين أتاهم بأس الله D ما كانوا يكسبون من الأعمال، يعني: عبادتهم الأوثان لم تغن عنهم شيئاً، ولم تشفع لهم كما يقول هؤلاء أنها تشفع لهم عند الله سبحانه، ولكنها أسلمتهم لما أتاهم من العذاب. ثم قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ}، أي: فأصاب الأمم الخالية الذين قالوا مثل مقالة هؤلاء وبال عملهم فعذبوا في الدنيا، يعني: قارون وشبهه حين قال: إنما أوتيته على علم فخسف به وبداره الأرض. ثم قال تعالى: {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا}، أي: والذين

كفروا من قومك يا محمد سيصيبهم أيضاً وبال عملهم السيء كما أصاب أولئك. {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}، أي: بفائتين ربهم هرباً في الأرض من عذابه إذا نزل بهم فأحلَّ الله D عليهم عذابه فقتلوا بالسيف يوم بدر. ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ}، أي: أَوَلَمْ يعلم هؤلاء الذين قالوا إنما أوتينا المال والصحة وغير ذلك على علم أن الله يوسع على من يشاء من عباده في الرزق، ويضيّق على من يشاء. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، أي: إن في توسيع الله D على خلق، وتقتيره على خلق لحججاً ودلالات لقوم يؤمنون، أي: يصدقون بالحق. ثم قال تعالى ذكره: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}. قال ابن عباس: قال بعض أهل مكة: يزعم محمد أنه من عبد الأوثان، ودعا مع الله إلهاً آخرن وقتل النفس لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك، فأنزل الله D { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} الآية. وقيل: إنها نزلت في نفر من المشركين خلا الإيمان في قلوبهم فقالوا في أنفسهم: ما نظن أن الله D يقبل توبتنا وإيماننا وقد صنعنا بمحمد A كل شر: أخرجناه، وقتلنا أصحابه، وقاتلناه. فأباح الله تعالى لهم التوبة ونهاهم أن يقنطوا

من رحمته. / قال مجاهد: الذين أسرفوا على أنفسهم هو قتل النفس في الجاهلية. وقال عطاء بن يسار: نزلت هذه الثلاث الآيات في وحشي وأصحابه، وروى ذلك عن ابن عباس، قال: فكان النبي لا يطيق أن ينظر لأنه قتل حمزة فظن وحشي أن الله D لم يقبل إسلامه فنزلت هذه الآيات. وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة وخلفوا بعد هجرة النبي A فأقاموا بمكة يفتنهم المشركون عن دينهم فافتتنوا، فكان بعضهم يقول: إن رجعت إلى الإسلام لم يقبلني محمد A ولم يقبل الله توبتي فأنزل الله D هذه الآيات فيهم. فمعنى أسرفوا على أنفسهم على هذا القول، أي: أسرفوا على أنفسهم بإقامتهم مع الكفار بمكة، وظنهم أن الله D لا يقبل توبتهم ورجوعهم عن دينهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن قوماً أصابوا عظاماً في الجاهلية فلما جاء الإسلام

أشفقوا إن لم يتب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية. قال السدي: هي في المشركين، كقول ابن عباس: وهو قول ابن زيد. وكان ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجاً في القرآن: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} الآية. وروي عن عمر Bهـ أنها نزلت في أهل الإسلام. قال: كنا نقول: لمن افتن من توبة. وكانوا يقولون: ما الله بقابل منا شيئاً، تركنا الإسلام ببلاء أصابنا بعد معرفته. فلما قدم رسول الله A المدينة أنزل فيهم: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ} الثلاث الآيات. قال عمر: فكتبتها بيدي وبعثتها إلى هشام بن العاصي. قال هشام: فجعلت أقرؤها ولا أفهمها فوقع في نفسي أنها نزلت فينا لِمَا كُنَّا نقول، قال: فجلست

على بعيري ثم لحقت بالمدينة. وروي عن ابن عمر: أن هذه الآيات نزلن في عياش بن أبي ربيعة، والوليد ابن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به! فنزلت هذه الآيات. وقال ابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. فرد عليه ابن عباس وقال: بل أرجى

آية في القرآن. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. وروى شهر عن أسماء أنها سمعت النبي A يقرأ في هذه الآية: " إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي، إنه هو الغفور الرحيم ". وقال القرظي هي للناس أجمع. وقيل: المعنى: يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب.

(وهذا لجماع) من تاب من كفره أو من ذنوبه فالله يغفر له ما تقدم من ذنوبه كلها. وقيل: هذه الآية منسوخة بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93] الآية، وبقوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و 116]. والصواب أن الآية خبر لا يجوز نسخه فهي محكمة على ما بينَا من المعنى الذي ذكرنا. وقوله: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ} يدل على أن الآية نزلت فيمن هو على غير الإسلام، وإن بالإسلام تغفر الذنوب كلها التي اكتسبت في الكفر. وروى ثوبان مولى رسول A أن النبي A قال: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية. فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟! فسكت رسول الله A ثم

قال: ألا ومن أشرك (ألا ومن أشرك) - ثلاث مرات ". وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا معشر أصحاب رسول الله A نقول: إنه ليس من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت هذه الآية: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر والفواحش. قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها، قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} و {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48 و 116].

فلما نزلت هذه الآية كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحد أصاب منها شيئاً خِفْنا عليه، وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له. وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: القنوط من رحمة الله من الكبائر. واختار الطبري أن / تكون الآية عامة في أهل الإيمان وأهل الشرك لأن الله D عَمَّ المُسرفين ولم يُخصِصّ به أحداً، فالشرك أعظم الذنوب وهو مغفور مع التوبة منه والرجوع عنه. وكان ابن عباس يقرأ: " يغفر الذنوب لمن شاء ". وقد قيل: إن قوله: {يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} منسوخ بقوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93]، وقيل: بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48 و 116]. والصواب أنها محكمة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، والله يغفر كل الذنوب لمن يشاء من المؤمنين، فلا نسخ فيه. ومعنى " لا تقنطوا ": لا تيئسوا.

{إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}، أي: يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها إذا تابوا منها. {جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور}، أي: الساتر لذنوب التائبيبن. {الرحيم} بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. ثم قال تعالى: {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ}، أي: ارجعوا إلى طاعة ربكم، وأقبلوا على عبادته، واخضعوا له، وأجيبوا داعيه. {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب} على كفرهم. {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}، أي: لا ينصركم ناصر فينقذكم من عذاب الله D. والإنابة هنا: الإيمان والتوبة من الكفر. وروي عن النبي A أنه قال: " إن الإيمان إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح. فقيل له: يا رسول الله، فهل لذلك من آية يعرف بها؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود. والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ". ثم قال: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}، أي: اعملوا بما في كتاب الله. وقيل: معناه: إن الله أباح الانتصار بعد الظلم وأعلمنا أن العفو أحسن. وقيل: المعنى: إن الله D قد أخبر عن قوم أنهم عصوا، وعن قوم أنهم

أطاعوا فأمر أن تتبع الطاعة دون المعصية. وقيل: المعنى: إن الله عز جل قد نسخ أحكاماً بما شاء فأمرنا أن تنبع الناسخ دون المنسوخ. وقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً}، أي: فجأة. {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}، أي: لا تعلمون، وهذا ما توعد من الله جل ذكره لمن لم يَتُبْ. ثم قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} " أن " مفعول من أجله. والأصل في " حسرتا ": يا حسرتي، ثم أبدل من الياء ألف. والفائدة في نداء الحسرة أن حرف النداء يدل علة تمكن القصة من صاحلها وملازمتها له. فذلك أبلغ في الخبر. وأجاز الفراء في الوصل: " يا حسرتاه " بضم الهاء وكسرها. ولا يجيز النحويون إثبات الهاء في الوصل وقد جاء ذلك في الشعر. والمعنى: اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تصيروا إلى حال الندامة غداً.

ومعنى {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله}، أي: على ما ضيّعته من العمل بما أمرني الله به، وقصّرت فيه في الدنيا. قال مجاهد والسدي " في جنب الله "، أي: في أمر الله. وقال الضحاك: " في ذكر الله، قال: يعني القرآن والعمل به ". وقال أهل اللغة: المعنى: في جنب الله. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " ما جلس رجل مجلساً ولا مشى ممشىً ولا جَلَسَ اضطجع مضطجعاً لم يذكر الله فيه إلا كانت عليه ترة يوم القيامة، أي: حسرة ".

وقال إبراهيم التيمي: من الحسرات يوم القيامة أن يرى الرجل ماله الذي آتاه الله D يوم القيامة في ميزان غيره قد ورثه وعمل فيه بالحق كان له أجره وعلى الآخر وِزْرُه. ومن الحسرات أن يرى الرجل عنده الذي خوله الله في الدنيا (أقرب منه) منزلة من الله جل ذكره، أو يرى رجلاً يعرفه في الدنيا أعمى قد أبصر يوم القيامة وعمي هو. وأصل الحسرة الندامة التي تلحق الإنسان حتى يصير معها حسيراً، أي: معيباً. وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أنه قال: ما تفرق قوم قط من مجلسهم، ولم يذكروا الله فهي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة. وعن أبي هريرة أن النبي A قال: " ما جلس رجل ولا قوم مجلساً، ولا مشىً رجل ممشى، ولا اضطجع مضطجعاً لا يذكر الله فيه، إلا كانت عليه يوم القيامة

حسرة ". وقوله: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين}، أي: وما كنت إلا من الساخرين، أي: كنت من المستهزئين بأمر الله سبحانه وكتابه. قال قتادة: (لم يكفه) أن ضيع طاعة الله D حتى جعل بأهل طاعة الله سبحانه. قال قتادة: هذا قول صنف منهم /، فقال صنف آخر: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي. . .} الآية، وقال صنف آخر: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} الآية، أي: رجعة. قال ابن عباس: أخبر الله جل ذكره ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وما هم عاملون قبل أن يعملوا (فقال {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] وقال: {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَلَوْ رُدُّواْ} [الأنعام: 28]. وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. ومعنى: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي}، أي: وفقني للرشاد.

ثم قال: {بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} دخلت (هنا " بلى ") لأن معنى لو أن الله هداني (ما هداني). ودخلت جواباً للنفي حملاً على المعنى: (بلى هداني). ومعنى الآية أنها تكذيب من الله جل ذكره للقائل: " لو أن الله هداني "، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً}، فأعلمهم أن كتابه وحججه قد أتاهم فكذبوا واستكبروا عن الإيمان به وكانوا من الكافرين به. وروت أم سلمة أن النبي A قرأ: {جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت} بكسر الكاف والتاء على مخاطبة النفس. وبذلك قرأ الجحدري.

60

وقرأ الأعمش: " بلى قد جاءته " بالهاء. وقيل: يلزم من كَسَرَ التاء والكاف (أن يُقْرَأَ وكنت) من الكوافر والكافرات. وهذا لا يلزم لأنه يحمل على المعنى. قوله تعالى ذكره: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ} - إلى قوله - {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. أي: يوم القيامة يا محمد ترى الذين زعموا أن لله سبحانه ولداً وأن له شريكاً. {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}: يقال: مسودة ومسوادة، لغتان، وأسْوادَّ وجهه وأسَوَدَّ وأحْمَرَّ وأحْمَارَّ. ثم قال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ}، أي: أليس في جهنم مأوَىَ ومسكنَ لمن تكبر على الله تعالى، وامتنع من طاعته جلت عظمته. روي أن النبي A قال: " يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر يلحقهم الصغار حتى يؤتى بهم إلى سجن في جهنم ".

وقال A في تفسير الكبر: " هو سفه الحق وغمط الناس "، اي: احتقارهم. قال عطاء بن يسار: يقال: إن في جهنم سجناً يقال له بولس يحشر فيه المتكبرون يوم القيامة ويأتون يوم القيامة على صور الذر. ومن رواية ابن وهب يرفعه إلى النبي A أنه قال: " المتكبرون في الدنيا يحشرون يوم القيامة أِباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار، ثم يساقون حتى يدخلوا سجناً يقال له بولس في نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال "، يعني: من صديد أهل النار وما يخرج منهم . ثم قال تعالى: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ}، أي بفوزهم. قال السدي: بمفازتهم، بفضيلتهم.

وقال ابن زيد: " بأعمالهم ". وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " يحشر الله D مع كل امرئ عمله، فيكون عمل المومن معه في أحسن صورة وأطيب ريح. فكلما كان من رعب أو خوف قال له: لا تُرَعْ، فما أنت (بالمراد ولا أنت بالمعني به). فإذا كثر عليه قال له: ما أحسنك! فمن أنت؟! فيقول: أما تعرفني؟! أنا عملك الصالح! حملتني على ثقلي فوالله لأحملنك اليوم ولأدفعن عنك " فهي التي قال سبحانه. {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} الآية. ثم قال تعالى ذكره: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}، أي: الذي له الألوهية والتفرد هو خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، أي قيم بالحفظ والكلأة. ثم قال تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض}. قال ابن عباس وقتادة: مقاليد: مفاتيح.

والمعنى: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض، يمسك ما يشاء ويفتح ما يشاء، وقال السدي: " المقاليد: الخزائن "، واحدها مقليد، وقيل: مقلد، وقال أبو عبيدة: (واحد المقاليد مقليد)، وواحد الأقاليد إقليد. ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون}، أي: هم المغبونون حظوظهم من خيرات خزائن الله التي بيده مفاتيحها. ثم قال (تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون}. " غير " نصب " بأعبد ". قال الأخفش: " تأمروني " ملغى، كقولك: ذلك زيد بلغني. والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أعبد غير الله فما تأمروني أيها الجاهلون؟! ثم قال تعالى ذكره: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}،

(أي: ولقد أوحي إليك يا محمد وإلى الرسل من قبلك لئن اشركت بالله ليحبطن عملك)، أي: يبطل عملك ويفسد. يقال: حبط بطنه من داء إذا فسد منه. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير /: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وأوحي إلي الرسل من قبلك مثل ذلك. ومعنى {مِنَ الخاسرين}: من المغبونين حظوظهم الهالكين. ثم قال تعالى: {بَلِ الله فاعبد}، الفاء زائدة واسم الله نصب بأعبد. وقال الفراء: هو نصب بإضمار فعل.

والفاء عند أبي إسحاق غير زائدة دخلت لمعنى المجازات. والمعنى على القول الأول: بل اعبد الله ولا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون {وَكُن مِّنَ الشاكرين}، أي: كن شاكراً لله على نعمه عليك إذا هداك للإيمان وبرَّأك من عبادة الأوثان. ثم قال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}، أي: ما عظموه حق عظمته. قال ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله D عليهم، ومن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك لم يقدر الله حق قدره. قال أبو عبيدة: معناه: ما عرفوا الله حق معرفته. وقيل التقدير: ما قدروا نعم الله حق قدر نعمه. وأكثر المفسرين على أن المعنى: ما عظّموه حق عظمته، وما وصفوه حق صفته: إذ عبدوا غيره معه، فهو خالق جميع الأشياء ومالكها، والأرض جميعاً كلها قبضته يوم القيامة.

(قال ابن عباس وغيره: الأرض والسماوات جميعا في يمينه يوم القيامة). قال ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع في يد الله جلّ ذكره إلا كخردلة في يد أحدكم. قال الحسن: والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، قال: كأنها جوزة بقضها وقضيضها. قال الضحاك: السماوات والأرض مطويات بيمينه جميعاً. وروى ابن عمر أن النبي A قال وهو على المنبر يخطب: " يأخذ الله D السماوات والأرض السبع فيجعلها في كفيه، ثم يقول بهما كما يقول الغلام بالكرة: أنا الله، أنا الواحد، أنا العزيز " حتى لقد رأيت المنبر وإنه ليكاد يسقط به.

" وروي عن النبي A أن يهودياً جاءه فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الله. فضحك النبي A حتى بدت نواجده، ثم قال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}. قال: فضحك النبي A تعجباً وتصديقاً ". " وروي أن رهطاً من اليهود أتوا النبي A فقالوا: يا محمد: هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟!. فغضب النبي A حتى انتقع لونه، ثم شاورهم غضباً لربه D فجاءه جبريل A يسكنه. وجاءه من الله تعالى جواب ما سألوه عنه، فقال: يقول الله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} السورة فلما تلا عليهم النبي عليه السلام، قالوا: صف لنا ربك، كيف هو خلقه، وكيف هو عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب النبي A أشد من غضبه الأول ثم شاورهم. فأتاه جبريل A فقال مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه عنه:

{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} - إلى - {يُشْرِكُونَ} ". وقيل: معنى {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة}، أي: يملكها، لا مدعي لملكها ذلك اليوم غيره، كما تقول: هذا في قبضتي. وقال المبرد: بيمينه: بقوته. وهذا القول هو قول علماء أهل السنة. " وذكر ابن وهب أن ناساً أتوا النبي A فقالوا: يا رسول الله، هاتان القبضتان، فأخبرنا عن سائر العظمة. قال: فكروا في خلق ممن خلق الله D: إسرافيل، رجلاه في التخوم السابعة، والعرش على جمجمته. ما بين قدميه إلى ركبته مسيرة خمسين ألف سنة. وما بين عاتقه إلى رأسه مسيرة خمسين ألف سنة ". ويروى أن إسرافيل مؤذن أهل السماء، يؤذن لاثني عشرة ساعة من النهار

ولاثنتي عشرة ساعة من الليل، لكل ساعة تأذين يسمع تأذينه من في السماوات السبع، ومن في الأرضين السبع إلا الثقلان: الجن والإنس. ثم يتقدم بهم عظيم الملائكة فيصي بهم. / وذكر أن ميكائيل يوم الملائكة في البيت المعمور. هذا كله من حديث ابن وهب عن الليث عن رجاله. " وروى ابن عباس عن عائشة Bها أنها سألت النبي A عن قوله: {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} قالت له: فأين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط ". وقال أبو أيوب الأنصاري: " أتى النبي A حَبْرٌ من أحبار اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله D في كتابه:

68

{والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فأين الخلق عند ذلك؟ قال: " هم كرقم في الكتاب ". وروى ابن الجوزاء عن ابن عباس أنه قال: إن السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما في يد الله تبارك وتعالى كخردلة في يد أحدكم. قال أبو محمد مؤلفه ( C) : ويجب على أهل الدين والفضل والفهم أن يجروا هذه الأحاديث التي فيها ذكر اليد والإصبع ونحوه على ما أتت، وألا يعتقد في ذلك جارحة (ولا تشبيه، فليس كمثل ربنا) شيء. ومن توهم في ذلك جارحة فقد شبه الله سبحانه وعدل عن الحق ثم قال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي: تنزيهاً له وتبرية من السوء والشرك. قوله تعالى ذكره {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ} - إلى قوله - {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}، أي: ونفخ إسرافيل في القرن فمات من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. وهذه هي النفخة الثانية.

وقيل: الصور جمع صورة. فالمعنى: ونفخ إسرافيل في صورة بني آدم فماتوا. والأول أكثر. وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ الله}. قال السدي وغيره: هو جبريل وميكائيل وملك الموت. وكذلك روى أنس عن النبي A: " لا يموتون في هذه النفخة (صلوات الله عليهم) ثم يموتون بعد ذلك، فلا يبقى إلا الله الحيّ القيوم، ثم يحيي الله تعالى إسرافيل عليه السلام ويأمره أن ينفخ في القرن لإحياء الخلق بإذن الله D. والله المميت للخلق بالنفخة التي هي نفخة الصعق وهو المحيي للخلق بالنفخة التي هي نفخة الأحياء ".

قال ابن جبير: عنى بذلك (شهداءهم) حول العرش (متقلدو السيوف). وقيل: استثناء الشهداء، إنما هو في [نفخة الفزع. وهي الأولى. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " ينفخ في الصور ثلاث نفخات]: النفخة الأولى، نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين، يأمر الله جل ذكره إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله، فقال أبو هريرة: يا رسول الله، فمن استثنى حين يقول: {فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله}؟ قال: أولئك الشهداء. (وإن ما يصير) الفزع إلى الأحياء. أولئك أحياء عند

ربهم يرزقون (ووقاهم الله) فزع ذلك اليوم وأمنهم. ثم يأمر الله D إسرافيل بنفخة الصعق فيقول: نفخة الصعق، فيصعق أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شئت، فيقول له وهو أعلم: من بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل. (وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!). فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتاب الموت على من كان تحت عرشي. ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله D وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل. (وينظر الله العرش، فيقول: يا رب، تميت جبريل وميكائيل وإسرافيل!). فيقول له جل وعز: اسكت، إني كتبت الموت على من كان تحت عرشي. ثم يأتي ملك الموت فيقول: رب، مات جبريل وميكائيل فيقول الله D وهو أعلم: فمن بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي (لا تموت وبقي) حملة عرشك وبقيت أنا، فيقول له: فليمت حملة عرشي، فيموتون، ويأمر الله D العرش فيقبض الصور. ثم يأتي ملك الموت، فيقول: يا رب، قد مات حملة عرشك، فيقول: ومن بقي؟ - وهو أعلم - فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي خُلِقْتَ لما رأيت فمَتْ، فيموت ".

وروي أن النبي A قال: " أتاني ملك الموت فقال: يا محمد، اختر: نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً. فأومأ إليَّ جبريل أن تواضع. قال: فقلت: نبياً عبداً. فأعطيت خصلتين: جعلت أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، فأرفع رأسي فأجد (موسى آخذاً) بالعرش فالله أعلم، بعد الصعقة الأولى أم لا ". وفي حديث آخر: " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من يرفع رأسه. فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع / رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله D ".

وفي حديث آخر: " فلا أرى أحداً إلا موسى متعلقاً بالعرش، فلا [أدري، أممن استثنى] الله جل ثناؤه ألا تصيبه النفخة أو بعث قبلي ". وقوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى}، يعني: نفخة البعث. {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} روى أبو هريرة أن النبي A قال: " ما بين النفختين [أربعون]، ثم ينزل الله جل ذكره من السماء ماء فينبتون كما يُنْبَتُ البقْلُ. قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عَظْم واحد وهو عَجْبُ الذَّنْب ومنه يُرَكَّبُ الخلق يوم القيامة ".

وكان أصحاب النبي A يتأولون الأربعين أربعين سنة. وقال الحسن: لا أدري، أهي أربعون سنة، أم أربعون شهراً، أم أربعون ليلة، أم أربعون ساعة. قال قتادة: ذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مَطَر يُقَالُ له مطر الحياة، حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نبات البقل، ثم ينفخ فيه الثالثة فإذا هم قيام ينظرون. قال النبي A: " يبعث الله المؤمنين يوم القيامة جُرْداً مُرْداً بنو ثلاثين سنة ".

وقال أبو الزعراء عن عبد الله أنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، فلا يبقى الله بين السماوات والأرض - إلا من شاء الله - إلا مات. ثم يرسل الله من تحت العرش مَنَيَّا كمني الرجال جسمانهم ولحمانهم من ذلك كما تنبت الأرض، ثم قرأ عبد الله {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر: 9]- إلى قوله - {كَذَلِكَ النشور} [فاطر: 9] قال: ويكون بين النفختين ما شاء الله ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها. ثم قال تعالى ذكره: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا}، أي: أضاءت. يقال: أشرقت الشمس إذا أضاءت وَصَفَت، وَشَرَقَت إذا طلعت. وذلك حين يجيء الرحمان لفصل القضاء بين خلقه. وروي أن الأرض يومئذ أرض من فضة تضيء وتشرق بنور ربها لا بشمس ولا بقمر. والمعنى: أضاءت الأرض بنور (خلقه الله). فإضافة النور إليه تعالى على طريق خلقه له مثل قوله: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] تبارك وتعالى. وقيل: معناه: أشرقت بعد الله D وحُكمه الحق تبارك وتعالى لأن له نوراً

كنور الشمس والضياء، وهو أعظم وأجل من ذلك، ليس كمثله شيء. وهذا كقوله D: { الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35]، أي: بِهُدَاه يهتدي أهل السماوات والأرض. لم يُرِدِ النُّور الذي هو الضياء، ولو كان ذلك، لم يوجد ظلام لأنه باق في الليل والنهار. وقد ثبتت الأحاديث عن النبي A أنه قال: " تنظرون إلى الله سبحانه لا تضامون في رؤيته ". وقد اختلف في هذه اللفظة على أربعة أوجه: - لا تُضامُون - مُخَفَّفاً -، أي: لا يلحقكم ضيم كما يلحق في الدنيا في النظر إلى الملوك. - والوجه الثاني: لا تُضامُّون - مشدداً -، أي: لا ينضم بعضكم لبعض ليسأله أن يريه إياه. - والوجه الثالث: (لا تُضارُون) - مخففاً -، أي: لا يلحقكم ضير في رؤيته من ضارَه يضيرُه. - والوجه الرابع: (لا تُضارُّون) - مشدداً، أي: لا يخالف بعضكم

بعضاً في صحة رؤيته. يقال: ضاررته مضارة، أي: خالفته. ثم قال تعالى ذكره: {وَوُضِعَ الكتاب}، يعني: كتاب أعمال العباد وحسابهم. وقيل: هو اللوح المحفوظ. {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء}، أي: جيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابت به] أممهم وردت عليهم في الدنيا. والشهداء، يعني: الذين يشهدون على الأمم. وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، أي: عدلاً {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143]. وقيل: عنى بالشهداء هنا: الذين قتلوا في سبيل الله. والأول (أولى وأبين). وقال السدي: الشهداء: الذين استشهدوا في طاعة الله D. وقال ابن زيد: هم الحفظة يشهدون على الناس بأعمالهم.

71

وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق}، أي: قضى / بين النبيين وأممهم بالحق؛ فلا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يظلم أحد فينقص من عمله. ثم قال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ}، أي: جزاء عملها من خير وشر. {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} في الدنيا من طاعة له أو معصية. فيثيب المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولا تظلم نفس شيئاً. قوله تعالى ذكره: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} - إلى آخر السورة. أي: وحشر الذين كفروا بالله D إلى ناره يوم القيامة. {زُمَراً}، أي جماعة جماعة. حتى إذا جاءوا جهنم فتحت أبوابها لهم ليدخلوها. {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ}، أي خزنة جهنم. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}، أي: بشر مثلكم. {يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ}، أي: كتب الله سبحانه. {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا}، أي: مصيركم إلى هذا اليوم (وما تلقون فيه. {قَالُواْ بلى}، أي: بلى قد جاءتنا الرسل وأنذرتنا لقاءنا هذا اليوم).

{ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين}، أي: كلمة الله أن عذابه لاحق بمن كفر به. بكتبه ورسله. ثم قال تعالى {قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: قالت لهم الخزنة ادخلوا أبواب جهنم) السبعة على قدر منازلكم فيها ماكثين فيها لا تنقلون عنها إلى غيرها. {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}، أي: فبيس مسكن المتكبرين على الله سبحانه جهنم يوم القيامة. ثم قال تعالى: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً}، أي: حشروا إلى دخول الجنة جماعة جماعة. {حتى إِذَا جَآءُوهَا}، أي: جاؤا الجنة. {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}. قال الكوفيون: " فتحت " جواب " إذا " والواو زائدة. وقال بعضهم: الجواب: قال لهم خزنتها، والواو في " وقال " زائدة. وقال المبرد: الجواب محذوف، والتقدير: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها

سَعِدُوا. وقال الزجاج: تقدير الجواب المحذوف: " طبتم فادخلوها خالدين، دخولها. ودلت الواو في " وفتحت " أن الجنة كانت مفتحة لهم الأبواب منها قبل أن يجيؤها. (ودل حذف الواو في قصة أهل النار من " فتحت " أنها مغلقة قبل أن يجيؤها) ففتحت عند مجيئهم. ثم قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ}، (أي: قال للذين اتقوا ربهم خزنة الجنة سلام عليكم)، أي: أمنة من الله لكم. وقوله {طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ}، أي: طابت أعمالكم في الدنيا فطاب اليوم مثواكم.

وقال مجاهد: معناه: " كنتم طيبين (بطاعة) الله D ". فادخلوا أبواب الجنة خالدين، أي: ماكثين أبداً لا انتقال لكم عنها. ويروى أن حشر المتقين في الآخرة يكون على نجائب من نجائب الجنة. وحشر الكفار يكون بالدفع والعنف. قاله ابن زيد وغيره. وقرأ ابن زيد في الكفار: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]. وقرأ في المتقين {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} [مريم: 85]. ويروى عن علي Bهـ أنه قال في المتقين: يساقون إلى الجنة فيجدون عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان تجريان، فيعمدون إلى إحداهما فيغتسلون فيها، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلن تشعث رؤوسهم بعدها أبداً، ولن تغير جلودهم بعدها أبداً كأنما دهنوا بالدهان. ويعمدون إلى الأخرى فيشربون منها فيذهب ما في بطونهم من قذى وأدى، ثم يأتون باب الجنة فيستفتحون فيفتح لهم فتتلقاهم خزنة الجنة فتقول: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون. قال: وتتلقاهم الولدان المخلدون يطوفون بهم كما يطوف ولدان أهل الدنيا

بالحميم إذا جاء من الغيبة، أبشر، أعد الله لك كذا وأعدلك كذا. فينطلق أحدهم إلى زوجته فيبشرها به، فيقول قدم فلان - باسمه الذي كان يسمى به في الدنيا - قال: فَيَسْتَحِفُّها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها، فتقول: أنت رأيته، (أنت رأيته) قال: فيقول: نعم، فيجيء حتى يأتي منزله. قال: أصوله من جندل اللؤلؤ بين أصفر وأخضر وأحمر. . . قال الله جل ذكره: {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 14 - 16]. قال: ثم يدخل إلى زوجته من الحور العين، فلولا أن الله أعدّها له لا ليمتع بصره من نورها وحسنها. فاتكأ عبد الله ويقول: {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43]. فتنازيهم الملائكة أن تلكم الجنة وأورثتموها بعلمكم. وقال السدي: لهو أهدى إلى منزلة في الجنة منه إلى منزله في الدنيا. ثم قرأ السدي: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6]. ثم قال تعالى ذكره: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}، أي: له الحمد خالصاً إذ صدقنا ما كان وعدنا في الدنيا على طاعته. {وَأَوْرَثَنَا الأرض}، أي: أرض الجنة.

وقيل: أورثوا الأرض التي لأهل النار لو كانوا مؤمنين. وقوله: {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ}، أي: نسكن منها حيث نحب. فنعم أجر العملين، أي فنعم ثواب المطيعين العاملين له في الدنيا: الجنة في الآخرة. ثم قال تعالى ذكره: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش}، أي: وترى يا محمد يوم القيامة الملائكة محدقين من حول العرش. والعرش: السرير. وواحد حافين: حاف، قاله الأخفش. وقال الفراء: لا يفرد. ودخلت " من " في قوله: {مِنْ حَوْلِ العرش} لأنه ظرف، والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. ومثله قوله: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} [الزمر: 65، والشورى: 3]. وقال بعض البصريين: دخلت " من " في الموضعين توكيداً. ثم قال: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}، أي: يصلون حول عرش ربهم شكراً لَهُ.

والعرب تدخل الباء مع التسبيح وتحذفها. تقول: سبح بحمد ربك وسبح حمد ربك. كما قال: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] وقال: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74 و 96]. {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق}، أي: وقضى الله بين النبيين والأمم والشهداء بالعدل. {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}، أي: وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر الذي ابتدأ خلقهم ووفقهم للعمل بطاعته. قال قتادة: فتح أول الخلق بالحمد لله فقال: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] وختم بالحمد فقال: {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}.

غافر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة غافر وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. سورة (المؤمن) مكية. قوله (تعالى ذكره): {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} - إلى قوله - {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ}. من رواية ابن وهب روى أن ابن عباس كان يقول: " لكل شيء لباب وأن لباب القرآن الحواميم ".

ويقال: من ديباج القرآن. وعن ابن مسعود أنه قال: من أراد رياضاً فليقرأ الحواميم. من رواية ابن وهب. قرأ عيسى بن عمر: حاميم بفتح الميم. نصبه بإضمار فعل. والتقدير: اقرأ حاميم. ولكن لا ينصرف لأنه اسم لمؤنث، إذ هو اسم السورة. وقيل لم ينصرف لأنه بمنزلة أبنية بعض الأسماء الأعجمية (كهابيل)

وقابيل. ويجوز أن تكون فتحة الميم بناء (لالتقاء) الساكنين. قال ابن عباس (الّر وحمَ ونون) مقطعة من الرحمن. وعنه أيضاً أن حَم: اسم من أسماء الله D وهو قسم. وعنه أن حّم اسم الله الأعظم. وقال قتادة: حَم اسم من أسماء القرآن. وقال الضحاك: حَم: قضى هذا القرآن.

جعله مأخوذاً من حَم الامر إذا وجب. والمعنى: حَم تنزيل هذا الكتاب من عند الله D. { العزيز} في انتقامه من أعدائه. {العليم}، أي: العالم بما يعمل خلقه وبغير ذلك. ثم قال تعالى: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب}. {غَافِرِ} خُفِضَ على البدل ولا يحسن أن يكون نعتاً لأنه نكرة إذ هو لما يستقبل ومثله: {وَقَابِلِ التوب}. فإن جعلتهما. لما مضى حَسُنَ، لأنه تعالى ذكره لم يزل غفاراً لذنوب عباده قابلاً للتوبة ممن تاب منهم. فيحسن على هذا أن يكونا نعتين لله جل ذكره، ويحسن أن يكونا بدلاً. والتوب: جمع توبة كدومة ودوم. ويجوز أن يكون التوب مصدراً كتوبة يقال: تاب توبة وتوباً.

فأما قوله {شَدِيدِ العقاب} فهو نكرة، فلا يجوز أن يكون إلاّ بدلاً. فأما قوله: {ذِي الطول} فيحسن أن يكون معرفة لأنه لم يزل كذلك، فيجوز (على ذلك أن يكون) نعتاً وبدلاً. وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملة في موضع النعت. ومعنى {شَدِيدِ العقاب}، أي: لمن عاقبه من أهل العصيان. ومعنى {ذِي الطول}: ذي الفضل المبسوط على من يشاء من خلقه. قال ابن عباس: ذِي الطَّوْلِ: " ذِي السَّعَة والغنى ". وقيل: معناه: ذي الطول على أوليائه يضاعف لهم الحسنات ويعفو عن السيئات. وقيل: معناه: ذي الغناء عمن لا يقول: " لا إله إلا الله " ودل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: لا إله إلا هو. وقال قتادة: " ذي الطول: ذي النعم ".

وقال ابن زيد: الطول: القدرة. ومعنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير}، أي: لا معبود غيره، إليه المرجع. ثم قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ}، أي: ما يجادل في حجج الله وأدلته وينكرها إلا الذين جحدوا توحديه (ورسالتك). {فَلاَ يَغْرُرْكَ} يا محمد {تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد} في البلاد، أي: لا يغررك يا محمد تصرفهم وبقاؤهم مع كفرهم فتحسب أنهم على شيء من الحق، إنما أمهلهم ليبلغ الكتاب أجله. قال قتادة: {تَقَلُّبُهُمْ} في البلاد تصرفهم في أسفارهم. ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}، أي: كذّبت قبل قومك يا محمد قوم نوح.

{والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ}، يعني عاداً وثموداً وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون. كذبوا كلهم بعد نوح وغيرهم. فكما كان عاقبة أولئك الذين كذبوا الهلاك، كذلك يكون عاقبة هؤلاء على تكذيبهم لك. ثم قال تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}. قال قتادة: ليقتلوه. ثم قال تعالى: {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}، أي: وخاصموا رسولهم بالباطل من الخصومة ليبطلوا بجدالهم الحق الذي جاء به من عند الله. وأصل الدحض، الزلق. ثم قال تعالى: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، أي فأخذهم عقاب الله. فجعلهم عبرة وعظة لمن بعدهم. ثم قال تعالى ذكره: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا}، أي: وجبت وهو قوله جل ذكره: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119، السجدة: 13]. والمعنى: كما وجب العذاب على الأمم السالفة بتكذيبهم الرسل، كذلك وجب على من كذبك يا محمد. ثم أخبر تعالى ذكره أن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين: {الذين

يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}، أي: يحملون عرش الله جل ذكره، وعز وجهه. والذين حول العرش من ملائكته يصلون بحمده وشكره. {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}، أي: يقرون بالله أنه لا إله لهم سواه، ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقروا بمثل إقرارهم. وقال قتادة: ويستغفرون للذين آمنوا: أهل لا إله إلا الله. ثم قال: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، أي: ويقولون: ربنا، وسعت رحمتك وعلمك كل شيء من خلقك فعلمت كل شيء لا يخفى عليك شيء، ورحمت خلقك فوسعتهم رحمتك، فرزقتهم على كفر من كفر منهم بك برحمتك، برزقك قد وَسِعْتَ الكافر والمؤمن، ووسعت المؤمنين في الآخرة فأنقذتهم من النار وأدخلتهم الجنة.

ثم قال عنهم أنهم قالوا: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ}: أي: تابوا من الشرك. {واتبعوا سَبِيلَكَ}، أي: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه وهو الإسلام. قال قتادة: اتبعوا سبيلك، أي طاعتك ". {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم}، أي: اصرف عنهم عذاب النار يوم القيامة. وسؤال الملائكة الله D في المغفرة للمؤمنين وإدخالهم الجنة هو قوله تعالى {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} [الفرقان: 16]، أي: إدخال المؤمنين الجنة والمغفرة لهم هو وعد من الله للملائكة فيهم إذ (سألوه) ذلك، وهو سؤالهم الله في هذه السورة. قال جميع ذلك القرطبي. وجاز أن يسألوا الله D ما قد وعد به سبحانه وتعالى على طريق التعجيل بذلك لهم على طريق الوفاء لهم بما وعدهم، فالله لا يخلف الميعاد، فلا يُسأل في وفاء

وعده إنما هو سؤال أن يعجل لهم ذلك. ثم قال تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ}، أي: ويقولون يا ربنا وأدخل هؤلاء الذين تابوا عن الشرك جنات إقامة. قال كعب: جنات عدن: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيئون والصديقون والشهداء. وأئمة العدل. ثم قال تعالى: {وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ}، أي: وأدخل جنات عدن من صلح من آباء هؤلاء التائبين وأزواجهم وذرياتهم. قال قتادة: يدخل الرجل الجنة فيقول أين أبي؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي فيقال: لم يعملوا مثل عملك، فيقول: كنت أعمل لي ولهم! فيقال: أدخلوهم الجنة، ثم قرأ: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} الآية. وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}، أي: العزيز في انتقامك من أعدائك، الحكيم في تدبير خلقك. ثم قال تعالى: {وَقِهِمُ السيئات وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي: ويقولون يا

ربنا وقهم عذاب السيئات التي عملوها في الدنيا، ومن تقه عقاب السيئات يوم القيامة فقد دحمته. {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}، أي: النجاة من النار. وقال نِفْطَوَيْه: معنى السيئات، أنها ما يسوء صاحبها. فمعنى: {وَقِهِمُ السيئات}: وقهم ما يسوءهم من عقابك وغضبك، ومنه قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى} [الأعراف: 130]، أي: إن يصبهم ما يسوءهم يطيَّروا بموسى: وكذلك قوله: {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 78]، معناه: ما أصابك من سوء فبذنبك. قال مطرف: وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد

للشياطين، ثم تلا الآية {الذين يَحْمِلُونَ العرش}. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ}. قال الحسن، يعطون كتابهم، فإذا نظروا في سيئاتهم مقتوا أنفسهم فيقال لهم: لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسهم اليوم. فمن الآية تقديم وتأخير على قوله. قال مجاهد: إذا عاينوا أعمالهم مقتوا أنفسهم فنودوا: لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم. قال قتادة: معناه: لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم إذا عاينتم النار - مثل قول الحسن - وهو الكسائي وغيره. وقيل: معناه: (كبر مقتكم أنفسكم) أكبر من مقت بعضكم بعضاً

11

يوم القيامة، لأن بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة. وقيل: الآية فيها تقديم وتأخير لأن النداء بالمقت لهم يكون في الاخرة ووقت دعائهم للإيمان هو في الدنيا. والتقدير: ينادون (يوم القيامة)، لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان في الدنيا فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم عند الحساب. وفي هذا التقدير تفريق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء وهو " أكبر " وما اتصل به، فلا يحسن ذلك عند النحويين. قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين} - إلى قوله - {السميع البصير}. قال ابن عباس والضحاك: هذا مثل قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] الآية. وقال قتادة: كانوا أمواتاً في أصلاب أبائهم فأحياهم الله D في الدنيا، ثم أمهاتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث، فهاتان حياتان وموتتان.

وقال السدي: اُميتوا في الدنيا، ثم أُحيوا في قبورهم فسئلوا وخوطبوا ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحبوا في الآخرة. وقال ابن زيد: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وأمهاتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أمهاتهم في الدنيا، ثم أحياهم في الآخرة. وقوله تعالى: {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}، أي: فأقررنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من النار لنا سبيل، فهل إلى كرة فنرجع إلى الدنيا فنعمل غير الذي كنا نعمل. ثم قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ}. في الكلام حذف؛ والتقدير: فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج، ذلكم العذاب بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، أي: إذا وحده كفرتم، أي: إذا وحده موحد أشركتم وإن أشرك به مشرك صدقتموه. وذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات، يكلمهم الله في الاربعة فإذا كانت الخامسة سكتوا:

{قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}. قال: فيراجعهم بهذه الآية: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} الآية. ثم يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] قال: فيرد عليهم: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]- إلى - {أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. ثم يقولون: {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} [إبراهيم: 44]. قال: فيراجعهم بهذه الآية: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]. قال: ثم يقولون: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] فيراجعهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير} [فاطر: 37]. قال: ثم يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]، قال:

فيراجعهم: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. قال: فكان آخر كلامهم ذلك. قال أبو محمد: وفي بعض رواية هذا الحديث تقديم وتأخير فيما ذكرنا. ثم قال تعالى: {فالحكم للَّهِ العلي الكبير}. فالقضاء لله، لا لما تعبدونه، العلي على كل شيء، الخبير الذي كل شيء دونه متصاغر له. ثم قال تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، أي: الله هو الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته. {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً}، يعني: الغيث، يخرج به أقواتكم وأقوات أنعامكم. {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ}، أي: ما يتذكر حجج الله D وأدلته على قدرته ووحدانيته فيتعظ ويعتبر إلا من يرجع إلى توحيد الله سبحانه وطاعته جلت عظمته. ثم قال: {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، أي: ادعوا الله أيها المؤمنون مخلصين له الطاعة ولو كره ذلك منكم الكافرون.

ثم قال تعالى: {رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش}، أي: هو رفيع الصفات ذو السرير المحيط بما دونه. {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: ينزل الوحي على من يشاء، يختص بذلك من يشاء من خلقه. وقيل: " من " بمعنى الباء. والمعنى: يلقي الروح بأمره أي: يلقي الوحي بأمره على من يشاء. وقيل: معنى {رَفِيعُ الدرجات} (هي الدرجات) التي يعطيها الله D للأنبياء صلوات الله عليهم والمؤمنين في الجنة. فالمعنى: رفيع الثواب والمجازاة للأنبياء والمؤمنين. وسمي الوحي روحا لأن الناس يحيون من الضلالة، والمهتدي حي، والصال (ميت في) التمثيل. قال مجاهد: الروح هنا: الوحي، وقال قتادة: هو الوحي والرحمة.

وقال ابن عباس: الروح: النبوة. وقال: الضحاك: الكتاب الذي ينزله على من يشاء ومثله قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، يعني: القرآن في قول جميع المفسرين. والروح: جبريل أيضاً، وهو قوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] سمي روحاً لأنه ينزل من عند الله تعالى بما يجيء به من أنزل عليه. فأما قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} فقال ابن زيد: الروح هنا القرآن. وفيه اختلاف سيذكر إن شاء الله. والضمير في " لينذر " يعود على الله جل ذكره، وقيل: يعود على الروح وهو الوحي، وقيل: يعود على النبي. وقد قرأ الحسن " لتنذر " بالتاء على المخاطبة.

وقوله: {يَوْمَ التلاق}، أي: يوم يلتقي أهل السماوات وأهل الأرض، والأولون والآخرون. ثم قال: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} " يوم " بدل من " يوم " الأول ". وقيل العامل فيه: " لا يخفى على الله منهم شيء {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ}. وقيل: معناه: بارزون من قبورهم. ثم قال تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم}، أي: يقول الله جل ذكره: لمن الملك اليوم؟. فيجيب نفسه: {لِلَّهِ الواحد}، أي: المنفرد / بالوحدانية والقدرة. {القهار} لكل شيء سواه. وروى أبو وائل عن ابن مسعود (أنه قال): يحشر الناس على أرض

بيضاء مثل الفضة لم يعص الله D عليها. فيؤمر منادى أن ينادي: لمن الملك اليوم؟ فيقول العباد: لله الواحد القهار المؤمن منهم والكافر. ثم أول ما ينظر من الخصومات في الدماء بمحضر القاتل والمقتول. فيقول: سل هذا: لم قتلني؟ فإن قال: قتلته لتكون العزة لفلان، قيل للمقتول: اقتله كما قتلك، وكذلك إن قتل جماعة أذيق القتل كما أذاقهم في الدنيا وهو قوله تعالى: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} الآية. أي: تثاب بما علمت في الدنيا لا يظلم أحد فيعاقب بما لم يفعل ولا يضيع ظلمه (عند من ظلمه). {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}، أي: ذو سرعة في محاسبته عبادة يومئذ على أعمالهم. روي أن ذلك اليوم لا ينتصف حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قد فرغ الله D من حسابهم والفصل بينهم. فالمعنى: إنه تعالى لا تشغله محاسبة أحد عن محاسبة أحد.

وقد روي أنه تعالى يحاسب الخلق كلهم في مقدار حلب شاة، وإنما هو تعالى يريد حساب كل نفس ويحدثه فيحدث لكل واحد منهم محاسبة في الحال التي يحدث فيها المحاسبة والمساءلة لأن بعض كلامه لا يشغله عن بعض، وكذلك بعض خلقه لا يشغله عن بعض، وهذه هي الصفات التي لا يشاركه فيها أحد، ليس كمثله شيء. ولا يجوز لأحد أن يتأول أو يتخايل إليه في محاسبة الله سبحانه خلقه أنه يحاسبهم بكلام أو لسان. تعالى الله عن الجوارح وعن مشابهة المخلوقين، إنما يحدث لكل إنسان محاسبة في الحال التي يريد محاسبته فيها. فافهم هذا ونزه الله عن التشبيه بالمخلوقين. ثم قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة}، أي: وأنذر يا محمد مشركي الهعرب وحذرهم من يوم الآزفة، يعني: يوم القيامة. وسميت آزفة لقربها. يقال أزف الشيء إذا قرب. ثم قال: {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ}. قال قتادة: ارتفعت القلوب في الحناجر من المخافة.

فلا هي تخرج ولا تعود في أمكنتها. و {لَدَى}، بمعنى: عند. {كَاظِمِينَ}: مفتاظين لا شيء يزيل غيظهم. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ}، أي: من قريب (ولا صديق) يحتج عنهم فيزيل عظيم ما نزل بهم. {وَلاَ شَفِيعٍ} يشفع لهم عند ربهم D فيما يشفع فيه. قال الحسن: استكثروا من الأصدقاء المؤمنين، فإذا الرجل منهم يشفع في صديقه وقريبه، فإذا رأى الكافر ذلك قال: ما لنا من شافعين ولا صديق حميم. ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}، أي: يعلم الله جل ذكره خائنة أعين عباده وما أخفته صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمورهم حتى يتحدث به في نفسه ويضمره في قلبه. ومعنى " خائنة الأعين " هو أن الله تعالى يعلم ما أراد بنظره إذا نظر وما ينوي بذلك في قلبه.

قال ابن عباس: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور}: يعلم إذا نظرت إلى المرأة أتريد بذلك الخيانة أم لا. " وما تخفي الصدور "، أي: إذا قدرت عليها أتزني أم لا. وقوله: {والله يَقْضِي بالحق}، أي: يقدر أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة. وروى ابن وهب عن رجاله عن ابن عباس أنه قال: هو الرجل تمر به المرأة فيُرَى القوم أنه يغض بصره، فإذا أغفلوا نظر إليها: ويريهم (أنه يغض) بصره ويود لو أنه يطلع على عورتها ويقدر عليها. وعن ابن عباس أنه قال في " خائنة الأعين ": إنه الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر أصحابه إليه غض بصره، (وقد علم الله D منه أنه يود لو نظر إلى عورتها، فإذا رأى منهم غفلة تدسس النظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره). قال مجاهد: خائنة الأعين: نظر العين إلى ما نهى الله D عنه.

21

وقال قتادة: يعلم همزه بعينه، وإغماضه فيما لا يحب الله جل ذكره ولا يرضى به. قال الفراء: " خائنة الأعين ": النظرة الثانية و {وَمَا تُخْفِي الصدور} النظرة الأولى " {والله يَقْضِي بالحق}، أي: يجازي من غض بصره عن محارمه حذر الموقف بين يديه، ومن ردد النظر وعزم قلبه على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها. قال الزجاج: " خائنة الأعين " نظر ونيّته الخيانة. ثم قال: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ}، أي: والأوثان التي يدعو هؤلاء (المشركون) من قومك من دون الله. {لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}، أي لا تقدر على شيء ولا تعلم شيئاً، فاعبدوا الله الذي هو {السميع} لما تنطق به ألسنتكم {البصير} بما تعملون من الأفعال، المحيط بكل ذلك. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض} - إلى قوله - {إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد}،

أو لم يسر هؤلاء المشركون في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم فيحذروا أن يصيبهم بتكذيبهم لك يا محمد مثل ما أصاب من كان قبلهم من الأمم / الذين كانوا أشد من هؤلاء قوة وأعظم أجساماً وأكثر آثاراً في الأرض من البناء والحرث. {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} فأهلكهم، ولم تنفعهم شدة قوتهم، ولا كثرة آثارهم، ولا وقاهم أحد عذاب الله إذ جاءهم، بل حل بهم ذلك. فهؤلاء الذين أضعف أجساماً وأقل آثاراً أحرى أن يأتيهم عذاب الله إذ جاءهم، بل حل بهم ذلك. فهؤلاء الذين أضعف أجساماً وأقل آثاراً أحرى أن يأتيهم عذاب الله إن تمادوا على كفرهم. ثم قال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}: هذه الآية تعزية للنبي A أعلمه الله D أن موسى قد لقي من فرعون وقومه أمراً عظيماً مثل ما لقي النبي A من قومه، وأنه صبر على ذلك. فواجب أن تصبر أنت على ما نالك يا محمد فإنك العالي عليهم ولك العاقبة الحسنى كما كان ذلك لموسى على فرعون. والسلطان (هنا: الحجة)، أي: حجة بينة لمن رآها. أرسل الله D موسى إلى فرعون وهامان وقارون بالآيات الواضحة فما كان جوابهم إلا أن قالوا هو ساحر كذاب. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ}، أي: فلما جاء موسى الذي أرسل إليهم بالحق من عند الله D، أي: بالحجة والبرهان على توحيد الله D وطاعته وإقامة الحجة عليهم قالو: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه، أي:

اقتلوا أبناء بني إسرائيل الذين آمنوا معه. {واستحيوا نِسَآءَهُمْ}، أي: استبقوهم لخدمتهم لكم. وهذا أمر من فرعون بعد أمره الأول، لأنه كان قد أمر بقتل الولدان من بني إسرائيل خوفا من مولود يولد منهم يكون هلاكه على يديه، وكان ذلك قبل ولادة موسى عليه السلام - وقد تقدم ذكر ذلك - ثم إن موسى لما دعاه إلى الله وأتاه بالآيات الظاهرات، ورأى أن بني اسرائيل آمنوا بموسى وصدقوه، أمر بأن يقتل أبناء من آمن بموسى ليعيد عليهم العذاب وينكل بهم إذ آمنوا بموسى. قال قتادة: " هذا قتل غير القتل الأول الذي كان ". وقوله: {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}، أي: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله D إلا في جور عن الحق. ثم قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}، أي: خلوا بيني وبين قتله، وليدع ربه أن ينجيه مني. {إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} بما أتاكم به. {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد}، أي: أخاف هذين الأمرين. ومن قرأه " أو "، فمعناه: أخاف أحد هذين الأمرين.

وقيل: إنَّ " أو " بمعنى الواو. ثم قال تعالى: {وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب}: وقال موسى لفرعون وقومه لما تواعدوه بالقتل: إني استجرت بربي وربكم {مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ}، أي: عن توحيد الله D وطاعته سبحانه لا يؤمن بالبعث والجزاء. وإنما خص موسى الاستجارة بالله سبحانه من هذا الصنف إنما خاطب فرعون وقومه لأنهم كانوا لا يؤمنون بالله سبحانه ولا بالبعث. ثم قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}. قيل إنه رجل من بني عم فرعون ولكنه آمن بموسى وكتم إيمانه خوفا من فرعون. قاله السدي. وقيل: بل كان الرجل (إسرائيليا، ولكنه) كان يكتم إيمانه من آل فرعون خوفا على نفسه، فيكون في الكلام تقديم وتأخير على هذا القول. والتقدير: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه فرعون. " فمن " متعلقة بـ " يكتم " في موضع مفعول ثان " ليكتم "، فهو في موضع نصب.

وعلى القول الأول " من " متعلقة بمحذوف في موضع رفع وهي صفة لرجل كما تقول: مررت برجل من بني تميم. والتقدير في المحذوف - على القول الأول -: وقال رجل مؤمن منسوب إلى آل فرعون، ونحو ذلك. والأول هو اختيار الطبري لأن فرعون، أصغى إلى قوله وقبل منه، ولم يقل موسى وقال له: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد}، ولو كان إسرائيلياً لعاجله بالعقوبة كما فعل (في قتل) أبنائهم حين آمنوا بموسى. وقوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله}، أي: أتقتلون موسى من أجل قوله: الله ربي. {وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ}، أي: بالحجج الظاهرات على صحة ما يقول لكم من توحيد الله D وطاعته سبحانه وذلك: عصاه ويده. ثم قال: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}، أي: إن يك موسى كاذباً في قوله إن

الله أرسله إليكم فإثم كذبه عليه. {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ}، أي: وإن يكُ موسى صادقاً في قوله أصابكم بعض الذي يعدكم من العقوبة - إن قتلتموه -، فلا حاجة لكم إن قتله فتزدادوا غضباً من ربكم على غضبه عليكم لكفركم. و" بعض " عند أبي عبيدة في موضع " كل "، لأن كل ما واعدوا به كائن لا / بعضه. وقيل: المعنى فيه: إنه قال لهم: إن، أصابكم ما يدعدكم / موسى هلكتم فضلاً عن الكل. وهذا تأكيد لإلزام الحجة عليهم والتخويف، لأن البعض إذا كان فيه هلاكهم فالكل أعظم ضرراً، وأشد هلاكاً. وقيل: معناه إن موسى توعدهم بعذاب الدنيا معجلاً وعذاب الآخرة مؤخداً، فقال لهم المؤمن: يصيبكم بعض الذي يعدكم أي: عذاب الدنيا معجلاً. ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}، أي: لا يوفق للحق من هو معتد إلى

ما ليس له فعله، كذاب (فيما يقول). قال قتادة: المسرف هنا: المشرك، أسرف على نفسه بالشرك. وقال السدي: المسرف هنا: القتال بغير حق. ثم قال لهم المؤمن: {ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض} قوله: " يا قوم " يدل على أنه من آل فرعون. يعني بذلك أرض مصر، أي: لكم السلطان فيها غالبين على أهلها من بني إسرائيل وغيرهم فوعظهم وقال: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا}، أي: لا أحد يرفع عنا عذاب الله إن جاءنا. فقال فرعون مجيباً له: {مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى}، أي: ما أريكم أيها الناس من الرأي الا ما أرى لنفسي. {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد}، أي: وما أدعوكم إلا إلى الحق في أمر موسى وقتله. وقرأ معاذ بن جبل: " سبيل الرشاد " بالتشديد. يعني أن فرعون قال

30

لقومه: ما أهديكم إلا إلى طريق الله جل ذكره. وهذه القراءة بعيدة في اللغة لأن " فعالاً " لا يكون من " أفعل " وإنما يكون من الثلاثي للتكثير. فإن أردت لتكثير من الرباعي جئت " بمفعال ". وقد أجاز قوم أن يكون الرشاد بالتشديد بمعنى المرشد، (لا على أنه) جار على أرشد ولكنه مثل لال من اللؤلؤ في معناه وليس منه في الاشتقاق. وقد أجاز قوم أن يكون من رشد، فيكون معناه: {وَمَآ أَهْدِيكُمْ} إلا سبيل صاحب رشاد كما قال: كليني لهم يا أميمة ناصب. قوله تعالى: {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ} - إلى قوله - {إِلاَّ فِي تَبَابٍ}.

أي: وقال الرجل الذي آمن من آل فرعون وكتم إيمانه: يا قوم إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى ولم تؤمنوا بما جاءكم به. {مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب}، يعني: الذين تحزبوا على رسلهم. {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}، أي: مثل عادة الله فيهم وانتقامه منهم حين كفروا برسلهم. قال ابن عباس: مثل دأب قوم نوح: مثل حالهم، وقال ابن زيد: معناه، مثل ما أصابهم. وقوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ}، يعني به: قوم إبراهيم وقوم لوط، وهم أيضاً من الأحزاب. وقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ}، أي: ليس الله جل ذكره بمعذب قوماً بغير جرم. ثم قال تعالى ذكره حكاية عن قول المؤمن لقومه: {وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}، أي: إني أخاف عليكم إن قتلتم موسى ولم تؤمنوا بما جاءكم به عقاب الله يوم التنادي، أي: يوم القيامة، أي: يوم

يتنادى أصحاب الجنة والنار كما ذكر في سورة الأعراف وغيرها فقال: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44]، {ونادى أَصْحَابُ الأعراف} [الأعراف: 48]، {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] قاله قتادة وابن زيد. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " يأمُر الله D إسرافيل عليه السلام بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، ويأمره فيديمها ويطولها فلا تفتر - وهي التي يقول الله D: " { وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} - فيسيِّر الله D الجبال فتكون سراباً، وترتج الأرض بأهلها رجاً - وهي التي يقول الله D { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} - فتكون (الأرض كالسفينة) المزنقة في البحر تمر بها الأمواج تكفأُ بأهلها، وكالقنديل (المعلق

بالعرش) ترجحه (الأرواح فيميل الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل (وتشيب الولدان) وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو اليوم الذي يقول الله D: { يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} ". فعلى هذا الحديث يكون التنادي في النفخة الأولى في الدنيا. وقرأ الضحاك: يوم التنادي بتشديد الدال، جعله من نَدّ البعير إذا مر على وجهه هارباً. فهذا يراد به ما يكون يوم القيامة من حال الناس. ويسعد هذه القراءة ويقويها ما روى عبد الله بن خالد قال:

يظهر للناس يوم القيامة عنق (من النار فيتولون) هاربين منها حتى تحيط بهم، فإذا أحاطت بهم قالوا: أين المفر؟ ثم أخذوا في البكاء حت تنفد الدموع فيكون دماً، ثم يشخص الكفار فذلك قوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43] ". ويقويها أيضاً / ما وراء الضحاك، قال: " إذا كان يوم القيامة أمر الله D السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فنزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة، فصفوا صفاً دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فاذا رآها أهل الأرض نجوا، (فلا يوافقون) قطراً من أقطار الأرض إذا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه - فذلك قوله: " {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}. وذلك قوله {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى} [الفجر: 22 - 23]

وقوله: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] وذلك قوله: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 16 - 17]. وقال قتادة: يوم تولون مدبرين، أي: منطلقاً بكم إلى النار. وقال مجاهد: يوم تولون " فارين غير معجزين ". {مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ}، أي: ما لكم من عذاب الله سبحانه من مانع يمنعكم منه وينصركم. ثم قال تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، أي: من يخذله الله فلا يوفقه للرشاد، فما له من موفق يوفقه له. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات}، أي: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالآيات الواضحات من حجج الله D. قال وهب بن منبه: فرعون موسى هو فرعون يوسف.

(قال مالك): عمَّر (أربعمائة سنة). وقال غيره: هو غيره. قيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب. والله أعلم بذلك. روي أنه أقام فيهم عشرين سنة يدعوهم إلى الإيمان ثم مات. وقيل: إن هذا من قول موسى، وقيل: هو من قول (مؤمن آل) فرعون. ثم قال تعالى: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ}، أي: فلم تزالوا مُرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم {حتى إِذَا هَلَكَ}، (أي: مات يوسف). {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً}، أي: قلتم لن يأتينا من بعد يوسف

رسول يدعونا إلى الحق. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}، أي: هكذا يصد الله D عن إصابة الحق من هو كافر شاك في الحق. ثم قال تعالى: {الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} (أي: كذلك يضل الله الذين يجادلون في حجج الله وآياته بغير حجة أتتهم) من عند الله D. ثم قال: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ} أي: كبر جدالهم مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع الله على قلوب المسرفين المجادلين في آيات الله بالباطل، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر على الله سبحانه أن يوحده. {جَبَّارٍ}، أي: متعظم عن اتباع الحق. {آتِيهِمْ} [هود: 76]: وقف عند الجماعة. ثم قال تعالى: {وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب}، (أي: وقال فرعون - لما وعظه المؤمن وزجره عن قتل موسى - لزيره هامان: ابن لي بناء لعلي أطلع عليه فأبلغ (أبواب السماء) وطرقها، وكان أول من بنى بهذا الأَجُرّ.

قال ابن عباس: أسباب السماوات منازل السماوات. والأسباب في اللغة: كلما تسبب به إلى الوصول إلى المطلوب. وقيل: لعلي أبلغ من أسباب السماوات أسباباً أتسبب بها إلى (رؤية إله) موسى. {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}، أي: أظن موسى فيما يدعى كاذباً. أشهب عن مالك قال: سمعت أن فرعون عاش (أربعمائة سنة) وأنه أقام (بعدما) أتاه موسى بالآيات وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] أربعين سنة. قال مالك قال الله D: { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178]. وقال: لم يكن فرعون من بني إسرائيل. ويروى أن فرعون مكث أربع مائة سنة لم يصدع له رأس، يغدو عليه الشباب ويروح.

38

قال ابن لهيعة: كان فرعون من أبناء مصر واسمه، الوليد بن مصعب بن معان. ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ}، أي: هكذا زين الله D لفرعون قبيح عمله لما كفر حتى سولت له نفسه بلوغ أسباب السماوات والتطلع إلى (رب العزة). ثم قال: {وَصُدَّ عَنِ السبيل}، أي: مُنع من الاهتداء إلى الحق، أي: منعه الله D من ذلك لكفره وعتوه. ثم قال: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ}، أي: وما احتيال فرعون ومكرره إلا في خسارة وذهاب وضلال وباطل لا ينتفع بحيلته ومكره. قوله تعالى: {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون} - إلى قوله - {نَصِيباً مِّنَ النار}. أي: وقال لفرعون / المؤمن من قومهم: اتبعون فقولوا مثل قولي تهتدوا إلى

الحق والرشاد والصواب. وقال لهم: {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} تستمتعون به إلى أجل ثم تفارقونه بالموت. {وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار}، أي: هي الدار التي تستقرون فيها وتخلدون ولا تموتون فيها، فاعملوا لها. ثم قال تعالى حكاية عن قول المؤمن: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: من عمل بمعصية الله سبحانه في هذه الدنيا، جوزي بذلك في الآخرة، ومن عمل بطاعة الله D وهو مؤمن بالله سبحانه فأولئك يدخلون الجنة في الآخرة يرزقهم الله D فيها بغير حساب. قال قتادة: لا، والله ما هنالك مكيال ولا ميزان. قال قتادة: من عمل سيئة شركاً بالله D، ومن عمل صالحاً: خيراً. وقال بعض أهل التأويل: إن المؤمن في هذه الآية هو موسى، قال لهم:

{ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد}، إلى أخر الآيات. وأكثر المفسرين على أنه مؤمن آل فرعون. والله أعلم. ثم قال تعالى حكاية عن المؤمن أنه قال لهم: {وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار}، أي: إذا آمنتم به وصدقتم رسوله، وأنتم تدعونني إلى عمل أهل النار وهو الكفر بالله D وبرسوله. قال مجاهد: إلى النجاة إلى " الإيمان بالله ". ثم قال تعالى: {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}، أي: تدعونني للكفر والشرك في عبادة الله سبحانه فأعبد أوثاناً لم يأمرني بعبادتها من له الملك والقدرة. {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار}، أي: أدعوكم إلى عبادة العزيز، أي: العزيز في انتقامه ممن كفر به، الغفار لمن تاب إليه من الشرك وعمل بطاعته. ثم قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة}، أي: لا محالة أن الذي تدعونني إلى عبادته - وهم الأصنام والأوثان والشياطين - ليس له دعوة (في الدنيا) ولا في الآخرة، أي: لا ينفذ له أمر ولا نهي ولا شفاعة

في الدارين. {وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله} أي: في الآخرة، منقلباً ومرجعنا إليه. {وَأَنَّ المسرفين} يعني: من أسرف فكفر بخالقه سبحانه وعبد معه غيره هو من أصحاب النار. " وأن " في الثلاثة المواضع في موضع نصب بإسقاط الباء. وذكر سيبويه أنه سأل الخليل عن لا جرم فقال: لا رد لكلام. والمعنى: وجب أن لهم النار وحق أن لهم النار. فالمعنى على هذا: وجب بطلان دعوة ما تدعونني إلى عبادته. قال مجاهد (وابن جبير والشعبي وغيرهم): المسرفون هم السافكون الدماء بغير حق.

وقال قتادة (وابن سيرين) وغيرهما: " المسرفون: المشركون ". ثم قال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ}، هذه حكاية من الله ( D) عن مؤمن آل فرعون أنه قال ذلك لفرعون وقومه. والمعنى: فستذكرون أيها القوم إذا عاينتم عقاب الله D وحل بكم، صدق ما أقول لكم من أن المسرفين هم أصحاب النار. ثم قال {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله}. قيل: إنهم تواعدوه بالقتل فقال: أفوض أمري إلى الله، أي: أسلمه إليه وأتوكل عليه. {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد}، أي: عالم بأمور عباده، بالمطيع منهم والعاصي فيجازي كلا على ما يجب له. ثم قال تعالى: {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ}، أي: فوقى الله المؤمن عقاب

سيئات، كفرهم في الآخرة. {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب}، أي: حل بهم ذلك ونزل بهم. وقيل: الهاء في " فوقاه الله " تعود على موسى. ورجوعهما على مؤمن آل فرعون عليه أكثر المفسرين واسم المؤمن حزقيل بن جبال. رُوي أنه لما خاطبهم بذلك خاف منهم فهرب إلى الجبل فقصده رجلان ليوقعا به المكروه فلم يقدرا عليه. ثم بيّن تعالى سوء العذاب ما هو فقال: النار {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}، أي: في قبورهم. قال قتادة: كان قبطياً من قوم فرعون فآمن. قال: وذكر لنا أنه كان بين يدي موسى يومئذ يسير ويقول أين أمرت يا نبي الله؟

(فيقول: أمامك، فيقول له المؤمن: وهل أمامي إلا البحر؟! فيقول له موسى): أما والله ما كذبت ولا كذبت، ثم يسير ساعة (ثم يقول) مثل ذلك ويجاوبه موسى بمثل جوابه الأول حتى انتهى إلى البحر فضربه موسى فانفلق اثنى عشر طريقاً، لكل سبط طريق. وقوله: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} يدل على أن فرعون في أشد ما في العذاب لأن من كان على دينه إذا حل به أشد العذاب فهو أحرى أن يحل عليه أشد من ذلك. قال السدي: بلغني أن أراوح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدواً وعشيا حتى تقوم الساعة. {غُدُوّاً} مصدر جعل ظرفاً.

وقال حماد بن محمد الفزاري وسأله رجل فقال: رحمك الله، رأينا طيوراً تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب - بيضاً - فوجاً فوجاً لا يعلم عددها إلا الله، / فإذا كان العشي رجع مثلها سوداً؟! قال: وفطنتم إلى ذلك! قال: نعم. قال: إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سوداً، فتنبت عليها من الليل رياشٌ بيضاء، وتتناثر السود، ثم تغدو " يعرضون على النار غدواً وعشياً " ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبها في الدنيا. فإن كان يوم القيامة قال الله: " ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ". وكانوا يقولون: كانوا ست مائة ألف مقاتل. قال قتادة: يعرضون على النار صباحاً ومساءً. يقال: هذه منازلكم، توبيخاً ونقمةً وصغاراً لهم، قال مجاهد: غُدوا وعشياً ما كانت الدنيا.

ويدل على أن هذا العرض يكون في الدنيا قوله بعد ذلك: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب}. فمن وصل الألف نصب " آل فرعون " على النداء المضاف. ومن قطعها نصبهم " بأدخلوا ". وقوله: {سواء العذاب} وقف حسن إن رفعت " النار " على إضمار مبتدأ أو على الابتداء. وأجاز أبو حاتم الوقف على " وعشياً "، وهو بعيد، لأن " ويوم تقوم الساعة " منصوب بيعرضون، أي: يعرضون على النار في الدنيا، يوم تقوم الساعة. ومن نصبه " بأدخلوا " حسن أن يقف على " وعشياً "

وهو حسن. " والعذاب " وقف إن نصبت " وإذ يتحاجون " على معنى: واذكر إذ يتحاجون. وعليه التفسير وهو حسن جيد. وإن نصبته على العطف على {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} [غافر: 18] لم تقف دونه، وهو بعيد لبعد ما بينهما. وقد قال به قوم. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار}، أي: واذكر يا محمد إذ يتخاصم في النار الضعفاء من الكفار - وهم التابعون - مع المستكبرينَ هم المتَّبَعُون على الشرك فيقول التابعون للمتبوعين: إنا كنا لكم في الدنيا تبعاً على الضلالة والكفر بالله سبحانه، فهل أنتم دافعون عنا حظاً من النار، فقد كنا نسارع في محبتكم وطاعتكم في الدنيا، ولولا أنتم لكنا مؤمنين فنسلم من هذا العذاب. فأجابهم المتبعون: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ}، أي: في النار، فلا نقدر أن ندفع عن أنفسنا شيئاً منها ولا عنكم. {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد}، أي: أسكن أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. فلا

49

نحن - مما نحن فيه من البلاء - خارجون ولا هم مما هم فيه من النعيم - منتقلون. قوله: {وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ} - إلى قوله - {هُوَ السميع البصير}، أي: وقال أهل جهنم لخزنتها: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب)، أي: قدر يوم من أيام الدنيا. فأجابتهم الخزنة: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}، أي: بالحجج الظاهرات الدالات على توحيد الله D. { قَالُواْ بلى} قد أتتنا بذلك. قالت لهم الخزنة: {فادعوا}، أي: فادعوا ربكم الذي أتتكم الرسل (من عنده) بالدعاء إلى الإيمان به. {وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}، أي: في خسران، لأنهم لا ينتفعون به ولا يُجابون، بل يقال لهم: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].

وروى أبو الدرداء عن النبي A أنه قال: " يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، ويستغيثون فيغاثون بالضريع {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} فيأكلونه فلا يغني عنهم شيئاً، ويستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيغصون به فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء، فيستغيثون بالشراب، فيرفع لهم الحميم بالكلاليب فإذا دنا من وجوههم شواها، فإذا وقع في بطونهم قطع أمعاءهم وما في بطونهم. ويستغيثون بالملائكة فيقولون: {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} فيجيبونهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات}. إلى آخر الآية ". ثم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد}، أي: إنا لنعلي كلمة الرسل والمؤمنين وحجتهم على من خالفهم من دينهم بإهلاك من

خالفهم والانتقام منهم في الدنيا. قال السدي: كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا فلا تذهب تلك الأمة الظالمة حتى يبعث الله D قوماً فينتصر بهم لأولئك المقتولين. وقيل: معنى الآية الخصوص ولفظها عام. والمعنى: إنه تعالى ينصر من أراد من الأنبياء والمؤمنين ويعطيهم الظفر في الدنيا على من خالفهم. وامتنعت الآية من العموم لوجودنا أمماً قد قتلت المؤمنين والأنبياء. قال أبو العالية: " ينصرهم بالحجة ". (وعن أبي الدرداء) يرفعه: " من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية. {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ}. وروى أنس أن النبي A قال: " من حمى مؤمناً من منافق

يغتابه بعث الله تعالى ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من النار. ومن ذكر مسلماً بشيء يشينُه به وقفه الله جل وعز على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ". ومعنى /: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد}. أي: وينصرهم يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين (على الأمم) المكذبة بأن الرسل قد بلغتهم وأن الأمم كذبتهم، هذا قول قتادة، وقال مجاهد: الأشهاد الملائكة. ثم قال تعالى: مفسراً يوم " يقوم الأشهاد " ما هو فقال: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ}، أي: لا ينفع الكفار اعتذارهم إذ لا يعتذرون إلا بباطل لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا بالرسل والكتب والحجج. فلا حجة لهم إلا الكذب وقولهم والله {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ". ثم قال: {وَلَهُمُ اللعنة}، أي: وللكافرين اللعنة من الله D وهي البُعد من رحمته سبحانه. ولهم مع اللعنة {سواء الدار}، أي: عذاب الآخرة. وأجاز أبو حاتم الوقف على: " في الحياة الدنيا " على أن تنصب " ويوم يقوم الأشهاد " بإضمار فعل. فإن جعلته بدلاً أو عطفاً لم تقف دونه.

وقال غيره الوقف: " الأشهاد ". ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى}، أي: البيان للحق الذي بعثناه به. {وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب}، أي: التوراة، أي: علمناهم إياها وأنزلناها عليهم. {هُدًى وذكرى}، أي: بياناً وتذكيراً، {لأُوْلِي الألباب} أي: لأصحاب العقول. ثم قال تعالى {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}، أي فاصبر يا محمد لأمر ربك وأنفذ ما أرسلت به. {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}، أي: إن الذي وعدك الله من النصر والتأييد لدينك حق لا بد منه، فربك منجز لك ما وعدك. وقد فعل به ذلك. ثم قال تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ}، أي: واسأل ربك أن يستر عليك ذنبك بعفوه ورحمته. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار}، أي: وصل بالشكر منك لربك بالعشي وذلك من زوال من زوال الشمس إلى الليل. والإبكار من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس. وقيل: الإبكار هنا: من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى. والأول

أعرف عند العرب. والعشي والإبكار مصدران جعلا ظرفين على السعة، وواحد الإبكار: بكر. والتقدير: في العشي وفي الإبكار. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، أي: يخاصمونك يا محمد فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة أتتهم في مخاصمتك. {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}، أي: ما في صدورهم إلا كبر يتكبرون من أجله عن اتباعك وقبول ما جئتهم به حسداً وتكبراً. {فاستعذ بالله}، أي: ليس ببالغين الفضل الذي أتاك الله D فحدسوك عليه. وقيل: المعنى: ما في صدورهم إلا عظمة، ما هم ببالغين تلك العظمة، لأن الله D مذلهم ومخزيهم، قاله مجاهد. وقال الزجاج: معناه: ما هم ببالغين إرادتهم في محمد A. مثل رسل

57

القرية. وقيل: المعنى: ما هم ببالغين الكبر. فالمعنى: إنهم قوم رأوا أن اتباعهم لمحمد A نقص لجاههم ومختلفته رفعة لهم، فأعلم الله D نبيه A أنهم لا يبلغون الإرتفاع الذي قصدوه بالتكذيب. ثم قال لنبيه A: { فاستعذ بالله}، أي: تعوذ يا محمد بالله من شرهم وبغيهم وحسدهم، وذلك أنها نزلت في اليهود. قال قتادة: معناه: فاستجر بالله يا محمد من شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان، ومن كبرهم. {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير}، أي: السميع لما يقولون، البصير بأعمالهم. قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} - إلى قوله - {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: لا بتداعُ خلق السماوات والأرض أعظم

عندكم من خلق الناس (إن كنتم تستعظمون خلق الناس). {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن خلق جميع ذلك هين على الله D، وفي هذا تنبيه من الله D لمن كذب بالبعث فنبههم أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس بعد موتهم وإعادتههم. فمن قدر على إحداث السماوات والأرض، ورفع السماوات بغير عمد، وتسخير شمسها وقمرها ونجومها واختلاف ليلها ونهارها وتسخير سحابها وإنزال غيثها وتصريف رياحها، فكيف لا يقدر على خلق الناس وبعثهم بعد موتهم، فذلك أهون على الله وأصغر!. قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء}، أي وما يستوى الكافر الذي لا يؤمن، والمؤمن في التدبر في آيات الله D، والإعتبار في وحدانتيه وقدرته، ولا يستوي المؤمن الذي يعمل الصالحات والمسيء، وهو الكافر الذي يعمل بما لا يرضى الله D به. {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ}، أي: قليلاً تذكرهم حجج الله سبحانه وآياته وقيل: المعنى: لا يستوي العالم المستدل بآيات الله سبحانه وقدرته على بعث الأموات، والجاهل الذي قد عمي عن الاستدال بذلك / وجهل معرفة الاستدلال والبرهان على قدرة الله سبحانه، كما لا يستوي الأعمى والبصير. ثم قال تعالى: {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا}، أي: لا شك فيها، {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ}، أي: لا يصدقون بقيام الساعة. ثم قال تعالى ذكره {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، أي: اعبدوني وأخلصوا العبادة لي أجب دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.

قال ابن عباس: ادعوني استجب لكم ووحدوني أغفر لكم. وروى النعمان بن بشير عن النبي A أنه قال: " الدعاء هو العبادة وتلا رسول الله A {" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني} " الآية. ويدل على أن الدعاء العبادة قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}، ومعناه: إن الذين يتعظون عن إفرادي بالعبادة والإخلاص لي. {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، أي صاغرين، قاله السدي وأبو عبدة. وقال السدي: يستكبرون على عبادتي، أي: عن دعائي. ثم قال تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً}. هذا تذكير

من الله D لخلقه على نعمه أنه جعل لهم الليل لتسكن فيه جوارحهم وتهدأ حركاتهم، وجعل النهار مبصراً ليتصرفوا في معايشهم ومنافعهم. ولم يجعل الليل دائماً فيمتنعوا من التصرف (في منافعهم) فيضيعوا، ولا جعل النهار دائماً فيمتنعوا من السكون والراحة، بل دبر أحسن تدبير وأتقن أحسن غتقان. فلا تصلح الألوهية والعبادة (إلا له) لا إله إلا هو. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس}، أي: لذو تفضل عليهم وإحسان بما أمتعهم به من المنافع وحسن التدبير. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ}، أي لا يشكرونه بالطاعة وإخلاص العبادة والشكر على نعمه. ثم قال تعالى: {ذلكم الله رَبُّكُمْ خالق كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ}، (أي: الذي) فعل هذه النصالح لكم وأحسن إليكم هو الله ربكم خالقكم وخالق كل شيء. {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ}، أي: لا معبود غيره تصلح له العبادة.

{فأنى تُؤْفَكُونَ}، أي: فمن أي وجه تقلبون عن الحق، وإلى أي وجه تذهبون عنه فتعبدون سواه. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}، أي كذهابكم عن محمد A وما جاء به، وانصرافكم عنه إلى الباطل، ذهاب الذين كانوا من قبلكم يكذبون بحجج الله فسلكتم أنتم معشر قريش مسلكهم في الضلال. {يُؤْفَكُ}، بمعنى: أفك، لأنه أمر قد مضى، ودل على ذلك قوله: {كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}. ومعنى " يوفك ": يُغلب ويصرف عن الحق. ثم قال: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَآءً}، أي جعل لكم الأرض قراراً تستقرون عليها، وتسكنون فوقها، وجعل لكم السماء بناءً فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}، أي: وخلقكم فأحسن خلقكم. {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات}، أي: من حلال الرزق وطيبه ولذيذه، هو الله

ربكم الذي لا تصلح (الألوهية إلا له ولا تحسن) العبادة لغيره. ثم قال: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ}، أي الذي خلق هذه الأشياء لكم وأحسن إليكم، هو الله ربكم لا تصلح الربوبية (إلا له). {فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}، أي: مالك جميع الخلق. ثم قال تعالى {هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ}، أي: لا معبود غيره يستحق العبادة. {فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}، أي: مفردين له (العبادة والألوهية). {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}، أي: الشكر العام لله مالك جميع الخلق. وكان جماعة من المفسرين يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبع ذلك الحمد (لله رب العالمين)، امتثالاً بهذه الآية لأنها أمر من الله جل ذكره أن يقال ذلك. قال ابن عباس: " من قال لا إله إلا الله، فليقل على إثرها الحمد لله رب

العالمين " وكذلك قال ابن جبير. {فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}: قولوا الحمد لله رب العالمين. وقرأ أبو رزين: " صوركم " بكسر الصاد، وأصلها الضم. وعلة ذلك عند سيبويه أن جميع فُعْلة وفِعْلة قد اشتركا في الإسكان للعين. في الجمع المسلم. قالوا: ركبة وركبات، فاسكنوا، وأصل الكاف الضم، وقالو: هند وهندات، فأسكنوا، وأصل النون الكسر. فلما اشتركا في ذلك اشتركا في التكسير في الضم والكسر فقالوا: صُورة وصوَرٌ وصِور ورشوة ورشا فأدخلوا فعلة في الضم وهو

(الفعلة وكذلك) (أدخلوا فعلة) في الكسر وهو الفعلة. ثم قال تعالى {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}، أي: قل يا محمد إني نهيت أن أعبد الأوثان والأصنام التي تعبدونها أنتم من دون الله سبحانه. {لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي}، إني نهيت عن ذلك لما آتتني آيات الكتاب الذي نزل علي من عند ربي. {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} أي: أمرت في الكتاب (الذي أنزل) أن أخلص العبادة والخضوع بالطاعة لرب الخلق ومالكهم وخالقهم ورازقهم. ثم قال تعالى {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ}، يعني آدم. {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} - إلى آخر الآية، يعني به ذرية آدم وقوله: {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} هذا جمع للعدد الكثير وحكم القليل فيه " أشيخ " كفلس وأفلس. إلا أنهم استثقلوا الضمة على الياء. فشبهوا باب فعل بفعل. وحق فعل في

القليل أن يجمع على أفعال كجمل وأجمال فجمعوا فعلاً عند الاستثقال بضمة الياء على " أفعال " فقالوا: أشياخ ". والأصل (أشيخ، ومثله زيد) وأزياد، والأصل أزيد. فإن اضطر شاعر جاز أن يأتي به على أفعال فيقول أزيد وأشيخ كما قالوا: عين وأعين وإنما حسن في أعين في غير الشعر لأنها مؤنثة. والشيخ ما جاوز الأربعين. وهذه الآية حجة على المشركين وتنبيه لهم على قدرة الله D. وأن من قدر على هذه الأشياء قادر على إحياء الموتى، فضرب ذلك لهم ونبههم عليه لعلهم يعقلون ما دعوا إليه فيتوبون من الكفر. وقوله: {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ} متعلق بمضمر إذ ليس بمتصل

بما قبله في اللفظ. والتقدير: ثم من علقة، ثم يعمركم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً. {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ}، أي قبل هذا كله، وهو السقط وشبهه، نحو الإزلاق وهو ما سقط نطفة، ومثل الإجهاض وهو ما سقط مضغه، والإسقاط ما سقط تام الخلق. وقد قال الخليل: (الإجهاض: التام) الخلق. وعلى الأول أكثر الناس. وقوله: {أَجَلاً مُّسَمًّى}، يعني به أجل الموت للكل، أي: يعمركم لتبلغوا أجل الموت. وقوله: {أَشُدَّكُمْ}، قيل: (ثمان عشرة) سنة. وقال ربيعة (ومالك: الأشد

68

الخلق). وقيل: الأشد: ثلاثة وثلاثون سنة. قوله تعالى: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً} - إلى قوله - {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}. {فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ}، أي: فإذا أراد تكوين شيء وحدوثه فإنما يقول له كن، فيكون ما أراد تكوينه موجوداً بغير معاناة ولا كلفة. ولا مؤنة. ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله أنى يُصْرَفُونَ}، (أي: ألم تر) يا محمد إلى هؤلاء المشركين الذين يخاصمونك في حجج الله D وأدلته من أي وجه يصرفون عن الحق، ويعدلون عن الرشد. قال ابن سيرين: (إن لم) تكن هذه الآية نزلت في القدرية فإني لا

أدري فيمن نزلت. وروى هذا المعنى عقبة بن عامر الجهني عن النبي A. وقال ابن زيد وغيره (من المفسرين): هم المشركون. يدل على هذا قوله بعده: {الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} فهذا من صفتهم وهو تهدد ووعيد للمكذبين بكتاب الله سبحانه وبما جاء به الرسل. ثم قال تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم}، المعنى: فسوف يعلمون إذا ثبتت الأغلال في أعناقهم ماذا ينزل بهم بعد ذلك من العذاب. وجاءت " إذ " وهي لما مضى مع " سيوف " وهي لما مضى مع " سوف " وهي لما يستقبل، لأن أفعال الله جل ذكره بعباده في معادهم كالكائنة الحالة بهم لصحة وقوع ذلك وكونه. فأخبر عنها وهي لم تكن بلفظ ما قد كان، لصحة وقوعها وثبات كونها، فهي كالكائنة، فلذلك

اجتمعت " إذ " و " سوف ". ولا يجوز هذا المعنى إلا من الله جل ذكره لأنه يعلم ما يكون في غدٍ كعلمه بما كان في أمس. قال الحسن: ما في جهنم وادٍ ولا صغارٌ ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا واسم صاحبه عليه مكتوب. ومن رفع السلاسل عطفها على الأغلال. ويتم الكلام على السلاسل. ويكون يسحبون مستأنفاً. فإن جعلته حالاً جاز، ولم تقف على السلاسل. وقرأ ابن عباس: والسلاسل بالنصب. " يسحبون " بفتح الياء والتقدير أنه نصب السلاسل يسحبون.

قال ابن عباس: وذلك أشد عليهم، يكلفون أن يسحبوها ولا يطيقون. وأجاز بعضهم والسلاسل بالخفض، عطف على الأعناق "، يحمله على المعنى. (لأن المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل، كما حمل على المعنى) قول الشاعر: قد سالَمَ الحيّاتُ منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما لأن ما سالمك فقد سالمته، فكذلك الأعناق في الأغلال والسلاسل هو مثل الأغلال والسلاسل في الأعناق. وعلى هذا أجاز الكوفيون: قاتل زيد عمراً العاقلان والعاقلين، يرفع العاقلين على النعت لهما، وينصبهما لأنهما فعالان في المعنى مفعولان. وأجازوا

أيضاً: قاتل زيد عمرو برفعهما. وفي كتاب الزجاج أن التقدير في جواز خفض السلاسل وفي السلاسل يسحبون والحميم على تقدير: يسحبون في الحميم والسلاسل. ثم يقدم المعطوف على المخفوض. وهو غلط لأن المعطوف على ما فيه حرف الجر لا يقدم. لم يجز أحدٌ مررت وزيدٍ بعمرو. إنما أجازوا هذا / في المرفوع، نحو: قام وزيدٌ عمرو. استقبحوه في المنصوب، نحو: رايت وزيداً عمراً، ولم يجيزوه في المخفوض البتة لأن الفعل غير دال عليه. ثم قال تعالى {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ}، قال السدي: يسجرون، يحرقون. وقال ابن زيد: توقد عليهم. وأصله من الملء، يقال: سجرت الشيء إذا ملأته ومنه {والبحر المسجور} [الطور: 6].

فيكون المعنى على هذا. ثم تملأ بهم النار، ومعناه، ثم تملأ بهم النار كما يملأ التنور بالحطب. ثم قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ الله}، أي: يقال لهم أين الذين كنتم تشركون بعبادتكم إياهم من دون الله ينقذونكم مما أنتم فيه من العذاب؟! يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً على ما سلف منهم في الدنيا من عبادة غير الله سبحانه. فأجاب المشركون عند ذلك {ضَلُّواْ عَنَّا}، أي: عدلوا عنه فأخذوا غير طريقنا وتركونا في العذاب. ثم استدركوا فقالوا: {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً}، أي: لم نكن نعبد في الدنيا شيئاً. قال الله جل ذكره: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين}، أي: كما أضل هؤلاء الذين ضل عنهم في الآخرة ما كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله، كذلك يضل الله أهل الكفر به عنه وعن طاعته. ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ}، أي: ذلكم الذي حل بكم من العذاب بفرحكم في الدنيا بغير ما أمر الله D به من المعاصي وبرمحكم فيها، والمرح: الأشر والبطر.

قال ابن عباس: الفرح هنا والمرح: الفخر والخيلاء والعمل في الأرض بالخطيئة وكان ذلك في الشرك، وهو مثل قوله في قارون: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76]. ثم قال: {ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: أبواب جهنم السبعة ماكثين فيها إلى غير نهاية. {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين}، أي: فجهنم بئس مثوى من تكبر في الدنيا عن عبادة الله D وطاعته. ثم قال تعالى: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ}، أي: فاصبر يا محمد على ما تلقى من مشركي قومك ومجادلتهم لك بغير الحق وتكذيبهم، إن الله منجز لك ما وعدك به من الظفر والنصر عليهم، وإحلال العذاب بهم. {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يا محمد في حياتك، {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أن يحل بهم ذلك، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}، أي: إلينا مصيرهم، فنحكم بينك وبينهم بالحق فنخلدهم في النار ونخلدك ومن اتبعك ومن آمن بك في (النعيم المقيم. وهذا كله وعيد من الله D لقريش وتعزية للنبي A وتصبير له.

78

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} - إلى آخر السورة: أي: ولقد أرسلنا (يا محمد من قبلك) رسلاً إلى أممهم، منهم من أنبأناك بخبره، ومنهم من لم ننبئك بخبره. روي عن أنس أنه قال: عدة الرسل ثمانية آلاف، بعث النبي A بعدهم. منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل. وروى سلمان الفارسي عن النبي A أنه قال: " بعث الله D أربعة آلاف نبي ". وقال علي بن أبي طالب Bهـ في الآية: بعث الله D عبداً حبشياً وهو الذي لم يقصص خبره على نبيه A. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، (أي: ليس لرسول ممن تقدمك يا محمد أن يأتي إلى قومه بآية فاصلة بينه وبينهم إلا بإذن الله له) بذلك فيأتيهم بها.

وهذا تنبيه من الله D لنبيه عليه السلام أنه ليس له أن يأتي قومه بما يسألونه من الآيات دون إذن الله D له بذلك. ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق}، (أي: فإذا (جاء قضاء) الله بين الأنبياء والأمم قضي بينهم بالعدل، فينجي رسله والمؤمنين، ويهلك، هنالك، المبطلون، أي: الكاذبون على الله سبحانه. ثم قال تعالى: {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا} أي: خلق لكم الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير وغير ذلك من البهائم لتركبوا منها، يعني: الخيل والإبل والحمير والبغال. {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، يعني: الإبل (والغنم والبقر). التقدير عند الطبري: لتركبوا منها بعضاً، ومنها بعضاً تأكلون ثم حذف ذلك استغناء بدلالة الكلام على ما حذف. ثم قال {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، يعني: الأنعام، وذلك جعلهم من جلودها بيوتاً ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين.

وذكر الزجاج أن الأنعام هنا: الإبل، يركبونها ويأكلون لحومها ويستمتعون بجلودها وأوبارها. وهذه الآية. تدل على إباحة أكل لحوم الإبل عند من جعلها خصوصاً في الإبل. وقد قال تعالى في غيرها مما لا يؤكل: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] ولم يذكر إباحة أكلها. ثم قال تعالى {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}، أي: ولتبلغوا بالحمولة على بعضها - يعني: الإبل - حاجة في صدوركم لم تكونوا لتبلغوها لولا هي إلا بشق الأنفس، كما قال: {" وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس "} [النحل: 7].

ثم قال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ}، أي على الإبل. وما شابهها من الأنعام في البر، وعلى السفن في البحر تحملون. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ}، أي حججه / وأدلته على وحدانيته. {فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ}، أي: فأي حجج الله التي يريكم أيها الناس في السماء والأرض - تنكرون صحتها فتكذبوا - من أجلها فسادها - بتوحيد الله سبحانه. ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ}، أي: أفلم يسافر قومك - يا محمد - من قريش فينظروا آثار الأمم التي كذبت الرسل من قبلهم كيف بادوا وهلكوا، فيخافون أن ينزل بهم بتكذيبهم إياك فيما جئتهم به مثل ما نزل بمن كان قبلهم من الأمم المكذبة لأنبيائها. {كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً}، أي: كانت الأمم المهلكة قبلهم بالتكذيب أكثر من قريش. {وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض}، أي: أكثر عدداً وأكثر آثاراً بالبناء والحرث

والعمل من قريش. {فَمَآ أغنى عَنْهُم}، أي: عن الأمم الماضية. {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الأموال والأولاد والبناء والعمل بل أهلكوا ودمروا بتكذيبهم الرسل وكفرهم. (فماذا ينتظر) قومك يا محمد مع تكذيبهم بما جئتهم به، وهم دون أولئك في القوة والكثرة والآثار في الأرض من البناء (والتصرف والحرث) وغير ذلك. وهذا كله تنبيه وتهدد لقريش. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات}، يعني: الأمم الماضية، جاءتهم رسلهم بالآيات الواضحات. {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} لجهالتهم. {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: وحل بهم عقاب استهزائهم بما جائتهم به الرسل واستعجالهم للعذاب. والمعنى: فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا، نحو قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7].

وقيل: الضمير في " فرحوا " للرسل، أي: فرح الرسل بما عندهم من العلم أن الله مهلك من كفر بهم وكذبهم، وناصر دينهم، فينجي الأنبياء ومن آمن بهم ويهلك الكفار. وقيل: في الكلام حذف. والتقدير: فلما جاءت الرسل قومها كذبوهم فأوحى الله D إليهم أنه معذبهم، ففرحوا بما أوحى إليهم من هلاك من كذبهم، فالضمير للرسل في " فرحوا "، والضمير في " حاق بهم " للمكذبين للرسل. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ}، أي: لما رأت الأمم المكذبة للرسل عذاب الله D وانتقامه الذي وعد الرسل بإيقاعه على من كذبهم، قالوا أمنا بالله وحده، أي: أقررنا بتوحيد الله وكفرنا بما كنا به مشركين من الأصنام والأوثان). قال الله جل ذكره: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي: لم ينفعهم التوحيد عند معاينتهم العذاب. {سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ}، أي: سن الله ذلك سنة فيمن تقدم من عباده أنه من آمن عند معاينة العذاب لم ينفعه ذلك. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون}، أي: وهلك عند معاينة العذاب من تمادى على كفره

حتى حل به العذاب، فلم ينفعهم إيمانهم عند المعاينة العذاب لأنهم مضطرون إلى ذلك حين عاينوا العذاب وإنما كان ينفعهم الإيمان لو آمنوا قبل معاينتهم ما يلجئهم إلى الإيمان ويضطرهم. فكذلك فعل الله D فيمن خلا من عباده، لا يقبل إيمانهم عند معاينتهم العذاب واضطرارهم إلى الإيمان، فهو قوله تعالى {سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ} في عباده ".

فصلت

بسم الله الرحمن الرحيم سورة فصلت سورة حم السجدة مكية قوله تعالى: {حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم} - إلى قوله - {ذَلِكَ رَبُّ العالمين}. قد تقدم القول في حم. وقوله: {تَنزِيلٌ}، أي: هو تنزيل، يعني: هذا القرآن تنزيل من الله الرحمن الرحيم على عبده محمد A. ثم قال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}، أي: هو كتاب فصلت آياته بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام. وهو قول قتادة. (وقال الحسن): فصلت بالوعد والوعيد.

وقال مجاهد: فصلت: فسرت. وقيل: " كتاب " ارتفع على أنه خبر لتنزيل. وقيل: معنى فصلت آياته: أنزلت شيئاً بعد شيء، ولم تنزل إلى الدنيا مرة واحدة. ثم قال تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً}، نصب " قرآناً على الحال، أي: فصلت آياته في حال جمعه، وقيل: نصبه على المدح، والمعنى أنه ليس بأعجمي بل هو عربي. وهذا يدل على بطلام قول من قال: إن فيه من لغة العبريانية والنبطية ما لم تعرفه العرب. بل الذي فيه من ذلك قد أعربته العرب وغيرته بلسانها فصار من لغتها.

(فصار كل) القرآن عربياً. ويدل أيضاً هذا على بطلان قول من قال: إن في معاني باطنة لا تعلمها العرب فكيف ينزل بلغتها وهي لا تفهمه. ثم قال تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً}، أي: يبشرهم - إن آمنوا وعملوا بما أمروا - بالخلود في الجنة وينذرهم - إن عصوا أو كفروا - بالخلود في النار. وقوله: {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، معناه: لقوم يعقلون ما يقال لهم. وهذا يدل على أن الله جل ذكره إنما خاطب العقلاء البالغين، وإن من أشكل عليه شيء من أمر دينه وجب عليه أن يسأل من يعلم. ثم قال تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، أي: فأعرض كثير منهم عن الإيمان واستكبروا عن قبول ما جاءهم به محمد عليه السلام؛ فهم لا يصغون له فيسمعون ما فيه، استكباراً. وقيل: معنى لا يسمعون، لا يقبلون ما جاءهم من عند الله D. " ويروى أن قريشاً اجتمعت في أمر النبي A فقال لهم عتبة بن ربيعة - وكان مقدماً في قريش، قد قرأ الكتب وقال الشعر وعرف الكهانة والسحر - أنا أمضي إلى محمد فاستخبر أمره لكم. فأتى النبي A وهو عند المقام بمكة، فقال: يا محمد، إن كنت

فقيراً جمعنا لك من أموالنا ما نغنيك به، وإن أحببت الرياسة رأسناك علينا. . . وعدد عليه، والنبي A ساكت. فلما فرغ عتبة من كلامه قرأ النبي A: " { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} - إلى - {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}، فقرأ النبي A { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ} - حتى بلغ - {وَثَمُودَ}، فلما سمع عتبة ذلك وثب خائفاً فوضع يده على فم النبي A وناشده بالرحم إلا سكت، فسكت النبي A، وانصرف عنه إلى منزله، وأبطأ على قريش. فقالت قريش: صبأ عتبة إلى دين محمد! امضوا بنا إليه. فجاؤوا منزل عتبة فدخلوا وسلموا وسألوه. فقال: يا قوم، قد علمتم أني من أكثركم مالا وأوسطكم حسباً، وأني لم أترك شيئاً إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله يا قوم، لقد قرأ علي محمد كلاماً ليس بشعر (ولا رجز) ولا سحر ولا كهانة، ولولا ما ناشدته الرحم ووضعت يدي على فمه لخفت أن ينزل بكم العذاب ".

قال أبو محمد: وهذا يدل على إعجاز القرآن، فلو كانوا يقدرون على مثله أو على شيء منه لعارضوه به ولاحتجوا عليه بذلك. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}، أي: وقال المشركون لمحمد A قلوبنا في أوعية قد تغطت بها فلا تفهم عنك ما تقول لها كقول اليهود للنبي A: قلوبنا لف وواحد الاكنة كنان. {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ}، أي: صمم، فلا تسمع منك ما تقول كراهة لقولك. قال مجاهد: في أكنة: " كالجعبة للنبل "، وقال السدي: في أكنة: في أغطية. ثم قال تعالى: حكاية عنهم: {" وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} "، أي: حاجز فلا نجامعك على شيء مما تقول، نحن نعبد الأصنام وأنت تعبد الله سبحانه. فهذا هو الحاجز الذي بينهم وبين النبي A. ثم قالوا له: {فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ}، أي: فاعمل يا محمد بدينك، إننا عاملون بديننا، ودع ما تدعونا إليه من دينك وندع دعاءك إلى ديننا. وقيل: المعنى: فاعمل في هلاكنا وضرنا إنا عاملون في مثل ذلك منه.

ثم قال الله جل ذكره لنبيه عليه السلام: قل لهم يا محمد جواباً لهم على قولهم لك: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} "، أي: إنما أنا من ولد آدم مثلكم في الصورة والحال، أوحى الله إلي أن معبودكم الذي تجب له العبادة والخضوع واحد لا إله غيره. {فاستقيموا إِلَيْهِ}، أي استقيموا على عبادته ولا تعبدوا غيره. {واستغفروه} على ما سلف من فعلكم في عبادتكم الأصنام من دونه وتوبوا إليه من ذلك. ثم قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة}، أي: (وقيوح) وصديد أهل النار لمن ادعى أن لله شريكاً لا إله إلا هو. وقوله: {الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة}، (معناه: الذين لا يعطون لله طاعة تطهرهم من الذنوب وتزكي أعمالهم، وهذا معنى قول ابن عباس وروي عنه أنه قال: الذين لا يؤتون الزكاة، أي): لا يشهدون ألا إله إلا الله.

وقال عكرمة: معناه: الذين لا يقولون لا إله إلا الله. وقال قتادة: معناه: الذين لا يقون بفرض زكاة أموالهم ولا يؤمنون بفرض ذلك عليهم، وكان يقال: إن الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا، ومن تخلف عنها هلك، وقد قاتل أبو بكر الصديق Bهـ أهل الردة على منعهم الزكاة مع إقرارهم بالصلاة. وقال Bهـ: والله لو منعوني عقالاً مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه. قال السدي: لو زكوا وهم مشركون لم تنفعهم. وروى نافع عن ابن عمر: الذين لا يؤتون الزكاة: التوحيد. وقال الربيع بن أنس: معناه، الذين لا يزكون أعمالهم فينتفعون بها. قال الحسن: " عظم الله D شأن الزكاة فذكرها. فالمسلمون يزكون والكفار لا يزكون، والمسلمون يصلون والكفار لا يصلون ".

وقال الزجاج: معناه: لا يؤمنون بأن الزكاة حق واجب عليهم. ثم قال تعالى: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ}، أي: وهم مع تركهم لإخراج زكاة أموالهم وكفرهم بأن الزكاة واجبة لا يصدقون بالبعث والجزاء. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالم}، أي: إن الذين صدقوا، الله ورسوله وعلملوا بما أمرهم الله D ورسوله A وانتهوا عما نهوا عنه لهم الجنة. قال ابن عباس: غير ممنون: غير منقوص، وقال مجاهد: " غير محسوب ". وقيل: غير مقطوع، بل نعيمهم أبداً لا ينقطع. يقال: (مننت الحبل) إذا قطعته، (وقد منه السفر إذا) قطعه. وقيل معناه: لهم أجر لا يمن عليهم به من أعطاهم إياه، لأنه قد وعدهم به، ووعده تعالى ذكره حق عليه إتمامه. فلا منة تلحقهم في إتمام ما وعدهم به.

ثم قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ}. هذا تقرير وتوبيخ للمشركين. والمعنى: أتكفرون (بالله الذي) ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين. {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً}، أي: أمثالاً تعبدونهم (من دون الله) {ذَلِكَ رَبُّ العالمين}، أي: الذي ابتدع خلق الأرضين السبع في يومين مع غلظها وعظمها، وطولها وعرضها، وثبتها تحت أقدام الخلق حتى تصرفوا عليها، فهو خالق جميع الخلق ومالكهم، وله تصلح العبادة لا لغيره، واليومان هما: يوم الأحد والإثنين. قال النبي A لليهود حين سألوه عن ذلك: " خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين) وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب. فهذه أربعة أيام " وهو قوله " {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10] "، أي: لمن سأل عن ذلك. " وسواء " مصدر عند سيبويه، أي: استوت استواء.

10

وقد (قرئ " سواء ") بالخفض على النعت لأربعة أيام، ورويت عن الحسن على معنى مستويات ومثله: رجل عدل، أي عادل. وقرأ أبو جعفر بالرفع على معنى: هي سواء. قوله تعالى: {" وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} - إلى قوله - {طَآئِعِينَ "}. أي: وجعل في الأرض جبالاً تثقلها أن تميل) بمن فوقها، وذلك يوم الثلاث على ما تقدم ذكره عن النبي A. وروي عنه A أنه قال لليهود حين سألوه: " وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات (بقين) منه،

(فخلق في أول ساعة من الثلاث: الآجال حين يموت من مات)، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وخلق في الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة ". وروي عنه A أن اليهود قالت له بعدما أجابهم بهذه الجوابات، ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى (على) العرش قالوا (قد أصبت) لو أتممت فقلت: ثم استراح! فغضب النبي A من قولهم غضباً شديداً وأنزل الله D عليه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [ق: 38 - 39]. وقال ابن عباس: خلق الله يوماً واحداً سماه الأحد، ثم خلق ثانياً سماه الأثنين، ثم خلق ثالثاً سماه الثلاثاء، ثم رابعاً (سماه الأربعاء)، ثم خامساً سماه

الخميس. قال: فخلق الله D الأرض في يومين الأحد والأثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء - فلذلك يقول الناس: هو يوم ثقيل - وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطيور والوحوش والهوام والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان - وهو آدم - يوم الجمعة ففرغ من خلق كل شيء يوم الجمعة. وقال أبو هريرة: " أخذ رسول الله A بيدي فقال: " خلق الله D التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه، يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة "، وعن ابن عباس

وعبد الله بن سلام أنهما قالا: ابتدأ الله جل ذكره خلق الأرض يوم الأحد، فخلق سبع أرضين في يوم الأحد ويوم الإثنين، ثم جعل في الأرض رواسي، وشق الأنهار، وخلق الشجار، وجعل المنافع في يومين: يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، ثم استوى إلى السماء فجعلها سبع سماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة . قال ابن عباس: ولذلك سميت يوم الجمعة لأنها اجتمع فيها الخلق. قال ابن سلام: فقضاهن سبع سماوات وفي آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم خلق آدم فيها على عجل وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة. قال مجاهد: كل يوم كألف سنة مما تعدون. قال بعض العلماء: لو أراد الله تعالى ذكره لخلقها كلها في وقت واحد، ولكنه أراد ما فيه الصلاح، وذلك لتتبين ملائكته أثر الصنعة شيئاً بعد شيء فتزداد في

بصائرها. وقوله تعالى / {وَبَارَكَ فِيهَا}، معناه: جعلها دائمة الخير لأهلها. وقال السدي: بارك فيها، أي أنبت شجرها. وقيل: معناه: زاد فيها من صنوف ما خلق من الأرزاق وثبته فيها. والبركة: الخير الثابت. وقوله: {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا}، أي قدر فيها أرزاق أهلها ومعايشهم قاله الحسن وابن زيد. وقال قتادة: أقواتها: صلاحها. وعن قتادة أيضاً: وقدر فيها أقواتها، أي: خلق فيها جبالها وبحارها وشجرها وساكنها من الدواب كلها. وقال مجاحد: وقدر فيها أقواتها، يعني: من المطر (الذي به تنبت) الأقوات

لجميع الخلق. وقال عكرمة: " وقدَّر فيها أقواتها "، معناه: قدر في كل بلد منها ما لم يجعله في الآخر منها ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، ينقل من بلد إلى بلد ما ليس في أحدهما من المتاع والطعام وغيره. وروي مثل هذا عن مجاهد أيضاً، وهو قول الضحاك. وقوله: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}، أي: خلق (ذا وذلك) في أربعة أيام؛ أي: خلق الأرض والجبال، وبارك في الأرض وقدر فيها أقواتها، كل ذلك خلقه في أربعة أياك، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الأربعاء. وقد غلط قوم فأضافوا أربعة أيام كاملة إلى اليومين المتقدمين. وهذا

كقولك: بنيت الدار في يومين وأتمتها وفرغت من جميع إصلاحها في ثمانية أيام، فاليومان داخلان في الثمانية وبهما تمت الثمانية (لأنها) (كلها كشيء) واحد كما كانت الأرض وما فيها من مصالحا شيئاً واحداً. فدخلت العدة الأولى في الثمانية. ولو قلت: اشتريت الدار في يومين، والعبيد والثياب في أربعة أيام، لم تدخل اليومان في الأربعة لاختلاف أنواع المشترى، ولا يكون ذلك إلا ستة أيام. فاعرف الفرق. وقوله: {سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} "، أي: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض والجبال والشجر والأنهار والبحار وقدر الأقوات وغير ذلك من المنافع، قاله قتادة والسدي، وهو معنى قول ابن عباس. وقيل: معناه: سواه لمن سأل ربه شيئاً مما به الحاجة إليه من الأرزاق، فإن الله

قدر له الأقوات في الأرض على ما قدر مسألته، وكذلك قدر لكل سائل؛ قاله ابن زيد. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين. وإليه نزع ابن زيد في قوله. وهو اختيار الطبري. فالمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم الحاجة إليه وما يصلحهم، وقد تقدم الكلام في إعراب " سواء " وقراءته. ولو شاء رجل جل ذكره لخلق جميع ذلك وأضعافه في وقت واحد، وهو الوقت الذي لا وقت أسرع منه، ولا أقل تقضياً منه، فهو على ذلك قادر، وإنما خلق جميع ذلك شيئاً بعد شيء لتستدل ملائكته استدلالاً بعد استدلال على قدرته. والله أعلم بذلك. ثم قال تعالى: {" ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ}، أي: ثم ارتفع إلى السماء ارتفاع قدرة لا ارتفاع نقلة. " وهي دخان "، روي أن الدخان كان من تنفس السماء.

{فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}، أي: قال لهما جيئا بما خلقت فيكما. أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرضي فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات وتشقق عن الأنهار، فقالتا: أتينا طائعين بما أحدث فينا من خلقك، هذا معنى ما روى مجاهد عن ابن عباس. ومعنى إخباره تعالى عن السماء والأرض بالقول أنه جعل تبارك وتعالى فيهما ما يمزان به ويجيبان عما قيل لهما وذلك لا يعجزه تعالى إذا أراده. وقال المبرد: هذا إخبار عن الهيئة، أي: صارتا في هيئة من قال ذلك بتكوينه تعالى لما أراد فيهما، كقول الشاعر: امتلأ الحوض، وقال: قطى، أي: صار في هيئة من يقول ذلك.

وقيل: معناه أنه أخبرنا الله ( D) بما نعرف من سرعة الإجابة طائعين فخبر عن السماوات والأرض بسرعة التكوين على ما أراد وأما قوله: {طَآئِعِينَ}، فقال الكسائي معناه: أتينا بمن فينا طائعين. وقيل: إنما جاء ذلك بالياء والنون لأنه أخبر عنهما كما يخبر عمن يعقل من الذكور فجاء على لفظ الإخبار عمن يعقل. قال ابن عباس: خلق الله الأرض أولاً، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فلذلك قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30]. قال وهب بن منبه: خلق الله تعالى الريح فسلطها على الماء فضربت الماء حتى صار أمواجاً وزبداً، فجعل يفور من الماء دخان ويصعد في الهواء، فأمر الله تبارك وتعالى الزبد فجمد فمنه الأرض، وأمر الأمواج فجمدت فجعلها جبالاً رواسي، {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ /

12

فقضاهن سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ} ". وكانت السماء ملتصقة بالأرض فأرمها فارتفعت من الأرض على الهواء. {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12]. وقال للسماء الدنيا: كوني زمردة خضراء، وللثانية كوني فضة بيضاء، والثالثة كوني ذرة حمراء، وللرابعة كوني ذرة بيضاء وللخامسة: كوني ذهبة حمراء، وللسادسة: كوني ياقوتة صفراء، وللسابعة: كوني نوراً على نور يتلألأ، وفي كل سماء ملائكة قد طبقها بهم بين راكع وباك ومسبح قائم. قوله تعالى: {فقضاهن سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ} - إلى قوله - {وَكَانُواْ يتَّقُونَ}، أي: فأحكمهن، وفرغ من خلقهن سبع سماوات في يومين، وذلك: يوم الخميس ويوم الجمعة. قال السدي: ثم استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها، فجعلها سبع سماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيها خلق السماوات والأرض. وقوله: {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا}، معناه: وألقى. في كل سماء ما أراد. من الخلق. قال مجاهد، معناه: وألقى في كل سماء ما أمر به وأراده.

وقال السدي: معناه: وخلق كل سماء من الملائكة والبحار والجبال ما أراد مما لا يعلم. وقال قتادة: معناه: وخلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها. وقيل: المعنى: وأوحى في كل سماء من الملائكة بما أراد من أمرها. ثم قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح}، يعني: بالكواكب. قال السدي: جعل النجوم زينة وحفظاً من الشياطين. وانتصب " حفظاً " على المصدر. قال الأخفش: معناه: وحفظناه حفظاً. لأن جعله فيها الكواكب يدل على أنه حفظها، لأنه اسم عطف على فعل فلا بد من إضمار فعل لتعطفه على الفعل الذي قبله وتنصب به حفظاً. وقيل: التقدير: وجعلنا المصابيح حفظاً من استراق السمع. وهذا كله مردود على أول الكلام في المعنى. والتقدير: قل ائنكم لتكفرون بمن هذه قدرته، وتجعلون له

أمثالاً وأشكالاً تعبدونها من دونه. وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}، أي: جميع ما ذكر من الخلق والآيات من تدبير العزيز في نقمته من إعدائه العليم بسرائر خلقه وبكل شيء، لا إله إلا هو. ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، أي: فإن أعرض قومك من قريش يا محمد عنك وعما جئتهم به، فلم يؤمنوا به، فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد (وثمود. وقرأ أبو عبد الرحمن والنهعي: صعقة مثل صعقة عاد). والصعقة: كل ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وكذلك الصاعقة. قال قتادة: معناه: فقل (لهم يا محمد): أنذركم وقيعة مثل وقيعة عاد وثمود. وقال السدي: معناه: أنذركم عذاباً مثل عذاب عاد وثمود. {إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ}.

العامل في " إذ: " الصاعقة. والمعنى: حين جاءتهم الرسل من بين أيدي الرسل ومن خلف الرسل (يعني: جاءت الرسل أبناء الذين أهلكوا بالصاعقة ومن خلف الرسل) الذين بعثوا إلى آبائهم. وذلك أن الله جل ذكره بعث إلى عاد: هوداً، فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمت إلى آبائهم أيضاً فكذبوها فأهلكوا. قال ابن عباس: معناه: أنه يريد الرسل التي كانت قبل هود، (والرسل التي كانت بعد هود)، بعث الله D قبله رسلاً، (وبعده رسلاً) بأن لا يعبدوا إلا الله فقالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة يدعوننا إلى الإيمان به ولم يرسلكم وأنت بشر مثلنا، ولكنه رضي بعبادتنا، فنحن بما أرسلتم به كافرون. وقال الضحاك: الرسل الذين من بين أيديهم: من قبلهم، والذين من خلفهم، يعني: الذين بحضرتهم.

فيكون الضمير الذي في " خلفهم " يعود على الرسل، وهو مذهب الفراء. وقيل: الذين بين أيديهم، يعني: الذين بحضرتهم، (والذين من خلفهم، يعني:) الذي من قبلهم. وقيل: هذا على التكثير، والمعنى: جاءتهم الرسل من كل مكان بأن لا يعبدوا إلا الله. وقوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} أي: استكبروا عن أمر ربهم وتجبروا وأعجبهم بطشهم وقوتهم، وما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش، ونسوا أن الذي خلق ذلك فيهم وأعطاهم إياه هو أشد منهم قوة، فجحدوا بآيات / الله D وكفروا بها. فقوله: {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} معطوف على " فاستكبروا " " وقالوا " وما بينهما اعتراض. قال الله جل ذكره: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً}. قال مجاهد: أرسل ريحاً شديدة (السموم) عليهم.

وقال قتادة والسدي: ريحاً صرصراً: باردة)، وزاد السدي: ذات صوت. وقال أبو عبيدة: ريحاً شديدة الصوت عاصفة. وأصل الصر في كلام العرب: البرد. قال ابن القاسم: قال مالك: سئلت امرأة من بقية قوم عاد يقال لها: هرطة: أي عذاب الله أشد؟ قالت: كل عذاب الله شديد، وسلامته ورحمته: ليلة لا ريح فيها، ولقد رأيت العير تحملها الريح فيما بين السماء والأرض. ويقال: ما فتح عليهم إلا مثل حلقة الخاتم، ولو فتح عليهم مثل منخر الثور لأكسبت الأرض.

وقوله: {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ}. قال ابن عباس: نحسات: متتابعات. وقال مجاهد: نحسات: مشائم. وقال قتادة: نحسات: (مشائم نكدات). وقال ابن زيد: نحسات/ ذات شر، ليس فيها من الخير شيء. وقال الضحاك: نحسات: شداد. {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا}، أي: عذاب الهوان في الدنيا. {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى}، أي: أشد (هواناً). {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ}، أي: لا ينصرهم ناصر من عذاب الله فينقذهم. ثم قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى}، أي: وأما ثمود) فبينا لهم سبيل الحق وطريق الرشاد. قال ابن عباس: فهديناهم: بينا لهم ". (وقال قتادة: فهديناهم: بينا لهم سبيل الخير) والشر.

وقال ابن زيد: فهديناهم: أعلمناهم الهدى والضلالة ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى فاستحبوا الضلالة على الهدى واختاروها. وقال الضحاك: فهديناهم: أخرجنا لهم الناقة تصديقاً لما دعاهم إليه صالح، فاستحبوا الكفر على الإيمان. وقال السدي: فاختاروا الضلالة والعمى على الهدى، وهو قول ابن زيد وغيره. والرفع في " ثمود " عند سيبويه مثل: زيد ضربته. وقيل: إن النصب الإختيار، لأن " أما " فيها معنى الشرط. والشرط بالفعل أولى، وبه يكون، فلا بد من إضماره، فيعمل في ثمود

19

فينصبه. وقرأ ابن أبي إسحاق بالنصب. ورويت أيضاً عن الأعمش وعاصم وذلك على إضمار فعل مثل: زيداً ضربته. ثم قال: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون}، أي: فأخذهم العذاب (المذل المهين)، فأهلكهم بما كانوا يكسبون من الكفر. ثم قال: {وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ}، أي: ونجينا المؤمنين من العذاب الذي نزل بالكفار من عاد وثمود. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار} - إلى قوله - {مِّنَ المعتبين}، أي: واذكر يا محمد نحشر هؤلاء المشركين وغيرهم من أعداء الله إلى نار جهنم. {فَهُمْ يُوزَعُونَ}، أي: يحبس أولهم على آخرهم قاله السدي وقتادة وغيرهما.

قال أبو الأحوص: " فإذا تكاملت العدة بدئ بالأكابر فالأكابر جرماً ". قال أبو عبيدة: يوزعون: يدفعون. يقال: وزعه يزعه، ويزعه، إذا كفه وحبسه. ثم قال تعالى: {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم}. هذا الكلام فيه حذف مفهوم، واختصار بليغ، (وهذا أمر معجز) القرآن. والتقدير: حتى إذا جاءوا النار سئلوا عن كفرهم وجحودهم، فأنكروا بعد أن شهد عليهم النبيئون والمؤمنون، فعند ذلك تشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون في الدنيا. وأكثر المفسرين على أن الجلود هنا: الفروج. كنى عنها كما كنى عن

النكاح بالمس. وقيل عنى بها الجلود بعينها، وهو اختيار الطبري لأنه الأشهر المستعمل في كلام العرب، ولا يحسن نقل المعروف في كلامها إلى غيره إلا بحجة ودليل يجب له التسليم. قال ابن مسعود (Bهـ) يجادل المنافق عند الميزان ويدفع الحق ويدعي الباطل فيختم على فيه، ثم تستنطق جوارحه فتشهد عليه، ثم يطلق عنه فيقول: بعداً لكن وسحقاً، إنما كنت أجادل عنكن. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}، (أي: وقال المشركون

للجلود لما أنطقها الله بالشهادة عليهم لم شهدتم علينا) فأجابتهم. {أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} فنطقنا. " روى أنس أن النبي A ضحك ذات يوم يا رسول الله؟ قال: عجبت من مجادلة العبد ربه سبحانه يوم القيامة: قال: يقول: أي رب، أليس وعدتني ألا تظلمني؟! قال: (ذلك لك) قال: فإني لا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي. قال: أو ليس كفي بي شهيداً وبالملائكة الكرام الكاتبين! قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل. قال: فيقول لهم بعداً وسحقاً، عنكم، كنت أجادل ". " وروى حكيم بن معاوية عن أبيه أن النبي ( A) قال: وأشار بيده إلى

الشام فقال: " من " ها هنا " يحشرون / ركباناً ومشاتاً وعلى وجوههم يوم القيامة، على أفواههم الفدام. توفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله، وإن أول (ما يعترف من أحدهم) فخذه ". وعن عقبة بن عامر أنه سمع النبي A يقول: " أول عظم يتكلم من الإنسان (يوم يختم على الأفواه " فخذه من رجل الشمال "، وفي حديث آخر) " فخذه وكفه ".

ثم قال: " {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، أي خلق الخلق الأول ولم يكونوا شيئاً. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: تردون بعد مماتكم. ثم قال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ}. قال السدي: معناه: وما كنتم تستخفون من جوارحكم. وقال مجاهد: معناه: " وما كنتم تتقون "، وقال قتادة: معناه: وما كنتم تظنون. قال قتادة: والله إن عليك يا ابن آدم لشهوداً غير متهمة من بدنك فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا تخفى عليه خافية، الظلمة عنده (ضوء، والسر) عنده علانية من استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل، ولا قوة إلا بالله. ثم قال: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي: ولكن حسبتم أيها العاصون حين ركبتم المعاصي في الدنيا أن الله لا يعلم أعمالكم فلذلك

فعلتموها). قال ابن مسعود: كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر: ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي، كثير شحوم أبدانهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أفهمه. فقال أحدهم، أترون أن الله يسمع ما نقول. فقال الرجلان: إذا رفعنا أصواتنا سمع، وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمع. فأتيت النبي A فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ. . .} الآية. ثم قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي: وذلك الذي جنيتم في الدنيا على أنفسكم من معاصي الله هو ظنكم الذي ظننتم أن الله لا يعلم ما تعملون، أهلككم ذلكم الظن فأصبح في الآخرة من الذين خسروا أنفسهم.

وقرأ الحسن هذه الآية ثم قال: قال الله جل ذكره: " عبدي، أنا عند ظنه بي، وأنا معه إذا دعاني ". ثم نظر الحسن فقال: إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن بالله الظن وأحسن العمل، (وأما الكافر والمنافق فأساء الظن وأساء العمل). وذكر معمر أنه بلغه أنه: " يؤمر برجل إلى النار فيلتفت فيقول: يا رب، ما كان هذا ظني بك. قال: (وما كان ظنك) قال: كان ظني بك أن تغفر لي ولا تعذبني قال: فإني عند ظن عبدي ".

وقال قتادة: الظن ظننان: ظنُّ مُرْدٍ، وظنُّ مُنْجٍ، فأما الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، ومن قال: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] فهذا الظن المنجي - ظن ظناً يقيناً - قال: وقال هاهنا: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} فهذا ظن مرد. وقوله عن قول الكافرين: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} [الجاثية: 32] مثله. قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله عليه وسلم كان يقول ويروي عن ربه D: " عبدي أنا عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني ". فمعنى الآية: وهذا الظن الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيراً مما تعملون هو الذي أهلككم لأنكم من أجل هذا الظن الخبيث تجرأتم على محارم الله سبحانه، وركبتم ما نهاكم عنه فأهلككم ذلك وأصبحتم في القيامة من الذين خسروا أنفسهم فهلكوا. وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي A قال: " من استطاع منكم ألا يموت إلا وهو يحسن الظن بالله فليفعل. ثم تلا " {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ " الآية.

واستحب العلماء للرجل المؤمن أن يكون الخوف عليه في حصته أغلب من الرجاء، فإذا مرض وحضرت وفاته استحبوا أن يكون الرجاء في عفو الله أغلب عليه من الخوف. ثم قال تعالى: {فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ}، المعنى فإن يصبروا على النار أولا يصبروا فالنار مسكن ومأوى لهم. {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين}، أي: وإن يسألوا الرجعة إلى الدنيا والتخفيف من العذاب فما هم ممن يخفف عنهم ما هم فيه ولا يرجعون إلى الدنيا. وقيل: المعنى: فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مسكن لهم في الآخرة كما قال: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175]. وقيل: المعنى: وإن يستعتبوا في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم فما هم من المعتبين. والاستعتاب إنما يكون من الجزع. فهذا يدل على أنه في النار يكون ذلك.

25

وقيل: المعنى: " فإن يصبروا فالنار أو يجزعوا فالنار مسكن لهم ". وقيل: المعنى: إن يصبروا في الدنيا على تكذيبك واتباع آلهتهم، فالنار مثوى لهم يوم القيامة. ويقال: إن هذا جواب لقولهم: {أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ} فقال الله تعالى جل ذكره إن يصبروا على آلهتهم، أي: على عبادتها {فالنار مَثْوًى لَّهُمْ}، وإن يستعتبوا يوم القيامة / فلن يعتبوا. قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} - إلى قوله - {مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}. أي: ونصبنا لهم نظراء من الشياطين فجعلناهم لهم قرناء يزينون لهم قبائح أعمالهم. قال ابن عباس: القرناء هنا: الشياطين. وحقيقة قيضنا سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا. وقوله: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. يعني: من أمر الدنيا فحسنوا ذلك، وحببوه لهم حتى آثروه على

أمر الآخرة. وقوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} قال مجاهد: حسنوا لهم أيضاً ما بعد مماتهم فدعوهم إلى التكذيب بالمعاد، وأنه لا ثواب ولا عقاب، وهو أيضاً قول السدي. وقيل: معنى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ}، يعني: في النار فزينوا لهم أعمالهم في الدنيا. والمعنى: قدرنا عليهم ذلك أنه سيكون وحكمنا به عليهم. وقيل: المعنى: أخرجناهم إلى الاقتران فأحوجنا الغني إلى الفقير ليستعين به، وأحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه، فحاجة بعضهم إلى بعض تقيض من الله D لهم ليتعاونوا على طاعته فزين بعضهم لبعض المعاصي. قال ابن عباس: ما بين أيديهم هو تكذيبهم بالآخرة والجزاء والجنة والنار،

وما خلفهم: الترغيب في الدنيا والتسويف بالمعاصي وقيل: المعنى إنهم زينوا لهم مثل ما تقدم لهم من المعاصي فهو من بين أيديهم، وما خلفهم: ما يعمل بعدهم أو بحضرتهم. وقيل: ما بين أيديهم: ما هم فيه، وما خلفهم: ما عزموا أن يعملوه. ثم قال تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول}، أي: وجب لهم العذاب بكفرهم وقبولهم ما زين لهم قرناؤهم من الشياطين. وقوله: {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس}، معناه: ووجب عليهم القول في أمم قد مضت قبلهم. (أي ووجب عليهم من العذاب مثل ما وجب على أمم مضت قبلهم) من الجن والإنس لكفرهم وعملهم مثل عملهم. وقيل: " في " هنا، بمعنى " مع ". فالمعنى: ووجب عليهم العذاب بكفرهم مع أمم مضت قبلهم بكفرهم

أيضاً، هم داخلون فيما دخل فيه من قبلهم من الأمم الكافرة. {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ}، أي: مغبونين ببيعهم رضاء الله D بسخطه، ورحمته بعذابه. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ}، أي: قال الملأ من قريش لأهل طاعتهم من العامة: لا تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه ولا تتبعوا ما فيه. وألغوا فيه بالباطل (من القول). إذا سمعتم قارئه يقرأه لا تسمعوا ولا تفقهوا) ما فيه. هذا قول ابن عباس. وقال مجاهد: اللغو هنا: المكاء والتصفيق والتخليط (في المنطق) على رسول الله A، إذا قرأ القرآن أمروا سفهاءهم بذلك. وقال قتادة: والغوا فيه، أي: اجحدوا وأنكروه وعادوه. يقال: لغى يلغى، (ويلغو لغواً، ولغى ولغي يلغى لغى)

وبهذه جاء القرآن. وقرأ ابن أبي إسحاق: " والغوا فيه " على لغا يلغو، واللغو في الكلام ما كان على غير وجهه مما يجب أن يطرح ولا يعرج عليه. واللغو أيضاً مما لا يفيد معنى من الكلام. قال ابن عباس: كان النبي A إذا قرأ رفع صوته فتطرد قريش عنه الناس ويقولون: لا تسمعوا والغوا فيه لعلكم تغلبون، وإذا خافت لم يسمع من يريد، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]. وعن ابن عباس أيضاً أن أبا جهل هو الذي قال هذا: إذا رأيتم محمداً يصلي فصيحوا في وجهه وشدوا أصواتكم بما لا يفهم حتى لا يدري ما يقول. وروي أنهم إنما فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن، ورأوا من (يكرهه) يؤمن به لإعجازه بفصاحته، وكثرة معانيه وحسنه ورصفه.

ومعنى قوله {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}، أي: لعلكم تصدون من أراد استماعه عن فهمه فلا ينتفع به فتغلبون محمداً A أي في الآخرة على فعلهم. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} "، أي ولنجازينهم على قبيح أعمالهم في الدنيا. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ}، أي: جزاء المشركين في الآخرة النار، لهم فيها دار المكث أبداً. {جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}، أي: فعلنا بهم ذلك جزاء لهم بجحودهم في الدنيا بآياتنا، وكفرهم بها. ثم قال تعالى: {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس}، أي: وقال الكفار يوم القيامة بعد دخولهم النار: ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من جهنم وإنسهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار، لأن أبواب / جهنم بعضها تحت بعض فكل ما سفل كان أشد عذاباً مما علا، نعوذ بالله منها. قال علي بن أبي طالب Bهـ: هما إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل

أخاه. وهذا قول قتادة والسدي. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}، إن الذين وحدوا الله وعلموا أنه لا رب لهم غيره، ثم استقاموا على التوحيد والطاعة إلى الوفاة. " روى أنس أن النبي A قرأ: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} - الآية " فقال: " قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم. فمن مات عليه فهو ممن استقام ". وقيل: معناه: ثم لم يشركوا به شيئاً. قاله أبو بكر الصديق Bهـ. وروي عنه أنه هذه الآية قرئت عنده فقال: هم الذين لم يشركوا به شيئاً، فقالوا: لم يعصوا الله؟ فقال أبو بكر: لقد ضيقتم الأمر، إنما هو: ثم استقاموا (على ألا

يشركوا به شيئاً). وعنه أنه قال: ثم استقاموا: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، ثم لم يشركوا حتى لقوه. وروى الزهري أن عمر Bهـ تلا هذه الآية فقال: استقاموا - والله - على طاعة الله ولم يروغوا روغان الثعلب. وقال قتادة: استقاموا على طاعة الله D. وكان الحسن إذا قرأها قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الإستقامة. وقال ابن زيد: استقاموا على (عبادة الله وعلى طاعته). وقيل: لم يحدثو بعد إيمانهم كفراً. لأن المشركين قالوا: ربنا الله وعبدوا الأصنام وقالوا: الملائكة بنات الله سبحانه، وقالت اليهود: ربنا الله، ثم كفروا فقالوا: عزير ابن الله سبحانه وكفروا بمحمد، (وقالت النصارى: ربنا الله ثم كفروا وقالوا

عيسى ابن الله، وقال بعضهم هو الله، وقال المسلمون: ربنا الله ولم يعبدوا معه غيره ولوآمنوا بمحمد وبجميع الأنبياء. وقوله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة}، معناه: تتهبط عليهم الملائكة من عند الله عند نزول الموت بهم. قاله مجاهد والسدي. يقولون لهم: لا تخافوا مما قدامكم، ولا تحزنوا على ما خلفكم، وأبشروا بالجنة التي وعدكموها الله D، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقرأ ابن مسعود: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} لا تخافوا، أي: قائلة لهم: لا تخافوا مما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما تخلفونه وراءكم. وقال السدي: معناه: لا تخافوا مما أمامكم ولا تحزنوا على ما بعدكم. وقال مجاهد: معناه: ألا تخافوا مما تقجمون عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم من جنياكم من أهل، وولد، ودار فإنا نخلفكم في ذلك كله. قال زيد بن أسلم: البشارة في ثلاثة مواطن: عند الموت، وعند القبر، وعند البعث.

وعن ابن عباس أن هذه البشرى في الآخرة تكون لهم من الملائكة. فالمعنى: تقول لهم الملائكة: نحن كنا نتولاكم في الدنيا وهم الحفظة الكتبة، قاله السدي، قال: هم الحفظة وهم أولياء المؤمن في الآخرة كما كانوا أولياءه في الدنيا. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ}، أي: لكم ذلك في الجنة. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}، أي ما تريدون، وتدعون ما شئتم يأتكم. وقوله: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}، أي: أنزلهم الله D D ذلك نزلاً، فهو مصدر، وقيل: في موضع الحال. والمعنى: منزلين {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ} للذنوب لمن تاب منها، {رَّحِيمٍ} بمن آمن وتاب. قال ثابت البناني: بلغنا أن المؤمن يتلقاه ملكاه - اللذان كانا معه في الدنيا

33

- إذا بعث من القبر - فيقولانن له: لا تخف ولا تحزن {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} - إلى قوله - {مَا تَدَّعُونَ} فيؤمن الله خوفه، ويقرعينه. قوله تعالى ذكره {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} - إلى قوله - {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} معناه: لا أحد أحسن قولاً ممن هذه صفته، أي: ممن قال: ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والقبول لأمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال به وما عمل. وقرأ الحسن يوماً هذه الآية فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي والله، هذا صفوة الله، هذا خير الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال إنني من المسلمين؛ فهو خليفة الله سبحانه. فالآية عند الحسن لجميع المؤمنين. وقال قتادة: هذا عبد صدق قوله عمله، ومولجة مخرجه، وسره علانيته وشاهد مغيبه، ثم قال: وإن المنافق عبد خالف قوله عمله ومولجه مخرجه، وسره

/ علانيته، وشاهده مغيبه. قال السدي: عني بهذه نبي الله محمداً A، دعا إلى الله جل ذكره، وعمل صالحاً، وقاله ابن زيد وابن سيرين). روي عن عائشة Bها أنها قالت: نزلت في المؤذنين. وقال عكرمة: قوله: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله}، يعني: المؤذنين. {وَعَمِلَ صَالِحاً}، قال: صلى وصام. وذكر في حديث يرفعه: " أول من (يقضي) الله له بالرحمة يوم القيامة المؤذنون، وأول المؤذنين مؤذنو مكة. قال: والمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة. والمؤذنون إذا خرجوا من قبورهم أذنوا فنادوا بالآذان، والمؤذنون ولايدودون في قبورهم.

وعن عمر Bهـ أنه قال: " قالت الملائكة: لو كنا نزولاً في الأرض ما سبقنا إلى الآذان أحد ". وقال قيس بن أبي حازم: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله}، قال: هو المؤمن {وَعَمِلَ صَالِحاً}، قال: الصلاة بين الأذان إلى الأقامة. وهذه الآية تدل على أنه جائز أن يقول المسلم: أنا مسلم بلا استثناء، أي: قد استسلمت لله D وخضعت له بالطاعة جلة عظمته. ثم قال تعالى {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} " لا " الثانية زائدة للتأكيد. والمعنى: لا يستوي الإيمان بالله D، والعمل بطاعته سبحانه، والشرك بالله D والعمل بمعصيته تعالى. قال عطاء: الحسنة هنا: لا إله إلا الله، والسيئة الشرك.

ثم قال {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ}، أي: ادفع بالحالة التي هي أحسن السيئة. والمعنى: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، وبعفوك إساءة من أساء إليك، وبصبرك على مكروه من تعدى عليك. وقال ابن عباس في الآية: أمر الله D المسلمين بالصبر عند الغضب والحلم والعفو عند الإساءة. فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم حتى يصير كأنه ولي حميم. وقال مجاهد: معناه: ادفع بالسلام إساءة من أساء إليك، تقول له إذا لقيته السلام عليكم، وقاله عطاء. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: هما الرجلان يسب أحدهما الآخر، فيقول المسبوب للساب: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، فيصير الساب كأنه صديق لك، قريب منك. والحميم: القريب. قال المبرد: " الحميم: الخاص ".

ثم قال تعالى جل ذكره {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ}، أي: وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا - لله - على المكاره والأمور الشاقة {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، أي: وما يعطى ذلك إلا ذو نصيب وافر من الخير. وقيل: المعنى: ما يلقى شهادة ألا إله إلا الله إلا الذين صبروا على المكاره والأذى في الله D، وما يلقى ذلك إلا ذو حظ عظيم في الآخرة. ونزل هذا كله بمكة والمؤمنون يؤذون على الإيمان، ويمتحنون ويعذبون حتى فروا إلى أرض الحبشة. وقيل: إنها والتي قبلها نزلتا في أبي بكر Bهـ. ثم هي عامة في كل من كان على طريقته ومنهاجه. وقال قتادة: الحظ العظيم هنا: الجنة: وقاله ابن عباس أيضاً. " وروي أن أبا بكر الصديق Bهـ شتمه رجل ورسول الله A شاهد فعفا عنه ساعة؛ ثم إن أبا بكر جاش به الغضب فرد عليه، فقام النبي A، فاتبعه أبو بكر وقال: يا نبي الله شتمني الرجل فعفوت عنه وصفحت وأنت قاعد؛ فلما أخذت أنتصر

قمت! فقال له النبي A " إنه كان يرد عليه ملك من الملائكة، فلما أخذت تنتصر ذهب الملك ورجاء الشيطان، فوالله ما كنت لأجالس الشيطان يا أبا بكر ". ثم قال تعالى {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله}، أي: وإما يلقين الشيطان - يا محمد - في نفسك وسوسة من العزيمة على مجازاة المسيء بإساءته فاستجر بالله واعتصم به من عمل الشيطان. {إِنَّهُ هُوَ السميع} لاستعاذتك واستجارتك به. {العليم} بما ألقى الشيطان في نفسك من نزعاته هذا قول السدي وقال ابن زيد: هو الغضب. ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر}، أي: ومن علاماته وأدلته التي تدل على وحدانيته وقدرته وحجته على خلقه وعظيم سلطانه اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كل واحد منهما الآخر. والشمس والقمر مسخرات لا يدرك أحدهما الآخر. ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر}، فإنما هما خلق

مثلكم خلقا لمنافعكم بهما. وقوله: {خَلَقَهُنَّ} جاء بلفظ التأنيث، والجمع رد على الليل والنهار والشمس والقمر وأنث، كما يؤنث جمع ما لا يعقل وإن كان مذكراً إذا كان من غير بني آدم. وقيل: الضمير يعود على الشمس والقمر، وأتى الجمع في موضع التثنية لأن الاثنين جمع. وقيل: الضمير يعود على معنى الآية. وقوله: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، أي: أخلصوا لله وحده إن كنتم / إياه تعبدون، وهذا موضع السجدة عند مالك.

39

وقد روي أن رجلاً من الأنصار على عهد النبي A استتر بشجرة يصلي من الليل فقرأ " ص " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة فسمعها وهي تقول: اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجراً، وارزقني بها شكراً وضع عني بها وزراً، وتقبلها مني كما تقبلها من عبدك داوود (عليه السلام). فذكر الرجل ذلك لرسول الله A فقال: " نحن أحق أن نقول ذلك ". فكان النبي A يقول ذلك في سجوده ". ثم قال تعالى {فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ باليل والنهار}، أي: فإن استكبر هؤلاء الذين أنت - يا محمد - بين أظهرهم، عن السجود والخضوع لله الذي خلقهم وخلق الشمس، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك: على جلالة قدرهم، بل يسبحون له ويصلون ليلاً ونهاراً. {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ}، أي: لا يفترون ولا يملون. ومعنى {عِندَ رَبِّكَ}، أي: في طاعته وعبادته، لم يعن القرب من مكانه لأن المكان على الله تعالى لا يجوز ولا يحتاج إلى مكان لأن المكان محدث وقد كان تعالى ذكره ولا مكان. فالمعنى: فالذين في طاعة ربك وعبادته يسبحون له. قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} - إلى قوله - {مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}.

أي: ومن علاماته وحججه وأدلته على توحيده وقدرته على نشر الأموات وبعثهم أنك - يا إنسان - ترى الأرض. وقيل: الخطاب للنبي A. ومعنى خاشعة: دارسة غبراء لا نبات فيها ولا زرع. {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء}، يعني: المطر. {اهتزت} يعني: بالنبات. {وَرَبَتْ}، أي: انتفخت وارتفعت. قال قتادة: خاشعة، أي: غبراء متهشمة. وقال السدي: يابسة متهشمة. وأصل الاهتزاز: التحرك. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى}، أي: إن الذي أحيى الأرض الدراسة فأخرج منها النبات وجعلها تهتز بالزرع بعد يبسها، قادر على أن يحيي أموات بني آدم بالماء أيضاً بعد مماتهم. قال السدي إنه كما يحيي الأرض بالمطر، كذلك يحيي الموتى بالمطر أيضاً وذلك مطر ينزله الله بين النفختين.

{إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: لا يعجزه شيء إذا أراده. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا}، أي: يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا ويعدلون عنه تكذيباً وجحوداً لا يخفون على الله سبحانه، بل هو عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة. قال مجاهد يلحدون في آياتنا يعني: المكاء والصفير واللغو عند القرآن، استهزاء منهم به، ومعارضة منهم للقرآن. وقال قتادة: يلحدون: يكذبون. وقال السدي: يلحدون " يعاندون ويشاقون ". وقال ابن زيد: هم أهل الكفر والشرك بآيات الله سبحانه. وقال ابن عباس: هم الذين يبدلون آيات الكتاب فيضعون الكلام في غير موضعه. وأصل الإلحاد: الميل عن الحق، ومنه سمي اللحد لحداً لميله في جانب القبر.

ثم قال تعالى: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة}. قال عكرمة: أفمن يلقى في النار: هو: أبو جهل: ومن يأتي آمناً، هو: عمار ابن ياسر). وقيل: هو حمزة Bهما. وقيل هو عام. والمعنى: الكافر خير أم المؤمن؟ وخوطبوا بذلك على دعواهم. ولا يجوز أن يخاطب بهذا المؤمنون، لأنهم قد علموا أنه لا خير في الكافر. والمعادلة " بأم " لا تكون إلا بين شيئين متقاربين في المدح أو في الذم، ولا قرب بين الكافر والمؤمن في مدح ولا ذم. الذم كله للكافر، والمدح كله للمؤمن. فإنما جاءت هذه الآية وما أشبهها خطاباً للكفار، لأنهم كانوا يدعون أن فيهم خيراً

وفضلاً. فخوطبوا على المناقضة لدعواهم. ثم قال تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، هذا وعيد وتهدد وليس بإباحة لهم أن يعملوا ما يريدون، إنما هو تواعد وإعلام أن الله D ذو خبر وعلم بما يعملون لا يخفى عليه شيء. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ}، يعني القرآن. وخبر " إنَّ " عند الكسائي قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل " إنَّ " وهو قوله: " أفمن يلقى في النار " ونحوه. وقيل: الخبر: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}. وقيل: الخبر محذوف، والتقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم خسروا وكفروا بمعجزه، ونحوه. ودل على هذا اللفظ قوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (وهذا مذهب الفراء. وقيل: التقدير في المحذوف: أهلكوا.

ومعنى الآية: إن الذين جحدوا بهذا القرآن وكذبوا فيه خسروا أخراهم، وإن القرآن لكتاب عزيز) بإعزاز الله D إياه وحفظه له من كل من أراد به تبديلاً أو تحريفاً. قال قتادة: وإنه لكتاب عزيز أعزه الله لأنه كلامه وحفظه من الباطل. وقيل: معنى النفي في (هذه: التكثير). والمعنى " لا يأتيه الباطل البتة. وقال الطبري: معناه: لا يقدر (ذو باطل بكيده بتغيير ولا تبديل، وذلك هو الإتيان من بين يديه. ومعنى: " ولا من خلفه "، أي: ولا يستطيع ذو باطل أن يلحق فيه) ما ليس فيه. وقيل: المعنى: لم يتقدمه كتاب يبطله، ولن يأتي بعده كتاب يخالفه. وهذا قول حسن. ثم قال تعالى {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، أي: من عند ذي حكمة بتدبيره عباده، محمود على نعمه على خلقه. ثم قال تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ}.

هذا تسلية للنبي A على ما قابله به المشركون من قولهم: كذاب وساحر ومجنون ونحو ذلك. فأعلمه الله جل ذكره أن الذي قابلوه به من التكذيب والقول القبيح قد قابلت الأمم قبله رسلها بمثل ذلك فصبروا حتى جاء نصر الله فكذلك يجب عليك يا محمد أن تصبر. وقيل: عزيز، أي قاهر لا يقدر أحد أن يأتي بمثله. وقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} قال / قتادة: الباطل الشيطان، لا يستطيع أن ينتقص منه حقاً، ولا يزيد فيه باطلاً ". وقال السدي: الباطل: الشيطان، لا يستطيع أن ينتقص منه حقاً، ولا يزيد فيه باطلاً ". وقال السدي: الباطل: الشيطانن لا يستطيع أن يزيد فيه حرفاً ولا ينقص. وقال الضحاك وابن جبير: " معناه: لا يأتيه كتاب من قبله فيبطله ولا من بعده ". فيكون الباطل على هذا القول بمعنى: (البطول). وفاعل يقع بمعنى المصدر مثل: عافاه الله عافية.

وقيل: المعنى: لا يأتيه الباطل من بين يديه، أي: من قبل أن يتم نزوله، ولا من خلفه، أي: ولا من بعد تمام نزوله. وقيل: معنى " من بين يديه ": بعد نزوله كله " ولا من خلفه " قبل تمامه. وقيل: المعنى: لا يأتيه الباطل من قبل أن ينزل، لأن الأنبياء قد بشرت به فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك. ولا من خلفه بعد أن أنزل. قال قتادة: في الآية: إن الله جل ذكره يعزي نبيه A بهذا. ومثله قوله: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]. ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ}، أي: لذو ستر على ذنوب التائبين من الكفر، العاملين بأمره، المطيعين له. {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لمن دام على كفره. فالناس يلقون الله تبارك وتعالى على طبقات أربع: مطيع مؤمن، يدخله الجنة، وتائب مؤمن، يقبل توبته ويدخله الجنة؛ ومصر على المعاصي، وهو في مشيئة الله D إن شاء عاقبة، وإن شاء عفا عنه؛ وكافر يدخله النار حتماً، لقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48].

هذا مذهب أهل السنة والاستقامة فاعرفه واعتقده ولا تعرج عنه! فله لا إله إلا هو أن يفعل في أهل الذنوب ما شاء من مغفرة أو معاقبة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون كما كان له في الأزل أن يخلق خلقاً للنار وبعملها يعملون، وخلقاً للجنة ويعملها يعملون: قال جل ذكره: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179]. أي: خلقناهم لها. ثم قال تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}، أي: ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً (لقال قومك: يا محمد هلا بينت آياته فنفهمهن أقرآ، أعجمي ونبي عربي. أي: لكانوا يقولون ذلك إنكاراً له. قال ابن جبير: معناه: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: القرآن أعجمي ومحمد عربي). وقال السدي: معناه: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: نحن قوم عرب، ما لنا وللعجمة.

وهذا كله على قراءة من قرأ بالاستفهام في " أعجمي ". فأما على قراءة من جعله خبراً " فمعناه: لو جعلنا القرآن أعجمياً لقالوا: هلا فصلت آياته، فجاء بعضها عربي وبعضها عجمي، (فنحن نعرف العربي) ويعرف العجم العجمي. قال ابن جبير: قالت قريش: هلا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً فأنزل الله D " لقالوا {لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}. والأعجمي: المنسوب إلى اللسان الأعجمي، يقال: رجل أعجمي إذا كان لا يفصح - كان من العرب أو العجم، ويقال رجل عجمي إذا كان من الأعاجم فصيحاً كان أو غير فصيح. ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ}، أي: قل يا محمد: هذا القرآن للذين آمنوا به وصدقوا بما فيه " هدى "، أي: بيان للحق " وشفاء "، (أي: دواء)

من الجهل. ثم قال تعالى: {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ}، أي: والذين لا يؤمنون به وبما في آذانهم صمم عن استماع لا ينتفعون به. {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، أي: وهذا القرآن على قلوب المكذبين به عمى لا يبصرون حججه وما فيه من المواعظ. قال قتادة: عموا وصموا عن القرآن، فلا ينتفعون به، ولا يرغبون فيه. وقال السدي: عميت قلوبهم عنه. قال ابن زيد: (العمى: الكفر). وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاص: وهو عليهم عم " على

45

فعل. ثم قال تعالى {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}. هذا تشبيه لبعد قلوبهم عن قبول الحق والموعظة. والعرب: تقول للرجل البعيد الفهم: " إنك لتنادي من بعد " ويقولون للفهيم: إنك لتأخذ الأمر من قريب. قال مجاهد: معناه " بعيد من قلوبهم "، وقاله الثوري وقال ابن زيد: ضيعوا أن يقبلوا الأمر من قريب (ويتوبون ويؤمنون فيقبل) منهم فماتوا. وقال الضحاك: هذا يوم القيامة، ينادون بأشنع أسمائهم ليفضحوا على رؤوس الخلائق / فيكون أعظم في توبيخهم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} - إلى قوله -

{فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ}. والمعنى: ولقد أعطينا موسى التوراة كما آتينا يا محمد القرآن فاختلف بنو إسرائيل في العمل بما في التوراة كما اختلف قومك في الإيمان بما جئتم به. {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} يا محمد فيمن كفر (بك، وهو أنه تقدم في علمه وقضائه تأخير عذابهم إلى يوم القيامة. {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لجاءهم العذاب فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه فيهلك المبطلين، وينجي المؤمنين. قال السدي: أخروا إلى يوم القيامة. قال الزجاج: " الكلمة: وعدهم بالساعة، قال (الله تعالى {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] ". ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ}، أي: وإن الفريق المبطل منهم لفي (شك مما قالوا) فيه مريب يريبهم قولهم فيه، لأنهم قالوه بغير ثبت وإنما قالوه ظناً. ثم قال تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}، أي: من عمل صالحاً في

هذه الدنيا فلنفسه عمل لأنه يستوجب من الله في الميعاد الجنة والنجاة من النار، ومن عمل بمعاصي الله (فعلى نفسه جنى) لأنه أكسبها بذلك سخط الله. ثم قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لِّلْعَبِيدِ} أي: وما ربك يا محمد يحمل ذنب مذنب على غير مكتسب بل لا يعاقب أحداً إلا على جرمه. ثم قال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة}، (أي: إلى الله يرد العالمون به علم الساعة)، لأنه لا يعرف متى قيامها غيره. ثم قال تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا}، أي: (وما يظهر) من ثمرة (الشجرة من الموضع) الذي هي مغيبة فيه إلا بعلمه. قال السدي: من أكمامها: من طلعها. قال المبرد: هو ما يغطيها. وواحد الأكمام. كم. ومن قال في الجمع أكمة قال في الواحد كمام. ثم قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}، (أي: ما تحمل من ولد حين

تحمل، ولا تضع حملها حين تضع إلا بعلمه)، فلا شيء يخفى عليه من جميع أمور خلقه. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي}، أي: واذكر يا محمد يوم ينادي الله D هؤلاء المشركين فيقول لهم أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتي؟ والمعنى: أين شركائي على قولكم. ثم قال تعالى: {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ}، أي: أجابوه عن سؤالهم لهم، فقالوا: أعلمناك ما منا من شهيد أن لك شريكاً. ثم قال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ}، أي: وضل عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يدعونها في الدنيا فأخذ بها عن طريقتهم فلم تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله سبحانه. ثم قال تعالى: {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ}، أي: وأيقنوا أنه لا محيص لهم من عذاب الله D ولا ملجأ منه جلت عظمته. قال أبو عبيدة: يقال: حاص يحيص إذا حاد. وقيل: " المحيص: المذهب الذي ترجى فيه النجاة ".

وأجاز أبو حاتم الوقف على " وظنوا " يجعل الظن بمعنى الكذب، أي: قالوا: آنذاك ما منا من شهيد، وكذبوا في قولهم، بل كانوا يدعون له شريكاً. تعالى الله عن ذلك. والوقف عند غيره على " محيص " لأن المعنى: أيقنوا أنه لا ينفعهم الفرار. ثم قال تعالى {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير}، أي: لا يسأم الكافر من دعائه بالخير ومسألته إياه ربه D. والخير هنا: المال وصحة الجسم، (فهو لا يمل) من طلب ذلك والاستزادة منه. {وَإِن مَّسَّهُ الشر}، أي: ضر في نفسه أو جهد في معيشته. {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ}، أي: فهو يئوس من روح الله D وفرجه، قنوط من رحمته، أي: لا يؤمل أن يكشف عنه ذلك. ويقال: إن هذه الآية نزلتل في الوليد بن المغيرة.

وفيه نزلت {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا} - الآية إلى قوله - {للحسنى} وقيل نزل ذلك كله في عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف من كفار قريش. وقال السدي وغيره: الإنسان هنا: الكافر. وفي قراءة عبد الله " من دعاء بالخير ". ثم قال تعالى جل ذكره: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي}، أي: ولئن كشفنا عنه الشر الذي نزل به ليقولن هذا لي عند الله لأن الله راض عني وعن عملي.

قال مجاهد: " ليقولن هذا لي، بعملي. فأنا محقوق بهذا ". {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً}: شك الكافر في قيام الساعة. ثم قال: {وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى}، أي: إن كان ثم بعث وحشر - على طريق الشك - فلي الحسنى عند ربي، أي: لي عنده - إن حشرت بعد موتي - غنى ومال. فالمعنى أنه قال: لست أؤمن بالبعث ولا أصدق به، فإن كان الأمر على خلاف ذلك وبعثت بعد موتي، فلي عند ربي مال وغنى أقدم عليه. ثم قال تعالى {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ}، أي: فلنخبرهم بما قصوا / من (الأباطيل وما عملوا من المعاصي). {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} على فعلهم وهو النار، والخلود فيها، لا يموتون (ولا يحيون). ثم قال تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}، أي: وإذا كشفنا الضر

52

والضيق عن الكافر أعرض عن ما جاءه من عند الله D ولم يؤمن به وبعد من الإجابة إلى ما دعي إليه. ومعنى " بجانبه ": قال السدي: أعرض: صد بوجهه، ونأى بجانبه: تباعد عن القبول. ثم قال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ}، أي: وإذا مسه الضر والفقر والجهد ونحوه فهو ذو دعاء (كثير إلى ربه. فأن الرجل إذا كان في نعمة تباعد عن ذكر الله ودعائه، فإذا مسه الشر فهو ذو دعاء) عريض، أي كثير. قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} - إلى آخر السورة. أي: قل يا محمد للمكذبين للقرآن، أرأيتم إن كان هذا القرآن الذي كذبتم به ولم تؤمنوا به من عند الله ثم كفرتم به ألستم في فراق للحق وبعد من الصواب. وهو معنى قوله: {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} إلا أنه جعل الخبر في مكان التقدير وفي الكلام حذف، والتقدير: ثم كفرتم به أمصيبون أنتم أم ضالون. ثم قال تعالى ذكره: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ}، أي: سنرى هؤلاء المكذبين بما أنزلنا آياتنا في الآفاق، يعني: وقائع النبي A بالمشركين.

قال السدي: هي ما يفتح الله للنبي عليه السلام وقوله: {وفي أَنفُسِهِمْ}، يعني: ما يفتح للنبي A من مكة وهو اختيار الطبري. وقال ابن زيد: آياتنا في الأفاق يعني: في السماوات ونجومها وشمسها وقمرها. وقيل: معنى " وفي أنفسهم " هو: سبيل الغائط والبول وقيل المعنى: سيرون ما أخبرهم به (النبي A أنه سيكون من فتن وفساد وغلبة الروم فارس، وغير ذلك مما أخبرهم به) أنه سيكون لهم حتى يبين لهم أن كلما أخبرهم به أنه هو الحق. وقيل: " المعنى: سنريهم آثار صنعتنا في الآفاق الدالة على أن لها صانعاً حكيماً، وفي أنفسهم من أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن بلغوا وعلقوا حتى يتبين لهم أن الله هو الحق لا ما يعبدون من دونه ".

وعن ابن جبير أن معنى " في الآفاق " هو ظهور النبي A على الناس سوى قريش، وفي أنفسهم: ظهوره على قريش، وهو اختيار النحاس. وقيل معنى الآية: سنريهم آثار من مضى من الأمم ممن كذب الرسل من قبلهم وآثار خلق الله D في البلاد، وفي أنفسهم، يعني: أنهم كانوا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ثم كسيت لحماً، ثم نقلوا إلى التمييز والعقل. وذلك كله (يدل على) توحيد الله D وقدرته حتى يعلموا أن ما أنزلنا على محمد A حق. ثم قال تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، أي: أو لم يكف ربك أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه لا يعزب عنه علم شيء منه. و " إنه " في موضع رفع بدل من " ربك " على الموضع. ويجوز أن يكون في موضع خفض على البدل من " ربك " على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع " أن " نصباً على معنى الآية.

ومعنى الاية: أو لم يكف ما دل من قدرته وحكمته، ففي ذلك كفاية. (وقيل: المعنى: أو لم يكف ربك في معاقبة الكفار وقيل: المعنى: أو لم (يكف ربك يا محمد) أنه شاهد على أعمال هؤلاء الكفار ففي ذلك كفاية لك. ثم قال تعالى {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ}، أي: في شك من البعث بعد الموت، والمجازاة على الأعمال. ثم قال تعالى {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيط}، أي: ألا إن الله محيط بعلمه بكل شيء خلقه، لا يعجزه علم شيء منه.

الشورى

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشورى سورة عسق مكية قوله تعالى: {حم* عسق * كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ} إلى قوله: {العزيز الحكيم}. قد تقدم إعراب أوائل السور وتفسيرها. وقد روى عطاء والضحاك كلاهما عن ابن عباس في تفسير {حم* عسق} أن معناه: قذف ومسخ وخسف وسنون، الله أعلم ما سيكون فيها. وقوله: {كَذَلِكَ يوحي} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ولا موضع للكاف الثانية، واسم الله رفع " بيوحي ".

وقيل: معنى الآية: إنه لم ينزل كتاب من عند الله إلا وفيه حم عسق. فالمعنى على هذا: كالذي أوحي إليك من هذه السورة، أوحي إلى الذين من قبلك من الرسل. وهذا مذهب الفراء. وقرأ ابن كثير: {كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ} (على ما لم) يسم فاعله. فيكون الوقف على هذه القراءة: {مِن قَبْلِكَ} ثم يبتدئ: {الله العزيز الحكيم} على الابتداء، والخبر، وإن شئت على الابتداء والصفة، أو يكون {لَهُ مَا فِي السماوات} [الشورى: 4] الخبر. وروى الشموني عن أبي بكر: " نُوحي " بالنون. فتقف أيضاً على

{مِن قَبْلِكَ}، ثم يبتدئ " الله " على ما قدر ذكرنا. وقد يجوز على قراءة ابن كثير أن يرتفع على فعل مضمر كأنه قيل: من يوحي؟ فقيل: يوحي الله كقول الشاعر: لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لِخُصُومَةٍ. كأنه قال: ليبك يزيد. قيل: من يبكيه؟ / قيل: يبكيه ضارع لخصومة. قال قتادة: حم عسق اسم من أسماء الله. وروى حذيفة أنها نزلت في رجل يكون من بني هاشم من أهل بيت

ابن عباس يقال له عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبنى عليه مدينتان، يشق النهر بينهما شقا، فإذا أَذِنَ الله في زوال ملكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مدينة مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت فما هو إلا بياضُ يومها ذلك حتى يجمع الله فيها كل جبار منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً فذلك قوله: {حم* عسق}، يعني: عزيمة (من الله) وقضاء. سين، يعني: سيكون. قاف، يعني: واقعاً بهاتين المدينتين.

4

وروى عن ابن عباس أنه قرأ " حم سق " بغير سين، وكان يقول: إن السين كل فرقة كائنة، وأن القاف كل جماعة كائنة. ويقول: إن علياً Bهـ إنما كان يعلم الفتن بها. وفي مصحف عبد الله: {حم* عسق} بغير عين كقراءة ابن عباس. ومعنى {العزيز}، أي: العزيز في انتقامه من أعدائه {الحكيم}: في تدبيره خَلْقَه. قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلي العظيم}، إلى قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: له ملك ما فيها من جميع الأشياء كلها. {وَهُوَ العلي} أي: ذو علو وارتفاع على كل الأشياء، ارتفاع مُلْكٍ وقُدْرَةٍ وسُلطانٍ، لارتفاع انتقالٍ.

{العظيم}: وله العظمة والكبرياء. ثم قال تعالى: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ}، أي: تكاد تشقق من فوق الأرضين من عظمة الرحمن وجلالته. هذا قول جميع المفسرين. وقيل: المعنى: تكاد السموات يتشققن من أعلاهن من عظمة الله فيكون الضمير في {فَوْقِهِنَّ} (على القول) الأول يعود على الأرضين. وعلى هذا القول الثاني يعود على السماوات. وكان علي بن سليمان يقول: الضمير في فوقهن للكفار، أي: من فوق الكفار. وهذا قول بعيد، لا يجوز في المذكرين من بنى آدم: " رأيتهن ". وقيل: المعنى: يكاد السماوات يتفطرن من فوق الأرضين من قول المشركين

وكفرهم. {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تعظيما لله سبحانه وتعجباً من مقالة المشركين وهم مع يستغفرون لمن في الأرض، يعني المؤمنين. ثم قال تعالى: {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: يُصَلُّونَ بطاعة ربهم شكراً له وجلالةً وهيبةً، هذا قول الطبري. وقال الزجاج: معناه: والملائكة يُعظمون الله وينزهونه عن السوء. ثم قال تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض}، أي: ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين. وهذا اللفظ ومعناه الخصوص قاله السدي وغيره. ولا يجوز أن يكون (عاما فيدخل) في ذلك الكفار لأنه تعالى قد قال:

{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] فغير جائز أن يستغفر لهم الملائكة. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: هي منسوخة (نسختها الآية) التي في سورة المؤمن. قوله تعالى جل ذكره: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7]. وهذا عند أهل النظر لا يجوز فيه نسخ لأنه خبر، ولكن تأويل قول وهب ابن منبه في هذا أنه أراد أن هذه الآية نزلت على نسخ تلك الآية.

ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم}، أي: الغفور لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعذبهم بعد توبتهم. وأجاز أبو حاتم الوقف على " من فوقهن ". وذلك جائز إن جعلت ما بعده منقطعاً منه. فإن جعلته في موضع الحال لم يجز الوقف دونه. ثم قال تعالى: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ}، أي: والذين اتخذوا يا محمد من قومك آلهة يعبدونها من دون الله، الله حفيظ لأعمالهم، مُحْصِيهَا عليهم ومُجازيهم بها يوم القيامة. {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، أي: ولست يا محمد بالوكيل عليهم تحفظ أعمالهم، إنما أنت مُنْذِرٌ ومُبَلِّغٌ ما أُرسِلت به إليهم، فعليك البلاغ وعلينا الحساب. ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا}، أي: أوحينا إليك يا محمد قرآناً بلسان العرب لتنذر عذاب الله أهل أم القرى، وهي مكة. سميت بذلك لان الأرض دحيت منها.

وقيل: سميت (أم القرى لأنها أول ما عُظِّمَ وِشُرِّفَ من القرى. وقيل: سميت) بذلك لأنها أول ما وُضِعَ. كما قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96]. وقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا}، أي: ومن حول أم القرى من سائر الناس. ثم قال تعالى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع لاَ رَيْبَ فِيهِ}، أي: وتنذرهم عقاب الله الكائن في يوم الجمع لا شك فيه، وهو يوم القيامة. وهذا في الحذف مثل قوله تعالى / {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، أي: يخوفكم بأوليائه، فكذلك المعنى: وتنذرهم عقاب الله الكائن يوم الجمع، ثم حذف. فيكون " يوم " على هذا نصباً على الظرف. ويجوز أن يكون النصب على المفعول به كما قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} [مريم: 39] وكما قال: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} [إبراهيم: 44] فكل هذا انتصب على أنه مفعول به

وليس بظرف للإنذار، لأن الإنذار لا يكون يوم القيامة إنما الإنذار في الدنيا. ثم قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير}، أي: منهم فريق في الجنة وهم المؤمنون، وفريق في السعير - وهي جهنم - وهم الكفار. وسميت جهنم بالسعير لأنها تسعر على أهلها. وروي عن النبي A أنه: " خَرَجَ يَوْماً عَلَى أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: هَلْ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: لاَ، إِلاَّ اَنْ (تُخْبِرَنَا يَا رَسُولَ الله). قَالَ: هَذَا كِتَابٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الجَنَّةِ وأَسْمَاءُ آبِائِهِمْ وَقَبَائِلِهِم، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِم وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ اَبَداً (وَهَذَا كِتَابُ أَهْلِ النَّارِ بِأَسْمِائِهِمْ وَأَسْمَاءِ أبَائِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِم فَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُم أَبَداً) فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيُّ A: فَفيمَ العُمُلُ إِذَا كَانَ هَذَا أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله A: بَلْ سَدَّدُوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمضلٍ، وَإِنَّ صَاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنْ عَمِلَ أَيَّ عَمَلٍ. فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله A بِيَدِهِ فَنَبَذَهُمَا. فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الخَلْقِ، فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ، وَفَرِيقُ فِي السَّعِيرِ قَالُوا: سُبْحَانَ الله،

فَلِمَ نَعْمَلُ وَنَنْصَب؟! فَقَالَ رَسُولُ الله: العَمَلُ إِلَى خَوَاتِمِهِ ". وكان ابن عمر يقول: " إن الله جل ثناؤه لما خلق آدم نفضه نفض المزود فأخرج منه كل ذرية، فخرج أمثال النَّغَفِ فقبضهم قبضتين، وقال: شقي وسعيد، ثم ألقاهما، ثم قبضهما فقال: فريق في الجنة وفريق في السعير ". ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}، أي: على دين واحد. {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ}، أي يوفقه إلى الإيمان والطاعة فيرحمه. ثم قال: {والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}، أي: والكافرون ما لهم يوم القيامة من ولي يتولى معونتهم، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله سبحانه.

10

ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ}، أي بل اتخذ هؤلاء المشركون من دونه أولياء يعبدونهم من دونه. {فالله هُوَ الولي}، أي: هو الولي لأوليائه (لأنه يضر وينفع) {وَهُوَ يُحْيِي الموتى}: (بعد موتهم يوم القيامة. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، أي: قادر على إحياء الموتى وعلى غير ذلك مما يريد. قوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} إلى قوله: {مِّنْهُ مُرِيبٍ}، أي: وما تنازعتم أيها الناس فيه من شيء فحكمه إلى الله، أي: هو يقضي فيه بما يشاء إما بنص في كتابه، وإما بدليل على النص. ثم قال تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}، أي: ذلكم الذي ذكرت لكم هو ربي وإلهي وإلهكم. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في أموري. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، أي: وإليه أرجع في أموري، وأتوب من ذنوبي. ثم قال: {فَاطِرُ السماوات والأرض}، أي: هو (خالقهما ومبتدعهما). {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}، أي: زوجكم ربكم من أنفسكم أزواجاً،

يعني: خلق حواء من ضلع آدم. ثم قال تعالى: {وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} يعني: من الضأن اثنين، ومن المَعْزِ اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين. ثم قال: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (أي: بخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، وبعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام). قال مجاهد: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (فيه، نسل بعد نسل من الناس والأنعام ". وقال السدي: يذرؤكم: يخلقكم. وقال ابن عباس: " جعل الله فيه معيشة تعيشون بها ". قال قتادة: يذرؤكم فيه، قال: " عيش من الله جل ثناؤه يعيشكم فيه ". وقال الزجاج: " يذرؤكم فيه أي: يكثركم فيه " (ف " في ") عنده في موضع الباء.

والمعنى على قوله: يكثركم، يخلقكم أزواجاً. وقال القتبي: يذرؤكم فيه، أي: في الزوج. (فالمعنى: يخلقكم في بطون الإناث. وقال علي بن سليمان: " يذرؤكم: ينبتكم من حال إلى حال ". وحكى أبو زيد) وغيره عن العرب، ذرأ الله الخلق يذرؤهم، أي: خلقهم. ثم قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الكاف في " كمثله " زائدة للتوكيد لا موضع لها. وموضع " كمثله كله موضع نصب خبر " ليس ". وقيل المعنى: ليس هو شيء، ولكن دخلت " المثل " في الكلام للتوكيد. ثم قال: {وَهُوَ السميع البصير}، أي: السميع لما ينطق به من خلقه من قول،

البصير بأعمالهم، لا يخفى عليه منها شيء. ثم قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض}، أي: له مفاتيح خزائن السماوات والأرض. وواحد المقاليد إقليد وجمع على مقاليد على غير قياس كمحاسن، والواحد حسن. وقيل: واحدها مقليد. فهذا على لفظ الجمع. فتحقيق المعنى: بيده خزائن الخير والبشر. فما يفتح من رحمته فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده /. قال مجاهد: مقاليد: مفاتيح بالفارسية. وقوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ}، أي: يوسع الرزق على من يشاء من عباده، ويضيق على من يشاء، يفعل ما يريد، ويعلم مصالح خلقه فيوسع على من لا تصلح حاله إلا (بالتوسيع) (ويضيق على من لا تصلح حاله إلا بالتضييق). {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، أي عالم بأحوال خلقه وما يصلحهم. ثم قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} (أي: بيَّن الله لكم أيها

الناس من الدين ما وصى به نوحاً) أن يعمله. {والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} يا محمد، أي: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد، وهو كتاب الله D. ثم قال تعالى: {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين}، أي: وشرع لكم من الدين أن أقيموا الدين. " فأن " في موضع نصب على البدل من " ما " في قوله: {مَا وصى بِهِ نُوحاً}. فالتقدير: شرع لكم أن أقيموا الدين. ويجوز أن يكون " أن " في موضع (رفع على معنى هو: أن أقيموا الدين. ويجوز أن تكون في موضع خفض على البدل من الهاء في " به ") قال أبو

العالية: الذي وصى به نوحاً لله D، وعبادته لا شريك له. قال الحكيم: جاء نوح بالشريعة وتحريم الأمهات والبنات والأخوات. وقال قتادة: جاء نوح بالشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام. وقوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين}: معناه: اعملوا به على ما شرع لكم وفرض عليكم. وقال السدي: اعملوا ولا تتفرقوا فيه (فتختلفوا فيه) كما اختلف الأحزاب من قبلكم. فتحقيق المعنى في [الآية: {شَرَعَ لَكُم}] أن أقيموا [لله الدين] الذي

ارتضاه لأنبيائه، ولا تتفرقوا فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض. وهذا الدين هو الإسلام. ومذهب أكثر المفسرين أن نوحاً A أول من جاء بالشريعة من تحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات. ثم قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}، أي: عظم يا محمد على المشركين من قومك ما تدعوهم إليه من الإخلاص لعبادة الله D، والإقرار له بالألوهية، والبراءة مما سواه من الآلهة. وقال قتادة: كبر على المشركين شهادة ألا إله إلا الله. ثم قال تعالى: {الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ}، أي: يصطفي لدينه من يشاء من خلقه، ويختار لولايته ودينه من أحب، قال السدي: يستخلص من يشاء، وقال أبو العالية: يخلص من الشرك من يشاء. والتقدير: الله يجتبي إليه من يشاء أن يجتبيَه. ثم قال تعالى: {ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}، أي: ويوفق للعمل بطاعته من يتوب إليه من الشرك. وقوله: {وعيسى} وقف إن جعلت " أن أقيموا " في موضع رفع على الابتداء،

فإن جعلت " أن " بدلاً مما قبله لم تقف إلا على {فِيهِ} أو على: {إِلَيْهِ}. ثم قال تعالى: {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ}، أي: وما تفرق المشركون في أديانهم فصاروا أحزاباً إلا من بعد ما جاءهم العلم، أي: إن الذي جاءتهم به الأنبياء هو الدين الحق، فتفرقوا من أجل البغي (من بعدما جاءهم الحق. وقيل: المعنى: ما تفرق قريش عن الإيمان بما جئتم به يا محمد إلا من أجل البغي عليك) من بعد ما جاءهم القرآن دلالة على صحة ما جئتهم به. وقيل: معنى: بغياً بينهم، أي: بغياً من بعضهم على بعض وحسداً وعداوة على طلب الدنيا. وقيل: المعنى: ما تفرق مشركو قريش إلا من بعد ما جاءهم العلم وذلك أنهم كانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي. فلما بعث إليهم محمد A كفروا به. وهو مثل قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم. .} [فاطر: 42] الآية. ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ}، أي: لولا أن

الله D أخر عذابهم - في سابق علمه - إلى يوم القيامة لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فيهلك الكافر وينجي المؤمن. قال الزجاج: الكلمة: {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46]. قال السدي: يوم القيامة. وقال الطبري: معناه: لولا قول سبق: يا محمد من ربك إلا يعاجلهم بالعذاب لقضي بينهم، ولكنه أخر ذلك إلى يوم القيامة. ثم قال: {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ}، أي: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعد هؤلاء المختلفين في الحق لفي شك منه، يعني: اليهود والنصارى. والكتاب هنا: التوراة والإنجيل. ومعنى: {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} أي: لفي شك من الدين الذي وصى الله D به نوحاً وأوحاه إليك يا محمد وأمرك بإقامته مريب.

15

وقيل، المعنى: إن اليهود والنصارى الذين أورثت قريش الكتاب من بعدهم، أي: من بعد اليهود والنصارى - لفي شك منه، أي: من القرآن. وقيل: من محمد A: فالشك على هذا لليهود والنصارى. وقيل: هو لقريش، الذين أورثوا الكتاب من بعد اليهود والنصارى وهم في شك من القرآن. قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع واستقم} إلى قوله: {لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}، أي: فإلى ذلك الدين يا محمد فادع الناس واستقم. فاللام في " فلذلك " / بمعنى " إلى " كما قال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5]، أي:

إليها. {واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} أي: واستقم يا محمد على العمل بذلك الدين، واثبُت عليه كما أمرك ربك. (وقيل: " ذلك " بمعنى: هذا. والتقدير: فلهذا القرآن فادع الناس يا محمد واستقم على العمل به كما أمرك ربك. وقيل: اللام) على بابها، والمعنى: ومن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع إلى عبادة الله واستقم على (ما أمرك) ربك. وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير فيه: كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع، أي فإلى ذلك (الدين فادع) عباد ابيه واستقم كما أمرت. ثم قال: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ}، أي: ولا تتبع أهواء المشركين في الحق الذي شرعه الله لكم من الدين.

{وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} أي: وقل يا محمد صَدَّقْتُ بما أنزل الله من كتاب، كائنا ذلك الكتاب ما كان لا أُكَذِّبُ بشيء منه، كما كذبتم أيها المشركون ببعضه، وصدقتم ببعضه. ثم قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}، أي: وأن أسير فيكم أجمعين بالحق الذي بعثني (الله به). قال قتادة: " أُمِرَ رسول الله A أن يعدل، فعدل، حتى مات A. والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ المظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد " وروي عن النبي A أنه قال: " ثَلاثَ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَنْجَنَهُ: القَصْدُ فِي الْفَاقَةِ وَالغِنَى، والْعَدْلُ فِي الْرِّضَى والغَضَبِ، وَالخَشْيَةُ فِي الْسِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ. وَثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ أَهْلَكْتُهُ: شُحٌّ مَطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ. وَأَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهُنَّ فَقَدْ أُعطِي خَيْرَ الْدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: لِسَانٌ ذاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَبَدَنٌ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُوَافِقَةٌ ".

ثم قال تعالى: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}، أي: مَالِكُنَا ومَالِكُكُم. وهذا كله خطاب لجميع الأحزاب من أهل الكتابين. {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، أي: لنا ثواب ما اكتسبنا من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها. {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}، أي: " لا خصومة ": قاله مجاهد وابن زيد. وقيل: (المعنى: لا خصومة بيننا) لأن الحق قد تَبَيَّنَ لَكُمْ صوابه. فاحتجاجكم إنما هو عناد في أمر قد تبين لكم صوابه (فاحتجاجكم إنما هو في فيما قد علمنا أنكم) تعلمونه وتنكرونه بعد علمكم بصحته. ثم قال تعالى: {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير}، أي: يجمع بيننا في موقف يوم يوم القيامة فيقضي بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه، وإليه مصيرنا أجمعين. ثم قال تعالى: {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ}، أي: والذين يخاصمون في دين الله D الذي بعث به محمداً A، من بعد ما استجيب له الناس ودخلوا فيه.

{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي: خصومتهم باطلة ذاهبة عند ربهم. {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} من ربهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرة، وهو عذاب النار. وقيل المعنى: والذين يخاصمون الناس في دين الله، من بعد مت استجيب للنبي. فتكون " الهاء " للنبي A في هذا القول. وهي لله D في القول الأول. ومعنى: استجيب له - في هذا القول - استجيب دعاؤه، لأنه دعا على أهل بدر فاستجيب له، ودعا على أهل مكة ومضر. بالقحط فاستجيب له، ودعا للمستضعفين أن ينجيهم الله من قريش فاستجيب له في أشباه لهذا. وقال مجاهد: هم قوم من الكفار خاصموا المؤمنين في وحدانية الله سبحانه من بعدما استجيب له المؤمنون.

وذكر الطبري أن هذه الآية " نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب النبي A في دينهم وطعموا أن يصدوهم عنه إلى الكفر "، وهو قول ابن عباس. وقال قتادة: نزلت في اليهود والنصارى، قالوا: ديننا قبل دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم. ثم قال: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان}، أي: الله الذي أنزل هذا الكتاب - يعني: القرآن - بالحق وأنزل الميزان. قال مجاهد وقتادة: الميزان: العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف بحكم الله. ثم قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ}، أي: وأي شيء يعلمك يا محمد لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب. وفي الكلام معنى التهديد والتخويف لمن أنزل عليه القرآن - وهو النبي A وأمته. وذكر " قريب " و " الساعة " مؤنثة على طريق النسب.

وقيل: ذكر ليفرق بينه إذا كان من المسافة والزمان، وبينه إذا كان من النسب والقرابة. وقال الزجاج: " هو تأنيث ليس بحقيقي فحمل على المعنى. والتقدير لعل البعث قريب ". وقيل التقدير لعمل مجيء الساعة قريب، ثم حُذف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. ثم قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي: يستعجلك بمجيئها يا محمد الذين لا يؤمنون بها ينكرون مجيئها، يظنون أنها غير جائية، وذلك قولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك: 25]. فهم يسألون عن حدوث كونها على جهة التكذيب لمجيئها. والذين آمنوا بها، وعلموا أنها ستأتي مشفقون منها، أي: وجلون خائفون من مجيئها لصحة وقوع ذلك عندهم وكونه، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها. {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق}، أي: ويوقنون أن مجيئها حق يقين. ثم قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة}، أي: يجادلون الناس فيها أنها لا تقوم.

19

{لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ}، أي: لفي جور عن الصواب، بعيد عن الحق، لأنهم كفروا معاندة ودفعاً للحق. قوله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} إلى قوله {غَفُورٌ شَكُورٌ}، أي: والله ذو لطف بعباده، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقتر على من يشاء. {وَهُوَ القوي} لا يغلبه غالب. {العزيز} في انتقامه من أعدائه. ثم قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ}. الحرث هنا: العمل. والمعنى: من كان يريد بعمله الآخرة نَزِدْ لَهُ في حرثه، أي: نوفقه ونضاعف له الحسنات. {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا}، (أي: ومن كان يريد بعمله الدنيا نؤته منها ما يريد، مثل دفع الآفات ونحوها ومثله قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18]. وقيل: المعنى: من كان يريد بفعله الخير ثناء أهل الدنيا تركناه وذلك، ولم يكن له في الآخرة من عمله نصيب.

وقيل نزلت في الغزو، والجهاد. والتقدير: من كان يريد بغزوه وجهاده الآخرة وثوابها نعطه ذلك ونزده، ومن كان يريد بذلك الغنيمة والكسب نزته منها، أي: نخلي بينه وبين ذلك. وكان النبي A لا يمنع المنافقين من أخذ الغنيمة ومن أجلها غزوا معه لا لله سبحانه. ففيهم (وفي أشباههم نزلت الآية) فتكون الآية على هذا القول مخصوصة. وقال طاوس: " من كان همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه (ولم ينل من الدنيا إلا مَا كُتِبَ له)، ومن كان همه الآخرة (جعل الله غناه بين عينيه)، ونور قلبه، وآتاه من الدنيا ما كتب الله له ".

وقال الطبري في معناها: من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في عمله الحسنى، فنجعل بالواحد عشراً إلا ما شاء ربنا من الزيادة، ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى، نرته منها ما قسمنا له وما كتب له منها. {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ}، أي: ماله من عمله ذلك في الآخرة حظ. وقال قتادة: معناه: من آثر آخرته على دنياه نزد له في أجره، ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيباً في الآخرة إلا النار، ولم نزده في الدنيا شيئاً إلا رزقاً قد فرغ منه. وروى الضحاك عن ابن عباس أن قوله: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا}: منسوخ في سورة " سبحان " بقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] وفيه

بُعْدٌ لأن الأخبار لا تُنسخ. ثم قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله}، أي: بل لهم شركاء اخترعوا لهم ديناً لم يأمر به الله سبحانه فعملوا به وقبلوه. وأضيف " الشركاء " إليهم لأنهم هم أحدثوا عبادتهم من دون الله سبحانه، فأشركوا بينهم وبين والله سبحانه في العبادة، تعالى الله على ذلك عُلُوَّا كبيراً. ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، أي: ولولا السابق من حكم الله D أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب، فَيَهْلَكُ الكافرون وينجو المؤمنون. (ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: مؤلم والظالمون): الكافرون بالله. ثم قال تعالى: {تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}، أي: ترى يا محمد الكافرين يوم القيامة خائفين من عقاب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الخبيثة أن يَحُلَّ بهم، وعقابه واقع بهم وَحَالٌ عليهم. ثم قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات}.

والروضة: المكان المونق الحسن، ولا تكون الروضة - عند بعض اللغويين - إلا في المكان المرتفع. ثم قال تعالى: {لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ}، أي: لهم عند ربهم - في الآخرة - كا تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم. {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}، أي: ذلك الذي أعطاهم الله من النعيم والكرامة هو الفضل الكبير علهيم من الله D. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، أي: ذلك الذي أخبرتكم به من الكرامة هو الذي يبشر الله به عباده الذين / آمنوا في الدنيا، وعملوا الأعمال الصالحات. ثم قال تعالى جل ذكره: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى}، أي: قل لهم يا محمد لا أسأل منكم جُعْلاً على ما جئتكم به من الهدى والقرآن والدعاء إلى الإيمان والنصيحة إلا أن (تُوَدُّونِي) لقرابتي منكم، وتصلوا رحمي بيني وبينكم.

قال ابن عباس: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبينهم وبين رسول الله A قرابة. وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: لما أبو (أن يتابعوه، قال يا قوم، إن أبيتم أن تتابعوني) فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصري منكم، وبهذا القول قال في الآية: عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي. قال قتادة: أمر رسول الله A ألا يسأل الناس على هذا القرآن أجراً إلا أن يَصِلُوا ما بينه وبينهم من القرابة - وكل بطون قريش بينهم وبينه قرابة -. فيكون المعنى: إلا أن تودوني لقرابتي منكم، (إني لا أسألكم من أموالكم شيئاً على ما جئتكم به، إنما أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم إن أبيتم) أن تؤمنوا بي.

وعن ابن عباس أنه قال: " قالت الأنصار: " فعلنا وفعلنا. . . فكأنهم فَخُرُوا. فقال بعض قرابة النبي A: لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك النبي A فأتاهم في مجالسهم، فقال: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمْ اللهُ بِي؟ قَالُول: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمْ اللهُ بِي؟ قَالُوا: بَلَي يَا رَسُولَ الله قَالَ: أَفَلاَ تُجِيِبُونِ؟ قَالُوا: مَا نَقُولُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أَلاَ تَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فَآوَيْنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ أَلَمْ يَخْذِلُوكَ فَنَصْرْنَاكَ. فَمَا زَالَ يَقُولُ حَتَّى جَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ. وَقَالُوا: أَمْوالُنَا وَمَا فِي أَيْدِينَا لله وَرَسُولِهِ قَالَ: " فَنَزَلَتْ: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} " الآية " وبهذا القول قال عمرو بن شعيب.

وهذا يدل على أن الآية مدنية. وعن ابن عباس أيضاً أن معنى الآية: قل يا محمد لقريش: لا أسألكم على ما جئتكم به أجراً إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالعمل الصالح. وقال الحسن: معناه: إلا التقرب إلى الله D والتودد إليه بالعمل الصالح. وقال الضحاك: الآية منسوخة نسخها قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47]. واختار الطبري قول من قال: معناه: إلا أن تودوني في قرابتي منكم. و {إِلاَّ المودة} في هذا استثناء منقطع. فالمعنى: لا أسألكم عليه أجراً لكن أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم. ثم قال: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً}، أي: ومن يعمل حسنة نضاعفها إلى عشر حسنات فأكثر.

24

{إِنَّ الله غَفُورٌ}، أي: غفور لذنوب عباده المؤمنين {شَكُورٌ} لحسناتهم يضاعفها لهم. قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله {إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} أي: أيقولون افترى على الله الكذب، أي: اختلقه من عند نفسه. {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ}، أي: يطبع على قلبك فتنسى هذا القرآن يا محمد، قاله قتادة والسدي. وقال الزجاج: معناه: فإن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم. وقيل: المعنى: (إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم. وقيل: المعنى: (إن يشأ الله - يا محمد - ختم على قلبك بالصدق واليقين والخير كله. وقد فعل بك ذلك وَمَحَا ضُرَّهُ من قلبك. وقيل: المعنى) فإن يشأ الله يمنعك من التمييز. ثم قال: {وَيَمْحُ الله الباطل}، أي: ويزيل الله الباطل على كل حال - وهو الشرك -

ولذلك رفعه، ولو عطفه على " ما يشاء " لم يجز لأنه يصير المعنى (ولو يشاء) الله يمح الباطل، وذلك لا يجوز لأنه تعالى يمحوه على كل حال. ويدل على رفعه أن بعده " ويحق الله الحق " بالرفع) وهذا احتجاج عليهم لنبوءة وصحة ما جاء به لا المعنى: إن الله يزيل الباطل ولا يثبته. فلو كان ما جاء به محمد A باطلاً لمحاه الله D وأنزل كتاباً آخر على غيره. وهكذا جرت العادة [في جميع المفترين أن الله سبحانه يمحو أباطلهم ويثبت الحق. ومعنى {وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ}، أي: ويثبت ما أنزل من كتابه على لسان] نبيه عليه السلام. وقيل: المعنى ويبين الحق. وقيل: معناه: يثبت الحق في قلبك بكلماته، أي: بالقضاء الذي قضاه لك قبل خلقك. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}، أي: إنه ذو علم بما في صدور خلقه وما

تنطوي عليه ضمائرهم. وقيل: إن معناه: لو حدثت نفسك يا محمد بأن تفتري علي كذباً لطبعت على قلبك، وأذهبت الذي أتيتك من وحيي، لأني أحق الحق وأمحو الباطل، فأخبر الله D الزاعمين أن محمداً A اختلق القرآن من عند نفسه - أنه لو فعل ذلك أو حدث به نفسه - ما أخبر في هذه الآية. وكان أبو عمرو بن العلاء يختار أن يقف القارئ على: " فإن يشأ الله يختم على قلبك "، لأن ما بعده مستأنف غير معطوف عليه ما ذكرنا، وهو اختيار الفراء. ثم قال: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} أي: والله الذي يقبل مراجعة عباده إلى الإيمان بعد كفرهم ويعفو عن ما تقدم لهم من السيئات، ويعلم ما يفعل / خلقه من خير وشر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيجازيهم على كل ذلك. ثم قال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: ويجيب الذين آمنوا ربهم

فيما دعاهم إليه، كما قال: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} [البقرة: 186]. قال المبرد: معناه: فليستدعوا الإجابة. فيكون " الذين " في موضع رفع على هذا التأويل. وقيل: المعنى: ويستجيب الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم، بمعنى: يستجيب الذين آمنوا إذا سألوه ودعوا إليه، ويزيدهم من فضله، هي زيادة (لم يسألوها)، إحساناً منه. وتكون اللام محذوفة من الذين، كما قال: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [المطففين: 3]. أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم. يقال: استجبت بمعنى: أجبته.

فيكون " الذين " في موضع نصب بـ " يستجيب " أنشد أهل اللغة. فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ. أي: لم يجبه. واستجاب، بمعنى: أجاب، مشهور في كلام العرب. وقيل: معنى الزيادة (أنه يزيدهم ما دعوه. وقيل: الزيادة التي ضمن) الله تعالى هنا هي أن يشفعهم في إخوانهم إذا شفعوا فيهم. وروى قتادة عن النخعي أنه قال في قوله: " ويستجيب الذين آمنوا " قال: يشفعون في إخوانهم. (وقال في قوله: {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}: يشفعون في إخوان إخوانهم). ثم قال تعالى: {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، يعني عذاب جهنم.

ثم قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض}. هذه الآية، روي أنها نزلت في قوم من أهل الصُّفَّةِ تمنوا سعة الدنيا والغناء، فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض}، أي: ولو وسع عليهم لجازوا الحد الذي حده الله D لهم. {ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ}، أي: يسهل لهم رزقاً مقدراً يصلحهم وتصلح عليه أحوالهم. {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}، أي: ذو خبر بهم، وذو علم يعلم من يصلحه التضييق وتفسده السَّعَةُ (في الرزق، ومن يفسده التضييق وتصلحه السَّعَةُ) فيعطي كُلاًّ على قدر ما يصلحه. قال قتادة: " كان يقال: خير الرزق ما لا يُطغيك ولا يلهيك.

ورُوي عن النبي A أنه كان يقول: " أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي زَهْرَة الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَثْرتهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَيَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ النَّبِيُّ A: إِنَّ الخَيْرُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بالخَيْرِ. . " في حديث طويل. ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ}، أي: يُنَزَّلُ المطر من السماء ليُحيي به الأرض من بعد مت يئس الخلق من نزوله. {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}، اي: يَبُثُّهَا في عباده، يعني بالرحمة: الغيث الذي أنزله من السماء. ومع القنط يرجى الفرج. وقيل: لعمر Bهـ: " جدبت الارض وقنط الناس فقال: مطروا إذا ".

وقد قيل في قوله: {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}، أي: ظهور الشمس بعد المطر. وهو قول شاذ لم أره عن ثقة. ثم قال: {وَهُوَ الولي الحميد}، أي: وهو الذي يليكم بإحسانه وفضله، الحميد بأياديه عندكم ونعمه عليكم. ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ} أي: ومِنْ حُجَجِهِ (وعلامات أدلته) على وحدانيته وقدرته على إحيائكم بعد موتكم، خلقه واختراعه السماوات السبع والأرضين السبع وخلقه ما نشر فيها من حيوان. {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ}، أي: وهو يقدر أن يحييهم يوم القيامة فيجمعهم إذا شاء. وقال الفراء: قوله: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا}، يريد به: ما بث في الأرض دون السماء؛ وزعم أن مثله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرجان من الملح دون الحلو. وهو قول ضعيف عند البصريين، لا يجوز أن يرجع ضمير اثنين إلى واحد، بل نقول:

30

إن الله قد بث السماوات والأرض دواب وقد قال: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] وقال مجاهد: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ}، يعني: الناس والملائكة والعرب تقول لكل ما تحرك: دب فيه فهو داب والهاء دخلت للمبالغة، وقيل (لتأنيث) الصنعة. قوله تعالى: {وَمَآ أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} إلى قوله: {هُمْ يَغْفِرُونَ}. أي: والذي أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم. وقيل: " ما " للشرط، والفاء مرادة، وحسن حذفها؛ لأن الفعل الأول لم يعمل فيه الشرط، إذ هو ماض. وفي كون " ما " بمعنى " الذي بعد "، لأنه يصير مخصوصاً للماضي.

فكأن ما أصابنا فيما مضى من مصيبة هو بما كسبت أيدينا وما يصيبنا فيما نستقبل يحتمل أن يكون مثل ذلك، وأن يكون على خلافه، لغير ما كسبت أيدينا. وهذا (لا يجوز، بل هو عام فيما مضى وما يستقبل، ولا يصيبنا من مصيبة ماضية أو مستقبلة إلا بما كسبت أيدينا. وهذا المعنى لا يتضمنه) إلا الشرط لأنه العموم. فمعنى الآية: إن الله جل ذكره أعلمنا أن ما يصيبنا من مصيبة في الدنيا في الأموال والأنفس والأهل فهو عقوبة منه لنا بما اكتسبنا من الآثام. ثم قال / تعالى: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}، أي: مما اكتسبنا فلا يعاقبنا عليه في الدنيا بالمصائب. قال قتادة: ذكر لنا نبي الله عليه السلام قال: " لا يُصيب ابنَ آدمَ خَدشُ عودٍ، ولا عَثْر قَدَمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلاَّ بِذَنبٍ، وَمَا يَعْفُو عَنْهُ أَكْثَر ".

وقال ابن عباس: تعجل للمؤمنين عقوبتهم بذنوبهم في الدنيا ولا يؤاخذون بها في الآخرة. وقال الحسن: معنى الآية في الحدود، أن الله تعالى جعل الحدود على ما يعمل الإنسان من المعاصي. وهذا يعطي أن " ما " بمعنى " الذي ". قال إبراهيم بن عرفة: الكثير الذي يعفو (الله D عنه) لا يحصى. وهذه من أرجى آية في القرآن. وقال علي Bهـ في هذه الآية: إذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فماذا يبقى من ذنوبي بين كفارته وعفوه. وروي عن علي رضي الله أنه قال: ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله؟ قالوا: بلى،

فقرأ: " وما أصابكم من مصيبة " الآية. ثم قال: فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي، وما عفا الله D عنه في الدنيا فلم يعاقب به في الدنيا فهو أجود وأمجد وأكرم أن (يعذب به) في القيامة. وروي عنه Bهـ أنه قال: ما أحب أن لي بها الدنيا وما فيها. (وقال أبو وائل: ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة). ثم قال تعالى: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض}، أي: وما أنتم أيها الناس بمُعْتِبِين ربكم بأنفسكم هرباً في الأرض حتى لا يقدر عليكم إذا أراد عقوبتكم على ذنوبكم، ولكنكم في سطانه حيث كنتم، وتحت قدرته أين حللتم، وفي مشيئته كيف تقلبتم. ثم قال: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}، أي: (ليس لكم) أيها الناس وَلِيٌّ يليكم فيدفع عنكم عقاب الله، ولا نصير ينصركم إذا أراد عذابكم.

قال المبرد: بمعجزين: بسابقين، يقال: أعجز إذا عدا فسبق. ثم قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام}، أي: ومن علامات الله وأدلته، وحججه عليكم أيها الناس أنه قادر على تسيار السفن الجارية في البحر. و {الجوار}، جمع جارية وهي: السائرة في البحر. {كالأعلام}: كالجبال، واحدها علم. ثم قال تعالى: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح}، أي: إن يشأ الله ألا تجري هذه السفن في البحر، يسكن الرياح التي (تجري بها). {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ}، أي: فيصرن سواكن ثوابت على ظهر البحر يجرين. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، أي: إن في جري هذه السفن في البحر وقدرة الله على إمساكها ألا تجري بإسكانه الرياح، لعظة وعبرة وحجة على أن الله قادر على ما يشاء لكل ذي صبر على طاعة الله شكورٍ نِعَمَ ربه.

ثم قال تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا}، أي: يغرق هذه السفن في البحر فيهلكن أي يهلك من فيهن بذنوبهم. ثم قال: {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}، أي: ويصفح جل ثناؤه عن كثير من ذنوبكم لا يعاقب عليها. ثم قال تعالى: {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ}، أي: ويعلم الذين يخاصمون محمداً A في آيات الله سبحانه [ما لهم من محيل عن عقاب الله إذا أتاهم على كفرهم، قال السدي] ما لهم من محيص: من ملجأ. قال الزجاج: " ما لهم من معدل ولا ملجأ، يقال: حاص عنه إذا تنحى عنه ". ثم قال تعالى: {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا}، أي: فما أعطيتم أيها الناس من شيء من رياش الدنيا، ومن المال فهو متاع الحياة الدنيا تستمتعون به في حياتكم، وليس من دار الآخرة، ولا مما ينفعكم. {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أي: وما عند الله لأهل طاعته، والإيمان، والتوكل عليه في الآخرة، خير مما أوتيتم في الدنيا من متاعها.

" وأبقى "، أي: وأدوم، لأنه لا زوال عنه ولا انقطاع، ومتاع الدنيا (فان وزائل) عن قليل. ثم قال: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش}، أي: وهو للذين يجتنبون كبائر الإثم. " روي عن ابن مسعود أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي: الذنب أعظم؟ قال: " أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّاً وهو خَلَقَكَ، قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قال أن نَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أن يَأْكُلَ مَعَكَ. قلت: ثم أَي: قَالَ: أن تَزْنِي بِحَلِيلَةِ جَارِكَ؛ ثُمَّ ذَكَرَ أَكْلَ مَالِ اليَتِيمِ، وَقَذْفَ المُحْصَنَةِ، والغلُولَ، والسِّحْرَ وَأَكْلَ الرِّبَا ". فهذا حديث مفسر في الكبائر. وعن ابن مسعود أنه قال: الكبائر: من أول سورة " النساء " إلى رأس ثلاثين آية منها إلى قوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31].

وقال ابن عباس - وقد سئل عن الكبائر - هي كل ما نهى الله تعالى / عنه. وروي عنه أنه قال: الكبائر: " (كل ما) ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ". وقال الضحاك: هي كل موجبة أوجب الله D لأهلها العذاب (وكل ما) يقام عليه الحد فهو كبيرة. وعن ابن عباس: " والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش "، قال: هو الشرك بالله D، واليأس من روح الله سبحانه، والأمن من مكر الله جلت عظمته، ومنها: عقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله سبحانه، وقذف المحصنات، وأكل (مال اليتيم)، والفرار من الزحف، وأكل الربا، والسحر، والزنا، واليمين الغموس واليمين الفاجرة، والغلول، ومنع الزكاة المفروضة، وشهادة الزور، وكتمان

38

الشهادة، وشرب الخمر، وترك الصلاة عامداً، أو شيئاً مما افترض الله سبحانه، ونقض العهد، وقطيعة الرحم. وقال السدي: الفواحش: الزنا. وقوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}، أي: إذا غضبوا على من أساء إليهم غفروا وصفحوا له. قوله: {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} إلى قوله: {فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، أي: أجابوه حين دعاهم رسوله A إلى الإيمان به والعمل بطاعته. {وَأَقَامُواْ الصلاة} يعني: المفروضة أقاموها بحدودها في أوقاتها. ثم قال: {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ}، أي: إذا عرض لهم أمر تشاوروا فيه بينهم. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}، يعني: في الصدقات، وفعل الخير، وفي سبيل الله D، وإخراج الزكاة المفروضة عليهم. وقال ابن زيد: نزلت {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} - الآية " في الأنصار. ثم قال تعالى: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}، أي: والذين إذا بغى

عليهم باغ انتصروا لأنفسهم، يعني: من المشركين، قاله ابن زيد. وقال السدي: هي في كل باغ أبيح الانتصار منه. وقال النخعي: " كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق ". وروى حذيفة عن النبي A أنه قال: " لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قال: يَتَكَلَّفُ من البَلاَءِ (مَا لاَ يُطِيقُ) ". ثم قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}، أي: وجزاء سيئة المسيء عقوبته على ما أوجبه الله عليه. ولهذه الآية ونظيرها أجاز الشافعي وأهل الرأي أن يأخذ الرجل من مال من

خانه (مثل ما خانه به من) غير رأيه. واستدلوا على صحة ذلك بقوله النبي A لهند زوج أبي سفيان: " خذي من ماله ما يكفيك وولدك ". وأجاز لها أن تأخذ من ماله ما يجب لها من غير رأيه.

ولم يجز ذلك مالك إلا بعلمه. وسميت الثانية " سيئة " وليس الذي (يعملها مسيئاً) لأنها مجازاة على الأول. فسميت باسمها وليست بها. وروي أن ذلك: أن يجاب القائل الكلمة القذعة بمثلها. وقال ابن أبي نجيح: هو مثل أن يقول القائل: أخزاه الله، فيقول له المجيب مثل ذلك. وقال السدي: إذا شتمك فاشتمه بمثل ما شتمك من غير أن تعدي. قال ابن زيد: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}، يعني: من المشركين، ثم قال: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} قال: معناه: ليس آمركم أن تعفوا عنهم لأني لا أحبهم، أي: لا أحب الظالمين، يعني: المشركين، فمن فعل فالله

يثيبه على ما آذاه به المشركون، قال: ثم نسخ هذا كله، وأمر بالجهاد. والآية على القول الأول محكمة عامة، مثل قوله: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والمعنى: فمن عفا عمن أساء إليه فغفر له ابتغاء وجه الله سبحانه وهو قادر على العقوبة فالله مثيبه. ويكون معنى قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} على هذا القول، أي: إنه لا يحب من يتعدى على الناس فيسيء إليهم بغير إذن الله D له. ثم قال تعالى: {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ}، أي: ومن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه، فلا سبيل للمنتصر منه على المنتصر بعقوبة ولا أذى، لأنهم انتصروا بحق وجب لهم على من تعدى عليهم. وقال قتادة: " فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما لو ظلمك رجل لم يحل لك أن تظلمه ".

وقال الحسن: هذا في الرجل يلقيك فتلقيه، ويسبك فتسبه، ما لم يكن حدا، أو كلمة لا تصلح. وقال ابن زيد: عنى بذلك، الإنتصار من أهل الشرك. وقال: هو منسوخ. - يريد نسخ بالأمر بالجهاد - قال: ونزل في أهل الإسلام {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. والقول الأول هو أن الآية محكمة / غير منسوخة. عنى بها كل منتصر ممن ظلمه وعليه أكثر العلماء، لأن النسخ لا يحكم عليه إلا بدليل قاطع أو إجماع أو نص من سنة. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}، أي: إنما سبيل العقوبة على الذين يظلمون الناس ويتجاوزون في أرض الله D الحد الذي أباح لهم ربهم فيفسدون فيها بغير الحق. {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: مؤلم، يعني: في الآخرة بعد عقوبة الدنيا. وقال ابن زيد عن أبيه: هي من المشركين وهي منسوخة بقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34].

وكان مالك لا يرى تحليل الظالم، ويرى تحليل من لك عليه دين ومات لا وفاء له به. وكان ابن المسيب لا يرى تحليله. وقال عبيد الله بن عمير: ورب هذا البيت لا يعذب الله D إلا مشركاً أو ظالماً لعباده، ثم قرأ: " إنما السبيل، الآية ". ثم قال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور}، أي: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيئ إليه جرمه فلم ينتصر منه وهو قادر على ذلك ابتغاء وجه الله D وجزيل ثوابه، إن ذلك الفعل منه لمن عزم الأمور، لمن أعالي الأمور التي ندب الله إلى

فعلها عبادة ومن أجلها، وذلك فعل الوارعين. ثم قال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ}، أي: ومن يخذله الله فلا يوفقه إلى الهدى فليس من ولي يوليه فيهديه من بعد إضلال الله له. ثم قال: {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ}، هذا مثل قوله: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً} [السجدة: 12] استعتبوا في غير حين استعتاب، وسألوا الرجوع إلى الدنيا حين لا يقبل منهم، وبادروا إلى التوبة حين لا تنفعهم. " ومن " في قوله: {وَلَمَن صَبَرَ} مبتدأ، والخبر: " إن ذلك لمن عزم الأمور. . . " الجملة. وثَمَّ محذوف، فيه ضمير يعود على المبتدأ والتقدير: إن ذلك منه لمن عزم الأمور. (ومثل هذا) قول العرب: " البُرَّقَفِيزَانِ بِدِرْهَمٍ "، أي: قفيزان منه

بدرهم. والتقدير: إن ذلك لمن عزم الأمور له. ثم قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل}، أي وترى يا محمد الظالمين يوم القيامة يعرضون على النار خاضعين مما بهم من الذلة الخوف. ثم قال: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}، أي: ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرفي خفي، أي: من طرف ذليل من كثرة الخوف والإشفاق لتبقيهم أنهم داخلون فيها. قال ابن عباس ومجاهد: {مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ}، أي: ذليل وهو اختيار الطبري، قال: " وصفه الله بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم حتى كادت أعينهم تغور فتذهب ". وقال ابن جبير، يسارقون النظر من الخوف، وقاله السدي وابن كعب.

وقال بعض أهل العربية: تقديره: من عين ضعيفة النظر والطرف عنده هنا العين. وقال يونس " من " بمعنى الباء. والتقدير: بطرف خفي. وقال: إنما قال من طرف خفي لأنه لا يفتح عينه، إنما ينظر ببعضها إشفاقاً. وقيل: " إنما قيل ذلك لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم لا بأعينهم لأنهم يحشرون عمياً ". ووقف بعض العلماء على {خَاشِعِينَ}. ووقف أكثرهم على {خَفِيٍّ}. فتكون {مِنَ} في قوله: {مِنَ الذل} إن وقفت على {خَاشِعِينَ} (متعلقة بـ {يَنظُرُونَ}). وإن وقفت على {خَفِيٍّ} كانت {مِنَ} متعلقة بـ {خَاشِعِينَ}. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ

46

القيامة}، أي: وقال المؤمنون يوم القيامة: إن المغبونين، الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. قال السدي: غبنوا ذلك في الجنة. وقال ابن عباس: هم الذين خلقوا للنار وخلقت النار لهم، خلفوا أهليهم وأموالهم في الدنيا، وصاروا إلى النار فحرموا الجنة والدنيا. وقال قتادة: خسروا أهليهم الذين أُعِدُّوا لهم في الجنة لو أطاعوا. وقيل: لما كان المؤمنون يجتمعون مع أهليهم في الجنة وكان الكفار لا يجتمعون معهم كانوا قد خسروهم. ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}، أي: دائم ثابت لا يزول أبداً. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله} - إلى آخر السورة). أي ولم يكن لهؤلاء المشركين أولياء ينصرونهم / من عذاب الله. ثم قال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ومن يخذله الله فلا يوفقه إلى الحق فما له من طريق إلى الحق، لأن الهداية والضلال بيده. ثم قال تعالى: {استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله}، أي أجيبوا

أيها الناس داعي ربكم واتبعوه وآمنوا به من قبل أن يأتيَكم يوم لا شيء يرد مجيئه إذا جاء، وهو يوم القيامة. {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ}، أي: ما لكم يوم القيامة معقل تلجؤون إليه مما نزل بكم، وما لكم من إنكار لما حل عليكم ولا تغيير. قال مجاهد: {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ}، أي: " محرز، {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ}، أي من ناصر. فيكون نكير بمعنى: ناكر، أو: منكِر. وقيل: المعنى في {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ}، أي: " لا تنكرون ما وقفتم عليه من أعمالكم ". قال الزجاج: معناه: ليس لكم مخلص من العذاب، ولا تقدرون أن تنكروا ما توقفون عليه من ذنوبكم، (ولا ما) ينزل بكم من العذاب. ثم قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ}، أي: فإن

أعرض هؤلاء المشركون عما جئتهم به يا محمد من الحق فلم يؤمنوا به فدعهم، فإذا لم ترسلك إليهم رقيباً عليهم تحفظهم أعمالهم، ما عليك إلا البلاغ لما أرسلت به إليهم، فإذا بلغت قضيت ما يجب عليك. ثم قال تعالى: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً}، أي: أغنيناه ووسعنا عليه فرح بها. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ}، أي: وإن يصب الإنسان فقر، أو ضيق عيش، أو علة بما قدمت يداه من المعاصي - عقوبة له من الله D على فعله وعصيانه - جحد نعم الله سبحانه المتقدمة عنده ويئس من الخير. والتقدير، فإن الإنسان كفور، أي: جحود لنعم ربه، يعد المصائب ويجحد النعم. والإنسان هنا: واحد للجنس، يدل على الجمع، ولذلك قال: {وَإِن تُصِبْهُمْ}، فَجَمَعَ. ثم قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}، أي: لله سطان السموات والأرض يفعل في سلطانه ما يشاء ويخلق من يشاء، فيهب لمن يشاء - من عباده - الذكور من الأولاد، ويهب لمن يشاء منهم الإناث، ويهب لمن يشاء ذكوراًَ وإناثاً،

ويمنع من يشاء من الولد. فيجعله أو يجعل امرأته عقيماً. قال ابن عباس يهب بمن يشاء إناثاً لا يولَد له إلا الجواري، ويهب لمن يشاء الذكور لا (يولد له) إلا الغلمان، أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يولد له الجواري والغلمان، فلذلك تزويجهم، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم. وقال محمد بن (الحنفية) وابن زيد في قوله (أو يزوجهم) ذكراناً وإناثاً، يعني التوأم، يخلق في البطن ذكراً وأنثى ويقال: رجل عقيم لا يولد له، وامرأة عقيم

لا تلد، وريح عقيم لا تأتي بمطر ولا خير. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}، أي: إن الله ذو علم بما خلق، وقدرة على خلق ما يشاء. ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه مشافهة، ولكن وحياً يوحي إليه كيف يشاء، إما إلهاماً، وإما مع ملك مقرب، أو من وراء حجاب حيث يسمع كلامه ولا يراه كما فعل بموسى صلوات الله عليه. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}، يعني: من الملائكة، كجبريل وشبهه. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ}، أي: فيبلغ الملك إلى البشر المرسل إليه بإذن الله D ما يشاء الله أن يبلغه إليه من أمره ونهيه وخبره وما أراد. وقال مجاهد {إِلاَّ وَحْياً}، أي: إلا أن يلقي (في قلبه) ما يشاء، ويلهمه ما يشاء، {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} كموسى، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} كجبريل إلى محمد عليهما السلام. وقيل: المعنى: {إِلاَّ وَحْياً} كما أوحى إلى الأنبياء بإرسال جبريل وشبهه من

الملائكة، {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} كما كلَّم موسى، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} - يعني: من البشر - إلى الناس كافة. وقال القتبي: {إِلاَّ وَحْياً}: في المنام، {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} كما كلم موسى أي ملكاً إلى النبي من بني آدم فيبلغه عن الله (ما يشاء) الله أن يبلغه. {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}، أي: إن الله D لذو علو على كل شيء واقتدار، ذو حكمة في تدبيره خلقه. (وليس العلو في هذا وشبهه من المسافة إنما هو علو اقتدار، ورفعة حال وجلالة). ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}، أي: كما أوحينا إلى سائر الرسل قبلك، كذلك أوحينا إليك رحمة من أمرنا: وحياً، وهو القرآن. قال قتادة: روحاً: رحمة. وقال السدي: روحاً: وحياً. وقال ابن عباس: هو

النبوة. وقيل: المعنى: أوحينا / إليك ما تحيا به النفوس كما تحيا بثبات الروح فيها، وهو القرآن وما فيه من الإيمان والمواعظ. ثم قال تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان}، أي: لم تكن يا محمد تدري أي شيء الكتاب، ولا أي شيء الإيمان للذين أعطيناكهما. ثم قال تعالى: {ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا}، أي: ولكن جعلنا القرآن ضياء للناس يستضيء بنوره من يشاء الله D ومن يوفقه، ونوره هو: العمل بما فيه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، أي: وإنك يا محمد لتهدي الناس وتدعوهم وترشدهم إلى طريق مستقيم، أي: إلى الحق والإسلام. وقرأ الضحاك وحوشب: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} بضم التاء وفتح الدال على ما يسم فاعله. ثم بين الصراط وفسره فقال: {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات}، أي: طريق

الله الذي دعا إليه عباده. وقال الضحاك: إلى صراط مستقيم، إلى دين (مستقيم، دين) الله الذي له، وفي ملكه وقدرته وسلطانه جميع ما في السماوات وما في الأرض. ثم قال: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور}، أي: ترد أمور جميع الخلق إلى الله D يوم القيامة فيقضى بينهم بالعدل، وأمورهم (أيضاً في الدنيا) إلى الله سبحانه. وإنما خص ذكر يوم القيامة - هنا - لأنه يوم لا يدعي فيه أحد لنفسه شيئاً ولا يتجبر فيه أحد، ولا يدعي أحد مُلْكاً ولا سلطاناً إلا الله سبحانه. والدنيا فيها الجبارون والملوك والمُدَّعُونَ الباطل، فلذلك خص ذكر يوم القيامة برجوع الأمور إليه تعالى ذكره، وإن كانت في الدنيا بيده وفي حُكْمِه وقَبْضَتِهِ وعن مشيئته تكون، لا إله إلا هو.

الزخرف

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الزخرف سورة حم، الزخرف، مكية. قوله تعالى: {حم* والكتاب المبين} إلى قوله {ومضى مَثَلُ الأولين} قد تقدم ذكر حم. وقوله: {والكتاب المبين}: قسم، أي: المبين لمن تديره وفكر في عبره وعظاته. ثم قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}، أي: أنزلناه بلسان العرب إذ كنتم أيها المنذرون به من العرب. " وجعلناه " هنا، يتعدى إلى مفعولين، " فالهاء " الأول، " وقرآناً " الثاني.

وهذا مما يدل على نقض قول أهل البدع: إنه بمعنى خلقنا. إذ لو كان بمعنى خلقنا؟ إذ لو كان بمعنى خلقنا، لم يتعد إلا إلى مفعول واحد. ومثله قوله تعالى: {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} [الحجر: 91]، فلو كان بمعنى " خلق " لصار المعنى أنهم خلقوا القرآن، وهذا محال. ولم يُلْقِهِم في هذا الخطأ العظيم، والجهل الظاهر إلا قلّة علمهم بتصاريف اللغات وضعفهم في معرفة الإعراب. وقوله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، معناه: أنزلنا القرآن بلسانكم لتعقلوا معانيه ومواعظَه، ولم ننزله بلسان العجم فتقولوا نحن عَرَبٌ، وهذا كلام لا نفقه معانيَه. قال قتادة: " والكتاب المبين: مبين - والله - بركته وهداه ورشده ". وقيل: المبين، أي: أبان الهدى من الضلالة، والحق من الباطل. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، أي: وإن القرآن في أم الكتاب، يعني: اللوح المحفوظ: وأم الكتاب: أصله.

فالقرآن مثبت عند الله جل وعز في اللوح المحفوظ، ومن اللوح المحفوظ نُسِخَ. وقوله: {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، أي: عندنا لذو علو ورفعة وقيل معنى " عَلِيٌّ ": قاهر لا يقدر أحد أن يدفعه ويبله، معجز لا يؤتى بمثله، حكيم أحكمت آياته ثم فصلت، فهو ذو حكمة. وقيل: حكيم، أي: محكم في أحكامه ووصفه. قال ابن عباس: " أو لما خلق الله D القلم: أمره أن يكتب ما يريد أن يخلق. قال: فالكتاب عنده. روى مالك عن (عمران عن) عكرمة أنه قال " أم الكتاب القرآن ". ثم قال تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} " صفحاً " مصدر، كأنه قال: أفنصفح عنكم صفحاً.

وقيل: هو مصدر في موضع الحال، كأنه قال: أفنضرب عنكم الذكر صافحين. كما تقول: جاء زيد مشياً، أي: ماشياً. ويجوز أن يكون صفحا بمعنى: ذو صفح، كما تقول: رجل عدل (ورضى أي: عادل وراضٍ)، وذو عدل وذو رضى. يقال: أضربت عنك بمعنى: أعرضت عنك وتركتك. والمعنى: أفنعرض عنكم أيها الناس ونترككم سدى لا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون. قال مجاهد: معناه، أفتذكبون بالقرآن ولا تعاقبون. وقال السدي: معناه: " أفنضرب عنكم العذاب ". وقال ابن عباس: معناه: " أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا

ما أمرتم به ". وقال قتادة: (معنى): {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ}، أي: مشركين /، والله لو كان هذا القرآن " رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء من ذلك ". قال الضحاك: الذكر هنا: القرآن، وقال أبو صالح: الذكر: العذاب. وقيل: " الذكر: التذكير ". والمعنى: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن فلا نذكركم به عقاب الله وثوابه لأن كنتم قوما مسرفين. وهو مروي عن ابن عباس.

فيكون المعنى: فنهملكم (ونذكركم) سدى ولا نذكركم (لأنكم) كنتم قوماً مسرفين. وهذا كله على قراءة من فتح " أن "، فأما من كسر " أن " فقد رده أبو حاتم وغيره، لأنهم إنما وبخوا على شيء قد ثبت ومضى؛ فهذا موضع المفتوحة لأنها لما مضى. والمكسورة معناها لما يأتي. فكيف يربخون على شيء لم يفعلوه بعد. والكسر عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء جيد حسن، ومعناه الحال عند الزجاج لأن في الكلام معنى التقرير والتوبيخ. وقال سيبويه: سألت الخليل عن (قول الشاعر وهو) الفرزدق:

أَتَغْضَبُ أَنْ أُذْنَا قُتَيْبَة حُزَّتَا ... جِهَاراً وَلَمْ تَغْضض لِقَتْلِ ابْنِ حَازِمِ. فقال: هي مكسورة لأنه قبيح أن يفصل بين أن والفعل، يريد أنّ " أَنْ " المفتوحة لا يفرق بينها وبين الفعل وهو " حزتا ". وأن المكسورة يجوز ذلك فيها على إضمار فعل آخر، قال الله جل ذكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] (أي: وإن استجارك أحد من المشركين واستجارك). فعلى هذا التقدير البيت إن كسرت والتقدير: إن حُزَّتْ أُذْنَا قُتَيْبَة حُزَّتَا.

ويجوز عند تكثير من النحويين أن تكسر الألف. ويكون المعنى للماضي في البنية واللفظ للاستقبال. وعلى ذلك قرأ أبو عمرو، وابن كثير: {أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [المائدة: 2] بالكسر. وعلى ذلك يتأول قول الله جل ذكره {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} [الكهف: 6] والكسر في هذا إجماع من القراء وتركهم للإيمان أَمْرٌ قَدْ تَقَدَّمَ وَكَانَ. فهو - لو حمل على نظائره - في موضع المفتوحة. ولم يقرأ به أحد. فدل ذلك على جواز الكسر وحسنه في هذه السورة وفي المائدة (وفي غيرها) على معنى: إن وقع ذلك. وعلى ذلك اختلف القراء في قوله: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50]. والمشهورون من القراء على الكسر أجمعوا.

وقد قرئ بالفتح على أنه أمر قد كان وانقضى. والكسر على معنى: إن وقع ذلك فيما يستقبل، وعلى هذا يجوز في البيت الكسر وفي (الآيات المذكورات). ثم قال تعالى: {أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين}، أي: وكثيراً أرسلنا من الأنبياء في الأمم الماضية كما أرسلناك يا محمد إلى قومك. {وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: ما يأتي الأمم الماضية من نبي يدعوهم إلى الهدى إلا كذبوه واستهزءوا به كما استهزأ بك قومك يا محمد. فلا يعظمن عليك ما يفعل بك قومك، فإنما سلكوا من مضى من الأمم المكذبة لرسلها. فهذا نص يُسَلِّ الله D به نبيه A ويصبره على ما يلقى من المكذبين له، ويعلمه أنه قد فُعِلَ ذلك بمن بُعِثَ قبله من الأنبياء. ثم قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً}، أي: فأهلكنا الأمم الماضية على تكذيبهم واستهزائهم بالرسل وهم أشد من قومك قة وآثاراً وتصرفاً في الأرض، فلم

9

يمتنعوا من العذاب لما أتاهم. فكذلك نصنع بقومك - على نقص قوتهم عمن تقدمهم - والتقدير: فأهلكنا أمماً أشد من قريش بطشاً، فقريش أحرى ألا يقدروا على الامتناع إذا حلت بهم العقوبة لضعفهم ونقص حالهم عمن تقدم. ثم قال: {ومضى مَثَلُ الأولين}، أي: ومضى لهؤلاء المشركين المستهزئين بك، يا محمد مثل (ما مضى للأمم) قبلهم من العقوبات إن أقاموا على شركهم وتكذيبهم لك. قال قتادة: {مَثَلُ الأولين}: عقوبتنا لهم. وقال مجاهد: سنتنافيهم. وقيل: " مثل " هنا، بمعنى: صفة، أي: صفتهم بأنهم أهلكوا على كفرهم. قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} إلى قوله: {لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}. أي: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك، من خلق السماوات

والأرض؟ {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم}، أي: العزيز في انتقامه وسلطانه، العليم بكل شيء. ثم قال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً}، أي بساطاً فسهل عليكم / التصرف فيها من بلد إلى بلد. {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً}، أي: طرقاً. {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، أي: كي تهتدوا في تصرفكم بتلك الطرق فتتوجهوا حيث شئتم. ولولا ذلك (لم يطق) أحد برَاحاً من موضعه ومنشئه. قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} ليس بمتصل بما قبله، لأن ما قبله من جواب المشركين - حكاه الله عنهم. ولو اتصل بما قبله لكام: " الذي جعل لنا الأرض ". لكن معناه: إن الله جل ذكره وصف نفسه بنعمه بعد جواب المشركين. فثم إضمار " هو "، هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، ثم وصف نعمه -

نعمةً (بعد نعمةٍ) - تنبيه وتقرير. ثم قال تعالى: {والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ}، أي: مطر بمقدار الحاجة بكم إليه. ولم يجعله كالطوفان فيكون عذاباً بغرق، (ولا جعله) قليلاً (لا ينبت) به الزرع والنبات، ولكنه جعله بمقدار حاجتكم إليه. وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}، أي: فأحيينا بذلك المطر بلداً لا نبات فيه ولا زرع فأنبت، فهو كالحياة له. فكما أحيى الأرض بالمطر فأنبتت ولم يكن فيها نبات يحيي الموتى بالمطر فيخرجون من قبورهم (إلى ربهم). وروى ابن مسعود أنه قال: يرسل الله جل ثناؤه ماء مثل مني الرجال، وليس شيء مما خلق الله من الأرض إلا وقد بقي منه شيء، فينبت بذلك الماء: الجسمان واللحوم، تنبت من (الثرى والمطر)، ثم قرأ ابن مسعود:

{والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً} - إلى - {تُخْرَجُونَ}. ثم قال تعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا}، أي: الأجناس والأصناف من الخلق. وقيل: معنى خلق كل شيء فزوجه، بأن خلق الذكور من الإناث أزواجاً، وخلق الإناث من الذكور أزواجاً. وواحد الأزواج على " فَعْل " وكان بابه أن يجمع على " أَفْعُلٌ " إلا أنهم استثقلوا الضمة في الواو فنقلوه إلى جمع " فعل " فجمعوه على " أفعال " (وبابه " أفعال ") فشبه فعلاً بفعل إذ عدد الحروف متساوية، وعلى ذلك (أيضاً شبهوا) " فَعَلاً " بـ " فَعْل " وجمعوه على " أَفْعُل " وبابه " أَفْعَال " قالوا: زَمَنٌ وَأَزْمُنٌ. ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} يعني: السفن في البحر، والإبل والخيل والبغال والحمير في البر، تركبون ذلك حيث شئتم.

ثم قال تعالى: {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ}، (أي: على ظهور) ما تركبون، فلذلك وحدت الهاء. وقال الفراء: معناه: على ظهور هذا الجنس، فهو عنده بمنزلة " كَثُرَ الدِّرْهَمُ. والأحسن أن تكون مردودة على لفظ " ما " في قوله: {مَا تَرْكَبُونَ} و " ما " مذكرة اللفظ موحدة. ومثله الهاء في قوله: {إِذَا استويتم عَلَيْهِ}. وإنما أتى " ظهوره " بالجمع، لأنه رد على المعنى الواحد فيه بمعنى الجمع، ورجعت الهاء على " ما " على اللفظ. وهذا نادر قدم فيه الحمل على المعنى (على الحمل على اللفظ وباب " من " و " ما " أن يقدم فيه الحمل على اللفظ قبل الحمل على المعنى) ونظيره قوله

تعالى: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} [الأنعام: 139] (فقدم الحمل على المعنى قبل الحمل على اللفظ. وهذا على قراءة من قرأ) خالصة بتاء التأنيث، ونظيره أيضاً: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 139] فأنث " سيئة " حملاً على معنى " كل "، ثم قال: " مكروهاً " فذكَّر، حملاً على لفظ " كل ". وهو كله (نادر لم أجد) له نظيراً. ثم قال تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ}، أي: نعمة ربكم التي أنعم عليكم بها إذا سخر لكم ما تركبون في البر والبحر. ثم قال: {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا}، أي: وتقولوا تنزيها لله (وبراءة له) من السوء الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه. قال قتادة: علمكم الله كيف تقولون إذا ركبتم الفلك: تقولون:

{بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41]، وإذا ركبتم الإبل تقولون: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}. وعلمكم (ما تقولون) إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعاً، تقولون: اللهم انزلنا {مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} [المؤمنون: 29]. وكان طاوس إذا ركب يقول: اللهم هذا من فضلك ومنك ثم يقول: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}. ومعنى {مُقْرِنِينَ}: مطيقين، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد، أي لم نطق على الانتفاع بهذه الأنعام إلا بك. وحكى أهل اللغة: أقرن له، إذا أطاقه. وحكوا أنا مقرن لهذا أي: مطيق له.

وقال أبو عبيدة، مقرنين: ضابطين له. وحكى أنه يقال: فلان مقرن لفلان، أي: ضابط له ". وقد روي عن علي بم أبي طالب Bهـ أنه كان (إذا جعل رجله في الركاب يقول): بسم الله، فإذا استوى راكباً قال: الحمد لله، ثم يقول: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} اللهم لا إله إلا أنت قد عملت سوءاً (وظلمت نفسي) فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ثم يقول: رأيت رسول الله A فعل كفعلي. وقال مجاهد: من ركب ولم يقل: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا. . .} الآية، قال له الشيطان تَغَنَّهْ؛ فإن لم يحسن قاله تَمَنَّهْ.

وقوله: {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}، أي: ويقولون أيضاً هذا. ومعناه: راجعون بعد الموت، مبعوثون. وهذا كله في معنى الأمر بذكر نعم الله D على خلقه وشكره عليها. وقد قيل: إن التقدير: ليأمركم إذا استويتم على ظهوره أن تذكروا نعمته، وهو مثل قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي: لأمرهم أن يعبدون، فقد أمرهم تعالى ذكره بذلك. ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}، يعني: ما أضاف المشركون إلى الله جل ذكره من البنات تعالى عن ذلك علواً كبيراً. ومعنى {وَجَعَلُواْ} (ها هنا:) قالوا ووصفوا، وهو قولهم: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى، قاله مجاهد والسدي. قال قتادة: الجزء هنا: العدل، أي: جعل له المشركون عدلاً، وهي الأصنام. وقال عطاء: جزءاً، أي: نصيباً، شريكاً وهو قول الضحاك والربيع بن أنس،

وهو معنى قول ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: هي الأصنام. وذكر الزجاج أن الجزء هنا: البنات وأنشد: إِن أَجْزَتْ (حُرَّةُ) يَوْماً فَلاَ عَجَبَ ... قَدْ (تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْيَاناً أي: إن ولدت إناثاً. وقال المبرد: الجزء: البنت. وقوله تعالى بعد الآية: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16]، وقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين

16

هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] يدل على صحة قول مجاهد والسدي. وقوله: {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ}، أي: إن الإنسان لجحود لنعم ربه، يتبين كفرانه للنعم لمن تأمله بفكر قلبه، وتدبر حاله. وهو هنا الكافر. (ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ}، إلى قوله: {عَاقِبَةُ المكذبين}، معناه، لم يتخذ ذلك فأنتم أيها المشركون مبطلون في قولكم (تعالى عن ذلك علواً) كبيراً. وهذا لفظ استفهام معناه التوبيخ، أي: كيف يتخذ البنات على قولكم وأنتم (لا ترضونهن) لأنفسكم (أفأصفاكم واختصكم) بالبنين. ثم قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} أي: وإذا بشر أحدكم هؤلاء الجاعلين لله سبحانه من عباده جزءاً بما وصف ربه به من اتخاذ البنات سبحانه وتعالى صار وجهه مسوداً وهو كظيم، أي حابس لغمه وحزنه وكربه.

قال قتادة: " وهو كظيم، أي: حزين ". ثم قال: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} " من " في موضع رفع بالابتداء. ويجوز أن يكون في موضع نصب ترده على {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} فتبدله من البنات. ويجوز أن يكون في موضع خفض (تبدله من " ما ") في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً}. وفي جواز هذين الوجهين في البدل ضعف لدخول ألف الاستفهام قبل " من " فهي تحول بين البدل والمبدل منه. والمعنى: أجعلتم لله جزءاً ممن يرى في الحلية ويتزين بها، وهو في مخاصمة

من خاصمه غير مبين لحجته وبرهانه لعجزه وضعفه. ففي الكلام حذف استغني عنه - بدلالة ما ذكر بعده. والتقدير: أو من ينشأ في الحلية يجعلون لله نصيباً. قال ابن عباس: عنى بذلك المرأة. وقال مجاهد: " رخص للنساء في الحرير والذهب، وهن الجواري؛ جعلوهن للرحمن ولداً؛ كيف يحكمون ". وقال قتادة: وقوله: {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} يعني النساء فقلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.

وقال ابن زيد (عنى) بذلك أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، يضربونها من (فضة وذهب) ويعبدونها، فهم أنشؤوها ضربوها من تلك الحلية ثم عبدوها، وهي لا تتكلم ولا تبين عن نفسها شيئاً. ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً}، أي: ووصفوا الملائكة بهذا الوصف. فجعل هنا بمعنى " وصف " تقول: جعلت فلان أعلم الناس /، أي: وصفته بهذا يتعدى إلى مفعول واحد (في الأصل). ثم قال: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} هذا على التقرير والتوبيخ لهم، ومعناه: لم يشهدوا خلق الملائكة، فكيف تجرؤوا على وصفهم بالإناث. ثم قال تعالى: على التهدد والوعيد لمن فعل ذلك (ولمن يقول ذلك): {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ}، أي: يسألون عن قولهم وافترائهم يوم القيامة، ولن يجدوا إلى الاعتذار من قولهم سبيلاً.

ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ}، أي: وقال هؤلاء المشركون: لو شاء الرحمن، ما عبدنا أوثاننا من دونه، وإنما لم تحل بنا العقوبة على عبادتنا إياها لرضاه عنا. قال مجاهد: لو شاء الرحمن ما عبدناهم يعني الأوثان، والمعنى: هو أمرنا بعبادتها، دل على ذلك: قوله: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، أي: يكذبون. فهذا الرد عليهم لا يحتمل أن يكون رد الظاهر من قولهم: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ}، لأنه قول صحيح لا يرد ولا ينكر. كما أن قولهم - إذا سُئِلُوا عمن خلق السماوات والأرض فقالوا خلقهن العزيز العليم لا يرد ولا ينكر. ثم قال تعالى: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} هذا مردود إلى أول الآية. والتقدير: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، أي: ما لهم بقولهم الملائكة إناثاً من علم، وقيل: إن ذلك مردود على ما قبله، والتقدير: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدنا هذه الأوثان، ثم قال الله: ما لهم بذلك من علم، أي: من عذر يقوم لهم في عبادتهم الأوثان لأنهم رأوا أن ذلك

عذرهم. فرد الله D عليهم. فالمعنى: ما لهم من علم بحقيقة ما يقولون: (من ذلك)، إنما يقولونه تخرصاً واختراعاً من عند أنفسهم لأنهم لا خبر عندهم من الله D أن الله سبحانه شاء عبادتهم الأوثان، ورضي بذلك منهم. ثم قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، أي: يخرصون ويكذبون في قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا هذه الأوثان. ثم قال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أي: آتينا هؤلاء المتخرصين كتاباً يدل على حقيقة ما يقولون فيحتجون به. والهاء في " من قبله " تعود على القرآن. ثم قال تعالى: {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ}، أي: لم يأتهم كتاب بعبادتهم الأوثان ولكنهم قالوا: إنا وجدنا آباءنا على دين وملة، فنحن نتبع ما كانوا عليه. وقرأ مجاهد وعمر بن عبد العزيز " على إمّةٍ " بكسر الهمزة قال الكسائي:

هما لغتان وقال غيره: هو مصدر أممت القوام إمة. وحكي عن العرب: " ما أحسن إِمَّتَهُ وعِمَّته وجِلسته ". ثم قال: {وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}، أي: قالوا: وجدنا آباءنا على دين، فنحن متبعون لما كانوا عليه. هذا كله حكاية عن قريش. ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآءَابَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا علىءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}، أي: كما قال لك (يا محمد قومك) إنهم متبعون في دينهم لما كان عليه آباؤهم كذلك قال من كان قبلهم من مترفي الأمم لرسلهم الذين ينذرونهم من عقاب الله D. والمترفون: الرؤساء

26

والأشراف منهم. فسلك فعلهم سبيل من كان قبلهم من الأمم المكذبة. ومعنى " مقتدون " أي: تقتدي بفعلهم، فاتبعوهم على الكفر. ثم قال تعالى: {قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ}، أي: قل يا محمد لهؤلاء المتبعين ما وجدوا عليه آباءهم من الدين، أَوَلَوْا جِئْتُكُمْ أيها المشركون - من عند ربكم - بأهدى مما كان عليه آباؤكم من (الدين تتبعون) ما وجدتم عليه آباءكم، وغيره أهدى إلى الحق وأصوب منه! ثم قال تعالى: {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، أي: فقال محمد A ذلك لهم فقالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون، أي: جاحدون منكرون. وجمع في قوله: " أرسلتم " لأن من كذب نبياً فقد كذب جميع الأنبياء. ثم قال تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ}، أي: فانتقمنا من هؤلاء الذين كذبوا رسلهم، فانظر يا محمد كيف كان عاقبة المكذبين، فكذلك ننتقم من قومك إن تمادوا على تكذيبك. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ} - إلى قوله - {خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، " براء " مصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. تقول:

نحن البراء منك، وهي البراء منك. والمعنى / أنني ذو البراء منك، ونحن ذو البراء كما تقول: رجل عدل، (وامرأة عدل، وقوم عدل)، أي: ذوو عدل. ونظيره: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177]، أي: ولكن ذو البر. وقرأ ابن مسعود: " إنني بريء " على " فعيل ". فتجوز التثنية والجمع والتأنيث على هذه القراءة. وجمعه في التكسير: " بُرَآء " (ك " كُرَمَاء ").

وحكى الكوفيون " براء " على حذف الياء وهو شاذ. وقوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي}، هذا استثناء من قوله " مما تعبدون ". ويجوز أن يكون ايتثناء ليس من الأول منقطعاً. ومعنى الآية: واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إذ كانوا يعبدون ما بعيد قومك: إنني براء مما تعبدون من دون الله، إلا من الذي فطرني، أي: خلقني، فإني لا أبرأ منه. {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، أي سيقونا للحق في ديني. ثم قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}. قال قتادة: الكلمة هي شهادة ألا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها من بعده، وقاله السدي، وقال ابن زيد: الكلمة: الإسلام، وهو قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131].

وقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} [الحج: 78]، وقال: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} [البقرة: 128]. والضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا} عائد على قوله: {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} وضمير الفاعل يعود على الله جل ذكره، أي: وجعلها الله سبحانه كلمة باقية في عقب إبراهيم، فلا يزال من ولد إبراهيم من يوحد الله. وقيل: الضمير المرفوع يعود على إبراهيم، أي: وجعل إبراهيم الكلمة باقية في عقبه، أي: عرفهم التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله وأوصاهم به، وهو قوله: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ. . .} [البقرة: 132] الآية. فتوارثوا ذلك فلا يزال من ذريته موحد لله.

ويقال عَقِبَ وعقب، بمعنى واحد. والعَقِبُ هنا: الولد في قول مجاهد. وقال ابن عباس: العقب هنا من يأتي بعده. وقال السدي: في عقب إبراهيم: آل محمد A. وقال ابن شهاب: العقب: " الولد، وولد الولد ". وقال ابن زيد: " عقبه: ذريته ". وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، معناه يرجعون إلى طاعة ربهم ويتوبون إليه. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. ففي الكلام تقديم وتأخير. ثم قال تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ}، أي: بل منعت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك وَمَتَّعْتُ آباءهم من قبلهم بالحياة ولم أعاجلهم (بالعقوبة على كفرهم حتى جاء الحق، يعني: القرآن، ورسول مبين،

يعني: محمد A، لم أعاجلهم)، بالعذاب حتى أنزلت عليهم كتاباً وبعثت فيهم رسولاً يعرفونه، يبين لهم الحجج والبراهين ويبلغ اليهم ما أرسل به. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}، أي: ولما جاء هؤلاء المشركين القرآن إعذاراً وإنذاراً، ورسول منهم يبين ما أرسل به ويبلغه إليهم، قالوا: هذا الذي جاءنا به سحر، وليس بوحي من عند الله، وقالوا إنا به جاحدون، أي: ننكر أن يكون من عند الله. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ}، أي: وقال مشركو قريش هلا نزل هذا القرآن الذي جاءنا به محمد على رجل من القريتين، (أي: القريتين، ثم) حذف، مثل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، وحبيب بن عمرو الثقفي من أهل الطائف، قاله ابن عباس.

وقيل: التقدير: من إحدى القريتين، ثم حذف. وقال مجاهد: هما: عتبة بن ربيعة من مكة، وابن عبد ياليل من الطائف. وقال قتادة: هما: الوليد بن المغيرة من أهل مكة و (عنبة بن مسعود من أهل الطائف. وقيل هو) عروة بن مسعود من أهل الطائف، والوليد بن المغيرة من أهل مكة، قاله ابن زيد. وقال السدي: هما الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وكنانة (ابن عبد بن عمرو بن) عمير من أهل الطائف. وعن مجاهد أنهما: عتبة بن ربيعة من أهل مكة، وأبو مسعود الثقفي من أهل

الطائف، واسم أبي مسعود (عمير بن عمر) بن مسعود. وقيل: هما الوليد بن بن المغيرة من أهل مكة، وأبو سعيد عمر بن عمير الثقفي سيد ثقيف. ثم قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} (أي: أهؤلاء القائلون هلا نزل القرآن على أحد رجلي القريتين يقسمون رحمة ربك) يا محمد بين خلقه، فيجعلون إكرامه لمن شاءوا، وعند من أرادوا، بل الله يقسم ذلك فيعطيه من أراد، ويحرمه من شاء. قال ابن عباس: لما بعث الله جل ذكره محمداً A أنكرت العرب ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله / بشراً مثل محمد، فأنزل الله جل ذكره: {أَكَانَ

لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس} [يونس: 2] وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر} [النحل: 43]، يعني: أهل الكتب الماضية فيخبرونكم أن الرسل التي كانت تأتي، بشر مثلكم، فلا يجب لكم أن تنكروا إرسال مثل محمد إليكم، إذ هو بشر مثلكم. وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109]، أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم فال: فلما كرر (عليهم تعالى) الحُجَج، قالوا: فإن كان بشراً فغير محمد أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، أي: كل واحد منهما أشرف من محمد في المال والذكر، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي - وكان يسمى ريحانة قريش - من أهل مكة، ومسعود بن عمرو بن عبيد الثقفي من أهل الطائف، قال الله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}، أي: ربك يا محمد يفعل ما يشاء. قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا}، أي: نحن نقسم الرحمة بين من شئنا من خلقنا فنجعل من شئنا نبياً، ومن شئنا مؤمناً، ومن شئنا كافراً، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون فيها في دنياهم، فجعلنا بعضهم أرفع من بعض، فوسعنا على بعض وضيقنا على بعض، وجعلنا بعضهم ملوكاً وبعضهم مملوكين.

33

{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}، أي: جعلنا بعضهم حراً وبعضهم مملوكاً، وبعضهم غنياً وبعضهم فقيراً ليستخدم بعضاً بأجرة وقد كانوا بني آدم كلهم. وقيل: إنها مخصومة في المماليك، روى ذلك عن ابن عباس، أي: فضل بعضهم على بعض فجعل بعضهم مالكاً وبعضهم مملوكاً. ثم قال تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}، يعني: الجنة خير مما يجمعون في دنياهم من الأموال. قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} - إلى قوله - {فَبِئْسَ القرين}، أي: ولولا أن يكون الناس كلهم (كفاراً) لجعل الله لبيوت من يكفر سقفاً من فضة، ولكن لم يفعل ذلك ليكون في الخلق مؤمنون وكافرون على ما تقدم في علم الله D وتقديره فيهم. وقيل: المعنى: لولا أن يميل الناس كلهم إلى طلب الدنيا ورفض الآخرة

لجعل الله لبيت الكافر سقفا من فضة، ومن وحد السقف فعلى إرادة الجمع. يدل الواحد على الجمع كما نقول: زيد كثير (الدرهم والدينار) وكثير الشاة والبعير. فيرد الواحد على الجنس كله. وقيل: المعنى عند من وحد: لجعلنا لبيت كل من كفر بالرحمن سقفاً. فوحد على المعنى. وقيل: المعنى: لولا ما قدرنا من اختلاف الأرزاق في الناس فيكون في

المؤمنين غتي وفقير، وفي الكافرين مثل ذلك لجعلنا من يكفر بالرحمن أغنياء كلهم. ففي هذا الفعل تنبيه على تحقير الدنيا وتصغير ما فيها. ومن قرأ بالجمع فإنه حمل على اللفظ، فجمع السقف لجمع البيوت، وجمع السرر والأبواب، وهو جمع سقيفة، كقطيفة وقُطُف. وقيل: هو جمع الجمع، كأنه جمع " سقْفاً " على " سُقُوف ". كفَلْس وفُلُوس. ثم جمع سقوفاً على سُقُف كحمار وحُمُر. وقال أبو عبيدة: (سُقُف جمع كرُهُن ورَهْن، ورُهُن عند أكثر النحويين إنما هو جمع رِهَان، ورهان جمع رَهْن فرُهُن أيضاً، جمعُ جمعٍ. وجعل الله السقوف للبيوت كما جعل الأبواب للبيوت. فهو يدل على أن السقف لاَحَقَّ لِرَبِّ العلو فيه، وهو قول مالك وأصحابه.

وتحقيق المعنى في الآية أن الله جل ذكره أراد تهوين أمر الدنيا وأنها لا قيمة لها، فقال: لولا أن يميل الناس كلهم إلى الدنيا ويتركوا الآخرة لأعطينا الكافر من الدنيا أفضل مراده، وذلك لهوان الدنيا عليه، إذ هي شيء زائل مضمحل. وقال الكسائي: معناها لولا إرادتنا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا أن نجعل سقوف بيوتهم من فضة وذلك لهوان الدنيا عند الله، وقال الفراء: لبيوتهم: على بيوتهم. قال الشعبي: سُقُفاً من فضة، أي: جذوعاً. ومعارج، أي: دُرُجاً من فضة. عليها يظهرون، أي: يصعدون على السُّقُفِ والغُرَفِ.

وقال ابن زيد وغيره: المعارج: درج من فضة. وقوله: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً}، يعني: من فضة. {وَسُرُراً}، أي: من فضة عليها يتكئون، قاله ابن زيد وغيره. وقوله: {وَزُخْرُفاً}، أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، يعني: الذهب، قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي والضحاك وقال ابن زيد: الزخرف: ما يتخذه الناس في منازلهم من الفرش والأمتعة والأثاث. وقال مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتى وجدته في قراءة عبد الله ذهباً. والزخرف في اللغة: الزينة، يقال: زخرف داره، أي: زينها. والتقدير في الآية عند من جعل الزخرف الذهب: لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومن

زخرف. ثم حذف " من " فنصب الزخرف. قال الطبري: لو كانت القراءة في الزخرف بالخفض لكان حسناً على معنى: / من فضة ومن زخرف. وقيل: التقدير: وجعلنا لهم زخرفاً - بغير حذف خفض - وهو أقوى وأحسن. والمعارج: الدرج، وجمعت على مفاعل وواحدهما معراج، وكان حقها معاريج بالياء، كمناديل جمع منديل، لكنها جمعت على الواحد معرج وهي لغة، يقول: (مَعْرَجٌ وَمِعْرَاجٌ) كَمَفْتَح ومِفْتَاح. ولذلك تقول في جمع مَفْتَح: (مَفَاتِح، وإن شئت)، مفاتيح على جمع مَفْتَاح. ثم قال تعالى: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} هذا تقليل وتصغير لأمر الدنيا، إذ هي زائلة عن قليل، ولا خير في شيء لا يدوم. والمعنى: وما كل ما تقدم ذكره من (الفضة والذهب) والسرر وإلا مسافة

متاع يستمتع به أهل الدنيا في دنياهم. {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}، أي: وزينة الآخرة ونعيمها خير عند ربك لمن اتقاه فَجَدَّ في طَاعَتِهِ وَتَجَنَّبَ مَعَاصيَه. والمعنى: وثواب الآخرة وجزاء الآخرة خير عند ربك للمتقين. واللام (من و " لما ") عند الكوفيين بمعنى إلا، وهي لام التوكيد عند البصريين. و " ما ". زائدة، وقيل: هي بمعنى: " شيء ". ثم قال تعالى: جل ذكره: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}، أي: ومن يعرض عن الإيمان بما أنزل الله D من كتابه. هذا قول قتادة، وهو قول الفراء، وقال المبرد: " يَعشُ: يتعامى ". ومنه قول الشاعر: متى تأتِهِ تعْشو إلى ضوء ناره ... إلى ضوء ناره (تَجِدْ خَيْرَ عِنْدَهَا خَيْرٌ مُوقِدِ)

وقيل: معنى (يَعْشُ: يَعْمَ)، روي ذلك عن ابن عباس. ولا يصح على هذا المعنى (إلا بفتح) الشين. يقال: عشى يعشى عشى، إذ قرب من العمى. والأعشى: الذي قد ركب بصره ضُعْفٌ وظُلْمةٌ. ومنه يقال: جاء فلان إلى فلان يعشو، إذا جاءه ليلاً لما يركب بصره من الظلمة. وعلى ذلك أيضاً يتأول قول الشاعر. مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ ... (تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرٌ مُوقِدِ) أي: متى تأتيه ليلاً. وحكى بعض أهل اللغة: عشى عن ذكر الله، إذا لم ينتفع به، كما أن الأعشى لا

ينتفع بكل بصره في الضوء. ويقال: عشى يعشى، إذا صار أعشى. وعشا يعشو إذا لحقه ما يلحق الأعشى، وهو من ذوات الواو لقولهم: امرأة عشواء. فالياء هي عشى منقلبة من واو. ولذلك قال النحويون: العشا في البصر يكتب بالألف. فتحقيق معنى الآية: ومن لا ينظر في حجج الله D قريناً من الشياطين. قال السدي: ومن يعش: من يُعْرِض. وقال ابن عباس وابن زيد: ومن يعش: يعم. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل}، أي: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله سبحانه فيحببون لهم الضلالة، ويحسب هؤلاء الكفار

الضالون أنهم على هدى في قبولهم ما تأمرهم به الشياطين. ثم قال: {حتى إِذَا جَآءَنَا}، يعني: الكافر وقرينه من الشياطين. ومن وَحَّدّ " جاء " أراد الكافر وحده، وقد علم أن شيطانه ملازم له فاستغنى عن ذكره. ثم قال تعالى: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين}، أي: حتى إذا جاء الكافر وقرينه من الشياطين: قال الكافر للشيطان حين أورده النار: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين، يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف. وقيل: عنى بذلك المشرق والمغرب، وثنى بلفظ (" مشرق " كما) قيل: سيرة العمرين في أبي بكر وعمر. قال الله جل ثناؤه: {فَبِئْسَ القرين}، أي: فيبس الشيطان قريناً لمن قارنه لأنه

39

يورده إلى النار. قوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ} - إلى قوله: - {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ}، أي: ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب، (أي: لن يخفف) عنكم ما أنتم فيه من العذاب لاشتراككم فيه، بل كل واحد منكم يناله نصيبه من العذاب. فَحَرَمَ الله D أهل النار هذا المقدار من التأسي فلا راحة لهم في شيء، حتى في التأسي لا راحة لهم فيه. ثم قال تعالى: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: أفأنت يا محمد تسمع من أصمه الله عن مساع الهدى على شريطه الانتفاع به، أو تهدي من أعمى الله قلبه وبصره على أن يرى ما يهتدى به، أو تهدي من هو في جور عن الحق بعيد عن الصواب، ليس ذلك إليك يا محمد إنما هو إلى الله D الذي يوفق من يشاء فيهتدي بتوفيقه إياه، ويخذل من يشاء فيضل بخذلانه إياه. ثم قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}.

قال الحسن: هي في أهل الإسلام ممن بقي بعد النبي A قال: لقد كانت بعد نبي الله A نقمة شديدة فأكرم الله D نبيه A أن يريه في أمته ما كان من النقمة بعده. وقال قتادة: لم تقع النقمة، بل قد أذهب الله نبيه ولم ير في أمته إلا الذي تقر به عينه. قال / وليس من نبي إلا وقد رأى في أمته ما لا يشتهي. قال قتادة: ذُكِر لنا أن النبي A أُرِيَ ما يصيب أمته بعده، فما زال منقبضاً ما استبسط ضاحكاً حتى لقي الله جل ذكره. وقال السدي: هذه الآية عُني بها أهل الشرك من قومه A، وقد أراه النقمة فيهم وأظهره عليهم. فالمعنى: فإن نذهب بك يا محمد من بين أظهر هؤلاء المشركين، فإنا منهم

منتقمون كما فعلنا ذلك بالأمم المكذبة قبلهم، أو نريك الذي وعدناهم من النقمة منهم وإظهارك عليهم، فإنا عليهم مقتدرون. ومعنى: الذي وعدناهم: الذي وعدناك فيهم من النصر. وقيل: هو راجع إلى قوله: {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35]. فيكون المعنى: أو نريك الذي وعدنا المتقين من النصر. ثم قال تعالى: {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني القرآن، أي: الزمه واعمل بما فيه أنت ومن آمن بك. ثم قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، أي: وإن هذا القرآن لشرفٌ لك ولقومك، يعني: قريشاً، وسوف تسألون عن الشكر على ما فضلكم به من إنزال كتابه عليكم. وقيل: المعنى: وسوف تسألون عما عملتم فيه من قبولكم لأوامره ونواهيه. ثم قال تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ}، يعني: اسأل يا محمد أهل الكتابين عن ذلك. فالتقدير: وأسال من أرسلنا إليهم قبلك رسلنا. و " من " زائدة.

وفي قراءة ابن مسعود: وسئل الذين ارسلنا من قبلك من رسلنا، هذا قول مجاهد والسدي، وقال قتادة: معناه: سل يا محمد أهل التوراة والإنجيل هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد. وقال الضحاك، أمر النبي A أن يسأل مؤمني أهل الكتاب. وقال ابن زيد: أمر النبي A أن يسأل الأنبياء عن ذلك ليلة جُمُعوا له في الإسراء إلى بيت المقدس. فكان النبي A أشد إيماناً ويقيناً أن الله D لم يأمر بعبادة غيره من أن يحتاج أن يسأل احداً. " فمن " على هذا القول غير زائدة. " ويروى أن النبي A لما نزل عليه ذلك قال له جبريل: سل يا محمد الأنبياء الذين أريتهم في الإسراء قال: " لاَ أَسْأَلُ قَدِ اكْتَفِيْتُ ".

فالمعنى: على هذا القول: (إنه يا محمد) سيسري بك ربك فأسأل الرسل هل أمر الله D أن يُعْبَدَ غيره. وقيل: تقدير الآية: واسأل يا محمد أمم من أرسلنا قبلك (من رسلنا)، ثم حذف المضاف. فيكون المسؤول أهل الكتابين وغيرهم من جميع الأمم، أي: سلهم هل وجدوا في كتبهم أن الله D أمر أن يعبد معه غيره. والتقدير في الآية عند ابن قتيبة: واسأل من أرسلنا إليك قبلك رسلاً من رسلنا، فحذف " إليه " لأن في الكلام ما يدل عليه فالخطاب عنده للنبي A والمراد: المشركون. وحذف رسلاً لأن {مِن رُّسُلِنَآ} يدل عليه كما قال: كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ.

أي: كأنك جَمَلٌ من جمال بني أقيش، وحذف " إليه " عند أهل العربية بعيد في القياس. وقيل: المعنى: " سلنا عن الأنبياء الذين أرسلناهم قبلك ". ويتم الكلام على " رسلنا " و " عن " محذوفة، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار، أي: ما جعلنا آلهة تعبد من دون الله. وأخبر الآلهة كما يخبر عمن، فقال: " يعبدون " ولم يقل " تعبد " ولا " يعبدون "، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فعظموها كما يعظمون الملوك فأجرى الخبر عنها مجرى الخبر عن من يعقل.

48

ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين}، أي: ولقد أرسلنا موسى بالحجج والآيات إلى أشراف قوم فرعون وآل فرعون كما أرسلناك يا محمد إلى قومك. فقال لهم موسى: إني رسول رب العالمين. فلما جاءهم موسى بآياتنا وأدلتنا إذا هم منها يضحكون، أي: يهزءون ويسخرون كما فعل بك قومك يا محمد. وهذا كله تسلية وتصبير للنبي A على ما ناله من قومه، فأعلمه أن ما نزل به من قومه قد نزل بمن كان قبله من الأنبياء فندبه تعالى إلى الصبر فقال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35]. قوله تعالى: {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} إلى قوله - {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، أي: وما نرى آل فرعون من حجة على صدق ما جاءهم به موسى إلا هي أكبر من أختها، أي: هي أبين وآكد عليهم في الحجة من التي مضت قبلها. ثم قال: {وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي: (وأخذنا آل) فرعون بالجدب والسنين والجراد والقمل والضفادع والدم، لعلهم يتوبون إلى الله D ويتركون الكفر. /

ثم قال: {وَقَالُواْ يا أيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ}، أي: وقال فرعون وملأه لموسى لما مسهم الضر بالجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: يا أيها الساحر ادع لنا ربك بعده الذي عهد إليك إنا آمنا بك واتبعناك إن كشف عنا الزجر. وإنما خاكبوه بالساحر وهم يسألونه أن يدعو الله لهم ويعدوه بالإيمان، لأن الساحر عندهم: العالم، ولم يكن الساحر عندهم ذماً، فكأنهم قالوا له: يا أيها العالم. وقيل: خاطبوه بذلك على عادتهم معه، ووعدوه أنهم سيؤمنون به فيما يستقبل، ومعنى: إننا لمهتدون، أي: إننا لمتبعوك ومصدقوك إن كشفت عنا العذاب. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}. في الكلام حذف،

والتقدير: فدعا موسى ربه أن يكشف عنهم العذاب فكشفه الله عنهم. فلما كشفه عنهم نكثوا وعدهم وتمادوا على كفرهم وتكذيبهم لموسى فنقضوا العهد الذي عاهدوا موسى عليه إن كشف الله عنهم العذاب. قال قتادة: ينكثون: يغدرون. ثم قال تعالى: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} الآية، أي: ونادى فرعون في قومه من القبط {قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي}، أي: من بين يدي في الجنات. قال قتادة: تجري من تحتي، قال: كانت له جنات وأنهار ماء. وقوله: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}: (معناه: أفلا تبصرون أيها) القوم ما أنا فيه من النعيم والملك وما فيه موسى من الفقر وَعَيَّ اللسان.

وقدره الأخفش: " أفلا تبصرون، أم تبصرون "، وقدره الخليل وسيبويه: " أفلا تبصرون، أم أنتم بصراء ". ويكون " أم أنا خير " بمعنى: أم أنتم بصراء، لأنهم لو قالو له أنت خير لكانوا عند بصراء. وقوله: {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}، أي: قال فرعون لقومه: بل أنا خير من موسى الذي هو مهين لا عِزَّ له ولا ملك ولا مال يمتهن نفسه في حاجته. " ولا يكاد يبين "، (أي: لا يبين) كلامه، للعقدة التي كانت فيه. قال أحمد بن جعفر: تقف على " أفلا تبصرون "، ثم تبتدئ " أم أنا خير "، بمعنى: بل أنا خير.

قال أبو عبيدة: مجاز " أم " هنا، مجاز " بل ". وقال يعقوب: الوقف: " أفلا تبصرون أم " ويبتدئ: " أنا خير ". وروى عن مجاهد أنه قال: " أفلا تبصرون أم " انقطع الكلام ثم قال: أنا خير من هذا الذي هو مهين "، وكذلك روي عن عيسى بن عمر. والتقدير على هذا الوقف: أفلا تبصرون أم تبصرون فيتم الكلام. ثم حذف " تبصرون " الثاني لدلالة الأول عليه فتقف على " أم " لأنها منتهى الكلام. وقيل: إن من وقف على " أم " جعلها زائدة، وكأنه وقف على " تبصرون " من

قوله: " أفلا تبصرون ". ولا يتم الكلام على " تبصرون " عند الخليل وسيبويه لأن " أم " تقتضي الاتصال بما قبلها. وقوله: " أنا خير من هذا الذي هو مهين " مع " أم " في موضع قوله: أم أنتم بصراء. ثم قال تعالى: حكاية عن قول فرعون: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ}، أي: فهلا كان في يد موسى أساورة ذهباً وواحد الأساورة: إسوار. وفي قراءة أبي: أَسَاوِرُ من ذَهَبٍ. فهذا يدل على أن الواحد إسوار. ولكن لما دخلت الهاء في أساورة حذفت الياء لأنهما يتعاقبان في هذا النحو، نحو: دهاقين ودهاقنة، (وجحاجيح وجحاحجة)، وزناديق وزنادقة، الهاء عوض من الياء، والواحد دهقان وجحجاح وزنديق، وحسن انصرافه لدخول هاء التأنيث فيه.

وقال الزجاج: إنما انصرف لأنه له في الواحد نظيراً نحو علانية وعباقيه. وفيه ثلاث لغات حكاها الكسائي وغيره، يقال: إِسْوَار وسِوَار وسُوَار بمعنى. وقيل: إن أساورة يجوز (أن يكون) جمع أسورة، وأسورة جمع سُوار وَسِوَار. والعرب تسمي الرجل الحاذق بالرمي (بِأُسْوَارُ) إذا كان من رجال العجم. وقوله: {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ}. هذا من قول فرعون، أي: لو كان موسى صادقا لجاء معه الملائكة، قد اقترن بعضهم ببعض متتابعين، يشهدون بصدقه فيما يقول. قال مجاهد: مقترنين: " يمشون معه ". وقال قتادة: مقترنين: متتابعين، وقال السدي: " يقارن بعضهم بعضاً ".

55

قال الله: {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}، أي: فاستخف فرعون عقول قومه من القبط بقوله فقبلوا منه فأطاعوه على الكفر وتكذيب موسى. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ}، أي: خارجين عن طاعة الله سبحانه بكفرهم وتكذيبهم لموسى وتركهم قبول ما جاء هم به. قوله تعالى: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} - إلى قوله -: {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي: فلما أغضبونا حلت بهم العقوبة فأغرقوا في البحر / أجمعين. قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: آسفونا: أغضبونا. وعن ابن عباس: " آسفونا: أسخطونا ". وعنه: أغضبونا. حلت بهم العقوبة فأغرقوا في البحر / أجمعين. قال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: آسفونا: أغضبونا. وعن ابن عباس: " آسفونا: أسخطونا ". وعنه: أغضبونا. ثم قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ}. السَّلَف، جمع سَالِف، كخَادِم

وَخَدَم، وتَابع وَتَبَع، وَغَائِب وغيب. والعرب تقول: هؤلاء سلفنا. وقرأ الكسائي وحمزة: " سُلُفًا " بضمتين وهو جمع سليف حكاه الفراء. وقرأ حميد الأعرج: " سُلَفاً " بضم السين وفتح اللام، وجمع سلفة، والسلفة: الفرقة المتقدمة. والمعنى: فجعلنا هؤلاء الذين أغرقنا مقدمة يتقدمون إلى النار كما سنفعل بكفار قومك يا محمد.

وقيل: المعنى: فجعلنا قوم فرعون سلفا لكفار قومك يا محمد يتقدمونهم إلى النار: قاله مجاهد. وقوله: {وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ}، أي: عبرة وعظة لمن يأتي بعدهم. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، أي: ولما شبه الله D عيسى في إحداثه إياه من غير فحل بآدم إذا قومك يا محمد منه يضحكون ويقولون: ما يريد منا إلا أن نتخذه إلها كما تخذت النصارى المسيح، قاله مجاهد. " وقال ابن عباس لما قال الله D لقريش: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، قالت قريش للنبي A فما ابن مريم؟ فقال: ذلك عبد الله ورسوله: فقالوا: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم رباً. فقال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ".

وقيل: إن الآية نزلت في ابن الزبعرى، وذلك أنه لما أنزل الله جل ذكره {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. قال فالنصارى تعبد المسيح. فقال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} أي: قد علموا أنه لا يراد بالآية عيسى، وإنما يراد بها الأصنام. قال الكسائي والفراء: " يصدون " (بالضم والكسر) لغتان، بعمنى يعرضون. وقال قطرب هما لغتان بمعنى يضحكون.

وقال أبو عبيد: " يَصِدُّون " بالكسر: يضجون، وبالضم يعرضون، وهو قول يونس وعيسى الثقفي. والاختيار في القراءة عند أبي عبيد بالكسر على معنى يضجون لأنها لو كانت بالضم على معنى يعرضون لكان اللفظ: إذا قومك عنه يَصُدُّون. ثم قال تعالى: {وقالواءَأَ الهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}، أي: وقال مشركو قومك يا محمد: أآلهتنا خير أم محمد، فنعبد محمداً ونترك آلهتنا. وفي خرف أُبي: " ءالهتنا خير أم هذا "، يعني: محمداً A. وقال السدي معناه: أآلهتنا خير أم عيسى قال: وذلك أنهم خاصموه فقالوا:

أتزعم أن كل من عبد من دون الله في النار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ابن مريم وعزير والملائكة، هؤلاء قد عُبدوا من دون الله. قال: فأنزل الله براءة عيسى وشِبْهِهِ في قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] الآية. وقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً}، أي: ما مثلوا لك هذا المثل يا محمد إلا للجدل والخصومة. أي: لم يقولوا هذا على طريق المناظرة ولا على (وجه التثبت)، إنما قالوه طلباً للخصومة في الباطل. وهذا فرق بين الجدال والمناظرة، لأن المتناظرين كل واحد منهما يطلب الصواب. والمتجادلين إنما يطلبان تثبيت ما لم يتيقنا صحته، أو ما قد علما باطله. فالمجادل يحاول إثبات الباطل على نفسه، والمناظر يحاول إظهار الصواب عند نفسه.

وعن النبي A ( أنه قال): " مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدىً كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ ". قال سفيان: " بل هم قوم خصمون "، حُدِّثْتُ أنها نزلت في ابن الزبعرى. ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}، أي: ما عيسى إلا عبد أنعم الله عليه بالتوفيق بالإيمان، وجعله الله آية لبني إسرائيل، وحجة عليهم، وهو قوله، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ}. وقيل معنى مثلاً، أي بشراً مثلهم، فضل عليهم. ثم قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ}، أي: ولو نشاء يا معشر بني آدم أهلكناهم وجعلنا منكم بدلاً في الأرض من الملائكة يعبدون الله، وهو نحو قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء: 133]، و {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ} [الأنعام: 133]. وقال ابن عباس: " يخلفون، " يخلفون، أي: يخلف بعضهم بعضاً "، وقاله قتادة. وقال

غيرهما: " يخلفون " معناه: يكونون خلفاً من بني آدم. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ}، أي: وإن ظهور عيسى علم يعلم به قرب قيام الساعة أي: هو من أشراطها، ونزوله إلى الأرض دليل على فناء الدنيا وإقبال الآخرة هذا معنى قول ابن عباس والحسن ومجاهد، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد. فالهاء في: " وإنه " تعود على عيسى على قولهم. وقد قرأ مجاهد: " وإنه لَعَلَمٌ " بفتحتيت على معنى: وإن نزول عيسى لعلامة لقرب الساعة. ورُوي عن الحسن أنه قال معناه: وإن هذا القرآن لعلم للساعة، وحكي مثله

عن قتادة. روي عن النبي A أنه قال: " لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً فَلَيَكْسِرْنَّ الصَّلِيبَ وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ ". وروى مالك عن ابن شهاب عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة أن النبي A قال: " لَيَهلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ (الرَّوْحَاءِ حَاجّاً ومُعْتَمِراً) أَوْ لَيُثَنِّهِمَا جَميعاً ".

وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة قال: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً وَإِمَاماً مُقْسِطاً، فَيَكْسرُ الصَّليبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزيرَ، وَيضعُ الجِزْيةَ، وَتَضَعُ الحَرْبَ أَوْزَارَهَا، وتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً لله ربِّ العَالَمينَ ". وقال النبي A: " يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَالَ (بِبابِ لُدٍّ) ". قال ابن القاسم عن مالك: بينهما الناس (بباب لد) إذ يسمعون الإقامة، فتغاشهم غمامة، فإذا عيسى ابن مريم قد نزل.

وروي عن النبي A أنه قال: " يَنْزِلُ عِيسَى عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقيّ دِمَشْقَ ". وروي (عن ابن عمر) أنه قال: " يخرج الدجال، ويبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيطلبه ويهلكه. وروي عنه A أنه قال: " لاَ تَهْلَكُ أُمَّةً أَنَا أَوَّلُها والمَسِيحُ آخِرُهَا ".

62

وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: " يموت عيسى (في المدينة) فيدفن مع النبي A ومع أبي بكر وعمر، وقد ترك موضع قبره بينهم. قال عبد الله بن سلام: نجد في التوراة أن عيسى يدفن مع محمد A. وكان بعض الصحابة يتوقع قرب نزوله. وروي عن أبي هريرة أنه كان يلقى الغلام الشاب فيقول له: إن لقيت عيسى بن مريم فأَقْرَه عني السلام، وقاله أبو ذر لبعض جلسائه. وقيل: المعنى: وإن محمداً لعلم للساعة لأنه خاتم النبيين. فيكون معناه: يُعْلِمُ بَعْثُهُ قُرْبَ قيام الساعة. وهي في قراءة أبي: " وإِنَّهُ لَذِكْرٌ للسَّاعَةِ ". ثم قال تعالى: {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا}، أي: لا تشكن في قيام الساعة أيها الناس. ثم قال: {واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، أي: وأطيعون أيها الناس، هذا الذي جئتكم به طريق لا عوج فيه. قوله تعالى: {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} - إلى قوله -: {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ}، أي: ولا يمنعكم الشيطان من اتباع الحق.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: ظاهرة العداوة. ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة}، أي: ولما جاء عيسى) بني إسرائيل) بني إسرائيل بالآيات الواضحات. يعني: المعجزات. وقيل: بالبينات: بالإنجيل: قاله قتادة، قال لهم قد جئتكم بالحكمة. قال السدي: الحكمة ها هنا النبوءة. وقيل: الحكمة، الإنجيل. ثم قال: {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}. قال أبو عبيدة: " بعض " بمعنى: " كل " وَرَدَّ ذلك أكثر العلماء لأن فيه التباسَ المعاني وفسادَ الأصول ونقضَ العربية. والمعنى عند الزجاج: ولأبين لكم في الإنجيل بعض الذي تختلفون فيه. (فبين

لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل معناه: إنه يبين لهم بعض الذي اختلفوا فيه من أحكام التوراة على مقدار ما سألوه عنه، ويجوز أن يختلفوا في أشياء غير ذلك لم يسألوه عن بيانها. قال مجاهد/ معناه: ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من تبديل التوارة. وقيل المعنى إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موسى في أِشياء من أمر دينهم، وأشياء من أمر دنياهم/ فبين لهم عيسى بعض ما اختلفوا فيه وهو أمر دينهم خاصة، فلذلك قال: {بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}. ثم قال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}، أي: فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وأطيعون فيما أقول لكم.

{إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه}، أي: إن الذي يستوجب الإفراد بالعبادة هو الله. {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}، أي: هذا الذي أمرتكم به هو الطريق المقوم الذي لا يوصل إلى رضى الله إلا باتباعه. ثم قال تعالى: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ}. قال قتادة: الأحزاب هنا، هم الأربعة الذين أخرجهم بنو إسرائيل يقولون في عيسى. فكر ابن حبيب أن النصارى افترقت في عيسى بعد رفعه على ثلاث فرق: فرقة قالت: هو الله، هم اليعقوبية قال الله عنهم:

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. وفرقة ثانية قالت: هو ابن الله، وهم النسطورية. وهم الذين قال الله فيهم: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30]. وفرقة ثالثى قالت: هم ثلاثة: الله إله، وعيسى إله، وأمه إله وهم الملكانية. وهم الذي قال الله فيهم: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73].

فالنصارى إلى اليوم على هذه إلى اليوم على هذه الثلاث فرق. وكانوا فيه - إذ كان بين أظهرهم - على فرقتين: فرقت آمنت به، وفرقة كفرت به - وهم الأكثر - ثم لما رفع اختلفوا/ فيه على هذه الأقوال الثلاثة. وقال السدي: " الأحزاب: اليهود والنصارى ". ومعنى من بينهم، أي: من بين من دعاهم عيسى إلى ما دعاهم إليه من اتقاء الله والعمل بطاعته. ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، أي: فالوادي السائل من القيح والصديد في جهنم للذين كفروا بالله من عذاب يوم أليم، وهو يوم القيامة. ثم قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}، أي: هل ينظر هؤلاء الأحزاب المختلفون في عيسى إلا الساعة (بغتى، أي: فجأة). " وأن " في موضع نصب بدل من " الساعة " بدل الاشتمال. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}، أي: لا يعلمون بمجيئها. ثم قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} أي: المتخالون على

معاصي الله في الدنيا يوم تقوم الساعة يتبرأ بعضهم إلإ الذين تخالوا فيها على تقوى الله. قال ابن عباس: " كل خلة في الدنيا هي عداوة يوم القيامة، إلا خلى المتقين ". وقال مجاهد، معناه: الأخلاء في الدنيا على معصية الله متعادون يوم القيامة. ثم قال تعالى: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} وفي الكلام حذف، أي: إلا المتقين، فإنه يقال لهم يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون على فراق الدنيا، لأنكم قَدِمْتُمْ على ما هو أفضل منها. وروي (أن الناس) ينادون بهذا النداء يوم القيامة فيطمع فيها من ليس من أهلها، حتى إذا سمع قوله: {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} (فييئس منها عند ذلك كل أحد إلا المسلمين ومعنى " وكانوا مسلمين "، أي: وكانوا أهل خضوع لله D

بقلوبهم. وقيل: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ} [النمل: 13، غافر: 83] الرسل واستسلام له. وروي عن بعض التابعين أنه قال يخرجون من القبور وكلهم مدعين فيناديهم منادٍ: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فيطمع فيها الخلق كلهم/ فيتبعها: {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ}. فيئس منها الخلق إلا أهل الإسلام. قال (ابن عباس): يخرجون فينطرزن إلى الأرض غير الأرض التي عهدوا، (وإلى الناس غير الناس الذين عهدوا). وكان ابن عباس يتمثل بعد هذا القول بقول الشاعر: فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الذِينَ عَهِدتَّهُمْ ولا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كَنْتَ تَعْرِفُ

ثم قال تعالى: {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}، أي: تكرمون، قاله ابن عباس. وروي أن النبي A سئل هل تحبرون فقال: " اللَّذَّةُ والسَّماعُ بِمَا شَلءَ اللهُ (مِن ذِكْرِهِ) ". " فالذين " يحتمل أن يكون مبتدأ " وادخلوا " الخبر على حذف القول، أي: يقال لهم: ادخلوا الجنة. ويجوز أن يكون نعتاً " للعباد " في موضع نصب، يدل على ذلك قوله: {ادخلوا الجنة} وما بعده. فأتى بلفظ الخطاب. ويدل على الوجه الأول قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} وما بعده، فأتى بلفظ الغيبة. فالعباد مخاطبون لأن المنادى مخاطب. " والذين " لفظهم لفظ غيبة. فكلا (الوجهين له) دليل. ثم قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ}، أي: يطاف على هؤلاء الذين آمنوا في الجنة بقصاع من ذهب وأكواب من ذهب، أي: يطوف عليهم بذلك الغلمان.

والأكواب التي ليست لها آذان "، قاله السدي. وقال قتادة: هي دون الأباريق. وقيل: الكوب الإبريق المستدير الذي لا أذن له ولا خرطوم. والمعنى: يطاف عليهم في الجنة بصحاف الطعام وأكواب الطعام وأكواب الشراب من ذهب. فاستغنى بذكر الصحاف والأكواب عن ذكر الطعام والشراب لمعرفة السامعين بمعناه. قال ابن جبير: إن أدنى أهل الجنة منزلة مَنْ له قصر فيه سبعون ألف خادم، في يد كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبتها. لو فَتَحَ بابه فضافَه أهل الدنيا لوسعهم، ر يستعين عليهم بشيء من غيره، وذلك قوله: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} [ق: 35] {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس}.

قال عبد الله بن عمر: (وما أحد) من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، (كل غلام على) عمل خلاف ما عليه صاحبه. وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس}، أي: وفي الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون وتلذ أعينكم. {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أي: ماكثون أبداً. " وروى سفيان أن رجلاً سأل النبي A فقال يا رسول الله، إني أحب الخيل، فهل في الجنة خيل؟ فقال له: " إنْ يُدْخِلكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَلاَ تَشَاءُ أََنْ تَرْكَبَ فَرَساً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطيرُ بِكَ في أَيِّ الجَنَّةِ شِئْتَ إِلاَّ فَعَلْتَ. فقال الأعرابي: يا رسول الله، إني أحب الإبل، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يَا أَعْرَابِيُّ، إِنْ يُدْخِلَكَ اللهُ الجَنَّةَ - إِنْ شَاءَ اللهُ - فَفِيها مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ لَكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ ".

وقال أبو أمامه: إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير فيقع في كفه نضيحاً فيأكل منه (حيث تشتهي) نفسه / ثم يطير، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد، ثم يرجع إلى مكانه. وقال أبو طيبة السلمي: إن الشَّرْبَ من أهل الجنة لَتُظِلُّهُم السحاب، فقال فتقول: ما ما أمطركم؟ قال: فما يدعو داع شيئاً إلا أمطرتهم، حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أتراباً. ثم قال تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، (أي: وتلك الجنة أورثكموها الله عن أهل النار، بما كنتم تعملون) في الدنيا من الخير.

74

{لَكُمْ فِيهَا}، أي: في الجنة. {فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ}، أي: من كل نوع. {مِّنْهَا تَأْكُلُونَ}، أي: من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم. وقد قال ابن خالويه: إنما أشار إلى الجنة بإِارة البعيد فقال: " وتلك " وأشار إلى جهنم في (قوله: هذه) جهنم بإشارة القريب لتأكيد التخويف من جهنم لأن الله D قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب الله D قد يتفضل على عباده فيدخلهم الجنة بغير عمل كالأطفال والمجانين، ولا يعذب أحد منهم إلى على ذنب اكتسبه، فحذرهم الله D في النار وقَرَّب الإشارة إليها، (أكثر مما شوقهم) إلى الجنة، فجعل جهنم كأنه يُنظر إليها كالحاضرة، تخويفاً منها. قوله تعالى: {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ}، إلى آخر السورة، أي: إن الذين اكتسبوا الكفر في الدنيا يوم القيامة في عذاب جهنم ماكثون أبداً، لا يخفف عنهم العذاب.

وهم في العذاب مبلسون، قال قتادة: مستسلمون. وقال السدي: " مُبلسون: متغير حالهم ". وقال الزجاج: " الملبس: الساكن، الممسك إمساك يائس من فرجٍ ". وقال الطبري: المبلس: اليأس من النجاة. وقال النحاس: المبلس: المتحير الذي قد يئس من الخير. ثم قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين}، أي لم نظلمهم في عذابنا لهم (ولكن هم) ظلموا أنفسهم بكفرهم في الدنيا. ثم قال تعالى: {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي: ونادى المجرمون بعد دخولهم جهنم مالك خازن فقالوا: يا مالك لِيُمِتْنَا رَبُّكَ فيفرغ من إماتتنا. روي أن مالك لا يجيبهم في وقت دعائهم، ويدعهم ألف عام ثم يجيبهم

فيقول: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} قاله ابن عباس. وقال ابن عمر: إن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً فلا يجيبهم ثم يقول: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}، ثم ينادون ربهم: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] فيدعوهم مثل الدنيا ثم يرد عليهم {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [الؤمنون: 108] فما نفس القوم بعد ذلك بكلمة، إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. وقال نوف البكالي يتركهم مالك مائة سنة مما تعدون (ثم يناديهم)

فيستجيبون له، فيقول: {إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ}. وقال السدي: يمكثون ألف سنة مما تعدون، ثم يجيبهم بعد ألف عام، إنكم ماكثون. قال ابن زيد وغيره: ليقض علينا ربك: ليمتنا. القضاء هنا الموت. ثم قال: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق}، أي: لقد جاءتكم الرسل من عند ربكم. {ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}، أي أكثرهم لا يقبل الحق فهذا الذي أنتم فيه جزاء فعلكم. ثم قال: {أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}، (أي: أم أبرم) هؤلاء المشركون من قريش أمراً يكبدون به الحق فإنا مبرمون. أي: نخزيهم ونذلهم ونظفرك

يا محمد بهم. قال مجاهد: معناه إن كادوا بشرٍّ كدناهم مثله. وقال قتادة: معناه: (أم أجمعوا) أمراً فإنا مجمعون ". وقال ابن زيد معناه: (أم أحكموا) أمرهم فإنا محكمون لأمرنا. وقال الفراء معناه: أم أحكموا أمراً ينجيهم من عذابنا على قولهم فإنا نعذبهم. يقال: أبرم الأمر إذا بالغ في إحكامه. وأبرم الفاتل إذا أدغم، وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل كما قال زهير:

مِنْ سَحِيلٍ وَمُبْرَمِ ... ثم قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى}، أي: نسمع ذلك ونعلم ما أخفوا وما أعلنوا. ثم قال: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، أي والحَفَظَةُ عندهم يكتبون ما نطقوا به. ويروى " أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر تدارءوا في سماعالله D كلام عبادة ". قال محمد بن كعب القرظي: بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي، أو ثقفيان، وقرشي، فقال واحد من الثلاثة: ترون أن الله يسمع كلامنا؟! فقال: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع.

فقال الثاني: إن كان يسمع إذا أعلنتم فإنه يسمع إذا أسررتم قال: فنزلت: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} الآية. ثم قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}، أي: قل يا محمد إن كان للرحمن ولد على زعمكم فأنا أول المؤمنين بالله في تكذيبكم فقولوا ما شئتم، هذا معنى قول مجاهد. وقال ابن عباس / معناه: لم يكن ولد فأنا أول الشاهدين " (فمعنى الكلام) على قول ابن عباس: ما كان ذلك ولا ينبغي أن يكون، وهو معنى قول قتادة وابن زيد، وهو قول زيد بن أسلم. ف " إن " معنى: (" ما " التي للنفي).

وقيل معنى: {فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين}، أي: أول من يعبد الله D بالإيمان والتصديق أنه ليس للرحمن ولد، أي: على (هذا عبد) الله سبحانه وقال السدي معناه: " لو كان له ولد كنت أول من عبده (بأن له ولداً) ولكن لا ولد له ". فجعل " إن " للشرط، وهو اختيار الطبري، لأنك إذا جعلت " إن " بمعنى " ما " أوهمت أنك إنما نفيت عن الله سبحانه الولد فيما مضى دون ما هو آت. وإذا جعلت " إن " للشرط أخبرت أنه كان له ولد على قولكم فأنا أول من عبده على ذلك ولكن لا ولد، ولا ينبغي أن يكون، وهذا عنده (من الإلطاف) في الكلام، وحسن المخاطبة بمنزلة قوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]، وقد

علم أن الحق معه وأن مخالفيه في الضلال. وقيل معنى " العابدين " الآنفين. حكى: ما عبد فلان إن فعل كذا، أي: ما أنف. وهذا قول مردود لأنه يلزم منه أن يقول العابدين. إنما يقال، فلان عبد من كذا، أي: آنف منه. ولا يقال عابد بمعنى: أنف. وقال: أبو عبيد مجازها: فأنا أول العابدين، أي: الجاحدين من عبد يعبد إذا حجد. وحكى: فلان عَبَدَني حَقّاً، أي: جحدني. ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض}، أي: تبرئة له وتنزيهاً له من الولد وغير ذلك من الأشياء المذمومة. وقوله: {رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ}، أي يكذبون. وحكى أبو حاتم أن قوماً يقفون {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ}، ثم يبتدؤون:

{فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} على معنى: قل يا محمد: ما كان للرحمن ولد: وهو قول يعقوب وغيره. ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ}. هذا تهدد ووعيد من الله جل ذكره للمشركين، أي: سيعلمون يوم القيامة جزاء لعبهم خوضهم في الباطل. ثم قال تعالى: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله}، أي: هو المعبود في السماء وفي الأرض، فلا شيء تصلح له الألوهية إلا هو. قال قتادة: معنى الآية: وهو الذي يعبد في السماء ويعبد في الأرض. ثم قال: {وَهُوَ الحكيم العليم}، أي: وهو الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم. وفي حرف ابن مسعود: (وهو الذي في السماء وفي الأرض الله)، وهي

مروية عن عمر وأُبي. ثم قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا}، أي: وتعالى الذي في ملكه ذلك وكله وفي تدبيره وبيده. وقوله: {وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة}، أي: وتفرد بعلم قيام الساعة، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي: تردون بعد مماتكم. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفاعة}، أي، ولا تملك الآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من دون الله D شفاعة لمن عبدهم، قال مجاهد. والقول الأول قاله قتادة. {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق}، أي: بالتوحيد لله والطاعة له. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أي: يعلمون (أن ما أقروا به حق). وقيل معنى {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق}، يعني: عيسى وعزيرُ والملائكة فإنهم

يشفعون لمن أراد الله D. قال مجاهد، معناه: لا يشفع المسيح وعزير والملائكة إلا من شهد بالحق، أي: قال لا إله إلا الله. فهذا يدل على أنه استثناء ليس من الأول. ثم قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله}، أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك من خلقهم ليقولون خلقهم الله. ثم قال: {فأنى يُؤْفَكُونَ}، أي: فمن أي وجه يصرفون عن عبادة الله الذي خلقهم، ويحرمون أتباع رضاه. ثم قال تعالى: {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} من نصب " وقيله " عطفه، عند الأخفش على " سرهم ونجواهم " (أي: نسمع سرهم ونجواهم وقيله. وقيل إنما) يجوز نصبه على المصدر.

وقال الزجاج: هو معطوف على موضع الساعة، (لأن معنى " وعنده علم الساعة ") ويعلم وقت الساعة ويعلم قيله. وقيل هو معطوف على مفعول " يعلمون " المحذوف، والتقدير: هم يعلمون الحق وقيله. وقيل معطوف على مفعول " يكتبون " المحذوف، والتقدير: ورسلنا لديهم يكتبون ذلك وقيله. ومن خفضه عطفه على لفظ " الساعة "، أي: وعنده علم الساعة وعلم قيله.

والرفع فيه جائز على الابتداء. والمعنى: ونسمع شكوى محمد وقيله: يا رب، إن هؤلاء الذين أمرتني أن تدعوهم وننذرهم لا يؤمنون. وهذا قول كان يقول له النبي A لما امتنعت عليه قريش من الإيمان فأنزله الله جل ذكره. قال مجاهد وقتادة: هذا قول نبيكم A يشكو / قومه إلى ربه، حكاه الله جل ذكره لنا في كتابه. والهاء في " وقيله " عائد على النبي A وقيل: تعود على عيسى، فترجع على قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً} [الزخرف: 57]- الآية. ثم قال تعالى: {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ}، أي: دعهم واغفر لهم قولهم

وفعلهم، وقل: مسالمة ومتاركة مني إليكم، وتقديره: وقل أمري سلام. وهذا كان قبل أن يؤمر بالقتال، ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال. وقال الفراء: التقدير: وقل سلام عليكم، ثم حذف، وهو بعيد لم يؤمر النبي A بأن يجيبهم، إنما أمر (بأن يسالمهم) حتى يأتيه أمر الله D. وقد نهى النبي A أن يبدأ النصارى واليهود بالسلام فكيف يأمره الله بذلك للمشركين وينهاه عنه. قال ابن عباس: " فاصفح عنهم، أي: أعرض عنهم ". ثم قال: (فسوف تعلمون). هذا تهدد ووعيد، أي: سوف تلقون ما يسوؤكم إن تماديتم على كفركم.

الدخان

سورة الدخان مكية قال الحسن: "من قرأ سورة الدخان ليلة الجمعة غفر له". ومن رواية ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قرأ يس وحم الدخان في ليلة جمعة إيماناً واحتِسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).

1

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَرَأَهُمَا فِي يَوْمٍ في أَولَ نَهَارهِ لَم يُدْرِكُهُ ذَنْب إِلاّ الشّرْكُ بالله سُبْحَانَهُ". قال تعالى: {حم* والكتاب المبين} - إلى قوله -: {إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ}، قد تقدم ذكر حم. وقوله: {والكتاب المبين} معناه، وحق الكتاب الظاهر، يعني: القرآن. وجواب القسم في وقوله: {والكتاب المبين} قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}. وقيل: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ}. وقيل: لا يجوز أن يكون الجواب {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} لأنه صفة للمقسم به. ولا يكون صفة المقسم به جواباً للقسم.

ثم قال: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، يعني: القرآن أنزل إلى السماء الدنيا جملة ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، ثم نزل على النبي A في نيف وعشرين سنة نجوماً، نجم بعد نجم، وهو معنى قوله تعالى: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1]، أي: والقرآن إذا نزل، وهو معنى قوله أيضاً: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75]، اي: أقسم بنزول القرآن و " لا " صلة. قال قتادة: الليلة المباركة: ليلة القدر. ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، (ونزلت التوارة لست ليالٍ مضين من رمضان، ونزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان)، ونزل الإنجيل الثماني عشرة ليلة مضت من رمضان، ونزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان.

قال ابن عباس: أنزل الله D القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل به جبريل في عشرين سنة. وقيل المعنى: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. قال عكرمة: هي ليلة النصف من شعبان فيها يبرم أمر السنة. وظاهر التلاوة يدل على أنها ليلة قد تفرق فيها الأرزاق وتقضي الآجال إلى مثلها من قابل. قال أبو العالية: ليلة القدر بركة كلها، لا يوافقها عبد مؤمن يعمل إحساناً إلا غفر له ما مضى من ذنوبه. قال عكرمة: يكتب في ليلة النصف من شعبان حاج بيت الله الحرام فلا يغادر منهم أحداً ولا يزاد فيهم أحد.

والبركة في اللغة: الثبات والدوام والزيادة. وقوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، أي: منذرين خلقنا بهذا القرآن الذي أنزلناه في ليلة القدر أن يجل بهم العذاب بكفرهم. ثم قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، أي في تلك الليلة المباركة يقضى كل أمر محكم، وهو أمر السنة كلها، من يموت ومن يولد، ومن يُعَزُّ ومن يُذَلُّ، وغير ذلك. سئل الحسن: هل ليلة القدر في كل رمضان؟ فقال: أي، والله إنها لفي كل رمضان، سئل الحسن: هل ليلة القدر في كل رمضان؟ فقال: أي، والله إنها لفي كل رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها، وهو قول مجاهد وقتادة، وقاله ابن عباس وغيره. وقيل معنى " يفرق ": يفصل بين المؤمن والكافر والمنافق فيقال للملائكة هذا فيعرفونه. وروي عن النبي A أنه قال: " (تُقْطَعُ الآجَالُ) مِنْ شَعبَانَ إِلى شَعْبَانَ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَلَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي المَوْتَى "، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّهَا لَيْلَةُ

النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ". ثم قال تعالى: {أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ}، أي: قضاء قضيناه، أي: أمراً نأمر به تلك الليلة. وانتصب أمراً على أنه مصدر في موضع الحال عند الأخفش، أي: إنا أنزلناه آمرين أمراً وراحمين رحمةً. وقال المبرد: نصبه نصب المصدر على معنى: أنزلناه إنزالاً فالأمر يشتمل على الإخبار. وقال الجرمي: هو حال من نكرة، وأجاز هذا رجلٌ مُقْبِلاً.

وقال الزجاج: هو مصدر: والتقدير: فيها يفرق فرقاً / فأمر، بمعنى: فرق. وقيل: إن " يفرق " يدل على " يؤمر " فانتصب " أمراً " على المصدر وعمل فيه المعنى. وقوله: {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم}. انتصب الرحمة على الحال - عند الأخفش -، ونصبه الفراء على أنه مفعول ل " مرسلين "، وجعل " الرحمة " هي النبي A وأجاز الزجاج أن تنصبه على أنه

مفعول من أجله. وقيل: هي بدل من " أمراً ". وقيل: نصبها على المصدر. والمعنى: إنا كنا مرسلين رسولا وهو الرحمة. إن الله هو السميع لما يقول المشركون في رسوله، العليم بما ينطق (في علمه) ضمائرهم وغير ذلك من أمورهم. " وإنا أنزلناه جواب القسم. ثم قال تعالى: {رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ}، أي: الذي أنزل الكتاب على محمد A وهو رب السماوات والأرض وما بينهما، أي: هو مالك ذلك كله ومبتدعه ومدبره. {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ}، أي: إن كنتم توقنون بحقيقة ما أخبرتكم به من أن ربكم رب السماوات والأرض. وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين}، أي: هو مالككم ومالك من مضى قبلكم من آبائكم الأولين.

ثم قال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ}، أي ما هم على يقين مما يقال لهم (لكنهم في شك منه، فهم يلعبون لشكهم. ثم قال تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي: فانتظر يا محمد) النقمة منهم وقت يحول بينهم وبين السماء دخان من شدة الجوع. بلغ بهم الجوع إلى أن كانوا يأكلون الغلهز، والغلهز أن يفقأ القُراد في الصوف. ويشوى ذلك الصوف بدم القراد ويؤكل. والقُراد: الحلم. فرحمهم النبي A وبعث إليهم بصدقة ومال. ومفعول: " فارتقب " محذوف، وهو النقكة وشبهها. وقيل: التقدير هذا عذاب أليم فارتقبه يوم تأتي، وفيه بُعْدٌ لحذف الهاء من غير صلة ولا صفة، ولأنه رفع " العذاب " مع حذف الهاء، وذلك لا يحسن إلا في الشعر. " وقد حَلَّ (بقريش ذلك كله)، إذ دعا عليهم النبي A فقال: " اللَّهُمَّ سِنِينَ

كَسِني يُوسُفَ ". فأُخِذُوا بالجوع. فكان الرجل يحول بينه وبين النظر إلى السماء دخان من شدة الجوع، فيصير كهيئة الدخان، هذا قول ابن مسعود وغيره من المفسرين. وقيل: الدخان آية من آيات الله يرسله الله D على عباده قبل مجيء الساعة فيدخل في أسماع أهل الكفر ويعتري أهل الإيمان كهيئة الزكام، روي ذلك عن ابن عمرو والحسن. وروى حذيفة بن اليمان أن النبي A قال: " أَوَّلُ الآياتِ الدُّخَانُ، وَنُزُولُ عِيسَى، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنُ أبين تَسُوقُ النَّاس إِلَى المَحْشَرِ تَقِيلُ مَعَهُمْ إِذا

قَالُوا. قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟: فتلا رسول الله A: { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} - الآية، ثم قال: (يُمْلَكُ بِالدُّهَانِ) مَا بَيْنَ (المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)، يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَةً. أَمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبَهُ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّكْمَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَكَهَيْئَةِ السَّكْرَانِ، يَخْرُجُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ ". وقيل: إن الدخان هو ما ينتظر بهم يوم القيامة من العذاب، قاله زيد بن علي. ثم قال: {يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: يغشى ذلك الدخان الناس يقولون هذا عذاب أليم. ثم قال: {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ}، أي: يقولون ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. ثم قال تعالى: {أنى لَهُمُ الذكرى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ}، أي: من أي وجه لهم

16

التذكر بالإيمان عند حلول العذاب بهم، وقد تولوا عما جاءهم به رسولهم. {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ}، أي: علم هذا الذي جاءنا به ليس هو من عند الله. ثم قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً}، أي: إنا نكشف عنكم العذاب الذي نزل بكم بالخصب والرخاء وقتاً قليلاً، إنكم عائدون إلى كفركم إذا كشفناه عنكم، (وتنقضون ما عهدتم) به أنكم تؤمنون إذا كشف عنكم. وقيل معناه: إنكم عائدون في عذاب الله (في الآخرة) إن لم تؤمنوا. وقيل معناه: عائدون إلى الشرك. قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} - إلى قوله - {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ}، أي: ننتقم منكم إن عدتم إلى كفركم عند كشفنا عنكم ما أنتم فيه من الجهد يوم نبطش البطشة الكبرى، وهو يوم بدر عند أكثر المفسرين، قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد وأبو العالية، وهو قول وهو قول أُبي بن كعب، أمكن الله D منهم المؤمنين يوم بدر فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.

والعامل في " يوم نبطش ": " منتقمون ". / وقيل: العامل فيه فعل مضمر، تقديره: اذكر يا محمد يوم نبطش. وهو الأحسن، لأن الظرف لا يعمل فيه ما بعد أن عند البصريين. وقيل: التقدير: ننتقم يوم نبطش، ودل عليه " منتقمون ". وفيه أيضاً بُعْدٌ لأن ما بعد " إنَّ " لا يفسر ما قبلها كما لا يفعل (ما بعدها) فيه. فإضمار " اذكر " أحسن الوجوه، وذلك أن الله جا ذكره كشف عنهم ما كانوا فيه من الجهد فعادوا إلى كفرهم فأهلكهم قتلا بالسيف يوم بدر. فيكون العامل في " يوم نبطش " فعلاً مضمراً يفسره " إنا منتقمون ". ولا يحسن أن يعمل فيه " منتقمون "، لأن ما بعد " أن " لا يعمل فيما قبلها. ويجوز أن يكون العامل " اذكر " مضمرة. وقال عكرمة: البطشة الكبرى هي بطشة الله D بأعدائه يوم القيامة.

وكذلك روى قتادة عن الحسن. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}، أي اختبرناهم وابتليناهم قبل مشركي قومك يا محمد. {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} يعني موسى A أي " كريم عند ربه D. وقيل كريم من قومه. وقيل: الفتنة في هذا العذاب. وفي الكلام تقدير وتأخير، والتقدير، ولقد جاء قوم فرعون رسول كريم. وفتناهم، أي: عذبناهم بالغرق، لأن العذاب - وهو الغرق - كان بعد مجيء موسى إليهم وإنذاره إياهم وكفرهم . ثم قال تعالى: {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}. قال ابن عباس معناه: (أن اتبعوني) إلى ما أدعوكم إليه يا عباد الله فيكون " عباد ": نصب على النداء المضاف على هذا القول.

وقال مجاهد معناه: أن أرسلوا معي عباد الله وخلوا سبيلهم، يعني بني إسرائيل، وهو مثل قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47]. وقيل التقدير: وجاءهم رسول أمين يقول لهم: أدوا إِليَّ عباد الله أي: خلوا

سبيلهم إني لكم رسول من الله إليكم، أنذركم بأسه إن لم تؤمنوا، أمين على وحيه ورسالته إليكم. ثم قال: {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}، أي: وجاءكم رسول كريم بأن أدوا إلي عباد الله وبألا تعلوا على الله، أي: لا تطغوا على ربكم فتكفروا به. {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}، أي: بحجة ظاهرة تدل على صحة ما جئتكم به. ثم قال: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ * وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون}، أي: قال لهم موسى ": وإني اعتصمت واستعذت بربي وربكم من أن تشتمون بألسنتكم، قاله ابن عباس والضحاك. وقال أبو صالح: أن ترجمون معناه: أن تقولوا لي شاعر (أو كاهن) أو ساحر.

وقال قتادة معناه: " أن ترجمون بالحجارة ". وقال الفراء: " الرجم - هنا - القتل ". استجار بالله D واعتصم به سبحانه من أن يقتلوه. ثم قال لهم: {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون}، أي: أذا أنتم لم تصدقون فيما أقول لكم فخلوا سبيلي (ولا تؤذون). وقيل معناه: فدعوني كفافاً، لا عَلَيَّ ولا لي. قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ}، أي: فدعا موسى ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا وهموا بقتله. وفي الكلام حذف تتصل الفاء به. والتقدير: فكفروا فدعا ربه ولو لم يكن هذا الإضمار لم تتصل الفاء بشيء ومثله في قوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي}. قوله: {أَنَّ هؤلاء}، أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء قوم مجرمون لا يؤمنون بما

جئتهم به. ثم قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ}. في هذا الكلام حذف. والتقدير: فأجابه ربه D بأن قال له: فأسر بعبادي ليلاً، يعني: بني إسرائيل، أي: فأسر بعبادي الذين صدقوك وآمنوا بك ليلاً إنهم متبعون، أي: إن فرعون وجنوده من القبط يتبعونكم إذا سريتم من عندهم. ثم قال: {واترك البحر رَهْواً}، أي: إذا قطعت البحر (أنت وأصحابك) فاتركه ساكناً على حاله حين دخلته. هذا لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر. لم يكن في (وسع موسى) ترك ذلك، ولم يكن الله D ليأمره بما لا يقدر عليه، فهو وعد من الله D لموسى أن يفعله له، وكأنه قال: ويبقى البحر على حاله ساكنا حتى يدخله فرعون وجنوده فيغرقون. قال ابن عباس، معناه: واتركه طريقاً. وقال الضحاك: سهلاً. وقال مجاهد معناه: واتركه ساكناً لا يرجع إلى ما كان عليه حتى يحصل فيه

آخرهم، وهو معنى قول ابن عباس: اتركه طريقاً، وروي عن مجاهد أيضاً " رهواً ": يابساً، وحكى المبرد: عيش (راهٍ، أي): خفض وادع. قال: فمعنى رهواً: ساكناً، حتى يحصلوا فيه وهو ساكن فلا (ينفروا منه). وقيل الرهو: المتفرق ويقال: جاء القوم رهواً، أي: على نظام واحد. وروي أن الله جل ذكره قال هذا لموسى بعد أن قطع البحر بنو إسرائيل. فعلى / هذا القول يكون في الكرم حذف. والتقدير: فسرى موسى بعبادي

ليلاً وقطع بهم البحر فقلنا له بعدما قطعه وأراد رد البحر إلى هيئته التي كان عليها قبل اتفلاقه: اتركه رهواً، أي: ساكناً على حاله لا ترده إلى (هيئته الأولى) حتى يدخلوا كلهم فيه ويطمئنوا. هذا القول هو قول قتادة. قال قتادة: لما خرج آخر بني إسرائيل أراد نبي الله موسى عليه السلام أن يضرب بالبحر بعصاه حتى يعود كما كان مخافة أن يتبعه فرعون وجنوده، فقيل له: اتركه اكناً على حاله إنهم جند مغرقون، فغرقهم الله D في البحر. ثم قال تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ}، أي: كم ترك آل فرعون - يعني: القبط المغرقين - من بساتين وينابيع ماء تتفجر في بساتينهم وزروع قائمة. {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}، يعني: مقام الملوك والأمراء، كانوا يعظمونه ويشرفونه، يعني به المنابر، (قاله ابن عباس وقيل: هي المنازل الحسنة. ومعنى

كريم: حسن). ثم قال: {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ}، أي: وأخرجوا من نعمة كانوا فيها متفكهين. قال قتادة: فاكهين: ناعمين. وعن ابن عباس: فاكهين: فرحين والنعمة - بالفتح - التنعم. وقرأ أبو رجاء العطاردي والحسن " فَكِهينَ " بغير ألف، على معنى: كانوا فيها بطرين أشرين. ثم قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ}، أي: هكذا فعلنا بهم أيها الناس، وأورثنا ما تركوا مما تقدم وصفه قوماً آخرين يعني: بني إسرائيل. ثم قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض}، أي: ما بكى عليهم حين هلكوا بالغرق أهل السماء، ولا أهل الأرض. ثم حذف. وقيل: إن بكاء السماء حمرة أطرافها.

قال السدي: " لما قُتل الحسين بن علي عليه السلام بكت السماء عليه وبكاؤها حمرتها ". وقال عطاء: " بكاؤها " حمرة أطرافها ". وقيل: معنى ذلك أن المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، فأعلمنا الله أنهم لم يكونوا مؤمنين فتبكي عليهم السماء والأرض. وروي عن النبي A أنه قال: " بَدَأَ الإسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً،

أَلاَ لاَ غُرْبَةَ عَلَى المُؤْمِنِ [مَا] مَاتَ مُؤْمِنٌ في غُرْبَةٍ غَابَتْ عَنْهُ فِيهَا بَوَاكِيهِ إِلاَّ بَكَتْ عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} ثم قال: إِنَّهُمَا لاَ يَبْكِيَانِ عَلَى الكَافِرِ ". ومن قال أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن ولا تبكيان على الكافر، علي بن أبي طالب (Bهـ) وابن عباس والحسن والضحاك وقتادة. قال ابن عباس: ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء (ينزل منه) رزقه

30

وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء ففقده بكى عليه، وإذا أفقده مصلاه من الأرض والموضع الذي كان يذكر الله D فيه بكى عليه. وإن قوم فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا في السماء فلم يبك عليهم شيء حين هلكوا هذا معنى قوله. وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ}، معناه: لم يكونوا مؤخرين حين أتاهم العذاب وتم الأجل. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ} - إلى قوله - {هُوَ العزيز الرحيم}، أي: ولقد نجى الله D بني إسرائيل من العذاب المذل والإهانة التي كان فرعون وقومه يعذبونهم بها. قال قتادة: عذابهم لبني إسرائيل هو قتلهم أبناؤهم واستحياء نساءهم. ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي: إن فرعون كان جباراً مستكبراً على ربه سبحانه مسرفاً متجاوزاً إلى غير ما يحب له من الكفر والطغيان. قال ابن عباس: من المسرفين: من المشركين. وقال الضحاك:

من القتالين. ثم قال تعالى: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين}، أي: ولقد اخترنا بني إسرائيل على علم منا بهم على عالم زمانهم وقيل معناه: اخترناهم للرسالة والتشريف على علم منا بهم فذكر تعالى أنه أختارهم لكثرة الأنبياء منهم. قال قتادة ومجاهد معناه: اخترناهم على أهل زمانهم ذلك ولكل زمان عالم. ثم قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ}، أي: وأعطيناهم من العبر والعظات ما فيه اختبار يبين لمن تأمله أنه اختبار اختبرهم الله D به.

وقيل المعنى: آتيناهم نعماً عظيمة وعبراً ظاهرةً. روي أن الله D أنزل ببيت المقدس سلسلة معلقة من السماء فكانوا يتحاكمون في حقوقهم وخصوماتهم ودعاويهم إلى السلسلة. فمن كان محقاً أدرك بيده مس السلسلة، ومن كان مبطلاً لم يدرك بيده مسها، فلم يزالوا كذلك حتى مكروا / فرقعت، وذلك فيما روي أن رجلاً منهم أودع رجلاً مالاً فجحده المودع عنده، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي جحد الوديعة إلى كلخ فقأ داخله، ثم أدخل فيه الوديعة. فلما أتيا إلى السلسلة قال الجاحد للوديعة لرب المال: أمسك لي هذه الكلخة (في يدك) حتى أمس السلسة، فأمسكها رب المال وهو لا يعلم بما فيهاغ. ثم تقدم الجاحد بحضرة الناس، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني قد وضعت ماله في يده وقبضه مني فأسألك ألا تفضحني ومَدَّ يده فأدرك السلسة فأقبل صاحب المال يقول: والله يا بني إسرائيل (إن هذه السلسلة لباطل وزور، فرفع الله السلسلة من ذلك الوقت. ويروى أنه كان لهم عمودان، فإذا أتهم أحد بزنى فَأَقَرَّ رُجِمَ، وإن جحد

أدخل بين) العمودين فإن كان كاذباً انضما عليه فقتلاه، وإن (كان بريئاً) سلم. وكان الرجل منهم يعمل الذنب لا يعلم به أحد فيصبح ويجده مكتوباً على بابه. قال قتادة: البلاء هو أنه (تعالى نجاهم) من عدوهم، ثم أقطعهم البحر وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. فيكون البلاء هنا على قول قتادة، النعمة. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالخير والشر، يختبرهم فيما آتاهم من الآيات، من يؤمن بها ومن يكفر. ثم قال تعالى: {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ}، أي:

إن مشركي قريش يا محمد ليقولن ما هي إلا موتتنا التي نموتها، وما نحن بعد مماتنا بمبعوثين تكذيباً منهم للبعث والثواب والعقاب. ثم قال: {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي: قالوا لمحمد عليه السلام ومن آمنوا به فأتوا بآبائنا، أي: فأحيهم لنا لنسألهم عن صدقكم إن كنتم صادقين. ثم قال تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ}، أي: أهؤلاء المشركون يا محمد خير أم قوم تبع الحميري. وقالت عائشة Bها: كان " تبع " رجلاً صالحاً، فذم الله قومه ولم يذمه. قال كعب: كان " تبع " ملكاً من الملوك، وكان قومه كهَّاناً، وكان معه قوم من أهل الكتاب [فكان قومه يكذبون على أهل الكتاب عنده. فقال لهم جميعاً: قربوا قرباناً فَقَرَبُوا. فتقبل قربان أهل الكتاب] ولم يتقبل

قربان قومه فأسلم، فلذلك ذكر الله D قومه ولم يذكره. قال أبو عبيدة: " تبع " اسم ملك من ملوك اليمن، سمي بذلك لأنه يتبع صاحبه. وروي سهل بن سعد الساعدي أن النبي A قال: " لاَ تَلْعَنُوا تُبَّعاً فَإِنَّهُ (قَدْ كَانَ) " أَسْلَمَ ". وقوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ}، أي: من قبل قوم تُبَّع من الأمم الكافرة

بربها. يقول الله جل ذكره: فليس هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بخير من أولئك الذين أهلكوا بكفرهم، فطمعوا أن (نصفح عنهم) ولا نعذبهم وننتقم منهم بكفرهم. وقوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ}، أي: أهلكنا قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة إنهم كانوا قوماً مجرمين. فإذا انتقمنا من الأفضل لكفره فما ظنك بالأدون. ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين}، أي: لم نخلق ذلك لعبا، بل خلقناه لإقامة العمل والحق الذي لا يصلح التدبير إلا به. ينبه جل ذكره وخلقه على صحة كون البعث والثواب والعقاب، وأنه لم يخلق الخلق عبثاً، بل خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وأقبل للطاعة، فيجازي المحسن بالإحسان والمسيء بما أراد، وهو قوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق}، أي للحق والعدل. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون أن الله خلق (ذلك لذلك) فهم لا يخافون عقاباً (ولا يرجعون لتكذيبهم) بالمعاد والثواب والعقاب.

وذهب أبو حاتم إلى جواز الوقف على " تبع ". يقدر أن قوله: " والذين من قبلهم أهلكناهم " مبتدأ وخبره. كأنه يجعل المهلكين هم الذين كانوا من قبل قوم تبع (لا قوم تبع). والوقف عند غيره " أهلكناهم " على أن يكون الذين عطف على " قوم " وَأَتَمُّ منه " مجرمين ". (ثم قال: {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ}، أي: إن يوم فصل الله بين خلقه وقت لجميع الخلق يجتمعون فيه للفصل بينهم). ثم قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً}. " يوم " بدل من " يوم " الأول. ومعناه إن يوم لا يغني ولي عن ولي شيئاً وقت لجميع الخلق يجتمعون فيه للفصل بينهم، أي: يوم لا يدفع ابن عم عن ابن عم، ولا صاحب عن صاحب شيئاً من العذاب.

{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، أي: ولا ينصرهم أحد مما حَلَّ بهم من النقمة بكفرهم. قال قتادة: " انقطت الأسباب يومئذ يا ابن آدم، وصار الناس يومئذ إلى أعمالهم، فمن أصاب يومئذ / خيراً سَعِدَ به، ومن أصاب يومئذ شراً شقي به ". والمولى والولي في اللغة: الناصر. وقول النبي A: " مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ " في تفسيره ثلاثة أقوال: - أحدهما: إن معناه: من كنت أتولاه فعلي يتولاه. - والثاني: من كان (يتولاني، يتولاه) علي. - والثالث: إنه كان قوله ذلك في سبب، وذلك أن أسامة بن

زيد قال لعلي: لبست مولاي، إنما مولاي رسول الله فقال رسول الله A: " من كنت مولاي فعلي مولاه ". ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} " من " عند الأخفش في موضع رفع على البدل على المعنى كأن التقدير: (ولا ينصر) أحد إلا من رحم الله. وأجاز أن تكون في موضع رفع على الابتداء. كأنه في التقدير: إلا من رحم الله فيغني عن غيره، أي: يشفع لغيره ممن أراد الله D له الشفاعة كما قال: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]. وقيل: " من " رفع لفعلها، أي لا يغني إلا من رحم الله (" فمن " على هذا القول بدل من " مولى " أي: لا يشفع إلا من رحم الله).

وقد صح عن النبي A أن المؤمنين يشفعون. وقال الكسائي " من " في موضع نصب على الاستثناء المنقطع وهو قول الفراء. وتقف على " ينصرون " إن جعلت " من " (ابتداء، ويكون) التقدير: إلا من رحم الله فإنه تغني شفاعته. فإن جعلت " من " بدلاً أو استثناء منقطعاً لم تقف على ينصرون. وروى أنس عن النبي A أنه قال: " إِنَّ الرَّجُلَ مِنَ المُؤْمِنينَ يُقَامُ في صَفِّ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرَى رَجُلاً مِنَ المُوَحِّدِينَ قَائِماً (فِي صَفِّ) أَهْلِ النَّارِ (قدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ) في

43

الدُّنْيَا فَيُذَكِّرُهُ ذَلِكَ فَيَذْكُرُ، فَيَشْفَعُ فِيهِ فَيُحَوَّلُ إِلى صَفِّ اَهْلِ الجنَّةِ ". وقوله: {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم}، أي: العزيز في انتقامه من أعدائه، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته. ثم قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} - إلى آخر السورة أي: إن شجرة الزقوم التي أخبر تعالى أنها تنبت في أصل الجحيم هي طعام الكافر في جهنم، والأثيم: الآثم وهو في هذا أبو جهل ومن كان مثله. ولما نزلت هذه الآية دعا أبو جهل بزبد ودعا أًحابه (فقال: تَعَالَوْا، تَزَقَّمُوا)، فهذا الذي يَعِدُنَا به محمد أنه طعامنا في الجحيم.

وذكر ابن هشام أن أبا جهل لما سمع قول الله جل ذكره {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} قال: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم) التي يخوفكم بها محمد؟، قالوا: لا. قال: هي عَجْوَةُ يَثْرِب بِالزَّبد. والعجوة صنف من التمر طيب. ورُوي أن أبا الدرداء كان يُقْرِئُ رَجُلاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} فكان الرجل يقول: طعام اليتيم. فلما أكثر عليه أبو الدرداء ولم يفهم الرجل، قال له: إن شجرة الزقوم طعام) الفاجر. فهذه قراءة على التفسير لا يحسن أن يُقْرَأَ بها.

وقال ابن عباس: " لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت على الدنيا لأفسدت على الناس معائشهم ". وقال ابن زيد: الأثيم هنا: أبو جهل. قال: {كالمهل يَغْلِي فِي البطون}، أي: شجرة الزقوم - التي جعلنا ثمرها طعام الكافر في جهنم - كالرصاص أو الفضة المذابة إذا ما تناهت حرارتها. وقال ابن عباس: " كالمهل: كُدْردِيِّ الزيت ". (وروي عنه أنه رأى فضة قد أذيبت فقال: هذا

المُهْلُ وروى) الخدري عن النبي A أنه قال: " كَالمُهَلِ: كَعَكِرِ الزَّيْتِ، إِذَا قرب إلى وَجْهِ الكَافِرِ سَقَطَتْ (فَرْوَةُ) وَجْهِهِ فِيهِ " وقيل: " المهل " عكر القطران. وقيل: هو الصديد من الحميم. وقوله: {كَغَلْيِ الحميم}، أي: (يغلي) ذلك في بطون الكفار كغلي الماء المحموم، وهو الذي قد أوقد عليه حتى تناهت شدة حره، والحميم بمعنى: (محموم، كقتيل) بمعنى: مقتول. ثم قال تعالى: {خُذُوهُ فاعتلوه}: يعني الأثيم، وهو الكافر، يقال للملائكة: خذوا الكافر فاعتلوه، أي: (فادفعوه وسوقوه) على عنف. يقال عتله: إذا ساقه بالدفع والجذب.

وقوله: {إلى سَوَآءِ الجحيم}، أي: إلى وسطها، أي: ادفعوه إلى وسط النار. ثم قال: {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم}، أي: صبوا على رأس هذا الأثيم - وهو الكافر - من عذاب الجحيم. ثم قال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}، أي: يقال له ذق هذا العذاب إنك أنت كنت العزيز في قومك. قال قتادة: " نزلت هذه الآية في أبي جهل عدو الله لقي النبي A فأخذ النبي A فَهَزَّهُ، ثم قال: " أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا جَهْلٍ، ثُمَّ أَوْلَى لَك فَأَوْلَى " فقال أبو جهلٍ أيوعدني محمد، لأنا أعز من يمشي بين جبليها. فنزلت {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي: المدعي ذلك " ، وفيه نزلت: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] /، وفيه نزلت: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} [العلق: 19].

فالمعنى: ذُقْ عذاب الله، إنك أنت العزيز عند نفسك، الكريم فيما كنت تقول. وقوله " ذق " عند من كسر " إن " واقع على محذوف وهو العذاب. فأما من فتح " أن " فمعناه مثل ذلك: ذق العذاب لأنك وبأنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم. وهذا كلام معناه التقريع والتوبيخ وليس بمدح له، إنما هو على طريق الحكاية لما كان يدعي في الدنيا من العزة والكرم، إذ كان يقول: أنا العزيز الكريم، فقرع به عند حلول العذاب به إذ صار في ذلة وهوان. فكأنه قيل له: ذق هذا العذاب إنك كنت تقول: أنا العزيز الكريم، فأنت الآن الذليل المهان. فأين ما كنت تقول في الدنيا. وذلك أشد لنكا له وحسرته. " وروي أن النبي A لقي أبا جهل فقال له: " إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ

{أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: واللاَّتِ لاَ تَمْلِكُ لِي نفعاً ولا ضراً وَإِنِّي لأَمْنَعُ أَهْلَ البِطْحَاءِ، وَإِنِّ لأَعَزُّ وَأَكْرَمُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا هُوَ صَانِعٌ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا يُقَالُ لَهُ جَوَاباً لِقَوْلِهِ: أنا أعز وأكرم، فقال له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} عند نفسك، وأنت الذليل المهان عند الله ". ثم قال: {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}، أي: يقال لهم إن هذا العذاب الذي كنتم تَشْكُّونَ. ثم قال تعالى: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}، أي: إن الذين اتقوا الله D فأدوا طاعته (واجتنبوا معصيته) في موضع إقامة آمنين فيه من السوء كله. وكل من (تقبل الله) له عملاً وإن قل فهو من المتقين بدلالة قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27]. قال علي (بن أبي طالب) Bهـ: مَا قَلَّ عَمَلٌ مع تقوى وكيف يَقِلُّ ما يتقبل.

ويروى أن سائلاً سأل ابن عمر ولده أن يعطيَه فأعطاه وقال له: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال ابن عمر: لو علمت أن الله D تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم واحد، لم يكن غائب أحد إلي من الموت. أتدري ممن يتقبل؟! إنما يتقبل الله من المتقين! ذكر ذلك أبو عبيد في كتاب الشواهد. ووصف المقام " بأمين " لأنه يؤمن فيه. والمقام - بالفتح - اسم المكان من قام، وبالضم اسم المكان (من أقام). ثم بين تعالى ذكره ذلك المقام قال: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}، أي: في بساتين وعيون من الماء متطرداً في أصول أشجار الجنات. ثم قال تعالى: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ}. السندس: مَا رَقَّ من الديباج. والإستبرق: ما غَلُظَ منه: وقيل: السندس: الخِزُّ المُوَشَّى.

وقوله: " متقابلين، أي: هم على سررهم لا يستدبر بعضهم بعضاً. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ}، أي: كما أدخلناهم الجنات، وألبسناهم السندس والإستبرق، كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم أيضاً فيها بحور عين، وهن النقيات (البياض، والواحدة) حوراء. وقال مجاهد: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ}، أي: " أنكحناهم حوراً. والحور التي يحار فيهن الطرف، بادٍ مُخُّ سوقهن من (وراء ثيابهن). يرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون ". والحَوَرُ في اللغة: البياض، كما قيل للدقيق الصافي البياض الحُوَّارَى وفي حرف ابن مسعود: " زوجناهم بعيسى عين "، والعيس جمع عيساء وهي البيضاء من الإبل. والعين جمع عيناء وهي العظيمة العينين من النساء.

ومن العرب من يقول: بحير عين على الاتباع للثاني. ومثله من الحديث رواية من روى " أُرْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ " والفصيح: ارجعن موزورات. ثم قال: {فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}، أي: يدعو هؤلاء المتقون من في الجنة بكل نوع من الفاكهة اشتهوه آمنين فيها من انقطاع ذلك عنهم، ونفاده، وغائلة (أذاه) (ومن كل) سوء يذحر في الدنيا. ثم قال تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى}، أي: بعد الموتة الأولى، أي: لا يذوقون فيها موتاً بعد موتهم في الدنيا. ف " إلا " هاهنا قريبة المعنى من " بعد ".

وقال بعض النحويين " إلا " هنا بمعنى " سوى " أي: لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة الأولى التي كانت في الدنيا، ومثله عنده {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22 و 23]. وطُعِنَ في هذا القول، لأن القائل لو قال (لا أذوق) اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم بمعنى " سوى "، لجاز أن يريد أن عنده طعاماً من نوع الطعام الذي ذاق بالأمس، وإنه ذائقه اليوم دون سائر الأطعمة. فيحتمل معنى الآية إذا كانت " إلا " بمعنى " سوى " أن يكون ثم موت من جنس الموت الأول (يحل بهم) / وهذا محال. وقال النحاس: المعنى لا يذوقون فيها الموت البتة. ثم قال: {إِلاَّ الموتة الأولى} على الاستثناء المنقطع.

ولذلك أجاز بعضهم الوقف على " الموت " (لأن ما) بعده منقطع. وأكثرهم على أن " إلا " بمعنى " بعد "، كما تقول: ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك، أي: بعد رجل عندك. (والأحسن أن يكون " إلا " بمعنى " غير "، أي: لا يذوقون فيها موتاً غير الموتة الأولى التي كانت في الدنيا). ثم قال: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم}، أي: نجاهم منه. ثم قال: {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ}، أي: تفضلاً منه. وهو مصدر والعامل فيه فعل مضمر. وقيل العامل: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ}. (وقيل العامل: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}).

وقيل العامل: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم}. وقيل: الكلام كله الذي قبله عامل فيه، لأنه تفضل منه عليهم إذ وفقهم في الدنيا إلى أعمال يدخلون بها الجنة. وقيل: سماه " تفضلاً " لأنه غفر لهم صغائرهم لو أخذهم بها لم يدخلوا الجنة. وقيل: إنما سماه " تفضلاً " لأن نعمه عليهم في الدنيا تستغرق حسناتهم فأدخلهم الجنة بفضله ورحمته لا بأعمالهم. روي عن النبي A أنه قال: " مَا اَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةِ بِعَمَلِهِ. قِيلَ: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟! قَالَ: (وَلاَ اَنَا) إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ ".

ثم قال تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}، (أي: هذا الذي تقدم وصفه للمتقين هو النجاء العظيم والظفر) الكبير. ثم قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي أنزلنا القرآن بلسان العرب لعلهم يفهمون (فيتذكرون ويتعظون). ثم قال تعالى: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ}، أي: فانتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، إنهم منتظرون بك ريب الحدثان. وقيل المعنى: فانتظر الفتح والنصر فإنهم منتظرون عند أنفسهم قهرك وغلبتك.

الجاثية

سورة الجاثية مكية قوله تعالى: {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} - إلى قوله - {مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}، قد تقدم ذكر الاختلاف في " حم ". والمعنى هذا تنزيل القرآن من عند العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي السماوات والأرض لأيات لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: إن فيها لعبراً وحُججاً للمصدقين بها، أي: إن لها خالقاً لم يخلقها عبثاً. ثم قال تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، أي: وإن في خلقكم أيها الناس، وما ينشر الله D في الأرض من دابة تدب عليها من غير

جنسكم آيات لقوم يوقنون بحقائق الخلق، وأن الله D اخترع جميع ذلك. ثم قال تعالى: {واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا}، أي: وإن في تعاقب الليل والنهار، وما ينزل من السماء من مطر يكون عنه من النبات رزقكم. وسمي الماء رزقاً لأن عنه يتكون الرزق في الأرض. وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا}، أي: أنزل الماء فاهتزت الأرض بالنبات بعد أن كانت لا نبات فيها. ثم قال: {وَتَصْرِيفِ الرياح}، أي: وكون الرياح مرة شمالاً ومرة جنوباً، ومرة صبّا ومرة دَبُوراً، ونحو ذلك من اختلافها لمنافع الخلق. {ءايات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، أي عبراً وحججاً لقوم يعقلون عن الله D أمره ونهيه، فيتبعون رسله، ويفهمون عنهم وحيه. وقوله: {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءايات} النصب في " ءايات " حسن على معنى: وإن في

خلقكم آيات. وحسن ذلك لإعادة حرف الجر مع خلقكم. ويجوز الرفع من ثلاثة أوجه. أحدها: أن (تعطفها على الموضع) مثل قراءة الجماعة: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة} [الجاثية: 32] بالرفع، عطف على موضع {وعْدَ}. والوجه الثاني: ترفع " الآيات " بالابتداء، وما قبلها خبرها. وتكون قد عطفت (جملة على) جملة منقطعة كما تقول إن زيداً خارج، وأن أجيئك غداً. والوجه الثالث: أن ترفع على الابتداء والخبر والجملة في موضع الحال. مثل قوله: {يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154].

وأما قوله: {واختلاف الليل والنهار} - إلى قوله - {ءايات}، فالرفع حسن على ما تقدم من الأوجه. والنصب عند سيبويه (والأخفش والكسائي) جائز على العطف على عاملين وهما " إن " وحرف الجر لأنك لم تُعِدْ " في مع " الاختلاف " كما أعدت أولا " في " مع " خلقكم ". فصرت تعطف بالواو على ما عملت فيه " إن " وعلى ما عمل فيه حرف الجر. فتخفض " الاختلاف " وتنصب " الآيات ". ونظير هذا من الكلام قولك: في الدار والحجرة عمرو فتعطف بالواو على ما عملت فيه " في " وعلى ما عمل فيه الابتداء فتخفض الحجرة وترفع عمراً، فتعطف على عاملين (بحذف واحد. ولو أعدت " في " لم يكن عطف

على عاملين. ومنع المبرد القراءة بالنصب وقال: لا يجوز العطف على عاملين. وكان الزجاج يحتج لسيبويه بأن قال: إن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله رفع فهو أيضاً عطف على عاملين لأنه عطف " واختلاف " على " خلقكم " وعطل " آيات " على موضع " آيات " الأولى. قال: / فقد صار العطف على عاملين إجماعاً. وهذا، لا يلزم، لأن من رفع يقول: إنما قطعته مما قبله فرفعته بالابتداء وما قبله خبر. وحكى الفراء رفع " الاختلاف " ورفع " الآيات ". جعل " الآيات " هو " الاختلاف ". وهذا وجه حسن ظاهر لولا أن القراءة سنة. وإنما بعد العطف على عاملين (عند المبرد وغيره لأن حرف العطف إنما أتى به لينوب مناب العامل للاختصار. فلم يقرأ أن يجعل ينوب مناب عاملين مختلفين،

ولو جاز أن ينوب مناب عاملين) لجاز أن ينوب مناب ثلاثة وأكثر (وهذا لا يقوله أحد) لأنه لو ناب مناب رافع وناصب لكان [رافعاً (ناصباً) في حال، وللزوم أن ينوب مناب رافع وناصب وجار فيكون] ناصباً ورافعاً جاراً في حال. وهذا محال ظاهر على أنهم قد أجمعوا أنه لا يجوز إذا تأخر المجرور، نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة، وإنما أجازه من أجازه إذا كان المجرور يلي حرف العطف. وهذا تحكم بغير علة. ثم قال تعالى: {تَلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق}، أي: تلك حجج الله نتلوها عليك يا محمد، أي: نخبرك عنها بالحق لا الباطل كما يخبر مشركو قريش عن آلهتهم بالباطل يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3].

ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ}، أي: فبأي حديث يا محمد بعد قرآن الله D وكتابه وآياته يؤمن هؤلاء المشركون. ومن قرأ بالتاء فمعناه: فبأي حديث بعد قرآن الله سبحانه تؤمنون أيها المشركون. ثم قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً}؟ روي أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يخلف النبي A في مجلسه ويحدث قريشاً. بأخبار ملوك العجم ويقول: أنا أحسن حديثاً من محمد A. فالمعنى: الواد سائل من صديد أهل جهنم لكل كذاب، ذي إثم سامع

لآيات الله تُقرأ عليه ثم يتمادى وتجبره على ربه سبحانه، فلا يذعن لأمره ونهيه كأن لم يسمع ما قرئ عليه {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7]، أي: صمماً، فلا يسمع شيئاً لإصراره على كفره. فبشره يا محمد بعذاب مؤلم، أي: موجع يوم القيامة. قال ابن عباس نزلت في الحارث بن كلدة ". ثم قال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً اتخذها هُزُواً}، أي: وإذا علم عذا الأفاك الأثيم من آيات الله شيئاً اتخذها هزواً، أي: يسخر منها، وذلك كفعل أبي جهل حين نزلت: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43 و 44]، إذ دعا بزبد (وثمر) فقال: تزقموا من هذا، فما يفزعكم محمد إلا بهذا.

ثم قال: {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، أي: لهم في الآخرة عذاب يهينهم، ويذلهم في نار جهنم. وجمع في قوله: {أولئك} رداً على قوله: {لِّكُلِّ أَفَّاكٍ}. ثم قال تعالى: {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ}، أي: أمامهم جهنم. {وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم} من عذابها. {مَّا كَسَبُواْ} في الدنيا من الأموال والأولاد شيئاً. {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ} أي: ولا تغني عنهم آلهتهم التي اتخذوها أولياء من دون الله فعبدوها، ولا رؤساؤهم الذين أطاعوهم في الكفر فاتخذوهم أولياء على ذلك من عذاب الله شيئاً. ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، يعني: نار جهنم وما فيها من أصناف العذاب. ثم قال تعالى: {هذا هُدًى والذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}، أي: هذا القرآن الذي أنزلنا هدى لمن وفقه الله إلى الإيمان به والعمل بما فيه. والذين جحدوا آيات ربهم ولم يؤمنوا بها، لهم عذاب مؤلم من الرجز. قال المبرد: " الرجز: أغلظ العذاب وأشده ".

12

قوله تعالى: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ} - إلى قوله - {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}، أي: الذي تجب له العبادة والخضوع والطاعة هو الله الذي سخر لكم البحر لتجري السفن فيه بأمره وبقدرته فتنتفعون بذلك لمتجركم، ومعائشكم، وتصرفكم في البلدان، وتبتغون من فضله فهو الذي يجب له الشكر على نعمه دون غيره. ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ}، أي: سخر لكم أيضاً - أيها الناس - ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وليل ونهار وما في الأرض من دابة وشجر وجبل وغير ذلك لمنافعكم ومصالحكم جميعاً منه، أي: نعمة منه عليكم، فإياه فاحمدوا واشكروا. وقرئت: " جميعاً منة "، أي من " عليكم بذلك منة).

ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، أي: إن في تسخير ما تقدم ذكره لمنافع الخلق ومصالحهم لعبراً لقوم يتفكرون في آيات الله D وحججه سبحانه وأدلته فيعتبرون بها وينطقون. و {جَمِيعاً مِّنْهُ} (وقف جيد). ومن قرأ " منة " وقف على " جميعاً "، ثم ابتدأ " منة " إن في ذلك "، أي: من عليكم بذلك منة. ثم قال تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله}، أي: قل لهم اغفروا يغفروا. فهو جواب أمر محمول على المعنى. والمعنى: قل يا محمد للذين صدقوك: اغفروا للذين لا يخافون أيام الله، أي: بأس الله ووقائعه فمن كفر به ونقمه منهم يغفروا. {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي: ليجزي الله D في الآخرة هؤلاء /

الذين يؤذون المؤمنين بما اكتسبوا في الدنيا من أذى المؤمنين (ومن غير) ذلك. وروي عن عاصم أنه قرأ {لِيَجْزِيَ قَوْماً} بنصب قوم والفعل لما لم يسم فاعله. وهذا بعيد جداً لم يجزه سيبويه ولا جميع البصريين. وإنما تقديره عنده: ليجزي الجزاء قوماً. فيقيم المصدر مقام ما لم يسم فاعله ويضمره وينصب الاسم المقصود بالمعنى وهو شاذ في النظر والقياس.

ولم يجز النحويون: " شُرِبَ الضربُ زيداً " برفع الضرب ونصب زيد، ولو جاز هذا لجازت هذه القراءة ولكن لا يجيزونه إلا في شعر على بعد. قال ابن عباس: كان النبي A يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزؤون به ويكذبونه، ثم أمره الله D أن يقاتلهم كافة. فكان هذا من المنسوخ. وعن ابن عباس أيضاً، وهو قول الضحاك: إن الآية نزلت في عمر بن الخطاب Bهـ

شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به فنزلت: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} - يعني عمر - {يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله}، ثم نسخ هذا في " براءة " بالأمر بالقتال والقتل للمشركين، وهو أيضاً قول قتادة، إلا أنه قال: نسخها قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وقاله الضحاك. وعن أبي هريرة أنه قال نسخها قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} [الحج: 39] وقاله الضحاك. وقيل: معنى " لا يرجون أيام الله ": لا يخافون البعث. ثم قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ}، أي: لخلاص نفسه يعمل، والله D غني عن عمله، إنما عمله له. {وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا}، أي: ومن عمل عملاً سيئا فعلى نفسه جنى وفي عطبها

سعى، لا يضر الله سبحانه ذلك ولا ينقصه من ملكه. {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ} أيها الناس. {تُرْجَعُونَ}، (أي: تردون) في الآخرة فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة}، أي: ولقد أعطينا بني إسرائيل التوراة والإنجيل. {والحكم} يعني: الفهم بالكتاب والعلم بما فيه من السنن التي لم تنزل في كتاب. قال مجاهد: " الحكم: اللب ". وقوله: {والنبوة}، أي: وجعلنا منهم الأنبياء والرسل إلى الخلق، فأكثر الأنبياء والرسل من بني إسرائيل. ثم قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات}، يعني: المَنَّ والسَّلْوَى وغير ذلك من المطاعم. ثم قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين}، أي: على عالم زمانهم. ثم قال: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر}، أي: وأعطيناهم واضحات من أمرنا بتنزيلنا التوراة عليهم فيها تفصيل كل شيء. ثم قال: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي: لم يختلفوا في دينهم إلا من بعد {مَا جَآءَهُمُ العلم}، أي: إلا من بعد ما أنزلت عليهم التوراة فاختلفوا

للرياسة بعد علمهم بالحق مما اختلفوا فيه فتنافسوا في الدنيا ورياستها فبغوا بغياً فيما بينهم، وتركوا تبيين ما أنزل الله عليهم. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة}، أي: يحكم (ويفصل بينهم) فيما اختلفوا فيه يوم القيامة، فيعلي المحق على المبطل. ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها}، أي: ثم جعلناك يا محمد بعد بني إسرائيل على طريقة وسنة ومنهاج من أمرنا الذي أمرنا من قبلك من الرسل، فاتبع تلك الشريعة {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ}، أي: ولا تتبع ما يدعوك إليه الجاهلون بالله. قال ابن عباس: {على شَرِيعَةٍ}: " على هدى من الأمر وبينة ". وقال قتادة: " الشريعة: الفرائض والحدود والأمر والنهي ". وقال ابن زيد: الشريعة: الدين، وقرأ {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [الشورى: 13] فنوح أولهم ومحمد آخرهم صلى الله على جميع النبيين وسلم.

ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لن ينفعوك من الله شيئا إن ابتعت أهواءهم وما يدعونك إليه. ثم قل تعالى: {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}، أي: وإن الكافرين بعضهم أنصار بعض وأعوانهم على أهل الإيمان بالله D. { والله وَلِيُّ المتقين}، أي: هو ولي من اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. ثم قال تعالى: {هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}، أي: هذا القرآن بصائر يبصر به من العمى وهو الضلالة، ويهتدي به من جار عن طريق / الحق، وتاه في ميدان الباطل {وَرَحْمَةٌ}، أي: وهو رحمة لمن آمن به واتبعه. (وقوله: {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، أي هو نور ورشاد ورحمة لمن أيقن أنه من عند الله فآمن به واتبعه). ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}، أي: أيحسب بالكفار بالله D المكتسبون الكبائر أن يكونوا كالمؤمنين بالله D

المجتنبين للكبائر. ويدل على أن المراد بالمكتسبين السيئات في هذه الآية الكفار قوله: " كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ". فذكر الإيمان مع العمل، ولو كانوا مؤمنين لقال: كالذين عملوا الصالحات ولم يذكر الإيمان. ثم قال: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}. قال مجاهد معناه: إن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث على إيمانه والكافر يموت على كفره ويبعث عليه. وقال أبو الدرداء: " يبعث الناس على ما ماتوا عليه ". هذا معنى قراءة من رفع " سواء " فجعله مبتدأ " ومحياهم " خبر، ومماتهم عطف على " محياهم ".

وإنما حَسُنَ الرفع في " سواء " (لأن الفعل) قد استوفى مفعوليه فارتفع " سواء " على الابتداء، كما قيل " سَوَاءُ العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِي ". وإنما اختير الرفع في " سواء " لأنه اسم في معنى المصدر فلم يحسن جريه على الأول فارتفع بالإبتداء إذ الفعل قد تعدى إلى مفعوليه. ولو كان في موضع " سواء " مستو لحسن النصب لأنه يجري على الأول، فينصب مع المعرفة على الحال وهذا هو الاختيار عند سيبويه وجميع النحويين. ويجوز النصب عند سيبويه وغيره كما أجاز: مررت برجل سواءً عليه الخير والشر، فإذا نصبت على الحال، إذ قبله معرفة. فكما جاز أن يكون صفة للنكرة جاز أن يكون حالاً للمعرفة وهو بعيد، لأن الأسماء التي ليست بجارية على الفعل، الرفع الاختيار فيها عند النحويين إذا رفعت ظاهراً بعدها.

وبالنصب قرأ حفص وحمزة والكسائي على الحال من الهاء والميم في " نجعلهم ". وقرأ الأعمش {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بالنصب في ذلك كله ينصب " سوا " على الحال، وينصب " محياهم ومماتهم " على تقدير في محياهم ومماتهم كأنه يجعله ظرفاً. ويجوز أن يكون {مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} بدلا من الهاء والميم في {نَّجْعَلَهُمْ} فيصير المعنى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواء)، أي كمحيى الذين آمنوا ومماتهم. والوقف على " الصالحات " حسن عند نافع وأبي

22

عبيدة على قراءة من رفع. وقال غيرهما: من نصب سواء وقف عليه. وهو بعيد لا وجه له، لأن " محياهم " مرتفع " بسواء ". والتمام عند الأخفش: " ومماتهم " وعند غيره " يحكمون ". ومعنى " ساء ما يحكمون: " بيس الحكم يحكمون إن حسبوا ذلك وظنوه. و" ما " في موضع رفع إن جعلتها نكرة. قال مجاهد في معنى الآية: محيى المسلمين ومماتهم، كلاهما محمود، محيى الكفار ومماتهم مذموم، فلا يستويان. قوله تعالى: {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} - إلى قوله -: {مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: خلق ذلك للعدل والحق لا لما يحسب هؤلاء الجاهلون بالله D من أن يجعل من اكتسب السيئات بالكفر كمن آمن بالله تعالى وعمل صالحاً في المحيى والممات، لأن هذا من فعل غير أهل العدل والإنصاف. فمن

الحق والعدل عند الذي خلق السماوات والأرض لهما، أن يخالف بين حكم من كفر ومن آمن في العاجل والآجل. ثم قال: {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، أي: وخلق ذلك لتجزى كل نفس في الآخرة بما كسبت في الدنيا من خير وشر. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، أي: لا يظلمون جزاء أعمالهم. وروى أبو هريرة حديثاً يرفعه إلى النبي A أنه قال: " إِذَا كانَ يَوْمَ القِيَامَةِ بَعَثَ اللهُ D مَعْ كَلِّ امْرِئٍ عَمَلَهُ، فَلاَ يَرَى المُؤْمِنُ شَيْئاً (يُرَوِّعُهُ وُلا شَيْئاً) يَخَافُهُ إِلاَّ قَالَ لَهُ عَمَلُهُ: لاَ تَخَفْ إِنَّكَ وَالله مَا أَنْتَ بِالَّذِي هُوَ يُرَادُ بِالَّذِي هضا هُنَا، وَلاَ أَنْتَ المَعْنِي بِهِ. فَإِذَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ مِرَاراً قَالَ لَهُ المُؤْمِنُ: مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللهُ، فَوَالله مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْكَ وَجْهاً وَلاَ أَطْيَبُ مِنْكَ لَفْظاً. فَيقول: / أَتَعْجَبُ مِنْ حُسْنِي؟ إِنَّ عَمَلَكَ وَالله -، كَانَ حُسْناً في الدُّنْيَا، وَإِنِّي عَمَلُكَ، وَإِنَّكَ كُنْتَ تَحْمِلُنِي في الدُّنْيا عَلَى ثِقْلِي، وَإِنِّ وَالله لأَحْمُلَكَ اليَوْمَ وأُدَافِعُ عَنْكَ، قال: (وَإِنَّهَا لِلَّتِي) يَقُولُ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ".

ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}. قال ابن عباس: " ذلك الكافر اتخذ بغير هدى من الله ولا برهان ". قال قتادة: " لا يهوى شيئاً إلا ركبه، لا يخاف الله ". وقال ابن جبير: " كانت قريش تعبد العزى - وهو حجر أبيض - حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر فأنزل الله D: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}. قال الحسن: " هو الذي كلما اشتهى شيئاً لم يمتنع منه ". ثم قال تعالى: {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ}، أي: وخذ له الله عن طريق الحق في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.

قال ابن عباس: " أضله الله في سابق علمه ". وقال ابن جبير: " أضله على عدم قد علمه منه ". وقيل المعنى: أضله الله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقيل المعنى: على علم منه بأن عبادته لا تنفعه ". ثم قال تعالى: جل ذكره: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً}، أي: وطبع على اسمه أن يسمع (مواعظ الله وما) ينتفع به، وطبع على قلبه (فلا يعي) شيئاً من الخير، وجعل على بصره غكاءً أن يبصر به حجج الله D، يعني: بصر قلبه. فهو لا يهتدي لخير، نسأل الله ألا يخذلنا عما فيه رشدنا عنده. ثم قال: {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله}، أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله D له، وخذلانه إياه. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أيها الناس ما يذكر لكم وما توعظون به.

ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا}، وقال هؤلاء المشركون ما حياتنا الدنيا التي نحن فيها، لا حياة سواها، تكذيباً بالبعث والجزاء. قال قتادة: " هذا قول مشركي العرب ". وقوله: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي نموت نحن ويحيى أبناؤنا بعدنا. وقيل: هو كلام فيه تقديم وتأخير. والتقدير: نحيى ونموت. وقيل المعنى: نكون أمواتاً، يعني: النطق، ثم نحيى، أي: نصير أحياء في الدنيا ثم لا يهلكنا إلا الدهر، أي: إلا مرور الزمان وطول العمر. وقيل المعنى: نموت (ونحيا على قولكم أيها المؤمنون) - على طريق الاستبعاد للبعث - بعد الموت، قاله علي بن سليمان. وهؤلاء قوم لم يكونوا يعرفون الله فنسبوا ما يلحقهم من الموت إلى الدهر.

وقيل: بل كانوا يعرفون الله سبحانه، ولكن نسبوا الآفات والعلل التي تلحقهم فيموتون بها إلى الدهر. جهلوا أن الآفات مقدرة من عند الله D. وروي عن النبي A أنه قال: " لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللهُ ". ومعنى ذلك: أنهم كانوا يسبون الدهر ويقولون: هو يهلكنا فنهى النبي A عن ذلك. فيكون معنى نهيه: لا تسبوا الدهر فإن الله هو مهلككم لا الدهر الذي نسبتم ذلك إليه. وقيل المعنى: لا تسبوا خلقاً من خلق الله فيما لا ذنب له، فإن الله D هو خالق الدهر. فيكون على حذف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقيل معنى ذلك، فإن الله مقيم الدهر، أي: مقيم أبداً لا يزول. ثم قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}، أي: وما لهم - بقولهم: لا نبعث - من

علم، إنما ينكرون ذلك ويقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا - تخرصاً بغير خبر أتاهم من الله D. ما هم إلا في ظنون، أي: في شك من ذلك وحيرة. ثم قال تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ}، أي: وإذا تتلى على هؤلاء المكذبين بالبعث آيات الله D ظاهرات تخبرهم بالبعث بعد الموت. لم تكن حجتهم على رسول الله A ظاهرات تخبرهم بالبعث بعد الموت. لم تكن حجتهم على رسول الله A إلا قولهم: جئ بآبائنا الذين هلكوا وانشرهم لنا إن كنت صادقاً في قولك: إنا نبعث بعد الموت. وروى هارون وحسين عن أبي بكر عن عاصم: " ما كان حجتهم " بالرفع.

ثم قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة}، أي: قل لهم يا محمد: الله يحييكم ما شاء أن يحييكم في الدنيا ثم يميتكم فيها إذا شاء، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، أولكم وآخركم لا شك في ذلك، فلا تشكوا فيه. ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أكثر الناس الذين هم أهل تكذيب بالبعث لا يعلمون حقيقة ذلك. ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}، أي: سلطان ذلك دون من تدعون من دون الله من الآلهة. ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة}، أي: وله الملك يوم تقوم الساعة. والعامل في " يومئذ ": " يخسر ". وقيل: العامل في " يوم تقوم ": " يخسر " و " يومئذ " بدل منه. فيبتدئ بـ " يوم تقوم الساعة ". قوله: {يَخْسَرُ المبطلون}، أي: يغبن / ذلك اليوم الذين أبطلوا في الدنيا في أقوالهم ودعواهم أن (لله شريكا) فيخسرون منازلهم في الجنة، ويبدلون بها منازل في النار كانت للمحقين في أقوالهم ودعواهم أن الله لا شريك له فأبدلوا منها بمنازلهم في الجنة. فمفعول " يخسر " محذوف، وهو المنازل. ثم قال تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا}، أي: وترى يا محمد

ذلك اليوم أهل كل أمة ودين جاثية على رُكَبِها مجتمعة (مستوفرة) من هول ذلك اليوم. قال مجاهد: جاثية على الركب (مستوفزين): وهو قول الضحاك وابن زيد وغيرهما. وعن مجاهد أن " الأمة: هنا: الواحد ". ثم قال تعالى: {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي أهل كل أمة يدعون إلى كتابهم الذي أَمْلَت حفظتهم في الدنيا من أعمالهم وألفاظهم،

يقال لهم: اليوم تجزون ثواب أعمالكم في الدنيا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فالمعنى: كل يجزى بما تضمنه كتابه من عمله في الدنيا، وهو مثل قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]. ويدل على صحة هذا التفسير قوله بعد ذلك: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. وقيل معنى الآية: كل أمة تدعى إلى كتابها الذي فرض عليها من حلال وحرام فتجازى بما عملت فيه. قال ابن عباس: يعرض من خميس إلى خميس ما كتبته الملائكة عليهم السلام من أفعال بني آدم. فينسخ منه ما يُجْزَى عليه من الخير والشر، ويُلغى سائره. ثم قال: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق}، أي يقال لهم في ذلك اليوم إذا عُرِضَت عليهم أعمالهم في كتبهم التي أحصتها عليهم الحفظة: هذا كتابنا ينطق عليكم بما أٍلفنم في الدنيا من الأعمال، قد أحصته عليكم الحفظة، فاقرؤوه.

{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: كانت حفظتنا تكتب أعمالهم فتثبتها في الكتب عليكم. وقال ابن عباس: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، (هو أم) الكتاب فيه أعمال بني آدم. وقوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، قال هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم من اللوح المحفوظ قبل أن يَعمَلوها، ثم يقابلون بذلك أعمال بني آدم فلا يزيدون شيئاً ولا ينقصون شيئاً قد كتبه الله D ذلك قبل خلقهم وعلمه وقضاه. قال ابن عباس " إن الله جل ذكره خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب، فقل: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول، بر أو فجور ورزق مقسوم من حلال (أو حرام)، ثم الزم كل شيء

من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كم هو، ثم جعل على العباد حفظة، وعلى الكتاب خزاناً، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عَمَلَ ذلك اليوم فإذا فنى الرزق وانقطع الأثر، وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم (من الخزنة) فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحلكم عندنا شيئاً، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال ابن عباس: " ألستم قوماً عرباً تسمعون الحفظة تقول: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ". وعنه أيضاً أنه قال: فرغ الله D مما هو كائن فتنسخ الملائكة ما يعمل يوماً بيوم من اللوح المحفوظ، فيقابل به عمل الإنسان لا يزيد على ذلك ولا ينقص. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: " إن الملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون

30

فيه أعمال بني آدم ". وقيل لابن عباس: ما توهمنا إلا أنهم يكتبونه بعدما يعمل. فقال: أنتم قوم عرب والله يقول: إنا كنا نستنتخ ما كنتم تعملون " وهل يكون الاستنساخ إلا من نسخة. وروى مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبي A قال: " أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ D القَلَمُ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين - فَكَتَبَ: الدُّنْيَا وَمَا يَكُونَ فِيها مِنْ عَمَلٍ (مَعْمُوٌ بِرٍّ) أَوْ فُجُورٍ، رَطْبٍ أَو يَابِسٍ، فَأَمْضَاهُ عَنِدَهُ (فِي الذِّكْرِ). ثُمَّ قَالَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فَهَلْ تَكُونُ النَّسْخَةُ إِلاَّ مِنْ شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ". قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} - إلى آخر السورة، فأما الذين وحدوا الله D وعملوا بطاعته فدخلهم ربهم

في رحمته، يعني: في جنته يوم القيامة. {ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين}، أي: دخولهم في رحمته يومئذ هو الظفر الظاهر. ثم قال: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ}، / جواب " أما " محذوف، والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، أي تقرأ عليكم فاستكبرتم عن اتباعها والإيمان بها. والاستكبار في اللغة: الأنفة عن اتباع الحق. وروي عن النبي A أنه قال: " قَالَ اللهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: الكِبْرَيَاءُ رِدَّائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مَنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ".

قوله: {وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}، أي: قوماً تكسبون الآثام والكفر سبحانه، لا تؤمنون بمعادٍ ولا بثواب ولا عقاب. ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة}، أي: ويقال لهم يومئذ: وإذا قيل لكم إن وعد الله حق في بعثكم ومجازاتكم على أعمالكم، قلتم مجيبين: ما ندري ما الساعة، أي: ما ندري ما البعث والجزاء تكذيباً منكم بوعيد الله ووعده وإنكار القدرة على إحيائكم بعد موتكم. {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً}، أي: وقلتم (ما نظن) أن الساعة آتية إلا ظناً. {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أنها جائية. وتقديره في العربية: إن نحن إلا نظن ظنا ونظيره من الكلام ما حكاه (أبو عمرو) بن العلاء وسيبويه من قولهم: ليس الطيب إلا المسك، (على تقدير: ليس إلا الطيب المسك). هذا مذهب المبرد وتقديره.

وسيبويه يقول (إن " ليس ") في هذا جرت مجرى " ما " فارتفع ما بعد " إلا " كما يرتفع مع " ما " وقيل التقدير في الآية: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً. وإنما احتيج إلى هذا التقدير لأنه لا يجوز في الكلام: ما ضربت إلا ضرباً، وما ظننت إلا ظناً، إذ فائدة المصدر فائدة الفعل فكما لا يجوز: ما ضربت إلا ضربت، وما ظننت إلا ظننت، كذلك لا يجوز مع المصدر، فكذلك لا تجوز إن نظن إلا نظن. وإذا لم يجز مع الفعل لم يجز مع المصدر، فلا فائدة في المصدر أن يقع بعد حرف الإيجاب وليس قبله اسم، كما لا فائدة في الفعل أن يقع بعده. فلذلك احتيج إلى تقدير محذوف ليقع بعد الحرف اسم أو فعل قبله اسم. ثم قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}، أي: وظهر لهؤلاء المكذبين بالبعث عقاب سيئات أعمالهم في الآخرة.

{وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، أي: وحل بهم من عذاب الله عقاب استهزائهم بآيات الله D في الدنيا. ثم قال تعالى: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ}، أي: نترككم في نار جهنم كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وتشاغلتم بلذاتكم في الدنيا، واتبعتم أهواءكم. ثم قال: {وَمَأْوَاكُمُ النار}، أي: ومنزلكم الذي تأوون إليه نار جهنم. وما لكم من ناصر ينصركم من العذاب فينقذكم منه. ثم قال تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً}، أي: هذا الذي حل بكم من (العذاب والهوان) باتخاذكم آيات الله - (في الدنيا) - هزؤا تسخرون منها. ثم قال ثم قال: {وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا}، أي: وخدعتكم الحياة الدنيا فآثرتموها على العمل بما ينجيكم من العذاب. ثم قال تعالى: {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ}، لا يخرجون من نار جهنم، ولا يستعتبون فيردون إلى الدنيا ليعملوا صالحاً ويتوبوا من كفرهم. ثم قال تعالى: {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين}، أي: فلله على

نعمه وأياديه عند خلقه الحمد، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فهو رب السماوات ورب الأرض، أي: مالكها ومالك العالمين، وهم جميع أصناف الخلائق. ثم قال تعالى: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض}، أي: وله العظمة والسلطان والجلال في السماوات السبع والأرضين السبع. {وَهُوَ العزيز الحكيم}، أي: وهو العزيز في نقمته من أعدائه، القاهر مل ما دونه، الحكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء لا يقدر (على ذلك) ولا على شيء منه أحد غيره، لا إله إلا هو.

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ المجلد الحادي عشر الأحقاف - الصف 1429 هـ - 2008 م

الأحقاف

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأحقاف مكية قوله: {حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الآيات 1 - 3]. قد تقدم ذكرهم، والتقدير: هذا تنزيل الكتاب من عند الله العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه. قال: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}. أي: ما أحدثنا ذلك وأوجدناه (بعد أن لم يكن) إلا لإقامة الحق والعدل في

4

الخلق، (وإلا لأجل مسمى)، فكل ذلك معلوم عنده تعالى متى - يفنيه فيصيره معدوماً عندكم - أمر بفناء ذلك. ثم قال: {والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ}. أي: والذين جحدوا توحيد الله سبحانه ولم يؤمنوا بالبعث بعد الموت معرضون عن إنذار الله D، لا يتعظون ولا يتفكرون في آيات الله سبحانه فيعتبرون ويزدجرون. قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض}. أي: قل لهم يا محمد - لهؤلاء الكفار بالله سبحانه من قومك - أرأيتم أيها الناس الآلهة التي تعبدون من دون الله سبحانه: أروني أي: شيء خلقوا من الأرض، فإن ربي خلق الأرض كلها.

وقيل " من " بمعنى " في "، والمعنى أروني {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} فإن ربي خلق الأرض كلها، فلأي شيء عبدتموها ولأي حجة آثرتم عبادتها على عبادة الله سبحانه الذي خلقها وابتدعها، وخلق كل ما في الأرض من غير أصل. {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات}. أي: أم لآلهتكم شرك في خلق السماوات السبع فيكون لكم بذلك حجة في عبادتكم إياها، فمن حجتي في إفراد الله بالعبادة أنه خلق السماوات والأرضين وابتدع ذلك من غير أصل. ثم قال: {ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ}. [أي: جيئوني بكتاب من قبل هذا] القرآن فيه أن آلهتكم خلقت شيئاً من السماوات والأرضين، أو جيئوني بأثارة من علم بذلك. " وأثارة " مصدر كالسماحة. قال ابن عباس:

هو خط كانت تخطه العرب في الأرض، وروى أن نبياً كان يخط بإصبعيه في الأرض السبابة والوسطى، يخط بهما في الرمل ويزجره. وقال قتادة معناه: أو خاصة من علم تخير أن آلهتكم خلقت شيئاً أو لها شرك في شيء، وهو قول ابن جبير والحسن.

وقيل معناه: أو علم تثيرونه فتستخرجونه. وقيل معناه: أو تأثرون بذلك علماً عن أحد ممن كان قبلكم، قاله مجاهد. وعن ابن عباس: " أو أثارة من علم "، معناه: أو بيّنة من الأمر. وقال أبو عبيدة وأبو بكر بن عياش معناه: أو بقية من علم. ثم قال: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} /.

أي: إن كنتم صادقين في دعواكم ما تدعون أن آلهتكم مستحقة أن تعبد. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، أو أَثَرَةٍ من علم، على فَعَلَةٍ وهما لغتان عند الفراء، وحكى الكسائي لغة ثالثة: أو أُثْرَِةٍ على فُعْلَةٍ. والمعنى عنده: أو بقية من علم، ويجوز أن يكون معناه عنده: أو شيئاً

5

مأثوراً من كتب الأولين. وأثرة بمعنى أثر، كقترة وقتر، والمأثور هو المتحدث به مما صح سنده عن من يحدث به عنه. قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله}. [أي: لا أحد أضل ممن يعبد من دون الله] حجراً لا يستجيب له إذا دعاه أبداً، ولا ينفعهم، وتلك الحجارة التي يعبدونها غافلة عن دعاء هؤلاء الكفار، لا تعقل ولا تفهم، ووقعت " من " للأصنام والحجارة، وهي لا تعقل لأنهم جعلوها في عبادتهم إياها بمنزلة من يعقل ويميز، فخوطبوا على مذهبهم فيها.

وقد قرأ ابن مسعود (مَا لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ) كما قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} [مريم: 42]، فأجراه على المعنى، وأتى بـ " ما " التي تكون لما لا يعقل، وقد كان يلزم أن يقرأ: " وهي عن دعائهم غافلة لكنه أتى به على لفظ من يعقل، فمرة رد الكلام على المعنى، ومرة رده على ما جرى في مخاطباتهم ومثل قراءة الجماعة هنا: قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله} [الزمر: 3] وأتى بالهاء والميم وهما لمن يعقل، فجرى الإخبار عن الأصنام على ما يجري في مخاطباتهم، لأنهم أجروها مجرى من يعقل ومن يميز، ولو أتى الكلام على المعنى لقال: " ما نعبدها إلا لتقربنا ". وهذا كله توبيخ من الله جلَّ ذكره للمشركين لسوء رأيهم وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئاً ولا يفهم، وتركهم عبادة من أنعم عليهم بجميع ما هم فيه من النعم، وإليه يلجئون ويتفرعون عند حاجتهم وضروراتهم.

6

قال: {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً}. أي: وإذا جمع الناس لموقف الحشر كانت آلهتهم لهم أعداء؛ لأنهم يتبرءون منهم، وهو قوله: {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}. لأن الآلهة تقول يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بفعلهم، وهو قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]. قال: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ}. أي: وإذا تقرأ عليهم آيات الكتاب واضحات البرهان أنها حق من عند الله، قالوا للحق لما جاءهم، وهو القرآن: هذا سحر مبين أي: ظاهر لمن تأمله وسمعه، قالوا: هذا القرآن يخدع من سمعه كفعل السحر. قال: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً}. أي: يقول هؤلاء المشركون: اختلق محمد هذا القرآن. فقل لهم يا محمد: إن افتريته؛ أي: إن اختلقته من عند نفسي كذباً على الله سبحانه فلستم تغنون عني من عذاب الله D شيئاً إن عذبني على ذلك.

9

{هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: الله أعلم من كل شيء سواه بما تقولون وما تدعون علي من الكذب. {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: كفى الله شاهداً علي وعليكم فيما تقولون وما أقول. {وَهُوَ الغفور الرحيم} أي: والله ذو الستر على ذنوب من تاب إليه، الرحيم بهم أن يعذبهم عليها بعد توبتهم منها /. قال: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ}. أي: قل يا محمد: ما كنت أول الرسل فتنكرون رسالتي، بل قد كان قبلي رسل كثير وأنا واحد منهم. قال المبرد: البدع البديع الأول، ومنه يقال: ابتدع فلان كذا، أي: أتى بما لم يتقدمه إليه أحد قبله، ومنه بديع السماوات: أي: مبتدعهما.

وقوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ}. قيل أن النبي A أمر أن يقول ذلك للمؤمنين، أي: لست أدري ما نصير إليه يوم القيامة. ثم بيّن الله D حاله فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2] وبيّن للمؤمنين أمرهم فقال: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح: 5] هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة والحسن: هذه الآية منسوخة نسختها سورة الفتح، قالا: فلما نزلت سورة الفتح خرج النبي A فبشرهم بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال له رجل من المسلمين هنيئاً لك يا نبي الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا، فأنزل الله، {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كَبِير} [الأحزاب: 47] وأنزل: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الفتح: 5] إلى قوله: {حَكِيماً} [الفتح: 5] فبيّن للمؤمنين ما يفعل بهم أيضاً. قال قتادة: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، ثم درى ما يفعل به في أول الفتح، وعن الحسن: أنها نزلت في المشركين، وأنه A ما يدري ما يصير إليه أمره معهم في الدنيا، وما يصير أمرهم، أيؤمنون أم يكفرون، أيعجلون بالعذاب أم يؤخرون وقال: أما في الآخرة فمعاذ الله، إنه قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل. وقيل معناه: ما أدري ما يفترض عليّ وعليكم في الدنيا من الفرائض. وقيل المعنى: ما أدري ما يحل علي وعليكم من جدب أو رخاء في الدنيا. وقيل إنها نزلت في رؤيا رآها النبي A، فسرت أصحابه فاستبطئوا تأويلها فأنزل الله D: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ}. واختار الطبري وغيره أن يكون هذا في أمر الدنيا دون حال الآخرة لأنه لو

10

كان لا يدري ما يفعل به ولا بهم في الآخرة لكان ذلك حجة لهم لأنهم يقولون له: فعلى ما نتبعك إذا كنت لا تدري على أي حال نصير غداً في القيامة. وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} أي: ما اتبع فيما أمركم به وفيما أفعله إلا وحي الله D إلي وأمره إياي. {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم عقاب الله D على كفركم. {مُّبِينٌ} أي: قد بينت لكم إنذاري لكم ونصحي إياكم. قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء القائلين للقرآن لما جاءهم هذا سحر مبين، إن كان هذا القرآن من عند الله أنزله علي وكفرتم به. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ} يعني موسى عليه السلام شهد على مثل القرآن، فالتصديق أنه من عند الله هو التوراة.

فشهد على التوراة أنها من عند الله سبحانه، والقرآن مثلها. قاله مسروق. وقال الشعبي: زعم قوم أنه عبد الله بن سلام، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة، والحواميم مكية، ولكنه موسى عليه السلام، وروى مالك عن أبي هريرة عن عامر بن

سعد بن أبي وقاص أنه قال: " ما سمعت النبي A يقول لأحد يمشي على الأرض [إنه] من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ} ". وقال ابن عباس: " كان رجلاً من أهل الكتاب آمن بمحمد A [ قال]: إنّا نجده في التوراة، وكان أفضل رجل فيهم وأعلمهم فخاصم اليهود النبي A، وتراضوا بحكم عبد الله بن سلام وقالوا: إن شهد لك آمنا بك، فقال له النبي A: أتشهد أني رسول الله مكتوباً في التوراة والإنجيل؟

فقال: نعم فاعترضت اليهود وأسلم عبد الله، وهو قوله: {فَآمَنَ واستكبرتم} ". قال مجاهد: هو عبد الله بن سلام، وهو قول قتادة وابن زيد والحسن. وعن الشعبي أنه قال: هو رجل من أهل الكتاب غير عبد الله بن سلام. وذهب ابن سيرين إلى أن هذه الآية مدنية جعلت في سورة مكية فيصح أنه عبد الله بن سلام لأن إسلامه (كان بالمدينة). ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: جعل جزاؤهم على كفرهم ترك توفيقهم للهدى.

وقيل: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم}. فقوله: " وَاسْتَكْبَرْتُمْ " معطوف على وكفرتم. وقوله: " على مثله ": معناه عليه، كما قال: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137]: أي: فإن آمنوا / بمثل القرآن وجواب " أرأيتم " محذوف. دلّ عليه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} والتقدير / أضلكم الله بفعلكم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. وقيل التقدير فآمن واستكبرتم أليس قد ظلمتم، إن الله لا يهدي [القوم] الظالمين. و {أَرَأَيْتُمْ} لفظ موضوع للسؤال والاستفتاء، ويكون للتنبيه ولذلك لا يقتضي مفعولاً به.

11

قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}. من جعل الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من مؤمني بني إسرائيل، كان المعنى عنده: وقال الذين كفروا من بني إسرائيل للذين آمنوا بمحمد A كان المعنى عنده: وقال مشركو قريش لمن آمن منهم بمحمد A: لو كان الإيمان بمحمد A خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وهذا التأويل قول قتادة. قال: ذلك ناس من المشركين، قالوا: نحن أعز به ونحن ونحن، فلو كان الإيمان

بمحمد A خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً وأصنافهم، فأنزل الله جل ذكره: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} [البقرة: 104]. قال الحسن: أسلم " أسلم " " وغفار " فقالت قريش: لو كان خيراً ما سبقونا إليه.

وقال الزجاج: أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، فقال بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد: لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيراً ما سبقونا إليه، إذ نحن أعز منهم وإنما هؤلاء رعاة البهم. وفي قوله: {سَبَقُونَآ} خروج من خطاب إلى غيبة، ولو جرى على صدر الكلام في الخطاب لقال: ما سبقتمونا، ولكنه كلام فصيح حسن كثير في كلام العرب والقرآن، ويجوز أن يكون قال: {مَّا سَبَقُونَآ} على أن يكون قاله الكفار لبعض المؤمنين،

12

فيكون على بابه لم يخرج من شيء إلى شيء، فقيل: إنه قول وقع في أنفسهم ولم يقولوه ظاهراً بأفواههم. وقوله: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ}. أي: بمحمد A وبما جاء به {فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ}. أي: هذا القرآن أكاذيب من أخبار الأولين قديمة. قال: وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً}. أي: ومن قبل هذا القرآن كتاب موسى أنزلناه عليه، " فالهاء " تعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] وهو التوراة إماماً لبني إسرائيل يأتمون به، ورحمة لهم. ثم قال: {وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} يعني: القرآن مصدق للتوراة. وقيل: مصدق لمحمد A وما جاء به.

وقوله: {لِّسَاناً عَرَبِيّاً} نصبه على الحال من المضمر في {مُّصَدِّقٌ}. وقيل: هو حال من {كِتَابٌ} لأنه لما نعت قرب من المعرفة فحسنت الحال منه. وقيل: هو منصوب " بمصدق "، وفيه بعد؛ لأنه يصير المعنى أن القرآن يصدق نفسه، فيصير التقدير: وهذا القرآن مصدق نفسه؛ لأن اللسان العربي هنا هو القرآن، وهذا المعنى ناقص إذا تأملته. وقيل: " اللسان " هنا عني به محمد A، فعلى هذا المعنى يحسن نصب " لسان " " بمصدق "، كأنه قال: وهذا القرآن مصدق محمداً A. ويجوز أن يكون في الكلام حذف مضاف. والتقدير: وهذا كتاب مصدق صاحب لسان عربي، وهو محمد A، وهذا قول حسن وتأويل صحيح. ثم قال: {لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} أي: لينذر [أهل] الكتاب الذين ظلموا.

13

وقيل معناه: لينذر محمد A بالقرآن الذين ظلموا، وهذا التأويل على قراءة من قرأ لينذر [بالياء، فأما على قراءة من قرأ بالتاء فلا يكون إلا لمحمد A، والمعنى: لتنذر يا] محمد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله سبحانه. {وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ}. أي: وهو بشرى للذين أطاعوا الله D فأحسنوا لأنفسهم في فعلهم. قال تعالى: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}. أي قالوا: لا إله إلا الله، ثم استقاموا على ذلك فأطاعوا الله D فأحسنوا لأنفسهم في فعلهم حتى ماتوا فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة، ولا هم يحزنزن على ما خلفوا بعدهم في الدنيا. قال: {أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا}.

15

أي: هؤلاء الذين تقدمت صفتهم هم أصحاب الجنة ماكثين فيها جزاء لهم من الله D بأعمالهم الصالحة. قال تعالى {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ [كُرْهاً]}. أي: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسنى في صحبته إياهما أيام الدنيا، والبر بهما حياتهما وبعد مماتهما لما لقيانه في حمله وتربيته، ثم بيّن ما لقيا منه من التعب فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} أي: بمشقة، ووضعته بمشقة. قال أبو محمد (مؤلفه Bهـ): فبر الوالدين أعظم ما يتقرب به إلى الله جل ذكره، وعقوقهما من أعظم الكبائر المهلكات، وقد تقدم القول في ذلكما في " سبحان " وبيّنه الله D بقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23]. فنهى الله D الولد أن يقول أف إذا شم منهما رائحة يكرهها، فالنهي لما فوق ذلك أعظم، وهذا باب مختصر في الحض على بر الوالدين. روى ابن مسعود " أن النبي A سئل أي الأعمال أفضل قال: " الإيمان بالله،

والصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله " ". وروى مورق العجلي أن النبي A قال: " هل تعلمون نفقة أفضل من نفقة في سبيل الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: نفقة الولد على الوالدين ". وروى أبو هريرة، أن النبي A قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة الوالدين، ودعوة المسافر [ودعوة] المظلوم ".

وفي رواية أخرى: " ودعوة الإمام العادل في موضع، ودعوة المظلوم ". قال الحسن: دعاء الوالدين للولد نجاة، ودعاؤهما عليه استيصال. قال: وعن المسيب " أن النبي A صعد يوماً المنبر فلما وضع رجله على الدرجة الأولى قال: آمين، ثم وضع رجله على الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم وضع رجله على الدرجة الثالثة فقال: آمين، فلما فرغ من خطبته ذكروا له ذلك فقال: إن جبريل استقبلني حين وضعت رجلي على الدرجة الأولى، فقال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، فلما صعدت إلى الثانية قال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، فلما صعدت إلى الثالثة، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين ".

وروى مجاهد يرفعه إلى النبي A أنه قال: " كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله، ودعوة الوالدين ". وعن الحسن " أن رجلاً سأل النبي A فقال له إني حججت، وإن والدتي قد آذنت لي في الحج، فقال [له]: " لقعدة معها تقعدها على مائدتها أحب إلي من حجتك " ". وروى ابن عمر أن النبي A قال: " إن أبر البر أن يصل الرجل أهل

ود أبيه بعده ". وقال عمر Bهـ " من أراد أن يصل أباه بعد موته فليصل إخوان أبيه بعده ". وعن النبي عليه السلام أنه قال: " ودك ود أبيك لا تقطع من كان يصل أباك فيطفأ بذلك نورك ". وعن النبي A أنه قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، واليمين الغموس ". وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله A: " إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه، قيل: وكيف يسب الرجل والديه، قال: يسب أبا

الرجل، فيسب أباه ويسب أمه [فيسب أمه] ". وروى أبو أمامة أن النبي A قال: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُدْمِنُ خَمْرٍ، وَمُكَذِّبٌ بِقَدَر ". قال الحسن: انتهت القطيعة إلى أن يجافي الرجل أباه عند السلطان، يعني يخاصمه، ويروى أن النبي A قال: " الأم أعظم حق في البر والطاعة من

الأب ". وعن الحسن أنه قال: (ثلثا البر الطاعات للأم والثلث للأب). وروى أبو هريرة: " أن رجلاً سأل النبي A فقال: يا رسول الله من أحق مني بحسن الصحبة، قال: أمك، قال ثم من، قال: أمك ثلاثاً، قال: ثم من؟ قال: أباك ". وقد قرن الله جل ذكره شكره بشكر الوالدين فقال: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 13]. وقال كعب الأحبار: قال لقمان لابنه " يا بني من أرضى والديه فقد أرضى الرحمن ومن أسخطهما فقد أسخط الرحمن يا بني إنما الوالدان باب من أبواب الجنة،

فإن رضيا مضيت إلى الجنان وإن سخطا حجبت ". وعن أبي هريرة أن النبي A قال: " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوك فيعتقه ". وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان [بوالديه إِحْسَاناً]}. يقال إن الإنسان ها هنا إنسان بعينه، وليس كل إنسان حمله وفصاله ثلاثون شهراً، بل يزيدون وينقصون، وليس كل من بلغ أشده يقول: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ}. وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق Bهما. والذي عليه أكثر الناس أنها عامة على الأكثر من الناس في الحمل والفصال. وقوله: {قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ}. هذه صفة المؤمن وما يجب له أن يقول، فهو وإن لم يقل ذلك فذلك اعتقاده

ومذهبه، وذلك ما يجب له أن يقول. قال (قتادة والحسن ومجاهد): المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة، و " حُسْناً " في مصاحف الحرمين والشام والبصرة بغير ألف قبل الحاء، وعلى ذلك أجمع القراء في سورة " العنكبوت "، وهو في مصاحف الكوفيين بألف، وعلى ذلك أجمع القراء في قوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً}، فالقراءتان متكافئتان، إذ في كتاب الله لكل واحدة مثال، فجمع عليه. وقرأ عيسى بن عمر " حَسَناً " بفتح الحاء والسين على معنى فعلاً

حسناً، ولا يجوز حُسْنَى بغير تنوين؛ لأن هذا لم تتكلم به العرب بألف التأنيث إلا بالألف واللام في أوله نحو الحُسْنَى والفُضْلى، وإِحْسَانٌ مصدر أَحْسَن، وَحَسَنَ بمعناه، وَكَرْهاً مصدر في موضع الحال. وزعم أبو حاتم أن القراءة بفتح الكاف لا تحسن؛ لأن الكرة بالفتح: الغصب والقهر، وبالضم المكروه، فبالضم يتم المعنى عنده، وذكر أن بعض العلماء سمع رجلاً يقرأ بفتح الكاف فقال له لو حَمَلته كرها (لَرَمَتْ بِهِ) لأن الكره عنده الغضب والقهر. وهما عند أكثر العلماء غيره لغتان مشهورتان بمعنى واحد، ومعناه المشقة.

والفتح عند المبرد وسيبويه أولى به لأنه المصدر بعينه. وقد حكى سيبويه والخليل أن كل فعل ثلاثي فمصدره فَعْلٌ، واستدلا على ذلك أنك إذا رددته إلى المرة الواحدة جاء مفتوحاً، تقول: قَامَ قَوْمَةً، وَذَهَبَ ذَهْبَةً، والذهاب عندها اسم للمصدر، لا مصدر، فكذلك الكره بالضم إنما هو اسم للمصدر، والكره بالفتح هو المصدر.

ثم قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شَهْراً}. أي: ومدة حمل أمه له وفصالها إياه من الرضاع ثلاثون شهراً. وهذا مما استدل به العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأنه قد قال تعالى في سورة البقرة: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فأخبر بمدة الرضاعة الكاملة، فالذي يبقى من الثلاثين شهراً التي ذكر الله هنا هو ستة أشهر فهي للحمل. وقرأ الجحدري " وَحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ ". ورويت عن الحسن. والفصال والفصل مصدران. يقال فَصَلَهُ فِصَالاً وَفَصْلاً، والفَصْلُ على مذهب سيبويه هو المصدر، والفِصَال اسم للمصدر على ما تقدم. وهذا النص مخصوص غير عام، إنما هو في أكثر الناس لأن منهم من يقيم في

الحمل أكثر من ثلاثين شهراً، والفصل بعد ذلك، وقد قيل إنه إنسان بعينه. ثم قال تعالى: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} " أشُدَّهُ " عند سيبويه جمع شدة، وقد ذكر شرحه في " يُوسُف " بأبين من هذا. قال ابن عباس: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء أربعون سنة، والعمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة. وقال الشعبي: الأشد بلوغ الحُلُم، وذلك إذا كتبت لك الحسنات وعليك السيئات. وقيل: الأشد ثماني عشرة سنة. ثم قال: {قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ (وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا)}. أي: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حق الله في بره والديه، أَعِني على شكر نعمتك التي أنعمت علي، وتعريفي توحيدك وهدايتك إياي

للعمل بطاعتك وعلى والدي من قبلي. وَأَصْلُ أَوْزِعَنِي: مِن وَزَعْتُ الرَجُل على كذا: إِذَا دَفَعْتُه إِلَيْهِ. وكان أبو بكر بن عياش يقول هو أبو بكر الصديق Bهـ، فلم يكفر له أب ولا أم بل أسلما. قال أوزعني: معناه ألهمني، روي " أنه لما بلغ أشده ثماني عشرة سنة صحب النبي A والنبي عليه السلام ابن عشرين سنة، وسافر معه إلى الشام في تجارة فنزلا منزلاً فيه سدرة، فقعد النبي A في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب بجوار الموضع يقال له بحيرى فسأله أبو بكر Bهـ عن الدين وتحدث معه، فقال له الراهب: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال له أبو بكر: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له الراهب: هذا والله نبي، والله ما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمد A، فلما بعث النبي عليه السلام وهو ابن أربعين سنة وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة، آمن به وصدّقه وصحبه، ففيه نزلت الآيات.

17

ثم قال تعالى: {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه}. أي: وأوزعني أن أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني. {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي}. أي: وأصلح لي أموري في ذريتي الذين وهبتم لي بأن تجعلهم على الهدى واتباع مرضاتك. {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} أي: تبت إليك من الذنوب التي سلفت مني. {وَإِنِّي مِنَ المسلمين} أي: من الخاضعين لك بالطاعة، المسلمين لأمرك ونهيك ثم قال: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ}. أي: والذين هذه صفتهم يتقبل الله منهم أحسن أعمالهم فيجازيهم عليها ويصفح عن سيئاتهم. . . وقوله: {في أَصْحَابِ الجنة}. أي: يفعل بهم ذلك فعله في أصحاب الجنة. ثم قال: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ}. أي: وعدهم وعد الحق لا شك فيه أنه موف لهم بذلك. قوله: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} إلى قوله: (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [الآيات 16 - 24].

هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه عند بعض العلماء، ورد ذلك بعضهم قال: هذا يبطله قوله: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول}، فقد حقت عليه وعلى أمثاله كلمة العذاب بهذه الآية، وأن عبد الرحمن من أفاضيل المؤمنين. وقال ابن عباس: نزلت في ابن لأبي بكر الصديق قال له: أتعدني أن أبعث بعد الموت، منكراً لذلك، ولم يذكر اسمه. وروي أن معاوية لما كتب إلى مروان أن يبايع الناس ليزيد

قال عبد الرحمن ابن أبي بكر: جئتم بها هرقلية (فقال له مروان: يا أيها الناس) إن هذا الذي قال الله فيه: {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} الآية، فغضبت عائشة لما بلغها ذلك وقالت: والله ما هو به، ولو شئت أن أسميه لسميته، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه - تعني الحكم - طريد رسول الله A، والتقدير في الآية، والذي قال لوالديه إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت أف لكما، أي: قَذَراً لكما أتعدانني أن أخرج من قبري بعد الموت. وقرأ الحسن: أن أخرج، جعل الفعل له. قال قتادة: هذا عبد سوء عاق لوالديه فاجر. وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي}. أي: أتعدانني في أن أبعث بعد الموت وقد مضت قبلي القرون فهلكت، ولم يبعث أحد منهم بعد موته، فكيف أبعث أما ولم يبعث أحد ممن هلك قبلي، فتوهم

المخذول أن لما لم يبعث من مات قبله، لا يبعث هو، ولم يدر أن للجميع أجلاً ووقتاً يبعثون فيه. ثم قال: {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله}. أي: ووالداه يصرخان الله عليه، ويقولان ويلك آمن بالله وبالبعث، وصدّق بوعد الله ووعيده، إن وعد الله حق، إنه يبعث الموتى ليجازيهم على أعمالهم، فيقول لهما مكذباً لقولهما: ما هذا إلا أساطير؛ أي: ما تقولان لي إلا أخباراً / من أخبار الأولين باطلة. {يَسْتَغثِيَانِ الله} تَمَامٌ عند نافع، وَتْلَكَ آمِنِ التمام عند يعقوب وغيره

18

" وَحَقٌ "، هو التمامُ عند غيرهما؛ لأنه من تمام القول الذي قالا له وهو الصواب إن شاء الله ". قال: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول}. أي: وجبت عليهم كلمة العذاب في الآخرة مثل ما وجبت للأمم المتقدمة المنكرة للبعث، الضالة عن الهدى من الجن والإنس كفعل هذا الذي تقدم ذكره. {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ}. أي: مغبونين ببيعهم الهدى بالضلالة، والجنة بالنار. وهذه الآية تدل على موت الجن كما يموت الإنس أمة بعد أمة، لأنه قال: {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس}، وهي تدل على مجازاة الجن كما يجازي الإنس، ودخول الجن النار والجنة كما يدخلها الإنس، وليس المراد بقوله: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} عبد الرحمن الذي نزلت فيه الآية، وإنما المعنى، من عمل مثل هذا الذي ذكر عنه، إنكاراً للبعث فهو الذي حق عليه العذاب، فأول الكلام خاص، وآخره عام. وروى قتادة عن الحسن أنه قال: الجن لا يموتون، قال قتادة: فاحتجت عليه

19

بهذه الآية. قال: {وَلِكُلٍّ درجات مِّمَّا عَمِلُواْ} أي: ولكل هذين الفريقين من الجن والإنس من أعمالهم منازل ومراتب عند الله يوم القيامة في الجنة أو في النار. قال ابن زيد: درج أهل النار يذهب سفالاً، ودرج أهل الجنة يذهب علواً. ثم قال: {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أعمالهم} أي: ولنعطي جميعهم أجور أعمالهم من حسن وسيء. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: لا يزاد على أحد ذنب غيره، ولا ينقص أحد من حسن عمله. والوقف عند بعضهم {مِّمَّا عَمِلُواْ}، على أن تكون " اللام " متعلقة بفعل مضمر بعد هذا، والتمام: يظلمون. قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار}. أي: واذكر يا محمد يوم يعرض الذين كفروا على نار جهنم. وقيل العامل في " يوم " فعل مضمر بعده، والتقدير ويوم يعرض الذين كفروا على النار يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم}، فيقال هو العامل في " يوم " والمعنى: يقال لهم

أذهبتم طيباتكم في الدنيا وتطلبون النجاة اليوم. (وذكر بعض العلماء أن معناه: أذهبتم طيباتكم في الدنيا لأنفسكم، ولم تعطوا منها الحاجة، وتؤثروا أهل الفقر لوجه الله D. وأكل الطيبات من المطاعم حلال غذا طاب أصلها، يقول الله جل ذكره: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32] فأخبرنا أن الطيبات من الرزق مباحة للمؤمنين في الدينا، وأنها خالصة لهم يوم القيامة في الآخرة إذ يشاركهم فيها في الدنيا الكفار، فلا شيء فيها للكفار في الآخرة). ويروى أن عمر Bهـ رأى جابر بن عبد الله ومعه إنسان يحمل عنه شيئاً

فقال: " ما هذا؟ قال: لحم اشتريته بدرهم فقال: أوكلما قدم أحدكم اشترى لحماً بدرهم والله لو شئت أن أكون أطيبكم طعاماً، وأينعكم ثوباً لفعلت، ولكن الله يقول: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} فَأَنَا أَتْرُكُ طَيِّبَاتِي ". وروى قتادة عن أبي هريرة أنه قال: " إنما كان طعامنا مع نبي الله A الأسودين: الماء والتمر، والله ما كنا نرى سراءكم هذه/ ولا ندري ما هي ". وروي عن النبي A " أنه دخل على أهل الصفة، وهو مكان يجتمع فيه فقراء المسلمين وهو يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال: أنتم غير من يغدوا أحدهم في حلة ويروح في أخرى، ويغدا عليه بتحفة ويراح عليه بأخرى ويستر

21

بيته كما تستر الكعبة، قالوا نحن يؤمئذ خير قال: بل أنتم اليوم خير ". ثم قال: {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق}. أي: بتكبركم في الدنيا على ربكم/ ومخالفتكم أمره ونهيه بغير ما أباح لكم وبفسقكم. قال: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف}. أي: واذكر يا محمد لقومك أخا عاد وهو هود إذ أنذر قومه كما أنذرت أنت قومك. والأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل ولم يبلغ أن يكون جبلاً. قول المبرد، " هو رمل مكثتن ليس بالعظيم وفيه أعواج يقال أحقوقف

الشيء: إذا اعوج حتى يلتقي طرفاه. كما قال: " سماوة الهلال حتى احقوقف ". قال ابن عباس: الأحقاف جبل بالشام، وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أنها واد بين عمان ومهرة.

وقال ابن إسحاق. كانت الأحقاف ما بين عمان إلى حضرموت واليمن كلها. وقال مجاهد: الأحقاف: الرمل. وقال قتادة: هي رمال مشرفة على البحر بالشحر، والشحر ما يقرب من عدن. وقوله: {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله}. والنذر جمع نذير، والنذير الرسول A، وهو بمعنى منذر. وقيل: النذر هنا اسم المصدر بمعنى الإنذار، وليس بجمع.

22

وقال الضحاك: لم يبعث الله D رسولاً إلا بن يعبد الله وحده. ثم قال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ [عَظِيمٍ]}. قال لهم هود ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم إن عبدتم غير الله سبحانه عذاب يوم عظيم هوله وهو يوم القيامة. قال: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}. أي: قال قوم هود وهم عاد لهود {جِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} وتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، فأْتنا بما تعدنا من العذاب إن كنت صادقاً في قولك أنك تخاف علينا عذاب يوم عظيم. قال {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله}. أي: قال لهم هود إنما العلم بمجيء وقت العذاب إليكم على كفركم عند الله لا علم لي من ذلك إلا ما علمني ربي.

24

{وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} [أي]: وأنا أبلغكم ما أمرت أن أبلغكم إياه، إنما أنا رسول لا علم عندي من الغيب. {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ}. مواضع حظوظكم فلا تعرفون ما يضركم ولا ينفعكم فتستعجلون العذاب لجهلكم بقدرة الله سبحانه. قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}. أي: فلما رأت عاد العذاب الذي استعجلته سحاباً عارضاً مستقبلاً نحو أوديتهم. {قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي: ظنوه أنه مطرٌ يأتيهم بخير. قال ابن عباس: كان لقوم عاد واد إذا أمطروا من نحوه وأتاهم الغيم من قبله كان ذلك العام عام خصب متعالم فيهم، فبعث الله D عليهم العذاب من قبل ذلك الوادي، فجعل هو يدعوهم ويقول: إن العذاب قد أظلكم فيقولون:

كذبت هذا عارض ممطرنا، ونظلت الريح فنسفت الرعاة فجعلت تمر على الغنم ورعاتها حتى تغرقها، ثم تحلق بهم في السماء حتى تقذفهم في البحر، ثم نسفت البيوت حتى جعلتها كالرميم. قال قتادة: ذكر لنا أنه حبس عنهم المطر زماناً فلما رأوا العذاب مقبلاً ظنوه مطراً يأتيهم وقالوا: كذب هود، [فلما رآه هود] قال لهم: بل هو ما استعجلتم به من العذاب، هو ريح فيها عذاب أليم، فروي أن الريح كانت تلقى الفسطاط. وتأتي بالرجل الغائب فتلقيه وتحل الظعينة فترفعها حتى ترى كأنها جرادة. قال ابن عباس: كان لعاد واد إذا جاء المطر أو الغيم من ناحيته كان غيثاً فأرسل الله D عليهم العذاب من ناحيته، فلما وعدهم هود بالعذاب ورأوا العارض قالوا: هذا عارض ممطرنا، فقال لهم هود: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

25

قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}. أي: تهلك الريح كل شيء أمرت بهلاكه. قال ابن عباس: ما أرسل الله D على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا ونزع خاتمه /. ثم قال: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} أي: فأصبح قوم هود لم يبق إلا مساكنهم. ثم قال: {كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} أي: كما جزينا عاداً بكفرهم كذلك نجزي قومك يا محمد إن تمادوا في غيّهم. قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ}. أي: ولقد مكنا عاد الذين أهلكوا بكفرهم فيما لم نمكن لكم أيها القوم فيه من الدنيا. قال قتادة: أنبأنا الله D بأنه قد مكنهم / في شيء وام يمكنا. قال المبرد: " ما " ها هنا بمعنى " الذي " و " إن " بمعنى " ما " وقيل إنَّ " إن "

زائدة، ولا يعرف زيادة " إن " إلا في النفي، وإنما تكون زائدة في الإيجاب " أن " المفتوحة. ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً}. أي: خلقنا لمن تقدم من عاد سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم وأبصاراً يبصرون بها آيات ربهم، وأفئدة أي: قلوب يعقلون بها الحق ويميزونه من الباطل، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا نفعهم، إذ لم يستعملوه فيما أمروا به مما يقربهم إلى D إذ كانوا يجحدون بآيات الله، أي: لم ينفعهم ما أعطوا من الجوارح ولا وصلوا بها إلى ما يقربهم إلى الله إذ كانوا يكفرون بآيات الله ورسله. ثم قال: {وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. أي: وحلّ عقاب استهزائهم بالرسل، وهذا كله تهديد ووعيد من الله

27

جلّ ذكره لقريش وتحذير لهم، أي: يحل بهم ما حل بعاد. وأن يبادروا بالتوبة قبل النقمة. قال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى}. أي: من أهل القرى، هذا مخاطبة لأهل مكة من قريش وغيرهم أعلمهم الله أنه قد أهلك أهل القرى التي حولهم بكفرهم كعاد وثمود، وأنه محل بهم مثل ذلك إن تمادوا على كفرهم. ثم قال: {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. أي ووعظناهم بأنواع العظات وذكرناهم بضروب من الذكر ليرجعوا عن كفرهم، فأبوا إلا الإقامة على الكفر فأهلكناهم، ففي الكلام حذف، وهو معنى ما ذكرنا من إقامتهم على الكفر وهلاكهم على ذلك. قال: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله [قُرْبَاناً آلِهَةَ}. أي: فهلا نصر هؤلاء الكفار الذين عبدوا من دون الله] وتقربوا بعبادتهم إلى الله بزعمهم، بل حلّ بهم الهلاك، ولا ناصر لهم من دون الله، وهذا احتجاج من الله

لنبيه عليه السلام على مشركي قومه، أن الآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تنفع ولا تنقذ من عبدها من ضر، فكذلك أنتم يا قريش في عبادتكم هذه الأصنام، إن أتاكم بأس الله ونقمته، لم تنقذكم آلهتكم منه كما لم تغن عمن كان قبلكم. ثم قال: {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}. أي: بل تركتهم آلهتهم فأخذت غير طريقهم إذ لم يصبها ما أصابهم من العذاب إذ هي حجارة وجماد فلم يصبها ما أصابهم فذلك ضلالها عنهم. ثم قال: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ}. أي: وهذه الآلهة التي ضلّت عنهم هي كذبهم وافتراؤهم في قولهم أنها تقربنا إلى الله زلفى، و " الإِفْكُ " هنا مصدر في موضع المفعول، والمعنى وهذه الآلهة مَأفُوكُهُمْ: أي مكذوبهم لأن الإِفك إنما هو فعلُ الإفك، " وَقُرْبَاناً " منصوب " باتخذوا " و " آلِهَةٌ " بدل منه، ويجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون مفعولاً من أجله، وتنصب الآلهة باتخذوا في الوجهين. وقرأ ابن عباس: (وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ)، جعله فعلاً ماضياً، فتكون " ما " في قوله: {وَمَا كَانُواْ} في موضع رفع عطف على المضمر في إفكهم، والمعنى: وذلك أرداهم

29

وأهلكهم هو وما كانوا يفترون؛ أي: أهلكهم ذلك هو وافتراؤهم، وفيه قبح حتى يؤكده المضمر المرفوع. ويجوز أن تكون " ما " في موضع رفع عطفاً على ذلك، والتقدير: وذلك افتراؤهم أهلكهم وأظلهم، " وما " في موضع رفع على قراءة الجماعة عطفاً على " إفكهم " وهي وما بعدما مصدر فلا تحتاج إلى عائد فإن قيل جعلتها بمعنى: " الذي " قدرتها محذوفة، والتقدير وما كانوا يفترونه. وحكى الزجاج: وذلك أفكهم بالمد: بمعنى أكذبهم. قال: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن}. أي: واذكر يا محمد إذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، وصرفه إياهم هو الرجم الذي حل بهم بالشهب / من السماء عند الاستماع على عادتهم، فلما

رجموا بالشهب ومنعوا مما لم يكونوا يمنعون منه قالوا: إن هذا الحادث (حدث في السماء لشيء) حدث في الأرض، فذهبوا يطلبون ذلك الحادث في الأرض حتى رأوا النبي A خارجاً من سوق عكاظ يصلي بأصحاب الفجر، فسمعوا قراءته وذهبوا إلى أصحابهم منذرين، وهذا قول ابن جبير. قال ابن عباس: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، وكانت/ الجن تقعد من السماء مقاعد للسمع فلما بعث الله نبيه عليه السلام حرصت السماء حرصاً شديداً، فرجمت الشياطين فأنكروا ذلك، وقالوا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً. فقال إبليس اللعين: لقد حدث في الأرض حدث فاجتمع إليه الجن، فقال: تفرقوا في الأرض فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء، وكان أول بعث بعثه ركباً من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وسادتهم، فبعثهم الله إلى

تهامة فاندفعوا حتى بلغوا وادي نخلة فوجدوا نبي الله A يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة فاستمعوه فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا، ولم يكن النبي عليه السلام يعلم بهم، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين، قال ابن عباس: وكانوا سبعة من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله A رسلاً إلى قومهم. وقال (زر بن حبيش): كانوا تسعة، قال ابن عباس: لم يشعر بهم رسول الله A. وقال الحسن: لما أتوا ليستمعوا أعلم الله نبيه عليه السلام بمكانهم.

وقال قتادة: بل أمر رسول A أن يقرأ عليهم، وروى عنه أنه قال لأصحابه: " أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني فأطرقوا، ثم قالها لهم ثانية وثالثة فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود، فدخل رسول الله A شعباً يقال له شعب (الحجون) ثم خط رسول الله A ( على عبد الله خطاً). قال عبد الله: فجعلت الجن تهوي وأرى أمثال النسور تمشي، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله A، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله A قلت: يا نبي الله ما اللغط الذي سمعتُ؟ قال: اجتمعوا إلي في قتيل كان بينهم فقضى [فيه] بالحق ". " وروى جابر بن عبد الله وابن عمر: " أن النبي A قرأ عليهم سورة الرحمن فكلما قرأ النبي: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالت الجن: لا بشيء من آلاء نعمائك

نكذب ربنا فلك الحمد " ولما قدم ابن مسعود الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هم نفر من الأعاجم، فقال: ما رأيت للذين قرأ عليهم نبي الله من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء. وروى معمر " أن النبي A خط على ابن مسعود خطاً ثم قال له: لا تخرج منه، ثم ذهب إلى الجن فقرأ عليهم القرآن ثم رجع إلى ابن مسعود فقال له: هل رأيت شيئاً؟ قال: سمعت لغطاً شديداً. قال: إن الجن تدارت في قتيل بينهما فقضى فيه بالحق.

30

وسألوه الزاد، فقال: كل عظم لكم غداء، وكل روثة لكم خضرة، فقالوا يا رسول الله يقدرها الناس علينا، فنهى رسول الله A أن يستنجي بأحدهما " وقد كثر الاختلاف في حديث ابن مسعود، وكثير من العلماء روى أنه لم يكن مع النبي A تلك الليلة أحد، وروى ذلك عن ابن مسعود قال: ما شهدها منا أحد، وعنه ما شهدها أحد غيري، وكانت قراءته عليهم بالحجون وقيل بنخلة، وأكثر المفسرين على أن رسول الله A أرسلهم إلى قومهم لينذروهم عذاب الله، ومنهم من قال: بل مضوا من غير أمره وما علم عليهم إلا بعد ذلك. قوله: {قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً [أُنزِلَ]} إلى آخر السورة [الآيات 29 - 34].

أي: قالت الجن الذين استمعوا القرآن لقومهم إذ رجعوا إليهم يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه، أي: مصدقاً للتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله يهدي إلى الحق؛ أي يرشد مستمعه وقابله إلى الحق وإلى طريق مستقيم لا اعوجاج فيه وهو الإسلام. قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم، ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى. ثم قال حكاية عن قول / الجن لقومهم {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ}. أي: أجيبوا رسول الله A إلى ما يدعو إليه من طاعة الله وآمنوا به. {وَآمِنُواْ بِهِ} أي: وبرسوله، وهو الداعي، فالهاء في " به " تعود على الداعي وهو رسول الله A فحضوهم على الإيمان برسول الله وطاعته ووعدهم بالمغفرة على ذلك.

33

فقالوا: {أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي: يسترها عليكم في الآخرة. {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: وينقذكم يوم القيامة من عذاب مؤلم إن أجبتموه وآمنتم به. ثم قال / عنهم: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله}. يعنون محمداً A، أي: قالوا لقومهم من لا يجب محمداً ولا يؤمن به {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض} أي: ليس بمعجز ربه بهربه في الأرض إن أراد عقوبته؛ لأنه حيث كان في قبضة ربه وسلطانه. {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ} أي: ليس لمن لا يجب داعي الله من دون الله أولياء ينقذونه من عذابه. {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: أولئك الذين لا يجيبون داعي الله ولا يؤمنون به في جور ظاهر عن قصد الحق وإصابة الصواب. قال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى}. أي: أوَلم يعلم قومك يا محمد أن الله الذي خلق السماوات والأرض وابتدعهما على غير مثال، قادر على أن يحيي الموتى فيردهم أحياء كما كانوا، فخلق

السماوات والأرض وإيجادهما على غير مثال أعظم في القدرة من إعادة شيء قد كان له مثال على لطافة خلقه. {بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: بلى يقدر على ذلك، إنه على كل شيء يريد قادر، لا يمتنع عليه شيء أراده. وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق والجحدري: يقدر على أن يحيي الموتى. وقرأ ابن مسعود " قادر " بغير باء. واختار بعض النحويين " يقدر " على " بقادر "؛ لأن الباء إنما تدخل في النفي، وهذا إيجاب.

34

وروى ذلك عن أبي عمر والكسائي، والباء " إنما دخلت عند النحويين لدخول لم " في أول الكلام. وقال علي بن سليمان: تدخل " الباء " في النفي، فإذا دخل على النفي استفهام لم يغيره عن حاله، فتقول: " أما زيد بقائم " كما تقول: " ما زيد بقائم ". قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار}. أي: واذكر يا محمد يوم يعرض الذين كفروا - وأنكروا البعث والجنة والنار - على نار جهنم، فيقال: أليس هذا بالحق وقد كنتم تكذبون به في الدنيا؟ فيجيبون ويقولون: بل هو الحق وربنا، فقال [لهم]: فذوقوا العذاب الآن بكفركم به وجحودكم إياه في الدنيا.

35

قال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل}. أي: فاصبر يا محمد على ما تلقاه من قومك كما صبر أولوا العزم من الرسل من قبلك على ما لقوا من قومهم من التكذيب والمكاره، فصبر نبيّه على ما يناله من قومه من الأذى والمكروه وعلّمه أن ذلك قد لقيه الرسل قبله ليتأسى بهم، وأولوا العزم من الرسل الذين كانوا امتحنوا مع قومهم في ذات الله في الدنيا، فلم تردهم المحن عن تبليغ ما أرسلوا به وإنذار من أرسلوا إليه في الدنيا. قال عطاء: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد A. وقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، لم يتخذ الله رسولاً إلا كان ذا عزم، فأمر النبي A أن يصبر كما صبروا. وقال قتادة: هم أربعة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله

عليهم. وقال مجاهد: هم خمسة كقول عطاء (وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد A. ثم قال: {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي: ولا تستعجل لهم يا محمد إتيان العذاب من عند ربك على كفرهم، فإنه نازل بهم لا محالة، وإن متعوا في الدنيا فإنما هو متاع قليل. ثم قال {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ}. وذلك أنهم ينسون مقدار لبثهم في الدنيا، وتهون عليهم مدته لهول ما يرون، وشدة ما يلقون، وما يعانون من الأهوال والعذاب وهذا مثل قوله قال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين} [المؤمنون: 113 - 114]، استقلوا لبثهم في الدنيا حتى جعلوه يوماً أو أقل من يوم لعظيم ما عاينوا، والعادون: الملائكة. وقوله: {بَلاَغٌ} معناه: كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ لهم في الدنيا إلى آجالهم، اي: لبث بلاغهم إلى آجالهم، ثم حذف المضاف مثل / {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. وقيل المعنى: هذا القرآن، أو هذه التلاوة والإنذار بلاغ لهم، (أي: كفاية لهم)

أن تكفروا واعتبروا وتذكروا. وقيل بلاغ: معناه: قليل، تقول العرب: ما معه من الزاد إلا بلاغ؛ أي: قليل، وقيل المعنى: هذا الذي وعظوا به بلاغ. وقرأ عيسى بن عمر: " بَلاغاً " بالنصب، جعله نعتاً لساعة وقيل نصبه على المصدر. وقرأ أبو مجلز " بَلِّغْ " على الأمر. ثم قال: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} أي: فهل يهلك الله بعذابه إلا القوم الذين خرجوا عن طاعة الله، وخالفوا أمره وكفروا به. وقيل المعنى: فهل يهلك مع تفضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون. وحكى أبو حاتم عن بعضهم - واستبعده - أن الوقف ولا تستعجل ثم يبتدئ {لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} أي: لهم بلاغ، وفيه بعد؛ لأن

الخبر قد بعد من الابتداء واعترض بينهما شيء كثير ليس منه. وقال غيره {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} وقف تام: وعن الحسن {مِّن نَّهَارٍ} تمام الكلام، وهو قول أبي حاتم أيضاً، وقال يعقوب ثم تبتدئ {بَلاَغٌ} أي: " ذلك بلاغ ". وكذلك قال نافع /، إلاّ أنه قال: وإن شئت وقفت على " بلاغ ". ومن نصب فلا يقف إلا على بلاغ؛ لأن ما قبله عمل فيه فلا يفرق بينهما، ومن قرأ " بَلِّغْ " وقف على " نَهَارٍ " واستأنف بالأمر.

محمد

بسم الله الرحمن الرحيم سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - مدنية قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}. الذين جحدوا بآيات الله ورسوله وعبدوا غيره، وصدوا من أراد أن يؤمن برسوله عن الإيمان أضلّ أعمالهم، أي: أتلفها وأبطلها وأحبطها فلا ينتفعون بها في أخراهم. وهي ما كان من صدقاتهم وصلتهم الرحم. ونحوه من أبواب البر أحبطها الله؛ لأنها كانت على غير استقامة لم يرد بها وجه الله.

2

قال ابن عباس [هم] أهل مكة. قوله: {والذين آمَنُواْ}. يريد به الأنصار، فالآيتان عنده مخصوصتان، وغيره يقول إنهما عامتان. ويجوز أن [تكونا مخصوصتين] في وقت النزول ثم هما عامتان بعد ذلك لكل من فعل فعلهما. وأصل الصد: المنع، يقال: صد في نفسه وصد غيره، وحكي أصد غيره، والمصدر في نفسه الصدود، وصد غيره صداً قال الله جل ذكره {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 61] فهذا غير متعد والمعنى: والذين صدقوا محمداً وما جاء به وعملوا بطاعة الله واتبعوا كتابه. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: غطاها وسترها، فلا يؤاخذهم بها في الآخرة، فشتان ما بين الفريقين قوم أخذوا بسيئاتهم وأبطلت حسناتهم، وقوم غفرت سيئاتهم وتقلبت حسناتهم. وقوله: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ}. قال ابن عباس: بالهم: أمرهم.

وقال مجاهد: شأنهم. وقال قتادة وابن زيد: حالهم. والبال كالمصدر، ولا يعرف منه فعل، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر فيقولون: بالات. وقال المبرد: قد يكون للبال موضع آخر يكون فيه بمعنى القلب. (وقال النقاش: وأصلح بالهم: نياتهم)، يقال: ما يخطر هذا على بالي؛ أي: على قلبي، والمعنى عند الطبري: وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه في الآخرة بأن أورثهم نعيم الأبد والخلود في جناته، والآية نزلت في أهل المدينة، ثم

3

هي عامة فيمن كان مثلهم. قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} أي: الأمر ذلك، وقيل المعنى: ذلك الضلال والهدى المتقدم ذكرهما، من أجل أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وهو الشيطان وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من عند ربهم، وهو كتاب الله ورسوله. والتقدير عند الطبري: هذا الذي فعلنا بهذين الفريقين من إضلال أعمال الكفار وإبطالها والتكفير لسيئات الذين آمنوا، جزاء منا لكل فريق على فعله، لأن الكفار اتبعوا الشيطان وأطاعوه والمؤمنون اتبعوا كتاب الله وصدقوا رسوله. قال مجاهد: الباطل هنا: الشيطان. ثم قال: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: كما / بيّنت لكم أيها الناس سبب تفريقي بين الفريقين، كذلك أمثل لكم الآيات وأشبه لكم الأشباه. قال الزجاج: معناه كذلك يبيّن الله للناس أمثال المؤمنين وسيئات الكفار

4

كالبيان الذي ذكر. ومعنى قول القائل: " ضربت له مثلاً: بينت له ضرباً من الأمثال "، أي: صنفاً منها. قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب}. أي: فاضربوا رقابهم حتى يؤمنوا. والتقدير: فاضربوا الرّقاب ضرباً، وهذا المصدر الذي يقوم مقام الفعل يجوز أن ينون وأن يقدم عليه مفعوله ولا صلة له، وإنما تكون له صلى إذا كان بمعنى " إن فعل " و " إن يفعل ". ثم قال: {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق}. أي: حتى إذا غلبتموهم وقهرتموهم بالقتل، وبقيت منهم بقية أسرى في أيديكم لم يلحقهم قتل، فشدوهم في الوثاق كيلا يهربون. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً}. أي: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان بالقتل، فإما أن تمنوا عليهم مناً، فتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن تفادوهم، فتأخذوا منهم عوضاً وتطلقوهم.

قال الزجاج: " أثخنتموهم: أكثرتم فيهم القتل، ومنه قول: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67]. وقال ابن جريج: هذه الآية منسوخة، لأن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم، والناسخ لها عنده {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهي محكمة في أهل الكتاب يجوز أن يمن عليهم وأن يفادوا فكأنه ينحو إلى أنها مخصوصة، فسمى التخصيص نسخاً، وهو قول السدي وجماعة من الكوفيين.

وقال بعض / العلماء: هي في جميع الكفار، وهي منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] قالوا: وإذا أسر المشرك فلا يجوز أن يمن عليه ولا أن يفادى من أهل الكتاب كان أو من أهل الأوثان. قالوا: فإن أسر المسلمون المرأة جاز أن يفادى بها؛ لأنه لا تقتل، وكذلك الصبيان ومن تؤخذ منه الجزية فإنه لا يقتل لأنه في عهد. قال قتادة: هي منسوخة نسخها {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]. وقال مجاهد نسختها {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}. وقال الضحاك: الآية ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وقال: لا يقتل المشرك إذا أسر ولكن يمن عليه أو يفادى. كما قال جل ذكره، فالآية أيضاً عنده ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}.

وكان الحسن يكره قتل الأسير، ويختار أن يمن عليه أو يفادى. وقال ابن جبير: الآية محكمة، [ولا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف، واستدل بآية الأنفال. وقال ابن عباس: الآية محكمة] جعل الله للنبي والمؤمنين الخيار في الأسارى، إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا استعبدوا، وإن شاءوا فادوهم، فالآيتان عنده محكمتان ومعمول بهما، وهذا القول هو قول أهل المدينة والشافعي وأبو عبيد.

فأما قوله: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا}. فالمعنى والله أعلم: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم حتى يتوب المشركون عن شركهم، فتكون الحرب ألجأتهم إلى الإيمان فتسقط عنهم آثامهم. وقال مجاهد معناه: " افعلوا هذا الذي أمرتم به (حتى يضع المحارب آلة حربه) بنزول عيسى فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة الذئب ولا تقرض فأرة جراباً وتذهب العداوة من الأشياء كلها، وذلك عند ظهور الإسلام على الدين كله. وقال قتادة: معناه حتى لا يكون شرك. قال الزجاج معناه: فاقتلوهم واسروهم حتى يؤمنوا، وما دام الكفر فالجهاد قائم أبداً. وقيل المعنى: فاقتلوهم واسروهم حتى تأمنوا فيضعوا السلاح. والحرب مؤنثة وتصغيرها حريب وكذلك قوس ودود يصغران بغير هاءٍ وهما

ثلاثيان مؤنثان سماعاً من العرب. ثم قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ}. أي: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون هو الحق، ولو يشاء ربكم لانتصر منهم بعقوبة ينزلها بهم، وذلك عليه هين يسير، ولكن أراد أن يختبركم ويعلم أهل الطاعة منكم / والمجاهدين في سبيل الله ليجازيهم على طاعتهم ويعذب أعداءه بذنبهم. ثم قال: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} هذه الآية نزلت في قتلى أُحد. وقرأ الحسن " قُتِّلُوْا " بالتشديد، على معنى: قتلوا المشركين قتل بعضهم بعض. وقرأ الجحدري " قَتَلُوْا " بالفتح، على معنى: قتلوا المشركين في الله وفي سبيل الله. {فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: لن يجعل الله أعمالهم التي عملوها باطلاً كما أبطل أعمال الكفار.

5

وقال قتادة: " نزلت هذه الآية يوم أُحد والنبي A في الشِّعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون أعلى هُبَل ونادى المسلمون [الله] أعلى وأجل، فنادى المشركون يوم بيوم [بدر] أن الحرب سِجَال، أن لنا العُزى ولا عُزى لكم، فقال النبي A: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم، إن القتلى مختلفون أما قتلانا فأحياء يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون ". قوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}. من قرأ قَتلوا أو قُتلوا على ما لم يسم فاعله، فالمعنى سيهديهم إلى جنته ويصلح شأنهم فيها بالنعيم المقيم وغفران الذنوب ويدخلهم إياها، ويجوز أن يكون المعنى:

سيهدي من بقي منهم حيّاً كما قال: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ} [آل عمران: 146] اي: فما وهن من بقي منهم، ومن قرأ " قاتلوا " فالمعنى: سيوفقهم في الدنيا إلى الرشد والعمل الصالح ويصلح فيها حالهم حتى يتوفاهم على ما يرضاه منهم ويدخلهم الجنة في الآخرة. {عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: زينها لهم، قال أبو سعيد الخدري: إذا نجّى الله المؤمنين من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص بعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ثم يؤذن لهم بالدخول إلى الجنة، قال: فما كان المؤمن بأدل بمنزلة [في الدنيا منه بمنزلة] في الجنة حتى يدخلها.

قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم منها لا يخطئون كأنهم سكانها منذ خلقوا لا يستدلون عليها بأحد. قال ابن زيد: بلغنا عن غير واحد أنه يدخل أهل الجنة وهم أعرف بمنازلهم فيها من منازلهم في الدنيا التي يختلفون إليها في عمر الدنيا، فذلك قوله: {عَرَّفَهَا لَهُمْ}. قال / سلمة بن كهيل معناه: عَرَّفهم طرقها. وقيل معناه: طَيَّبَها لهم، يقال طعام مُعَرَّفٌ: أي: مطيب. وقيل معناه: رفعها لهم، مأخوذ من عُرْف الدابة.

7

وقيل معناه: عرَّف المكلفين من عبادة أنها لهم. أي: إن تنصروا دين الله أو أولياء الله أو رسول الله ينصركم على عدوكم ويثبت أقدامكم، إذا لقيتم عدوكم فلا تفروا منه لكثرة عددهم وقلة عددكم. وقيل معناه: ويثبت أقدامكم في موقف الحساب بأن يجعل الحجة لكم. قال: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} قال تعلب: التعس: الشر، قال: وقيل هو البعد. قال: والنكس: قلب أمره وفساده. قال ابن السكيت: التعس أن يخر على وجهه، والنكس على رأسه قال:

والتعس أيضاً الهلاك. قال الزجاج التعس في اللغة: الانحطاط والعثور. قال ابن زيد: فتعساً لهم: فشقاء لهم. ودخلت الفاء في " فتعساً لهم " " لأن " " الذين " فيه إبهام أشبه به الشرط، فدخلته الفاء في خبر " هم " كما تدخل في جواب الشرط، وجواب الشرط هو " أن " لخبر الابتداء في أكثر أحكامه. وقوله: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}. أي: أبطلها وأتلفها، والمعنى: أن هؤلاء القوم ممن يجب أن يقال لهم أتعسهم الله، أي: أخزاهم الله، وهذا مما يدعى به على العاثر. وقوله: {وَأَضَلَّ} أتى على الخبر حملاً على لفظ {الذين} لأنه خبر في اللفظ

9

فدخلت الفاء حملاً على المعنى، وأتى {وَأَضَلَّ} حملاً على اللفظ، وهذا يسميه بعض أهل المعاني الإمكان: [أي] يمكن هذا فيه (ويمكن هذا فيه). قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله} أي: كرهوا قبول ما أنزل الله على محمد A، وهو القرآن فكفروا به فأحبط الله أعمالهم؛ أي: أبطلها وأتلفها أي: هذا الذي فعلنا بهم، لأنهم كرهوا / القرآن وكفروا به. قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ}. أي: لو لم يسافر هؤلاء المشركون الذين يكرهون القرآن ويكذبون محمداً إلى الشام وإلى غيره من البلدان، فيمرون على ديار من كان قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لأنبيائها فينظروا كيف كان عاقبة فعلهم، أن الله أهلكهم ودمر عليهم. {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي: ولمن تمادى على كفره منك أمثال هذه الفعلة التي فعلنا بالأمم الماضية من الهلاك والتدمير، وهذا وعيد وتهديد من الله جل ذكره لقريش ولمن ركب طريقتهم في الكفر والتكذيب للأنبياء.

11

قال الزجاج: " والهاء في أمثالها " تعود على العاقبة، وهو قول الطبري، قال: المعنى: وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم الذين كانوا من قبلهم. قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} أي: وليهم وناصرهم وموفقهم. {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} أي: لا ولي ينقذهم من الضلال، وفي قراءة عبد الله بن سعود: ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا. قال ابن عباس: المولى الناصر وأكثر المفسرين على أن المولى هنا: الولي، والمعنى واحد، وعلى هذا يتناول قول النبي A " من كنت مولاه فعلي مولاه أي: من كنت وليه وناصره فعلي وليه وناصره ". وقيل معناه: من كان يتولاني وينصرني فهو يتولى [علياً] وينصره. قال تعالى: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}.

13

هذا وعد من الله جل ذكره للمؤمنين أنه سيدخلهم بساتين تجري الأنهار من تحت أشجارها (ثم أخبر بالطائفة الأخرى) وهم الكفار فقال: {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} أي: في الدنيا. {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام}. أي يأكلون ولا يتفكرون في معاد، كما أن البهائم تأكل ولا تفكر في معاد، فهما متساويان في الحال. ثم قال: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي: مسكن ومأوى لهم في الآخرة. قال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ}. أي: وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل مكة الذين أخرجوك منها أهلكوا على شدة قوتهم وتمك بأسهم فلم ينصرهم ناصر من الهلاك، فما ظنك يا محمد بأهل قريتك على ضعفهم وعدم الناصر لهم كيف تكون حالهم إن تمادوا على كفرهم بالله وتكذيبك.

14

قال ابن عباس: " إن رسول الله A لما خرج من مكة إلى الغار، التفت إلى مكة فقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك "، (فأعتى الأعداء من عدا) على الله في [حرمه] أو قتل غير قاتله، أو قتل بدخول الجاهلية / قال: فأنزل الله: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ} الآية (وأجرى الخبر للقرية) والمراد أهلها. أي: أفمن كان على برهان وحجة وعلم ويقين من أمور ربه فهو يعبده على بصيرة كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله فرآه حسناً، [فتمادى] عليه، وهي

15

عبادتهم الأوثان التي زين لهم الشيطان عبادتها، فتمادوا على ذلك. {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ}. أي: ما دعتهم إليه أنفسهم، وما سوّل لهم الشيطان بغير حجة ولا برهان ولا علم ولا يقين. قال قتادة: أفمن كان على بيّنة من ربه وهو محمد A كمن زين له سوء عمله: المشركون. قال: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [أي: صفة الجنة التي وعدها الله] من أتقى معاصيه وعمل بطاعته. {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي: غير متغير الريح ولا عكر، وفيها: {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}. أي: لم يمحض لطول مقامه، ولا راب ولا غيرته الأيدي بالحلب من

الضروع، بل هو كوثر. وفيها: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}. لا تحيل عقولهم، ولا تلحقهم منه كراهة، ولا صداع، كما تفعل خمر الدنيا التي تحيل العقول وتكره شاربها ويعبس بعد شرابها، ويعرض له / منها الصداع والقيء. وفيها: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى}. أي: لا غير فيه ولا ندى فيه، ولا شيء يخالطه، كما يكون في عسل الدنيا. ثم قال: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات}. أي: من كل ما اشتهت أنفسهم من الثمرات، قال كعب: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا. فالنيل: نهر العسل في الجنة، والفرات: نهر الخمر في الجنة، وسيحان: نهر الماء في الجنة، وجيحان: نهر اللبن في الجنة. وقال كعب أيضاً: النيل في الآخرة عسل أغور ما يكون من الأنهار التي

سماها الله D، ودجلة في الآخرة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله D، والفرات في الآخرة خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله D، وسيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله D. ثم قال: {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي: لهم مغفرة؛ أي: ستر على ذنوبهم، وعفو من الله عليها فلا يجازيهم بها، والتقدير عند سيبويه: وفيها يتلى عليكم مثل الجنة، وفيها يقص عليكم مثل الجنة. وقال يونس (و) النضر بن شميل والفراء: " مثل " بمعنى صفة ومثله

وقد تقدم ذكره: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: 18] وهذه الآية هي تفسير لقوله: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الحج: 14] من أي شيء هي، فذكر أنها من ماء ومن لبن ومن عسل ومن خمر. ويروى أن الماء الذي هو غير آسن هو من تسنيم لا تمسه يد [مجيء] حتى يدخل في فِيه. ثم قال: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار}. أي: ماكث أبدا في جهنم، أي: هل يستوي من هو في هذه الجنات والأنهار التي تقدم وصفها مع من هو ماكث في نار جهنم. ثم قال: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} أي: وسقي هؤلاء الذين في النار ماء قد أنتهى حره. {فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ}. روى عن النبي صلى الله أنه قال في قوله: " {ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} قال: " يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فاذا فإذا شربه قطع

16

أمعاءه حتى يخرج من دبره " ". قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}. أي: ومن هؤلاء الكفار يا محمد من يستمع إلى قراءتك وهم المنافقون. {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً}. أي: فإذا خرج هؤلاء المنافقون المستمعون إليك، لم يعوا شيئاً ولا حفظوا مما قلت شيئاً، لأنهم حضروا لغير الله، واستمعوا بغير نية، فإذا خرجوا بغير علم ولا فهم، قالوا: لأصحابك المؤمنين ما قال محمد آنفاً. أي: منذ ساعة. قال قتادة: هم المنافقون، دخل رجلان: رجل ممن عقل عن الله، فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل عن الله، فلم ينتفع بما سمع. وكان يقال: الناس ثلاثة: سامع فعاقل، وسامع فغافل، وسامع فتارك،

وكان ابن عباس يقول: {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} أنا منهم، وقد سئلت (فيمن سئل). قال ابن زيد: " هم الصحابة ". قال عبد الله بن بريدة: قالوا ذلك لابن مسعود. وقيل إنهم سمعوا النبي A يخطب ثم خرجوا فقالوا للمسلمين استهزاء: ماذا قال آنفاً، / أي: إنّا لم نلتفت إلى ما قال. ثم قال: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ}. أي: أولئك الذين هذه صفتهم هم الذين ختم الله على قلوبهم فهم لا يهتدون للحق، فرفضوا أمر الله واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم بغير برهان ولا حجة، فهذه في المنافقين. وقال: {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ}.

17

هذه في أهل الشرك، فكلا الفريقين اتبعوا أهواءهم. قال: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى}. أي: والذين وفقهم الله لاتباع الحق من المستمعين زادهم الله بما سمعوا منك هذى. ففي {زَادَهُمْ} ضمير يعود على (الله وقيل هو يعود على) قول النبي، أي: زادهم قول النبي هدى. وقيل: هو عائد على فعل المشركين، وقولهم: {مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي: زادهم الله بضلال المنافقين واستهزائهم هدى. وقوله: {وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} /. أي: (وأعطى الله هؤلاء المتقين) تقواهم بأن استعملهم بطاعته، وقيل معناه: وألهمهم عمل أهل النعم. وقيل المعنى: وأعطاهم ثواب تقواهم.

18

وقيل: إن المؤمنين آمنوا بالقرآن لما نزل، فلما نزل الناسخ [والمنسوخ] زادهم ذلك هدى. قال: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}. أي: فهل ينظر هؤلاء المنافقون إلا إتيان الساعة وقيامها عليهم بغتة. " فأن " في موضع نصب بدلاً من " الساعة " بدل الاشتمال. و" بغتة " نصب على المصدر، أي: تبغتهم بغتة، وقيل: هي مصدر في موضع الحال، وحكى أبو عبيد (أن في بعض مصاحف الكوفيين أن تأتيهم، على الشرط)، والجواب: فقد جاء. وقال أبو جعفر الرواسي قلت لأبي عمرو ما هذه " الفاء " في قوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا}.

فقال: هي جواب للجزاء، قال: فقلت له: إنها أن تأتيهم، فقال: معاذ الله إنما هي أن تأتهم. وهذه القراءة تفسر المعنى لو صحت؛ لأنه يصير المعنى: إنها تأتيهم بغتة، ويجوز: أن تأتيهم غير بغتة؛ لأنه بمعنى الشرط والجزاء، وقد قال الله {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف: 187] والأمر المحدود الذي لا بد منه ولا يكون غيره، لا يدخله الشرط، لأن الشرط، لأن الشرط إنما يدخل في الموضع الذي يجوز أن يكون، ويجوز ألا يكون، ويحسن أن يقع، ويحسن ألا يقع، فليس هذا موضعاً للشرط البتة، وجاء قوله: {يَنظُرُونَ} بمعنى " ينتظرون " وهم لا يؤمنون بالساعة فكيف ينتظرونها، وإنما ذلك بمعنى الوعيد والتهديد، كما تقول لمن أصر على الذنوب والكفر: هل تنتظر إلا العذاب، وكما تقول لعبدك يصر على مخالفتك: هل تنتظر إلا العقوبة، فالمعنى: هل ينتظرون في الحقيقة عندنا وعند المؤمنين إلا أن تأتيهم الساعة بغتة. وقوله: {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أي: فقد جاء هؤلاء الكفار علاماتها ومقدماتها

وآياتها. قال الحسن: موت النبي عليه السلام من علاماتها، وقال غيره: بعث النبي من علاماتها، لأنه نبي بعث لا نبي بعده، وقد قال A: " بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعة كَفَرَسَيْ رِهان " (وقال أيضاً): " بُعِثْت أَنَا والسَّاعة كَهَاتَيْن " وأشار بالسبابة والوسطى. ثم قال: {فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذكراهم} أي: فمن أي وجه لهؤلاء الكفار تقع الذكرى إذ جاءتهم الساعة بغتة، أي: ليس ينفعهم ذلك الوقت تذكر ولا ندم، إذ ليس هو وقت عمل ولا استعتاب ولا تأخر، فالتقدير: من أين لهم منفعة التذكر والازدجار عن الكفر إذا جاءت الساعة وانقطعت التوبة.

19

قال: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي: فاعلم يا محمد أنه لا معبود تصلح له العبادة إلا الله، واسئل ربك الستر على ذنبك وعلى ذنوب المؤمنين والمؤمنات. ثم قال: {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [أي]: يعلم أعمالكم في تصرفكم وفي سكونكم لا يخفى عليه شيء. وقيل المعنى: يعلم متصرفكم ومثواكم في الدنيا والآخرة، ومخاطبة النبي A هنا هي مخاطبة لأمته، والفاء في قوله: " فاعلم " جواب المجازات، والتقدير: قد بيّنا أن الله واحد، فاعلم. قال: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ}. أي: ويقول الذين صدقوا الله ورسوله هل نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار، فإذا أنزل الله سورة محكمة بالفرائض تأمرهم بالجهاد رأيت الذين في قلوبهم مرض، يعني المنافقين ينظرون إليك [يا محمد نظر المغشي عليه من الموت، أي: ينظرون إليك] نظراً أمثال نظر الذي غشي عليه من حلول الموت به خوفاً أن تأمرهم بالجهاد مع المسلمين، وجبنا من لقاء العدو.

قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين، والمرض هنا: الشك والنفاق. وقوله تعالى: {فأولى لَهُمْ} هو وعيدٌ لهم. ثم ابتدأ فقال: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}. أي: طاعة وقول معروف أولى بهم، وأمثل لهم، / وأجمل بهم، وفيه معنى الأمر من الله لهم بذلك، فالوقف على هذا: {فأولى لَهُمْ} وأولى، عند بعض أهل المعاني: " أفعل " التي للتفضيل كما تقول: هذا أخزى لك وأقبح لوجهك، وهو عنده مشتق من الويل وفيه قلب، قلبت اللاَّم في موضع العين لئلا يقع إدغام، ومعنى {فأولى لَهُمْ} أي: وليهم المكروه / بمعنى أولى لهم المكروه. والعرب تقول لكل من قارب الهلكة ثم أفلت: " أولى لك " أي: كدت تهلك. وعن ابن عباس: قوله تعالى: {لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}، من قول المؤمنين، أي: لهم طاعة وقول معروف قبل الأمر بالقتال، فإذا أمروا نظروا إلى النبي A نظر الذي

غشي عليه من خوف الموت فيكون الوقف على هذا " فأولى " ثم يبتدئ: {لَهُمْ * طَاعَةٌ} أي: يقول المؤمنون للمنافقين لهم طاعة وقول معرف: قبل نزول السورة بالأمر بالجهاد. فإذا نزلت بذلك نظروا إلى النبي A نظر من غشي عليه من الموت. وقيل: هو خبر من الله جل ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم قبل أن تنزل السورة يقولون: سمعاً وطاعة، فإذا نزلت السورة بذلك كرهوه فقال لهم الله طاعة وقول معروف قبل وجوب الفرائض عليكم، فإذا أنزلت الفرائض شق ذلك عليكم، وكرهتموه، فالكلام متصل على هذا القول لا يوقف على ما قبل طاعة، والوقف على القول الأول: فأولى لهم " وعليه أكثر العلماء وقد ذكرته. وقوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر}. أي: فإذا وجب القتال وفرض كرهتموه، فالجواب محذوف لعلم السامع. وقيل المعنى: فإذا [جَدَ] الأمر، قاله مجاهد، وعنه: فإذا جاء الأمر بالقتال.

22

وقيل المعنى: فإذا عزم أصحاب الأمر، يعني: النبي A وأصحابه. ثم قال: {فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي: فلو صدق هؤلاء المنافقون الله وتركوا التعلل والهرب لكان صدقهم الله خيراً لهم. قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض}. هذه مخاطبة للمنافقين الكارهين للجهاد. أي: فهل عسيتم أيها القوم لعلكم أن توليتم عن ما فرض الله عليكم من الجهاد أن تفسدوا في الأرض؛ أي: أن تعصوا الله ورسوله، وتعودوا لما كنتم عليه من سفك الدم وقطع الرحم، والتفرق بعدما جمعكم الإسلام وألف بين قلوبكم، هذا معنى قول قتادة وغيره. وقال محمد بن كعب معناه: فهل عسيتم أن توليتم من أمور الناس شيئاً أن يقتل بعضكم بعضاً.

23

وقيل المعنى: فهل عسيتم أن توليتم عن النبي A. فكفرتم بما جاءكم به أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر فتفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، وترجعوا إلى العداوات والحروب التي كانت بين الأوس والخزرج. وقرأ علي بن أبي طالب Bهـ: " أَنْ تُوُلِّتُمْ " على ما لم يسم فاعله أي: إن وَلِيَ عليكم غيركم. قوله: {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} إلى قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) الآيات [24 - 36]. أي: أولئك الذين تقدم وصفهم هم الذين أبعدهم الله من رحمته وثوابه فهم بمنزلة الصم إذ لا ينتفعون بما يسمعون، وهم بمنزلة العمي إذ لا ينتفعون بما يرون من آيات الله وأدلته على توحيده. ثم قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [25].

24

أي: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون كتاب الله وما فيه من الحجج، فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون من النفاق بل على قلوبهم أقفال أقفلها الله عليهم، فهم لا يعقلون ما يتلى عليهم. قال خالد بن معدان: ما من آدمي إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه وما وعد الله D من الغيب فإذا أراد الله بعبد خيراً أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله به غير ذلك طمس عليهما، فذلك قوله له: {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}.

25

وروى هشام بن عروة عن أبيه أن النبي A تلا يوماً: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله يفتحها ويفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به. قال: {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} أي: إن الذين رجعوا القهقرى كفاراً بالله من بعدما ظهر لهم الحق فآثروا الضلالة على الهدى، الشيطان سول لهم ذلك وزينه لهم حتى ركبوه، / وأملى لهم في أعمارهم وأطال لهم ليبلغوا الأجل الذي حد لهم أن يبلغوه. وقيل معناه: أنه تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة وأملى لهم / فتركهم على كفرهم

ونفاقهم إلى إتيان آجالهم، ولا يكون الضمير في " أملى " يعود على الشيطان البتة في جميع القراءات، لأنه لا يقدر على أن يمد في عمر أحد ولا ينقص منه، ولم يسلطه الله على شيء من ذلك، ولذلك قرأ أبو عمرو " وأملي " على الإخبار عن الله خوفاً أن يتوهم متوهم أن الضمير للشيطان. وقد أجاز الحسن أن يكون الضمير في " أملي " يعود على الشيطان على معنى أنه مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر. قال قتادة: هم أعداء الله أهل الكتاب يعرفون نعت النبي عليه السلام وأصحابه عندهم في كتبهم ثم يكفرون به. وقال ابن عباس: عني بذلك أهل النفاق، وقاله الضحاك.

26

والوقف الحسن المختار: {سَوَّلَ لَهُمْ} لأن الضميرين. في {سَوَّلَ لَهُمْ} {وأملى لَهُمْ} مختلفان. الأول للشيطان والثاني لله، فتفرق بينهما بالوقف، وهو قبول الكسائي والفراء وأبي حاتم. قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر}. أي: ذلك الإضلال من الله لهم بأنهم قالوا لليهود سنطيعكم في التظافر والمعونة على عداوة محمد. قال قتادة وغيره: المنافقون ظاهروا اليهود على عداوة النبي A فاليهود هم الذين كرهوا ما نزل الله لأنهم حسدوا محمداً A إذ بعث الله نبياً من غير ولد يعقوب، وقد أعلمهم الله في التوراة أنه يبعث نبياً من ولد أبيهم - يعني إبراهيم - فتأولوا أن الأب يعقوب فكفروا على تأويل منهم وحسد وبغي، وكرهوا نزول القرآن بنبوءة محمد A، فالمنافقون هم القائلون لليهود: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر} أي: في النصر على محمد. ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي: يعلم ما يُسر الفريقان من عداوة المؤمنين لا

27

يخفى عليه شيء، ومعنى {كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} أي: كرهوا الفرائض التي أنزلها الله في كتابه: يعني: اليهود عليهم اللعنة. أي: كيف تكون حالهم في الوقت الذي تتوفاهم فيه الملائكة في حال ضربهم وجوه المنافقين وأشباههم. قال الطبري: المعنى: الله يعلم أسرار هؤلاء المنافقين فكيف لا يعلم حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبارهم، فحالهم أيضاً لا يخفى عليه في ذلك الوقت. قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله} أي: ذلك جزاؤهم لأنهم اتبعوا الأمر الذي أسخط الله وهو كفرهم بما أنزل الله. {وَكَرِهُواْ رضوانه} أي: كرهوا اتباع كتابه، ورسوله والدخول في شريعته. {فَأَحْبَطَ أعمالهم} أي: أبطلها بكفرهم فلا ثواب لهم فيها. قال: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي: شرك ونفاق. {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} أي: أحسبوا أن الله لا يخرج ويظهر ما يسرون من

30

النفاق والكبر والعداوة للنبي A ( وموالاتهم اليهود على النبي A) وأصحابه. والأضغان: العداوة. قال المبرد: الضغن ما يضمر من المكروه. قال: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} أي: ولو نشاء يا محمد لعرفناك بهؤلاء المنافقين وأطلعناك على نفاقهم بأعيانهم. ثم قال: {فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلامات النفاق الظاهرة فيهم. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أي: في فحوى قولهم، وظاهر ألفاظهم وأفعالهم. قال ابن عباس: هم أهل النفاق وقد عرفه الله إياهم في سورة براءة فقال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84]. وقال: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83]. فلولا أنه قد عرفه إياهم ما

31

خصهم بهذا المنع. وكذلك قال الضحاك. وقال ابن عباس: فما رآى النبي A منافقاً فخاطبه إلا عرفه. ثم قال: {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} هذا مخاطبة لأهل الإيمان. أي: يعلم أيها الناس أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم [عليها]. هذا مخاطبة للمؤمنين لنختبركم أيها المؤمنون بالفرائض والجهاد حتى نعلم المجاهدين منكم أعدائي والصابرين على أداء فرائضي فنعرف الصدق منكم من الكاذب / فنجازي كلاًّ بعمله. ثم قال: {وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}. ونختبر أعمالكم فيما تعبدتم به، ومعنى: حتى نعلم، وهو قد علم ذلك قبل خلق جميع الخلق أنه أراد به العلم الذي يقع عليه الجزاء، فالمعنى حتى نعلم ذلك

32

منكم علم مشاهدة يقع عليها الجزاء، وقد علم تعالى ما يكون من عبادة من الطاعة والمعصية قبل خلق الخلق. قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى}. أي: إن الذين جحدوا توحيد الله وصدوا الناس عن الإيمان بالله وبرسوله وكتابه، وخالفوا أمر الرسول من بعد ما تبين لهم أنه نبي مرسل من عند الله، لن يضروا الله شيئاً بكفرهم وصدهم عن سبيل الله، بل ضروا أنفسهم، لأن الله بالغ أمره وناصر دينه ورسوله. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطلها ويتلفها فلا ينتفعون بها في الدنيا ولا في الآخرة. أي: أطيعوهما فيما أمراكم به، ولا تخالفوهما فتبطلوا أعمالكم. أي: إن الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا الناس عن الإيمان بالله ورسوله، ثم ماتوا على هذا المذهب من كفرهم فلن يستر الله ذنوبهم في الآخرة، بل يعاقبهم

35

عليها، فأعلمنا الله أنه لا يغفر لمن مات على الكفر. ودلت هذه الآية أنه من مات على خلاف هذه الحال أنه جائز أن يستر الله على ذنوبه فيغفر له ويدخله جنته؛ لأنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، يفعل ما يشاء، وقد قال في موضع آخر {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 50]، فهذا مخصوص معناه إلا الشرك لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]، فالعمدة التي بها يرتجى الفوز والنجاة من النار، الإيمان بالله وبرسوله وبكتبه واتباع لسنَّة نبيه A، ولقاء الله جل ذكره على ذلك غير مبدل ولا مغير أماتنا الله على ذلك وحشرنا عليه. قال: {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ} أي: ولا تضعفوا أيها المؤمنون عن قتال عدوكم، وتدعوهم إلى الصلح والمسألة، وأنتم الغالبون لهم الظاهرون عليهم، والله معكم بالنصر والمعونة عليهم. وقيل: معنى {وَأَنتُمُ الأعلون} وأنتم أولى بالله منهم. وقال ابن زيد: هذا منسوخ نسخة الأمر بالجهاد والغلظة عليهم.

وقوله: {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}. معناه: ولن يظلمكم الله، فينقصكم أجور أعمالكم، يقال وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلاً، أو أخذت له مالاً غصباً. قال الفراء: هو مشتق من الوتر: وهو الذحل. وقيل: هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فيكون المعنى ولن يفردكم بغير ثواب أعمالكم، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسل: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " أي أفرد منهما، وقيل معناه: كأنما نقص أهله وماله.

36

قوله: {إِنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}. أي: ابذلوا أيها المؤمنون أنفسكم وأموالكم في جهاد عدوكم ورضى ربكم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو، إلا ما كان منها من عمل صالح. ثم قال: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: تؤمنوا بربكم، وتتقوا مخالفة أمره يؤتكم أجوركم، وقد عرفهم أن أجورهم الجنة، والنجاة من النار. ثم قال: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أموالكم} أي: لا يطلب منك ربكم أموالكم، إنما يطلب منكم الإيمان به وجهاد عدوه. وقيل معناه: ولا يأمركم أن تنفقوا أموالكم كلها في سبيل الله ومواساة الفقراء. قال: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} [أي: إن يطلب منكم ربكم نفقة أموالكم كلها في جهاد عدوه فيلح عليكم في ذلك تبخلوا] بها وتمنعوه منها ويخرج منكم ما خفي. وقيل المعنى: ويخرج البُخْل أضغانكم، أي: ما تضمرونه من امتناع النفقة خوف الفقر يفضحكم.

38

قال قتادة: قد علم الله أن في مساءلة المال خروج الأضغان. قال الضحاك: تخسر قلوبكم إذا سألتم أموالكم. قال: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي: أنتم أيها المؤمنون تدعون/ أي لتنفقوا في سبيل الله /، فمنكم من يبخل بإخراج النفقة في سبيل الله، ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله فإنما يبخل عن نفسه، لأنه يمنعها الآجر العظيم والثواب الجزيل فبخله عليها راجع. ثم قال: {والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء} أي: لا حاجة به إلى أموالكم لأنه غني عنها وإنما يختبركم ليعلم الطائع من العاصي، ليجازي كلا بعمله، وأنتم أيها الخلق الفقراء إلى الله. ثم قال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي: وإن تعرضوا أيها الناس عن ما جاءكم به محمد فترتدوا، يستبدل قوماً غيركم أي: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين بدلاً منكم يعملون ما يؤمرون به. {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} أي: لا يبخلوا بأموالهم عن النفقة في سبيل الله ولا يضيعوا شيئاً من حدود [الله].

" وروي أنه لما نزلت هذه الآية كان سلمان إلى جنب رسول الله A فقال: يا رسول الله من هؤلاء القوم، إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله A على منكب سلمان فقال، هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو أن الدين معلق بالثريا لنالته رجال من أهل فارس ". وقيل: هم أهل اليمن. وقيل: هم الملائكة، وهو بعيد لأنه لا يقال للملائكة قوم.

وقيل المعنى إن تولى أهل مكة عن الإيمان والجهاد استبدل الله بهم أهل المدينة.

الفتح

سورة الفتح قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1)}. المعنى: إنا حكمنا لك يا محمد حكماً ظاهراً لمن سمعه أو بلغه أنك الغالب الظافر.

وقال قتادة معناه: إنا قضينا لك يا محمد قضاء بيناً. روى عطاء والضحاك عن ابن عباس ان الله جل ذكره لما أنزل على النبي A أن يقول: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} [الأحقاف: 8]. فلما قالها شمت المشركون وكتبوا إلى اليهود بذلك، وقالوا كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه، فاشتد ذلك على النبي A، فأنزل الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}. . . الآية. فأخبره بما يكون من أمره وما كان، وبعاقبة المؤمنين به. والفتح: يراد به ما فتح عليه من الغنائم وأخذ القرى بالحرب وغير الحرب فقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} منة من الله على نبيه A، فجعل المنة سبيلاً للمغفرة؛ لأن كل ما يفعله العبد من خير، فالله الموفق له، ثم الله يتفضل بالمجازاة على ذلك الفعل، وهو وَفق إليه، وأعان عليه، فكل من عنده لا إله إلا هو، فالحسنة من العبد منة من الله عليه إذ وفقه لها، ثم يجازيه على ذلك تفضلاً بعد تفضل ومنة بعد منة، وقد قيل: إن التقدير: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً تستغفر عنده ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيكون الغفران من الله جزاء للإستغفار منه عند إتيان الفتح، أعلمه تعالى أنه إذا جاء الفتح واستغفر غفر له (ودليل

هذا القول قوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح. . . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} [النصر: 1 - 3]. فأمره بالاستغفار عند الفتح. والفتح في اللغة: الظفر بالمكان بالقرية أو المدينة، بحرب أو بغير حرب، عنوة أو صلحا. قال أنس: " نزلت، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} بعد رجوع النبي A من الحديبية، فقال النبي A: لقد نزلت علي آية أحب إليّ من جميع الدنيا لو كانت باقية لي غير فانية، لأن الدنيا لا قدر لها فيقدر بها الأمر العظيم الجليل ثم تلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} الآية. فقال رجل من المسلمين: هنيئاً مريئاً هذا لك يا رسول الله فماذا لنا؟ فأنزل الله: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} الآية ".

وهذه الآية نزلت في فتح الحديبية، والحديبية بير، وكان في فتحها آية من الله، وذلك/ أن النبي A ورد هذه البير وقد نزف ماؤها، فتمضمض A وتفل فيها، فأقبل الماء حتى شرب كل من كان معه، ولم يكن بينه وبين المشركين حرب الاتراع، ثم فتح له. وقيل معناه: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً باجتناب الكبائر ليغفر لك الصغائر. وقيل معناه: إنا فتحنا لك بالهداية إلى الإسلام، ولام {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله}: لام قسم عند أبي حاتم والمعنى: " ليغفرن لك الله ". وقال ابن كيسان وغيره: هي لام كي، فالمعنى: وقع الفتح لك يا محمد لتقع لك المغفرة. قال مجاهد: ما تقدم من ذنبك قبل النبوة، وما تأخر بعد النبوة.

قال الشعبي: " وما تأخر ": يعني إلى أن يموت، وقد غلط قوم فظنوا أن الفتح هنا فتح مكة، والصحيح أنه فتح الحديبية كذلك قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك. قال الطبري الفتح هنا: الهدنة التي جرت بين النبي عليه السلام وبين مشركي قريش بالحديبية ونزلت هذه السورة في منصرف النبي عليه السلام عن الحديبية [بعد الهدنة التي جرت بينه وبين قومه. قال أنس: " لما رجعنا ن غزوة الحديبية] وقد حيل بيننا وبين منسكنا قال: / فنحن بين الحزن والكآبة قال فأنزل الله جل ذكره عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} إلى

{مُّسْتَقِيماً} فقال النبي A: " لقد أنزلت [علي] آية أحب إلي من الدنيا جميعاً. وغزوة الحديبية هي أن رسول الله A خرج معتمراً في ذي القعدة من سنة ستٍ من الهجرة، والحديبية بئر. وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان، فأهلوا بذي الحليفة وأهدي رسول الله A البدن هو وظائفة من أصحابه وليس معهم من السلاح إلا السيوف فصدهم المشركون عن البيت فمضى لقتالهم، فبركت به ناقته فقال الناس خلأت، فقال رسول الله A " ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، فتخلف عن ذلك، وأراد أن يبعث بالهدي الذي كان معهم، فمنعوه،

وجرت بينه وبين قريش مراسلات وقصة فيها طول، ثم أرسل

النبي A عثمان بن عفان Bهـ إلى قريش فكلمهم بما أمره به رسول الله عليه السلام فأرسلت معه قريش سهيل بن عمرو ليصالح رسول الله A، وكان بمكة ناس كثير من المسلمين فدعوا عثمان ليطوف بالبيت، فقال: ما كنت لأطوف بالبيت حتى يطوف به رسول الله A - فصالح النبي A قريشاً وكتب بينهم وبينه كتاب على أن يرجع النبي وأصحابه من مكانهم، فإذا كان العام القابل يأتي النبي A وعثمان ويخلى بينه وبين الكعبة ثلاثة أيام لا يرد عنها، وعلى ألا يدخلها هو ولا أحد من أصحابه إلا بالسلاح، وكتبوا مع ذلك شروطاً كثيرة، وبعث رسول الله A بالكتاب إلى قريش مع عثمان، وبقي سهيل بن عمرو عند النبي عليه السلام، فوقع بين أصحاب النبي

A والمشركين بعض قتال ورمى بعضهم بعضا بالنبل والحجارة، فحبس المشركون عثمان، وحبس المسلمون سهيلا فعند ذلك دعا رسول الله A المسلمين إلى البيعة،، وأراد قتالهم فبايعه المسلمون تحت الشجرة على الموت، وهي بيعة الرضوان، إذ كانت بالحديبية، وهي بير، بايعوه وهم ألف وست مائة تحت شجرة، وقيل: كانوا ألفاً وأربعة مائة بايعوه على الموت، وقيل: بايعوه على ألا يفروا. قال جابر: فبايعناه على ألا نفر وكانت الشجرة سرة وكان المسلمون ألفاً وستة مائة فيهم مائة فارس، فلما راى المشركون ذلك خافوا وبعثوا بمن كان عندهم من المسلمين وطلبوا الصلح فتركهم رسول الله والمسلمون على كآبة والمشركون خائفون. وأمر رسول الله A أصحابه أن ينحروا بدنهم فتوقفوا حتى نحر رسول الله A هدية فنحروا / هديهم وحلق رسول الله A وحلقت طائفة من أصحابه، وقصرت طائفة فعند ذلك قال النبي A: اللهم اغفر للمحلقين [قالوا]: والمقصرين يا رسول الله [فأعادها] ثلاث مرات، ثم قال في الرابعة

وللمقصرين " ، وعند ذلك أنزل الله على رسوله عليه السلام: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} في آيات فيها ذكر صد المشركين الهدي، وأخبر تعالى لأي شيء كف أيدي المؤمنين عن المشركين فقال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. يعني: ولولا أن تقتلوا من كان بمكة من المؤمنين لأطلق أيديكم أيها المؤمنون على من بمكة من الكفار، ولكن منعتم من ذلك لئلا تأثموا وأنتم لا تعلمون. وذكر حمية المكفار وذكر تصديق رؤيا رسول الله A: لتدخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، وذلك في العام المقبل على ما قاضاهم عليه رسول الله A. فأما قوله: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 27].

فقيل هو دخول النبي A وأصحابه في العام المقبل مكة آمنا وأصحابه معه للعمرة. وقيل هو فتح خيبر. وفي فتح خيبر نزلت: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}، ولا اختلاف في ذلك،. وكان فتح خيبر عند مالك على رأس ست سنين من الهجرة بعد منصرفهم من الحديبية، وهو الفتح الذي أثاب الله فيه أهل بيعة الرضوان، فلم يغزُ خيبر غيرهم. وقال غير مالك: فتحت خيبر في أول سنة سبع من الهجرة وكانت مدة / الصلح الذي صالحهم عليه النبي عليه السلام: سنتين يأمن بعضهم بعضاً. ولما صالحهم النبي A، على ذلك قال رجل من المسلمين: فمن أتاهم منا يا رسول الله فهم أحق به. قال: نعم، وأبعده الله وأسحقه ومن أتانا منهم لم نقبله، قال: نعم، فإنه من أراد فراقهم وخلاف دينهم جعل الله له فرجاً ومخرجاً، وخرجت أم كلثوم مهاجرة إلى

رسول الله A وهي عاتق لم تتزوج، فقبل النبي عليه السلام هجرتها ولم يردها إلى المشركين. وأقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد مقيداً قد أسلم، وكان والده سهيل والمشركون قد قيدوه وحبسوه؛ لأنه أسلم، واجتنب الطريق وأخذ الجبال حتى هبط على رسول الله A بالحديبية ففرح به المسلمون وتلقوه وآووه فناشدهم والده سهيل إلا ردوا عليه ابنه، فرده عليه النبي A وقال: إن يعلم الله من نفسه الصدق ينجه، فرجع سهيل يضرب وجه أبي جندل ولده بعصاً شوك، فقال له رسول الله A: هبه لي أو أجره من العذاب، فقال: " والله لا أفعل فأجاره مكرز ابن حفص وأخذ بيده وأدخله فسطاطه وظهر من آيات

النبي A علامات معجزات في تلك الغزاة، من ذلك: أن الناس قالوا ليس لنا ماء، فأخرج النبي A سهماً من كنانته فأمر به فوضع في قعر قليب ليس فيه ماء، فروى الناس حتى ضربوا بعطن، ومن ذلك أن الناس شكوا إلى رسول الله A الجهد، فقال النبي A للناس: ابسطوا أبضاعكم وعيالكم، ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينشره ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم، فأخذوا ما شاء الله وكان رسول الله A لا يأتيه أحد من عند المشركين قد أسلم، فيطلبه المشركون، إلا دفعه إليهم ولا يمضي أحد من عند المسلمين إلى المشركين مرتداً إلا تركه المسلمون لهم، فعلى ذلك وقع الصلح / فوفى بما عاهدهم عليه، فخرج قوم

أسلموا من مكة، وانعزلوا في موضع يقطعون الطريق على عير قريش، وخرج أبو جندل من مكة هارباً ومعه نفر ممن أسلم فلحقوا بأولئك الذين يقطعون الطريق على عير قريش، ولم يأت منهم أحد النبي A خوفاً أن يردهم إلى المشركين، فكان أبو جندل يصلي بهم، وكان من لطف للمسلمين أنه صعب على المشركين ذلك، فوجهوا إلى النبي يسألونه أن يوجه في القوم ليقدموا عليه، وقالوا: إنا لا نسألكم في ردهم إلينا، ومن خرج إليك منا فأمسكه، ولا ترده بلا حرج عليك، فكتب رسول الله A إلى أبي جندل وأصحابه أن يقدموا عليه، وأمر من اتبعهم من المسلمين أن يرجعوا إلى بلدانهم وأهليهم، وألا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش ففعلوا. وقوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}. معناه: يرفع ذكرك في الدنيا وينصرك على عدوك، ويغفر لك ذنوبك في الآخرة. وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: يرشدك ديناً لا اعوجاج فيه

3

فيستقيم بك إلى رضا ربك وإلى طريق الجنة. أي: ينصرك على أعدائك نصراً لا يغلبك غالب، وقيل معناه نصراً ذا عز لا ذل معه. قال: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} أي: جعل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين إلى الإيمان بالله ورسوله A ليزدادوا إيماناً وتصديقاً مع تصديقهم. قال ابن عباس: السكينة الرحمة، وقال: بعث النبي A بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فقال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 4] الآية. قال ابن عباس: فأوثق إيمان أهل السماوات والأرض وأصدقه وأكمله شهادة لا إله إلا الله.

5

ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} أي: عبيده وخلقه ينتقم ممن يشاء من أعدائه. ثم قال: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أي: لم يزل ذا علم بما هو كائن قبل كونه وما خلقه عاملون قبل خلقهم، حكيماً في تدبيره خلقه. قال: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} أي: فتح لك يا محمد لتشكر ربك على ما أعطاك وليحمد المؤمنون / ربهم على ما وعدهم به أنه سيدخلهم بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبداً. {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: بغطيها ويسترها فلا يحاسبهم بها. {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} أي: وكان إدخالهم الجنة الموصوفة وستره على ذنوبهم عند الله ظفراً منهم بما كانوا يأملونه (ونجاة من العذاب كثيراً). قال: {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات [والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء]}. أي: فتح الله لك يا محمد ليعذب هؤلاء المذكورين وظنهم السوء، وأنهم كانوا يظنون أن لن يعود الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين الشيطان ذلك في قلوبهم فرد الله دائرة السوء عليهم: ومعنى دائرة السوء: (دائرة العذاب والهلاك).

7

وقال الخليل وسيبويه: السوء هنا: الفساد. وقال الفراء: الفتح [في السنين: الشر في الشر، قال: وقلما تقول العرب دائرة السوء إلا بالضم، واختار الفراء الفتح في السين] لأن العرب تقول: هو رجل سوء، بالفتح، ولا تقوله بالضم. والسُّوء بالضم اسم الفعل، وبالفتح الشيء بعينه. ثم قال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} أي: نالهم بغضبه ولعنهم أي: وأبعدهم من رحمته، وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة. {[وَسَآءَتْ] مَصِيراً} أي: ساءت جهنم منزلا لهم. قوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض}. أي: ولله كل من في السماوات والأرض عبيداً له وأنصاراً له على أعدائه، ولم يزل الله (عزيزاً لا يغلبه غالب)، حكيما في تدبيره خلقه. ثم قال: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [8].

8

انتصبت الثلاثة الألفاظ على الحال، وهي حال مقدرة. أي: مقدرين بشهادتك يا محمد (على أمتك يوم القيامة) ومقدرين تبشيرك أمتك بما أعد الله لهم من النعيم. إن أطاعوك ومقدرين إنذارك من كفر بك ما أعد الله له من العذاب إن مات على كفره. قال: {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}. أي: فعل الله ذلك بك يا محمد / ليؤمن بك (من سبق في علم الله) أنه يؤمن. قال ابن عباس: تعزروه: يعني الإجلال، وتوقروه هو التعظيم. قال قتادة: وتعزروه: تنصروه، وتوقروه: تفخموه. وقال عكرمة: تعزروه: تقاتلون معه بالسيف. وقال ابن زيد: وتعزروه وتوقروه: هو الطاعة لله تعالى. وقال المبرد: تعزروه: تبالغوا في تعظيمه، ومنه عزر السلطان الإنسان؛ أي: بالغ

في أدبه فيما دون الحد. وقال علي بن سليمان: معنى وتعزروه: يمنعون منه وتنصرونه. قال الطبري: معنى التعزير في هذا الموضع المعونة بالنصر. وقرأ الجحدري: تعزروه بالتخفيف. وقرأ محمد اليماني: وتعزّروه بالزاءين، من العز؛ أي: تجعلونه عزيزاً ويقال: عززه يعززه جعله عزيزاً وقواه، ومنه قوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 13]. وقيل إن قوله: وتعزروه وتوقروه لله. وقيل هو للنبي A فأما " وتسبحوه "

10

فلا تكون إلا لله. وتنزهوا الله عن السوء في بعض القراءات وتسبحوا الله. وقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي: ظرفان تصلون لله في هذين الوقتين. قال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أي: إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية، وذلك حين حبس المشركون عثمان بن عفان بايع أصحاب النبي A على ألا يفروا عند لقاء العدو، ثم صرفهم الله عن المشركين وقتالهم، لئلا يهلك من بمكة من المسلمين ولا يعلم بهم أصحاب النبي A، وهو قوله: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] إلى قوله: {أَلِيماً} [الفتح: 25]. وقوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أي: إنما يبايعون ببيعتهم إياك الله، لأن الله ضمن لهم الجنة. وقوله: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: يده فوق أيديهم عند البيعة. وقيل: قوة الله فوق قوتهم في نصرتهم رسوله. وقيل: معناه يد الله في الثواب والفواء لهم فوق أيديهم في الوفاء بما بايعوك عليه. وقيل: معناه يد الله في الهداية لهم فوق أيديهم في الطاعة.

11

ثم قال: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي: من نكث البيعة ولم يف بما بايع عليه فإنما نكثه راجع عليه لأنه يحرم نفسه الأجر الجزيل، والعطاء العظيم في الآخرة. ثم قال: {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله} في إيمانه. {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي: ومن أوفى ببيعتك وما عهد على نفسه من نصرك يا محمد فسيؤتيه [الله] أجراً عظيماً وهو الجنة والنجاة من النار. قال: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا}. نزلت هذه الآية في الأعراب الذين حول المدينة من مزينة وجهينة وأسلم، وغيرهم تخلفوا عن النبي A عام الحديبية، فلما رجع النبي / وظفر وسلم أتوه يسألونه الاستغفار لهم وفي قلوبهم خلاف ذلك، ففضحهم الله. أي: سيقول لك يا محمد إذا رجعت إلى الحديبية الذين (تخلفوا في أهليهم). وقعدوا عن صحبتك والخروج معك إلى مكة معتمرين كما خرجت، معتذرين عن تخلفهم عنك: شغلتنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وأصلاح معائشنا وأهلينا فاستغفر لنا ربك لتخلفنا عنك، وكان النبي A لما أراد الخروج إلى مكة معتمراً استنفر العرب، الذين حول المدينة ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له

بحرب أن يصدوه عن البيت، ثم أحرم بالعمرة، وساق الهدي ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب فتثاقل عنه كثير من الأعراب فتخلفوا عنه، ففيهم نزل هذا. وقال مجاهد: هم أعراب المدينة من جهينة ومزينة تخلفوا عن الخروج مع النبي A إلى مكة غداة الحديبية ثم أنزل الله تكذيبهم في عذرهم فقال: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي: يسألونك يا محمد الاستغفار من فعلهم من غير توبة تنعقد عليها قلوبهم، ولا ندم على فعلهم. وجاء بلفظ " ألسنتهم " توكيداً وفرقاً بين المجاز والحقيقة. ثم قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} أي: قل يا محمد لهؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج معك إلى مكة، من يملك لكم من الله شيئاً.

12

{إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} / أي: من يدفع عنكم الضر إذا أراده الله بكم حين عصيتم رسوله وتخلفتم عن الخروج معه، واعتذرتم بما لا تعتقده قلوبكم. ثم قال: {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي: بل [لم] يزل الله ذا خبر بما تعملون وما تعتقدون، لا يخفى عليه شيء من ذلك. قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}. هذا خطاب للأعراب الذين تخلفوا عن الخروج مع النبي A إلى مكة لما اعتذروا وكذبوا في اعتذارهم، فأكذبهم الله ثم أعلمهم بما علم من اعتقادهم في رسول الله A والمؤمنين فقال: بل ظننتم أيها الأعراب أن النبي A والمؤمنين لا يرجعون إلى المدينة أبداً من غزوتهم، فلذلك تخلفتم عن الخروج معهم لأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم كما زعمتم في عذركم. ثم قال: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} أي: زين لكم الشيطان ذلك، وقال لكم لا يرجع النبي والمؤمنون إلى المدينة أبداً، وأنهم سيهلكون في غزوهم، وظننتم أن الله لا ينصر نبيّه ومن أطاعه، وذلك ظن السوء. ثم قال: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي: هلكى باعتقادكم وظنكم.

13

والبور في اللغة: الشيء الذي لا قيمة له ولا فائدة فيه ك لا شيء ". قال قتادة بوار: فاسدين. قال ابن زيد البور: الذي لا خير فيه. قال مجاهد بوراً: هلكى. أي: ومن لم يؤمن منكم أيها العرب ومن غيركم بالله ورسوله فقد كفر، وقد اعتدنا لمن كفر سعيراً من النار يسعر عليهم (في جهنم) إذا وردوها يوم القيامة. يقال سعرت النار: إذا أوقدتها سعراً، ويقال: سعرتها أيضاً إذا حركتها ومنه قولهم أنه (لمسعر حرب): أي: محركها وموقدها. قال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ}. أي: له سلطان ذلك، فلا أحد يقدر على رده عما يريد من تعذيبه من أراد تعذيبه ولا عن ستر من أراد الستر عليه وإدخاله الجنة، وهذا تنبيه وحق لهؤلاء الأعراب

15

الذين تخلفوا عن رسول الله على التوبة والمراجعة إلى أمر الله وأمر رسوله: أي: بادروا إلى التوبة فإن الله يغفر لمن تاب، لا يرده عن ذلك راد. {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين وذا رحمة لهم. قال: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا}. أي: سيقول لك يا محمد ولأصحابك هؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن محبتك والخروج معك إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} يعني ما وعد الله به المؤمنين من غنائم خيبر، وعدهم ذلك بالحديبة وهو قوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو فتح خيبر فأعلم الله نبيه عليه السلام أن المتخلفين عنه سيقولون له إذا خرج إلى فتح خيبر وأخذ غنائمها دعنا نتبعك. ثم قال: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} / أي: يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعده أهل الحديبية، وذلك أن الله وعدهم غنائم خيبر بالحديبة عوضاً من غنائم أهل مكة إذا أنصرفوا على صلح. قال مجاهد: رجع رسول الله A عن مكة فوعده الله مغانم كثيرة فعجلت له خيبر، فأراد المتخلفون أن يتبعوا النبي A ليأخذوا من المغانم فيغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية.

وقيل إن معنى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} أي: يريدون أن يخرجوا معك في غزوك (وقد قال الله): {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83]. قال ابن زيد: أرادوا أن يخرجوا مع النبي A وأن يبدلوا كلام الله الذي قال لنبيه: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} وذلك حين رجع من غزوة تبوك. وأنكر هذا القول الطبري؛ لأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر وبعد فتح مكة، قال: والصواب الذي قاله قتادة ومجاهد: أنهم يريدون أن يغيروا وعد الله الذي خص به أهل الحديبية، وذلك: مغانم خيبر وغيرها. وقوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي: كذلك قال لنا الله من قبل مرجعنا إليكم من الحديبية ان غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية / دون غيرهم ممن لم يشهدها، فليس لكم أن تتبعونا لأنكم تخلفتم عن الحديبية. ثم قال: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم. ثم قال: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: لا يعقلون عن الله ما له عليهم إلا

16

يسيراً، ولو كانوا يعقلون ما قالوا ذلك. قوله: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ}. أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين تخلَّفوا من الأعراب عن أن يخرجوا معك إلى الحديبية، وطلبوا أن يتبعوك إلى أخذ غنائم خيبر ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يصلحون. قال ابن عباس: أهل فارس، وهو قول مجاهد وابن زيد. وقال الحسن، وابن أبي ليلى: هم فارس والروم.

وقال عكرمة: هم هوازن يوم حنين، وكذلك (قال ابن جبير) هوازن وثقيف. وقال الزهري: هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. وقال كعب: هم الروم يقاتلهم هؤلاء القوم أو يسلمون بغير قتال.

17

ومن قرأ " يسلموا " فمعناه: حتى يعلموا أو إلا أن يسلموا. ثم قال: {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} أي: يعطيكم الله على إجابتكم لقتال هؤلاء القوم الجنة. {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: وإن تتخلفوا عن قتال هؤلاء القوم كما تخلفتم عن الخروج مع النبي A إلى الحديبية يعذبكم عذاباً أليماً في الآخرة. قال: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} ليس عليهم ضيق إذا تخلفوا عن الجهاد مع المؤمنين للعذر الذي نزل بهم، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم. ثم قال: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: تحت أشجارها الأنهار.

18

{وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعص الله ورسوله، ويدع الجهاد إذا دعي إليه يعذبه عذاباً أليماً في الآخرة. قال: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة}. يعني: بيعة أصحاب النبي A يوم الحديبية سنة ست، وفتح خيبر سنة سبع، وقال مالك: سنة ست أو هو الفتح القريب، واعتمر [رسول الله A] سنة سبع، وفتح مكة سنة ثمان، وحج أبو بكر ونادى علي براءة سنة تسع، وحج النبي A سنة عشر. وروي عن النبي A أنه قال: " لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ". وقد قال الله D: { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة}. ومن Bهـ لم يدخل النار أبداً، وكانوا بايعوه على منابزة قريش لما حبسوا عثمان، وظن المؤمنون أنه قتل وأشاع إبليس في عسكر الرسول A أن عثمان قتل وصدوا النبي عن البيت فبايعوه على ألا يفروا ولا يولوهم الأدبار أسفاً

على عثمان وكان النبي عليه السلام أرسله إلى المشركين بمكة في عقد الصلح وإعلامهم أنه إنما جاء ليعتمر معظماً للبيت وللحرم فأبطأ عثمان، فقيل قد قتل فبايع النبي A أصحابه على قتالهم ثم بلغه أن عثمان سالم لم يقتل وهي بيعة الرضوان، وكانت الشجرة سرة فكان الذين بايعوه ألفاً وأربع مائة، وقي ألفاً وخمس مائة، وقيل ألف وثلاث مائة، وقيل ألف وست مائة. وقال ابن عباس: كانوا ألفاً وخمس مائة وخمسة وعشرين. وقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: علم الله ما في قلوب المؤمنين من صدق النية في مبايعتهم والوفاء بذلك: {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} [أي]: فأنزل الله الطمأنينة عند علمه بصدق فعلهم عليهم. قال قتادة: / أنزل عليهم الصبر والوقار.

20

ثم قال: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} أي: وعوضهم من غنائم مكة غنائم خيبر بعقب رجوعهم من الحديبية سنة ست عند مالك، والفتح: فتح خيبر قاله قتادة وغيره وعليه أكثر المفسرين. وقال بعضهم هو فتح الحديبية وذلك سلامة المؤمنين، ورجوعهم سالمين مأجورين /. ثم قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} (أي: وأثاب هؤلاء الذين بايعوا النبي A تحت الشجرة بما أكرمهم به من الرضا ورجوعهم سالمين)، وبغنائم كثيرة يأخذونها من أموال اليهود بخيبر. {وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي: لم يزل ذا عزة في انتقامه من أعدائه، حكيماً في تدبيره خلقه. قال: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني: غنائم خيبر عجلها الله لأهل بيعة الرضوان بعد منصرفهم من الحديبية سنة ست. وقيل أول سنة سبع، وهذه مخاطبة لأهل بيعة الرضوان (خاصة أنهم) سيغنمون مغانم كثيرة.

قال مجاهد: هي من لدن نزلت هذه الآية إلى اليوم. وحكى ابن زيد عن أبيه: أنها مغانم خيبر. ثم قال: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه}. قال قتادة: هي غنائم خيبر عجلت، والمؤخرة كل غنيمة يغنم [المؤمنون] من ذلك الوقت إلى أن تقوم الساعة. وقال ابن عباس: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} هو الصلح الذي كان بين النبي A وقريش ودلَّ على ذلك قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} أي: وكف أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون بالحديبية. روي: " أن المشركين بعثوا عروة بن مسعود الثقفي إلى النبي A لما

أتاهم عام الحديبية فأكرم النبي عليه السلام إتيانه وأدناه فقال للنبي A: أتريد أن تقسم البيعة التي أعزها الله، هذه والله قريش لبست، لك جلود النسور وقلوب السباع تقسم بالله لا تدخل مكة أبداً. هذا خلق على الخيل في كراع الغميم وهذه العوذ المطانيل: يعني النساء التي لهن أطفال، تتعوذ بالله من إتيانك مكة، فقال النبي A: يا أبا سعود لم نأت لهذا، وإنما أتينا معتمرين نحل من عمرتنا وننحر هدينا، ونرجع إلى بلدنا، فاذهب إلى أخوانك وأعلمهم ذلك "، فرجع عروة إلى مكة فقال لهم: إني قد رأيت بختنصر في ملكه، ورأيت كسرى في ملكه ورأيت ملك اليمن، والله ما رأيت ملك قط مثل محمد في أصحابه، والله ما تقع منه شعرة إلا صدوها ولا نخامة إلا ابتلعوها والله ليملكن ما فوق رؤوسكم وما تحت أرجلكم، فابعثوا إليه من يقاضيه على ترك الحرب فيما بينكم وبينه، فبعثوا وقاضوه على أن يرجع ويعتمر في العام المقبل. وقال قتادة: كف الله أيدي اليهود عن المدينة حين صار النبي A إلى

الحديبية وإلى خيبر وهو اختيار الطبري، لأن كف أيدي المشركين من أهل مكة عن المؤمنين قد ذكره الله بعد هذه الآية، فقال: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24] فدل أن الكف الأول غير هذا، فهو كف أيدي اليهود عن المدينة في غيبة النبي A وأصحابه. وروي عن ابن عباس والحسن في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} قال: هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر ورسول الله A محاصر لهم فألقى الله في قلوبهم الرعب وكفهم عن النبي A وأصحابه. وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي: ولتكون المغانم (آية للمؤمنين ودلالة) على صدق النبي A لأنه أخبرهم بما سيكون.

21

وقال الطبري معناه: وليكون كف أيدي اليهود عن عيالكم عبرة للمؤمنين وهو قول قتادة. ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي: ويرشدكم الله أيها المؤمنون طريقا واضحاً لا اعوجاج فيه وهو أن تتقوا في أموركم كلها ربكم، إذ هو الحائط عليكم ولعيالكم. قال: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} [أي: وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها]. قال ابن عباس وابن أبي ليلى والحسن: هي فارس والروم. وعن ابن عباس أيضاً: هي خيبر، وقاله الضحاك وابن زيد وابن إسحاق. وقال قتادة: هي مكة قد أحاط الله بها أي: بأهلها. {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي: لم يزل ذا قدرة على كل شيء. قال: {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار} أي: ولو قاتلكم يا أهل بيعة

23

الرضوان مشركو مكة لانهزموا عنكم وولوكم أدبارهم، ثم لا يجدون ولياً / يواليهم عليكم، ولا نصيراً ينصرهم عليكم. قال: {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ} أي: سن الله انهزام المشركين بين يدي المؤمنين سنة قد خلت من قبلكم في الأمم الماضية، " فَسُنّة " مصدر عملت فيه جملة ليت من لفظه، وهي قوله /: {لَوَلَّوُاْ الأدبار} ولن يجد يا محمد لسنة الله التي سنها في الأمم الماضية تبديلاً بل ذلك دائم في كل أمة يخذل المشركين وينصر المؤمنين. قال: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ}. والله الذي كف أيدي المشركين عنكم أيها المؤمنون بالحديبية إذ خرجوا ليصيبوا منكم، وكف أيديكم عنهم: أي: أرضاكم بالصلح وترك قتال المشركين. قال أنس بن مالك: هبط ثمانون رجلاً من أهل مكة من جبل التنعيم عند صلاة الفجر على رسول الله عليه السلام وأصحابه ليقتلوهم فأخذهم رسول الله A ثم

أعتقهم فنزلت الآية فيهم. فالله كف أيديهم عن قتل رسول الله وأصحابه وكف أيدي المؤمنين عن قتلهم حين أخذوهم فأعتقوهم وهو قوله. {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: كف أيديكم عن قتلهم من بعد أن أخذتموهم أسرى وظفرتم بهم فأعتقتموهم. قال قتادة: بعث المشركون أربعين رجلاً أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله A ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً فأتي بهم رسول الله فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم بعد أن رموا في عسكر رسول الله A بالحجارة والنبل. قال قتادة: بطن مكة: الحديبية. ثم قال: {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي: لم يزل بصيراً بأعمالكم وأعمالهم لا يخفى عليه منها ولا من غيرها شيء.

25

قوله: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام}. أي: هؤلاء المشركون من قريش هم الكافرون الصادون لكم عن دخول المسجد الحرام، والصادون الهدي محبوساً على أن يبلغ محله. وروي أن النبي A لما منع دخول مكة عام الحديبية، وهي سنة ست قال عمر لأبي بكر Bهما: أليس قد وعدنا الله أن ندخل، فقال أبو بكر: أوعدك الدخول في هذا العام، وروى أن النبي A قال مثل ذلك. والعامل في " أن " {مَعْكُوفاً أَن} ويجوز أن يكون {صَدُّوكُمْ}، والمعنى صدوكم عن دخول المسجد الحرام لتمام عمرتكم، وصدوا الهدي عن أن يبلغ موضع نحره، وذلك دخول الحرام، وكان النبي A ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رجل فكانت البدنة عن عشرة، قال ذلك المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، (وقد

تقدم الاختلاف) في عدتهم، وكان رسول الله A وأصحابه خرجوا معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي حتى إذا كانوا بالحديبية وهي بير يقرب مكة صدهم المشركون عن دخول الحرم فصالحهم النبي A على أن يرجع من عامه ذلك إلى المدينة وذلك سنة ست، ثم يرجع من العام المقبل وهو سنة سبع فيكون بمكة ثلاث ليال ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب ولا يخرج بأحد من أهلها، فنحر هديه في مكانه وحلقوا في مكانهم، فلما كان العام المقبل سنة سبع أقبل رسول الله A وأصحابه فدخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة فعوضهم الله من صدهم في ذي القعدة ودخولهم مكة في ذي القعدة من العام المقبل فهو قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194]. ثم قال: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. أي: لولا أنه بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لا تعلمون أيها المؤمنون مكانهم وأشخاصهم فتقتلوهم بغير علم فتأثموا ويعيركم بذلك المشركون وتلزمهم

الدية. والباء في " بغير " متعلقة " فتطئوهم "، " وأن " في قوله " أن تطئوهم " بدل من رجال بدل الاشتمال وقيل هي بدل من الهاء، والميم في " تعلموهم " والمعنى يرجع إلى شيء واحد: لسلطكم الله عليهم، فجواب " لولا " محذوف دل عليه الكلام. / والتقدير لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنون (ونساء مؤمنات) لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة، ولسلطكم عليهم ولكنه تعالى حال بينكم وبين ذلك. {لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أي: لم يأذن لكم في قتالهم وقتلهم ليسلم من كفار مكة من قدر الله له أن يسلم فيدخل في رحمة الله. وقيل المعنى: لولا رجال مؤمنون في أصلاب المشركين وأرحام المشركات ونساء مثل ذلك لعذبنا الذين كفروا. ثم قال /: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي: لو زال من بمكة

26

من المؤمنين وخرجوا من بين ظهراني المشركين لقتلنا من بقي بمكة من المشركين بالسيف. وقال الضحاك: لو تزيلوا: يعني من كان بمكة من المؤمنين المستضعفين. والمعرَّة: المفعلة من العرِّ وهو الجَرَبْ، والمعنى فيصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة على من أطاق، أو صيام شهرين متتابعين. " وأن " في قوله: {أَن تَطَئُوهُمْ} بدل من رجال أو بدل من الهاء والميم في {تَطَئُوهُمْ} وهو بدل الاشتمال. قال: {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية}. نزلت هذه الآية في سهيل بن عمرو وجهه المشركون إلى النبي A ليحضر

كتاب الصلح فامتنع أن يكتب في الكتاب {بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ}، وأن يكتب فيه {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله}، وقال: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، وامتنع هو وأصحابه من دخول النبي وأصحابه مكة. قال الزهري: كانت حميتهم أنهم لم يقروا أن محمداً نبي الله ولم يقروا بباسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت. والعامل في قوله: " إذا جعل ": " لعذبنا " فلا يبتدأ بها، ويجوز أن يكون العامل فعلاً مضمراً معناه: اذكر إذ جعل، فتبتديء بها إن شئت. والحمية: الأنفة والإنكار. ثم قال: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي: أنزل عليهم الصبر والطمأنينة. ثم قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي: وألزم الله المؤمنين قول لا إله إلا الله، وكانوا أحق بها من المشركين، وكانوا هم أهلها. قال علي بن أبي طالب وابن عباس: كلمة التقوى لا إله إلا الله. وكذلك

27

روي عن النبي A، وهو قول مجاهد وقتادة، والضحاك وعكرمة وعطاء وابن عمر وابن زيد. وزاد عطاء فقال: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال الزهري: كلمة التقوى بسم الله الرحمن الرحيم وهو قول المسور ومروان لأن المشركين منعوا علي بن أبي طالب أن يكتب في كتابه الصلح: " بسم الله الرحمن الرحيم ". وعن مجاهد وعطاء أنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وفي قراءة عبد الله " وكانوا أهلها وأحق [بها] ". ثم قال: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي: لا يخفى عليه شيء من جميع أحوالكم. ثم قال: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}.

لقد صدق الله رسوله رؤياه التي أراه في منامه. أراه الله أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك، يقصروا بعضهم رأسه، ويحلقا بعضهم. قال مجاهد: " رآى النبي A في نومه بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحروا بدنهم بالحديبية: أين رؤيا محمد A؟ قال ابن زيد: قال النبي لأصحابه: إني رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين " فلما نزل بالحديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، وقالوا ابن رؤياه فأنزل الله {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق} فأعلمهم أنهم سيدخلون من غير ذلك العام، وأن رؤيا محمد حق. وقوله: {إِن شَآءَ الله آمِنِينَ}. فحكى ما جرى في الرؤيا من قول الملك له في منامه. وقيل: إنما جرى لفظ الاستثناء لأنه خوطب في منامه على ما أدبه الله به في قوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23 - 24] فخوطب في منامه، وأخبر بها يلزمه

أن يقول لأصحابه كما لو كان هو المخبر بذلك لهم من عند نفسه. وقيل /: إنما وقع الاستثناء على من يموت منهم قبل الدخول لأنهم على غير يقين من بقائهم كلهم حتى يدخلوا، ومثله قوله A: " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " فوقع الاستثناء على من قد لا يموت على دينه. [وقيل: بل خاطبهم على ما يعقلون]. وقيل: بل خاطبهم على ما أدبه الله به وأمره به في قوله: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} الآية.

وقيل: هو استثناء من آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام آمنين إن شاء الله ذلك، ولا يجوز أن يكون ذلك استثناء من الله، لأن الله عالم بعواقب الأمور، وإنما يكون مثل هذا الاستثناء من المخلوقين الذين لا يعلمون عواقب الأمور، ولا يدرون بأن ذلك الشيء يكون أو لايكون، والله عالم بما يكون وبما لا يكون. وقال بعض العلماء: إنما أتى الاستثناء في هذا لأن الله خاطب / الناس على ما يعرفه وعلى ما يجب لهم أن يقولوا. وقيل معنى " إن شاء الله ": إن أمركم الله بالدخول. وقال نفطويه المعنى فيه: كائن الدخول إن شاء الله ذلك، فليس فيه ضمان على الله أنه لا بد من الدخول، ولكن لما قال: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} دل على

إنفاد المشيئة، وكان الدخول لأنه أخبر أن دون المشيئة فتحاً قريباً فعلم بهذا الوعد أن المشيئة [نافذة] والدخول كائن، فيصير المعنى لتدخلن المسجد الحرام إذا جاءت المشيئة. قال نفطويه: كانت العدة من الله للمؤمنين بالدخول سنة ست، وصدوا سنة سبع، ودخلوا سنة ثمان، وحج أبو بكر بالناس سنة تسع وفيها نادى على علي Bهـ ببراءة، وفتحت مكة سنة عشر، وحج النبي A سنة إحدى عشرة. والحلق للرجال والتقصير للنساء، وقد يجوز للرجال أن يقصروا. والحلق أفضل ومن أجل جواز التقصير للرجال قال: {وَمُقَصِّرِينَ} ولم يقل ومقصرات، فغلَّب المذكر. وقيل: إن الاستثناء في الآية أنما وقع على من مات منهم أو قتل وقيل إنّ " إنْ " بمعنى " إذ ". ثم قال {لاَ تَخَافُونَ} أي: تدخلون غير خائفين.

قوله: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً}. أي: علم الله أن بمكة رجالاً ونساءً مؤمنين، فلو دخلتموها أيها المؤمنون ذلك العام لقتلتم منهم فتلزمكم الديات ويقرعكم بذلك المشركون، فردكم عن مكة من أجل ذلك. ثم قال: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي: فجعل الله لكم من دون صدكم عن البيت فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر فتحها النبي A وأصحابه في ذلك العام واقتسم أهل الحديبية خاصة مغانمها. وقال مجاهد: الفتح القريب نحرهم الهدي بالحديبية، ورجعوا فافتتحوا خيبر، ثم قضوا عُمرتهم في السنة المقبلة. وقيل المعنى: فجعل الله من دون رؤيا رسول الله A فتحاً قريباً وهو فتح خيبر.

28

قال: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى [الدين كُلِّهِ]}. يعني: محمداً A أرسله بالرشد إلى الصراط المستقيم، وبالدين القوي الحق وهو الإسلام ليظهره على الدين كله، ليبطل به الملل كلها، فلا يكون دين إلا دينه، وذلك أمر سيكون عند نزول عيسى A. وقيل: إنه كان هذا إعلان النبي A قد قهر أهل الأديان كلها في وقته، وفي خلافة أبي بكر وعمر. وقال ابن عباس معناه: ليظهره على أمر الدين كله. ثم قال: {وكفى بالله شَهِيداً} أي: كفى به شهيداً على نفسه أنه سيظهرك على أمر الدين الذي بعثك به. هذا قول الحسن، وهو اختيار الطبري. ففي هذا إعلام من الله لنبيه عليه السلام أنه سيفتح مكة وغيرها من البلدان. قال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} أي: وأتباعه من أصحابه هم أشداء على الكفار، أي: ذوو غلظة عليهم وشدة وذوو رحمة فيما بينهم يرحم بعضهم بعضاً ويغلظون على الكفار عداوة في الله. قال قتادة: ألقى الله في قلوبهم الرحمة لبعضهم من بعض. ثم قال: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً}.

أي: ترى أصحاب محمد تارة ركعاً وتارة سجداً يلتمسون بذلك من فعلهم في ركوعهم وسجودهم وغلظتهم على الكفار، ورحمة بعضهم لبعض فضلاً من الله / أن يدخلهم في رحمته ويرضى عنهم. ثم قال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود}. قال ابن عباس معناه: أثر صلاتهم تبدو في وجوههم يوم القيامة. قال عطية: مواضع السجود في وجوههم يوم القيامة أشد بياضاً من اللبن وهو قول مقاتل. قال الحسن: هو بياض في وجوههم يوم القيامة، وعنه هو بياض في

وجوههم، وعن ابن عباس: أن ذلك في الدنيا وهو السمت الحسن. وقال مجاهد: أما أنه ليس الذي ترون، ولكنه سيماء الإسلام، وسمته وخشوعه وتواضعه. وقال الحسن: هو الصفرة التي تعلو الوجه من السهر والتعب، وهو قول ابن عطية. وقال ابن جبير وعكرمة: هو أثر التراب (وأثر الطهور). وقال ابن وهب: أخبرني مالك أنه ما يتعلق بالجبهة من تراب الأرض.

ورواه مطرف عن مالك أيضاً. وأصل السيمي: العلامة. ثم قال: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة}. أي: هذا الذي تقدم من صفاتهم ونعتهم في التوراة. ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ}. أي: وصف أصحاب محمد في الإنجيل ونعتهم فيه كزرع أخرج شطئه، أي: فراخه. يقال: أَشْطَأَ الزَّرْعُ يُشْطِيءُ أَشْطاً: إِذا أَفْرَخَ. فشبههم الله في الإنجيل بالزرع الذي أخرج فراخه، وذلك أنهم في أول

دخولهم الإسلام كانوا عدداً قليلاً / كالزرع في أول ما يخرج، ثم جعلوا يتزايدون ويكثرون، كالزرع إذا أخرج فراخه فكثر وعظم بها، ونما، فيكون الأصل ثلاثين وأربعين وأكثر بالفراخ فكذلك أصحاب النبي A كانوا قليلاً ثم تزايدوا وكثروا فكانت هذه صفتهم في التوراة والإنجيل من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض فكان مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل، هذا قول أكثر المفسرين، وهو اختيار الطبري، وروى عن مجاهد أنه قال: المثلان منصوصان فيهم في التوراة والإنجيل. قوله: {فَآزَرَهُ} أي: قواه، يعني فقوى الشطء الزرع، وذلك أن الزرع أول ما يخرج رقيق الأصل ضعيفاً، فإذا أخرج فراخه غلظ. أصله وتقوى فكذلك

أصحاب النبي A كانوا قلة ضعفاء ومستضعفين، فلما كثروا وتقووا قتلوا المشركين. ثم قال: {فاستغلظ} أي: فاستوى الزرع على سوقه لما غلظ وتقوى بخروج الفراخ. والسوق جمع ساق، وسوقه: أصوله. وعن ابن عباس أنه مثل للنبي A بعثه الله وحده كخروج الزرع مفرداً، ثم بعث الله قوماً آمنوا به فتقوى بهم كالزرع إذا أخرج فراخه فتقوى بها وغلظ. هذا معنى قوله. وقيام معنى: {فاستوى على سُوقِهِ} أي: تلاحق الفراخ بالأصول فاستوى جميع ذلك، كم تلاحق من آمن من أصحاب النبي A بعضهم ببعض فاستوى جميعهم في الإيمان.

قال ابن زيد: " فآزره "، فاجتمع ذلك فالتفت كالمؤمنين كانوا قليلاً ثم تزايدوا فتأيدوا. ثم قال: {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} أي: يعجب هذا الزارع حين استغلظ واستوى على سوقه، فحسن عند زارعيه. وقوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} فاللام متعلقة بمحذوف، والتقدير: فعل ذلك بهم ليغيظ بهم الكفار، والتقدير: فعل ذلك ليغيظ بمحمد وأصحابه الكفار، فالمعنى فعل ذلك بمحمد وأصحابه ليغيظ الكفار. ثم قال: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. أي: وعد الله الذين صدقوا محمداً وعملوا الأعمال الصالحات من أصحاب محمد أجراً عظيماً ففضلهم بذلك على غيرهم. وقيل: معنى وعد الله الذين تثبتوا على الإيمان من أصحاب محمد أجراً عظيماً، وستراً على ذنوبهم. وقد روى سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله:

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} إلى آخر السورة، أن {الذين مَعَهُ} أبو بكر {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} عمر بن الخطاب {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ}: عثمان ابن عفان، {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً}، علي بن أبي طالب {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً}: طلحة والزبير {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} / عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،

{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل}: أبو عبيدة بن الجراح، {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} بأبي بكر الصديق، فاستغلظ بعمر، {فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع} بعثمان، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} بعلي، {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أصحاب محمد A. وقد روى أبو هريرة أن النبي A قال: " لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا في قلب مؤمن ". وسئل: أبو هريرة عن القدر فقال: اكتف منه بآخر سورة الفتح، يريد {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ (أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار)} آخر السورة، ثم قال أبو هريرة: " إن الله نعتهم قبل أن يخلفهم ".

الحجرات

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحجرات سورة الحجرات مدنية قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ} إلى قوله: {بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية. روى سفيان عن الأعمش عن خيثمة قال: هل تقرؤون {يا أيها الذين آمَنُواْ} إِلا وهي في التوراة " يا أيها المساكين ". فالمعنى: يا أيها

الذين صدقوا محمداً A لا تعجلوا بقضاء أمركم في دينكم قبل أن يقضي الله D ورسوله لكم فيه. حكي عن العرب: فلان تقدم بين يدي إمامه؛ أي: تعجل الأمر والنهي دونه. قال ابن عباس معناه: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وعنه أنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وقال مجاهد معناه: لا تفتاتوا على رسول الله A بشيء حتى يقضيه الله D على لسان رسوله.

وقال قتادة: كان أناس يقولون لو نزل في كذا، أو صنع كذا وكذا، فكره الله D ذلك. وقال الحسن: ذبح أناس من المسلمين قبل صلاة رسول الله A يوم النحر، فأمرهم النبي A أن يعيدوا ذبحاً آخر لتقدمهم. ففي هذا دليل أنه لا يجوز أن يؤدى فرض قبل وقته. قال الضحاك: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله: يعني بذلك في القتال، وما كان من أمر دينهم، لا يصلح لهم أن يتقدموا في أمر حتى يأمر فيه النبي A. وروى ابن أبي مليكة: أن الآية نزلت في رأي، أشار به عمر على النبي A،

وذلك أن النبي / A أراد أن يستخلف على المدينة رجلاً إذ مضى إلى خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر. وقيل: نزلت في سبب كلام دار بين أبي بكر وعمر Bهما وذلك أن (وفداً من بني تميم) قدموا على النبي A، فقال له أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس، فقال له أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال له عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية في ذلك.

2

ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [أي: يسمع قولكم ويعلم فعلكم فاتقوه وخافوه]. قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ}. أي: لا تسابقوه بالكلام وتغلظوا له في الخطاب. {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}. أي: لا تنادوه باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه، ولكن عظموه ووقروه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادى، قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله. وهذا كله أمر من الله D للمؤمنين بتعظيم النبي A وإجلاله، وهو مثل قوله: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63]. روي: أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: أقسمت بالله ألا أكلم رسول الله

صلى الله عليه وسلّم إلا كأخي السرار. وقد كره جماعة من العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله A وبحضرة العلماء اتباعاً لأدب الله D وتعظيماً لرسول الله بعد موته كما كان يحب في حياته، وتشريفاً للعلم، إذ العلماء ورثة الأنبياء. وقد روى عبادة بن الصامت عن النبي A أنه قال: " ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف بعالمنا ". وروي: أن هذه الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكان

خطيب رسول الله A / في مفاخرة بني تميم للأقرع بن حابس وكان في أذنيه صمم، فكان إذا تكلم أعلى صوته، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله، وخشي أن يكون حبط عمله. فعند ذلك شاكى أبو بكر ألا يكلم النبي A إلا كأخي السرار فأنزل الله D في أبي بكر ومن فعل فعله. {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى}. أي: طهرها من كل دنس وجعل فيها التقوى. وثابت هذا هو الذي وقعت جويرية: أم المؤمنين في سهمه فكاتبته على نفسها.

قالت عائشة Bها: وكانت جويرية امرأة حلوة مليحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، قالت عائشة Bها: فأتت إلى النبي A تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو - إلا أن رأيتها على باب حجرتي كرهتها وعلمت أن النبي A سيرى منها ما رأيت، تريد من حسنها وحلاوتها. قالت عائشة: فدخلت جويرية على النبي A، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عنك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس، وكاتبته عن نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها النبي A: فهل (لك خير) من ذلك، قالت: وما هو يا رسول الله، قال: أقض كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، فخرج الخبر في الناس أن رسول الله A تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله، فأرسلوا ما بأيديهم من الأسرى إجلالاً لرسول الله A.

قالت عائشة: فلقد أعتق الناس بتزويجها إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، قالت: فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية. ثم قال: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}. أي: مخافة أن تبطل أعمالكم وأنتم {لاَ تَشْعُرُونَ} أي: لا تعملون. وقال الزجاج تقديره " لأن تحبط "، وهو عنده مثل {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 7] وسمى هذه اللام لام الصيرورة أي: التقطه ليصير أمرهم إلى ذلك؛ لأنهم قصدوا التصيّر إلى ذلك ولكنه في المقدر، وفيما سبقه من علم الله، فالمعنى لا ترفعوا أصواتكم فيكون ذلك سبباً لإبطال أعمالكم. وفي قراءة عبد الله: " فَتَحْبَطَ أَعْمَالُكُم ". ثم قال: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} أي: يكفون

4

رفع أصواتهم عند حضور رسول الله A. { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} (أي: اختبرها فاصطفاها) وأخلصها للتقوى كما يمتحن الذهِب بالنار فيخلص جيده ويبطل خبيثه. قال مجاهد: اختبرها فوجدها خالصة للتقوى. وعن عمر بن الخطاب Bهـ: امتحنها للتقوى: أي: أذهب الشهوات منها. ثم قال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: لهم ستر وعفو من الله D يوم القيامة، ولهم أجر عظيم: وهو الجنة والخلود فيها. روي: أن هذه الآية: نزلت في قوم من الأعراب نادوا رسول الله A من وراء حجراته يا محمد أخرج إلينا.

5

قال مجاهد: هم أعراب من بني تميم. وقيل: " هو الأقرع بن حابس نادى رسول الله A من وراء الحجرات وقال: يا محمد (إن مدحي زين وإن ذمي شين)، فقال النبي A: ذلك الله جل ذكره ". وقوله: {لاَ يَعْقِلُونَ} أي: لا يعقلون أن فعلهم ذلك قبيح. قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ}. أي: لو تركوا نداءك من وراء الحجرات، وصبروا حتى تخرج إليهم لكان ذلك عند الله خيراً لهم، لأن الله D قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، والله غفور لمن ناداك وجهل أن تاب عن ذلك، رحيم به أن يعذبه بعد توبته /. وقيل: بل غفر الله لهم فعلهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بفعلهم الاستخفاف

6

بحق النبي A، إنما كان فعلهم سوء أدب منهم. قال: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا}. روي عن أم سلمة زوج النبي A أنها قالت: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قالت: بعث النبي A رجلاً في صدقات بني المصطلق، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون بذلك أمر رسول الله A، فحدثهم الشيطان أنهم يريدون قتله فرجع إلى (رسول الله A) وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله A، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله A فخضعوا له حين [صلُّوا] الظهر، وقالوا: نعوذ بالله من سخط رسول الله، بعث

إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا به، وقرت به أعيننا. ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله D ومن رسوله A، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال فأذن بصلاة العصر فنزلت. {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [فتبينوا أَن تُصِيبُواْ]} الآية. وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة إلا أن مجاهداً قال: إنه الوليد قال للنبي A إنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي A خالد بن الوليد وأمره أن يتبين ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فأتوه وأخبروه أنهم مستمسكون بالإسلام وسمع صلاتهم وآذانهم، فلما أصبحوا أتاهم (خالد فرأى) الذي يعجبه فرجع إلى النبي A وأخبره الخبر، فأنزل الله D الآية، فكان النبي A يقول: " التبيين من الله والعجلة من الشيطان ".

7

قوله: {أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي: قوم براء مما قُذفوا به فتندموا على فعلتم بهم. قال: {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ}. أي: إعلموا أن نبي الله D بين ظهركم فلا تقولوا الباطل فإن الله يخبره بأخباركم فلو أطاعكم رسول الله A فيما تقولون له لنالكم عنت وشدة ومشقة، لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد قوله في بني المصطلق إنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة لغزاهم وأصابهم بالقتل والسباء وهم براء، فكنتم تقتلون وتسبون من لا يحل قتله ولا سباؤه، فيدخل عليكم الإثم والمشقة في إخراج الدّيات والعنت والفساد والهلاك. ثم قال: {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} أي: وفقكم له وزينه في قلوبكم. وقيل معناه: أمركم أن تحبوا الإيمان، وزينه في قلوبكم فأحببتموه وهذا قول مردود لأن الكفار قد أمرهم الله بمحبة الإيمان أيضاً، فلا فرق بين كافر ولا مؤمن في ذلك. وقيل معناه: فعل بكم أفاعيل تحبون معها الإيمان، وهي التوفيق. {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} أي: فعل بكم أفاعيل كرهتم معها ذلك.

8

قال ابن زيد: حببه إليكم: حسنه في قلوبكم، قال العصيان: عصيان النبي A، والفسوق: الكذب، والعصيان: ركوب ما نهى الله D عنه. ثم قال: {أولئك هُمُ الراشدون} أي: هؤلاء الذين حبّب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والكذب، وفعل ما نهاهم عنه هم السالكون طريق الحق. قال: {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} أي: فعل ذلك بهم للفضل والنعمة، فانتهيا عند الزجاج على أنهما مفعولان من أجلهما. ثم قال: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: ذو علم بالمحسن منكم والمسيء /، ومن هو أهل الفضل والنعمة ممن لا يستحق ذلك ذو حكمة في تدبيره خلقه. قال الزجاج قوله: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}: معناه أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة، والآيات المعجزات. ويجوز أن يكون زينه في قلوبهم بتوفيقه إياهم إلى طريقِ الحق في سبيل الرشاد.

9

قوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا}. طائفتان عند البصريين / رفع بفعلهم، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. وهما رفع بالابتداء عند الكوفيين، والخبر: اقتتلوا، وله نظائر (كثيرة في القرآن) وقد تقدم ذكرها، وسيأتي نظائرها فيما بعد إن شاء الله والمعنى: أصلحوا بينهما أيها المؤمنون بالدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله. {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله}. أي: فإن أبت إحداهما الرضا بحكم الله D وحكم رسوله فقاتلوا الفئة التي أبت وبغت حتى ترجع إلى أمر الله، فإن رجعت الباغية إلى حكم الله بعد قتالكم إياها،

فأصلِحوا بينها وبين الطائفة الأخرى بالإنصاف والعدل بينهما قال ابن زيد لا يقاتل الفئة الباغية إلا الولاة. وروي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلا في أمر تنازعا فيه. وروي عن أنس أنه قال: قيل للنبي عليه السلام لو أتيت عبد الله بن أُبي، قال: فانطلق النبي A إليه وركب حماراً وانطلق معه المسلمون، فلما أتاه النبي A قال عبد الله المنافق: إليك عني، فوالله لقد آتاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله A أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه فرد عليه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي

والنعال فنزلت هذه الآية فيهم. وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال: لها أم زيد تحت رجل من غيرهم فكان بينها وبين زوجها خصومة، فبلغ قومها فجاؤوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي [وبالنعال]، فبلغ ذلك النبي A فجاء ليصلح بينهم فنزل القرآن في ذلك. وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما خصومة وكان أحدهما أكثر عشيرة من الآخر فأبى أن يحاكمه إلى النبي A فتدافعا وتقاتلا بالأيدي والنعال فنزلت الآية فيهما.

10

قوله: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين}. [أي: أعدلوا في حكمكم بينهم إن الله يحب المقسطين] العادلين في أحكامهم. يقال قسط الرجل: إذا جار، وأقسط إذا عدل. قال: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ}. أي: إنما المؤمنون إخوة في الدين فأصْلِحوا بينهم إذا اقتتِلوا بأن تحملهم على حكم كتاب الله D. { واتقوا الله} أي: وخافوه في حكمكم فلا تحيفوا. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: افعلوا ذلك ليرحمكم ربكم. قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ}. أي: لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين لعل (المستهزئ منه خير من الهازئ)، وكذلك النساء. " وقوم " في كلام العرب يقع للمذكرين خاصة، ويجوز أن يكون فيهم نساء على المجاز.

وقال بعض أهل اللغة: إنما قيل لجماعة المذكرين قوم لأنه أريد جمع قائم فهذا أصله ثم استعمل في كل جماعة وإن لم يكونوا قائمين. فقوم عنده جمع قائم " كَزائِرٍ وزُوَر، وصَائِم وصَوْم، ونَائِم ونَوم ". وقيل: سميت الجماعة قوماً لأنهم يقومون مع داعيهم في النوائب والشدائد ومثل ذلك قولهم لقوم الرجل نفره، فهو جمع نافِر؛ لأنهم ينفرون معه إذا استنفرهم، قال مجاهد: لا يسخر قوم من قوم هو سخرية الغني بالفقير لفقره، ولعل الفقير أفضل عند الله من الغني. وقال ابن زيد: معناه لا يسخر من ستر الله على ذنوبه ممن (كشف الله سبحانه) في الدنيا ستره، لعل ما أظهر الله D على هذا في الدنيا خير له في الآخرة من أن يسترها عليه في الدنيا، فلست أيها الهازئ على يقين أنك أفضل منه بستر الله D عليك في الدنيا هذا معنى قوله.

ويروى أن هذه الآية نزلت في عكرمة بن أبي جهل بن هشام قدم المدينة مسلماً فكان يمر بالمؤمنين فيقولون: هذا ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى النبي A فنهاهم أن يقولوا ذلك /، ونزلت الآية عامة فيه وفي غيره. ثم قال: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} / أي: لا يطعن بعضكم على بعض. وقال: أنفسكم لأن المؤمنين كرجل واحد. قال النبي A: " إنما المؤمنون كالجسد الواحد غذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر ". يقال: " لَمَزهُ يَلْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ لُمزاً إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّمَهُ ". قال علي بن سليمان: اللمز الطعن على الإنسان بالحضرة، والهمز في الغيبة. قال المبرد: اللمز يكون باللسان، والعين (تعيبه وتجدد) إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلا باللسان في الحضرة والغيبة وأكثر ما يكون في

الغيبة، وقال النبز: اللقب الثابت، والمنابزة: الإشاعة والإذاعة. قال الطبري: النبز واللقب واحد. قال الضحاك: نزلت هذه الآية في بني سلمة قدم النبي A المدينة وما منهم رجل إلا وله إسمان وثلاثة، فكان إذا دعي الرجل بالاسم قالوا إنه يغضب من هذا، فنزلت {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب}. وقيل معناه: قول الرجل للرجل يا فاسق يا زاني، يا كافر يا منافق قاله عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد.

12

وقال ابن عباس: هو تسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسق بعد التوبة. وقال الحسن: هو اليهودي والنصراني يسلمان فنهي أن يقال لهما يا يهودي يا نصراني بعد إسلامه. وقيل: هو دعاء الرجل للرجل بما يكره من إسم أو صفة أو لقب، وهذا قول جامع لما تقدم. ثم قال: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان}. أي: من فعل هذا الذي نهي عنه فسخر من أخيه المؤمن ونبزه بالألقاب فهو فاسق. وبين الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا أن تسموا فساقاً، ففي الكلام حذف وتقديره ما ذكرنا. وقال ابن زيد: معناه بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته. ثم قال: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون}. أي: ومن لم يتب عن نبزه أخاه وسخريته منه فهو ظالم نفسه. قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ}.

أي: تجنبوا أن تظنوا بالمؤمنين شراً، فإن الظن غير محق، وإنما قال: " كثيراً " ولم يقل: اجتنبوا الظن كله؛ لأن الظن قد يكون في الخير فتظن بأخيك المؤمن خيراً، وذلك حسن، فلو قال: اجتنبوا الظن كله يمنع أن يظن الإنسان بأخيه خيراً، ولذلك قال: إن بعض الظن إثم، أي: إن ظنك بأخيك المؤمن الشر لا الخير إثم لأن الله D قد نهاك عنه. روى أبو هريرة أن النبي A قال: " إياكم والظن فإنه أكذب الحديث فلا ينبغي لأحد أن يظن شراً بمن ظاهره حسن، ولا بأس أن نظن شراً بمن ظاهره قبيح ". قال مجاهد: خذوا ما ظهر واتركوا ما ستره الله D. ثم قال: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}. أي: ولا يتبع بعضكم عورة بعض، فيبحث عن سرائره ليطلع على عيوبه. قال ابن عباس: نهى الله D المؤمن أن يتبع عورات المؤمن.

قال مجاهد: ولا تجسسوا: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستره الله وهو معنى قول قتادة. والتجسس والتحسس (سواء في اللغة). وقوله: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً}. أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره أن يقال له في وجهه، وسأل النبي A عن الغيبة فقال: " هو أن تقول لأخيك ما فيه، فإن كنت صادقاً فقد اغتبته، وإن كنت كاذباً فقد بهته ". قال مسروق: إذا ذكرت الرجل بأسوأ ما فيه فقد اغتبته، وإن ذكرته بما ليس

فيه فقد بهته. قال الحسن: الغيبة أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرت بما ليس فيه فذلك البهتان. قال ابن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشر سواد شعره ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. وقالت عائشة Bها: قلت بحضرة النبي A في امرأة: ما أطول ذراعها، فقال: قد اغتبتها فاستحلي منها. وروى جابر أن النبي A قال: " الغيبة أشد من الزنا لأن الرجل يزني فيتوب الله عليه، [والرجل يغتاب الرجل فيتوب، فلا يتاب عليه حتى يستحله] ". ثم قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}.

أي: أنتم تحبون أن تأكلوا لحم الميتة، وتكرهونه فكذلك يجب / أن تكرهوا الغيبة للحي فإن الله حرم غيبة المؤمن حياً كما حرم أكل لحمه ميتاً. قال ابن عباس: معناه كما أنت كاره أكل لحم الميتة المدودة فاكره غيبة أخيك كذلك، فأكل الميتة حرتم في الشريعة مكروه في النفوس مستقذر فضرب الله مثلاً للغيبة، فجعل المغتاب كآكل لحم / الميتة. والعرب تقول: ألحمتك فلاناً: أي: أمكنتك من عرضه. وقوله: {فَكَرِهْتُمُوهُ}. [أتى] بالماضي على تقدير فقد كرهتموه، ففيه معنى الأمر، ودل على ذلك قوله: {واتقوا الله} عطف عليه وهو أمر. وقال الكسائي: فكرهتموه معناه: فينبغي أن تكرهوه. قال المبرد: معناه فكرهتم أن تأكلوه. ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}. أي: وخافوا الله أن تقدموا على فعل ما نهاكم عنه من الظن السوء وتتبع عورات المسلم والتجسس على ما خفي عنك باغتياب أخيك المسلم وغير ذلك مما

13

نهاك عنه، إن الله تواب على من تاب إليه: أي: رجع إليه، رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه بعد توبته منها. قوله: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى}. أي: خلقناكم من آدم وحواء، يعني من ماء ذكر وماء أنثى. قال مجاهد: خلق الله D الولد من ماء الرجل وماء المرأة. ثم قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا}. أي: وجعلناكم متناسبين يناسب بعضكم بعضاً فيعرف بعضكم بعضاً، فيقال فلان ابن فلان من بني فلان فيعرف قرب نسبه من بعده فالأفخاذ أقرب [من القبائل والقبائل أقرب] من الشعوب. قال مجاهد: شعوباً هو النسب البعيد، والقبائل دون ذلك.

وكذلك قال قتادة والضحاك. قال ابن عباس: الشعوب الجماع، والقبائل البطون. وقال ابن جبير: الشعوب الجمهور، والقبائل الأفخاذ. وواحد الشعوب شعب بالفتح، والشعب عند أهل اللغة: الجمهور مثل مضر تقسمت وتفرقت، ثم يليه القبيلة لأنها يقابل بعضها بعضاً، ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ وهو أقربها. وقيل: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب. ثم قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ}. أي: أفضلكم عند الله أتقاكم لارتكاب ما نهى الله سبحانه عنه، وأعمالكم لما

أمر الله تعالى به ليس فضلكم بأنسابكم إنما الفضل لمن كثر تقاه. قال النبي A وقد سأل عن غير الناس فقال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم وأتقاهم ". قال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إنا جعلنا نسباً وجعلتم نسباً إن أكرمكم عند الله أتقاكم ليقم المتقون، فلا يقوم إلا من كان كذلك. وعن النبي A أنه قال: " أخير الناس من طال عمره وحسن عمله ". وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " لتعرفوا أن أكرمكم عند الله بفتح " أن "

وتعرفوا على مقال تضربوا، على معنى جعلهم شعوباً وقبائل لكي يعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، ومجاز هذه القراءة: جعلهم كذلك ليعرفوا أنسابهم؛ لأن أكرمهم عند الله أتقاهم؛ لأن: " تَعْرِفُوا " عملت في: " أن " لأنه لم يجعلهم شعوباً قبائل ليعرفوا أن أكرمهم عند الله أتقاهم، إنما جعلهم كذلك ليعرفوا أنسابهم. وكسر " أن " أولى وأتم في المعنى المقصود إليه بالآية. ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. أي: ذو علم، بأتقاكم عنده وأكرمكم، وذو خبر بكم وبمصالحكم.

14

ثم قال: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا}. أي: قالت جماعة الأعراب صدقنا بالله وبرسوله، قل لهم يا محمد لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وخضعنا وتذللنا. والإسلام في اللغة الخضوع والتذلل لأمر الله جل ذكره والتسليم له. والإيمان: التصديق بكل ما جاء من عند الله. وللإسلام موضع آخر وهو الاستسلام خوف القتل، قد يقع الإسلام بمعنى الإيمان وقد يكون بمعنى الاستسلام. والإيمان والإسلام يتعرفان على وجهين إيمان ظاهر/ لا باطن معه نحو قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وإيمان باطن وظاهر وهو المتقبل، وإسلام ظاهر لا باطن معه كالذي في هذه السورة. والإسلام أعم من الإيمان لأن الإسلام ما صدق به باطن [ونطق به الظاهر والإيمان ما صدق به الباطن]، فإن كان الإسلام ظاهراً غير باطن فليس بإيمان إنما هو استسلام ولا هو إسلام صحيح. وهذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد، وهم من المؤلفة قلوبهم أسلموا

بألسنتهم خوف القتل والسباء ولم تصدق قلوبهم ألسنتهم. فرد الله عليهم قولهم " آمنا " إذ لم يصدقوه بقلوبهم، وقال بل قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا في الظاهر خوف القتل، فالإسلام / قول، والإيمان قول وعمل. قال الزهري: الإسلام قول والإيمان عمل. قال ابن زيد قوله: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} أي: لم تصدقوا قولكم بعملكم. ثم أخبر تعالى بصفة المؤمنين فقال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}. قال النخعي: ولكن قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا. وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم الله D أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين.

وقيل إنهم منوا على النبي A بإيمانهم فأعلمهم الله D أن هذا ليس من خلق المؤمنين إنما هو من خلق من استسلم خوف السباء والقتل، ولو دخل الإيمان في قلوبهم ما منّوا به، ودليله قوله بعد ذلك {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} [الحجرات: 17]. وقال قتادة: لم تعم هذه الآية كل الأعراب، بل فيهم المؤمنون حقاً، إنما نزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله فقالوا آمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. ثم قال تعالى ذكره: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}. أي: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان وحقائقه في قلوبكم، وهو نفي قد دخل. ثم قال: {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً}. أي: إن أطعتم الله ورسوله فيما تؤمرون به لا ينقصكم الله (من ثواب أعمالكم شيئاً في الآخرة) ولا يظلمكم. قال ابن زيد معناه: " إن تصدقوا قلوبكم بفعلكم يقبل ذلك منكم، وتجازوا

عليه. يقال: أَلَتَهُ ويَأَلِتْهُ وَلآتَهُ يَلِيتُه لغتان بمعنى: نَقَصَه، فمن قرأ " لاَ يَلِتْكُمْ " فهو من لاَتَ يَلِيتَ، وتصديقها في المصحف أنها بغير ألف بعد الياء، ولو كانت همزة لم تختصر من الخط. ومن قرأ " يَاْلِتْكُمْ " فهو من أَلَتَ يَأْلِتُ. فأما قوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم} [الطور: 21] فهو من أَلَتَ يَأْلَتُ، (ولو جاء على اللغة) الأخرى لقيل، وما أَلَتْنَاهُمْ. وهذه لغة هذيل. وبذلك قرأ ابن مسعود وأُبي، وهذه القراءة شاهدة لقراءة من قرأ هنا

" يَلِتْكُمْ " من لاَتَ يَلِيْتُ، لكنها مخالفة للخط؛ لأن الخط في " والطور " بألف قبل اللام، لكن من جعله هنا من لات وفي " الطور من ألت " فإنما جمع بين اللغتين واتبع الخط في الموضعين، ومثله مما أجمع عليه قوله: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5]، فهذا من أَمْلَى يُمْلِي. ثم قال في موضع آخر: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282]، فهذا من أمثال، يقال أَمْلَى عليه وَأَمَال عَلَيْه: لغتان، ومثله قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء: 55] فهذا من أمليت. وقال في موضع آخر {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] فهذا من صليت. ومثله قوله: {كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق} [العنكبوت: 18] من أبدأ، وقال: {كَيْفَ بَدَأَ الخلق} [العنكبوت: 19] من بدأته، يقال: أَبْدَأَهُ وَبَدَأَهُ لغتان.

وقد قرأ ابن كثير: أَلِتْنَاهُمْ بكسر اللام، وهي لغة أيضاً. يقال: أَلِتَ يَأْلِتُ وَأَلَتَ يَألَتُ. ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

16

أي: غفور للذنوب لمن تاب منها رحيم أن يعذب أحداً بعد توبته. ثم قال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}. أي: صدقوا بما أنزل الله، وبرسول الله بقلوبهم، وأقروا به بألسنتهم، وقبلوا ما أمروا به، وانتهوا عما نهوا عنه، ثم لم يُشكوا في ذلك. {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون} أي: هم الذين صدقوا في قولهم / إنا مؤمنون. قال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أي: أتعلمونه بطاعتكم وما أضمرت قلوبكم، وهو يعلم ما غاب عنكم في السماوات والأرض. لا يخفى عليه شيء من ذلك، فكيف يخفى ما تخفي صدوركم. {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: ذو علم بجميع الأشياء. قال: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ}. أي: يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، قل لهم: لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم بهدايته لكم إلى الإيمان، ولولا توفيقه لكم ما أسلمتم، فالمنة له لا إله إلا هو إن كنتم صادقين في قولكم (أنكم آمنتم)، فالمنة في ذلك عليكم لله D، ولا منة لكم على الله، وذلك " أن النبي A كان يفضل المهاجرين بالعطاء ليستألفهم على

18

الإسلام فكرهت الأنصار ذلك وتكلمت، فأنزل الله D { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} الآية، فلما نزلت أتى الأنصار إلى النبي A يبكون فقالوا يا رسول الله جئتنا ونحن ضلال فهدانا الله بك، وجئتنا ونحن أذلة فهدانا الله بك، فقال لهم النبي A لئن قلتم إنك جئتنا ذليلاً فأعززناك ومطروداً فآويناك، فقالت الأنصار بل لله ورسوله المنة علينا فقال النبي A: " الناس دثاري وأنتم شعاري، ولو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار ولولا الهجرة لكنت أحداً من الأنصار " ". قال: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} أي: يعلم ما غاب فيها لا يخفى عليه [شيء]، فهو يعلم الصادق منكم من الكاذب في دعواه، فلا يخفى عليه ما تكنه صدوركم.

ثم قال: {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: ذو بصر بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء فهو محصيها عليكم حتى يجازيكم بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

ق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة ق مكية سورة ق مكية: قوله تعالى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلى قوله: (فَحَقَّ وَعِيدِ) [1 - 14]. روى عطاء والضحاك عن ابن عباس: أن ق اسم جبل بالدنيا من زبرجدة خضراء وأن السماء عليه مقبية أقسم الله جل ذكره به. وقال ابن عباس: " ق " و " ن " وأشباه هذا قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.

وقال قتادة: اسم من أسماء القرآن، وعنه: أنه اسم من أسماء السور، والوقف على ق، في هذه الثلاثة تقديرات، حسن. وقال الفراء: معنى ق، " قُفِيَ الأَمْرُ واللهَّ "، فاكتفى بالقاف عن الجملة كما قال: " قُلْتُ لَهَا قِفِي لَنَا، فَقَالَتْ قَافْ "، أي: قَد وقَفْتُ، أي: أي: فاكتفى بالقاف عن

الجملة، وتَقِفُ على " قاف " في هذا القول إِلاَّ أن تَجْعَلَه جواباً للقسم بعده فلا تقِفُ عليه، فإن أضمرتَ الجواب وقفتَ على قاف، وكذلك التقدير في القول الذي بعده، وهو قول مجاهد. وقال مجاهد: ق جبل محيط بالأرض، وقيل: إنه من زمردة خضراء وإن خضرة السماء والبحر منه. وقوله: {والقرآن المجيد} قسم، والمجيد: الكريم. وقيل: الرفيع القدر. واختُلف في جواب القسم، فقيل: الجواب {بَلْ عجبوا} لأن " بل " تُؤَكد وتُوجِب وقوع ما بعدها. مثل " أن " و " اللام "، وقولُك " لَقَدْ عَجِبُوا " و " بَلْ عَجِبُوا " واحد. وقال الأخفش سعيد، الجواب: قد علمنا ما تنقص الأرض، أي: قد علمنا

ذلك، وهو قول الكسائي. وقال الزجاج: الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن المجيد لتُبعثُن. وقيل التقدير: والقرآن المجيد لتعلمن عاقبة تكذيبكم بالبعث، ودل على ذلك مَا حكى الله عنهم من قولهم {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3]. وقيل الجواب (ق لأنه) بمعنى قُفِيَ الأَمْرُ والقرآن المجيد. وقيل الجواب (ق): وعلى تقدير هو " ق " والقرآن المجيد، وهذا على قول ابن زيد ووهب بن منبه لأنهما قالا " قاف " اسم للجبل المحيط بالأرض.

2

وقيل الجواب {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى}. قال تعالى: {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ}. أي: لم يكذبك قريش يا محمد لأنهم لا يعرفونك بل لتعجبهم وإنكارهم من بشر / مثلهم ينذرهم بأمر الله D. { فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ}. قال بعض أهل المعاني: (العجب وقع من المؤمنين) والكافرين فقيل بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم. ثم ميز الله الكافرين من المؤمنين [فقال تعالى]: {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا} الآية فوصفهم بإنكار البعث، ولم يقل: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقالوا هذا شيء عجيب. ثم بيَّن قول الكافرين من جميع من تعجب من إرسال منذر، فآمن المؤمنون

مما تعجبوا منه، وكفر الكافرون به. ثم قال تعالى حكاية عن قولهم أنهم قالوا: {أَءِذَا مِتْنَا}، وإنما جواب منهم لإعلام النبي A لهم، أنهم يبعثون، فأنكروا ذلك فقالوا: {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي: أَنُبعَثُ إذا كنا في قبورنا تراباً؟ وقوله: {أَءِذَا مِتْنَا}: إنما هو جواب منهم لإعلام النبي A لهم أنهم يبعثون ويجازون بأعمالهم. ودل على ذلك قوله: {أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} لأن المنذر أعلمهم أنهم يبعثون فأنكروا ذلك، فقالوا: أئِذا متنا وكنا ترابا، واكتفى بدلالة الكلام على حكاية ما قال لهم المنذر وهو النبي A. وقيل: إنما أتى هذا الإنكار ولم يتقدم قبله شيء للجواب المضمر المحذوف، والتقدير: والقرآن المجيد لتبعثن، ففهموا ذلك فقالوا جزاباً: أنبعث إذا كنا تراباً، إنكاراً للبعث.

4

وقيل: أن " أئذا متنا " جواب لِما قيل لهم، إذ أنكروا إتيان منذر منهم، وقالوا هذا شيء عجيب، فقيل لهم ستعلمون عاقبة إنكارهم إذا بعثتم بعد موتكم، فقالوا منكرين: أئذا متنا وكنا تراباً نبعث. ومعنى: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي: ذلك بعث لا يكون. {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ}. أي: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم [بعد موتهم، وعندنا كتاب محفوظ بما تأكل الأرض منهم. قال مجاهد: ما تأكل الأرض منهم أي: عظامهم]. وقال ابن عباس: من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم، وما يبقى، فالذي يبقى من الإنسان هو عجب الذنب ومنه يتركب عند النشور. وروى أبو سعيد الخدري: " أن النبي A قال: يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عَجُبُ الذَّنَبِ، فقيل: وما هو يا رسول الله، فقال مثل حبة خردل منه تنشرون ".

5

وقيل معناه: وقد علمنا ما يدخل (في الإسلام من بلدان المشركين). قال: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} يعني بالقرآن. {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي: مختلط ملتبس لا يعرفون حقه من باطله. وقال ابن عباس: المريج الشيء المنكر، وعنه مريج: مختلف، وعنه في أمر ضلالة.

7

وقال (ابن جبير ومجاهد) مريج: ملتبس. وقال ابن زيد في المختلط: يقال مرج الخاتم في أصبعه: إذا اضطرب من الهزال، فتقديره: فهم في أمر مختلط مختلف، لا يثبتون على رأي: واحد ولا على قول، يقولون مرة ساحر، ومرة معلم، ومرة كاهن، ومرة مجنون /، ثم دلهم جل ذكره على وحدانيته وآياته فقال: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا}. أي: أفلم ينظر هؤلاء المنكرون للبعث بعد الموت كيف خَلقنا السماء فوقهم بغير عمد يرونها، وكيف زيناها بالنجوم وليس فيها فتوق ولا شقوق فيعلمون أن من قدر على هذا الأمر العظيم الجليل وأحدثه لا يتعذر عليه إحياء الموتى على صغر خلقهم وقد نبه على هذا بقوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 56]. قال: {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}. أي: وينظرون إلى الأرض كيف مددنا مسطحة لا اعوجاج فيها وجعلنا على

8

جوانبها جبالاً تمسكها لئلا تميد بأهلها، وكيف أنبتنا فيها من كل جنس من النبات فيبهج من رآه ويسره، فمن قدر على اختراع هذا كله كيف يعجز عن إحياء الموتى بعد موتهم. وقيل بهيج: حسن، قاله ابن عباس. أي: فعل ذلك نعمة منه يبصرها / العباد فيستدلون على عظيم قدرته، وأنه لا يعجزه شيء أراده، ويتذكرون به فيتَّعظون ويزدجرون عن مخالفة أمره ونهيه. والمنيب: التائب، قاله قتادة: وقيل منيب: مخبت، قاله مجاهد. و {تَبْصِرَةً وذكرى}: مصدران أو مفعولان من أجلهما؛ أي: فعلنا ذلك " ليبصركم الله " القدرة، ولتتذكروا عظمة الله فتعلموا أنه قادر على ما يشاء من إحياء الموتى وغير ذلك. قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مباركا} أي: مطراً مباركاً فأنبتا به جنات، أي:

10

بساتين، و " حب الحصيد " يعني الزرع من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. قال الفراء: الحصيد: هو إضافة الشيء إلى نفسه، لأن الحب هو الحصيد. والتقدير عند البصريين، وحب النبت الحصيد. أي: وأنبتنا النخل طوالا، وهي حال مقدرة، ونضيد بمعنى منضود أي: مكتنز منضم متراكب. قال: {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} " رزقاً " مصدر أو مفعول من أجله. ثم قال: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أي: أحيينا بالمطر بلدة قد أجذبت وقحطت فلا نبات فيها. ثم قال: {كَذَلِكَ الخروج} أي: كذلك تخرجون من قبوركم يبعث الله جل ذكره

12

ماء ينبت به الناس كما [ينبت به الزرع، أي: كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها فأخرجنا فيها النبات والزرع بالمطر]. كذلك يبعث عليكم مطراً فتحيون للبعث يوم القيامة. قال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي: كذبت قبل قومك يا محمد قوم نوح. {وَأَصْحَابُ الرس وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيكة وَقَوْمُ تُّبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} أصحاب الأيكة: قوم شعيب. والرس: بير قتل فيها صاحب يس، قاله الضحاك. وقال كعب: أصحاب الأخدود، وهم الذين أرسل إليهم اثنان وعزز بثالث، قال: والرس: الأخدود. قال قتادة: الأيكة: الشجر الملتف. قال عبد الله بن سلام: كان تبع رجل من العرب ظهر على الناس فاختار فتية من الأحبار فاستبطنهم واستدخلهم حتى أخذ منهم وتابعهم فاستنكر ذلك قومه

15

وقالوا قد ترك دينكم وتابع الفِتَيَة فلما فشا ذلك قام الفتية فقالوا بيننا وبينهم النار تحرق الكاذب وينجو منها الصادق ففعلوا فعلق الفتية مصاحفهم في أعناقهم ثم غدوا إلى النار فدخلوها فانفرجت عنهم ثم دخلت الفرقة الأخرى فأحرقتهم فأسلم تبع، وكان رجلاً صالحاً. وقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل} أي: كلهم كذب الرسل فوجب عليهم وعيد الله D وهو النقمة بالعذاب، وهو تخويف من الله D لقريش أنهم إن تمادوا على كفرهم حق عليهم الوعيد أيضاً. قوله: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول}. هذا توبيخ وتقريع لمن أنكر البعث بعد الموت، والمعنى: أفعيينا بابتداع الخلق الذي خلقناه ولم يكن شيئاً، فنعيا بإعادتهم خلقاً كما كانوا بعد فنائهم. أي: ليس

16

يعيينا ذلك، بل نحن قادِرون عليه. ثم قال: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}. أي: بل هم في شك من إعادة الخلق بعد فنائهم فلذلك أنكروا البعث بعد الموت. قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي: ما تحدثه به نفسه لا تخفى عليه سرائره. وقيل: هو مخصوص بآدم عليه السلام وما وحرمت به نفسه من أكل الشجرة التي نهي عنها، ثم هي عامة في جميع الخلق لا يخفى عليه شيء من وسواس أنفسهم إليهم. ثم قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} / أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من قتل العاتق.

وقيل معناه: ونحن أملك به وأقرب إليه. وقيل معناه: ونحن أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد. وهنا من الله جلّ ذكره زجر للإنسان عن إضمار المعصية. قال الفراء: الوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين. وقال ابن عباس: " مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " أي: من عرق العنق. وقال أبو عبيدة: حبل الوريد: حبل العاتق، والوريد عرق في العنق متصل بالقلب، وهو نياط القلب، والوريد والوتين ما في القلب. قال الأقرع: هو نهر الجسد يمتد من الخنصر أو الإبهام، فإذا كان في الفخذ أو الساق فهو الساق وإذا كان في البطن فهو الحالب وإذا كان في القلب فهو الأبهر وإذا كان في اليد فهو الأكحل وإذا كان في العنق فهو الوريد وإذا كان في العين فهو الناظر / وإذا كان في القلب فهو الوتين.

17

العامل في " إذ أقرب "، أي: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان، وهما الملكان عن اليمين وعن الشمال قعيد أي: قاعد، وتقديره عند سيبويه: " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ". ثم حذف الأول لدلالة الثاني عليه. فلذلك لم يقل، قعيدان، وهو قوله الكسائي. ومذهب الأخفش والفراء: أن قعيداً يؤدى عن اثنين وأكثرمنهما كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67]. ومذهب المبرد: أن " قعيداً " ينوي به التقديم والتأخير، والتقدير عنده: " عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد " فاكتفى بالأول عن الثاني ومثله {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]. وقيل: قعيد بمعنى الجماعة، كما قال: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].

18

قال قتادة وغيره: المتلقيان الملكان الحافظان على الإنسان جميع أعماله وألفاظه. قال مجاهد: الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. أي: ما يلفظ بكلام من خير أو شر إلا كتب عليه، قاله عكرمة وغيره. قال الحسن وقتادة: يكتب الملكان ما يلفظ به من جميع الأشياء. قال سفيان: بلغني أن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أذنب قال لا تعجل لعله يستغفر. وروي: أن الله جل ذكره جعل لصاحب اليمين على صاحب الشمال سلطاناً يطيعه به، فإذا كان الليل قال: صاحب اليمين لصاحب الشمال ألاقيك، أطرح أنا حسنة واطرح أنت عشر سيئات، حتى يصعد صاحب الحسنات لا سيئات معه.

ويروى أن مجلس الملك على باب الإنسان الذي وكل به، وقلم الملك لسان الإنسان، ومداده ريق الإنسان، وهذا تمثيل في القرب، والله أعلم (بكيفية ذلك). ويروى أن رجلاً قال لبعيره: حَلْ، فقال صاحب الحسنات، ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب السيئات: ما هي بسيئة فاكتبها، فأوحى الله D إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين فاكتب. (وروت أم حبيبة: أن النبي A قال: " كلام ابن آدم عليه السلام عليه لاَ لَه إِلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو ذكر الله D) ". وقال [عمرو بن الحارث]: بلغني أن رجلاً إذا عمل سيئة قال كاتب اليمين لصاحب الشمال أكتب فيقول لا بل أنت فيمتنعان فينادي منادياً صاحب الشمال:

أكتب ما ترك صاحب اليمين. وقال أبو صالح: في قول الله جل ذكره: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 40] أن الملائكة تكتب كل ما تكلم به الإنسان فيمحو الله D منه ما ليس له وما ليس عليه ويثبت ما له وما عليه، وهذا القول موافق لقول الحسن وقتادة أن الملكين يكتبان كل ما يقول الإنسان ويعمل من جميع الأشياء. وقوله: {رَقِيبٌ عَتِيدٌ} معناه حافظ حاضر يكتب عليه ويحفظه. وقيل: عتيد معناه معد، وفعيل يأتي بمعنى فاعل نحو قدير بمعنى قادر وهو كثير، ويأتي بمعنى مفعول نحو سميع بمعنى مسمع.

19

وأليم بمعنى مؤلم، ويأتي بمعنى مفعول، نحو قتيل بمعنى مقتول وهو كثير، ويأتي بمعنى الجمع نحو ما ذكرنا من قعيد وله نظائر. (وروى أنس أن النبي A قال: " إن الله D وكل بعبده ملكين يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: ربنا قد مات عبدك فلان بن فلان فتأذن لنا فنصعد إلى السماء فيقول سمائي مملوءة من ملائكتي، فيقولان ربنا فنقيم في الأرض، فيقول الله D أرضي مملوءة من خلقي فيقولان ربنا فأين، فيقول قٌومَا عند قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني وهللالي واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم يبعثون) ". قال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}. أي: وجاءت شدة الموت وغلبته على فهم الإنسان بالحق من أمر الآخرة. وقيل المعنى: (وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت).

20

وفي قراءة عبد الله: " وجاءت سكرة الحق بالموت "، وكذلك [قال] أبو بكر Bهـ في مرضه الذي مات فيه لعائشة Bها. ومعنى هذه القراءة: أن الحق هو الله، فالمعنى وجاءته سكرة الله بالموت. وقيل: الحق هنا الموت، فالتقدير وجاءت سكرة الموت بالموت فالحق هو الموت الذي / حتمه الله على جميع خلقه. ثم قال: {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي: السكرة التي جاءتك أيها الإنسان، والموت الذي أتاك هو الذي كنت منه تهرب، وعنه تروع. قد تقدم صفة النفخ في الصور، ومعنى الصور، والاختلاف فيه في غير موضع. فالمعنى ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في الصور، وهو اليوم الذي وعدكم الله D فيه أن يبعثكم ويجازيكم بأعمالكم. ثم قال: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [21].

21

أي: وجاءت يوم القيامة كل نفس معها سائق يسوقها إلى الله D حتى يوردها الموقف، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير وشر، قاله الحسين والربيع وقتادة وغيرهم. قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد شاهد عليه من نفسه. وقال مجاهد: هما الملكان. وقال الضحاك: السائق من الملائكة والشهيد من أنفسهم الأيدي والأرجل، والملائكة أيضاً تشهد عليهم، والأنبياء يشهدون عليهم. وقال ابن زيد: يوكل به ملك يحصي عليه عمله، ويشهد به عليه وملك يسوقه إلى محشره. وقال أبو هريرة: السائق والشهيد نفسه.

22

وقيل: السائق شيطان النفس يكون خلفها، والشهيد ملكه. وهذه الآية إلى " حديدٌ " في قول أكثر العلماء يراد بها البر والفاجر، وهو اختيار الطبري. وقيل: عني بها النبي A. وقيل: عني بها المشركون وهو قول الضحاك، والقول الثاني روي عن زيد بن أسلم: يريد به استنقاذ الله D النبي A مما كان عليه في الجاهلية، ودلّ على ذلك قوله: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] والقول الأول أولى بالصواب والله أعلم. أي: لقد كنت أيها الإنسان في غفلة في الدنيا عما يراد بك وعما يحصى عليك إذ لم تعاينه، فكشفنا عنك الغطاء الآن فنظرت إلى الأهوال والشدائد فزالت الغفلة. قال ابن عباس: هذا للكافر خاصة، لأن المؤمن قد آمن بجميع ما يقدم عليه فلم يكن عليه غطاء، وكذلك قال مجاهد وسفيان.

وقال ابن زيد هو للنبي A خاصة أي: كنت مع القوم في جاهليتهم فهديناك إلى الإسلام، وأعلمناك ما يراد بك فكشفنا عنك الغطاء الذي كان عليك في الجاهلية. وقد احتج زيد بن أسلم في هذه الآيات أنها للنبي A { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] فيكون الكشف على قوله في الدنيا، وعلى قول ابن عباس ومجاهد وسفيان يوم القيامة. وقيل: بل هذا لجميع الخلق، البر والفاجر، لأن المعاينة ليست كالخبر. وعن ابن عباس: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} قال: هو الحياة بعد الموت. ثم قال: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ}. أي: فأنت اليوم حاد النظر، عالم بما كنت تخبر به علم معاينة لا علم خبر.

23

والبصر هنا يراد به بصر القلب، كما يقال: فلان بصير بالفقه. أي: وقال قرين هذا الإنسان الذي جاء به ربه يوم القيامة ومعه سائق وشهيد: هذا ما عندي حاضر مما كتبت عليه. قال ابن زيد: هو سائق الذي وكل به. قال قتادة قرينه: الملك. وقيل قرينه: شيطانه. وقيل معنى عتيد: معد. وقيل معناه: قال قرين الكافر هذا ما عندي من العذاب له حاضر. [وقيل معناه: قال قرينه من زبانية جهنم هذا ما عندي من العذاب حاضر]. ثم قال: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [24].

24

قال الفراء والكسائي: " أَلْقِيَا " مخاطبة للقرين. قال الفراء: والعرب تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، فيقول: " يا رجل قوما ". وأنشد: خَلِيلَيَّ مُرَّابِي عَلَى أُمِّ جُنْدُبٍ ... [لِنَقْضِي لُبَانَاتِ] الفُؤادِ المُعَذَّبِ وإنما خاطب واحداً، واستدل على ذلك بقوله في القصيدة: أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطِبِ

25

وقيل: إنما ثني (ألقيا)، لأن قريناً يقع للجماعة والاثنين كقوله: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكقوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17]، على قول من رأى ذلك، وقد تقدم ذكره. وقيل: إنما قال ألقيا على شرط تكرير الفعل كأنه قال: أَلْقِ، أَلْقِ، فالألف تدل على التكرير /، وهو قول المبرد. وقيل: هو مخاطبة للملكين، السائق والشهيد، والعنيد: المعاند للحق المجانب له. وقيل العنيد: الجاحد للتوحيد. قوله: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ}.

27

قال قتادة: مناع للخير: أي: للزكاة المفروضة. معتد: متعد على حدود الله، مريب: شاك في الله وفي قدرته. وقيل مريب: يأتي الأمور القبيحة. وقيل الخير هنا: المال، يمنع أن يخرجه في حقه، معتد: متعد على الناس بلسانه وبطشه ظلماً. مريب: شاك. ثم بينه تعالى فقال: {الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي: هو الذي أشرك بالله غيره فجعل معه إلهاً آخر يعبده. أي: قال قرين هذا الكافر الذي عبد مع الله غيره، وقرينه شيطانه، قاله ابن عباس وغيره. قال ابن زيد: قال قرينه من الجن ربنا ما أطغيته، تبرأ منه، والمعنى أنه تبرأ من

28

كفره، وقال ما أجبرته على الكفر، إنما دعوته فاستجاب لي، لأنه كان على طريق جائر عن الصواب، فأعلم الله D عباده بتبري بعضهم من بعض يوم القيامة، وقد مضى ذلك في مواضع. (أي: قال لهما D) لا تختصما إِليَّ اليوم وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد على الكفر على لسان رسلي وكتبي. قال ابن عباس: اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم ورد عليهم قولهم، وإنما قال لهم " لا تختصموا " ولم يتقدم إلاَّ ذكرُ الاثنين؛ لأن قبله الأخبار عن جماعة في قوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 23]، وفي قوله: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [ق: 21]، وبعده خطاب للجماعة في قوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم}. فالمراد كل من اختصم مع قرينه، فهم جماعة ليس المراد به اثنين فقط، بل كل كافر اختصم مع قرينه، ويجوز أن يكون جمع تختصموا؛ لأن الاثنين جماعة والأول أبين.

29

قال: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أي: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا، وهو قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 118]. قال مجاهد معناه قد قضيت ما أنا قاض. وقيل: معناه قد قضيت الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها. ثم قال {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي: لا أحداً بجرم أحد. أي: يوم يقول لجهنم هل أمتلئت لما سبق من وعيده في قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 118] وذلك يوم القيامة. وقوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}. قال ابن عباس: إن الله قد سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلما بعث الناس يوم القيامة، وسيق أعداء الله إلى النار زمراً، جعلوا يقتحمون في

جهنم فوجاً، لا يلقى في جهنم فوج إلا ذهب فيها لا يملؤها شيء فقالت: ألست [قد] أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين، قال: فوضع قدمه عليها، فقالت حين وضع قدمه عليها: [قد امتلأتُ فليس من مزيد ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها] فتضايقت حين جعل عليها ما جعل فامتلأت فما فيها موضع إبرة. قال مجاهد: وتقول هل من مزيد، قال: وعدها ليملأنها فقال هلا وفيتك (قالت وهل من مسلك)، فمعنى {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ما من مزيد على هذين القولين. وحكي عن النبي A أنه قيل له بمكة: " ألاّ تنزل داراً من دورك فقال: " وهل ترك لنا عقيل من دار " " أي: ما ترك لنا داراً حين باعها وقت. الهجرة فالتقدير:

هل فيّ من مسلك (وقد امتلأت). فلا زيادة فيّ. وقال أنس بن مالك: يلقي في جهنم وتقول هل من مزيد؛ أي: زدني ثلاثاً، حتى يضع قدمه فيها فتنزوي بعضها إلى بعض فتقول: قظ ثلاثاً، وهو قول ابن زيد. فمعنى {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} على هذين القولين: زدني، تسأله أن يزيد فيها من الخلق، وعلى. القولين الأولين: لا مزيد فيّ قد امتلأت، فلا موضع لأحد في وقد روي عن النبي A أنه قال: " لا تَزَالُ جَهَنَّمَ تَقُولُ هَلْ مِنَ مَزِيدٍ فَيَقُومُ رَبّ العَالَمِين فَيَجْعَلَ قَدَمَهُ فِيها فَتَقُول قَط قط ". ومعنى قدمه: أي: من تقدم في عمله أنه يدخله النار، ومنه قوله تعالى {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] [أي] سابقة خير. ومن روى الحديث " حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارَ فِيها قَدَمه " احتمل التفسير الأول، أي:

31

حتى يضع لها من تقدم في علمنه أنه يدخل النار، ويحتمل أن يكون / المعنى: حتى يضع الجبارون المتكبرون على الله فيها أقدامهم بأجمعهم، والواحد يدل على الجمع. وقال أبو هريرة: " اخْتَصَمَت الجَنَّة وَالنَّار، فَقَالَتْ: الجَنّة مَا لِي إِنَّمَا يَدْخُلُنِي فُقَرَاء المُسْلِمين وَسقاطهم، وقالت النار: ما لي إنما يدخلني الجبارون والمتكبرون ". فقال تعالى ذكره: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء [وأنت عذابي أصيب به من أشاء] ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فإن الله ينشئ لها من خلقه ما شاء، وأما النار فيلقون فيها فتقول هل من مزيد ويلقون فيها فتقول هل من مزيد، حتى يضع فيها قدمه، فهناك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط. أي: أدنيت الجنة وقربت للذين آتقوا ربهم.

32

قال {هذا مَا تُوعَدُونَ} أي: يقال لهم هذا الذي كنتم توعدونه / أيها المتقون. {لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أي: لكل راجع عن معصية الله D تائب من ذنوبه. وقيل هو المسبِّح، قال أبن عباس، قال: لكل أواب: لكل مسبِّح، وهو قول مجاهد. وعن مجاهد أنه قال هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا، فيستغفر منها، وكذا روى عن الشعبي. (وقال الحسن: الأواب: الرجل معلق قلبه عند الله). وقال قتادة لكل أواب حفيظ: أي: لكل مطيع لله D، كثير الصلاة. وقال ابن زيد الأواب الثواب. قال ابن عباس حفيظ: أي: حفظ ذنوبه حتى تاب منها. وقيل: معناه حفيظ على فرائض الله، أي: محافظ عليها.

33

وقال قتادة: حفيظ: ما استودعه الله D من حقه ونعمته. قال: {مَّنْ خَشِيَ الرحمن} " من " بدل من " أواب " أو من " كل "، والمعنى: من خاف الرحمن في الدنيا وخشي عذابه. {وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} قال قتادة: بقلب منيب إلى ربه؛ أي: راجع إلى رضا ربه. قال فضيل: المنيب: الذي يذكر ذنوبه في الخلا ويستغفر منها. قال {ادخلوها بِسَلاَمٍ ذَلِكَ} أي: ادخلوا الجنة بسلامة وبأمان من الهم والنصب والعذاب والموت وجميع المكاره والأحزان. ثم قال {يَوْمُ الخلود} أي: ذلك اليوم الذي يدخلون فيه الجنة هو يوم

35

المكث في النعيم المقيم. قال {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} أي: لهم في الجنة ما تشتهيه أنفسهم. {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي: وعندنا ما أعطيناهم زيادة، قيل: هو النظر إلى الله جل ذكره. وقيل بل يزادون ما لم يخطر على قلوبهم. وروى أنس بن مالك عن النبي A أنه قال: " النظر إلى الله في كل يوم، وذكر حديثا طويلا ". قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ}. أي: وكثيراً من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش هم أشد من قريش بطشاً. ثم قال: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} قال ابن عباس معناه فأثروا في البلاد. وقال مجاهد

ضربوا في الأرض. وقيل معناه ضربوا وتوغلوا في البلاد (يلتمسون محيصاً) من الموت فلم يجدوا منه مخلصاً. والقرن مأخوذ من الأقران وهو مقدار أكثر ما يعيش أهل ذلك الزمان. قال الفراء: {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} (أي: فهل كان لهم من الموت محيص) وحذف " كان " للدلالة. وقرأ يحيى بن يعمر فنقِّبوا: على الأمر، ومعناه: التهدد والوعيد لقريش، أي: فطوفوا في البلاد وتوغلوا وفروا بأنفسكم فيها هل تجدون

37

محيصاً من الموت. وقراءة الجماعة إنما هي على الإخبار عما فعلت القرون الماضية فالوقف على (قراءة الجماعة على محيص). وعلى قراءة ابن يعمر على " بطشاً ". قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. أي: إن في إهلاكنا القرون الماضية قبل قريش بكفرهم لذكرى يتذكر بها ويتعظ بها من كان له عقل من قريش وغيرهم، فينتهي عن الفعل الذي أهلكت القرون الماضية من أجله وهو الكفر بالله ورسله عليهم السلام وكتبه. قال قتادة: {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} يعني من هذه الأمة. قال: يعني بذلك القلب الحي. فالتقدير لمن كان له عقل يعقل به ما ينفعه وكني عن العقل بالقلب لأنه محله. ثم قال: {أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} (أي: وألقى بسمعه لأخبار الجزاء عن القرون الماضية التي أهلكت بكفرها وعصيانها).

38

وهو شهيد: أي: متفهم لما يخبر به عنهم معرض عما يخبر به، هذا معنى قول أبن عباس والضحاك وغيرهما. وقال قتادة: عني بذلك أهل الكتاب، فالمعنى وهو شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من نعمة محمد A، وهو قول معمر. وقال الحسن هو منافق استمع ولم ينتفع. وقال أبو صالح هو المؤمن يسمع القرآن وهو شهيد على ذلك. أي: خلقنا جميع ذلك في ستة أيام، أولها الأحد، وآخرها الجمعة وما مسنا من إعياء. روي: " أن هذه الآية نزلت في يهود أتوا النبي A فقالوا: أخبرنا ما خلق الله (من الخلق) في هذه الأيام الستة، فقال (خلق يوم الأحد والاثنين الأرض)، وخلق الجبال يوم الثلاثاء [وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمراتها وخرابها يوم

الأربعاء وخلق السماوات] والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات، يعني من يوم الجمعة، وخلق في أول الثلاث ساعات الآجال وفي الثانية الآفات وفي الثالثة آدم، قالوا صدقت إذا أتممت، فعرف النبي / A ما يريدون فغضب، فأنزل الله {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ} ". قال قتادة: أكذب الله جل وعز اليهود والنصارى وأهل الفِراء على الله جل ذكره، وذلك أنهم قالوا: خلق الله جل وعز السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استراح يوم السابع. وذلك عندهم يوم السبت، وهم يسمونه الراحة. قال الضحاك: كان مقدار كل يوم ألف سنة مما تعدون. قال مجاهد: {مِن لُّغُوبٍ} من نصب. وقال قتادة: من إعياء.

39

واللغوب في اللغة: التعب. يقال لغب يلغب لغوباً: إذا تعب. قال: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي: اصبر يا محمد على قولهم لك ثم استراح. وهذه الآية عند جماعة منسوخة بقوله {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29]. وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب}. قال قتادة: قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: صلاة العصر، وهو قول ابن زيد. قال ابن زيد: {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ}: يعني صلاة العتمة. وقال مجاهد: هي الصلاة بالليل، في أي وقت صلى. وقوله: {وَأَدْبَارَ السجود}. قال علي بن أبي طالب Bهـ: الركعتان بعد المغرب. وكذلك عن عمر Bهـ.

41

وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد والشعبي وقتادة والضحاك. وقد روي ذلك عن النبي A، وهو اختيار الطبري. وقيل: هو على الندب. وعن ابن عباس: {وَأَدْبَارَ السجود} هو التسبيح بعد الصلاة، وأدبار النجوم علامة الصبح. وقال: ابن زيد وأدبار السجود: النوافل بعد الصلوات المكتوبات. أي: واستمع يا محمد حين ينادي المنادي من صخرة بيت المقدس وهو المكان القريب، قال كعب، قال: ينادي بصوت عال يا أيتها العظام البالية، والأوصال المنقطعة اجتمعي لفصل القضاء. قال قتادة: كما نحدث أنه من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض.

42

قال: وحدثنا أن كعبا قال هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقال بريدة: هو ملك يقوم على صخرة المقدس يقول: يا أيها الناس هلموا إلى الحساب قال فيقبلون كما قال الله D { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7]. [وإنما] قيل له مكان قريب: لأنه يسمع كل أحد. قال: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق} أي: يوم يسمع الخلائق صيحة البعث من القبور بالحق أي: بالاجتماع للحساب. ثم قال: {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} أي: ذلك يوم خروج أهل القبور من قبورهم. أي: نحيى الموتى، ونميت الأجبار، وإلينا رجوع جميع الخلق يوم القيامة. قال: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً} أي: وإلينا مصيرهم في يوم تشقق الأرض عن جميع الخلق، أي: تتصدع عنهم فيخرجون سراعاً. ثم قال: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي: جمعهم جمعا علينا سهل.

45

قال: / {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي: نحن أعلم يا محمد بما يقول هؤلاء المشركون من كذبهم على الله سبحانه، وتكذيبهم بآياته، وإنكارهم للبعث، ولست يا محمد [عليهم] بمسلط على أن تجبرهم على الإيمان، إنما أنت منذر. قال الفراء: " وضع الجبَّار في موضع السلطان من الجبرية ". ثم قال مجاهد: وما أنت عليهم بجبار: أي: ست تتجبر عليهم، وهو معنى قول قتادة. وجبار من أجبرته على كذا، وحكى أهل الغة أن العرب لا تأتي بفعال من أفعلت، إما تأتي به من فعلت غير حرف، وأخرجا فعَّال من أفعلت، وهو درّاك من أدركت، وهو شاذ.

وحكى عن العرب: جبره على الأمر، فجبَّار من هذا. وقد يقال أجبره بمعنى جبره، لكن الجبار من جبره مأخوذ. ثم قال: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي: فذكر يا محمد بهذا القرآن من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عقابي. قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوفتنا، فنزلت {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ}.

الذاريات

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والذاريات مكية سورة والذاريات مكية. قوله: (وَالذَّارِيَاتِ) إلى قوله (مُحْسِنِينَ) الآيات [1 - 16]. المعنى: ورب الرياح الذاريات ذروا. يقال: ذَرَتِ الرِّيحُ الشَّيءَ: إذا فَرَّقَتْهُ، وأَذْرَتْهُ فَهِيَ مَذْرِيَّة. ورب السحاب الحاملات وقراً، يعني موقرة من ماء المطر، يعني مثقلة من المطر. أي: ورب السفن الجاريات يسراً: أي: جرياً سهلاً.

4

قال: {فالمقسمات أَمْراً} أي: ورب الملائكة المقسمات بأمر الله الأمر من عنده بين خلقه. قال الفراء: {فالمقسمات أَمْراً} يعني: الملائكة (تأتي بأمر مختلف) جبريل / صاحب الغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت، فتلك قسمة الأمر، والجواب عن هذه الأقسام: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدين لواقع} يعني: البعث والجزاء، والجنة والنار. قال أبو الطفيل: شهدت علي بن أبي طالب بخطب وهو يقول: سلوني فوَالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا أعلمتكم به، وسلوني عن كتاب

الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل، فقام إليه ابن الكواء فقال: ما والذاريات ذرواً، فالحاملات وقراً، فالجاريات يسراً فالمقسمات أمراً، (فقال علي): ويلك، سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، والذاريات ذوراً: الريح، فالحاملات وقراً: السحاب، فالجاريات يسرا: السفن، فالمقسمات أمرا: الملائكة، وهو قول ابن عباس. وقد قيل: إن الحاملات وقراً السفن تحمل أثقال بني آدم بأمر الله D. وقيل: هي الرياح؛ لأنها تحمل السحاب من بلد إلى بلد فتسوقه.

7

وقوله {لَصَادِقٌ} معناه لصدقه، فوقع الاسم في موضع المصدر، كما يأتي المصدر في موضع الاسم نحو: هو رجل عدل: أي: عادل، ورجل رضى أي: مرضي ودرهم وِزْنُ الأمير: أي: مَوْزُونُه. ثم قال: {وَإِنَّ الدين لواقع} أي: وإن الجزاء بالأعمال لواقع يوم القيامة كائن لا محالة فيه. أي: ورب السماء ذات الخلق الحسن. فقال ابن عباس: ذات الحبك: هو حسنها واستواؤها. وقال أبو مالك: وأبو صالح وعكرمة ذات الحبك: ذات الخلق الحسن. فقال ابن عباس: ذات الحبك: هو حسنها واستواؤها. وقال أبو مالك: وأبو صالح وعكرمة ذات الحبك: ذات الخلق الحسن. وقال الحسن: ذات النجوم. قال: حُبِكَتْ بالخَلقِ الحَسَنِ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ.

وقال أبو عبيدة: ذات الحبك: ذات الطرائق، يقال للرمل والماء إذا ضربتهما الريح فصارت فيهما طرائق حبائك. قال الأخفش: واحد الحُبُك: حِبَاك. وقال الكسائي والفراء: يقال حِبَاك وَحَبِيكة، ويقال لِتَكَسُّرِ الشَّعر الجعد حُبُكٌ، وحباك الحمام: طرائق على جناحيه، وطرائق الماء حُبُكه. قال ابن جبير: ذات الحبك: ذات الزينة. وروى البكالي عن عبد الله بن عمر والسماء ذات الحبك: قال: هي السماء السابعة. وجواب القسم قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ}، (أي: منكم مصدق

9

بهذا القرآن مكذب به). قال الحسن: {لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ}: (أي: في أمر النبي A) . قال (ابن زيد): اختلافهم أن بعضهم يقول هو سحر، وبعضهم يقول غير ذلك. أي: يصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف عنه في اللوح المحفوظ. قاله الحسن. وقيل: معناه يصرف عن الإيمان ناساً / إذا أرادوه بقولهم وكذِبِهم من صُرِف؛ لأنهم يقولون لمن أراد الإيمان هو سحر وكهانة، فيصرف عن الإيمان. قال ابن عباس: معناه لعن المرتابون. قال ابن زيد: قتل الخراصون يخرصون الكذب، يقولون شاعر ساحر

وكهانة، وأساطير الأولين اكتتبها. قال مجاهد: معناه قتل الخراصون الذين يقولون لسنا نبعث. وقال الفراء: معناه: لعن الكاذبون الذين يقولون محمد مجنون وساحر شاعر كذاب يخترصون ما لا يعلمون. ولا يعرف أهل اللغة " قُتِل " بمعنى " لُعِن " ومعناه على قول سيبويه والخليل وغيرهما أن هؤلاء ممن يجب أن يدعا عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين أو بعذاب من عند الله.

11

قال ابن عباس: عني به الكهانة. أي: هم في غمرة الضلالة، وغلبتها متمادون، وعن الحق ساهون لاهون. قال مجاهد: {فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}: قلوبهم في أكنة. وقال أهل اللغة معناه: في تغطية الباطل والجهل غافلون. أي: يسألون متى يوم الجزاء والحساب على طريق الإنكار له، يعني به هؤلاء الخراصين الذين تقدمت صفتهم. أي: يعذبون. قال الزجاج: " يوم هم " منصوب بإضمار فعل التقدير، يقع الجزاء في يوم هم على النار يعذبون. وعلى " بمعنى " في "، أي: في النار يعذبون، وحسن ذلك كما وقعت في " بمعنى " على " في قوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي: على جذوع

14

النخل وقيل " يوم هم " (في موضع رفع على البدل) من يوم الأول، لكنه بني على الفتح لأنه أضيف إضافة غير محضة. وقيل بني لأنه أضيف إلى شيئين. وقال سيبويه والخليل: ظروف الزمان غير متمكنة، فإذا أضيفت إلى غير معرب أو إلى جملة بنيت على الفتح. أي: يقال لهم: ذوقوا عذابكم هذا الذي كنتم به في الدنيا تستعجلون إنكاراً واستهزاء. قال قتادة: يفتنون: ينضجون بالنار. وقال سفيان: يحرقون. قال المبرد: هو من فَتَنْتَ الذَّهَب والفِضَّة إذا أحْرَقْتَهُما لتَخْتَبرهما وتُخَلِّصهما. فالتقدير عند من قال هذا: يوم هم على النار يفتنون: يختبرون فيقال

15

ما سلككم في سقر. وعن ابن عباس: فتنتكم؛ أي: تكذيبكم، أي: عقاب تكذيبكم. أي: إن الذين اتقوا ربهم بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا في بساتين وعيون ماء في الآخرة. قال: {آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي: آخذين في الدنيا، وعاملين بما أفترضه عليهم ربهم من فرائضه وطاعته. قال ابن عباس: آخذين ما أتاهم ربهم، قال: الفرائض. وقيل معناه آخذين ما أتاهم ربهم في الجنة، وهو حال من المتقين في القولين جميعاً إلا أنك إذا جعلته في الجنة، كانت حالاً مقدرة. ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي: كانوا في الدنيا قبل دخولهم الجنة محسنين في أعمالهم الصالحة لأنفسهم.

17

وقال ابن عباس: {قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي: قبل أن تفترض عليهم الفرائض. قوله {كَانُواْ قَلِيلاً}. قال قتادة: معناه: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون: أي: قليلاً الوقت الذي لا يرقدون فيه (فما) بمعنى (لا). قال قتادة: كانوا يتيقظون فيصلون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء. قال قطرب: معناه ما مِنْ ليلة أتت عليهم إلا صلوا فيها.

وقال ابن عباس: معناه أنه لم تكن (تمضي عليهم ليلة) لا يأخذون منها، ولو شيئاً. وقال أبو العالية: معناه كانوا لا ينامون بين (المغرب والعشاء)، وعنه كانوا يصيبون في الليلة حظاً. وقال الحسن: معناه أنهم (كابدوا) قيام الليل، فلا ينامون منه إلا قليلاً، وقاله (الأحنف بن قيس). وروى ابن وهب أنه يراد بها ما بين المغرب والعشاء. قال: كانت الأنصار يصلون المغرب وينصرفون إلى قباء فبدا لهم، فأقاموا حتى صلوا العشاء، فنزلت الآية

فيهم. وقوله: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: إنهم يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي A. وقال الضحاك: {كَانُواْ قَلِيلاً} مردود على ما قبله، وهو تمام الكلام، فالمعنى / أنهم كانوا قبل ذلك محسنين، كانوا قليلاً، أي: كان المحسنون قليلا من الناس. ثم ابتدأ {مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} " فما " نافية على هذا القول، " وما " على القوال الأول مع الفعل مصدر. وقال النخعي: معناه: كانوا قليلاً ينامون، فيحتمل أن تكون " ما " زائدة على هذا القول، وأن تكون والفعل مصدراً. والهجوع في اللغة: النوم، وهو قول ابن عباس والنخعي والضحاك وابن زيد.

وروى ابن وهب عن مجاهد أنه قال في معنى الآية: كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا أصابوا منها خيراً. وروى ابن وهب أيضاً في جامعه عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن ناساً كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار من أول الليل [ثم يهجعون قليلاً ثم يصلون آخر ذلك قال الله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ}] يعني: في نضحهم.

ثم قال: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فكأنه تعالى مدحهم أنهم لم يشغلهم في أول الليل، وتعبهم في النضح حتى قاموا يصلون في آخر الليل. ثم قال: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، قال الضحاك: معناه يقومون فيصلون، أي: كانوا يقومون وينامون، وهو قول مجاهد. وقال الحسن: (مدوا الصلاة وبسطوا) حتى كان الاستغفار في السحر، يعني الاستغفار من الذنوب. قال ابن زيد: هو الاستغفار، قال وبلغنا أن نبي الله يعقوب A حين سأله بنوه أن يستغفر لهم، فقالوا: {قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} [يوسف: 98] قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} [يوسف: 98]، أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر. قال: وقال بعض أهل العلم أن الساعة التي تفتح فيها أبواب الجنة هي في السحر. قال ابن زيد: السحر: السدس الآخر من الليل.

19

وروى حماد بن سلمة عن الجريري أن داود عليه السلام سأل جبريل عليه السلام أي: ساعة من الليل أسمع، قال: لا أدري إلا أن العرش يهتز في السحر. قال الجريري: فذكرت هذا لسعيد بن أبي الحسن، فقال: أما ترى أن ريح الرياحين يفوح في السحر. أي: وفي أموال المتقين المحسنين الذين تقدمت صفتهم أنهم في جنات وعيون حق لسائلهم المحتاج إلى ما في

أيديهم والمحروم. وهذه الآية محكمة. في قول الحسن والنخعي، قالا في المال / حق سوى الزكاة. وقال الضحاك وغيره: هذه الآية منسوخة بالزكاة. قال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن. وللعلماء في المحروم ثمانية أقوال: قال ابن عباس: السائل: الذي يسأل، والمحروم: الذي لا يبقى له مال وعنه أيضاً أنه قال: المحروم: المحارف. وقال محمد بن الحنفية المحروم: الذي لم يشهد الحرب، فيكون له سهم في الغنيمة.

وقال زيد بن أسلم: المحروم الذي لحقته جائحة فأتلفت زرعه. وقال الزهري: المحروم: الذي لا يسأل الناس إلحافاً. وروى عنه ابن وهب أنه قال: المحروم: المتعفف الذي لا يسأل إلحافا، ولا يعرفون مكانه ليتصدقوا عليه، وتصديق قول الزهري ما روى أبو هريرة عن النبي A أنه [قيل] له: " من المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لا يجد ما يغنيه، ولا يفطن له فيعطى، ولا يسأل الناس " ". وقال عكرمة: المحروم الذي لا ينمى له شيء. والقول الثامن: يروى عن عمر بن عبد العزيز Bهـ أنه قال:

20

المحروم: الكلب. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: المحروم: الفقير الذي يحرم الرزق. والوقف عند يعقوب في الآية {كَانُواْ قَلِيلاً} على قول الضحاك، وتفسيره أي: كان الناس الذين هم محسنون قليلاً. وكذلك روي عن نافع، وقد تقدم ذكر ذلك. قوله: {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ}. أي: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين بالله إذا ساروا فيها. قال قتادة: في الأرض معتبر لمن اعتبر. وقال ابن جبير: إذا ساروا في الأرض رأوا عبراً، وآيات عظاماً. ثم قال: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.

قال ابن الزبير: معناه وفي سبيل الخلاء، يعني سبيل الغائط [والبول] من أنفسكم أفلا تبصرون، أي: في خلق ذلك وتدبيره وتيسيره عبرة لمن اعتبر. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين أفلا تبصرون. وقيل: هو على الحذف / لدلالة الأول عليه تقديره وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون. وقال قتادة: معناه أن يتفكر الإنسان في نفسه فيعرف أنه إنما لينت مفاصله للعبادة. وقال ابن زيد: معناه: وفي خلقكم من تراب وجعله لكم السمع والبصر والفؤاد وغير ذلك [عبرة] لمن أعتبر، وهو مثل قوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم: 20].

22

وقيل: معناه: وتأكلون وتشربون في مدخل واحد ويخرج من موضعين. يعني: المطر الذي يخرج به النبات قاله الضحاك وسفيان ابن عيينة وغيرهما. وقال الثوري: معناه ومن عند الله الذي في السماء رزقكم. وقيل: معناه: وفي السماء تقدير رزقكم، أي: فيها مكتوب يرزق فلان كذا وفلان كذا. وقال مجاهد: معنى: {وَمَا تُوعَدُونَ} [يعني من خير وشر. وقال الضحاك معناه: وما توعدون] من الجنة والنار في السماء هو.

23

وقال سفيان [بن عيينة]: {وَمَا تُوعَدُونَ}: يعني الجنة. قال: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} هذا قسم الله جل ذكره بنفسه، أن الذي أخبرهم به من أن رزقهم في السماء وفيها ما يوعدون حق، كما أنهم ينطقون حق. قال الحسن: بلغني أن النبي A قال: " قاتل الله D أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه " ومن نصب " مثل " فهو عند سيبويه مبني لما أضيف إلى غير متمكن ونظيره {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 65] في قراءة من فتح. وقال الكسائي: هو نصب على القطع، ونصبه الفراء على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره إنه (لحق كمثل ذلك حقاً) مثل نطقكم، وأجاز أن يكون أنتصب على حذف الكاف، والتقدير عنده " أنه لحق كمثل ما أنكم "، فلما حذف الكاف نصب، وأجاز زيد مثلك بالنصب على تقدير حذف الكاف، ويلزمه على هذا أن يجيز " عبد الله الأسد " بالنصب على تقدير " كالأسد "، فينصبه إذا حُذف الكاف، وهذا لا

24

يجيزه أحد. وقد امتنع من إجازته الفراء وغيره، واعتذر في جوازه مع " مثل " أن الكاف تقوم مقام " مثل " فأما من رفعه، فإنه جعله نعتاً لحق. هذه الآية تنبيه للنبي A أنه يحل بقومه إن تمادوا على غيهم ما أحل بقوم لوط، ومذكر قريشاً لما فعل بالأمم قبلهم، إذ كفروا وعصوا ليزدجروا ويتعظوا، وإنما قيل لهم " المكرمين " لأن إبراهيم وسارة خدماهم بأنفسهما على جلالة قدرهما. وقال مجاهد: أكرمهم إبراهيم وأمر أهله لهم بالعجل. وقيل إنما وصفوا [بذلك] لأن الله أكرمهم واختارهم إذ أرسلهم إلى إبراهيم وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل (صلوات الله عليهم). قال: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي: حين دخلوا على إبراهيم: {فَقَالُواْ سَلاَماً} أي: سلَّموا سلاماً.

26

وقال المبرد: معناه / سلمنا سلاماً، فهو مصدر عنده. وأبو حاتم يرى أن " سلاماً " وقف كاف، قال سلاماً كاف أيضاً. قوله: {قَالَ سَلاَمٌ} أي: قال لهم إبراهيم سلام عليكم. ومن قرأ سلام فمعناه قال لهم إبراهيم: أنتم سلام {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي: ننكركم ولا نعرفكم. قال: {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} أي: عدل إليهم، ورجع في خفية. {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} جاء أضيافه بعجل مشوي سمين، وكان عامة مال إبراهيم A البقر. في هذا الكلام حذف، والتقدير: فقربه إليهم فأمسكوا عن الأكل، فقال: ألا تأكلون؟ {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي: أضمر في نفسه منهم خوفاً حين امتنعوا من الأكل. {قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} أي: عليم إذا كبر.

29

قال مجاهد: هو إسماعيل، وقال غيره هو إسحاق. ومذهب الطبري. وهو الصواب إن شاء الله أنها: سارة الحرة، وأم إسماعيل إنما كانت أمة اسمها هاجر. ويدل على أنه إسحاق قوله في موضع آخر {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}، فهذا نص ظاهر لا يحتاج إلى تأويل. {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ}. المعنى: فأقبلت امرأته سارة في صرة أي: في صيحة. ومعنى أقبلت: أخذت في فعل الأمر، وليس هو بإقبال / نقلة من مكان.

وهو كقول القائل (أقبل فلان يشتمني، أي: أخذ في ذلك). وقال قتادة: في صرة: في رنة. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: في صرة: في صيحة. وقال بعضهم تلك الصيحة هو قوله: " فصكت وجهها ". قال ابن عباس: لطمته. وقال السدي: لما بشر جبريل عليه السلام سارة بإسحاق ضربت وجهها تعجباً. وقال مجاهد: ضربت جبهتها تعجباً. وقال سفيان: وضعت يدها على جبهتها تعجباً. وقيل: إنما ضربت وجهها بأصابعها. ثم قال: {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي: أنا عجوز عقيم فكيف ألد، والعقيم

30

التي لا تلد. {قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي: قالت لها الرسل هكذا قال ربك، أي: كما أخبرناك وقلنا لك. {إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} أي: الحكيم في تدبيره خلقه، العليم بمصالحهم، وبما كان وبما كائن. قال: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} أي: قال إبراهيم للرسل: ما شأنكم أيها الرسل وما نبأكم، قالوا: إنا أرسلنا ربنا إلى قوم مجرمين، أي: كافرين. {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} أي: من السماء نرسلها عليهم. ومعنى {مِّن طِينٍ} من أجر مسومة عند ربك: أي: معلمة. وقيل: معناه: مرسلة. من سومت الإبل: إذا أرسلتها. وقال ابن عباس مسومة: مختوم عليها، يكون الحجر أبيض عليه نقطة سوداء، ويكون أسود عليه نقطة بيضاء. {لِلْمُسْرِفِينَ} أي: للمعتدين حدود الله D.

35

وعن ابن عباس في " مسومة " أنها المعلمة بعلامة تعرف بها الملائكة أنها للمسرفين في المعاصي. وقيل: إنه كان مكتوب على كل حجر أسم من يهلك به. قال: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين (*) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} أي: من كان في قرية لوط وهي " سدوم " وهم لوط وابنتهاه، أنجاهم الله مع لوط. وجاز إضمار القرية ولم يجر لها ذكر؛ لأن المعنى مفهوم. وقيل الهاء في " فيها " للجماعة. {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا} أي: في القرية {غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} وهو بيت لوط. قال ابن زيد: ما كان مع لوط مؤمن واحد، وعرض عليهم أن ينكحوا بناته رجاء أن يكون له منهم عضد يعينه (ويدفع عنه)، {قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يريد النكاح فأبوا عليه.

37

قال قتادة: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم الله ليعلموا أن الإيمان عند الله محفوظ فلا ضيعة على أهله. أي: أبقينا في قرية لوط عبرة وعظة لمن خاف عذاب الله؛ لأنها انقلبت بأهلها، فصار أعلاها أسفلها، وأرسلت الحجارة على من غاب منهم عن القرية. والمعنى عند الفراء: وتركناها آية، " وفي " زائدة. قوله: {وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ}. أي: وفي موسى آية أيضاً إذ أرسلناه إلى فرعون بمصر. {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي: بحجة تبيّن لمن رآها حجة لموسى A على صحة ما يدعو إليه، فهو معطوف على " وفي الأرض " (ومثله " وفي ثمود " كله معطوف بعضه على بعض مع الاعتراضات بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك " وقوم

39

نوح " على قراءة من خفضه هو معطوف أيضاً على " وفي الأرض "). قال: {فتولى بِرُكْنِهِ} أي: فأدبر فرعون بجنوده وقومه عن الإيمان لما أتته الآيات البينات. قال مجاهد: بركنه: بجنده وبأصحابه. وقال قتادة: بركنه: بقوته. وقال ابن زيد: بركنه: بجموعه التي معه. وقرأ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 79] أي: لو أن لي قوة من الناس، أو آوي إلى ركن / أجاهدكم به. قال الفراء بركنه: بنفسه.

40

وحقيقة بركنه في اللغة، بجانبه الذي يتقوى به. ثم قال: {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي: قال ذلك فرعون في موسى. قال أبو عبيدة: إن " أو " بمعنى الواو و " أو " على بابها عند البصريين، ومعناها أنهم قالوا: هو ساحر يسحر عيون الناس أو هو مجنون به جنة. قال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} أي: أخذنا فرعون وجنوده بالغضب فألقيناهم في البحر فغرقناهم. وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} معناه: وفرعون مسلم؛ أي: أتى ما يلام عليه. قال: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح} [أي: وفي عاد عبرة أيضاً وعناية لكم حين أرسلنا عليهم الريح] التي قد عقمت عن الخير، لا رحمة فيها ولا تلقح / نباتاً ولا تثير سحاباً.

وروى ابن أبي الدنيا أن الريح كانت تمر بالمرأة في هودجها فتحملها [وبالقوم من عاد فتحملهم وبالإبل والغنم فتحملها]، وتمر بالعادي الواحد بين القوم فتحمله من بينهم والناس ينظرون، (ولا) تحمل إلا عادياً. قال ابن المسيب: هي الجنوب.

وكان النبي A يقول: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور. وقال علي بن أبي طالب: هي النكباء. وقال عبيد بن عمير: الريح العقيم تحت الأرض الرابعة، وإنما أرسل منها في بلاد عاد بقدر منخر الثور. وقوله: {كالرميم} معناه كالنبت إذا يبس ودرس، وأصل الرميم: العظم البالي المتقادم. وقال ابن عباس: كالرميم: كالشيء الهالك، وقال مجاهد: وقال قتادة:

43

كالرميم رميم الشجر. قال: {وَفِي ثَمُودَ} عبرة وعظة. {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} إلى ثلاثة أيام. {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} وقيل معناه: تمتعوا إلى وقت فناء آجالكم. أي قال: {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي: تكبروا عن طاعة ربهم. قال مجاهد: عتوا: علوا. وقال ابن زيد العاتي: العاصي التارك لأمر الله. {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي: صاعقة العذاب. {وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي: فجأة، ومعنى ينظرون أي ينتظرون، لأنهم وعدوا بالعذاب قبل نزوله بثلاثة أيام، وجعل لنزوله علامات. فظهرت العلامات في الثلاثة الأيام، فأصبحوا في اليوم الرابع موقنين بالعذاب ينتظرون حلوله. قال: {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي: فما استطاعوا من دافع لما نزل لهم من عذاب الله، ولا قدروا على نهوض به.

46

ثم قال: {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} أي: وما كانوا يقدرون على أن يستقيدوا ممن عاقبهم. قال قتادة: معناه: وما كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة. من نصب " قوماً " عطفه على الهاء، والميم في فأخذتهم الصاعقة أي: أخذتهم وأخذت قوم نوح. وقيل التقدير: وأهلكت قوم نوح. وقيل التقدير: وأذكر قوم نوح. وقيل هو معطوف على الهاء في قوله: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} أي: أخذنا فرعون وجنوده وأخذنا قوم نوح؛ لأن الفريقين ماتوا بالغرق. ومن خفض عطفه على عاد، وفي عاد، وفي قوم نوح، والتقدير على

47

الخفض: وفي قوم نوح أيضاً عبرة وعظة لكم إذا أهلكناهم من قبل ثمود لما كفروا وكذبوا نوحاً. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} أي: خارجين عن الحق مخالفين لأمر الله، فكله معطوف على {وَفِي الأرض آيَاتٌ}. قوله: {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ}. نصب السماء على فعل مضمر تقديره: " وبنينا السماء بنيناها بأيد " أي: بقوة وقدرة، أي: والسماء رفعنا سقفها بقوة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسفيان وغيرهم. {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي: لذوو سعة بخلقها وخلق ما شئنا أن نخلقه. أي: والأرض جعلناها فراشاً للخلق ومهاداً، فنعم الماهدون نحن لهم.

49

قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} التقدير: ومن كل شيء خلقناه زوجين، أي: جنسين ذكراً وأنثى وحلواً وحامضاً، قاله ابن زيد والفراء. وقيل معناه: خلقنا نوعين مختلفين كالشقاء والسعادة، والهدى والضلالة والإيمان والكفر، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجن. قاله مجاهد. وقال الحسن: هو مثل الشمس والقمر. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: فعلنا ذلك لعلكم تعتبرون فتعلمون أن القادر على ذلك مستوجب للعبادة / والطاعة. قال: {ففروا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ} أي: فاهربوا من عذاب الله إلى الله بالإعمال الصالحات. {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم عقابه، وأبين لكم النذارة. (وقيل معناه: فروا إلى الله من أمر الله). س قال: {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي: لا تعبدوا إلهاً آخر، إنما هو

52

الله واحد، إني لكم منه نذير مبين كالأول. فالأول تخويف من الله لمن عصاه من الموحدين، والثاني تخويف لمن عبد معه غيره من المشركين، " وكذلك " تمام عند أبي حاتم وأحمد ابن موسى وعند غيرهما " مبين " الثاني، والكاف من " كذلك " إن وقفت عليها في موضع رفع، أي: الأمر / كذلك، ومن ابتدأ بها، فهي في موضع نصب. أي: فعل قريش مثل فعل من كان قبلهم في قولهم للرسول ساحر أو مجنون، والتقدير كما كذبت قريش محمداً كذلك كذبت الأمم من قبلها رسلهم، وكما قالت في محمد قريش، كذلك قالت الأمم (قبلها، كأنهم تواصوا على ذلك). أي: كما فعلت قريش بمحمد A وكذلك فعلت الأمم قبلها. قال: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} أي: أوصى بذلك بعضهم بعضاً.

54

قال قتادة: معناه: كأن الأول أوصى الآخر بالتكذيب. ثم قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: لم يتواصوا بذلك لكنهم اتفقوا في الطغيان والعصيان فركبوا طريقة واحدة في التكذيب لرسلهم، والكفر بالله سبحانه. قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} أي: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين حتى يأتيك أمر الله فيهم. {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} أي: لا يلومك ربك على إعراضك عنهم. وقال ابن زيد: معناه: بلغت ما أرسلناك به فلست بملوم. قال قتادة: ذكر لنا أنه لما نزلت هذه الآية اشتد على أصحاب النبي A، وظنوا أن الوحي قد أنقطع، وأن العذاب قد حضر فأنزل الله بعد ذلك {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين}. وقال الضحاك: التوالي منسوخ؛ لأنه قد أمر بالإقبال عليهم، والموعظة لهم، والمعنى وذكِّر يا محمد من أرسلت إليه، فإن العظة تنفع أهل الإيمان بالله. وقيل: المعنى: وذكَّرهم بالعقوبة والهلاك وبأيام الله. وليس قوله {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} بوقف؛ لأنه لم يؤمر بالتولي فقط، بل أمر معه

56

بالتذكير. والتمام {تَنفَعُ المؤمنين}. يعني: من المؤمنين المتقدم ذكرهم، لم يخلق المؤمن من الجن والإنس إلا للعبادة. يعني: من علم منهم أنه يؤمن، فخلقه لما علم منه، وهو الإيمان. وقيل معنى الآية: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفوني، فكل الخلق مقر بالله عارف به كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25]. وقيل المعنى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأستعبدهم واختبرهم، فقد استعبد الجميع وأمرهم ونهاهم، فكفر فريق، وآمن فريق على ما علم منهم قبل خلقه لهم. ويدل على أن الآية ليست على العموم كثرة من يموت قبل وجوب العبادة عليه، نحو الأطفال، وكثرة من يعيش معتوهاً لا تجب عليه عبادة، فدل ذلك على أن الآية خصوص فيمن علم منه العبادة والطاعة من الجن والإنس خلقه (له) ليعبده

كما علم منه ذلك؛ فيجازيه على ذلك، لأن علمه بطاعتهم لا يجازون عليها حتى يخلقهم ويعملون، فخلقهم ليعملوا فتقع المجازات على ما ظهر من طاعتهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك، فإنما عني أنه خلق المؤمنين من الجن والإنس الذين تنفعهم الذكرى لعبادته فكانوا كذلك كما قال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]. وقد قال تعالى ذكره: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5]. ثم قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: 6] يعني الأبرار خاصة المذكورين ليس يريد كل عباد الله، فهذا مثل ذلك، وقد قال علي بن أبي طالب Bهـ في الآية. معناها: ما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي اختياراً. (وقيل معناه: ما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليوحدون). وقال ابن عباس: إلا ليعبدون؛ أي: من خلقت منهم لعبادتي خصوصاً يعني المؤمنين منهم.

57

وقال زيد بن أسلم: إلا ليعبدون: هو ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة. وقال سفيان، معناه: من خلق للعبادة منهم لم يخلق إلا لها. وقال ابن عباس: لم يخلق الفريقين إلا ليقروا بالعبادة طوعاً وكرهاً، فيكون عاماً وعلى الأقوال الأول يكون مخصوصاً. وقيل: المعنى ما خلقهم إلا ليأمرهم بالعبادة، فمن تقدم له منهم في علم الله الطاعة أطاع أمره، ومن تقدم له في علم الله المعصية عصى أمره. قال ابن عباس: معناه: ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها. وقيل المعنى ما أريد أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد

58

أن يطعموا عبادي /. أي: إن الله هو الرزاق خلقه، المتكفل بأقواتهم. ذو القوة المتين: أي: ذو القوة الشديدة. قال ابن عباس: المتين: الشديد. قال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي: فإن للذين أشركوا بالله من قريش نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية التي أشركت كما أشركوا، وكذبت كما كذبوا. وأصل الذَّنُوب: الدَّلْوُ العظيمة، وهي السجل كانوا يقتسمونها على الماء فيستسقى هذا حظه ونصيبه، وهذا حظه ونصيبه، فسمي الحظ والنصيب الذَّنُوب على الاستعارة. وقوله: {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} [أي: فلا يستعجلوا] العذاب فإنه آتيهم كما أتى الأمم الماضية الكافرة مثلهم. وقال ابن جبير معناه: فإن للذين ظلموا من قريش سجلاً من العذاب مثل سجل أصحابهم من الأمم الماضية، فلا يستعجلوا ذلك وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد.

60

أي: فقبوح لهم من يومهم. وقيل المعنى: فالواد السائل في جهنم من قيح وصديد لهم في يوم القيامة.

الطور

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والطور مكية سورة والطور مكية: قوله: (وَالطُّورِ) إلى قوله: (مِنْ دَافِعٍ) [1 - 7]. هذه الأقسام أقسم الله D بها أن عذابه لحال واقع لا بد منه. والتقدير: ورب الطور، ورب كتاب مسطور. فالطور جبل، قال نوف: أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فارتفعت وشمخت، إلا الطور فإنه تواضع وقال: أرضى بما قسم الله [لي]، فكان الأمر عليه.

وقيل هو بمدين وهو طور سيناء. قال مجاهد: الطور الجبل بالسريانية. وقوله: {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} رواه أحمد بن صالح عن نافع بالصاد، وأكثر الرواة عنه بالسين كالجماعة على خط المصحف، والسين هو الأصل، وإنما جاز فيها الصاد لأجل الطاء التي بعدها ليكون النطق (بمطبق مستقر قبل مطبق مجهور) والسين مهموسة وليست بمطبقة، فالفظ بها قيل: حرف مجهور فيه تكلف واختلاف في عمل اللسان، وإذا قرأت بالسين كان عمل اللسان في تسفل ثم يتصعد بعد ذلك، ففيه بعض المشقة ولهذا نظائر كثيرة قد مضت.

3

ومعنى المسطور: المكتوب. وهو الصحيفة، قيل يعني به ما تكتب الحفظة وتستنسخ من أعمال بني آدم التي سبقت في علم الله D قبل خلقه لهم. أي: يعمر بكثرة الدعاء والغشيان، روى أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبداً. وروي أنه كذلك في كل سماء بيت يقابل الذي تحته، وكلها تقابل الكعبة. وعن ابن عباس أنه كان يقول: إن لله D في السماوات والأرضين خمسة عشر بيتاً، سبعة في الأرضين وسبعة في السماوات والكعبة محادية كلها. روي أن النبي A قال: " رفع لي البيت المعمور فقلت: يا جبريل ما هذا؟

5

قال: البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا ". وقال علي بن أبي طالب Bهـ: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً. وعنه قال: هو في السماء السادسة. وعن ابن عباس أنه قال: هو بيت حذاء العرش. وقوله: {والسقف المرفوع} يعني به السماء. كقوله: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وقوله: {والبحر المسجور}. قال مجاهد: المسجور الموقد، ومثله {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي: أوقدت من شجرة التنور إذا أوقدت، وهو قول ابن زيد.

7

وسأل علي بن أبي طالب رجلاً من اليهود فقال له: أين جهنم، فقال اليهودي: في البحر، فقال علي: ما أراه إلا صادقاً. وقال قتادة: المسجور: المملوء بالماء. وقيل معناه: المملوء بالنار. وقال ابن عباس: المسجور: الذي ذهب ماؤه، وسجره: ذهب مائه حين يفجر. وعن ابن عباس أيضاً المسجور: المحبوس. وعن علي بن أبي طالب Bهـ قال: هو بحر تحت العرش. أي: هو كائن ليس له راد يرده عن الكفار يوم القيامة، " وَإِنَّ " هي جواب القسم. قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} إلى قوله: (وَلَا تَأْثِيمٌ) الآيات [9 - 21].

معناه أن عذاب ربك يا محمد لحال بالكافرين في يوم تمور السماء موراً: أي: تدور وتتحرك. قال مجاهد: تمور مَوْراً: تدور دوراً. قال قتادة: مورها: تحركها. وقال الضحاك: مورها: استدارتها وتحركها لأمر الله D موج بعضها في بعض. وقال ابن عباس: مورها: تشققها. وقيل: معنى تمور: تَتَكَّفأ كما تَتَكفَّأ السفينة حتى تذهب فلا تكون شيئاً،

11

وتسير الجبال عن أماكنها كما تسير السحاب. وقيل: {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً}، أي: تسير عن أماكنها من الأرض، فتصير هباءً منبثاً. أي: فالواد السائل من قبح وصديد في جهنم لهم، ودخلت الفاء في " فويل " لجواب الجملة التي قبلها؛ لأن الجملة فيها إبهام، فشابهت الشرط فجوبت بالفاء كما يجاب الشرط. أي: في فتنة واختلاط في الدنيا غافلين لاهين عما هم صائرون إليه. أي: يدفعون ويرهقون إليها دفعاً. يقال هذه النار التي كنتم تكذبون

15

وتجحدون، أي: تردونها وتصلونها. أي: يقال لهم يوم القيامة حين يعاينون العذتب، [أفسحر هذا الذي وردتموه أم أنتم لا تعاينونه وهذا الكلام معناه التوبيخ والتقريع]، وتحقيق العطف أن معناه: " بل أنتم " فهو خروج من أمر إلى أمر، أي: لا تبصرون الحق، وقد كانوا يبصرون، لكنه توبيخ لهم وتقريع وتوقيف على صحة ما كانوا يكذبوا به من النار، فهو من بصر القلب لا من بصر العين. قال: {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: ذوقوا حر هذه النار فاصبروا على ألمها وشدتها أو لا تصبروا على ذلك، سواء عليكم أصبرتم أن جزعتم، لا بد لكم من الخلود فيها مجازاة لكم بأعمالكم في الدنيا وكفركم بالله سبحانه فلفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر عنهم دليله قوله بعد ذلك: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ}، أي: سواء عليكم الجزع والصبر. أي: إن الذين اتقوا الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في بساتين ونعيم في الآخرة. وقال الحسن: {المتقين} هم الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا ما أفترض عليهم.

وقال ابن عباس: إنما سمي المتقون لأنهم ذكروا الله عند طاعته فأخذوا بها تقية له، وذكروه عند معصيته فتركوها تقية له. قال ميمون بن مهران: [لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه]. وقال الحسن: من اتقى الشرك فهو متق، ولو زاد الحسن في قوله " والكبائر " لكان قولاً مختاراً. وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي العبد الله حتى يتقيه في مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خيفة أن يكون حراماً فيكون حجاباً بينه وبين

18

الحرام، فأن الله قد بين للعباد ما هم صائرون إليه. وقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، فلا تحقرن شيئاً من الشر أن تتقيه، ولا شيئاً من الخير أن تفعله. قوله {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ}. أي: عندهم فاكهة كثيرة. تقول العرب: هو رجل تامر ولابن: إذا كان عنده تمر كثير ولبن. وقيل معنى فاكهين: طيبي الأنفس، ضاحكين بما أعطاهم ربهم في الآخرة من النعيم وبما دفع عنهم من عذاب النار. قال: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} أي: يقال لهم كلوا واشربوا في الجنة هنيئاً، لا تخافون انتقالاً ولا موتاً ولا هرماً ولا مرضاً جزاء لهم بعملكم في الدنيا.

{مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [أي]: على نمارق وعلى سرر جعلت صفوفاً. وترك ذكر " النمارق " لدلالة الكلام عليها /. ثم قال: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي: جعلنا للذكور من هؤلاء، المتقين أزواجاً بحور عين قربناهم بهم. والحور: جمع حوراء، وهي الشديدة بياض مقلة العين في شدة سواد الحدقة. والعين: جمع عيناء، وهي العظيمة العين في حسن سعة. قال الضحاك: {بِحُورٍ عِينٍ}، بيض حسان العيون /. والحَوَرُ في اللغة: البياض، ومنه قيل الحواري، وقيل: للقصار حوار، ولصفوة الأنبياء حواريون.

21

{مَّصْفُوفَةٍ}: تمام عند نافع. قال: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ}. قال ابن عباس: هو المؤمن (يرفع الله ذريته) لتقر بذلك عينه وإن كانوا دونه في العمل. وعن ابن عباس أنه قال: المؤمن تتبعه ذريته بإيمان يلحق الله به ذريته الصغار التي لم تبلغ الإيمان. وروى عبادة بن الصامت عن كعب الأحبار أنه قال: والذي نفسي بيده إن أطفال المسلمين ليقدسون حول العرش، ويسبحون، ويحمدون الله، وما من أحد أكرم على الله D منهم، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تبارك وتعالى: ادخلوا الجنة

فيقولون: ربَّنا وآباؤنا، فيقال لهم ويقولون ثلاث مرات: وآباؤنا فيقول الله D في الثالثة: ادخلوا الجنة وآباؤكم معكم. قوله: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي: ولم ينقص الآباء من عملهم شيئا. وقال الضحاك معناها: من أدرك ذريته الإيمان فعمل بطاعتي ألْحقتهم بآبائهم في الجنة، وأولادهم الصغار أيضاً على ذلك. وقال ابن زيد بمثل هذا القول إلا أنه جعل الهاء، والميم في {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} من ذكر الذرية، فالمعنى عنده: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بالإيمان [ألحقنا بالذرية] أبناءهم الصغار الذين لم يلحقوا الإيمان ولم يبلغوا العمل. وقيل المعنى: إن الله D ذكره ليضل (الذرية الجنة) بعمل الآباء إذا كانوا مؤمنين من غير أن ينقص الآباء من أجرهم شيئاً، قاله عامر وابن جبير.

22

وقال النخعي: يعطي الله ذرية الرجل إذ اتبعوه على افيمان من الأجر مثل ما أعطاه الآباء من غير أن ينقص الآباء شيئاً من أجرهم. وقاله الربيع. وقال قتادة: عملت الذرية بطاعة الله، فألحقهم الله بآبائهم وما نقص الآباء من أجورهم شيئاً. ثم قال: {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي: كل إنسان مرتهن بما عمل من خير وشر، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. أي: أمددنا هؤلاء الذين اتبعتهم ذريتهم بإيمان مع ذرياتهم بفاكهة وبلحم مما يشتهون من اللُّحمان. قال: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي: يتعاطون في الجنة كأس الشراب، ويتناولونه بينهم. لا لغو في الكأس: أي: لا يلغو من شربها كما تفعل خمر الدنيا. {وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي: ولا يأثم من شربها كما يأثم من شرب خمر الدنيا. وقيل: التأثيم هنا: الكذب، واللغو: الباطل.

24

قوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ}. أي: يطوف على هؤلاء الذين تقدمت صفتهم غلمان لهم كأنهم اللؤلؤ المكنون في بياضه وصفائه. والمكنون: المصون، أي: يطوفون عليهم في الجنة بكؤوس الشراب الذي تقدمت صفته. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال: " يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: والذي نفسي بيده إن فضل الخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ". أي: أقبل بعض المؤمنين يسأل عن حال بعض. قال ابن عباس: يتساءلون حين بعثوا في النفخة الثانية. قيل: إنهم يقول بعضهم لبعض ما صيرك إلى هذه المنزلة الرفيعة. ثم قال: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) [24] أي: قال بعضهم

27

لبعض: إنا كنا من قبل في الدنيا مشفقين خائفين من عذاب الله D فمنَّ الله علينا بفضله، فغفر الصغائر وترك المحاسبة على النعم المستغرقة للأعمال. قال النبي A: " " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ". قال: {وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} أي: (عذاب النار) وأدخلنا الجنة. وقيل معناه إذا أمر الكفار بالانطلاق إلى ظل ذي ثلاث شعب من دخان النار أمر بالمؤمنين إلى ظل من ظل الله، فتقف كل طائفة في الظل الذي أمرت به إليه حتى يفرغ من الحساب، فعند ذلك يقول المؤمنون: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} وهو الظل ذو ثلاث / شعب.

28

قال: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ / نَدْعُوهُ} هذا كله قول المؤمنين، أي: كنا في الدنيا نعبده، ونخلص العمل له {إِنَّهُ هُوَ البر} أي: اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه أن يعذبهم بعد توبتهم. أي: فذكر يا محمد من أرسلناك إليهم من قومك وعظهم فلست بفضل ربك عليك بكاهن كما يقول المشركون ولا بمجنون، ولكن رسول الله. أي: بل يقول المشركون في محمد A هو شاعر نتربص به حوادث الدهر تكفيناه بموت أو بحادثة متلفة. قال ابن عباس: إن قريشاً اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي A، فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به الموت حتى يهلك كما هلك قبله من الشعراء، إنما

31

هو كأحدهم، فأنزل الله D: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} والمنون: الموت، وهو واحد لا جمع له، قاله الأصمعي. وقال الأخفش: المنون: جمع لا واحد له. وقال الفراء: هو الواحد والجمع. والدهر يسمى بالمنون لأنه يذهب بمنة الحيوان، أي: بقوتها. وقال أبو عبيدة: قيل للدهر " منون " لأنه مضعف من قوله " حبل منين " إذا كان بالياً ضعيفاً. أي: قل لهم يا محمد انتظروا وتمهلوا في ريب المنون، فإني متربص معكم حتى يأتي أمر الله تعالى فيكم وفيّ. قال: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} أي: أن تأمرهم عقولهم وألبابهم بأن يقولوا لمن جاءهم بالحق شاعر ومجنون، بل هم قوم طاغون. وقيل: المعنى: أم تأمرهم عقولهم بأن يعبدوا الأصنام ويتركوا عبادة خالقهم

35

ورازقهم بل هم قوم قد طغوا وبغوا فتجاوزوا أمر ربهم و " أَمْ " في هذا كله بمعنى " بل ". ثم قال: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} أي: فليأت قائلو ذلك من المشركين بقرآن مثله فيكونوا صادقين في قولهم أن محمداً تقَوَّلَهُ. " أم " في موضع الألف، والتقدير: أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء وأمهات، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يفقهون لله حجة، ولا يتَّعظون بموعظة. وقيل المعنى: أخلقوا من غير صانع صنعهم ودبرهم، فهم لا يقبلون من أحد، أم هم الخالقون للأشياء، فلذلك لا ياتمرون لأمر الله سبحانه. وقيل المعنى: أم هم الخالقون لأنفسهم. وقيل معنى الآية: أم خلقوا لغير شيء؛ أي: أَخلقوا عبثاً لا يؤمرون ولا ينهون. أي: أفعلوا ذلك فيكونوا هم الخالقون.

37

ومعناه لم يخلقوا ذلك [بل] لا يوقنون؛ أي: لا يعلمون ما يلزمهم. وقيل المعنى: لم يتركوا قبول أمر ربهم لأنهم خلقوا السماوات والأرض ولكنهم تركوه لأنهم لا يوقنون بوعيد الله سبحانه، وما أعد من العذاب لمن عصى أمره، فهم يكفرون ويعصون؛ لأنهم لا يوقنون بالعقاب والمجازات. أي: أعندهم عطاء ربك فيستغنوا عنه، فيعرضوا عن أمره ونهيه أم هم المصيطرون. قال ابن عباس: المصيطرون: المسلطون، وعنه: المتولون. وقال أبو عبيدة: أم هم الأرباب، يقال: تسيطرت علي، أي: أتَّخذتني خولاً لَكَ. وقيل المعنى: أم هم الجبارون. أي: ألهم سلم (يرتقون) فيه إلى السماء يستمعون الوحي فيكونوا قد سمعوا صواب ما هم عليه من الكفر فيستمسكوا به، فإن كانوا يدعون ذلك، فليأتِ من يزعم أنه استمع بحجة تبين أنها حق.

39

ثم قال: / (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [37] أي: ألِربكم أيها المشركون البنات ولكم البنون كما تزعمون، هذه قسمة ضيزى. ثم قال: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [38] أي: أتسألهم يا محمد جعلاً على دعائك إياهم فتثقل عليهم إجابتك لذلك. قال قتادة: معناه هل سألت يا محمد هؤلاء القوم أجراً فجهدتهم فلا يستطيعون الإسلام. ثم قال: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) [39] أي: هم لا يعلمون الغيب فكيف يقولون لا نؤمن برسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويقولون شاعر نتربص به ريب المنون، فهم يكتبون؛ أي: يكتبون / للناس ما أرادوا ويخبرونهم له. قال: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي: أراد هؤلاء المشركون بدين الله وبرسوله كيداً، أي: مكراً وخديعة. {فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} أي: هم الممكور بهم المهلكون دون محمد ودينه ومن آمن به. ثم قال: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [41] أي: ألهم معبود يرزقهم ويخلقهم وينفعهم ويضرهم غير الله، سبحان الله عما يشركون. ثم قال: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) [42] أي: وإن ير هؤلاء المشركون قطعاً من السماء ساقطاً يقولوا هذا سحاب بعضه فوق

45

بعض وهذا إنما عني به قول المشركين للنبي A: لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وكذا وتسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، فقال جل ذكره لنبيه عليه السلام وإن ير هؤلاء المشركون (ما سألوا من الآيات) لم ينتقلوا عمّا هم عليه من التكذيب، ولقالوا: إنما هو سحاب مركوم؛ أي: سحاب بعضه فوق بعض. ثم قال: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [43] أي: فدع يا محمد هؤلاء الكفار حتى يلاقوا يوم موتهم، والصعق: الموت وذلك عند النفخة الأولى. {يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي: لا يغني عنهم مكرهم شيئاً، ولا ناصر لهم من عذاب الله D. قال: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} قال ابن عباس وغيره: هو عذاب القبر. وقال مجاهد: هو الجوع. وقال ابن زيد: هو مصائب الدنيا للمؤمن أجرٌ وللكافر تعجيل عذاب.

48

فالمعنى: لهؤلاء المشركين عذاب آخر (فبل يوم القيامة) وهو ما ذكرنا فلا يستعجلون به. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك أي: لا يؤمنون به فيعلمون أنه حال بهم. قال ابن الماجشون: سمعت محمد بن المنكدر يقول: بلغني أن الله تبارك وتعالى يسلط على الكافر في قبره دابة عمياء في يدها سوط من حديد في رأسه جمرة مثل غرب الجمل يضربه إلى يوم القيامة لا تراه ولا تسمع صوته فترحمه. ومعنى غرب الجمل: هو الدلو الذي يسقى به الجمل. قال: {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: امض يا محمد

49

لأمر ربك وتبليغ ما أرسلت به فإنك بمرأى منا [ونحن نحوطك] ونحفظك. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: حين تقوم من نومك قال: سبحان الله وبحمده، قاله سفيان. وقيل المعنى: (إذا قمت إلى الصلاة) المفروضة فقل سبحان الله وبحمده. وقيل: تقول سبحانك اللهم وبحمدك. وقيل التسبيح هنا تكبيرة الإحرام. يريد به صلاة العشاء الآخرة، وركعتا الفجر. وعن ابن عباس أنه التسبيح في أدبار الصلوات، وأكثرهم على أن {وَإِدْبَارَ النجوم}: وركعتا الفجر. وعن النبي A أنه قال: " هما خير من الدنيا جميعاً ".

وقال الضحاك وابن زيد {وَإِدْبَارَ النجوم}: صلاة الصبح بعينها وهو اختيار الطبري.

النجم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والنجم مكية سورة والنجم مكية قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) إلى قوله: (مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) الآيات [1 - 18]. قال مجاهد: النجم: الثريا، إذا هوى: إذا سقطت، فالمعنى: ورب الثريا، وعنه أن النجم هنا: القرآن، إذا هوى: إذا نزل، فالمعنى: والقرآن إذا نزل من السماء الدنيا. [قال ابن عباس: والنجم إذا هوى يعني به القرآن إذا نزل من السماء الدنيا].

مثل قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] أي: أقسم بنزول القرآن من سماء الدنيا. وروى قتادة أن عتبة بن أبي لهب قال: " كفرت برب النجم، فقال له النبي A: أما تخاف أن يأكلك كلب الله / فخرج في تجارة إلى اليمن فبينما هم قد عَرَّسُوا إذا سمع صوت الأسد، فقال لأصحابه: أنا مأكول فحدّقوا به وضرب على أصمختهم فناموا فجاء الأسد حتى أخذه فما سمعوا إلا صوته ". وقال الحسن: أقسم الله تعالى بالنجم إذا غاب.

2

وقال الفراء: أقسم بالقرآن لأنه نزل نجوماً. وقيل: يراد به النجم الذي ترمى به الشياطين. أي: ما جار محمد عن الحق ولا مال عنه، بل هو على استقامة وسداد. ومعنى {وَمَا غوى}: أي: ما خاب فيها طلبه من الرحمة. وقيل: معناه: ما صار غاوياً ولكنه رشيد سديد. يقال: غَوَى يَغْوِي مِنَ الغَيِّ، وغَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي إِذَا لم يُرْوَ مِنْ لَبَن أُمِّهِ حَتَّى يَمُوتَ هَزَالاً. قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي: ليس ينطق محمد A بهذا القرآن عن هواه، بل هو وحي أوحي إليه.

6

وقيل: هو خبر عن القرآن، أي: ما ينطق القرآن عن الهوى، دليله قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} فهذا هو القرآن بلا اختلاف، وهو قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} أي: إن هذا القرآن إلا وحي يوحيه الله D إلى محمد A مع جبريل عليه السلام، وبين ذلك بقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} أي: علَّم محمداً هذا القرآن ملك شديد القوى هو جبريل A. قال الفراء وغيره: قالت قريش إنما يقول من تلقائه فنزل نكذيبهم في هذه الآية وعلى هذا التفسير جميع المفسرين من الصحابة والتابيعن ومن بعدهم في هذه الآية، والقوى جمع قوة، وقيل: شديد الأسباب. قال: {ذُو مِرَّةٍ} قال ابن عباس: ذو منظر حسن. وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. وقال مجاهد: ذو مرة: ذو قوة، وكذلك [قال] سفيان وابن زيد يعني به

جبريل A. وكان الحسن يقول ذو مرة: هو الله D. وتم الكلام عند قوله: ذو مرة، ثم ابتداء بالفاء فقال: {فاستوى} (أي: استوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى. وقيل: هو الله سبحانه: أي: استوى) على العرش، وكذا أهل التفسير غير الحسن على أنه جبريل. وقيل: ذو مرة: ذو صحة جسم وسلامة من الآفات وهو اختيار الطبري ومنه قول النبي A: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّةٍ سوى ".

وقيل معناه: ذو قوة وشدة يعني جبريل A. روي: أن من قُوَّته اقتلع مدائن لوط الأربع، في كل مدينة مائة ألف من الناس بمساكنهم وأنعامهم بقادمتي جناحه حتى بلغ تخوم الأرض السابعة السفلى، فاقتلع المدائن من أصولها حتى بلغ بهن قرب سماء الدنيا، فسمع أهل السماء صياح الدجاج ونباح الكلاب ونهيق الحمير، ثم أهوى بها إلى الأرض ثم غشّاها بالحجارة، وهو قوله: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [هود: 82] وهو قوله في جبريل: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20]. وقول: {فاستوى} أي: فاستوى هذا الشديد القوي بصاحبكم محمد A بالأفق الأعلى، وذلك لما أسري به عليهما السلام، استوى هو وجبريل بمطلع الشمس الأعلى، وهو الأفق الأعلى، وهذا القول قال به الطبري والفراء.

وفيه العطف على المضمر المرفوع من غير تأكيد، وهو قبيح عند البصريين. [لأن وهو بالأفق معطوف على المضمر في فاستوى وكان القياس عند البصريين] فاستوى هو، وهو، أي: جبريل والنبي A. وقال الزجاج: الضمير لجبريل، يعني الضمير في فاستوى، وضمير " هو " كلاهما لجبريل عليه السلام، فلا يلزم في هذا القول عطف على مضمر مرفوع لأن الضميرين لواحد. لكن يكون " وهو بالأفق الأعلى " جملة في موضع الحال من المضمر في " فاستوى " أي: استوى جبريل في حال كونه بالأفق العلى. والمعنى: فاستوى جبريل وهو بالأفق الأعلى على صورته لأنه كان يتمثل للنبي على صورة رجل فأحب رسول الله A أن يراه على صورته، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق، فالمعنى: فاستوى جبريل عليه السلام في الأفق الأعلى على صورته على قول الزجاج، وأكثر المفسرين عليه، فالمضمر الذي هو في " استوى " لجبريل

8

وقوله " وهو " لجبريل أيضاً، وعلى القول الأول الضمير في " استوى " لجبريل. وقوله: " وهو " / لمحمد A، وقد وقع في العدد: " فاستوى وامرأته " فهذا يدل على أن " فاستوى " يتصل بما قبله. قال قتادة: الأفق: الذي يأتي منه النهار. وقال الحسن: أفق المشرق الأعلى بينهما. قوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} أي: ثم دنا جبريل من محمد A فتدلى إليه. وهو قول قتادة والحسن. وعن ابن عباس: ثم دنا الله تعالى ذكره من محمد فتدلى إليه؛ أي: أمره وحكمه. قال أنس: عرج جبريل برسول الله صلى الله عليهما وسلم ليلة الإسراء إلى السماء السابعة ثم علا به بما لا يعلمه إلا الله D حتى جاء به سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة (سبحانه وتعالى) فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى

(إليه جل ذكره) ما شاء، وأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة على أمته في كل يوم وليلة ثم ذكر الحديث بطوله. وقال الفراء: " الفاء " بمعنى " الواو " وتقديره عنده " ثم (دنا وتدلى "، ودنا) يعني جبريل / A وهو عنده مثل قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1] [أي: انشق القمر واقتربت الساعة، لأن انشقاق القمر من علامة اقتراب الساعة]. وقيل: معناه فكان جبريل من محمد صلى الله عليهما وسلم قاب قوسين أو أدنى. وقاب: معناه قدر، أو أدنى: فمعناه أو أقرب منه، و " أو " هنا جيء بها على ما تعقل العرب من مخاطباتها، والمعنى: فكان على مقدار يقدره الرائي منكم قدر

قوسين أو أقل [من] ذلك، فأوحى جبريل إلى محمد A ما أوحى [الله] إلى جبريل A. قال سفيان: قوسين: ذراعين، وكذلك روي عن ابن عباس. وقال مجاهد: وقتادة قاب قوسين: مقدار قوسين. وقيل معناه: كان منه على مقدار مثل، حيث يكون الوتر من القوس أو أقل من ذلك. قال عبد الله بن عمر: دنا منه جبريل حتى كان قدر ذراع وذراعين. (قال النبي A) : " رأيت جبريل له ست مائة جناح " وقال الكوفيون

10

" أو " بمعنى " الواو ". أوحى الله إلى محمد A ما شاء. وقيل: أوحى جبريل إلى عبد الله وهو محمد A ما شاء الله. وقيل معنى الآية: فكان الله جل ذكره من جبريل A قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إلى عبده جبريل ما شاء ليبلغه إلى محمد A. وقد تقدم قول من قال هو محمد قرب من ربه سبحانه هذا القرب. وروي أن النبي A سئل: " هل رأيت ربك؟ فقال: لم أراه بعيني ولكن رأيته بفؤادي. مرتين ثم تلا {ثُمَّ دَنَا فتدلى} ". عن أنس قال: قال رسول الله A: " لما عرج بي مضى جبريل حتى جاء الجنة قال: فدخلت فأعطيت الكوثر ثم مضى حتى جاء السدرة المنتهى فدنا ربك فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ". أي: ما كذب فؤاد محمد على محمد

12

فيما رآه ولكنه صدقه، ومن شدد فمعناه: ما كذب فؤاد محمد الذي رأى. قال ابن عباس: رأى ربه بفؤاده ولم يره بعينه، وقاله عكرمة. قال ابن عباس: اصطفى الله إبراهيم بالمَخَلَّة، واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمد بالرؤية. وقال ابن مسعود: الذي رأى فؤاده جبريل، وقاله الحسن وقتادة. قالوا: وهو الذي أراه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. أي: أفتجادلونه على ما يرى، ويقل: معناه أفتحاجونه على ما يرى، ومن قرأه بغير ألف فمعناه أفتجحدونه على ما يرى).

13

يقال مرائي حقي يمْرِيني مَريا، أي: جحدني. أي: رأى محمد جبريل مرة أخرى في هذا الموضع على صورته قاله مجاهد. وقاله الربيع، وهو قول ابن مسعود. وروي: " أن عائشة Bها سألت رسول الله A عن رؤية جبريل فقال: لم أره على صورته إلا هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من / السماء ساداً عظيم خلقه بين السماء والأرض ". وقال ابن عباس: رأى ربه بقلبه، فقال له رجل عند ذلك أليس قد قال: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 104] فقال له عكرمة: أليس ترى السماء؟ فقال: بلى، قال: أفكلها ترى.

ومعنى سدرة المنتهى أي: عند السدرة التي إليها ينتهي علم كل عالم. وقال كعب: هي سدرة في أصل العرش إليها ينتهي علم كل ملك مقرب أو نبي مرسل ما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله. وعن كعب أنه قال: إنها سدرة على رؤوس حملة العرش فإليها ينتهي علم الخلائق. وقال عبد الله: هي سدرة في السماء السادسة إليها ينتهي من يعرج من الأرض وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها. وقال الضحاك: في سدرة المنتهى: إليها ينتهي كل شيء من أمر الله جل ذكره لا يعدوها. وقيل هي الجنة التي آوى إليها آدم عليه السلام وإنها في السماء الرابعة. وقيل: هي سدرة إليها ينتهي كل من كان على سنّة رسول الله، روى ذلك عن النبي A وأنه لما انتهى إليها ليلة الإسراء قيل له: إلى هذه السدرة ينتهي كل أحد خلا من أمتك على سنتك.

وروى علي بن أبي طالب Bهـ: أن النبي A قال: " في سدرة المنتهى: نَبَقُها كَقِلال هَجَر ". وقال الربيع بن أنس: إليها تنتهي أرواح الشهداء، فلذلك سميت سدرة المنتهى. وقال قتادة: أخبرني أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن النبي A قال: " رأيت سدرة منتهاها في السماء السابعة نَبَقُهَا كَقِلالٍ هَجَرَ وورقها كأذان الفيلة يخرج من ساقها نهران باطنان ونهران ظاهران فقال: يا جبريل / ما هذا؟ فقال: أما

15

الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ". وعنه A أنه قال: " في صفتها: يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها ". أي: عند سدرة المنتهى جنة مأوى أرواح الشهداء. قال ابن عباس: هي عن يمين العرش وهي منزل الشهداء، وقاله قتادة وغيره. وقرأ ابن الزبير {جَنَّةُ المأوى} بالهاء، أي جنهُ المساء عندها أي: عند السدرة. جنَّ المساء يجنُّ: أي: سَتَرَهُ. يقال جنَّه الليل وأَجَنَّه.

16

وأنكر هذه القراءة ابن عباس ودعا على من يقرأ بها، وأنكرتها أيضاً عائشة Bها. وقال الفراء هي شاذة. أي: ولقد رأى محمد جبريل A في صورته مرة أخرى حين يغشى السدرة ما يغشى. قال عبد الله ومسروق ومجاهد والنخعي: غشي السدرة فراش من ذهب. قال يعقوب بن زيد " سئل النبي A عن قوله تعالى: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى}. فقال: رأيتها يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله ". وقال ابن عباس: غشيها رب القوة. قال مجاهد: كانت (أغصان السدرة) لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً فرآها محمد ورأى ربه بقلبه.

17

وقال الربيع بن أنس: غشيها نور الرب والملائكة يقعون عليها كما تقع الغربان على الشجر. أي: ما مال بصر محمد صلة الله عليه وسلم عن ما رأى ولا عدل ولا جاوز ما رأى. قال ابن عباس: معناه ما زاغ بصر محمد يمسناً ولا شمالاً، وما طغى. ما جاوز أمر ربه. أي: لقد رأى محمد A هناك من أعلام ربه سبحانه وأدلته الأدلة الكبرى. إن جعلت " من " زائدة كانت " الكبرى " نعتاً للآيات على اللفظ أو على الموضع، وإن جعلت " من " للتبعيض كانت " الكبرى " في موضع نصب برأَى، والكبرى في الأصل نعت تقديره: لقد رأَى الآية الكبرى من آيات ربه. قال عبد الله: رأَى رفرفاً أخضر من / الجنة قد سَدَّ الأُفُق. وقال ابن زيد: رأى جبريل في خلته التي خلق عليها في السماوات والأرض بينه وبينه قدر قوسين أو أدنى.

19

قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى}. رأيت من رؤية العين، ولذلك نصب بها، ولو كانت التي للسؤال والاستفتاء لم تتعدد نحو قوله {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 13] فالمعنى: أفرأيتم أيها المشركون هذه الأصنام التي جعلتموها بنات الله. أي: أتجعلون له البنات ولكم الذكور (أي: هذه إذاً). {قِسْمَةٌ ضيزى} أي: قسمة جائرة على الحق، وذلك أن المشركين أخذوا اسم الباري وهو الله، وزادوا فيه التأنيث وسموا به أصنامهم فقالوا اللات، وكذلك أخذوا العزى من العزيز وأخذوا منات من: منى الله الشيء: إذا قدره، وزعموا أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فجعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم. قال أبو عبيدة: هي أصنام كانت في جوف الكعبة يعبدونها.

وقرأ مجاهد " اللات " بالتشديد، وكذلك قرأ ابن عباس، وقالا: كان رجلاً يلِت السَّويق أيام الحج فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه. وقيل: كان يقوم على ألهتهم ويلِت السويق لهم، وكان بالطائف قاله أبو صالح والسدي. وقيل: كان يلِت السويق ويبيعه عند ذلك الصنم، فسمى الصنم اللات بتشديد التاء. وحكى خلف عن سليم عن حمزة وأبو عبد الرحمن عن

(اليزيدي) عن أبي عمرو أنهما وقفا على اللات بالتاء، اتباعاً للمصحف، وكذلك وقف نافع. وروي عن الكسائي أنه وقف بالهاء، والمشهور عن جميعهم الوقف على التاء اتباعاً للمصحف وإبعاداً أن يشبه الوقف على الله. والعُزّى: حجراً أبيض كانوا يعبدونه قاله ابن جبير. وقال مجاهد: العُزى شجرة كانوا يعبدونها. وقال ابن زيد: العُزى بيت بالطائف لثقيف كانوا يعبدونه. وقال قتادة: هو نبت كان ببطن نخلة، وأما منات فصنم كان لخزاعة.

وقال قتادة: [التقدير] آلهة يعبدونها وهي اللات والعزى ومنات. قال أبو إسحاق: " منات " صخرة لهذيل وخزاعة كانوا يعبدونها من دون الله / جل وعز وتعالى عن ذلك. وقيل: الَّلات صنم كان لثقيف، والعزى سمرة عبدوها. وقوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي: قسمة جائرة ناقصة إذ رضيتم أن تجعلوا لخالقكم ورازقكم ما تكرهونه لأنفسكم وآثرتم أنفسكم بما تحبون. (وضيزى فُعلى) ولكن كسرت، وإنما كان أصلها الضم إذ ليس في الكلام فعلى صفة وفيه (فُعلى وفَعلى) فكسرت الضاد لتصح الياء، كما قالوا بيضٌ وأصله بوض. ومن همزه فهي لغة يقال ضَازَهُ يَضِيزُهُ ويَضُوزُهُ وضَأَزَهُ يَضْأَزَهُ. ويقال: ضِزتَهُ وضَزْته إذا نَقَصتَهُ حَقَّهُ، فيقال على هذا ضِئزَى بالهمز وضُؤْزَى أيضاً.

23

وجواب الاستفهام محذوف، والتقدير: أفرأيتم هذه الأصنام هل لها من هذه القدرة التي تقدم ذكرها شيء. وقال أبو عبيدة: التقدير أَلَكُمْ الذكر وله الأُنثى كيف يكون هذا لأنهم قالوا الملائكة بنات الله جل ذكره. وقيل الجواب: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}. قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أي: ما اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى إلا أسماء أحدثتموها أيها المشركون أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بهذه الأسماء من سلطان أي: من حجة في هذه الأسماء. ثم قال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن}؛ أي: ما يتبع هؤلاء المشركون في هذه [الأسماء] إلا الظن، وهوى أنفسهم فاخترقوا ما لم يؤمروا به من قبل أنفسهم ومن ما وجدوا عليه آباءهم الكفار بالله D. ثم قال: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} أي: جاءهم محمد من عند ربهم D بالبيان والوحي الحق. قال: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} أي: ليس ذلك فيكون الأمر على ما يشتهون، بل الله D يعطي من يشاء ما شاء، إذ له الآخرة والأولى.

26

قال: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي: وكثير / من الملائكة في السماوات لا تنفع شفاعتهم لمن شفعوا لمن شفعوا إلا من بعد أن يأذن الله D لهم فتنفع شفاعتهم إذا رضي الله سبحانه بها، وهذا توبيخ لعبدة الأوثان والملائكة من قريش وغيرهم لأنهم قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فأخبر تعالى ذكره أن الملائكة مع فضلهم وكثرة طاعتهم لا تنفع أحداً شفاعتهم إلا من (بعد إذن الله D لهم) ورضاه، فكيف تشفع الأصنام لكم. قال: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن}. أي: أن الذين لا يصدقون بالبعث ليسمون الملائكة تسمية الإناث لأنهم كانوا يقولون هم بنات الله تعالى (الله عن ذلك علواً كبيراً). {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي: ما يقولون [ذلك] إلا ظناً بغير علم، والهاء تعود على السماء لأن التسمية والأسماء واحد، {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [أي] يقوم مقام الحق. قال: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي: فدع من أدبر عن الإيمان بما جئته به

من القرآن. {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} أي: طلب الدنيا ولم يطلب ما عند الله. {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} أي: ليس لهم علم إلا علم معائشهم وإلا إيثار الدنيا على الآخرة وقولهم الملائكة بنات الله. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي: هو عالم لهم قد علمهم في سابق علمه أنهم لا يؤمنون، وهو أعلم في سابق علمه بمن يهتدي فيؤمن. ثم قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} أي: لله ملكهما وما فيهما. ولام ليجزي (متعلقة بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}. وقيل المعنى: ولله ما في السماوات وما في الأرض يضل من يشاء ويهدي من يشاء، فهو أعلم بهم ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أطاعوا. وقيل هي متعلقة بقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى. . . لِيَجْزِيَ}. وقوله: {بالحسنى} يعني بالجنة. قال زيد بن أسلم: {الذين أَسَاءُواْ}: المشركون، {الذين أَحْسَنُواْ} المؤمنون.

ثم بيَّن المؤمنين ونعتهم فقال: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش} أي: يبعدون عن ارتكاب الكبائر التي نهى الله عنها، وقد تقدم القول فيها في " النساء ". ويبعدون عن ارتكاب الفواحش التي نهى الله عنها وهي الزنا وشبهه مما أوجب الله فيه حداً. وقوله: {إِلاَّ اللمم} قال ابن عباس: إلا ما سلف منهم في الجاهلية قبل الإسلام. وقال زيد بن أسلم: الكبائر: الشرك، والفواحش، والزنا، تركوا ذلك حين أسلموا فغفر الله D لهم ما كانوا أتوا به وأصابوه من ذلك قبل الإسلام. وقيل: اللمم: الصغائر. / وقيل: هي أن تلم بالشيء ولا تفعله. وقيل اللمم كنظر العين والتقبيل والجس. وقال الشعبي: هو ما دون الزنا، وقيل: " إلا " بمعنى الواو، وليس بشيء هذا نقض كلام العرب.

وقال أبو هريرة: هو مثل القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة. وعن ابن عباس أن اللمم أن تأتي الذنب ثم تتوب منه ولا تعود. وعن أبي هريرة أيضاً مثله، (وهو قول أهل اللغة قالوا: اللمم بالذنب أن تناول منه ولا تمر عليه، ويقال ألْمَمْتُ أتيت ونزلت عليه). (وعن ابن عباس وابن الزبير) هو ما بين الحدين، حد الدنيا والآخرة وبه قال عكرمة وقتادة والضحاك. وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر وابن العاص أنه قال: اللَّمم ما دون الشرك. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} أي: لمن اجتنب الكبائر. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يعني آدم عليه السلام.

{وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أجنّة: جمع جنين، اي: أعلم بكم في ذلك الوقت وفي كل وقت، وهو أعلم بمن أتقى. وقيل اللمم هو الذنب [بين] الحدين مما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بنار في الآخرة تكفره الصلوات الخمس. والكبائر مثل الزنا وقتل النفس التي حرم الله، وشرب الخمر وعقوق الوالدين، (وأكل مال اليتيم). وقال نفطويه: اللمم هو أن تأتي ذنباً لم يكن لك بعادة، والعرب تقول: ما تَأْتِينَا إلاَّ لِماماً: أي: في الحين بعد الحين. قال: ولا يكون اللمم أن تهم ولا تفعل؛ لأن العرب إذا قالت: ألم بنا فلان معناه فعل الإتيان لا أنه همَّ ولم يفعل، ويدل على أنه فعل الذنب قوله {وَاسِعُ المغفرة} فهل تكون المغفرة إلا لمن فعل ذنباً /، وهل يغفر ما لم يفعل. وروى الحسن أنه قال: اللمم هو أن يلم الرجل اللمة من الخمر واللمة من الزنا، واللمة من السرقة ثم لا يعوده.

33

قال عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك. وقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يدل على أن اللمم: الصغائر يغفرها الله لمن اجتنب الكبائر حتماً. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] هذه المغفرة ليست بحتم إنما هي إلى مشيئة الله يفعلها لمن يشاء، ومغفرة الصغائر لمن أجتنب الكبائر حتم من الله جل ذكره (فعلها). ثم قال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي: الله عالم بما تعملون حين خلق أباكم آدم من الأرض، وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم يعلم ما تصير إليه أموركم، وما أنتم عاملون، فلا تزكوا أنفسكم فإن الله يعلم المتقي من الفساد. وأجنة جمع جنين. قوله: {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى}. أي: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله D وأعرض وأعطى صاحبه قليلاً من ماله ثم منعه فلم يعطه وبخل عليه. هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وذلك أنه عاتبه بعض المشركين لما أتبع

35

رسول الله A على ما جاء به فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة ففعل وأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه تمام ما ضمن له. ومعنى وأكدى: قطع العطية ولم يتمها قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة. أي: أعند هذا الذي ضمن له العذاب أن يتحمله عنه في الآخرة علم الغيب فهو يرى حقيقة قوله ووفائه بما وعده. وقيل: المعنى أعَلِمَ الوليد أن هذا الذي يتحمل عنه العذاب في الآخرة كما قال: ويرى: بمعنى: يعلم. أي: أم لم يخبر هذا المضمون له أن يحتمل عنه العذاب في الآخرة بالذي في صحف موسى. {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} أي: وفي الرسالة وبلغها إلى من أرسلت إليه. وقيل معناه: وَفَّى ما عهد إليه ربه من تبليغ الرسالة وهو {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: بلغ ألا يحمل أحد ذنب أحد.

قال ابن عباس: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الولي بالولي حتى كان إبراهيم عليه السلام فبلغ {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}، {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى}. وقال قتادة: وفى طاعة الله ورسوله إلى خلقه. وقال ابن جبير: بلَّغ ما أمره به ربه وهو قول (ابن زيد وسفيان) والنخعي. وعن ابن عباس أيضاً: أن إبراهيم A وفَّى بما أمره ربه D من الذبح والرؤيا، والذي في صحف موسى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}. وعن ابن عباس أيضاً: أن إبراهيم وفى شرائع الإسلام ثلاثين سهماً، وما ابتلي بهذا الذين أحد فأقامه إلاَّ إبراهيم فإنه وفَّى به. وقال مجاهد: وفى ما فرض عليه، وعن النبي A أنه قال: " ألا أخبركم لم

سمَّ الله جل ذكره إبراهيم خليله " الذي وفَّى ". لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحمد فِي السماوات} الآية ". وعنه A أنه قال: " وفى إبراهيم بحمد ربه أربع ركعات في النهار ". وقوله: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أكثر المفسرين على أنه ما في صحف موسى وإبراهيم، وفَّى بالشرائع والأوامر على ما تقدم من الاختلاف. قال أبو مالك الغفاري: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} إلى قوله: {هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى} هذا كله في مصحف إبراهيم وموسى. وعنى بقوله: / {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} الذي ضمن للوليد أن يتحمل عنه عذاب الآخرة يقول الله ألم نخبر هذا المضمون. أي: بهذا الذي في صحف إبراهيم وموسى أن أحداً لا يحمل ذنب أحد. ثم قال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [38].

39

قال ابن عباس الآية منسوخة لأن الله D أنزل بعد ذلك {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فرفع الله الأبناء في درجات الآباء بعمل الآباء، وهو اختيار الطبري. وروى ابن عباس عن النبي / A أنه قال " إن الله جل ذكره ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته إن كان لم يبلغها بعمله لِتَقَرَّبِهِم عينه ". وقال قوم: الآية محكمة، ولا ينفع أحداً عمل أحد لا من صدقة ولا من حج ولا صلاة ولا غير ذلك، وقد أجمع العلماء أن الصلاة لا يجوز فيها أن يصلي أحد عن أحد وقد أتت أخبار عن النبي A في إجازة الحج عن الحي والميت والصيام عن الميت والصدقة عن الميت.

40

ومذهب مالك أن عمل الأبدان لا يجوز أن يعمله أحد عن أحد، فإن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. قال تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي: وإن عمل كل عامل سوف يراه الله يوم القيامة، فيجازيه عليه الجزاء الأوفى من خير أو شر يثاب على عمله. أي: وإن إلى ربك يا محمد انتهاء جميع خلقه ومرجعهم، وهو المجازي جميعهم بأعمالهم صالحهم وطالحهم.

43

أي: أضحك أهل الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار. وقيل معناه أضحك من شاء في الدنيا بأن سره، وأبكى من شاء بأن غمه. أي: هو أمات من أمات من خلقه، وهو أحيا من أحيا منهم. قال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} أي: ابتدع إنشاء الذكر والأنثى. يقال لكل واحد من الذكر والأنثى زوج. خلقهما: {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} أي: إذا أمناها الرجل والمرأة. وقيل معناه: إذا مناها الله D، أي: قدرها أن تكون نسمة. أي: عليه إعادتهم بعد موتهم خلقاً جديداً. أي: أغنى بالمال من شاء، واقناه: أي: جعله يقتني الأشياء ويدخرها. وقيل أقنى: ادخر. وهو قول مجاهد والحسن وقتادة.

وعن ابن عباس (وأقنى: أي: أرضى، وأغنى: وأعطى). وعن مجاهد أيضاً: أغنى: تولى، وأقنى: أرضى. وقال السدي: اقنى من القنية، يعني ادخار الأشياء. وقال سفيان بن عيينة معناه: أغنى ورضي. وقال أبو صفوان بن عوانة: أغنى وأقنى: (أخذ من الغنيمة). وقال المعتمر بن سليمان: أغنى الإنسان وأقنى أي: أفقر الخلق إليه. وقال ابن زيد " أعنى وأقنى أي: أغنى من شاء من خلقه وأفقر من شاء.

49

أي: وإن ربك يا محمد هو رب الشعرى، وهو نجم يسمى بهذا الاسم كان بعض أهل الجاهلية يعبده. قال مجاهد: هو الكوكب الذي خلف الجوزاء كانوا يعبدونه، فقيل لهم: اتركوا عبادته واعبدوا ربه وهو الشعرى: العبور الخارج عن المجرة عبدت في الجاهلية، وقالوا: رأينا ما (عبرت عن المنازل) فأعلم الله أنه ربها وأنه خالقها الذي تجب له العبادة. وهو عاد بن آدم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأكبر، وكانت عاد الآخرة ساكنة بمكة مع أخوالهم من العمالقة ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح، فلم يصبهم من العذاب ما أصابه عاداً الأولى ثم هلكت [عاد] الآخرة بعد ذلك بغى بعضهم على بعض فتفانوا بالقتل، وعادٌ الأولى هي التي هلكت بالريح.

51

وقال ابن زيد: إنما قيل لها عاد الأولى لأنها أول الأمم هلاكاً بعد نوح. وقيل: إن عاداً الآخرة هي ثمود. وقد قال زهير: " كَأَحْمُرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعُ فَتَفْطَم " يريد عاقر الناقة فسمى ثمود عاداً. أي: ولم يبق الله ثموداً ولكن أهلكهم بكفرهم. أي: ولم يبقَ الله قوم نوح من قبل عاد وثمود بل أهلكهم بكفرهم بربهم وظلمهم لأنفسهم. قال قتادة: (لم يكن) قبيل من الناس هم أظلم وأطغى من قوم دعاهم نبي الله تعالى نوح إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاماً كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى ذكر لنا

53

أن الرجل كان يأخذ بيد ابنه ويأت به إلى نوح A فيقول: يا بني لا تقبل من هذا فإنَّ أُبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ وأوصاني بما أوصيتك [به] تتابعاً / على الضلالة وتكذيباً لأمر الله. أي: والمقلوب أعلاها أهوى /، وهي سدوم قرية قوم لوط أمر الله جبريل فرفعها من الأرض السابعة بجناحه ثم أهواها مقلوبة. يقال: هوى إذا سقط، وأهواه غيره أسقطه. قال مجاهد: رفعها جبريل A إلى السماء ثم أهواها. قال ابن زيد أهواها جبريل عليه السلام [ثم أتبعها تلك الصخر].

54

أي: جلاها الله D بعد أن انقلبت بالحجارة المنضودة المسومة فأمطرها عليهم حجارة من سجيل. قال قتادة: غشاها بصخر منضود، في قوله {مَا غشى} معنى التعظيم. أي: فبأي نعم ربك يا ابن آدم أنعمها عليك تشك وترتاب وتجادل وهذا لمن شك وكذب. ومن نصب المؤتفكة بأهوى (أجاز أن يبدأ بها) ومن نصبها على العطف على قوم نوح وثمود لم يبتدئ بها. أي: محمد نذير لقومه كما أنذرت الرسل من قبله قاله قتادة. وقيل المعنى: محمد نذير من النذر الأولى في أم الكتاب. وقال أبو مالك معناه: هذا الذي خوفتم به من القرآن في هذه السورة نذير لكم

57

من النذر الأولى التي كانت في صحف إبراهيم وموسى، وهو اختيار الطبري. أي: دَنَت وقَرُبَت القيامة، يقال: أَزِفَ الأمر إذا دَنَا وقَرُبَ، وسميت القيامة بالأزفة لقربها. أي: ليس تنكشف القيامة فتقوم إلا بإقامة الله إياها وكشفه لها من دون سواه من خلقة؛ لأنه لم يطلع عليها ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً. وقيل: كاشفة. كما قيل: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: من بقاء. والمعنى: ليس لها من دون الله كاشف لها. وقيل " الهاء " للمبالغة، وكاشفة بمعنى كشف وتكون على القول الأولى بمعنى أنكشف. هذا خطاب لمشركي قريش؛ أي: أفمن هذا القرآن تعجبون مما نزل على محمد وتضحكون استهزاء

61

به، ولا تبكون لما فيه من الوعيد لمن كفر به. أي: لاهون عما فيه من العبر والتذكر، معرضون عن آياته، والإيمان به يقال: سمد يسمد: إذا لها. وروى شعبة عن المغيرة عن إبراهيم {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} قال: القيام [قبل الإمام] إلى الصلاة. وحكي عن علي بن أبي طالب Bهـ: أنه دخل الصلاة فرأى الناس قياماً فقال ما لهم، أو قال ما شأنهم سامدين. وقال ابن عباس: [سامدون] هو الغناء، وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا وهي لغة أهل اليمن من خيبر يقولون: أسمد لنا (أي: تغنى لنا).

62

وقيل: سامدون: شامخون. قال الضحاك كانوا يمرون على النبي A شامخين، والشامخ المتكبر. وعن ابن عباس: سامدون: لاهون. وقال قتادة: سامدون: غافلون. وقال مجاهد: سامدون: معرضون، وروي عن النبي A لما قرأ هذه الآية لم ير ضاحكاً ولا متبسماً [حتى مات]. أي: اسجدوا لله في صلاتكم أيها الناس دون من سواه من الآلهة واعبدوه دون غيره. (قال ابن عباس: سجد النبي A بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس). (وقال ابن مسعود: أول سورة نزلت فيها السجدة، والنجم، قال: فسجد النبي وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ تراباً فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً

وهو أمية بن خلف).

القمر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القمر سورة القمر مكية قوله تعالى {اقتربت الساعة}. معناه دنت القيامة وقربت. روى أنس " أن النبي A خطب وقد كادت الشمس تغيب فقال ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثلاً ما [بقي] من هذا اليوم فيما مضى وما نرى من الشمس إلا يسيراً ".

2

وقال كعب ووهب الدنيا ستة آلاف سنة. قال وهب قد مضى منها خمسة آلاف وستمائة، وهذا إنذار من الله بدنو القيامة وقرب فناء الدنيا. وقوله: / {وانشق القمر} أي: انفلق وكان ذلك على عهد النبي A وهو بمكة قبل الهجرة، وذلك أن كفار قريش سألوه آية فأراهم انشقاق القمر، فدل على صحة قوله، فلما أراهم ذلك (أعرضوا وكذبوا). وقالوا هذا سحر مستمر سحرنا له محمد، ففي ذلك يقول الله جل ذكره. ومعنى مستمر: أي: ذاهب. وقيل مستمر: شديد. وقيل معناه: يشبه بعضه بعضاً. قال أنس: انشق القمر فرقتين. وقال ابن مسعود انشق القمر ونحن مع النبي A حتى ذهبت فرقة منه خلف الجبل فقال رسول الله A أشهدوا.

3

قال: {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي: كذبت قريش واتبعت أهواءها. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي: كل أمر يستقر إن خيراً في الجنة، وإن شراً ففي النار. أي: ولقد جاء قريشاً من الأخبار والقصص والوعد والوعيد ما فيه متعظ لهم. قال {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يعني القرآن. {فَمَا تُغْنِ النذر} أي: فليست تغن النذر لإعراضهم عنها. والنذر جمع نذير أو بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون " ما " استفهاماً. والمعنى فأي شيء يغني النذر عنهم وهم معرضون عنها. ثم قال فتول عنهم يوم يدع الداع / إلى شيء نكر أي: فأعرض عنهم: تم الكلام

على قوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}، ثم ابتدأ فقال {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أي: منكر يخرجون من الأجداث. " فيم " منصوب " بأذكر يوم تخرجون. والأجداث: القبور. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} كأنهم في انتشارهم من القبور إلى موقف الحساب جراد منتشر. وقوله {خُشَّعاً أبصارهم} حال من الضمير في (يخرجون من قبورهم) فينتشرون لموقف العرض يوم يد الداع خشعا إبصارهم، أي هي ذليلة خاضعة، ولا يجوز أن يكون حالا من المضمر في عنهم، لأن الأمر بالتوالي في الدنيا، والإخبار بخشوع أبصارهم بعد بعثهم. وقوله {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} وقال في موضع آخر {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 3] فذلك صنفان مختلفان، وإنما ذلك لأن كون ذلك في وقتين مختلفين أحدهما عند البعث بالخروج من القبور يخرجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض لا جهة لأحد منهم يقصدها نشبههم عند

ذلك بالفراش لأن الفراش لا جهة يقصدها، وإنما هي بعضها في بعض فلا يزال الناس كذلك حتى يسمعوا المنادي يدعوهم فيقصدونه، فتصير لهم وجهة يقصدونها، فشبههم في هذا الوقت بالجراد المنتشر، وهكذا الجراد لها (وجهة تقصدها) وهي منشرة. ويروى أن مريم سألت ربها أن يطعمها لحماً لا دم فيه فأطعمها الجراد فدعت للجراد فقالت: اللهم أعشها بغير رضاع (وتابع بنيها بغير شياع، أي: بغير دعاء بينها). ثم قال {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} قال قتادة: عامدين. وقال أبو عبيدة: مسرعين مقبلين خائفين. ولا يكون الإهطاع إلا مع خوف، ويقال: هطع وأهطع بمعنى أسرع مقبلاً خائفاً. وقال سفيان شاخصة أبصارهم إلى السماء. وقال ابن عباس ناظرين.

9

{يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي: شديد هول المطلع. قال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي: كذب قبل قومك قوم نوحا. {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} يعني نوحاً. {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} أي: هو مجنون. وقوله {وازدجر} أي: زجروه بالشتم والوعيد والرجم. قال ابن زيد اتهموه وزجروه وأوعدوه، وقالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين. وقال الحسن قالوا مجنون وتوعدوه بالقتل. ثم قال {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} أي: قال يا رب قد غلبت وقهرت فانتصر لي منهم بعذاب من عندك. قال تعالى: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} أي: مندفع منصب. قال {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي: فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وقضاه في اللوح المحفوظ. ثم قال {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} / أي: وحملنا نوحا إذا التقى الماء على سفينة ذات ألواح ودسر. والدسر: المسامير، وهو جمع دسار. وقيل الدسر: صدر السفينة

14

لأنها تدفع الماء بصدرها: [أي] تدسره قاله الحسن. وقال مجاهد: الدسر: أضلاع السفينة. وقال الضحاك الدسر: طرف السفينة، وأصل الدّسْر: الدّفع. قال {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى منا ومبصر. وقوله {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي: فعلنا بهم ذلك جزاء لنوح للذي كفر بالله فيه. وقيل " من " بمعنى " ما " والمعنى: جزاء لمن كان كفر بنعم الله وأياديه. وقال مجاهد: معناه (جزاء الله لأنه كفر به). وقيل معناه جزاء لنوح ولمن آمن به لأنهم كفروا بهم، فتوحد " كفر " على هذا على لفظ " من ". ثم قال

{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} أي: تركنا السفينة آية وعبرة لمن بعد نوح. وقال قتادة رفعت الفسينة على الجودي حتى رآها أوائل لهذه الأمة. قال مجاهد: إن الله جل ذكره حين غرق قوم نوح جعلت الجبال تشمخ، وتواضع الجودي فرفعه الله D على الجبال، وجعل قرار السفينة عليه. وقيل معناه: ولقد تركنا هذه الفعلة آية. {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. أي: فهل من متعظ يخاف أن يناله من العقوبة مثل ما نال قوم نوح. ثم قال {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: وإنذاري، وهذا تحذير من الله لمن نزل عليه القرآن وكفر به أن يصيبه مثل ما أصاب قوم نوح. ثم قال {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} أي: سهلناه وبيناه وفصلناه لمن يريد أن يتذكر به ويعتبر. وقيل معنى: فهل من مذكر: هل من طالب علم فيعان عليه: وقال محمد بن كعب معناه: هل من مذكر عن معاصي الله. قال ابن زيد يسرنا: بينا. وقال مجاهد: يسرنا: هونا.

18

وقيل معناه: فهل من طالب علم أو خير فيعان عليه. قال {كَذَّبَتْ عَادٌ} أي: كذب أيضاً عاد هوداً نبيهم فيما أتاهم / به. {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (أي عذبتهم لذلك، وأهلكتهم، فلتحذر قريش ان يصيبهم بتكذيبهم محمدا مثل ما أصاب قوم هود. قال {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي: ريحاً شديدة العصوف باردة لها صوت، وأصله صَرَرً فأبدل من أحدى الراءات ماداً، فكبْكِبُوا من كَبَبَ. قوله {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} أي: في يوم شر وشؤم لهم (استمر بهم فيه البلاء) والعذاب إلى أن (أوفى بهم العذاب). قال قتادة استمر بهم إلى نار جهنم. أي: تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتندق رقابهم وتبين من أجسادهم.

قال ابن إسحاق: لما هبت الريح قام سبعة من عاد فقالوا نرد الريح، فأتوا ضم الشعب الذي منه تأتي الريح، فوقفوا عليه، فجعلت الريح تهب وتدخل تحت واحد منهم ثم تقلعه من الأرض فترمي به على رأسه فتندق رقبته، ففعلت ذلك بستة منهم كما قال الله {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ}، وبقي رجل اسمه الخلجان، فأتى هوداً فقال يا هود ما هذا الذي أرى في السحاب كهيئة البخاتي، قال تلك ملائكة ربي، [قال مالي إن أسلمت، قال: تسلم!، قال أفينقذني ربك من هؤلاء، قال: ويلك أرأيت ملكاً ينقد من جنده]، فقال وعزته لو فعل ما رضيت، قال ثم مال إلى جانب الجبل فأخذ بركن منه يهزه، فاهتز في يده ثم جعل يقول: أَلاَ لَمْ يَبْقَ إِلاّ الخِلْجَانَ نَفْسُه ... يَالَك من يوم دَهَاني أَمْسُه. بِثَابِتِ الوَطء شديدٍ أَمْسُه ... لو لم يجِئني جِئته أَجُسه.

ثم هبت الريح فحملته، فألحقته بأصحابه. (وروي عن أبي هريرة أنه قال أن كان الرجل ليغمز قدميه فيدخل في الأرض) من قوم عاد ليتخذ المصراعين من حجارة لو اجتمع عليه خمس مائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يحملوه، وأن كان الرجل (ليغمز قدميه فتدخل في الأرض). وقوله {تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي: تنزعهم من الحفر التي كانوا حفروها كأنهم أعجاز نخل منقعر. قال الطبري في الكلام حذف، والتقدير: تنزع الناس فتتركهم كأنهم أعجاز نخل، " فالكاف " على هذا في موضع نصب بالمحذوف. وقال الزجاج وغيره " الكاف " في موضع الحال، أي: تنزع الناس مشبهين / بأعجاز نخل. ومعنى

21

" منقعر " أي: منقلع من قعره. (وقال الحسن لما جاءت الريح إلى قوم هود قاموا إليها فاستقبلوها وأخذ بعضهم بيد بعض). (وركزوا أقدامهم في الوادي، وقالوا لهود من يزيل أقدامنا عن أماكنها إن كنت صادقاً، فأرسل الله عليهم الريح فنزعت أقدامهم كأنهم أعجاز نخل منقعر). قال مجاهد: بانت أجسامهم من رؤوسهم فصاروا أجساماً بلا رؤوس. وقيل التشبيه هنا إنما هو للحفر التي كانوا فيها قياما، صارت الحفر كأنها أعجاز نخل وهذا قول ضعيف، ولزم هذا القائل أن يقول " كأنهن ". أي: فانظر يا معشر كفار قريش كيف كان عذاب قوم هود إذ كذبوا هوداً، وكيف كان إنذاري إياكم أن ينزل بكم ما نزل بهم. قوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) إلى قوله (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) الآيات [22 - 31].

22

{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. أي: ولقد بينا وسهلنا القرآن لمن أراد أن يذكر ويتعظ، فهل من طالب علم فيعان عليه. قال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} [أي] كذب قوم صالح بنذر الله (التي أتتهم) من عنده، فقالوا مكذبين لرسولهم صالح {أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} أي: نحن الجماعة الكثيرة كيف نتبع بشراً واحداً. {إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي: إن أتبعناه لفي ذهاب عن الصواب وسعر: أي: وعناد، قاله قتادة. وقيل: وسعر: وجنون. قال {أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} هذا إخبار من الله جل ذكره عما قاله قوم صالح، أي: قالوا أأنزل الوحي عليه من بيننا على طريق الإنكار. {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي: كذاب لا يبالي ما قال: وأصل الأشر: الريح والبطر، قال الله D { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر}.

أهم أم هو، بل هم الكذابون الأشرون، وهذا تهدد ووعيد من الله لهم ولمن فعل فعلهم. وقرأ أبو قلابة {الكذاب الأشر} بالتشديد وفتح الشين ولا يجوز مثل هذا في الأولى لأنه لا يقال منه أفعل، وإنما جاز في الثاني لأنه من قولهم: زيد الأشر (ومَنْذِزٌ لِشَر) كما يقال: (الأْخَيرُ وَاُلَخُورَى). وقرأ ابن جبير ومجاهد: " من الكذاب الأشر " بضم الشين والتخفيف، وهي لغة في الأشر. كما يقال رجل " خَوِرُ وَخَورً ". ثم قال تعالى {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ}

29

أي: باعثوا الناقة التي سألها ثمود صالحاً آية لهم وحجة (من الله) لصالح ابتلاء لهم واختباراً هل يؤمنون به أو يكذبونه. ثم قال {فارتقبهم واصطبر}. هذا أمر من الله لصالح، أي: فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون بالناقة، واصبر على ارتقابهم ولا تعجل. وكان ابتلاؤهم في ذلك أن الناقة خرجت لهم من صخرة صماء فآمن بعضهم، وكانت عظيمة كثيرة الأكل /. فشكوا ذلك إلى صالح وقالوا قد أفنت الحشائش والأعشاب ومنعتنا من الماء، فقال ذورها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء، ترد الماء يوماً وتردون يوماً، فكانت هذه الفتنة، وهو قوله: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي: وخبر (قومك يا صالح) أن الماء يوم لهم يشربون ويتزودون، ويوم للناقة ترد فيه. وقيل المعنى أن الماء يوم غِبّ الناقة قسمة بينهم يشربون ويتزودون. ثم قال: {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أي: كل حظ من الماء يحضره من هو له. وقيل المعنى: كل من له الماء يوماً يحضره، وتحضره الناقة يوماً. وقال مجاهد: يحضرون يومهم، ويحضرون اللبن يوم الناقة. [أيٍ] فنادت ثمود صاحبهم قَدَاراً

30

عاقر الناقة لعقرها فحضوه على ذلك فتناول الناقة فعقرها. قال ابن عباس تناولها بيده، ويقال إنه كان ولد زينة، وهو من التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وهم الذين قالوا، لصالح {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]. فمعنى فتعاطى: أي: فتناول الفعل ففعل فقتلها، وهو من قولهم: عطوت: إذا تناولت. كما قال أمرؤ القيس: (وَتَعْطوُ بَرخص غير شَتْنٍ كأنه ... أَسَارِيعُ ظَبْيٍ أو مَسَاوِيكُ إِسْحَل). وفي الحديث: " أن عاقر الناقة كان عزيراً (منيعا كأنه رفعة) / " قال {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} هذا الخطاب لقريش [أي] فكيف كان

عذابي إياهم وإنذاري لهم. وقيل معناه: وإنذاري لكم أَنّا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، وقد تقدم خبر عذابهم كيف كان. وقوله {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} أي: فكان قوم صالح لما أخذتهم الصيحة صاروا رفاتاً كهيئة الشجر المحتظر بعد (نعمته وغضارته). وقيل معناه: فصاروا كالعظام المحترقة، قاله ابن عباس. وقيل صاروا كالتراب المتناثر من الحائط في يوم ريح: قاله ابن جبير. وقال ابن زيد صاروا كهشيم حظيرة الراعي التي تتخذ الغم فتيبس فتصير هشيماً. وقال مجاهد: صاروا كهشيم الخيمة وهو ما تكسر من (خشبها). وقال سفيان (هو ما يتناثر من الحصير إذا ضربتها بالعصا.

33

وحقيقة الهشيم أنه فعيل بمعنى مفعول أي: مهشوم وهو ما يبس وتحات من ورق الشجر، والمحتظر بكسر الظاء: الذي يحتظر على الهشيم، أي: يحوزه ليجمعه ويحظر عليه ليمنع من أخذه، فهو محتظر بكسر الظاء، والهشيم محتظر بفتح الظاء وصف له. أي: كذبت جماعة قوم لوط بما أنذرهم به لوط من الإيمان والوعد والوعيد. قال {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} أي: حجارة من السماء وقد تقدم ذكره في غير موضع. {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} يعني بناته {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ}. قال {نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} نصب " نعمة " على أنها مفعول لها، ولذلك لا يتم الوقف على " سحر " أي: أنجيناهم من العذاب للنعمة من الله عليهم. ثم قال {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} أي: كما أنجينا آل لوط من العذاب، كذلك نجزي

36

من شكر الله سبحانه، وآمن بإنذاره واتبع أمره وانتهى عن نهيه. أي: حذرهم لوط قبل حلول العذاب لهم نقمة الله D لهم، فشكوا فيما توعدهم به وأنذرهم إياه. قال: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} أي: راود قوم لوط لوطاً في أضيافه ليفعلوا بهم ما كانوا يفعلون بمن دخل قريتهم من الذكور. {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} أي: طمس على أعينهم، أي: غطينا عليها. وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه D في عقوبتهم ليلة أتوا لوطاً وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه فصفقهم بجناحه فتركهم عمياً لا يرون يترددون. قال ابن زيد: هؤلاء قوم لوط حين أرادوا من ضيفه طمس الله أعينهم. وقد كان ينهاهم عن عملهم الخبيث الذي كانوا يعملون فقالوا له إنه لا نترك عملنا فإياك أن تنزل أحداً أو تضيفه أو تدعه ينزل عندك فإنا لا نتركه، قال فلما جاءه المرسلون خرجت امرأته الشقية فأتتهم فدعتهم وقالت لهم تعالوا فأنه قد جاء قوم لم

38

أر قوماً أحسن ثياباً ولا أطيب أرواحاً منهم، قال فجاءوه يهرعون إليه فقال: " إِنّ هَؤلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ وَأُتّقَواَ اُّللهَ / وَلاَ تُخزُوُنِ فِي ضَيْفِي قالَوُاْ أَوَ لَمْ تَنْهَكَ عَنِ اُلْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِيَ هنّ أَطُهَرُ لَكُمْ " فقال له جبريل ما يهولك من هؤلاء، قال أما ترى ما يريدون، قال إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك، قال فنشر جبريل عليه السلام جناحاً من أجنحته فاختلس به أبصارهم، وطمس أعينهم، فجعلوا يجول بعضهم في بعض. وكذلك ذكر مجاهد مثل معنى هذا. ثم قال {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي: ذوقوا عذابي الذي حل بكم، وعاقبة إنذاري لكم، وقيل إنه من قول الملائكة لهم أي: قالت الملائكة لهم فذوقوا عذاب الله، وعاقبة ما أنذركم به. أي: ولقد صبحهم قوم لوط عند طلوع الفجر عذاب ثابت إلى يوم القيامة، وهو أن قلبت عليهم المدينة، وأرسلت الحجارة عليهم وعلى من غاب من المدينة وحلوا في عذاب إلى يوم القيامة. قال قتادة: استقر بهم العذاب إلى نار جهنم. / قد تقدم تفسير كل هذا.

41

ثم قال (وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) [41] أي: جاء أتباع فرعون إنذارنا بالعقوبة لكفرهم بالله ورسوله. (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [42] أي: كذبوا بكل ما جاءهم به موسى A فأخذهم الله بالعذاب أخذ منيع قادر على ما يريد، فأغرقهم أجمعين. ثم قال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} أي: أكفاركم يا قريش، (أي الذين إن يروا آية) يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، خير من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وأخذهم العذاب لكفرهم، فيقولوا إنا ننجوا لشرفنا، بل ليس هم بخير منهم، فإذا كانوا قد هلكوا بكفرهم فما يؤمنك أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب [وهذا] لفظ استفهام معناه التوقيف. حكى سيبويه: الشقاء أحب إليك أم السعادة. قال ابن عباس معناه ليس كفاركم خيراً من وقوم نوح وقوم لوط. ثم قال {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} [أي] أم لكم كتاب فيه براءة لكم من العذاب في كتاب الله D. { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي: أم يقول كفار

45

قريش نحن جماعة ينصر بعضنا بعضاً على ما نريده. فصدق الله D رسوله A وعده، وهزم المشركين يوم بدر وولوا هاربين. قال عمر بن الخطاب Bهـ لما نزلت {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} جعلت أقول أي: جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله A يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر. وأكثر المفسرين على أنه يوم بدر هزموا فيه وولوا الدبر. (قالت عائشة Bها لقد نزل على محمد A بمكة وإني لجارية أَلْعَب. {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} الآية أي: يوم القيامة موعدهم للعذاب بل ذلك الوقت أدهى وأمر من الهزيمة التي كانت عليهم في الدنيا وتوليتهم الدبر. وأدهى من الداهية والداهية (الأمر العظيم) الذي لا ينفع فيه دواء. وَأَمْرُ من المَرَارة.

47

أي: في حيرة وتجاوز عن الحق. {وَسُعُرٍ} أي: واحتراق من شدة العناد، والنصب في الباطل وقيل وسعر: وعناد. روى أنس عن النبي A أنه: " قال: هم القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني ". وقيل القول هنا محذوف. والمعنى يقال لهم: ذوقوا مس سقر. ومعنى يسحبون: أي: يجرون إلى النار. وفي قراءة ابن مسعود " إِلَى اُلنّاِر " على التفسير، " وسَقَى " إسم من أسماء أبواب جهنم أعاذنا الله منها. وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: لوددت أن عندي رجلا من أهل القدر فوجأت رأسه، قال: ولم ذلك لأن الله D خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء وقلمه ذهب وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر الله فيه كل يوم ستين وثلاث مائة نظرة يخلق في كل نظرة، ويحيي ويميت ويقدر ويدبر،

ويفعل ما يشاء. وقوله {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} هو على المجاز، كما يقال وجدت مس الحمى، وذاق طعم الموت. وقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: بمقدار قدرناه وقضيناه وفي هذا بيان بالتوعد للقائلين بالقدر. وقال ابن عباس: إني لأجد في القرآن قوما يسحبون في النار وعلى وجوههم، يقال لهم ذوقوا مس سقر لأنهم كانوا يكذبون بالقدر وإني لأراهم فما أدري أشيء [كان] قبلنا أم شيء فيما بقي. وقال أبو هريرة خاصمت مشركو قريش النبي A في القدر، فأنزل الله تعالى {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} إلى قوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. (وقال أبو عبد الرحمان السلمي لما نزلت هذه الآية: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)، قال رجل يا رسول الله ففيم العمل، أفي شيء نستأنفه، أم في شيء قد فرغ

50

منه فقال النبي A: أعملوا (فكل مُيَسّرً لما خُلق له فسينسره لليسرى وسنيسره للعسرى). وقال محمد بن كعب القرطبي / لما تكلم الناس في القدر نظرت وإذا هو في هذه الآية أنزلت فيهم: {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} إلى {خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. قال أبو محمد وقد أملانا الكلام على إعراب هذه الآية، والاستدلال منها على أن الله خلق كل شيء، وأنه لفظ عام لا خصوص فيه في غير هذا الكلام. [أي وما أمرنا للشيء إذا أمرنا به وأردنا تكوينه إلا قولة واحدة كن فيكون كلمح البصر] من السرعة لا يتأخر ولا مراجعة فيها. هذا خطاب لمشركي قريش الذين كذبوا محمداً A، أي: ولقد أهلكنا نظراءهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلها كما كذبتم رسولكم، فما يؤمنك أن تهلكوا كما هلك من كان قبلكم، فهل من متعظ يتعظ فيزدجر عن كفره. ثم قال {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أي: وكل شيء فعله أشياعكم من

54

الأمم الماضية فهو في الكتب كتبته عليهم الحفظة، وكذلك فعلت بكم. وقيل الزبر هنا أم الكتاب، هو في أم الكتاب من قبل أن يخلقوا. {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي: وكل صغير من الأعمال أو كبير مثبت في الكتاب مكتوب في أسطر. قال تعالى {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي: إن الذين اتقوا عقاب الله وآمنوا برسله، وبما جاءتهم به الرسل، في بساتين يوم القيامة. والنهر ونَهر بمعنى أَنْهَار كما قال: " فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينا " وقيل نهر معناه وضياء وسعة، يقال أنهرته إذا وسعته. وقرأ الأعمش ونهر بالضم جعله جمع " نهار " كقَذَالِ وقُذَالَ.

وروي أنه ليس في الجنة ليل إنما هو نور كله، إنما يعرفون الليل بإغلاق الأبواب وإرخاء الستور، [والنهار بفتح الأبواب ورفع الستور]. ثم قال {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي: في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم. {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أي: عند ذي ملك يقدر على ما يشاء لا إله إلا هو.

الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الرحمن مكية سورة الرحمن جل ذكره مكية قوله: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إلى قوله (وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [1 - 11]. الرحمن اسم من أسماء الله لا يشاركه فيه أحد، ومعناه: الكثير الرحمة بشرط المبالغة، والمعنى: الرحمان أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن، فبصركم فيه الحلال والحرام. وقيل معناه علم محمدا القرآن، والإنسان " محمداً " [حتى أداه إلى جميع

3

الناس والثاني سهل عليه جميع الناس A] . وقيل لا حذف فيه، والمعنى (الرحمان أيها الناس) جعل القرآن علامة، وآية يعتبر بها. والأول أحسن لقوله {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان}. ثم قال: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [2] يعني آدم A. وقيل هو محمد A. وقيل الإنسان بمعنى الناس. " وعَلّمَهُ البيَان " أي: الحلال والحرام، وقاله قتادة. وقيل معناه: علمع الخير والشر، وما يأتي وما يدع. وقال ابن زيد: معناه علمه الكلام فجعله مميزاً. وقيل معناه علمه بيان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه. وقيل (الخط: وهو مأثور). ثم قال: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [3] أي: يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها، قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.

6

وقال ابن زيد حسبانهما الدهر والزمان، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرِ أحد كيف يحسب. وقال الضحاك معناه: يجريان بقدر. وقال مجاهد: معناه: أنهما يدوران في مثل قطب الرحا. والحسبان مصدر حسبت الشيء حِساباً وحُسْبَانا مثل الغفران والكفران. وقيل الحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان. قال: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} النجم ما نجم من النبات وانبسط على غير ساق، مثل البقل وشبهه، هذا قول ابن عباس وابن جبير وغيرهما، والشجر ما قام على ساق. وقال مجاهد: النجم نجم السماء، وهو قول قتادة والحسن. وقوله / {يَسْجُدَانِ} يعني يسجد ظلهما، وهو اختيار الطبري كما قال: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15]

وهو قول ابن جبير وغيره. / وقال قتادة: لم يدع الله D شيئاً إلا عبده له. وقال مجاهد: يسجدان بكرة وعشياً، يريد أن سجوده: دوران ظله. وقال الحسن النجم نجم السماء، والشجر كله يسجد لله D. واصل السجود: الاستسلام والانقياد لله سبحانه. فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله [ D] وانقيادها له سبحانه، ومن الحيوان كذلك. ثم قال {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن} أي: العدل، فهو خبر فيه معنى الأمر بالعدل ودل على ذلك قوله {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} وقيل هو الميزان الذي يتناصف به الناس. ثم قال {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} أي: وضع الميزان لئلا تبخسوا وتظلموا في الوزن. وقال قتادة: اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل عليك، أَوْفِ كما تحب أن يُوَفّى لك فإن بالعدل صلاح الناس.

ثم قال {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} أي: أقيموا الميزان بالعدل ولا تنقصوا الوزن إذا أوزنتم. ثم قال {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي: والأرض وطأها للخلق. {فِيهَا فَاكِهَةٌ والنخل ذَاتُ الأكمام} أي: في الأرض فاكهة، وفيها النخل ذات الطلع قاله القرظي. وقال الحسن وقتادة والضحاك الأكمام: الِلّيفُ، وأصل الكَمِ أن يكون غلافا للشيء، ومنه قيل كم القميص لأنه يغطي اليد. ثم قال {والحب ذُو العصف والريحان} [أي] وفيها الحب يعني حب البر والشعير، والعصف. ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه يسمى العصف إذا يبس. وقيل هو التبن قاله قتادة والضحاك. وقال ابن جبير العصف: البقل من الزرع. وقوله: (والريحان) يعني والرزق. قال ابن عباس كل ريحان في القرآن فهو رزق وهو قول مجاهد والضحاك.

13

وعن ابن عباس أيضاً أنه الريحان الذي يشم، وهو قول الحسن وابن زيد. وعن ابن عباس أيضاً أنه خضرة الزرع. وقال ابن جبير الريحان ما قام على ساق. وحكى الفراء عن بعضهم العصف: المأكول من الحب، والريحان الذي لا يؤكل. وقال الفراء: العصف بقل الزرع، تقول العرب: خرجنا نعصف الزرع: إذا قطعوا منه شيئاً قبل أن يدرك، فذلك العصف، (والريحان هو ورق والحب الذي يؤكل). أي: فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تكذبان وتجحدان، والآلآء: النعم في قول ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. وقال ابن زيد الآلاء: القدرة، وإنما أضمر الجن والإنس ولم يتقدم للجن ذكر، لأن الأنام واقع على الجميع. وقيل لما أتى بعده وخلق الجانّ، بين ذلك ما

تقدم من التثنية. وقيل إنه مخاطبة للواحد: حكي عن العرب أنهم يقولون: اُدْخُلاَهَا يا غلام. وعن ابن عباس أن رسول الله A قرأ سورة الرحمن أو قُرئت عنده فقال: " مالي أسمع الجن أحسن جواباً منكم، قالوا وما ذلك يا رسول الله قال ما أتيت على قول الله D { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالت الجن ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد ". وقال جابر بن عبد الله تلاها. رسول الله A إلى آخرها فقال: " مالكم سكوتاً الجن كانت أحسن رداً منكم، ما تلوتها عليهم مرة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا ولا بشيء من نعمة ربنا نكذب فلك الحمد ". ومن رواية جابر بن عبد الله أيضا في حديث آخر أنه قال: قال النبي A " ما قرأت هذه الآية على الجن من مرة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا لا بشيء من

14

نعمائك نكذب ربنا ولك الحمد ". (يعني آدم A) من طين يابس لم يطبخ فله صلصة من يُبْس إذا حُرِكَ ونَقْرٍ كالفخار، فهو من يُبْسِه، وإن لم يكن كطبوخاً كالذي طُبخ بالنار، فهو يُصَلصل كما يصلصل الفخار الذي قد طبخ من الطين. قال ابن عباس خلق الله جل ذكره آدم A من طين لازب. واللازب: اللزج الطيب من بعد حماء مسنون، وإنما كان حماً مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسداً ملقى، وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، ويصوت. وقال عكرمة من صلصال /: كالفخار: هو من طين خلط برمل فصار كالفخار. وقال قتادة: الصلصال: التراب اليابس الذي تسمع له صلصلة

15

كالفخار. وعن ابن عباس هو ما عسر فخرج من بين الأصابع. واصل صلصال: صلال، من صلى اللحم إذا نتن وتغيرت رائحته، كصَرْصَر وكَبَكَب من صرَ وكَبَ، فأبدل في جميع ذلك من الحرف المكرر الثاني حرفاً من جنس الأول. قال {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} المارج ما اختلط بعضه ببعض من بين أصفر وأخضر وأحمر من قولهم: مرَج أمر القوم: إذا اختلط. وقال ابن عباس من أوسط النار وأحسنها، وعنه خلقه من لهب النار من أحسن النار. وعنه من خالص النار، وعنه من لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال مجاهد: المارج اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت. / وذكر عنه ابن وهب أن المارج الحمرة التي تكون في طرف النار. ويروى أن الله جل ذكره خلق نارين فمزج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما

17

الأخرى وهي نار السموم، فخلق إبليس اللعين منها، وكل هذا من أول السورة، نعم أنعم الله بها على خلقه ذكرها وعددها فلذلك قال بعد ذلك. {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: فبأي نعم ربك تكذب الأنس والجن. فالضمير في {تُكَذِّبَانِ} في جميع السورة يعود على الأنس والجن الذين مضى ذكرهما في قوله {خَلَقَ الإنسان} {وَخَلَقَ الجآن} لكنه تقدم فيه ضميرهما قبل ذكرهما في الأول خاصة لأن المعنى مفهوم. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد تقدم شرحه. قال {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} يريد مشرق الشمس في اشتاء ومشرقها في الصيف وكذلك مغربها، {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد تقدم، وليس ذلك كله بتكرير، لأنه تعالى يذكر لهما غير النعم المتقدمة. ثم ينبه عليها قوله {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ}. أي: أرسلَهُما وخلاّهما.

20

يقال مرج فلان دابته: إذا خلاها وتركها، وهما بحران أحدهما في السماء والآخر في الأرض، قاله ابن عباس، وقال يلتقيان في كل عام. وقال الحسن: هما بحرا فارس والروم، وقاله قتادة. قال {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} أي: بين البحرين حاجز لا يصيب أحدهما صاحبه، وكل شيء كان بين شيئين فهو برزخ عند العرب، فما بين السماء والأرض برزخ. وقيل معناه: بينهما بعد لا يبغي أحدهما على الآخر قد حجز المالح عن العذب والعذب عن المالح. وقال ابن زيد: بينهما بعد الأرض فلا يختلطان. وقيل لا يبغيان: لا يبغي أحدهما على الآخر. وقال قتادة: لا يبغيان على الناس. قال الحسن: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم، جعل بين الناس وبينهما اليبس. وقال ابن زيد: لا يبغيان أن يلتقيا. {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أي: يخرج من

أحدهما [وهو المالح ثم حذف المضاف مثل " وَاسْئَلِ اَلْقَريَة ". وقيل ما يخرج منهما] جميعاً لأن الصدف التي في المالح لا يتكون اللؤلؤ فيها إلا عن قطر السماء، وهو قول الطبري. وروى معناه عن ابن عباس قال: إن السماء إذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها فما وقع فيها من مطر فهو لؤلؤ. والمرجان صغار اللؤلؤ واللؤلؤ ما عظم منه، هذا قول علي ين أبي طالب وابن عباس Bهما وقتادة والضحاك وأبي عبيدة وغيرهم (رحمهم الله). وقال مجاهد: " المرجان ما عظم من اللؤلؤ، وروى ذلك عن ابن عباس. وقال ابن مسعود: المرجان حجر أحمر. وقيل المرجان: جيد اللؤلؤ. ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد تقدم شرحه.

24

قال {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} أي: ولرب المشرقين والمغربين السفن الجارية في البحر كأنها الجبال. قال مجاهد: المنشآت ما رفع قلعه من السفن، وما لم يرفع قلعه فليست بمنشآت. قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} / يعني من على وجه الأرض ومن يكون فيها بالموت، وأضمرت الأرض ولم يتقدم ذكرهما لظهور المعنى. قال {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} أي: معناه ويبقى ربك. ثم قال {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي: إليه يفزع من في السماوات والأرض في حوائجهم لا غنى لأحد عنه. ثم قال {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال أهل المعرفة بالله معناه أنه ينفذ ما قدر أن يكون مما سبق في علمه وأثبته في اللوح المحفوظ، وليس هو إحداث أمر لم يتقدم في علمه بل جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة لا يزاد في ذلك ولا ينقص، لكنه تعالى يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء، وكل ذلك تقدم علمه به بلا أمد. وقال قتادة: معناه: يحيي حياً ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً.

وقال أبو صالح معناه: يسأله من في السماوات الرحمة، ومن في الأرض المغفرة والرزق. وقال علي بن سليمان معناه: يسأله من في السماوات والأرض عن شأنه كل يوم هو فيشأن. وقال عبيد بن عمر كل يوم هو في شأن يجيب داعيا ويعطي سائلاً، ويفك عانياً ويشفي سقيماً. وروى ابن عمر عن النبي A: كل يوم هو في شأن " (أي في شأن) يغفر ذنباً ويكشف كرباً، ويجيب داعياً. وقال قتادة: كل يوم هو في شأن: أي: في شأن خلقه وصلاحهم، وتدبير أمورهم. قال ابن عباس أن الله جل ذكره لوحا محفوظا ينظر فيه كل يوم (ثلاث مائة وستين) نظرة، يعز مع نظرة من يشاء ويذل من يشاء ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء. وقال أبو سليمان الداراني إنما إنفاذ ما قدر أن يكون في ذلك اليوم، وليس

شيء من أمره تعالى يحدث إلا قد جرى القلم بما هو كائن. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم قال {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} هذا وعيد من الله لعباده وتهدد، ومعناه: سآخذ في مجازاتكم ومحاسبتكم وليس هو تفرغ من شغل. وقيل المعنى سنفرغ لكم من وعيدكم ما وعدت لكم من الثواب والعقاب. والفراغ في اللغة على وجهين: إحداهما الفراغ من الشغل /، والآخر القصد إلى الشيء تقول سأفرغ لك: أي: سأقصد إليك. قال جرير: (فرغت إلى العبد المقين في الحجل). وقال أبو عبيدة: سنحاسبكم. وقرأ يوماً عمر بن ورق {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 24]، وقرأ

33

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} ثم قال أما وعده ربي لقد جاء من غير غيبة، ولقد تفرغ من غير شغل. قال {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} أي: إن استطعتم] أن تجوزوا أقطار السماوات والرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا فإنكم لا تجوزون لذلك إلا بحجة من ربكم، يقال لهم ذلك يوم القيامة. والمعنى سنقصد لكم يوم القيامة فيقال لكم إن قدرتم أن تجوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم فلا يصل إلى عذابكم فجوزوا فإنكم لا تقدرون على ذلك إلا بحجة من عند ربكم تنجيكم. قال الضحاك إذا كان يوم القيامة أمر الله جل وعز السماء الدنيا [فتشققت] بأهلها ومن فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم ثالثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة فصفوا صفاً دون صف ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نادوا فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا

فيه فذلك قوله D { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} [غافر: 32] على قراءة من قرأ بالتشديد {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 33]، وذلك قوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 24] وهو قوله {يامعشر الجن والإنس}. . الآية وذلك قوله {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 16 - 17]. وعن الضحاك أيضاً أن المعنى: أن استطتم أن تهربوا من الموت فاهربوا فغنه مدرككم. وقال ابن عباس معناه: إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فأعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان، أي: ببينة من الله تعالى. وعن ابن عباس أيضا أن معناه: لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم. والأقطار جمع قطر وهي الأطراف والنواحي، ويقال فيها الأقتار بالتاء يقال قطر الدار وقترها. قال مجاهد: إلا بسلطان: إلا بحجة. وقال قتادة: إلا بملك / وليس لكم

ملك. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد تقدم تفسيره. ثم قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} قال ابن عباس المعنى يرسل عليكم أيه الثقلان يوم القيامة لعب من نار ودخان. فالشوظ: اللهيب، والنحاس، الدخان، وقال مجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد: وعن الضحاك الشواظ: الدخان. قال ابن عباس النحاس: الدخان، وعنه أنه قال النحاس: الصفر يعذبون به. وقال مجاهد: يذاب الصفر من فوق رؤوسهم. وقال قتادة: النحاس: الصفر يعذبون به، وهو قول الحسن. وقوله {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي: لا ينصر بعضكم بعضاً أيها الجن والأنس. وكسر الشين

37

في شواظ لغة، ومن خفض " نحاس " فعلى معنى يرسل عليكما لهب يتشعب من نار ومن دخان، وهذا التقدير حسن. قوله {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان}. أي: فإذا انفطرت السماء وذلك يوم القيامة وكان لونها كلون الفرس الورد الأحمر. قال ابن عباس فكانت وردة كالدهان: كالفرس الورد. وقال الضحاك تتغير السماء فيصير لونها كلون الدابة الوردة. ومعنى كالدهان: كالدعن صافية، قال سجاد والضحاك. وقال أبو الجوزاء تكون كصفاء الدهن. وقال زيد بن أسلم

39

تكون كعكر الزيت. " والدهان " جمع " دهن "، وقيل الدهان الجلد الأحمر. ثم قال {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قد تقدم شرحه. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} أي: لا تسأل الملائكة أحداً عن ذنوبه، لأن الله D قد حفظها [عليهم] وأحصاها فليس يؤخذ علمها من عندهم. قال ابن عباس معناه: لا أسألهم عن ذنوبهم، ولا أسأل بعضهم عن ذنوب بعض وهو مثل قوله {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] وهو مثل قوله تعالى لمحمد A { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119] على قراءة من رفع. وقال مجاهد: معناه أن الملائكة لا تسأل عن المجرمين لأنهم يعرفونهم بسيماهم. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم الله على السنة القوم فتكلمت ايديهم

41

وأرجلهم بما كانوا يعملون، فكأنها مواقف مختلفة على قول قتادة. وقال قتادة: أيضاً هم معروفون بسواد وجوههم، وزرقة عيونهم. ودل على صحة (هذا التفسير) أن بعده يعرف المجرمون بسيماهم. والسيماء: العلامة وهو قول الحسن أيضاً. قال {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} أي: / تعرف الملائكة المجرمين بعلامتهم وذلك سواد وجوههم، وزرقة الأعين، قاله أهل التفسير كلهم. وقوله {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي: مجمع (بين رجلي الرجل) وناصيته حتى يدق ظهره ثم يلقى في النار، فذلك أشد لعذابه وأعظم في التسوية به. قال ابن عباس يجمع بين ناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور.

43

قال {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} أي: يقال لهم هذه جهنم التي كنتم (بها تكذبون). وفي قراءة ابن مسعود هذه جهنم التي [كنتما] بها تكذبون، تصليانها لا تموتان فيها ولا تحييان مخاطبة للكفار من الجن والإنس. ثم قال {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: يطوف هؤلاء المجرمون في جهنم بين أطباقها. {وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي: وبين ماء قد أسخن وأغلى حتى انتهى حره ونضجه. [وقال الضحاك: بلغ غليه، وعنه أيضاً قد انتهى نضجه منذ خلق الله السماوات والأرض. وقال ابن زيد: الآني: الحاضر. وقال الحسن ما ظنك باقوام وقفوا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فلما انقطعت أعناقهم وأجوافهم من العطش والجوع أمر بهم إلى نار جهنم]. ثم قال {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}. أي: ولمن اتقى الله جلذ كره، وخاف مقامه بين يدي ربه D فأطاعه بستانان. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر مقام ربه فينزع منه، وهو قول النخعي وقتادة.

وقال أبو الدرداء " قرأ رسول الله A يوماً الآية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فقلت وإن زنا وسرق يا رسول الله [فقلت كذلك إلى ثلاث مرات فقال النبي A] وإن رغم أنف أبي الدرداء " قال ابن زيد مقامه حين يقوم العباد بين يديه [يوم] القيامة. فالمعنى ولمن ترك المعصية خوفاً من الله جنتان، قيل هما جنة خلقت له وجنة ورثها كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. وروى ابن عباس أن النبي A قال " هل تدرون ما الجنتان قالوا الله ورسوله أعلم. فقال بستانان في أرض الجنة، كل بستان مسيرة مائة عام في وسط / كل بستان دار من نور على نور، وليس منها شيء إلا يهتز (نعمة وخضرة) قرارها ثابت وشجرها ثابت. ثم قال {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} هذا نعت للجنتين " قال ابن عباس: ذواتا ألوان. وقال عكرمة ذواتا أفنان: ظل

50

الأغصان على الحيطان، وهو قول مجاهد والضحاك. وقال الضحاك ذواتا ألوان من الفاكهة. وعن مجاهد معناه: ذواتا أغصان وعن ابن عباس أيضاً أنه قال يتماس أطراف شجرها، أي: يمس بعضه بعضا كالمعروشات. وقال قتادة: ذواتا أفنان: يعني فضلهما وسعتهما على ما سواهما. وقال معمر ذواتا فضل على ما سواهما. والأفنان في اللغة: الأغصان، والواحد " فنن " على قول أكثرهم إلا الضحاك فإن الواحد على قوله " فن " ويلزم أن يجمع على قوله على فنون لأنه قال ذواتا أفنان، ذواتا ألوان من الفاكهة. قال {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي: في الجنتين عينان تجريان يقال إن حصباهما الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وترابهما الكافور، وحصاتهما المسك

54

الأذفر وحافاتهما الزعفران. (قال مسروق في صفة الجنة أنهارها تجري في غير أخدود، ونخلها نضيد من أسفله إلى فرعه، وثمرها أمثال القلال كلما أخذ منها تمرة عادت مكانها أخرى، طول العنقود اثنى عشر ذراعاً). ثم قال {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي: في الجنتين من كل نوع من الفاكهة نوعان وضربان. قال {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي: ينعمون متكئين على فرش، ودل الكلام على هذا الفعل وهو العامل في الحال ذكره المبرد. وقيل العامل معنى الملك في قوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {مُتَّكِئِينَ} وهو محمول على المعنى، ولو دل على اللفظ لقال متكئاً. والاستبرق عند العرب: الديباج الغليظ الذي يعلو على الكعبة. وقيل هو الخز الموشي هذا هو البطائن. ولم يذكر تعالى ذكره الظواهر، إذ ليس في الدنيا من يعرف قدرها. قال ابن مسعود قد أخبرتم بالبواطن فكيف لو أخبرتم بالظواهر.

وقيل لابن جبير هذه البطائن من استبرق، فما الظواهر؟ قال هذا مما قال الله جل ثناءه فيه {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. وفي الحديث " ظواهرها بدر يتلالا " وصغر سيبويه استبرق على أبيرق، وأن السين والتاء زائدتان والألف بمنزلة ميم مستفعل، لأن الهمزة / [تكون] زائدة أولاً في بنات الأربعة والخمسة، إنما تكون زائدة أولاً في بنات الثلاثة. وقال الفراء تصغيره " تَبَيْرق " فحذف السين والهمزة. ثم قال {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أي: وثمر الجنتين قريب من آخذه ومجتنيه يجتنيه كيف يشاء قائماً وقاعداً وراقداً. قال قتادة: ثمارها جانية لا يرد أيدهم عنده بعد ولا شوك. وقال النبي A: " والذي نفسي بيده لا يقطع رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله جل ثناؤه مكانها خيراً منها ".

56

وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: نخل الجنة خشبها ذهب كرنفها زمرد أخضر وثمرها أمثال القلال أحلى من الشهد، والين من الزبد لا عجم لها. وقال أبو عبيدة عن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود نخلها نضيد من أسفله إلى فرعه، وثمرها أمثال القلال. كلما أخذت منها ثمرة عادت مكانها أخرى، طول العنقود منها أثنى عشر ذراعا. قال {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} أي: في الفرش. وفي بمعنى على، والمعنى: على الفرش حور قاصرات الطرف. وقيل المعنى: في الجنتين وفيما أعد له قاصرات الطرف: فلذلك جمع " فيهن " ويجوز أن تكون الجنتان تشتمل على جنات، فجمع " فيهن " على المعنى، ألا ترى أن الجنة التي أمد الله D لأوليائه تشتمل على جنات قد تقدم ذكرها وقد قال تعالى:

{يَدْخُلُونَ الجنة} [النساء: 124]. ثم قال {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الرعد: 23]، فأبدل من الجنة جنات لأنها تشتمل على جنات. وقيل هو جمع أتى في موضع التثنية /، كما قال {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وله نظائر تقدم ذكرها. وقال الفراء كل موضع من الجنتين جنة، فلذلك قال {فِيهِنَّ}. ومعنى {قَاصِرَاتُ الطرف} أي: قصر أطرافهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال. قال ابن زيد: لا ينظرن إلا إلى أزواجهن، تقول الحوراء: وعزة ربي وجلاله وجماله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك. يقال قصره: إذا حبسه. فالمعنى فيهن حور حابسات طرفهن عن جميع الرجال إلا من أزواجهن. روى أنه عني بهن الآدميات اللواتي يمتن أبكاراً، ودليل هذا قوله {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ} يعني في الدنيا لم يدمهن، لم يفتضضهن إنس قبل أزواجهن في

الجنة ولا جان. حكى الفراء طمثها يطمثها إذا أفتضها، ولا يكون إلا بتدمية، ومنه قيل للحائض: طامث. وقال غير الفراء يقال طمثها: إذا وطئها على أي الوجوه كان. قال عكرمة: لم يطمثهن: لم ينكحهن، والطمث: الجماع. قال ابن عباس: لم يطمثهن، لم يدمهن، فإن قيل كيف ذكر الجان في الوطء، فالجواب أن مجاهداً قال إذا جامع الرجل ولم يسم انطوى الجان على إِحْلِيلِه فجامع معه. واستدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الجن يدخلون الجنة، فالإنسيات للإنس والجنيات للجن، قاله (ضمرة بن حبيب). وهذه الآية أيضاً تدل على أن الجن يطئون. ثم قال {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان}

60

أي: كأن هؤلاء الحور الياقوت في صفائه يرى مخها من فوق لحمها وحللها كما يرى السلك في داخل الياقوتة وكأنهن اللؤلؤ في بياضه، هذا قول عباس والحسن وابن زيد وسفيان وغيرهم. وقيل المعنى هن في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ وحمر المرجان من رقة البشر. وروى ابن مسعود أن النبي A قال: " أن المرأة من الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير ومخها، وذلك أن الله قال {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} فأما الياقوت فإنك لو أدخلت فيه سلك لرأيته من ورائه ". وعنه A أنه قال " من دخل الجنة فله فيها زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء ثيابهما ". قوله {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان}. إلى اخر السورة الايات [59 _ 78].

أي: هل جزاء من أحسن لنفسه، فخاف من قالم ربه، وأطاع الله إلا أن يحسن إليه في الآخرة بما وصف من الجنس والفرش والحور، وغير ذلك من النعيم. قال قتادة: عملوا خيراً فجوزوا خيراً. قال ابن المنكدر أي معناه هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلا الجنة. ورواه مالك عن زيد بن أسلم. وقال عكرمة / معناه هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. وقيل المعنى: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة. ثم قال {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي: ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان والمعنى ومن دونهما في الدرج. وقال ابن عباس ومن دونهما جنتان وهما اللتان قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وهي التي لا يعلم الخلائق ما فيها، تأتيهم كل يوم منها تحفة. وقال ابن زيد معناه: ومن دونهما جنتان هي أدنى من هاتين لأصحاب

اليمين. والتقدير في العربية: وله من دونهما جنتان، أي: لمن خاف مقام ربه جنتان دون الاولتين في الفضل. ثم قال {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: خضراوان يعني من الري. قاله ابن جبير وابن الزبير، وابن عباس، وأبو صالح، وقتادة. وقال مجاهد: معناه مسودتان. والدهمة عند العرب: السواد. ثم قال {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي: في هاتين الجنتين (عينان من ماء فوارتان)، أي: يفور الماء منهما. والنضخ أكثر من النضح، ولم يسمع منه فعل، قال عكرمة وابن زيد ينضحان بالماء. قال ابن عباس نضاختان: فائضتان. وقال الضحاك ممتلئتان لا تنقطعان. وقال ابن جبير نفاختان بالماء والفاكهة. وقيل تنفخ على أولياء الله بالمسك والعنبر.

68

ثم قال {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أي: في هاتين الجنتين / ذلك، وأعيد ذكر النخل والرمان وقد دخلا في جملة الفاكهة لفضلهما، كما قال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 97]. وكما قال {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238]. وكما قال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الحج: 18]. ثم قال {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} [الحج: 18]. فأعيد هذا البيان. وقيل أنهما ليستا من الفاكهة. ثم قال {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} أي: في الجنتين الأوليين والثانيتين حور خيرات حسان، فأصله التشديد ولكن خفف كميت وهين ولا يستعمل على الأصل لطوله، والمعنى خيرات الأخلاق حسان الوجوه. وروى ذلك عن النبي A. قال ابن جبير نخل الجنة جذوعها من ذهب وعروقها من ذهب وكرانيفها من زمرد، وسعفها كسوة لأهل الجنة، وثمرها كاللؤلؤ أشد بياضا من اللبن (أحلى من العسل وألين من الزبد) ليس له عجم. ثم قال {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} أي: محبوسات في الخيام قصور على أزواجهن فلا يردن غيرهم. وقيل الخيام هنا:

الحجال. وقيل الخيام: البيوت. وقال الحسن: محبوسات ليس بطوافات في الطرق. وقال ابن عباس: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ: لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. قال عمر بن الخطاب: الخيام در مجوف، وكذلك روى ابن وهب عن ابن مسعود وهو قول ابن جبير ومجاهد والضحاك وهو مروي عن النبي A. وقال قتادة: مسكن المؤمن في الجنة يسير الراكب الجواد فيه ثلاث ليال وأنهار

جناته وما أعد الله له من الكرامة. وقال ابن زيد خيامهم في الجنة من لؤلؤ. قال سعيد بن جبير أدنى أهل الجنة منزلة من له قصر له سبعون ألف خادم في يد كل خادم صفحة فيها لون سوى لون صاحبتها وطعم سوى طعم صاحبتها لو أطابه أهل الدنيا لأوسعهم. وعن أنس بن مالك يرفعه: قال: أن أسفل أهل الجنة أربعين درجة ليقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل خادم صفحتان، واحد من ذهب وأخرى من فضة، في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله، يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها، ويجد لآخرها من اللذة مثل ما وجد لأولها، ثم يكون ذلك رشحا كرشح المسك. وحشاؤه مسك لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. وفي حديث عن النبي A " إن أهل الجنة يلهمون فيها الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس " وعن أبي هريرة قال: إن أدنى أهل / الجنة منزلة وما منهم دان

74

يغدو الحمد عليه ويروح عشرة آلاف خادم، ما منهم خادم إلا ومعه طريقة ليست مع صاحبه. ويروى أن الخيمة من درة بيضاء أو خضراء أو ياقوتة حمراء، أو لؤلؤة جوفاء يرى باطنها من ظاهرها. (وروى عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله A قال " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبر على وجهه في جنات عدن) ". قال {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} أي: لم يمسهن نكاح فيدمهن من إنس ولا

جان، وقد تقدم الاختلاف فيه. ثم قال {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي: يتكئ هؤلاء أصحاب الجنتين الثانيتين على رفرف خضر (وعبقري حسان) وهي رياض الجنة جمع رفرفة قاله مجاهد وابن جبير. وقال ابن عباس عن المحابس، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد. وقال الحسن هي البسط. وقيل هي المرافق. روى قتادة عن الحسن أيضا قال هي مرافق خضر، وهو مشتق من رَفَّ يَرُفُّ: إذا أرتفع. والعبقري الطنافس. وعن مجاهد أنه الديباج وهو جمع، / وَاحِدَتُه عَبْقَرَية. وقال ابن عباس: العبقري الزرابي، وهو قول قتادة. وقال ابن جبير هي عتاق الزرابي. وقال ابن

78

زيد هي الطنافس. وسئل ابن عمر عن قول النبي A " فلم أر عبقرياً يفري فرية " فقال هو رئيس القوم وجليلهم. قال {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} أي: تبارك ربك يا محمد ذو العظمة وذو الإكرام من جميع خلقه. وقرأ ابن عامر: ذو: " بالواو " على النعت للاسم، وكذلك هي في حرف أُبيّ وابن مسعود. قال ابن عباس ذي الجلال والإكرام: ذي العظمة والكبرياء. وتبارك: تفاعل من البركة في أسمه، والبركة في اللغة: نماء النعمة وثباتها، فحضهم

بذلك على أن يكثروا ذكر اسمه ودعاءه. وأن يذكروه بالإجلال والتعظيم، وفي الحديث " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " أي أكثروا بالدعاء به.

الواقعة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الواقعة مكية روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من داوم قراءة الواقعة لم يفتقر أبداً". قال معروف دعي ابن مسعود إلى عطائه ليأخذه فأبى، فقيل له خذ للعيال،

فقال أنهم يقرءون سورة الواقعة، فمن قرأها أذهبت عنه الفاقة، قال معروف فاكثرت ذلك، فرأيته كذلك من ليلتي أو من الغد. قال ابن مسعود أني قد أمرت بناتي أن يقرأن سورة الواقعة كل ليلة فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة". ومن رواية ابن وهب أن ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبداً". وكانت عائشة رضي الله عنها تقول للنساء لا تعجزن أحداكن أن تقرأ سورة الواقعة كل ليلة. (وقال مسروق بن الأجدع من أراد أن يعلم نبأ الأولين ونبأ الآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من داوم قراءة الواقعة لم يفتقر أبداً".

1

قوله: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) إلى قوله: (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [1 - 16]. المعنى: إذا نزلت صيحة القيام، وذلك حين ينفخ في الصور لقيام الساعة. والواقعة والآزفة والطاعة والحاقة والقارعة والصاخة، كلها من أسماء يوم القيامة. قال الضحاك: الواقعة: الصيحة. وقال الحسن: هي القيامة. أي ليس لقيام الساعة رجعة ولا مثنوية، قال الحسن. وقال سفيان: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقيل المعنى: ليس في الأخبار بأنها تكون كذب. وكذب وكاذبة مصدر

3

كالعاقبة. ويجوز أن يكون نعتا كأنه قال: جماعة كاذبة. قال عبد الله بن سراقة خفت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله إلى الجنة. قال قتادة: تخللت كل سهل وجبل حتى أسمعت القريب والبعيد، ثم رفعت أقواما في كرامة الله جل ثناؤه، وخفضت أقواماً في عذاب الله سبحانه. وقال عكرمة والضحاك خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعه الأقصى فكان القريب والبعيد من الله سبحانه سواء. / وقال ابن عباس أسمعت القريب والبعيد. وقيل المعنى أنها تخفض أقواماً كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع أقواماً كانوا في

4

الدنيا متضعين. إذا زلزلت الأرض فتحركت تحريكا قاله ابن عباس. وقتادة ومجاهد. أي: وفتت الجبال فتاً، قاله ابن عباس والشعبي وأبو صالح فصارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول، كما قال {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14]. وقال قتادة: كما يبس الشجر تذروه الرياح يمينا وشمالا. أي: فكانت الجبال هباء، وهو الغبار الذي يكون في شعاع الشمس من الكوة كهيئة الغبار، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد. وقال علي الهباء المنبت: رهج الدواب.

7

وعن ابن عباس الهباء: الذي يطير من النار / إذا اضطرمت، يطير منه الشرر فإذا وقع لم يكن شيئاً. وقال قتادة: هباء منبثاً كيبيس الشجر تذروه الرياح يميناً وشمالا. وقوله {مُّنبَثّاً} يعني به متفرقاً. أي: وكنتم أيها الناس أنواعاً ثلاثة. قال ابن عباس أزواجاً: أصنافاً ثلاثة. وقال قتادة: هي منازل الناس يوم القيامة ثلاثة منازل. قال: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} هذا أحد الأزواج الثلاثة. والثاني قوله: {وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة} والثالث قوله: {والسابقون السابقون} فأتى الخبر عنهم مغنيا عن البيان عنهم لدلالة الكلام على معناه. وفي الكلام بما

معنى التعجب، يعجب الله D نبيه عليه السلام، أي: ماذا لهم، وما أعد لهم من نعيم أو من عذاب. ومعنى: أصحاب الميمنة: أي: الذين أخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة وهي علامة لمن نجا. وكذلك أصحاب المشئمة، هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الأيسر الأشام، ومنه اليمن والشؤم، وقيل إنما سموا بذلك لأنهم أعطوا كتبهم بإيمانهم أو بشمائلهم. وقيل إنما سموا بذلك لأن الجنة عن يمين الناس والنار عن شمالهم. وقيل سموا بذلك لأن أصحاب الميمنة ميامين على أنفسهم، وأصحاب المشئمة مشائيم على أنفسهم، مأخوذ من اليمن والشوم.

10

وقال أبو العباس ثعلب: العرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك " أي اجعلني ضمن المتقدمين عندك ولا تجعلني من المتأخرين. وقال في قوله تعالى {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة}، قال أصحاب الميمنة هم أصحاب التقدم، وأصحاب المشئمة هم أصحاب التأخر. وانشدوا لابن الدمينة: أي بني أخي يُمني يديك جعلتني ... أم صيرتين في شمالك فأفرح. معناه: أخبرني أنا من المتقدمين عنك أن من المتأخرين. وقيل هذا مردود على الخبر الذي أتى: أن الله جل ذكره خلق الطيب من ذرية آدم A في الجانب اليمين من آدم، وخلق الخبيث من الجانب الشمال منه، فلذلك ينادون يوم القيامة بأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فذلك ستة أقوال. والذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله وهم المقربون وهم المهاجرون الأولون، وهم المقربون من الله، وقيل

13

هم الذين صلوا إلى القبلتين، قاله ابن سيرين. وعن النبي A أنه قال السابقون من الأمم الماضية أكثر من سابقي هذه الأمة. وقال مجاهد: هم السابقون إلى الجهاد في سبيل الله جل وعز. وقيل هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفا في سبيل الله D. { أولئك المقربون} أي: هم الذين يقربهم الله سبحانه منه يوم القيامة ويدخلهم جنات النعيم. (وروت عائشة Bها أن النبي A قال: " أتدرون من السابقون يوم القيامة: قالوا الله ورسوله أعلم، قال: " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه / وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم ". قال {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} أي: جماعة من الأولين، يعني من الأمم الماضية. {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} وقيل من الأمة الآخرة: يعني أمة محمد A، قاله الحسن. وروى عن النبي A أنه قال: " الثلثان جميعاً من أمتي ".

15

وقيل عني بذلك النبيين والمرسلين ومن يشبههم من الصديقين فقال {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين}، لأن الأنبياء والمرسلين كانوا في الأولين دون الآخرين. وقال أبو هريرة " لما نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} شق ذلك على أصحاب النبي A، فنزلت: ثلة من الأولين وثلة من الآخرين فقال رسول الله A إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وتغلبوهم في النصف الباقي ". قوله: على سرر: أي: هم على سرر، والسرر جمع سرير. ومعنى موضونة عند أبن عباس وغيره: مصفوقة. قال أبو عبيدة / موضونة: منسوجة مدخل بعضها فوق بعض، والوضين:

16

البطان من السيور: إذا نسج بعضه على بعض مضاعفاً كحلق الدرع، فهو فعيل في معنى مفعول. وقال مجاهد: وعكرمة الموضونة: المرمولة بالذهب. وقال قتادة: هي المشبكة بالذهب. وعن عكرمة مشبكة بالدر والياقوت. وقيل السرير الموضون هو الذي سطحه بمنزلة المنسوج، وذلك ألين من الخشب، ويقال وضنت الشيء بمعنى نسجته وضمنته. أي: وجه بعضهم حذاء بعض لا ينظر بعضهم إلى قفاء بعض، يعني به المؤمن وأزواجه.

17

وقيل يعني المؤمنين بعضهم مع بعض، فوصفهم الله D بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق، كما قال تعالى {إخوانا على سُرُرٍ متقابلين} [الحجر: 47]. قال: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} أي: يطوف عليهم بالأكواب غلمان باقون لا يموتون ولا يهرمون على سن واحد كأنهم ولدوا في وقت واحد. والأكواب جمع كوب، وهو من الأباريق ما اتسع رأسه ولم يكن له خرطوم. وقال ابن عباس الأكواب: الجرار من الفضة. وقال مجاهد: الأباريق ما كان لها آذان، والأكواب ما ليس لها آذن. وعنه الأكواب ما ليس له عرى ولا آذان وهو قول الفراء، وما كان له أذن وعرى فهو إبرايق. وقال قتادة: الأكواب دون الأباريق وليس له عرى. وقال الضحاك الأكواب جرار (ليس لها عرى).

19

وقال أبو صالح الأكواب التي ليست لها عرى، المستديرة أفواهها والأباريق التي لها خراطيم. ثم قال: الكأس: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} الكأس: القدح الذي فيه الخمر، لا يقال لها كأس حتى تكون فيه، فإن كان فارغاً فهو زجاجة. وقوله: {مِّن مَّعِينٍ} أي: من عيون جارية. قال ابن عباس وكأس من معين: الخمر. وقال قتادة: من معين: من خمر جارية ترى بالعين. أي: لا يصدع رؤوسهم شربها. وقيل معناه (لا يتفرقون عنها عرقاً كخمر الدنيا). ثم قال: {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي: لا تنزف عقولهم، قاله مجاهد.

20

وقال قتادة: لا تغلب أحدا على عقله. وقال أبو عبيدة لا يصدعون عنها: لا تصدع رؤوسهم، ولا ينزفون: لا يكسرون ومن قرأ بكسر الزاي فمعناه لا ينفذ شرابهم. وقيل: لا ينزفون: لا تتغير ألوانهم لشربها، وهو زوال الدم من الوجه. أي: يطوف عليهم هؤلاء الولدان بفاكهة مما يتخيرون لأنفسهم من الجنة وتشتهيها قلوبهم. قال بعض المفسرين: يخلق الله جل ذكره لهم لحما على ما يشتهون من (شواء وطبخ) من جنس الطير. وبعضهم يقول لهم لحم طير من الجنة على الحقيقة. وروى ابن مسعود عن النبي A أنه قال: " ما هو إلا تشتهي الطائر في الجنة وهو يطير فيقع بين يديك مشوياً ".

22

ويروى أن رجلاً من أهل الجنة يجني الفاكهة فيخطر على قلبه غيرها، وهي في يده فتحول التي جنى إلى جنس التي خطرت بقلبه، ويخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى. من رفع فعلى الابتداء. والتقدير: وحور عين لهم. ويجوز أن يكون معطوفاً على ولدان أي: ويطوف عليهم حور عين، هذا قول اليزيدي، ومذهب سيبويه أن الرفع محمول على المعنى، لأن المعنى: لهم فاكهة أو فيها فاكهة وأباريق وكأس ولحم وحور عين، وأنشد على ذلك أبياتاً حمل الآخر على المعنى الأول ولم يحمله على اللفظ. والرفع اختيار أبي عبيدة والفراء، لأن الحور لا يطاف بهن. وقد قرأ حمزة والكسائي بالخفض جعلا {وَفَاكِهَةٍ} {وَلَحْمِ طَيْرٍ} معطوفة على

{فِي جَنَّاتِ النعيم} (أي هم في جنات النعيم) وفي فاكهة، وفي لحم طير، وفي (حور) عين وما بين {وَفَاكِهَةٍ} " وحنات اعتراض " ودل على ذلك قوله بعد {سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} وما ذكر بعده إلى {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ}. ثم قال: {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} [الواقعة: 35] فكنى عن الحور ولم يجر لهن ذكر من لدن قوله {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ}، وإنما ذلك لأنه لما ذكر الفرش استغنى عن ذكر من يفترش عليها من الحور ثم أخرج الكناية عنهن للمعنى / المفهوم في الكلام. وقال الفراء الخفض على الاتباع / وهو ضعيف. وقال قطرب هي معطوفة على الأكواب والأباريق، فجعل الحور يطاف بهن. قال بعض العلماء (أي يطاف بهن عليهم) ويكون لأهل الجنة في ذلك اللذة، لأن فيها ما تشتهي الأنفس.

23

وقيل الخفض محمول على المعنى، لأن معنى يطوف عليهم بكذا وكذا ينعمون به فيصير المعنى: ينعمون بفاكهة وبلحم وبحور عين. وقرأ أبي " حورا عينا " [بالنصب حمله على المعنى أيضاً لأن معنى يطوف عليهم بكذا: يعطون كذا ويعطون حورا عينا]. وتقدير النصب عند أبي حاتم " ويزجرون حورا عينا ". أي: هن / في بياضهن وحسنهن كاللؤلؤ المكنون الذي صين في كن. وقالت أم سلمة قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تبارك وتعالى {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون}، فقال: صفاؤهن كصفاء الدر الذي في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي. وسمي نساء الجنة بالحور لبياضهن، ومنه قيل للدقيق الخالص الحواري، ومنه الحواريون لبياض ثيابهم، وقيل كانوا قصارين يبيضون الثياب. والحور في

24

العين: شدة سواد الحدقة مع شدة بياض ما حولها، وسمين {عَيْناً} لشدة سواد الحدقة وشدة بياض ما حولها، وهي المقلتان. وقيل: " العين " الكبيرات الأعين، يقال: امرأة عينا ورجل أعين: كبير العين. (أي ثواباً لهم بعملهم في الدنيا، وعوضاً من طاعة الله D) . والحوراء: الشديدة سواد العين (والشديدة بياض) العين، قاله الحسن. وقال الضحاك: هي عظام العين. وقال ابن عباس: (سواد الحدقة). وقال الحسن الحور: صوالح بني آدم.

25

وقال الليث بن أبي سليمان بلغني أن الحور العين خلقن من الزعفران، وكذلك روى ليث عن مجاهد وعن مجاهد أيضاً أنه إنما سمين حورا (لأنهن يحار) فيهن الطرف. قال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي: في الجنة {لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} أي: لا يسمعون في الجنة باطلا من القول، وليس فيها ما يؤثمهم. / وقيل اللغو: ما يلغى. أي: لا يسمعون فيه ما يكرهون، إنما يسمعون أسلم مما تكره. وقيل المعنى إلا قيلا يسلم فيه من الإثم. (أي ماذا لهم من النعيم، وفي الكلام معنى التعجب يعجب الله D نبيه A ما أعده لهم من الفضل، وأصحاب اليمين) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين يوم القيامة، والجنة عن يمين الخلق، والنار عن يسارهم.

28

وقيل: هم الذين أعطو كتبهم بأيمانهم. وقيل: هم الذين أقسم الله أن يدخلهم الجنة. (وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر). هم أطفال المسلمين. وقيل هم الميامين على أنفسهم إذا عملوا ما أنجاهم من النار، وأدخلهم الجنة، وقيل: هم الذين خلقوا في الجانب الأيمن من أدم A. وقيل: هم المتقدمون في الفضل عند الله تعالى، فذلك سبعة أقوال، وقد تقدم هذا بأشرح منه. أي: في ثمر (سدر موقر) من حمله (قد ذهب) شوكه، قاله ابن عباس.

29

وعن ابن عباس أيضاً أنه قال: حصده: وقره من الحمل. وقال عكرمة وقتادة هو الموقر الذي لا شوك فيه. وقال الضحاك ومجاهد المخضود: الموقر. وقال ابن جبير ثمره أعظم من القلال. وقرأ علي بن أبي طالب " وطلع " بالعين. وذكر أبو عبيدة أن الطلح: عند العرب شجر عظيم كثير الشوك.

قال الزجاج يجوز أن يكون في الجنة، وقد أزيل شوكه. وأهل التفسير يقولون: الطلح: الموز، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد. وهو قول أبي هريرة وأبي سعيد، فهذا مما يجوز أن يكون أهل اللغة قد غاب عنهم اسمه أنه الموز. وقال مجاهد: كانوا يتعجبون من طلح " وج " فأعلمهم الله تعالى أن في الجنة طلحاً. وأما في قراءة علي فإنه جعله من طلع النخيل بمنزلة لها طلع نفيد. ونفيد بمعنى منفود، ومعناه قد ضم بعضه إلى بعض. قال قتادة: / قد ضمنه الحمل الورق.

30

وقال ابن عباس منفود بعضه على بعض. قال قتادة: شجر الجنة موقر بالحمل من أسفله إلى أعلاه. أي: دائم لا تنسخه شمس ولا ليل فيذهبا. وكل ما لا انقطاع له فهو ممدود. وقال عمر بن ميمون: " وظل ممدود " (خمس مائة ألف سنة). وعن أبي هريرة أن / النبي A قال: " أن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم " وظل ممدود " فبلغ ذلك كعباً فقال

صدق أبو هريرة، والذي أنزل التوراة (على موسى) والفرقان على محمد لو أن رجلاً ركب حقة أو جدعة ثم دار حول تلك الشجرة ما قطعها حتى يسقط هرماً، إن الله جل ذكره غرسها بيده، ونفخ فيها من روحه، وإن أفنانها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: " وظل ممدود " هي شجرة في الجنة على ما ساق يسير الراكب في ظلها من نواحيها كلها مائة عام، للراكب المحث. قال: فينزل أهل الغرف، وأهل الجنة فيجلسون مجالي في ظللها فيتحدثون فيذكرون لهو الدنيا، فيأمر الله D ريحا من الجنة فتهب فتتحرك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا.

31

أي: مصبوب سائل في غير أخدود حصباؤه الياقوت الأحمر، وحماته المسك الأذفر، وترابه الكافور، وحافتا جريه الزعفران. أي: لا تنقطع لقلتها ولا تزول في صيف ولا شتاء، ولا عليها مانع يمنع ثم من أخذها ويحول بينهم وبينها ولا عليها شوك [فيتعذر أخذ ثمرتها ولا بعد]. وروى أن الرجل إذا اشتهى الثمرة وقعت على فيه أو تدنو منه / حتى يتناولها بيده. أي: طويلة بعضها فوق بعض. وروى الخدري عن النبي A أنه قال " ارتفاعها كما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض، لمسيرة خمس مائة عام "

35

ثم قال: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) [37 - 38] أي: أنا أنشأنا الحور لأن الفرش دلت على من عليها من الحور. وقال أبو عبيدة الضمير في {أَنشَأْنَاهُنَّ} يعود على " وحور عين " الأولى، فالمعنى: إنا خلقنا الحور جديداً فجعلناهن أبكاراً. روي عن النبي A أنه قال: " الثيب والأبكار يريد الآدميات ". وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أنه قال: " منهن العجائز يعني أنهن من بني آدم ". وقال ابن عباس هن من بني آدم، نساؤكم في الدنيا ينشئهن الله أبكاراً عذارى. أي: أقراناً. قال مجاهد: خلقهن الله من الزعفران.

وقوله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} أي: صيرناهن عذارى. وعربا جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الغنجة وهو قول مجاهد والحسن وعكرمة. وقال أبو صالح هي الشكلة. وقال زيد بن أسلم هي الحسنة الكلام. وقال ابن عباس هي المقلة، وعنه: عواشق. وعن الحسن هي العاتق. وأصله كله من أعرب: أذا بَيّن، ومنه الإعراب. وقيل يراد بقوله: إنا أنشأناهن: الحور العين، بمعنى إنشاء لم يولدن. وقيل يراد به بنات آدم على ما تقدم، أي: أنشأنا الصبية (و) العجوزة إنشاء واحداً.

38

وقوله: (لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ) [40] أي: أنشأ هؤلاء لأصحاب اليمين، وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين من موقف الحساب إلى الجنة. ثم قال (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [41 - 42] أي: جماعة من الأمم الماضية قبل محمد A، وجماعة من أمة محمد A قاله الحسن. وروي عن النبي A أنه قال: " إني لأرجو أن يكون من يتبعني من / أمتي ربع أهل الجنة فكبر أصحابه، ثم قال: لأرجو أن تكونوا الشطر، فكبر أصحابه، ثم تلا هذه الآية: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} ". وروى ابن عباس أن النبي A قال في الآية " هما جميعاً من أمتي ". أي: ماذا أعد الله لهم من الهوان والعذاب. يعجب نبيه عليه السلام من ذلك، ففيه معنى التعجيب وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.

42

وقيل هم الذين أعطوا كتبهم بشمائلهم. أي: في سموم جهنم وحميمها. أي: من دخان شديد السواد، والعرب تصف الشديد السواد باليحموم. قال ابن عباس وعكرمة [ومجاهد] هو دخان جهنم، وقاله قتادة وابن زيد. أي: ليست ذلك الظل ببارد كبرد ظلال الدنيا، لكنه حار إذ هو دخان. وقوله: {وَلاَ كَرِيمٍ} أي: ولا حسن لأنه عذاب. قال الضحاك كل شراب ليس بعذب فليس بكريم، والعرب تنفي الكرم عن كل شيء ليس بمحمود. / أي إن أصحاب الشمال كانوا (قبل ذلك) في الدنيا منعمين بالحرام.

46

ثم قال: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي: يصرون على الشرك بالله، قال الضحاك وقتادة والفراء وغيرهم، أي: كانوا يتمادون عليه ولا يتوبون (سبحانه عما يصفون) منه، ولا يستغفرون من شركهم بالله D. وقال مجاهد: {عَلَى الحنث العظيم} على الذنب العظيم، وقاله ابن زيد ثم فسره ابن زيد فقال هو الشرك. وقيل هو قسمهم أن الله لا يبعث أحداً، ودل على ذلك قوله بعده {وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}. (أنكروا البعث) فقيل لهم: {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ}. أي إنكم وأباؤكم ومن بعدكم، ومن قبل أبائكم لا بد من بعثكم يوم القيامة ومجازاتكم على أعمالكم. ثم قال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) [54 - 55].

51

أي أنكم بعد البعث أيها الضالون عن الحق لأكلون من شجر جهنم، وهي الزقوم. (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [56] أي: من الشجرة، أو من الشجر. ثم قال: (فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) [57] أي: على الزقوم من الحميم، وهو الماء الذي قد بلغ في الحرارة. (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [58] [الهيمُ جمع أهيم، وهي الإبل يصيبها داء فلا تروى من الماء، وقد قيل الهيم] جمع هائم وهائمة. قال ابن عباس شرب الهيم: شرب الإبل العطاش. وقال عكرمة هي الإبل المراض تمص الماء معا ولا تروى، وعنه أنها الإبل يأخذها العطش، فلا تزال تشرب حتى تهلك.

56

(وقال الضحاك) الهيم: الإبل العطاش تشرب فلا تروى يأخذها داء يقال له الهيام. وقال ابن عباس الهيم: الهيام من الأرض يعني الرمل. ثم قال: (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) [59] أي: هذا الذي وصف رزق هؤلاء يوم الجزاء. ثم قال: (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) [60] أي: نحن خلقناكم يا مكذبون بالبعث، ولم تكونوا شيئاً، فهل لا تصدقون من أنشأكم أولاً، أنه ينشئكم آخرا. ثم قال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) [61 - 62] أي: أفرأيتم أيها المكذبون بالبعث، المنكرون قدرة الله D على إحيائكم بعد موتكم هذه النطفة التي تمنون في أرحام نسائكم، يقال (أمنى ومنى، وأمنى): أكثر. [{ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي: تخلقون ذلك المني حتى يصير فيه الروح]. {أَم نَحْنُ الخالقون}.

60

قال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي: عجلناه على قوم وأخرناه عن قوم إلى وقت مسمى، أي: منكم قريب الأجل ومنكم بعيد الأجل. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: في أجالكم لا يسبق متقدم فيتأخر، ولا متأخر فيتقدم، بل لا يتقدم أجل قبل وقته ولا يتأخر عن وقته. قال: {على أَن نُّبَدِّلَ أمثالكم}. قال الطبري معناه: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم فنحيي بأخرين من جنسكم. وقيل التقدير: وما نحن بمسبوقين / على / أن نبدل أمثالكم، (أي إن أردنا) أن نبدل أمثالكم منكم لم يسبقنا إلى ذلك سابق. وقوله: {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} في أي: خلق شاء. وقيل: قردة وخنازير. وقيل يخلق لهم أبداناً للبقاء لأن هذه للفناء خلقت. وقيل معناه في عالم لا تعلمون، أو في مكان لا تعلمون. وقيل المعنى: وننشئكم في غير هذه الصور، فننشئ المؤمنين يوم القيامة في

62

أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاً، وننشئ الكافرين في أقبح الصور وإن كان في الدنيا نبلاً. أي: ولقد علمتم الأحداث الأول، فلقد أحدثناكم ولم تكونوا شيئاً، فهلا تذكرون فتعلمون أن من فعل ذلك قادر على إنشاء آخر متى شاء. وقال قتادة: ولقد علمتم النشأة الأولى (بعد خلق) آدم عليه السلام فلست تسأل أحداً من الناس إلا نبأك أن الله جل ذكره خلق آدم من طين. أي أفرأيتم أيها الناس الحرث الذي تحرثونه أنتم تنبتونه وتصيرونه زرعاً أم نحن نجعله كذلك. وروى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " لا تقل زرعت لكن قل حرثت "، ثم تلا أبو هريرة الآية. قال: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ / حُطَاماً} أي: لجعلنا الزرع هشيماً لا ينتفع به في مطعم

66

ولا ثمر. ثم قال: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي: فظلتم تتعجبون مما نزل بكم وبزرعكم من المصيبة، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال عكرمة معناه فظلتم تلاومون بينكم في تفريطكم في طاعة ربكم بما نزل بكم. وقال الحسن تفكهون: تندمون على ما سلف منك من معصية الله جل وعز التي أوجبت عليكم العقوبة، وروي مثل ذلك أيضاً عن قتادة. وقال ابن زيد تفكهون: تفجعون، ومعنى فظلتم: فأقمتم. أي: لمولع بنا، قاله عكرمة ومجاهد. وعن مجاهد أيضاً لمغرمون: لملقون للشر.

67

وقيل معناه لمعذبون، والغرام عند العرب الهلاك والعذاب. أي: [مجدون لا حظ لنا]. وقال قتادة: معناه: محارفون. قال: {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي: أنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض، أم نحن المنزلون. قال مجاهد: وقتادة وابن زيد المزن: السحاب. وقال ابن عباس المزن: السماء والسحاب، وهو قول سفيان. قال: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي: جعلنا الماء مراً مالحاً فلا تشربون منه ولا تنتفعون به في زروعكم وكرومكم. {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} أي: فهلا تشكرون الله على ما فعل بكم.

71

أي أفرأيتم أيها الناس النار التي تستخرجون من زندكم وتقدحون. أي: أنتم أخترعتم شجرتها أم نحن اخترعنا ذلك. وتورون من أوريت زنادي وناري أوريتها: إذا أوقدتها. / وقال أبو عبيدة وأكثر ما يقولون وريت زنادي، وأهل نجد يقولون وريت زنادي. (قال) {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} يعني النار التي تذكرون بها نار جهنم فتتعظون وتخافون. وقال مجاهد: تذكرة تذكر النار الكبرى، وكذا قال قتادة: وروي عن النبي A أنه قال " أن ناركم (جزء من سبعين جزاء) من نار جهنم

قالوا يا نبي الله وإن كانت لكافية، قال قد ضربت بالماء ضربتين ليستمتع بها بنو أدم ويدنو منها ". ثم قال: {وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} قال ابن عباس للمقوين: للمسافرين وقال مجاهد: للمقوين: للمستمتعين بها من الحاضر والمسافر. وقال ابن زيد للمقوين: للجائعين. والعرب تقول أقويت منه كذا وكذا: (أكلت منه كذا وكذا)، وأصله من أقوت الدار إذا خلت من أهلها، (ويقال أقوى إذا نزل بالقواء في الأرض الخالية. وقال ابن زيد المقوي: الذي لا زاد ولا مال معه.

74

وأقوى عند أهل اللغة على ثلاثة معانٍ، يقال أقوى إذا فني زاده، ومنه أقوت الدار إذا فني أهلها، ويقال أقوى إذا سافر أي: نزل القواء. والقين، ويقال أقوى إذا قوى وقوى أصحابه. والمتاع: المنفعة. أي: فنزه ربك يا محمد من السوء. زائدة والتقدير أقسم. وقيل لا رد الكلام، والتقدير ليس الأمر كما يقول الكافر. ثم استأنف فقال: أقسم بمواقع النجوم، وقيل " لا بمعنى " إلا للتنبيه ومعنى مواقع النجوم، منازل القرآن، لأن القرآن نزل على النبي A نجوماً متفرقة. قال ابن عباس نزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين بعد وتلا ابن عباس {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم}، قال نزل متفرقاً.

76

وقال عكرمة فلا أقسم بمواقع النجوم، قال أنزل الله القرآن نجوماً ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات، وقال أيضاً نزل جميعاً فوضع بمواقع النجوم، فجعل جبريل A / يأتي بالسورة بعد السورة وإنما نزل جميعاً في ليلة القدر. وقال مجاهد: بمواقع النجوم هو محكم القرآن. وقال الحسن بمواقع النجوم بمغاربها، وقاله قتادة. وعن الحسن أيضاً بمواقع النجوم هو أنكدارها وانتشارها يوم القيامة. وعن مجاهد أيضاً بمواقع النجوم مطالعها ومساقطها. أي: وأن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك. أي: أقسم بمواقع النجوم وهو القرآن أن هذا القرآن لقسم عظيم لو تعلمون ذلك أنه لقرآن كريم، والهاء " في " " إنه " من ذكر القرآن. قال: {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي: في كتاب مصون عند الله لا يمسه إلا المطهرون. قال ابن عباس هو الكتاب الذي في السماء، قاله الضحاك.

قال ابن زيد زعموا أن الشياطين تنزلت به على محمد A. فأخبرهم الله أنهم لا يستطيعون على ذلك. قال ابن عباس: إذا أراد الله أن ينزل كتاباً نسخته السفرة فلا يمسه إلا المطهرون، يعني الملائكة، وهو قول ابن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك، فهو خبر وليس بنهي، وقد يجوز أن يكون إخباراً على الإلزام فيكون فيه معنى النهي كما تقول (جعل كذا) وكقوله {يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. قال المبرد معناه آمنوا بالله. وقيل هم حملة التوراة والإنجيل، قاله عكرمة. وقال أبو العالية المطهرون الذين طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل قال ابن زيد المطهرون: الملائكة والأنبياء والرسل التي تتنزل به من عند الله المطهرة.

وقال قتادة: معناه لا يمسه عند الله إلا المطهرون، قال وأما عندكم فيمسه المشرك النجس والمنافق الرجس. وفي حرف ابن مسعود ما يمسه. وقال مالك بن أنس في قوله D { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} إنما هو بمنزلة قوله: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16] فهذا من قول مالك يدل على أنه نفي ليس بنهي يراد به الملائكة. وقال مسلم: لا يمسه إلا طاهراً، وسئل عن آية فقال: سلوني فلست أمسه إنما أقرؤه، وكان قد أحدث ولم يتوضأ. وفي كتاب عمرو بن حزم: لا يمس القرآن إلا طاهراً، وهو الكتاب الذي كتبه رسول الله A لعمرو بن حزم.

80

وروى مالك أن مصعب بن سعد قال كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص فاحتككت، فقال لعلك مسست ذكرك، فقلت نعم، فقال فقم فتوضأ، فقمت فتوضأت ثم رجعت، وروي أنه قال له فقم فاغسل يديك. وكان ابن عمر لا يمس المصحف إلا طاهراً. / وقال مالك لا يمس المصحف أحد بعلاقة أو على وسادة إى وهو طاهر إكراماً للقرآن. أي: هو تنزيل من عند رب العالمين. أي: أفبهذا القرآن الذي أنبأتكم خبره وأنتم تلينون القول للمكذبين به ممالاة منكم لهم على التكذيب والكفر. قال مجاهد: أنتم مدهنون: أي: أنتم يريدون أن تمايلوهم [فيه] وتركنوا إليهم.

82

وقال ابن عباس أنتم مدهنون: مكذبون غير مصدقين. وقال الضحاك يقال أدهن وداهن: إذا نافق. أي: وتجعلون شكر الله على رزقه لكم التكذيب له، وهذا كقول القائل للآخر: جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي، بمعنى جعلت شكر إحساني إليك إساءة منك، فالتقدير وتجعلون رزقي إياكم تذكيبكم لرسلي وكتبي. / وروي عن النبي A أنه قال: " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قال شكركم، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا "، وقاله ابن عباس. وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ".

83

قال الضحاك في الآية: جعل الله رزقكم في السماء وأنتم تجعلونه في الأنواء. قال قطرب الرزق هنا: الشكر. وقيل المعنى: وتجعلون شكر رزقكم ثم حذف مثل، {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82]. يعني النفس تبلغ الحلقوم عند خروجها. أي: من حضره ينظر ولا يغني عنه شيئاً، فهذا خطاب عام والمراد به من حضر الميت. قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي: ورسلنا أقرب إلى الميت منكم يقبضون روحه ولكن لا تبصرونهم، وهذا كله جواب لمن ادعى أنه يمتنع من الموت ويدفعه. أي: فهلا أن كنتم غير مجزيين. (أي إن كنتم صادقين) في أنكم تمنعون من الموت، فارجعوا تلك النفس، وامنعوا من خروجها.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن غير مدينين: غير محاسبين. قال ابن زيد كانوا يجحدون أن يدانوا بعد الموت. وقال الفراء: غير مدينين: غير مملوكين. وقال الحسن غير مدينين: غير مبعوثين يوم القيامة. وقيل معناه غير مجزيين بأعمالكم. {تَرْجِعُونَهَآ} أي: تردون تلك النفوس إلى الأجساد بعد إذ صارت في الحلاقيم. {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنكم تمتنعون من الموت والحساب والمجازاة. وقال الفراء إن كنتم صادقين: إن كنتم غير مملوكين، فالمعنى هل لا ترجعون نفس عزيزكم إن كنتم غير مملوكين ولا مقهورين. وجواب فلولا في الموضعين جواب واحد على قول الفراء.

88

وقيل حذف جواب أحدهما لدلالة الآخر عليه. أي: إن كان الميت من المقربين أي: من الذين قربهم الله من جواره ورحمته. {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} (أي فله) روح وريحان. والروح: الرحمة، والريحان: الرزق. وقال مجاهد الروح: الفرح. وقال الحسن الريحان: ريحانكم هذا. وقال الربيع بن خيثم فروح وريحان هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث.

قال ابن عباس فروح وريحان: فراحة ومستريح من الدنيا. وقال ابن جبير {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}: راحة ومستراح: وعنه يعني بالريحان المستريح من الدنيا. وقال الضحاك الروح: المغفرة والرحمة. والريحان: الاستراحة. وعنه: الروح والاستراحة. وقال القتبي فروح: أي: في القبر له طيب نسيم. ومن قرأ بضم الراء فمعناه: فحياة له ربقاء. وقيل الريحان: الراحة. قال أبو العالية لم يفارق أحد من المقربين وهم السابقون الدنيا حتى يؤتى

بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم يقبض. قال الحسن يقبض الملك نفس المؤمن في ريحانة. والفاء في " فروح " " جواب " " إن "، وجواب " أما " هذا قول / الأخفش والفراء. وقال سيبويه لا جواب " أن " هنا، لأن بعدها فعلاً ماضياً، كما تقول (أكرمك إن جئتني)، " والفاء " جواب " أما ". وقال المبرد جواب " إن " محذوف، لأن بعدها ما يدل عليه، والفاء جواب " أما " وأما معناها: الخروج من شيء إلى شيء، أي: دع ما كنا فيه وخذ بشيء أخر، ولا يلي فعل فعلا، فمعنى أما: مهما يكن (من شيء). فوجب أن يليها الاسم، وتقديره أن يكون بعد جوابها، فإذا أردت أن تعرف إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها، " مهما " وقدر الاسم بعد الفاء.

90

تقول أما زيداً فضربت، والتقدير: مهما يكن من شيء فضربت / زيداً. قوله: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [93] أي: من الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وقيل من الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. ثم قال: (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) [94] أي: فسلام من عند الله، أي: سلام من ذلك وقيل المعنى: يقال سلام لك إنك من أصحاب اليمين. قال قتادة: معناه سلموا وسلمت عليهم الملائكة. وقيل المعنى: لك يا محمد منهم سلام، أي: يسلمون عليك. وقيل المعنى: فسلام لك أنك من أصحاب اليمين. وقيل معناه فلست ترى فيهم يا محمد إلا ما تحب من السلامة. ثم قال: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) [95 - 96] [أي إن كان الميت ممن كذب بآيات الله وضل عن دين الله فنزل من حميم أي:

94

فرزق من حميم]. أي له زرق من حميم قد غلي عليه حتى انتهى حره، فهو شرابه. (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [97] أي: وحريق النار يحرق بها. ثم قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [98] أي: أن هذا الذي أخبرتم به أيها الناس من الخير عن المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال وما تصير أمورهم لهو حق اليقين، أي: لهو من الخبر الحق اليقين. قال قتادة: إن الله جل ذكره ليس تاركاً أحداً من الناس [يوقفه] على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فينفعه ذلك يوم القيامة وأما الكافر فأيقن في الآخرة حين لا ينفعه ذلك. (وحق اليقين): محض اليقين، وقيل معناه حق الأمر اليقين، وحق الخبر اليقين مثل " دِينُ الْقَيِّمَةِ " أي: دين الملة القيمة. وقيل أصل " اليقين " أن يكون نعتاً للحق، ولكن أضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع كما قال " وَلَدارُ الآْخِرَةِ " و " وملاة الأولى " و " مسجد الجامع "، وهو عند

96

أكثر الكوفيين من باب إضافة الشيء إلى نفسه. ثم قال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [99] [أي] فنزه ربك العظيم. وقيل معناه: فسبح بتسمية ربك العظيم.

الحديد

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحديد مدنية قوله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} إلى قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآيات [1 - 10]. أي: كل ما دون الله من خلقه يسبح تعظيماً له وإقراراً بربوبيته وقيل التسبيح فيما لا ينطق هو ظهور أثر الصنعة فيه. وقيل: بل كل ما لا ينطق والله أعلم بتسبيحه، ودل على ذلك قوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ولو كان تسبيح ما لا ينطق أثر الصنعة عليه لكان ذلك [شيئاً] يفقه (ويعلم ظاهرا عندنا).

2

وقيل: {سَبَّحَ} في هذا وما بعده من السور معناه " صلى ". وقوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: العزيز في انتقامه ممن عصاه الحكيم في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل. قال: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ}. الآية. أي له سلطان ذلك كله، فلا شيء فيهن يقدر على الامتناع منه، يحيي ما يشاء من الخلق بأن يوجده كيف يشاء، ويميت من يشاء من الأحياء بعد الحياة عند بلوغ الأجل الذي قدره الله له قبل أن يخلقه. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ذو قدرة لا يمتنع عليه ما يريده من إحياء ميت وموت حي. أي: هو الأول قبل كل شيء بغير حد، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية، وهو الظاهر على كل شيء، فكل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلا منه، والباطن في جميع الأشياء، فلا

شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فرق عرشه. قال قتادة: " ذكر لنا أن النبي A بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب، فقال النبي A هل تدرون ما هذا، قالوا الله ورسوله أعلم، قال: هذا العنان، هذا / راوي الأرض (يسوقه) الله إلى قوم لا يشمونه ولا يرجونه: ثم قال: هل تدرون ما التي فوقكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ، قال فهل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال مسيرة خمس مائة عام قال هل تدرون ما فوق ذلك، (قالوا مثل ذلك) قال فوقها سماء أخرى (وبينها خمس مائة عام) ثم قال مثل ذلك حتى ذكر سبع سماوات، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك، قالوا مثل ذلك، قال فإن فوق ذلك العرش وبين السماء السابعة وبينه مثل ما بين السمائين، ثم قال هل تدرون ما التي تحتكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنما الأرض ثم قال مثل ذلك إلى سبع أرضين، وذكر أن بين كل أرض وأرض مسيرة خمس مائة عام، ثم قال والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم

4

بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله تعالى، ثم قرأ {هُوَ الأول والآخر} الآية ". وقال ابن عباس ظهر فوق الظاهرين بقهره المتكبرين. وقيل معنى " الظاهر والباطن " /: يعلم ما ظهر وما بطن، ومنه ظهر الإنسان وبطنه، لأن الظهر غير ساتر، والبطن ساتر، ومنه الظهير وهو العوين على الأشياء حق (يستعلي) عليها، ويعين " وظهير " أي: قوي. ومنه صلاة الظهر لأنها أول ما ظهرت من الصلوات. وقيل الظهر والظهيرة: شدة الحر، فسميت الصلاة بالظهر لأنها اسم الوقت الذي تكون فيه، ومنه: ظهرت على فلان: أي قهرته. وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: لا يخفى عليه شيء ظهر ولا بطن في السماء ولا في الأرض كبر أو صغر. قال: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}. أي: ابتدع ذلك وأنشأه في ستة أيام، مقدار كل يوم ألف عام.

5

{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي: ارتفع وعلا ارتفاع قدرة وتعظيم وجلالة، لا ارتفاع نقلة. ثم قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}: أي: ما يدخل فيها من الماء وغيره. {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من النبات وغيره. {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} أي ينزل منها إلى الأرض من القطر وغير ذلك. {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: ما يصعد إليها من الأعمال والملائكة وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: بصير بأعمالكم يحصيها عليكم حتى يجازيكم بها يوم القيامة. ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} قال سفيان الثوري: علمه. قال: {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي: له سلطان ذلك وملكه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: إليه ترد الأمور يوم القيامة فيقضي بين خلقه بحكمه وعدله. قال: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي: يدخل هذا في هذا وإذا في ذا أي ما نقص من هذا زاد في ذا.

7

ثم قال: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: هو ذو علم بضمائر صدور عباده، وما عزمت عليه نفوسهم من خير وشر، وفي الحديث " أن الدعاء يستجاب بعد هذه (الآيات البينات) ". قال: {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}. أي صدقوا بتوحيد الله وكتبه ورسله، وأنفقوا في سبيل الله مما خولكم وأورثكم عن من كان قبلكم، فجعلكم خلفاً فيه، (أي فالذين آمنوا). صدقوا وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير، أي: الجنة. قال: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ} الآية. أي وأي شيء لكم في ترك الإيمان بالله، والرسول يدعوكم بالحجج والبراهين لتؤمنوا بربكم، لتصدقوا محمداً A فيما جاءكم به. ثم قال: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ}.

9

أي أخذ الله D ميثاقكم في صلب آدم عليه السلام إذا قال لكم ألست بربكم، فقلتم بلى. وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. أي إن كنتم تريدون أن تؤمنوا يوماً من الأيام بالله، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم. وقيل معناه: إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما خطر لكم من البراهين والدلائل. قال: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}. يعني القرآن. {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور}. أي من الكفر إلى الإيمان. وقيل معناه: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ثم قال: {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} /. أي لذو رأفة ورحمة بكم، ومن رأفته ورحمته أنزل الله عليكم آيات بينات

10

يخرجكم بها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. قال: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} الآية. أي: أي عذر لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله وأنتم خلف الموت فتخلفون ما تبخلون به ويورث بعدكم، ثم يخلفه من ورثه عنكم فيعود الميراث إلى الله D. وحضهم على الإنفاق في سبيل الله ليكون ذلك ذخراً لهم عنده من قبل أن يموتوا فلا يقدرون، وتصير الأموال ميراثاً لمن له ميراث السماوات والأرض وهو الله جل ذكره. ثم قال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ}. أي من قبل فتح مكة، وهاجر وقاتل في سبيل الله D قاله مجاهد وقتادة، أي: لا يستوي في الأجر والفضل من هاجر قبل الفتح وأنفق وقاتل مع من هاجر من بعد ذلك وقاتل وأنفق. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل فتح مكة أفضل منهما بعد الفتح،

وكذلك قال زيد بن أسلم. وقال الشعبي الفتح هنا فتح الحديبية، فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل فتح الحديبية أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك. وهذا القول اختاره بعض العلماء، لأن الخدري روى أن النبي A قال: " يوم فتح الحديبية يأتي أقوام يحقرون أعمالكم من أعمالهم قالوا يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال لا، هم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً، قلنا يا رسول الله أهم خير منا. قال لو أن لأحدهم جبل / ذهباً ثم أفقه ما بلغ (مد أحدكم ولا نصيفه) هذا فضل ما بيننا وبين الناس، لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل إلى قوله {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ". ثم قال: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي: والذين أنفقوا من قبل ومن بعد وقاتلوا كلهم وعدهم الله الجنة. ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: بما تعملون من النفقة في سبيل الله وقتل

11

أعدائه وغير ذلك من أعمالكم، ذو خبر وعلم، لا يخفى عليه شيء من ذلك. قال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً}. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله محتسباً في نفقته، فيضاعف له ربه (بالحسنة عشرة أمثالها) إلى سبع مائة ضعف. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (وهو الجنة). " ومن " مبتدأ و " ذا " خبره، " والذي " نعت ل " ذا ". وقيل " من " مبتدأ و " ذا " زائدة مع " الذي "، و " الذي " خبر الابتداء. وأجاز الفراء أن تكون " ذا " زائدة مع " من " كما جاءت زائدة مع " ما "، ولا يجوز هذا عند البصريين لأن " ما " مبهمة، فجاز ذلك فيها، وليست من كذلك. قال: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين [والمؤمنات] يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم}.

أي لهم أجر كريم في يوم ترى المؤمنين، فالعامل في " يوم " معنى الملك في " لهم ". وقيل العامل فيه {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} {يَوْمَ تَرَى} فوعد هو العامل فيه. ومعنى الآية: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يضيء نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله A كان يقول: " من المؤمنين ما يضيء نوره [من المدينة إلى عدن وصنعاء فدون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره] إلا من موضع قدميه ". قال ابن مسعود يعطى المؤمنون نوراً على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى [نوراً كالنخلة السحوق ومنهم من يعطى نوراً كالرجل القائم وأدناهم من يعطى نوراً] على ابهامه يضيء مرة ويُطفى مرة. وقال الضحاك معنى " وبإيمانهم " أي: وبأيمانهم كتبهم. وقيل النور هنا: الكتاب لأنهم يعطون كتبهم من بين أيديهم بأيمانهم فلهذا وقع الخصوص.

وقيل المعنى يسعى ثواب إيمانهم وعملهم [الصالح] بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم نظائر، هذا اختيار الطبري، وهو قول الضحاك المتقدم. والباء في " وبأيمانهم " بمعنى " في " على هذا التأويل، وعلى القول الأول بمعنى " عن ". ثم قال: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}. أي يقال لهم بشراكم اليوم جنات، أي: الذي تبشرون به اليوم هو جنات، فأبشروا بها وأجاز الفراء " جنات " بالنصب على القطع، ويكون " اليوم " خبر الابتداء. وأجاز رفع " اليوم " على أنه خبر " بشراكم " /، وأجاز أن يكون " بشراكم " في موضع نصب بمعنى يبشرهم ربهم بالبشرى، وأن ينصب جنات بالبشرى، وفي هذه التأويلات بعد وتعسف وغلط ظاهر.

13

قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها لا يتحولون عنها. {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي: خلودهم في الجنة التي وصفت هو النجاح العظيم. قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون}. أي ذلك هو الفوز العظيم في يوم يقول هؤلاء المنافقون. {لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا} أي: تمهلوا علينا. {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي: نستصبح من نوركم. و {انظرونا} في قراءة من وصل الألف من نظر ينظر: إذا انتظر. وقرأ حمزة بقطع الألف، جعله من أنظره: إذا أخره، وهو بعيد في المعنى إذا حملته على التأخير، وإنما يجوز على مهنى تمهلوا علينا. يقال أنظرني: بمعنى تمهل عليّ وترفق، حكاه علي بن سليمان فعلى هذا تجوز قراءة حمزة.

وحكى غيره أنظرني: بمعنى اصبر علي، كما قال (عمرو بن كلثوم): (وانظرنا نخبرك اليقينا) [أي اصبر علينا]، فعلى هذا أيضاً تصح قراءة حمزة. ثم قال: {قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً}. يقال لهم ارجعوا من حيث [جئتم] فاطلبوا لأنفسكم هنالك نوراً [فإنه] لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا. قال ابن عباس بينما الناس في ظلمة إذا بعث الله جل ثناؤه نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور لهم دليلاً من الله جل وعز إلى الجنة، فلما رآى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: انظرونا نقتبس من نوركم فإنا [كنا] معكم في الدنيا قال المؤمنون ارجعوا من حيث جئتم من الظلمة

14

التمسوا هنالك النور. ثم قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أي: فضرب الله بين المؤمنين والمنافقين بسور وهو حاجز بين أهل الجنة [وأهل] النار. قال ابن زيد هذا السور هو الذي قال جل وعز {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46]. ويقال أن ذلك السور ببيت المقدس عن موضع يعرف بوادي جهنم. وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن ابن عباس. وكان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة: في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله D { لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} والرحمة هنا الجنة، والعذاب: النار. / قال: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}. أي ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور فبقوا في الظلمة والعذاب، ألم نكن معكم في الدنيا نصلي ونصوم ونناكحكم ونوارثكم، قال لهم

المؤمنون، بلى، ولكنكم فتنتم أنفسكم فنافقتم والفتنة هنا: النفاق، قاله مجاهد. قال شريك بن عبد الله فتنتم أنفسكم بالشهوات واللذات وتربصتم قال بالتوبة. {وارتبتم} أي: شككتم. {حتى جَآءَ أَمْرُ الله} يعني الموت. {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي الشيطان. وقال غيره وتربصتم وتثبطتم بالإيمان، والإقرار بالله ورسوله قال قتادة: وتربصتم: أي: بالحق وأهله. وقيل معناه: وتربصتم بالنبي A وبالمؤمنين الدوائر. وقيل تربصتم بالتوبة.

وقوله: {وارتبتم} أي: شككتم في توحيد الله سبحانه وفي نبوة محمد A. قال قتادة: كانوا في شك من الله سبحانه وتعالى. ثم قال: {وَغرَّتْكُمُ الأماني}. أي وخدعتكم أماني أنفسكم فصدتكم عن سبيل الله. وأضلتكم. وقيل معناه: تمنيتم أن تنزل بالنبي A الدوائر. {حتى جَآءَ أَمْرُ الله}. {حتى جَآءَ} نصر الله نبيه ودينه. وقيل حتى جاء أمر الله يقبض أرواحكم عند تمام آجالكم. قال قتادة وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله، قال: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.

15

وقوله: {وَغَرَّكُم بالله الغرور}. أي وخدعكم بالله الشيطان فأطمعكم في النجاة من عقوبته والسلامة من عذابه. قال: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ}. (قال ابن سلام وذلك أنهم يعطون الإيمان يوم القيامة فلا يقبل منهم). هذا قول المؤمنين لأهل النفاق، فاليوم لا يقبل منكم فداء ولا عوض بدلا من عقابكم وعذابكم، ولا يؤخذ من الذين كفروا. {مَأْوَاكُمُ النار}. أي مثواكم ومسكنكم. {هِيَ مَوْلاَكُمْ} أي: النار أولى بكم. / {وَبِئْسَ المصير} أي: المرجع، بئس المصير من صار إلى النار. قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}. أي ألم يحن للذين صدقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله (وتذل من

17

خشية الله). {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} وهو القرآن. قال ابن عباس {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}، قال: تطيع قلوبهم. روي عن ابن مسعود أنه قال: عاتبنا الله بهذه الآية بعد إسلامنا بسبع سنين. وقال غيره بأربع سنين. وقال قتادة: ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن النبي A أنه قال: " أول ما يرفع الله من الناس الخشوع ". ثم قال: {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} يعني: بني إسرائيل، والكتاب: التوراة والإنجيل. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}.

18

والأمد الدهر الذي بينهم وبين موسى عليه السلام. ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: من أهل الكتاب. قال: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا}. أي بالمطر فتنبت بعد يبسها وموتها، فكما قدر على ذلك، فهو قادر على أن يحيي الموتى بعد إفنائهم. وقال صالح المري يحيي الأرض بعد موتها: يلين بكم، القلوب بعد قسوتها. ثم قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} (أي الحجج والأدلة). {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قال: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً}. أي انفقوا في سبيل الله وفيما ندبهم إليه.

19

{يُضَاعَفُ لَهُمْ} (أي فيضاعف لهم) الثواب يوم القيامة. {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}. أي ثواب كريم وهو الجنة، ومن خفف " المصدقين " فمعناه إن الذين صدقوا محمداً A وآمنوا ثم تصدقوا من أموالهم وأنفقوا في طاعة الله D يضاعف لهم. قوله: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ}. أي والذين أقروا بوحدانية الله وإرساله رسله، وصدقوا الرسل {أولئك هُمُ الصديقون} أي: الذين كثر صدقهم وتصديقهم. ثم قال: {والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. ومذهب ابن عباس ومسروق والضحاك أن " الشهداء " منفصل من " الصديقين " منقطع منه.

وروى البراء بن عازب قال سمعت النبي A يقول: " مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا النبي A هذه الآية ". فهذا يدل على أنه متصل بالصديقين، أي: أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، أي: لهم أجر الشهداء، ونورهم: أي: للمؤمنين أي: من أمة محمد A أجر الشهداء ونورهم. وروى سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: كلكم صديق وشهيد فقيل له انظر ماذا تقول يا أبا هريرة، فقال اقررأوا هذه الآية فذكرها. وروي " أن رجلاً من قضاعة جاء رسول الله A فقال: إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس وصمت شهر رمضان، وآتيت الزكاة، فقال له النبي A من كان على هذا كان من الصديقين والشهداء ".

وعن ابن عباس أنه قال يرفعه إلى النبي A " أنه قال كل مؤمن صديق، ويزكي الله بالقتل من يشاء ثم تلا هذه الآية ". قال مجاهد: هو متصل، وكل مؤمن شهيد. وروي ذلك عن ابن عمر، روي عنه أنه، قال في حديث له. والرجل يموت على فراشه هو شهيد، وقرأ هذه الآية. وقيل " الشهداء " في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم وهو قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41]. هذا قول الفراء، والقول الأول هو اختيار الطبري، ويكون تمام الكلام: " الصديقون ".

20

ثم يبتدئ الإخبار عن الشهداء، وإنما سمي المقتول في سبيل الله D شهيداً، لأنه يشهد له بالجنة. وقيل سمي شهيداً لأنه يشهد عند الله على الأمم. قال تعالى {وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [الحج: 76]. وقال مجاهد: سمي المؤمن شهيداً، لأنه يشهد عند الله على نفسه بالإيمان. ثم قال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم}. أي جحدوا ما أنزل الله D وكذبوا بالقرآن هم أصحاب النار. قال: {اعلموا أَنَّمَا الحياوة الدنيا لَعِبٌ [وَلَهْوٌ]} أي /: اعلموا أيها الناس أن ما عجل لكم في الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة زائلة مضمحلة، فأنتم تفاخرون بها وتتكثرون بها فمثلكم كمثل مطر أعجب الكفار نباته، أي: أعجبه الزراع نباته فهو على نهاية الحسن. وقيل الكفار هنا هم المكذبون، لأنهم بالدنيا أشد إعجاباً، أي لا يؤمنون

21

بالبعث. وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يبتدئ في الصفرة. {فتراه مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حطاما} أي: متحطماً لا نفع فيه لأحد، فضرب الله D مثلا للدنيا وزينتها وزوالها بعد الإعجاب بها. (ثم أخبر تعالى بما في الآخرة من العذاب لمن ركن إلى الدنيا واختارها على الآخرة بالبعث فقال: {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله ورضوان} لأهل الإيمان بالله ورسوله. قال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض}. أي: سابقوا أيها الناس وسارعوا إلى الأعمال الصالحة التي توجب [لكم] دخول الجنة سعتها كسعة السماوات [والأرض خالدين فيها أعدت للذين آمنوا بالله ورسله. وقيل عرضها الذي هو خلاف الطول مثل عرض السماوات] والأرضين إذا وصل كل سماء بسماء وكل أرض بأرض، فإن قيل فأين السماوات والأرضون إذاً، فالجواب أن الليل إذا أقبل ذهب النهار في علم الله، وإذا أقبل النهار ذهب الليل في علم الله.

22

قال مكحول في قوله: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية، هو المسارعة إلى التكبيرة الأولى من الصلاة. ثم قال: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ}. أي: هذه الجنة التي تقدمت صفتها فضل من الله تفضل به على المؤمنين، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه، وهو ذو الفضل [العظيم] عليهم بما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح وبسط لهم من الرزق، وعرفهم موضع الشكر. قال: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كتاب مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ}. أي: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في جدب الأرض وقحطها وفساد ثمارها ولا في أنفسكم بالأوصاب والأوجاع إلا هو في كتاب، يعني أم الكتاب. " من قبل أن نبرأ الأنفس " أي: نخلقها. قال ابن عباس هو شيء قد فرغ عنه من قبل أن تخلق الأنفس، قال: وبلغنا أنه

ليس أحد يصيب خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق، إلا بذنب وما يعفو الله أكثر. وقال الحسن في معنى الآية: كل مصيبة (من السماء) هي في كتاب الله جل ثناؤه من قبل أن نتبرأ القسمة، وهو قول الضحاك وابن زيد. وعن ابن عباس أيضاً هو ما أصاب من مصيبة في الدين والدنيا هي في كتاب عند الله من قبل أن تخلق الأنفس. وقيل الضمير في " نبرأها " بالمصائب، وقيل للأرض. ورجوعها إلى الأنفس أولى لأنه أقرب إليها. وقوله: {إِلاَّ فِي كتاب} معناه: إلا هي في كتاب، ثم حذف الضمير. قال ابن عباس أمر الله D القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم قال: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: إن خلق الله D الأنفس وإحصاء ما هي

23

ملاقيته من المصائب على الله سهل، لأنه إنما يقول لشيء كن فيكون. قال: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ}. أي: أعلمكم الله D أن الأمور كلها قد فرغ منها، لكيلا تأسوا على ما فاتكم من أمر دنياكم، ولا تفرحوا بما جاءكم منها، وذلك الفرح الذي يؤدي إلى المعصية والحزن الذي يؤدي إلى المعصية. قال عكرمة: هو الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة، قال وليس (أحد إلا وهو) يحزن ويفرح، لكن من أصابته مصيبة فجعل / حزنه صبراً ومن أصابه خير فجعل فرحه شكراً، فهو ممدوح لا مذموم. فالمعنى: أعلمكم بفراغه مما يكون وتقدم علمه به قبل خلقكم / كيلا تحزنوا حزناً تتعدون فيه على ما [لا] ينبغي، ولا تفرحوا فرحاً تتجاوزون فيه ما (ينبغي). ثم قال: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقيل: معناه: لا يحب كل مختال في مشيته تكبراً وتعظماً فخور على الناس بماله ودنياه.

24

قال: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل}. أي: يبخلون أن يؤمنوا بمحمد A، ويأمرون الناس ألا يؤمنوا به. وقيل معناه: يبخلون بإخراج حق الله D من أموالهم ويأمرون الناس بذلك، وهذه الآية نزلت في اليهود، عرفوا أن محمداً A حق وما جاء به حق، وكانوا قبل مبعث النبي A يحدثون الناس ويبشرونهم بقرب مبعثه، وينتصرون على أعدائهم به، ويقولون: اللهم بحق النبي المبعوث أنصرنا فينتصرون فلما بعث كتموا أمره وكفروا به وبخلوا أن يصدقوه، وأمروا الناس بتكذيبه. قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ} أي: يعرض عن قبول ما أمر الله D به من الإنفاق في سبيل الله، وإخراج الزكاة، والإيمان بالله وبرسوله. {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي: الغني عن ماله ونفقته وغير ذلك، الحميد إلى خلقه بما أنعم عليهم من نعمة.

25

قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} إلى قوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآيات [24 - 27]. أي لقد أرسلنا إلى أمم بالآيات المفصلات وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل. قال ابن زيداً (الميزان) ما يعمل به، ويتعاطون عليه في الدنيا من معائشهم في أخذهم وإعطائهم، فالكتاب فيه شرائع دينهم وأمر أخراهم، والميزان فيه تناصفهم في دنياهم. {لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي: ليعمل الناس بينهم بالعدل. ثم قال: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي: قوة شديدة. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: وفيه منافع للناس، وذلك ما ينتفعون به عند لقائهم العدو وغير ذلك من المنافع مثل السكين والقدوم. قال ابن زيد البأس الشديد: السيوف والسلاح التي يقاتل بها الناس والمنافع

26

هو حفرهم وحرثهم بها وغير ذلك. قال مجاهد: أنزله ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، وأرسلنا الرسل وأنزلنا الكتاب والميزان ليعدلوا بينهم وليعلم حزب الله من ينصر دينه ورسله بالغيب منهم. {إِنَّ الله قَوِيٌّ} أي: على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة، وخالف أمره عزيز في انتقامه منهم. قال مجاهد: أنزل الحديد ليعلم من ينصره. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} الآية. أي أرسلهما تعالى إلى قومهما، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، ولذلك كانت النبوة في ذريتهما، وعليهم أنزل الله كتبه التوراة والزبور والإنجيل وأكثر الكتب. ثم قال: {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ} أي: فمن ذريتهما مهتد إلى الحق. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: ضلال عن الحق.

27

قال: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم} (أي: اتبعنا آثارهم برسلنا) أي: آثار الذرية، وقيل الضمير يعود على نوح وإبراهيم وإن كانا اثنين لأن الاثنين جمع. ثم قال: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي: واتبعنا الرسل بعيسى ابن مريم. {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} روي أنه نزل جملة. ثم قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي اتبعوا عيسى رأفة وهي أشد الرأفة. {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} وأحدثوا رهبانية أحدثوها. {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي: ما افترضنا (عليهم الرهبانية). {إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} أي: لم تكتب عليهم إلا أن يبتغوا رضوان الله " فابتغاء بدل من الضمير في " كتبناها ". وقيل هو منصوب على الاستثناء المنقطع. وقال الحارث المحاسبي: لقد ذم الله قوماً من بني إسرائيل ابتدعوا رهبانية لم

يؤمروا بها، ولم يرعوها حق رعايتها. وحكى عن مجاهد أنه قال في الآية معناها كتبناها عليم ابتغاء رضوان الله. (قال أبو أمامة الباهلي وغيره / معنى الآية: لم نكتبها عليهم ولم يبتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله، فعاتبهم الله بتركها. قال الحارث: وهذا أولى التفسيرين بالحق، يريد قول أبي أمامة قال وعليه أكثر العلماء، وقال الحارث فذمهم الله عليه بترك رعاية ما ابتدعوا، فكيف بمن ضيع رعاية ما وجب الله عليه). ثم قال: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} هذا عام يراد به الخصوص إذ ليس كلهم فرطوا في الرهبانية، وذلك أن (الله كتب) عليهم القتال قبل أن يبعث محمداً A فلما قل أهل الإيمان وكثر أهل الشرك وذهبت الرسل وقهروا اعتزلوا في الغيران، فلم يزل ذلك شأنهم حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله وأخذوا بالبدعة، هذا قول الضحاك.

28

وقيل الذين لم يرعوها هم قوم جاءوا بعد الأولين الذين ابتدعوا الرهبانية. ثم قال: {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي: فأعطينا الذين آمنوا بالله ورسوله من هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية ثوابهم على فعلهم. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: أهل معاص وخروج عن طاعة الله. وقال ابن زيد هم الذين رعوا ذلك الحق. قال قتادة: الرأفة والرحمة من الله / وهم الذين ابتدعوا الرهبانية. وقد قيل أن الرهبانية معطوفة على رأفة.، وأنها مما آتاهم الله فابتدعوا فيها وغيروها وبدلوها. قال: {يا أيها الذينءَامَنُواْ} أي: صدقوا بما جاءهم به محمد A من أهل الكتابين. {اتقوا الله} أي: خافوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.

{وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ} يعني محمداً A. { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أي: يعطيكم ضعفين من الأجر بإيمانكم بعيسى ومحمد A، وأصل الكفل: الحظ. قال ابن عباس كفلين: أجرين بإيمانكم بعيسى ومحمد عليه السلام وبالقرآن والإنجيل. قال: " بن جبير بعث النبي A جعفراً في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به، فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً إئذن لنا فنأتي هذا النبي فنلم به ونركب بهؤلاء في البحر، فأنا أعلم بالبحر منهم، فقدموا مع جعفر على النبي A وقد تهيأ النبي A لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة (وشدة الحال استأذنوا النبي A

فقالوا يا رسول الله إن لنا أموالاً ونحن ما نرى ما بالمسلمين من خصاصة) فأن أنت أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله D فيهم {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54]: أي: يريد النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن بالنبي عليه السلام، هذا فخروا على المسلمين فقالوا يا معشر المسلمين أما من آمن [منا] بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا، فأنزل الله D: { يا أيها الذينءَامَنُواْ اتقوا الله وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فجعل لهم أجرين، وزادهم النور والمغفرة. قال الضحاك {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي: أجرين بإيمانكم بالكتابة الأول وبالكتاب الذي جاء به محمد A.

قال ابن زيد " كفلين من رحمته " أجر الدنيا وأجر الآخرة. وقال ابن عمر " كفلين " ثلاث مائة جزء من الرحمة وستة وثلاثون جزءاً رواه عنه نعيم بن حماد. وقال الشعبي الناس يوم القيامة على أربع منازل: رجل كان مؤمناً بعيسى فآمن بمحمد A فله أجران، ورجل كان كافراً بعيسى فآمن بمحمد A فله أجر، ورجل كفر بعيسى وبمحمد عليهما السلام فباء بغضب على غضب، ورجل كان كافراً بعيسى من مشركي العرب فمات بكفره قبل محمد A / فباء بغضب واحد. وسئل سعيد بن عبد العزيز عن الكفل فقال: " ثلاثمائة وخمسون حسنة

وقال سمعت عمر بن الخطاب Bهـ سأل حبراً من أحبار اليهود فقال له: كم أفضل ما ضعفت له الحسنة، فقال كفل ثلاث مائة وخمسون حسنة. قال: فحمد الله عمر على أنه تعالى أعطانا كفلين فضاعفه لنا الحسنة إلى سبع مائة ضعف. وعن النبي A أنه قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل آمن بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ورجل كانت له أمة، فأدبها، فأحسن تأديبها ثم أعقتها وتزوجها، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه D ونصح لسيده ". وقال عمر سمعت النبي A يقول: " وإنما آجالكم في آجال من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استأجر عمالاً فقال من يعمل [من] بكرة إلى نصف النهار على قيراط قيراط

29

فعملت اليهود ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فعملتم ". ثم قال: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}. قال ابن عباس النور: القرآن واتباعهم النبي عليه السلام، وقاله ابن جبير. وقال مجاهد: {وَيَجْعَل لَّكُمْ} أي: هى. وقيل معناه: ويجعل لكم نوراً تمشون به يوم القيامة، وهو النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة. وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي: يصفح عنكم ويستر ذنوبكم. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو مغفرة ورحمة. قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}. إلى اخر السورة.

قيل معناه ليعلم أهل الكتب، و " لا " زائدة صلة، دل على ذلك أن بعده: / {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله}. وقد قرأ ابن عباس ليعلم. وهي قراءة الجحدري. وقرأ ابن مسعود وابن جبير " لكي يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ "، وذلك على التفسير، والمعنى فعل ذلك، لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله الذي خصكم به لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع خلقه، فأعلمهم تعالى ذكره أنه قد أتى أمة محمد A من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم من زيادة النور والمغفرة والأجر. قال قتادة: لما نزلت [هذه الآية يعني: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حسد أهل الكتاب المسلمين عليها] فأنزل الله " لئلا يعلم أهل الكتاب. . [إلى آخرها، أي: فعلت ذلك لكي يعلم أهل الكتاب أنهم

لا يقدرون] على شيء من فضل الله، يؤتي فضله من يشاء ويخص به من يشاء من خلقه. قال قتادة: ذكر أن نبي الله A كان يقول: " إنما مثلنا ومثل أهل الكتاب من قبلنا كمثل رجل استأجر أجراء يعملون إلى الليل على قيراط، فلما انتصف النهار سئموا عمله وملوا فحاسبهم وأعطاهم نصف قيراط، (ثم استأجر أجراء يعملون إلى الليل على قيراط فعملوا إلى العصر ثم سئموا وملوا عمله، فاعطاهم على قدر ذلك ثم استأجر أجراء إلى الليل على قيراطين يعملون بقية عمله فقيل له ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً؟ قال هو مالي أعطي من شئت ". وقوله: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} أي: بيده دونهم ودون غيرهم، يؤتيه من يشاء من

خلقه، فلذلك أعطى أمة محمد A من الأجر على مدتهم القريبة ما لم يعط غيرهم. {والله ذُو الفضل العظيم}. أي ذو الفضل على خلقه، العظيم فضله. وقيل أنهم قالوا: الأنبياء منا، كفروا بعيسى وبمحمد A فأعلم الله خلقه أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وليس فضله بموقوف على بني إسرائيل دون غيرهم فلا يرسل رسولاً إلا منها يرسل الرسول ممن يشاء على من يشاء، وإلى من يشاء، يفعل ما يشاء ويتفضل على من يشاء لا إله إلا هو.

المجادلة

سورة المجادلة مدنية قوله: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الآية 1]. هذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة، وقيل اسمها خويلة. وقيل اسم أبيها خويلد، وقيل الصامت. وقيل الذبيح، وهي امرأة من الأنصار. قال قتادة: كان زوجها أوس بن الصامت. روي " أنها أتت النبي A وعائشة Bها تغسل شق رأسه /، فقالت يا رسول

الله طالت صحبتي مع زوجي وظاهر مني، فقال رسول الله A: حرمت عليه. وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً بائناً، وكان بينها وبين زوجها قرابة فقالت أشكو إلى الله فاقتي إليه، ثم جعلت تكرر عليه المسألة ويجاوبها بمثل ذلك، فتقول أشكو إلى الله فاقتي إليه، فنزل الوحي وقد قامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر، فأومأت إليها [عائشة] أن اسكتي قالت وكان رسول الله A إذا نزل عليه أخذه مثل السبات فلما قضى الوحي قال اذهبي فادعي زوجك، فدعته فتلاها رسول الله A إلى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} ثم قال له: أتستطيع رقبة، قال لا، فتلا عليه {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا}، فقال يا رسول الله إني أذا لم أكل في اليوم ثلاث مرات خشيت أن يعشو بصري، فتلا عليه {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}، ثم قال له أتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً، قال لا يا رسول الله إلا أن تعينني، فأعانه رسول الله A فأطعم ". روى عروة بن الزبير قال، قالت عائشة Bها، " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إن خولة تشتكي زوجها للنبي A فيخفى (علي أحياناً بعض ما

تقول، فأنزل الله جل ذكره: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} الآية. وروي عن عائشة Bها أنها قالت: خولة في محاورتها لرسول الله A: اللهم إني أشكو إليك ذلك فهو قوله وتشتكي إلى الله. وروى أيضاً عن عروة عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتناجي رسول الله A، اسمع بعض كلامها، ويخفى علي [بعضه]، إذا أنزل D { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية. قال قتادة: أتت خويلة بنت ثعلبة إلى النبي A تشتكي إليه زوجها أوس بن الصامت فقالت: يا رسول ظاهر مني حين كبرت سني ورق عظمي، فانزل الله D فيها ما تسمعون، ثم تلا {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ} إلى قوله {لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}. وقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [المجادلة: 3] أي: يريد المظاهر يغشى (امرأته بعدما ظاهر

منها). وروى أنه " لما قال له النبي A أتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا يا رسول الله إلا أن تعينني منك بعون وصلاة / يريد ودعاء فأعانه (رسول الله A بخمسة عشر صاعاً ". قال ابن عباس كان الرجل إذا قال لأمراته في الجاهلية: أنت عليِّ كظهر أمي حرمت عليه، فمضى ذلك في الإسلام، وكان أول من ظاهر في الإسلام أوس وكانت تحته ابنة عم له يقال لها خولة بنت خويلد فظاهر منها، فأسقط في يده فقال ما أراك إلا قد حرمت علي، وقالت له مثل ذلك، قال فأتت النبي A فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فأخبرته فقال يا خويلة ما أمرنا في أمرك بشيء فأنزل الله D على رسول الله A قد سمع الله. . . الآيات، فقال يا خويلة أبشري، قالت خيراً، فقرأ عليها {قَدْ سَمِعَ الله} إلى قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا}، قالت وأي رقبة لنا، والله ما يجد رقبة غيري، فقرأ عليها: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} فقالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره، فقرأ عليها

{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}، فقالت من أين، ما هي إلا أكلة إلى مثلها قال فدعا رسول الله A بشطر وسق وست ثلاثسن صاعاً، والوسق ستون صاعاً، فقال ليطعم ستين مسكيناً وليراجعك. وقال محمد بن كعب القرطي هي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت، وكان رجلاً به لهم فقال في بعض هجراته: أنت علي كظهر أمي، ثم ندم على ما قال فقال لها ما أظنك إلا قد حرمت علي، فقالت لا تقبل ذلك، فوالله ما أحب طلاقا فقالت إئت رسول الله فسله، فقال: إنني أجدني أستحيي منه أن أسأله عن هذا، قالت إئت رسول الله فسله، فقال: إني أجدني أستحيي منه أن أسأله عن هذا، قالت فدعني أنا أسأله /، فقال، فجاءت إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي وأحب الناس إلي قد قال كلمة، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، قال أنت علي كظهر أمي. فقال لها النبي A ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت لا تقل ذلك يا نبي الله، والله ما ذكر طلاقا، فرادت النبي مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو [اليوم] إليك شدة حالتي ووجدي وما يشق علي من فراقه، اللهم فأنزل على لسان نبيك، فأنزل

2

الله مكانه: قد سمع الله. . . الآيات. وقوله: {وتشتكي إِلَى الله} هو ما شكت من تأسفها على فراق زوجها. وقوله: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي: يسمع تحاور النبي وخولة. {إِنَّ الله سَمِيعٌ} أي: يسمع ما يتحاور به كل اثنين فأكثر. {بَصِيرٌ} بما يعملون، فيجازيهم عليه يوم القيامة. قوله: {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ}. أي: الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم بقولهم: انت علي كظهر أمي. {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً}. أي: وإن الأزواج ليقولون إلى نسائهم (قولاً منكراً، وقولاً زوراً) أي: كذباً. قال أبو قلابة وغيره: كان الظهار طلاق أهل الجاهلية طلاق بتات، لا يرجع إلى

3

امرأته من قاله أبداً. ثم قال: {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي: ذو عفو وصفح عن ذنوب عباده إذا تابوا منها، وذو ستر عليهم فلا يعاقبهم عليها بعد التوبة. قال: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي: والكفارة على من قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي ويريد الرجوع إلى الوطء تحرير رقبة من قبل أن يطأها، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين أي: متصلين من قبل أن يطأها، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكيناً. وقوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} معناه: ثم يرجعون في تحريم ما حرموا على أنفسهم فيجعلونه حلالا وذلك الوطء. قال قتادة: يريد أن يغشى بعد قوله. وقال أهل الظاهر معناه: يعود للفظ مرة أخرى، فلا تلزمه الكفارة عندهم حتى يقول لها مرة أخرى أنت علي كظهر أمي. ولا يلزمه شيء من قوله ذلك لها مرة واحدة. وقيل المعنى والذين كانوا يظاهرون من نسائهم في الجاهلية ثم يعودون في

الإسلام إلى مثل ذلك القول، فعلى من فعل ذلك في الإسلام تحرير رقبة من قبل أن يتماسا. وقيل معناه: ثم يصيرون لما كانوا يقولون في الجاهلية. وقيل معناه: ثم يعزمون على إمساك النساء بعد المظاهرة. وقيل معناه: أن يقيم مدة لا يطلق ثم يعود إلى فعل ما ترك فيخالفه. وقال طاوس لما قالوا: للوطء. وقال الأخفش سعيد: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا من قبل أن يتماسا، والمعنى يصيرون إلى ما كانوا عليه من الجماع، فعليهم تحرير رقبة من أجل قولهم. وقال الزجاج معناه ثم يعودون إلى إرادة الجماع من اجل ما قالوا.

وقال الفراء لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما قالوا أي: يرجعون عن قولهم وتحريمهم نساءهم / فيريدون الوطء. وقال القتبي هو أن يعود لمثل ما كان يقال في الجاهلية (ولا تجزيه في الكفارة) عند مالك إلا رقبة مسلمة، ولا يجوز عنده عتق المدَبَّر والمكاتَب عن الظهار، ولا عتق أم الولد، فأما عتق الصبي فقد أجازهمالك عن الظهار إذا كان ذلك من قصر النفقة، وعتق من يصلي ويصوم أحب إليه، ولا يجزي عن الظهار عتق من يعتق على الإنسان إذا ملكه كالأب والابن والأم والجد والأخ، فإن أعتق عن ظهاره ما في بطن أمه فولدته حياً ثم مات لم يجزه عند مالك، ولا يجزي عند مالك عتق الأعمى ولا المعقد ولا المقطوع اليدين ولا أشلهما أو الرجلين، والمقطوع أحدهما، ولا الأعرج الشديد العرج، ولا الأخرس، ولا المجنون المطبق، ولا الذي يجن ويفيق، ولا عتق من أعتقه قبل ذلك إلى مدة، ولا عتق من اشتري بشرط أن يعتق على الرقاب الواجبة، ولا يجزي عتق الأصم ولا المقطوع الإبهام، ولا المقطوع الأذنين، ولا المفلوج الشق، ولا المقطوع الأصبع الواحدة فأكثر، ولا الأجذم، ولا الأبرص،

4

ولا عتق / كل من فيه عيب يضر به وينقص من ثمنه نقصاً فاحشاً، ويجزئ عتق الأعور. وقوله {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي: فعليه الكفارة من قبل أن يطأها، ولا يحل له وطئها إذا ظاهر منها حتى يكفر عن ظهاره، وإذا علق ظهاره بشرط لم يلزمه الظهار إلا مع فعل ذلك الشرط، وذلك أن يثول لامرأته أنت علي كظهر أمي إن دخلت دار فلان، فهو مظاهر حتى تدخل تلك الدار، فإذا دخلت لزمه الظهار، ولا طلاق في الظهار، ولم ير الحسن بأساً أن يقبل ويغش فيما دون الفرج قبل الكفارة. وقاله الثوري، ومنع مالك من ذلك، ومنعه من النظر إلى شعرها قبل الكفارة. وقوله {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي: أوجب عليكم، ربكم من الكفارة عِظَةً لكم، لتنتهوا عن الظهار وقول الزور. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: ذو خبر بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء، فانتهوا عن قول الزور. قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي: فمن لم يجد ما يشتري به رقبة، فعليه صيام شهرين متتابعين لا يفصل بينهما ولا بين شيء من أيامهما بإفطار وهو متعمد، فإن أفطر لعذر بنى على ما صام ولا شيء عليه، فإن أفطر لغير عذر ابتدأ

الصيام، فإن أفطر لسفر أحدثه ابتدأ الصوم، فإن ابتدأ الصوم فأيسر أتم صومه، ولا يرجع إلى العتق عند مالك، وإن ابتدأ الصيام أو ابتدأ الإطعام إن لم يقدر على الصيام ثم جامع قبل إكمال الصيام أو الإطعام، ابتدأ الصيام والإطعام، كأن جماعة ناسياً أو عامداً، ويجزيه الصيام بالأهلة وإن كان الشهر ثمانية وخمسين أوستاً وخمسين يوماً، فإن ابتدأ الصوم في غير أول الشهر صام ثلاثين يوما، وشهرا على الهلال، وقيل يصوم ستين يوماً، وإذا ظاهر وله دار وخادم لزمه العتق عند مالك. وقوله: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي: فمن لم يستطع الصوم فعليه أن يطعم ستين مسكيناً مداً من [حنطة] بمد هشام، هذا قول مالك وهو مد وثلثان بمد النبي A. وروى ابن وهب عن مالك أنه يعطي لكل مسكين مدين بمد النبي A فإن أعطى مدا بمد هشام أجزأه إذا أعطاهم في جمع الكفارات مما هو أكثر عيش ذلك البلد أجزاه، ولا يجزى في ذلك عرض ولا دارهم ولا دقيق ولا سويق.

قال ابن القاسم فأن أطعم لكفارته ثلاثين مسكيناً من حنطة ثم طاق العسر حتى صار عيشهم الثمر أو الشعير، فلا بأس أن يعطي تمام الستين ثمراً أو شعيراً. وقد قال الأوزاعي إن أعطى في الكفارة ثمنها أجزأه، وكذلك قال أصحاب الرأي، ولا يجوز أن يعطي الثلاثين مثل ما يعطي لستين فيكون عليهم العطاء، ولا بد من العدد، وإذا ظاهر فمات أو ماتت ولم يكفر ورثها وورثته. والظهار عند مالك على كل حر وعبد من المسلمين في كل زوجة حرة كانت أو أمة أو كتابية، إلا أنه إذا ظاهر من امرأته وهي أمة ثم اشتراها فالظهار لازم. ويلزم السكران ظهاره كما يلزمه الطلاق، ولا يلزم المكره الظهار. وفي الظهار من الأَمَة،

الكفارة تامة عند مالك، ويلزم العبد في الظهار صيام شهرين كالحر ولا يعتق إلا بإذن مولاه. وإذا ظاهر الرجل من امرأته مراراً لم تلزمه إلا كفارة واحدة، (وأما المظاهر) من امرأتيه أو ثلاث أو أربع في ظهار واحد لم تلزمه إلا كفارة واحدة. وكل من ظاهر من امرأته بامرأة مسن ذوات المحارم من النسب أو الرضاع لزمه، كقوله: أنت عليِّ كظهر أختي (أو كظهر ابنة ابنتي) أو كظهر أختي من الرضاع، وكذلك عند مالك إذا قال لها أنت عليِّ كظهر / أبي: يلزمه الظهار. وكذلك يلزسمه الظهار لو قال لامرأته: أنت علي (كظهر أخي وكقدم أخي) ونحوه من العورات، وإنما خص هذا اللفظ في اليمين بالظهر دون البطن، لأن الظهر موضع الركوب من البهائم، والمرأة مركوبة، إذا غشيت، فكأنه إذا قال أنت علي كظهر أمي، قال: ركوبك للنكاح حرام علي كركوب أبي للنكاح /، فأقام الظهر مقام الركوب، إذ الركوب من غير بني آدم إنما يركب على ظهر، فهو استعارة لطيفة. ثم قال {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي: ألزمت من ظاهر ذلك من الكفارات كي تقروا بتوحيد الله وبرسوله إذا عملتم بما

5

أمرتم به. وقال الزجاج معناه: ذلك التغليظ عليكم لتؤمنوا بالله ورسوله. ثم قال {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي: فرائضه التي حدها لكم. {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: ولمن كفر بحدود الله في الآخرة عذاب مؤلم؛ أي: موجع. قال: {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ} أي: إن الذين يخالفون الله في حدوده وفرائضه فيجعلون لأنفسهم حدوداً غير حدوده كبتوا، أي: غيظوا وأخزوا كما غيظ الذين من قبلهم مِن الأمم الذين حادوا الله ورسوله، قاله قتادة. وقال ابو عبيدة كبتوا: أي أهلكوا، وأصله كبدوا (من قولهم): كبده الله: أي: أصاب الله كبده، ثم أبدلت التاء من الدال، ثم قيل ذلك لكل من أهلك وغيظ وأذل. وقيل معناه: غيظوا يوم الخندق كما غيظ الذين من قبلهم ممن قاتل الأنبياء. ومعنى يحادون: يصيرون في حد أعداء الله ومخالفي أمره. ثم قال {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي: دلالات ظاهرات محكمات. وللكافرين بتلك الآيات عذاب مهين، أي: مذل يوم القيامة.

6

قوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ} إلى قوله: (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الآيات [6 - 13]. أي: اذكر يا محمد يوم يبعثهم الله جميعاً، ويجوز أن يكون العامل " مهيناً " فلا يوقف عليه أي: وللكافرين بحدود الله عذاب مهين في يوم يبعثهم الله جميعاً، وذلك يوم القيامة يبعثون من قبورهم ليخبرهم الله بما عملوا في الدنيا، أحصى الله أعمالهم فنسوها. {والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: هو شهيد على كل شيء عملوه، أي: شاهد على ذلك، محيط علمه بذلك. قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي: ألم تعلم يا محمد وتنظر بعين قلبك أن الله لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض، فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء الكفارة. وقوله {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} " ثلاثة " بدل من " نجوى " على اللفظ، " ونجوى " بمعنى متناجين، ويجوز أن يكون " نجوى " مضافة إلى ثلاثة {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ}، ونجوى بمعنى: (سر، أي: من سر ثلاثة)، وقد يجوز

8

رفع " ثلاثة " على البدل من موضع " نجوى "، ويجوز نصبه على الحال من المضمر في " نجوى ". وفي حرف عبد الله: ولا أربعة إلا هو خامسهم، وفيه أيضا إلا الله رابعهم. {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ} إلا الله معهم إذا تناجوا. وهذه قراءة على التفسير لا يجوز أن يقرأ بها لمخالفتها للمصحف. وقرأ أبو جعفر يزيد " ما تكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثَةٍ " بالتاء على التأنيث النجوى، كما تقول ما جاءتني من امرأة. وقرأ الحسن ولا أكثر بالرفع، عطف على الموضع. ومعنى هو رابعهم وهو سادسهم أي: هو شاهدهم بعلمه وهو على عرشه قاله الضحاك وغيره. قال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول فَبِئْسَ المصير} أي: ألم تنظر (بعين قلبك يا محمد) إلى الذين نهوا عن النجوى من اليهود، ثم يعودون إلى

النجوى بعد نهي (الله D لهم) عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. قال مجاهد: هم اليهود. وقيل هم المنافقون كان " النبي A يأمرهم بالأمر من أمر الله تعالى، فيقولون سمعا وطاعة، ثم يتحول بعضهم إلى بعض فيتناجون بخلاف ما أمرهم النبي A حتى أسرفوا، والله ينهاهم حتى قالوا لولا يعذبنا الله بما نقول، فكانوا يحيون النبي عليه السلام بغير تحية الإسلام، فأنزل الله D { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} ". ثم قال {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} [أي: وإذا جاءك هؤلاء الذين نهوا عن النجوى ولم يقبلوا النهي حيوك بما لم يحيك به الله]. يقولون: السلام عليكم. قالت عائشة Bها: " جاء ناس من اليهود إلى النبي A / فقالوا: السلام عليك يا أبا القاسم فقلت: السلام عليكم فعل الله بكم وفعل، فقال النبي A إن الله لا يحب

9

الفحشاء / ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟ فقال: ألست تراني أرد عليهم ما يقولون، أقول: وعليكم، فنزلت هذه الآية في ذلك ". ثم قال: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} أي: يقول هؤلاء الذين يحيونك بما لم يحيك به الله هلا يعاقبنا الله بقولنا. وقال ابن زيد السام: الموت. قال قتادة: ومجاهد: هم اليهود. وعن ابن عباس أنهم المنافقون. ثم قال: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} أي: كفاهم دخولهم جهنم يوم القيامة عقوبة لهم فبئس المنقلب والمرجع، فلا يستعجلوا العذاب والعقوبة بقولهم: " لولا يعذبنا الله بما نقول ". قال: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي: لا تفعلوا ذلك كما فعله المنافقون، ولكن تناجوا بالبر والتقوى، أي: بطاعة الله D،

وما يقربكم إليه سبحانه وأداء ما كلفكم من فرائضه (جلت عظمته). {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: وخافوا الله الذي إليه مصيركم في معادكم أن تخالفوا طاعته ثم قال: {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ}. قال قتادة: كان المنافقون يتناجون بينهم فكان ذلك يغيظ المؤمنين وتكبر عليهم، فانزل الله D هذه الآية. ثم أعلمهم أن ذلك لا يضرهم فقال: {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً} أي: ليس تناجي المنافقين فيما بينهم بضار للمؤمنين إلا بإذن الله. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} قال ابن زيد: كان الرجل يأتي رسول الله A فيسأله الحاجة ليرى الناس أنه قد ناجى النبي A، وكان النبي A لا يمنع من ذلك أحداً، قال: والأرض يومئذ حرب على أهل هذا البلد، وكان إبليس يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في أمور قد حضرت وجموع قد جمعت لكم، فقال الله D: { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان} الآية. وقال عطية العوفي هي الأحلام التي يراها الإنسان في

11

نومه فتحزنه. قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} لأي: إذا قيل لكم توسعوا في مجلس رسول الله A فتوسعوا يوسع الله عليكم في منازلكم في الجنة. قال مالك: [نزلت] في مجلس رسول الله A كان كل رجل منهم يسر بقربه من رسول الله A في مجلسه فيمنعه ذلك من التفسح لأخيه. قال مالك وأرى مجالس العلم من ذلك وهي داخلة في الآية. {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} أي: ارتفعوا وانضموا، فانضموا يرفع الله الذين آمنوا منكم في درجات وقيل المعنى: وإذا قيل ارتفعوا إلى قتال عدوكم فقوموا إلى ذلك أو لصلاة أو لعمل خير فقوموا، قاله ابن عباس

ومجاهد. وقال الحسن: هذا كله في الغزو. وقال قتادة: معناه: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا. وقال ابن زيد معناه: وإذا قيل [لكم] ارتفعوا عن رسول الله A فإن له حوائج فارتفعوا عنه. يقال نشز: إذا تنحى عن موضع، وامرأة ناشزة [أو] متنحية عن زوجها، وأصله من النشز، والنشز هو ما ارتفع من الأرض. قال قتادة: هو مجلس رسول الله A [ كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلاً ضيقوا مجلسهم عن رسول الله A] ، فأمرهم الله D أن يفسح بعضهم [لبعض]. وقال الضحاك: كان هذا للنبي A خاصة ومن حوله أمروا أن يتوسعوا

حتى يصيب كل رجل منهم مجلساً من النبي A. قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي A، فأمروا بالتفسح. وقال ابن عباس: عني به مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، وقاله الحسن. ثم قال: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} [أي]: درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به. وقيل يرفعهم في الثواب والكرامة. وقيل يرفعهم على غيرهم ممن لا علم عنده في الفضل. وقيل الدرجات هنا للعلماء خاصة. / قال ابن مسعود: معناه: يرفع الله الذين آمنوا منكم، ويرفع الله / الذين أوتوا العلم درجات على الذين آمنوا ولا علم عندهم. قال مطرف: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة. وخير دينكم الورع.

12

ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: ذو خبر بأعمالكم كلها لا يخفى عليه المطيع ربه من العاصي له، فيجازي كلاً بما عمل. / قال {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} نهى أصحاب رسول الله A أن يناجوه حتى يتصدقوا، تعظيما له، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب بعد أن قدم صدقة دينار، ثم نسخ ذلك بما بعده، فرخص لهم أن يناجوه من غير تقديم صدقة. قال علي: إن في كتاب الله لآية لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول الله تصدقت بدرهم فنسخت. قال قتادة: سأل الناس رسول الله A حتى أحفوا في المسألة فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل تكون له الحاجة إلى النبي A، فلا يستطيع أن يقضيها

حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك [عليهم]؛ فأنزل الله D الرحمة في قوله {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية. وقال ابن عباس: كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة، فلما نزلت الزكاة نسخت هذا. (وروي عن ابن عباس) أنه قال: كان السلمون يكثرون المسائل على رسول الله A حتى شقوا عليه، فأراد الله D أن يخف عن نبيه عليه السلام، فيصبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها /. قال ابن زيد: ضيق الله عليهم في المناجات لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله A، فشق ذلك على أهل الحق، فقالوا يا رسول الله لا نستطيع ذلك ولا نطيقه،

14

فنزل التخفيف. قال قتادة: ما قامت إلا ساعة من نهار ثم نسخت. ومعنى أشفقتم: أشق ذلك عليكم، ولا يوصف الله D بالإشفاق، لا يقال يا شفيق. لأن أصله الحزن والخوف. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم}. أي: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد فترى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم. يعني: المنافقون والوا اليهود، ما هم منكم [ولا منهم]، أي: ما المنافقون من أهل دينكم ولا من أهل دينهم، وهذا مثل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} [الحشر: 11]. وهو مثل قوله أيضا: {فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [المائدة: 52] أي: نفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] أي: في موالات اليهود {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] يعني المنافقين يقولون ذلك.

قال ابن زيد هؤلاء المنافقون قالوا لا ندع حلفاءنا وموالينا فيكونون معنا لنصرتنا وعزنا، نخشى أن تصيبنا دائرة، فقال الله جل ذكره: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} [المائدة: 52] الآيات. وقوله {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: يحلفون للنبي A أنهم يشهدون أنه رسول الله A. وهو قوله: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] أي: لكاذبون في ادعائهم أن ذلك إيمان من قلوبهم وإقرار صحيح، إنما ذلك قول بألسنتهم واعتقادهم خلاف ذلك، وهذا مثل قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] وذكر هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين عاتبه النبي A في أمر بلغه عنه، فحلف كاذباً. وقال ابن عباس: " كان النبي A في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه، إذ قال يجيئكم الساعة رجل ينظر إليكم نظر شيطان، فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق، فدعاه رسول الله A. فقال علام تسبني أنت وأصحابك؟ فقال دعي أجيئك

15

بهم فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شيء، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية ". قال: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي: لهؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود. {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: بئس عملهم في الدنيا لغشهم للمسلمين ونصحهم اليهود. قال: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي: جعلوا حلفهم جنة يمتنعون بها من القتل، ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم العقوبة، وذلك أنه إذا اطلع على شيء من نفاقهم حلفوا للمؤمنين انهم منهم، فيتركون. ثم قال: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: فصدوا المؤمنين بإيمانهم عن أن يقتلوهم، وقتلهم هو سبيل الله فيهم، لأنهم كفار لا يؤدون الجزية. ثم قال: {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: فلهؤلاء المنافقين في الآخرة عذاب مذل، وهو عذاب النار.

17

ثم قال: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} أي: لن ينتفعوا بها في الآخرة من عقوبة الله / لهم ولن ينقذوا بها من عذاب الهم. {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني: المنافقين إنهم ماكثون أبداً في نار جهنم. قال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ [لَكُمْ]} أي: هم ماكثون في النار / يوم بعثهم الله جميعاً، وذلك يوم القيامة. ويجوز أن يكون تقدير العامل: اذكر يوم يبعثهم الله من قبورهم فيحلفون لله وهم كاذبون كما يحلفون للمؤمنين وهم كاذبون. قال قتادة: إن المنافق حلف يوم القيامة كما حلف في الدنيا. ثم قال {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ} أي: ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم لله كاذبين على شيء من الحق. {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي: في حلفهم. وأجاز علي بن سليمان " ألا أنّهم " بالفتح، فجعل " ألا " بمعنى " حقا ". قال: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} أي: غلب عليهم واستولى

20

على قلوبهم فنسوا ذكر الله. {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي: جنده وأتباعه. {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} [أي: جنده وأتباعه هم] الهالكون المغبونون في الآخرة. ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي: يخالفونه في حدوده، فيصيرون في حد آخر غير الذي حد لهم. وقال المفسرون يحادون: يعادون. وقيل يشاقون، والمعنى واحد. ثم قال: {أولئك فِي الأذلين} أي: في أهل الذلة، لأن الغلبة لله ورسوله. قال تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} أي: قضى ذلك في أم الكتاب. قال قتادة: كتب كتاباً فأمضاه. وقال غيره: كتبه في اللوح المحفوظ. وقال الفراء " كتب " هنا بمعنى: " قال ". ثم قال: {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: ذو قوة على كل من حاده ورسوله أن يهلكه، عزيز في انتقامه من أعدائه. ثم قال: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} أي: ليس

من والى من عادى الله ورسوله مؤمنين بالله واليوم الآخر. ولو (كان الذي) عادى الله ورسوله أباً أو ابناً له أو أخاً أو زوجاً أو عشيرة له، لا عذر في موالاته بهذه القرابة إذا كان ممن عادى الله ورسوله. وروي أن هذه الآية / " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخروج النبي A ويأمرهم بالتحرز ثم أعتذر لما اطلع عليه بأهله بمكة، وأنه أحب أن يقدم عندهم يداً يحفظون أهله من أجلها. وفي دعاء النبي A " اللهم لا تجعل لأحد أشرك بك في عنقي منه فيكون ذلك سببا للمودة لأنك لا تجد قوما يؤمنون بالله [وباليوم] إلى أو عشيرتهم ".

ثم قال: {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي: أولئك الذين لا يوادون من حاد الله ورسول ولو كانوا ذوي قربى منهم ونسب، كتب الله D في قلوبهم الإيمان، (أي: غطى قلوبهم بالإيمان). و" في " بمعنى " اللام " والإخبار عن القلب كالأخبار عن صاحبه. . وقيل معناه: كتب في قلوبهم سمة الإيمان ليعلم أنهم مؤمنون. وقد روي أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد. وأن عمر بم الخطاب Bهـ قتل خاله العاصي بن هشام يوم بدر، ودعا أبو بكر ابنه للبراز يوم بدر فأمره النبي A أن يقعد، وأن مصعب بن عمير قتل أخاه يوم أحد. وكان علي وعمه حمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهم أقرباؤهم، (فلم يتوقف) أحد عن قتل أهله وقرابته، فمدحهم الله D في هذه الآية. ثم قال {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي: وقواهم ببرهان منه. وذلك النور والهدى الذين

يجعلها الله D في قلب من يشاء. وقيل بروح منه: بجبريل ينصرهم ويؤيدهم ويوفقهم. ثم وعدهم بالجنة. فقال: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها Bهـ بطاعتهم إياه ورضوا عنه بوفائه إياهم ما وعدهم من الجنة. ثم قال: {أولئك حِزْبُ الله} أي: جنده وأولياؤه. {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} أي: الباقون في النعيم المقيم والفلاح والبقاء.

الحشر

سورة الحشر مدنية قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: (شَدِيدُ الْعِقَابِ) الآيات [1 - 7]. أي: صلى وسجد لله ما في السماوات وما في الأرض من خلقه، وهو العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه. ثم قال: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} يعني: بني النضير حاصرهم النبي A في منصرفه من أحد، لأنهم أعانوا المشركين على المسلمين ونقضوا العهد، فلما ضيق عليهم صالحهم على أن لهم ما حملت الأبل من رحالتهم سوى الحلقة، والحلقة: السلاح، وأجلاهم إلى الشام، وذلك أول

الحشر / [حشر الناس إلى الشام في الدنيا ثم يحشرون إليها في الآخرة، فلذلك قال لأول الحشر]: أي: لأول الحشر في الدنيا إلى ارض الشام، ومنهم من جلي إلى خيبر، وبنو النضير حي من اليهود لم يجلوا قط، ولكن قضى الله D عليهم أنهم لا بد أن يجلوا من ديارهم. وهو قوله: {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} يعني: بالسيف والسبي. وروي الحسن أن النبي A لما أجلى بني النضير إلى الشام قال لهم امضوا هذا أول الحشر وأنا على الأثر. قال عكرمة: إن شككتم أن الشام أرض المحشر فاقرأوا أول الحشر. وقال ابن عباس: لأول الحشر، أنهم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من ديارهم.

ثم قال: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} يقوله للمؤمنين، لم تظنوا أيها المؤمنون أنهم يخرجون من ديارهم / لشدتهم واجتماع كلمتهم. {وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله} روي أن المنافقين بعثوا إليهم من المدينة لما حاصرهم النبي A يأمروهم بالثبات في حصونهم ويعدونهم النصرة، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} [الحشر: 11] الآية. وقوله: {لأَوَّلِ الحشر} هو إخراج النبي بني النضير من المدينة إلى خيبر، وآخر الحشر هو إخراجهم من خيبر إلى أريحا وأذرعات، وذلك على يد عمر Bهـ. وقيل آخر حشرهم يوم القيامة. ثم قال: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي: فجاءهم أمر الله، فقذف في قلوبهم الرعب عند نزول النبي A وأصحابه بهم، فذهب ما كانوا يظنون أن حصونهم مانعة لهم من النبي عليه السلام وأصحابه.

وقال أبو صالح: معنى: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ}: هو قتل كعب ابن الأشرف. وروى ابن عباس عن النبي A أنه قال: " نصرت بالرعب على مسيرة شهر ". ومعنى {يَحْتَسِبُواْ}: يظنوا. وقيل: يعلموا، من قول الناس: حسبه الله: أي: العالم بخبره الله، وهو الذي يجازيه. وقيل: معناه: كافي إياك الله. من قولهم: أحسب الشيء: إذا كفاه وقيل حسبك الله: معناه: محاسبك، كشريب بمعنى شارب. وقيل: حسبك الله معناه،

المقتدر عليك الله، ومنه قوله: {كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} [النساء: 86] أي: مقتدرا. ثم قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ}. من خفف فمعناه: [يتركونها معطلة، والبيت المعطل خراب، وقيل معناه يهدمونها، ومن يشدَّد فمعناه: يهدمونها أياً: كأذكرت الرجل وذكرته (وأبلغته)، ومعناه: أن المؤمنين كانوا يهدمون الحصون ليدخلوا عليهم البيوت واليهود [يهدمون بيوتهم ويبنون ما هدم المؤمنون من الحصن فهم والمؤمنون يهدمون] مساكنهم وبيوتهم قاله ابن عباس والضحاك. وقيل: إنهم / لما صولحوا على ما حملت إبلهم كان أحدهم ينظر إلى الخشبة في منزله فيستحسنها والعمود والباب. فينزع ذلك ويهدمه فيحمله معه، والمؤمنون يهدمون ما بقي.

قال قتادة: جعل المؤمنون يخربون من ظاهر وجعلوا هم يخربون من داخل. قال الزهري لما صالحوا كانوا لا تعجبهم خشبة إلا أخذوها، فكان ذلك خرابهم لبيوتهم، وهو معنى قول ابن زيد. قال قتادة: كان المسلمون يخربون من خارج ليدخلوا على اليهود، واليهود يخربون من داخل. ثم قال {فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي: فاتعظوا يا معشر ذوي الأفهام بما أحل الله بهؤلاء اليهود. وقيل معناه: يا من أبصر بعينه، والأول أحسن. والاعتبار اشتقاقه من عبر إلى كذا: إذا جاوز إليه، والعبرة منه لأنها متجاوزة من العين إلى الخد. ثم قال {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} أي: لولا أن الله D ( قضى وحتم على هؤلاء اليهود الجلاء) لعذبهم في الدنيا بالسيف [والسبي]، ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار. قال الزهري: كان النضير من سبط لم يصبهم جلاء قط فيما مضى، وكان الله D قد كتب عليهم الجلاء، فأتم فيهم قضاءه، ولولا ذلك لعذبهم بالسيف والسبي في الدنيا.

والجلاء: الانتقال من مكان إلى مكان، يقال جلا القوم من منازلهم وأجليتهم. وحكى أحمد بن يحيى: أُجْلِي القوم من منازلهم. بمعنى: جُلُوا. وحكى غيره: جلوا عن منازلهم يجلون، قال ابن عباس كان النبي عليه السلام قد حاصرهم حتى بلغ بهم كل مبلغ فأعطوا ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء.

4

قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي: الأمر ذلك، لأنهم خالفوا أمر الله D، وأمر رسوله A، فصاروا في شق والمؤمنون في شق، ويجوز أن يكون التقدير: فعلنا بهم ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، " فذلك " على القول [الأول] في موضع رفع خبر الابتداء المضمر، وعلى هذا القول في موضع نصب بالفعل المضمر. ثم قال تعالى: {وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي: ومن يخالف الله في أمره فإن الله شديد العقاب له في الآخرة. قال: {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله}. أي: ما قطعتم من ألوان النخل أو تركتموها قائمة فلم تقطعوها. واللينة

جمع ألوان النخل سوى العجوة، قال عكرمة، وقاله يزيد بن رومان وقتادة وهو قوله ابن عباس وابن جبير والزهري. وقال مجاهد: اللينة: النخل كله من العجوة وغيرها، وقال: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقال: إنما هي مغانم المسلمين، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل قطع من قطع، فاعلموا أن ما قطع منه وما ترك بإذن الله كان. وقال ابن زيد اللينة: النخلة عجوة كانت أو غير عجوة.

وعن ابن عباس: اللينة: لون من النخيل. وعن سفيان الثوري: اللينة: كرام النخل. وقال أبو عبيدة: هي ألوان النخل ما لم تكن العَجْوَةُ واُلْبَرْنِي. وروي: " أن النبي A لما حاصرهم فتحصنوا [وأبوا أن يخرجوا، قطع نخلهم وأحرقها، فقالوا يا محمد أنت تنهى عن الفساد] فما معنى هذا؟ فوقع في قلوب المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله D { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ} " الآية ". وروى: أن أبا بكر نهى المسلمين عن قطع النخل [حين] وجه بهم لفتح الشام، وإنما ذلك لأن النبي A [ أعلمهم] أن الشام ستفتح عليهم، فلما تيقن

6

بفتحها لم يحتج إلى إخراب ما ينتفع به المسلمون. والياء في " لينة " منقلبة عن واو / لأنها من اللون، وقيل هي مشتقة من لأن يلين، فتكون الياء أصلية غير منقلبة. ومعنى: {فَبِإِذْنِ الله} أي: فبأمر الله قطعت نقمة من أعدائه وخزياً لهم وهو قوله: {وَلِيُخْزِيَ الفاسقين} ليذلهم، وهم بنو النضير. قال: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} أي: الذي رد الله على رسوله A من أموال بني النضير فلم توجفوا على غنيمته وأخذه خيلاً ولا إبلاً، أي: لم تلقوا في ذلك حرباً ولا مئونة، لأنهم معكم في بلدكم. قال قتادة: ما قطعتم إليهم وادياً، ولا سرتم مسيراً، إنما كانت حوائط بين النضير طعمة لكم من عند الله. / (وقد قيل إنما عني بذلك) أموال بني قريظة، إذ قتلهم النبي A، وسباهم لما استولى عليهم، قاله الضحاك. وأكثر المفسرين على أنهم بنو النضير، لأنهم

صولحوا على الجلاء وتركوا أموالهم بغير إيجاف من خيل ولا ركاب. والإيجَاف: ضرب من السير سريع. يقال: وَجَفَ: إذا أسرع، وأَوجَفَه غيره. قال مجاهد: في قوله {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} ذكرهم ربهم D أنه نصرهم وكفاهم. قال ابن عباس: " أمر الله D رسوله A بالمسير إلى قريظة والنضير، وليس للمسلمين يومئذ كبير خيل ولا ركاب يوجف عليها فملكوا من ذلك خيبر وفدك

وقرى ثم أمر الله D رسوله A أن يعمد لينبع فأتاها فاحتواها كلها عدة (النفقة ومصالح) المسلمين ولم يقسمها، فكان يفعل فيها ما يرى فيجعل الباقي بعد مصلحته في السلاح الذي يقاتل به العدو، وفي الكراع، فلما توفي النبي A طلبت فاطمة أبا بكر في إرثها من ذلك، فقال أبو بكر أنت أعز علي [غير] أني سمعت رسول الله A يقول: " لا نورث " ما تركنا صدقة ". ولكني أقره على ما كان في (عهد رسول الله) A فقال ناس: هلا قسمها النبي A، فأنزل الله D { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}. ثم قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}.

7

ثم قال: {ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ} أي: يفعل ذلك كما سلط محمداً A على بني النضير، فكان له خاصة ما غنم منهم يعمل فيه ما يرى. ثم قال: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: ذو قدرة على كل شيء، لا يعجزه شيء، وبقدرته سلط محمدا A على بني النضري وغيرهم. قال: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى}. أي: الذي رد الله D على رسوله A من أموال مشركي القرى [فلله وللرسول يعني القرى] التي غنمت بقتال وإيجاف خيل وركاب، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ} [الانفال: 41] الآية. وقيل: أي: هذا فيما غنمتم بصلح من غير إيجاف خيل أو ركاب فيكون مثل الأول في المعنى، إلا أن الأول مخصوص في (بني النضير) خاصة يتفرد به

النبي صلى الله يفعل فيه ما يرى، وكذلك فعل، وهذا الثاني يكون للأصناف التي ذكر الله D والذي في سورة الأنفال في ما غنم بخيل وركاب وقتال، فالثلاث الآيات محكمات على هذا القول. وقيل: أن هذا غير الأول لأن هذا إنما هو في ما كان من الجزية. والخراج يكون لهؤلاء الأصناف المذكورين، والأول للنبي عليه السلام خاصة، وما في الأنفال هو ما غنم بإيجاف خيل وركاب وقتال يكون للأصناف المذكورين، وهذا القول قاله معمر. ثم قال: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} أي: فعلنا ذلك في هذه الغنائم كي لا يقتسمه الأغنياء منكم ويتداولوه بينهم دون من ذكر الله D. ثم قال: {واتقوا الله} أي: اتقوه أن تخالفوا رسوله.

8

قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ}. أي ولكن يكون ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى للفقراء المهاجرين، يعني مهاجرة قريش. قال مجاهد: / جعل / الله D ما أفاء الله على رسوله من قريظة لمهاجرة قريش الذين أخرجهم المشركون من ديارهم وأموالهم، فخرجوا ملتمسين فضلاً، أي: ثوابا من الله ورضونا منه عليهم، وناصرين دين الله D ورسوله A. { أولئك هُمُ الصادقون} أي: صدقوا في فعلهم وقولهم. قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ} أي: الذين سكنوا الدار، وهي المدينة، أي: اتخذوها مسكناً، واتخذوا الإيمان دينا من قبل إتيان المهاجرين، يعني الأنصار يحبون من هاجر إليهم، يعني من مكة وغيرها. ثم قال: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} أي: ولا يجد الأنصار في قلوبهم حسداً

مما أعطي المهاجرون دونهم من الفيء. روي: أن النبي A قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون / الأنصار إلا رجلين من الأنصار أحدهما سهل بن حنيف والآخر أبو دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقراً فأعطاهما النبي A لفقرهما، وإنما فعل ذلك رسول الله A، لأن الله كان قد أعطاه أموالهم يفعل فيها ما يشاء، وقد تقدم ذكر ذلك، قاله عبد الله بن أبزى.

وقال ابن زيد: " لما خص رسول الله A بأموال بني النضير المهاجرين الأولين، تكلم في ذلك بعض الأنصار، فعاتبهم الله D، فقال: {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} الآية. وقال رسول الله A: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم، فقالوا أموالنا بينهم قطائع، فقال رسول الله A: أو غير ذلك قالوا وما ذلك يا رسول الله قال هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر فقالوا نعم يا رسول الله ". قال الحسن: {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} [يعني الحسنة. ثم قال تعالى:] {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ} هذا من صفة الأنصار، وصفهم الله D أنهم يعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم. {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بما عندهم، وإن كان بهم فاقة وحاجة. روى أبو هريرة: " أن رجلاً جاء إلى النبي A ليضيفه، فلم يكن عنده ما

يضيفه، فقال ألا رجلاً يضيف هذا C، فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فأنطلق به إلى رحله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله، نومي الصبية أطفئي المصباح وأريه أنك تأكلين معه، واتركيه لضيف رسول الله A براً له، قال: ففعلت فنزلت: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ". ثم قال: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون}. أي: ومن وقاه الله D شح نفسه، فهو من الباقين المخلدين في الجنة. والشح في اللغة: البخل ومنع الفضل من المال. وقيل: الشح هنا: أكل أموال الناس بغير حق، قاله ابن مسعود.

10

وروى أنس بن مالك أن النبي A قال: " بَرِئَ من الشح من أدى الزكاة [وقرى] الضيف وأعطى في النائبة ". قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان}. أي والذين جاؤوا من بعد الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين الأولين، يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا [بالإيمان] من الأنصار وغيرهم. {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي: غمراً وضغناً، يعني به الذين أسلموا من بعد الذين تبوءوا الدار. قال قتادة: ذكر الله جل ذكره الطائفة الثالثة فقال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ. . .} الآية. ثم قال: أُمِروا أن يستغفروا لأصحاب النبي A ولم يؤمروا بسبهم.

11

وقيل المعنى: والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار. قال ابن أبي ليلى كان الناس / على ثلاث منازل: (المهاجرون الأولون) والذين اتبعوهم بإحسان و (الذين جاءوا من بعدهم). ثم قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو رأفة ورحمة لمن أطاعك. قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً}. يعني: منافقي المدينة يقولون لبني النضير حين نزل بهم رسول الله A وحاصرهم أثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، فإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا وانتظروا نصرهم، فلم يفوا لهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب (فسألوا النبي A) أن يجليهم ويكف عن دعائهم على أن لهم ما

حملت الإبل من أموالهم، فصالحهم على ذلك. قال ابن عباس: الذين نافقوا هنا هم عبد الله بن أبي وأصحابه وعدوا بني النضير بالنصر والخروج معهم، وأنهم لا يطيعون فيهم أحداً أبداً، فأعلمنا الله D أنهم كاذبون، وأنهم لا يقاتلون معهم، ولا يخرجون معهم، وأنهم / حتى لو نصروهم لولوا الأدبار منهزمين. {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي: ثم لا ينصر الله D بني النضير على نبيه A وأصحابه، بل يخذلهم. وقال أبو صالح: {لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب}، هم بنو قريظة. وقيل معنى: {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار} أي: ولئن نصر اليهود المنفقون، ومعنى لا ينصرونهم: طائعين، ولئن نصروهم: مكرهين، ليولن الأدبار منهزمين. وقيل معنى: لا ينصرونهم: أي: لا يدومون على نصرهم كما يقال: فلان لا يصوم ولا يصلي، أي: لا يدوم على ذلك، ورفع (يخرجون وينصرون) وقبله

13

شرط، لأنه قسم، ولا يعمل الشرط في القسم، ولا في جوابه، لكنه سد مسد جواب الشرط. قال: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} أي: لأنتم أيها المؤمنون أشد رهبة في صدور اليهود بني النضير من الله سبحانه: أي: هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله D. { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [أي: ذلك الخوف الذي حل بهم، من أجل أنهم قوم لا يفقهون] قدر عظمة الله D، فهم لذلك يخافونكم أعظم من خوفهم الله (عز وجهه وتعالى جدُّه)، ولذلك ارتكبوا معاصي الله وخالفوه في نقض عهد النبي A وأصحابه ومعونتهم للمشركين بأُحد. قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ}. أي: من خوفهم منكم لا يقاتلونكم إلا في قرى قد حصنت، ولا يبرزون إليكم أو يقاتلونكم إلا من وراء جدر، أي: إلا من وراء حيطان.

15

{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: عداوة بعضهم لبعض شديدة. {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى}. يعني: المنافقين واليهود، أي: تحسبهم يا محمد مؤتلفي الكلمة مجتمعين على محبة بعضهم بعضاً، وقلوبهم شتى: أي: مفترقة (ببعض بعضهم لبعض). ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي: ذلك الذي وصفه الله D من أمر اليهود والمنافقين من عداوة بعضهم بعضاً في الباطل، من أجل أنهم قوم لا يعقلون ما فيه الحظ لهم مما عليهم فيه الضرر. وقال قتادة: لما قرأ هذه الآية: كذا أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة الحق. وقال مجاهد: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى}: هم المنافقون يخالف دينهم دين اليهود. وقال سفيان: هم المشركون وأهل الكتاب. قال: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

أي: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، " فالكاف " في موضع رفع خبر الابتداء المضمر، " وقريباً " نعت لظرف محذوف. والتقدير: وقتاً قريباً ذاقوا عاقبة كفرهم وعصيانهم، وكذا التقدير في الكاف من قوله: {كَمَثَلِ الشيطان} والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أعلمنا أن مثل هؤلاء اليهود والمنفقين فيما الله D صانع بهم من إحلال عقوبته [بهم] كمثل فعله بالذين من قبلهم يعني [به] بني قينقاع (أمكن الله D منهم) قبل بني النضير، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: عنى به كفار قريش يوم بدر. وقيل: هو عام في كل من انتقم منه على كفره قبل بني النضير. ومعنى: {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي: نالهم عقاب الله D على كفرهم به، " والوبال ": ثقل المكروه، ومنه: " طعام وبيل ": أي: ثقيل وخم.

16

ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم، يعني موجعاً في الآخرة، يعني المنفقين وإخوانهم من يهود بني النضير وغيرهم مِمن عصى الله D وخادعه سبحانه. قوله: {كَمَثَلِ الشيطان}. قد ذكرنا الكاف في {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} والمعنى: مثل هؤلاء المنافقين في وعدهم اليهود بالنصر، وإخلافهم إياهم وتبريهم منهم لما أجلوا من ديارهم، كمثل الشيطان الذي غر الإنسان ووعده على كفره النصر ثم تبرأ منه لما كفر وأسلمه. روي عن علي Bهـ أنه قال: " إن راهباً تعَبَّد ستين سنة وأن الشيطان أراده وأعياه، فعَمَد إلى امرأة فأجَنَّها ولها إخوة، فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها، قال فجاءوا به إليها فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك، فأطِعني أُنجك ممّا صنعت بك، أسجد لي سجدة،

فسجد [له]، فلما سجد له / قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. / وعن ابن مسعود أنه قال: كانت امراة ترعى غنماً، كان لها أربعة إخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، فنزل الراهب ففجر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مصدق يقبل قولك، فقتلها ثم دفنها. قال: فأتى الشيطان إخواتها في المنام، فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك، فقالوا: لاَ بَلْ قُصَّها علينا، فَقَصَّهَا، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، وقال الآخر مثل ذلك، فقالوا: والله ما هذا إلا لشيء. فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فقالوا: والله ما هذا إلا لشيء. فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به، فلقيه الشيطان، فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن

ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه، قال: فسجد له. فلما أتوا ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وقول الشيطان: {إني أَخَافُ الله (رَبَّ العالمين)} إنما هو على طريق التبرؤ من الإنسان، لأنه لا يخاف الله على الحقيقة، لأنه لو خافه ما عصاه، ولو خافه لكان ذلك مدحاً له. وعن ابن عباس: أن راهباً من بني إسرائيل تعبد فأحسن عبادته، وكان يُؤتى من كل أرض فيُسأل عن الفقه، وكان عالماً، وأن ثلاثة أخوة كانت لهم أخت حسنة من أحسن النساء، وأنهم أرادوا سفراً، فكبر عليهم أن يخلفوها ضائعة، فجعلوا يأتمرون ما يفعلون بها، فقال أحدهم أنا أدلكم على من تتركونها عنده، قالوا من هو، قال راهب بني إسرائيل إن ماتت قام عليها وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليها، فعمدوا إليه، فقالوا: إنا نريد السفر، ولا نجد أحداً أوثق منك في أنفسنا، ولا أحفظ لها ولي منك ولما جعل عندك فإن رأيت أن نجعل أختنا عندك، فإنها ضائعة شديدة الوجع، فإن ماتت فقم عليهم، وإن عاشت فأصلح إليها حتى نرجع.

فقال: أكفيكم إن شاء الله، فانطلقوا وقام عليها فداواها حتى برئت وعاد إليها حسنها، فأطلع إليها فوجدها متصنعة، فلم يزل به الشيطان يزين له أن يقع عليها حتى وقع عليها، فحملت ثم قدمه الشيطان، فزين له قتلها وقال: إن لم تقتلها افتضحت وعُرِف شبيهك في الولد، فلم تكن لك معذرة فلم يزل به حتى قتلها. فلما قدم إخوتها قالوا له: ما فعلت فلانة قال ماتت فدفنتها قالوا أحسنت، ثم جعلوا يرون في المنام ويخبرون أن الراهب هو قتلها، وأنها تحت شجرة كذا وكذا، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها تحتها قد قتلت، فعمدوا إليه فأخذوه، فقال له الشيطان: أنا زينت لك الزنا (وقتلَها بعد الزنى)، فهل لك أن أنجيك، قال: نعم (قال: أفتطيعني؟ قال: نعم) قال: فاسجد لي سجدة واحدة، فسجد له ثم قتل. وقال مجاهد: الإنسان هنا عنى به الإنسان كلهم في غرور الشيطان إياهم وتبريه منهم، كما غر المنافقون اليهود ووعدوهم بالنصر، ثم (تبرءوا) منهم وأسلموهم.

18

قال تعالى /: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}. أي اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ولينظر أحدكم ما قدم لمماته من العمل الصالح والعمل السيء. قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعله كغد، فغد يوم القيامة. وقاله الضحاك وابن زيد وقالا: الأمس الدنيا، وغداً الآخرة. ثم قال: {واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وخافوه بإداء فرائضه واجتناب معاصيه، إنه خبر بجميع أعمالكم، فيجازيكم عليها، وكرر هذا اللفظ للتأكيد. قال: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي تتركوا أمره ونهيه، فتعدوا حدوده. {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي أنساهم حظوظ أنفسهم / من عمل الخيرات، فعلى هذا القول الأول يكون النسيان الأول من الترك، والثاني من النسيان المعروف، وقيل مما من الترك، والمعنى تركوا أمر الله فتركه ثوابهم، وهو عند بعض أهل اللغة غلط، لا يقال أنسي عن الترك، وإنما يصح مثل هذا في قوله {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. وقيل معنى فأنساهم (وجدهم كذلك)، كما يقال أحمدته، فيكون " أنفسهم "

20

على هذا تأكيداً، وعلى قول الأول مفعولاً به. ثم قال {أولئك هُمُ الفاسقون} أي الخارجون عن طاعة الله ( D) . قال {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} أي لا يعتدلون في الجزاء وفي النعيم. {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} أي الناجون مما حذروا. {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا} أي: فكانت عقبى الشيطان والإنسان: الخلود في نار جهنم. {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} أي: فالخلود في النار جزاء الظالمين المنافقين واليهود [من] بني النضير ومن كان مثلهم. والنصب في " خالدين " والرفع سواء عند سيبويه، لا يغلب النصب على الرفع لأجل تكرير الظرف. ومذهب الفراء أن النصب أحسن، لئلا يلغى الظرف مرتين. وألزم سيبويه من اعتل بتكرير الظرف أن يجيز النصب في قوله " عَلَيْكَ زَيْدٌ حَرِيصٌ عَلَيْكَ " فينصب حريص لتكرير الظرف، وهذا لا يجوز. /

21

قال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله}. أي: لو أنزل الله D هذا القرآن على جبل وهو حجر أصم لرأيته يا محمد على قساوته وشدته متذللاً متضرعاً حذراً من الآ يؤدي حق الله D المفترض عليه، وقد ا، زل على ابن آدم وَمعه فهم وإدراك وهو مستخف بحقه لاه عما فيه. قال / قتادة: فعذر الله D الجبل الأصم ولم يعذر أشقياء بني آدم، فهل رأيتم أحداً تصدعت جوارحه من خشية الله سبحانه. وقيل: المعنى: لو أنزلنا هذا القرآن (على جبل) على عظمته وشدته وجعلنا فيه ما يميز: لذل وخضع. ثم قال: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: نمثل لهم لعلهم يتفركون فيها فيعتبروا ويزدجروا. قال: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة} أي: (الذي يتصدع

23

الحبل له ويذل من خشيته) وهو الله الذي لا معبود تجب له العبادة غيره، يعلم السر والجهر وما غاب وما ظهر، وهو الرحمن الرحيم. قال: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي: لا معبود بحق غيره. {الملك القدوس} أي: الذي لا ملك فوقه، والقدوس في قول قتادة: المبارك. وقيل: {القدوس} القدوس: المطهر مما نسبه إليه المشركون (والقدس: الطهر). والأرض المقدسة: المطهرة. وقرأ أبو الدينار الأعرابي: القَدوس بفتح القاف كسَمُّور وشَبُّوط. وقوله: {السلام} أي: ذو السلامة من جميع الآفات.

وقوله: {المؤمن} أي: الذي أَمِن عباده من جَوره. وقيل: معناه: اليذ يصدق عباده المؤمنين إذا شهدوا على الناس. وقوله: {المهيمن} قال ابن عباس: هو الأمين، وعنه: الشهيد. وقال أبو عبيدة: الرقيب الحفيظ. وقال المبرد: أصله المؤيمن ثم أبدل من الهمزة هاء. وقله: {العزيز الجبار} أي: ذو العزة والمنع، الذي يجبر خلقه على ما يشاء من " أجبر "، وهذا قول مردود، لأن " فعالاً " لا يكون من " أفعل " ولكنه من " جَبَرَ الله خلْقَه: إذا نَعَشَهُم ". وقيل: هو من جبرت العظم: فجبر.

24

وقيل: هو من من تجبر النخل: إذا علا وفات اليد. وقوله: {المتكبر} معناه العلي فوق خلقه. وقال قتادة: المتكبر: تكبر عن كل سوء. وقوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزيهاً / له، وبراءة مما يقول المشركون. قال: {هُوَ الله الخالق البارىء} أي: هو الله الذي خلق الخلق، وبرأهم فأوجدهم. {المصور} أي: الذي صورهم في الأرحام كيف يشاء. وقيل: معنى خلق الخلق: قدره وبرأهم: سواهم وعدلهم، وصورهم بعد ذلك. ثم قال: {لَهُ الأسمآء الحسنى} وهي تسعة وتسعون اسماً قد اختلف الناس فيها. ثم قال: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض} أي: يصلي ويسجد له طوعاً وكرهاً كل ما في السماوات والأرض من الخلق. {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: العَزِيزُ في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه، وقيل حكيم بمعنى حاكم، وقيل بمعنى محكم.

الممتحنة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الممتحنة مدنية {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} الآية. أي: يأيها الذين صدقوا محمداً وما جاء به لا توالوا المشركين ولا تناصحوهم ولا تودوهم، يعني أهل مكة (وهم من) كفروا بما جاءكم من الحق، يعني القرآن. {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} يعني: من مكة من أجل إن آمنتم بالله ربكم. {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي} أي: إن كنتم على صحة ويقين اعتقاد أنكم خرجتم جهاداً مجاهدين في الله D، وابتغاء مرضاته سبحانه فلا تودوا المشركين وتناصحوهم وتسرون إليهم بالمودة. {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} أي: بسركم وعلانيتكم في مناصحتكم

وصحبتكم لهم وغير ذلك. {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أي: ومن يودهم وينصحهم فقد جار عن قصد الطريق المستقيم. والباء في " بِالمَوَدَّةِ " زائدة عند الفراء، وهي متعلقة بالمصدر عند البصريين. ويروى أن هذه الآية [نزلت] في شأن حاطب بن أبي بلتعة كان قد كتب إلى مشركي مكة يطلعهم على أمر النبي A وخروجه إليهم. قال علي Bهـ: " بعثني رسول الله A أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، قال فانطلقنا نتعادى

حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب، قالت ما معي كتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، وقال علي لها: والله ما كذب رسول الله A قال فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله A، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله A، فقال النبي A: يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل علي أني كنت أمراً ملحقاً إلى قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم، فأحببتُ إِذا فاتني ذلك النسب أن أتخذ عندهم يداً يحمونني بها في قرابتي ولم أرد ارتداداً عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله A أما أنه قد صدقكم، فقال عمر، دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال: أما أنه شهد بدراً، فقال اعملُوا ما شئتم فقد غفرت لكم، قال سفيان: فنزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} إلى قوله:

{سَوَآءَ السبيل} ". ومعنى: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي: في المستقبل، وقد ذكر معنى هذا الحديث عروة بن الزبير وابن عباس وقتادة ومجاهد (أن مجاهداً قال: نزلت) في ابن بلتعة وقوم معه كتبوا إلى أهل مكة يحذرونهم. ويروى: أنه كان في كتابه / إلى أهل مكة أن [رسول الله A يريد غزوكم مثل الليل والسيل وأقسم بالله] لو غزاكم وحده لنصره الله عليكم فكيف وهو في جمع كثير. ويروى: " أنه خاطب أهل مكة يخبرهم بقصد النبي A إليهم فقال له النبي A ما حملك على هذا، فقال: والله يا رسول الله ما نافقت منذ أسلمت، ولكن لي بمكة أهل مستضعفون ليس لهم من يعرفهم ويذب عنهم، فكتبت كتابي هذا أتقرب به من قلوبهم وأنا أعلم أنه لا ينفعهم وأن الله بالغ أمره، فعذره النبي A وصدقه،

وأراد عمر ضرب عنقه فقال له النبي A ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". قال أبو حاتم: ليس من أولها وقف تام إلى {وَمَآ أَعْلَنتُمْ}. وقال محمد بن عيسى: {أَوْلِيَآءَ} وقف، وقال غيره: إن جعلت {تُلْقُونَ} نعتاً " لأولياء " لم تقف على " أولياء " وإن جعلته مبتدأ وقفت على " أولياء ". وقال القتبي: {بالمودة}: التمام. [قال يعقوب]: و {وَإِيَّاكُمْ} وقف كاف. وقال أبو حاتم: هو وقف بيان. قال القتبي: هو تمام، ولا يصح هذا لأن " وَإِنْ تُؤْمِنُوا " معمولة

2

" ليخرجون ". ثم قال: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً} أي: أن يصادفكم هؤلاء الذين تودون إليهم بالمودة / يكونوا لكم حرباً، ويبسطوا إليكم أيديهم بالقتل وألسنتهم بالشتم، وودوا لو تكفرون فتصيرون مثلهم. قال: {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} أي: لن تنفعكم عند الله يوم القيامة أقرباؤكم ولا أولادكم الذين من أجلهم ناصحتم المشركين، وكتبتم إليهم بالمودة فيكون العامل في الظرف: ينفعكم. وقيل: / العامل فيه " يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ " ومعنى يفصل بينكم؛ أي: يدخلكم الجنة ويدخل الكفار النار. ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: ذو علم وبصر بجميع أعمالكم، وهو مجازيكم عليه فاتقوا الله في أنفسكم. ثم قال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ} الآية. أي: قد كانت لكم أيُّها المؤمنون قدوة حسنة تقتدون بها في إبراهيم A

خليل الرحمن D والذين معه. قال ابن زيد هم الأنبياء إذ قالوا لقومهم يعني الكفار: {إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ} أي: متبرئون منكم ومما تعبدون من دون الله من الأصنام. {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي: أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر. {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً} أي: وظهرت بيننا وبينكم العداوة والبغضاء على كفركم أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده فتفرده بالعبادة. ثم قال: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ} أي: قد كانت لكم أسوة حسنة في هؤلاء المذكورين إلا في قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فإنه لا أسوة لكم في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو الله، وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يؤمن، فكان إبراهيم يدعو له ويقول: اللهم اهد أبي، فلما مات على الكفر تبرأ منه وهو قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وكذلك أنتم أيُّها المؤمنون يجب لكم أن تتبرءوا من أعداء الله المشركين به ولا تتخذوهم أولياء حتى يؤمنوا. قال مجاهد: نُهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفروا لآبائهم المشركين، وهو معنى قول قتادة ومعمر وابن زيد.

5

وقوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} استثناء ليس من الأول. ثم قال: {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} [أي: ما أدفع عنك عقوبة الله لك على كفرك، ثم قال:] {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير}. أي: عليك توكلنا في جميع أمورنا، وإليك رجعنا وتبنا مما تكره إلى ما تحب وترضى. {وَإِلَيْكَ المصير} أي: مصيرنا يوم القيامة. قال: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} هذا كله حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام، أي: لا تعذبنا بأيدي الكافرين، ولا بعذاب من عندك فيفتتن الكفار ويقولون: لو كانوا على حق ما أصابهم هذا. قال قتادة: معناه لا تظهر الكفار علينا فيفتتنوا بذلك. وقال ابن عباس: معناه: لا تسلطهم علينا فيفتتنوا. {واغفر لَنَا رَبَّنَآ} أي: أستر علينا ذنوبنا بعفوك عنها. {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي: أنت الشديد الانتقام من أعدائك، الحكيم في تدبيرك خلقك.

6

ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة. ثم قال تعالى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي: القدوة بإبراهيم ومن معه إنما هي لمن آمن بالله ورجا ثوابه، وخاف عقابه، وآمن باليوم الآخر فهو بدل بإعادة الجار. ثم قال: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي: ومن يتول عن الاقتادء بإبراهيم والأنبياء معه (صلى الله عليهم وسلم) فيخالف سيرتهم وفعلهم فإن الله هو الغني عن اقتدائه بهم، الحميد عند أهل المعرفة به. قال: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً}. [أي]: عسى الله أن يوفق من عاديتم فيه عن المشركين إلى الإيمان فتعود العداوة (مودة) ففعل ذلك سبحانه. و {عَسَى} من الله: واجبة، فأسلم كثير منهم، وصاروا إخواناً لمن كان يعاديهم، وكانت المودة بعد الفتح وقبله. (وروي: أن هذه الآية نزلت على النبي A في أبي سفيان، جعل بينه وبين أبي سفيان مودة بأن تزوج ابنته أم حبيبة، بعد العداوة التي كانت بينهما وقبله). قال ابن عباس: كانت المودة بعد الفتح، تزوج النبي A أم حبيبة. / {والله قَدِيرٌ} أي: ذو قدرة على ما يشاء.

8

{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو ستر على ذنوب من أناب وآمن وذو رحمة بهم أن يعذبهم على ذنوبهم بعد أيمانهم وتوبتهم منها. قال: {لاَّ يَنْهَاكُمُ / الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ. . .} الآية. قيل: أن هذه الآية إنما هي في الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا، سمح الله D للمؤمنين بالمدينة أن يبروهم ويحسنوا إليهم، فهي مخصوصة محكمة قاله مجاهد. وقيل هي منسوخة بآية السيف، قاله قتادة وابن زيد. وقيل: هي مخصوصة في حلفاء بينهم وبين النبي A عهد من المشركين لم ينقضوه، وهم خزاعة، قاله أبو صالح. وقال الحسن: خزاعة وبنو عبد الحارث بن عبد مناف، فسمح لهم أن يبروهم ويحسنوا إليهم، ويفوا لهم بالعهد. وقيل: الآية عامة محكمة في كل من بينك وبينه قرابة، جائز بره والإحسان إليه إذا لم يكن في ذلك ضرر على المسلمين وإن كان مشركاً، ولا يجب قتال من لم يقاتلك

9

من الكفار حتى تدعوه إلى الإسلام فإن أبى فاقتله. ثم قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين} الآية: إنما ينهاكم الله عن مودة من قاتلكم في الدين، وأخرجك من بيته في الدين، يعني بذلك كفار أهل مكة، قال مجاهد. قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ} (من دار الحرب) {فامتحنوهن الله}. أي: إذا جاءكم النساء مهاجرات من دار الحرب فامتحنوهن، وكانت محنة النبي A لهن أن يحلفن بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس الدنيا، وبالله ما خرجت (إلا حباً لله ولرسوله). / وعن عائشة Bها " أن النبي A إنما كان يمتحنهن بآخر السورة. قوله: {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} إلى قوله: {مَعْرُوفٍ} ".

قالت: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وإذا لقررن بذلك قال لهن النبي A إنطلقن فقد بايعتكن، قالت ولا والله ما مست يد رسول الله A يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام، قالت فما أخذ رسول الله A على النساء إلا ما أمره الله به. وعن ابن عباس: أن المحنة كانت أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً (رسول الله). وقال مجاهد: {فامتحنوهن}: سلوهن ما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن [أو سخط أو غيره، ولم يؤمن، فارجعوهن إلى أزواجهن]. قال قتادة: كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجهن النشوز وما أخرجهن إلا حب الإسلام (وأهله والحرص عليه)، فإن أقررن بذلك قبِل منهن.

وقال عكرمة: يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك، فذلك المحنة. وروى ابن وهب عن رجاله أن قوله: " إِذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُهُنَّ ". نزلت في امرأة حسان بن الدحداحة وهي أميمة بنت بشر امرأة من بني عمور ابن عوف، وأن سهل بن حنيف تزوجها حين فرت إلى رسول الله A فولدت له عبد الله بن سهل، وأن قوله تعالى: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} نزل في امرأة لعمر بن الخطاب تركها بمكة كافرة ولم يطلقها حتى نزلت هذه الآية فطلقها عمر فخلف عليها معاوية. وقوله: {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي: أعلم بمن جاء للإيمان ممن جاء لغير ذلك. ثم قال: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي: إن أقررن بالمحنة بما عقد عليه الإيمان فلا تردوهن إلى الكفار /، وإنما قيل ذلك للمؤمنين، لأن العهد كان بينهم وبين مشركي مكة إذ صد النبي A عن البيت في صلح الحديبية أن يرد

المسلمون إلى المشركين من جاء منهم إلى المسلمين مسلماً، فأبطل الله D ذلك الشرط في النساء غذا جئن مؤمنات ونسخه، وأمرهم ألا يردوا من جاء من النساء مؤمنة، وهذا من نسخ القرآن للسنة. وقوله: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي: لا تحل المسلمة للكافر ولا الكافر للمسلمة. ثم قال: {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} [أي وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ما أنفقوا] على النساء في الصداق، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. ثم قال: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: لا حرج عليكم أيُّها المؤمنون أن تنكحوا من جاءكم من المؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن. وكان الزهري: يقول إنما أمر الله جل ذكره بِرد صدقاتهن إليهن إذا (حبسن عنهم) إذا هم ردوا على المسلمين من حبس عنهم من / نسائهم. وقال الشافعي: {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} منسوخ، واحتج من قال بهذا القول أن النبي A لما أمر أن (ترد عليهم) صدقات النساء المهاجرات إليه، المؤمنات قد

شرط لهم رد النساء على كا حال، فأمر الله ألا يردهن إليهم غذا أتين مؤمنات، وجعل رد الصداق عوضاً من ردهن [ليتم] العهد الذي بينه وبين قريش، فإذا لم يكن عهد مثل ذلك في الرد وأتت امرأة من عند المعاهدين مؤمنة / لم يلزم أن يرد عليهم صداقها، فإن كان العهد مثل عهد النبي A لقريش، لم يلزم أيضاً أن يرد عليهم صداقها، لأن الشرط في النساء قد أبطله الله، فهو منسوخ باطل ولا عوض للباطل، مع أنه لا يجوز أن يشترط / إمام في العهد رد النساء بحكم الله، وإذا لم يشترط ذلك فلم يلزم رد الصداق، لأن الصداق إنما كان عوضاً عن شرط قد وقع، ثم نزل القرآن بعده فنسخه، فإذا لم يجز عقد ذلك الشرط لم يجز العوض منه، فهو كله منسوخ بحكم الله D في منع رد النساء المؤمنات إليهم. ومذهب مالك أن الصلح على رد الرجال إليهم جائز. ومذهب الكوفيين أنه منسوخ ولا يجوز. ثم قال: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} أي: لا تمسكوا بعقد نكاح الكوافر من غير أهل الكتاب، فهي مخصوصة. وقيل هو عام نسخ منه أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5].

ولما نزلت هذه الآية طلق المؤمنون كل امرأة مشركة لهم في مكة، منهم عمر وغيره. ثم قال: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} هذا خطاب للمؤمنين الذين ذهب نساؤهم إلى المشركين (فأمرهم الله أن يطلبوا صدقات نسائهم من المشركين ويدفعوا إلى المشركين صدقات من جاء من النساء مؤمنات، يعني من تزوج منهن في مكة أو في المدينة، فإذا تزوجت المهاجرة من عند المشركين بالمدينة وجب على زوجها [أن يرد الصداق على زوجها] الذي كان لها بمكة، وإذا تزوجت المرأة التي تخرج إلى المشركين بمكة وجب أن يطلب زوجها المؤمن صداقها الذي دفع إليها من المشركين. قال ابن شهاب: أقر المؤمنون بحكم الله D، فأدوا صدقات من تزوجوا ممن جاءهم من النساء مهاجرات مؤمنات، وابى المشركون أن يقروا بحكم الله سبحانه من أداء صدقات من تزوجوا من النساء اللواتي فررن إليهم من عند المسلمين، هذا معنى قوله. وهذا حكم أطله الله D المؤمنين / عليه ولم يأمر به الكفار لأنهم لا يأتمرون

11

(بهذا وهو مثل قوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5] فهو حكم أطلع الله D المؤمنين عليه) وإن كان الذين أوتوا الكتاب لا يأتمرون بذلك ولا يحلون لأنفسهم طعام المؤمنين. ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي: هذا الذي حكمته بينكم هو حكم الله D فيكم وفيهم، فاتبع المؤمنون الحكم وامتنع منه المشركون، وطالبوا النبي وأصحابه برد النساء على ما عقد عليه العهد فلما امتنع المشركون من رد صدقات نساء المؤمنين أنزل الله جل ذكره. {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ}. هذا قول الزهري، فأمرهم الله D إذا غنموا من المشركين غنيمة، وصارت لهم على المشركين عقبى خير، أن يدفعوا إلى من ذهبت امرأته إلى المشركين صداقه الذي كان دفع إليها من الغنيمة إذ امتنع المشركون من رد الصداق. وقال مجاهد وقتادة: هذا إنما هو فيمن فر من نساء المؤمنين إلى الكفار الذين

ليس بينهم وبين المؤمنين عهد ولا صلح. ومعنى: {فَعَاقَبْتُمْ} أي: فأصبتم عقبى خير من غنيمة. وقال الأعمش: هي منسوخة. وقيل: معناه: أن الله D أمر المؤمنين أن يعطوا لمن ذهبت زوجته إلى المشركين من صدقات المهاجرات إليهم من عند المشركين، فإن بقي في أيدي المؤمنين فضل من الصدقات ردوه إلى المشركين، هذا كله معنى قول الزهري. وقال غيره: إنما أمروا أن يدفعوا إلى من ذهبت زوجته إلى المشركين من غنيمة وفيء إذا افتتح عليهم به، وهو قول (مجاهد وقتادة). وأكثر العلماء / على أن هذا الحكم منسوخ، لأنه إنما كان مخصوصاً في ذلك العهد بعينه. قال الزهري: انقطع هذا يوم الفتح. وقال قتادة: نسخ الله D هذا في سورة براءة. / وقال الثوري: لا يعمل به اليوم.

12

وعن عائشة Bها: أن هذه الآية {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} لما نزلت كتب المسلمون إلى المشركين أن الله D قد حكم بكذا وكذا ونصوا الآية، فكتب إليهم المشركون: أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً، فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به، فأنزل الله: " وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ. . . الآية. قال: {يا أيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ} الآية. أمر الله نبيه عليه السلام أن يقبل من جاءه من المهاجرات من عند المشركين إذا أقررن بأنهن لا يشركن بالله ولا يسرقن ولا يزنين. وقوله: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} معنى: بين أيديهن: ما كان من قبله حرام أو حبسة أو أكل حرام. ومعنى: بين أرجلهن: الجماع ونحوه من حرام. وقيل: بين أيديهن: يعني ألسنتهن وأرجلهن: فروجهن. وقيل معناه: ولا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهم. {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي: يطعنك فيما تأمرهن به.

وقيل هو ألا ينُحْن، قاله ابن عباس، وقال أنس بن مالك. وقال زيد / بن أسلم: هو ألا يخمشن وجهاً، ولا يشققن جيباً، ولا يدعون ويلا، ولا ينشدن شعراً. قال قتادة: ذكر لنا " أن النبي A أخذ عليهن النياحة وأَلاَّ يحدثن الرجال إلا رجال ذَوُو محرم منهن ". وروى ابن المنكدر: " أن نساء جئن إلى النبي A يبايعنه فقال في ما استطعتن وأطقتن، فقلن الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ". وهذه الشروط كلها ليست على الإلزام، إنما هي على الندب، لأن الإجماع على أنه ليس على الإمام أن يشترط هذا على من أتته مؤمنة، فدل هذا على أنه على الندب، وقد قيل أنه منسوخ بالإجماع.

13

وقوله: {واستغفر لَهُنَّ الله} أي: سل الله لهن المغفرة. / {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: ذو ستر على ذنوب من أمن وتاب من ذنوبه وذو رحمة به أن يعذبه بعد توبته. قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} أي: لا توالوا اليهود {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} قد تركوا العمل لها وآثروا الدنيا. وقيل: معناه: قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الأحياء من أمواتهم أن يرجعوا إليهم قاله ابن عباس والحسن. (وقيل: معناه: كما يئس الكفار من الموتى من الآخرة، لذلك يئس هؤلاء اليهود من الآخرة). وقال قتادة: معناه: قد يئس اليهود أن يبعثوا كما يئس الكفار أن يرجع إليهم من مات. وقيل: المعنى: قد يئس اليهود أن يرحمهم الله D حين رأوا النار، وظهر لهم عملهم كما يئس الكفار أن يرجع إليهم من مات.

وقيل: المعنى: كما يئس الكفار الذين ماتوا أن يرحمهم الله D حين عاينوا ما عملوا، فكذلك يئس هؤلاء اليهود من رحمة الله سبحانه في القيامة، هذا معنى قول مجاهد وابن زيد وعكرمة. وقيل: المعنى: كما يئس الكفار الذين في القبور أن يرجعوا إلى الدنيا. " فمن " على الأقوال للتعدية، وعلى هذه الأقوال لإبانة الجنس.

الصف

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الصف مدنية سورة الصف مدنية عند قتادة عند ابن عباس قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الآيات [1 - 12]. معناه صلى وسجد لله طائعاً أو كارهاً ما في السماوات وما في الأرض. {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي: العزيز في انتقامه ممن عصاه، الحكيم في تدبيره خلقه. هذا تأديب وتوبيخ للمؤمنين، وروي عن ابن عباس أنهم كانوا يقولون قبل أن يفرض الجهاد الجهاد لو نعلم (أحب الأعمال) إلى الله D لأتيناه ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا فلما كان يوم أحد

3

تولوا عن النبي صلى الله عيله وسلم حتى شُج وكُسرت رباعيته، فَعَذلَهُم الله D على ذلك بهذه الآية. قوله: {أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} " أَنْ " في موضع رفع بالابتداء، كما تقول نِعمَ رجلاً زيداً وفي موضع رفع على إضمار مبتدأ. فالمعنى: لِمَ تقولون / قولاً ولا تصدقوه بالفعل، عظم المقت عند الله مقتاً قولكم / ما لا تفعلون. وعن ابن عباس: أن ناساً من المؤمنين كانوا يقولون قبل فرض الجهاد لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله D نبيه A أن أحب الأعمال إليه. إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين لم يقروا به، فلما نزل الجهاد، كره ذلك ناس من المسلمين وشق عليهم أمره، فأنزل الله D هذه الآية.

وقال أبو صالح: قالوا لو كنا نعلم أيُّ الأعمال أحب إلى الله D وأفضل، فنزلت: [{يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} إلى آخر السورة، فكرهوا فنزلت:] {يا أيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}. وقال مجاهد: نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة، قالوا: في مجلس لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله D لعملناها حتى نموت، فأنزل الله D فيهم هذا، فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح حبيساً في سبيل الله D حتى أموت فقُتِل شهيداً C.

4

وقال قتادة: بلغني أنها نزلت في الجهاد، كان الرجل يقول: قاتلت وفعلت ولم يكن فعل، فوعظهم الله D في ذلك أشد موعظة، وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون. فيكون التقدير على هذا القول: يأيها الذين حكم لهم بحكم الإيمان. قال: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} المحبة من الله D قبول الأعمال، والإثابة عليه، أي: إن الله يقبل عمل الذين يقاتلون أعداءه على الدخول في دينه مصطفين كأنهم بنيان مرصوص، كأنهم في اصطفافهم حيطان مبنية / قَدْ رُصَّ بناؤها وأحكم في استوائه. وقيل: {مَّرْصُوصٌ}: بني بالرصاص. قال قتادة: لا يحب صاحب البنيان أن يختلف بناؤه، كذلك تعالى ذكره لا يختلف أمره.

5

قال ابن زيد: هؤلاء الذين صدقوا قولهم بأعمالهم، والأولون قوم لم يصدقوا قولهم بأعمالهم، لما خرج النبي A نكصوا عنه وتخلفوا. وقيل: أن الآية تدل على أن القتال راجلاً أحب إليه من القتال فارساً. قال: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ}. واذكر يا محمد إذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون حقاً أني رسول الله إليكم. {فَلَمَّا زاغوا} أي: عدلوا عن الحق، وجاروا عن الهدى، أزاغ الله قلوبهم؛ أي: أمالها عن الحق، وقيل عن الثواب. وقال أبو أمامة: هم الخوارج. وعن سعد بن أبي وقاص: هم الحَرُورِية. ثم قال: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} (أي: لا يوفق للصواب) من خرج عن الإيمان إلى الكفر. قال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم}.

7

أي: واذكر يا محمد إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم {مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} أي: لما نزل قبلي من التوراة على موسى ومبشراً لكم (برسول من الله) إليكم يأتي من بعدي اسمه أحمد. ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: فلما جاء أحمد لبني إسرائيل بالعلامات الظاهرات الدالات على نبوته، قالوا هذا الذي جئتنا به سحر ظاهر، ومن قرأ " ساحر " فمعناه: قالوا هذا الذي جاءنا هو ساحر بين. قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي: لا أحد أظلم ممن اخترق على الله سبحانه الكذب، وهو قولهم للنبي A، ساحر وشاعر إذ دعاهم إلى الإسلام، يقولون له ذلك حين دعاهم إلى الدخول في الإسلام. ثم قال: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: لا يوفقهم إلى الهدى. قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم} أي: يريد هؤلاء القائلون بمحمد A لما دعاهم إلى الإسلام ساحر وشاعر ليبطلوا الحق الذي جاءهم به من عند الله D بقولهم إنه ساحر وأن ما جاء به سحر. /

9

ثم قال: {والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي: مُعل دينه على سائر الأديان، ومظهر نبيه A على من عاداه، وعنى بالنُّورِ هنا الإسلام، ولو كره ذلك الكافرون بالله سبحانه فلا بد له من إمضاء مراده في إعلاء كلمته. قال: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي: الله الذي أرسل محمداً A بالهدى، وهو بيان الحق ودين الحق، وهو دين الله D يعني به الإسلام. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي: ليظهر دينه وهو الإسلام على الأديان كلها ويعليه، وذلك فيما روي عند نزول عيسى / A تصير الملة واحدة، فَلاَ يكون دين غير دين الإسلام. روي عن أبي هريرة Bهـ أنه قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} هو خروج عيسى بن مريم A. وعن عائشة Bها أنها قالت: " قال رسول الله A لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى، قالت: فقلت يا رسول الله إن كنت لأَظن حين أنزل الله D

10

{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أن: ذلك سيكون تاماً، فقال أنه سيكون ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله D ريحاً طيبة فيتوفى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من خير، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم ". أي: ينجيكم قبولها والعمل بها من عذاب مؤلم، أي: موجع، ثم بين التجارة ما هي، فقال: {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أي: تدومون على الإيمان بالله ورسوله، وتجاهدون أعداء الله بأموالكم وأنفسكم. ويروى أن أصحاب النبي A قالوا: لوددنا أن نجد عملاً نعمله يدخلنا الله به الجنة، فنزلت الآية. ثم قال: {ذَلِكُمْ / خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: قبول ذلك وفعله خير لكم عاقبة إن كنتم تعلمون حسن العاقبة من سوئها. قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جزم " يغفر " لأنه جواب لتؤمنوا بالله لأنه بمعنى الإلزام كأنه قال: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم يغفر لكم ذنوبكم، أي: يسترها عليكم فلا يعاقبكم عليها.

13

وفي حرف عبد الله: {آمَنُواْ} على الأمر. وقال الفراء: / {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب الاستفهام في قوله: " هَلْ أَدُلُّكُمْ " وهو خطأ، لأنه ليس بالدلالة تجب المغفرة، إنما تجب بالقبول والعمل. وقد قال علي بن سليمان: " تؤمنون " عطف بيان على " تجارة ". وقيل: هو مبين عن تجارة، كعطف البيان في الأسماء التي تشبه البدل وهذا قول حسن، فيكون " يغفر " جوابا بالاستفهام (كأنه قال: " بدل تؤمنون "). وتجاهدون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار. {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: في بساتين إقامة أبداً. {ذَلِكَ الفوز العظيم} أي: ذلك الذي تقدم وصفه لمن آمن وجاهد هو النجاح العظيم خطره. قوله: {وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} إلى اخر السورة الايات

[13 - 14]، أي: وهل أدلكم على خلة أخرى تحبونها هي نصر من الله لكم على أعدائكم، وفتح لكم قريب، " فأحرى " في موضع خفض عطفاً على " تجارة " عند الأخفش. وقال الفراء: هي في موضع رفع، والتقدير: ولكم خلة أخرى، وهو اختيار الطبري لأجل رفع " نصر " و " فتح " على البدل من " أخرى "، فيكون المعنى على قول الفراء أنه وعدهم على إيمانهم وجهادهم بخلتين: واحدة في الآخرة وهي غفران الذنوب ودخول الجنات والمساكن الطيبات في جنات عدن، والأخرى في الدنيا، وهي النصر والفتح والغنيمة، فتقف على مذهب الأخفش على {تُحِبُّونَهَا} وتبتدئ {نَصْرٌ مِّن الله}، أي: هو نصر، ولا تقف على قول الفراء، لأن (نصراً بدلٌ) من " أخرى ". ثم قال: {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي: وبشر يا محمد المؤمنين بنصر من الله لهم وفتح عاجل.

14

ثم قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله} أي: لأنبيائه ولأوليائه ولدينه، ومن أضاف " أنصاراً " إلى الله احتج بقوله: " نَحْنُ أَنْصارُ اللهَِّ " وهو اختيار أبي عبيد. فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه. وفي حرف عبد الله: " أَنْتُمْ أَنْصارَ اللهَِّ " بالإضافة والإيجاب، وأيضاً فإنه جمع مكسر، وليس مثل ضاربين فيعمل ويُنَون، فكانت إضافته أولى، ومن لم يضف قال بينهما فرق، لأن الأول يراد به الاستقبال فهو مشابه لاسم الفاعل. وحقُّه إذا أريدَ به الاستقبال التنوين، والثاني أمر قد كان، فلذلك أجمع فيه على إضافته. وقوله: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله} الكاف من " كَمَا " في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، والتقدير كونوا كونا [كما]. وقيل: هي نعت للأنصار، أي: كونوا أنصاراً مثل أنصار عيسى. قال قتادة: كانت لله أنصار من هذه الأمة تجاهد على كتابه وحقه. ذكر لنا أنه " بايع النبي A ليلة العقبة اثنان وسبعين رجلاً من الأنصار، وذكر لنا أن بعضهم قال: هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل، إنكم تبايعونه على محاربة

العرب كلها ويسلمون، وذكر لنا أن بعضهم قال يا نبي الله اشترط لربك ولنفسك / ما شئت، فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما منعتم منه أنفسكم وأبناءكم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا نبي الله، قال لكم النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، ففعلوا، ففعل الله D بهم ذلك ". قال معمر: قال الحواريون يعني من أصحاب محمد، نحن أنصار الله، قال كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وجعفر وحمزة وعثمان بن مظعون رضوان الله عليهم. قال مجاهد: من أنصاري إلى الله: من يتبعني إلى الله.

قال ابن عباس: سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال الضحاك: الحواريون هم الغسالون بالنَّبَطية، فيكونون على هذا في قوله " قالَ الْحَوارِيُّونَ " يعني به حواري عيسى. قال الضحاك: هم غسالون مَرَّ بهم عيسى فآمنوا واتبعوه. وقيل: الحواريون: صفوة الأنبياء، ومنه قيل لما يختار من صفو الدقيق وخالصه: حَوَارَى. وقال القتبي: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي: مع الله، وهذا عند بعض العلماء لا يجوز كما لا يجوز " قمت إلى زيد " بمعنى " مع زيد " و " إِلى " على بابِها، ومعناه: من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي، فالمعنى: قال الحواريون نحن أنصار أنبياء الله على ما بعثهم به من الحق. ثم قال تعالى: {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} يعني: بعيسى. قال ابن عباس: لما أراد الله جل ذكره أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى

أصحابه وهم اثنا عشر في بيت، فخرج إليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال لهم: إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيُّكم يلقى عليه شبهي فيقتل في مكاني ويكون معي في درجتي، قال فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال أنا، فقال أجلس ثم أعاد عليهم /، [الثالثة]، فقال أنا قال نعم أنت ذلك، فألقى عليه شبه عيسى ورفع عيسى من زاوية في البيت إلى السماء، قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبهه، فقتلوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا ثلاثة فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية، وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفع إليه وهم النسطورية، وقالت فرقة كان عبد الله ورسوله ما شاء فينا ثم رفعه إليه وهم المسلمون، فتظاهرت الفرقتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعثه الله محمداً A، فآمنت طائفة من بني إسرائيل بمحمد A وكفرت طائفة به. وقيل: آمنت طائفة بعيسى A وكفرت أخرى به.

ثم قال: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} يعني: إظهار دين محمد على دين الكفرة. قال قتادة: فتفرقوا أربع فرق بعد عيسى، قالت طائفة هو الله وهم اليعقوبية. وقالت طائفة منهم هو ابنه (تعالى عن ذلك وجل) وهم الإسرائيلية. وقالت طائفة منهم: أمه الإله وهو الله وهم النسطورية، وقالت طائفة منهم: وهو عبد الله ورسوله، وهم المسلمون. ثم قال تعالى: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} أي: قويناهم بالحجة الظاهرة أن عيسى روح الله وكلمته. قال قتادة: الفرقة المسلمة للفرق: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل وأن الله لا يأكل. وقيل: المعنى: فقوينا الذين آمنوا من بني إسرائيل على عدوهم الذين كفروا

منهم بمحمد A بتصديق محمد عليه السلام إيّاهم أن عيسى / عبد الله ورسوله، وتكذيبه من قال خلاف ذلك. {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} أي: فأصبحت الطائفة المؤمنة مستعلية بالحجة والبرهان على الكفار. قال النخعي: أصبحت حجة من آمن بعيسى A ظاهرة بتصديق محمد A لهم بأن عيسى روح الله وكلمته. وقيل: فأصبح من آمن مع عيسى عالياً على من كفر به. يقال: ظهرت على الحائط بمعنى: علوت عليه.

الهداية إلى بلوغ النهاية لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ المجلد الثاني عشر الجمعة - الناس 1429 هـ - 2008 م

الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الجمعة مدنية / قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض}، آخر السورة. أي: يصلي ويسجد لله ما في السماوات السبع وما في الأض من الخلق طوعاً وكرهاً. و " يسبح " للحال. وقوله: {الملك القدوس}. أي: الذي له ملك كل شيء [الطاهر] من كل ما يضيفه إليه

المشركون. {العزيز الحكيم}. أي: الشديد في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خَلْقَه. - ثم قال تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً (مِّنْهُمْ)}. أي: الله الذي بعث في العرب -[الذين] لا كتاب عندهم من عند الله - رسولاً منهم، يعني [محمداً] A. قال ابن زيد: " سميت أمة محمد أميين لأنه لم ينزل عليهم كتاباً قبل القرآن ". وروى ابن عمر عن النبي A أنه قال: " نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ

نَحْسُبُ " وذكر الحديث. [و] إنما قيل، [للذي] لا يكتب: " أمي "، لأنه نسب إلى أمه، كأنه كما ولد. وقيل: نسب إليها في أكثر الأحوال لا تكتب. وقيل: إن [الأميين] إنما نسبوا إلى أم القرى، وهي مكة. - وقوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}.

أي: يقرأ عليهم كتاب الله وَيُطَهِّرُهم من دَنَس الكفر ويُمَنِّيهِم بالثواب إذا قبلوا منه واتبعوه. {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب}. أي: القرآن. {والحكمة}: التفقه في الدين. وقيل: الكتاب: القرآن وما فيه من حلال وحرام. والحِكْمَةُ: (السُّنَةُ. قاله) قتادة. - ثم قال تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. أي: وقد كان هؤلاء (الأميون) - من قبل محمد إليهم - في جور ظاهر عن قصد السبيل وعن الهدى والرشاد. وتقديره [في] [العـ]ـربية: وما

كانوا من قبل بعث محمد إلا في ضلالٍ (مبين)، (هذا مذهب سيبويه، وتقديره عند الكوفيين). وإنهم كانوا من قبل بعث محمد لفي ضلالٍ مبين. - ثم قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}. {وَآخَرِينَ}: عطف على الأميين، أي: بعث في الأميين وفي آخرين منهم، " فهم " في موضع خفض، وقيل: " هم " في موضع نصب عطف على الهاء والميم في " يُعَلِّمْهُمُ " أو في: " يُزَكَّيهِمْ "، أي: ويعلم آخرين (مِنهُم الكتاب والحكمة،

أي: ويزكي آخرين منهم، قال مجاهد: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}) عنى به العجم لأنهم أميون أيضاً، وكذلك قال ابن جبير. قال أبو هريرة: " لمَّا نَزَلَ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ A ( بِيَدِهِ) عَلَى [سَلْمَانَ] / وَقَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالثُّرَيَّا

لَنَالَهُ هَذَا وَأَصْحَابُهُ ". وعن مجاهد: " {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ}: هم كل من ردف الإسلام من الناس كلهم ". وقال ابن زيد: هؤلاء كل من كان بعد النبي عليه السلام إلى يوم القيامة (كل من دخل في الإسلام من العرب والحجم. وقال الضحاك: " كل من آمن وعمل صالحاً إلى يوم القيامة "). وقال ابن عمر في أهل اليمن: " أَنْتُمْ هُمْ.

ومعنى: {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}. أي: لم يَحْيَوْا بَعْدُ [وَسَيَحْيَوْنَ]. ثم قال: {وَهُوَ العزيز الحكيم}. أي: وهو العزيز في انتقامه من أعدائه، الحكيم في تدبيره خلقه. ثم قال: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل}. أي: هذا الذي تقدم من الخبر على إرسال محمد إلى الأميين وغيرهم هو فضل من الله تفضل به عليهم، لأنه يؤتي فضله من يشاء من عباده، ولا يستحق الذم ممن حرمه إياه لأنه لم يمنعه حقاً هو له، ولكنه (علم) من هو له أهل

فأودعه (إياه). وعن ابن عباس أن الفضل هنا: الدين. - ثم قال تعالى: {والله ذُو الفضل}. أي: والله ذو الفضل العظيم على جميع خلقه المحسن منهم والمسيء. - ثم قال تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}. أي: مثل الذين ألزموما العمل بما في التوراة فلم يقوموا به ولا وفوا بما ألزموما فيها من الإيمان بمحمد وغير ذلك من فروضها. يعني بني إسرائيل والنصارى. - {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً}. أي يحمل كتباً من العلم لا ينتفع بها ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة فيها بيان أمر محمد وبعثه والأمر بالإيمان به، فلم ينتفعوا بذلك ولا وفوا به، فصاروا في عدم الانتفاع بذلك مثل الحمار الذي يحمل أسفاراً. أي: كتباً بها العلم.

والحمل في هذا من الحمالة وليس من الحمل على الظهر ولا في الصدر، أي تحملوا العمل بما فيها فلم يفوا بذلك. ومثله: {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا. . . وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72]. في الأحزاب، ومثله: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] وهو كثير. فأما قوله: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ} فهو من الحمل على الظهر. قال الضحاك: " الكتاب بالنبطية يسمى سِفْراً ". - ثم قال: {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله}. (أي: بئس هذا المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) وحججه. {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}. لا يوفقهم (إلى) الهدى عقوبة لهم بكفرهم. - ثم قال تعالى: {قُلْ يا أيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ

الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت}. أي: قل - يا محمد - لليهود: إن كنتم تزعمون أنكم أولياء لله من دون المؤمنين فتمنوا الموت إن كنتم محقين في قولكم: إنكم أولياؤه، فإن الله لا يعذب أولياءه، بل يكرمهم [وينعمهم]، فيستريحون من تعب الدنيا وكربها إلى النعيم. - ثم قال: {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ (أَبَداً) بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ}. (أي): ولا يتمنى - محمد - اليهودُ الموتَ أبداً لمعرفتهم (بما) قدمت أيديهم من الآثام {والله عَلِيمٌ بالظالمين}. - ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ}. أي: قل لليهود - يا محمد -: إن الموت الذي تهربون منه وتكرهونه - لما قدمت أيديكم من الآثام - لا بد أن يحل بكم {ثُمَّ تُرَدُّونَ} - إذا متّمْ - {إلى عَالِمِ الغيب والشهادة}، أي: إلى الله الذي يعلم غيب السموات والأرض، ويعلم ما ظهر من ذلك، ويعلم ما أسررتم من أعمالكم وما أظهرتم فيجازيكم

عليها ويخبركم بالذي كنتم تعلمون. ودخلت الفاء في قوله: " فإنه " لتقدم " الذي " وإن كان نعتاً، لأن النعت هو المنعوت في المعنى. و " الذي " فيه إبهام، فشابه الشرط بالإبهام الذي فيه، فدخلت الفاء في خبر " إن " لكون اسمها فيه إبهام كما تدخل في جواب الشرط، لأن خبر " إن " كجواب الشرط، فلما شابهه من الإبهام الذي في " الذي " دخل فيه ما يدخل في جواب الشرط. وقد قيل: إن الخبر ل " إن " هنا هو جملة من ابتداء وخبر، والتقدير: قل إن الموت هو الذي تفرون منه. - ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله}. أي: إذا سمعتم النداء إلى الصلاة في يوم الجمعة) فامضوا إليها، وهو الآذن الذي يكون عند قعود الإمام على المنبر للخطبة.

وقد قرأ ابن مسعود وعمر بن الخطاب: " فَامْضُُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ ". والسعي: [العمل] لا السرعة في المشي، دليله (قوله): {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى} [عبس: 8] و: {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} [النازعات: 22] و: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض} [البقرة: 205] / {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي} [الصافات: 102] كل هذا ليس يراد به سرعة مشي ولا جَرْيٌ، إنما هو العمل. ويزيد في بيانه قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 4] أي: إن عملكم لمختلف.

قال الحسن وقتادة: فاسعوا بالنية والإرادة. قال قتادة: " السعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك وعملك، وهو المضي إليها "، وهو قول عكرمة. (وقال) ابن زيد: إذا سمعتم الداعي الأول فأجيبوا إلى ذلك. قال: ولم يكن في زمان رسول الله A أذان إلا الأذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصلاة. قال: وهذا الآخِر شيء أحدثه الناس بَعْدُ في

زمان عثمان رضي الله [عنه] فلم ينكره أحد من الصحابة، وذلك حين كثر الناس وتباعدت الدور من المسجد، فمضى عليه العمل. ولا يحل البيع بعد سماع النداء الذي يكون بين يدي الإمام عند الخطبة، وهو قوله: {وَذَرُواْ البيع}. أي: دعوا البيع والشراء إذا نودي للصلاة عند الخطبة (يوم الجمعة). والذكر هنا هو موعظة الإمامِ الناس في خطبته، قاله ابن المسيب وغيره. - ثم قال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي: سَعْيُكم إليها وتركُ البيع والشراء خير لكم في عُقْبَاكُمْ إن كنتم تعلمون مصالِحَ أنفسكم ومضارَّها، وقد قال الضحاك والحسن وعطاء: إذا زالت

الشمس يوم الجمعة حَرُمَ البيعُ والشراءُ حتى تُقْضَى الصلاة، وكان عمر بن عبد العزيز Bهـ يمنع الناسَ البيعَ يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة. وقال مالك: يفسخ البيع إذا وقع في هذا الوقت المنهي عنه، ولم ير الشافعي فسخه لأن الآية ليس فيها فسخة، فقيل له: أرأيت نكاحَ [المُحْرِمِ] ونكاحَ الشِّغَارِ يُفسخان إذا وقعا؟ [فقال: نعم]، قال: فكيف [تفسخهما] وليس في

الحديث ذكر الفسخ إذا وقعا؟! إما فيه النهي عن ذلك كما في الآية النهي عن البيع، فكما لا اختلاف في فسخ النكاح - وإن كان الحديث لم يتضمن ذكر الفسخ - كذلك هذا. وقد ذهب قوم إلى أن البيع جائز في ذلك الوقت، وتأولوا أن الآية على الترغيب لا على الإلزام، واستدلوا (على ذلك) بقوله بعد ذلك: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}. فلما قال {خَيْرٌ لَّكُمْ} دل على أنه على الترغيب. وهذا غلط، لو جاز هذا لكان قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] على الترغيب لا على الإلزام، وهذا كفر من قائله. فإن أعتق أو أنكح بعد الأذان يوم الجمعة لم يفسخ، لأنه ليس من البيع الذي نص الله [عليه]، [ولأنه] أمر نادر غير دائم كالبيع الذي هو دائم

منتظر، ولأن القوم إنما خرجوا من خلف النبي A إلى العير التي أتت من الشام ليَرَوْهَا ولِيَشتروا [مما] جاءت به، فعوتبوا على ذلك ونزل تحريم البيع الذي أخرجهم من خلف النبي عليه السلام. قال جابر: " أَقْبَلَتْ عِيرٌ بِتِجَارَةٍ يَوْمَ الجُمعةِ ورسولُ الله A يَخْطُبُ، فانصرفَ الناسُ يَنْظُرُونَ، وبَقِيَ رسولُ الله (يخطب) فِي (اثْنَيْ) عَشَرَ رَجُلاً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ ".

فالجمعة لازمة لكل حر محتلم، وغسلها سنّة على كل محتلم وقت الرواح إليها. ولا جمعة على المسافر ولا على النساء، فإن (حضرن) وصلين مع الناس ركعتين أجزتهن عن الظهر. وكان ابن مسعود يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول: أخرجن إلى بيوتكن (خيراً لكن. وجائز للمسافر السفر) يوم الجمعة ما لم يحضر الوقت عند

مالك، ومنعه جماعة من ذلك حتى يصلي الجمعة. والجمعة يجب أن يأتيها من كان على ثلاثة أميال فأقل من المسجد عند ملك. وعن الزهري: من كان على (مسافة ستة) أميال فأقل يجب عليه الإتيان. وقيل: لا يجب إلا على من سمع النداء، روي (عن) عبد الله بن عمر وسعيد بن

المسيب وبه قال أحمد بن حنبل، لأنه قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} فدل على أن ذلك على من سمعه أو كانَ في موضع يمكن أن يسمعه. وقال أصحاب الرأي: تجب الجمعة على أهل المصر، من سمع النداء ومن لم يسمع. وقال ابن المنكدر والزهري: تجب الجمعة على من كان على أربعة أميال.

وروي عن أبي هريرة: أن الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى غروب الشمس. وقال أبو العالية والحسن: (هي) (عند) زوال الشمس. وقالت عائشة Bها: هي عند إذان المؤذن لصلاة الجمعة.

وعن الحسن أيضاً أنها ما بين خروج الإمام إلى أن [تقضى] الصلاة. وقال أبو بردة: هي عند نزول الإمام. وقال أبو السوار: هي ما بين زوال الشمس إلى أن تدخل الصلاة. وعن أبي ذر: أنها بعد زيغ الشمس شبراً إلى ذراع من يوم الجمعة. وعن جماعة/ من العلماء: أنها آخر ساعة من يوم الجمعة.

- ثم قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة}. أي: إن شئتم، (وهذه) رخصة بعد [خطر]. وقد روى أنس أن النبي عليه السلام قال: " {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} لَيْسَ بِطَلَبِ دُنْيَا وَلَكِنْ عَبَادَةُ مَرِيضٍ وَحَضُورُ جَنَازَةٍ وَزِيَارَةُ أَخٍ في الله ". وقوله: {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. اي: اذكروه بالحمد والشكر على ما وفقكم له لعلكم تنجون وتبقون في

النعيم الدائم. ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا}. التقدير عند المبرد: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهواً انفضوا إليه (ثم حذف وأخر ضمير الأول. والمعنى: إذا رأوا ذلك أسرعوا إليه) وتركوك قائماً تخطب. يوبخ المؤمنين بذلك من فعلهم (إذ) خرجوا عن رسول الله - وهو يخطب - لرؤية العير التي أتت من (الشام) وكانت تحمل زيتاً (أتى) به دحي بن (خليفة)

من الشام. قال الحسن: أصاب الناس جوع و (غلاء) سعر، فقدمت عير والنبي A يخطب فخرجوا إليها. واللهو (هنا): ما يصنع عند النكاح من الدف. وقيل: وهو الطبل. ثم قال تعالى: {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة}. أي: ما عنده من الثواب والأجر خير من ذلك لمن جلس واستمع الخطبة. {والله خَيْرُ الرازقين}. أي: خير رازق، فارغبوا إليه في توسعة الرزق.

المنافقون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المنافقون مدنية قوله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله}. إلى آخر السورة. أي: إذا جاءك - يا محمد - المنافقون فأقروا أنك رسول الله، فالله يعلم أنك لرسوله، ولكن الله يشهد أن المنافقين لكاذبون في ما أظهروا إليك من الإقرار، لأن باطنهم على خلاف ما أظهروا. وأعيد ذكر الله ثانية ولم يضمر للتفخيم

والعظيم. ثم قال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ (جُنَّةً)}. أي: جعلوا ما أظهروا من الإيمان جُنَّةً يمتنعون به من القتل والسبي، هي الإيمان المذكورة في سورة براءة، وهو حلفهم بالله [ما قالوا، وحلفهم]: {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56]. قال الضحاك: هي حلفهم بالله إنهم لمنكم. ومعنى {جُنَّةً} سُتْرة يستترون بها كما يستتر [المستجن] بِجُنَّتِه في الحرب، فامتنعوا بأيمانهم من القتل والسَّبْيِ. - ثم قال تعالى: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله}.

أي: فمنعوا أنفسهم ومن اتبعهم من الناس عن الإيمان. - {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. أي: بئس عملهم. - ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ}. أي: ذلك الحلف والنفاق من أجل أنهم آمننوا بألسنتهم ثم كفروا بقلوبهم، فختم الله على قلوبهم، {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} صواباً من خطأ، ولا حقاً من باطل لغلبة الهوى عليهم. وأعلمنا الله جل ذكره في هذه الآية (أن) النفاق كُفْرٌ، بقوله: {ثُمَّ كَفَرُوا}. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}. العامل في " (إذا) " من قوله [{إِذَا جَآءَكَ}] و {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} وشِبْهِه: الفعلُ الذي بعدهما. وفيهما معنى المجازاة، للإبهام الذي فيهما، وإذا كان فيهما معنى المجازاة لم يضافا إلى ما بعدهما. وإذا لم يضافا فأحسنُ أن يعمل ما بعدهما فيهما، إلا أنه لا

يُختار أن يُجْزَما للتوقيت الذي فيهما. ففارقا به معنى حروف الشرط من وجه، فقبح العمل في اللفظ، وحسن العمل في المعنى دون اللفظ للإبهام الذي فيهما، فإن قدرتهما مضافين إلى ما بعدهما، لم يعمل فيهما ولا عملاً فيه في لفظ ولا معنى. والمعنى: وإذا رأيت - يا محمد - هؤلاء المنافقين تعجبك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورتها {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} كما تسمع كلام غيرهم من أهل الإيمان فتظنه حقاً. - {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ}. أي لاخير عندهم ولا علم، إنما هم صور وأشباح [بلا فهم] ولا علم ولا عقل. ثم قال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}.

(أي) يظنون - من جبنهم وسوء ظنهم - كل مصيحة يسمعونها أنها عليهم. وقيل: المعنى: يحسبون كل صائح يصيح أنه يقصدهم، لأنهم (على) وجل من إظهار الله (ما أخفوا) من من النفاق فيهتك سترهم ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي [ذراريهم] وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم كلما نزل وحي على النبي ظنوا أنه في أمرهم وفي هلاكهم وعطبهم. - ثم قال تعالى: {هُمُ العدو فاحذرهم}.

أي: هم الأعداء لك - يا محمد - (وللمؤمنين)، فاحذرهم. - ثم قال تعالى: {[قَاتَلَهُمُ] الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. أي: عاقبهم الله فأهلكهم فصاروةا بمنزلة من قتل، من أين يص (رفو) ن/ عن الحق بعد ظهور البراهين والحجج. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ}. أي: وإذا قال المؤمنون لهؤلاء المنافقين: تعالوا: إلى رسول الله [يستغفر لكم الله]، تولوا وأعرضوا وحركوا رؤوسهم وهزوها استهزاءً برسول الله وباسغفاره {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}. ومن شدد {لَوَّوْاْ} فمعناه أنهم [كرروا] هز رؤوسهم وتحريكها. وهذه

الآيات - فيما رُوي - نزلت في عبد الله بن أُبيّ بن سلول المنافق. وذلك أنه قال لأصحابه: لا تنفقوا علىمن عند رسول الله حتى ينفضوا (وقال): لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسمع ذلك زيد بن أرقم فأخبر به النبي A ( فدعاه النبي فسأله) عن ذلك فحلف ما قاله. فقيل له: لو أت (يت) النبي A فسألته أن يستغفر لك. فجعل يلوي رأسه ويحركه استهزاءً. يعني بذلك أنه غير فاعل ما قالوا له. ففيه نزلت هذه السورة.

- ثم قال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ}. [أي] مُسْتَوٍ الاستغفار منك - يا محمد - لهم وتركه، لأن الله لا يغفر لهم؛ لأنهم على كفرهم مقيمون، وإنما المغفرة للمؤمنين. (وكن النبي) A قد استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام. - ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين}. أي: لا يوفق القوم الذين خرجوا عن طاعته. " قال ابن عباس: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية: نزلت بعد الآية (التي) في " براءة "، قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، فقال النبي A: " سوف أستغفر لهم زيارة على سبعين، فأنزل الله هنا {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية " فلم يبق للاستغفار لهم وجه.

ثم قال تعالى: {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ}. هذا قول [عبد] الله بن أُبَيْ لأصحابه المنافقين، [قال (لأصحابه]: لا تنفقوا على المهاجرين حتى {يَنفَضُّواْ}: يتفرقوا عن محمد. - ثم قال تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض}. (أي): جميع ما فيهما، وبيده مفاتيح خزائن كل شيء، لا يعطي أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه، ولا يمنع أحد أحداً شيئاً إلا بإذنه. ثم قال: {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ}. (أي: لا يفقهون) أن كل شيء بيد الله تحت قدرته. فلذلك يقولون هذا. - ثم قال: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل}. أي: يقول هؤلاء المنافقون: لئن رجعنا إلى مدينتنا ليخرجن منها العزيز [الذليل].

وحكى الفراء: " لَيَخْرُجَنَّ [الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] " [بنصب] " الأذل " على الحال وفتح الياء وضم [الراء من " ليخرجن "]، وهو بعيد. وقد أجاز يونس: مررت به [المسكين] بالنصب على الحال.

(وحكى سيبويه: دخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ، بالنصب على الحال)، وهذه أشياء شاذة لا يقاس عليها القرآن. - ثم قال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. أي: ولله العزة والشدة ولرسوله والمؤمنين. {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ}. (أي): لا يعلمون ذلك. روي أن عبد الله بن عبد الله بن أُبيِّ كان من المؤمنين حقاً، وأنه لما [أُتِيَ] بأبيه إلى النبي A، فوبخه على ما بلغه، فأنكر ذلك عبد الله وحلف، قال له

ولده (عبد الله): [والله، لا تمر] حتى تقول: إنك الأذل، وإن رسول الله الأعز. فلم يمر حتى قالها. " وروي أنه أتى النبي A فقال: يا رسول لله، بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ الهِ أَبي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فُمُرْنِي، فَأَنَا أَحْمِلُ لَكَ رَأْسَهُ. فَوَاللهِ، لَقَدْ عَلِمَتِ الخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بِكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللهِ: نَرْفُقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا. [ثُمَّ

كَانَ] بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَحْدَثَ حَدَثاً عاقَبَهُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ. وَكَانَ عُمَرُ قَدْ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ (فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ) - لمَّا تَوَلَّى قَوْمُهُ عُقُوبَتَهُ - كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ؟! أَمَا وَاللهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ [لأَرْعَدَتْ لَهُ] آنُفٌ لَوْ أَمَرْتُها اليَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ، قَدْ عَلِمْتَ لأَمْرُ رَسُولِ اللهِ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي . " ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله}. قال عطاء والضحاك: {عَن ذِكْرِ الله}: عن الصلوات الخمس. أي: لا يشغلكم اللهو [بها] والمحبة لها، والاشتغال عن الصلوات المفروضات.

وقيل: هو عام، ووقع النهي وفي الظاهر على الأموال والأولاد. وهو في المعنى واقع على المخاطبين، دلّ على ذلك قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} وهو كثير في القرآن. - ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون}. أي/ ومن يغشله (ماله وولده عما فرض الله عليه من الصلوات وعن ذكر الله فأولئك هم ([المغبونون] حظوظهم من كرامة) الله ورحمته. - ثم قال: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين}. أي: وتصدقوا أيها المؤمنون (مما رزقناكم)، وأنفقوا في سبيل الله [مما] خَوّلَكم الله من أموالكم من قبل أن تموتوا، فيقول أحدكم: يا رب، هلا أخرتني

ورددتني إلى الدنيا وقتاً قريباً فأتصدق وأكن من الصالحين. فيسأل الرجعة حين لا رجعة. (وقيل: المعنى: هلا مددت لي في العمر فأتصدق وأكن من الصالحين)، قيل: [معنى] {وَأَكُن مِّنَ الصالحين} أحج بيتك الحرام. قال ابن عباس: ما من أحد يموت ولم يؤد الزكاة ولم يحج إلا سأل الكرة، ثم قرأ هذه الآية: قال: فقوله: [{فَأَصَّدَّقَ}] أي: أؤدي الزكاة، وقوله: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين}: أحج. قال الضحاك: هو المؤمن ينزل به الموت وله مال كثير لم يزكه ولم يحج منه ولم

يعط منه حق الله، يسأل الرجعة عند الموت (ليزكي) ماله. - قال تعالى: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ}. أي: لا يؤخر الله في أجل أحد فيمد له [فيه] إذا حضر أجله. وعن ابن عباس: {وَأَكُن مِّنَ الصالحين}: أؤدي الفرائض، [وأجتنب] الحرام. والتقدير في العربية: " وأكون صالحا من الصالحين ".

- ثم قال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. أي: ذو خبر وعلم بأعمال خلقه، محيط بها فمجازيهم عليها.

التغابن

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التغابن مدنية على قول قتادة، ومكية على قول ابن عباس إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده، فأنزل الله جلّ ذكره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ) [14] إلى آخرها.

-[قوله تعالى]: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض. . .} إلى آخر السورة. معناه: يصلي لله ويسجد جميع من في السماوات السبع والأرض من الخلق طوعا وكرها " ويسبح ": للحال. - وقيل: معناه [ينزه الله] ويُبَرِّئُهُ من السوء كل من السموات والأرض. - ثم قال تعالى: {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد. . .}. أي: له ملك السموات والأرض وسلطان ذلك، وله حمد [ما] فيهما من الخلق. - {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: ذوقوا على كل شيء، يفعل ما يريد، لا يُعْجِزُهُ شيء أراده. - ثم قال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ. . .}. [أي: خلقكم على علمه فيكم من قبل أن يخلقكم، فمنكم من كفر، ومنكم من آمن على ما سبق من علمه بكم]، أي: الله الذي خلقكم - أيها الناس - فمنكم من

يكفر بخالقه ويجحده، ومنكم من يُؤْمِنُ بخالقه ويُقِرُّبِهِ. - {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. أي: والله الذي خلقكم بصير بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، فيجازيكم بها، فاتقوه فيما أمركم به وما نهاكم عنه. وعن أبي ذر أنه قال: إن المنى إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتى مَلَكُ النفوس فعرج به إلى الجبار في راحته فقال: يا رب عبدك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله جل ثناؤه ما هو قاض. ثم يقول: أي رب، شقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو [لاَقٍ]. - ثم قال تعالى: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق (وَصَوَّرَكُمْ) فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. . . ُ}. أي: خلق السموات والأرض بالعدل [والإنصاف] ومثّلكم فأحسن تمثيلكم. وروي أنه [عنى] به تصوير آدم وخلقه إياه.

(وقال ابن عباس: يعني آدَمَ، خلقه بيده. - ثم قال: {وَإِلَيْهِ المصير}. أي: المرجع يوم القيامة). - ثم قال: {(يَعْلَمُ) مَا فِي السماوات والأرض. . .}. أي: يعلم كل ما في السماوات السبع والأرض من شيء لا تخفى عليه من ذلك خافية، ويعلم ما يُسِرُّ الخلق من قول وعمل وما يعلنون من ذلك. - ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}. أي: ذو علم بضمائر صدور العباد وما تنطوي عليه نفوسهم وهذا: (كله) تحذير من الله جل ذكره (لعباده أن يسروا غير الذي يعلنون). - ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ (الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ)}.

(هو خطاب لقريش أي: ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبلكم كقوم (نوح) وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط كفروا {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ})، أي: فمسهم عقاب الله إياهم على كفرهم فتخافوا أنتم أن يحل بكم على كفركم مثل ما حلّ بهم. - ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. أي: ولهم بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب عذاب آخر موجع في الآخرة، وهو/ عذاب في لن ار. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ. . .}. أي: ذلك (الذي) [نالهم] على كفرهم والذي أعد لهم ربهم من العذاب من أجل أنه {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات}: الآيات الواضحات على حقيقة ما تدعوهم

إليه. فيقولون: {[أَبَشَرٌ] يَهْدُونَنَا} استكباراً منهم أن يكون رسل الله (إليهم) بشر مثلهم. وَأَتَى " يَهْدُونَنَا " بلفظ الجمع وقَبْلَهُ " بَشَرٌ "، " مُوَحَّد "، لأنه حُمِلَ على المعنى، لأنه عند بعضهم اسْمٌ للجمع. وحكى [المازني] أن النحويين أجازوا أن يقال: [جاءني] ثلاثة نفر وثلاثة رهط، لأن نفراً ورهطاً لأقل العدد، [وما دون العشرة يضاف لأَقَلِ العدد، فلما وقع موقعه وهو مثْلُه لأقل العدد] جاز، و " بشر " للعدد الكثير، و " قوم " للقليل والكثير، فلما خالف ما يضاف إليه ما دون العشرة (لم يضعف إليه كما لا [يضاف] ما دون العشر) إلى أكثر العدد.

وقال المبرد: إنما لم يضف ما دون العشرة إلى " بشر "، لأنه يقع للواحد والجمع، وما دون العشرة لا يضاف إلى الواحد. هذا معنى قولهما. واستدل على أن " بشرا " يقع للواحد [بقول] الله {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] ثم قال: {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ. . . . . .}. (أي): فجحدوا رسالات ربهم، وأدبروا عن الإيمان برسلهم {واستغنى الله. . .} عن إيمانهم إذ [لا يزيد] في ملكه إيمانهم، ولا ينقص منه كفرهم. {والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. أي: {غَنِيٌّ} عن جميع خلقه، محمود عند جميعهم، إذ ما يهم من نعمة فمنه وبفضله. ثم قال: {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ. . .}.

أي: زعم الكفار من قريش أنهم لا يبعثون من قبورهم بعد مماتهم. وقد كره مجاهد وغيره أن يقول الرجل: زعم فلان. " وزعم " عند النحويين على ضربين: تكمون بمعنى قال، وبمعنى تَخَرَّصَ وَتَقَوَّلَ. ثم قال تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ. . .}. أي: قل لهم يا محمد مجاوباً [لنفيهم] البعث: بلى وربي، لتبعثن من قبوركم يوم القيامة، ثم لَتُخْبَرُنَّ بما عملتم في الدنيا، ثم [تجازون] على أعمالكم. {وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ}.

أي: سهل هين. ثم قال تعالى: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا. . .}. أي: فصدقوا بالله أيها المشركون (به)، وصدقوا برسوله وبالقرآن الذي أنتزل عليه ربما فيه من إخبار الله إياكم بالبعث والجزاء والجنة والنار وغير ذلك. ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. أي: ذو خبر وعلم بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها. {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن. . .}. [العامل] في: " يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ": [" خَبِيرٌ "] والمعنى: والله ذو خبر بأعمالكم يجازيكم عليها في يوم يجمعكم ليوم جمع الخلائق كلهم، ذلك يوم يَغْبَنُ فيه أهلُ الجنة أهلَ النار. قال مجاهد: (يَوْمَ القيامة يَوْمٌ يَغْبَنُ فيه أهلُ الجنة أهلَ النار).

قال ابن عباس: (غَبَنَ أهلُ الجنة أهلَ النار). وقيل: العامل في " يوم ". . . لتنبؤن. ثم قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار. . .}. أي: ومن يصدّق بالله وبما أنزل ويعمل في دنياه عملاً صالحاً نكفر عنه ما مضى من سيئاته ونمحها عنه ونسترها عليه وندخله في الآخرة بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها أبداً لا يموتون ولا يخرجون منها. - {ذَلِكَ الفوز العظيم}. أي: ذلك [النجاء] العظيم.

ثم قال تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنآ (أولئك أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير)}. أي: والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا بأدلته تعالى وجحدوا كتابه، أولئك أصحاب النار هم فيها ماكثون أبداً لا يموتون ولا يخرجون منها. {وَبِئْسَ المصير}. أي: وبئس الشيء الذي يصار إليه نارُ جهنم. ثم قال تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله (وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ}. أي: لم تصب أحداً من الخلق مصيبة إلا بقضاء الله وتقديره ذلك عليه. وقال الفراء: معناه: إلا بأمر الله).

قال علمقة: هو الرحل تصبيه [المصيبة] فيعلم أنها من قبل الله فيسلم لها ويرضى عن الله، فذلك قوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ}، أي: ومن يصدق بالله وبتوحيده يَهْدِ قلبه إلى الإيمان ويُوَفِّقُهُ إلى الطريق المستقيم، فيعلم أنه لا تصيبه إلا بإذن الله فيسلم لأمر (الله) ويرضى بقضائه. قال ابن عباس: يهدي قلبه لليقين فيعلم أن كُلاًّ من عند الله، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

وقيل: يهدي قلبه إلى التسليم لأمر الله إذا أصيب وإلى الشكر إذا أنعم عليه وإلى الغفران إذا ظلم/. - ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين}. أي: أطيعوا الله في أمره ونهيه والإيمان به وبرسوله وأطيعوا رسوله، فإن أعرضتم عن الإيمان بذلك فليس على محمد إلا أن يبلغكم ما أرسل [به] إليكم بلاغا ظاهراً، والمحاسبةُ والمجازاةُ على الله. - ثم قال تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}. أي: الله معبودكم، لا معبود تصلح العبادة إلا له، وعلى الله فليتوك المصدقون بوحدانيته. - ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ. .} الآية. روي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا الإسلام والهجرة، وأسلموا في

بلدانهم وأرادوا الهجرة فثبطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم وأبوا أن يَدَعُوهُمْ يخرجون، ثم هاجروا بعد ذلك بأهليهم وأولادهم. فلما قدموا المدينة، وجدوا الناس قد فقهوا وتعلموا القرآن، فَهَمُّوا [عقوبة] أزواجهم وأولادهم، فأنزل الله هذه الآية. ولذلك قال: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فاعلموا أن من الأزواج والأولاد من هو عدو، ولا عَدُوَّ أَعْظَمُ ممن مَنَعَ من الهجرة. هذا معنى قول ابن عباس. فكان الرجل يضرب أهله إذا ثبطوه عن الهجرة، وَيُقْسِمُ ليفعلن بهم وليعاقبنهم على ذلك، فقال الله: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال عطاء: نزلت [هذه الثلاث آيات] (في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو [بكوا] إليه ووقفوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فَيَرِقُّ ويقيم فنزلت هذه الآيات (فيه)).

قال قتادة: من الأزواج والأولاد من لا يأمر بطاعة الله، ولا ينهي عن معصيته. وكبرت تلك عداوة للمرء أن يكون صاحبه (لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر). وأكثر المفسرين على أنهن نزلن في من كان [يسلم] ويمنعه أهله وولده من الهجرة. وهو قول الضحاك (وابن زيد). ثم قال: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ [وَأَوْلاَدُكُمْ] فِتْنَةٌ. . .}. أي: بلاء عليكم في الدنيا.

" وروي أن النبي A رأى الحسن والحسين عليهما قيمصان أحمران يعثران ويقومان، وهو يخطب، فنزل رسول الله A، أخذهما فرفعهما ووضعهما في حجره ثم قال: صدق الله {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في ختطبته ". ثم قال: {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. أي: ثواب عظيم إذا أنتم خالفتم الأزواج والأولاد في طاعة الله. قال قتادة: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}: الجنة.

ثم قال: {فاتقوا الله مَا استطعتم. . .}. هذا نزل بعد قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] تخفيفاً عن الخلق، فقيل: إن هذا ناسخ لذلك، وقيل: " هو تخفيف، ولا بد من التقى. ومعنى {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى. وكانوا يبايعون النبي A على السمع والطاعة، فيقول: فيما استطعتم. قال ابن مسعود {حَقَّ تُقَاتِهِ} أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. - ثم قال: {واسمعوا وَأَطِيعُواْ. . .}.

أي: اسمعوا لرسلو الله وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. - {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ. . .}. أي: أنفقوا مالاً لأنفسكم، بالخير هنا مفعول لِ " أَنفقوا "، والخير: المال، كما قال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] يعني: المال. وقيل: " خَيْرَاً " هنا بمعنى: أفعل، أي: وأنفقوا في سبيل الله يكن خيراً لكم. - ثم قال: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون}. أي: ومن يقه الله شح نفسه. وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه.

قال ابن عباس: " شُحَّ نَفْسِهِ ": " هوى نفسه. . . ". قال ابن مسعود: " هو أن يَعْمَدَ إلى مال غيره فيأكله ". وقال سفيان بن عيينة: هو الظلم، وليس هو البخل. {فأولئك هُمُ المفلحون}. أي: هم الباقون في النعيم المقيم. قال الحسن: نظرك إلى المرأة لا تملكها من الشح. وقال ابن عباس: ليس الشح أن يمنع الإنسان ماله، إنما الشح أن [تطمح]

عين الرجل إلى ماليس له. قال ابن مسعود: إنما الشح الذي ذكر الله تعالى أن يأكل الرجل مال أخيه، وحَبْسُ المال [عن] الصدقة هو البخل. وقال طاوس: إنما الشح أن تشحّ على ما في [أيدي] الناس. [قل علي: من أدى زكاته فقد وُقِي شح نفسه]. - ثم قال تعالى: {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)}. أي: إن تنفقوا في سبيل الله في الدنيا احتساباً للأجر والثواب يُضَاعِف أَجْرَ ذلك لَكُمْ رَبُّكُمْ من واحد إلى سبعمائة ضعف إلى أكثر ويستر عليكم ذنوبكم مع

تضعيفه/ لنفاتكم. {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ}. أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله، حليم عن أهل معاصيه، يترك معالجتهم بعقوبته. - ثم قال تعالى: {عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم}. أي: هو عالم ما غاب عن الأبصار وما ظهر في السماوات والأرضين، وهو الشديد في انتقامه ممن كفر به، الحكيم في تدبيره خلقه.

الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الطلاق مدنية ويقال لها: سورة النساء الصغرى. - قوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. . .} إلى قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً. . .}. هذا خطاب للنبي A ويراد به أمته [ودل] على ذلك قوله - بعد ذلك: {إِذَا طَلَّقْتُمُ}. وقيل: إن هذا من الانتقال من المخاطبة، كما قال:

{حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22] ثم قال: {وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22]. وقيل: إنه كله مخاطبة للنبي، لكن خوطب بلفظ الجمع على التعظيم والإجلال، كما يقال للرجل الجليل: أنتم فعلتم. والمعنى: إذا طلقتم نساءكم المدخول بهن، أي: إذا أردتم طلاقهن {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: لظهورهن [الذي يحصينه من عدتهن ويعتددن به طاهرات من غير جماع كان منكم في ذلك الطهر، ولا تطلقوهن لحيضهن] الذي لا يعتددن من أقرائهن. (" فاللام " بمعنى) " في ": أي: [فطلقوهن] في عدتهن.

أي: في الطهر (الذي) [يعتددن] به، وهو الطهر [الذي] لم تقرب فيه. [وهذا هو مذهب] مالك وغيره. وكون اللاَّمِ بمعنى " في ": [مستعمل]، قال الله جل ذكره عن قول الكافر في الآخرة: {ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]، أي: في حياتي، أي: يا ليتني قدمت عملاً (صالحاً) في حياتي في الدنيا. فطلاق السنة الذي ثبت عن النبي A هو أن يطلق الرجل امرأته وهي طاهر من غير جماع كان منه في ذلك الطهر. دل على ذلك قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: في عدتهن، أي: في الطهر الذي يعتددن به ويجعلنه قُرْءاً إذا مضى. وسأل رجل ابن عباس فقال: إنه طلق امرأته مائة، فقال له ابن عباس: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ولم تتق الله فيجعل لك مخرجاً، وقرأ:

{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الجمعة: 2]، وقرأ: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن من قبل عدتهن) هكذا روي أنه قرأ على التفسير. " وَرَوَى مالك أن ابن عمر " طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمرُ عن ذلك رسول الله A فقال له: مُرْهُ يُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهَرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهَرَ (ثُمَّ) إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدٌ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ الله أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " فهذا طلاق السنة، يطلقها في طهر لم يسمها فيه طلقة، ويدعها [تمضي] في عدتها، فإن بدا له أن يرتجعها (أرتجعها) شاءت أم أبت قبل أن تمضي

عدتها، فإن لم يرتجعها حتى مضت عدتها حلَّت للأَزواج غيرِه وملكت نفسها، وصار خطاباً من الخطاب. وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وعطاء وطاوس وابن المسيب وعمرو بن دينار وقتادة وربيعة ومالك وأهل المدينة، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو

ثور وأصحاب الرأي، ومُضِيُّ عدتها عند مالك وأصحابه: أن ترى الدم من الحيضة الثالثة، لأن الأقراء عند الأطهار، وعند غيره: الحِيَضُ. وأصل [القرء] في اللغة: الوقت. فهو يصلح للطهر والحيض وقد مضى الكلام على الأقراء في سورة البقرة [بأشبع] من هذا.

وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلق في كل طهر طلقة. قال مجاهد والحسن وابن سيرين: {لِعِدَّتِهِنَّ}: (أي): لطهرهن، أي: إذا طهرت من حيض ولم تجامع - وهو [قول] السدي - ومن طلق ثلاثاً لزمه، وبئس ما صنع لمخالفته السنة. (روي) أن علياً - رضي لله عنه - كان يعاقب من طلق البتة، وكان يقول: ما طلق

طلاق السنة فندم. وروى أنس أن [عمر] كان يؤدب من طلاق ثلاثاً وينهى عنه. وروي أن هذا الحكم نزل في سبب طلاق النبي حفصة بنت عمر، طلقها تطليقة، فقيل له: راجعها، فإنها صوامة قوامة، وإنها من نسائك في الجنة. - وقوله: {وَأَحْصُواْ العدة. . .}. أي: احفظوها لتعلموا متى تحل للأزواج وتملك نفسها، ومتى بقى لكم عليها حكم بالمراجعة. - ثم قال: {واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ. . .}. أي: خافوه أن تتعدوا حدوده ولا تُخرجوا من طلقتم من نسائكم لعدتهن من

بيوتهن اللاتي كنتم أسكنتموهن فيما قبل الطلاق حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس: هي المطلقة في الطهر طَلْقَةً لا تَخْرُج من بيتها ما دامم لزوجها عليها الرجعة/ وعليه النفقة، وذلك ما كانت (في) العدة. وقال قتادة: لا يخرجها إذا طلقتها واحدة أو اثنتين حتى تتم العدة، فإن طلقها ثلاثاً لم يكن لها سكنى. هذا معنى قوله. والسكنى واجب عند مالك لكل مطلقة دخل بها طلقة ثلاثا أو واحدة. وقال الضحاك: إن خرجت هي فلا سكنى لها ولا نفقة. - ثم قال: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ. . .}. قال قتادة: هي الزنا، إذا زنت في عدتها أخرجها لإقامة الحد عليها. وهو قول

الحسن ومجاهد وابن زيد. قال ابن عباس: الفاحشة هنا: [البَذَاءُ] على أهله. وقال قتادة: [الفاحشة] هنا: النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز، فلها أن تتحول من بيت زوجها. وقال السدي: الفاحشة هنا: خروجها من بيتها في العدة. وقال ابن عمر: " خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة ".

وعن ابن عباس أنه قال: الفاحشة هنا: كل معصية مثل الزنا والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار الطبري. وللرجل أن يطلق الحامل متى شاء عند مالك تطليقة واحدة. [وكذلك يطلق الآيسة من المحيض واللائي لم يحضن متى شاء تطليقة واحدة، ولا يتبعها] طلاقاً حتى تحل.

- ثم قال: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله] فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}. (أي): وتلك الأمور التي بينت لكم (في الطلاق) حدود الله [لكم] وفرائضه عليكم، ومن يتعد حدود الله فيطلق في غير طهر ويخرج من طلق من بيتها قبل انقضاء العدة ويتجاوز [ما أمره الله به] فقد ظلم نفسه بما ألزمها من الذنوب والعقوبات في آخرته. - ثم قال: {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ (أَمْراً)}. أي: لعلكم تندمون بدلا طلاقكم فتراجعون، فإذا تجاوزتم حدود الله في الطلاق فطلقتم ثلاثاً ثم ندمتم لم تكن لكم رجعة أبداً، إنما تكونون خطاباً لها بعد زوج. وهذا قول جميع المفسرين.

2

قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إلى قوله: {مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. أي: فإذا بلغ المطلقات اللواتي في العدة آخر عدتهن، فأمسكوهن برجعة ترجعونهن إن أردتم ذلك. ومعنى: {بِمَعْرُوفٍ} أي: راجعوهن بمعروف، وذلك إعطاؤها الحقوق التي أوجب الله لها عليهم من النفقة والكسوة والسكنى وحسن الصحبة. - {أَوْ فَارِقُوهُنَّ. . .}. أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهم. ومعنى {بِمَعْرُوفٍ. . .}. (أي) ": [بإيفائها ما لها] من بقية الصداق والمتعة. قال الضحاك:

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: إذا انقضت عدتها قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة، أو ثلاثة أشهر، إن لم يكن يحضن، فراجع إن شئت قبل أن تقضي العدة ([وأمسكها] بمعروف، أي: بحسن الصحبة والقيام عليها {أَوْ فَارِقُوهُنَّ} أي: دعوهن حتى تنقضي العدة) بالطهر الثالث أو تمام الثلاثة أشهر {بِمَعْرُوفٍ} (أن) يعطيها مهرها إن كان لها. - ثم قال تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ. . .}. أي: أشهدوا - إذا رجعتموهن - ذوي عدل. وهما من يُرضى دينه وأمانته. قال ابن عباس: يشهد عدلين عند الطلاق وعند المراجعة، وقاله السدي.

والإشهاد عند [أكثر] الفقهاء على الندب، وكذلك أكثر ما جاء في القرآن من الأمر بالأشهاد. قال ابن المسيب: {[ذَوَىْ] عَدْلٍ}: [ذوي] عقل وفهمه. - ثم قال: {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ. . .}. أي: اشهدوا بالحق. وإذا جامع أو [قَيَّل] يريد به الرجعة فهو رجعة عند مالك. وكذلك إن [تكلم] بالرجعة ونِيَّتُه الرجعة فهي رجعة. - ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر. . .}.

أي: هذا (الذي) عرفتكم به من أمر الطلاق عظة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر فيتبعه ويعمل به. - ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}. أي: ومن يخف الله فيعمل ما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً، وذلك أنه [يُعَرِّفُهُ] أن ما قضاه عليه فلا بد أن يكون. وقيل: المعنى: ومن يتق الله فيما أمره به (من هذا الطلاق، يجعل له مخرجاً إن ابتغت نفسه رد المطلقة بعد انقضاء العدة فيحل له أن يخاطبها ويتزوجها. ومن لم يتق الله فيما أمره) ويطلق ثلاثاً، لا يجعل له مخرجاً إن ابتغتها نفسه، فلا يحل له أن يخطبها، ولا يتزوجها إلا بعد زوج، هاذ قول علي بن أبي طالب - Bهـ -

والشعبي. وقيل: هو على العموم، (أي: و) من يتق الله في أمره ونهيه يجعل له مخرجاً في كل أموره فيرزقه من حيث لا يحتسب، / (أي): [ويسبب] له أسباب الرزق من حيث لا يشعر ولا يعلم. وعن ابن عباس: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}: ينجيه (من كل كرب) في الدنيا والآخرة. قال الربيع: {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} من كل أمر ضاق على الناس.

وروي أن هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان له ابن قد أسره المشركون، فكان يشكو إلى النبي A مكان ابنه وحاله وحاجته، فكان النبي يأمره بالصبر [ويقول له: إن الله سيجعل له مخرجاً]. فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى [انفلت] بانه من [أيدي] المشركيني، [فمر بغنم] من أغنام العدو، [فاسْتاقها] [وجاء بها] إليه، فنزلت: {وَمَن يَتَّقِ الله} الآية. قال ابن مسعود: [المخرج] أن يعلم أن الله هو الذي يعطيه ويمنعه. - ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ. . .}.

أي: فهو كافيه. قال مسروق: [القضاء] جار على من توكل وعلى من لم يتوكل. قال بعض الصالحين: المتوكل تعجل البركة والأجر. - ثم قال تعالى {إِنَّ الله بَالِغُ}. قال مسروق: الله بالغ أمره بكل حال، [توكل] عليه أو لم يتوكل (عليه)، أي: مُنْفِذٌ قضاءه بكل حال، غير أن المتوكل عليه يكفّرُ عنه سيآتِه ويعظم له أجراً. قال ابن مسعود: إن أكثر آية تفويضاً في القرآن {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ}.

- ثم قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. قال مسروق: " أي: لكل شيء أجلاً ومنتهى ". وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة. وقيل: هو عام. والمعنى: قد جعل الله [لكل شيء من الطلاق] والعدة وغير ذلك حداً وأجلاً وقدراً ينتهي إليه. ولا اختلاف بين العلماء وأن المطلقة واحدةً أو اثنتين لها النفقة والسكنى وكذلك المطلقة الحامل. وفي المطلقة ثلاثاً اختلاف، فأكثر العلماء على أن لا نفقة (لها) ولا سكنى. وقد روي ذلك [عن النبي A] . وقال الحسن وعكرمة والشعبي: لها متاع

بالمعروف وسكنى. وهو قول جابر. وقال الثوري وأصحاب الرأي: (لها النفقة) والسكنى. وهو قول مروي عن عمر وابن مسعود، وبه قال شريح. والقول الأول قول ابن عباس.

وقال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو عبيد: لها السكنى ولا نفقة (لها) وهو قول ابن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وعطاء والشعبي وابن مهدي.

- ثم قال تعالى: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ. . .}. أي: والنساء اللائي ارتفع طمثهن فلا يرجون أن يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، (وكذلك عدة النساء اللائي لم يحضن أيضا. وقوله: {إِنِ ارتبتم} قيل: معناه: إن ارتبتم بالدم الذي [يظهر] منها في كبرها أمن الحيض هو أم من الاستحاضة؟ فعدتهن ثلاثة أشهر). وقال مجاهد: معناه: إن لم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيضة أو اللائي لم

يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر. وقال الزهري: " إن ارتبتم في كبرها أن يكون ذلك من الكبر، فإنها تعتد حين ترتاب ثلاثة أشهر. فأما إذا ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة، فإنها [يُتَأَنَّى] بها حتى يُنظر أهي [حامل] أم غير حامل؟ فإن استبان حملها فحتى تضع حملها، وإن لم يستبن حملها فحتى يستبرئها، وأقصى ذلك سنة، تسعة للاستبراء وثلاثة للعدة، وهو مذهب مالك. وقال ابن زيد: إن ارتبتم أنها لا تحيض وقد ارتفعت حيضتها وارتاب الرجل وقالت المرأة: تركتني الحيضة، فعدتها ثلاثة أشهر إن ارتاب فخاف أن تكومن حيضتها قد انقطعت. وقيل: المعنى: إن ارتبتم [بحكمهن] فلم تدروا ما الحكم في عدتهن، فإن عدتهن ثلاثة أشهر.

وقال عكرمة: من [الريبة]: المرأة المستحاضة والتي لا تستقيم لها الحِيَضُ: تحيض في الشهر مرات، وفي الأشهر مرة، فعدتها ثلاثة أشهر، وهو قول قتادة. وقيل: هذا متصل بأول السورة، والتقدير: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة ولا يخرجن. والاختيار (عند) الطبري أن يكون المعنى على قول من قال: إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم في عدتهن. قال: ولو كن الارتياب إنما هو في الدم، لا يُدرى دم حيض أم دم استحاضة؟. لكان اللفظ: إن ارتبتن. لأنهن إذا أشكل الدم عليهن فهن المُرتابات بدماء أنفسهن، [لا غيرهن]، فكون [الخطاب] للرجال دليل

على أن المعنى: إن ارتبتم في الحكم في عدتهن. وايضاً فإن بعده {(واللائي) لَمْ يَحِضْنَ} ومحال أن [يُرتاب] في دم من لم تحض، وإنما [يرتاب] في حكمها في العدة. قال الضحاك {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض} من القواعد من النساء/ {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} من الصغار، لم يبلغن وقد مُسِسْنَ فعدتهن ثلاثةُ أشهر. وهو قول قتادة. - ثم قال تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. . .}. أي: والنساء الحوامل إذا طُلقن، فانقضاء عدتهن أن يضعن حملهن. وهذا إجماع. فأما المتوفى عنها زوجها (وهي حامل، فأكثر العلماء على أن وضع حمْلها انقضاء عدتها ولو كان بعد موْت زوجها). وقد روي عن علي بن أبي طالب - Bهـ - وابن عباس - Bهـ - أن انقضاء

5

عدتها آخر الأجلين. - ثم قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله [يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً].}. أي: ومن يتق الله فيتبع في طلاقه ما أمره الله به يجعل له من طلاقه ذلك يسراً. وهو أن يسهل عليه إن أراد الرجعة فيجعل الأمر بيده ويرتجعها متى شاء ما كانت في العدة، ويحل له التزويج بعد انقضاء العدة. ومن لا يتق الله - فيطلق ثلاثاً بخلاف ما أمره الله - لا يسهل عليه رجعة في عدة ولا في غيرها، ولا يسهل عليه تزويجها بعد العدة ما لم [تتزوج] غيره. - قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ. . .} إلى آخر السورة. أي: ذلك الذي بينه لكم حكم الطلاق والرجعة والعدة أَمْرُ الله الذي

أمركم به، أنزله لتأتمروا به وتعملوا به. ثم قال: {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}. أي: ومن (يخف الله) ويتقه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، يمح عنه ذنوبه ويعظم له أجراً يوم القيامة على عمله. ثم قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم. . .}. أي: أسكنوا مطلقات نسائكم من المواضع التي سكنتم من وجدكم، (أي): من سعتكم. يقال: وجت في المال وُجْداً، ووجدت على الرجل وَجْداً ومَوْجِدَةً، وَوَجَدْتُ الضَّالَّةَ وَجْداناً.

وروي أن الأعمش قرأ بفتح الواو. وهو غلط؛ لأن الوَجْد بالفتح إنما هو في الغضب. وقرأ يعقوب الحضرمي بسر الواو لغاية فيه. أمر الله الرجال أن يُسْكِنُوا المطلقات مما يجدون حتى يقضين عدتهن. قال السدي: {مِّن وُجْدِكُمْ}: من ملككم ومقدرتكم. - ثم قال تعالى: {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ. . .}. أي: لا تضاروهن في المسكن الذي [تسكنوهن] فيه وأنتم تجدون سعة من

المنازل تطلبون التضييق عليهن. - ثم قال: {َإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. . .}. أي: أنفقوا على المطلقة الحامل حتى تضع الحمل، وإن أرضعت فحتى تفطم. وهو قوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. . .}، فلها أجرة الرضاع إن أرضعت وهي أحق بما يأخذ غيرها، وإن أبت أن ترضع اسْتَرْضَعَتْ له أخرى. - ثم قال تعالى: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ. . .}. قال السدي: معناه: " اصنعوا المعروف فيما بينكم ". وقيل: المعنى: هموا بالمعروف واعزموا عليه. وقد قيل: [وَاتَمُرِوا: تشاوروا، وليس بشيء]. - ثم قال: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى}. أي: إن امتنعت المرأة من الرضاع فلا سبيل له عليها، ولكن يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه، قال السدي وغيره: وقال: إذا رضيت الأم من أجرة الرضاع بما

يرضي به غيرها فهي أحق. - ثم قال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله. . .}. أي: لينفق الذي بانت منه امرأته إن كان ذا سعة من المال الذي بيده على امرأته لرضاعها ولده. ومن ضيق عليه في رزقه فلم يكن ذا سعة من المال فلينفق مما أعطاه الله على قدر ما يجد. وقيل: معناه: إن كان له ما يبيعه من متاع البيت باعه فأنفقه. - ثم قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا. . .}. أي: لا يكلف الله أحداً من النفقة على من تلزمه نفقته إلا ما أعطاه، أن كان ذا سعة فمن سعته، وإن كان مقدوراً عليه (رزقه) فمما رزقه الله. لا يُكَلَّفُ الفقير مثل نفقة الغني. قال ابن زيد: معناه: لا يكلفه أن يتصدق وليس عنده ما يتصدق به.

- ثم قال تعالى: {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}. أي: سيجعل الله للمقل بعد شدة رخاء، وبعد فق غنى. وقيل: [اليسر] الذي يجعله الله له إما في الدنيا وإما في الآخرة. - ثم قال تعالى: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ. . .}. أي: وكثير من أهل القرى عتوا عن أمر ربهم وخالفوه وعصوا رسله. - {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً. . .}. أي: حاسبنا أهلها على النعم التي أسديت إليهم والشكر عليها حساباً شديداً، أي حساباً ليس فيه عفو/ عن شيء. - {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً}.

أي: منكراً، وهو عذاب جهنم. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة). والعُتُوُّ في اللغة: التجاوز في المخالفة والطغيان. - ثم قال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا. . .}. أي: عقوبة عملها. الوبال: العاقبة. قال ابن عباس ومجاهد: " {وَبَالَ أَمْرِهَا} ": جزاء أمرها. - ثم قال تعالى: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً}. أي: غبناً، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس الدنيا وقليله.

- ثم قال تعالى: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً. . .}. (أي): في الآخرة، يعني عذاب النار. - ثم قال تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمَنُواْ. . .}. أي: اتقوا الله في أمره ونهيه يا أصحاب العقول الذي آمنوا. - ثم قال تعالى: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً. . .} {رَّسُولاً. . .}. قال السدي: " الذكر: القرآن، والرسول محمد " فيكون (التقدير لى قوله: ذِكْراً ذَا رَسُول. فيكون نعتاً للذكر، قد حذف المضاف) وأقيم المضاف إليه مقامه مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] (وقيل: الرسول نصب " بذكر " كأنه قال: " أن تذكروا رسولاً " فهو مفعول به). وقيل: الرسول نصب إضمار " أعني ". وقيل: الرسول ترجمة عن الذكر كأنه بدل منه، ولذلك نصب، فيكون - على

هذا القول - الرسولُ بمعنى الرسالة. وقيل: رسولاً منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: أرسلنا رسولاً. - ثم قال تعالى: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ. . .}. أي: يتلو الرسول عليكم آيات الله واضحات، كي يخرج الذين آمنوا بالآيات من الظلمات إلى النور، أي: من الكفر إلى الإيمان. - ثم قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله. . .}. أي: يصدق به. - {وَيَعْمَلْ صَالِحاً. . .}. أي: يعمل بطاعة الله. - {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار. . .}. أي: من تحت أشجارها. - {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً. . .}. أي: (لا يخرجون منها أبداً) ولا يموتون.

- ثم قال تعالى: {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً}. أي: قد وسع الله له في الجنات رزقاً. - ثم قال تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ. . .}. أي: الله (الذي) خلق ذلك، لا (ما) يعبده المشركون من الأوثان والأصنام التي لا تقدر على شيء، وخَلَقَ من الأرض مثلهن (أي): سبعاً. وعن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الأرضين السبع نحو ما على هذه الأرض من الخلق. ولذلك قال: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} لأن في كل سماء خلقاً لله. وعن ابن مسعود أنه [قال]: خلق سبع سماوات، غِلَظُ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل واحدة منهم والأخرى مسيرة خمسمائة عام، وفوق

السماوات السبع [الماءُ]، والله - جل ذكره - فوق الماء لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم، والأرضُ سَبْعٌ، بين كل أَرْضَيْنِ مسيرة خمسمائة عام. وغِلَظُ كل أرض خمسمائة عام. [وقال] مجاهد: هذه الأرض إلى تلك الأرض مثل الفسطاط ضربته بأرض فلاة. وهذه السماء إلى تلك السماء مثل حلقة رميت (بها) في أرض فلاة. وقال الربيع بن أنس: " السماء أولها موج مكفوف، والثانية صخرة، والثالثة

حديد، والرابعة نحاس، والخامسة فضة، والسادسة ذهب، والسابعة ياقوتة ". وقال مجاهد: (هذا) البيت الكعبة رابع أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيت، كل بيت منها [حَذْرَ] صاحبه، لَوْ وَقَعَ وَقَعَ عَلَيْهِ. وإن هذا الحَرَمَ حَرَمٌ مثله في السماوات السبع والأرضين السبع. قال أبو عثمان [النهدي]: كنت عند عمر جالسا إذ جاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي ابنا إذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى الأعلى الأعلى، فيكثر من ذلك، فلا أدري أَيَّ شَيْءٍ يريد به. قال: جئني (به)، فجاء الفتى، فقال عمر: ماذا يقول أبوك؟

قال: وما يقول؟ مقال: يقول إنك إذا سجدت أكثرت من سبحان ربي الأعلى الأعلى الأعلى، قال: يا أمير المؤمنين، شيء جراه الله على لساني. قال: وكعب جالس إلى جنبه، فقال كعب: صدق، يا أمير المؤمنين. قال عمر: وكيف ذاك؟ قال كعب: إذاً أخبرك، فإن الله خلق الأرضين سبعاً، (وجعل غلظ كل أرض خمسمائة عام، وما بين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام، وجعل السماوات سبعاً)، وجعل غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى سماء مثل ذلك، والله D ملائكة يحملون العرش قياماً في ماء، غِلَظُ ذلك الماء غلظ السماوات السبع والأرضين السبع، لا يبلغ ذلك الماء أعناقهم، فهو جل وعز الأعلى الأعلى الأعلى. قال (قتادة): خلق الله سبع سماوات وسبع أرضين، في كل سماء من سمائه وأرض من أرضه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه جل ثناؤه.

وذكر قتادة قال: التقى أربعة أملاك من الملائكة بين السماء والأرض، فقال بعضهم لبعض: من أين [جئت]؟ فقال أحدهم: أرسلني ربي من المشرق وتركته، (ثم) قال الآخر: أرسلني ربي من الأرض السابعة وتركته، (ثم) قال الآخر: أرسلني ربي من المغرب وتركته. - ثم قال تعالى: {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ. . .}. أي: يتنزل الوحي بين السماء السابعة والأرض السابعة. قاله مجاهد. - ثم قال تعالى: {لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. . .}. أي: يتنزل قضاء/ الله وأمره بين ذلك كي تعلما أيها الناس كُنْهَ قدرته وسلطانه، وأنه قادر على كل شيء، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء شاءه. - ثم قال تعالى: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}. أي: ولتعلموا أن الله بكل شيء (مِنْ) خلقه محيط علماً، لا يعزب عنه

مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فخافوه وأطيعوه تنجوا من عقوبته وتدخلُو جنته. وأعاد الاسم بالإظهار وقد تقدم إظهاره للتفخيم والتعظيم. و {عِلْماً} نصب [على التمييز]. أو (على) المصدر، كأنه قال: علم كل شيء علماً.

التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التحريم مدنية - قوله تعالى: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ {مَآ أَحَلَّ الله لَكَ). . .}، إلى قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}. نزلت هذه الآية في سبب مارية القبطية أم ولده إبراهيم، سَرِيَّةِ النبي A، كان النبي قد أصابها في بيت حفصة في يومها، فغارت لذلك حفصة فحرمها النبي

على نفسه بيمين أنه لا يقربها طلباً لرضاء حفصة، فعوتب النبي A ونُبه على أن ليمينه مخرجاً. قال زيد بن أسلم: " أَصَابَ النَّبِيُّ A أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي! فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَاماً. فقالت: يا رسول الله، كَيْفَ تُحَرِّمُ عليك الحلالَ؟! فَحَلَفَ لها بالله لاَ يُصِيبُهَا، فأنزلَ الله: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله. . .} الآية ". قال زيد بن أسلم: " قال لها: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَمٌ، وَاللهِ لاَ أَطُؤُكِ ". قال الشعبي: حرمها وحلف ألا يقربها فعوتب [في] التحريم، وجاءت الكفارة في اليمين.

قال الضحاك: كانت لرسول الله A فتاة فغشيها، فبصرت [به] حفصة، وكان اليوم يوم عائشة [وكانتا] مُتَعَاوِنَتَيْنِ، فقال رسول الله A لحفصة: اكْتُمِي عَلَيَّ وَلاَ تَذْكُرِي لعائشة ما رأيتِ، فَذَكَرَتْ حفصةُ لِعائشةَ الخَبَرَ، فغضبت عائشة، فلم يَزَلْ نَبِيُّ اللهِ حتى حلف لاَ يَقْرَبُها، فأنزل الله الآية، وأمره بكفارة يمينه. قال ابن عباس: " أمر الله النبي والمؤمنين إذا حرما شيئاً على أنفسهم مما أحل الله لهم أن يكفروا بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا يدخل في ذلك طلاق "، فإنما حرم النبي A على نفسه جاريته ولم يحلف. وروى عبيد بن عمير عن عائشة أنها قالت: " كان النبي A يمكث عند زينب بنت

جحش [يشرب] عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أينا جاءها النبي [فلتقل] له إن أجد منك ريح مغافير، فجاء إلى إحداهما فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلا، ولن [أعود]، فأنزل الله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله} وأنزل {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} يعني عائشة وحفصة ". ويروى أن النبي - A - أصاب جاريته مارية في بيت عائشة وهي غائبة وفي يومها، فاطلعت على ذلك حفصة، فقال لها النبي: لا تخبري عائشة بذلك، فأخبرتها، فغضبت عائشة وقالت: في بيتي وفي يومي! فأرضاها النبي A بأن حلف لها ألا

يطأها بعد ذلك وحرمها على نفسه، فأنزل الله السورة في ذلك. - ثم قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ والله مَوْلاَكُمْ. . .}. أي: قد بين الله لكم تَحِلَّةَ أَيْمَانكم وَحَدَّهَا (لكم)، {والله مَوْلاَكُمْ} أي: يتولاكم بنصره وهدايته - أيها المؤمنون - وهو العليم بمصالحكم، الحكيم في تدبيره خلقه. - ثم قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ. . .}. أي: واذكروا أيها المؤمنون (إذا أ) سر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً، وهو (على) قول ابن عباس وزيد بن أسلم ما أسر لحفصة من تحريمه لمارية وقوله لها: لا تذكري ما رأيت لعائشة. وقال منصور بن مهران: أَسَرَّ إلى حفصة أن أبا بكر خليفتي بعدي.

وقيل: هو قوله: بل شربت عسلاً، على ما مضى من الخبر. وقيل: هو ما كان من خلوته بمارية في بيت عائشة. - {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ. . .}. أي: أخبرت حفصةُ بذلك عائشة. - {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ. . .}. أي: وأطلع الله نبيه على إعلام حفصةَ لعائشةَ بِسِرِّ النبي. - {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ. . .}. (أي: عرف النبي حفصةَ بعض ما أخبرت به عائشة ووبخها عليه وأعرض عن بعض) فلم يوبخها عليه. قال المفسرون: أخبر النبي عليه السلام حفصة ببعض ما أخبره الله عنها أنها قالته لعائشة. ومن قرأ بالتخفيف في {عَرَّفَ}، فمعناه أن النبي عَرَفَ لحفصةَ ما فعلته،

[يعني] غضب على ذلك وجازاها عليه بالطلاق. وقيل: معنى التشديد أنه مأخوذ من قولك للرجل يَجْنِي عليك: لأُعَرِّفَنَّكَ فِعْلَكَ، على طريق التوعد والتهديد. ثم قال: {فَلَمَّا [نَبَّأَهَا] بِهِ. . .}. أي: أخبر حفصة/ بأن الله أَطْلَعَهُ على [إفشائها سِرَّهُ] إلى عائشة. - {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا. . .}. أي: من أخبرك هذا؟! (قال): خَبَّرَنِي به العليم بكل شيء، الخبير بالسرائر والعلانية.

ويُروى أن [السِّرَّ] الذي أَسَرَّهُ النبي عليه السلام هو أنه أسرَّ إلى حفصة (أن الخليفة) بعده أبو بكر، وبعده عمر، وأمرها أن تكتم ذلك، فأفشته إلى عائشة، فَأَعَلَمَ اللهُ نبيه ذلك. و {نَبَّأَنِيَ} تُعَدَّى إلى مفعول واحد، و {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} تُعدى إلى مفعولين. [وقد أصل] النحويون أنه يتعدى إلى ثلاثة، لا يقتصر على اثنين دون الثالث. (وتفسير ذلك أن " نَبَّأَ " و " أَنْبَأَ " بمعنىً في التَّعدِي، وهما يجريان في الكلام على ضربين: أحدهما: أن [يدخلا] على الابتداء والخبر، فهناك لا يقتصر على (اثنين) دون الثالث)، كما لا يقتصر على الابتداء دون الخبر، لأن الثالث هو خبر الابتداء في الأصل. والموضع الثاني: [ألا] يدخلا على الابتداء والخبر نحو الآية، فهناك يكفتى باثنين وبواحد.

- ثم قال تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا. . .}. [أي: إن تتوبا إلى الله مما فعلتما فقد مالت قلوبكما إلى ما كرهه رسول الله A] من تحريمه جاريته على نفسه. قال ابن عباس {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}: زاغت، أي: أثمت. قال مجاهد: " كنا نرى أن قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} شيء (هين) حتى سمعت قراءة ابن مسعود " فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُمَا ". ثم قال تعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ. . .}. يعني حفصة وعائشة، أي: وإن تتعاونا على النبي. - {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ. . .}.

أي: وليه وناصره عليكما وعلى كل (من) بغاه بسوء، وجبريلُ أيضاً وَليُّهُ، وصالحُ المؤمنين أيضاً أولياؤه، يعني خيارهم. وقال الضحاك وغيره: " هم أبو بكر وعمر Bهـ ". فيجب أن يكون أصلُ {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} على هذين القولين بالواو، وحذفت من الخط على اللفظ. وقال مجاهد: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} عمر، وعنه: هو علي، فيكون لا أصل للواو فيه. وقال قتادة: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}: الأنبياء. فيكون أيضاً أصله الواو. وهو

قول سفيان. وقد ذهب أبو حاتم إلى [أن] الوقف (وصالحو) بالواو مثل {سَنَدْعُ} [العلق: 18] {وَيَدْعُ الإنسان} [الإسراء: 11]. وفي هذا مخالفة للسواد. والأحسن ألا يوقف عليه، فإن وقف عليه [واقف] (وقف) بغير واو، على قول مجاهد أنه عمر أو علي Bهـ فَيَتِمُّ له موافقةُ المعنى وموافقة الخط. وكان الطبري يقول إن {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} اسم " للجنس: كقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] ونظير ذلك قول الرجل: لا يقربني إلا قارئ القرآن.

فهو بلفظ الواحد ومعناه الجنس، فكذلك هذا، فيكون الوقف أيضاً بغير واو اتباعاً للخط والمعنى. - ثم قال: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. أي: والملائكة مع جبريل وصالح المؤمنين عوين على نصرة محمد. " وظهير " لفظ واحد، ومعناه جمع. ولو أتى على اللفظ لقال: " ظُهَرَاً ". - ثم قال تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ. . .}. أي: عسى رب محمد إن طلقكن يا أزواج محمد أن يبدله منكن أزواجاً خيراً منكن. وهذا تحذير من الله لنساء نبيه لما أجتمعن عليه في الغيرة. روى أنس بن أنس أن عمر - رضي لله عنه - قال: " اجْتَمَع عَلَى رَسولِ الله A نِسَاؤُهُ فِي الغِيرَةِ, فَقُلْتُ لَهُنَّ: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزوجاً خيراً منكن، فنزلت

كذلك ". قال عمر: " فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ امرأةً (امرأةً) أعظها وأَنْهَاهاَ عن أَذَى رَسولِ اللهِ وأقول: إِنْ أَبَيْتُنَّ أَبْدَلَهُ (اللهُ خيراً منكن، حتى أَتَيْتُ على زَينبَ فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله ما يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟! فَأَمْسَكْتُ. فأنزل الله D { عسى رَبُّهُ} الآية ". - وقوله: {مُسْلِمَاتٍ}، أي: خاضعات لله بالطاعة {مُّؤْمِنَاتٍ} أي: مصدقات بالله ورسوله {قَانِتَاتٍ} أي: مطيعات لله، {تَائِبَاتٍ} [أي]: راجعات إلى ما

يحبه الله ورسوله. {عَابِدَاتٍ} أي: [متذللات] لله بالطاعة. {سَائِحَاتٍ} (أي): صائمات. قاله ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك، وقال زيد بن أسلم: {سَائِحَاتٍ}: مهاجرات، وهو قول ابن زيد. ((وقال) ابن زيد): " ليس في (القرآن) ولا في أمه محمد سياحة إلا الهجرة ". وقيل للصائم سائح لأنه لا ينال شيئاً بمنزلة السائح في [القفر] لا زاد

6

معه. وقيل: معناه: ذاهبات في طاعة الله. من: سائح الماء، إذا ذهب. - وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً}. أي: نساءً كباراً قد تزوجن غيره، (ونساءً صغاراً) لم يتزوجن. - قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ {وَأَهْلِيكُمْ. . .}. إلى آخر الآية. (أي): يا أيها الذين آمنوا اعملوا عملاً [صالحاً] تقون به أنفسكم من النار، ولْيُعَلِّمَ [بَعْضُكُمْ [بَعْضاً ما تقون به من تُعَلِّمُونَهُ من النار، وعَلِّمُوا أهليكم من العمل ما يقون به أنفسهم من النار.

قال علي بن أبي طالب - Bهـ - في [قوله]: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} أي: علموهم وأدبوهم. قال ابن عباس: معناه: " اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصيه، ومُرُوا أهليكم بالذكر/ ينجيكم الله من النار ". وقال مجاهد: " واتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله ". وقال قتادة: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن [معصيته]. وقيل: المعنى: لا تعضوا فيعصي أهلوكم. وفي الحديث: " لا تزن [فيزني] أهلك ".

وقوله: {وَقُودُهَا الناس والحجارة. . .}. أي: حطبها بنو آدم وحجارة الكبريت. {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ. . .}. (أي): على هذه النار ملائكة غلاظ على أهل النار، شِدَادٌ عليهم. وقيل: {شِدَادٌ} بمعنى: أقوياء. {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ. . .}. أي: لا يخالفون الله فيما أمرهم به عذاب الكفار وغيره. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. أي: ينتهون إلى ما أمرهم الله به. - ثم قال تعالى: {يا أيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.

(أي): يا أيها الذين جحدوا وحدانية الله، لا تعتذروا عن كفركم يوم القيامة بما لا ينفعكم، إنما تثابون جزاءً على أعمالكم. ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً. . .}. أي: يا أيها الذين صدقوا الله، ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله وإلى ما يرضيه عنكم رِجْعَةً نَصُوحاً، أي: لا تعودون معها أبداً. قال عمر بن الخطاب Bهـ: التوبة النصوح أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود فيه أبداً ولا يريد أن يعود فيه. هو قول الضحاك. وقاله ابن مسعود. وقال قتادة: التوبة النصوح " هي الصادقة النصاحة ". ومن ضم النون، فيجوز أن يكون جمع نُصْحٍ. ويجوز أن يكون مصدراً،

كرجل عدل، (أي): صاحب عدالة. وقال ابن زيد: النصوح: الصادقة، ويعلم أنها صدق بندامته على خطيئته وحب الرجوع إلى طاعة الله. - (ثم قال تعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ. . .}. أي: محوها عنكم. و" عسى " من الله) واجبة. {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ (مَعَهُ). . .}. أي: ويدخلكم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار في يوم [لا يخزي] الله فيه النبي، أي: لا يبعده من إِفْضَالِهِ وإِنْعَامِهِ، ولا يُبْعِدُ الذين آمنوا معه من ذلك.

- ثم قال: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ. . .}. قال ابن عباس: يأخذون كتابهم فيه البشرى. {يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا. . .}. أي: يسألون ربهم أن يُبْقِيَ لهم نُورَهُمْ حتى يَجُوزُوا الصراط، وذلك حين يطفئُ نور المنافقين وقت يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انظرونا نقتبس من نوركم. قاله مجاهد وغيره. وقال الحسن: ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة فيُطفئُ نور المنافقين، فيخشى المؤمن أن يُطْفِئَ نوره. فذلك قوله: {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} ". {واغفر لَنَآ. . .}. أي: واستر علينا ذنوبنا. {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

أي: إنك على إتمام نورنا وغفران ذنوبنا وغير ذلك من الأشياء قدير. - ثم قال: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ. . .}. أي: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالوعيد والتهدد. قال قتادة: " أمر الله نبيه أن يجاهد الكفار بالسيف [ويغلظ على المنافقين بالحدود] ". ومعنى {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي: اشدد عليهم في ذات الله ولا تلن. ثم قال تعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير. . .}. أي: ومسكنهم في الآخرة جهنم، وبئس الموضع الذي يصيرون إليه. ثم قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ (فَخَانَتَاهُمَا). . .}. أي مثل الله للذين كفروا هاتين المرأتين، كانتا تحت {عَبْدَيْنِ

(مِنْ عِبَادِنَا) صَالِحَيْنِ}، وهما لوط ونوح [{فَخَانَتَاهُمَا}]. قيل: إن خيانة امرأة نوح لنوح أنها كانت كافرة، وكانت تقول للناس إنه مجنون، وخيانة امرأة لوط (له) أنها كانت [تدل قومها] على أضيافه. وكان هو يسترهم. وقيل: كانت توقد ناراً إذا نزل بلوط ضيف فيعرف قومه أن عنده ضيفاً، فيأتون لأذاه. قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما كانت أحدهما تقول إنه مجنون، والأخرى تدل على أضيافه. قال عكرمة: " كانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين "، وقاله الضحاك. فلم يغن صلاح زوجيهما عنهما شيئاً، بل قيل لهما: أدخلا النار مع من دخلها

بِخِيَانَتِكُما. كذلك من كان كافراً وابنُه أَوْ زوجُه أو قريبُه مؤمنٌ، لا يغني عنه إيمان قريبه شيئاً من عذاب الله. فالفائدة في هذا أن أحداً لا ينفعه إيمان غيره. وقيل: {مَعَ/ الداخلين} يريد: مع القوم الداخلين. ثم قال تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ}. وهي آسية، آمنت وهي تحت عدو الله فلم يضرها كفره، إذ لا تز وازرة وزر أخرى. فدعت الله أن [يبني] لها بيتاً في الجنة ففعل، [وسألته] أن ينجيها من فرعون وعمله وعمل قومه ففعل، فماتت مسلمة.

قال القاسم بن أبي بزة: " كانت امراة فرعون تقول، تسأل من غلب، فيقال: غلب موسى وهارون، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسَل إليها فرعون، فقال: أنظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها،، وإن رجعت عن قولها فهي [امرأتي]. فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصَرَت بيتها في الجنة فمضت على قولها، فانتزع الله روحها وألقيت الصخرة على جسدها ليس فيه روح ". قال قتادة: " أعتى أهل الأرض (على الله) وأبعده من الله، فوالله ما ضرَّ امرأَتَهُ كُفُور زوجها حين أطاعت ربها لتعلموا أن الله حَكَمٌ عَدلٌ لا يؤاخذ أحداً إلا بذنبه ". - ثم قال: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا. . .}. أي: وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم التي منعت جَيْبَ درعها جِبرِيل، وَكُلَّ ما كان في الدرع من فَتق أو خَرْقٍ فإنه يسمى فرجاً (وكذلك كل) [صَدع] أو شق

في حائظ أو سقف فهو فرج. - ثم قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا. . .}. (أي): فنفخنا في جيب درعها من جبريل عليه السلام. وقيل: معناه: فجعلنا في الجيب من الروح الذي لنا أي: الذي نملكه. - ثم قال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا. . .}. [أي: وآمنت] بعيسى وهو كلمة الله، وبالكتاب الذي أنزل عليه وقبله، وهي كملة الله، هي التوراة والإنجيل.

ثم قال: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين}. أي: من المطيعين، أي: من القوم المطيعين. (داود بن إسحاق).

الملك

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الملك مكية روى جابر بن عبد الله أن النبي - عليه السلام - كان لا ينام حتى يقرأ: "تنزيل السجدة" و (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) و [كان] يقول: هما يفضلان كل سورة بسبعين حسنة، فمن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحي سبعون سيئة، ورفع له سبعون درجة.

ومعنى "يفضلان " أي: يعطي الله على قراءتهما من الأجر أكثر مما يعطي على غيرهما، لأن بعض القرآن أفضل من بعض، فافهمه. قال ابن مسعود: من قرأ سورة الملك فقد أكثر وأطيب. وقال: هي المجادلة جادلت عن رجل كان يقرؤها. وعنه أنه قال: من قرأ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) كل ليلة وقاه الله فتنة القبر. وقاله كعب. وذكر أنه يجدها في التوراة كذلك. وروى أبو هريرة [عن] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي "تبارك الذي بيده الملك". وعن ابن مسعود أنه قال: يُؤْتى الرجل من قبل رجليه -يعني في القبر-، قال: فيقول رجلاه: ليس (لكما) على ما قِبَلي سبيل، إنه كان يقوم على سورة الملك. فيوتى من قبل وسطه فيسأل، فيقول بطنه: ليس لكما على ما قبلي سبيل، إنه كان قد وَعَى في

1

سورة الملك. فيؤتى من قبل رأسه فيقوم لسانه: ليس لكما على ما قبلي، إنه كان يقرأ في سورة الملك. ثم قال ابن مسعود: هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي في التوراة: هذه سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيَب. ويقال: إن عذاب القبر يكون من ثلاثة أشياء: من النميمة والغيبة وقلة التنزه من البول. ويقال: ليس يصحب المؤمن في قبره (شيء) خير له من كثرة الاستغفار. قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، إلى قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. تبارك: تفاعل على البركة، ولا يقال منه مستقبل ولا اسم فاعل. ومعناه: تعاظم وتعالى الرب الذي بيده ملك الدنيا والآخرة

[وسلطانهما]، نافذ فبهما أمره وقضاءه. {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. أي: وهو ذو قدرة على فعل كل شيء أراده [{قَدِيرٌ}]: لا يمنعه مما أراد شيء. وقيل: معناه: الذي بيده الملكم، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء. - ثم قال تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. أي: خلق الموت ليميت الأحياء، وخلق الحياة ليحيي الموتى. وفعل ذلل ليختبركم في حايتكم وطول إقامتكم في الدنيا، أيكم أحسن عملاً فيجازيه على ذلك في الآخرة. وقد علم تعالى كل ما هم عاملون، وعلم الطائع والعاصي/ قبل خلقهم، لكن المجازاة إنما تقع بعد ظهور الأعمال، [لا يجازى] أحد (بعلم الله

فيه دون ظهور عمله). فالمعنى: ليخبتر وقوع ذلك (منكم) على ما سبق في علمه وقضائه. وتقديره: من خير وشر احتساباً منكم. قال قتادة: أذل الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دا ر حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. - ثم قال: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقاً. . .}. أي: اخترع ذلك طبقا فوق طبق. {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ. . .}. أي: من اختلاف، يعني في خلق السماوات، وقيل: في كل ما خلق، فكله محكم دال على قادر بارئ حكيم في تدبيره ولطفه. - ثم قال تعالى: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ}. أي: هل ترى يا ابن آدم من شقوق أو وَهْيٍ؟

- (ثم قال تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}). أي: ثم رد البصر يا ابن آدم مرتين مرة بعد آخرى، هل ترى من شقوق، أو وَهْيٍ في الخلق أو تفاوت؟! {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: يرجع إليك البصر صاغراً متبعداً عن أن يجد تفاوتاً أو شقوقاً. من قولهم للكلب: " اخسأ " إذا طردوه، أي: أبعد صاغراً. يقال: خسأته فخسأ. وقوله: {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: معي. (وقال ابن عباس: " {خَاسِئاً}: ذليلاً {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: مرجف. وقال قتادة: معناه: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}، أي: معي)، وعنه

قول ابن عباس. يقال: حسير ومحسور للرجل إذا بلغ غاية الإعياء. - ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين. . .}. أي: زينا السماء بنجوم ترجم الشياطين بها إذا [أتوا لاستراق] السمع. قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: خلقها للزينة، وترجم الشياطين (بها)، وعلامات يهتدوا بها. و" رجوم " مصدر على قول من قال: إنما يرجم من [النجوم] بالشهب، ولا تبرح النجوم (بنفسها). ومن قال: بل يرجم بها نفسها قال: رجوم جمع رجم.

- ثم قال: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير}. أي: وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاباً يسعر عليهم. - ثم قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المصير}. أي: وللذين جحدوا توحيد ربهم في الآخرة عذاب جهنم، وبئس المصير عذاب جهنم. - ثم قال تعالى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ}. أي: إذا [ألقي] الكافرون في جهنم سمعوا لجهنم شهيقاً، أو صوت الشهيق. والشهيق: الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة كصوت الحمار. {وَهِيَ تَفُورُ}: تغلي بهم كما تغلي القدر. - ثم قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ. . .}. (أي: تكاد جهنم تتفرق وتتقطع من الغيظ على الكفار). {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}.

أي: كلما أقرى في جهنم جماعة سألهم خزنة جهنم فيقولون لهم: ألم يأتكم نذير في الدنيا ينذركم هذا العذاب الذي حل بكم؟ [فيجيبهم] المشركون: {قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ. . .}، فيقول لهم [الخزنة]. {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ}. أي: في ضلال عن الحق بعيد. " ونذير ": بمعنى منذر. - ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير}. أي: وقال الفوج لخزنة جهنم: لو كان نسمع من النذير ما جاءنا به ن الحق سماع قبلو، أو نعقل عنه ما يدعونا إليه فنفهمه فهم قبول ما كنا اليوم في أصحب النار. وقيل: {نَسْمَعُ} بمعنى]: نقبل منهم ما يقولون لنا. ومنه قولهم: سمع الله

لمن حمده: أي قبل منه. والقول الأول هو بمنزلة قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] لم يكونوا كذلك، ولكن لما لم ينتفعوا بهذه الجوارح في عاقبة أمرهم كانوا بمنزلة الصم والبكم والعمي. - ثم قال تعالى: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير}. أي: فأقروا بذنبهم، فبعدا لهم. قال ابن عباس. وقال ابن جبير: {فَسُحْقاً}: هو واد في جهنم. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. أي: إن الذين يخافون ربهم ولم يروه وقيل: يخافون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، فمن خاف الله في الخلاء فهو أحرى أن يخافه بحضرة الناس. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ}. أي: ستر على ذنوبهم وصفح عنها.

{وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}. أي: وثواب عظيم، وهو " الجنة ". - ثم قال تعالى: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ. . .}. أي: وأخفوا كلامكم إن شئتم أو أعلنوه إن شئتم، فإنه لا يخفى على الله منه شيء. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ/ الصدور}. أي: عليم بضمائر الصدور. فمن كان لا يخفى عليه ضمائر الصدور كيف يخفى عليه القول سراً كان أو جهراً. ؟! - ثم قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير}. " من ": في موضع رفع اسم الله جل ذكره. ويقبح أن تكون في موضع نصب لأنه يلزم أن يقال: " ألا يعلم ما خلق "، لأنه راجع إلى (ذات الصدور). فالمعنى: ألا يعلم من خلق الصدور سرها وعلاينتها، كيف يخفى عليه خلقه وهو اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم؟! وإذا جعلت " من " بمعنى " ما " في موضع نصب، كان فيه دليل قوي) على أن الله خالق ما تكن الصدور من خير وشر. ففيه حجة

[قوية] على القدرية الذين يدعون أنهم يخلقون الشر وأن الله لم يخلقه ولا قدره، تعالى أن يكون في ملكه ما لم يخلقه بقدره، بل لا خالق لكل شيء إلا الله، ولو كان الشر لم يخلقه الله فمن خلق إبليس؟! ومن خلق الأصنام التي تبعد من دون الله؟! ومن خلق نطفة الزاني وولد الزانية؟! ومن خلق قوة الزاني والسارق وقاطع الطريق؟! وهو كله شر من خلق الله كما قال تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} [فاطر: 8]. وقال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، فكلُّ بمشيئته كان، لا شريك له، يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه. وكذلك يكون المعنى إذ جعلت " من " في موضع رفع اسم الله جل ذكره [ويكون التقدير: ألا] يعلم الخالق خلقه وهو (ما) في الصدور (ومن خير وشر فيهم ذلك أن الخلق كله لله: ما في الصدور) وغيره. وقل أهل الزيغ: " من " في

موضع نصب يراد به الخلق دون ما في الصدور، فهو يدل على خلق أصحاب الأفعال دون الأفعال، وهو خطأ ظاهر على ما قدمنا. - ثم قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً. . .}. أي: سهلا ً سهلها لكم. {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا}. قال ابن عباس: في جبالها، وقاله قتادة، وعن ابن عباس أيضاً: {مَنَاكِبِهَا}: أطرافها، وقيل: نواحيها، وقيلأ: معناه في جوانبها [المذللة] الممهدة. وقال

مجاهد: " طقرها وفجاجها ". {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ. . .}. (أي: من رزقه) الذي أخرجه لكم من الأرض. {وَإِلَيْهِ النشور}. أي: وإليه نشوركم من قبوركم. - ثم قال تعالى: {أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض. . .}. أي: أأمنتم - أيها الكافرون - الله الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض عقوبة على كفكركم به؟! {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}. أي: تضطرب. {أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء} (وهو الله). {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً. . .}.

وهو التراب فيه الحصباء الصغار فيهلككم بذلك على كفركم. أي: لم تأمنوا [من ذلك]، فما بالكم مقيمين على كفركم؟! ثم قال: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}. أي: كيف عاقبة نذيري لكم إذا كذبتموه. ولا يعمل {فَسَتَعْلَمُونَ} " في {كَيْفَ} لأنها استفهام، وهي خبر " نذير ". - ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ}. أي: ولقد كذّب الذين كانوا قبل هؤلاء المشركين رسلهم، فيكف كان إنكاري لتكذيبهم؟! ألم نهلكهم بضروب من النقمات؟! - ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات. . .}. أي: أو لم ير هؤلاء المشركون قدرة الله في الطير فوقهم في الهواء صافات أجنحتهن أحياناً ويقبضنها أحياناً؟!. {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن}، فيكون لهم بذلك مذكر على قدرة الله وأنه لا

يقدر على إمساك الطير على تلك الحال أحد إلا الله. {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}. أي: إن الله بصر وخبر بكل شيء، لا يدخل في تدبيره خلل ولا في خلقه تفاوت. - ثم قال تعالى: {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن}. أي: من ينقذكم من عذاب الرحمن إذا نزل بكم على كفركم؟! ما {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} من ظنهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تنفع أو تضر. - ثم قال تعالى: {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. . .}. أي: من يرزقكم أيها المشركون إن أمسك الرحمن رزقه عنكم. أي: من يأتي بالمطر أمسكه عنكم الرحمن. ثم قال تعالى: {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}. ([اي]: بل تمادوا في طغيان ونفور) [من] الحق استكباراً.

ثم قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. أي: أفمن يمشي في الضلالة أهدى أمن يمشي في الهدى؟! يعني الكافر والمؤمن، فهو مثل ضربه الله لهما في الدنيا. هذا معنى قول مجاهد والضحاك وابن عباس. قال قتادة: هذا في الآخرة، أفمن يمشي مكبا على وجهه وهو الكافر، أكب في الدنيا على [المعاصي] فحشره الله يوم القيامة على وجهه. -[رواه] عن النبي A -، وقال: " فقيل: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه/ فقال: إن الذي أمشاه على رجليه لقادر أن يحشره يوم القيامة على وجهه ". وقيل: الذي يمشي مكباً على وجهه: أبو جهل، والذي هو على صراط

23

مستقيم: حمزة بن عبد المطلب Bهـ، ثم هو في كل من كان مثلهما. - قوله تعالى: {(قُلْ) هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ. . .} إلى آخر السورة. أي: قل يا محمد للمكذبين بالبعث: الله الذي ابتدأ خلقكم قبل أن لم تكونوا شيئاً. - {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة. . .}. لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا، فكيف تتعذر عليه إعادتكم .. {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}. أي: قيلاً شكركم لربكم على هذه النعم التي خولكم. قال تعالى: {هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض. . .}. أي: خلقكم فيها.

{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. أي: تجمعون يوم القيامة من قبوركم لموقف الحساب. - ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. أي: ويقول المشركون المكرون للبعث: متى يكون هذا البعث الذي تعدوننا به إن كنتم صادقين في قولكم أيها المؤمنون؟! {قُلْ} يا محمد: {إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. أي: قل لهم يا محمد إنما علم وقت البعث عند الله، وإنما أنا نذير إليكم، أي: منذر مبين ما أرسلت به إليكم. - ثم قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ. . .}. أي: فلما رأى المشركون عذاب قريباً وعاينوه، ساء الله وجوه الذين كفروا. قال الحسن: {رَأَوْهُ زُلْفَةً}، أي: عاينوه.

قال مجاهد: زلفة: " قد اقترب ". وقال ابن زيد: زلفة: حاضراً، أي: قد حضرهم العذاب. وقال ابن عباس: {رَأَوْهُ زُلْفَةً}، أي: لما رأوا عملهم السيء. وقيل: فلما رأوا الحشر. ودل عليه: " يحشرون ". وقيل: الهاء تعود على الوعد لتقدم ذكره. - ثم قال تعالى: {وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}. أي: وقال الله لهم عند معاينتهم العذاب: هذا الذي كنتم به تدعون ربكم أن يعجله لكم. وقال الحسن: تدّعون أن لا جنة ولا ناراً. وأصل {تَدَّعُونَ} [تَدْتَعِيون]- على " تَفْتَعِلون " - من الدعاء، ثم أعلي ثم

أُدْغِمَ. وقال أبو حاتم: {تَدَّعُونَ}: تكذبون. وقيل: {تَدَّعُونَ}: يدعو بعضكم بعضاً إلى التكذيب. وقرأ قتادة والضحاك: " تدعون " مخففا، وهما بمعنى، كما يقال: قدر واقتدر، وعدا واعتدى، إلا أن في " أفتعل ": معنى التكرير، و " فعل " يقع للتكرير ولغير التكرير. - ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.

أي: قل يا محمد للمشركين من قومك: أرأيتم أيها القوم إن أهلكني الله فأما تني ومن معي، أو رحمنا فأخر في آجالنا، فمن يجيركم من عذاب مؤلم (أي: موجع) وهو (عذاب) النار؟! أي: ليس ينجيكم من عذاب الله موتنا ولا حياتنا، فلا حاجة بكم (إلى) أن تستعجلوا قيام الساعة ونزول العذاب، فإن ذلك غير نافعكم بل هو (بلاء) عليكم. - ثم قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)}. أي: قل لهم يا محمد: ربنا الرحمن، صدقنا به وعليه توكلنا، أي: اعتمدنا في جميع [أمورنا]. {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}. أي: فستعملون أيها المشركون من هو في ذهاب عن الحق، نحن أم أنتم. - ثم قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً. . .}.

أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتم أيها القوم العادلون عن الحق إن أصبح [ماؤكم غائراً] لا تناله الدلاء، فمن ذا الذي يأتيكمم بماء معين غير الله؟! أي: بماء تراه العيون ظاهراً. وقال ابن عباس: بماء معين: " بماء عذب ". وقال ابن جبير: بما ظاهر. وقال قتادة: المعين: الجاري، وغوراً: ذهاباً، وكذلك قال الضحاك. وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون " معين " فعيلا من معن الماء إذا كثر، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول. والأصل فيه معيون، مثل مبيع. فيكون معناه على هذا: بماء يُرى بالأعين.

القلم

بسم الله الرحمن الرحيم سورة نون والقلم مكية - قوله تعالى: {[ن] والقلم} إلى قوله: {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ}. قال ابن عباس: " ن هو الحوت. قال: أول ما خلق الله جل ذكره القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلقت منه السماوات، ثم خلق الحوت، فبسط الأرض على ظهر النون، فتحركت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال

لتفخر على الأرض. وهو قول مجاهد. وقال أبو هريرة: الأرضون على نون، ونون على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة لها أربعة أركان، على كل ركن منها ملك قائم في الماء. وعن ابن عباس أيضاً من رواية عكرمة عنه: " ن " حرف من حروف الرحمن. وروى معاوية بن قرة عن أبيه رفعه إلى النبي A أن نون لوح من نور ".

وروى ثابت البناني عن ابن عباس أيضاً نون: الدواة والقلم: هو القلم المعروف. قال: خلق الله النون - وهي الدواة - وخلق القلم فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فجور، ورزق مقسوم حلال أو حرام، قال: ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه/ دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف، ثم جعل على العباد حفظة، وجعل للكتاب خزانا، والحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم. يريد: قبل أن يمله العبد، [فيعمل العبد] في ذلك اليوم على ما [نسخته] الحفظة من عند الخزان لا يزيد ولا ينقص. هذا التفسير ليس من كلام ابن عباس، وهو معنى قوله " وقد تقدم نحوه في " الجاثية ". قال ابن عباس: فإذا فني الرزق وانقطع الأمر [وانقضى] الأجل، أنت

الحفظة الخزنة فيطلبون عمل ذلك اليوم، فتقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً، فيرجع الحفظة فيجدونه قد مات. ثم قال ابن عباس: ألستم قوماً عرباً تستمعون الحفظة؟! يقولون: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟!. وروى معمر عن الحسن وقتادة أن نون هو الدواة. وروى ابن جبير عن قتادة أن {[ن] والقلم}: قسم، (قال): يقسم ربنا بما شاء، وهو قول ابن زيد. وقيل: هو اسم من أسماء السورة. وقيل: هو تنبيه.

وقيل: التقدير: ورب نون. والقلم هو المعروف، لكن أقسم ربنا بالقلم الذي جرى بأمره [بما] هو كائن إلى يوم القيامة. وقال زياد بن الصلق لابنه لما حضرته الوفاة: أي بني، اتق الله، واعلم أنك لم تتق الله ولم تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خير وشره [حلوه ومره]، إني سمعت رسول الله A يقول: " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ D: القَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فقال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكْتُب الْقَدَرَ. قال: فَجَرى القلمُ في تلك الساعة بما كان (وبما هو [كائن]) إلى الأبد ".

وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: إن مما خلق الله لوحاً من لؤلؤة [أو درة] بيضاء دَفَّتاه من [ياقوته] حمراء، قلمه وكتابه نور ينظر فيه ستين وثلاث مائة نظرة، في كل نظرة منها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.

وقوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ}. معناه: والذي يخطون، يعني يكتبون، كأنه تعالى أقسم بأفعال الخلق هذا على أن تكون " ما " بمعنى " الذي "، فإن جعلتها والفعل مصدراً كان القسم بالكتاب. وقال قتادة: {وَمَا يَسْطُرُونَ}: يخطون. وقال ابن عباس: يكتبون، وكذلك قال مجاهد. وقيل المعنى: وما تكتب الحفظة من أعمال بني آدم. وروى أحمد بن صالح عن ورش: [يصطرون] بالصاد لأجل [الطاء]،

والأصل (السين). - ثم قال تعالى: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}. " ما " ما جواب القسم. وهي نفي للجنون عن النبي A، لأن المشركين ر (موه) بالجنون مرة، وبالسحر مرة، وبالكهانة (مرة). والجنون ستر العقل. ومنه قيل: جن عليه الليل وأجنة إذا ستره. ومنه: الجنين، لأنه كان مستوراً في البطن، ومنه قيل للقبر: جَنَنْ منه سمي الجن حناً لاستتارهم عن أعين الناس. وسمع من العرب على غير قياس: أجن فهو مجنون. والقياس: مجن. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}. أي: إن لك، يا محمد، على صبرك على أذاهم لك ثَوَاباً عظيماً {غَيْرَ مَمْنُونٍ}، أي: غير منقوص ولا مقطوع، ومنه قيل حبل منين، أي: ضعيف. وقيل: غير منقوص ولا مقطوع، ومنه قيل حبل منين، أي: ضعيف. وقيل: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: لا يمن به عليك.

وقال مجاهد: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: غير محسوب. - ثم قال تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. أي: لعلى أدب عظيم. وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله (به)، وهو الإسلام وشرائعه. وقال ابن عباس: {خُلُقٍ عَظِيمٍ}، أي: لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. قال قتادة: سئلت عائشة Bها عن خلق رسول الله، فقالت: كان خلقه القرآن. وقال علي Bهـ: {لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}: أدب القرآن.

وعن النبي A أنه قال: " أكملُ الناسِ إيماناً أحسنُهم خلقاً، تأوله قوم: أحسنهم ديناً وطريقة على ما تأول ابن عباس: الآية. وقيل: الخلق العظيم هو ما كان من البشاشة والسعي في قضاء حوائج الناس وإكرامهم والرفق بهم. - ثم قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} {بِأَييِّكُمُ المفتون}. [أي: فسترى يا محمد ويرى المشركون بأيكم المجنون، وهذا تأويل

مجاهد؟ وقيل: المعنى: " بأيكم الجنون]، فيكون المفعول وقع [موقع] المصدر، كما يقال: ما له معقول، أي: عقل وهو قول ابن عباس والضحاك. وقيل الباء زائدة، والمعنى: [فسترى] ويرون أيكم المجنون. وقيل: المعنى: بأيكم فتنة المفتون، قاله المبرد. وقال مجاهد: {بِأَييِّكُمُ المفتون} أي: الشيطان.

وقيل: المعنى: أيكم أولى بالشيطان، فالباء (أيضاً) زائدة على هذا القول. روي/ ذلك عن قتادة. وقل: الباء بمعنى " في "، والتقدير: في أيكم فتن المفتون). وقال المازني: التمام: فستبصر ويبصرون، وهذا على زيادة الباء، والتقدير: فستبصر ويبصرون يوم القيامة، ثم ابتدأ: أيكم المفتون. وقال الأخفش: المفتون بمعنى الفتنة. والتقدير: بأيكم الفتنة، وهذا التمام [عنده]. - ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ. . .}.

أي: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن طريق الحق، وهو أعلم بمن اهتدى، فاتبع الحق. وهذا من معاريض الكلام، والمعنى: إن ربك يا محمد هو أعلم بك وأنك المهتدي، وأن قومك هم الضالون. وهو مثل قوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]. - ثم قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ. . .}. أي ود المشركون لن تكفر بالله فيتمادون على كفرهم، قاله ابن عباس والضحاك وسفيان. وعن ابن عباس أيضاً معناه: " وَدّ المشركون لو ترخص لهم فيرخصون ". وقال مجاهد: معناه: ود المشركون لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من

الحق (فيمالتوك).قال الفراء: الادها: التليين [لمن لا ينبغي التليين] له. فالتقدير: وَدّ المشركون لو تلين لهم في دينك بجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادة إلهك، وهو قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74]، وهو مأخوذ من الدهن، شبَّه التليين في القول بتليين الدهن. - ثم قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ}. (أي: لا تطع يا محمد كل ذي إكثار للحلف بالباطل {مَّهِينٍ}: أي: ضعيف. قاله الحسن. وقال ابن عباس: المهين: الكذاب. وقال مجاهد: الضعيف القلب.

وقال قتادة: هو المكثار في البشر. وقيل: معناه: مهين عند الله وعند المؤمنين أي: حقير. وقيل: مهين بمعنى: مهان، و " فعيل " يأتي بمعنى " مُفعَل ". وروي أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، ثم هي في كل من كان مثله. - ثم قال تعالى: {هَمَّازٍ}. أي: يهمز الناس - وأصله الغمز - أي: يعيبهم. وقال ابن زيد: هو الذي [يغمز] الناس بيده [ويضربهم] وليس باللسان.

واللماز: الذي يذكرهم من ورائهم. (وقيل: هما جميعاً [لمن] يذكر الناس من ورائهم). قال قتادة: {هَمَّازٍ} (أي) " يأكل لحوم المسلمين ". قال أبو عبيد: " بعد ذلك " أي: مع ذلك. وقال: والزنيم (هو) المعلق بالقوم [وليس] منهم. وعن ابن عباس أيضاً أن الزنيم: [الظَّلُوم]. وقال شهر بن حوشب: " هو [الجِلْفُ] الجافي الأكول الشروب من

[الحرام]. وقال عكرمة: " الزنيم: الذي يعرف باللوم كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال أبو رزين: هو الفاجر. وقيل: نَزَلَتْ في الوليد بن المغيرة. وسئل ابن عباس عن الزنيم، فقال هو " [الدعي] ". واشتقاقه: الزنمة التي في حلق الشاة. كما يقال لمن يدخل في قوم وليس. منهم: زِغْنَفَة. والزِّعْنِفَة: الجناحُ من أجنحة [السَّمَكِ ". ذكره المبرد بفتح [الزاي]، وذكره غَيْرَهُ بالكسر.

وعن ابن عباس أيضاً أن الزنيم هو رجل من قريش كانت له زنمة مثل زنمة الشاة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه ق ل: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ} ما عرفناه حتى قال {زَنِيمٍ} فعرفناه، وكانت له زنمتان [كزنمتي] الشاة. وروى عنه ابن جبير أن الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها، وهو قول الشعبي. العتل: الجافي الشديد في كفره. وكل قوي شديد [جاف] فالعرب تسميه عتلاً. وقال الفراء: العتل هنا: الشديد الخصومة بالباطل. قال الشعبي: نزلت في [الأخنس بن شريق].

وقال مجاهد: نزلت في الأسود بن عبد يغوث أو عبد الرحمن بن الأسود. - ثم قال تعالى: {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ}. أي: يسعى بالنمائم بين الناس. قال ابن عباس: " بنميم: ينقل الكذب. يقال: نميم ونميمة ". وقال قتادة: بنميم: " بنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض ".

12

وقال النبي A: " لا يدخل الجنة قتات "، وهو النمام. - قوله تعالى: {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ} إلى قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}. أي: [بخيل] بالمال عن إخراجه في الحقوق، معتد على الناس في معاملته إياهم {أَثِيمٍ}: مأثوم في أعماله لمخالفته أمرَ رَبِّه. وقيل: {أَثِيمٍ}: ذي إثم. - قال تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ}. - ثم قال تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ

الأولين}. أي: (أَلأَِنْ) كان صاحب مال وبنين تطيعه/ على وجه التوبيخ لمن أطاعه، ثم أخبر عنه أنه يقول: إذا قرئت عليه آيات الله -: هي أساطير الأولين استهزاءً أو إنكاراً لها أن تكون من عند الله. " فَأَنْ " مفعول من أجله متعلقة بما بعدها أي: من أجل أنه ذو مال وبنين يقول: - {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين}. ويجوز أن (تكون) أن " في موضع نصب متعلقة بقوله ": {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}، (أي): يفعل ذلك لأنْ كان ذا مال وبنين، فهي أيضاً مفعول من أجله. هذا على قراءة من قرأ: " أن كان " بغير استفهام، ومن قرأه بالاستفهام فهو إنكار وتوبيخ " لمن يطيعه أيضاً، والمعنى: أَلأَِنْ كان هذا الحلاّف المهين

(الهماز) المشاء بنميم القناع للخير، [المعتدي] الأثيم ذا مال وبنين تطيعه؟! ويحتمل أن يكون توبيخاً وتقريعاً لهذا الحلاف المهين. والمعنى: أَلأَِنْ كان هذا الحلاف ذ مال وبنين يقول - إذا تتلى عليه آياتنا -: هي أساطير الأولين: فيحسن الابتداء بالاستفهام على ها الوجه، ولا يحسن الابتداء: " بأن كان ذا مال " في الوجهين الأولين؛ لأنه متعلق بالمخاطب. ومعنى {أَسَاطِيرُ الأولين}: أي: كتبهم وأخبارهم وهو جمع أسطورة. - ثم قال تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم * إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة. . .}. قال ابن عباس: معناه: سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك فيه سمة، أي: علامة، قال: وقد قاتل الذي نزلت فيه هذه الآية يوم بدر فخُطِم بالسيف في القتال.

وقال قتادة: هو شين لا يفارقه. وروي عنه: شين على أنفه. قال المبرد: الخرطوم من الإنسان الأنف. ومن السباع موضع الشفة. والمعنى عنده: سَنَسِمُه على أنفه يوم القيامة بما يشوه خلفه وَيَعْرِفهُ بِهِ من شَهِدَه في القيامة أنه من أهل النار. وقيل: معناه: سنعلق به عاراً وسبة حتى يكون (بمنزلة من وسم على أنفه). وقيل: المعنى: سَنُسَوّد وجهه، فاستعير الأنف في موضع الوجه لأنه منه. وقيل: الخرطوم هنا: الخمر.

- ثم قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ}. أي: إنا بلونا قريشاً، أي: امتحناهم ما امتحنا أصحاب الجنة، إذا حلفوا ليصرمن ثمرها إذا أصبحوا ولا يقولون: إن شاء الله. قال عكرمة: هم أناس من الحبشة، كانت لأبيهم جنة، وكان يطعم المساكين (منها، فلما مات أبوهم قال بنوه: والله ما كان أبونا إلا أحمق حين يطعم المساكين)، فأقسما لَيَصْرِمُنَّها مصبحين ولا يطعمون مسكيناً. قال قتادة: كان أَبُوهُم تتصدق، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة وكان يمسك قوت سنة، وينفق وتصدق بالفضل، فلما مات أبوهم، غدوا عليها وقالوا: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. [وقال] ابن عباس: كانوا (أهل) كتاب.

والصَّرْم في اللغة: القطع، وهو الجَذَاذ. - ثم قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ}. أي: فطرق جنتهم ليلاً أمر من الله فأصبحت الجنة كالليل المظلم. قاله ابن عباس. وروي أن الله أرسل عليها ناراً فأحرقت الزرع. وقيل: الصريم أرض باليمن يقال [لها] [ضروان] من صنعاء، على ستة أميال.

وقيل: (كالصريم) كالزرع الذي حُصِد. ويقال: لِلَّيْلِ صَرِيمٌ، وللنهار صريم، لأن كل واحد ينصرم عن الآخر. - ثم قال: {فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ}. (أي): فنادى بعضهم بعضاً بعد الصباح أن اغدوا الحصاد زرعكم إن كنتم حاصدين له. {فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}. أي: فمضوا إلى حرثهم وهم يَتَسَارُّون بينهم في الخفاء، يقول بعضهم لبعض: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. - ثم قال تعالى: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ}.

أي: وغدوا إلى جنتهم على قدرة في أنفسهم [وَجِدٍ]. قاله مجاهد. قال قتادة: غدا القوم وهم محردون إلى جنتهم قادرين عليها في أنفسهم. قال ابن زيد: " على جد قادرين في أنفسهم ". وقل: المعنى: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} [على] أمر أسَّسوه بينهم. وقال الحسن: {على حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي: حاجة وفاقة. وقال سفيان {على حَرْدٍ} " على حَنَقٍ ". وقال أبو عبيدة: {على حَرْدٍ}: على منع. وقيل " على قصد ".

ومعنى " قادرين " عند الفراء: أي: قد قدَّروا هاذ [وبنوا] عليه. وقيل: قادرين عند أنفسهم على ما دبروا من حصادها ومنع المساكين منها. - ثم قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ}. (أي): فلما رأوا جنتهم محترقاً حرثها أنكروها وظنوا أنهم غلطوا، فقال بعضهم لبعض: إنا لضالون الطريق إلى جنتنا، فقال من علم أنها جنتهم: بل نحن أيها القوم محرومون. قال قتادة: {إِنَّا لَضَآلُّونَ} قد أخطأنا الطريق، ما هذه/ جنتنا، فقال بعضهم ممن عرفها: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: قد حرمنا نفعها. - ثم قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ}. أي: قال لهم [أعدلهم] ألم أقل لكم، هلا تستثنون إذا قلتم لنصر

منها مصبحين، فتقولون إن شاء الله؟! قال مجاهد: لولا تسبحون، أي: تستثنون، وكان التسبيح فيهم الاستثناء. وأصل التسبيح في اللغة: التنزيه، فجعل قولهم " إن شاء الله " معناه تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وظاهر [الآية] [يدل] على التسبيح بعينه، إذ بعده {قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}. أي: (ظالمين) في منعنا المساكين أن يأخذوا ما يجب علينا. - ثم قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ}.

أي: فأقبل بعضهم ليوم بعضاً على تفريطهم في الاستثناء وإطعام المساكين. - {قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}. قالوا: [تعالى] يا ويل إلينا، فهذا وقت حضورك. وهذا شيء تقوله العرب عن الأمر العظيم: احضر يا ويل، فهذا من إبَّانك ووقتك. - {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}. أي معتدين مخالفين أمر الله. فندموا على ما فعلوا فأبدلهم الله خيراً منها. (يقال): إن التي أبدلوا الطائف اقتلعها جبريل عليه السلام من الأردن، وطاف بها حول البيت، ثم أنزلها في وادي ثقيف. - ثم قال {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ. . .}.

34

أي: عسى (ربنا) أن يعطينا بتوبتنا خيراً من جنتنا. - {إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}. في ذلك. - قال تعالى: {كَذَلِكَ العذاب. .}. أي: كفعلنا بجنة هؤلاء فعلنا بمن كفر وخالف أمرنا في عاجل الدنيا. - {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ. . .}. عقوبة لمن عصى الله. {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}. (أي لو لكانوا يعلمون) أن عقوبة الآخرة أعظم من عقوبة الدنيا. - قوله تعالى: {إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم} إلى قوله: {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين}؟ (أي): إن للذين اتقوا عقوبة ربهم [فأطاعوه] بساتين (النعيم) الدائم في

الآخرة. - ثم قال: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين}. أي: أفنجعل - أيها الناس - كرامتي في الآخرة للذين أطاعوني كالذين عصوني؟! {مَا لَكُمْ. . .} أيها الناس {كَيْفَ تَحْكُمُونَ}. إذ تجعلون المطيع كالعاصي؟! - ثم قال تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ}. أي: ألكم - أيها القوم - بتسويتكم الطائع كالعاصي - كتاب نزل من عند الله أتاكم به رسول أن الطائع كالعاصي فيه تقرؤون؟! وقيل: المعنى: تدرسون أن لكم فيه لما تَخَيَّرون. (فتدرسون) عاملٌ في المعنى في {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}، [لكن] منعت اللام في " لما " من فتح " إن " (بتدرسون]. ومثله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}. والتقدير: أن لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة، فإن لكم لما تحكمون. وهذا كله منقطع عند البصريين غير متصل بما قبله، ولا يجوز

عندهم تعلق " تدرسون "، إنما تعلق أفعال الشك لاغير. - ثم قال تعالى: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ}. أي: إن لكم في ذلك لما تخيرونه، وهذا توبيخ وتقريع لهم لما كانوا يتقولون من الكذب. - ثم قال تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة}. أي: هل لكم ذلك، أي: ليس لكم أيمان على الله تنتهي بكم إلى يوم القيامة بأن لكم حكمكم في ما تتولون. وكسرت الألف من " إنّ " لدخول اللام في " لمَا ". وقيل: " بالغة " [وثيقة]، أي: بالغة النهاية في التأكيد. - ثم قال تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ [زَعِيمٌ]}. أي: سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين (المتحكمين) على الله، أيهم كفيل بأن

لهم علينا أيماناً بالغة إلى يوم القيامة؟ وقيل: " زعيم " معناه: ضمين. والزعيم أيضاً المتكلم عن القوم. - ثم قال تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ. . .}. أي: ألهم شركاء (بعيونهم) ويشهدون لهم بذلك ويحتجون عنهم فيما يدعون فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في قولهم فتكون الحجة على جميعهم أبين و [آكد]. - ثم قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ (عَن سَاقٍ) وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}. أي: اذكر يا محمد يوم يبدو [أمر] عظيم، وذلك يوم القيامة.

قال ابن عباس: يوم يكشف [عن ساق]، هو يوم كرب وشدة وأمر عظيم. وقرأ ابن عباس: " يوم نَكشِف " بالنون. وقرأ ابن مسعود: " يوم يَكشِف " بفتح الياء وكسر الشين. وعن ابن عباس أيضاً أنه قرأ " يوم تَكشِف " بالتاء، يريد القيامة تكشف عن أهوالها. وروى مجاهد عن ابن عباس: " عن ساق " قال: هي أول ساعة من القيامة، وهي [أفظعها] و [شدها]. وقال ابن جبير: " عن ساق ": عن شدة الأمر ".

وقال قتادة {عَن سَاقٍ} عن أمر فظيع/ لهم جليل. وعن ابن مسعود أنه قال: " يتمثل للخلق، يعني يوم القيامة، حتى يمر المسلمون فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئاً، [فينتهرهم] مرتين أو ثلاثاً، فيقولون: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: سبحانه، إذا اعترف لنا عرفناه. (قال): فعند ذلك يكشف عن ساق فلا يبقى مؤمن إلا خر لله ساجداً، ويبقى المنافقون ظهروهم طبق كأنما فيها السفافيد، فيقولون: ربنا! فيقول: قد كنتم تَدْعُوْنَ إلى السجود وأنتم سالمون. قال أبو محمد: فمعنى يكشف لهم عن ساق، أي: عن أمر عظيم وقدرة لا يقدر عليها إلا الله. فيعرفونه تعالى [أظهر] من قدرته إليهم. ولا يحل لأحد

أن [يتأول] في هذا وما شابهه جارحة، إذ ليست صفات الله كصفات الخلق، كما أنه ليس كمثله شيء، فاحْذَرْ أن يتمثل في قلبك شيء من تشبيه الله بخلقه، [فغير] جائز في الحكمة والقدرة أن يكون المخلوق يشبه الخالق في شيء من الصفات، ومن شبه الخالق بالمخلوق فقد أوجب على الخلق الحدث، وكفر وأبطل التوحيد، إذ في ذلك نفي القدم عن الخالق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرً. وقال ابن مسعود: ينادي مناد يوم القيامة: أليس عدلاً منكم أن ربكم خلقكم ثم صوركم ثم رزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد (منكم ما تولى؟! فيقولون: بلى، قال: فيمثل لكل قوم آلهتهم التي كانوا) يعبدونها، فيتبعونها حتى توردهم النار، ويبقى أهل [الدعوة]، فيقول بعضهم لبعض: ماذا تنتظرون؟ (ذهب الناس)! فيقولون: ننتظر أن ينادى [بنا]. قال: فيجيء في صورة، فذكر منها ما

شاء الله، فيكشف عما شاء الله أن يكشف، فيخرون سجدا إلا المنافقين، فإ نه يصير فَقَارُ أصلابِهِمْ عَظْماً واحداً مثل [صياصي] البقر، فيقال لهم: ارفعوا رؤوسكم إلى نوركم. ثم ذكر قصرة طويلة. وذكر أبو سعيد الخدري: عن النبي A نحو ذلك وأطول. والعرب تقول: انكشف الأمر عن ساق، أي: عن هول وأمر غليظ شديد. وأصل هذا أن الرجل إذا جد في أمر فيه صعوبة وشدة تشمر وكشف عن ساقه، فجعل الساق في موضع الشدة.

وقوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}. أي: [ويدعى] أهل النفاق إلى السجود لله عند ظهور الأمر الشديد فلا يستطيعون السجود. ودل على على أن الاستطاعة قبل الفعل، لأن الكلام على أنهم كانوا قبل ذلك يستطيعون السجود فتركوه. ودعاؤهم إلى السجود إنما هو على طريق التوبيخ لهم ليوقفوا على فعلهم في الدنيا إذا دعوا إلى السجود وهم سالمون لينتفعوا به فلم يفعلوا. روي أن أصلابهم تجف عقوبة فلا يطيقون السجود. ثم قال: {خاشعة أبصارهم تَرْهَقُهُمْ (ذِلَّةٌ). . .}. أي: خاضعة ذليلة أبصارهم [تغشاهم] ذلة من عذاب الله. والعامل في " يوم يكشف " قوله: {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} أي: فليأتوا بالشركاء يوم يكشف، أي يوم القيامة. لم يرد الإتيان بها في الدنيا لأنهم يقدرون على ذلك في الدنيا، ولا يقدرون عليه في الآخرة، " فيأتوا " هو العامل في " يوم يكشف ". ويجوز أن يعمل فيه فعل

[مضمر] أي: اذكر يوم يكشف. ثم قال تعالى: {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سالمون. . .}؟ (أي): وقد كانوا في الدنيا يدعون (إلى) أن يسجدوا لله وهم سالمون الجوارح، لا يمنعهم من ذكل مانع فلم يفعلوا. وقيل: السجود (الذي) (كانوا) يدعون إليه في الدنيا هو الصلاة المكتوبة. قال الشعبي. وقال ابن جبير: كانوا يسمعون النداء للصلاة فلا يجيبون. قال ابن عباس: هم الكفار، كانوا يدعون إلى السجود في الدنيا وهم آمنون، فاليوم يدعون وهم خائفون. وروى قتادة أن النبي A قال: " يُؤْذَنُ للمؤمنين يَومَ القيامةِ في السّجودِ

فَيَسْجُدُ المُؤمِنُونَ، وَبَيْنَ كُلِّ مُؤمنين مُنَافِقُ فَيَقْسُو ظَهْرُ المُنَافِقِ عَنِ السُّجُوجِ، ويجْعَلُ اللهُ سُجُودَ المؤمنين على المنافقينَ تَوْبِيخاً وَصَغَاراً وَذُلاًّ وَنَدَامَةً وَحَسْرَةً ". - ثم قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث. . .}. هذا تهديد ووعيد من الله للمكذبين بكتابه، كما يقول الرجل للرجل يتوعده: دعني وإياك، وخلني وإياه. وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}. أي: سنكيدهم من حيث لا يعلمون، وذلك أن يمتعهم بمتاع الدنيا حتى يظنوا أنهم إنّما مُتِّعُوا به الخير لهم عند الله فيتمادون في طغيانهم، ثم [يأخذهم] بغتة [وهم] لا يشعرون. فيكون معنى: " سنستدرجهم ": سنمتعهم ونوسع عليهم في الدنيا حتى يتوهموا أن لهم خيراً ويغتروا بالنعم. روي عن النبي A أنه قال: إن الله يُمْهِل الظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْهُ، وقرأ:

{وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} وحقيقة الاستدراج أن يأخذه ببأسه قليلاً ولا يُجَاهِرُه، وهو من الدرج الذي يُصعَد وَيُنْزَل منه قليلاً قليلاً. - ثم قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}. أي أنْسِئُ لهم في آجالهم ملاوة من الزمان، وذلك [برهة] / من الدهر على كفرهم وتمردهم على الله [لتتكامل] حجج الله عليهم. - وقوله: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}. أي: إن كيدي بأهل الكفر قوي شديد. - ثم قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ}. أي: أم تسألهم يا محمد على إنذارك لهم ونصحك إياهم جُعلاً [فهم]

مثقلون [مما] يعطونك من الجُعْل؟ أي: لست تسألهم ذلك، فما بالهم لا يقبلون نصحك. - ثم قال تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ}. أي: أعندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيوب كلها فهم يكتبون منه [ما يجادلونك] به، ويزعمون أنهم على كفرهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به. - قال تعالى: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت. . .}. يعني: يونس، أي فاصبر يا محمد على أداء (الرسالة) لقضاء ربك [فيك وفي هؤلاء] المشركين، ولا تستعجل لهم العذاب فتكن كصاحب الحوت، يعني يونس إذ خرج عن قومه حين تأخر العذاب عنهم. - واذكر {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ}.

أي: إذ نادى ربه من بطن الحوت وهو مغموم لا يجد من يتفرج إليه. قال قتادة: ولا تكن كصاحب الحوت في العجلة والغضب، أي: لا تعجل كما عجل ولا تغضب كما غضب. - ثم قال تعالى: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ. . .}. (أي رحمة - فرحمه) {لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ}. (أي: لولا أن الله رحمه وسمع دعاءه من بطن الحوت فأجابه لطُرِحَ بالفضاء من الأرض وهو مذموم) قال ابن عباس: مذموم " مليم ". وقيل مذموم: " مذنب ". - ثم قال تعالى: {فاجتباه رَبُّهُ. . .}. أي: فاختاره واصطفاه. - {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين}. أي: اختاره للنبوّة فجعله صالحاً، أي: رفعه للعمل الصالح.

51

وقيل: معناه: فوصفه من الصالحين. حكى سيبويه: " جعل بمعنى " وصف ". - قوله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ. . .} إلى آخرة السورة. قال الفراء: هذا من إصابة العين. والتقدير: وإن يكاد الذين كفروا مما عاينوك يا محمد بأبصارهم ليأخذونك بالعين فَيَرْمونَكَ ويصرعونك كما ينصرع الذي يَزْلِق في الطين ونحوه، لأنهم كانوا يقولون: ما رأينا [مثل] حججه ولا مثله. وقيل: المعنى: أنهم كانوا من شدة نظرهم إليه [وتغيظهم] عيه أن يزلقوه من مكانه. يقال: أَزْلَقَ الحَجّام الشَّعرَ وَزَلَقَهُ: إِذا حَلَقَه.

- ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}. أي: ويقول الكفار: إن محمداً لمجنون. قال ابن عباس: ليزلقونك بأبصارهم: أي ينفدونك من شدة نظرهم، من قولهم: زلق السهمر وزهق إذا نفذ. وقال ابن مسعود: ليزلقونك: لَيُزْهِقُونَكَ. وقال مجاهد: " لينفِذونَك بأبصارهم ". وقال قتادة: ليصدونك.

- وقوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر. . .}. أي: لما سمعوا كتاب الله يتلى. - ثم قال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}. أي: ليس لاذي جاء به محمد جنوناً بل هو ذكر للعالمين، أي: للجن والإنس. وقيل: المعنى: " بل محمد ذكر للعالمين ".

الحاقة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحاقة مكية قوله تعالى: {الحاقة * مَا الحآقة} إلى قوله: {فِي الجارية}. كأن الأصل: الحاقة، ما هي؟ لتقدم ذكرها، إلا أن إعادة الاسم بلفظه أفخم إذا لم يُشْكِل المعنى. و" الحاقة " ابتداء، و " ما " ابتداء ثان، و " الحاقة ": حبر " ما "، و " ما " وخبرها خبر عن " الحاقة " الأولى، ومثله: {القارعة * مَا القارعة}. ومعنى الكلام أنه على التعظيم، والتقدير: الساعة الحاقة: أي: شيء هي!، ما أعظمها وأجلها وأشدها. ومعنى الحاقة: التي تحق فيها الأمور ويجب فيها الجزاء على الأعمال.

قال ابن عباس: " الحاقة اسم من أسماء القيامة، عظمه الله وحذره عباده ". وقال قتادة: الحاقة: القيامة حقت لكل عامل ما عمله. - ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة}. أي: واي شيء يدرك ويعرفك أي شيء الحاقة؟! [وهذا] كله تعظيم ليوم القيامة. - ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة}. أي: كذبت ثمود قوم صالح، وعاد قوم هود بالساعة التي تقرع قلوب العباد بهجومها عليهم. قال ابن عباس: {بالقارعة}: بيوم القيامة. وقال قتادة: بالساعة. - ثم قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية}.

أي: بطغيانهم وكفرهم بالله وباليوم الآخر. قال مجاهد: {بالطاغية} بالذنوب. قال ابن زيد: {بالطاغية} بطغيانهم، واستدل على ذلك بقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] بالصيحة، كأنها صيحة تجاوزت مقادير الصياح فطغت عليهم. وهو اختيار الطبري؛ لأن الله إنما أخبر عن يموج بالمعنى الذي أهلكوا به لا الذي أهلكوا من أجله (ودليل ذلك/ إخباره تعالى عن عاد بالمعنى الذي أهلكوا به وهو الريح ولم يخبر بالذي هلكوا من أجله). وقيل: المعنى: بالفئة الطاغية. (وقيل): بالفعلة الطاغية.

وقيل: بالجماعة الطاغية. وقيل: المعنى: بالأخذة الطاغية. وسميت الآخذة طاغية لأنها جاوزت القدر في الشدّة. فالمعنى: فأهلكوا بالأخذة التي جاوزت القدر [فطغت عليهم]. دليله: قوله في عاد: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}، فذكر الشيء [الذي] أهلكوا من أجله، فإنما وصف العذاب الذي أُهْلِكَ به الطائفتان، فهو ظاهر اللفظ وكُلُّ قَدْ قِيل. - وقوله: {عَاتِيَةٍ}. ليس (هو) من العتو الذي هو العصيان، إنما هو من العتو الذي هو بلوغ

الشيء وانتهاؤه في قوته وقدره، ومن قولهم: عتا: إذا بلغ منتهاه، ومنه قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8]. ثم قال تعالى: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} إلى قوله: {فِي الجارية}. أي: بريح شديدة العصوف مع شدة بردها. قال ابن عباس: {عَاتِيَةٍ}: أي: " مهلكة باردة عنت عليهم بغير رحمة ولا بركة (دائمة) لا تفتر ". قال قتادة: " الصرصر: " الباردة، عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم. قال ابن عباس: ما أرسل الله من ريح قط إلا بمكيل، ولا أنزل قطرة إلا بمثقال إلا يوم نوح ويوم عاد، فإن الماء يوم نوح طغى على خَزّنه فلم يكن لهم عليه سبيل، ثم قرأ: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية}، قال: وإن الريح عتت على خَزّانها فلم يكن [لهم]

[عليها] من سبيل، وقرأ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}. وقال علي بن أبي طالب: لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي مَلك، فلما كان يوم نوح أذِنَ للماء دون الخزَّان، فطغى الماء على الجبال فخرج، فذلك قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} إلى قوله: {فِي الجارية}، ولم ينزل شيء من الريح إلا بمكيال على يَدَيْ مَلَك إِلاَّ يومَ عاد، فإنه أُذِنَ لَهَا دون الخُزَّان، فخرجت فذلك قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} عتت على الخزان. قال ابن زيد: " الصرصر [الشديدة]، والعاتية: القاهرة التي عتت عليهم فقهرتهم ". قال الضحاك: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} يعني: باردة، {عَاتِيَةٍ} يعني: عتت عليهم بغ ير رحمة ولا بركة. - ثم قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. . .}.

أي: سخر تلك الريح على عاد {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً}. قال ابن عباس: {حُسُوماً}: " تباعاً ". وقال مجاهد: متتابعة، [وقاله] عكرمة وقتادة. (وعن قتادة)؛ متتابعات. وهو قول سفيان. وقال ابن زيد: {حُسُوماً}: تحسم كل شيء فلا تُبْقِي من عاد أحداً. وذكر ابن زيد عن عاد أنه كان فيهم ثمانية رجال لهم خلق عظيم، فلما جاءتهم الريح قال بعضهم: قوموا بنا نرد على هذا العذاب عن قومنا. قال: فقاموا وَصَفُّوا في الوادي، فأوحى الله إلى تلك الريح أن تقلع كل يوم

منهم واحداً وقرأ: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} حتى بلغ {خَاوِيَةٍ}. قال ابن زيد: وإن كانت الريح لتمر بالظعينة فتستدبر بها وبحمولتها ثم [تذهب] بهم في السماء ثم تكبهم على الرؤوس، ثم قرأ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]. قال: وكان قد أمسك عنهم المطر، فقرأ حتى بلغ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] الآية. قال: وما كانت الريح تقلغ كل يوم من الثمانية إلا واحداً. [قال]: لفما عذب الله قوم [هود] أبقى واحداً ينذر الناس.

والعرب تقول: حسمت الداء أي: قطعته (بمتابعة) العلاج (عليه)، وسيفٌ حسامٌ: أي: قاطعٌ. وقيل: {حُسُوماً} جمع حاسم، كجالس وجلوس. وقيل: هو مصدر [أي: ذات] حسوم. - ثم قال تعالى: {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى. . .}. أي: فترى يا محمد قوم هود في تلك السبع الليالي والثمانية الأيام الحسوم صرعى قد أهلكوا. - {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}. أي: كأنهم أصول نخل قد خَوت وتآكَلَتْ.

- ثم قال تعالى: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ}. أي: فهل ترى - يا محمد - لهم من جماعمة باقية. وقيل: من بقاء. وقيل: (من) بقية. - ثم قال تعالى: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ}. أي وجاء فرعون ومن قبله من الأمم الماضية المذكبة بالفعلة الخاطئة. ومن قرأ بكسر القاف وفتح الباء فمعناه: ومن معه من القِبْطِ. وقد رد أبو عبيد هذه القراءة لأنه قد كان فيه مؤمنون. وهذا لا يلزم، لأنه لفظ/ عام معناه الخصوص، أي: ومَن قِبَلَهُ من أهل دينه.

- وقوله {والمؤتفكات} يعني قوم لوط الذين ائتفكت عليهم مدائِنُهم إذْ أُهْلِكُوا أي: انقلبت عليهم. قال مجاهد: {بِالْخَاطِئَةِ}: " بالخطايا ". - ثم قال تعالى: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً}. أي: فعصى فرعون وقوم لوط رسول ربهم إليهم، والمعنى: فعصى كل قوم رسول ربهم إليهم. وقيل: " رسول " هنا بمعنى " رسالة ". قال ابن عباس: {أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي: " شديدة ". قال ابن زيد: رابية في الشر أي زائدة. ومنه الربا، ومنه: أربى فلان عَليك إذا خذ أكثر من حقه. - ثم قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية}.

12

أي: لما طغى الماء على الخزنة - بإذن الله له فخرج أكثر مما تقدر عليه الخزنة وتجاوز حده. والطغيان مجاوزة الحد. فقيل: إنه طغى على خزنته فلم يعرفوا له قدراً، وذلك بأمر الله له. حملنا آباءكم في السفينة الجارية. روي أنه زاد [فَعَلاَ كلّ شي] بقدر خمس عشرة [ذراعاً] قاله قتادة. قال ابن جبير: طغى الماء وزاد غضباً لغضب الله. [قوله] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً. . .} إلى [قوله] {على طَعَامِ المسكين}. أي: فعلنا ذلك لنجعل السفينة لكم عبرة وعظة وآية. قال قتادة: أبقى الله السفينة تذكرة وعظة وآية حتى نظر إليها أول هذه

[الأُمة]، وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رِمْدداً. - قال {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} .. [أي]: [ولتعي] هذه التذكرة أذن حافظة عقلت عن الله ما سمعت. " وروي أن النبي A قرأ: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى عَلِيِّ Bهـ فقال: سَاَلْتُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ. قال عَليٌّ: فَمَا سَمِعْتُ شَيْئاً مِنْ رَسُولِ اللهِ قَطّ فَنَسِيتُهُ. " وقال [بريدة]: " سمعت رسول الله A يقول لعلي: [يا علي]، إِنَّ اللهَ

أَمَرَني أَنْ [أُدْنِيْكَ] ولاَ أُقْصِيَكَ، [وَأنْ أُعَلِّمكَ] وَأَنْ تَعِيَ. وَحَق عَلَى الله أن [تَعِي]. قال: ونزلت: {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ". وقال أبو عمران الجَوْنِي: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [يعني]: أذن عقلت عن الله. - ثم قال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}. (أي: فإذا نفخ إسرافيل في الصور نفخة واحدة)، هي النفخة الأولى. - {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}.

أي [زلزلتا] زلزلة واحدة. قال ابن زيد: دكتا دكة واحدة: " صارت غباراً ". - ثم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة}. أي: قامت القيامة. - ثم قال تعالى: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}. أي: وانصدعت السماء فهي متشققة يومئذ. قال الضحاك: إذا كان يوم القيامة أمر الله جل ثناؤه السماء بأهلها ونزول من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها ثم الثانية ثم [الثالثة] إلى السابعة، فصفوا صفاً بين يدي صف ثم نزل الملِك الأعلى على مجنبته جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نَدّثوا فلا يأتون قُطُراً من أقطار الأرض، إلا وَجدوا سعبة صفوف من الملائكة مفيه، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 32 - 33].

وذلك قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]. - وهو قوله: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم [أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ] إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] (أي] بحجة، وهو قوله: {وانشقت السمآء}. إلى {على أَرْجَآئِهَآ. . .}. أي: على نواحيها وأطرافها حين تشقق. قال ابن عباس: على حافاتها، وذلك حين تشقق. وعن ابن جبير: {على أَرْجَآئِهَآ}: على حافات الدنيا.

وواحد الأرجاء [رجا] مقصور، وهو الناحية، يثني بالواو. والرجاء: الأملُ مَمْدُودُ. - ثم قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}. قال ابن عباس هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله، وهو قول الضحاك وعكرمة. وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك. وروي عن النبي A ( أنه قال): " يحمِلهُ اليَوْمَ أَرْبَعْةٌ، وَيَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَمَانِيَةٌ "، وأنه قال A: " إِنَّ أَقْدَامَهُمْ لَفِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ،

وإِنَّ مَنَاكِبَهُمْ لَخَارِجَةٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ عَلَيْهَا العَرِشُ "، قال ابن زيد: يريد الأربعة. قال ابن زيد: وبلغنا أن رسول الله A قال: " لمَّا خَلَقَهُمُ الله قال: تَدرون لِمَ خلقتكم؟ قالوا: خلقتنا ربنا لما شاء، قال لهم: تحملون عرشي، ثم قال: سَلوني من القوة ما شئتم أَجْعَلُهَا فِيكُم، فقال أحدهم: قد كان/ عرش ربنا على الماء فاجعلني في قوة الماء، قال: قد جعلت فيك قوة الماء، وقال آخر: اجعل في قوة السموات، (قل: قد جعلت فيك قوة السماوات. وقال الآخر: اجعل في قوة الأرض والجبال، قال: قد جعلت فيك قوة الأرض والجبال. وقال آخر: في قوة الرياح)، قال: قد جعلت فيك قوة الرياح. (ثم) قال: احملوا. قال: فوضعوا العرش على كواهلهم فلم يزولوا. قال: فجاء عِلْمٌ آخرِ، وإنما كان عِلْمُهُم الذي [سألوه] القوة. فقال لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله [العلي العظيم]. فقالوها، وجعل فيهم من الحول والقوة ما لم

يبغلوه بعلمهم فحملوا ". وروى ابن وهب عن أبيه أنه قال: أربعة من الملائكة يحملون العرش على أكتافهم، لكل واحد منهم أربعة أوجه: وجه ثور، ووجه [أسد]، ووجه نسر، ووجه إنسان. ولكل واحد منهم أربعة أجنحة: جناحان على وجهه من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وحناحان يقف [بهما]. ليس لهم كلام إلا (أن) يقولوا: قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات والأرض. وقال عطاء عن مَيْسَرَة [في قوله] {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}، قال: " أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور ". قال أبو محمد [مؤلفه Bهـ]: ما جاء في القرآن وهذه الأحاديث من النزول

والمجيء وشِبْهِ ذلك مضافاً إلى الله جل ذكره [فلا يجب] أن يُتَأَوَّلَ فيه انتقال " ولا حركة " على الله، إذ لا يجوز عليه ذلك، إذا الحركةُ والنقلةُ إنما هما من صفات المخلوقين. وكل ما جاء من هذا فإنما هو صفة من صفات الله لا كما هي من المخلوقين، فأجرها على ما أتت ولا تعتقد ولا تتوهم في ذلك أمراً مما شَهِدْتَهُ في الخلق، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقد قال جماعة من العلماء في وصف الله جل ذكره بالمجيء والإتيان والتنزيل: إنها أفعال يحدثها الله متى شاء، سماها بذلك، فلا تَتَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلاَ تُكَيِّفْ وَلاَ تُشَبِّهْ، وَتَقُولُ كَمَا قَالَ وَتنْفِي (عنه) - جل ذكره - التَّشْبِيهَ، ولا تَعْتَرِضْ في شيء مما أَتَى في كتابه من ذلك وما روي عن نبيه (منه) A. - ثم قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}. [أي]: ذلك اليوم تعرضون أيها الناس على ربكم فلا يخفى عنه من أعمالكم شيء.

وروي أنهم [يعرضون] ثلاث عرضات: قاله أبو موسى الأشعري وابن مسعود، قالا: فعرضتان فيه الخصومات والمقادير، والثالثة [تطاير] الصحف. قال أبو موسى: " فأخذ بيمينه، وأخذ بشماله ". وروى مثل ذلك قتادة عن النبي A. - ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرءوا كتابيه}.

أي: فأما من أعطي كتاب عمله بيمينه فيقول: تعالوا: {اقرءوا كتابيه}. وقال بعض [أهل اللغة]: أصل " هَاؤُمْ " " هاكم "، ثم أبدل من الكاف واو. - ثم قال تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ}. هذا من الظن الذي هو يقين، قوم ظنوا ظناً: فازوا به، وقوم ظنوا ظناً: شقوا [به]، وهو الظن الذي بمعنى الشك. والمعنى أن المؤمن يقول يوم القيامة حين أَخْذِ كتابه (بيمينه: أيقنت في الدنيا أني ملاق ما عملت إذا وردت يوم القيامة) على ربي. قال ابن عباس: ظننت: " أيقنت ". قال قتادة: ظَنَّ ظَنّاً يَقِيناً فنفعه الله به، وقال: " ما كان من ظن الآخرة فهو

علم " [يريد] من المؤمنين. - ثم قال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}. أي: عيش مرضي، وهو عيش الجنة. وجعلت " مرضية " نعتاً [للمعيشة]؛ لأن ذلك مدح [للعيشة]، كما يقال: " ليل نائم " " وسرٌّ كاتم " و " ماء دافق "، بمعنى " مفعول "؛ لأنه فيه بمعنى المدح، فكان نقله من بناء إلى بناء يدل على المدح أو [الذم]، ولو قلت: " رجل ضارب " بمعنى " مضروب " لم يجز؛ لأنه لا مدح فيه ولا [ذم]، فلا يقع بناء في موقع بناء إلا لمعنى زائد. - ثم قال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}. أي: رفيعة المقدار والمكان. - ثم قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}.

أي: ما يقطف من ثمارها دان، أي: قريب من قاطفه (يقطفه)، فكيف شاء - في حال قيام أو قعود أو اضطجاع - لا يمنعه منه بُعْدٌ، ولا يحول بينه [وبينه] [شوك]. - ثم قال تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية}. أي: كلوا/ من ثمرات الجنات غير مُكَدَّرٍ ولا منقص عليكم بما تقدم (لكم) من الأعمال الصالحات في الأيام الماضية في الدنيا لأخراكم. قال قتادة: هذه الأيام الخالية فانية تؤدي إلى أيام باقية، فاعملوا في هذه الأيام وقَدِّما فيها خيراً إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. ويقال: من عمل في الزمان الذي لا بقاء فيه أَوْصَلَهُ إلى نَعِيمِ الزمان الذي لا زَوَالَ لَهُ. ويقال: إنه صيام في أيام الدنيا. روي أنه يوضع يوم القيامة للصوام في

الدنيا مائدة يأكلون عليها الناس في الحساب، فيقولون يا رب: نحن في الحساب وهؤلاء يأكلون؟ فيقول: إنهم طالما صاموا في الدنيا وأكلتم، وقاموا ونمتم. - ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِشِمَالِهِ. . .}. أي: كمتاب عمله، {فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كتابيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}. أي: ولم أدر أي شيء حسبي؟! - ثم قال: {ياليتها كَانَتِ القاضية}. أي: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها ولم يكن بعد ذلك حياة. قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء أكره إليه من الموت. - ثم قال: {مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ}. أي: لم ينفعني [مالي] ولا دفع عني من العذاب شيئاً، فتكون " ما " نافية. ويجوز أن تكون استفهاماً في موضع نصب والتقدير، أي بشيء أغنى عني مالي.

- ثم قال تعالى: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}. قال [ابن عباس]: ضلت عني كل [بينة] لي (فلم) تغن عني شيئاً. قال عكرمة ومجاهد: سلطاني: حجتي. وقال ابن زيد: {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي: " سلطان الدنيا " وملكها. - ثم قال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ}. هذا أمر من الله لِخُزَّانِ جهنم من الملائكة، أي: خذوا هذا الكافر فغلوا يده إلى عنقه، ثم الجحيم فألقوه وأوردوه (فيها). {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}. أي: اسلكوه في سلسلة طولها سبعون ذراعاً. وذلك أن تدخل في دبره وتخرج من منخريه. وقيل: تدخل في فِيهِ وتخرج من دبره. وقال محمد بن المنكدر: لو جمع حديدُ الدنيا ما مضى منها ما بقي ما عَدَلَ حلقة من حلق

السلسلة. قال نوف البكالي: الذراع سبعون ذراعاً أبعد ما بينك وبين مكة وهو يومئذ بالكوفة. قال ابن عباس: {سَبْعُونَ ذِرَاعاً} " بذراع الملك {فَاسْلُكُوهُ} تسلك في دُبره حتى تخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه ". وروى عبد الله بن عمر وابن العاص أن رسول الله A قال: " لَوْ أَنَّ رَصَاصَة مثل هذا - وأشار إلى مثل جمجمة - أُرْسِلَتْ من السماء إلى الأرض -

وهي مسيرةُ خَمْسِ مِائَةِ سنة - لبلغت الأرضَ قبل الليل. ولو أنها أُرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً - الليلَ والنهارَ - قبل أن [تبلغ أصلها أو قعرها ". وقيل: فاسلكوه، وإنما تسلك السلسلة فيه لأن المعنى مفهوم، مثل قولهم: أدخلت رأسي في القلنسوة، وإنما تدخل [القلنسوة] في الرأس، وشبهه كثير في الكلام. وقال الفراء: التقدير: فاسلكوه فيها. وروى نعيم بن حماد عن كعب أنه قال: ينظر الله إلى عبده يوم القيامة فيقول: " خذوه " فيأخذه مائة ألف ملك حتى يتفتت في أيديهم، فيقول: أما

35

ترحموننا؟! فيقولون: وكيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين؟!. - ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم}. أي: لا يصدق بتوحيد بالله. {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين}. ولا يرغب هو ولا يُرَغَّبُ غيرهُ في إطعام أهل المسكنة والحاجة. - قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ} إلى آخرة السورة. أي: فليس لهذا الكافر - يوم القيامة - قريب ولا صديق ينجيه من عذاب الله. وقيل: المعنى: ليس في جهنم ماء حار ولا طعام ينتفع به، قال قطرب. وقيل: معناه: ليس له في جهنم طعام إلا من غسلين، أي: من صديد أهل النار، وذلك ما يسيل من صديدهم. وقال بعض أهل اللغة: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، وهو " فعلين " من الغسل. قال ابن عباس: غسلين "

صديد أهل النار ". وقال قتادة: غسلين " شر الطعام وأخبه وأبشعه ". وقال ابن زيد: " الغسلين والزقوم لا يعلم أحد ما هو ". فأما، قوله تعالى في موضع آخر: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] فقد قيل: إن الغسلين من الضريع كما تقول: ما لي طعام إلا الرطب، ما لي طعام (إلا) النخل. - ثم قال {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون}. أي: لا يأكل الطعام الذي من غسلين إلا الخاطئون (أي): المذنبون [الذين] ذنوبهم كفر بالله. - ثم قال: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * [وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ]}.

أي: أقسم [بذلك]، (و " لا " زائدة. وقيل: " لا " رَدُّ لكلامهم. وَالمعنى: مَا الأمر كما تقولون مشعرَ أهل التكذيب بكتاب الله ورسوله، ثم ابتدأ فقال: أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون، أي: أقسم بالأشياء كلها - أي بربها - إن القرآن {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}. أي: كريم على ربه وهو محمد A يقرأه ويتلوه عليكم. وقيل: هو جبريل عليه السلام. - ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ}. أي: وما القرآن بقول شاعر، لأن محمداً لا يحسن قول الشعر فتقولون هو شاعر، قليلاً إيمانكم، أي إيماناً قليلاً إيمانكم أو وقتاً قليلاً. وهذا كله خطاب من الله

جل ذكره لمشركي قريش. - ثم قال: {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}. أي: وليس هذا القرآن بقول كاهن فيقولون هو من سجع الكهان، قليلاً ما يَعتبرون ويَذكرون] به. - ثم قال: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين}. أي: هو تنزيل من رب العالمين تنزل به جبريل على محمد عليه السلام. وقيل: التقدير: لكنه تنزيل من رب العالمين. - ثم قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل}. أي: لو قال محمد من عند نفسه بعض ما جاءكم به وتَخَرَّصَ علينا. {لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين}. قال ابن عباس: باليمين: بالقوة. (وقيل باليمين): باليد اليمنى، أي: كنا

نذله [ونهينه] كما يقول الملك لمن يريد إِذلاَلَهُ: " خذوا بيده " فاليد هنا في مضع الإهانة. قال إبراهيم بن عرفة: معناه: لأخذنا بيمينه، أي لقبضناها، فمعناه: التصرف. بالمعنى لأخذنا بيمينه ولقطعنا [وتينه]، وهو نياط القلب، لا حياة بعد انقطاعه. - ثم قال تعالى: {(ثُمَّ) لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين}. قال ابن عباس: " الوتين: نياط القلب "، وعنه: " عرق القلب ". وقال مجاهد: هو " حبل القلب الذي في الظهر "، وهو قول قتادة. وقال الضحاك: هو " عرق

يكون في القلب، فإذا قطع مات الإنسان ". وقال ابن زيد: (هو) " نياط القلب الذي القلب متعلق به "، وهو قول ابن جبير. والمعنى في الآية: لو كذب علينا ما لم نقل لأهكلناه، فكان بمنزلة من قطع وتينه فلم يعش. - ثم قال تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}. أي: فما منكم - أيها الناس - أحد عن محمد A يحجزنا إذا أردنا هلاكه وعقوبته. وجمع " حَاجِزِينَ " على معنى " أحد ". - ثم قال: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}. أي: وَإِنَّ هذا القرآن لتذكرة وعظة [يتعظ] بها المتقون، وهم الذين اتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب محارمه. - ثم قال: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ}. أي (مكذبين) بهذا القرآن. - ثم قال: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين}.

أي: وإن التكذيب لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة. - ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين}. (أي): وإن هذا القرآن لمحض اليقين [و] خالصه، أنه من عند الله لم يتقوله (محمد) من عند نفسه وهذا من إضافة الشيء إلى نفسه عند الكوفيين، وأصله عندهم: " الحق اليقين " على النعت، ثم أضيف (المنعوت) إلى نعته، والنعت هو المنعوت في المعنى، فقد صار من إضافة الشيء إلى نفسه. - ثم قال تعالى: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم}. أي: فسبح بذكر ربك - (يا محمد) -، {العظيم} (أي) الذي كل شيء في عظمته صغير.

المعارج

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المعارج مكية - قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، إلى قوله: {وَنَرَاهُ قَرِيباً}. أكثر المفسرين على أنه من السؤال، ونزلت في (النضر بن الحارث) حين قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. وأصله الهمز. قال ابن عباس: ذلك سؤال الكفار عن عن عذاب الله وهو واقع [بهم]. قال مجاهد: {سَأَلَ سَآئِلٌ} أي: دعا داع بعذاب الله وهو واقع بهم في الآخرة، قال: وهو قولهم {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} الآية.

قال ابن عباس: [هو قول] النضر بن الحارث/ بن كلدة. وقال قتادة: (سأل عذاب الله أقوام، فبين الله على من يقع)، على الكفارين. (وروى عروة بن ثابت أنه من السيلان وأنه وا حد من أودية جهنم يقال له: سائل. فتكون الهمزة بدلاً من " يا " في سائل. وقوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} معناه بعذاب للكافرين واجب لهم يوم القيامة واقع بهم. وقيل (الكافرين). معناه: على الكافرين، قاله الضحاك، وكذلك هي في قراءة أبي: " على

الكافرين "). وقال الفراء: التقدير: بعذاب للكافرين واقع، ولا يجوز عندهم تعلق. " للكافرين " بـ " واقع ". وقال الحسن: أنزل الله جل وعز {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} فقالوا: لمن هو؟ وعلى من يقع؟ فأنزل الله: {لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}، فهذا يدل (على) تعلق اللام بـ " واقع ". فأما الباء في {بِعَذَابٍ} فإن المبرد يقول: هي متعلقة بالمصدر الذي دَلَّ عليه الفعل. وقال غيره: هي زائدة بمنزلة قوله {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25]. والباء - في قول من جعله من السؤال - بمعنى " عن "، وهو قول الحسن، وقاله من أهل اللغة ابن السّكّيت.

- وقوله {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}. أي: ليس للعذاب الواقع على الكافرين من الله رادٌّ يرده عنهم. - وقوله {ذِي المعارج}: أي: ذو العلو والدرجات والفواضل والنعم، قاله ابن عباس وقتادة. وعن ابن عباس: {ذِي المعارج} ذي الدرجات. وقيل: إن الملائكة تعرج إليه، فنسب (ذلك إلى نفسه). - ثم قال تعالى: {تَعْرُجُ الملائكة والروح}. أي: تصعد الملائكة والروح - وهو جبريل عليه السلام إلى اله. {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}. أي: كان مقدار صعودهم ذلك - لغيرهم من الخلق - خمسين ألف سنة، وهم يصعدون يوم يقدره الله، وذلك أنها تصعد من منتهى أمر الله جل ذكره من أسفل

الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع، هذا معنى قول مجاهد. قال مجاهد: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني بذلك نزول الوحي من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة؛ لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة. وقال عكرمة: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: في يوم واحد من القضاء كعدل خمسين ألف سنة. وروى عكرمة عن ابن عباس: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: هو يوم القيامة. وهو قول [مجاهد] وقتادة. وقيل: المعنى: لو حكم في ذلك اليوم أعقل الناس وأعدلهم لأقام خسمين ألف سنة قبل أن يحكم بين اثنين. والروح: جبريل عليه السلام. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: سأل سائل

بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة للكافرين. أي: ذلك اليوم على الكافرين في صعوبته كقدر صعوبة خمسين ألف سنة. - ثم قال {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ. . .}. قال ابن عباس: جعل الله يوم القيامة على الكفارين مقدار خمسين ألف سنة، أي: محاسبة الله الخلق [فيه] وإثباتهم أو معاقبتهم مقدار خمسين ألف سنة لو كان غير الله المحاسب والمجازي. ودل على هذا المعنى ما وروى أبو سعيد الخدري " أنه قيل للنبي عليه السلام: ما أطول هذا اليوم! فقال: " إنه على المؤمن أخف من صلاة مكتوبة يصليها ".

وروى ابن نجيح عن مجاهد أنه قال: الدنيا كلها من أولها إلى آخرها خمسونَ ألف سنة، لا يدري أَحَدٌ كَمْ مضى منها، ولا كَمْ بقي. وروى (عن) ابن عباس توقف عن تفسيره. (وقد قل مجاهد (في قوله) تعالى): {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} قال الروح خلق الله مع الملائكة لا تراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة. - ثم قال: {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً}. أي: فاصبر يا محمد على أذاء هؤلاء المشركين لك، ولا يمنعك ما تلقى

منهم من المكروه من تبليغ ما أمرك الله (به) من الرسالة (إليهم). ومعنى {جَمِيلاً}: أي: لا حرج فيه، قال ابن زيد: هذا منسوخ، إنما كان قبل الأمر بالقتال، ثم أمر بالقتال والغلظة (عليهم) والشدة، وقيل: هو محكم؛ لأن النبي عليه السلام لم يزل صابراً عليهم محتملاً. ويقال: الصبر الجميل في المصائب ألا يُعرَف صاحبُ المصيبة بن جماعته [لتجلده] في صبره/ [واحتسابه]. - ثم قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً}. (أي): إن هؤلاء [المشركين]- الذين سألوا العذاب الواقع عليهم -

8

يرون وقوع العذاب عليهم بعيداً إذ لا يصدوقون به، ونحن نراه قريباً؛ لأنه كائن لا بد منه وكل ما هو كائن فهو ريب. - قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل}، إلى قوله: {غَيْرُ مَأْمُونٍ}. أي: ونرى العذاب قريباً (في) يوم تكون (فيه) السماء كالمهل. وقيل: التقدير: يبصرونهم يوم [تكون]. وقيل: التقدير: أحذروا يوم تكون السماء كالمهل، قال مجاهد: " كعكر الزيت ". وقال قتادة: تحول لوناً آخر إلى الخضرة، وقد تقدم ذكر " المهل " بأشبع من هذا. ثم قال: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن}.

قال مجاهد: كالصوف. وهو جمع " عنهة "، وأهل اللغة على أنه لا يقال (للصوف) " عهن " حتى يكون مصبوغاً. - ثم قال: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} .. أي: ولا يسأل قريب ولا صديق عن قريبه ولا عن صديقه لشغله بنفسه. ومعنى {يُبَصَّرُونَهُمْ. . .}. أي: يُبَصَّرُ كُلُّ إنسان قَرِينَهُ فيعرفونه. قال ابن عباس: يعرف بعضهم بعضاً، ويتعارفون، ثم يفر بعضهم [من] بعضهم، بعد ذلك، يقول الله: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]، وهو قول قتادة. فالهاء والميم - على هذا - للأقرباء، والضمير في [يُبَصَّرُونَ] للكفار، فالهاء والميم للأقرباء، أي: يبصر الله الكفار أقرباءهم في القيامة ويعرفهم بهم، فهو تأويل موافق لصدر الآية؛ لأنه قد ذكر

القريب وقريبهه، وهذا مثل قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 34 - 35] الآية. وقال مجاهد: معناه: يبصر الله المؤمنين الكفار في القيامة. فيكون الضمير في " يُبَصَّرونَ " للمؤمنين، والهاء والميم للكفار. وقال ابن زيد: معناه: يبصر الله الكفار الذين أضلوهم في الدنيا في النار. فيكون الضمير في {يُبَصَّرُونَهُمْ} للكفار التابعين، والهاء الميم للمتبوعين. وقد روي عن ابن كثير وأبي جعفر يزيد وشيبة: أنهم قرأوا: " وَلاَ يُسأَلُ

حَمِيمٌ " على ما لم يسم فاعله. ومعناه: لا يقال لقريب: أين قريبك؟، (أي): لا يطلب بعضهم بِبَعْضٍ. ويجوز أن يكون معناه: ولا يسأل إنسان عن ذنب قريبه، مثل قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]. - ثم قال {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}. (أي: يتمنى الكفار يوم القيامة لو يفتدي من العذاب ببنيه). {وَصَاحِبَتِهِ. . .} وهي زوجته، {(وَأَخِيهِ)} {وَفَصِيلَتِهِ. . .}: عشريته، {التي تُؤْوِيهِ} أي: التي تضمه إلى رحلها ومنزلها لقرابة ما بينها وبينه. - ثم قال: {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ}.

أي: ويود لو يفتدي بمن في الأرض جميعاً ثم ينجيه ذلك من عذاب الله، أي: لو لوجد إلى ذلك سبيلاً من عظيم ما نزل به لفعله. وجواب " لَوْ " قوله: {ثُمَّ يُنجِيهِ}، وقيل: " ثُمَّ " بمعنى الفاء أي: فَيُنَجِّيه ذلك، فهو مثل قوله {لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] الفاء جواب " لَوْ ". قال قتادة: {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} " الأحب فاللأحب، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته. . . ". قال الخليل: الفصيلة فخذ الرجل من قو مه. وقال مجاهد: فصيلته: " قبيلته ". وقال ابن زيد: " عشريته ". وفاعل " يُنْجِيهِ " محذوف، والتقدير: ثم ينجيه ذلك الافتداء، ودل " يفتدي " على الافتداء.

قالت سودة: قال رسول الله A: يحشر الناس حفاةً عراةً غُرلاً حتى ألجمهم العرق وبلغ شحم الآذان. قالت: (قلت): واسوءتان يا رسول الله، أينظر بعضنا إلى بعض؟! قال رسول الله A: شُغِلَ النَّاسُ {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ". - ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى}. أي: ليس الأمر على يتمنون، ولا يفيدهم (من عذاب الله شيء. ثم ابتدأ بالإخبار عما أَعدَّ لهم من العذاب فقال: {إِنَّهَا) لظى}، و " لضى " اسم من أسماء

جهنم، ولذلك لم تَنْصَرِفْ. ومعنى: " نزاعة للشوى ": تنزع جلدة الرأس وأطراف البدن. والشوى جمع: شواة، وهي الأطراف. قال ابن عباس: {نَزَّا (عَةً) للشوى} أي: " تنزع أم الرأس ". وعنه: يعني " الجلود والهام ". وقال مجاهد: " [الجلود] الرأس ". وعنه: تنزع اللحم دون العظم. وقال أبو صالح: {للشوى}: " للحم الساقين ". [قاله] مجاهد أيضاً. وقال الحسن: {للشوى}: " للهام/ تحرق كل

شيء منه ويبقى فؤاده نضيجاً ". وقال الضحاك: {للشوى}: " تبدي اللحم والجلد على العظم حتى لا تترك منه شيئاً ". وقال ابن زيد: الشوى: " الأراب العظام، قال: تقطع عظامهم كما ترى ثم تحرق خلقهم وتبدل جلودهمه ". قال ابن جبير: {للشوى} " للعصب والعقب ". وعن مجاهد أيضاً: {للشوى}: للجلد. وعنه للأطراف. وقال ثابت البناني: للشوى: لِمَكَارِمِ وجه ابن آدم. - ثم قال تعالى: {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى}. أي: تدعو لظى إلى نفسها من أدبر عن طاعة الله وتولى عن الإيمان بالله وبكتبه وَرُسُلِه، هذا معنى قول قتادة. قال ابن زيد: ليس لها سلطان (إلا على من

أدبر وتولى [وكفر وتولى]، فأما من آمن بالله وروسله فلي سله عليه سلطان). قال الخليل بن أحمد " ليس دعاؤها كالدعاء: " تعالوا " و " هلم ". ولكن دعوتها [إيّاهم] ما تفعل بهم من الأفاعيل، يعنى نار جهنم نعوذ بالله منها. وقيل: معنى " تدعو " تريد وتطلب، كما قال: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي: يريدون ويطلبون، فهو " يفتعل " من الدعاء. ويقال: " تداعت الحيطان إذا انقاضت. وتداعى عليه العدو: إذا أتى من كل جانب. وتداعت القبائل على بني فلان، إذا أقبلوا لحربهم. [ودواعي] الدهر: صروفه. - وقوله: {وَجَمَعَ فأوعى}.

أي: وتدعو من جمع مالاً فجعله في وعائه ومنع حق الله منه. ومعنى " أوعى ": أحاط بِمَنْعِ المَالِ وحِفْظِه، ومنه: وَعيْت العلم، وأذنٌ واعيةٌ. - ثم قال: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً}. الهلوع - عند أهل اللغة -: الجزوع، وهو هنا الذي يستعمل في حال الفقر من الجزع ما لا يجب أن يستعمله، وفي الغنى ما لا ينبغي أن يستعمله من منع الحق الواجب فيه وقلة الشكر. وقيل: الهلع شدة الجزع من شدة الحرص والضجر. وقد فسر الله جل ذكره لنا الهَلوع من هو فقال: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً}. وعن ابن عباس: الهلوع الجزوع: الحريص، وهذا كله في الكفار. وقال الضحاك {إِنَّ الإنسان} يعني الكافر {خُلِقَ هَلُوعاً} أي: بخيلاً فهو منوع للخير جزوع إذا نزل به البلاء. قال ابن جبير: {هَلُوعاً} " شحيحاً، جزوعاً ". وقال

عكرمة: ضجوراً. وقال قتادة وابن زيد: الهلوع: الجزوع. - وقوله {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً} أي: إذا قل ماله وناله الفقر والعدم فهو جزوع من ذلك لا صبر له عليه. {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أي: إذا كثر ماله فهو بخيل بما في يديه لا ينفقه في طاعة الله ولا يؤدي منه حق الهل. - ثم قال تعالى ذكره: {إِلاَّ المصلين}. (أي): إلا الذين يطيعونن الله بأداء فرائضه، [فليسوا] بداخلين في عدد من خلق هلوعاً وهو [كافر] بربه. وذكر بعض العلماء أن المصلين هنا الذين كانوا مع رسول الله، وهو قول ابن زيد.

وقال غيره: هي في كل من صلى الخمس: قال النخعي {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} عني به الصلوات الخمس. وقال [عقبة بن عامر] {دَآئِمُونَ} لا يلتفتون في صلاتهم خلفهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم. - ثم قال: {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ}. أي: موقت، وهو الزكاة {لِّلسَّآئِلِ} [أي] للذي يسأل {والمحروم} الذي حرم الغنى وهو فقير لا يسأل. قال قتادة: الحق المعلوم: " الزكاة المفروضة ". وعن

ابن عباس أنه حقٌّ آخَر الزكاة. وسئل انب عمر عن الحق المعلوم أهو الزكاة؟ فقال: " إن عليك حقوقاً سوى ذلك ". وقال الشعبي: " إن في المال حقاً سوى الزكاة "، وهو قول مجاهد. وهذا إنما هو على الندب والترغيب لا على الفرض؛ لأن المسلمين قد أجمعوا (على) ألا فرض في المال سوى الزكاة المعلومة، وقد تقدم (ذكر) اختلافهم في المحرم في " والذّارِيَاتِ " وأضفنا الأقوال إلى أصحابها، ونحن نذكره هنا مجملاً: قيلأ: هو المحارف الذي لا سهم له في الإسلام له في الإسلام. وقيل: هو الذي لا سهم له (في) الغنيمة.

وقيل: هو الذي لا ينمى له مال. وقيل: هو الذي اجتيح ماله. وقيل: هو المصاب بزرعه. وقيل: هو " المتعفف ". - ثم قال: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين}. أي: يؤمنون بالبعث والجزاء والجنة والنار. {والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}: أي: هم وَجِلُونَ في الدنيا خوفاً (أن) يعذبهم ربُّهم في الآخرة، فهم من [خوفه] لا يضيعون فرائضه ولا يتعدون إلى ما حرمن عليهم. - ثم قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}: أي: لا يُؤمَن منه من عصى ربه. والوقف على " لَظَى " جائز حسن في قراءة

من رفع " نَزَّاعَةٌ "، على تقدير: هي نزاعة. ومن جعل {لظى * (نَزَّاعَةً)} بدلاً من اسم " إن " وجعل " نَزَّاعَةٌ " " خبر " إن لم يقل على " لَظَى ". وكذلك إن رفع {نَزَّاعَةً} على البدل من {لظى} أَوْ على أنها خبر بعد خبر، وكذلك إن جعل الضمير في " إِنَّهَا " للقصة لم يقف على " لظى "، / لأن " نزاعة " خبر " لظى ". فإن نصبت " نَزَّاعَةً " فعلى الحال من " لظى "؛ لأنها معرفة. [ولا] يوقف أيضا - على هذا القول - على " لَظَى ". وقد رد المبرد النصب ومنع جوازه، [قال]: لأنه لا يجوز أن تكون لظى إلا

29

نزاعة للشوى، وليس كذا سبيل الحال. - قوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى آخر السورة. أي: وإلا الذين [يحفظون] فروجهم فلا يطئون إلا أزواجهم أو مملوكاتهم فلا لوم عليهم في ذلك. - ثم قال تعالى: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ. . .}. أي: فمن التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته ومملوكته فهو متعد إلى ما حرم الله عليه، ملوم على فعله. - ثم قال {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}. أي: وإلا الذين يحافظون على أداء أمانتهم من فروضهم - التي ألزمهم الله إياها - وأَمَاناتِ عباده التي ائتمنوهم عليها، والوفاء بعهودهم التي أخذها الله

عليهم، وعهود عباده عندهم. - ثم قال {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ}. أي: وإلا الذي هم لا يكتمون ما أشهدوا عليه، ولكن يؤدونه حيث يلزمهم أداؤه غير مبدلين ولا مغيرين. - ثم قال: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ}. أي: وإلا الذين يحافظون على أداء صلواتهم بفروضها في أوقاتها، بحدودها لا يضيعون شيئاً من ذلك ثم أخبر عن مصير هؤلاء الذين تقدمت صفتهم في الاستثناء من الإنسان الهلوع فقال: {أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}. أي: الذين تقدمت صفتهم - من قوله: " إِلاَّ المُصَلِّينَ " - في بساتين يكرمهم الله بكرامته. ثم قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}. أي: فما شأن الذين كفروا نحوك عامدين: قال قتادة: {مُهْطِعِينَ} " عامدين ". وقال: ابن زيد: المهطع " الذي [لا يطرف "]. وقال الحسن:

{مُهْطِعِينَ}: " منطلقين ". وقال أبو عبيدة: مسرعين. فالمعنى: فما شأن الذين كفروا مسرعين بالتكذيب لك. وقيل: بالاستماع منك، لِيَعِيبُوكَ. - ثم قال {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ}. روي عن ابن عباس (أنه قال): [العزون]: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين عن محمد يستهزئون به. وقال مجاهد (عزين: مجالس مجالس). قل قتادة: {مُهْطِعِينَ} عامدين، {عِزِينَ} فرق حول رسول اله لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه. وقال الضحاك: عزين: (حلقاً) وفرقاً. قال ابن زيد: عزين: مجالس. ومعنى {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} أي: عن يمينك وشمالك جماعات متفرقة

في أديانهم مخالفين للإسلام. وقال الطبري: {عِزِينَ} متفرقين حلقاً حلقاً ومجالس مجالس، [جماعة جماعة] متفرقين عنك وعن كتاب الله. - ثم قال {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ. . .}. [أي]: أيطمع كل إنسان منهم أن ينجو من عذاب الله فيدخل الجنة التي ينعم مَن دخلها؟! لا يكون ذلك. - ثم قال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ}. أي: مِن مَني حقير لا يستوجب (به) دخول الجنة، إنما يستوجب دخولها بالطاعة لله. قال قتادة: {مِّمَّا يَعْلَمُونَ} من مني قذر، فَاتَّقِ الله يا ابن آدم. وقيل: هو إشارة إلى إعلامهم أنهم كسائر الخلق ليس لهم فضل بأن يؤتى كل أحد منهم ما يريد من دخول الله، بل حكم جميع الخلق ألا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، وأنتم أيها المخاطبون مثل جميع خلقتم من نطفة.

- ثم قال تعالى {فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ}. " لا " زائدة، والتقدير: [أقسم برب: مشارق الشمس] وهي ثلاثمائة وستون، وبرب مغاربها، وهي ثلاثمائة وستون. - {إِنَّا لقادرون}. على أن نخلق خيراً منه هؤلاء المشركين ونهلكهم. - {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}: أي ما يفوتنا أحد نريد هلاكه ولا أمر نريد إتمامه. قال ابن عباس: " (إن) الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كُوَّة، تطلع كل يوم في كوة لا ترجع إلى تلك الكوة إلى ذلك اليوم من العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، [تقول]: يا رب، لا تطلعني على عبادك، فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك ". وعن ابن عباس أيضاً في قوله: {فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق

والمغارب} أنه قال: " هو مطلب الشمس ومغربها ومطلع القمر ومغربه ". - ثم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ (يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ) حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ}. هذا تهديد ووعيد لكفار قريش ومن كان على دينهم. أي: دع يا محمد هؤلاء المشركين - المهطعين/ عن اليمين وعن الشمال عزين - يخوضوا في [باطلهم] ويلعبوا في هذه الدنيا حتى يلاقوا يوم القيامة الذي وعدوا به. ثم بَيَّنَ [يومهم] الذي يوعدون فقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً. . .}، فهو يم بدلٌ من " يوم " الأول. فالمعنى [فَذَرْهُمْ] يا محمد حتى يلاقوا يوم يخرجون من القبور مسرعين إلى الداعي. - {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}. أي: كأنهم إلى عَلَم قد نصب لهم يستبقون، [و " نَصْب " مصدر: نَصَبتُ الشيء] نَصْباً فتأويله كأنهم إلى صنم منصوب (لهم) يسرعون ذليلين. وروي

عن عاصم أنه [قرأ: {نُصُبٍ}] بضم النون والصاد، جعله [واحداً لأنصاب]، وَهي آلهتهم التي كانوا يعبدون، كطُنُب وأطناب. وقيل: هو جمع نَصْبٍ، والنَّصْبُ: الصنم الذي ينصب لهم فيكون كرَهْن ورُهُن، وهو قول أبي عبيدة. وقيلأ: هو جمع نصاب، والنصاب الحجر أو الضم ينصب فيذبح عنده. وقرأ قتادة: {نُصُبٍ} بضم النون وإسكان الصاد فهو مخفف من " نُصُب ". وقد قيل: إن نَصْباً ونُصْباً ثلاث لغات بمعنىً، كما يقال عَمْرٌو وعُمْرٌو وعُمُرٌو. فأما قوله تعالى {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] فهو جمع نصاب عند كل العلماء، وهو

الذي ينصب ليذبحوا الآلهتهم عنده وقد مضى ذكره. قال: أبو العالية {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: كأنهم إلى غايات يستبقون. وقال ابن عباس: إلى غايات يسعون. وقال الضحاك: إلى (" علم ينطلقون "). وقال ابن زيد: [{إلى نُصُبٍ}]: النَّصْبُ حجارة طوال يعبدونها يسمونها نَصْباً، قال: و {يُوفِضُونَ}: يسرعون إليه. وقال الحسن: {(كَأَنَّهُمْ) إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي: يبْتَدِرون نصبهم أيهم يسْتلمه أول، قال: وذلك إذا طلعت الشمس لا يلوي أولهم على آخرهم. - وقوله: {خاشعة أبصارهم. . .}. أي: خاضعة ذليلة لما نزل بهم من الخزي والهوان.

- {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ. . .}. أي: تغشاهم ذلة. والعامل في " خاشعةً " " يخرجون " أو " ترهقهم "، - ثم قال تعالى: {ذَلِكَ اليوم (الذي) كَانُواْ يُوعَدُونَ}. أي: هذا اليوم الذي تقدمت صفته هو اليوم الذين كانوا يوعدون به في الدنيا فلا يصدقون به.

نوح

بسم الله الرحمن الرحيم سورة نوح - عليه السلام - مكية - قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً (إلى قَوْمِهِ)}، إلى قوله: {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. أي: أرسلنا نوحاً منذراً قومه عذاب الله الأليم. قيل: هو الطوفان. وقيل: هو عذاب جهنم. ويروى أن نوحاً عليه السلام أرسل إلى قومه وهو ابن مائتي سنة وخمسين سنة، فلبث فيهم يدعوهم إلى الله وإلى عبادته ألف سنة إلا خمسين سنة كما أعملنا الله عنه، ثم دعا

قومه فبلغه الله أمله (فيهم) فغرق بهم كما أعلنما عنه. ثم عاش بعد الغرق مائتي سنة وخمسين سنة فكان عمره ألف سنة وأربع مائة سنة وخمسين سنة، فلما احتضر قال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمراً وأكثرهم عملاً، كيف وجدت الدنيا؟ قال: كَبيْتٍ له بابان، دخلت من باب وخرجت من باب. - ثم قال تعالى {[قَالَ] ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}. أي: " نَذِيرٌ " أنذركم عقاب الله فاحذروه أن ينزل بكم على كفركم، " مبِينٌ ": أي قد بينت لكم إنذاري إياكم. - ثم قال: {أَنِ اعبدوا الله واتقوه. . .}. (أي: مبين بأن اعبدوا الله، لا تعبدوا غيره،) واتقوه فيما أمركم به. - {وَأَطِيعُونِ}. أي: انتهوا إلى ما أمركم به، واقبلوا نصيحتي لكم. قال قتادة: " أرسل الله D المرسلين بأن [يعبد] الله وحده وأن [تتقى]

محارمه، وأن يطاع أمره ". - ثم قال تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ}. أي: يسترها عليكم، فلا يعاقبكم بها إن أطعتموني. و" مِنْ " بمعنى " عَنْ " أي: يغفر لكم (عن) ذنوبكم، كما تقول: وجع بطني من الطعام، أي: عن الطعامم. وإذا كانت [" مِنْ "] بمعنى " عن " لم تدل على [على] التبعيض، وقيل: " من " للتبعيض والمعنى: يغفر لكم منها ما وعدكم العقوبة عليه وهو معظمها، وهو الشرك به، ولا يحسن أن تكون " من " زائدة؛ لأنها لا تزاد في الإيجاب. ولا يجوز أن تكون لبيان الجنس؛ لأنه لم يتقدم جنس فتبينه بما بعده. - ثم قال تعالى: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى. . .}.

أي: ويؤخركم فلا يعذبكم في الدنيا إلى أن تبلغوا آجالكم المكتوبة لكم في أم الكتاب. قال مجاهد: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى. . .}. أي: ويؤخركم فلا يعذبكم في الدنيا إلى أن تبلغوا آجالكم} إلى ما قد خط من الأجل، فإذا جاء أجل الله لا يؤخر عن ميقاته، وهو قوله. - {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. (أي): لو كنتم تعلمون لأَنَبْتُم. وقال الفراء: إلى أجل مسمى [عندكم] فلا يلحقكم فيه غرق ولا عذاب. وقيل: إنهم كان لهم أجلان: أجل للعذاب إن تمادوا على كفرهم/ وأجل لقبض أرواحهم (إن آمنوا)، فقال لهم نوح: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو الآخر من الأجلين إن آمنوا. ثم قال: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} أي: إن الأجل الأول إذا جاء وأنتم كفار لا يؤخر، وهو الغرق، وإن حضر الثاني وأنتم مؤمنون لم يؤخر.

5

- قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي (لَيْلاً وَنَهَاراً). . .}، إلى قوله: {إِلاَّ ضَلاَلاً}. أي: قال نوح لما بلغ رسالكة ربه قومه فعصوه: يا رب إني دعوت قومي إلى توحيدك ليلاً ونهاراً وحذرتهم عقابك على كفرهم بك فلم يزدهم دعائي (لهم) إلا إدباراً عن قبول ما جئتهم به. قال قتادة: بلغنا أنهم كانوا يذهب الرجل منهم بابنه إلى نوح فيقول لابنه: احذر هذا [لا يغويك] فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذرني كما حذرتك. من رواية ابن شعبان عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث أن

النبي A قال: " يَجمَع اللهُ الأوَّلين، والآخِرين، ويَنزِل اللهُ في ظُلَلٍ منَ الغَمَام فَيَكون أَوَّلَ من يَقْضي لَه نوحٌ وَقَومُه، يَقولُ اللهُ لِقومِ نوحٍ: ماذا أجبتم المُرْسَلين؟ قال: فَيقولُ نوحٌ: أيْ رَبِّ، بَلَّغتُهم رسالتَك ودَعَوتُهم لَيلاً ونَهاراً فكذَّبوني واتَّهَموني، فَيقولُ اللهُ لِقَوْم نوحٍ: ماذا تقولون؟ فيقولون: ربَّنا ما بَلَّغَنا الرّسالة، وقَد كان فينا حتى خَلَت قرونٌ (بعد قرون)، وَقَد كَتَمَ الرِّسالةَ فلم يَدْعُنا وَلَمْ يُنذِرْنا، فيقول الله لنوحٍ: مذا تقول؟ فيقول: رَبِّ، لي بَيِّنَة، فيقول الله: إِيتِ بِبَيِّنَتِكَ. قال النبي A: فيأتي نوح فيقول: يا مُحمدُ، أَسأَلُكَ الشَّهادةَ، فإِنَّ قَومي قَدْ كذَّبوني عِندَ رَبّي وَجَحَدوا، قال النبي عليه السلام: فَأَبْعَثُ معه رهطاً مِن أمتي يَشْهدَون له. قال: فيَنطلِق الرَّهط حتى يَقِفوا على الرّب، فيقول الله لهم: بِمَ تَشْهَدون؟ فيقولون: نَشهَدُ أن نوحاً قد بَلَّغَ قَومَه وَدَعاهُم لَيْلاً وَنَهَاراً وسِرّاً وعَلانِية فَكذبُّوه واسْتَغْشَوْا ثِيابَهُم وأَصَرّوا وَاسْتَكْبَروا. فيقول اللهُ لقوم نوح: ما تقولون؟ (فيقولون): رَبّنا، كيف يقبلون علينا وَنَحْن أولُ الأُمَمِ وهُمْ آخِر الأُمَمِ؟ فيقول الله للرَّهطِ: أجيبوهم، فيقول

(الرهط): ربَّنا، بَعَثْتَ إِليْنا رسولاً من أَنفسِنا فآمَنّا به وصَدّقنا ما أَنْزَلتَ عَليْه مِنَ الكِتابِ، فَكان فيما أَنزَلتَ عَلَيْه أَنَّك أَرْسَلتَ نوحاً إِلى قَومهِ فَبلَّغهم الرسالةَ وَدَعاهم لَيلاً ونَهاراً وسِرّاً وعلانيةً فكذَّبوه، قال: فيقرأون سورة " نوح "، فيقول قوم نوح: خصمنا فقوموا. قال النبي A: فما من نبيٍّ يُكذِّبه قومُهم إِلاَّ يَأْتينا، فَأَبْعَثُ مَعهُ رَهطاً مِن أُمَّتي يَشْهَدون لَه وَانا عَلَيهم [شيهدٌ] ". - ثم قال: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ. . .}. أي: وإني كلما دعوتهم إلى طاعتك والعمل بمرضاتك لتغفر لهم إذا فعلوا ذلك، أدخلوا أصابعهم في آذانهم لِئَلاَّ يسمعوا دعائي (أياهم إلى ذلك، واستغشوا،

أي تغطَّوا بها لِئَلاَّ يُسْمَعَ دعائي). - ثم قال {وَأَصَرُّواْ واستكبروا (استكبارا)}: أي: أَصروا على كفرهم، أي: تمادوا عليه، واستكبروا عن قبول ما جتئهم به من الحق وقبول الإيمان. - ثم قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}. أي: ثم إن دعوتهم إلى ما أمرتني به من عبادتك دعاءً ظاهراً غيرَ خَفِيّ. قال مجاهد: الجِهار: الكلام المعلن (به) ". {ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ} أي صرخت وصِحْتُ بالذي أمرتني به من الإنذار. قال مجاهد: أَعْلَنْتُ: " صِحْتُ بِهِم "، وَأَسْرَرْتُ لَهُمُ (اي): قلت لهم ذلك فيما بيني وبينهم. - {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ. . .}.

أي: سلوا ربكم المغفرة عن ذنوبكم وتوبوا إليه من كفركم يغفر لكم ذنوبكم. - {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}. أي: لم يزل عفاراً لمن تاب إليه واستغفروه. - ثم قال: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً}. أي: إن تبتم واستغفرتم من ذنوبكم أرسل السماء عليكم المطر متتابعاً. وكان عمر Bهـ إذا [استسقى] ما يزيد على الاستغفار، وسئل عن ذلك فقرأ هذه الآية، وقرأ الآية في هود في قصة هود: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 52] الآية. - ثم قال: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}. (أي: ما لكم لا ترون لله عظمة، ذكر ذلك عن ابن عباس، وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته ". وقال قتادة: معناه: " {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ} عاقبة ".

وقال ابن زيد: معناه: ما لكم لا ترون لله طاعة. وقال الحسن: معناه ما لكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة. و " ترجون " هنا - في أكثر الأقوال -/ بمعنى: تخافون. - ثم قال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}. أي: خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ثم، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك، إلا أنهم اختلفوا في الترتيب، فمنهم من بدأ بالتراب ثم النطفة حتى بلغ (تمام الخلق. منهم من بدأ بالنطفة حتى بلغ) نبات الشعر حتى بلغ اللحم. وقيل: معنه: وقد خلقكم مختلفين المناظر والألوان والكلام والصور

[والعمر] والهمم وغير ذلك. وقيل: هو الصحة والسقم، من قولهم: جاز فلان طوره، أي: خالف ما يجب أن يستعمله. والطور في اللغة: المرة. فالمعنى: وقد خلقكم مراراً، أي خلقكم تراباً، ثم نقلكم إلى النطفة [ثم إلى العلقة] ثم إلى المضغة، ثم عظاماً، ثم يكسو العظام اللحم، ثم أنبت الشعر، ثم أخرجه طفلاً، ثم صبياً، ثم بالغاً، ثم حدثاً، ثم رجلاً، ثم كهلاً، ثم شيخاً. - ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً}. أي: وقال نوح لقومه: ألم تروا كيف خلق الله فوقكم سبع سماوات طباً فوق طبق، فيدلكم ذلك من قدرته على وحدانيته وتعتبروا وتزدجروا عن كفركم. والطباق مصدر من قولهم: [طابقه] (مطابقة) وطباقاً.

فالمعنى: ألم تروا كيف خلق الله سماء فوق سماء مطابقة؟!. ويجوز أن يكون " طباقاً " [نعتاً] ل " سبع "، جمع طبق. ومعنى ألم ترو كيف [خَلَقَ اللهُ]: [اعملوا] أن الله خلق ذلك. ولو كان على غير الأمر، معناه لقالوا ما نرى إلا واحدة، ولكن معناه الأمر كما تقول: غفر الله لك، اللهم اغفر له، لأنك لست تخبره عن أمره [علمته]، إنما هو دعاء يتمنى كونه له. ومن هذا قول الرجل [للرجل] أَلَمْ تَرَ أَنِّي لقيت زيداً فقلت له كذا وقال لي كذا؟. معناه: اعلم أني لقيت زيداً فكان من أمره وأمري كذا وكذا. ومثله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1]. وقيل: معناه: ألم يبلغكم كيف خلق الله سبع (سماوات) طباقاً فتتعظوا وتزدرجوا؟ وكذلك معنى الآية الأخرى: ألم يبلغك يا محمد كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولم أُوحِ إليك كيف فعلت بهم؟

- ثم قال {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً. . .}. أي: في السماوات، قال المفسرون: بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. فقال السائل: نحن نرى الغيم يكون دون القمر فلا نرى نوراً، فكيف تضيء السماوات كلها بالقمر على تفاوت ما بينها، وستر بعضها بعضاً؟، فقيل في ذلك: إن هذا الكلام [مجاز]، إنما قال: " فيهن "، [يريد]: في بعضهن، كما تقول العرب: أتيت بن يميم، وإنما أتى بعضهم، [وتقول]: في هذه الدور وليمة، وإنما هي في واحدة منهن. وتقول: قدم فلان في شهر كذا، وإنما قدم في يوم منه. فلذلك أخبر بالقمر أنه في سبع سماوات وأنما هو في واحدة. وقيل: معناه: وجعل القمر معهن نوراً، أي: خلقه نوراً مع خلقه للسماوات فيكون مثل: {ادخلوا في أُمَمٍ} [الأعراف: 38]. وقال ابن كيسان: إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن، كما تقول: أَعطِني

من الثياب [المعلمة]، وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وقد قال ابن عمر: إن الشمس والقمر وجوههما في السماء وأقفاؤها في الأرض. وقال عبد الله بن عرمون بن العص: إن ضوء الشمس والقمر ونورهما في السماء، وقرأ: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ. . .} الآية. وقيل: التقدير: وجعل القمر نوراً، ثم قال: " فيهن " بعدما مضى الكلام. وسأل عبد الله بن عمرو رجل فقال له: ما بال الشمس تَصْلاَنا أحياناً وتبرد أحياناً؟ فقال: أما في الشتاء فهي في السماء السابعة تحت عرش الرحمن، وأما في الصيف فهي في السماء الخامسة، قيل له: ما كنا نظن إلا أنها في هذه السماء، قال: لو كان ذلك ما قام لها شيء إلا أحرقته.

- ثم قال: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً}. أي: أنبتكم من تراب فخلقكم منه فنبتم نباتاً، يعني آدمَ أَبَا الخلقِ خَلَقَهُ من تراب الأرض. - {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا. . .}. أي: في الأرض فتصيرون تراباً. - {[وَيُخْرِجُكُمْ [. . .}. منها إلى البعث. - ثم قال: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً}. [هذا] كله [أخبار] من الله جل ذكره لنا عن قول نوح لقومه ووعظه لهم وتنبيهه لهم لى آيات الله ونعمه عندهم. فالمعنى: جعل لكم الأرض بساطاً لتستقروا عليها، {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}. أي: طرقاً واسعة. وقال ابن عباس: {سُبُلاً فِجَاجاً}، أي: " طرقاً مختلفة ".

- ثم (قال تعالى): {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً}. أي: قال نوح لمّا عصاه قومه: يا رب، إنهم عصوني فيما بَلَّغتُهم عنك فلم يقبلوه واتبعوا أمر من لم يزد ماله وولده إلا خساراً، أي: ابتعوا في معصيتهم إياي من كثير ماله وولده فلم يزده ذلك إلا بعداً منك - يا رب -[وذهاباً] عن سبيلك. ومن قرأ " وُلده " بالضم احتمل أن يكون/ جمع " وَلَد "، ك " وُثُن " جمع " وَثَنْ "، ويجوز أن يكون واحداً يراد به (غير) الولد: (وقد قال مجاهد: وُلده:

زوجه وأهله)، وقال أبو عمرو: وُلده: عشيرته وقومه. وقال أكثر (أهل) اللغة: الوَلد الوُلد بمعنى واحد. - ثم قال: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً}. أي: كبيراً، يقال كُبَّارٌ وكُبَّارٌ بمعنى كبير، كما يقال: " أمر عجيب "، وعُجاب بمعنى واحد. ورجل حُسَانٌ وحُسَّان بمعنى. وجَمَأل وجُمَّال بمعنى جميل. قال مجاهد: {كُبَّاراً} " عظيماً ". - ثم قال: {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ. .}.

أي: وقال بعضهم لبعض: لا تذرن عبادة آلهتكم [لقول] نوح {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}. [" هذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها: أما وُدّ، فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يَغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف (بالجرف) عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحِمْيَر، لآل ذي الكلاع "].

قال محمد بن قيس: [هذه الأسماء] أسماء قوم صالحين بين آدم ونوح وكان لهم تباع يقتدون بهم، فماتوا، فقال تباعهم: لو صورناهم كان أشرف لنا نتذكرهم [فنفعل] مثل ما كانوا يفعلون، فصوروهم ثم ماتوا، وجاء آخرون فدب فيهم الشيطان، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم، فكان قوم نوح يحض بعضهم بعضاً على عبادتهم وترك قبول [قول] نوح. وقيل: بل [كانوا أصناماً] يعبدونها (من دون الله) قاله ابن

25

عباس وغيره. - ثم قال {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً. . .}. هذا إخبار عن قول نوح، أي وقد أضلت هذه الأصنام كثيراً من الخلق، أي ضل بعبادتها كثير. - ثم قال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً}. أي: لا توفقهم حتى يموتوا على ضلالتهم فكلما عاشوا ازدادوا إثماً وضلالاً. - قوله: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ}. أي: من عقوبة خطيئاتهم أَغرقَهُم الله ثم أَدخَلهم النار، يعني قوم نوح. - {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً}. أي: فلم يجدوا لأنفسهم ناصرين ينصرونهم من عذاب الله إذ جاءهم. و " ما " زائدة للتوكيد. وقال الفراء: {مِّمَّا خطيائاتهم} معناه: من أجل خطيئاتهم، ف " ما " أفادت

هذا المعنى، قال: و " ما " تدل على المجازاة، ومنه قوله: حيث ما تكن أكن. وقد قرأ أبو عمرو: " خطاياهم "، جعله جمعاً مكسراً، واختاره لأنه مبني للتكثير، والمسلم الذي بالتاء: الأغلب في كلام العرب أن يكون للقليل، وليس خطايا قوم كفروا وألفَ سنةٍ بقليلة. وعلة من قرأ بالجمع المسلم بالتاء أنه يقع للكثير كمَا يقع للقليل، وتختص الكثرة إذا عُلم المعنى. وقد قال الله: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] وقال {لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109]، فهل هذ جمع قليل في قول أحد؟ بل هو كثير، إذ قد علم المعنى،

26

فكان ذاك، وقد قيل: إن الخطيئات جمع [خطايا] أيضاً، فهو جمع الجمع، وجمع الجمع بابه الكثير. - ثم قال تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً}: أي: لا تدع على الأ {ض من يدور فيها ويحيى منهم فيها، والمعنى: من الكافرين أحداً، يعني قومه وغيرهم، دعا عليهم لما أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن} [هود: 36]، قاله قتادة وغيره. - ثم قال: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ. . .}.

28

أي: إنك يا رب إن تَدَع الكافرين على الأرض ولا تهلكهم/ بعذاب من عندك يضلوا المؤمنين من عبادك فيصدونهم عن سبيلك. ثم قال: {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}. أي: وليس يلدون إلا فاجراً في دينك، كفاراً لنعمتك. والفاجر في اللغة: المائل عن الحق. - ثم قال: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً. .}. أي: اعف عن واستر علي ذنوبي وعلى والدي وعلى من دخل بيتي. - أي: مسجدي - {مُؤْمِناً}: أي: مصدقاً بك. قال الضحاك: {بَيْتِيَ} " مسجدي ". [وقرأ] ابن جبير: (والدي): يعني أباه.

وقرأ يحيى بن يعمر (ولوالدي) يعني ابنيه. وقوله (وللمؤمنين والمؤمنات) أي: وللمصدقين بتوحيدك ورسلك وكتبك المصدقات. روى عكرمة أن ابن عباس قال: إني لأرجو أن يكون من استجاب لنوح فأغرق بدعوته أهل الأرض جميعاً أن يستجيب له في كل مؤمن ومؤمننة إلى يوم القيامة، يعني بدعائه هذا الذي حكاه الله لنا عنه في هذه السورة. - ثم قال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً}. أي: ولا تزد الظالين أنفسهم بكفرهم بك إلا تباراً. قال مجاهد: تباراً: خساراً. وقال الفراء: تباراً: ضلالاً. وقيل: هلاكاً.

ويروي عن سفيان بن عيينة أنه قال لرجل: طب نفساً فقد دعت لك الملائكة نوح وإبراهيم ومحمد A [ ثم قرأ] {والملائكة يُسَبِّحُونَ (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} [الشورى: 5] يعني نم المؤمنين. قال أبو محمد [مؤلفه Bهـ]، وقد فسر الله هذا في آية أخرى، فأخبر عن الملائكة أنهم يقولون: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7]. قال سفيان: وقال ابراهيم: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] وقال الله جل ذكره لمحمد A { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19]. قال أبو محمد: ولا نشك أن النبي A فعل ما أمره الله به من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، فهذا دعاء لا منشك إن شاء الله - أن الله قد أجابه لنوح وإبراهيم ومحمد والملائكة، فمن مات على الإيمان فهو داخل تحت الدعوات المذكورات (إن شاء الله)، أماتنا الله على الإيمان وختم لنا بخير.

الجن

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الجن مكية - قوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع}، إلى قوله: {شَطَطاً}. أي: قل يا محمد (لأمتك) أوحى الله إليّ أنه استمع نفر من الجن القرآن ومضوا إلى قومهم. - {فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد}. أي: إلي ما فيه الرشد لمن قبله {فَآمَنَّا بِهِ. .} أي: فصدقنا به. {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً}. أي: ولا نجعل لربنا شريكاً في عبادتنا إياه بل نعبده وحده. قال ابن عباس: كَانَ النبيّ A بِحَرَاء يتلو القُرآن فَمَرّ بِهِ نَفَرٌ منَ الجِنِّ فاستمعوا إلى قِراءَته وآمَنوا بِهِ وَمَضوا إلى قومِهم مُنذرين، فَقَالوا ما حَكى الله عنهم.

وروى جابر بن عبد الله، وابن عمر " أن النّبيّ A قرأ عليهم سُورة الرّحمن، [فَكُلّما] قَرَأ عليهم {فَبِأَيِّ [آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ]} قالت الجِنّ: لا بِشيءٍ من إنعامك نكذب ربّنا. ولمّا قرأها النبيّ على أصحابه، قالَ: ما لي أراكم سُكُوتاً، [للجن] كانوا أحْسَنَ مِنكُم رَدًا ". ومن فتح " أن " في {وَأَنَّهُ} وما بعدها عَطَفَه على الهاء في " به " فصدقنا به وصدقنا أنه تعالى وكذلك ما بعده. وما لم يحسن فيه " صدقنا " " وآمنا " اضْمر له فعل يليق بالمعنى نحو قوله:

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى}، {وَأَنَّا ظَنَنَّآ}، {وَأَنَّهُ كَانَ (رِجَالٌ)}، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} وشبهه، كأنه أضمر " شهدنا "، لأن التصديق شهادة، وأضمر [أُلهِمنا] ونحوه، فإن في جميع ذلك في موضع نصب لأنه عطف على المعنى في: {فَآمَنَّا بِهِ} فأما من كسر، فإنه ابتداء " إن " بعد القول في قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا} ثم عطف (ما) بعدها عليها لأنه كله من قول الجن. ومما يدل على قراءة الفتح دخول " أنّ " في قوله {وَأَلَّوِ استقاموا}، لأن " أنّ " لا [تدخل] مع " لو " في الحكاية فلما دخلت أن مع " لو " عُلِم أن ما قبلها وما بعدها لم يجعل على الحكاية أيضاً، وإذا لم يحمل على الحكاية لم يجب فيه الكسر، وإذا لم يُكسر وجب فتحه.

ولا يحسن أن يَعطِف من فتح على {أَنَّهُ (استمع} لأنه ليس كلّه يحسن فيه ذلك المعنى. لو قلت " وأوحى إليّ أنا ظننا " وأوحي إلي) أنه كان (يقول سفيهنا) لم يحسن شيء من ذلك لأنه مما حكى الله جل ذكره لنا من قول الجن، لا يجوز أن يعطف كلام الجن على ما أوحي إلى النبي A، لأنه لي منه. وعلة من كسر الجميع وفتح {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} وهو [أبو عمرو] وابن كثير، لأ، هـ ليس من قول الجن فيحمل على الحكاية، فَحَمَلَهُ على العطف على قوله: {أَنَّهُ استمع}، فهو في موضع رفع عَطْفٌ على المفعول الذي لم يسم فاعله وهو {أَنَّهُ استمع}. فأما علة (من) فتح " أن " في قوله {وَأَلَّوِ استقاموا} وأجماعهم على ذلك فلأنها بعد يمين مقدرة فانقطعت عن النسق، والتقدير: والله أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً. وكان سبب استماع الجن للقرآن (ما) قال ابن عباس، قال: " اِنْطَلَقَ

رَسُولُ الله A فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ (سُوقَ) عُكَاضٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَأُرْسِلَتْ عَلَيهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجِعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَّاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، فَقَالُوا: مَا حالَ بَيْنكُمْ وَبَيْنَ خَيبَرِ السَّمَاءِ إِلاَّ شَيْءٌ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا تَبْتَغُونَ مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. (فَانْصَرَفَ) أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ [تهَامَةَ] إِلَى رَسُولِ اللهِ A وَهُوَ بِنَخْلَةٍ عَامِداً إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهَ صَلاَةَ الفَجْرِ، / فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، وَقَالُوا: هَذَا وَالله الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَهُنَاكَ حِينَ رَجِعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً

عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا (أَحَداً)، فأنزل الله جل ذكره ذلك على نبيه ". قال زِرُّ ": قدم رهط [زوبعة] وأصحابه إلى مكة على النبي A فسمعوا قراءته ثم انصرفوا فهو قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ [القرآن}. قال]: وكانوا تسعةً، مِنْهُمْ [زوبعةُ]. قال الضحاك: قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} (هو قوله:

{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن} ثم ذكر من الخبر (نحو) ما تقدم. والنَّفَرُ في اللغة ثلاثة فأكثر. - ثم قال: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا (مَا اتخذ). . .}. أي: (وآمنا أنه تعالى، على قراءة من فتح. وعلى قراءة من كسر، فتقديره: وقالوا إنه {تعالى جَدُّ رَبِّنَا}: أي) أَمْرُ ربنا وسلطانُه وقدرتُه. قال ابن عباس: {جَدُّ رَبِّنَا}: " فعله وأمره وقدرته ". وهو قول قتادة والسدي وابن زيد. وقال عكرمة ومجاهد: {جَدُّ رَبِّنَا} جلاله وعظمته. وقال الحسن {جَدُّ رَبِّنَا} " غنى ربنا ".

وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال: جَهِلَ الجِنُّ فيما قالو: والجَدّ [أبو] الأَبِ. وعن مجاهد أيضاً {جَدُّ رَبِّنَا} " ذكره ". وعنه وعن عكرمة وقتادة: {جَدُّ رَبِّنَا} عظمته. والجد في اللغة على وجوه، منها: الجَدّ أبو الأب وأبو الأم والجَدّ: الحظّ، وهو [البَخْتُ] بالفارسية والجَدّ: العَظَمَةُ. (والجَدّ مصدر [جَدَدْتُ] الشيء جَدّا، ولا يليق بهذا الموضع من كتاب الله من هذه الوجوه إلا العظمة. - ثم قال: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً}. أي: وشهدنا أنه (كان على قراءة من فتح " أن "، ومن كسر كان تقديره:

" وقالوا إنه كان يقول ". وكذلك التقدير في جميعها في الفتح أو الكسر. تقدر بالفتح: صدقنا أو آمنا أو شهدنا أو أُلْهِمنا ونحوه. وتقدر في الكسر " القول " لأنه معطوف على {إِنَّا سَمِعْنَا}. والمعنى أن الله أخبرنا عن [قول] النَّفَرِ واعترافهم الخطأ الذي كانوا عليه. من قبول قول إبليس اللعين فالمعنى: وإن إبليس كان يقول على الله شططاً والشطط: الغلو في الكذب. قال قتادة ومجاهد وابن جريج: السفيه هنا إبليس ورواه أبو بُرْدَة عن

5

النبي A. قال سفيان: سمعت أن الرجل إذا سجد جلس (إبليس) يبكي يا ويله، أمرت بالسجود فعصيت [فلي] النار وأمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة. والسفه [رقة] الحلم. قال ابن زيد: {شَطَطاً} ظلماً كبيراً. وقيل: الشطط: البعد [ومنه]: شط المِزار أي: بعد. - قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} إلى قوله: {لِبَداً}.

أي: وإنّا حسبنا وتوهمنا أن أحداً لا يقول على الله الكذب. وذلك أنهم كانوا يحسبون أَ (نّ) إبليس كان صادقاً فيما [يدعوهم] إليه من صنوف الكفر. فما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في كل ذلك وسَمّوه سفيها. [ثم قال]: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}. هذا أيضاً من قول النفر من الجن. ذكروا أن رجالاً من الإنس [كانوا] [يستجيرون] برجال من الجن في أسفارهم إذا نزلوا، فزاد الجنّ باستجارتهم (لهم) جرأة عليهم وأزداد الإنس إِثْماً. قال ابن عباس: " فزادهم] إثماً وهو قول قتادة. فازداد الإنس بفعلهم ذلك إثماً، وازداد الجن على الإنس جرأة.

وقال مجاهد: أزداد الإنس بذلك طغياناً. وقال الربيع ابن أنس: فازداد الإنس لذلك فَرقاً من الجن. وهو قول ابن زيد. وقال أبو عبيدة: رهقاً: سفهاً وظلماً. والرهق في كلام العرب: الإثم والعيب وإتيان المحارم. ومنه: فلان يرهق بكذا، أي: يعاب به. فيكون التقدير: فزاد الجنّ الإنس إِثماً لمّا [استعاذوا] بهم. وكان ذلك من فعل المشركين. قال ابن عباس وغيره: كان رجال من الإنس يَبِيتُ أحدهم في الوادي في الجاهلية، فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثماً. وقال الحسن: كان الرجل إذا نزل في الوادي يقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي من

سفهاء قومه. وقال النخعي: كان الرجل إذا نزل [الوادي] يقول: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر (ما) فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً. وقال مجاهد: كانوا يقولون إذا هبطوا وادياً: نعوذ بعظماء هذا الوادي وهو قول قتادة وغيره. - ثم قال: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً}. أي: وإن الرجال من الجن ظنوا كما ظن الرجال من الإنس أن الله لا يبعث أحداً، أي: رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده. قاله الكلبي.

وقال غيره: معناه: وأن الجن ظنوا كما ظن الكفار من الإنس أن الله لا يبعث أحداً يوم القيامة. - ثم قال: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً/}. [وقال النفر من الجن إنا طلبنا خبر السماء فوجدناها قد ملئت حفظاً مانعاً] [وشبهاً] نُرْجَم بها إذا أردنا الاستماع. والشُّهب: النُّجُوم. وقال ابن جبير: كانت الجن [تستمع]، فلما رُجموا قالوا: إن هذا الذي حدث في السماء إنما هو لشيء حدث في الأرض. قال: فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبي A خارجاً من سوق عُكَاظٍ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، إلى أصحابهم منذرين. - ثم قال: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ .... }

أي: وقالوا: إنا كنا نقعد من السماء في مقاعد نستمع الأخبار. - {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً}. أي: من أتي يستمع الساعة يرمي بشهاب يرمد به إذا دنا فَيُرمى به، قال قتادة: لما بعث الله نبيه مُنِعُوا الاستماع [فَتَفَقَّدَتِ] الجن ذلك من أنفسها، قال: وذُكشرَ لنا أن أشراف الجن كانوا [بنصيبين] (فطلبوا ذلك] وضربوا إليه حتى سقطوا على نبي الله وهو يصلي بأصحابه عامداً إلى عكاظ. قال ابن زيد: قالوا كنا نستمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً، فلما وجدوا ذلك رجعوا إلى إبليس، فقالوا مُنِع (منَّا) السمع. فقال: إن السماء لم تحرس إلا على [أمرين]: إما العذاب] يريد الله D أن ينزله بغتة على أهل

الأرض، وإما نبي مرسل مرشد فذلك قول الله تعالى حكاية عن قولهم {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ (رَبُّهُمْ) رَشَداً}. (أي) قال إبليس لا ندري أعذاب ينزل على من في الأرض بغتة، فمُنِعْتُم من أجله الاستماع؟ أم نبي أرسله الله ليرشد من في الأرض إلى الطريق المستقيم؟ هذا معنى قول ابن زيد. وقال الكلبي: معناه: أنهم قالوا: لا ندري أهذا المنع الذي منعنا، أراد بهم ربهم أن يطيعوا الرسول فَيَرْشُدُوا أم يعصوه فيهلكهم وهذا كله من علامات نبوة محمد A. - ثم قال: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ. . .}. أي: قال النفر: وإنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا من هو دون ذلك في الصلاح والعمل.

- {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً}. أي: كنا أهواء مختلفة وفرقاً شتى، الصّالِح والذي هُوَ دُونَه، والكافِرِ. قال ابن عباس: {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} (أي) أهواء شتى مِنّا المُسلم ومن المُشرك. وقال عكرمة: " أهواء مختلفة ". وقال قتادة: " أهواء شتى ". وقال مجاهد: " مسلمين وكافرين " وهو قول سفيان. والقِدَد جمع قدة، وهي الضُّروبُ والأَجناس المختلفة. والطرائق جمع طريقة الرجل أي مذهبه. - ثم قال {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض. . .}. أي: وإنّا علمنا وأَيْقَنّا أن لن نفوت الله بالهروب في الأرض ولا بغيره، وَصَفوهُ - جل ذِكره - بالقدرة عليهم.

- ثم قال: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى آمَنَّا بِهِ. . .}. أي: لما سمعنا القرآن [يؤدي] من آمن به إلى الهدى صدقنا به. - {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً}. [أي: ومن يصدق بربه فلا خاف بخساً) أي: أن ينقص من حسناته وثوابه]. - {وَلاَ رَهَقاً}. (أي): لا يُحمل من سيئات غيره عليه. قال ابن عباس: {بَخْساً وَلاَ رَهَقاً}، أي: " لا يخاف نقصاً من حسناته، ولا زيادة في سيئاته ". قال قتادة: {بَخْساً}: ظلما، {وَلاَ رَهَقاً}: أن يعمل عليه ذنب غيره. - ثم قال: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون. . .}. أي: الجائرون عن الهدى.

- {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً}. أي: [تعمدوا الرشد] وأصابوه. - ثم قال: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً}. أي: وأما العادلون الجائرون عن الهدى فكانوا حطباً يوم القيامة لجهنم. - ثم قال: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. . .}. كل ما تقدم من إخبار الله هو من قول الجن إلا هذا، فإنه من قول الله، أي: لو استقام القاسطون [على] طريقة الحق [أي]: طريقة الإسلام وهي [الطاعمة] لله، لَوَسّعْنا عليهم في الرزق لنختبرهم فيه فننظر عملهم وشكرهم. قاله ابن جبير وقتادة ومجاهد [قاله مجاهد: الطريقة: الإسلام، والماء: المال، والغدق: الكثير]. والغَدَق: الماء الظاهر، والرَّغَد: الكَثِير، والماء يُراد به العيش والرزق.

وقيل: معناه: لو استقاموا على طريقة الضلال لَوَسَّعنا عليهم في الرزق استدراجاً، ذكر الضحاك وقاله الفراء. (و) القول الأول أصح كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرىءَامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بركات. . .} [الأعراف: 96] الآية. - ثم قال: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ. . .}. أي: عن القرآن [وقبوله]. {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}.

أي: ندخله عذاباً شديداً قال ابن عباس {عَذَاباً صَعَداً}، أي: مشقة من العذاب وقال قتادة {صَعَداً} أي: صعوداً من عذاب الله/ لا راحة فيه وقال أبو سعيد الخدري: {عَذَاباً صَعَداً}: هو جبل في النار، كلما جعلوا أيديهم [عليه] ذابت، وإذا رفعوها عادت ويقال: تَصَعّدني الشّيء أي: شقّ عَلَيّ. وقرأ مسلم بن جندب: نُسلِكه، جعله رباعياً. يقال: سَلَكه وأَسلَكه. ويقال: سَلَكَ، وهو وَسَلَكْتُهُ مثل رَجَعَ ورَجَعْتُهُ. - ثم قال: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً}. أي: وأوحي إلى أن المساجد لله {فَلاَ تَدْعُواْ} أيها الناس {مَعَ الله أَحَداً} أي: لا

تشركوا به قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كناسئهم وبِيَعَهُم اشركوا، فأمر الله نبيه أن يوحدوا الله وحده إذا دخلوا المساجد. قال ابن جبير: قالت الجن للنبي: كيف لنا أن نأتي المساجد ونحن [ناءون] عنك، وكيف نشهد الصلاة، فنزلت {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} الآية والمساجد جمع مسجد. ومسجد يعني السجود، فكأنه قال: وأن السجود لله لا لغيره. ويجوز أن يكون جمع مسجد هو موضع السجود. وقال الفراء (يقال) {[وَ] أَنَّ المساجد لِلَّهِ}، يراد به مساجد الرجل، ما يسجد عليه من جبهته ويديه وركبتيه وصدور قدميه.

وأنكر ذلك النحاس وغيره. وقوله: {فَلاَ تَدْعُواْ} خطاب للجماعة والنون حذفت للنهي. - ثم قال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}. أي: لما قام (محمد يدعو الله) يقول: لا إله إلا الله، كاد الجن يكونون على محمد لبداً، أي جماعات بعضها فوق بعض. وواحد لِبَد: لِبْدة. ويقال: لُبد - بضم اللام - واحدها لُبْدة. فمن كسر [{وَأَنَّهُ}] جعله من قول الجن إخباراً من الله لنا عن قولهم ذلك، ويكون المعنى على ما قال ابن جبير أن الجن رأوا النبي A يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فعجبوا من طوعهم له فقالوا لقومهم: وإنه لما قام عبد الله يدعو الله كاد أصحابه يكونون عليه لِبَداً.

ويجوز الكسر، وهو من كلام الله، لا حكاية عن الجن ويكون المعنى أن النبي A لما قام يدعو إلى الله كاد الجن يكونون عليه لِبَداً. فأما من فتح فهو من كلام الله أيضاً على هذا المعنى، أي: كاد الجن [يركبون محمد من الحرص] لما سمعوه يتلو القرآن فدنوا منه حتى كادوا يركبونه، هذا معنى قول ابن عباس والضحاك، فيكون الضميران في (كادوا يكونون) للجن. وعن ابن عباس أيضاً أن معناه (أن) الجن قالوا لقومهم، إن محمد لمّا قام يدعو الله كاد أصحابه يركبونه لتقربهم منه وطوعهم له، فيكون الضّميرانِ لأصحابِ النبي A وهو قول ابن جبير. [وعن ابن عباس {لِبَداً}: أعواناً]. وقال قتادة: معناه أن الله أعلم نبيه أن الجن والإنس يتظاهرون عليه ليبطلوا ما جاءهم (به) لمّا دَعا إلى الله، والله ناصِرُه عليهم.

20

وقيل: إن ذلك للعرب خاصة أرادوا أن يطفئوا النور الذي جاء به النبي A، وهو اختيار الطبري. - قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي. . .} إلى آخر السورة. أي: " قال محمد A، لما تظاهرت على إنكار ما جاء به العرب، إنما أدعو ربي وأوحده ولا أشرك به " وهذا يدل على أن معنى {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أنه لما قام محمد A يدعو إلى الله تراكبت العرب (عليه). وتظافرت ليردوا قوله ويُطفئو النور الذي جاء فقال لهم: {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً}. من قرأ (قل) جعله على الأمر من الله لنبيه، أي: قل: لهؤلاء الذين تظاهروا عليك لما دعوتهم إلى التوحيد: إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا.

- (ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}. أي: قل يا محمد لمشركي العرب الذين ردوا عليك أني لا أملك [لكم] ضراً في دينكم ولا دنياكم، ولا أملك لكم رشدكم، إنما ذلك إلى الله). - ثم قال: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ. . .}. أي: لن يمنعني من الله أحد إن أرادني بأمر. وروي أن بعض الجن قال: أنا أجيره، فنزلت هذه الآية ونزلت {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي: لا ملجأ ولا ناصراً ألجأ إليه. - ثم قال: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ/. . .}. أي: لا أملك لكم ضراً ولا رشداً {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ} أي: أملك إلا أن أبلغكم عن الله رسالاته التي أرسلني بها إليكم فأما الرشد والخذلا ن فبيد الله. وقيل [إلا] بمعنى " لم " و " إن " منفصلة، والتقدير: قل إني لن يجيرني من الله

أحد [إن] لم أبلغ رسالاته إليكم بلاغاً، فَيَنْتَصب بلاغاً بإضمار (فعل من الجزاء وتكون للجزاء كما تقول: إلا قياماً) فقعوداً، وإلا عطاءً فرداً جميلاً. - ثم قال: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً}. أي: من يعصهما فيما أمَرا به فإن له نار جهنم في الآخرة ماكثين فيها أبداً لا يخرجون ولا يموتون. - ثم قال: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ. . .}. أي: إذا عاينوا ما يعدهم ربهم من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ} هنالك {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً}. - ثم قال: {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ. . .}. أي: قل للمشركين يا محمد -: ما أدري أقريب قيام الساعة التي وعدكم [الله] بالجزاء فيها على أعمالكم. {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً}.

(أي): أم هو غير قريب قد جعل له ربي وقتا وغاية تطول مدتها. - ثم قال: {عالم الغيب. . .}. أي: ما غاب عن العيون والأسماع. {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً}. أي: يعلم غيب كل شيء ولا يعلم غيبه أحد. - {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ. . .}. أي: فإنه يطلعه من غيبه على ما شاء وقيل: الغيب الذي يطلع الرسل عليه كتبه التي أنزلها عليهم. وقال الضحاك: كان A، إذا بعث إليه الملك بُعِث ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه لئلا يشتبه عليه الشيطان في صورة الملك فهو معنى قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}، وقاله النخعي. وقال ابن عباس: هي

معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشياطين حتى يتبين له الذين أرسل به إليه. - ثم قال: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ. . .}. أي: ليعلم أهل الشرك أن الرسل بلغوا إليهم رسالة ربهم. وقيل: المعنى: ليعلم [الرسول] وهو محمد أن الرسل قبله قد بلغوا رسالات ربهم لقومهم ولم يكن للشيطان إليهم سبيل، وهو قول قتادة، وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغ الرسل رسالة ربهم. وقال: معمر: معناه: ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغت عن الله وأن الله حَفِظها ودفع عنها. وهو مثل قول قتادة. وقال ابن جبير: معناه: ليعلم محمد أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم. قال: وما نزل جبريل بشيء من الوحي إلا ومعه أربعة حفظة

من الملائكة. ودل على ذلك قوله قبل ذلك {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} قال ابن جبير: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل عليه السلام. وقيل معنى الآية: ليعلم الله ذلك علماً مشاهداً تجب عليه المُجازاة فأما الغيب فقد علمه، كقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} [آل عمران: 140]. - وقوله: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ. . .}. أي: وعلم كل ما عندهم يعني الرسل قبل محمد، قال ابن جبير معناه ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بهم فيبلغوا رسالات ربهم. - ثم قال: {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}. أي: وعلم عدد كل شيء، [و {عَدَداً}] منصوب على التمييز.

المزمل

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المزمل مكيةإلا آيتين من آخرها [نزلتا] بالمدينة قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... ) إلى آخرها. قوله: {يا أيها المزمل * قُمِ اليل} إلى قوله: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً}.

معناه: يا أيها الملتف بثيابه، يعني النبي - A -. وأصله: المتزمل ثم أدغمت التاء في [الزاي]. قال قتادة: إنما قيل له: {يا أيها المزمل}؛ لأنه كان متزملاً في ثيابه، كأنه متأهب للصلاة؛ ودل على ذلك قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً}. قال ابن عباس: كان النبي - A - يَفْرقَ من جبريل فيتزمل بالثياب في أول ما جاءه حتى أنس به. وقال عكرمة: زمل هذا الأمر، يعني: النبوة والرسالة. قال: الزهري: التف النبي - A - بثيابه من [فزع] أصابه أول ما رأى الملك فنودي بصفة فعله. وقيل: كان يتزمل بالثياب، من شدة ما يلقى من قريش من تكذيبهم له

[وتخويفهم] وأَذَاهُم. قال [النخعي] كان متزملاً في قطيفة. - قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً/}. أي: قم الليل كله للصلاة إلا قليلاً ثم أبدل من الليل بدل البعض من الكل فقال: - {نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً}. أي: قم نصفه أو أقل من النصف. - {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ. . .}. [أي]: أو زد على النصف. فهذا كله تخيير من الله لرسوله بين أن يفعل ما شاء من هذه الثلاث المنازل: يقوم النصف أو أقل أو أكثر. وكان هذا فرضاً عليه وعلى المؤمنين فكانوا يقومون ثم خففه عنهم الآيتين

في آخر السورة فَفَسَخَتَا هَذَا، وهو قول أكثر العلماء. وقيل: إن ذلك كان ندباً ولم يكن فَرِْضاً. وقيل: بل كان فرضاً على النبي - A - وحده. قال ابن عباس: كان بين أولها وآخرها سنة. وقالت عائشة Bها: لما نزل {يا أيها المزمل} كان الرجل يربط الحبل ويتعلق به فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله مايبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل. وقال ابن جبير: مكث النبي - A - يقوم الليل كما أمره (الله) عشر سنين ثم

خفف عنهم بعد ذلك. قال عكرمة: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً. . .} الآية نسختها الآية التي في آخرها {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20]. وقال قتادة: قاموا حولاً أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم، فأنزل الله تخفيفها في آخر السورة. قال الحسن: لما نزلت: {يا أيها المزمل} " قام المسلمون حولاً، فمنهم من أطاقه ومنهم من لم يطقه، حتى نزلت الرخصة ". قال ابن زيد: أول ما افترض الله على رسوله والمؤمنين صلاة الليل وقراً أول هذه السورة. - قوله: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً. . .}. أي: وبيّن القرآن إذا قرأته في صلاتك تبييناً (وترسل فيه ترسلاً)، قاله

قتادة. قال الحسن: معناه (اقرأه) قراءة بينة). وقال مجاهد: " قرأه بعضه على إثر بعض على تؤده ". والرتل في اللغة: الضعف واللين، فالمعنى: لين القراءة، ولا تستعجل بانكماش. والرتل في [الأسنان] أن يكون بينها الفرج ولا يركب بعضها بعضاً، يقال: " ثغر ورتل " إذا كان كذلك. - ثم قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}.

أي: ثقيلاً العمل به وبحدود (هـ) فرائضه أي: صعباً. قال الحسن: إن الرجل ليعد السورة، ولكن العمل بها ثقيل. وقال قتادة: " ثقيل والله فرائض القرآن وحدوده ". وقيل: معناه: إن القوْل بعيّنِه ثقيل. وروى عروة " أن النبي - A -[ كان] إذا أُوحِيَ إليه وهو على ناقته وَضَعَتْ جِرَانَهَا - يعني صدرها - فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه ". وقال ابن زيد: " هو - والله - ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين

يوم القيامة ". - ثم قال: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً. . .}. قال ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين، ناشئة الليل: ما بين المغرب والعشاء. وقال الحسن والحكم: ناشئة الليل من العشاء والآخرة إلى الصبح، وقال ابن عباس و (ابن) الزبير: الليل كله ناشئة. وهو قول ابن جبير ومجاهد. وأصله من نشأ إذا ابتدأ. فعلى هذا بناه من قال إنه من المغرب إلى العشاء الآخرة. وقد قال الكسائي: ناشئة الليل أوله.

- قوله: {أَشَدُّ وَطْأً. . .}. معناه: أثبت قياماً. قال المفسرون: هي أثبت في الخير وأحفظ للقلب، لأن النهار يضطرب فيه الناس لمعاشهم، والليل أخلى وأثبته في القيام. وقيل: معناه: إن صلاة ناشئة الليل هي أشد (وطئاً) على المصلى من صلاة النهار لأن الليل للنوم، فهي وإن كانت أصعب [فهي] أقوم قيلاً [أي]: أصوب قولا لأن القارئ لا يشغله عن قراءته في الليل شيء ويشغله في النهار ما يرى من التصرف وما [يعرض] له من الأمور. وقيل: معنى {أَشَدُّ وَطْأً}: أشد أمراً وأشد [مكابدة] واحتمالاً ومنه قول

النبي - A -: " اللهم اشد وطأتك على مضر "، وَطِئْتَ وَطْأً، مثل شَرِبت شُرْباً ولَقِيمْتُ لَقْماً. فأما من قرأ " وِطَاءَ " فإنه جعله مصدر مواطأة ووطاء. ومعناه: أشد مواطأة للسمع والقلب، أي: يواطئ فيه السمع القلب فلا يشتغل القلب بشيء عنم فهم ما يقرأ وسماعه. وقيل: معناه: أشد علاجاً.

قال ابن عباس: {أَشَدُّ وَطْأً} أي: أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليهم من القيام. قال: وكانت صلاتهم أول الليل. وقال الضحاك: معناه: قراءة القرآن بالليل أثبت منها في النهار. وقال مجاهد: {أَشَدُّ وَطْأً} أي يتواطأ قلبك وسمعك وبصرك بعضه بعضا. - وقوله: {وَأَقْوَمُ قِيلاً}. أي: وأصوب قراءة. قال/ مجاهد: وأثبت قراءة. وقال ابن عباس: معناه: يقول: أدنى أن يفقهوا في القول.

وقال قتادة: " [أحفظ] للقراءة ". وقال ابن زيد: " وقوم قراءة لفراغه من الدنيا ". - ثم قال: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً}. أي: فراغاً طويلاً، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن زيد: (سبحاً لحوائجك) فَأَفْرِغْ أذنك بالليل. وقرأ يحيى بن يعمر: " سَبْخاً " بالخاء المعجمة، ومعناه راحة [نوماً]. - ثم قال {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}. أي: واذكر ربك يا محمد فادعه وانقطع إليه انقطاعاً لحوائجك وعبادتك

دون سائر الأشياء غيره. يقال: بتلت هذا الأمر قطعته. ومنه قيل لمريم البتول لانقطاعها إلى الله جل ذكره. قال ابن عباس: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي: أُخْلِص له إخلاصاً " وهو قول مجاهد والضحاك. وقال الحسن: أَبْتِلْ إليه نفسك واجتهد. وقال قتادة: " أخلص له العبادة والدعوة ". وقال ابن زيد: تفرغ لعبادته، [تَعَبّدْ] بالتبتل] إلى الله. - ثم قال: {رَّبُّ المشرق والمغرب}.

أي: هو رب ذلك لا معبود تصلح له العبادة غيره. - {فاتخذه وَكِيلاً}. أي: فرض (إليه أسبابك) والمعنى: اتخذه كافياً لك. وقيل: معناه: اتخده كفيلاً لك بأمورك كلها. وقيل: المعنى: اتخده رباً. فالوكيل يكون بمعنى الكافي وبمعنى الكافل وبمعنى الرب. - ثم قال: {واصبر على مَا يَقُولُونَ. . .}. أي: واصبر على ما يقول هؤلاء المشركون من قومك واحتمل أذاهم. - {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً}. (أي: اهجرهم في الله هجراً جميلاً). قال قتادة: كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم أُمِرَ بقتالهم (وقتلهم) فنَسخت

12

آيةٌ القتال ما كان قبلها من الترك. ثم قال: {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة. . .}. هذا وعيد وتَهَدُّدٌ من الله جل ذكره للمشركين أي: ودعني يا محمد والمكذبين بآياتي أصحاب التنعم في الدنيا. - {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً}. أي: أمهلهم بالعذاب حتى يبلغ الكتاب أجله. وكان بين نزول هذه الآية وَبَدْرٍ يسير [قالته] عائشة Bها. - قوله: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً. . .} إلى آخر السورة. أي: عندنا لهؤلاء المكذبين قيوداً [وناراً] تسعر وطعاماً يُغَصُّ آكِلُهُ به،

فلا هو نازل من حلقه ولا هو خارج منه. - {وَعَذَاباً أَلِيماً}. ي: وصنوفاً من العذاب [مؤلمة] موجعة. وواحد الأنكال نِكل. قال حماد {أَنكَالاً} قيوداً سوداً من نار جهنم ". قال ابن عباس: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قال: " هو شوك يَأْخُذُ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج ". وقال مجاهد: هو " شجرة الزقوم ". وروى حمزة [الزيات] أن [حُمْرَانَ بن أَعْيَنَ] قال: قرأ النبي - A - هذة

الآية فصعق - A -؟ - ثم قال تعالى: {يَوْمَ (تَرْجُفُ) الأرض (والجبال). . .}. أي: أعتدنا هذا العذاب في يوم تضطرب فيه الأرض والجبال، وذلك يوم القيامة. - ثم قال: {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً}. أي: وصارت الجبال ذلك اليوم رملاً سائلاً. (متناثراً). يقال: هِلْتُ التراب إذا [حركت أسفله] (فسقط أعلاه). قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: يقال لكل شيء [أرسلته] إرسالاً من رمل أو تراب أو

طعام أو نحو ذلك قد هلته [أهيله] هيلا فهو مهيل. قال ابن عباس: {كَثِيباً مَّهِيلاً}: رملاً سائلاً. والأصل في مهيل [مهيول] فألقيت حركت الياء [على الهاء وبقيت] الياء ساكنة وبعدها الواو ساكنة. فمذهب الخليل وسيبويه أن الواو حذفت لأنها زائدة وكسرت الهاء لمجاورتها الياء فصار مَهِيلاً. ومذهب الكسائي والفراء والأخفش أن الياء هي المحذوفة لأن الواو جاءت لمعنى فلا تحذف، ولكن الهاء لما جاورت الياء كسرت، فلما حذفت الياء لالتقاء الساكنين انقلبت الواو (ياء) [لانكسار] ما قبلها وسكونها.

وكلهم يجيز أن يأتي على الأصل فيقال: مهيول. ولا يجيز البصريون ذلك في ذوات الواو ولا يجيزون: " كلام مقول " لثقل ذلك. وكلهم أجاز: " رجل مهول " و " ثوب مبوع " على لغة من قال: بوع الثوب. - ثم قال: {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ/ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ}. يعمي محمداً، والخطاب لجميع الخلق أي يشهد لمن آمن به وعلى من كذبه في الآخرة. - ثم قال: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}. أي: أرسلنا محمداً [إرسالاً (كما) أي]: مثلما أرسلنا موسى إلى فرعون. - {فعصى فِرْعَوْنُ. . .} موسى {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً}. أي: شديداً، فغرَّقناه ومن معه في البحر وأقررناه في عذاب مستقر حتى يصير إلى النار يوم القيامة، فكذلك يأخذكم بالعذاب أيها الخلق إن عصيتم رسولكم. ودخلت الألف واللام في لفظ " رسول " الثاني لتقدم ذكره، وعلى هذا يختار في أول الكتب: " سَلاَمٌ عَلَيْكَ " وفي آخرها: والسْلاَمُ عَلَيْكَ. وعلى هذا اختار بعض

العلماء (في التسليم)، في التسليمة الأولى: سْلاَمٌ عَلَيْكَم، وفي الثانية: السْلاَمُ عَلَيْكَم. فأَعْلَمَ الله قريشاً أنه أرسل إليهم محمداً رسولاً كما أرسل موسى إلى فرعون رسولاً. وقد كان أمرُ موسى ورسالاته مشهورة عندهم ولذلك قال الشاعر في النبي - A -. شَهِدْتُ بِإذْنِ اللهِ أَنَّ مُحَمَداً ... رَسُولٌ كَمُوسَى (أُوتِيَ) الصُحْفَ والْكُتْبَا لَهُ دَعْوَةٌ مَيْمُونَةٌ رِيحُها الصِّبَا ... بِهَا يُنْبِتُ اللهً [الحَصِيدَةَ] وَالأبَّا

- ثم قال: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً}. أي: كيف (لا) تخافون أيها الناس يوماً يجعل الولدان الصغار أصحاب شيب من هَوْلِهِ وصعوبته إن كفرتم بالله ولم تصدقوا رسولكم؟!. قال قتادة: معناه: كيف تتقون يوما هذه صعوبته وأنتم قد كفرتم به. - {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ. . .}. قال ابن عباس تشقق السماء حين ينزل الرحمن ذكره. وقال مجاهد: السماء مثقلة به أي بيوم القيامة. وقال الحسن: مثقلة. أي: محزونة بيوم القيامة.

وقال عكرمة: ممتلئة [به]. وقيل: (به) بمعنى " فيه "، (أي): السماء منفطرة في يوم القيامة، والضمير في (يجعل) ليوم القيامة، ويجوز أن يكون لله جل ذكره. - ثم قال: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}. أي: ليس لوعده خُلْفٌ. قال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة دعا ربُّنَا المَلِكُ آدمَ عليه السلام فيقول: يا آدم، قم فابعث (بعث) النار، فيقول: (أي) رب! لا علم لي إلا ما علمتني، فيقول الله جل ذكره: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين: فيساقون إلى النار سوداً مقرنين زُرْقاً فيشيب هنالك كل وليد.

قال بان زيد: يشيب الصغار من كرب ذلك اليوم. - ثم قال: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ. . .}. أي: هذه الآيات - في ذكر هول القيامة - عبرة وعظة لمن اتعظ. - {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً. . .}. هذا تهدد، والمعنى: فمن شاء اتخذ إلى (رحمة) ربه طريقا بتركه العصيان وقبوله للإيمان، ومن لم يشاء ذلك فالله له بالمرصاد. - ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ. . .}. هذا حين فرض الله عليهم قيام الليل بقوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}.

فالمعنى: على قراءة من خفض {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم للصلاة أحياناً أدنى من ثلثي الليل [وأحياناً أدنى] من نصفه وأحياناً أدنى من ثلثه، فأَعْلَمَهُ أنه [لا] علم له بالمقدار وأن الله هو العالم بمقدار الوقت الذي يقوم فيه. ودل على ذلك {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي: علم الله أنك لا تعرف مقدار قيامك. فأما من قرأ بنصب (نصفه وثلثه) فمعناه: إن ربك يا محمد يعلم أنك تقوم للصلاة أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفَه وتقوم ثلثَه، فيكون المعنى أن النبي قد أصاب المقدار في قيامه النصِّفَ: (و) الثُّلَثَ، ويكون قوله {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} هو أدنى من الثلثين، {نِّصْفَهُ} هو النصف المذكور هنا، {أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} هو الثلث

المذكور هنا، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} هو أدنى من الثلثين أيضا المذكور هنا. ويكون على هذا التأويل معنى {أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي تطيقوه. وعلى القول الأول معناه: [أن] لن تعرفوا مقداره. - وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ. . .}. أي تاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم وضعفتم عنه أي: رجع لكم إلى التخفيف عنكم. هذا كله ناسخ لفرض القيام في أول السورة. - ثم قال: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن. . .}. أي: ما خف عليكم مما هو دون الثلث. - ثم قال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى. . .}. أي: أنه سيكون منكم مرضى (فلا يقدرون) على القيام فخفف عنكم ذلك. ثم قال/: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله. . .}.

أي: وعلم أنه سيكون منكم مسافرون للتجارة فيَشِقَّ عليهم القيام [لشغلهم] مع تعبهم من سفرهم، وعلم أنه سيكون منكم آخرون يجاهدون العدو فيشق عليهم القيامة لشغلهم مع عدوهم فخفف عنهم القيام لذلك. - ثم قال: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. . .}. أي: من القرآن، أي ما خف عليكم. قال الحسن وابن سيرين: صلاة الليل فرض على كل مسلم لو قَدْرَ حَلْبَ شاةٍ بقوله {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال الحسن: ولو خمسين آية. وسئل الحسن عن رجل استظهر القرآن ولا يقوم به فقال: يتوسد القرآن، لعن الله ذلك. وقال السدي {مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}: " مائة آية ". وقال الحسن: (من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن).

قال كعب: من قرأ مائة في ليلة كتب من القانتين. وقيل: الآية منسوخة لأنه ثبت عن النبي - A - أنه لا فرض إلا خمس صلوات، وعلى ذلك أجمع المسلمون وهو الصواب إن شاء الله. - ثم قال: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}.

يعني الفرض من ذلك، أي: أقيموا ذلك بحدوده وفروضه في أوقاته. - ثم قال: {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً. . .}. أي: أنفقوا في سبيله من أموالكم. قال ابن زيد: القرض هنا: النواف سوى الزكاة. - ثم قال: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله. . .}. أي: ما تقدموا في الدنيا من صدقة أو نفقة في سبيل الله أو غير ذلك من فعل الخير لطلب ما عند الله تجدوه في [معادكم] يجازيكم به الله. - ثم قال: {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً}. أي: هو [خير] مما علتم في الدنيا للدنيا، وأعظم ثوابا عند الله.

- ثم قال: {واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. أي: واسألوا الله المغفرة، إنه (غفور)، أي: ذو غفران لذنوب المؤمنين وستر عليهم (رحيم) بم أن يعذبهم [على ذنوبهم] بعد توبتهم منها وغفرانه لهم.

المدثر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المدثر مكية - قوله تعالى: {يا أيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} إلى قوله: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ}. أي: يا أيها المدثر بثيابه عند نومه. وروي أن النبي A [ قيل له ذلك] وهو متدثر بقطيفة. ذكره النخعي. وروي أن هذا أول ما أنزل على النبي A. رواه جابر بن عبد الله قال: " حَدَّثَنِي النَّبِيُّ A، قالَ: جَاوَرْتُ فِي حِرَاءَ، فَلَمَّا

قَضَيْتُ [جِوَارِي] هَبَطْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ [الوَادِيَ]، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَخَلْفِي (وَقُدَّامِي) فَلَمْ أَرَ شَيْئاً، فَنَظَرْتُ فَوْقَ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ - يَعْنِي المَلَكَ - جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ [فَجُثِثْتُ] مِنْهُ. فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، (دَثِّرُونِي)، وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً. وَأُنْزِلَ عَلَيَّ {يا أيها المدثر} ".

وقال الزهري: كان أول شيء أنزل عليه: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} حتى بلغ {(عَلَّمَ الإنسان) مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]. قال ابن عباس: {يا أيها المدثر}: " يأ أيها النائم ". وقال قتادة: المدثر في ثيابه. وقال عكرمة: معناه: " دُثر هذا الأمر فقم به "، يعني النبوة. - وقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ}. أي: قم من نومك فأنذر قومك عذاب الله على شركهم بالله. - {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}. أي: فعظم. - {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. أي: لا تلبسها على معصية ولا [غدرة]. قاله ابن عباس.

وعنه أيضاً: فطَهِّرْها من الإثم. وقال النخعي: فطهرها من الذنوب. والعرب تقول لرجل إذا نكث ولم يف بعده: إنه لدنس الثياب، وإذا أوفى بعهده، وأصلح: إن لمُطَهَّر الثياب. وقال الضحاك: معناه: " لا تلبس ثيابك على معصية ". وقال ابن زيد: معناه: " وعملك فأصلحه "، قال: والعرب تقول للرجل الخبيث العمل: فلان خبيث الثياب. وإذا كان حسن العمل (قالوا: فلان طاهر الثياب.

وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: " لا تلبس ثيابك) من [مكسب] غير طيب. وعن مجاهد أن معناه: " لست بكاهن ولا ساحر، فأَعْرِض عما قالوا ". (وقال) ابن سرين: معناه: اغسل ثيابك من النجاسة. وهو قول ابن زيد، وبهذا احتج الشافعي في وجوب طهارة الثوب (وأنه فرض. مذهب مالك أن طهارة الثوب ليس بفرض، وهو قول هل المدينة وإنما طهارة الثوب) سنة. ولذلك، من صلى بثوب نجس ولا يعلم أعاد في

الوقت. ولو كانت طهارة الثوب/ فرضاً لأعاد أبداً. وكذكك البدن تقع فيه النجاسة ليست طهارته فرضاً. يدل على ذلك إجماع المسلمين على أن صلاة من استجمر بالحجارة من الغائط جائزة، مع أن موضع خروج الأذى لم يغسل بالماء. - ثم قال: {والرجز فاهجر}. أي: والأَوْثَانَ فاهجر عبادتها. والضم والكسر في الراء لغتان عند الفراء. وقيل: الكسر معناه العَذاب. فتكون الأوثان سميت بالعذاب. لأنها سببه. والضم معناه الأوثان. وأول من

فرق بينهما الكسائي. وأكثر الناس على أنه لا فرق بينهما وأنه يراد به الأوثان، [ضَمَمْتَ] الراءَ أو كَسَرْتَها. قال ابن عباس: الرجز: " السخط، وهو الأصنام ". وقال مجاهد وعكرمة: الرجز: " الأوثان. وقاله الزهري. وقال قتادة: " الرجز: صنمان كانا عند البيت: [إساف ونائلة]، يَمْسَحُ وُجُوهَهُمَا من أتى عليهما، فأمر الله نبيه أن [يجتنبها] ويعتزلهما ". قال ابن زيد: " الرجز آلهتهم التي كانوا يعبدون، (أمره الله) أن يهجرها [فلا يأتيها ولا يقربها] ".

وقال النَّخعي: المعنى: والمعصية [فاهجر]. - ثم قال تعالى {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}. قال ابن عباس: معناه: ولا تعط يا محمد عطية لتعطى أكثر منها. وهو (معنى) قول أكثر [المفسرين]. وهذا خصوص للنبي A، وهو مباح لأمته إلا أنه لا أجر [لهم] في ذلك. وهو قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} [الروم: 39] وقد قال الضحاك: هو الربا (في) الحلال [قال]: وهما ربوان: حرام

وحلال. فأما الحلال فالهدايا. وأما الحرام فالربا بعينه. وقال الحسن: معناه: لا تستكثر عملك الصالح. وهو اختيار الطبري. وقال الربيع بن أنس: معناه: " لاَ يَكْثُرَنْ عملُك في عينك، فإنه فيما أنعم الله [عليك] وأعطاك قليل ". وعن مجاهد أن معناه: لا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم: " حبل منين " إذا كان ضعيفاً. وفي قراءة ابن مسعود: " وَلاَ تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ ". قال الكسائي: فإذا حذف " أن " رفع، وهو حال (عند) البصريين.

وقال ابن زيد: معناه: لا تمنن بالقرآن والنبوة فتستكثرهم به، تأخذ على ذلك عوضاً من الدنيا. - ثم قال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فاصبر}. أي: اصبر على ما تَلْقَى من قومك لربك [واحتمل] أذاهم. وقال ابن زيد: معناه، اصبر على محاربة العرب والعجم، قال: " حُمِّلَ أمراً عظيماً، مُحَارَبَةَ العرب ثم العجم من بعد العرب في الله ". وقال النخعي: معناه: ولربك فاصبر على عطيتك، ولا تعطها لتأخذ أكثر منها، بل احتسبها الله. - ثم قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}.

يقال: [عَسُرَ] الأمرُ إذا صَعُبَ فهو عَسِيرٌ، و [عَسِرَ] فهو عَسِرٌِ. والمعنى: فإذا نفخ في الصور فذلك [يوم] شديد صعب غير سهل على الكافرين. روى ابن عباس أنَّ النبي A قَالَ: " كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنُ [وَحَتَى] جَبْهَتَهُ لِيَسْتَمِعَ مَتَى يُؤْمِرُ، يَنْفُخُ فِيهِ. قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ A أَنْ يَقُولُوا {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89].

قال عكرمة: الناقور: الصور. قال مجاهد: (هو) شَيْءٌ كَهَيْئَةِ [البُوقِ]. - ثم قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}. أي: كِلْ - يا محمد - أَمْرَ هذا الذي خلقته في بطن أمه وحيداً لا شيء له من مال ولا ولد، يعني بذلك الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن عباس: " أَنْزَلَ اللهُ فِي الوَليدِ بِنْ المُغِيرَةِ {ذَرْنِي} {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}. [وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. . .} [الحجر: 92] إلى آخرها. وقيل: معناه: دعني يا محمد ومجازاة من خلقته وحده، فيكون " وحيداً]

على القول الأول حالاً من الهاء المحذوفة في " خلقته ". وعلى (هذا) القول الآخر حالاً من التاء في " خلقته ". وفي هذا الكلام تهدد عظيم ووعيد. والعرب تقول: ذرني وزيداً، أي: كِلْ عقوبته ومُطالَبَتَهُ إلي. فالمعنى: كِلْ - يا محمد - عقوبة هؤلاء إلي، فلست أحتاج [في ذلك] إلى معين ولا ظهير. ويُرْوى أنه كان يقول: أنا الواحد بن الوحيد، ليس لي من العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير. - ثم قال تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً}. قال مجاهد وابن جبير: هو ألف دينار. وقال سفيان: (بلغني) أنه أربعة آلاف دينار. وقيلأ: هو الأرض يزرع فيها. قاله النعمان بن سالم. وقال عمر بن

الخطاب Bهـ: هو غَلَّةٌ شهر [بشهر]. - ثم قال تعالى: {وَبَنِينَ شُهُوداً}. أي: وجعلت له بنين شهوداً، أي: [حضوراً]. روي أنه كان له عشرة من الولد. وقد قاله/ مجاهد وغيره. وروي أنه ما زاد بعد نزول هذه الآية إلا [ارتكاساً] في ماله وولده ونفسه. - ثم قال: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً}. أي: بسطت له في العيش بسطاً. قاله سفيان. وقال مجاهد: " من المال والولد ". - ثم قال: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ. . .}. ثم يَأْمِلُ أن أزيده من المال والولد على ما أعطيته {كَلاَّ}: أي: ليس الأمر

على ما يُؤَمِّلُ، أي: لا يكون ذلك]. - ثم قال: {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً}. أي: إنه كان لرد حجتنا وآياتنا معانداً، مجانباً. يقال: عَنُدَ البَعيرُ [يَعْنِدُ عُنُوداً]، و [بَعِيرٌ عَنُودُ]: إذَا مشى مجانباً للإبل لا يمشي معها. قال ابن عباس: {عَنِيداً} " جحوداً ". وهو قول قتادة. وقال مجاهد: " معانداً للحق، مجانباً له ". وقال سفيان: {عَنِيداً} " مشاقاً لنا ". - ثم قال: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً}. أي: سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة منها. وقيل: الصعود جبل من نار (يكلفون) أن يصعدوه، فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع

رجله كذلك. وروى أبو سعيد الخدري Bهـ أن النبي A قال: " الصُّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ سَبْعينَ خَرِيفاً ثُمَّ يَهْوِي كَذلِكَ أَبَدَاً ". قال مجاهد: {صَعُوداً}: " غذاباً لا راحة منه ". وقال قتادة: " مشقة من العذاب ". - ثم قال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}. أي: فكر فيما أنزل الله على نبيه من القرآن، وَقَدَّرَ فيما يقول فيه، فَلُعِنَ كيف قدَّر ما هو قائل، ثم لعن كيف قَدَّرَ القولَ فيه.

{ثُمَّ نَظَرَ}. أي: ثم تَأَتّى في ذلك. {ثُمَّ عَبَسَ. . .}. أي: قبض ما بين عينيه. {وَبَسَرَ}. أي: كلح وكَرَّهَ وجهه. قال عكرمة: جَاءَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ إلى النبي A فَقَرَأَ عليه النبي القرآنَ، فكأنه رَقَّ لَهُ، فبلغَ ذلك أبا جهل. فأتاه فقال: أيْ عَمِّ، إِنَّ قومَكَ يُريدون أن يَجْمَعُوا لَكَ مَالاً. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: يُعْطُونَكَ! فإنك أتيت محمداً تَتَعَرَّضُ لِمَا قِبَلَهُ. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً! قال: فقل فيه قولاً يَعْلَمُ أَنَّكَ مُنْكِرٌ " [لِمَا قَالَ]، وَأَنَّكَ كَارِهٌ له، قال: فماذا أقول فيه؟ فَوالله مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ مِنِّي بِالأَشْعَارِ ولاَ أَعْلَمُ

بِرَجَزِهِ وَلاَ بِقَصدِهِ، وَلاَ بِأَشْعَارِ الجِنِّ، وَ (اللهِ) لاَ يُشْبِهُ الذِي يَقُولُ شَيْئاً مِنْ هَذَا، وَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الذِي يَقُولُ لَحَلاَوَةً! وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ! وَإِنَّهُ لَيَعْلُوا وَمَا يُعْلَى! قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لاَ يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ. (فَلَمَّا فَكَّرَ فِيهِ) قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يَأْثُرُهُ [عن] غيره، فنزلت {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}. قال ابن عباس: دَخَلأَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسُأَلُهُ عَنِ القُرآن، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا عَحَبَاً لِمَا يقول ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ! فَوَاللهِ، ما هُوَ بِشِعْرٍ وَلاَ بِسِحْرٍ وَلاَ [بِهَذْيٍ] مِنْ جُنُونٍ، وَإِنهُ لَمِنْ كَلاَمِ اللهِ - جَلَّ وَعَز - فَلَمَّا سَمِعَ بِذلِكَ

النَّفَرُ (مِنْ قُرَيْشٍ) [ائْتَمَرُوا] بَيْنَهُمْ، وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ صَبَأَ الوَلِيْدُ لَتَصْبُؤَنَّ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذلِكَ أَبُو جَهْلٍ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَنَا أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ. فَانْطَلَقَ حَتَى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: [أَلَمْ تَرَ] قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ؟! قَالَ: أَلَسْتُ أَكْثَرَهُمْ مَالاً وَوَلَداً؟! فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ! قَالَ الوَلِيدُ: [أَقَدْ] تَحَدَّثَتْ بِذَلِك عَشِيرَتِي؟! فَلاَ وَأَيْمُ جَابِرٍ بْنُ قُصَيَّ، لاَ أَقْرَبُ أَبَا بَكْرٍ (وَلاَ عُمَرَ) وَلاَ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، [وَمَا قَوْلُهُ إِلاَّ سِحْرٌ] يُؤْثَرُ. فَأَنْزَلَ اللهُ {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إلى {لاَ تُبْقِي (وَلاَ) تَذَرُ}.

قال قتادة: ذكر أنه قال: والله، لقد نظرت [فيما قال هذا الرجل]، [فإذ] هو ليس بشعر، وإن له لحَلاَوَةً، وإن عليه لَطُلاَوَةً، وإنه لَيَعْلُو وما يُعْلَى، ومَا أَشُكُّ أَنَّهُ سِحْرٌ. وقال الضحاك: دعاه النبي A إلى الإسلام، فقال: حتى أنظر! فَفَكَّرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَ أَدْبَرَ واسْتَكبر، فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر، فجعل الله له سقر. قال أبو رزين (سحر) (أي): يَأْثُرُهُ من غيره. - {إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر}. أي: ما هذا الذي يتلوه محمد إلا قول بني آدم وما هو بكلام الله. [فهذا أول من قال: القرآن مخلوق، قاله الوليد بن المغيرة فأدخله الله سقر. قال بعض العلماء: فكذا يُفْعَلُ بكل من قال: القرآن مخلوقٌ، قاله أحمد بن زيد]. - ثم قال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}.

أي: [سأورده] سقر، وهو باب من أبواب جهنم. يروى أنه الباب السادس منها، نعوذ بالله منها. - {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}. أي: وأي شيء أدراك ما سقر؟، ثم بَيَّنَهُ وَأَدْرَاهُ به [فقال] في صفة سقر. - {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ}. أي: هي نارٌ لا تُبْقي من فيها حياً، ولا تَذَرُ من فيها ميتاً، لكنها تحرقهم، كلما احترقوا جُدِّدَ خَلْقُهُمْ. قال مجاهد: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} أي: لا تُحْيِي وَلاَ تُميتُ وقيل: {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ}: لا تبقي الكافر حتى يصير فحمة ثم يُعاد خلقاً جديداً ثم لا تذره حتى يعود/ عليه العذاب بِأَشَدِّ مِمَّا كان هكذا أبداً، نعوذ بالله من ذلكز - ثم قال تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}.

أي: مغيرة لبشرة من فيها. قال مجاهد: {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ}، أي: مُغَيِّرَةٌ للجلد. وقال قتادة: " خَرَّاقَةٌ للجلد ". وقيل: معناه: تَلُوحُ لأَهْلِها من مسيرة خمسمائة عام. وعلى القول الأول أكثر الناس أنها تُغَيِّرُ البَشَرَةَ. قال [أبو رزين]: تلفح الجلد لفحة تَدَعُهُ أَشَدَّ سواداً من الليل. وقال ابن عباس: " تحرق بَشَرَةَ الإنسان ". - ثم قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}. أي: من الخزنة. ذكر ابن عباس أَنَّ هَذَا لما نَزَلَ عَلَى النبي A، قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِقُرَيْشٍ: ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! أَسْمَعُ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُخْبِرُكُمْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ.

وَأَنْتُمْ [الدَّهْمُ] أَفَتَعْجَزُ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْكُمْ أَنْ تَبْطِشَ بِرَجُلٍ مِنْ [خَزَنَةِ] جَهَنَّمَ؟! فَأَوْحَى اللهُ إلى نَبِيِّهِ أَنْ يَأْتِيَ أَبَا جَهْلٍ فَيْأْخُذَ بِيَدِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ فَيقُولَ {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34 - 35]. فَلَمَّا فَعَلَ بِهِ ذَلكَ رَسُولُ اللهِ قَِالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ، لاَ تَفْعَلُ أَنْتَ وَرَبُّكَ شَيْئا. فَأَخْزَاهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ - يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ. قال كعب الأحبار: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}: ما منهم ملك إلا ومعه عمود ذو شعبتين يدفع به الدفعة فيلقى في النار تسعين ألفاً. - ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَآ أصحاب النار إِلاَّ ملائكة. . .}. أي: لم نجعل أصحاب النار رجالاً مثلكم فتطمعوا بالتغلب عليهم كما قال أبو جهل لقريش: أفلا يستطيع كل عشرة منكم أن يغبلوا منهم واحداً؟!. فإذا

كانت الخزنة ملائكة، فمن ذا يطيق الملائكة؟!. - ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}. أي: لم نجعلهم تسعة عشر فقط لقلة الملائكة؛ ولكن جعلناهم كذلك ليفتتن الذين كفروا ويستقلوا عدتهم ويُحدثوا أنفسهم بالتغلب على الخزنة حتى قال [أبو الأشد الجمحي]: أنا [أُجْهِضُهُمْ] [عن] النار. وقيل: كَلَدَةَ بن أسيد بن خلف قال: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني اثنين.

- ثم قال تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب}. أي: فعلنا ذلك ليفتتن الذين كفروا [وليتقين] الذين أُوتوا التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدة خزنة جهنم، لأنه كذلك دتهم في التوراة (والإنجيل). هذا معنى قول ابن عباس وغيره. وهو قول مجاهد. قال قتادة: يُصَدِّقُ القرآنُ الكُتُبَ التي كانت قبله، فيها كُلِّها خَزَنَةُ النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ. وهو قول الضحاك. وقال ابن زيد: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب. . .} " أنك رسول الله ". ثم قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الذين ءامنوا إيمانا. . .}. أي: تصديقاً إلى تصديقهم بعدة خزنة جنهم. - ثم قال: {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون}.

أي: ولا يشك أهل الكتاب [و] المؤمنون في حقيقة ذلك. - ثم قال: {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ. . .}. أي: نفاق. {والكافرون. . .}. يعني: مشركي قريش. - {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}. أي: ماذا أراد الله بهذا حسين يخوفنا بهؤلاء التسعة عشر. - قال الله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}. أي: كما أضل هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين: أي شيء أراد الله بهذا مثلاً؟! كذلك يضل الله من يشاء] من خلقه فَيَخْذُلُهُ عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء فيوفقه للحق. - ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ. . .}.

أي: لا يعلم (مقدار) كثرة جنود ربك يا محمد إلا رَبُّكَ. روي عن النبي A أنه قال: " إِنَّ مَلاَئِكَةٌ تَرْعَدُ فَرَائِصَهُمْ مَخَافَةً مِنْهُ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لا َتَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دَمْعَةً إِلاَّ وَقَعَتْ مَلَكاً يُسَبِّحُ، وَمَلاَئِكَةٌ سُجُودٌ مِنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ لَمْ يَرْفَعُوا رُؤوسَهِمْ وَلاَ يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمِنْهُمْ [مَلاَئِكَةٌ] وُقُوفٌ لم يَنْصَرِفُوا وَلاَ يَنْصَرِفُونَ إلى يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة، تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ - فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ!؟ ". وقال كعب: إن لله D ملائكة من يوم خلقهم قياماً، [ما] ثنوا أصلابهم، وآخرين ركوعاً ما رفعوا أصلابهم، وآخرين [سجوداً] ما رفعوا رؤوسهم حتى

يُنْفَخَ في الصور النفخةَ الآخرة فيقولون جميعاً: سبحانك! ما عبدناك كما ينبغي أن تُعْبَدَ. ثم قال كعب: والله، لو أن رجلاً عَمِلَ عَمَلَ سبعين نبيّاً، [لاسْتَقَلَ] عمله يوم القيامة من شدة مايرى يومئذ. والله، لو دلي من [غسلين] دلو واحد من مطلع الشمس، لغلت/ منه جماجم قوم من مغربها. والله، [لَتَزْفَرَنَّ] جهننم زَفْرَةً لا يبقى ملك مقرب إلا خَرَّ جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيهِ. وروى ابن المبارك حديثاً - رفعه - أن ملكاً سجدا لما استوى الرب [تعالى] على عرشه، فلم يرفع رأسه [و] لا يرفعه إلى يوم القيامة، فيقول يوم القيامة: لم أعبدك حق عبادتك، إلا أني لم أشرك بك شيئاً، ولم أتخذ من دونك ولياً. وقد وصفهم الله في كتابه فقال: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].

قال كعب: التسبيح للملائكة بمنزلة النَّفَسِ لبَنِي آدم، أُلْهِمُوا التسبيح كما ألهمتهم الطَّرْفَ والنَّفَسَ. - ثم قال تعالى: {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ}. يعني النار التي وصفها. يقول: ليس ما وصفتها به من تغييرها للبشر وعدة خزنتها إلا عظةً وعبرة للناس يتعظون بها. - ثم قال: {كَلاَّ والقمر}. أجاز الطبري الوقف على " كَلاَّ "، [جعله] رَدَّاً لِمَا قبلها. والمعنى عنده: ليس القول كما يقال من زعم أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم التسعة عشر حتى يجهضهم عنها. وقال الفرء: تقديره: " أي والقمر، وقيل: تقديره: " حقاً " (وقيل): " أَلاَ ".

- {والقمر. .}. أي: ورب القمر ورب الليل إذا أدبر، اي: ولى. - {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ}. أي: أضاءَ وأقبل. يقال: أسفر الصبح إذا أضاء وانكشف. ومنه: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته. ومنه قيل: " سفر " للكتاب الذي فيه العلم، لأنه يبين ويكشف. ومنه سفرت الريح الغمام: كشفته. ومنه: سفرت البيت: أي كنسته ومنه قيل: " سفير " للذي يسعى في الصلح، لأنه يكشف المكروه وزيله. وحكى بعض البصريين: دبرني إذا جاء خلفي. وأدبر إذا ولى. واختار [أبو عبيد] [إِذَا اَدْبَرَ]، لأن بعده: {إِذَآ أَسْفَرَ}. وحكي: دبر وأدبر: لغتان بمعنى،

يقال: دبر النهار وأدبر. ودبر الصيف وأدبر، وكذلك قبل وأقبل. فإذا قالوا: أقبل الراكب و " أدبر " لم يُقَلْ إلا بالألف. وقيل: معنى {إِذْ أَدْبَرَ} أي: إذا أدبر النهار، وكان في آخره. وسأل رجل ابن عباس عن قوله: {والليل إِذْ أَدْبَرَ} فقال: امكث، فلما سمع الأذان [الأول] قال: هذا حين دبر الليل. - ثم قال: {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر}. يعني جنهم، أي: وهي إحدى الأمور العظام. و (إحدى): فُعْلَى، نَعْتٌ، وهو قليل، إنما تأتي هذه النعوت غير المصادر بضم الأول أو بفتحه.

- ثم قال: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ}. قال أبو رزين: يقول الله جل ذكره: أنا نذير للبشر. وقال [ابن زيد]: معناه: محمد نذير للبشر. ونصبها على الحال من المضمر في " إنها " [أَوْمِنْ] " إِحْدَى ". وهذا القولان يدلان على أن النار هي النذير، وهو قول الحسن. ويجوز أن تكون حالاً من " هو " في قوله: {إِلاَّ هُوَ}، أو على إضمار فعل تقديره: صَيَّرَهَا {نَذِيراً}، هذا على قول أبي رزين. وقال الكسائي: هي حال من المضمر في {قُمْ} أي: قم نذيراً، من أول السورة. وهو يرجع إلى قول ابن زيد. وقيل:

37

{نَذِيراً} بمعنى إنذار، فنصبه على المصدر. (وقيل: نصبه على المصدر) [وقيل: نصبه على أعني]. ومن جعله للنار حذف [الياء] من " نذير " لأنه بمعنى النسب. - قوله: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}، إلى آخر السورة. أي: نذيراً للبشر لما شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله {أَوْ يَتَأَخَّرَ} في معصيته. قاله قتادة. وهو معنى قول ابن عباس. - ثم قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}. أي: كل نفس بما عملت من معصية الله في الدنيا رهينة في جهنم. - {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين}. فإنهم غير مرتهنين، ولكنهم {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين}. قال ابن عباس: {رَهِينَةٌ} أي: " مأخوذة [بعملها] ". وقاله قتادة. قال

مجاهد: {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} " لا يحاسبون ". [وقال] ابن زيد: أصحاب اليمين لا يرتهنون بذنوبهم، ولكن يغفرها الله D. وقال الضحاك: (معناه): كل فنس سبقت لها كلمة العذاب يرتبهنها الله D في النار، ولا يرتهن أحدا من أهل الجنة. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين}: هم " أطفال المسلمين ". وقال ابن عباس: " [هم] الملائكة ". فمن قال: هم الأطفال [أو هم الملائكة] استدل بقولهم للمجرمين {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}، وذلك أنهم لم يقترفوا ذنوباً في الدنيا. ولو اقترفوها ما سألوا عن ذكل، وكل من دخل الجنة غير الأطفال فقد كانت لهم ذنوب. وقال الضحاك:

هم {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101]. ومعنى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}: [ما] أدخلكم في سقر؟! وقرأ ابن الزبير: " يتساءلون عن المجرمين، يا فلان: مَا سَلَكَكم في سقر ". [وهذه] قراءة على التفسير. وقيل: معناه/ أن المؤمنين يسألون الملائكة عن قراباتهم من المشركين، (فتسأل الملائكة المشركين) تقول لهم: ما سلككم في سقر؟! فيقول [المشركون] ما حكى الله من قولهم، وإقرارهم على أنفسهم بالجحود والكفر. ومعنى: {مِنَ المصلين}: من الموحدين. - ثم قال تعالى حكاية عن جواب المشركين: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين}. أي: لم نكن - في الدنيا - من المصلين لله.

- {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين}. أي: نخوض في الباطل مع كل من يخوض فيه. قال قتادة: نخوض مع الخائضين، أي: (كلما غوى غاو غووا معه). - {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين}. أي: نقول: لا بعث ولا جزاء ولا جنة ولا نار. - {حتى أَتَانَا اليقين}؟ أي: الموت. - {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين}. أي: فما يشفع لهم الذين يشفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد فتنفعهم شفاعتهم. ففي هذا دليل بين أن الله يشفع بعض خلقه في بعض. قال ابن مسعود في قصة طويلة في الشفاعة (قال): ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء الصالحون المؤمنون، ويشفعهم الله فيقول: أنا أرحم الراحمين. قال ابن مسعود: لا يبقى في النار إلا أربعة. ثم يلتو: {[لَمْ] نَكُ مِنَ المصلين} إلى: {. . . الدين}.

قال أنس بن مالك: " إن الرجل ليشفع للرجلين والثلاثة [والرجل] ". وقال: أبو قلابة: " يدخل الله بشفاعة رجل من هذه الأمة (الجنة) مثل بني تميم - أو قال: أكثر من بني تميم - ". وقال الحسن: " مثل ربيعة ومضر ". - ثم قال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ}. فما لهؤلاء المشركين عن تذكرة الله إياهم بهذا القرآن معرضين لا يستعمون ولا يتعظون؟! - ثم قال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ}. أي: كأنهم في نفارهم عن القرآن حُمُرٌ مذعورة خائفة من الرماة [قد] نفرت. ومن قرأ {مُّسْتَنفِرَةٌ} - بالكسر - فمعناه نافرة، ومن فتح

[فمعناه]: مذعورة خائفة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة: القسورة: الرماة. وقال معمر: هي [النبل]. وقال ابن جبير: هي رجال القنص. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس. [وعنه] أيضاً: هي جماعة الرجال، وعنه أيضاً: هي أصوات الرجال. وقال أبو هريرة: هي الأسد، روي ذلك أيضاً عن ابن عباس. والقسورة مشتقة من القسر، وهي الغلبة. - ثم قال: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً}.

أي: ما بهم في إعراضهم عن الإيمان والقرآن إلا أن يُعْطَى كل إنسان منهم كتاباً من السماء ينزل عليه. - {كَلاَّ}، أي: لا يكون ذلك. قال قتادة: قال قائلون من الناس: يا محمد، إن سَرَّكَ أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان (يؤمر) فيه باتباعك. وقال مجاهد: يريدون أن ينزل عليهم كتاباً إلى فلان من رب العالمين. وقيل: المعنى: بل يريد كل إنسان منهم أن يذكر بذكر جميل، فجعلت الصحف في موضع الذكر على المجاز. وقيل: قالوا: إن كان الإنسان إذا أذنب كتب عليه، فما بالنا لا نؤتى ذلك؟!. - ثم قال: {بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة}. أي: لكنهم لا يخافون عقاب الله، ولا يرجون ثوابه، فذلك الذي دعاهم إلى الإعراض عن تذكرة الله، وهَوَّنَ عليهم ترك الأستماع لوحي الله وتنزيله. قال قتادة: " إنما أفسدهمه أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة، ولا يخافونها ".

- ثم قال: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ}. أي: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في القرآن: إنه سحر يؤثر وإنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله خلقه. - ثم قال: {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ}. أي: فمن شاء من عباد الله - الذين ذكرهم بهذا القرآن - ذكره فاتعظ به [واستعمل] ما فيه. (ويحسن أن يكون {كَلاَّ} في هذين الموضعين بمعنى " أَلاَ " فيبتدأ بها)، ويحسن أن يكونا بمعنى " حقاً ". - ثم قال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله هُوَ. . .}. أي: وما تذكرون هذا القرآن فتتعظون به [وتستعملون] ما فيه إلا أن يشاء الله ذلك، لأنه لا أحد يقدر على شيء إلا بمشيئة الله وبقدرته. والتاء في

{يَذْكُرُونَ} للخطاب. الياء على لفظ الغيبة. - ثم قال: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة}. أي: الله أهل أن يَتَّقِي عبادُه عقوبتَه/ على معصيته إياه فيسارعوا إلى طاعته واجتناب معصيته، والله أهل أن يغفر لمن تاب من ذنوبه وسارع إلى طاعته (ونزع) عن معصيته. روى أنس " أن النبي A قال في قوله: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة}، قال: " يَقُولُ رَبُكُمْ. أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى أَنْ يُجْعَلَ مَعِي إِلَهٌ غَيْرِي، وَمَنْ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهاً (غَيْرِي) فَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ ".

قال قتادة: معناه: " هو أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب ". وسئل طلق من حبيب عن التقوى فقال: أعمل بطاعة الله ابتغاء وجه الكله على نور من الله، وتجنب معصيته الله مخافة عذاب الله على نور من الله. وروى أنس " أن النبي A سئل عن هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} فقل: " إِنَّ اللهَ يقول: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلاَ يُجْعَلَ مَعِي شَرِيكٌ. وَأَنَا أَهْلُ المَغْفِرَةُ لِمَنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعِي شَرِيكاً ". قال أبو محمد Bهـ: وهذا الحديث خير من الدنيا وما فيها، [وهو] من رواية ابن عباس، حديث صحيح.

القيامة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القيامة مكية - قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة}، إلى آخرها. من النحويين من قال: " لا " زائدة كزيادتها في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]. ولم يمتنع أن تزاد في أول الكلام، لأن القرآن كله كسورة واحدة. وقد صح عن ابن عباس وغيره أنه قال: إن الله جل ذكره أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر. ثم نزل متفرقاً من السماء على النبي A. وقد قال الفراء:

" لا " لا تزاد (" لا " في النفي)، وخالفه غيره فأجاز زيادتها في غير النفي. وقيل: [إن] " لا " من قوله: {لاَ [أُقْسِمُ]}: جواب، ثم استأنف فقال: أقسم بيوم القيامة. وكذلك هي زائدة [بلا] اختلاف في قوله: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس}، لانها متوسطة بلا اختلاف، ولأنها بعد نفي. هذا على قول من جعله أيضاً قسماً ثانياً. ومن جعله غير قسم جعل " لا " نافية. وهو قول الحسن. وقد قرأ قُنْبُل عن ابن كثير: " لأُقْسِمُ " بغير ألف بعد اللام، وهو غلط عند الخليل وسيبويه، لأنها لام عند

قسم تلزمها النون المشددة. قال ابن جُبير: " {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} معناه: أقسم بيوم القيامة ". وقال أبو بكر ابن عياش: {لاَ} تأكيد للقسم، بقولك: لا، والله. وحكي عن بعض الكوفيين أن {لاَ} رد لكلام قد مضى من المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار. ثم ابتدأ القسم فقال: {أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة}. وكان يقول: كل يمين قبلها رد لكلام فلا بد من تقدم " لا " ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحداً واليمين التي تستأنف. قال: ألا ترى أنك تقول مبتدءاً: والله إن الرسول لحق؟ فإذا قلت: لا، والله إن الرسول لحق، فكأنك كذبت قوماً أنكروه. وقيل: " لا " تنبيه بمعنى " ألا ". كما قال امرؤ القيس: لاَ وَأَبيكِ ابْنَةَ العامِر [يِّ] ... لا يدّعي القومُ أَنِّي [أَفِرّ]

يريد: ألا. قال ابن عباس: قوله: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس} (هو أيضاً) قسم. أَقْسَمَ ربنا بما شاء من خلقه. وهو قول قتادة. وهو اختيار الطبري، فتكون " لا " الأولى رداً لكلام ت قدم، و " لا " الثانية زائدة. وقال الحسن: {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس} ليس بقسم. والمعنى: ولست أقسم بالنفس اللوامة. فتكون " لا " الأولى [رداً] لكلام تقدم أو زائدة، و " لا " الثانية نافية غير زائدة. وتأويل الكلام عند الطبري: لا، ما الأمر. كما تقولون: أيها الناس. كأنه (يقدرُ) جواب القسم محذوفاً. كأنه قال: (لا)، ما الأمر، كما تقولون: إن الله لا يبعث أحداً، أقسم بيوم القيامة ما الأمر كما تقولون. ودل على ذلك قوله: {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}، وقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن [نَّجْمَعَ] عِظَامَهُ}، أي:

أيحسب أن لن يبعث بعد موته؟! {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى}، (على خلاف) ظنهم أنهم لا يبعثون. فالمعنى: ما الأمر كما تقولون أيها الناس من أن الله لا يبعث عباده بعد مماتهم، أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة. قال: والمعروف في كلام الناس: إذا قال الرجل: " لا، والله ما فعلت " أن قولهم " لا " رضدُّ الكلام. وقولهم: " والله ": ابتداءُ يمينٍ فكذلك {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة}. - وقوله: {بالنفس اللوامة}. أي: بالنفس التي " تلوم على الخير والشر ". قاله ابن جبير. وقال مجاهد: معناه بالنفس التي تندم وتلوم على ما فات. يروى أنه ما من نفسي إلا تلوم نفسها يوم القيامة. يلوم المحسن نفسه: أَلاَ ازْدَادَ خيراً؟! ويلوم المسيء نفسه (على إساءته/ وعلى ما فاته من التوبة. قال الحسن: المؤمن يلوم نفسه ويعاتبها ويقول): [لِمَ] أَكلت؟!

[لم شربت]؟! لم تحدثت؟! لم تكلمت؟! - يعني: يفعل ذلك في الدنيا - قال: والكافر لا يعاتب نفسه، يَمُرُّ قدماً قدماً في الذنوب. وعن الحسن [أيضاً] أنه قال: هو المؤمن، إن تلقاه إلا يعاتب نفسه: [ما أردت بكذا]؟! [ما أردت] بنظرك ما أردت بكلمتك؟! وقال قتادة: اللوامة: " الفاجرة ". وعن ابن عباس: هي " المذمومة ". - ثم قال: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ}. أي: أيظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟! يعني: أيحسب الكافر أنه لا يبعث بعد تفرق عظامه؟! بلى نقدر على أعظم من ذلك، وهو أن نسوي أصابع يديه ورجليه فنجعلها شيئاً واحداً [كَخُفِّ] البعير، وحَافِرِ الحمار، فلا يقدر أن يأكل بيديه ويرجع إلى الأكل بفمه كالبهائم، ولكن (الله) فرق أصابع

يديه ورجليه ليتناول بها ويُفْضِيَ إذا شاء، هذا معنى قول ابن عباس وغيره من المفسرين. ونصب {قَادِرِينَ} على الحال، أي: نجمعها في حال قدرة على تسوية بنانه. هذا قول سيبويه. وقيل: التقدير: بل نقدر، فلما وقع {[قَادِرِينَ]} في موضع " نقدر "، نصب على الحال. وهذا غلط، لأنه يلزم أن يقول: " قائماً زيد " [بنصب] " قائم " إذا رفع " زيداً " بفعله، لأنه في موض " يقوم ". وقال الفراء: تقديره: بلى، نقوى على ذلك

قادرين. - ثم قال: {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}. أي: ليس يجهل الإنسان أن ربه يقدر على جمع عظامه وإحيائه بعد موته، ولكن يريد أن يمضي أمامه قدماً لا يُثْنَى عن ذنوبه ولا يتوب من كفره، ويُسَوِّفُ بالتوبة. قال بان جبير: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}، يعني الأمل، يقول: أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة. قال مجاهد: يمضي ابن آدم {أَمَامَهُ} راكباً رأسه. وقال الحسن: لا تلقى ابن آدم إلا تَنْزَعُ نَفْسُهُ إلى معصية الله قُدُوماً قُدُماً إلاَّ من عصم الله. وقال عكرمة:. . . " لا ينزع عن فجوره ". وقال الضحاك: يركب رأسه في طلب الدنيا دائماً، لا يذكر الموت، يقول: أصيبُ من الدنيا كذا، وأصيب من الدنيا كذا، ولا يذكر الموت.

وعن ابن عباس أن معناه أن الإنسان هُنَا " الكافر، يكذب بالبعث والحساب "، وهو قول ابن زيد. فالهاء في {أَمَامَهُ} للإنسان [في جميع هذه] الأقوال. وقيل: الهاء ليوم القيامة، والمعنى: بلى يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة. وقيل: المعنى: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. - ثم قال: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة}. أي: يسأل الإنسان الدائم في معصية الله: متى يوم القيامة؟! تسويفاً منه بالتوبة. قال قتادة: [يقول]: " متى يوم القيامة ". قال عمر بن الخطاب: " من

سأل عن يوم القيامة فليقرأ هذه السورة ". قال ابن عباس: معناه: يقول الإنسان: سوف أتوب. ق ال: فبين له، فقيل له: {فَإِذَا بَرِقَ البصر * وَخَسَفَ القمر. . .}. - {فَإِذَا بَرِقَ البصر}. من فتح الراء فمعناه: [لمع] عند الموت، ومن كسر فمعناه: حَارَ وفَزعَ [عند الموت]. قال قتادة: {بَرِقَ (البصر)}: شخص، يعني: عند الموت. وقيل: ذلك يوم القيامة عند المبعث.

وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن بعده: {وَخَسَفَ القمر * وَجُمِعَ الشمس والقمر * يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر}، فهذا كله يوم القيامة يكون فكذلك {بَرِقَ البصر}. وقيل: الفتحُ في الراءِ والكسرُ لغتان، بمعنى: لَمعَ وشَخَصَ. ويدل على [صحة] ذلك قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ [طَرْفُهُمْ]} [إبراهيم: 43]، فهذا هو الشخوص، [لا تُطْرَفُ] أَعينُهُم، وذلك من شدة هول يوم القيامة. - ثم قال: {وَخَسَفَ القمر}. أي: ذهب ضوءه. - {وَجُمِعَ الشمس والقمر}. أي: جمع بينهما في ذهاب الضوء، فلا ضوء لواحد منها. وفي قراءة عبد الله: وجمع بين الشمس والقمر. روي أنهما يجمعان فيكوران

كما قال تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] (قال مجاهد: كورتا يوم القيامة. وقال بان زيد: جمعتا فرُميَ بهما في الأرض. وتأويل {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] أن معناه: كورت في الأرض، [أي] [رمي] بها. فيكون معنى الجمع بينهما هنا: أن يُرْمَى بهما في الأرض. وقال عطاء: يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في البحر [فيكونان] نار الله الكبرى. وقيل: {وَجُمِعَ}، ولم يقل: " وجمعت "، لأن معناه: وجمع بين الشمس والقمر. فحمل على تذكيرين. وقيل: لما كان الكلام لا يتم إلا بالقمر، غلب

المذكر - وهو القمر -. وقال الكسائي: حمل على المعنى. والتقدير: وجمع/ النوران الضياءان. قوال المبرد: ذُكِرَ {وَجُمِعَ} لأنه تأنيث غير حقيقي، [إذ] لم تؤنث الشمس للفرق بين شيء وشيء. فلذلك، تذكيره على معنى: " شَخْص " وِ " شَيْء ". - ثم قال: {يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر}. أي: يقول الإنسان - مما يرى من الأهوال يوم القيامة -: أين الفرار؟!، " والمَفَرُّ " مصدرٌ. عن ابن عباس: " أَيْنَ المَفِرُّ " بكسر الفاء، وروي عن عيسى بن عمر

وابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر، فهو على هذا: اسم مكان، أي المكان الذي يفر إليه. وأجاز في المصدر الكسر. - ثم قال: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ}. أي: لا، ليس هنالك يا ابن آدم فرار، ولا مكان يلجأ إليه ويفر إليه، ولا جبل ولا معقل. قال ابن عباس: {لاَ وَزَرَ}: " لا حصن (ولا ملجأ ". وقال

مطرف بن الشخير: {لاَ وَزَرَ}: لا جبل، إن الناس إذا فروا قالوا: عليك بالوزر. وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة. وقال الضحاك: {لاَ وَزَرَ}: " لا حصن) وهو قول أبي قلابة. وقال ابن جبير: لا محيص. وقال عكرمة: لا منعمة. وأصل هذا أنهمه كانوا إذا ضُيِقَ عليهم في الحروب والهزائم الشداد لجؤوا إلى الجبال والمعاقل، فأعلموا أنه لا ملجأ من عذاب الله في القيامة إلى جبل ولا إلى غيره. - ثم قال: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر}. قال ابن زيد: " استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار " وقال قتادة: معناه: إلى ربك يومئذ المنتهى. - ثم قال: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}. أي: يُخْبر الإنسان يوم يجمع الشمس والقمر بما قدم من عمله وما أخر بعده مما

يعمل به من أجله. قال ابن عباس: " يخبر الإنسان يوم القيامة بما عمل قبل موته وبما سَنَّ فَعُمِلَ به بعد موته ". وقاله ابن مسعود. وقيل: المعنى: بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة. روي ذلك أيضاً عن ابن عباس. وقال مجاهد: معناه: بخير الإنسان يوم القيامة بأول عمله وآخره. وقال قتادة: يخبر بما قدم من طاعة الله وبما أخر، أي: ما ضيع من حق الله. وقال ابن زيد: {وَأَخَّرَ} معناه: بما ترك من العمل بطاعة الله. و {بِمَا قَدَّمَ} [معناه]: ما قدم من عمل من خير أو شر. وقيل: ما أخر: ما أوصى به بعد موته، وما أبقى من أثر عمله بعده. - ثم قال تعالى: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}.

أي: هو شاهد على نفسه. قال ابن عباس: " يشهد عليه سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه "، فيكون {الإنسان} ابتداء، و {بَصِيرَةٌ} ابتداءٌ ثانٍ، و {على نَفْسِهِ} خبرٌ، والجملة خبرُ [عن] الإنسان. وقال ابن جبير وقتادة: معناه: أن الإنسان عراف بيبه، فهو عارف بعيب غيره، متغافل عن عيبه. فيكون {الإنسان} على هذا التأويل ابتداء، و {بَصِيرَةٌ} خبره. ودخلت الهاء في " بصيرة " للمبالغة. وقيل: دخلت حملا على المعنى، [لأن] المعنى: بل الإنسان حجة على نفسه. وقيل: معنى {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}: يعني الكاتبين يكتبان خيره وشره. ودل على ذلك قوله: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ}، أي: ولو سدل ستوره ليخفي

صنعه لم ينفعه شيء. - ثم قال تعالى: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ}. أي: بل الإنسان شاهد على نفسه ولو اعتذر مما أتى من المآثم وجادل بالباطل [لا ينفعه] ذلك شيئاً. قال ابن عباس: " {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} يعني الاعتذار. ألم تسمع إلى قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] يعني قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} [النحل: 28]، وقولهم: {رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]؟! قال ابن زيد: " قوم يؤذن لهم فيعتذرون فلا ينفعهم العذر، وقوم لا يؤذن لهم فيعتذروا ". وقال مجاهد: {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ}: " ولو جادل عنها فهو بصيرة عليها ".

وقال السدي: " معناه: ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب ". وقال الحسن و [قتادة]: " (معناه): ولو ألقى معاذيره لم تقبل منه "، إذ هي باطل. - ثم قال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}. أي: لا تحرك يا محمد بالقرآن - إذا نزل عليك - (لسانك) لتعجل به. روي أن النبي A كان إذا نزل عليه شيء من القرآن عجل به يريد حفظه [لحبه] إياه، فقيل: لا تعجل به، فإنا سنحفظه عليك. قال ابن عباس: كَانَ النبي A يَلْقَى مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، يُحَرّكُ شَفَتَيْهِ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}، أَيْ: جَمْعَهُ في صَدْرِكَ، وَأَنْ تَقْرَأَهُ. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع (قُرْآنَهُ)}، أَيْ: فَأَنْصِتْ وَاسْتَمِعْ. {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.

(أَيْ): (إِنَّ) عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ/، قَالَ: فَكَانَ النبي A إِذَا أََتَاهُ جِبْرِيلُ [اسْتَمَعَ]، فَإِذَا انْطَلَقَ قَرَأَهُ (كَمَا قَرَأَهُ). قال الشعبي: " كَانَ النبي A إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوحيُ عَجِلَ يَتَكَلَّم بِهِ مِنْ حُبِهِ إِيَّاهُ، فَنَزَلَ: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}. وقال ابن زيد: " (معناه): لا تكلم بالذي أوحينا إليك حتى نقضي إليك وحيه، فإذا قضينا إليك وحيه فتكلم به ". وقال الضحاك: كان النبي A إذا نزل عليه القرآن حرك به لسانه مخافة أن ينساه، فقيل له: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي: حفظه في [قلبك]. وأن تقرأه بعد حفظه. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة. [وقال قتادة]: معنى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي:

جمعه في قلبك حتى تحفظه {وَقُرْآنَهُ} أي: [تأليفه]. يقال: قرأت هذه الفاتحة في بطنها جنيناً إذا ضمت رحمها على ذلك. - وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ}. معناه عند ابن عباس: (" فإذا أنزلناه إليك فاستمع قرآنه ". وعنه أيضاً أن [معناه]: " فإذا تلي عليك فاتبع ما فيه ". وقال قتادة: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} " فاتبع) حلاله، واجتنب حرامه ". وقال الضحاك: " فاتبع مافيه ". وعن ابن عباس أيضاً أن معناه: فإذا بيناه فابتع قرآن، أي: اعمل به. - وقوله {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}.

أي: علينا بيان ما فيه من حلال وحرام [وأحكام]، فأعلم الله - جل ذكره - أنه المتولي لحفظ كتابه علينا، ولم [يكل] ذلك إلينا، فَسَلِمَ من التغير. [ولو وكله] (إلينا) لم نأمن أن يغيره ويبدله زنادقة هذه الأمة، فالحمد لله على ذلك، وقد وكل الله حفظ التوراة والإنجيل إلى اليهود والنصارى فغيروةا وبدلوا. وقد سئل سفيان بن عيينة فقيل له: كيف غيرت التوراة والإنجيل وهما من عند الله؟! فقال: إن الله جل ثناؤه وكل حفظهما إليهما، فقال جل ذكره: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44]، ولم [يكل] حفظ القرآن إلى أحد، فقال جل ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فما حفظه الله علينا لم يغير. وقيل: معنى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي [أن] نبينه بلسانك.

- ثم قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة}. أي: ليس الأمر أيها الناس على قولكم: إنكم لا تبعثون ولا تجازون بأعمالكم. ولكن الذي دعاكم إلى ذلك [حبكم] الدنيا وزينتها، وإيثاركم ولا تجازون على آجل الآخرة، ونعيمها الدائم. فأنتم لذلك تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة. (ويجوز أن تكون " كلا " بمعنى " حقاً " أو بمعنى " ألا ". قال قتادة: اختار الناس العاجلة إلا من عصم الله). - ثم قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ}.

أي: حسنة ناعمة جميلة من السرور والغبطة. هذا قول جميع أهل التفسير. - ثم قال: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. أي: تنظر إلى ربها. قال عكرمة: " تنظر إلى ربها نظراً ". قال الحسن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ}: " أي حسنة: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: قال: تنظر إلى الخالق، وحق (لها) أن [تنضر] وهي [تنظر] إلى الخالق ". وقل عطية العوفي: هي تنظر إلى الله - جل وعز - لا تحيط أبصارهم به من عظمته، ويحيط بهم، {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} [الأنعام: 103].

[وقد] قال بعض أهل البدع: إنه بمعنى منتظرة إلى ثواب ربها، وهذا خطأ في العربية، [(لا) يقال]: " نظرت إليه " بمعنى انتظرته، وإنما يقال: " نظرته " بمعنى انتظرته. أيضاً فإنه لا يجوز " أنتظرت زيداً " بمعنى [انتظرت] عطاءه أو غلامه أو ثوابه أو نحوه، لأن فيه تغيير المعاني وإبطال الخطاب. وأيضاً، فإن النظر إنما يضاف إلى الوجوه، والانتظار (إنما) يضاف إلى القلوب، فلا يجوز أن

يقال: " [وجهي] منتظر لك ". فلما أتى النص بإضافة النظر إلى الوجوه، لم يَجُزْ أَنْ يَتَأَوَّلَ فيه معنى الانتظار، ولو قال: " قلوب يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة "، لحسن كونه بمعنى الانتظار لإضافته إلى القلوب. وقال الحسن في الآية: نَظَرت إلى الكله [فنضرت] من نوره، أي: نعمة من نوره. وقد روى عبادة بن الصامت أن النبي A قال: " إِنِّي حَدّثْتُكُمْ عَنِ المَسِيحِ الدَّجَالِ، إِنَّهُ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ [مَطْمُوسُ] عَيْنِ اليُسْرَى، لَيْسَتْ بِنَاتِئَةٍ

وَلاَ حَجْرَاءَ، فَإِنَّ الْتَبَسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنْ رَبَِّكُمْ - D -/ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ - حَتَّى تَمُونُوا ". وقد (استدل) من أنكر النظر بإضافة النظر إلى الوجه، قال: والعين لا تسمى وجها. وقد [أضاف] النظر إلى الوجه. وهذا غلط ظاهر، لأن العرب من لغتها أن تسمي الشيء (باسم} الشيء إذا قرب منه وجاوره، وقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية: 8 - 9]، والسعي للأقدام، وقد أضاف السعي [للوجوه]، وهو أبعد من الأقدام من العين إلى الوجه، فإذا جاز أن يضاف سعي

الأبدان والأقدام إلى [الوجوه]- لالتباس الوجوه بها - كان (إضافة) النظر إلى [الوجه]- يراد به العين - أَجْوَزَ وَأَحْسَنَ، لأن العين في الوجه، وهي من جملة الوجه. وهذا سائغ جائز في اللغة وفي كثير من القرآن. [وأحَادِيثُ] تصحيح النظر إلى الالله جل ذكره في الآخرة كثيرة أشهر من أن تذكر ها هنا. ويدل على تصحيح جواز ذلك - من القرآن والنظر - قوله تعالى - حكاية عن موسى عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]. ففي سؤاله النظر دليل على جوازه، لأن موسى لا يمكن أن يسأل ما لا يجوز وما يستحيل، فأعلمه الله أنه لا يراه في الدنيا أحد. فأما قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103]، فمعناه: لا تحيط به. ومن قال: إن

معناه: لا تراه، فقد [غلط]: لأنه يلزم أن يكون (معنى): {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90]: إذا رآه، وذلك محال! إنما معناه: إذا أحاط به. وكذلك يلزمه أن يكون معنى {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]: إنا [المرئيون]، ولم يخافوا أن يراهم قوم فرعون، إنما خافوا أن يحيطوا بهم، فالمعنى: إنا لمحاط بنا، وكذلك يلزمهم أن يكون معنى: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} [طه: 77]: (لا تخاف) رؤية، وهذا محال، لم يؤمنه الله من رؤية آل فرعون له، إنما أَمَّنَهُ من إحادتهم به وبمن معه واستعلائهم عليهم، فالمعنى في الآية: لا تحيط به الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة.

ومعنى {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] أي: لن تراني في الدنيا. فالإحاطة به منفية، والرؤية له في الآخرة غير منفية. كما أن قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255]، لا يكون نفياً عن أن يعلموه، فكما كانت الإحاطة تدل على نفي العلم، كذلك بقي الإدراك لا يدل على نفي الرؤية. وكما جاز أن يعلم الخلق أشياء ولا يحيطون بها علماً، كذلك جاز أن يروا ربّهم ولا تحيط به أبصارهم، فمعنى الرؤية غير معنى الإدراك. فلذلك، لا يجوز أن يكون معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} لا تراه. و [قد] قيل: معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} أي: في الدنيا، على أن يكون {لاَّ تُدْرِكُهُ}

بمعنى، تراه، وتدركه في الآخرة أي: تراه، بدلالة قوله: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وبدلالة قوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. وهذا من أدل ما يكون من النص على جواز الرؤية، لأن المؤمنين لا بد أن يكونوا في الآخرة إما محجوبين [عن الرؤية] أو غير محجوبين، [فإن كانوا محجوبين] فلا فرق بينهم وبين الكفار الذين حكى الله عنهم أنهم محجوبون في الآخرة، ولا فائدة في إعلام الله لنا أن الكفار محجوبون عنه، إذ الكل محجوبون، فلا بد أن يكون المؤمنون غير محجوبين عن رؤيته، بخلاف حال الكفار. وقيل: معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} أي: بالنهاية والإحاطة. فأما الرؤية فنعم. وقيل: معنى {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} كإداركه خلقه، لأن أبصارهم ضعيفة. وقيل: المعنى:

لا تدركه في الدنيا ولا في الآخرة، أي: أبصار الخلق التي خلقها الله [فيهم] لا يرونه بها، ولكن يحدث لهم تعالى في الآخر [حاسة] سادسة يرونه بها. وهذه دعوى لا دليل يصحبها من أثر ولا نظر، والله قادر على كل شيء. وقد روى جماعة من الصحابة عن النبي A أنه قال: " إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَأ تَرَوْنَ هَذَا - يَعْنِي القَمَرَ - لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ " وفي بعض الرواية: " لاَ تُضَارُونَ فِي رُؤيَتِهِ " وفي بعضها: " كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي غَيْرِ

سَحَابٍ "، وفي بعضها: " كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ نِصْفَ النَّهَارِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ سَحَابَةٌ "، وفي بعضها: " كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ وَلَيْسَ فِي السَّمَاءِ سَحَابَةٌ ". وقد ذكر النحاس في " تضارون " و " تضامون " واختلاف ألفاظهما ومعانيهما ثمانية أوجه. " تُضَارَونَ " / و " تُضَامُّون " مضموم الأول مخففاً، قال: ويجوز " تُضَارُّونَ " (و) " تُضَامُّونَ " مضموم الأول مشدداً، قال: ويجوز " تَضَامُّونَ " مفتوح الأول مشدداً، وأصله: " تَتَضامُّونَ "، (ثم حذفت إحدى التاءين ك {تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103] و {تَسَآءَلُونَ} [النساء: 1] قال: ويجوز " تَضَّامُّونَ " مفتوح الأول مشدد) الضاد والميم على أن

تدغم التاء الثانية [في الضاد]، كما قال: {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85]، وكذلكك يجوز " تُضَّامُّونَ " و " تُضَّارُّونَ " على ذلك، التقدير في الحذف والإدغام. والرواية فيها بالتخفيف، ومعناه: لا ينالكم عند رؤيتكم ضير ولا ضيم. ومن رواه مشدداً مضموم الأول فمعناه: لا يُضَّارَّ بعضكم بعضاً في الرؤية، ولا يُضَّامَّ بعضكم بعضاً كما تفعلون في رؤية الهلال في الدنيا إذا [أزدحمتم] لرؤيته.

- ثم قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ}. أي: متغيرة الألوان كالحة مسودة. وقال مجاهد: {بَاسِرَةٌ} " كاشرة ". وقال قتادة: " كالحة عابسة ". - ثم قال تعالى: {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}. أي: تعلم وتوقن أنه يفعل بها داهية. قال مجاهد: {فَاقِرَةٌ}: " داهية ". وقال قتادة: " تيقن أنها ستدخل النار "، كأن الفاقرة هي التي إذا حلت بالإنسان كسرت فقاره، أي: ظهره. - ثم قال: {كَلاَّ. . .}. أي: ليس الأمر على ما يظن هؤلاء المشركون ألا يعاقبوا على شركهم. فيوقف عليها هذا التأويل، ويجوز أن تكون بمعنى " حقاً "، أو بمعنى " إلا ".

فيبتدأ (بها). - ومعنى {إِذَا بَلَغَتِ التراقي}. يعني النفس عند الموت وحشرج بها. - {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ}. أي: وقال أهله ومن حوله: (من) يرقيه فيشفيه [لِمَا بِهِ]، وطلبوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من أمر الله شيئاً. هذا معنى قول عكرمة وابن زيد. وقال أبو قلابة: {مَنْ رَاقٍ}: " من طبيب وشاف "، وهو قول الضحاك

وقتادة. وعن ابن عباس أن معناه: وقالت الملائكة - يعني أعوان ملك الموت -: من يرقى بنفسه فيصعدها؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ يقال: رَقَى يَرْقِي من الرُّقْيَةِ. وَرَقَى يَرْقَى من الصُّعُودِ. واسم الفاعل فيهما رَاقٍ. - ثم قال تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق}. أي: أيقن: بالموت فليس أحد يدفعه عنه. - ثم قال تعالى: {والتفت الساق بالساق}. أي: اختلطت شدة كرب الدنيا وكرب الآخرة، هذا معنى قول ابن عباس. وعنه أيضاً أنه يقول: " آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة ". وقال الضحاك: معناه: " أهل الدنيا يجهزون الجسد، وأهل الآخرة

يجهزون الروح ". وقال قتادة: {والتفت الساق بالساق}: " [الشدة] بالشدة، ساق الدنيا بساق الآخرة ". وقيل: " عمل الدنيا بعمل الآخرة ". وذكر ابن زيد قولين في ذلك، أحدهما: " ساق الآخرة بساق الدنيا "، والآخر أنه حكي عن بعض العلماء أنهم قالوا: " قل ميت يموت إلا التفت إحدى ساقيه بالأخرى. و (هو) قول مروي عن قتادة وأبي مالك والسدي. واختار

القول (الأول) لقوله تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق}. وقال الحسن: هو لف ساقيك في الكفن. وعن مجاهد في معناه: [التف] " بلاء ببلاء ". - ثم قال تعالى: {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق}. أي: إلى ربك مساقه إذا اشتد كربه وحَشرَجَتْ نفسه. - ثم قال تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى}. أي: لم يصدق ولم يصل، ف " لا " نفي وليست بعاطفة، لأنها لو كانت عاطفة لأشبه [الثاني] الدعاء، والمعنى: فلم يصدق بكتاب الله، ولم يصل لله صلاة. ولكنه {كَذَّبَ وتولى}. أي: كذب بكتاب الله وبنبيه، وأعرض عن القبول والطاعة.

- {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى}. أي: [مضى] [منصرفاً] [متبختراً] في مشيته. قال قتادة: {يتمطى}: " يتبختر ". قال زيد بن أسلم: {يتمطى}: يتبختر، وهي مشية بني مخزوم. وهو مشتق ن المطا، وهوالظهر. كأنه يلوي ظهره متبختراً. ومنه حديث النبي A: " إذا مَشَتْ أُمَّتِي المُطَيْطَاءَ " ويجوز أن يكون من مططت، ثم

[أبدل] من إحدى الطاءين ياء، كما قالوا: " تَظَنَّيْتُ " في " تَظَنَّنْتُ "، فيكون المعنى: يمد يديه ورجليه في الخطا [متبختراً]. قال مجاهد وابن زيد: نزلت هذه الآية في أبي جهل. - ثم قال تعالى: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى}. هذا وعيد وتهدد لأبي جهل. قال قتادة: " ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ الله عليه السلام أَخَذَ بِمَجَامِعِ [ثِيِابِ] أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: {أولى لَكَ فأولى * (ثُمَّ أولى لَكَ فأولى)}، فَقَالَ عَدُوُّ الله: [أَيُوعِدُنِي] مُحَمَّدٌ؟! وَالله، مَا تَسْتَطِيعَ لِي أَنْتَ وَلاَ رَبُّكَ شَيْئاً، وَالله، لأَنَا أَعَزُّ مَنْ مَشَى بَيْنَ جَبَلَيْهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَشْرَفَ عَدُوُّ الله عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: لاَ يُعْبَدُ/ اللهُ

بَعْدَ اليَوْمِ أَبَداً، فَضَرَبَ اللهُ عُنُقُهُ وَقَتَلَهُ شَرَّ قَتْلَةٍ " والعرب تقول: " أولى (لك: كدت تهلك ثم (أفلت) ". وتقديره، أولى لك فأولى لك الهلكة، (ثم أولى لك فأولى لك الهلكة)، فهو وعيد بعد وعيد. وقال بعض أهل المعاني: {أولى لَكَ} هو " أفعل " الذي للتفضيل بمنزلة " أخرى لك " و " أقبح لوجهك "، وهو مشتق من الويل. وفيه قلب، قدمت [اللام] وهي لام الفعل قبل الياء، وهي عين الفعل، قال: وإنما فعلوا ذلك لئلا يلزمهمه من الإدغام ما [تتغير] به الكلمة. فلو أتوا به على الأصل للزمهم أن يوقولوا: " أيل "، لأن الواو تدغم فيها [الياء] إذا تقدمت

ساكنة، بمنزلة: [ميت] وهين. - ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى}. أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، يعني بذلك الكافر. قال ابن عباس: {سُدًى} مهملاً. قال ابن زيد: " لا يفترض عليه عمل ولا يعمل ". يقال: " أسديت الشيء " بمعنى: أعلمته. - ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى}. أي: (ألم) يك - هذا المنكر قُدرةَ الله على أحيائه بعد موته - ماءً قليلاً في صلب الرجال (مِن مَنِيٍّ)؟!

- {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً}. ثم دماً. - {فَخَلَقَ فسوى}. أي: فخلقه الله إنساناً من بعدما كان نطفة وعلقة ثم [سواه] بشراً ناطقاً سميعاً بصيراً. - {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى}. أي: فجعل من هذا الإنسان بعد ما سوّاه بشراً أولاداً، ذكرواً وإناثاً. - {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى}. أي: [أليس] الذي قدر على ذلك واخترعه من غير مثال [قادراً على أن يحيي الموتى بعد مماتهمه؟! وكان النبيّ A إذا قرأ آخر (هذه) السورة يقول: بلى.

قال قتادة: " كان يقول: سبحانك، وبلى ". وأجاز الفراء الإدغام في {يُحْيِيَ}، وهو غلط عن الخليل وسيبويه، لئلا يلتقي ساكنان.

الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الإنسان مكية - قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}، إلى قوله: {سَمِيعاً بَصِيراً}. " هل " [في هذا] الموضع خبر لا جحد. وفي الكلام معنى [التقرير]، كأنه قال: قد أتى على الإنسان [ز] من طويل لم يكن شيئاً مذكوراً.

وهذا كما تقول للرجل -[تقرير -]: هل أكرمتك؟ قد [أكرمه]، هل أحسنت إليك؟ وقد أحسن إليه. وتكون " هل " جحوداً في غير هذا الموضع، نحو قول الرجل الآخر: هل يفعل هذا أحد؟! بمعنى: لا يفعل هذا أحد، وتكون استفهاماً، وهو بابها. وقد أجاز ابن كيسان أن تكون " هل " في الآية استفهاما على بابها، كما تقول: هل بقيت في أمرك؟. والإنسان في الآية: آدم عليه السلام، قاله قتادة وغيره. قال قتادة: إنما [خلق] الإنسان حديثاً، وما نعلم من خليقة الله D كانت بعد الإنسان، يقول: خَلْقُ الإنسان آخر سائر ما خلق الله من الخلق.

والحين (هاهنا) يراد به طول مكث آدم وهو طينة. وذلك أربعون سنة في ما روي. فكان في ذلك الوقت شيئاً غير مذكور. وقيل: الجن هنا غير معلوم، [الله يعمله]. وقيل: الإنسان هنا يراد به الجنس فأما الإنسان الثاني فهو للجنس [بلا خلاف]، وقال مالك: الحسن هنا: ما مضى قبل ذلك من أمر الدهر كله ومن قبل أن يخلق آدم. - ثم قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ}. أي: خلقنا ذرية آدم من نطفة، أي: من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة كل ماء قليل في وعاء. و (أمشاج): أخلاط.

يقال: مَشَجْتُ هذا بهذا، أي: خلطته. وواحد الأمشاج: مشيج، مثل شريف وأشراف. وقيل: مَشْجٌ مثل عدل وأعدال. وقال ابن عباس: المشجان: ماء الرجل وماء المرأة. وهو معنى قول مجاهد والحسن وعكرمة وأكثر المفسرين. وعن ابن عباس أيضاً أن معنى (أمشاج) هو انتقاله من تراب ثم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك. وقاله أيضاً عكرمة وقتادة. وقيل: (أمشاج) هي العروق التي تكون في النطفة. روي ذلك عن ابن مسعود.

وقاله أسامة بن زيد عن أبيه. وقيل: الأمشاج هي ألوان النطفة، (نطفة الرجل تكون بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة تكون خضراء وحمراء) /، [روي ذلك عن] مجاهد وقاله ابن أبي نُجَيْح. فمن قال: إن الأمشاج انتقال النطفة إلى علقة، ثم مضغة، ثم غير ذلك، فتقديره: من نطفة ذات أمشاج.

3

ومعنى {نَّبْتَلِيهِ} نختبره. {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}. أي: ذا سمع وذا بصر لِتَقُوم عليه الحجة. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير عنده: إنا خلقنا الإنسان سميعاً بصيراً من نطفة أمشاج لنختبره. وقد رُدَّ [عليه] هذا التقدير، لأن الفاء لا يقع معها التقديم والتأخير. ولأن الكلام تام بغير تقديم وتأخير، فلا يخرج عن ظاهر لغير علة. - قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل}، إلى قوله: {وَلاَ زَمْهَرِيراً}. أي: إنا بينا له طريق لاحق وعرَّفناه. قال مجاهد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل}: الشقاوة والسعادة. وقال قتادة: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً} لنعم الله {وَإِمَّا كَفُوراً} لها. وقال ابن زيد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} قال: [ننتظر] أي شيء يصنع وأي الطريقين يسلك. ومعنى " إما " في هذا الموضع كمعنى: [" أو " إلا أنها] تدل على

المعنى في أول الكلام. ودليل ذلك قول المفسرين: إن معناه: إما شقياً وإما سعيداً. والشقاوة والسعادة يفرغ منهما وهو في بطن أمه. وقيل: {شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}: حالان مقدران. وأجاز الفراء أن [تكون] " ما " زائدة [و " إن "] للشرط. والمعنى على هذا: " إنا هديناه السبيل إن شكر وإن كفر ". وفيه بعد لأن " إن " التي للشرط لا تقع على الأسماء إلا بإضمار فعل، ولا يحسن ذلك هنا. وقيل: تقديره على قول الفراء: " إن كان شاكراً أو كان كفوراً ". - ثم قال تعالى: {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً}. أي: إنا أعتدنا لمن كفر (وأعرض عن الإيمان) وجحد النعم [{سَلاَسِلاَ}] يوثقون بها في الجحيم {وَأَغْلاَلاً} تغل بها أيديهم إلى أعناقهم

{وَسَعِيراً} أي: وناراً تسعر عليهم فتوقد. فمن لم ينون [{سَلاَسِلاَ}] أتى به على منع الصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، وهو نهاية الجمع، فثقل فمنع الصرف. ومن وقف عليه بألف مع منعه لصرفه فعلى لغة مسموعة عن العرب. حكى الرؤاسي والكسائي أن العرب تقف على ما لا يتصرف في حال الفتح بألف [لبيان] الفتحة. وله حجة أخرى: وذلك أنه في بعض المصاحف

بألف. فاتَّبَعَ السَّوَادَ في الوقف، واتبع أصل الإعراب في الوصل. فأما من نونه، فعلى لغة مسموعة من بعض العرب. حكى الكسائي وغيره من الكوفيين أن بعض [العرب يصرف كل ما] لا ينصرف إلا " أفعل منك ". وقال بعض أهل النظر: كل ما يجوز في الشعر يجوز في القرآن، لأن الشعر أصل كلام العرب، والعرب تصرف هذا ونحوه في الشعر. وقيل: إنما صرف لأن أُتْبِعَ بما بعده، وهو [{وَأَغْلاَلاً}]. وكذلك الحجة في {قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15 - 16]، عند من منع صرفه ووقف بالألف. أو بغير ألف أو صرفه. - ثم قال تعالى: {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}. أي: إن الذين بروا ربهم بطاعتهم في أداء فرائضه واجتناب

محارمه يشربون في الآخرة {مِن كَأْسٍ}، وهو كل إناء فيه شراب كان مزاج ما فيها من الشراب {كَافُوراً} يعني أن [طيب] رائحة الشراب كالكافور. وقيل: الكافور هنا اسم لعين ماء في الجنة. فعلى هذا، تكون {عَيْناً} بدلاً من " كافور ". ومن جعل الكافور صفة للشرب بنصب {عَيْناً} على الحال من المضمر في {مِزَاجُهَا}. وقيل: انتصب عين على إضمار أعني، [وقيل: هي مفعول بها بمعنى: يشربون عيناً يشرب بها عباد الله. وقيل: هي نصب

على المدح] وقيل: التقدير: " من عين "، قلما حذف الحرف نصب. وقال الحسن: " الأبرار: الذين لا يؤذون الذر [ولا يرضون الشر] ". وقال محارب بن دثار: إنما سمو أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء. فكما أن لوالديك [عليك] حقاً، كذلك لولدك عليك حق. وروى ابن عمر عن النبي A أنه قال: " إنْ أَبَرَّ الْبِرِ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أبيه ".

قال مجاهد: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} تمزج (به). قال قتادة: " قوم تمزج لهم بالكافور وتختم (لهم) بالمسك ". - (وقوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله. . .}. أي: يشربها. وقل: التقدير: يروي بها عباد الله الذين يدخلهم جنته. وقيل: يعني بعباد الله: الأبرار خاصة الذين تقدم ذكرهم. دليله قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} [المطفيين: 28]، وهو الأبرار تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك). - ثم قال: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}.

أي: [يفجرون] تلك العين كيف شاؤوا حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم. والتفجير: الإسالة للماء والإجراء له. قال مجاهد: يعدلون بها/ حيث شاءوا ويعيدونها حيث شاءوا. ويروى أن أحدهم إذا أراد أ، يتفجر [له] الماء شق ذلك الوضع بعود فجرى فيه الماء. - قال تعالى: {يُوفُونَ بالنذر}. أي: يوفون بكل ما يجب عليهم، نذروه أو لم ينذروه. وقال الفراء: التقدير كانوا يوفون بالنذر في الدنيا. وكانوا {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}، أي: فاشياً ظاهراً منتشراً ممتداً. قال قتادة: {يُوفُونَ بالنذر}: " بطاعة الله وبالصلاة وبالحج والعمرة ".

وقال سفيان: {يُوفُونَ بالنذر}: " في غير معصية "، ويخافون عذاب الله في تركهم الوفاء في يوم كان شره ممتداً. (قال قتادة) " استصار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض ". وقال الفراء: {مُسْتَطِيراً} أي: [مستطيلاً]. يقال: استطار الشيء إذا انتشر. - ثم قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ. . .}. أي: على حبهم إياه وشهوتهم له، {مِسْكِيناً. . . ً} أي: ذا حاجة، {وَيَتِيماً}، وقوله {وَأَسِيرا} قال قتادة: هو المَأْسُورُ عندك المُشْرِك، قال:

وأخوك المسلم أحق منه. وقال عكرمة: الأسير - في ذلك الزمان - المشرك. قال الحسن: " ما كان أسراؤهم [إلا] المشركين ". وقال مالك: يعني أسرى المشركين. وقال مجاهد: الأسير - هنا - المسجون من المسلمين. وهو قول ابن جبير وعطاء. وهذا كله من صفة الأبرار. - ثم قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله. . .}. أي: يقولون إذا هم أطعموهم: إنما نطعمكم طلب رضاء الله والتقرب إليه. - {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ. . .} منكم أيها الناس على إطعامنا لكم.

- {جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً}. و {شُكُوراً} يحتمل أن يكون جمع " شُكْرٍ " وأن يكون مصدراً. قال مجاهد: " أَمَا إنَّهُمْ (ما) تكلموا به، ولكنّ الله عَلِمَه من قلوبهم فأثنى به عليهم لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ ". ومثلَ ذلك قال ابن جبير. وكذلك روى [الفِرْيَابِي] عن سالم الأفطس عن ابن عمر. - ثم قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً}.

أي: إنما نطعمكم رجاء أن [يؤمننا] الله عقوبته في يوم شديد تعيس فيه الوجوه من شدة هوله وطول بلائه، فهو نعت لليوم بمعنى النسب، كما قال: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] والقمطرير: الشديد، ومثله [القماطر]، وقد اقمطر اليوم [يقمطر اقمطراراً]: إذا اشتد بلاؤه، ومثله يوم عصيب وعصبصب. قال ابن عباس في قوله: {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} قال: " يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من [بين] عينيه عرق مثل القطران ". وقال قتادة: " عبست فيه الوجوه وقبضت ما بين أعينها كراهية لذلك اليوم "، وهو قول مجاهد. وعن ابن

عباس أن العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل. وقال ابن زيد: " العبوس: الشر ". - ثم قال تعالى: {فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم}. أي: وقاهم ما كانوا يحذرون في الدنيا من شر ذلك اليوم بما كانوا يعملون في الدنيا. - ثم قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}. قال الحسنن: " [نضرة] في الوجوه وسروراً في القلوب " وكذلك قال قتادة. وقال ابن زيد: نعمة وفرحاً. وروي أن هذا كله نزل في علي بن أبي طالب. Bهـ.

ثم هو عام في من كان على [منهاجه في فعله]. - ثم قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً}. أي: وأثابهم بصبرهم في الدنيا على طاعة الله واجتناب محارمه دخول جنته. واستعمال الحرير في اللباس والفرش. - {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك}. نصب {مُّتَّكِئِينَ} على الحال من الهاء والميم في {وَجَزَاهُمْ}. " وجزى " هو العامل في الحال. ولا [يحسن] أن يعمل فيه {صَبَرُواْ} لأن الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة. ويجوز أن ينتصب على النعب للجنَّة " لأنه

قد عاد [عليها] من نعتها عائد (وهو) {فِيهَا}. وقوله: {على الأرائك}، واحد الأرائك: أريكة وهي [السرر] في الحجال. - وقوله {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً}. " شمساً] في موضع الحال من الهاء والميم، (أو) في موضع النعت لجنةً، أي: غير رائين في الجنة شمساً تؤذيهم بحرها، ولا برداً شديداً يؤذيهم [بشدته]. قال مجاهد: الزمهرير: البرد المُقَطِّعُ.

14

وقال قتادة: " علم الله جل ذكره أن شدة البرد [مؤذ]. وشدة الحر مؤذ. فوقاهم إياهما ". والزمهرير: لون من عذاب جهنم. -[قوله تعالى]: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} إلى قوله: {مَّشْكُوراً}. أي: وقربت منهم ظلالها. وانتصب {دَانِيَةً} على العطف على {جَنَّةً}. والتقدير: وجزاهم جنة دانية. ويجوز أن يكون [حالاً عطفاً] على {مُّتَّكِئِينَ} أو على {(لاَ) يَرَوْنَ}، ويجوز أن يكون صفة للجنة.

ويجوز أن يكون على المدح مثل: {والمقيمي الصلاة} [الحج: 35] فهو -[م] إن كان نكرة - فإه يشبه المعرفة، إذ قال طال الكلام به. وقرأ ابن مسعود: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ}، حَمَلَهُ على تذكير الجمع وهو ظلالها. وفير قراءة أُبَيّ (ودانٍ)، على أنه [في] موضع رفع مثل: قَاضٍ المرفوع. حمله [على] أنه خبر {ظِلاَلُهَا} مقدم. - ثم قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}. قال مجاهد: معناه: إن قام ارتفعت بقدرة (الله)، (فإن) قعد تذللت

حتى ينالها، وإن [اضطجع] تذللت حتى ينالها. وقال قتادة: معناه " لا يَرُدُّ أيديهم عنها [بعد] ولا شوك ". قال سفيان: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} قال: " يتناوله كيف شاء، جالساً ومتكئاً ". قال مجاهد: أرض الجنة وَرِقً، وتُرْبُهَا مسك، وأصول شجرها ذهب، ووَرَق أفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والثمر تحته. - ثم قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.

" ويقال: " المذلل الذي قد ذلله الماء أي أوراه ". " ويقال: المذلل الذي [يُفَيِّئُهُ] [أدنى] ريح ". " يقال: المذلل: المسوى ". وأهل الحجاز يقولون: [ذللل] نَخْلَكَ. أي: سوه. ويقال: المُذَلَّلُ: القريب المُتَنَاوَل. من قولهم: [دابة] ذليلُ

" أي: قصيرة. هذه أقول أهل اللغة. - ثم قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ}. أي: ويطاف على هؤلاء الأبرار في الجنة بآنية في بياض الفضة وصفاء القوارير. قال مجاهد: فيها رقة القوارير في بياض الفضة. وهو قول قتادة. - وقوله: {وَأَكْوابٍ}. أي: " ويطاف عليهم مع الأواني بجرار ضخام فيه الشراب. وكل جرة ضخمة لا عروة لها [فهي] كوب ". وقال مجاهد: الكوب: [الكوز] الذي لا عورة له. وهو قول أكثر

المفسرين. وقال قتادة: هو القِدْحُ. - وقوله: {كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ}. [أي]: كانت هذه الأواني والأكواب قوارير فحولها الله فضة. وقيل: إن قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} يدل على أن أرض الجنة من فضة. لأن المعلوم في الدنيا المتعارف أن كل آنية (تتخذ) فإنما تتخذ من تربة الأرض التي [هي] فيها، فدل على أن أرض الجنة من فضة بقوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ}. قال أبو صالح: كان تراب هذه الأواني فضة. - وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً}. أي: قدروا تلك الأواني على قدر [رِيِّهم]، لا تزيد ولا تنقص في ذلك،

يعني: [قدرها] الملائكة [الطائفون] بالآنية والأكواب. قال الحسن: " قُدِّرت [لِريِّ] القوم. وهو قول قتادة وابن زيد ومجاهد. وعن ابن عباس أن معناه (وقدروها) على قدر الكف. والمعنى: [قدرها] لهم السقاة الذين يطوفون عليهم بها، فلذلك نسب إليهم. وقيل: معناه: وجدوها كذا، فنسب الفعل إليهم لمناولتهم: إياها لهم. وقرأ الشعبي وعبيد بن عمير وابن أبزى: " قُدِّرُوهَا تَقْدِيراً " - بضم

القاف - أي: قدرت (عليهم) لا تزيد ولا تنقص. - وقوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً}. أي: ويسقى هؤلاء الأبرار في الجنة شراب (كأس). والكأس: كل إناء فيه شراب. فإذا كان فارغاً من الخمر لم يُقَلْ له كأس، ويقال له قدح. كذلك لا يقال للخِوان: مائدة حتى يكون [عليه] الطعام. - قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً}.

أي: كان مزاج شراب الكأس زنجبيلاً. قال قتادة: " تمزج بالزنجبيل ". وقال (قتادة في رواية ابن جبير عنه): الزنجبيل: اسم للعين يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة. والعرب تضرب المثل بالخمر إذا مزجته بالزنجبيل، وكانوا يستطيبون ذلك. فخوطبوا على ما يعرفون. هذا يدل على قول قتادة الأول. - وقوله: {عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً}. {عَيْناً} منتصبة على ما انتصب {عَيْناً} (الأول). (قال) قتادة: معنى {سَلْسَبِيلاً}. " سلسة يصرفونها حيث شاءوا ".

وقال مجاهد: {سَلْسَبِيلاً} أي " [سلسة] الجرية ". وقيل: هو اسم للعين، ويلزم من قال هذا ألا يصرفه. قال النحاس: هي فعلليل من [السلاسة]. وهذا غلط، لأنه كان يجب أن يقال: [سلسليل]، ولا يكون فيه [باء]. [و] حكى سيبويه أن نظيره قفشليل.

- ثم قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ}. " أي: لا يموتون ". وقيل: معناه مسورون. وقيل: مقطرون، وذلك بلغة حِمْيَر. يعني بذلك أنهم شباب لا يتغيرون عن ذلك السِن. تقول العرب للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره إنه لَمُخْلِدٌ، وكذلك إذا كَبِرَ [وثبتت] أضراسه، يراد به أنه [لثابت] الحال. - ثم قال تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ/ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً}. أي: إذا رأيت - محمد - هؤلاء الولدان، ظننتهم في حسنهم ونقاء بياض

وجوههم [وكثرتهم] لؤلؤاً منثوراً ومجتمعاً. قال قتادة: {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} يعني من [كثرتهمه] وحسنهم. قال [ابن عمرو]: ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام، وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه. قال سفيان: {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} قال: " في كثرة اللؤلؤ وفي بياض اللؤلؤ ". وروى جابر بن عبد الله أن النبي A قال: " إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَلاَ يَبُولُونَ وَلاَ [يَتَغَوَّطُونَ] وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، [يَصِيرُ] طَعَامُهُم وشَرَابُهُم

[جُشَاءً]، وَرَشْحَ مِسِكٍ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ والحَمْدَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفْسَ ". - ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً}. أي: وإذا رأيت - يا محمد - ما ثم رأيت نعيماً. وأكثر البصريين على أن {ثَمَّ} نصبه على الظرف، ولم يُعَدَّ {رَأَيْتَ}، كما تقول: ظننت في الدار " فلا تعدي " ظننت ".

وقال الأخفش: {ثَمَّ} مفعول بها، و {رَأَيْتَ} بمعنى نظرت، و {ثَمَّ} إشارة إلى الجنة. - وقوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً}. أي: (و) رأيت مع النعيم ملكاً عظيماً. روي: أَنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ في مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ. وقيل: الملك الكبير هنا عني به تسليم الملائكة عليهم واستئذانهم عليهم. قاله مجاهد وسفيان. روى ابن عمر أن النبي A قال: " إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ عَامٍ، يَنْظُرُ أَزْوَاجشهِ وَسُرُرَهُ وَخَدَمَهُ، وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَيَنْزظُرُ فِي وَجْهِ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَزَّ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ".

قال أحمد بن ثعلبة عن أبيه أنه (قال) في قوله تعالى: {وَمُلْكاً كَبِيراً} هو أ [ن] (رسول) رب العزة يأتيه بالتُّكف واللُطْفِ فلا يصل إليه إلا بحجاب، ومن داره إلى دار السلام باب يدخل منه على ربه إذا شاء بلا إذن، فذلك (الملك) الكبير. وقال الفزاري: لكل مؤمن في الجنة أربعة أبواب، باب يدخل عليه منه زواره من الملائكة، وباب تدخل عليه (منه) أزواجه الحور، وباب مقفل بينه

وبين أهل النار بفتحه إذا شاء ينظر إليهم فتعظم النعمة عليه، وباب بينه وبين دار السلام يدخل على ربه إذا شاء. قال كعب: من الجنة إلى النار كِوَاءٌ يتطلع منها رجال من (أهل) الجنة إلى رجال من أهل النار ينظرون إلى عذابهمه. ثم قرأ كعب: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] أي: في وسطها. - ثم قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}. من أسكن الياء في {عَالِيَهُمْ} جعله مرفوعاً بالابتداء، وما بعده خَبَرُه، وشَاهِدُهُ أن في قراءة ابن مسعود " عَالِيَتُهُمْ ثياب ".

ومن فتح الياء جعله ظرفاً خبرَ (ابتداءٍ) مُقَدَّمٍ، وهو " ثِيَابٌ ". وشَاهِدُهُ أن [مجاهداً] قرأ " عَلَيْهِمْ ثِيَابُ ". والسندس: رقيق الديباج، والاستبرق: غليظة. فالمعنى: أن الثياب الخضر علو ثياب أهل الجنة. هذا على قراءة من رفع الحضر وخفض السندس. وقيل: معناه أن الثياب الخضر فوق حجالهم لا عليهم.

قال الطبري: {عَالِيَهُمْ} أي: " فوقهم، يعني: فوق هؤلاء الأبرار ثياب سندس ". هذا كله على قراءة من فتح الياء. ومن أسكنها فمعناه: ظاهرهم ثياب سندس. وقرأ ابن محيصن: " وَاسْتَبْرَقَ " بوصل الألف وفتح القاف. وهو لحن عند النحويين، لأنه لا يمتنع مثل هذا من الصرف في النكرة. ولأنه لا توصل ألف

مثل هذا (في التسمية به)، لو سميت بِ " اسْتَكْبَرَ " لقطعت الألف، لانتقاله من الأفعال إلى الأسماء. هذا قول الخليل وسيبويه. - ثم قال تعالى: {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ}. أي: وحلاهم ربهم أساور من فضة، وهو جمع أسورة. - ثم قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}. أي: شراباً يصير رشْحاً في أبدانهم (كرشح المسك)، لا يصير بولاً نجساً كشراب الدنيا. قال النخعي: " إن الرجل من أهل الجنة (يُقْسَمُ له شهوة مائة رجل

من أهل الدنيا) وأكلهم ونعمتهم، فإذا أكل سقي شراباً طهوراً فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيب من المسك الأذفر، ثم تعود شهوته ". - ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً}. أي: يقال لهم: إن هذا الذي ذكر في الجنة كان لكم جزاء على أعمالكم في الدنيا وطاعتكم. وإن عملكم متقبلاً. قال قتادة: " غفر لهم الذنوب، وشكر لهم الحسن ". وقال مرة أخرى: " لقد شكر سعياً قليلاً ".

23

- قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن}، إلى آخر السورة. أي: إنا/ نحن - يا محمد - نزلنا عليك القرآن مع جبريل تنزيلاً ابتلاءً واختباراً فاصبر لما امتحنك به ربك من فرائضه وتبليغ رسالاته. - ثم قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً}. قال الفراء: " أو " بمعنى الواو. والمعنى: ولا تطمع منهم من أثم وكفر. [قال]: ويجوز أن يكون المعنى (و) لا تطيعن من أثم أو كفر بوجه فيكون مثل الواو في المعنى. والمعنى: (و) لا تطع منهم في معصية الله {ءَاثِماً} يريد بركوبه معاصيه {أَوْ كَفُوراً} أي: جحوداً لربه ولنعمه عنده.

قال قتادة: نزلت في عدو الله أبي جهل قال: بلغنا أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه، فأنزل الله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْءَاثِماً أَوْ كَفُوراً}. قال ابن زيد: الآثم (و) الظالم والكفور كله واحد. - ثم قال تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}. أي: غدوة، يعني: صلاة الصبح {وَأَصِيلاً} يعني: وعَشياً، يعني صلاة الظهر والعصر. ثم قال: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}. قال ابن زيد: " كان هذا - أول شيء - فريضة، نحو قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ. . .} [المزمل: 2 - 4]، فخفف الله هذا عن رسوله وعن الناس بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} [المزمل: 20] الآية، فجعل ذلك نافلة فقال: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ

نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] وتقدير الكلام: واسجد له من الليل وسبحه ليلاً طويلاً، فهو منسوخ بزوال فرض صلاة الليل كما ذكرنا وقيل: هو (على) الندب. وقيلأ: هو خصوص للنبي A. ( وقد) قال ابن حبيب: إن قوله تعالى: {واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً} يعني الصبح: وقوله: {وَأَصِيلاً} يعني: الظهر والعصر. وقوله: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} يعني به المغرب والعشاء. فالآية محكمة جمعت الأمر بفرض الصلوات الخمس.

- وقوله: {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}. يعني قيام الليل والمنسوخ فرضه. وكذلك قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] فالطرف الأول صلاة الصبح، والطرف الآخر [صلاة] الظهر العصر. - وقوله: {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] يعني المغرب والعشاء فهذه [الآية] أيضاً جمعت فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. ومثل ذلك: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] يعني: ميلها. وهو الظهر والعصر.

وقوله: {إلى غَسَقِ اليل} [الإسراء: 78]: (يعني المغرب والعشاء. - وقوله {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] يعني صلاة الصبح، فهذا أيضاً جمعت) فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. وكذلك قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130] يعني: صلاة الصبح، {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] يعني: العصر. - وقوله: {وَمِنْ [آنَآءِ] الليل فَسَبِّحْ} [طه: 130] يعني: المغرب والعشاء. - وقوله: {وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] يعني: الظهر، لأن وقتها [يجمع] طرفي النهار.

- وأما قوله: {وَسَبِّحْ} [غافر: 55] و {بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار} [غافر: 55]، فإن ذلك نزل قبل فرض الصلوات الخمس، وكانت الصلاة ركعتين غدوة وركعتين عشية، فرضاً بهذا الآية، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس. وأول صلاة صليت من الصلوات الخمس: الظهر، وبهذا بدأ جبريل، ولذلك سميت الأولى. - ثم قال تعالى: {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}. أي: إن المشركين بالله - يا محمد - يحبون الدنيا والبقاء فيها، ويدعون خلف ظهورهم العمل للآخرة وما ينجيهم من عذاب الله. وقيل: معنى " وَرَاءَ " هنا: قدام. وقيل: التقدير: ويذرون عمل يوم ثقيل وراء ظهورهم. - ثم قال تعالى: {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ}.

أي: " خلقهم ". قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقال أبو هريرة: الأسر: المفاصل وقال ابن زيد: هو القوة. وقد قيل: هو مضع خروج الحدث. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً}. أي: وإذا شئنا أهلكنا هؤلاء وجئنا بآخرين سواهم من جنسهم في الخلق، مخالفين لهم في العمل. هذا معنى قول ابن زيد. - ثم قال تعالى: {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ}. أي: إن هذه السورة والعظة والأمثال والقصص تذكرة وعظة لمن تذكر بها واتعظ. - {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً}. هذا تهديد ووعيد. أي: من شاء عمل [عملاً] صالحاً يوصله إلى رحمة ربه.

ومن شاء فليترك ذلك، فسيرى عقابه في الآخرة. - ثم قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله}. أي: وما تشاءون اتخاذ الطريق إلى رضا الله ورحمته إلا بأن يشاء الله ذلك لكم لأن الأمر إليه لا إليكم. ف " إن " في موضع نصب بحذف الجار. وقيل: هي في موضع خفض على إضماره. وجاز ذلك مع " أن " خاصة [لكثرة حذف] الجار معها. وفي حرف عبد الله: " وَمَاتِشَاءُونَ إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ".

- ثم قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}. أي: عليماً بمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، حكيماً في تدبيره، لا يقدر أحد أن يخرج عن مراده ومشيئته. - ثم قال: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ}. أي: يوفق من يشاء إلى التوبة فيدخله بذلك في رحمته. - ثم قال تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}. أي: والذين ظلموا أنفسهم فلم يتوبوا من كفرهم حتى ماتوا عليه أَعَدَّ لَهمْ في الآخرة عذاباً مؤلماً، أي: موجعاً، وهو عذاب النار. فالمعنى أن الله جل ذكره (أعلمنا في) هذه الآية [أنه يشاء أن] يعذب الكفار

وأن يرحم أهل طاعته. وانتصب (الظالمين) على إظمار فعل (في) معنى " (أ) عد "، كأنه قال: ويعذب الظالمين، [ولا يُضْمَرُ] " أَعَدَّ "، لأنه [لا يتعدى] إلا بحرف، فلا بد من إضمار فعل يتعدى بغيكر حرف يدل على " أعد "، وهو " يعذب " أو شبهه.

المرسلات

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المرسلات مكية - قوله: {والمرسلات عُرْفاً}، إلى قوله: {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وأبو صالح وقتادة: {(و) المرسلات}: الرياح، {عُرْفاً}: يتبغ بعضها بعضاً.

وقال مسروق: {والمرسلات}: " الملائكة " {عُرْفاً} أي: ترسل بالعرف. عن أبي صالح أيضاً أنها " الرسل، ترسل بالمعروف ". وقيل: {عُرْفاً} أي: متتابعة كتتابع عرف الفرس. والتقدير على قول مسروق: ورب الملائكة التي أرسلت إلى الأنبياء بأمر الله ونهيه (وذلك هو المعروف. وعلى قول أبي صالح: ورب الرسل التي أرسلت إلى الناس بأمر الله ونهيه). ومن قال {عُرْفاً} متتابعة (فتقديره: ورب الملائكة التي أرسلت إلى الأنبياء متتابعة) ورب الرسل الذين أرسلوا إلى الخلق متتابعين. وكذلك التقدير على قول ابن عباس ومن تبعه: هي الرياح.

ويدل (على أنها ليست) الريح أن يسعدها ذكر الرياح [بلا اختلاف] في قوله: {فالعاصفات عَصْفاً}. - (ثم قال تعالى: {فالعاصفات عَصْفاً}). أي: (ورب الرياح العاصفات) أي: الشديدات الهبوب السريعات المر. وهذا قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس، وغيرهم. - ثم قال تعالى: {والناشرات نَشْراً}. قال ابن مسعود ومجاهد [وقتادة]: هي الرياح لأنها تنشر السحاب. وقال أبو صالح: هي " المطر "، لأنه ينشر الأرض، أي: [يحييها].

وروى (السدي) عن أبي صالح أنها الملائكة، (قال): [تنشر] [الكتب]. - ثم قال تعالى: {فالفارقات فَرْقاً}. قال ابن عباس وأبو صالح وسفيان: هي الملائكة، فرق بالوحي بين الحق الباطل. وقال قتادة: هو القرآن، فرق الله به بين الحق والباطل، كأنه قال: والآيات الفارقات فرقاً. - ثم قال تعالى: {فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً}. كلهم قال: هي الملائكة التي تلقي وحي الله إلى رسله، والذكر: القرآن. ثم قال تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً}.

أي: تلقي الوحي إلى الرسل إعذاراً من الله لخلقه [وإنذاراً] منه لهم. قاله قتادة وغيره. - ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع}. يعني أن البعث والجزاء وجميع ما أخبر الله، كائن واقع [وحادث] لا محالة. و {إِنَّمَا} هو جواب القسم المتقدم. - ثم قال تعالى: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ}. أي: ذهب ضوءها فلم يكن لها نور. {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ}. أي: شققت وصدعت. {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ}. أي: نسفت من أصلها.

{فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 6]. أي: غباراً متفرقاً. {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ}. أي: أجلت الاجتماع لوقتها يوم القيامة. قال ابن عباس: {أُقِّتَتْ} " جمعت ". وقال مجاهد {أُقِّتَتْ} " أجلت ". وهو من الوقت، فمعناه: [حان] وقتها الذي وعدته به، وذلك يوم القيامة. وقرأ عيسى بن [عمر] " أُقِتَتْ " بالتخفيف والهمز، وقرأ الحسن. " وُقِتَتْ " بالواو والتخفيف.

وكله من الوقت، والواو هي الأصل، والهمزة بدل منها. والتخفيف والتشديد لغتان، إلا أن في التشديد معنى التكرير والمبالغة. - ثم قال تعالى: {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ}. أي: ما أعظمه وأكثر هوله. ففي الكلام معنى التعظيم لليوم والتعجب منه. ومعنى التعجب في هذا أنه تعالى ذكره يعجب العباد من هوله [وفظاعته]، ثم بينه فقال: - {لِيَوْمِ الفصل}. أي: أجلت الرسل ليوم يفصل الله (فيه) بين خلقه، فيأخذ للمظلوم من الظالم ويجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساته.

- ثم قال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل}. أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما يوم الفصل؟ فمعناه التعظيم لذلك اليوم لشدته وهوله. - ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. أي: [الوادي] الذي [يسيل] في جهنم من صديد أهلها للمكذبين/ بذلك اليوم. وقيل: معناه قبوح لهم ذلك اليوم. فقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} هو جواب (إذا) في ما تقدم من الكلام. - قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين}.

يعني قوم نوح وعاد وثمود وشبههم. - {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين}. يعني: قوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم فرعون، فيكون {نُتْبِعُهُمُ} على هذا مجزوماً. والتقدير: " وَأَلَمْ نُتْبِعْهُمُ الآخِرِينَ ". وبه قرأ الأعرج. - وقوله: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين}. يعني كفار قريش ومن سلك طريقهم من العرب وغيرها. ورد الجزام وأبو حاتم لأنه تأول أن {نُتْبِعُهُمُ} يراد به قريش ومن سلك في التكذيب طريقهم. فلا سبيل إلى الجزم على هذا المعنى لأنه منتظر في المعنى. ولم لا تدخل على فعل معناه الاستقبال، بل ترده إلى الماضي أبداً.

(وقيل): إن {نُتْبِعُهُمُ} عطف على المعنى، لأن المعنى {أَلَمْ نُهْلِكِ}: قد أهلكنا. ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين}. أي: كذلك نهلك من أجرم فاكتسب مخالفة الله ورسوله. [ثم قال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. وقد تقدم ذكره، وكذلك معنى كل ما في السورة وغيرها منه]. - ثم قال: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ [مَّهِينٍ]}. أي: من نطفة ضيعفة. قال ابن عباس: " المهين: الضعيف ". - ثم قال: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}.

أي: في رحم استقر فيه فتمكن. {إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ}. أي: إلى وقت خروجه من الرحم. - ثم قال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون}. قال الضحاك: معناه " فملكناهم فنعم المالكون ". وهذا التقدير على قراءة من خفف. وعلة من شدد أنه أراد به التذكير، لأنه تعالى قدر الإنسان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم، [ثم]. . .، [فدل] التشديد على تكرير [الأحوال].

ومن خفف أجراه على لفظ " القادرين " إذ فعله: " قدر مخففاً، فالتخفيف بمعنى الملك والقدرة على ذلك. والتشديد بمعنى التقدير. فمن شدد {فَقَدَرْنَا} جمع بين معنيين: التقدير [بقدرنا]، والملك " بالقادرين ". ومن خفف جعله كله بمعنى الملك والقدرة. وقد يستعمل التشديد، وهو بمعنى القدرة أيضاً يقال: قَدَرَ الله كذَا وقدَّره، لغتان. فيكون من شدد {فَقَدَرْنَا} جمع بين اللغتين، بقوله: {القادرون}، كما قال: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17]، وقد قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] مشدداً. - ثم قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * (أَحْيَآءً). . .}. أي: ألم نجعل أيها الناس الأرض لكم وعاءً، أنتم على ظهرها في مساكنكم

مجتمعون أحياءً وفي بطنها أمواتاً؟! [يذكرهم] بنعمه عليهم. يقال: كَفَتُّ الشيء إذا جَمَعْتَهُ وأَحْرَزْتَهُ. روي عن ابن مسعود أنه " وجد قملة في ثوبه فدفنها في المسجد، ثم قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وأمواتا}. وقال مجاهد - في الرجل يرى القلمة في ثوبه وهو في المسجد - قال: " إن شئت فألقها، وأن شئت [فوارها]. ثم قرأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً. . .}. قال الشعبي: {كِفَاتاً}: " بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم ". وقال مجاهد: {كِفَاتاً}: تكفت أذاهم وما يخرج منهم أحياءً وأمواتاً، أي: تضم

ذلك. ونصب {أَحْيَآءً وأمواتا} " بفكات "، أي: تضم أحياءً وأمواتاً. وقيل: التقدير: كفات أحياء وأموات، أي: ضمهم، [فلما] نون نصب ما بعده، كما تقول: رأيت ضرب زيد. فإن نونت " ضرباً "، نصبت " زيداً " أو رفعته. - ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ}. أي: جبالاً شاهقات، أي: طولاً مشرفات. - ثم قال تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً}. أي: عذباً قال ابن عباس: وذلك من أربعة أنهار: سيحان وجيحان والنيل

والفرات. فكل ما شربه ابن آدم (فهو) من هذه الأنهر، وهي (تخرج من) تحت صخرة عند بيت المقدس. فأما سيحان فهو نهر بلخ، وأما جيحان فهو دجلة بغداد، وأما الفرات فبالكوفة، وأما النيل (فنهر مصر). - ثم قال تعالى: {انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. أي: يقال لهؤلاء المكذبين بآيات الله ونعمه: انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون به في الدنيا من عقاب الله لأهل الكفر. - {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ}. أي: إلى ظل دخان ثلاث شعب. وذلك أنه يرفع وقودها الدخان، فإذا تصعد تفرق على ثلاث شعب، وهو " دخان جهنم ". [وهو قوله: {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43]، اليحموم: الدخان.

وقد قيل في قوله " {ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} إنه [ظل] الصليب الذي يعبده النصارى. وهوقول شاذ يوجب أن يكون المأمور بهذا، النصارى خاصة. ولست الآية إلا عامة في جميع الكفار، وليس كلهم عبد المطلب، فإنما أمروا إلى ظل دخان جهنم، دخان قد أنفرق على ثلاث شعب]. قال قتادة: هو كقوله: {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. - ثم قال تعالى: {لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب}. هذا نعت للظل أي: إلى غير [غانٍ] من اللهب. أي: [لا يظلهم/ ولا يمنعهم] من لهب جهنم، فلا يمنع عنهم ذلك الظل حرها ولا لهبها.

وهذا الوصف مطابق لما روي عن النبي A: " نَّ الشَّمْسَ تَدْنُوا مِنْ رُؤُوسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ لِبَاسٌ وَلآَ لَهُمْ مَا يَسْتَتِرُونَ بِهِ مِنْهَا، فَيُنْجِي اللهُ المُؤْمِنِينَ إلى ظِلٍّ مِنْ ظِلِّهِ، وَيُقَالُ لِلْكُفَّارِ: انْطَلِقُوا إلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَعِقَابِهِ {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} فَيَنْطَلِقُونَ إلى دُخَانِ جَهَنَّمَ " أفهذا للكفار، لأنه روي: أَنَّ الخَلاَئِقَ إِذَا اشْتَدَّ عليهم حرُّ الشمس وَدَنَتْ مِنْ رُؤُسِهِمْ وأَخَذَتْ بِأَنفاسهِم وأشتد ذلك عليهم وكَثُرَ العَرَقُ، واشتد القَلَقُ، نَجَّى اللهُ المؤمنين برحمته إلى ظل من ظله، فهناك يقولون: {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم}. ويقال للكفار المكذبين: انطلقوا إلى ما كنتم تُكَذِّبُونَ من عذاب الله وعقابه، انطلقوا إلى ظِلٍّ من دخان جهنم قد سَطَعَ وافترق ثلاثَ فِرَقٍ، فينطلقون ويكونون فيه، وهو أشد من حر الشمس الذي كانوا قد قَلِقُوا فيه. فيُقِيمُونَ في ظل ذلك الدخان حتى يُفْرَغَ من الحساب، كذلك أولياء الله في ظل عرش الرحمن، وحيث شاء الله حتى يفرغ من الحساب، ثم يؤمر بكل فريق إلى مُسْتَقَرِّهِ من الجنة أو من النار ".

- ثم قال تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر}. أي: [إن]: جهنم ترمي ذلك اليوم بشرر كالقصر [المبني]. وقال ابن عباس: " كالقصر العظيم ". قال الحسن: هو واحد القصور. وروى حجاج عن هارون {كالقصر} أي: كالخشب الجزل، وهو جمع قَصْرَة، كجَمْرة وجَمْر، وثَمْرَة وثَمَر. وقرأ ابن عباس: " كَالْقَصَرِ " بفتح الصاد.

وقرأ ابن جبير والحسن: " كَالْقِصَرِ " بكسر القاف وفتح الصاد. وعن ابن جبير: كقراءة ابن عباس، القصرة: الخشبة تكون [ثلاث] أذرع أو أكثر، فهو على قراءته جمع قصرة كشخبة وخشب. وقال مجاهد وقتادة: القَصَر - بالفتح - هو [أصول] النخل. ومن كسر القاف جعله جمع قِصَرَة وقصر، وهي الخشبة أيضاً. وقال المبرد: قيل: القَصْرُ: الجزل من الحطب الغليظ، واحدته قَصْرَةٌ، كَجَمْرَة وجمر. والقَصْرُ في هذا الموضع إذا جعلته أحد القُصُورِ فهو واحد يدل [على

الجمع]، وذلك جعل نعتاً لِ " شَرَرٍ " وهي جماعة. فإن جعلته جمع قَصْرَةٍ جئت به في النعت بالجمع كالمنعوت، وقد [قال]: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]، فَوَحَّدَ (و) لم يقل: " الأدبار "؟ لأن الدبر بمعنى الجمع، وفعل ذلك توفيقاً بين رؤوس [الآي] ومقاطع الكلام، إذ كان ذلك شأن العرب، والقرآنُ بلسانها نزل فَجَرَتْ [ألفاظه] على عادتها في لغتها وكلامها [وسجعها]، وقد قال تعالى: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19]، ولم يقل: " كعيون الذين ". وهو المعنى لأن المراد في التشبيه الفعل لا العين. - ثم قال تعالى: {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ}.

أي: كأن ذلك الشرر الذي هو كالقصر: نُوقٌ سُودٌ. فالصفرة هنا بمعنى السواد، وإنما وقعت الصفرة في مضع السواد لأن ألوان الإبل السود تضرف إلى الصفرة، كما سميت [الظباء] " أُدْماً " لِمَا يَعْلُوهَا في بياضها من الظلمة. قال الحسن: {جمالت صُفْرٌ} [أَيْنُقُ] سود، وهو قول قتادة ومجاهد. وقال ابن عباس: عنى بذلك قلوس السفن، يعني حبال السفن. شبهت الشرر بحبال السفينة. والقَلْسُ. الحبلُ. وعن ابن عباس أيضاً: {جمالت صُفْرٌ}: " قِطَعُ النّحَاسِ " وهو جمع جِمَالَةٍ

[وجِمَالَةٌ]: حمع جمل. (ومن قرأ (جِمَالَةٌ) جعله جمع جَمَل). وقد قرأ (أبو) أيوب: " جُمَالاَت " - بضالم الجيم - كأنه جمع جَمَلاً (على

35

جُمَالٍ) كما يجمع رَخِلٌ على رُخَالٍ. ثم جمع " جُمَالاً " على جُمَالاَت، لأن باب " فَعَل " و " فُعَل " واحد. ويجوز (أن) يكون من الشيء المجمل. - قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. وقد تقدم ذكره. - قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ}، إلى آخر السورة. أي: هذا يوم لا ينطق فيه أهل التكذيب بثواب الله وعقابه، وذلك في موطن دون موطن. ودليله: قوله - حكاية عنهم - {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا

(مِنْهَا)} [المؤمنون: 107] {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين} [غافر: 11]. وشبهه. - ثم قال تعالى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. أي: مما كسبوا في الدنيا من المعاصي. وقال ابن عباس: يوم القيامة أوقات، فوقت لا ينطقون فيه، وذلك عند (أول) نفخة، يريد: كل هول. وقيل: المعنى لا ينطقون فيه بحجة لهم. تقول العرب لمن أحتج بما/ لا حجة فيه: ما جئت بشيء، ولا نطقت بشيء، أي: هم بمنزلة من لا ينطق، إذ لا ينتفعون بمنطقهم. ومثله في هذا المعنى قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، أي: هم بمنزلة من هو هكذا.

وقد استدل بعض أهل النظر على أنه يراد به بعض أوقات اليوم دون بعض [بإضافة] اليوم إلى الفعل. قال: والعرب لا تضيف اليوم إلى " فعل " و " يفعل " (إلا) إذا [أرادت] الساعة من اليوم، تقول: آتيك يوم يقدم فلان، وأراك يوم يقدم. والمعنى: ساعة يقدم، لأنه لا يتمكن أن يكون إتيانه اليوم كله. - ثم قال تعالى: {هذا يَوْمُ الفصل جمعناكم والأولين}. أي: يقال [لهؤلاء المكذبين بالله ورسله. هذا يوم يفصل الله فيه بن خلقه بالحق، [جعلناكم فيه] لموعدكم الذي كنا نعدكموه في الدنيا، وجمعنا الأولين معكم ممن كان قبلكم من الأمم الماضية والقرون العافية.

- {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ}. أي: فإن كان لكم كلكم اليوم حيلة تحتالون بها في التخلص من العقاب، فاحتالوا بها ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً. - {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. أي: للمكذبين بهذا الخبر. - ثم قال: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ}. أي: إن الذين اتقوا الله بأداء فرائضه وطاعته في الدنيا {فِي ظِلاَلٍ}، لا يصيبهم حر ولا قُرٌّ {وَعُيُونٍ}، أي: وأنهار تجري في خلال أشجار جناتهم. - {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ}. أي: يأكلون منها متى اشتهوا لا يخافون ضرها ولا عاقبة مكروهها. - {كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. أي: يقال لم ذلك، أي كلوا من الفواكه، واشربوا [من] العيون هنيئاً [بما

كنتم تعملون]. لا تكدير عليكم، ولا تنغيص في ذلك جزاء لكم بأعمالكم الصالحات في الدنيا وطاعتكم. وقيلأ: معناه: هنيئاً لكم، لا تموتون. - ثم قال تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين}. أي: كما جزينا هؤلاء المتقين بما ذكرنا، كذلك نجزي من أحسن إلى نفسه فأطاع الله واجتنب معاصيه [وأدى] فرائضه. - ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. أي: للمكذبين بما أخبر الله منه جزائه المتقين في الآخرة. ثم قال تعالى: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ}.

هذا وعيد وتهديد للمشركين المكذبين بما ذكره الله في هذه السورة وغيرها من مجازاته للمتقين وانتقامه من المذكبين، أي: كلوا في بقية آجالكم أيها المذكبون، وتمتعوا بقية أعماركم. {إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أي: مكتسبون لما فيه عطبكم وهلاككم كما فعل من كان قبلكم من الأمم المكذبة. ق ل ابن زيد: عنى بذلك أهل الكفر. وقيل: إن {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ} [يرجع] إلى أول الكلام في قوله: {جمعناكم والأولين * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} {كُلُواْ}. - ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. (أي للمكذبين) [بخبر} الله عن البعث والجزاء. - ثم قال تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ}. قال ابن عباس: " هذا يوم القيامة، يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا ".

وقال قتادة: ذلك في الدنيا، كانوا يمتنعون من السجود (لله). ورأى ابن مسعود رجلاً يصلي ولا يركع، وآخر يجر إزاره، فضحك، فقالو: ما أضحكك؟! قال: أضحكني رجلان، أما أحدهما فلا تقبل له صلاة، وأما الآخر فلا ينظر الله إليه. وقيل: عني بالركوع هنا الصلاة، قاله مجاهد. - ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. أي: الذين كذبوا رسل الله فردوا عليهم فيما بلغوهم عن الله. - ثم قال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}. أي: بعد القرآن إذ كذبوا به، فبأي شيء يؤمنون بعده إيماناً ينتفعون به؟!

النبأ

بسم الله الرحمن الرحيم سورة عم يتسألون مكية - قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم}. إلى قوله: {(مَآءً) ثَجَّاجاً}. أي: عن أي شيء يتساءل هؤلاء [المشركون] يا محمد؟، عن أي شيء يختصمون؟ ف {عَمَّ} تحتاج إلى جواب، وجوابه {عَنِ النبإ العظيم}، وكان حقه أن يأتي

الجواب من المسؤول، وكلن دل عليه/ {عَنِ النبإ العظيم} وقام مقامه، وهو جواب لجوابهم، كأنهم قالوا: عم نتساءل؟ سألوا الجواب من السائل لهم، فقيل لهم: {عَنِ النبإ العظيم}. ذكر أن قريشاً كانت تختصم فيما بينهم [وتتجادل] في الذي دعاهم إليه رسول الله A من الإيمان بكتاب الله، فنزل هذا في اختاصمهم. ثم بين - جل ذكره - ما الذي هم يختصمون، فقال: {عَنِ النبإ العظيم} (أي: يتساءلون عن النبأ)، ثم حذف لدلالة الأول [عليه]، فتقف على هذا على {يَتَسَآءَلُونَ}. وقيل: [إن " عن "] متعلقة بهذا الفعل. والمعنى: لأي شيء يتساءل هؤلاء عن النبأ العظيم.

فلا تقف على هذا على {يَتَسَآءَلُونَ}. فأما النبأ، فقال مجاهد: " هو القرآن ". وقال: قتادة: " هو البعث بعد الموت ". وقال ابن زيد: " هو " يوم القيامة ". - ثم قال: {الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}. أي: منهم مصدق و [منهم] مكذب، إما بالقرآن وإما بالعبث. قال قتادة: [صار] الناس [فرقتين] في البعث بعد الموت، (فمنهم مكذب)، ومنهم مصدق. - ثم قال تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}. أي: ما الأمر كما يزعم هؤلاء أنه لا بعث. ثم قال: {سَيَعْلَمُونَ} على

الوعيد والتهديد، أي: سيعلم (هؤلاء) المنكرون للبعث [وعيد] الله لهم أحق هو أم باطل. ثم أكد الوعيد فقال: {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}. أي: ثم ليس الأمر على ما [قالوا] إنه لا بعث، سيعلمون وعيد الله لهم أحق هو أم باطل. ويجوز أن يكون " كلا " بمعنى " حَقّاً " في الموضعين، وبمعنى " أَلاَ ". وهذا التفسير إنما هو على قول من قال: إن [النبأ] العظيم: البعث ويوم القيامة. فأما من قال هو القرآن فيكون معناه: كلا سيعلمون (عاقبة تكذيبهم لهذا

القرآن ثم كلا سيعلمون) ذلك على التأكيد والوعيد وتكون " كلا " بمعنى (حقاً) أو بمعنى " ألا "، ويجوز أن تكون [بمعنى " لا "]، أي: [لا، لا اختلاف] (في) القرآن، وهو قول نصير ولم يجزه أبو حاتم. وقال الضحاك تقديره: كلا سيعلم الكافرون ثم كلا سيعلم المؤمنون. فالوقف [على {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}] الأول وعلى {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} الثاني.

والوقف عند أكثرهم على سيعلمون الثاني. - ثم قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا * والجبال أَوْتَاداً}. أي: ألم أنعم عليكم أيها الخلق فجعلت لكم الأرض فراشاً تفترشونها، وجعلت الجبال أوتاداً للأرض أن تميد بكم؟! - {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}. - (أي) ذكراناً وإناثاً، وطوالاً وقصاراً؟! - {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً}. أي: راحة (لكم ودعة تسكنون كأنكم أموات لا تشعرون؟! والسبات السكون)، وبذلك سمي السبت سبتاً لأنه يوم راحة ودعة.

- ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً}. أي: غشاء لكم يتغشاكم سواده وتغطيكم ظلمته كما يغطي الثوب لابسه. قال قتادة ": {اليل لِبَاساً} أي: " سكناً. - ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً}. (سمي النهار معاشاَ لما كان يطلب المعاش فيه. وتقديره: وجعلنا النهار ذا معاش. قال مجاهد: {مَعَاشاً} أي: " تبتغون فيه من فضل الله ". - ثم قال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً}. يعني السبع سماوات. وسمي بناء على عادة العرب، لأنهم يقولون لسقف البيت سماء، ويقولون له بناْ. ومعنى " شداد " أي: وثاقاً محكمة الخلق، لا صدوع فيهن ولا

فطور، ولا يبليهن [مر] الليالي والأيام عليهن. - ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً}. (أي): شمساً وقادة مضيئة منيرة. - قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً}. أي: من السحائب ماء منصباً يتبع بعضه بعضاً كثج [دماء]. البدن كذا قال ابن عباس ومجاهد والربيع: الثجاج المنصب. وقال ابن زيد: الثجاج: الكثير. وأكثرهم على أنه المُنْصَبُّ. وهو اختيار الطبري. ومنه قول النبي A:

" أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ والْثَّجُّ ". [فالعج] رفع الصوت بالتلبية، والثَّجُّ [صَبُّ] دماء الهدايا والبدنِ، قال ابن عباس: المعصرات " السحاب ". وهو قول سفيان والربيع. وقال الحسن وسعيد/ بن جبير وقتادة: المعصرات: السماء.

وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: المعصرات: الرياح، لأنها تعصر في هبوبها. و (هو) قول ابن زيد. ويلزم قائل هذا أن تكون القراءة: " وأَنْزَلْنَا بِالْمُعْصِرَاتِ "، وبذلك قرأه عكرمة. والمُعْصِرُ: المرأة التي قددنا [حيضها] وإن لم تحض، فشبهت السحاب بها [للمطر] الذي فيها.

15

- قوله تعالى: {لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} إلى قوله: {عَطَآءً حِسَاباً}. أي: أنزلنا الماء لنخرج به من الأرض لكم حباً، يعني القمح والشعير وسائر القطنية، {وَنَبَاتاً} يعني ما ترعى البهائم. - {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}. أي: وثمر جنات ملتفة مجتمعة قال ابن عباس: " التف بعضها ببعض ". وهو قول مجاهد وقتادة وغيرهما. وقال الأخفش وأبو عبيدة: واحد الألفاف لِفٌّ. وقيل: لَفِيفٌ وحكى الكسائي أنه جمع الجمع، وواحده " لَفَّاءُ " كحمراء،

ثم جمعت لَفَّاءُ على (لِفّ [كحمر] ثم جمعت " لِفٌّ " على) ألفاف، [كخف] وأخفاف. قال ابن مسعود: يرسل الله جل وعز الرياح فتأخذ الماء من السماء فتجريه في السحاب [فتذريه] كما تذر اللقحة. - ثم قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً}. أي: يوم يفصل الله فيه بين خلقه كان ميقاتاً لما أعد الله للمكذبين بالبعث ولنظرائهم من الخلق. قال قتادة: هو يوم عظمه الله يفصل فيه بين الأولين والآخرين.

- ثم أبدل من {يَوْمَ} للبيان فقال: - {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً}. أي: يوم الفصل بين الخلق يوم ينفخ إسرافيل في الصور فتأتون من قبوركم إلى المحشر {أَفْوَاجاً} [أي]: زُمَراً زُمَراً. روي أن كل أمة تأتي مع رسولها [يوم القيامة]، وهو قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]. - ثم قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً}. [أي]: وشققت السماء وصدعت (فكانت) طرقاً. وقيل: تصير قطعاً كقطع الخشب المشققة لأبواب الدور والمساكن. والمعنى: وفتحت السماء فكانت قطعاً كالأبواب، (فلما سقطت الكاف صارت الأبواب) خبرا.

وكذلك قوله: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً}. أي: صارت لا شيء، كما أن السراب لا شيء، وذلك أنها تنسف فَتُجْتَثُّ من أصولهها فتصير هباء منبثاً لعين الناظر كالسراب الذي يظنه (الناظر) ماء وهو في الحقيقة ليس بماء إنما هو هباء. - ثم قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً}. أي: إن جهنم كانت ذات ارتقاب ترتقب من يجتاز بها وترصدهم، ولم يقل " مرصادة "، لأنه غير جار على الفعل. فالمعنى ترصد من عصى الله. وفي " مرصاد " معنى التكثير. ولذلك لم يقل: " راصدة "، ففي وصفها لما لم يجر على الفعل معنى التكثير، ولو قال [راصدة] لثبتت الهاء، لأنه جار على الفعل، ولم يكن فيه (معن) تكثير، ففي " مرصاد " معنى النسب (كأنه قال: " ذات إرصاد "، وكل ما حمل على معنى النسب) من الأخبار والصفات ففيه معنى التكثير واللزوم، فالمعنى أنها

مركاد لمن كان يكذب بها في الدنيا. وكان الحسن يقول - إذا قرأ هذه الآية -: أَلاَ إن على النار المَرْصَد، فمن جاء بجواز جاز ومن لم يجئ احتبس. وروي عنه أنه قال: لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز على النار. وقال قتادة: [تعلمن] أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار. وقال سفيان: على جهنم ثلاث قناطير. - ثم قال تعالى: {لِّلطَّاغِينَ مَآباً}. أي: هي لمن طغى في الدنيا فتعدى حدود الله [مرجع] يرجعون إليها ويصبرون إليها.

- ثم قال تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً}. قال قتادة: لا بثين في جهنم أحقاباً (لا انقطاع لها. وقيل: معناه: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً) * لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً}، ثم بعد ذلك يعذبون بغير هذ العذاب مما شاء الله، كما قال: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 58]. وقيل: الضمير في {فِيهَا} يعود على الأرض، لأنه قد تقدم ذكرها، والضمير في {يَذُوقُونَ فِيهَا} لجهنم لتقدم ذكرها. فعلى [القول] الأول، يكون {لاَّ يَذُوقُونَ} حالاً من {لِّلطَّاغِينَ} أو ل {جَهَنَّمَ} / أو نعتاً للأحقاب.

وعلى هذا القول الآخر، يكون {لاَّ يَذُوقُونَ} حالاً من {جَهَنَّمَ} أو من الطاغين. وروى أبو أمامة أن النبي A قال: " الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة ". وهو جمع الجمع، واحده: حقبة، جمعت على حقب، وجمعت حقب على أحقاب. ويجوز أن يكون أحقاب جمع حُقْب والحُقْبُ ثلاثمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا. قاله [بشير] بن كعب.

وقال علي بن أبي طالب: الحقب: ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً، كل شهر ثلاثون يوماً، كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا، وهو قول ابن جبير، وقاله الربيع بن أنس. [وقال] أبو هريرة: الحقب ستون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة من سنين الدنيا. وقال قتادة: " الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة ". وقال: هي أحقاب لا انقطاع لها، كلما مضى حقب جاء حقب بعده. وقال الحسن: أما الأحقاب، فليس لها عدة إلا الخلود في النار، ولكن ذكر أن الحقب سبعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما نعده.

قال خالد بن مَعَدَّان: هي في أهل التوحيد من أهل القبلة مثل قوله {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هود: 108]، وهذا التأويل يرده قوله بعد ذلك. {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}. وليس هذه صفة الموحدين. وقد روي عن مقاتل أنه قال: إنها منسوخة، نسختها قوله: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ (إِلاَّ) عَذَاباً}. وهذا لا يكون فيه نسخ، لأنه خبر من الأخبار لا تنسخ.

والحقب عند أهل اللغة مبهم كالحين والزمان. البرد: النوم. وقيل: [الهدوء]. وقيل: برد [الشراب] المستلذ. قال ابن عباس: هو برد الشراب وقيل: البرد: الراحة. - ثم قال: {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً}.

قال الربيع: " استثنى من الشراب الحميم، ومن البرد الغساق ". [والحميم الذي قد انتهى [حره] كالمهل [يشوي] الوجوه. وقال ابن زيد: الحميم: دموع أعينهم، يجمع في حياض ثم يسقونه. والغساق]: الصديد الذي يخرج من جلودهم مما تصهرهم النار، يجمع في حياض النار فيُسْقَوْنَهُ. وأصل الحميم الماء الحار، ومنه اشتق الحًَمَّامُ، ومنه الحُمَّى، ومنه [اليَحْمُومُ].

قال قتادة: الغساق ما يسيل [من] جلده ولحمه. وقال سفيان: هو ما يسيل من دموعهم. وقال النخعي: هو " ما يسيل من صديدهم من البرد ". وعن ابن عباس أن الغساق: " الزمهرير ". وقال مجاهد: " الغساق: الذ لا يستطيعون أن يذوقوه (من برده). وقال عبد الله بن [بريدة]: " هو المُنْتِنُ ". وروى الخدري عن النبي A أنه قال: " لَوْ أَنَّ دَلْواً مِن غَسَّاقٍ يُهْرَاقُ فِي

الدُّنْيَا لأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا ". وقال عبد الله بن [عمرو]: " أتدرون أي شيء الغساق؟ قالوا: الله أعلم، قال: هو القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهراق بالمغرب لأنتنت أهل [المشرق]. ولو تهرق [بالمشرق] لأنتنت أهل المغرب. - وقوله: {جَزَآءً وِفَاقاً}. أي: هذا العذاب الذي وصف جزاء للكفار على أفعالهم في الدنيا وافق أعمالهم وفاقاً، قاله ابن عباس. قال قتادة: " وافق الجزاء أعمال القوم. . . ". وقال

الربيع: " ثواباً وافق أعمالهم ". قال ابن زيد: " عملو شراً فجوزوا شراً، [وعملوا] حسناً فجوزوا حسناً ". - ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً}. أي: لا يخافون محاسبة الله (لهم على أعمالهم في الآخرة. قال قتادة: كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة). وقال ابن زيد: كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب فكيف يخافون الحساب وهم لا يوقنون بالبعث بعد الموت؟! - ثم قال تعالى: {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً}. أي: حجوا بها جحوداً. - ثم قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً}. أي: وأحصينا كل شيء من أعمالهم وغير ذلك فكتبناه كتاباً، [ف {كِتَاباً}] مصدر عمل فيه فعل مضمر.

وقيل: العامل فيه (احصينا) [لأنه] يعني: كتبنا. - ثم قال تعالى: {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً}. أي: ثقال لهم - إذا شربوا الحميم والغساق - ذوقوا العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا، فلن نزيدكم على العذاب الذي أنتم فيه إلا عذاباً زائداً. قال عبد الله بن عمرو: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه، فهم في مزيد أبداً. وقد روي مثل ذلك علن النبي A. وروي أنه لا يأتي على أهل الجنة ساعة إلا ويزدادون صنفاً من النعيم لم

يكونوا يعرفونه، ولا يأتي على أهل لنار ساعة إلا وهم مستنكرون لشيء من العذاب لم يكونوا يعرفونه. - ثم قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً}. أي: منجى من النار إلى الجنة ينجون به، وهي حدائق وأعناب. وقال ابن عباس: {مَفَازاً}، " متنزهاً ". وقيل: المفاز: الظفر بما يحبه الإنسان. يقال: فاز فلان بكذا إذا ظفر به. والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان من النخيل والأعناب والأشجار التي قد حوط عليها الحيطان فأحدقت (بها)، فَلإِحْدَاقِ الحيطان بها سميت حديقة،

ولو لم/ تكن الحيطان بها محدقة لم تسم حديقة. قال ابن عباس: الحدائق: [الشجر] الملتف. وقال الضحاك: الحدائق التي عليها الحيطان. - وقوله: {وَأَعْنَاباً}. معناه: وكروم وأعناب، ثم حذف. - وقوله: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً}. (أي): وحورا نواهد في سن واحدة. قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.

- ثم قال: {وَكَأْساً دِهَاقاً}. مَلأَى من الخمر مترعة، وأصله من الدهق، وهو متابعة الضغط على الشيء بشدة وعنف. قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: الدهاق: الملأى. وهو قول ابن زيد. وقال عكرمة: الدهاق: الصافية. وقال ابن جبير: هي " المتابعة ". وقد روي مثل ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد.

- ثم قال: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً}. أي: باطلاً [من القول]. {وَلاَ كِذَّاباً}، أي: ولا يكذب بعضهم بعضاً. وقال قتادة: {وَلاَ كِذَّاباً}، أي: مأثماً. و {لَغْواً}: باطلاً. - ثم قال تعالى: {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}. أي: هذا لهم جزاء لأعمالهم في الدنيا، أعطاهمه الله ذلك عطاءً كافياً. يقال: أحسبني الشيء، أي: كفاني. وقيل: {حِسَاباً} بمعنى: محاسبة لهم بأعمالهم لله في الدنيا، يعطون على قدر أعمالهم.

37

وقال قتادة: {عَطَآءً حِسَاباً}، أي: " عطاءً كثيراً، جزاهم الله بالعمل اليسير الخير الجسيم الذي لا انقطاع له ". - قوله تعالى: {رَّبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا (الرحمن)}. إلى آخر السورة. [من] رفع {رَّبِّ} فعلى الابتداء، أو على إضمار مبتدأ. ومن خفضه فعل البدل من قوله: من ربك أو على النعت. والمعنى: هو مالك السماوات والأرض ما بينهما من الخلق. - {الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}. (أي): لا يقدر أحد من خلقه على خطابه يوم القيامة إلا من أذن له منهم.

قال مجاهد وقتادة: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}، أي: " كلاماً ". - ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً}. أي: يجازيهم في يوم يقوم الروح. قال ابن مسعود: " الروح ملك السماء الرابعة، هو أعظم من السماوات والجبال ومن الملائكة، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسيبحة، [يخلق] الله من كل تسبيحة ملكاً من الملائكة فيجيء يوم القيامة صفاً [واحداً] ". وقال ابن عباس: (هو) ملك من أعظم الملائكة خلقاً. وقال الضحاك والشعبي: الروح هنا: جبريل عليه السلام.

وقال مجاهد: [الروح خلق من صورة] بني آدم يأكلون ويشربون وليسوا (بملائكة). وقالوا أبو صالح: " يشبهون الناس وليسوا بالناس ". وقال قتادة: الروح (بنو آدم. وهو قول الحسن. وعن ابن عباس أيضاً [أنه] أرواح) بني آدم تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن يردها الله إلى الأجسام. وقال ابن زيد: هو القرآن. وقرأ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، فلا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الكلام فيتكلم. روي أنهم يؤذن لهم في الكلام حين يُمَرُّ بأهل النار إلى النار، وبأهل الجنة إلى

الجنة. وقال عكرمة: يمر بأناس من أهل النار على ملائكة فيقولون: أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقال: إلى النار. فتقول: بما كسبت أيديهم، وما ظلمهم (الله). ويمر بأناس من أهل الجنة على ملائكة فيقولون: أين تذهبون بهؤلاء؟ فيقولون: إلى الجنة. فيقولون: برحمة الله دخلتم الجنة. وعن ابن عباس أنه قال: إلا من أذن لهم الرب بشهادة أن لا إله إلا الله. وهو منتهى الصواب. وقال مجاهد: {وَقَالَ صَوَاباً}. (أي: " وقال حقاً في الدنيا عمل به ".

وقال أبو صالح: {وَقَالَ صَوَاباً}. أي): قال لا إله إلا الله وهو قول عكرمة. - ثم قال تعالى: {ذَلِكَ اليوم الحق}. أي: يوم يقوم فيه الروح والملائكة صفاً يوم حَقٌّ إتيانه لا شك فيه. - ثم قال تعالى: {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً}. أي: فمن شاء في الدنيا اتخذ بالعمل الصالح والإيمان إلى ربه في ذلك اليوم مرجعاً ومنجى وسبيلاً (وطريقاً إلى رحمته. وفي الكلام معنى التهدد والوعيد، أي: من لم يفعل ذلك فسيرى ما يحل به) غداً.

- ثم قال تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً}. أي: حذرناكم عذاباً قد دنا منكم فقرب، وذلك. {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}. في الدنيا من خير وشر فيجازى عليه. ف {مَا} بمعنى " الذي "، أي: ينظر العمل الذي عمل في الدنيا من خير (وشر). ويجوز أن/ تكون {مَا} استفهاماً، أي: ينظر أي شيء قدمت يداه في الدنيا من العمل، أخير هو أم شر؟ فيجازى عليه. قال الحسن: " (المرء) هنا: المؤمن يحذر الصغيرة ويخاف الكبيرة ". - ثم قال: {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً}.

أي: ويتمنى الكافر في ذلك اليوم أن يكون تراباً لما يرى من عذاب الله. قال أبو هريرة: إن الله يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان، ثم [يقتص] لبعض البهائم من بعض، حتى يقتص [للجماء] من ذات القرن، ثم يقول للبهائم والطير والدواب: كوني تراباً، فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً. وقال عبد الله بن عمرو: إذا كان يوم القيامة، مد الله D الأرض مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء نَطَحَتْهَا، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب قال لها: كوني

تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: يا لتني كنت تراباً.

النازعات

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والنازعات مكية - قوله تعالى: {والنازعات [غَرْقاً]} إلى قوله: {فَإِذَا هُم بالساهرة}. قال ابن عباس: {والنازعات غَرْقاً}، هي الملائكة تنزع الأنفس. وقال ابن جبير: هي أرواح الكفارن نزعت أرواحهم ثم غرقت ثم حرقت ثم قذف بها في النار. وقال مجاهد: {والنازعات} الموت ينزع النفوس. وقال الحسن: هي النجوم تنزع من أفق (إلى أفق). وهو قول قتادة. وقال

عطاء: هي القسي تنزع بالسهم. [وقال] السدي: هي النفوس حين تغرق في الصدر. والتقدير على هذا كله: ورب النازعات. والله جل ذكره يقسم بما شاء. والتقدير في {غَرْقاً}: إغراقا، كما يغرق النازع في [القوس]. وعن ابن عباس قال: يعني نفس الكافر ينتزعها مالك الموت من جسده من تحت كل شعرة، ومن تحت كل [ظفر]، ثم يغرقها، أي: يرددها في جسده وينزعها. - ثم قال تعالى: {والناشطات نَشْطاً}.

قال ابن عباس: هي " الملائكة "، (أي): تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال (من يد البعير إذا [حل] عنها كأنها [تقبض] الأرواح بسرعة. ومنه رجل نشط)، ويقال: نَشَطَهُ إذا أخذه بسرعة. قال الفراء: يقال: نَشَطَه: إذا ربطه، وأنْشَطَهُ: [إذا حله]، وحكى عن العرب: " كأنما أنشط من عقال ". وهما عند غيره لغتان، يقال: نَشَطه: إذا حَلَّهُ وأنشطَهُ. وقال مجاهد: {والناشطات نَشْطاً} هي " الموت "، ينشط نفس المؤمن. ومثله عن ابن عباس أيضاً، (وعنه أيضاً) أنه قال: يعني نفس الكافر والمنافق، ينشط كما

ينشط العَقَبُ [الذي يعقب] (به) السَّرجُ. وقال السدي: " نَشْطُهَا - يعني النفس - حين تُنْشَطٌ من القدمين. وقال قتادة: " هي النجوم "، ينشط [أفقا إلى أفق]. وقال عطاء: (هي الأ) وهاق) " - ثم قال تعالى: {والسابحات سَبْحاً}. قال مجاهد: هي " الموت " يسبح في نفس ابن آدم. وعنه أيضاً أنها الملائكة [تسبح] في صعودها وهبوطها بأمر الله جل ذكره،

شبه [سيرها] بالسباحة، كما يقال [للفرس الجوادِ]: " سابح ". وقال قتادة ومعمر: هي " النجوم ". وقال عطاء: هي " السفن ". وقيل: هي نفس المؤمن تسبح شوقاً إلى الله وشوقاً إلى [رحمته]، فهي تسبح إلى ما [عاينت من السرور]. - ثم ق ل تعالى: {فالسابقات سَبْقاً}. قال مجاهد: هو " الموت ". وعنه أنها الملائكة تأتي تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء.

وقال عطاء: هي الخيل السابقة. وقال قتادة ومعمر: هي " النجوم "، يسبق (بضعها) بعضاً في السير. وقيل: [يعني] نفس المؤمن تسبق إلى ملك الموت فتبادر الخروج (إليه) لحسنه وطيب رائحته شوقاً إلى كرامة الله جل ذكره. - ثم قال تعالى: {فالمدبرات أَمْراً}. قال ابن عباس وقتادة والحسن ومجاهد: هي الملائكة تدبر الأمر من عند الله بإذن الله وتدبيره. وعن ابن عباس: أن هذا كله في الملائكة.

وعن الحسن أنه كله في النجوم إلاّ {فالمدبرات أَمْراً}، فإنه في الملائكة [تنزل] بالحلال والحرام والأمطار وغير ذلك من الأمر المدبر [المحكم] من عند الله جل ذكره. وجوب القسم محذوف، والتقدير: ورب هذه الأشياء لتبعثن. ودل على ذلك قوله حكاية عن إنكار المشركين للبعث: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ/ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}. وقيل: الجواب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 26]. وقيل: الجواب: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة}، على حذفل اللام، أي: لَيوم ترجف الراجفة.

وقيل: المعنى: فإذا هم بالساهرة والنازعات. والقول الأول أصحها إن شاء الله. - ثم قال تعالى جل ذكره: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة}. أي: لتبعثن يوم ترجف الأرض والجبال للفنخة الأولى، تتبعها أخرى بعدها، وهي النفخة الثانية [ردفت] الأولى، فقيل لها رادفة، بينهما أربعون سنة، [بالأولى يهلك من في الأرض]، وبالثانية يبعث من في الأرض. قال ابن عباس: هما النفختان، الأولى والثانية. قال الحسن: هما النخفتان، أما الأولى فتميتُ الأحياء، (وأما) الثانية فتحيي الموتى. وتلا الحسن: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].

" وروي أن أبا هريرة سأل النّبيّ A عن الصور، فقال: هو قَرنٌ، قَالَ: وكَيْف هو؟ قَالَ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفْخاتٍ، الأولى نفخةُ الفَزَع، الثانيةُ نفخةُ الصّعْقِ، والثالثة نَفْخةُ القِيامِ [لِرَبِّ] العالمين، يَأْمُرُ اللهُ إسرافيلَ بالنفخة الأولى، فيقولُ: انفُخ نفخة الفَزع، فيفزَعُ من في السماوات ومن في الأرض إلا من شَاء اللهُ. [ويأمره] الله - جل ذكره - فَيُديمُها ويُطّولها فلا [تفتُرُ]، وهي التي يقول الله: {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}، فيُسيّرُ الله - جل وعز - الجِبال، فتكونُ سراباً، فَترتَجُّ الأرضُ بأهلها رجّاً، وهي التي يقول الله D: { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة} ".

قال قتادة: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة}: هما الصيحتان، أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله، وروي أن رسول الله A كان يقول: " بينهما أربعون [عاماً]. قال أصحابه: والله ما زادنا على ذلك " قال قتادة: وذكر لنا أن نبي الله عليه السلام [كان] يقول: " يبعث الله في تلك الأربعين مطراً يقال له الحياة حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نَباتَ البقل، ثم ينفخ الثانية فإذا هم قيام ينظرون ". قال الضحاك: الراجفة: النفخة الأولى، والرادفة: الثانية. وقال مجاهد: {الراجفة} [ترجف الأرض بمن فيها، و] هو رجف الأرض والجبال، وهي الزلزلة والرادفة، وهو قوله: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14]. وقال ابن زيد ": {الراجفة} ترجف الأرض بمن فيها، والرادفة: قيام الساعة.

- ثم قال تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}. أي: قلوب خلق من خلق الله يومئذ خائفة وجلة. يقال: وجف القلب إذا [خفق]. - ثم قال تعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}. (أي: أبصار أصحاب) القلُوب ذليلة من الخوف والرعب من هول ذلك اليوم. - ثم قال تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}. {يَقُولُونَ} ليس بمتصل بما قبله، لأن (ما) قبله من صفة حالهم يوم القيامة. وما بعدها القول من قولهم في الدنيا في إنكار البعث. ولو [أضمرت] " كان " قبل {يَقُولُونَ} كان متصلاً بما قبله، تخبر عما كانوا يقولون في الدنيا.

أي: يقول هؤلاء [المكذبون] بالبعث في الدنيا: أنُردّ إلى حالنا الأولى بعد الممات فنرجع أحياء بعد أن نصير عظاماً [تصوت] فيها الريح. يقال: رجع [على] حافرته: إذا رجع من حيث أتى. والعرب تقول: " النقد عند الحافرة ". أي: عند أول كلمة. قال ابن عباس: {لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} أي: (في) " الحياة "؟! وقال السدي {(فِي) الحافرة}: " في الحياة. وقيل: الحافرة - هنا -

بمعنى المحفُورة، بمنزلة قوله: {مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] بمعنى: مدفوق. فالمعنى: أنرد في قبورها أمواتاً؟! قال مجاهد: {الحافرة}: الأرض، (أي): أنبعث خلقاً جديداً؟! وقال ابن زيد: {الحافرة}: النار وقال: هي النار، وهي الجحيم، وهي سقر، وهي جهنم، وهي الهاوية، وهي الحافرة، (وهي) لظى، وهي الحطمة. - وقوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}. قال ابن عباس: النخرة: الذاهبة البالية. يقال: نخرة وناخرة، (لغتان) بمعنى.

وقد قيل: النخرة [المؤتكلة]، (والناخرة) البالية. وقيل: النخرة: البالية. والناخرة: العظم المجوف تمر فيه الريح فتنخر. قال أبو عبيدة. - ثم قال تعالى: {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}. هذا إخبار من الله لنبيه عن قول المنكرين للبعث أنهم قالوا: تلك/ الرجعة - إن كانت رجعة - خاسرة، (أي): [نخسر] فيها، لأنا وعدنا فيه بالنار. - ثم قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة}. أي: إنما هي صيحة واحدة، وهي النفخة، ينفخ في الصور فإذا هؤلاء المكذبون بالبعث بظهر الأرض أحياء.

والعرب تسمي الفلا ة وظهر الأرض " ساهرة "، لأن فيها نوم الحيوان وسهرهم، فسميت بما يكون فيها. قال ابن عباس: ({بالساهرة} " على الأرض ". وهو قول الحسن وعكر مة. وقال قتادة): {بالساهرة}: بأعلى الأرض، بعدما كانوا في بطنها. وهو قول ابن جبير والضحاك وابن زيد. وقال سفيان: الساهرة: " أرض بالشام ". وقال وهب بن منبه: " الساهرة: جبل إلى جنب بيت المقدس ".

15

وقال قتادة: الساهرة: جهنم. وقال: الساهرة: أرض من فضة لم يعص الله عليها، وهو قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبرهيم: 48]. قال قتادة: لما تباعد البعث في أعيُنِ القوم، قال الله جل ذكره، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}، فإذا هم بأعلى الأرض. - قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى}، إلى آخر السورة. أي: هل سمعت يا محمد حديث موسى بن عمران وخبره؟ - {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس}. أي: المطهر المبارك. - وقوله: {طُوًى}. قال مجاهد: (هو) اسم الوادي. وقاله ابن زيد.

فمن صرفه على هذا جعله (اسما لمُذكّر)، اسماً لمكان. ومن لم يصرفه جعله اسماً للبقعة. وقال قتادة: " {طُوًى}: كنا نحدث أنه قدس مرتين ". قال: " واسم الوادي: طُوى ". وقال ابن جريج عن مجاهد: {طُوًى} أي طاء الأرض حافياً. - وقوله: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى}. أي: ناداه ربه، فقال له: اذهب إلى فرعون، إنه تجاوز حده في العدوان والتكبر على ربه وعتا، فقل له. {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى}.

أي: هل لك يا فرعون في أن تتطهر من دنس (الكفر) وتؤمن بربك؟ قال ابن زيد: ([تز] كى): تسلم. قال: والتزكي في القرآن كله: الإسلام. وقال عكرمة: {إلى أَن تزكى}، أي: تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له. - ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى}. أي: وهل لك إلى أن أرشدك إلى ما يرضى به ربك عنك، فتخشى عقابه بأداء ما ألزمك من فرائضه واجتناب معاصيه؟ - ثم قال تعالى: {فَأَرَاهُ الآية الكبرى}. أي: فأرى موسى فرعون الآية العظيمة الكبيرة، وهي في قول الحسن ومجاهد وقتادة: يده وعصاه. أخرج يده بيضاء للناظرين، وحَوّل عصاه ثعباناً مبيناً. وقال ابن زيد: هي العصا.

- ثم قال تعالى: {فَكَذَّبَ وعصى}. أي: فكذب فرعو موسى فيما أتى به من الآيات المعجزات، وعصاه فيما أمره به من طاعة الله والإيمان به. - وقوله: {ثُمَّ أَدْبَرَ (يسعى)}. أي: ثم ولى معرضاً عما [دعا إليه] موسى. قال مجاهد: {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى}، أي: " يعمل الفساد ". وقيل: [معناه] أدبر هارباً من الحية. - وقوله: {فَحَشَرَ فنادى}. أي: فجحمع قومه فنادى فيهم فقال لهم: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى}، تمرداً على الله وطغياناً. - ثم قال تعالى: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى}. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي: الأولى، قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38]،

والآخرة: قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى}. وكان بين الكلمتين أربعون سنة. وقاله ابن زيد. وقال أيضاً: معناه: عذاب الدنيا والآخرة، عجل له الغرق مع ما أعدّ له في الآخرة من العذاب. وعن الحسن أنه قال: معناه: عذاب الدنيا والآخرة. وهو قول قتادة. وقال أبو رزين: الأولى عصيانه ربّه وكفْرُه، والآخرة: قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى}. وعن مجاهد أيضاً أن معناه: أخذه الله [بأول عمله] وآخره. " ونكالاً " مصدر من معنى " أخذه "، [لأن معنى " أخذه "] نكّل به.

- ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى}. أي: إن في العقاب الذي عاقب الله به فرعون في عاجل الدنيا والآخرة عظةً (و) مُعتَبَراً لمن يخاف الله ويخشى عقابه. - ثم قال تعالى: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء. . .}. هذا تقرير وتوبيخ للمكذبين للبعث، القائلين: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً}. يقول لهم: أأنتم أعظم خلقاً أم السماء [التي] بناها ربكم فرفعها سقفاً للأرض؟! (بل) أنتم أهون خلقاً وأيسر، فمن فعل ذلك فهو قادر على خلق ما هو أهو منه وأيسر، فليس خلقكم بعد مماتكم بأصعب من خلق السماء! ومعنى {بَنَاهَا}: رفعها فجعلها للأرض سقفاً. - ثم قال تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}.

(أي: رفع السماء في الهواء {فَسَوَّاهَا})، أي: جعلها مستوية لا شيء منها/ أرفع من شيء ولا شيء منها أخفض من شيء. قال مجاهد: " رفع بناءها بغير عمد ". - ثم قال تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا}. أي: وأظلم ليلها، أي ليل السماء. فأضاف الليل إلى السماء، لأنه [يأتي بغروب] الشمس ويذهب بطلوعها، والشمس في السماء. كما [قيل]: نجوم الليل. فأضاف النجوم إلى الليل إذ كان فيه طلوعها وغروبها. - وقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}. أي: ضوء النهار. - ثم قال تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}. قال ابن عباس: خلق الله - جل ذكره - الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها،

ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ثم دحا الأرض بعد ذلك. وقال عكرمة عنه: وضع الله البيت على الماء على [أربعة] أركان قبل أن [يخلق] السماء بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وقال مجاهد: معناه: والأرض مع ذلك دحاها، بمنزلة قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، أي: مع ذلك. وروي مثل ذلك عن السدي. والدحو في كلام العرب: البسط والمد. قال قتادة والسدي: {دَحَاهَا} " بسطها ".

وقيل: معناه: والأرض قبل ذلك دحاها، أي: قبل خلق السماوات، لأنه قال في موضع آخر: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ}، (ثم قال): {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا [وَقَدَّرَ فِيهَآ] أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ}، ثم قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ. . .} [فصلت: 9 - 11]. - وقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا}. أي: فجّر فيها الأنهار وأنبت نباتها. - ثم قال تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا}. - ثم أثبتها في الأرض. والتقدير: والجبال أرساها (فيها، وحذف فيها لدلالة الكلام عليه.

قال قتادة: {أَرْسَاهَا}): أثبتها لئلاّ تميل بأهلها. وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن عنلي بن أبي طالب Bهـ أنه قال: لما خلق الله الأرض فَمَضَت وقَالت: أتخلق آدم وذرياته يُلقُون عَلَيّ نَتْنَهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا؟! فأرساها الله بالجبال، فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون، وكان أول قرار الأرض كحلم والجزور إذا نُحِرت يختلج لحمها. - ثم قال تعالى: {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}. أي: منفعة لكم ومتعة إلى حين. وتقديره: متعكم الله به متاعاً. - ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى}.

يعني: قيام الساعة. والطامة: اسمٌ من أسماء يوم القيامة، يقال: طَمَّ الأمرُ: إذا ارتفع وعظم. ويقال: طمت الطامة وصخت الصاخة: للداهية. - ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى}. أي: فإذا قامت القيامة في يوم يتذكر الإنسان فيه ما عمل في الدنيا من خير وشر، وذلك [إذا قرأ كتابه]. - ثم قال: {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى}. أي: أظهرت لمن يراها. - ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى}. أي: عتا على ربه، واستكبر وآثر (مُتَعَ) الحياة الدنيا على الآخرة، فعمل

للدنيا وترك العمل للآخر. - {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى}. أي: هي مصيره، والتقدير: هي المأوى له. وقيل: التقدير: هي مأواه. - ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}. أي: خاف مسألة ربه إياه عند وقوفه يوم القيامة بين يديه فاتقاه بأداء فرائضه وطاعته واجتناب محارمه، ونهى نفسه [عن] هواها، فإن الجنة هي مأواه. - ثم قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها}. أي: يسألك - يا محمد هؤلاء [المكذبون بالبعث] عن الساعة متى قيمها، فرسُّو الساعة قيامها، وليس قيامها كقيام القائم، إنما هو بمنزلة قولهم: قد قام العدل، وقد قام الحق.

- ثم قال تعالى: لنبيه: {فِيمَ أَنتَ مِن ذكراها}. أي: في أي شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عنها؟! روي عن عائشة Bها أنها قالت: " لَمْ يَزَلِ النّبيّ A يُكثِرُ ذِكرَ السّاعةِ [السّؤالَ] عَنْها حتّى نَزَلت هذه الآية ". - وقوله: {إلى رَبِّكَ منتهاهآ}. أي: منتهى علمها، أي: لا يعلم وقت قيامها غيره. - ثم قال تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها}. أي: إنما أنت - يا محمد - رسولٌ مبعوث تنذر بالساعة من يخاف عقاب الله، ولم [تكلّف] علم وقت قيامها. - ثم قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ/ ضحاها}.

أي: كأن هؤلاء المكذبين بالساعة يوم يرون الساعة قد قامت لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية يوم أو ضُحى تلك العشية. والعرب تقول: " أتيتك العشية أو غداتها "، أو " آتيك الغداة أو عشيتها "، أي: كأن هؤلاء القوم المكذبين إذا رأوا قيام الساعة وهولها وعظيم أمرها لم يلبثوا إلا عشية يوم أو غداة يوم. روي أنهم يخفتون في قبورهم [خفتة] قبل بعثهم، [فعلى] هذا [يقولون]: لبثنا يوماً أو بعض يوم، ويظنون أنهم لم يلبثوا إلا عشية (يوم) أو ضحى يوم.

عبس

بسم الله الرحمن الرحيم سورة عبس مكية - قوله تعالى: {عَبَسَ وتولى}، إلى قوله: {وَلأَنْعَامِكُمْ}. هذا عتاب من الله جل ذكره لنبيه A. قالت عائشة: أتى النبيّ A ابنُ أمّ مكتوم وعند النبي عظماء قريش، فجعل (ابن) أم مكتوم [يقول]: أرشدني، فجعل النبي A يُعُرِض عنه [ويُقبِل] على الآخرين يقول لهم: أترون بما أقول

بأساً؟ فأزنل الله {عَبَسَ وتولى} في ذلك. قال (ابن عباس): " بينما رسول الله A يناجي عتبة من ربيعة وأبا جهل بن هشام والعبّاس بن عبد المطلب، وكان يتصدّاهم كثيراً رَجاء أن يؤموا، فأقبل إليه رجلٌ أعمى يقال له: ابنُ أمّ مكتومٍ، (يمشي والنبي A يناجيهم، فَجَعل ابن أم مكتوم) [يستقرئ] النبيّ A آيةً من القرآن وهو يقول: يا رسول الله، علّمني مما علمك الله. فأَعرضَ عنه [رسول الله A] ، وعَبَس (في) وجهه وتولى عنه وأقبل على الآخرين، فما قضى رسول الله A نَجْواهُ وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض

بصره [وخَفَقَ] برأسه، ثم أنزل الله: {عَبَسَ وتولى}. . [الآيات]. فلما نزل فيه ما [نزل]، أكرمه رسول الله [وكلّمه] وقال له: ما حاجتك؟ هل تريد من شيء " قال قتادة: اسم ابن أم مكتوم: عبد الله بن زائدة، وقيل: اسمه [عمرو بن قيس]، واسم أمه: أم مكتوم عاتكة. قال مجاهد، هو من بني فهر. وذكر قتادة أن النبي A استخلفه في المدينة على الصلاة في غزوتين من غزواته. وروي أن الذي كان قد اشتغل النبي A [ به] (عن ابن أم مكتوم هو شيبة

ابن [ربيعة]، طمع النبي A) بإسلامه. وقيل: هو أبي بن خلف، كان النبي يُقْبل عليه ويكنيه، ويقول له: أبا فلان، هل ترى بما أقول بأساً؟ طمعاً أن يسلم، فيسلم بإسلامه خلق، فأجابه المشرك فقال له: [والدما]، ما أرى بِما تقول بأساً. فأقسم المشرك للنبي A بالأصنام وترك أن يقسم بالله. [والدما] جمع دمية، وهي الصورة من [صور الأصنام]. [فعذل] الله

نبيه على ذلك. وقال ابن زيد: أقبل ابن أم مكتوم ومعه قائدُه، فلما بصر به النبي A - وكان مقبلاً على رجل من عظماء قريش قد طمع في إسلامه - أشار إلى قائده (أن كُفَّهُ)، فدفعه ابن أم مكتوم، فعند ذلك عبس النبي في وجهه، فكان النبي عليه السلام يكرمه بعد ذلك. وقال سفيان: " كان النبي A - بعد ذلك - إذا رآه بسط له رداءه، وقال مرحباً [بمن] عاتبني فيه ربي جل وعز ". قال ابن زيد: كان [يقال]: لو أن رسول الله كتم من الوحي شيئاً لكتم هذا على نفسه. - وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى}.

أي: وما يدريك - يا محمد - لعل هذا الأعمى الذي أعرضت عنه يتطهر من ذنوبه. - {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى}. (أي): [أو] يتعظ [فينفعه] الاتعاض. - ثم قال تعالى: {أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى}. (أي): أما من استغنى بماله، فأنت تتعرض له رجاء أن يسلم. قال سفيان: " نزلت في العباس ". وقال مجاهد: " نزلت في عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ". - ثم قال تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى}. أي: وأي شيء عليك - يا محمد - ألا يتطهر من ذنوبه وكفره بالإسلام؟!

- ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى * وَهُوَ يخشى}. أي: وأما الأعمى جاءك يسعى وهو يخشى الله [ويتقيه]. - {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى}. (أي): تُعْرِض وتتشاغل بغيره. - ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}. أي: ليس الأمر كما تفعل يا محمد. وقيل: المعنى: ألاّ إنها تذكرة. والوقف عند نافع ونصير على {كَلاَّ} على التأويل الأول. - وقوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}.

قال الفراء: المعنى أن السورة تذكرة. وقيل: المعنى (أن) الأنباء والقصص تذكرة. (وقيل: المعنى أن القصة التي عوتبت فيها يا محمد تذكرة) وعظة. - {فَمَن شَآءَ/ ذَكَرَهُ}. أي: فمن شاء من عباد الله ذكر تنزيل الله ووحيه فاتعظ به. فالهاء في {إِنَّهَا} للسورة أو للقصة، والهاء في [{ذْكِرَةٌ}] للتنزيل والوحي. - ثم قال تعالى: {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ}. أي: هذه العظة والقصة في صحف قد كتبتها الملائكة في صحف مكرمة، أي: عزيزة. - {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ}.

يعني: مرفوعة في اللوح المحفوظ عند الله. - وقوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}. يعني: الملائكة. وواحد السفرة: سافر. قال ابن عباس وقتادة: سفرة: " كتبة ". وعن قتادة أن السفرة هم القراء. وعن ابن عباس. أيضاً هي " الملائكة ". قال ابن زيد: هم " الذين يحصون

الأعمال ". وسفير القوم: الذي يسعى بينهم بالصلح، فكان السفرة هم الملائكة الذين يَسفِرون بين الله وبين رسله بالوحي. وهذا (هو) اختيار الطبري. - وقوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}. قال وهب بن منبه: السفرة الكرامُ البررةُ: أصحابُ محمد A و {بَرَرَةٍ} جمع بار، ككافر، وساحر وسحرة. والمستعمل في كلام العرب أن يقولو: " رجل بَرّ "، و " امرأة برّة "، فإذا جمعوا ردوه إلى جمع (بار، فقالوا: رجال بررة. وقال النحاس: الأبرار جمع) بَرٍّ، والبَرَرَة جمع بَارٍّ.

- ثم قال تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ}. أي: لعن الكافر [و] أهلك، ما الذي أكفره مع ظهور الآيات وبيا (ن الحق)؟! ف {مَآ}: استفهام على طريق التوبيخ والتقرير. وقيل: إنها نزلت في عتبة بن أبي لهب، وكان قد آمن، فلما نزلت سورة: (والنجم)، ارتد، فدعا عليه النبي A فقتله الأسد في قصة طويلة. وقيل: {مَآ}: تعجُّب، أي: هو ممن يقال فيه: ما أكفره إذا تمادى على كفره مع ظهور الآيات والحجج. قال مجاهد: كل شيء في القرآن " قتل الإنسان " أو " فعل الإنسان " فإنما عنى

به الكافر، وكل " قُتِل " في القرآن [فمعناه]: لعن. - ثم قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ}. أي: أعجبوا (له)! من أي شيء خلق الله الكافر حتى يتكبر عن طاعة الله. ثم بين الشيء الذي خلقه منه فقال: - {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ}. أي: (من) ماء حقير خلقه فكيف يتكبر مَن أصلُه هذا. - وقوله: {فَقَدَّرَهُ}. أي: قدره أحوالاً: نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم، ثم. .. وقيل: معناه: قدرة حسناً أو قبيحاً، ذكراً وأنثى. - وقوله: {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ}. قال ابن عباس: يعني يسره لطريق الخروج من بطن أمه. وهو قول السدي وقتادة وأبي صالح، وهو اختيار الطبري، لأن قبله ذكر

خلقَهُ من نطفة وانقتالَه من (حال إلى) حال في الرحم، فوجب أن يُتْبِعه بذكر خروجه من الرحم ليكون الكلام كله في معنى واحد. وقال مجاهد: هو طريق الخير والشر كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]. وعنه أيضاً أنه سبيل الشقاء والسعادة. وقال الحسن: سبيل الخير يسره له. وقال ابن زيد: هداه إلى الإسلام ويسره له. - ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}. أي: أماته بعد إحيائه له عند انقضاء أجله وجعل له قبراً ولم يجعله ممن يُلْقى على وجه الأرض، فهذا كله من نعم الله على ابن آدم. يقال: " قَبَرْت الرجل ": [إذا] أدخلته في القبر، و " أَقْبَرْتُهُ ": إذا جعلت له قبراً. والمعنى: فصيره ذا قبر.

- ثم قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ}. أي: أحياه بعد موته. يقال: أحيا الله الميت وأنشره بمعنى. ونَشَر الميّتُ: حَيي هو نفسُهُ. - ثم قال تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}. أي: ليس الأمر ما يقول هذا الإنسان من [أنه قد أدى] حق الله في نفسه وما له، لم (يقض) ذلك، ولا يقدر عليه. قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض الله عليه. - ثم قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً}. هذا كله تنبيه من الله لعباده على نعمه عليهم. ومن قرأ (أنّا) بالفتح،

فقال أبو حاتم: هو بدل من الطعام. وهو قول الفراء و [أبي] عبيد. وتقديره: فلينظر الإنسان إلى صبنا الماء. وهو قول فيه بعد، لأن الثاني [ليس هو الأول] ولا [بعضه] ولا مشتملاً عليه. (وقيل: إنما فتحت على أنها رفع بالابتداء. ولا يُحسّن سيبويه الابتداء " بأنّ " المفتوحة، وأيضاً فإنه لا خبر لها).

وقيل: (إن) التقدير: لأنّا صببنا. وقيل: {أَنَّا} في موضع رفع [على] إضمار مبتدأ، والتقدير: إلى طعامه، طعامه: صبّ الماء. . . ز وقيل: {أَنَّا} بدل الاشتمال من طعامه. والمعنى: فليعتبر الإنسان ويعلم قدر نِعَم الله علي وكيف سبب له [كمال طعامه] الذي به قوامه، [بأن أنزل] الغيث من السماء فصبه على الأرض صباً، ثم شق للغَيْثِ الأرض شقاً/ فأنبت فيها حباص، يعين الزرع وسائر الحبوب. - {وَعِنَباً}.

يعني: الكوم، أي: وكُروم عِنَب. - {وَقَضْباً}. يعني: القت. وأهل مكة يسمون القت الصغير القضب، كأنه قطع مرة بعد مرة. يقال: قضبه: إذا قطعه. وحكى أبو عبيدة أنه الرطبة وقاله الضحاك. وقال الحسن: " القضب: العلف ". - {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً}. يعني البساتين التي قد حوِّط حلها بالبنيان. والغلب: الغلاظ، يعني:

وأشجار حدائق غلاظ. [يقال]: رجل أغلب للغليظ الرقبة. قال ابن عباس: الحدائق الغلب: ما التف من الشجر واجتمع. وقاله مجاهد. وعن ابن عباس أيضاً: الغلب: الطول. (وقال قتادة: هي النخل، الكرام)، وقاله ابن زيد. - ثم قال تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}. يعني بالفاكهة: ما يأكله الناس، والأب: ما تأكله الأنعام من المرعى. وهو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة. وعن ابن عباس أيضاً

33

أنه " الثمار الرطبة ". - ثم قال تعالى: {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}. (أي: متعة لكم، يعني الفاكهة ما قبلها، ولأنعامكم). يعني: الأبّ. - قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة}، إلى آخر السورة. أي: فإذا قامت القيامة، والصاخة: اسم من أسماء يوم القيامة. قال ابن عباس: الصاخة: القيامة. وقال عكرمة: هي النفخة الأولى. والطامة الكبرى: النفخة الثانية. فالأولى يموت بها كل حيّ. والثانية يحيى بها كل ميت. وقال الحسن: (يصيخ) لها كل شيء، أي: يصمت لها كل شيء.

والصاخة في الأصل الداهية. قال الطبري: وأحسبها مأخوذة من قولهم: صخّ فلان فلاناً: إذا أصمه. ولعل الصوت هو الصاخ. قال: فإن يكن ذلك كذلك، فينبغي أن يكون ذلك لنفخة الصور. - ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ}. (أي: فإذا جاءت الصاخة في يوم يفر المرء من أخيه) وأمه وأبيه، وفراره منهم حذر من مطالتبهم إياه بمظالم لهم عليه. وقيل: معنى فراره عنه لئلا يرى ما ينزل به. - ثم قال تعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. (يعني: لكل واحد من هؤلاء المذكورين ذلك اليوم شأن يغنيه).

عن شأن غيره. قال قتادة: " أفضى إلى كل إنسان ما يشغله عن الناس ". " وسألتْ عائشة Bها رسُول الله A: كيفَ يُحْشرُ الرّجال؟ فقال: حُفةً عُراةً، ثمّ سألتْهُ: كيفَ يُحشَرُ [النساء]؟ فقال: كَذَلِكَ حُفاةً عُراةً، فقالت: واسَوْأَتَاه من يوم القيامة!! فقال: عن أيّ شيء تَسأليني؟ إنّهُ قدْ نَزَلت عليَّ آيةٌ لا يضرّك كَانت عليكِ ثِيابٌ (أمّ لا، قَالَت): أيّ آيةٍ [هِيَ يا نبيّ الله]؟ قال: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. قال قد شغله عن صاحبه ".

يقال: غَنيْتُ بالمكان. أي: أقمت به فيكون معنى {يُغْنِيهِ} أي: يقيم عليه. - ثم قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}. أي: وجوه قوم يومئذ مشرقة مضيئة {ضَاحِكَةٌ} من السرور بما أعطاها الله من النعيم، {مُّسْتَبْشِرَةٌ} [لم] ترجوه من الزيادة وهي وجوه المؤمنين الذين قد Bهم. يقال: أسفر وجه فلان: إذا حَسُن، وأسفر الصبح: إذا أضاء. وكل مضيء (فهو مسفرٌ. ويقال للمرأة إذا ألقت خمارها أو نقابها أو [برقعها] قد سفرت) عن وجهها. - ثم قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}. وهي وجوه الكفار. روي أن البهائم التي يصيرها الله تراباً يومئذ بعد القصاص يحول ذلك التراب غبرة في وجوه أهل الكفر.

- وقوله: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}. أي): تغشى [تلك] الوجوه {قَتَرَةٌ} أي: ذلة. ثم بين تعالى من هو، فقال: - {أولئك هُمُ الكفرة الفجرة}. أي: الكفرة بالله ورسله وكتبه، الفجرة في دينه لا يبالون ما أتوا من معاصي الله ومحارمه.

التكوير

بسم الله الرحمن الرحيم سورة كورت مكية - قوله تعالى: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} إلى آخرها. معنى كورت: ذهب ضوءها. وقال ابن عباس: تكويرها: إدخالها في العرش. قال أبو العالية: حدثني أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينا

الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس وبينا هم كذلك إذ تناثرت النجوم، وبينا هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختطلت الدواب والطير والوحوش وماج بعضهم في بعض. وقل: {كُوِّرَتْ}: جمع بعضها إلى بعض، ورمي بها كما تجمع العمامة إذا كورت على الرأس ولفت. - وقوله: {وَإِذَا النجوم [انكدرت]}. أي: تناثرت وتساقطت من السماء من أيدي الملائكة، لأنهم يموتون. يروى أنها معلقة بين السماء والأرض، مثل القناديل، بسلاسل من نور، وتلك [السلاسل] بأيدي ملائكة من نور، فإذا كانت النفخة الأولى مات من في

السماوات (ومن في) الأرض إلا من شاء الله، فَتَنَاثَر الكواكب عند صوت الملائكة كيف شاء الله. وأصل الانكدار: الانصباب. قال قتادة ومجاهد والربيع: {انكدرت}: تناثرت وتساقطت. وقال ابن زيد: {انكدرت}: رمي بها من السماء إلى الأرض. وقال ابن عباس: " {انكدرت}: تغيرت "، من قولهم: " ماءٌ كَدِرٌ "، أي: متغير اللون. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ}. أي: سيَّرها الله، فكانت سراباً وهباءً منبثاً. قال مجاهد: {سُيِّرَتْ} أي: ذهبت.

وقيل: {سُيِّرَتْ}: قلعت من أصلها فصارت بين المشرق والمغرب فصارت كالهباء المنبث. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ}. أي: وإذا الحوامل من الإبل التي قد بلغت في الحمل عشرة أشهر، وذلك أعز ما تكون عند أهلها لقرب نفعها من الولد واللبن، قط عطلها أهلها وأهلموها فلا يسألون عنها لهول ما فَجِئَهُم. والعشار: جمع عُشَرَاء، يقال: " ناقةٌ عُشَرَاءٌ ": إذا أتى على حملها عَشَرَةُ أشهر. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ}. قال ابن عباس: حَشْرُ البهائِمِ موتُها. وقال (أبي) بنُ كعب: {حُشِرَتْ}: " اختلطت ".

وقال قتادة: {حُشِرَتْ}: جمعت فأميتت بعد أن يقتص لبعضها من بعض. وهو اختيار الطبري لقوله: {[وَأَرْسِلْ] فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] أي: جامعين له الناس، ولقوله: {والطير مَحْشُورَةً} [ص: 19]، أي: مجموعة. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ}. قال أبي بن كعب: {سُجِّرَتْ}: اشتعلت ناراً. وقد سأل علي بن أبي طالب Bهـ رجلاً من اليهود فقال له: أين جهنم؟ فقال: البحر، (فقال): ما أراه إلا [صادقاً]، وقرأ: {والبحر المسجور} [طه: 6]، {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ}. وقال ابن زيد: {سُجِّرَتْ}: أُوقِدَتْ فصارت نيرانا، وقاله سفيان. وقال

الربيع بن [خثيم]: {سُجِّرَتْ}: " فاضَتْ ". وقال الضحاك: " فجرت ". ودليله قوله في الانفطار: {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3]، فكيف يخبر عنها في هذه السورة بأنها تسعر ناراً، [و] يخبر عنها في [السورة] الأخرى بأنها تفجر؟! بل الخبر في السورتين عن تفجيرها أولى. وقال قتادة: {سُجِّرَتْ}: ذهب ماؤها وغار. وقال الحسن: " يبست "، وهذا موافق لقول الضحاك وموافق لمعنى ما في السورة الآخرى من ذكر التفجير، لأنها إذا فجرت ذهب ماؤها، وإذا ذهب ماؤها يبست، فالمعنى متَّفِق في ذلك. وقال ابن عباس: جهنم في البحر الأخضر [تكوَّر] الشمس والقمر فيه،

[وتتناثر] الكواكب ثم تسجر فتكون جهنم. وقال معاوية بن سعيد: بحر الروم [وسط] الأرض، أسفله آبارٌ مطبقة بنحاس تسجر يوم القيامة. وقال (أبو) عمران الجوني: بلغنا أن دون العرش بحاراً من نحاس تسجر يوم القيامة.

والمسجور [و] السَّاحر في اللغة: المَلآنُ، فمعنه - على قول من جعله جهنم - أنها تملأ ناراً. وقيل: هي بحار في جهنم، إذا كان يوم القيامة سجرت بأنوا العذاب، أي: ملئت [بذلك]. [روي أن الأوزاعي وقف على بحر الشام، فقال: هذا بحر، وتحته نار، وتحت النار بحر، وتحت البحر نار، حتى أتى على سبعة أبحر وسبعة أنوار. ثم قال: ينصب عليه الماء يوم القيامة، تشتعل نيرانه فتصير جهنم]. وقوله: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ}. قال عمر بن الخطاب Bهـ: هو الرجلان (يعملان) بعمل أهل الجنة أو

بعمل أهل النار. فَيُقْرَنُ كل شكل بشكله. ودليله قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، أي: وأشكالهم في الشر. وقال عكرمة: يقرن الرجل الصالح بقرينه الصالح - في الدنيا - في الجنة [ويقرن] الرجل الطالح بقرينه [الطالح] الذي كان يعينه في الدنيا على ذلك في النار، ومكذلك تزوج الأنفس. وقيل: معناه أن نفوس المؤمنين تقرن/ بحور العين. وتقرن نفوس [الكفار] والمنافقين بأنفس الشياطين. وقال الحسن: {زُوِّجَتْ} " ألحق كل امرئ بشيعته ".

(وقاله قتادة)، (قال): يلحق اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى. وقال عكرمة: معناه: وإذا النفوس ردت إلى الأجساد، فتقرن كل نفس بجسدها. وهو قول الشعبي. -[ثم قال تعالى]: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ}. {بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}. أي: طلب منها من قتلها؟ توبيخاً له، أي: وقيل لها: من قتلك؟ ولأي شيء قتلت بغير 1ذنب؟ توبيخاً لقاتلها. وأصل الوأد في اللغة: الثِّقْلُ. يقال: وَأَدَهُ [يَئِدُهُ] وَأْداً: إذا أثقله، فكأنه يُثْقِلُ المولودة بالتراب. ومنه: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]

وكان أهل الجاهلية يقتلون بناتهم، فوبخهم الله بذلك. [وقرأ] ابن عباس وجابر ابن زيد: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ}، أي: سألت قاتلها: بأي ذنب قتلها. وقيل: معناه: سألت ربها عن ذلك على طريق التوبيخ والتقرير للقاتل. روي أن الجاهلية لما زعمت أن الملائكةَ بناتُ الله، ألقى الله بغض البنات في قلوبهم، فكان بعضهم يكسو بنته جبة صوف [أو شعر] ويجعلها ترعى الغنم

بغضاً فيها. وكان بعضهم يدفنها حية، وبعضهم يقتلها، وبعضهم يلقيها في بئر ويلقي التراب عليها. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ}. أي: وإذا صحف أعمامل العباد نشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات. قال قتادة: " صحيفتك يا ابن آدم تملى [ما] فيها، ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة ". وقيل: (المعنى): نُشِرَ مَا فيها من أعمال بني آدم. روي أن في السماء مَلَكاً (اسمه) " السِّجِلُّ "، تَرفع إليه الملائكةُ الحفظةُ [كل يوم] أعمال بن آدم، ما كتبوا بالليل والنهار، فينظر في تلك الكتب فيرى ما لهم وما عليهم، فيطرح منها قول الرجل: اخْرُجْ، كُلْ [اشْرَبْ]، ونحوه مما ليس فيه

ثواب ولا عقاب، ثم تطوى تلك الكتب ويطبع عليها كل يوم وليلة، فلا تفتح إلى يوم القيامة، فتنشر للحساب، وهو معنى قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]. أي: [نطوي] السماء (كما يطي) ذلك الملك الكتب التي فيها أعمال بني آدم. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ}. قال الفراء: " نُزعت وطويت ". وفي قراءة عبد الله: " قُشِطَتْ "، بالقاف. وهما لغتان. والأصل الكاف. قال مجاهد {كُشِطَتْ}: " جذبت ". وقيل: معناه: {كُشِطَتْ} عمن فيها (كما) يكشط الجلد عن الكبش. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ}.

أي: أُوقِد عليها فَأُحْمِيَتْ لأهلها. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ}. أي: قربت [وأدنيت] من أهلها. - ثم قال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ}. هذا جواب {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} وما بعده. وإلى هذا أَتَى بالقصة من أولها، أي: إذا وقع كل ما ذكر من الحوادث، علمت (كل) نفس ما أحضرت من خير أو شر، وما أخرت. قال عمر بن الخطاب Bهـ: " إلى هذا جرى الحديث ". والمعنى: ما وَجَدَته حَاضِراً، كما يقال: " أَحْمَدْتَ الرَّجل ": إذا وجدته محموداً. - ثم قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس}. (لا) زائدة مؤكدة، والمعنى: أقسم بالخنس، وهي النجوم الدراري الخمسة،

تَخْنَسْ في مجراها فترجع وتكنس [فتصير] في بيوتها كما تكنس [الضباء] في الغار وهي بهرام -[وهو] المريخ - وزحل وعطارد والزهرة والمشتري. قال علي: الخنس: " النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل ". وقال [بكر] بن عبد الله: " هي النجوم الدراري التي تجري تستقبل المشرق ". وهو قول الحسن ومجاهد. وقال قتادة كقول الحسن، [قال]: هي النجوم تبدو بالليل وتكنس

بالنهار. وقال عبد الله بن مسعود: هي بقر الوحش. وكذلك قال النخعي وجابر بن زيد. وقال ابن عباس: هي الظباء، وهو قول ابن جبير والضحاك. وإنما يقال لبقر الوحش والضباء " خُنْسٌ "، لأن الواحد أخنسُ والأنثى خَنْسَاءُ، أي: قصيرات الأنوف. وقيل للنجوم " خُنَّسٌ "، لأنها تخنس، أي: ترجع في مجراها، من قولهم: خَنَست

عن الرجل: إذا تَأَخَّرْت عنه. ويقال: خَنَسْتَ عن الرجل: إذا استَتَرْتَ عنه، فلذلك قال الحسن: هي النجوم تخنس بالنهار أي: تستتر فيه، والكنس: المستقرة، والكِنَاسُ: أن تتخذ البقرة الوحشية من/ الشجرة القديمة بيتاً تأوي إليه. وقيل: الكنس سبعة: الشمس والقمر [والمشتري] وعطارد والمريج وزحل والزهرة. أقسم الله - جل ذكره - بها، والتقدير: فأُقْسِمُ [برب] الخنس، والله - جل ذكره - يقسم بما شاء من خلقه. - ثم قال تعالى: {والليل إِذَا عَسْعَسَ}.

(قال ابن عباس Bهـ: {عَسْعَسَ}: " أدبر ". وهو قول علي ومجاهد وقتادة. وقال زيد بن أسلم {عَسْعَسَ}: ذهب. وقال الحسن: {عَسْعَسَ}: إذا غشي الناس بظلامه. وهو قول الفراء. والعرب تقول: عسعس الليل وسعسع: إذا أدبر فلم يبق منه إلا اليسير. وقيل: هو من الأضداد.

وقال المبرد: ليس هو من الأضداد، لكن يقال: عسعس إذا لم يستحكم ظلمته، فهذا يصلح لأوله ولآخره. - ثم قال تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ}. ي: أقبل وتبين. والتقدير: وَضَوْءُ الصبح إذا أقبل. - ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}. هذا جواب القسم المتقدم. [وأجاز] الكسائي " أنَّهُ " بالفتح على معنى: أقسم أنَّهُ. والمعنى: إِنَّ هذا القرآن لقول رسولٍ كريمٍ عن الله بَلَِّغَهُ، يعني جبريل عليه السلام كريم عند مرسله. وقيل: الرسول [الكريم: محمد] ونسب إليه القرآن فجعل من قوله لأنه

يعمل بما فيه، ويقول به وهو مذهبه، كما تقول: فلان يقول يقول مالك ويقول الشافعي، أي بمذهبه. فأضاف القول إليه لانتحاله إياه. كذلك من جعله جبريل، أضاف القول إليه؛ لأنه ينزل به من عند الله، فهذه إضافة لفظ دون معنى. - وقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ}. يعني جبريل، أي: صاحب قوة على ما كُلِّف من تبليغ الوحي، مكين عند رب العرش، أي: متمكن الحال والدرجة عند ربه. - ثم قال تعالى: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}. أي: مطاع في السماء، تطيعه الملائكة، [أمين] عند الله على وحيه إلى أنبيائه. قال أبو صالح: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} قال: " جبريل أمين على أن يدخل سبعين سُرْادِقاً من نور بغير (إذن] ". قال ابن عباس والضحاك: هو جبريل.

- ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}. يعني [محمد] A، أي: ليس (هو) بمجنون كما قال المبطلون. - ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين}. [أي]: ولقد رأى [محمد] جبريل عليه السلام في صورته في الناحية [التي] تتبين فيها الأشياء، فيرى من قبلها وذلك ناحية مطلع الشمس من قبل المشرق. وقال قتادة: {بالأفق المبين}، كنا نُحَدِّثُ أن الأفق من حيث تطلع الشمس ويجيء النهار. قال ابن عباس: رأى محمد جبريل على صورته عند الله. قال ابن مسعود: رأى جبريل له خمسمائة جناح وقد سد الأفق.

- ثم قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ}. من قرأه بالضاد غير مرفوعة فمعناه: وما محمد على القرآن ببخيل، بل [يبذله] ويدعو له ويغظ (به). ويذكر به ويعلمه. ومن قرأه بالظاء مرفوعة فمعنه: بمتهم. أي: ليس هو بمتهم على القرآن، بل هو أمين عليه وعلى تبليغه كما أوحي إليه. - ثم قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}. أي: وما القرآن الذي جاءكم به محمد {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ}، أي]:

مرجوم، أي: ملعون، مطرود. ولكنه كلام الله ووحيه. - ثم قال تعالى: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}. أي: فأين تعدلون عن (هذا) القرآن وعن قبوله وتصديق من جاءكم به؟! قال قتادة: معناه: فأين " تعدلون عن كتابي وطاعتي "!. وقال: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ}، ولم يقل (فإلى أين) تذهبون. كما تقول: ذهبت الشام، وذهبت إلى الشام. وذهبت المشرق وذهبت إلى المشرق. وحكي عن العرب سماعاً: انطلق به [الغَوْرَ أي إلى الغَوْرِ].

ولا يجيزه سيبويه إلا في: " ذَهَبْتُ الشَّامَ "، سماعاً. لا يجوز عنده: " ذَهَبْتُ مِصْرً ". - ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}. أي: ما هذا القرآن إلا ذكر وعظة للعاملين من الجن والإنس. ثم بين لمن هو ذكر وعظة، فأبدل من " العالمين " بدل البعض من الكل بإعادة الجار [فقال]: - {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}. أي: لمن شاء أن يتبع الحق. (والمعنى: إنْ هذا القرآن إِلاَّ ذكر لمن شاء منكم أن يتبع الحق) [ويستقيم] عليه. - ثم قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين}. أي: وما تشاءون - أيها الناس -/، الاستقامة على الحق إلا أن يشاء الله ذلك لكم.

وقيل: (معناه) وما تشاءون شيئاً من الطاعة والمعصية، إلا أن يشاء الله رب العالمين ذلك منكم، ولو شاء الحال بينكم وبين ما تشاءون. وهذا قول أهل السنة: كل طاعة ومعصية بمشيئة الله كانتا. وروي أنه لمَّا [نزل] قوله: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ}، قال أبو جهل: ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين}. وفي الكلام معنى التهدد والوعيد.

الانفطار

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الانفطار مكية - قوله تعالى: {إِذَا السمآء انفطرت} إلى آخرها. [إذا السماء انفطرت، بمنزلة قوله: {إِذَا السمآء انشقت} [الإنشقاق: 1]. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت}. أي: تساقطت. قد تقدم ذكر هذا.

- ثم قال تعالى {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ}. أي: فجر الله بعضها في بعض. قال قتادة: " فَجّرَ عَذْبَهَا في مالحها، ومالحها في عذابها ". - ثم قال تعالى: {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ}. أي: [أثيرت] فاستخرج من فيها من الموتى أحياء. يقال: بعثر فلان حوض فلان [وبحْثره]: إذا جعل أسفله أعلاه. قال ابن عباس: {بُعْثِرَتْ}: " بُحِثَتْ ". وقال الفراء: بُعْثِرَتْ فألْقَتْ فألْقَتْ ما فيها من الكنوز والموتى. ولا معنى للكنوز في هذا؛ لأنه يو القيامة، ولا كنز في القبور.

- ثم قال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}. هذا جواب {إِذَا السمآء انفطرت} وما بعده، أي: علمت كل نفس ما قدمت لذلك اليوم وما أخرت من عمل صال أو سيء. وقيل: معنى (أخرت)، أي: ما سنت من عمل فيعمل به بعده. (قاله القرظي). وقيل: معناه: ما قدمت من العمل المفروض فعملت به، وما تركت منه. وهو قول [ابن] عباس وعكرمة وقتادة وابن زيد. أي: [ما] عملت مما فرض عليها، وما تركت فلم تعمل (به). - ثم قال تعالى: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم}. أي: يا أيها الإنسان الكافر بربه، أي شيء غرك بربك الكريم حتى كفرت به وجحدت نعمه؟! قال الطبري: غَرَّ الناس عدوُّهم المسلط عليهم. وقاله قتادة.

- وقوله: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}. أي: اخترع خلقك [بعد] إن لم تكن شيئاً فسوى خلقك. {فَعَدَلَكَ} أي: فقومك، فجعل خلقك معتدلاً، (لا) تزيد رجل (على رجل)، ولا يد على يد. ودل على هذا قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. ومن خفف {فَعَدَلَكَ} فمعناه: صرفك إلى أي سورة شاء، إما حسنٌ وإما قبيحٌ، وإما طويل وإما قصير. وقوله: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ}. يدل على هذا المعنى. فقراءة (التشديد أولى [ليفيد] الكلام فائدتين مجددتين، لأن معنى التخفيف هو ما أفاد).

قوله: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ}. و {في} متعلقة بِ {رَكَّبَكَ}، ولا يحسن أن تتعلق بِ (عدلك) لأنك أنما تقول: عدلت إلى كذا، ولا تقول عدلته في كذا. وقد غلط الفراء فمنع قراءة التخفيف واستبعادها لإتيان {في} بعد (عدلك)، فظن أن {في} متعلقة بِ (عدلك)، وليست كما ظن. وقد قيل: إن القراءة بالتشديد هي من هذا المعنى على التكثير، أي: صرفك مرة بعد مرة إلى أي صورة شاء. وقيل: معنى التخفيف: (أمالك إلى) ما شاء من حسن وقبح وصحة

وسقم. وقال مجاهد: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} معناه: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم شاء خلقك. وقال أبو صالح: معناه: إن شاء في صورة كلب أو خنزير أو حمار. وروي أن النبي A قال: " إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، أما قرأت في {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ}؟! ". والتقدير في الكلام: في أي صورة ما شاء أن يركبك {رَكَّبَكَ}. وفي حديث آخر أنه قال: " إِنَّ اللهَ - جَلَّ وَعَزَّ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ النَّسْمَةَ فَجَامَعَ

الرَّجُلُ المَرْأَةَ، طَارَ مَاؤُهُ فِي كُلِّ عَرْقٍ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْضَرَ لَهُ آباءَه مِنْ لُدُنِ آدَمَ، ثُمَّ صَوَّرَهُ فِي صُورَةِ وَاحِدٍ [مِنْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ]: {في أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ". - ثم قال: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين}. أي: ليس الأمر - أيها الكافرون - على ما تقولون من أنكم على الحق في عبادتكم غيرَ الله، لكنكم تكذبون بالجزاء والبعث والجنة والنار. ودل على ذلك قوله: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} (أي: ما غرك في عبادتك غير ربك الكريم) الذي خلقك فسواك فعدلك. وقيل: {كَلاَّ} / بمعنى " حَقَّاً هَذَا "، أو بمعنى " أَلاَ ". ولذلك، لم ير أبو

حاتم الوقف (عليها)، وأجازه نصير. وقيل: المعنى ليس كما غررت به، بل تكذب بالدين. وقال مجاهد: {بالدين}: " بالحساب ". وقال قتادة " {بالدين}: " يوم شدة، يوم يدين الله (العباد) بأعمالهم ". - ثم قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}. أي: وإن عليكم أيها الناس رقباء حافظين لأعمالكم حتى تدانوا بها يوم القيامة. ثم وصف الحافظين فقال: - {كِرَاماً كَاتِبِينَ}. أي: كراماً على الله يكتبون أعمالكم.

قال مجاهد: يُوكِل بكل إنسان ملكين، ملكاً عن يمينه يكتب الخير، وملكاً عن شماله يكتب الشر. - وقوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}. أي: يعلم هؤلاء الحفظة ما تفعلون من خير وشر [فيحصونه] عليكم. قال أبو عبد الرحمن السلم]: إن الملك يأتي أحدكم كل غدوة بصيحفة بيضاء، فإذا صلى الغدوة [فليمل] فيها خيراً، فإذا طلعت الشمس فليقم لحاجته، فإذا صلى العصر فليمل فيها خيراً. فإنه أملى في أول [صحيفته] وآخرها

خيراً (كان) عسى أن يكفر ما بينهما. - ثم قال تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ}. أي: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب محارمه لفي نعيم الجنان يوم القيامة. وقيل: إنما سموا أبراراً لأنهم بروا الآباء والأبناء. - ثم (قال) تعالى: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ (الدين)}. أتى بلفظ التأنيث في {يَصْلَوْنَهَا} حملاً على تأنيث النار، أي: يَصْلَى الفجار

الجحيم يوماً يدان فيه العباد (بأعمالهم. وقال ابن عباس: " {يَوْمَ الدين}) من أسماء يوم القيامة، [عظمه] الله وحذره عباده ". - ثم قال تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ}. أي: وما هؤلاء الفجار عن الجحيم بخارجين أبداً [فغائبين] عنها، [لكنهم] مخلدون فيها أبداً. - ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ (مَا يَوْمُ الدين)}. أي: وما أشعرك يا محمد، أي شيء يوم الدين!، ثم كرره معظماً له محذراً (منه) عباده. وقيل: إن هذا ليس بتكرير. ومعناه: وما أدراك، يا محمد، ما في يوم الدين من

العذاب للفجار!، وما أدراك ما في يوم الدين من النعيم للأبرار!. ثم فسر بعض شأن ذلك القيوم فقال: - {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً. . .}. أي: ذلك اليوم يوم لا تملك فيه نفس لنفس نفعاً ولا ضراً. ومن رفع {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} جعله بدلاً مما قبله، أي على إضمار مبتدأ، أي: [هو يوم لا تملك]. واختار الفراء والكسائي [الرفيع فيه] لأنه مضاف إلى مستقبل، ولو كان مضافاً إلى ماض لآثروا الفتح، فهو عندهم في الاختيار مُعَرَّبٌ إذا أضيف إلى

معرب، ومبني إذا أضيف إلى مبني. ويجوز في المستقبل من البناء على الفتح مثل ما جاز في الماضي. ومن فتح {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} فعلى الظرف، أي: [الدين] في يوم تملك. ولا يجوز عند الخليل وسيبويه: أن يكون مبنياً وهو [مضاف] إلى معربٍ، إنما يجوز ذلك إذا أضيف إلى ماضٍ. وأجاز الفراء أن يكون مبنياً وإن كان مضافاً إلى معرب، وأن يكون منصوباً معربا، وأن يكون مبنياً - في موضع نصب على الظرف، وفي موضع رفع على إضمار مبتدأ. - ثم قال تعالى: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}. أي: والأمر كله - يوم الدين - لله (أي)، ليس لأحد من خلقه أمر ولا نهي يومئذ.

ومن رفع {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} على البدل من {يَوْمَ} مرفوع قبله أو فتحه - وهو في موضع رفع على البدل منه أيضاً - أو نصبه على البدل من {يَصْلَوْنَهَا (يَوْمَ الدين)}، لم يبتدئ به. ومن رفعه على إضمار مبتدأ أو نصبه على إضمار فعل بمعنى: اذكر يوم لا تملك، أو فَتَحَه وهو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أبتدأ به.

المطففين

بسم الله الرحمن الرحيم سورة ويل للمطففين مكية - قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}، إلى قوله: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}. أي: قبوح للمخسرين في كيلهم، الناقصين (الناس) إذا اكتالوا لهم أو وزنوا لهم. وقيل: {وَيْلٌ} معناه: الوادي [الذي] في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهلها للذين ينقصون الناس ويبخسونهم حقوقهم في كيلهم ووزنهم.

قال ابن مسعود: ويل: (واد) في جهنم. والمطففون: الناقصون. وأصل ذلك في الشيء الطفيف وهو القليل، التَّزْرُ. والمطفف في اللغة: المُقَلِّلُ حَقَّ صاحبِ الحقِّ عَمَّا لَهُ من الوفاء في كيل أو وزن. وحكى القتبي: " إناء [طفان] إذا لم يكن ممتلأ ". وطفف فلان صلاته: إذا لم يجودها. ويقال للشيء المطرح: طفيف.

و [قيل]: معنى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] عند سيبويه أنه دعاء يجري بين الناس، فخوطب العباد بما يجري [بينهم]، وجاء القرآن على لغتهم، فكأنه تعالى قال: هؤلاء ممن يجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة. وروي عن ابن عباس أنه قال: لمَّا قَدِمَ النبي A المدينة كَانَ أهلها من أخْبَثِ الناس كَيْلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل. وهذا الخبر يدل على أن السورة نزلت بالمدينة. - وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ}. أي: إذا اكتالوا من الناس ما لهم عليهم من حق استوفوا لأنفسهم وافياً.

و {عَلَى} بمعنى " من " - في هذ - عند الطبري. وقيل: إن معنى الكلام بِ " عَلَى " خلاف معناه بِ " مِنْ " يقال: اكتلت عليك، بمعنى: أخذت ما عليك من حق. واكتلت منك، بمعنى: استوفيت/ منك. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}. أي: وإذا [كالوا] للناس أو وزنوا لهم ينقصون، فَ " هم " في موضع نصب، على هذا يقال: كِلْتُكَ حَقَّكَ، وكِلْتُ لَكَ حَقَّكَ. وهو قول أكثر النحويين. ودل على ذلك أن الخط لا ألف فيه بين الضميرين. وقال عيسى بن عمر: الهاء والميم في موضع رفع فيهما، وتقديره عنده: وهم إذا كالوا أو وزنوا يخسرون. وقيل: " هم " في موضع رفع تأكيد للمضمر [المرفوع] في

6

" كالوا " أو " وزنوا ". - ثم قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}. أي: ألا يظن المطففون أنهم مبعوثون ليوم القيامة من قبورهم فيجازون على تطفيفهم وبخسِهم الناس حقوقهم. روي أنها نزلت في رجل من قريش كان بالمدينة معه صاعان: واف يقبض به، وناقص يعطي به، ثم هي عامة في كل من نقس الكيل إذا دفع وأوفى إذا قبض. - قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين}، إلى قوله: {كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. أي: يبعثون يوم يقوم. ويجوز [أن يكون] بدلاً من {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} على الموضع.

وقال الفراء: هو مبني على الفتح، ولا يحسن عند البصريين بناؤه مع إضافته إلى معرب، إنما يناؤه إذا أضيف إلى مبني. المعنى: يوم يقوم الناس على أقدامهم لرب العالمين. روي أن الناس يقومون يوم القيامة حتى يلجمهم العرق، فيقومون مقدار أربعين عاماً. وقيل: مقدار ثلاثمائة عام. وروى ابن عمر [عن النبي A أَنَّهُ قال: " يَقْدُمُ أَحَدُكُمْ فِي رَشْحِهِ إلى أنْصافِ أُذُنَيْهِ " وروى أبو هريرة] أن النبي A قال لبشير الغفاري: " كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ

فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِ العَالَمِينَ مِقْدَارَ ثَلاَثَمائة سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا لاَ يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَأْمُرُ فِيهِمْ بِأَمْرٍ؟ فَقَالَ بَشِيرٌ: اللهُ المُسْتَعَانُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ النبي A: إِذَا أَوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ، فَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ كَرْبِ (يَوْمِ) القِيَامَةِ وَسُوءِ الحِسَابِ ". وعن ابن عمر أنه قال: " يقومون مائة سنة ". وقال ابن مسعود: يمكثون أربعين عاماً رافعي رؤوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق كل بر وفاجر. قال: [فينادي] مناد: أليس عدلاً من ربكم أنه خلقكم ثم صوركم (ثم رزقكم) ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد

منكم ما تولى في الدنيا؟! فيقولون: بلى "، ثم ذلك الحديث. وقال كعب: يقومون قدر ثلاثمائة سنة. وروى عقبة بن عامر عن النبي A قال: " تَدْنُو الشَّمْسُ يَومَ القيامةِ من الأَرضِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْرَقُ إلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عَجْزِهِ، وَمنهم مَنْ يَعْرَقُ إلى خَاصِرَتِهِ، وَمِنْهم مَنْ يَعْرَقُ إلى مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى عُنُقِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرَقُ إلى نِصْفِ فَمِهِ مُلْحَماً بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ بيَشْمَلُهُ] العَرَقُ " قال عمير [بن] هانئ: يحشر الناس يوم القيامة على أرض قد مدها [الله] تبارك وتعالى مد الأديم العُكَاظِي، فهم من ضيق مقامهم فيها كضيق سهام

اجتمعت في كنانتها. قال: فالسعيد يومئذ من وجد لقدمه مقاماً. قال: وأكثر الأقدام يومئذ بعضها على بعض. قال: فهم فيها مجتمعون ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي. فبينما هم كذلك، إذا سمعوا زفرة من زفير جهنم، فلا يبقى مالك مقرب، ولا نبيٌ مرسل إلا خَرَّ لركبيته، حتى إنَّ إبراهيم A ليقول: (نفسي)، (رب) نفسي، لا أسألك غيرها. فلا يبقى عند تلك الزفرة دمعة إلا جرت، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى دم في عين إلا جرى، ثم يسمعون زفرة أخرى فلا يبقى قيح إلا

سال يتبع بعضه بعضاً، ويمد بعضه بعضاً حتى يسيل إلى واد يقال (له سائل، فيفرغ في جهنم، فذلك قوله): {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1]. - ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ}. من جعل {كَلاَّ} وقفا، كان تقديره: ليس الأمر كما يظن هؤلاء الكفار أنهم غير مبعوثين، إن كتابهم الذي كتبت فيه أعمالهم في الدنيا لفي سجين. ومن لم يره وقفا، جعل {كَلاَّ} بمعنى " أَلاَ "، افتتاح كلام. و {سِجِّينٍ}: الأرض السفلى، فيه أعمال الكفار وأرواحهم. وروي أن إبليس موثق بالحديد والسلاسل في الأرض السفلى. (وسأل ابن عباس كعباً عن {سِجِّينٍ}، فقال/: هي الأرض السابعة السفلى)، فيها أرواح الكفار تحت خد إبليس.

وروي أنه قال (له): إن أرواح الكفار يُصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثم يُهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فيُهبط، فتدخل تحت سبع أرضين حتى يُنتهى بها إلى سجين، وهو خد إبليس، فيخرج [لها] من سجين من تحت خد إبليس [رق] فترقهم وتختم وتوضع تحت خد إبليس. وقال ابن جبير: {لَفِي سِجِّينٍ}: " تحت خد إبليس ". وقال ابن أبي نجيح: {سِجِّينٍ} صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب [فتجعل] تحتها. وقال ابن عباس: " أعمالهم في كتاب في الأرض السفلى ". وروى أبو هريرة أن النبي A قال: " الْفَلَقُ جُبٌّ في جَهَنَّمَ مُغَطَّى. وأما {سِجِّينٍ}، فمفتوح ". يعني أنه جب مفتوح.

وقيل: {سِجِّينٍ} من السِّجِلِّ، والنون مبدلة من اللام. وقال أبو عبيد: {لَفِي سِجِّينٍ}: لفي حبس. وهو فِعِّيلٌ من السجن. وقيل: {سِجِّينٍ}: هي الصخرة التي تحت الأرض السفلى وهو صفة، وليس باسم الصخرة، ولو كان اسماً لها لم تنصرف. وروى البراء بن عازب أن النبي A قال: " إِنَّ العَبْدَ (الكَافِرَ - أَوْ) الفاجِرَ - إِذَا مَاتَ صَعِدُوا بِروحِهِ إلى السماءِ، فَيَقُولُ اللهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: اكْتُبُوا كِتَابَه في سَجِّينٍ. وَهِيَ الأَرْضُ السُّفْلَى ".

وعن كعب (أيضاً) أنه قال: في التوراة أن سجينا شجرة سوداء تحت الأرضين السبع، مكتوب فيها اسم كل شيطان، تُلْقَى أنفس الكفار عندها. - ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}. أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما سجين؟! على التعظيم لأمره. ثم بَيَّنَ فقال: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}. أي: مكتوب فيه عمل الكفار. قال قتادة: مرقوم: مكتوب رُقِمَ لهم فيه بِشَرٍّ. - ثم (قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}. قد تقدم تفسيره في مواضع). - ثم قال: {الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين}. أي: لا يؤمنون بالجزاء والبعث والنشور. - {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ}.

أي: بالبعث، {إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ. . .} أي: كل من تعدى حدود الله. {أَثِيمٍ} أي: مأثوم في فعله. {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا. . .}. أي: حججنا وأدلتنا. {قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين. . .}. أي: قال: هذه أخبار الأولين وأحاديثهم وما كتب عنهم وَسُطِّرَ. - ثم قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}. {كَلاَّ} عند أبي حاتم لا يوقف عليها. وهي بمعنى " أَلاَ " [و] بمعنى " حَقاً ". ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأَمْرُ على ما قال هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن آياتنا أساطير الأولين. ثم ابتدأ فأخبر عَنْهُم ما نزل بهم حين كفروا بالبعث فقال: {بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا

كَانُواْ يَكْسِبُونَ}، أي: (بل) ران على قلوبهم إِثْمُ ذُنُوبِهِمْ وكُفْرِهِمْ حتى غطاها، فلا يبصرون الصواب من الخطأ. يقال: رانت الخمرُ على عقله: إذا غلبت (عليه). وغَانَتْ بمعناه. وروى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ نُكِتَ (فِي) قَلبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإن (تاب) صُقِلَ مِنْهَا، فإن عَادَ عَادَتْ حتى تَعْظُم فِي قَلْبِهِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} ". وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يَعْمَى القلب فيموت.

قال مجاهد: القلب مثل الكف. فإذا أذنب انقبض - وقَبَضَ مجاهد أُصبُعاً - قال: فإذا أذنب انقبض - وقبض مجاهدٌ أصبعاً آخر - ثم كذلك حتى ينقبض كله - وقبض مجاهد أصابعه على الكف - قال: ثم يطبع عليه. فكانوا يرون أن ذلك هو الرين. قال قتادة: هو " الذنب على الذنب حتى يرين على القلب فَيَسْوَدُ ". قال ابن زيد: {بَلْ رَانَ}، أي: غلبت على قلوبهم ذنوبُهم، فلا يَخْلُصُ إليها معها خير. - ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}. " كلا " عند أبي حاتم بمعنى " ألا ". ولا يوقف عليها. ويوقف عليها عند غيره، على معنى: ليس الأمر كما يقول هؤلاء المكذبون بيوم الدين: إن لهم عند الله زلفة يوم القيامة لكنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون، فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته.

وقول أبي حاتم أَبْيَنُ في [هذا الموضع] من " كلا "، لأن هذا التقدير ليس هو في ظاهر الكلام، ولا في الكلام ما يدل عليه. ففيه تعسف. [وَدَلَّ لالهُ المؤمنِينَ، بهذه الآية، أنهم لا يحجبون عن ربهم وعن النظر إليه. قال مالك C: في هذا دليل على أن ثم قوماً لا يحجبون عن الله وينظرون إليه/. وبه استدل الشافعي على النظر إلى الله D يوم القيامة. وقد قدره منكرو النظر إلى الله على معنى أنهم عن كرامة ربهم لمحجوبون.

وهذا لا يجوز عند أحد من النحويين، ولو جاز هذا لجاز: " جاءني زيد "، تريد غلام زيد أو كرامة زيد. وفي جواز هذا نقض كلام العرب كله. ولا يجوز إخراج الكلام عن ظاهره إلا لضرورة تدعو إلى ذلك مع امتناع جوازه على ظاهره. فإذا امتنعك جواز الكلام على ظاهره، جاز الإضمار الذي يسوغ معه جواز الكلام. ولا ضرورة تدعو إلى أضمارٍ هنا على مذهب أهل السنة. قال الحسن: يكشف (الحجاب) فينظر إليه المؤمنون دون الكافرين، ثم يحجب الكافرون، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غُدْوَةً وَعَشِيَةً.

18

- ثم قال تعالى: {(ثُمَّ) إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم}. أي: لَوَارِدُهُ مع [حجبهم] عن النظر إلى الله. - {ثُمَّ [يُقَالُ] هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}. أي: يقال لهم: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا. - قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار. . .}، إلى قوله: {يَشْرَبُ بِهَا المقربون}. أي: ألا إن كتاب الأبرار، أي: كتاب أعمالهم لفي عليين. والأبرار: الذين بروا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه. وقيل: هم المؤمنون الذي بَرَّوا الآباء والأبناء. وقال الحسن: " [هم الذين] لا يؤذون شيئاً حتى الذر ". وسأل ابن

عباس كعباً عن {عِلِّيِّينَ} فقال: " هي السماء السابعة، وفيها أرواحُ المؤمنين ". وروي (عنه أنه قال (له: إن) أرواح المؤمنين إذا قبضت صُعِدَ بها ففتحت لها أبواب السماء وتلقتها الملائكة بالبُشرى، ثم عَرَجُوا مَعَهَا حتى ينتهوا إلى العرش فيُخْرَحُ لها من عند العرش رَقٌّ [فَيُرْقَم] ويختم بمعرفتها النجاة يوم القيامة، ويشهدها الملائكة المقربون. وقال قتادة ومجاعج: هي " السماء السابعة ". وقيل: السماء الرابعة، اسمها عليون، وفيها أعمال المؤمنين وأرواحهم.

وقال الضحاك: {لَفِي عِلِّيِّينَ} أي: " لفي السماء عند الله ". وقال قتادة أيضاً: {لَفِي عِلِّيِّينَ}: " فوق السماء السابعة [عند قائمة] العرش اليمنى ". وعن ابن عباس: {لَفِي عِلِّيِّينَ} لفي " الجنة ". وروى الأجلح عن الضحاك أنه قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عُرِج به إلى السماء الدنيا، فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية. قال الأجلح: (قلت): وما المقربون؟ قال: أقربهم إلى السماء [الثانية. قال: فينطلق معه (المقربون) إلى السماء] الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة، ثم السابعة حتى يُنْتَهى به إلى سدرة المنتهى. قال الأجلح: قلت للضحاك: لم سميت سدرة المنتهى؟. . . قال: لأَنَّه يَنتهي إليها كل شيء من أمر الله،

[لا يعدوها]. [قال]: فيقولون: [يا رب]، عند فلان. وهو أعلم به منهم، فيبعث الله جل ذكره إليه بصك مختوم بأمنه من العذاب، فذلك قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون}. وعن ابن عباس: أيضاً: {لَفِي عِلِّيِّينَ} لفي السماء عند الله وهو قول الفراء {} وهي الرواية الأولى عن الضحاك. وإنما أعرب {عِلِّيُّونَ} بإعراب الجمع (لأنه) لا واحد له، فأشبَهَ " عشرين ". ومعناه: من علو إلى علو، أي: من سماء إلى سماء، (إلى) السابعة. وقيل: إن {عِلِّيِّينَ} (من صفة الملائكة)، فلذلك جمع بالواو والنون.

والتقدير عند الطبري: {لَفِي عِلِّيِّينَ} أي: في عُلُوٍّ وارتفاعٍ، في سَمَاء فوق سماء، وعلوٍ فوق علوٍ إلى السماء السابعة، أو إلى سدرة المنتهى أو إلى قائمة العرش، على الاختلاف المتقدم. - وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}. أي: وأي شيء أدراك يا محمد ما عليون؟! يُعَجِّبُ نبيه A من عليين، ثم بينه فقال: - {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ}. أي: مكتوب [بأمان الله للأبرار من العذاب يوم القيامة والفوز بالجنة. - وقوله: {يَشْهَدُهُ المقربون}. أي: يشهدُ ذلِكَ الكتابَ المكتوبَ] بأمان الله للبَرِّ من عباده من النار

والفوز بالجنة المقربونَ من ملائكة كل سماء. قال [ابن عباس]: المقربون. أهل كل سماء. وقاله الضحاك. - ثم قال: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ}. [أي]: يتمتعون في الجنان {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ}. أي: [السرر] في الحجال من اللؤلؤ والياقوت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة. رَوَى الخدري عن النبي A أنه قال: " (على الأرائك متكئون) [يَنْظُرُونَ] إلى أَعْدَائِهِمْ فِي النَّارِ ".

قال مجاهد: {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ}: " من اللؤلؤ والياقوت/ ". - ثم قال: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم}. أي: حسن النعيم وبريقه. - ثم قال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ}. أي: من خمر [صرف لا] غش فيها. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الرحيق: الخمر. وهو قول الحسن، [و] قاله ابن مسعود. وقال أهل اللغة: الرحيق [صَفْوُ] الخمر. وقال أبو عبيدة: (الرحيق): الخالص من الشراب. وقال ابن مسعود: مختوم: أي مخلوط.

- {خِتَامُهُ مِسْكٌ. . .}. أي: خلطه مسك. وقال علمقة: " طعمه وريحه مسك ". وقال ابن عباس: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي: تختم الخمر بالمسك، آخر: شرابهم مسك. قال ابن عباس: طيب الله D ( مُقَدَّمَ) شرابهم، كان آخر شيء جعل فيه مِسْكاً ختامه بالمسك. وقال قتادة: آخره مسك، عاقبته مسك، قوم تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك. قال الضحاك: " طيب الله لهم الخمر فوجدوا في آخر شيء منها ريح المسك ".

وقال أبو الدرداء: هو شراب مثل الفضة يختمون به شرابهم لو أن رجلا من أهل الجنة أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها إلى الدنيا لم يبق ذو روح إلا وجد طِيبَهَا؟ وعن مجاهد أن معناه أنه مختوم (مطين) بخاتم من مسك، وقال ابن زيد. وهذا إنما يكون على قراءة الكسائي، لأنه قد قرأ: (خاتمه مسك). والقراءة الأولى [معناها]: آخره مسك. وهو اختيار الطبري. قال:

لأنه لا وجه للختم إلا الطبع أو الفراغ، ولا معنى للطبع على شراب أهل الجنة، (إذ شرابهم) جارٍ جَرْيَ المياه في الأنهار ولم يكن مُعَتَّقاً في الدنان فيطبق عليه، فلا يصح معناه إلا في الفراغ. فالمعنى: آخره مسك، كما تقول ختمت القرآن، أي: بلغت آخره. وقراءة الكسائي (تروى) عن علي بن أبي طالب رضي [الله] عنه. والخِتام: مصدر " خَتَمَ يَخْتِمُ خَتْمَاً وَخِتَامأً "، " والخَاتَمْ " الاسم. - ثم قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون}. أي: وفي ما تقدم وصفه من النعيم فلتنافس المتنافسون، مأخوذ من الشيء النفيس، وهو العالي الشريف الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه.

والمعنى: وفي ذلك فَلْيَجِدَّ في طلبه المُجِدُّونَ، ولتحرص عليه نفوسهم. - ثم قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون}. أي: ومزاج هذا الرحيق - وهو الخمر التي آخرها مسك - {مِن تَسْنِيمٍ} أي: من عُلُوٍّ ينزل عليهم. تَسْنِيمٌ: تفعيل، من قول القائل: سَنَمْتُهُمْ العينَ تسنيماً، إذا أجريتها عليهم من فوقهم. ويقال: سمنتُ الماء أسنمه تسنيماً، إذا أخرجته من موضع عال. وقبرٌ مُسَنَّمٌ، أي: مرتفع. ومنه سنام البعير، وَهُوَ اسْمٌ لمذكر وهو الماء. ولذلك انصرف. وقال ابن زيد: بلغنا أنها عين تخرج من تحت العرش، فهي مزاج هذا

الخمر. وقال الضحاك: " هو شراب اسمه تسنيم، وهو من أشرف الشراب ". وعنه أنه قال: {تَسْنِيمٍ}: عين تتسنم من أعلى الجنة، ليس في الجنة عين أشرف منها. فأما انتصاب " عين "، ففيه أقوال: قال الأخفش: هي منصوبة [بِ " يسقون "] عيناً، (أي): ما [عين]. وقال المبرد: نصبها على إضمار أعني. وقال الفراء: تقديره: من تسنيم عين، فلما نونت " تسنيماً " [نصبت] عيناً، يقدر نصبه نصب المفعول بمنزلة {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15]. وقيل: نصبه على الحال، لأن

29

" تَسْنِيماً " اسْمٌ لِلْمَاءِ، مَعْرِفَةٌ. و " عين ": نكرة. ومعنى " عَيْن ": جار، كأنه قال: من الماء العالي جارياً، فهي في موضع الحال. قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ (مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ)} إلى آخر السورة. أي: إن الذين اكتسبوا المآثم في الدنيا وكفروا بالله كانوا يضحكون في الدنيا من المؤمنين استهزاء بهم. (قال قتادة: كانوا يقولون في الدنيا: والله إن هؤلاء لكذبة وما هم/ على شيء، استهزاءً بهم). - ثم قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}. أي: وإذا مروا بالمؤمنين غمَز بعضهم بعضاً استهزاءً بالمؤمنين. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ}.

أي: (وإذا) انقلب المجرمون إلى أهلهم من مجالسهم انقلبوا ناعمين معجبين. قال ابن عباس: {فَكِهِينَ}: " معجبين ". وقال ابن زيد: انقلبوا ناعمين، ثم أعقبهم الله النار في الآخرة. ويروى أن أبا جهل وأصحابه ضحكوا واستهزءوا بعلي بن أبي طالب Bهـ وأصحابه. وحكى أبو عبيد عن أبي زيد أن العرب تقول: رجل فكهٌ أي: ضحوكٌ طيب النفس. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ}.

أي: وإذ رأى المجرمون المؤمنين قالوا: إن هؤلاء الضالونَ عن محجة الحق. - ثم قال تعالى: {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}. أي: وما بعث هؤلاء المجرمون القائلون للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون حافظين عليهم أعمالهم رقباء عليهم: إنما كلفوا أنفسهم ليؤمنوا بالله [ورسوله] وكتابه [وليعلموا] بطاعة ربهم. - ثم قال تعالى: {فاليوم الذين (آمَنُواْ) مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ}. أي: فيوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار على سررهم في الحجال ينظرون. (وقال ابن عباس: يفتح في السور الذي بين الجنة والنار أبواب، فينظر المؤمنون إلى أهل النار، والمؤمنون على السرر ينظرون) كيف يعذبون، فيضحكون منهم، فيكون ذلك مما أقرَّ الله به أعْيُنَهم كيف ينتقم الله منهم.

وروى قتادة عن كعب أنه قال: ذُكر لنا أن بين الجنة والنار كِواء، إذا أراد المؤمنون أن [ينظروا] إلى عَدُوٍّ لَهُمْ كانوا في الدنيا، [طلعوا] من بعض تلك الكواء [قال الله عز] {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55]، أي: في وسط النار، ذكر لنا أنه رأى جماجم القوم تغلي. قال سفيان: [يجاء بالكفار] حتى [ينظروا] إلى أهل الجنة في الجنة على سرر، فحين ينظرون إليهم تغلق دونهم الأبواب (ويضحك) أهل الجنة منهم، فهو قول الله تعالى ذكره: - {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ * عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ}.

- ثم قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}. (أي: هل جوزي الكفار ثواب ما كانوا يفعلون) في الدنيا بالمؤمنين من سخريتهم بهم وضحكهم بهم. قال مجاهد: الأرائك لؤلؤ وزبرجد؟ وقوله: {يَنظُرُونَ} تَمَامٌ، المعنى ينظرون إلى الكفار وليس ينظرون [{هَلْ ثُوِّبَ الكفار}] أو لم يجاوزوا. ومعنى {ثُوِّبَ}: جوزي.

الانشقاق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة إذا السماء انشقت مكية - قوله تعالى: {إِذَا السمآء انشقت} إلى قوله: {(إلى أَهْلِهِ) مَسْرُوراً}. أي: إذا السماء تصدعت وتقطعت فكانت أبواباً. قال الفراء: تنشق بالغمام. - وقوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}. أي: وسمعت السماء (في) تصديعها وتشققها لربها فأطاعت له. والعرب تقول: إذِنَت إلى هذا الأمر آذنُ، بمعنى: استمعت. ومنه الحديث عن النبي A أنه

قال: " ما أذِنَ الله لشيءٍ كأذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغنّى بالقرآن " يعني: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن. وقال ابن عباس: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أي: " سمعت لربها ". وهو قول مجاهد وقتادة الضحاك وسفيان.

وقوله: {وَحُقَّتْ}، أي: وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق. قال ابن عباس: {وَحُقَّتْ}، أي: وحقت بطاعة بها. وقال ابن جبير: {وَحُقَّتْ} أي: ويحق لها أن تسمع وتطيع. وقاله أبو عبيدة. - ثم قال تعالى: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ}. أي: بسطت فريد في سعتها. وروى الزهري عن علي بن حسينٍ Bهـ أن النبي A قال: " إذَا كَانَ يَومُ

القِيَامَةِ مَدّ اللهُ - جَلّ ثَنَاءُهُ - الأرضَ مدَّ الأدِيمِ فلا يَكُونُ لِبَشَرٍ مِنَ بَنَي آدم فِيهَا إلاّ مَوضِعُ قَدَمِهِ. . . ". - ثم قال تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا (وَتَخَلَّتْ)}. أي: (وألقت الأرض) ما فيها من الموتى علقّ ظهرها وتخلت منهم (إلى الله جل) ذكره. قال مجاهد: {(وَأَلْقَتْ) مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}، أي: أخرجت ما فيها من الموتى ". وقال قتادة: " أخرجت (أثقالها) وما فيها ".

- ثم قال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}. أي: وسمعت الأرض أمر بها في إلقائها ما في بطنها من الموتى على ظهرها وحققها الله للاستماع. وقيل: معناه وحقّ لها أن تسمع أمره. واختلف في جواب {إِذَا} والعامل فيها. فقال الأخفش: التقدير: إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت. فيكون العامل في {إِذَا} على قوله فملاقيه. وقيل: التقدير: اذكر يا محمد إذ السماء انشقت. وقيل: الجواب: {يا أيها الإنسان}، على إضمار الفاء: كما تقول: إذا كان كذا وكذا، في أيها الإنسان ترى ما عملت من خير وشر. وقيل: جواب {إِذَا} الأولى والثانية: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ}. وقيل: التقدير: إنك كادح إلى ربك كَدَحاً إذا السماء انشقت. وهذا لا يجوز لأن الكدح: العملُ، فمحال أن يعمل في وقتِ انشقاق السماء/.

وقيل: الجواب: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا}، و [الواو] زائدة، أي: إذا السماء انشقت، (أذنت لربها. وقيل: الجواب محذوف. والتقدير: إذا السماء انشقت)، رأيت الثواب والعقاب. وقال المبرد: التقدير: إذا السماء انقشت، فمأ من أوتي كتابه بيمينه. - ثم قال تعالى: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ}. أي: إنك عامل إلى ربك عملاً في دنياك، فأنت ملاقيه خيراً كان أو شراً،

فليكن عملك ما ينجيك من عقابه ويوجب لك ثوابه. قال قتادة: " إن كدحك لك يا ابن آدم [لضعيف]، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله ". [قال] ابن عباس وابن زيد وغيرهما: كادح: عامل. والوقف في أول هذه السورة على مقدار ما تقدم من جواب {إِذَا} والعامل فيها، فلا تقف على ما قبل الجواب ولا ما قبل العامل. وقد ذكر الاختلاف في ذلك. - قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}. أي: من أعطي كتاب عمله [يومئذ] بيمينه ينظر في عمله فيغفر له

[سيئه]، ويجازى على حسنه. قالت عائشة Bها: سَمِعتُ النَّبيّ A يقول: " اللهُمّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسيراً، فَقُلْت: يَا رسُولَ الله، مَا الحِسَابُ اليَسير؟ قال: (أن يُنظَرُ فِي سيّئاتِهِ فَيُتجاوَزُ عَنْهُ، إنّهُ من نُوقِشَ الحِسَابَ يَومَئذٍ هَلَكَ ". وروى ابن (أبي) مليكة عن عائشة أيضاً أنها قالت: " قَالَ رَسُول اللهِ A: [ إِنّهُ لَيْسَ أحدٌ يُحاسبُ يَومَ القِيامَةِ إلا معذّباً، قالت: يَا رسُول الله]، يقول الله جَلّ وعزّ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً}. قال: ذَلِكَ العرض، إنّه من نُوقش الحِساب عذّب ".

قال ابن زيد: الحسابُ اليسيرُ: الذي تغفر ذنوبه وتتقبل حسناته وتيْسيرُ الحساب الذي يُعفى عنه، وقرأ: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21]، وقرأ: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16]. والمحاسبة بين العبد و (بين) ربه إنما هي إقرار العبد بما أحصاه كتاب عمله. وروى ابن وهب " أن عائشة Bها قالت: " يا نَبيّ (الله)، كَيْفَ {حِسَاباً يَسِيراً}؟ قال: يُعطى العَبْدُ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقرأ سَيّئاتِهِ ويَقرأ النّاس حَسَناتِهِ، ثُمّ تُحوّل صَحيفَُهُ فيحوّل اللهُ سَيّئاته حَسَناتٍ، فيقرأ حَسَناتِه ويَقرأ النّاسُ سَيّئاتِه حَسناتٍ، فَيَقُولُ الناسُ: مَا كان لِهَذا العَبْدِ سيّئةٌ. قال: فَيُعرّفُ بِعَمَلِهِ ويُغْفَرُ لَهُ،

10

فَذَلِك قولُه تَعالَى: {يُبَدِّلُ الله [سَيِّئَاتِهِمْ] حَسَنَاتٍ} ". - وقوله: {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}. أي: وينصرف بعد محاسبته حساباً يسيراً إلى أهله في الجنة مسرورا بما أعد الله له وما نجاه منه. وروي أن أول من يأخذ كتاب بيمينه أو بسلمة بن عبد [الأسد]، وهو ألو من يدخل الجنة من هذه الأمة، وهو أول من هاجر من مكة إلى المدينة. - قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه وَرَآءَ ظَهْرِهِ}، إلى آخرة السورة. (أي): وأما من أعطى كتاب عمله وراء ظهره. وذلك أن تغلّ يده اليمنى

إلى عنقه وتجعل الشمال من يديه وراء ظهره فيتناول كتابه بشماله من وراء ظهره. فلذلك وصفهم بأنهم يُؤتُون كتابهم بشمالهم وأنهم يؤتونها من وراء ظهورهم. قال مجاهد: " تجعل يده من وراء ظهره ". روي أنه يعني بن الأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة هو أول من يأخذ كتابه بشماله. روي أنه يمد يده ليأخذه بيمينه [فيجتذبه] ملك فيخلع يده فيأخذه بشماله من وراء ظهره. ثم هي عامة في أمثالها. - ثم قال تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً}.

أي: ينادي بالهلاك (ويقول) (وا) ثبوراه، و " ياويلاه ". تقول لعرب دعا فلان لَهفَه: إذا إذا قال والهَفَاهُ. قال الضحاك: {يَدْعُواْ ثُبُوراً}، أي: " يدعوا بالهلاك ". - ثم قال تعالى: {ويصلى سَعِيراً}. من شدده فمعناه [ويصليهم] الله النار تصلية بعد تصلية [وإنضاجه بعد إنضاجه] كما قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء: 56]. ومن خفف، فمعناه أنه صلونها ويَرِدُونها [فيحترقون] فيها. - ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً}.

أي: إنه كان في الدنيا مسرورا بما هو فيه من خلافه أمرَ الله وكفره به. - ثم قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن (يَحُورَ * بلى). . .}. (أي): إنه ظن [أنه] لن يرجع بعد الموت ولا يبعث، فركب المعاصي وتمادى على الكفر إذ يرجو ثواباً لا يخاف عقاباً. - ثم قال: {بلى} أي: بلى يبعث/ ويرجع إلى ربه [ويجازى] على عمله. {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً}. أي: إن ربه لم يزل بصيراً بما يأتي من أعماله قبل خلقه إياه وبعد خلقه. يقال: حار فلان عن كذا، أي: رجع عنه ومنه الحديث أن النبي A كَانَ

يَقُول فِي دُعائِهِ: " اللهم إنّي أَعُوذّ بِكَ مِن الحَوْرِ بَعدَ الكَونِ " (اي): من الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان. وقيل: معناه: من النقصان بعد الزيادة. - ثم قال: {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق}. لا زائدة مؤكدة. والمعنى فأقسم برب الشفق. والشفق الحمرة في الأفق من ناحية المغرب من الشمس بعد غروب الشمس.

وقال مجاهد: " الشفق: النهار كله ". وقيل: الشفق اسم للحمرة والبياض اللذين يكونان في السماء بعد غروب الشمس، وهو من الأضداد. والشفق الذي تَحلّ بزواله صلاة العَتَمَةِ هو الحُمرةُ عند أكثر العلماء، وهو اختيار الطبري. والعرب تقول: ثَوبٌ مُشفّقٌ: إذا (كان مصبوغاً) بحُمرةٍ. ثم عطف على القسم فقال: {والليل وَمَا وَسَقَ}. أكثر المفسرين على أن معنى {وَمَا وَسَقَ}: وما جَمَعَ وما آوى وما ستر.

ومن [يقال]: طعام مسوق: وهو المجموع في غرائر أو وعاء. ومنه الوَسْقُ وهو الطعام المجتمع الكثير مما يُكَالُ أو يوزن. ويقال: هو ستون صاعاً، وبه (جاء الأثر) عن النبي A. وعن مجاهد: {وَمَا وَسَقَ} " وَمَا لفّ ". وعنه: " وَمًا جمع. . . ". وعنه: " وما أظلم عليه، وما دخل فيه ".

وقال عكرمة: (وما وسق) " وما [ساق] من ظلمة ". وهو قول الضحاك: - ثم قال تعالى: {والقمر إِذَا اتسق}. قال ابن عباس: {اتسق}: استوىى واجتمع. وقاله عكرمة. وقال الحسن: {إِذَا اتسق} إذا كاجتمع وامتلأ. وقال ابن جبير: {إِذَا اتسق} ذلك لثلاث عشرة. وقال قتادة: {إِذَا اتسق}. إذا استدار. - ثم قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ}. هذا جواب القسم. والمعنى - على قراءة من ضم الباء - {لَتَرْكَبُنَّ} أيها

الناس حالاً بعد حال. والإنسان المتقدم ذكره بمعنى الناس، لأنه اسم للجنس، فعليه يعود الضمير في {لَتَرْكَبُنَّ} لأنه قد تقدم ذكرهم في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه بِيَمِينِهِ} وشماله، وتأخر أيضاً ذكره في قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، فلا يصرف الخبر عنهم في {لَتَرْكَبُنَّ} إلى غيرهمه إلا بدليل. وقال ابن زيد: معناه: {لَتَرْكَبُنَّ} أيها الناس الآخرة بعد الأولى. فأما من فتح الباء، فإنه جعله مصروفاً إلى نبينا محمد A. والمعن: لتركبنّ - يا محمد - سماء بعد سماء، وهو قول الحسن وأبي العالية والشعبي. وقيل: التقدير لتركبَن - يا محمد - الأمور بتغيرها حالاً بعد حال.

[وقيل: المعنى لَتَركبنّ الأمور حالاً بعد حال فتكون الأمورُ فاعلة، [والتاء لتأنيث] الجمع وهو قول مجاهد]. وقيل: المعنى: لتركبنّ السماء في تشققها وتلونها حالاً بعد [حال]، فيكون الفعل للسماء. وهو قول ابن مسعود. وقال: مرة كالدهان ومرة تشقق. وكان ابن عباس يقرأ بفتح الباء (ويقول: يعني نبيّكم A يقول: حالاً بد حال. وقال ابن زيد: معنى ذلك: لتركبَنّ يا محمد الآخرة بعد الأولى. وقيل: القراءة بفتح الباء) على مخاطبة الإنسان على اللفظ، أي: لتركبنّ أيها الإنسان حالاً بعد حال، من مرض وصحة وشباب وهرم. وقيل: ذلك في يوم القيامة. فتكون على هذا القراءتان [ترجعان] إلى معنى، إلا أن إحداهما حملت على

المعنى فأتت بلفظ الجمع، والأخرى حملت على اللفظ فجاءت بلفظ التوحيد. وحكى الفراء أنه يقال: وقع في بنات طبق، إذا وقع في أمر شديد. ويقال: مضى طبق من الناس ومضت طبقة وجاءت طبقة. سُمّوا طبقاً لأنهم يطبقون الأرض. وقد روي عن بعضهم [أنه] قرأ بالياء وضم الباء على الإخبار عن الناس أنهم سَيَرْكبونَ حالاً بعد حال من الشدائد الأهوال. - ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ}. أي: فما لهؤلاء المشركين لا يصدقون بالبعث بعد الموت؟! وقد أقسم لهم ربهم أنهم راكبون حالاً بعد حال من شدائد القيامة وأهوالها. {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ}: لا يخضعون ولا يستكينون. - ثم قال تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ}. أي: يكذّبون بآيات (الله)، فلذلك ينكرون البعث. - {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}.

أي: والله أعلم بما توعيه قلوب هؤلاء المشركين من التكذيب بآيات الله. وقال مجاهد: {بِمَا يُوعُونَ} بما يكتمون في صدورهمه. قال الرياشي: يقال أوعى الشيء: إذا كتمه. وحكى أهل اللغة: أوعيت المتاع في الوعاء، أي: جمعته. فالمعنى على هذا: والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من التكذيب، والإثم. - ثم قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. أي: الذي يقوم لهم مقام البشرى، عذاب أليم أي: موجع. والبشارة تكون بالخير والشر. فإذا أفردت كان خيراً. يقال: بشّرته وبشَرته خفيفاً.

وقيل: إن البشارة لا تكون إلا للخير/ فإن وقعت اللشرّ فهو مجاز، على معنى: الذي يقوم مقام البشارة كذا وكذا. - ثم قال تعالى: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. أي: إلا الذين تابوا منهم وصدقوا بكتاب الله ورسوله وعلموا الأعمال الصحالة لهم عند الله ثواب منقوص. قال ابن عباس: {غَيْرُ مَمْنُونٍ}، أي: " غير منقوص ". وقال مجاهد: " غير محسوب ". وقيل: معناه: لهم أجر لا يُمَنّ عليهم به فيكدر.

البروج

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البروج مكية قوله تعالى: {والسمآء ذَاتِ البروج} إلى آخرها. أي: ورب السماء ذات القصور. قاله ابن عباس. قال الضحاك: البروج " [يزعمون] أنها قصور في السماء، ويقال: هي الكواكب ". قال مجاهد: " البروج: النجوم ". وهو قول قتادة. وقيل: المعنى: ذات الرمل والماء. واختار الطبري أن يكون المعنى: ذات المنازل الشمس والقمر، على قول مجاهد أن البروج - وهي اثنا عشر برجاً - يسير القمر في كل برج (منها يومين وثلثاً، فذلك ثمان وعشرون منزلة، ثم يستقر ليلتين وثلثاً، وتسير الشمس في كل برج) [شهراً].

وجواب القسم محذوف. وقيل: الجواب {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} على تقدير حذف اللام، أي: لقتل أصحاب الأخدود. وقيل: الجواب: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} وهو قول قتادة. وقيل: الجواب: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين}. ثم قال تعالى: {واليوم الموعود} يعني يوم القيامة، وعد الله به عباده لفصل القضاء بينهم روي ذلك عن النبي A وقاله علي بن أبي طالب Bهـ وأبو هريرة وقتادة وغيرهم. ثم قال تعالى ذكره: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قال أبو هريرة: " الشاهد يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة ". وقاله الحسن، وروي (ذلك) عن علي بن أبي طالب Bهـ

وابن عباس، وقاله قتادة وابن المسيب وابن زيد. وعن ابن عباس أيضاً: أن الشاهد محمد A لقوله: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والمشهود ": يوم القيامة، لقوله تعالى: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] أي: يشهده الأولون والآخرون لفصل القضاء بينهم. وهو قول عكرمة، وقاله الحسن بن علي أيضاً. وقال مجاهد: " الشاهد الإنسان، والمشهود: يوم القيامة ". فالإنسان لا بد أن يشهد يوم القيامة، ويوم القيامة مشهود لبني آدم، فتكون الشهادة على هذا القول [بمعنى] الحضور. وقد روي مثل ذلك عن الضحاك. وعن عكرمة أيضاً و (عن) ابن عباس أن الشاهد: الله جل ذكره، لقوله تعالى: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] والمشهود يوم القيامة لقوله تعالى: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103].

وقال إبراهيم: الشاهد يوم الأضحى والمشهود يوم عرفة. وعن ابن عباس أيضاً. رواه عنه مجاهد " أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة ". وروى أبو الدرداء أن النبي A ( قال): " أكثر علي [الصلاة] يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة " وقيل: الشاهد: محمد، والمشهود: الذين يشهد عليهم محمد A. ثم قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود * النار ذَاتِ الوقود} أي: لعن أهلك أصحاب الأخدود، أخبرنا الله جل ذكره أنه أهلكهم ولعنهم.

ذكر علي بن أبي طالب Bهـ: أنهم كانوا أهل كتاب، وكانت الخمر أُحِلَّتْ لهم، فشربها ملك من ملوكهم حتى [ثَمِلَ]، فتناول أخته، [زاد عبد بن حميد: أو ابنته، وذكر القصة، وفيها: فإذا ذهب هذا في الناس بأسره خطبتهم فحرمته عليهم]، فوقع عليها، فلما زال عنه السكر ندم، فقال: لأخته: ويحك، ما المخرج مما ابتليت به؟ فقال: اخطب الناس فقل: يا أيها الناس، [إن الله] قد أحل نكاح الأخوات. ففعل، [فتبرأ] الناس منه ومن قوله، وقالوا: ما جاءنا به نبي ولا وجدناه في كتاب! فرجع إلى أخته نادماً فقال لها: ويحك! إن الناس قد أبو علي أن يقروا بذلك، فقالت [ابسط] عليه السياط، ففعل، فأبوا أن [يقروا] له، فرجع إليها فقالت: (اخطبهم، فإن أبو فجرد فيهم السيف، ففعل فأبوا)، فرجع إليها فقالت:

خُدَّ لهم الأخدود، ثم اعرض عليها أهل مملكتك، فمن أقر وإلا فقذفه في لنار. ففعل، فمن لم يُقِرُّوا [له] بتحليل الأخوات قذفه في النار، فلم يزالوا من ذلك الوقت يستحلون الأخوات والبنات والأمهات. /وبقايا [أصحاب] الأخدود الآن مجوس يعبدون النار. ولذلك قال بعض العلماء فيه [أن يسن فيهم] سنة أهل الكتاب. وقوله: {النار} خفض على البدل من الأخدود، وهو بدل الاشتمال. وقيل: هو خفض على الجوار، وذلك بعيد. وفيه تقديران إذا جعلته بدلاً. أحدهما: أن التقدير: النار ذات الوقود نارها. والآخر: النار التي فيها.

والأخدود: حفير [مستطيل] كالخندق. يروى أنه كان بموضع يقال له [نجران]، أحرق فيه قوم مؤمنون، أحرقهم مالك من ملوك حمير مشرك، وكان ذلك قبل مولد النبي A بسبعين سنة. وروى قتادة أن علي بن أبي طالب Bهـ قال: هم ناس كانوا بمدارع اليمن اقتتل مؤمنوها وكافروها، فظهر مؤمنوها على [كافريها]، ثم اقتتلوا الثانية فظهر كافروها على مؤمنيها، ثم أخذ بعضهم على بعض عهوداً ومواثيق ألا يغدر بعضهم (بعضا)، فغدر بهم الكفار فأخذوهم أَخْذاً، ثم إن رجلاً من المؤمنين قال لهم: هل لكم إلى خير؟ توقدون [ناراً]، (ثم) تعرضوننا عليها، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون، ومن لا، اقتحم النار [فاسترحتم] منه.

قال: [فأججوا] ناراً، وعرضوا عليها، فجعلوا يقتحمونها ضناً بدينهم حتى بقيت عجوز منهم كأنها تلكأت، فقال لها طفل في حجرها: يا أمه، امضي ولا تنافقي، فقص الله جل ذكره نبأهم وخبرهم. وقال ابن عباس: هم ناس من بني إسرائيل، خدُّوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء ثم عرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال واصحابه وكذلك قال الضحاك، إلا أنه قال: فقالوا للرجال والنساء: تكفرون أو نقذفكم في النار (قال). [ويزعمون] أنه دانيال وأصحابه.

وروى صهيب أن النبي A قال: " إنه كان في من كان قبلكم ملكٌ، وكان له ساحرٌ، فأتى الساحل الملك فقال: قد كبرت سنّي ودنا أجلي، فادفع إلي غلاماً أعلمه السحر. فدفع إليه غلاماً يعلمه السحر، فكان الغلام يختلف إلى الساحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب. قال: فكان الغلام إذا مر بالراهب قعد إليه فيسمع كلامه، فأعجب بكلامه، فكان إذا أتى الساحر ضربه الساحر وقال: ما حبسك؟. وإذا أتى الغلام (إلى) أهله قعد عن الراهب يسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له الراهب: إذا قال لك الساحر ما حبسك؟ فقل: حبسني أهلي، وإذا قال لك أهلك: ما حبسك؟ فقل: حبسني الساحر. فينما هو كذلك، إذ مر في طريق، وإذا دابة عظيمة في الطريق وقد حبست الناس لا تدعهم يجوزون، فقال الغلام: الآن أعلم، أمر الساحر أرضى عند الله أم أمر الراهب؟ قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر

الساحر فإني أرمي بهذا الحجر هذا ويمر الناس. قال: فرماها، فقلتها وجاز الناس فبلغ ذلك الراهب، وأتاه الغلام، فقال الراهب للغلام: إنك خير مني، وإن ابتليت فلا تدلن علي. [قال]: وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء. (قال: وكان للملك جليس فعمي، قال: فقيل له: إن هاهنا غلاما يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الآذاء) فلو أتيته؟ قال: فاتخذ له هدايا، ثم أتاه فقال: يا غلام، إن أبرأتني فهذه الهدايا كلها ذلك. فقال: ما أنا أشفيك، ولكن الله يشفي، فإن آمنت دعوت الله أن يشفيك، قال: فآمن الأعمى، فدعا الغلام الله - جل ذكره - فشفاه، فقعد إلى الملك [كما كان يقعد]، فقال له الملك: أليس كنت أعمى؟! فقال نعم، قال: فمن شفاك؟ مقال: ربي. قال: ولك رب غيري؟! قال نعم، ربي وربك الله. قال: فأخذه بالعذاب. وقال: [لتدلني] على من علمك هذا. قال: [فدل] على الغلام، قال: فدعا الغلام فقال: /ارجع عن دينك. فأبى الغلام، قال: فأخذه بالعذاب، قال: فدل على الراهب، فأخذ الراهب بالعذاب، وقال

له/ ارجع عن دينك. فأبى، قال: فوضع المنشار على هامته حتى بلغ (إلى الأرض، ثم قال للغلام: لترجعن أو لأقتلنك. فقال اذهبوا به حتى تبلغوه ذورة الجبل، فإن رجع عن دينه وإلا [دهدهوه]. فلبما بلغ ذورة الجبل قال الغلام: اللهم اكفينهم. فرجف بهم الجبل فوقعوا فماتوا كلهم. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: أين أصحابك؟! قال: كفانيهم الله جل ثناؤه. فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه. قال: فذهبوا، فلما توسطوا البحر قال الغلام: اللهم فاكفينهم. فانقلبت بهم السفينة فغرقوا، وجاء الغلام [يتلمس] حتى دخل على الملك، فقال الملك: أين أصحابك؟ قال: دعوت الله فكفانيهم. قال: لأقتلنك. قال: ما أنت بقاتلي حتى تصنع ما آمرك. قال: وما أصنع. قال: اجمع الناس في صعيد واحد ثم أصلُبْنِي، ثم خذ سهماً من كنانتي فارمني وقل: باسم رب الغلام، فإنك ستقتلني. قال: فجمع الملك الناس في صعيد واحد، قال: وصلب الغلام وأخذ سهماً من كنانته فوضعه في كبد القوس ثم رمى به، وقال: باسم رب الغلام. [قال]: فوقع السهم في صدغ الغلام، فوضع الغلام يده على صدغه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: ما صنعت؟! الذي كنت تحذر قد وقع، قد آمن الناس

برب الغلام، فأمر الملك بأفواه الطرق والسكك فأخذت، وخد الأخدود وضرب فيه النيران وأخذهم وقال: [ارجعوا وإلا ألقيتكم] في النار. فكانوا يلقونهم في النار. قال: فجاءت امرأة معها صبي لها. قال: فلما ذهبت تقتحم وجدت حر النار فنكصت. اقل: فقال لها صبيها: يا أمه، أمضِ، فإنك على الحق. فاقتحمت في النار ". وقال الربيع بن أنس: كان أصحاب الأخدود قوماً مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، وإن جباراً من عبدة الأوثان أرسل إليهم يعرض عليهم الدخول في دينه أو يلقيهم في النار، فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم، فألقوا في النار، فنجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار من الحريق بأن قبض (الله) أرواحهم قبل أن تمسهم النار. قال: وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم، فذلك قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} أي: لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا، وهي (النار) التي خرجت إليهم من الأخدود فأحرتقهم. وقوله: {ذَاتِ الوقود}. أي: ذات الحطب الجزل، فإن [ضممت] الواو فمعناه ذات التوقد. والأخدود " الحفرة تحفر في الأرض. وقوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}. أي: [إذا الكفار] على النار قعود لحرق المؤمنين، يعني: على حافة الأخدود الذي فيه النار. وقال قتادة: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}. يعني بذلك المؤمنين. ثم قال تعالى: {وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ}. يعني: الكفار. حضور يعرضون المؤمنين على الكفر فمن رجع إليه، وإلا

القوه في النار. ثم قال تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد}. أي: وما فعل هؤلاء الكفار بالمؤمنين ما فعلوا من حرقهم إياهم بالنار إلا من أجل أنهم آمنوا بالله الشديد في انتقامه من أعدائه، المحمود عند عباده بإحسانه إليهم. {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}. أي: سلطان ذلك كله. {والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. أي: والله شهيد على ما فعل هؤلاء الكفار بالمؤمنين وعلى غير ذلك من أفعالهم وأفعال جميع الخلق، فمجازيهم على ما عملوا. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ}. أي: حرقوهم بالنار وعذبوهم ثم لم يتوبوا من كفرهم وفعلهم، فلهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق

في الدنيا. هذا قول الربيع بن أنس.

قال محمد بن إسحاق: احترقوا في الدنيا. وكذلك قال أبو العالية. {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} يعني: في الآخرة، واحترقوا في الدنيا بعذاب الحريق. ثم قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير}. أي: إن الذين أقروا بتوحيد الله وعملوا الأعمال الصالحات وهم الذين حرقهم أصحاب الأخدود وغيرهم من سائر أهل التوحيد لهم بساتين في الآخرة تجري من تحت أشجارها الأنهار من الماء/ والخمر، واللبن والعسل.

{ذَلِكَ الفوز الكبير} [أي]: ذلك الذي أعطي هؤلاء هو الظفر الكبير بما طلبوا بإيمانهم بالله في الدنيا وطاعتهم له. ثم قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}. أي: إن أخذ ربك يا محمد من أخذ من أعدائه وانتقامه منهم لتشديد. وهو تحذير من الله لعباده أن يحل بهم من نقمة على كفرهم وتعذبهم مثل الذي حل بأصحاب الأخدود. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ}. أي: هو ابتدأ الخلق أول مرة، وهو يعيدهم بعد مماتهم للبث والجزاء. وهذا معنى قول الضحاك وابن زيد. وقال ابن عباس: معناه: إنه هو يبدئ العذاب ثم يعيده. (وهو اختيار الطبري)، أي: يبدئ العذاب لأهل الكفر في الدنيا، (وهو عذاب الحريق - ثم يعيده) عليهم في الآخرة - وهو عذاب جهنم. ثم قال تعالى: {وَهُوَ الغفور الودود}. أي: وهو الغفور لمن تاب من كفره وذنوبه. {الودود} أي: ذو المحبة.

وعن ابن عباس أنه قال: {الودود}: " الحبيب ". وقال ابن زيد: {الودود}: " الرحيم ". ثم قال تعالى: {ذُو العرش المجيد}. وقال ابن عباس: {المجيد}: " الكريم ". ثم قال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}. أي: يفعل ما يشاء، فيوقف من شاء للتوبة فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بأن [يحول] بينه وبين التوفيق فيموت على كفره. ثم قال تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}. أي: هل جاءك يا محمد حديث الجنود الذين تجندوا على الله ورسوله بأذاهم ومكروهِهم؟ أي: قد أتاك ذلك وعلمته. فاصبر لأذى قومك كما صبر من كان قبلك من الرسل الذي تجند قومهم عليهم. ثم بين الجنود من هم فقال: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي: قوم فرعون وتباعه، وثمود.

ثم قال تعالى: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ}. أي: بل الذين كفروا من قومك في تكذيب بوعيد الله ووحيه {والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} أي: محيط باعمالهم محصيا عليهم حتى يجازيهم عليها. ثم قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}. أي: بل ما يقول هؤلاء إنه شعر وسحر [وكهانة]، قرآن مجيد محفوظ من أن يغير، في لوح. قال ابن جبير: مجيد " كريم " وقاله قتادة. قال مجاهد: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} قال: " في أم الكتاب ". ومن رفع {مَّحْفُوظٍ}، جعله نعتاً للقرآن، بمعنى أنه محفوظ أن يغيره أحد بزيادة أو نقص. ودل على ذلك قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ومن خفض، جعله نعتاً

للوح، أي: القرآن في لوح عند الله محفوظ، وهو اللوح المحفوظ. كما قال تعالى مجاهد: هو أم الكتاب. وقال قتادة: {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} " عند الله ". وقال أنس بن مالك: " إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله في جبهة إسرافيل ". وقرأ محمد اليماني: بل هو قرآن مجيد، بالإضافة على معنى: بل هو قرآ، رب مجيد. قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ من درة بيضاء، دفتاه [ياقوتة]

حمراء قلمه نور، وكتابه نور، ينظر إليه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يُحيي في كل نظرة ويميت ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء، لا إلا اله إلا هو.

الطارق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والسماء والطارق مكية قوله تعالى: {والسمآء والطارق} إلى آخرها. هذا (قسم) أقسم ربنا تعالى بما شاء، وتقديره: ورب السماء والطارق. ثم بين الطارق فقال: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق * النجم الثاقب} أي: النجم المضيء، يقال: طرقنا فلان: إذا أتى بليل. قال ابن عباس: معناه: " والسماء وما يطرق فيها ". قال قتادة: " يطرق بالليل ويخفى بالنهار ".

قال ابن زيد: العرب تسمي الثريا النجم. وحكى الفراء: ثقب [النجم] إذا ارتفع. وقال: هو زحل. ويقال: ثقب الطائر إذا ارتفع وعلا. قال مجاهد: {الثاقب}: الذي يتوهج. ثم قال تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}. من خفف [لما]، فتقديره: إن كل نفس لعليها حافظ، " فما " زائدة مؤكدة، " وإن " مخففة من [الثقيلة]. ومن شدد [لما] جعلها بمعنى " إلا " لغة في هذيل، و {إِن} بمعنى " ما ". والمعنى: ما كل نفس نفس إلا عليها حافظ من ربها يحفظ عملها [و] يحصي

عليها ما تكسب من خير وشر. قال ابن عبس: معناه: كل نفس عليها حفيظ من الملائكة. وقال قتادة: " حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن آدم قُبضت إلى ربك. وقال الفراء: كل نفس عليها حافظ يحفظها من الآفات حتى يسلمها إلى المقدور. ثم قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ/ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ}. أي: فلينظر الإنسان المكذب بالبعث بعد الموت، المنكر قدرة الله على ذلك من أي شيء خلق. {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق. فيعلم أن من خلقه من ماء فصوره وسواه [بشراً]، (وهو) قادر أن يعيده بشراً بعد موته، وذل أهون وأيسر فيما تعقلون بينكم. قال الكسائي والفراء: أهل الحجاز أفعل الناس لهذا: يأتون بفاعل بمعنى مفعول إذا كان نعتاً، يقولون: سر كاتم وماء دافق، أي: مكتوم ومدفوق. وهذا

عند البصريين لا يقاس عليه، وإنما يأتي في مالا يكشل. ولا يجوز رجل [ضارب] بمعنى مضروب، لأن فيه بطلان الكلام كله وفساد المعاني. وقوله: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب}. أي: يخرج الإنسان من بين صلب الرجل وترائب المرأة. وواحد الترائب: تريبة. ومعنى الكلام: [منهما]. وقرأ عيسى بن عمر: " (بين) الصلب " بضمتين. وقال إبراهيم بن عرفة: الترائب في اللغة: ضلوع الصدر، واحدها تريبة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة من صدر المرأة. وسئل عكرمة عن الترائب فقال: " هذا ووضع يده على صدره بين ثدييه " وعن ابن عباس: أنها " بين ثديي المرأة ".

وقال ابن جبير: {والترآئب} [الصدر]. وقاله ابن زيد. وقال مجاهد: {والترآئب}: " ما بين المنكبين والصدر ". وعنه أيضاً: أن الترائب " أسفل من التراقي ". وقال سفيان: الصلب: صلب الرجل، والترائب: ترائب المرأة فوق الثديين. فالضمير في {يَخْرُجُ} على هذا الأقوال للإنسان. وعن قتادة أنه " يخرج من بين صلب الرجل ونحره ". وعن ابن عباس أن الترائب أطراف الرجل: اليدان والرجلان والعينان. وقاله الضحاك. وعن ابن جبير أيضاً أن الترائب أضلاع الرجل التي أسفل الصلب. وقيل: الترائب عصارة القلب، ومنه يكون الولد.

فالضمير في {يَخْرُجُ} على هذه الأقوال الثانية يعود على الماء. والمعروف في كلام العرب أن الترائب موضع القلادة من المرأة حيث تقع عليه من صدرها. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تبلى السرآئر} أي: إن الله [على] رده هذا الإنسان المنكر للبعث (بعد الموت) بعد موته لقادر في يوم تختبر السرائر. فالهاء في {رَجْعِهِ} للإنسان. هذا قول قتادة، وهو اختيار الطبري: لأن بعده: {يَوْمَ تبلى السرآئر} أي: على رده حياً في هذا اليوم الذي تختبر فيه سرائر الخلق فيكشف المستور منها. وهذا التأويل فيه بُعْدٌ في العربية، لأن العامل على هذا التقدير في {يَوْمَ} {رَجْعِهِ} فهو داخل في صلته. وقد فرق بين الصلة والموصول بخبر (إن)، وهو {لَقَادِرٌ}. وذلك لا

يحسن. ولكن يكون المعنى على ما قال قتادة، ويكون العامل في {يَوْمَ تبلى} {نَاصِرٍ} أي: فما للإنسان من قورة يرد عن نفسه بها ولا ناصر ينصره في يوم تبلى السرائر. وقال الضحاك: المعنى (أن الله) على رد الإنسان ماء كما خلقه من ماء لقادر فالهاء في {رَجْعِهِ} أيضاً للإنسان. وقال مجاهد وعكرمة: المعنى أن الله على رد الماء في الإحليل لقادر. فالهاء في {رَجْعِهِ} للماء، وهو معنى قول ابن زيد. وعن الضحاك أيضاً أن معناه أن الله على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، ومن الصبا إلى النطفة، لقادر. فالهاء في {رَجْعِهِ} للإنسان. وروى أبو الدرداء عن النبي A أنه قال " ائتمن الله خلقه على أربع: على الصلاة والزكاة والصيام والغسل من الجنابة، وهي السرائر التي يختبرها الله يوم القيامة ".

قال عطاء في قوله: {يَوْمَ تبلى السرآئر} قال: ذلك الصوم والصلاة وغسل الجنابة. يقول في الدنيا إذا شاء: قد صمت، ولم يصم، وقد صليت، ولم يصل، وقد اغتسلت ولم يغتسل. وقال قتادة: " إن هذه السرائر مختبرة، فأسروا خيراً وأعلنوه [إن استطعتم]، ولا قولاة إلا بالله ". وقوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}. أي: فما للإنسان الكافر بيوم تبلى السرائر من قوة يمتنع بها من عذاب الله، ولا ناصر ينصره (فيستنقذه من العذاب، وقد كان في الدنيا يرجع إلى قوة من عشيرة يمتنع بها ممن أراده بسوء، وناصر ينصره) مما ظلمه، هذا معنى قول قتادة ومعمر. ثم قال تعالى: {والسمآء ذَاتِ الرجع}. أي: ورب السماء ذات المطر، أي: ترجع بالغيوث وأرزاق العباد كل عام،

ورب الأرض ذات الصدع، أي: ذات الصدع بالنبات. قال ابن عباس: {ذَاتِ الرجع}: " السحاب في المطر ". وقال الحسن: " ترجع بأرزاق الناس كل عام ". وقاله قتادة. وقال مجاهد: {ذَاتِ الرجع}: " السحاب يمطر ثم يرجع بالمطر ". وقال ابن زيد: {ذَاتِ الرجع}: شمسها وقمرها ونجومها، يأتين من هاهنا. والرجع: تجمع على " رجعان " سماعاً على غير قياس، وقياسه [أرجع] (ورجوع). قال ابن عباس: {ذَاتِ الصدع} أي: " ذات النبات ". وقال قتادة: تنصدع عن النبات. وقال ابن زيد: {ذَاتِ الصدع} أي: ذات الانشقاق للنبات.

ثم قرأ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 26] الآية. وقال أيضاً: صدعها: الحرق. ثم قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ}. هذا جواب القسم، أي: إن هذا القول أو الخبر الذي تقدم ذكره لقول ذو فصل، أي: يفصل بين الحق والباطل ببيانه. وقيل: الجواب: {إِن كُلُّ نَفْسٍ}، لأن " إن " بمعنى " ماء "، وهو حسن، وهو أقرب من غيره إلى القسم، فهو أليق به. وقيل: الجواب: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ}. وقال ابن عباس: {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي: " لقول حق ". وقال قتادة: {فَصْلٌ}: حكم.

ثم قال تعالى: {وَمَا هوَ بالهزل}. أي: وما هو بالعبث ولا الباطل ولا اللعب. ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}. أي: إن هؤلاء المكذبين بالله ورسوله ووعده ووعيده يمكرون مكراً، وأمكر مكراً، أي: أجازيهم على مكرهم. فسمى الجزاء مكرا لأنه جزاء المكر، فسمي باسم ما هو مجازاة عنه وإن لم يكن مثله، كما قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، فسمي جاء السيئة سيئة إذ هي جزاء لها وإن لم يكن الجزاء سيئة، ومكره - تعالى ذكره - بهم: إملاؤه لهم واستدراجه إياهم. والمعنى: أنهم يكيدون النبي وأصحابه كيدا، وأجازيهم على كيدهم جزاء. ثم قال تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}. أي: فلا تعجل يا محمد على الكافرين بالعقاب، أمهلهم قليلا حتى يأتي وقت حلول النقمة بهم. قال ابن عباس: الرويد: القريب. وقال قتادة: " الرويد: القليل ". قال ابن زيد: معناه: أمهلهم ولا تعجل عليهم، تركهم حتى إذا أراد الانتصار منهم أمره بحربهم وقتالهم والغلظة عليهم فأهلكهم ببدر بالسيف.

الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعلى مكية قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} إلى آخرها. أي: عظيم يا محمد اسم ربك. وقيل: معناه عظم ربك الأعلى. وكان بعضهم إذا قرأ ذلك قال: سبحان ربي الأعلى. وقد رواه ابن عباس عن النبي A. وكذلك روى السدي عن علي بن أبي طالب Bهـ. وقيل معناه: نزه يا محمد اسم ربك أن تسمي به شيئا سواه كما فعل المشركون من تسميتهم آلهتهم باللات والعزى، جعلوا العزى مشتقة من العزيز واللات من الله.

وقيل: معناه: نزهه عما يقول فيه المشركون كما قال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وقيل: معناه: نزه - يا محمد - تسميتك ربك الأعلى، وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاضع متذلل. قالوا: فالاسم هنا موضوع في موضع التسمية، فوضع الاسم مكان المصدر. وقيل: معناه: [صل] بذكر الأعلى، أي: صل [وأنت له ذاكر]. وقيل: معناه صل يا محمد لربك. وقيل: معناه: عظم اسم ربك ونزّهه على أن تنسبه إلى ما نسبه إليه المشركون.

وهذا مما يدل على أن الاسم هو المسمى، لأن معناه: سبح الله. وليس يجوز " سبحان " اسم الله، ولا سبحان اسم الرب، فدل على أن معنى {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ} سبح ربك. وقوله: {الأعلى}. أي: القاهر لك شيء، العالي عليهز قال عقبة بن عامر: " لما نزلت: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} قال لنا رسول الله A: " اجعلوها في سجودكم ". ولما نزلت: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الحاقة: 52] قال لنا رسول الله A: " إجعلوها في ركوعكم ". قال الفراء: " سبح اسم ربك " وسبح باسم ربك "، كل صواب. كأنه جعله مما يتعدى بحرف وبغير حرف، ككتلك وكلت لك. ولا يحسن أن تقدره مما يتعدى بحرف ثم حذفه، إذ لا يجوز: مررت زيداً (على مررت بزيد) إلا في شعر شاذ. وهذا مما يتسدل به على أن الاسم هو المسمى، لأنه تعالى لم يأمر نبيه أن يعبد (ويسبح) ويصلي لغيره.

فمعنى: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ}: [سبح ربك]، فالاسم هو المسمى، ولو كان غيره لكانت العبادة لغير الرب [سبحانه]، والتسبيح لغيره -[جلت عظمته]- وليس يريد بالاسم هاهنا التسمية، لأنه لا اختلاف [في] أن التسمية غير/ المسمى، وهذا باب يحتاج إلى بيان وشرح. ثم قال تعالى: {الذي خَلَقَ فسوى}. أي: خلق الأشياء كلها، فسوّى خلقها وعدلها. والتسوية التعديل. ثم قال: {والذي قَدَّرَ فهدى}. أي: قدر خلقه فهدى الإنسان لسبيل الخير والشر، وهدى البهائم للمراعي. قال مجاهد: " هدى الإنسان للشقوة والسعادة، وهدى الأنعام [لمراتعها]. وقيل: معناه: هدى الذكر لإتيان الأنثى.

وقيل: معناه: فهدى وأضل، ثم حذف لدلالة الكلام عليه، ومن شدد {قَدَّرَ}، جعله من التقدير، فمعناه: قدر خلقه كل مخلوق، [وهداه] إلى مصلحته. ودليله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]. فأما من خففه، فإنه جعله من القدرة والملك، (فمعناه): الذي أحاطت قدرته [بكل] شيء فهدى وأضل. ويجوز أن يكون من التقدير مثل الأول، كما قال: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26]. ثم قال: {والذي أَخْرَجَ المرعى}. أي: الذبات. {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى}. أي: فجعله يبساً أسود بعد أن كان ناعماً أخضر. " فأحوى " بمعنى: (أسود)، وهو نعت للغثاء. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. " وأحوى " بمعنى: أخضر. والتقدير: أخرج

المرعى أحوى، أي: أخضر، فجعله غثاء، أي: يبساً. فيكون " أحوى " [بمعنى: أخضر، (وهو [حال] من المرعى. وفي هذا تكلف لغير ضرورة تدعو إليه). قال ابن عباس: {غُثَآءً أحوى}، أي: " هشيماً متغيراً ". وقيل: معناه: غثاءً، أي: يبساً تنسفه الرياح فيجري به السيل [فصار] غثاء للسيول بعد حضرته وغضارته، هذا معنى قول مجاهد وابن زيد. وقال (أبو) عبيدة: {غُثَآءً أحوى}، أي: [هيجه] حتى يبس فجعله

أسود من احتراقه {غُثَآءً} أي: هشيماً. ثم قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى}. أي: سنقرئك - يا محمد - القرآن [فلست] تنساه إلا ما شاء الله أن تنساه. قال مجاهد: كان النبي A يتذكر القرآن في نفسه مخافة أن ينسى فأعلمه الله أنه ليس ينسى. وقوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} هو ما أراد الله نسخه فينسيه نبيه فيرفع حكمه وتلاوته، وذلك ما أنزله تعالى على نبيه للصلاح في وقت، وتقدم في علمه [أنه] سينسيه إياه في وقت [آخر]. وقيل: معنى الآية: سنقرئك - يا محمد - فلا تترك العمل بشيء منه إلا ما شاء الله أن تترك العمل به (مما) ننسخه [فنأمرك] بتركه فتتركه. " ولا " في

القولين جميعاً [نفي] وليست للنهي. وقال الفراء: فلست تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، ولا يشاء أن ينسى منه شيئاً. ومثله عنده: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107]، وليس يشاء غير الخلود لهم. وقيل: معنى الآية: إلا ما شاء الله مما يلحق الآدميين. وقيل: إلا ما شاء الله أن يرفع حكمه ولا يرفع تلاوته. وقيل: المعنى: فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء الله أن يناله بنو آدم والبهائم، وينتفعوا فإنه لا يصير غثاء أحوى. ثم قال: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى}. أي: إنه يعلم ما أظهرته من عملك وما أخفيته، أي: يعلم السر والعلانية. وهذا خطاب للنبي، وأمته داخلة في ما خوطب به. ثم قال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى}.

أي: وسنسهلك (يا محمد) لعمل الخير، وهو اليسرى، والمعنى للحال اليسرى، وهو فعلى، من [اليسر]. ثم قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى}. أي: ذكر إن نفعت ذكراك وإن لم تنفع، حذف لدلالة الكلام عليه، مثل: {قَدَّرَ فهدى} ومثله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم} [النحل: 81]. وقيل: المعنى أن الذكرى تنفع بكل حال. والتقدير: فذكر إن كنت تفعل ما أمرت به. وقال الطبري: معناه: فذكر عباد الله - يا محمد - عظمته وعظهم، وحذرهم عقوبته، إن الذكرى لا تنفع الذين [آيستك] من إيمانهم. ثم قال تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى}. أي: سيذكر يا محمد من يخشى الله ويخاف عقابه.

{وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى}؟ أي: ويتجنب الذكرى (الأشقى) يعني أشقى الفريقين من المؤمين والمشركين ثم نعته، فقال: {الذى يَصْلَى النار الكبرى}. وهم الذين لم تنفعهم الذكرى وتجنبوها. قال قتادة: قوله {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى}: إنه والله ما خشي عبد قط الله إلا ذكره. ولا والله لا يسكت عبد عند الذكرى زهداً فيها وبغضاً لأهلها إلا شقيّ بين الشقاء. والنار الكبرى: نار جهنم، هي كبرى عند نار الدنيا من شدة حرها وألمها. وقال الفراء: النار الكبرى: " السفلى من أطباق النار ". وقوله: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}. روي أن نفس أحدهم تصير في حلقه فلا تخرج فتفارقه [فيموت] ولا/ ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.

وقيل: معناه: لا يموت فيها فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه. وقيل: أريد به شدة الأمر. والعرب تقول [للرجل] يقع في شدة شديدة أو علة مثقلة: لا هو حي، ولا هو ميت. فخوطبوا على مجرى به كلامهم. ثم قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى}. أي: قد أدرك طلبته وظفر ببغيته من تظهر الكفر وعمل بطاعة الله. قال ابن عباس: من تزكى - يعني - من الشرك. وعنه أنه جعله في زكاة الفطر. وقال: أخرجوا زكاة الفطر قبل صلاة العيد. وقال عكرمة: {مَن تزكى}: من قال: لا إله إلا الله. قال عطاء: {مَن تزكى} من آمن. وقال قتادة: من تزكى بالعمل الصالح والورع.

وقال ابن جريج: من تزكى بماله وعمله. وقال عبد الله: إذا خرجت إلى الصلاة فتصدق بشيء إن استطعت، فإن الله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى}. والتزكي - في اللغة -: التطهر. قال عمر بن عبد العزيز وابن المسيب وأبو العالية: هي زكاة الفطر، (ثم نسخها زكاة الأموال). وقيل: هي سنة، وزكاة المال فرض. وعلى هذا أكثر العلماء. قال ابن عباس: {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} أي: " ووحد الله سبحانه ".

وقيل: معناه: ودعا إليه وصلى الصلوات الخمس. وقيل: عني به صلاة العيد. وقيل: الصلاة هنا الدعاء. (وقيل: معناه: وذكر اسم ربه في صلاته بالتحميد والتمجيد). ثم قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا}. أي: تؤثرون زينتها على الآخرة، والآخرة خير لكم وآدوم نعميا. ثم قال تعالى: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى}. أي: إن هذه الآيات في {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} لقي صحف إبراهيم وموسى. وقيل: معناه: إن قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} الآية، لفي {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى}.

وقيل: معناه إن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى لفي صحف إبراهيم وموسى. واختار الطبري أن يكون معناه أن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} إلى قوله {وأبقى} لفي صحف إبراهيم وموسى، فتكون الإشارة إلى ما قرب من هذا.

الغاشية

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الغاشية مكية قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} إلى آخرها. أي: قد أتاك - يا محمد - حديث الغاشية، وهي القيامة تغشى الناس بقيامها وأهوالها. وقال ابن جبير: الغاشية جهنم. ثم قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}. أي: ذليلة، وهي وجوه الكفار. قال قتادة: " خاشعة في النار ". ثم قال: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ}. أي: هي عاملة ناصبة بمعنى: تعمل وتنصب في الدنيا، وهي تصلى ناراً حامية في الآخرة.

وهذا قول يُروى عن عمر Bهـ. ولا يتم الكلام [على] [ناصبة] أو (على) {خَاشِعَةٌ} ويجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير على هذا القول، والتقدير: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا يومئذ خاشعة. وقيل: الآية نزلت في عبدة الأوثان والرهبان من أهل الكتاب، أنصبوا أنفسهم وأتعبوها بالعمل ولم يتقبل منهم، لأنهم على غير إسلام. وقال عكرمة: (معناه): عاملة في الدنيا بمعاصي الله، ناصبة في الآخرة في النار. فيتم الكلام على هذا القول على " عاملة ". وقال الحسن وقتادة: إن الوجوه في القيامة خاشعة عاملة ناصبة، وأنها (لما)

لم تعمل في الدنيا لله أعملها الله في النار وأنصبها. فلا يتم الكلام من أوله على {نَّاصِبَةٌ} على هذا القول. قال ابن عباس: " تعمل وتنصب في النار ". وقال قتادة: " تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار ". وقال ابن زيد: " لا أحد أنصب ولا أشد من أهل النار ". وكان عمر Bهـ يتأولها في الدنيا في البرهان وشبههم. يعملون في الدنيا، ويجتهدون، وهم في النار. ويكون الكلام يتم على {خَاشِعَةٌ} لأنه آخر صفتهم في يوم القيامة، ثم ابتدأ بصفتهم في الدنيا. وقيل: التقدير: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا {يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} يعني: في الآخرة. وفي الحديث " أن النبي A وسلم ذكر القدرية فبكى، وقال: إن فيهم المجتهد ".

وقوله: {تصلى نَاراً حَامِيَةً} أي: ترد ناراً قد حميت واشتد حرها. والإخبار في جميع ذلك عن الوجوه، والمراد به أصحابها، لأن المعنى مفهوم. ثم قال تعالى: {تصلى نَاراً حَامِيَةً}. أي: [يسقى] يومئذ أصحاب هذه الوجوه (من عين قد) انتهى حرها فبلغ الغاية في شدة الحر. وقال مجاهد: من عين قد (أنى/ نضجها) منذ خلق الله D الدنيا. وقال ابن زيد: {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: حاضرة. وقال تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ}. أي: (ليس) لأصحاب هذه (الوجوه) الخاشعة - وهم الكفار - طعام يطعمونه في النار إلا طعام من ضريع.

قال ابن عباس: " الضريع: شجر من نار ". وقال ابن زيد: الضريع: الشوك من النار، والضريع عند العرب شوك يابس [ولا ورق فيه]. وقال عكرمة: الضريع: الحجارة. وقال الحسن: الضريع: الزقوم وعنه أيضاً: الضريع: الذي يضرع ويذل من أكله لمرارته وخشونته. وقال عطاء: الضريع: الشبرق. وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وعلى هذا القول كثير من أهل اللغكة، والشبرق: [شجر] كثير الشوك

تعافه الإبل، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس، ويسميه غيرهم الشبرق. وقيل: الضريع واد في جهنم. وقد أخبر الله في هذه الآية بأن لا طعام لهم إلا طعام من ضريع، فأثبت لهم طعاماً، وقال في موضع آخر {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35 - 36]. فظاهره أنه قد أوجب لهم طعاما من غسلين فهذاك خلاف ذلك في الظاهر. المعنى في ذلك التقدير: فليس له اليوم هاهنا شراب حميم إلا من غسلين ولا طعام يتنفع به. (وقيل): الغسلين من الضريع. وقيل: الغسلين لقوم والضريع لآخرين. ثم وصف الله أهل الجنة ونعيمهم بعد وصفه لأهل النار وعذابهم. فقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ}. أي: (غضرة) نضرة بنعمها الله، وهم أهل الإيمان بالله والعمل بطاعته.

ثم قال تعالى: {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}. أي: لعملها الذي عملته في الدنيا من طاعة ربها راضية. وقيل: المعنى: [الثواب] عملها را ضية في الآخرة. ثم قال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}. أي: رفيعة القدر عالية المكان. {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} أي: لا يسمع أحد في الجنة كلمة لغو، واللغو: الباطل. وقيل للكلمة التي هي لغة: لاغية، كما قيل لصاحب [الدرع: دارع]، ولصاحب الفرس فارس، " ولابن " " وثامر " لصاحب اللبن والثمر. وقال الفراء: {لاَغِيَةً}، أي: [حالفاً] يحلف بكذب. قال ابن عباس: معناه: لا تسمع فيها أذى ولا باطلاً.

وقال مجاهد: " شتماً ". وقال قتادة: باطلاً ولا مأثماً. ثم قال تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي: تجري من غير أخدود، والعين تذكر وتؤنث [والتأنيث] أكثر، وقد قال الشاعر والعين بالإثمد [الحاري] مكحول. ... فقال بعض النحويين: هذا على تذكير العين. وقال المبرد: ذكره كما يذكر كل مؤنث غير حقيقي التأنيث لا علامة للتأنيث فيه، كما يقال: هذا دار وهذه دار. وقال الأصمعي: مكحول للحاجب هو، لأنه قد تقدم ذكره، ولا يعرف

الأصمعي في العين إلا التأنيث. ثم قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ}. أي: عالية ليرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم، ويلحقه بصره. والسرر جمع سرير. وقيل: مرفوعة: مضمونة. قاله ابن عباس، كقوله: {سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] أي: بعضها فوق بعض. ثم قال تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ}. أي: موضوعة على حافة العين الجارية كلما أراد الشرب وجدها ملأى من الشراب. الأكواب جمع: كوب، وهي الأباريق التي لا آذان لها، وقد تقدم ذكرها بالاختلاف فيها. ثم قال تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}. النمارق جمع: نمرقة، هي الوسادة والمرفقة. وحكي فيها ضم النون والراء وكسرهما، والضم (أكثر). ومعنى مصفوفة أي: بعضها إلى بعض.

وقد قال ابن عباس: " النمارق: المجالس "، وعنه: " المرافق ". وقال قتادة: هي " الوسائد ". ثم قال تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}. قال أبو عبيدة: الزرابي البسط. وقيل الزرابي: الطنافس التي لها خمل، و {مَبْثُوثَةٌ} كثيرة. وقال قتادة: [زرابي] " مبثوثة " أي " مبسوطة ". قال ابن عمر: (رأيت عمر) Bهـ يصلى على عبقري، وهي الزرابي. ثم قال تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ}.

هذا كله توبيخ لمنكري القدرة، أي: أفلا ينظر من ينكر قدرة الله على كل ما يشاء مما وصف مما أعده الله للكافرين وللمؤمنين في هذه الآيات - إلى الإبل كيف خلقها الله وسخرها لهم (وذللها)، وإلى (السماء) كيف رفعها/ الله فوقهم لا خلل فيها ولا شقوق مولا اختلاف، رفعها بغير عمد ترونها، وإلى الجبال كيف نصبها الله على الأرض لئلا تميد بأهلها، [وأقامها] منتصبة لا تسقط على الأرض. وإلى الأرض كيف سطحها الله، أي بسطها فجعلها مستوية وطيئة ليتصرف عليها الخلق ولا يمتنعون من أسفارهم. وقال قتادة: لما [نعت] الله ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الضلالة، فأنزل الله جل ذكره: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} إلى {سُطِحَتْ}. قال: وكانت الإبل من عيش العرب. [فخوطبوا] ونبهوا على قدرته على أعظم ما في نفوسهم، فلذلك بدأ بالإبل، فكأنه قيل: لهم: من قدر على إحداث هذه

الأشياء وغيرها لكم وإحكم أمرها [كيف] لا يقدر على ما وصف من (أمر) الجنة والنار. وقال ابن عباس: الإبل (ها) هنا هي الإبل بعينها، وليس شيء يحمل عليه وهو بارك إلا الإبل، وفي ذلك آية. وقال المبرد: وقيل: الإبل: القطع العظام من السحاب. ثم قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ}. أي: ذكر - يا محمد - عبادي بآياتي، فإنما أرسلت مذكر لهمه. {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}. أي: بمسلط ولا بجبار تجبرهم على الإيمان. ومصطيراً: أصله السين، وهو مأخوذ من السطر.

وقيل: الآية منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهو قول ابن زيد. وقيل: هي محكمة، لأنهم إذا أسلموا تركوا على جملتهم، ولم يسلط عليهم. قال جابر: قال رسول الله A: " أُمِرتَ أَنْ أقاتِلَ الناسَ حَتّى يَقولوا لا إِلَهَ إلاّ الله فَإذا قوالوا لا إِلَهَ إِلاّ الله عَصَمُوا مِنّي دِماءَهُم وَأَموالَهُم إِلاّ بِحقّها وَحِسابُهُم عَلى الله. ثم تلا {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} ". قال ابن عباس: {بِمُصَيْطِرٍ} بجبار. ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر}. أي: فذكر يا محمد قومك إلا من يتولى عنك فأعرض عن الإيمان وكفر فيكون هذا استثناء من الذين كان التذكير فيهم، فيكون في موضع نصب.

وقيل: الاستثناء منقطع مما قبله. المعنى: ليست عليهم {بِمُصَيْطِرٍ} إلا من تولى وكفر بعد ذلك، فإنك ستسلط [عليه] إن أسلم أو السيف. والاستثناء المنقطع [تعتبره] أبداً بأن [تحسن] " إن " معه، فإذا حسنت جاز أن يكون منقطعاً، وإذا لم تحسن كان متصلا صحيحا. يقول القاتل: " سار القوم إلا زيداً "، فلا يحسن دخول " إن " هنا، (لأنه) استثناء صحيح. ثم قال تعالى: {فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر}. وهو عذاب جهنم في الآخرة. ثم قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} أي: رجوعهم في الآخرة.

{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي: (علينا) حساب أعمالهم [فنجازيهم] (بها) فالله (هو) المحاسب المعاقب لهم وأنت - يا محمد - مذكر مبلغ عن ربك إليهم.

الفجر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفجر مكية قوله تعالى: {والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع}. ألى قوله: {البلاد}. قال ابن عباس: الفجر " النهار ". وعنه أن الفجر عنى به " صلاة الفجر ". وقال عكرمة: هو " فجر الصبح ". وقيل: هو صبيحة يوم النحر. وهو قسم

والتقدير فيه: ورب الفجر. وقوله: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} أكثر المفسرين على أنها [العشر] الأولى من ذي الحجة. ورو ى جابر أن النبي A قال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ}: عشر الأضحى. وإنما جعلها عشر ليال، لأن ليلة يوم النحر دخلت فيها، لأن الله جعل ليلة يوم النحر ليوم عرفة فصار ليوم عرفة ليلتان رفقاً بعباده، فلذلك من لم يدرك الوقوف بعرفة يوم عرفة وقف ليلة يوم النحر وتم حجه، لأن ليلة يوم النحر ليلة (يوم عرفة أيضاً فصارت ليلة يوم النحر داخلة في حكم يوم) عرفة، يجزي فيها ما فات من الوقوف بعرفة يوم عرفة. ولا يجزئ الوقوف بعرفات - ليلة يوم عرفة - عن يوم عرفة، فصارت ليلة يوم النحر أخص بيوم عرفة من ليلة يوم عرفة (بيوم عرفة)،

فاعرفه، فلذلك جعل ليالي العشر عشر ليال وأقسم بها. وقال مجاهد: ليس عمل في ليالي السنة أفضل منه في ليالي العشر، وهي عشر موسى التي أتمها الله جل وعز له. وعن إبن عباس أيضاً أنها العشر الأواخر من رمضان. وحكى الطبري أن بعضهم قال: [هي] العشر الأول من المحرم. ثم قال تعالى: {والشفع والوتر}. قال ابن عباس: " الشفع: يوم النحر، والوتر: يوم عرفة ". وقال عكرمة. وقال الضحاك: {وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر}، أقسم الله بهن لما يعلم من

فضلهن على سائر الأيام: فالعشر ذي الحجة، والشفع يوم النحر، والتوتر يوم عرفة. وقال عبد الله بن الزبير: الشفع: اليومان اللذان بعد يوم النحر، والوتر: (اليوم) الثالث/، وهو يوم النفر الآخر، قال الله {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. وعن ابن عباس أيضاً: أن الشفع الخلق كلهم، والوتر الله، وهو وتر واحد وخلقه شفع. وقيل: الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب. وهو قول مجاهد ومسروق.

وعن مجاهد [أيضاً] أن الشفع والوتر: الخلق كلهم منهم [شفع] ([و] منهم) وتر. وهو قول الحسن. وقال ابن زيد: كان أبي يقول: كل شيء خلا الله D شفع ووتر، فأسم - جل ذكره - بما خلق مما تبصرون وما لا تبصرون. وقال قتادة عن عمران بن الحصين أنه كان يقول: الشفع والوتر: الصلاة منها شفع كالظهر والعصر، ومنها وتر كالمغرب. وقال الربيع بين أنس: الشفع والوتر: صلاة المغرب، فالشفع منها

الركعتان الأوليان، والوتر الركعة الثالثة. وروى عمران بن الحصين أن النبي A قال: {والشفع والوتر} " هي الصلاة منها شفع، ومنها وتر. وروى قتادة أن الحسن كان يقول: الشفع والوتر هو العدد [منه] شفع ومنه وتر. [وقيل: الشفع آدم A وحواء، والوتر: الله D، وتر كل شيء]. والفتح والكسر في الوتر لغتان: الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة بني تميم. وقال الفراء: والكسر لغة قيس وأسد أيضاً. فأما الوتر الذي هو الترة،

ففيه أيضاً لغتان: الفتح والكسر. أهل الحجاز يفتحون، وغيرهم بكسره. ثم قال تعالى: {واليل إِذَا يَسْرِ} أي: يسري أهله. وقيل: معناه: والليل إذا سار وذهب. وهي ليلة جمع، ليلة المزدلفة. قال ابن عباس: إذا يسري: إذا ذهب. وقال أبو العالية: إذا سار. وقال ابن زيد: إذا يسير. وقال عكرمة: إذا جمع.

ثم قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} أي: إن في هذا القسم لكفاية لذي عقل. عظم الله تعالى جل ذكره هذه الأزمنة التي أقسم بها، وهي عشر ذي الحجة ويوم عرفة ويوم النحر وليلة المزدلفة. وأعيد ذكر [يوم] عرفة، وقد دخل في العشر لشرفه. وقيل: أعيد لأنه أقسم أولاً بالليالي، وأعيد ذكر اليوم، لأنه لم يدخل في الليالي. قال ابن عباس: {لِّذِى حِجْرٍ}: لصاحب نُهىً وعقلٍ. وقال الحسن: " لذي حلم ". قال قتادة: " لذي عقل ولب " وجواب القسم: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ}. [وقال مقاتل: " هل " هاهنا في موضع " إن "، وتقدير الكلام: " في ذلك قسماً. ذكره المارودي. فعلى هذا التأويل، تكون " هل " جواب القسم. والله أعلم]. وقيل الجواب: إن ربك لبالمرصاد، وهو الصواب إن شاء الله، لأن " هل " ليست من أجوبة القسم.

ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد}. من صرف عاداً جعله للحي أو للأب. وقد قرأ الضحاك بغير صرف، جعله اسماً للقبيلة. وقرأ الحسن: " بعاد إرم " بإضافة " عاد " إلى " إرم "، ولم يصرف {إِرَمَ}، جعل " إرم " اسم مدينة فلم يصرفها. قال محد بن كعب القرظي: إرم: " الإسكندرية ". قال [المقبري]: إرم: دمشق، رواه عنه ابن وهب. وقوله: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} [الأحقاف: 21]، يدل على خلاف هذين القولين، لأن الأحقاف جمع: حقف، والحقف ما التوى من الرمل، وليس كذلك

دمشق ولا الإسكندرية، وإنما يجوز هذا التأويل على أن يكون [عاد] [ها هنا] غير عاد أصحاب الأحقاف. وقال مجاهد: إرم: " أمة ". وعنه أيضاً إرم معناه: " القديمة ". وقال قتادة: كنا نحدث أن إرم قبيلة من عاد، مملكة عاد. وهذا قول يصح معه ترك صرف " إرم ". وقال ابن إسحاق: إرم جد عاد، وإرم هو إرم بن عوص بن سام بن نوح. ويلزم على هذا أن يصرف لأنه يذكر. وعن ابن عباس أن معناه: بعاد الهالك، ويلزم صرفه على هذا، لأنه وصف. وقال بعض أهل النسب: إرم هو سام بن نوح، ويلزم صرفه أيضاً لأنه مذكر.

وقيل: إن {إِرَمَ ذَاتِ العماد} كانت مدينة عظيمة موجودة في ذلك الوقت. وقوله {ذَاتِ العماد} نعت " لعاد " إن جعلته (اسما) للقبيلة أو لإرم فمعناهك ذات الطول لأن العرب تقول للرجل الطويل: معمد، وكانت قبيلة عاد طوال الأجسام. [قال] ابن عباس: " كان طولهم مثل العماد ". [وقال] مجاهد: " كان لهم جسم في السماء ". وقيل: إنما قيل: {ذَاتِ العماد}، لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون (إلى) الكلا حيث كان ويرجعون إلى منازلهم. هذا معنى قول مجاهد. وقال ابن زيد: {ذَاتِ العماد}، قيل لهم ذلك البناء بناه بعضهم فشيد عمده.

9

ورفع بناءه حين كانوا في الأحقاف، وهو قوله: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] الآية. وقوله: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} أي: مثل تلك الأعماد. وقيل: إنما وصفوا [بذلك] لشدة أبدانهم وقوتهم. والهاء في {مِثْلُهَا} تعود على عاد، لأنها قبيلة أو على إرم لأنها مدينة. قال قتادة: ذكر/ أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً، وهو قوله: {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً}. قوله تعالى: {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} إلى آخر السورة. أي: وألم تر - يا محمد - كيف فعل ربك بثمود - وهم قوم صالح - الذين نقبوا الصخر وخرقوه واتخذوه بيوتا؟! وهو قوله: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 82]. والعرب تقول: " جاب فلارن [الفلاة] يجوبها جوْباً " إذا دخلها

وقطعها. قال ابن عباس: {جَابُواْ الصخر بالواد}، أي: خرقوها، يعني: قوم صالح كانوا ينحتون من الجبال (بيوتا). قال مجاهد: " جابوا الجبال فجعلوها بيوتاً ". ثم قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} أي: أو لم تر، يا محمد، فعل ربك بفرعون ذي الأوتاد؟! قال ابن عبس: الأوتد هنا " الجنود الذين يشدون له أمره ". وقيل: معناه ذي الجنود الكثيرة الذين يحتاجون [لضرب] الأوتاد في أسفارهم. وقال مجاهد: وصف بذلك، لأنه كان [يتد أوتاد] الحديد في أيدي الناس

وأرجلهم يقتلهم بها. وقال قتادة: وصف بذلك، لأنه كانت [له مظال] وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد [وحبال]. وروى ثابت البناني عن أبي رافع أن فرعون " وتد لامرأته (أربعة) أوتاد، ثم جعل على ظهرا رحى عظيمة حتى ماتت ". وقال ابن جبير: وصف بذلك: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد، قال: [فكان] يجعل رجلاً هاهنا ورجلاً هاهنا، ويداً هاهنا [ويدا] هاهنا بالأوتاد، وقاله مجاهد أيضاً. وعن ابن جبير أيضاً أنه إنما وصف بذلك، لأنه كان له بنيان يعذب الناس

عليه، قال: كان له منارات يعذب الناس عليها. وقوله: {الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} أي: تجاوزوا حدود الله عتوا على ربهم في البلاد التي كانوا بها فأكثوا في تلك البلاد الفساد بركوبهم المعاصي. ثم قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي: فأنزل بهم ربك (يا محمد) عذابه نقمة منه لهم لكفرهم، يعني جميع من تقدم ذكره من الكفرة. والعرب تقول لكل عذاب شديد عذب به المعذب: سوط خزي. فقوله: {سَوْطَ عَذَابٍ}، واقع على أنواع (من العذاب عذب الله بها هذه الأمم) المذكورة في الدنيا فأهلكهم بها. [وكذا حكى الماوردي: {سَوْطَ عَذَابٍ} اي: خلط عذاب لأنه أنواع].

قال مجاهد: {سَوْطَ عَذَابٍ} " ما عذبوا به ". وهوقول ابن زيد (وغيره). ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} أي: إن ربك يا محمد لهؤلاء الذين قصصت عليك قصصهم ولغيرهم من أمثالهم لبالمرصاد يرصدهم على قناطر جهنم فيكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة. وقيل: معناه: لا يفوته هارب. وقال ابن عباس: {لبالمرصاد} أي: " يسمع ويروى ". وقال الضحاك: إذا كان يوم [القيامة] يأمر الله D بكرسيه فيوضع على النر فيستوي عليه ويقول: " وعزتي لا يجاوزني اليوم (ذو) مظلمة ". فذلك قوله جل ثناؤه: {لبالمرصاد}. وقال سفيان: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} يعني: جهنم عليها ثلاث [قناطر]:

قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها لأمانة، وقنطرة فيها الرب جل ثناؤه. قال [عمرو] بن قيس: بلغني أن على جهنم ثلاث [قناطر] فقنطرة عليها الأمانة إذا مروا بها تقول: (يا رب)، هذا (أمين، يا رب هذا خائن. وقنطرة عليها الرحم إذا مروا بها تقول: هذا) واصل، هذا قاطع. وقنطرة عليها الرب تعالى ذكره {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد}. وقال الحسن: {لبالمرصاد} أي: " مرصاد عمل بني آدم ". قال ابن مسعود: والفجر إن ربك لبالمرصاد. يعني أنه جواب القسم. ويروى أن على جسر جهنم (سبع) [قناطر] محابس، بين كل قنطرتين

سبعون عاما، وعرض [الجسر] كحد السيف مدحضة مزلقة، في الرقة مثل الشعرة، فيسأل الناس [عند أول] قنطرة من الإيمان، فإن جاء به تاماً جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يسأل عن [الصلوات] الخمس، فإن جاء بها [تامة] جاز إلى (القنطرة) الثالثة، ثم يسأل عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابعة، ثم يسأل عن صيام رمضان فإن جاء به تاما جاز إلى الخامسة، ثم (يسأل) عن الحج، ثم (يسأل) عن صلة الرحم. قال نافع (و) الرؤاسي: {إِرَمَ} وقف جيد. وهو بعيد لأن {ذَاتِ العماد} نعت لما قبلها أو بدل منه. والوقف عند الأخفش وغيره {أَهَانَنِ}. والاختيار

الوقف على " كلا " وهو قول نصير وأحمد بن موسى/. والمعنى: كلا، [لم أهنه بتقديري] عليه رزقه. وقال الفراء: معناه: كلا، لم يكن ينبغي للإنسان أن يقول هذا، ولكن يجب عليه أن يحمد الله على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر. وقوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ}. أي: فأ/االإنسان إذا امتحنه ربه بالنعم والسعة فرح بذلك، وقال: ربي أكرمني بهذه الكرامة. وأما إذا ما امتحنه فضيق عليه رزقه وقَتَّره عليه غَمَّه [وقال]: ربي أهانني وأذلني بالفقر، فلم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه. قال قتادة: {فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} " ما أسرع ما كفر ابن آدم ". وقوله: {كَلاَّ}. هو إنكار من الله أن يكون سبب كرامته من أكرم [كثرة] المال، وسبب

إهانته من أهان قلة المال. قال قتادة معناه: لا أكرم من أكرمت بكثرة المال ولا أهين من أهنت بقلته، ولكن إنما أكرم من أكرمت بتوقيته إلى [طاعتي]، وأهين من أهنت بخلاذنه وارتكابه لمعصيتي. (ودل على ذلك قوله: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} إلى {جَمّاً} أي: فبهذا أهين من أهنت، لأنه مرتكب لمعصيتي) مخذول ممنوع عن طاعتي. وقيل: معناه: لم يكن الإنسان أن يحمد الله على النعم دون الفقر، ولكن ينبغي له أن يحمده على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر. والوقف على {أَهَانَنِ} حسن، وتكون " كلا " في الابتداء بمعنى " حقاً "، أو بمعنى " ألا ". وهو قول الأخفش وأحمد بن موسى.

وأجاز أبو حاتم الوقف على (أهنن) وعلى (كلا). والوقف عند نصير والفراء على " كلا " معناه: ليس يهان أحد بفقر ولا غنى. وقاله قتادة. وقوله: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} أي: بل إنما أهنت، لأنه لا يكرم اليتيم ولا يحض الناس ولا نفسه على طعام المسكين. ثم قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} أي: وأهنتكم لأنكم تأكلون الميراث أكلاً شديداً. {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي: كثيراً. قال ابن عباس: {أَكْلاً لَّمّاً}، أي: سفاً، وجماً: شديداً.

وقال الحسن: معنى {لَّمّاً}، أي: يخلطون الحلال بالحرام. وقال ابن زيد: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً}، أي: تأكلون كل شيء تجدونه من الميراث وغيره، لا تسألون عنه، يأكل الذي له والذي لصاحبه. [قال]: كانوا [يورثون] النساء ولا [يورثون] الصغار، وقرأ {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء}. . إلى قوله {عَلِيماً} [النساء: 127]. فقوله: {والمستضعفين مِنَ الولدان} [النساء: 127]، يعني: يستضعفوهم [فلا يؤتنهم]. قال: وقوله: {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي: وتحبون جمع المال واقتناءه حبا كثيرا.

والعرب تقول: " جم الماء في الحوض ": إذا اجتمع وكثر. ثم قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً}. الوقف على " كلا " حسن، ومعناه: ليس هكذا ينبغي أن يكون الأمر أن تأكلوا الميراث أكلا شديدا، وتحبوا جمع المال حباً كثيراً. ولا تكرمون اليتيم بالصدقة، ولا تحضون على طعام المسكين. وقيل: المعنى: لا يغني عنكم جمع المال شيئاً. وقوله تعالى: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً}، أي: رجت ولزلزت مرة بعد مرة. قال ابن عباس: هو " تحريكها ".

ثم قال تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} أي: والملائكة صفاً بعد صف. وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قال: إذا كان يوم القيامة، مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد، جِهنَّم وإنسهم، فإذا كان [ذلك] اليوم قيضت السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، ولأهل هذه السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض، جهنم وإنسهم بضعف، [فإذا مروا] على جه الأرض فزعوا منهم، فيقولون: (أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولههم، فيقولون) سبحان ربنا، ليس فينا وهو آتٍ ثم تقاض السماء الثانية، فأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل سماء الدنيا ومن جمعي أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من كلامهم ويقولون: سبحان الله، ليس فينا، وهو آت ثم

تقاض السماوات سماءً (سماءً)، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت/ أكثر من أهل السماوات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض فيقولون، لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى [تقاض السماء] السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سماوات ومن جميع الأرض بضعف، فيجيء الله D فيهم وجميع الأمم جثيٌّ [صفوف]، وينادي مناد: ستعملون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال. قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحا الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام

الصلاة وإتياء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ فيسرحون إلى الجنة، قال: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، عنق من النار فأشرف على الخلائق له عينان تبصران ولسان فصيح فيقول: إني كلت منكم بثلاثة: بكل جبار عنيد، [فيلتقطهم] من الصفوف لقط الطير حسب السمسم فيخنس بهم في جهنم، [ثم] [يخرج] ثانية [فيقول]: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله، [فيلتقطهم] [من الصفوف] لقط الطير حسب السمسم [فيخنس] بهم في جهنم. قال شهر ابن حوشب: وأحسب أنه ذكر في الثالثة أهل التصاوير [فيلتقطهم] كذلك.

قل: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، ومن هؤلاء ثلاثة، نشرت الصحف ووضعت الموازين ودعي الخلائق للحساب. وقال الضحاك: إذا كان يوم القيامة، أمر الله جل ذكره السماء الدنيا بأهلها، فنزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، كذلك إلى السابعة، فصفوا صفادون صفن ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نادوا، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ذلك قوله D: { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32 - 33]. وقرئ بتشديد الدال من ند البعير: إذا فر. قال: ذلك قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}. . وقوله:

{يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ} [الرحمن: 33] الآية. وهو قوله: {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ} [الحاقة: 16 - 17]. روى أبو هريرة أن النبي A ( قال): " توقفون موقفاً واحداً يوم القيامة مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دما وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم [الأذقان] ويلجمكم وتضجون ثم تقولون: [من] يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، قبل الله توبته وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه [قبلاً]، فيؤتى

آدم، فيطلب ذلك إليه فيأبى، ثم الأنبياء - نبياً - نبياً - كلما جاؤوا نبياً أبى. قال رسو الله A: حتى يأتونني فإذا جاءوني خرجت حتى أتى الفحص. قال ابو هريرة: Bهـ: يا رسول الله، وما الفحص؟ قال قدام العرش، قال: فأخر ساجداً، قال: فلا أزال ساجداً حتى يبعث الله إلي ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني، فيقول الله جل وعز [لي]: يا محمد، فأقول: نعم، وهو أعلم، فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك واقض بينهم، فيقول تعالى: قد شفعتك، أنا آتيهم وأقضي بينهم. قال رسول الله A: فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، سمعنا حسناً من السماء شديداً، فهالنا، فنزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الإنس والجن، حتى إذا دنو من الأرض، أشرقت الأرض لنورهم، وأخذوا [مصافهم] [فقلنا] (لهم): أفيكم ربنا؟ [فقالوا]: لا، وهو آت. ثم نزل

أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثل من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرَ، أشرقت الأرض لنورهم وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ فقالوا: لا، وهو آت، ثم ينزل أهل السماوات على قدر ذلك من التضعيف، حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة لهم زجل من تسبيحهم/ يقولون: سبحان الملك ذي الملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والسلطان والعظمة، سبحانه أبداً أبداً، فينزل تعالى جل ذكره يحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسماوات إلى حجزهم والعرشُ إلى مناكبهم. قال: فيضع الله جل ذكره كرسيه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي بنداء يسمع الخلائق فيقول: يا [معشر الجن] والإنس [إني] قد أنصت من يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليَّ، فإنما

هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا [يلم] إلا نفسه. قال: ثم يأمر الله جل وعز جهنم فيخرج منها عنق ساطع [مظلم] يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} إلى قوله: {المجرمون} فيتميز الناس ويجثون، [وهي] التي يقول الله تعالى جل ذكره: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا} إلى {تَعْمَلُونَ}. قال: فيقضي الله جل ثناؤه بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه [ليقيدُ] يومئذ للجماء من ذات القرن، حتى إذا لم تبق تبعة عند واحدة لأخرى، قال

الله تعالى: كوني تراباً. فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً! [قال]: ثم يقضي الله جل ذكره بين الجن والإنس ". ووقع [التكرير] في (دكاً دكاً) و (صفاً صفاً) على معنى: دكاً (بعد دكاً) [وصفاً] بعد صف. ثم قال تعالى: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}. قال ابن مسعود: " جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودنها وقاله ابن وائل. ثم قال تعالى: {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى}. أي: يتذكر تفريطه في الدنيا في طاعة الله، ومن أي وجه له الذكرى في ذلك اليوم وقد حيل بينه وبين العمل. ثم قال تعالى: {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}.

أي: يتلهف ويتندم فيقول: يا ليتني قدمت في الدنيا عملاً صالحاً لحياتي هذه التي لا موت بعدها فينجيني ذلك العمل من عذاب الله تعالى وسخطه ويقربني من رضوانه وجنته. فالمعنى: قدمت لآخرتي (التي) هي الحياة الدائمة، دليله قوله: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان} [العنكبوت: 64] أي: لهي الحياة. وقيل: المعنى قدمت لأحيا،، لأن أهل النار ليسوا بأحياء ولا أموات، بدلالة قوله: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74]. قال قتادة: " هناكم والله الحياة الطويلة ". وقال مجاهد: " لحياتي ": " للآخرة ". وقيل: الكلام بمعنى في والتقدير: يا ليتني قدمت (في حياتي، أي قدمت

العمل الصالح) في حياتي في الدنيا، مثل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أي: في عدتهن. ثم قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}. من كسر الذال والثاء من {يُعَذِّبُ} و {يُوثِقُ} فمعناه: فلا يعذب - ذلك اليوم - أحد مثل عذاب الله لهم ولا يوثق حد مثل وثاق الله لهم. وقيل: (معناه: لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا كوثاقه يومئذ. ومن فتح ذلك)، فمعناه: فلا يعذب أحد مثلما يعذب الكافر ولا يوثق مثلما يوثق. وقال الحسن: قد علم الله أن في الدنيا عذاباً (و) وثاقاً، فقال: فيومئذ

لا يعذبه عذابه أحد (في الدنيا) ولا يوثق وثاقه في الدنيا. ثم قال تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}. هذا خبر من الله - جل ذكره - عن قول الملائكة يوم القيامة لأولياء الله، والمعنى: تقول الملائكة لأولياء الله يوم القيامة، يا أيتها النفس التي اطمأنت إلى وعد الله [و] وعيده، فصدقت بذلك في الدنيا. قال ابن عباس: المطمئنة: " المصدقة " (وقال قتادة: " هوالمؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله "، وعنه:): المصدقة بما وعد الله. وقال مجاهد: المطمئنة: الموقنة إن الله ربها، وعنه أيضاً. المطمئنة التي أيقنت بلقاء ربها. وفي قراءة أبي: " يا أيتها النفس الآمنة ". [قال الحسن: المطمئنة إذا أراد الله D قبضها اطمأنت إلى الله سبحانه واطمأن

الله سبحانه إليها ورضيت من الله تعالى ورضي عنها فأمر بقبضها وإدخالها الجنة وجعله من عباده الصالحين]، وروي أن ذلك قول [الملائكة] للعبد المؤمن عند خروج نفسه [تبشره] برضاء ربه عنه وإعداد ما أعد له من الكرامة عنده. قال أبو صالح: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} هذا عند الموت {فادخلي فِي عِبَادِي} هذا يوم القيامة. وقيل: إنه كله يوم القيامة. وإن [معنى] {ارجعي إلى رَبِّكِ}، أي: إلى صاحبك/. وهو قول ابن عباس. وقال الضحاك: " يأمر الله الأرواح يوم القيامة أن ترجع إلى الأجساد فياتون الله كما خلقهم أول مرة " فهو على قوله أيضاً كله يوم القيامة، وهو اختيار الطبري.

قال عكرمة: {إلى رَبِّكِ} إلى جسد صاحبك. [وقاله] ابن جبير. فيكون أيضاً كله يوم القيامة وتكون المخاطبة للنفس ودل على ذلك قوله: {وادخلي جَنَّتِي} ودخول الجنة لا يكون إلا في القيامة. وقال الضحاك إن معنى [فادخلي في عبادي]، [أي: طاعتي]، {وادخلي جَنَّتِي} أي: رحمتي فالمخاطبة - على هذا - للإنسان، لا للنفس في المعنى. وإليه يذهب الفراء، ومعناه عنده أن الملائكة تقول لهم إذا أعطوا كتبهم بإيمانهم هذا، (أي): ارجعي إلى ثواب ربك.

البلد

بسم الله الرحمن الرحيم سورة البلد مكية قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} إلى قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين}. قال الأخفش: " لا " صلة، وأجاز أن تكون بمعنى " ألا ". وقد قيل: إن " لا " رد لكلامهم. ثم ابتداء: (أقسم) بهذا البلد، وهو قول مجاهد والمعنى: أقسم يا محمد بهذا البلد الحرام، وهو مكة، وهو قول أكثر المفسرين.

وقيل: " لا " غير زائدة - والمعنى أن الله جل ذكره يقول لنبيه: لا أقسم بهذا البلد بعد خروجك منه. ثم قال تعالى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}. يعني محمداً A، ( أي): وأنت حلال يا محمد بهذا البلد تصنع فيه [ما شئت] من قتل من أردت قتله وأسر من أردت أسره، [ما شئت من ذلك مطلق لك]، يقال: حل وحلال بمعنى. قال ابن عباس: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} يعني بذلك النبي A، أحل (الله) (له) يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ويستحقيي من شاء، فقتل ابن خطل يومئذ

صبراً وهو آخذ بأستار الكعبة. ولم يحل لأحد من الناس بعد رسول الله A أن يقتل فيها (أحداً). قال مجاهد: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}، أحل لنبيه أن يصنع ما شاء فيها. [وقال] ابن زيد: لم يكن [بها أحد] حلالاً غير النبي A، كان كل من كان [بها]. حراماً، لم يحل لهم أن يقاتلوا فيها ولا يستحلوا حرمة فأحله الله جل وعز لرسوله، فقال المشركين (فيه). وقال عطاء: إن الله حرم مكة لم تحل لنبي إلا لنبيكم ساعة من نهار. ثم قال تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}.

قال مجاهد: الوالد: آدم عليه السلام، وما ولد: ولده. وهو قول قتادة وأبي ص لح والضحاك وسفيان. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " الوالد: الذي [يلد]. {وَمَا وَلَدَ}: العاقر الذي لا يولد له " فهو عام. وقال أبو عمران الجوني: عنى بذلك إبراهيم عليه السلام وولده. وعن ابن عباس أيضاً أن الوالد: من ولد له، و (ما ولد): ولده. فهو عام أيضاً على هذا القول، كأنه قال: ووالد وولادته، وهذا اختيار الطبري. ثم قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ}.

هذا جواب القسم والمعنى: لقد خلقنا ابن آدم من شدة [وعناء] ونصب. قال قتادة: {فِي كَبَدٍ}: في مشقة لا تلقى ابن آدم إلا يكابد أمر الدنيا والآخرة. قال الحسن: " لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وعن ابن عباس أيضاً: (في كبد): " في شدة معيشته وحمله وحياته ونبات أسنانه ". وقال سفيان: {فِي كَبَدٍ}: خروج أسنانه. وعن ابن عباس أيضاً: {فِي كَبَدٍ}: في انتصابه، خلق معتدل القامة منتصباً. وعنه قال: خلق ابن آدم مستوياً، وخلق كل دابة على أربع. وقال عبد الله بن شداد: {فِي كَبَدٍ}: معتدل القامة. وقال أبو صالح. وقال الضحاك: {فِي كَبَدٍ}: " خلق منتصباً " على رجلين لم تخلق دابة على خلقه ".

وقال الحسن: {فِي كَبَدٍ}: يكابد [مضايق] الدنيا وشدائد الآخرة. وقال مجاهد: {فِي كَبَدٍ}، يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم. . .، (فلا يزال) في مكابدة. وقال ابن زيد: {فِي كَبَدٍ} في السماء خلق آدم في السماء. ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}. يروى أنها نزلت في رجل [بعينه] من بني جمح كان يدعى [أبا الأشدين]، وكان شديداً قوياً. يروى أنه كان يأخذ الأديم فيجعله تحت قدمه ويجذبه (عشرة) حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان معادياً لرسول الله A.

فالمعنى: أيحسب هذا القوي أن لن يقهره أحد؟! فالله غالبه. ثم قال: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً}. أي: يقول هذا القوي: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد، وهو كاذب في قوله. واللبد " الكثير من التلبد، وهو الكثير بعضه على بعض. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: اللبد: المال الكثير. وقرأ أبو جعفر: " لبداً " - ([بالتشديد]) - جعله جمع " لابد ". فأما من خفف، فإنه جعله جمع " لبدة ". وقيل: هو واحد، " كحطم ". وقرأ/ مجاهد: " لُبُداً " - بضمتين - جعله جمع لبود.

ثم قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ}. أي: أيظن هذا القائل (إني) أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد A، أن لم يره أحد في حال إنفاقه ما يزعم أنه أنفقه؟! وإنما قال ذلك تندماً على أن أنفق. وقيل: قاله افتخاراً. ثم قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ}. أي: ألم نجعل لهذا القائل: " أهلكت مالاً لبداً "، عينين يبصر بهما حجج الله عليه، ولساناً وشفتين نعمة من الله عليه؟! قال قتادة: نعم الله متظاهرة عليك، يعرفك بها كيما تشكر. ثم قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين}. أي: الطريقين: طريق الخير وطريق الشر، كقوله: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]. هذا قول ابن مسعود. وقال ابن عباس: {النجدين}: الهدى والضلال. وهو معنى قول مجاهد

11

وعكرمة وابن زيد. وروي ذلك عن النبي A. وعن ابن عباس أيضاً: {النجدين}: الثديين، [سبيل] اللبن. وقال الضحاك، وقاله علي ابن أبي طالب Bهـ. والنجد في اللغة الطريق المرتفع. قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة} إلى آخر السورة. أي: فلم يقتحم، أي: لم يركب هذا القوي الشديد العقبة فيقطعها ويجوزها بالإيمان والعمل الصالح، فهو خاص يراد به العموم. قال ابن عباس: " العقبة جبل في جهنم ".

وقال الحسن: هي عقبة في جهنم. وقال قتادة: [للنار] عقبة دون الجسرز وقال كعب: العقبة " [سبعون] درجة في جهنم ". وقيل: معناه أنه تمثيل يراد به، لم يفعل ما أمر به، ومثل ذللك بالعقبة لعصوبته وصعوبة جواز العقبة. وقال ابن زيد: {فَلاَ اقتحم العقبة} [أي]: فلم يسلك الطريق الذي فيه النجاة. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة}. أي: ما [اقتحام] العقبة؟! [أي]: وأي شيء أشعرك يا محمد ما اقتحام

العقبة؟! ثم بين ما هو فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي: اقتحامها والنجاة منها هو فك رقبة من الرق [وأسر] العبودية. قال الحسن: " ذكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة إلا كانت فداءه من النار. وسئل النبي A عن الرقاب أيها أعظم أجراً؟ فقال: " أكثرها ثمناً ". وقال A: " من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار ". ثم خير أيضاً في اقتحام العقبة، [فقال]:

{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ}. أي: وهو أيضاً أن يعلم في يوم ذي مجاعة يتيماً لا أب له من قرابتك والمقربة والقرابة واحد. قال ابن زيد: {ذَا مَقْرَبَةٍ}. " ذا قرابة ". ثم قال تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}. أي: ذا [لصوق] بالتراب قال مجاهد: {ذَا مَقْرَبَةٍ}: " ليس له مأوى إلا التراب "، يعني: المسكين المطروح في التراب ليس له شيء يقيه من التراب. وقيل: معنه: أو مسكيناً ذا فقر، من قولهم " ترب الرجل " إذ افتقر. وعن ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ}: كثير الحاجة، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضاً: {ذَا مَتْرَبَةٍ}: ذا عيال وكبر سن ليس بينك وبينه قرابة وقاله ابن جبير.

وقال الضحاك: {ذَا مَقْرَبَةٍ} " ذا عيال لا صقين بالأرض من المسكنة ". وعن ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ}: هو الرجل يخرج إلى حاجته ثم يرد وجهه منقلباً إلى بيته يستيقن أن ليس فيه إلا التراب. وقال سفيان: هم المطروحون في ظهر الطريق، لا بيت لهم. [يقال]: تربت يد الرجل: إذا افتقر، أي: ليس يحصل في يده إلا التراب. وقوله: A: " فعليك بذات الدين تربت يمينك "، معناه: افتقرت يمينك إن فاتتك، أي: لا يحصل في يمينك إلا التراب إن [فاتتك].

ونظيره: " [وللعاهر] الحجر "، أي: لا يحصل في يد الزاني بأمة على فراش غيره من الولد إلا التراب، أي: لا شيء (له) فيه. ويقال: أترب الرجل إذا استغنى، أي: صار المال عنده ككثرة التراب. ويقال: " فلان ترب فلان "، [أي: ولداً] في وقت واحد فربا على التراب في وقت. ومن هذا، قيل لضلوع الصدر: ترائب، والواحدة: تربية، لأنها مستوية ليست منحنية كغيرها. ثم قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}.

قيل: " ثم " بمعنى " الواو "، والمعنى: وكان من الذين آمنوا [بفعله] هذه الخصال. وقيل: " ثم " على بابها والمعنى: ثم ضم الإيمان إلى هذا الفعل الذي يفعله المسلم غيره، لأن فك الرقاب وإطعام الطعام شيء يفعله المشرك كما يفعله المسلم، فإذا ضم الإيمان معه كان نافعاً [له]. وقيل: المعنى على هذا، و " ثم " بمعنى الواو. وقيل: المعنى: ثم كان من الذين يؤمنون أن [هذا] نافعهم عند الله. [ففعله] إنما كان وهو مؤمن بالله، ولم يفعله وهو غير مؤمن ثم آمن، إنما فعله هو مؤمن ثم (آمن) بعد فعله أنه نافعه، " فثم " على بابها، فتقديره: ثم كان من الذين /آمنوا [بنفع] ما يفعلون من البر لهم عند الله. {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}، أي: وتواصوا بالدوام على ذلك الفعل (و) على أنه نافعهم عند الله. وقيل: بالصبر على ما نالهم في ذات الله.

وقال (الفضيل): بالصبر عن معاصي الله، وقيل: معنى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ}: ثم أخبرهم بهذا. (ومعنى) الكلام أنك تقول " أحسنت إلى فلان (وفعلت به) ثم هو يذمني "، فليس إخبارك بذمه لك كان بعد قولك الآن، إنماهو شيء كان قبل إخبارك الآن بما فعلت به من الإحسان، فذمه لك وقع بعد إحسانك إليه و [قبل: إخبارك الآن. فالإيمان في الآية ثابت قبل فعله ما تقتحم به العقبة وإن كان الإخبار وقع عنه بعد ذكر الاقتحام. وقيل: معناه: ثم ثبت على الإيمان، ففعله كان أولاً وهو

مؤمن، ثم ثبت على الإيمان ولم يبدله. وقوله: {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة}. قال ابن عباس: " بمرحمة الناس ". ثم قال: {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} أي: ذات اليمين في الجنة. ثم قال تعالى: {أولئك أَصْحَابُ الميمنة}. أي: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. ثم قال تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ}. قال ابن عباس: {مُّؤْصَدَةٌ}: " مطبقة " وقاله مجاهد والضحاك وقتادة. وقال قتادة: أطبقها الله عليهم، فلا ضوء فيها ولا فروج ولا خروج منها آخر الأبد.

والهمز وتركه في " موصدة " لغتان، يقال: آصدت (الباب) وأوصدته، بمعنى: [أطبقته]. وقوله: {بالوصيد} [الكهف: 18]، يدل على (معنى) أوصدت، ولو كان من آصدت لكان: " بالأصيد.

الشمس

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الشمس وضحاها مكية قوله تعالى: {والشمس وَضُحَاهَا} إلى آخرها. هذا قسم، يقسم ربنا بما شاء. والتقدير: ورب الشمس. وقوله: {وَضُحَاهَا} يعني: ونهار الشمس. قاله قتادة والفراء. وهو اختيار الطبري. وكذلك قوله: {والضحى} [الضحى: 1]، عند الفراء: النهار كله. وقال مجاهد: وضحاها: " وضوءها ". والضحى عند العرب إذا طلعت الشمس بعد ذلك. وهي مؤنثة مقصورة، فإذا ارتفع النهار قيل: الضحاء. فتح الضاد والمد مذكراً.

ثم قال تعالى: {والقمر إِذَا تَلاَهَا}. أي: إذا اتبع الشمس. وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تبعها القمر طالعها. هذا قول مجاهد وغيره. وقال قتادة: {إِذَا تَلاَهَا}، يعني " صبيحة " الهلال، فإذا سقطت الشمس رئي الهلال ". وقال ابن زيد: (القمر) يتلو الشمس نصف الشهر الأول، وتتلوه النصف الآخر، فأما النصف (الأول فهو يتلوها وتكون أمامه وهو وراءها، فإذا كان النصف) الآخر كان هو أمامها يقدمها، وتليه الشمس وقال الفراء: تلاها: أخذ منها. يذهب إلى أن القمر أخذ من ضوء الشمس. ثم قال تعالى: {والنهار إِذَا جَلاَّهَا}. أي: جحلى الشمس بإضاءته.

وقال قتادة: " جلاها ": " إذا غشيها النهار ". وقال الفراء: إذا جلى الظلمة، أي: أذهبها بضوء، فأضمر الظلمة في {جَلاَّهَا}، ولم يجر لها ذكر، وفيه بعد. وقيل: " جلاها "، أي: جلى الدنيا. وقيل: جلى الأرض. ثم قال تعالى: {والليل إِذَا يَغْشَاهَا}. أي: والليل إذا يغشى الشمس. وذلك حين [تغيب] فتظلم الآفاق. ثم قال: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا}. قال الطبري: " ما " بمعنى " من "، كما قال تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3]، فأتت

(" ما:) في موضع " من "، أي: ومن ولد، لأنه أقسم بآدم وولده. وروي عن مجاهد أنه قال: {وَمَا بَنَاهَا}: الله جل وعز [بنى] السماء. وقال المبرد: " [ما] " والفعل: مصدر، أي: والسماء [وبنائها]، ومثله في الاختلاف والتقدير: {والأرض وَمَا طَحَاهَا}. (ومعنى): {وَمَا طَحَاهَا}: بسطها يميناً وشمالاً ومن كل جانب. وقال ابن عباس): " وما خلق فيها "، " فما " - على هذا - على وجهها، ليست بمعنى " من "، ولا [هي]- مع الفعل - مصدر، بل بمعنى: " الذي ". وقال مجاهد: {طَحَاهَا} " دحاها ". وقال ابن زيد وأبو صالح: {طَحَاهَا} " بسطها ". وعن ابن عباس أيضاً:

{طَحَاهَا} " قسمها ". ثم قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}. أي: ومن سواها، يعني نفسه جل ذكره، لأنه سوى النفس فخلقها فعدل خلقها، ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدراً أي: ونفسي وتسويتها. ثم قال تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. [أي]: فبين لها ما ينبغي أن تأتي [وتذر] من خير أو شر. وقال ابن عبس: " بين الخير والشر "، وعنه: " علمها الطاعة والمعصية ". قل مجاهد: {فَأَلْهَمَهَا}: " عرفها ".

وقال قتادة: / بين لها ذلك وقال الضحاك وسفيان: " بين لها الطاعة والمعصية ". [وقال] ابن زيد: معناه: " جعل فيها فجورها وتقواها ". (و) عن النبي عليه السلام: " من كان الله خلقه لإحدى المنزلين [يهيشه] (لها). يريد السعادة والشقاء، ثم قال A: وتصديق بذلك في كتاب الله جل وعز: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} " وهذا فيه أعظم حجة على القدرية أن كل امرئ ميسر لما قدر عليه قبل أن يخلق، فمن كان قد قضى الله له السعادة يسر إلى عمل أهل السعادة، ومن كان (قد) قضى (الله) له بالشقاء يسر إلى عمل أهل

الشقوة، ولا يكون [ذلك منه] ظلماً لخلقه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون قد علم قبل خلقهم ما هم عاملون، فخلقهم ما تقدم من علمه بهم فجاؤوا على مثل ذلك: مؤمن وكافر، وشقي وسعيد. ثم قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}. أي: قد نجا وفاز من زكى نفسه فطهرها ونماها بالإيمان والعمل الصالح، والزكاة أصلها النماء والزيادة. وهذا جواب القسم على تقدير حذف اللام، اي: لقد أفلح من زكاها، وهو قول الأخفس. والتمام عنده على {زَكَّاهَا}. وقيل: إنه لا تقدير حذف في هذا، وهو جواب القسم بغير لام على التقديم والتأخير، (والتقدير): قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها، كما تقول: " قد نام زيد، والله، قد خرج الأمير، والله، وهذا قول أبي

حاتم. و (قد) قيل: معنى الآية: قد أفلح من زكى الله نفسه. قاله ابن زيد وابن طلحة وفيه بعد في العربية، لأنه لا يعود على " منم " [شيء] لصلتها، لأن الضمير المرفوع في " زكى ": " الله "، والهاء للنفس، ويبعد أن تجعل " من " (للنفس، ولكن يجوز ذلك على حيلة، وهي أن تجعل " من ") للفرقة أو الطائفة ونحوها، فتكون الهاء في " زكاها " تعود على " من " على المعنى، [فيكون المعنى]: قد أفلح الفرقة التي [طهرها] الله للتوفيق لطاعته.

والأول هو قول عكرمة وقتادة، وهو حسن، لا يحتاج إلى حيلة، يكون الضمير في " زكى " يعود على " من "، والهاء تعود على النفس والتقدير: قد أفلح الإنسان الذي طهر نفسه بالعمل الصالح. وقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}. أي: وقد خسر النجاء والفوز من دسى نفسه بالعمل الخبيث والكفر، فوضع منها وأوردها غضب الله. وقيل: معناه وقد خسر من [دسى] الله نفسه فخذله حتى مات على كفره. وتكون " من " (أيضاً) - على هذا القول - للفرقة أو الطائفة لتعود الهاء على " من ". وأصله: [دسها]، لأنه من دس [ودست]، ولكن أبدل من

إحدى السينين ياء، كما قالو: " قصَّيت أظفاري "، بمعنى: قصصت. وكما قالوا: [" تظنيت هذا الأمر " بمعنى: تظننته]. وكما قال العجاج: تَقَضيِّ البازي إذا البازي كسر. يريد: تَقَضُّضَ البازي، فأبدل من الضاد الثانية ياء، وكسر الأول لتصح. وقال آخر: رأت رجلاً إيما إذا الشمس عارضت. (يريد " أما "، فأبدل من الميم الأول ياء). ثم قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ}. أي: كذبت ثمود - وهم قوم صالح - بطغيانهم، أي: بعذابهم الذي أوعدهم به صالح. وسمي العذاب طغياناً، لأنه

طغى عليهم وعتا فأهلكهم كما قال: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5]. [ي: بالعذاب الذي اسمه الطاغية]. ودل على ذلك قوله بعد ذلك: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6 ي، فذكر العذاب الذي عذب به [الإنسان]، وسماه. قال ابن عباس: اسم العذاب إلى جاء ثمود: الطغوى، (فقال: كذبت ثمود بعذابها، وتقديره: بعذاب) طغواها. وقال محمد بن كعب القرظي: معناه: كذبت ثمود بعصيتهم الله. فيكون " طغوى " بمعنى: طغيان، وهما مصدران، لكن أتى هنا على [فعلى]، لأنه أشبه برؤوس الآتي. وعنه أيضاً: [أن] معناه: كذبت ثمود بأجمعها. رواه ابن وهب عنه.

ثم قال تعالى: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا}. أي: إذ ثار أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف. وحكى الفراء أن {أَشْقَاهَا} [لاثنين]، قدار وآخر، وشبهه بقول (الشاعر): ألا بكر " النَّاعي "، [بخير] بن آسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد فقال " بخير "، ثم أتى باثنين، وشبهه (بقولهم): " هذان أفضل الناس، وهذان خيرُ الناس. وفي هذا بعد/ لأن ظاهر الخطاب لا يخرج على حده إلا بدليل ولا دليل في

الآية (بدل) على أهما اثنان. وقد قال النبي A في خبر صالح وناقته: " انتدب لها رجل " ولم يقل: رجلان. وقال في خطبة (له) إذا ذكر الناقة والذي عقرها - قال: {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا}، انبعث لها رجل عزيز عارم ممنع في رهطه مثل أبي زمعة. قال قتادة: " إذا انبعث أشقاها " " احيمر ثمود ".

ثم قال تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا}. أي: احذروا ناقة الله وسقياها، أي: [لا تؤذوها] ولا تحولوا بينها وبين شربها لكم يوم، ولها يوم. وقال قتادة: " ناقة الله وسقياها " أي: " [قسم] الله الذي قسم لها من هذا الماء ". قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}. أي: فكذبوا صالحاً في الخبر الذي أخبرهم عن الله أن للناقة شرب، يوم، ولهم شرب يوم (معلوم)، وأن الله ينزل بهم نقمته إن عقروها، وذلك أنهم كانوا سلما للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم، ثم بدا هلم فكذبوا صالحاً في ما قال لهم، وأجمعوا على عقرها ومنعها الشرب، وعن رضاء جميعهم عقرها من عقرها، فلذلك نسب العقر إلى جميعهم (وإن كان عاقرها واحد.، لأنهم لما رضوا بذلك كانوا كالفاعلين له فنسب التكذيب والعقر إلى جميعهم). ثم قال تعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا}.

أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً فلم يفلت منهم أحد. ودل " دمدم " على الدمدمة. وقال الفراء: {فَسَوَّاهَا} [أي]: فسوى بينهم العقوبة، فلم يبق منهم أحداً، ومعنى: " دمدم ": دمر. وقال الفراء: أرجف. وذنبهم: هو تكذيبهم لصالح وعقرهم للناقة، ووحدة، لأنه مصدر. قال قتادة: ذكر (لنا) أن أحيمر (ثمود أبى) أن يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، فلما [اشترك] القوم في عقرها، دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها. وقال الحسن: " لما عقروا الناقة طلبوا فصيلها، فصار في قارة

الجبال، فقطع الله D قلوبهم ". ثم قال تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}. أي: فلا يخاف الله تبعة دمدمته عليهم، قال ابن عباس: " لا يخاف الله من أحد تابعة ". وقال الحسن: ذلك ربنا لا يخاف منهم تبعة فيما صنع بهم. وهو قول مجاهد. [فالضمير] في " يخاف " لله جل ذكره. وقال الضحاك: معناه: [فلم يخف الذي عقرها عقبى فعله. وهو قول السدي. فالضمير في " يخاف " للعاقر. وقال إبراهيم بن عرفة: من قرأ بالفاء: " فلا يخاف " فالضمير في " يخاف ": الله،

[لا غيرة]. ومن قرأ: " ولا يخاف "، بالواو، فالضمير للعاقر. وقال غيره: يجوز أن يكون لله أيضاً على قراءة من [قرأ] بالواو، فإذا جعلته للعاقر لم تقف على {فَسَوَّاهَا}، وإذا جعلته لله، وقفت على {فَسَوَّاهَا}، وكذلك [يقف] على {فَسَوَّاهَا} من قرأ بالفاء، لأن الضمير لله جل ذكره.

الليل

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والليل إذا يغشى مكية قوله تعالى: {والليل إِذَا يغشى} إلى آخرها. معناه: ورب الليل إذا غشى النهار بظلمته فأذهب ضوءه. وقيل: المعنى: يغشى كل شيء بظلمته فيصير له كالغشاء. ثم قال تعالى: {والنهار إِذَا تجلى}. أي: (إذا) أضاء وأظهر للأبصار ما أخفته ظلمة الليل. وكان قتادة يذهب - فيما أقسم الله به من الأشياء - أنه أقسم به العظم حاله عنده.

(ثم قال تعالى): {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى}. قيل: " ما " بمعنى " من "، يريد نفسه تعالى جل ذكره. وقيل: " ما " والفعل مصدر، أي: وخلق الذكر والأنثى. (وروى ابن مسعود أن النبي A قرأ: والذكر والأنثى) بالخفض بغير " ما ". وأجاز الفراء: وما خلق الذكر والأنثى بالخفض على البدل من " ما ". وقال الأخفش: " ما " بمعنى " الذي "، جعلها لمن يعقل. وروي عن أبي [عمرو] أنه قال: أهل مكة يقولون للرعد: سبحان من سبحت له. وقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} هذا جواب القسم أي: إن عملكم لمختلف أيها الناس، لأن منكم الكافر والمؤمن، والعاصي والمطيع.

وقوله: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: من أعطى في سبيل الله ومرضاته، واتقى الله فاجتنب المعاصي، وصدق بالجنة. قاله مجاهد. وقال ابن عباس: من أعطي ما عنده من الفضل واتقى ربه. وقال قتادة: من أعطى حق الله واتقى محارمه. وقال عباس: - وهو مروي عن مجاهعد أيضاً -. {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي: وصدق بالخلف من الله جل وعز على نفقته في ذات الله. وقال الضحاك: {بالحسنى} " بـ لا إله إلا الله " وروي ذلك (أيضاً) عن ابن عباس، وقاله [أبو] عبد الرحمن السلمي.

وقال قتادة: {وَصَدَّقَ بالحسنى} [أي]: بموعود الله جل وعز على نفقته، فعمل/ لذلك الموعود الذي وعده الله. وروى أبو الدرداء أن النبي A قال: " ما من يوم غربت فيه شمسه إلا [وبجنبيها] ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين - الجن والإنس - يقولان: الله عجل لمنفق خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً وأنزل الله جل وعز في ذلك من القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} ".

(وروى الزبير أن النبي A قال " ما من صباح يصبح إلا وصارخ يصرخ: أيكها الخلائق، سبحوا القدوس ". وروى أبو ذر) أن النبي A قال: " ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده. وما من الله على عبده بمثل أن يلهمه ذكره ". وروي أنه ما من يوم إلا وهو ينادي: أنا يوم جديد، وأنا عليكم شهيد (ابن آدم)، إني لن [أمر بك] أبداً، فاتق الله واعمل في خيراً. فإذا هو أمسى قال: اللهم لا تردني إلى الدنيا أبداً. وروي أن هذه الآية (نزلت) في أبي بكر الصديق Bهـ، روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: (كان) أبو بكر (الصديق Bهـ) يعتق على الإسلام بمكة،

فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه: أي بني، أراك تعتق أناساً ضعفاء، ولو أنك أعتقت رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟ فقال: إني أريد ما عند الله. قال: فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآية. وروى محمد من إسحاق أن أبا بكر Bهـ اشترى تسعة كانوا في أيدي المشركين، فأعتقهم لله جل وعز. فأنزل الله: فأما من [أعطى]. . . الآية. و (معنى) {لليسرى}: للحال اليسرى، أو [الخلة] اليسرى، وهي العمل بما يرضاها الله. ثم قال تعالى: {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى}. أي: بخل بالنفقة في سبيل الله، واستغنى عن ربه فلم يرغب [في العمل] بطاعته وما يوجب له رضاء ربه.

قال ابن عباس: هو " من أغناه الله [فبخل] بالزكاة. وقال قتادة: من بخل عن الله واستغنى في نفسه عن ربه. والاختلاف في {وَكَذَّبَ بالحسنى} على نحو الاختلاف في: {وَصَدَّقَ بالحسنى}. وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي: [للخلة] العسرى في الدنيا، وذلك العمل بالمعاصي. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: " كنا في جنازة في بقيع الغرقد، [فأتانا] رسول الله A فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس رأسه، فجعل [ينكت] بمخصرته (في الأرض)، ثم قال: ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب

مكانها من الجنة أو النار [قيل]: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟! فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة (ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء)، فقال A: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة [فييسرون] إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء [فييسرون] إلى 'مل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآيتين ". وقال الضحاك: للعسرى: للنار. والتيسير إنما يكون في الخير، وإنما جاء هنا للشر على معنى: الذي يقوم لهم مقام (التيسير). العسرى: مثل: " فبشرهم بعذاب أليم ".

ومثله ما أنشد سيبويه: تحيَّهُ بَيْنِهِم ضَرْبٌ وَجِيعُ. وقال الفراء: لما وقع للخير تيسير جاز أن يقع في الشر مثله، ولا يكون ذلك إلا إذا اجتمع الخير والشر. ثم قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} أي: وأي شيء يغني عنه مال الذي بخل به إذا هلك وتركه. قال أبو صالح وقتادة: (إذا ترى)، (أي): إذا سقط في النار فهوى فيها. وقال قتادة: إذا ترى: إذا مات. ثم قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى}. (أي): إن علينا بيان الحق من الباطل. قال قتادة: على الله بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.

بمعنى الآية - على قوله -: إن علينا للهدى والضلالة. ولكن ترك ذكر الضلالة [للدلالة] عليه، كما قال: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81]، وترك ذكر البرد لدلالة الحر عليه. ومثله ما أنشد سيبويه: فما أدري إذا [يممت] / وجهاً ... (اريد) الخير أيهما يليني فحذف الشر لدلالة الخير عليه. فالأشياء تدل على أضدادها وإن لم تذكر الأضداد، والتقدير: أريد الخير وأكره الشر. وقيل معنى الآية: إن علينا سبيل من [سلك] (سبيل) الهدى. أي: من أخذ سبيل فعلى الله سبيله، كما قال: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14] و {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41].

وكما قال: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9] أي: من أراد الله عز وجل فهو قاصد للسبيل هذا قول الفراء. وقال في قوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى}، أي: (إن) لنا ثواب هذه وثواب هذه. وقال غيره: معناه: وإن لنا ملك في الدنيا والآخرة، نعطي من نشاء ونحرم من نشاء. والمعنى أنه يوفق من [يشاء] من خلقه إلى طاعته في الدنيا فيكرمه بذلك في الآخرة، [ويخذل] من [يشاء] من خلقه عن طاعته في الدنيا، فيهينه بذلك في الآخرة.

ثم قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} أي: أنذرتكم أيها الناس ناراً تتوقد وتتوهج، أعدت لمن عصى الله كفر به. ثم قال تعالى: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} أي: لا يدخلها ويصلى سعيرها إلا الأشقى الذي كذب بآيات الله وأعرض عنها. كان أبو هريرة يقول: لتدخلن الجنة إلا من أبى: قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟! فقال: الذي كذب وتولى. والمرجئة الذين يقولون: " [الإيمان] قول بلا عمل "، يتعلقون بهذه الآية، وفي تقديرها أقوال، منها: أن المعنى لا يصليها إلا الأشقى، (و) {الذي كَذَّبَ وتولى}. فتكون الواو مضمرة.

حكى المبرد وغيره أن العرب تقول: أكلت خبزاً لحماً [تمراً]، فيحذفون حرف العطف. وأنشد أبو زيد: كيف أصبحت كيف أمسيت ... مما يثبت الود في فؤاد الكريم وإضمار الواو قبيح ليس بكثير في كلام العرب، وفيه نقض للأصول وخروج عن الظاهر. (وقيل: التقدير: لا يصلاها إلا) الأشقى من الكفار والفساق، ثم أعاد ذكر الكفار - خاصة - تنبيهاً عليهم، لأنهم أعظم ذنباً من الفساق. وقيل: التقدير: فأنذرتكم نارا هذه صفتها. وقيل: التقدير: لا يصلاها إلا) أشقى أهل النار، وأشقاهم: الكفار. فدل هذا على أن غير الكفار يدخلون النار بذنوبهم. [وقيل: إن النار طبقات وصفوف مختلفة في شدة العذاب وهوله، فأعملنا الله في هذه الآية أن هذا الصنف من النار التي تتوهج وتتوقد ولا يدخله إلا الذين كذبوا وتولوا عن الإيمان، وثم أصناف من ذلك عذاب النار دون ذلك يدخلها غير هذا

الصنف. وأقل عذاب النار عذاب أليم، أجارنا الله منها]. وقيل: المعنى: لا يخلد فيها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فهذا [للكفار] بإجماع خاصة. وهذا القول أحسن الأقوال عندي. وقال الفراء: {الذي كَذَّبَ} معناه: [الذي] قصر عما أمر به، ليس معناه جحد، وهو مثل قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2]، أي، تقصير ولا تخلف. ثم قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} أي: وسيوقى دخول النار وصليها التقي. " فأفعل " في موضع " فعيل ". ثم وصف التقي فقال: {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي: يعطي ماله في الدنيا يتطهر بذلك من ذنوبه. ثم قالت: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي: وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يعطي ماله يتزكى به [عند الله] من نعمة يجازيه عليها.

أي: ليس يعطي ما يعطي مجازاة لأحد [على] يد له عنده، ولا مكافأة على نعمة سبقت قبله، لكن يعطي ابتغاء وجه ربه الأعلى و " إلا " في هذا المعنى " لكن ". وقيل: المعنى: وماله عند أحد من أنفق من نعمة يلتمس ثوابها، فيكون على القلب. وهذا أحد قولي الفراء. ومثله قول النابغة: وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... [على وعل من ذي المطارة عاقل] يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ (على) مخافتي. وفيه بعد، لأن كتاب الله لا يحمل على القلب إلا إذا لم يكن حمله إلا عليه. ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق Bهـ.

قال ذلك قتادة وابن جبير وغيرهما. قال هشام بن عروة عن أبيه: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفاً فأنفقها، فأنزل الله جل ذكره فيه: {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى}. . . إلى قوله: {يرضى}. قال ابن جبير: أعتق أبو بكر ناساً ستة أو سبعة لم يلتمس مِنهم جزاء ولا شكوراً. منهم: بلال وعامر بن فهيرة. وقوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} أي: [ولسوف] يرضى في الآخرة هذا الذي يؤتي ماله يتزكى.

الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والضحى مكية قوله تعالى: {والضحى * والليل إِذَا سجى} إلى آخرها. أقسم الله جل ذكره بالضحى، وهو النهار كله عند الفراء. وعند غيره: هو أول (النهار)، قال قتادة: الضحى: " ساعة من ساعات النهار "، والمعنى: ورب الضحى، وخالق الضحى، ونحوه. وقوله: {إِذَا سجى} قال ابن عباس: {سجى}: أقبل. وعنه أيضاً: " سجى ": ذهب. وقال مجاهد: {سجى} استوى. وقال قتادة: {سجى}: " سكن بالخلق ". وقال الضحاك: {سجى}: استقر وسكن. وهو قول ابن زيد.

ثم قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ/ وَمَا قلى}. هذا جواب القسم، أي: ما تركك ربك يا محمد وما أبغضك. فالمفعول من " قلى " محذوف. وروي أن الوحي أبطأ على النبي A فقالت قريش: قد ودع محمداً ربه وقلاه، فأنزل الله جل ذكره: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ/ وَمَا قلى}. وروى هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: أبطأ جبريل عن النبي A، فقالت له خديجة: أحسب ربك قد [قلاك]، فأنزل الله: {والضحى} إلى آخرها. وقال ابن عباس: أري النبي A ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك، فأنزل الله {والضحى} إلى قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} (قال) فأعطاه الله ألف قصر في الجنة، ترابها المسك في كل قصر ما ينبغي (له) من الأزواج والخدم. ثم قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي: ولنعيم الآخرة خير لك من نكد (الدنيا).

(ثم) قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي: ولسوف يعطيط يا محمد ربك في الآخرة من فواضل نعمه حتى ترضى. قال ابن عباس: عرض على النبي A ما هو مفتوح على أمته من بعد، فسر بذلك، فانزل الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}، قال: فأعطاه (الله) ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك، وفيها ما يصلحها. وعن ابن عباس أنه قال: ما رضي محمد A أن يدخل أحد من أهل بيته النار. وروى جابر من عبد الله " أن النبي A دخل على بنته فاطمة وعليها كساء (من [جلة]) الإبل وهي تطحن بيدها، فلما رآها دمعت عيناه، قال: يا فاطمة، تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة، فأنزل الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} ".

[وروي عن بعض أن النبي A [ قال]: " ليس في القرآن أرجى من قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى}]، ولا يرضى رسول الله A أن يدخل أحد من أمته النار ". هذا معنى قوله المروي عنه. ثم قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى}. أي: كنت يا محمد يتيماً في حجر عمك أبي طالب فجعل الله لك مأوى تأوي إليه، ومنزلاً تنزله. وقيل: كنت يتيماً فآواك إلى عمك أبي طالب. {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى}. أي: ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم فهداك (للذي أنت عليه. وقيل: وجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها. وقال الفراء: معناه ووجدك في قوم ضلال فهداك) للإيمان.

وقيل: ضالاً عن الشريعة. وقيل: ضالاً، أي: منسوباً إلى الضلالة. وقيل: معنى فهدى: فبين أمرك بالبراهين. ثم قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى}. أي: فقيراً فأغناك، يقال: عال يعيل عيلة: إذا افتقر، وأعال يعيل: إذا كثر عياله. وفي مصحف عبد الله: " ووجدك عديماً فأغنى ". وهذه كلها نعم من الله على النبي A يذكه بها وينبهه على شكرها ويعددها عليه ليذكرها. ثم قال تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ}. أي: لا تظلمه فتذهب بحقه استضعافاً منك له. قال قتادة: {فَلاَ تَقْهَرْ}: فلا تظلم. وفي مصحف عبد الله: " فلا تكهر ". وقال الأخفش: هما لغتان بمعنى، وقال غيره: معنى [تكهر]: لا تشدد عليه.

ثم قال تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ}. أي: وأما من سألك من ذوي الحاجة فلا تنهره، (ولكن أعطه، أو رده رداً جميلاً. قال مجاهد: " فلا تنهر ": فلا تغضبه. [قال الحسن: ليس سائل الطعام والشراب، ولكنه سائل العلم إذا أتاك، فأنزل الله كيف، ليفهم عنك وتفهم عنه]. ثم قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}. قال مجاهد: بنعمة ربك فحدث، أي: بالنبوة التي أعطاكها، فاذكره. قال [أبو نضرة]: " كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها ". وفي الحديث: " إن الله يجب أن يرى أثر نعمته على عبده ".

فالمعنى: وأما بنعمة ربك يا محمد فحدث الناس بها وأظهرها وأحمد الله عليها، فإن ذلك من الشكر، وهو لفظ خاص للنبي A، ( عام) في جميع أمته.

الشرح

بسم الله الرحمن الرحيم سورة أَلَمْ نَشْرَحْ مكية قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} إلى أخرها. هذه ألف استفهام في اللفظ ومعناها التوقيف على النعم والآلاء، والمعنى: ألم نلين لك يا محمد صدرك ونوسعه لك للهدى ووعي الحكمة وقبول الإيمان؟ ومعنى: نشرح: [نفسح] ونوسع.

وروي أنها [لما] نزلت قيل: " يا رسول الله، أينشرح الصدر؟ قال: نعم/ [وينفسح]. قالوا: يا رسول الله، ألذلك علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزول الفوت ". والصدر محل العلم والقرآن، بدليل قوله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} [العنكبوت: 49]. والمراد به القلب، لأنه وعاء الفهم (والعلم). ولكن ذكر الصدر لقربه من القلب وامتزاجه به. ثم قال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}. أي: وغفرنا لك ما سلف من ذنبك، فحططنا عنك ثقل آثام الجاهلية.

وفي قراءة عبد الله: وحللنا عنك ذنبك. {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي: [أثقل] ظهرك وأوهنه. قال قتادة: كانت للنبي A ذنوب أثقلته، فغفرها الله D له، يعني بذلك: ما كان قبل أن ينبأ. وهو قول ابن زيد. ثم قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. أي: لا أذكر إلا ذكرت معي. وذلك قول المؤمنين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. قال مجاهد: (وهو) قول المؤذن: أشهد أن لا إله [إلا الله]، وأشهد

محمداً رسول الله. وقال قتادة: ورفعنا لك ذكر في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي A قال: " أتاني جبريل [عليه] السلام فقال: إن ربي وربك يقول: كيف رفعت (ذكرك)؟ قال: الله (أعلم، (قال): إذا ذكرت ذكرت معي ". ثم قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}. أي: فإن مع الشدة التي) أنت فيها من جهاد قومك رخاء وفرجاً بأن يظفرك الله بهم حتى ينقادوا إلى الحق أو السيف.

ولما نزلت هذه الآية، وبشر النبي A ( بها) أصحابه وقال: لن يغب عسر يسرين. قال الحسن: " قال A لأصحابه: " أبشروا، أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين ". قال ابن مسعود: " لو دخل العسر في جحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه "، ثم قرأ الآيةز وإنما كان هذا، لأن العسر (الأول بالألف واللام، ثم كرر كذلك، فهو واليسر نكرة، فلما كرر كان الثاني غير الأول، فصار العسر) واحداً، واليسر يسرين.

وقد قيل: إن معنى التكرير التوكيد. وقيل: الأول للحال، والثاني للاستقبال. ثم قال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب * وإلى رَبِّكَ فارغب}. قال ابن عباس: معناه: فإذا فرغت من صلاتك فارغب إلى ربك في الدعاء، وانصب إليه. وقال مجاهد: معناه: فإذا قمت إلى صلاتك فانصب في حاجتك إلى ربك. وقال الضحاك: فإذا فرغت من صلاتك المكتوبة قبل أن تسلم فانصب. [وقال] قتادة: أمره تعالى إذا فرغ من صلاته أن يبالغ في دعائه. وقال الحسن: معناه: إن الله أمر نبيه إذا فرغ من جهاد عدوه أن يجتهد في

الدعاء والعبادة. وهو قول ابن زيد. وعن مجاهد أن معناه: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عبادة ربك. وقال ابن مسعود: فانصب في قيام الليل. فيكون هذا على قوله - منسوخاً بما نسخ قيام الليل. وقوله: {وإلى رَبِّكَ فارغب} أي: واجعل رغبتك إلى ربك دون من سواه من خلقه. وعن مجاهد: " وإلى ربك فارغب "، أي: " إذا قمت إلى الصلاة ". وقيل: معنى الآية: إذا فرغت من فرائضك فانصب في النوافل " وارغب " إلى ربك دون غيره.

التين

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والتين مكية قوله تعالى: {والتين والزيتون}. . . إلى آخرها. قال الحسن: هو تينكم هذا الذي يؤكل، وزيتونكم الذي يعصر. وهو قول عكرمة ومجاهد، وهو اختيار الطبري. وقال كعب الأحبار: التين مسجد دمشق، والزيتون بيت المقدس. وهو قول ابن زيد.

وقال قتادة: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: [(الجبل) الذي عليه] بيت المقدس. وعن ابن عباس أن " التين مسجد نوح، والزيتون مسجد (بيت المقدس "). وعن عكرمة أنهما جبلان بالشام. وقال محمد بن كعب: التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون: مسجد) إيلياء. والتقدير على جميع هذه الأقوال: ورب التين والزيتون. وقوله: {وَطُورِ سِينِينَ}. قال قتادة: طور سينين: مسجد عيسى عليه السلام. وقال ابن عباس والحسن: هو الجبل، وهو الطور. وقال عكرمة: الطور: الجبل، " سينين ": حسن في لغة الحبشة.

وقال مجاهد: هو جبل. وكذلك روي عن عمر Bهـ. وعن مجاهد أن " الطور " جبل، و " سينين ": مبارك حسن. وقاله قتادة: وقال: هو " جبل بالشام، مبارك حسن ". ويلزم على هذا التأويل/ أن ينوّن طور، [لأنه لا يضاف إلى نعته]. وقيل: {سِينِينَ} هو قوله: " طور سيناء " أتى بلغتين. والعرب تغير الأسماء الأعجمية. والطور في اللغة جبل نو النبات، فيكون قد أضيف إلى سنين للتعريف. [وبعيد] أن يكون " سينين " نعتاً ل " طور ".

وكان الأخفش يقول: " طور ": الجبل، " وسينين ": شجر، [واحده: سينينة]. فكأنه قال: وجبل شجر. ثم قال تعالى: {وهذا البلد الأمين}. يعني: مكة، والأمين: بمعنى الأمن، أي: الأمن من أعدائه أن يحاربوا أهله (فيه) أو يغزوهم. وهوقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67]. ثم قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. هذا جواب القسم، والمعنى: لقد خلقنا الإنسان في أعدل خلق وأحسن صورة. وقيل: معناه: بلغنا به بعد خلقه استواء شبابه وقوته. وذلك أحسن ما يكون، وأعدل ما يكون، وأقوى ما يكون. وقال عكرمة: {في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هو " الشاب القوي الجلد ".

وقيل: يعني: بالإنسان (ها) هنا (آدم) في أحسن صورة. {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} يعني: الكافر من ولده. وعن ابن عباس أن معناه أنه خلق معتدلاً مقوماً، وليس شيء من الحيوان إلا خلق منكباً على وجهه إلا الإنسان. وتقدير الكلام: لقد خلقنا الإنسان في تقويم أحسن تقويم، ثم حذف الموصوف وقامت الصفة مقامه. ثم قال: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: إلى ارذل العمر من الكبر. [قاله] قتادة والضحاك والنخعي. وروي أنها نزلت في نفر (كبروا على عهد رسول الله A) فسفهت عقولهم، فسئل عنهم النبي A، فأنزل الله فيهم: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. أي: لهم أجرهم [الذي] عملوا قبل أن تذهب عقولهم، ومثله جار عليهم

بعد ذهاب عقولهم. وقال أبو العالية: معناه: ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة، في صورة خنزير. وهو قول مجاهد: والحسن وابن زيد. ويكون الاستثناء على هذا القول معناه: إلا الذين آمنوا فلهم الجنة. والإنسان: اسم للجنس، فلذلك وقع الاستثناء منه. ويدل على أنه بمعنى الجماعة قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ولو أريد به الواحد لقال: " أسفل سافل ". تقول: " هذا أفضل قائم "، ولا تقول: " أفضل قائمين "، لأن المشار إليه واحد. ولو قلت: " هؤلاء أفضل قائمين " حسن، لأن الأول جمع. وقال عكرمة: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: أرذل العمر، لكنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. يريد إذا قرأه وهو كبير هرم، فلم يرد إلى أرذل العمر. واستدل على ذلك بقوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} [النحل: 70]. ومن قرأ القرآن فهو عالم بأشياء، فيكون قوله: " أسفل السافلين " على هذا القول الخاص من الناس. ولذلك، استثنى منهم

الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم لا يردون إلى أرذل العمر وإن كبروا وهرموا. وقيل: إن قوله: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ} استثناء منقطع، بدلالة حسن " أن " مع " إلا " وتقديره: إلا (أن) الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم أجر غير ممنون بعد أن [يردوا] (إلى) أرذل العمر، أي: أجرهم جار عليهم على مثال أعمالهم في صحتهم. قال ابن عباس: {إِلاَّ الذينءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. هو إذا كان الرجل يعمل بطاعة الله جل وعز في شبابه كله ثم كبر حتى ذهب عقله، كتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمل في شيببته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله من أجل أنه مؤمن كان يطيع الله في صحته وشبيبته.

وقال إبراهيم: إذا بلغ المؤمن أرذل العمر، كتب له أحسن ما كان يعمل في شبابه وصحته، فهو قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}. وقال ابن عباس أيضاً: معناه: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم تكتب لهم حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وقال: هم الذين أدركهم الكبر. لا يؤخذون بعمل عملوه في كبرهم وهم لا يعقلون. وروي في معنى هذا الاستثناء أن العبد إذا كان في شبابه كثير فعل الخير، ثم كبر وضعف عما كان يعمل، أجرى الله أجر ذلك العمل عليه تفضلاً منه. ومعنى: {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: غير منقطع. وقيل: معناه لا يمن بذلك عليهم. والأول أحسن. وقال عكرمةك يوفيهم الله أجرهم ولا يؤاخذهم إذا ردوا إلى أرذل العمر.

وقال قتادة: معناه: أن من أدركه الكبر والهرم وكان يعمل عملاً صالحاً، كان له مثل أجره. وقال ابن عباس: {غَيْرُ مَمْنُونٍ}: غير منقوص. وقال مجاهد وإبراهيم: " غير [محسوب] ". وقيل: غير مقطوع. وقيل: لا يمن عليهم (به). ثم قال تعالى: / {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين}. قال الفراء والأخفش: " ما " بمعنى " من "، والتقدير: فمن يكذبك يا محمد بالجزاء والبعث بعد هذه الحجج والبراهين والآيات؟! وهو اختيار الطبري. كأنه قال: فمن يقدر على تكذيبك - يا محمد -[بأن] الناس يدانون بأعمالهم ويجازون ويحاسبون.؟!

وقيل: " ما " على بابها. والمعنى: فما شيء يكذبك أيها المكذب؟! أي: فأي شيء يحملك على التكذيب بالجزاء والبعث بعد ظهور الآيات والبراهين؟! فيكون " يكذب - على هذين القولين - لغير النبي A. وهو قول مجاهد، وغيره. وقال قتادة: عني به النبي A، وهو معنى القول الأول أنه خطاب النبي A، ومعناه: استيقن - مع جاءك من الله من البيان - أني الله أحكم الحاكمين. قال ابن عباس: (معناه): أليس الله - يا محمد - بأحكم من حكم؟! قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله عليه السلام كان إذا قرأ هذا قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ويقول: " بلى " في آخر القيامة، ويقول في آخر " والمرسلات ": آمنت بالله وبما أنزل. وقال بن جبير: كان يقول: " سبحانك اللهم، وبلى " في آخر " والتين ".

العلق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق مكية قوله: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} إلى آخر السورة. أي: اقرأ يا محمد بذكر ربك الذي خلق - ثم بين ما خلق، فقال: {خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ}. أي: من الدم والمراد: من علقة: " وعلق " جمع " علقة "، فجمع: لأن الإنسان بمعنى الجماعة. ومعنى الباء اللزوم، أي: ألزم القرءاة بذكر ربك.

ثم قال: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} أي: الأكرم من كل شيء. روى الزهري عن عروة عن عائشة Bها أنها قالت: أول ما ابتدئ به رسول الله A من الوحي: الرؤيا [الصادقة]، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بِحَراء يَتَحَنَّثُ فيه اللَّيَالي ذَواتِ العَدَدِ قبل أن يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ فَيَتَزَوَّدُ لمثلها حَتَّى [فَجِئَهُ] الحقَّ فَأَتَاه، فقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنتَ رسولُ الله. قالَ رسولُ الله: فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتَيَّ وأنا قائِمٌ ثُمَّ رَجِعْتُ يَرْجِفُ فُؤَدِي، ثُمَّ دَخَلْتُ - يريد على خديجة - فَقُلْتُ: زَمِّلُوني، زَمِّلُوني، حتى ذهب عني الروع ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. (قال): فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل،

فتبدى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد، أنا جبرئيل، وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ. قلت: ما أقرا؟ فأخذني [فغطني] ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} فقرأت، فأتيت خديدة فقلت: لقد أشفقت على نفسي، وأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يحزنك الله أبداً. والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتصبر على نوائب الحق. قال: ثم انطلقت بي خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد فقالت: امسع من ابن أخيك. فسألني، فأخبرته خبري. فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ابن عمران. ليتني أكون فيها [جذعاً]، ليتني أكون حياً [حين] يخرجك قومك.

قلت: [أمخرجي هم]؟! قال: نعم، إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عودي. ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن - بعد " أقرأ " - {[ن] والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 - 2]. حتى قرأ (إلى) {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم: 5]، (و) {يا أيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1 - 2]. {والضحى * والليل إِذَا سجى} [الضحى: 1 - 2]. قال مجاهد وعطاء بن يسار وعبيد بن عمير وأبو رجاء [العطاردي]: أول

ما نزل على النبي A: { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ}، كقول عائشة Bهـ. والرواية أنه إنما عليه من {اقرأ باسم رَبِّكَ} إلى قوله {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ}، ثم نزل باقيها بعد: {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] و {يا أيها المزمل} [المزمل: 1]. وقوله: {الذى عَلَّمَ بالقلم} أي: علم خلقه الكتاب والخط. قال قتادة: القلم نعمة من الله جل وعز عظيمة، لولا ذلك لم يتم أمر ولم يصلح عيش. ثم قال: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي: علمه الخط بالقلم وغيره، ولم يكن يعلمه. ثم قال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى}. قيل: " كلا " ردع ورد، ومعناها: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان! [ينعم] عليه ربه بتسويته خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم ثم يكفر به! ثم بين كفره من أين أتاه، فقال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى}.

أي: إن الإنسان إذا أحس بالغنى طغى واستكبر وكفر. فيوقف على " كلا " [على] هذا التأويل. قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا. فأما طالب العلم فيزداد خيفة. قال الله/: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، وأما طالب الدنيا فيزداد طغيانا. قال الله: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى}. ويجوز أن [يكون] " كلا " بمعنى: " ألا "، فيبتدأ بها لأن المعنى الذي يكون رداً لم يظهر لفظه في الآية، [فيبعد] أن [تكون] ردا لما (لم) ينص قبلها.

[" ورأى "] هاهنا من رؤية القلب، دل على ذلك [تعدي] [الضمير] إلى المضمر، ولو كان من رؤية العين لم يجز " رآه "، والفاعل هو المفعول. وإنما كان يقال: " رأى نفسه "، " كضرب نفسه ". والمفعول الثاني [" الرأى "]: " استغنى ". ثم قال تعالى: {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى}. أي: إن إلى ربك - يا محمد - مرجع هذا الإنسان، فذائق من أليم عقابه ما لا طاقة لا به. ثم قال: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى}. روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، وذلك أنه قال: لئن رأيت [محمداً] يصلي عند المقام لأَطَأَنَّ رقبته. وكان ينهى رسول الله A أن يطي. فالمعنى: أرأيت يا محمد أبا جهل الذي ينهاك عن الصلاة؟! يعجب نبيه من جهل أبي جهل وجرأته. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال قتادة: كان يقال: لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل.

والجواب محذوف (لعلم [السامع]. فالمعنى والتقدير: أرأيت، يا محمد، الذي ينهى عبدا إذا صلى، أمصيب هو، أم هو آمن من العقوبة؟! والمعنى عند سيبويه: أخبروني عن هذا. وقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى * أَوْ أَمَرَ بالتقوى}. أي: أرأيت إن كان محمد على الهدى والرشاد في صلاته لربه، أليس الناهي هالكاً ملعوناً؟! ثم قل تعالى: {أَوْ أَمَرَ بالتقوى}. أي: أو أمر محمد هذا الذي ينهاه عن الصلاة [بالتقوى] فلم يقبل منه، أليس هو مالكاً معلوناً؟! ثم قال تعالى: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى}. أي: إن كذب أبو جهل بما جاء به محمد A وأعرض عنه وأدبر فلم يصدقه. {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى}. [أي: ألم يعلم] أبو جهل بأن الله يراه فما صنع من نهيه عن الصلاة وتكذيبه وإعراضه عما جاء به محمد A فيخاف أن تنزل به عقوبة من الله؟!

ثم قال تعالى: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ}. قيل: " كلا " رد وردع، والمعنى: لا يتهيأ لأبي جهل أن يتم له نهي النبي A عن صلاته وعبادته ربه. وقال الطبري: المعنى: ليس الأمر كما يقول إنه يطأ عنق النبي A، أي: لا يقدر على ذلك ولا يصل إلكيه، فيوقف على " كلا " على تقدير التقديرين. ويجوز أن تكن " كلا " بمعنى " حقاً ". وبمعنى " ألا "، فبيتدأ بها، إذ ليس قبلها لفظ ظاهر تكون رداً له، وإنما يحسن الوقوف عليها إذا كان قبلها لفظ منصوص يحسن أن يكون رداً له. والوقف عند القتبي على " كلا "، وعند أبي

حاتم: " يرى "، وهو الوجه الظاهر. وقوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} تهدد ووعيد، أي: لئن لم ينته أبو جهل عن أذى محمد {لَنَسْفَعاً بالناصية} أي: [لنأخذن] بمقدم رأسه فلنقهرنه (ولنذلنه). يقال: سفعت بيده، إذا أخذت بها. وقيل: معناه: لنسودن وجهه، فاكتفى بذكر الناصية من الوجه، إذا كانت الناصية في مقدم الوجه. وقيل: معناه: لنأخذن بناصيته إلى النار، كما قال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41]. [واللام] في " لئن ": لام توطئة للقسم، وهي من [لامات] التأكيد.

[واللام] في " لنسفعاً ": لام قسم. ومعنى " توطئة " أنها تؤذن بإتيان القسم بعدها. ثم قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي: كاذب صاحبها خاطئ، وهي بدل من الأول. ثم قال تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}. أي: فليدع أبو جهل أهل مجلسه وأنصاره وعشيرته لنصرته. روي أن النبي A [ انتهر أبا] جهل لما نهاه) عن الصلاة، فقال أبو جهل: علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟! فأنزل الله:

{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أي: أهل ناديه، فإن دعاهم {سَنَدْعُ الزبانية} (لهم). قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته. قال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته. قال: فما [فجئهم] منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه. قال: [فقيل له: مالك]؟! قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار [وهؤلاء]. قال: فقال رسول الله A: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. قال ابن عباس: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، أي: " ناصره ".

وقال قتادة: عشيرته. والنادي والندي: المجلس. /والزبانية: ملائكة، وهم عند العرب الشرط، وهو مشتق من " زبنة " إذا دفعة، كأنهم يدفعون الكفار إلى النار. وواحد الزبانية عند أبي عبيدة: زبنية. وقال عيسى بن عمر واحدهم: زابن. وقال الأخفش: واحدهم: زباني. وقال الكسائي: واحدهم: ربني. قال عبد الله بن أبي الهذيل: " الزبانية أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء ".

ثم قال: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ}. أي: ليس الأمر على ما يقول أبو جهل في نهيه إياك يا محمد عن الصلاة وطاعة ربك، لا تطعه فيما أمرك به واسجد لربك واقترب منه بالدعاء والعمل الصالح في السجود. وفي الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، فأكثروا من الدعاء في السجود، فقمن أن يستجاب لكم. قال مجاهد: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ألم تسمعوا إلى قوله: {واسجد واقترب}.

ويجوز أن تكون " كلاً " بمعنى: " حقا "، وبمعنى: " ألا " فيبتدأ بها. وروى ابن وهب عن رجاله أن أبا جهل كان يقول: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على رقبته، فأمر الله نبيه بالسجود، فقال: {واسجد}، وقال لأبي جهل: " واقترب "، على طريق التهدد، أي: اقترب من محمد إن كنت صادقا في قولك: فقيل لأبي جهل: هذا محمد يسجد، فاقترب منه! فقال: ما أستطيعه، إن بيني وبينه كالفحل، لو اقترتب منه لأهلكني. هذه رواية ابن وهب، وفيها زيادة تفسير لما روي، وفيها بعض اختصار.

القدر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القدر مدنية وقيل مكية قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} إلى آخرها. أي: إنا أنزلنا القرآن إلى السماء الدنيا جملة [واحدة] في ليلة القدر. فهذا إضمار لم يتقدم له ذكر في السورة، لأنه قد (عرف)، وقيل: إنما جاز ذلك، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة.

وقيل: الهاء تعود على المنزل، ودل " أنزلنا " على المنزل، والمنزل هو القرآن. وليلة القدر [ليلة] الحكم التي يقضي الله جل وعز فيها قضاء (السنة)، والقدر: مصدر [قدر] الله خيرا فهو يقدره قدراً. يقال: ليلة القدر والقدر، والتقى القوم على قدر وعلى قدر، وهذا قدر الله وقدَره. وسميت ليلة القدر لتقدير الله فيها ما شاء من أمره. قال ابن عباس: نزل القرآن كله جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان على السماء الدنيا، فكان الله - جل وعز - إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزل منه حتى جمعه، وقال الشعبي وابن جبير. (قال مجاهد: {لَيْلَةِ القدر}: ليلة الحكم ".

قال ابن جبير: " يؤذن للحاج في ليلة القدر، فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ". قال رجل للحسن: أرأيت ليلة القدر، أفي كل رمضان؟ فقال: نعم، والذي لا إله إلا هو، إنها لفي كل رمضان، وإنها لللية يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقتضي الله D كل أجل وكل عمل ورزق وخلق إلى مثلها. وقيل: إنما سميت " ليلة القدر " على معنى ليلة الجلالة والتعظيم، من قولهم: لفلان قدر. وقد [تواترت] الأخبار أنها في العشر الأواخر من رمضان، أخفاها الله D في العشر [ولم يعينها النبي A] لئلا يفرط الناس من العمل في غيرها والاجتهاد ويتكلوا على فضل العمل فيها. فهي أبداً في ليلة من العشر الأواخر من رمضان.

وهي تختلف، مرة في [ليلة] سبع، ومرة في ليلة غيرها. روى أبو هريرة أن النبي A قال: " رأيت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر ". (وعنه A: " فالتموسها في العشر الأواخر)، وفي الوتر منها، أو في السبع البواقي " شك الراوي. وروى ابن عباس عنه A أنه قال: " إلتَمِسُوها فِي العَشْرِ الأَوَاخِِرِ مِنْ رَمَضَانَ، في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، أَوْ سَابِعَةٍ تَبْقَى، أَو خَامِسَةٍ تَبْقَى ". وقال عبادة بن الصامت: خرج علينا رسول الله A وهو يريد أن يخبرنا

بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال رسول الله: " إني خرجت إليكم وأنا أريد أن أخبركم [بليلة] القدر، فكان بين فلان وفلان لحاء فرفعت، وعسى أن يكون خيرا، فالتموسها في العشر الأواخر في الخامسة والسابعة والتاسعة ". وقال أبو سعيد الخدري: " كان رسول الله A يعتكف العشر الوسط من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي التي يخرج فيها من اعتكافه، قال: من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها. وقد [رأيتني] أسجد من صبيحتها في ماء/ وطين، فالتمسوها

في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر. قال أبو سعيد: فمطر السماء من تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف. قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله A وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين ". وقد أمر رسول الله A أنيساً أن يتوخاها ليلة ثلاث وعشرين ". وروى عبد الله بن عمر أن النبي A قال: " من كان متحريها [فليتحرها] في ليلة سبع وعشرين ".

وعن ابن عباس أنه استدل على أنها ليلة سبع وعشرين بقوله: {سَلاَمٌ هِيَ} فهي الكلمة السابعة والعشرون من أول السورة، فكذلك ليلة القدر سبع وعشرين من الشهر، وهذا استدلال فيه نظر إن صح عنه. وقال كعب: والذي أنزل الكتاب على محمد A أنها ليلة سبع وعشرين، وذكر أن النبي A ( أخبر) [لها] بآية فقال: " إن الشمس تطلع غداً تئذ كأنها طست ليس لها شعاع ". " وأمر النبي A عائشة [أن] تدعوا إذا وافقت ليلة القدر فتقول: " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ".

ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} أي: وما أشعرك يا محمد أي شيء ليلة القدر، على التعظيم لها. ثم قال تعالى: {لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. أي: العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر قاله مجاهد وغيره. وهو قول قتادة. وهو اختيار الطبري. وقال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي. يفعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله في هذه الأمة ليلة القدر خير من ألف شهر، أي: قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل. وقال الحسن بن علي بن أبي طالب: هي ألف شهر، وليت فيها بنو أمية، وكان النبي A قد أريهم على المنابر [فهاله] ذلك، فأحصيت ولا يتهم بعد ذلك فكانت كذلك.

وقال بعض العلماء: معناه: خير من ألف شهر رمضان بصومه. وقال: [قم] ليالي رمضان رجاء إصابة ليلة القدر، فإنها خير من ألف شهر رمضان تصومها. ثم قال: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم}. (الروح: جبرائيل عليه السلام، أي تتنزل الملائكة وجبرائيل معهم فيها بأمر بهم) من كل أمر، فيه الآجال [والأرزاق] والأعمال إلى السماء الدنيا. وهذا هو التمام عند كثؤر من النحويين. [وهو] قول الفراء. وقاله نافع.

وقال قتادة: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، قال: يقضي فيها ما يكون في السنة إلى مثلها. فعلى هذا المعنى، / يكون التمام: " من كل أمر ". وقال ابن عباس: معنى [ذلك]: تنزل الملائكة وجبرائيل معهم في ليلة القدر بإذن ربهم، أي: [نزولهم] بإذن ربهم. قال ابن عباس: لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه. وكان ابن عباس: (يقرأ " من) كل امرئ " فيكون معناه: إنهم يتنزلون في ليلة القدر بإذن ربهم من كل ملك لتسلم على المؤمنين والمؤمنات. (وقال الشعبي: من كل امرئ من الملائكة سلام على المؤمنين والمؤمنات)،

على قراءة ابن عباس. وقيل: " من " بمعنى الباء، أي: تنزل الملائكة والروح فيها بكل أمر بإذن ربهم. ومعنى: {سَلاَمٌ هِيَ} - على قراءة الجماعة - سلام من الشر كله ليلة القدر إلى طلوع الشمس. وقال قتادة: {سَلاَمٌ هِيَ} أي خير هي حتى مطلع الفجر. قال ابن زيد: " ليس: فيها شر، هي خير كلها] حتى مطلع الفجر. وسلام - على قراءة الجماعة -: خير. هي، على معنى: هي ذات سلامة. و" سلام " على قراءة ابن عباس مرفوع بالابتداء، وما قبله الخبر. و" المطلع " بالفتح: المصدر، أي إلى طلوع الفجر.

وحكى الفراء كسر اللام عن العرب وهم يريدون المصدر، كما قالوا " أكرمتك كرامة " يريدون إكراماً، و " أعطيتك عطاء " يريدون إعطاء. ومثله " المشرق " بالكسر يريدون به المصدر، والعرب تقول: شرقت الشمس مشرقاً - بالكسر -، يريدون شروقاً، والأصل فيه الفتح، ومثله المغرب والمنبت [والمجزر] والمسكن والمنسك والمعشر والمسقط. هذه الأحد عشر [تقال] بالفتح والكسر في المصدر، والفتح الأصل، [لأن ما] كان (على) " فعل يفعل " بالضم، فالمصدر منه واسم المكان " مفعل " (بالفتح).

وقد كان يجب أن يكون اسم المكان بالضم، / إلا أنه ليس في الكلام " مفعل " بالضم، فرد إلى الفتح، لأنه أخف من الكسر، فاستوى المصدر واسم المكان. والدليل على أن أصل أسم المكان عنه الضم: أن اسم المكان من فعل يفعل بكسر العين مفعل بالكسر، نحو المجلس، إلا أن العرب قد قالت: " مطلع " بالكسر للمكان الذي تطلع فيه الشمس، سماعاً بغير قياس. وقال بعضهم: " مطل " أيضاً في المصدر بالكسر، والأصل الفتح في ذلك.

البينة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة لم يكن مكية قوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى آخرها. معناه: لم يكن الكفار من أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان منتهين عن كفرهم حتى يأتيهم القرآن. قال مجاهد: معناه: لم يكونوا لينتهوا حتى يتبين لهم الحق. وقيل: معناه: لم يكونوا تاركين ما عندهم من ذكر محمد A حتى يظهر، فلما

ظهر تفرقوا واختلفوا. وقال عطاء: لم يكونوا زائلين عما هم عليه حتى [يجيئهم] الرسول (فبين لهم ضلالهم. وقيل: معناه: لم يكونوا متفرقين إلا إذا جاءهم الرسول، لأنهم فارقوا ما كان عندهم من صفة الرسول) وكفروا بعد البيان، فيكون {مُنفَكِّينَ} على هذا من: انفك الشيء [من الشيء]، إذا فارقه، فلا [يحتاج] إلى خبر، وعلى القول الأول - وهو بمعنى زائلين -[فيحتاج] إلى خبر. وإنما عطف " المشركين " على " أهل " ولم يعطفوا على " الذين كفروا " فيرفعوا، لأن المعنى يتغير، فيصير الصنفان كلاهما من

أهل الكتاب الذين كفروا والمشركين، وليس كذلك هما، إنما هما صنفان: كفار من أهل الكتاب ومشركون من عبدة الأوثان، فلا بد من العطف على " أهل "، فبذلك يتم المعنى، ويكون الذين كفروا (من أهل الكتاب) غير المشركين من عبدة الأوثان. ولو رفعت " المشركين " لصار الجميع كلهم من أهل الكتاب، وليس المعنى على ذلك. وقوله: {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} أي: حتى يأتيهم محمد صلوات الله عليه. وقد بين البينة ما هي، فقال: {رَسُولٌ مِّنَ الله} " فرسول " بدل من " البينة ". وفي حرف أُبي: " رسول " بالنصب على الحال. وقوله: {يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} هو من نعت " رسول "، أي: يقرأ صحفاً مطهرة من الباطل، [وهي] القرآن. ثم قال: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: في الصحف كتب من الله عادلة مستقيمة لا خطأ فيها.

ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة}. أن أمر محمد أنه نبي مرسل إلى [الخلق]، فلما بعثه الله نبياً تفرقوا فيه، فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم، وقد كانوا قبل أن يبعث غير متفرقين في أمره أنه نبي A. ثم قال تعالى ذكره: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ}. أي: وما أمر أهل الكتاب إلا ليعبدوا الله وحده مفردين له بالطاعة لا يخلطونها بشرك، فأشركت اليهود بربها فقالت: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30]، وأشركت النصارى [فقالت: {المسيح ابن الله} [التوبة: 30]. وجحد جميعهم نبوة محمد A. ومعنى: " حنفاء ": مائلين عن كل دين إلى دين الإسلام. أي: وما تفرق اليهود والنصارى في أمر محمد فكذبوا به إلا من بعدما جاءهم ببيا.

قال ابن عباس: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ}، يقول: حجاجا مسلمين، (يقول): ليحجوا ويقيموا الصلاة [ويؤتوا] الزكاة. قال قتادة: " [الحنيفية] الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، والمناسك ". وقال الضحاك: هو الحج. وأصل الحنف في اللغة: الميل، فقيل للمائل عن الأديان إلى دين الإسلام ميلاً لا خلل فيه: " حنيف " وقد تقدم ذكره. وقال الفراء: اللام في " ليعبدوا " لام " أن "، وهي لام " كي " عند البصريين،

أي: أمروا بهذا كي يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء. و" مخلصين " و " حنفاء " نصب على الحال. ثم قال: {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة}. أي: وأمروا بإقامة الصلاة المفروضة وإيتاء الزكاة المفروضة، يخلصون فعل ذلك لله لا يريدون به غير الله. روى ابن وهب - (يرفعه) إلى أبي تمامة - قال: [قال] الحواريون لعيسى: أخبرنا من المخلص لله. قال: الذي يعمل (لله)، لا يحب أن يحمده الناس عليه، قالوا: فمن الناصح لله؟ قال: الذي يبدأ/ بحق الله قبل حق الناس، ويؤثر حق الله على حق الناس، وإذا عرض له (أمران) أمر الدنيا وأمر الآخرة بدأ بأمر

الآخرة، ثم تفرغ لأمر الدنيا. ثم قال: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة}. أي: وهذا الذي أمروا به هو دين المهلة المستقيمة ودين الجماعة المستقيمة لا يتم دين الإسلام إلا بذلك. وهذا نص واضح على أن الإيمان قول وعمل بخلاف ما قاله المرجئة أن الإيمان قول لا غير، وقد قال تعالى: " {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] "، وبين هاهنا أن أقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإخلاص العمل لله هو الدين المستقيم العادل. ثم قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي: إن الذين جحدوا نبوة محمد A من اليهود والنصارى ومن عبدة الأوثان كلهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً لا يخرجون ولا يموتون. {أولئك هُمْ شَرُّ البرية}. ي: هم شر من خلق الله. ثم قال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}. [أي]: آمنوا بالله ورسوله من أهل الكتاب وغيرهم وعملوا (الأعمال)

الصالحات مخلصين لله حنفاء، أولئك خير من خلق الله. قال أنس: " سمعت رجلا قال للنبي A: يا خير البرية، فقال النبي A: ذلك إبراهيم A " وقد تعلق من فضل بني آدم على الملائكة {خَيْرُ البرية}، وغلط في ذلك، إنما معناه: خير البرية ممن برأ الله في الأرض من الجن والإنس، فالملائكة غير داخلين في ذلك، دليله قوله تعالى حكاية عن إبليس إذا قال لآدم وحواء: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20]: أتراه قال لهما: أن تكونا [دون] من حالكما؟! فلو كان ذلك ما رغبا في الأكل منها، وإنما أكلاها طمعاً أن يكونا أشرف من حالهما فيكونا ملكين. وقد قال الله تعالى لنبيه محمد: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولا أَعْلَمُ الغيب ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]. أتراه أمره أن ينفي عن نفسه منزلة جليلة، أو منزلة دون منزلته؟! بل ما [نفى] عن نفسه إلا منزلة رفيعة. وكذلك قال نوح لقومه: {ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، وهو كثير في

القرآن ظاهر في فضل الملائكة على بني آدم. وقد قال (في قصة عيسى: {وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172]، فإنما ذكر الله أنه لا يستنكف عنه) أن يكون عبداً له المسيح ولا من هو أشرف منزلة منه وهم الملائكة المقربون. وأيضاً فإن الملائكة صنف من خلق الله، وبنو آدم صنف، فلا يقع التفاضل بين صنفين مختلفين، وإنما يقع التفاضل بين بعض الصنف وبعض. [ولعمري]، إن هذه المسألة من المسائل التي يكره للعلماء الكلام (فيها)، ولولا ما كثير الكلام فيها ما ذكرتها، ولكان السكوت عنها أحسن من الكلام، لأن الله لم يتعبدنا بذلك، أسأل الله التوفيق والعفو عن [الزلل] بمنه وفضله. ثم قال: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار}. أي: ثواب هؤلاء الذين آمنوا وعملوا [الصالحات] عند ربهم يوم القيامة

بساتين إقامة لا زوال منها ولا انتقال، تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها أبداً لا يخرجون عنها ولا يموتون، {رِّضِىَ الله عَنْهُمْ} [بطاعتهم له]، {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما أعطاهم من النعيم وبما نجاهم منه من العذاب. ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. أي: هذا الجزاء الذي ذكر ووصف هو لمن خاف الله في الدنيا سراً وعلانية، واتقاه بأداء فرائضه واجتنابه محارمه.

الزلزلة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الزلزلة مكية قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} إلى آخرها. العامل في " إذا " قوله (زلزلت)، وهي للشرط، فلذلك عمل فيها ما بعدها. ولو لم تكن للشرط لكانت مضافة إلى الجملة التي بعدها، فلا يجوز حينئذ أن يعمل فيها ما أضيفت إليه، إذ لا يعمل المضاف في المضاف إليه، كما (لا) يعمل بعض الشيء في بعضه، وحسن كونها للجزاء، لأن بعدها فعلاً غير معرب، فصار الجزاء في المعنى دون العمل في اللفظ. وقوله: {زِلْزَالَهَا} مصدر، (كما) تقول: " أكرمتك كرامتك "، / وأضيف

[المصدر] إلى ضمير لتتفق رؤوس الآي. والكسائي والفراء يذهبان إلى أن الزلزال مصدر بالكسر، والزلزال بالفتح اسم. وقد قرأ الجحدري {زِلْزَالَهَا} بالفتح، وكذلك: {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11]. والمعنى: إذا زلزلت الأرض، أي: حركت ورجت لقيام الساعة. ثم قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا}. أي: ما في بطنها من الموتى فألقتهم أحياء على ظهرها. قال ذلك ابن عباس ومجاهد وابن جبير وغيرهم. ثم قال تعالى: {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} اي: وقال الكافر: ما بالها؟ ما قصتها؟ وقال الطبري " الإنسان " هنا يراد به الناس، يقولون: ما قصتها إذا زلزلت؟

ثم قال: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [أي]: يقول الله جل ذكره لها: قولي: فتقول: إن الله أمرني بهذا وأوحى إلي [ربي] فأخرجت ما في بطني من بني آدم. هذا معنى قول ابن مسعود أنها تتكلم فتقول ذلك. وكان ابن جبير يقرأ: " يومئذ تبين أخبارها " [على معنى: تبين ما في بطنها فتجعله على ظهرها. وكان الطبري يختار في معناها: يومئذ تبين أخباره] بالزلزلة والرجة وإخراج الموتى من بطنها إلى ظهرها [بوحي] الله إليها وإذنه لها في ذلك. وهو معنى قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا}. وقيل: معناه: يومئذ تكون الزلزلة وإخراج الأرض أثقالها [تحدث] الأرض

أخبار من كان عليها من أهل الطاعة وأهل المعصية وما عملوا على ظهرها في الدنيا من خير أو شر. قال سفيان {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} " هو ما عمل عليها من خير أو شر ". قال سفيان: " بأن [ربك] أوحى لها "، أي: أعلمها بذلك. قال ابن زيد: {وحى}، أي: أوحى إليها. قال ابن زيد: " تحدث أخبارها " هو " ما كان فيها وعلى ظهرها من أعمال العباد ". وقال مجاهد: " تخبر الناس بما عملوا عليها ". ومعنى: {وحى لَهَا}: أفهمها وألهمها. (ثم قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ}. (أي): إن ربك) أوحى (لها) ليروا أعمالهم، يرى المحسن جزاء

حسناته، والمسيء عقاب سيآته. يومئذ يصدر الناس من موقف الحساب متفرقين، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار. فمعنى: {يَصْدُرُ}: يرجع. والعامل في " يومئذ " " يصدر "، والام في " ليروا " متعلقة " بأوحى " على هذا التقدير. وقال عباد بن كثير: بلغني أن النبي A قرأ: " ليروا " [بفتح] الياء، (أي) [ليرى] الناس جزاء أعمالهم. ثم قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}.

[خيراً] منصوب على البيان أو على البدل من " مثقال ذرة ". أي: فمن يعمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه في الآخرة. ومن يعمل في الدنيا وزن ذرة من شر يرى جزاءه في الآخرة. قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر يعمل خيراً ولا شراً في الدنيا إلا أراه الله إياه. فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته، فيغفر الله له سيئاته ويثيبه على حسناته. وأما الكافر فيرد حسناته ويعذبه على سيئاته. وقال محمد بن كعب القرظي: من يعمل مثقال ذرة من خير يره، هذا في الدنيا. يعني أن كل كافر يرى الثواب عمله الحسن في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له (عند الله خير، {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}، هذا في الدنيا، يعني أن كل مؤمن يرى عقوبة سيئاته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس عليه) شيء.

وقال أيوب: قرأت في كتاب أبي قلابة قال: نزلت {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وأبو بكر Bهـ يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله، إني [لراء] ما عملت من خير وشر؟ فقال: أرأيت ما رأيت مما تكره؟ فهو من مثاقيل ذرة (الشر، ويدخر مثاقيل ذرة) الخير حتى يوم القيامة. وتصديق (ذلك) في كتاب الله: " وما أصابكم من مصيبة [بها] كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ". وقال الشعبي: " قالت عائشة Bهـ: يا رسول الله، إن عبد الله بن جدعان كان

في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، ويفعل. . . فهل ذلك نافعة؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". وروى قتادة عن أنس أن رسول الله A قال: " إن الله D لا يظلم المؤمن/ حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجازى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، [فإذا كان] يوم القيامة لم تكن له حسنة ". وروى [سلمان] الفارسي أن رسول الله A ( قال): " دخل رجل

النار في ذباب، ودخل آخر الجنة في ذباب. قال: مر رجل بقوم ولهم آلهة: فقالوا: أقرب لألهتنا شيئاً. قرب ولو ذباباً، فقرب [ذباباً]، فدخل النار. ومر رجل آخر فقالوا: [ألا تقرب] لآهلتنا شيئا؟ ولو ذباباً؟! فقال: لا، فقتلوه فدخل الجنة ". وروى نصير عن الكسائي: أنه كان يقرأ (خيراً يره وشراً يره) بضم. وإنما قال تعالى ذكره: {فَمَن يَعْمَلْ} وهو خبر عما في الآخرة، لأن السامع قد فهم المعنى، ومعناه: فمن عمل. ودل على أن ذلك إنما هو في الآخرة قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ}. وقيل: إنما جاء " يعمل " بلفظ المستقبل للحث لأهل الدنيا على العمل بطاعة الله [والزجر] عن معصيته.

وروي أن [سلمان] قال: قال النبي A: كيف ينفلت ابن آدم ممن ووزن الجبال، وكال المياه، وعد التراب؟! وقال طاوس: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} من أهل الأديان غير الإسلام، ما عمل منهم أحد مثقال ذرة من خير إلا كوفئ بها في الدنيا في بدنه وماله وأهله حتى يموت وما بقي له مثقال ذرة من خير، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} قال: من المؤمنين [قوم] يكافأون في الدنيا بالمصيبة في أبدانهم وأموالهم وأهليهم حتى يموت أحدهم ما بقي عليه مثقال ذرة من شر، فهذا يجعل الآيتين في المجازاة في الدنيا.

العاديات

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والعاديات مكية في رواية مجاهد عن ابن عباس وعنه أنها مدنية. قوله: {والعاديات ضَبْحاً} إلى آخر السورة. قال ابن عباس ومجاهد: هي الخيل تعدو وهي [تحمعهم]. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: هي الإبل تغدو من عرفة إلى المزدلفة ومن مزدلفة إلى منى. وقال محمد بن كعب القرظي: " العاديات ضبحاً " الدفع من عرفة، {فالموريات قَدْحاً} إلى المزدلفة، {فالمغيرات صُبْحاً} تغير حين تصبح، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} هي يوم منى.

[وممن] قال هي الإبل أيضاً: ابن مسعود وإبراهيم وعبيد بن [عمير]. وقال عكرمة: " والعاديات ضبحاً " الفرس يصبح إذا جرى. وقال عطاء الخراساني: " ليس شيء من الدواب يضبح غير الكلب والفرس ". وقال قتادة ومجاهد: هي الخيل تضبح. وهو قول سالم والضحاك. وهو اختيار الطبري، قال: " لأن الإبل (لا) تضبح، إنما تضبح الخيل. وقال أبو صالح: الضبح من الخيل [الحمحمة]، ومن الإبل التنفس.

قال قتادة: [تضبح] إذا عدت، أي: [تحمحم]. قال الفراء: الضبح صوت أنفاس الخيل إذا عدت. وروي أن النبي A أرسل سرية إلى بني كنانة، فأبطأ عليه خبرها، فنزلت: {والعاديات ضَبْحاً} بخبرها. فهذا يدل على (أن) السورة مدنية. وقيل: إن من قال هي الإبل، جعل [الحاء بدلاً] من عين، والأصل " ضبعاً " يقال: ضبعت الإبل.

وقوله تعالى: {فالموريات قَدْحاً}. قال عكرمة: هي الخيل. [قال الكلبي]: تقدح بحوافرها حتى يخرج من حوافرها النار. وقال عطاء: " أورت النار بحوافرها ". وقال ابن عباس: سألني علي عليه السلام عن " العاديات ضبحا فالموريات قدحا " فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصعنون طعامهم ويورون نارهم. وعن ابن عباس أن قوله: {فالموريات قَدْحاً}، عنى بذلك مكر الرجال. وقاله مجاهد، [جعلاه] مثلاً للمكر. وقال عكرمة: " هي الألسنة ".

وقال عبد الله: هي الإبل تنسف بمناسمها الحصى فتضرب بعضه ببعض [فتخرج] منه النار. ثم قال تعالى: {فالمغيرات صُبْحاً}. قال ابن عباس: هي " الخيل تغير في سبيل الله " وقاله مجاهد وعكرمة. وقال قتادة: " أغار القوم بعدما أصبحوا على عدوهم ". وقال إبراهيم: هي الإبل حين يقبضون من جمع. وكان زيد بن أسلم يتوقف عن تفسير هذه الأحرف ويقول: هي قسم أقسم الله بها. ثم قال تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً}. الهاء كناية عن الوادي وإن كان لم يتقدم لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وقيل:

عن المكان، والنقع؟ العبار، فقد علم أنه لا يكون إلا في مكان، فأظهر المكان لعلم السامع به. والضمير في " أثرن " للخيل في قول مجاهد وعكرمة. وقال علي عليه السلام: هي الإبل [تثير] الغبار حتى تطأ/ الأرض بأخفافها. ثم قال تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}. أي: فتوسطن بركبانهن جمع القوم، قال عكرمة: " جمع الكفار " قال ابن عباس: " (هو) جمع القوم " وقال عطاء: (هو) " جمع العدو ". وقال مجاهد: " جمع هؤلاء وهؤلاء ". وقال الضحاك: جمع الكتيبة.

وقال عبد الله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} " يعني مزدلفة ". وانتصب " ضبحاً "، لأنه مصدر في موضع الحال، وانتصب " قدحاً " على المصدر، وانتصب " صبحاً " على الظرف. ثم قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: إن الكافر لنعم ربه لكفور. يقال: أرض كنود: التي لم تنبت شيئاً. قال ابن عباس: ومجاهد، والحسن وقتادة: الكنود: الكفور. وقال الحسن: هو الذي يعد المصائب وينسى نعم ربه. وقال أبو أمامة: قال رسول الله A: " أتدرون ما الكنود؟ قلنا: [لا]، يا

رسول الله، قال: الكنود: الكفور الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده ". وعن الحسن أيضاً: الكنود: الأليم لربه، [يعد] المصائب، وينسى الحسنات. وعنه أيضاً: الذي يذكر المصائب وينسى نعم ربه. ثم قال تعالى: {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}. أي: وإن الله على كفر الإنسان لربه لشهيد، أي: شاهد.

ثم قال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ}. [أي]: وإن الإنسان لحب الدنيا والمال الشديد الحب. وفي الكلام تقديم وتأخير. والتقدير فيه: إن الإنسان لربه لكنود، وإنه لحب الخير لشديد، وإنه على ذلك لشهيد. قال قتادة: هذا من مقاديم الكلام. ثم قال تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور}. أي: أفلا يعلم الإنسان الذي تقدم ذكره {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور}، أي: أخرج ما فيها من الموتى [وأثير]. يقال: بعثر وبحثر بمعنى، أي [أثير] وأخرج. وفي مصحف عبد الله: " وبحث ". قال ابن عباس: " بعثر ": " بحث ". ثم قال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور}. أي: [بين] وميز.

وقال ابن عباس: " حصل "، (أي): أبرز. وقال سفيان: " حصل " " ميز "، أي: بين وميز فيها من خير وشر. ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}. [أي]: بأعمالهم وأسرارهم يومئذ لذو خبر، وعلم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على (جميع) ذلك يومئذ.

القارعة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة القارعة مكية قوله تعالى: {القارعة * مَا القارعة} إلى آخرها. القارعة هي الساعة تقرع قلوب الناس من هولها وعظيم ما ينزل بهم من البلاء عندها، وذلك صبيحة ليلةٍ لا ليل بعدها. قال ابن عباس: القارعة: " " من أسماء يوم القيامة، عظمه الله وحذره عباده ". وقوله: {مَا القارعة}، " ما " استفهام فيه معنى التعظيم والتعجب من هولها، يعجب سبحانه عباده من عظم [هولها]. المعنى: أي شيء القارعة يا محمد؟! ما أعظمها وأفظعها وأهولها. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة}. أي وما أشعرك يا محمد أي شيء القارعة؟! ثم بينها تعالى فقال: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث}. فالعامل في " يوم " " القارعة "، أي القارعة يومض يكون (الناس) على هذا

الحال. و " القارعة " رفع بالابتداء، " وما " ابتداء ثان. والقارعة خبر " ما "، والجملة خبر عن " القارعة " الأولى. وقوله: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} " ما " ابتداء أيضاً، و " أدراك " فعل ماضي وضمير مفعول، " ما القارعة " ابتداء وخبر في موضع نصب مفعولاً ثانياً " لأدراك "، والجملة خبر " ما " الأولى. والفَراش: (هو) ما تساقط في النار وفي السراج، ليس [بذباب] ولا بعوض. وقال الفراء: هو غوغاء الجراد يركب بعضه بعضاص، [فكذلك] يوم القيامة يجول بعضهم في بعض. والمبثوث: المنتشر المتفرق. (وقيل): إنما شبههم بالفراش، لأن الفراش إذا ثار لم يأخذ جهة واحدة،

بل يدخل بعضه في بعض، فشبه الناس - إذا بعثوا وفزعوا واختلف مقاصدهم من الحيرة - بالفراش، فإذا سمعوا الدّاعي استقاموا نحوه، فهم في تلك الحال مشبهون بالجراد. التي تقصد إلى ناحية في طيرانها، وهو قوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7]، فهما صفتان للخلق يوم القيامة في موطنيْن: إحداهما عند. البعث، والأخرى. عند سماع النداء. ثم قال تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش}. أي: كالصوف المنفوش. وفي حرف عبد الله: " كالصوف "، وبه قرا ابن جبير. العهن: جمع عهنة، كصوفة وصوف. وهو عند أهل اللغة: المصبوغ من الصوف.

ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}. أي: فأما من [ثقل] وزنه وزن حسناته. قال مجاهد/: ليس ثَمَّ ميزان، وإنما هو (مَثَل) ضُرِبَ. وأكثر الناس على أنّ ثَمَّ ميزاناً توزن به (أعمال) العباد كيف شاء الله وعلى ما شاء. [نقول] كما قال، ونوجب ما أَوْجَب، ونؤمن بما في كتاب الله، ولا نتقدم بين يدي الله، ولا نعترض، ولا نكيِّف ما لا علم (عندنا) منه، ولا نحدّه. ثم قال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}. أي: في عيش قد رضيه في الجنة. وتقديره في العربية: فهو في عيشة ذات رضىً، على النسب. ثم قال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}. أي: وزن حسناته. {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}.

أي: مأواه ومسكنه الهاوية، وهي جهنم. قيل لها الهاوية، لأنه يهوي فيها على رأسه. قال قتادة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}: هي النار، وهي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد فقالوا: هو أمه. ويروى أن الهاوية اسم للباب الأسفل من النار نعوذ بالله (منها - وهي) الدرك الأسفل، وأبوابُ جهنم سبعة، بعضها فوق بعض، أولها جهنم، والثاني: لظى، والثالث: الحطمة، والرابع: السعير، والخامس: الجحيم، والسادسُ: سقر، والسابع الهاوية. أعاذنا الله منها. وروي أن المؤمن إذا مات ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيقولون: (روحوا أخاكم، فإنه كان في غم الدنيا، ويسألونه: ما فعل فلان؟ فيقول: مات، أو ما جاءكم؟ فيقولون): ذهبوا به إلى أمه الهاوية ".

وإنما جعلت النار أمه، لأنها صارت مأواه كما تؤوي المرأة (ابنها، فصارت) لهم كالأم، إذ لا مأوى لهم غيرها. وقال الخفش (سعيد): {فَأُمُّهُ}: مستَقَرُّهُ. وقيل: أمه: أصله. وهاوية: بمعنى هالك، وأم الشيء: أصله [ومعظمه]. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}. أي: وأي شيء أشعرك يا محمد ما الهاوية؟!، ثم بيَّن فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي: هي نار حامية.

التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة التكاثر مكية قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} إلى آخرها. أي: ألهاكم أيها الناس المباهاة بكثرة المال والعدد (عن طاعة الله حتى). تعاددتم وتفاخرتم بأهل المقابر. روي أن بني عبد مناف وسهماً تكاثروا (بالأحياء، فكثر بنو عبد مناف سهماً، ثم تكاثروا) بالأموات، (فكثرتهم سهم)، فأنزل الله جل ذكره: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} [أي]: حتى تعاددتم وتكاثرتم بالموتى.

قال قتادة: كانوا يقولون: (نحكن أكثر من بني فلان، ونحن أعز من بني فلان). وهمي كل يوم يتساقطون - أي: يموتون - قال: فوالله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبول كلهم. وفمعنى {[حتى] زُرْتُمُ المقابر} على هذا) القول: حتى صرتم من أهل المقابر ولم تقدموا عملاً صالحاً. فالمعنى اشتغلتم بالدنيا والتكاثر من الأموالم فيها حتى متم ولم تقدموا لأنفسكم عملاً صالحاً. وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه انتهى إلى النبي A وهو يقول: {أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر}: ابن آدم: ليس لك من مالك إلاَّ ما أكلت فأفنيْت، أو لبِست فأبليت، أو تصدقت فأمضيتَ. وقال أبي بن كعب: كنا نرى أن هذا الحديث من القرآن " [لو أن] لابن آدم [واديين] من مال لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلاّ التُّراب، ويتوب الله على

من يشاء، حتى نزلت هذه السورة: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} إلى آخرها. ثم قال تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. هذا وعيد وتهدد من الله لهم، وفيه دليل على صحة القول بعذاب القبر، لأنه الله أخبر عن هؤلاء القوم أنهم سيعلمون ما يحل بهم إذا زاروا المقابر، أي: إذا ماتوا. قال علي ابن أبي طالب عليه السلام: كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة. وقوله: " كلا ": أجاز قوم الوقف عليها على معنى: ما هكذا ينبغي أن يلهيكم التكاثر عن الآخرة! والوقف عند أبي حاتم على " المقابر " ويبتدأ " بكلا " على المعنى: " حقاً "، أو بمعنى: " ألا ". والوقف عند محمد بن عيسى على " كلا "، والمعنى عنده: لا ينفعكم التكاثر، ثم يبتدأ: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: سوف تعلمون عاقبة اشتغالكم ولهوكُم في الدنيا عن طاعة الله.

ثم قال تعالى: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}. هذا تكرير فيه تأكيد التهدد والوعيد [والتخويف]، وهو قول الفراء. والقول في " كلا " - في هذا - كالقول الأول. وقال الضحاك: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} للكفار، {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} للمؤمنين، [يعني] العصاة من المؤمنين. ثم قال/ تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ. . .}. القول في " كلا " كالقول في الأول والاختلاف كالاختلاف. والمعنى: لو تعلمون أيها الناس علماً يقيناً أن الله باعثكم يوم القيامة ما ألهاكم التكاثر عن طاعة ربكم.

قال قتادة: " كنا نحدث أن علم اليقين أن نعلم أن الله باعثه بعد الموت ". وجواب " لو " محذوف، والتقدير: لو تعلمون أنكم مبعوثون يوم القيامة [فمحاسبون]، لمات [تكاثرتم] في الدنيا بالأموال وغيرها. قال الكسائي: جواب " لو " في أول (هذه) السورة: لو تعلمون علم اليقين أنكم مبعوثون لما ألهاكم التكاثر. أي: لترون أيها المشركون نار جهنم يوم القيامة، واللام لام قَسَمٍ. {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين}. أي: عياناً لا تغيبون عنها. قال ابن عباس: " يعني أهل الشرك ". ثم قال تعالى ذكره: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم}. أي: ثم ليسألنكم الله عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا ماذا عملتم فيه؟ من أين وصلتم إليه؟ وفيمَ أفنيتموه؟. قال ابن مسعود ومجاهد والشعبي وسفيان: النعيم هو " الأمن " والصحة ".

وقال ابن عباس: " هو صحة البدن والأسماع والأبصار. قال: يسأل الله D العباد فيما [استعملوها] وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]. [وقال] الحسن: النعيم: " السمع والبصر وصحة البدن ". وقيل: هو العافية. وقال [ابن جبير]: هو ما تلذذ به الإنسان من طعام وشراب. وروي عنه أنه " [أتي] بشربة عسل فشربها وقال: هذا النعيم الذي تسألون عنه. وقال جابر بن عبد الله: " أتانا النبي A وأبو بكر وعمر Bهم، فأطعمناهم رُطَباً وسقيناهم ماءً، فقال رسول الله A: هذا من [النعيم] الذي تسألون عنه ".

وروى أبو هريرة " (أن النبي A) قال لأبي بكر وعمر Bهم: انطلقوا بنا إلى أبي الهيثم بن [التيهان] الأنصاري، [فأتوه]، فانطلق بهم إلى ظل حديقة فبسط لهم بسطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء (بعِذْقٍ)، فقال رسول الله A: هلا [تنقيت] لنا من رطبه؟ فقال: [أردت أن تَخَيَّروا] من رطبه. [وبسره]. فأكلوا وشربوا من الماء، فلما فرغ رسول الله A قال: والذي نفسي بيده، [إن هذا] من النعيم الذي أنتم مسؤولون عنه يوم القيامة، هذا الظل البارد والرطب البارد عليه الماء البارد " وروي عنه A " أنه أكل وهو وناس من أصحابه أكلة من خبز. شعير - يُنخل - بلحم

سمين، ثم شربوا من جدول، فقال: هذه أكلة من النعيم تسألون عنها يوم القيامة ". وروى ثابت البناني أن النبي A قال: " النعيم المسؤول عنه يوم القيامة: (كسرة) تقوته، وماء يرويه، وثوب يواريه ". وقال (أبو) أمامة " النعيم المسؤول عنه يوم القيامة خبز البُرِّ، والماء العذب ". وقال مجاهد " هو كلّ شيء الْتَذَّ به الإنسان من لذة الدنيا. وقال قتادة: إن الله جل ذكره (سائل) كل عبد عمّا استودعه من نعمته وحقه. فظاهر الآية العموم في كل ما تنعم به الإنسان.

العصر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة والعصر مكية قوله تعالى: {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} ألى آخرها. قال ابن عباس: العصر: الدهر. وقال قتادة: العمر ساعة من ساعات النهار، (يعني: العشي). وقاله الحسن. وقال الفراء: العَصْر [و] العَصَر: الدهر، وهو قسم. وتقديره: ورب العصر، وخالق العصر، ونحوه.

وقوله: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} جواب القسم. وقال أبو عبيدة: لفي هلكةٍ ونقصان. وقيل: الخسر: دخول النار، يعني به الكافر. والإنسان اسم للجنس، ولذلك وقع الاستثناء (منه، فقال): {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}. أي: وأوصى بعضهم بعضاً (بلزوم العمل بطاعة الله واجتناب معاصي الله. (قال قتادة: " الحق) كتاب الله ". ثم قال تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}. ي: وأوصى بعضهم بعضاً) بالصبر على العمل بطاع الله جل وعز.

وكان علي بن أبي طالب Bهـ يقرأ: " والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي (خسر)، وإنه فيه إلى آخر الدهر "، وهذه قراءة مخالفة/ للمُصْحف المجمع عليه، فلا يجوز لأحد أن يقرأ بها فيخالف الإجماع، وإنّمَا هي على معنى التفسير. وروى ابن أبي جماد عن أبي بكر عن عاصم: " لفي خُسُر "، بضم السين والخاء. وروي عن أبي عمرو أنه كان (يقرأ " بالصبِر ")، بكسر الباء، وهذا إنّما يجوز في الوقف على نقل الحركة. وكان سلام [أبو المنذر] يقرأ " والعصِر "، بكسر الصّاد، وهذا لا يجوز إلا في الوقف أيضاً. (وليس في هذه السورة) تمام إلى آخرها.

الهمزة

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الهمزة مكية قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} إلى آخرها. أي: قبوح لكل طغان (في الناس، عيّاب لهم). وقل: ويل: واد في جهنم يسيل بصديد أهل النار، وقد تقدم [ذكر هذا]. والهمزة: الذي يغتاب الناس ويطغن فيهم. وقال ابن عباس: هو المشّاء بالنمائم المفرّق بين الناس. وقال مجاهد: الهمزة: الذي يأكل لحوم الناس، (يعني: يغتابهم). قال: واللمزة: الكافر.

وعنه أيضاً أنه قال: " بالهمزة الطعان، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس. قال أبو العالية: " الهمزة يهمزه في وجهه، واللمز من خلفه " وقال قتادة ([يهمز] ويلمز بلسانه) وعينه، ويأكل لحوم الناس ويطعن عليهم. وقال عبد الله بن أبي نجيح: الهمزة باليد والعين، واللمزة باللّسان. وقال ابن زيد: الهمزة: الذي يهمز (الناس) بيده وقد يضربهم، واللمزة الذي يَلمِزُهُم بلسَانِه ويعيبهم. وقيل: إنها نزلت في جميل بن عارم الجمحي. وقيلك في الأخنس بن شريق. قال ابن عباس: هو مشرك، كان يهمز الناس ويلمزهم.

وقال مجاهد: هي عامة. ثم قال تعالى: {الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ}. أي: جمعه وأحصى عدده ولم ينفقه في سبيل الله ولا أدى حق الله منه. وقرأ الحسن: " وعَدَدَه "، بالتخفيف، يريد: عَدَّه، ثم أظهر التضعيف، وهو بعيد، إنما يجوز في الشعر، كما قال: أَنِي [أَجوَدُ] لأَقْوَامٍ وَإِنْ [ضَنِنُوا]. ... وقيل: إنما قرأ ذلك على معنى: الذي جمع مالاً (وجمع) عدده، [أي]: عشيرته، فيكون عطفاً على المال، وذلك حسن.

ثم قال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}. أي: يظن هذا الجامع للمال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يخرج حق الله منه. وقيل: {وَعَدَّدَهُ} من العدة، أي: [اعتد] به ودفعه ذخيرة، ومنه: {أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} [الكهف: 29]. وقيل: (إن) معنى (وعدده)، أي: كثره، يحسب أن ماله مخلده في الدنيا فلا يموت. ووقع {أَخْلَدَهُ} في موضع " يخلده "، كما يقال للرجل يأتي الذنب الموبق: دخل، والله، فلان النار أي سيدخلها. ويقال للرجل يأتي المرء يهلك فيه: عطب، والله، فلان، أي: سيعطب. وقيل: إن الفعلَ على حاله ماضياً، والمعنى: يحسب هذا الإنسان أن ماله أحياء في الدنيا فيما مضى من عمره. هذا معنى قول ابن كيسان.

ثم قال تعالى: {كَلاَّ. . .} أي: ليس الأمر ما ظن أن ماله يخلده في الدنيا، وهو التمام عند نافع وأبي حاتم ونصير. والتمام عند الأخفش: {أَخْلَدَهُ}. ثم قال تعالى: {لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة} أي: ليطرحن في النار، وهذا قسم. والحطمة: اسم من أسماء النار، سميت بذلك لحطمها كل ما ألقى فيها، كما يقال للرجل الأكول: حُطَمةُ. وقيل: الحطمة: اسم للباب الثالث من أبواب جهنم. وهي أبواب بعضها فوق بعضٍ تمضي سُفلاً سفلاً، أعاذنا الله منها. وقرأ الحسن: " لَيُنْبَذَن] في الحطمة "، يعني به الهمزة اللمزة وماله. وروي عنه: " لينبذُن "، بالضم، على [معنى] الجمع، يعني به الهمزة واللمزة والمال.

وقيل: يعني به الهمزة واللمزة والذي جمع مالاً. وفيه بعد، لأن ذلك كله في ظاهر الخطاب يرجع إلى واحد. ثم قال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة}. أي: وأي شيء أشعرك يا محمد أي شيء الحطمة؟! ثم أخبر عنها ما هي فقال: {نَارُ الله الموقدة}. (أي: هي نار الله الموقدة)، ثم وصفها فقال: {التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة}. أي: التي تُبلِغَ ألمها ووجعها القلوبَ. والاطلاع والبلوغ/ قد يكونانن بمعنًى، حكي عن العرب سمَاعاً: متى اطَّلعتَ أرضنا (واطلعتُ أرضي)، بمعنى: بلغت. قال محمد بن كعب القرظي: تحرقه كله حتى يبقى فؤاده نضيحاً. ثم قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ}. أي: إن الحطمة على الهمّازين اللّمازين - الذين جمعوا المال ومنعوا منه حقّ الله - مطقبة. قال سعيد: بلغني أن في النار رجلاً في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام: يا حنّان يا منّان، فيقول ربّ العزّة تعالى ذكره: يا جبريل، أخرج عبدي من النار،

فيأتيها فيجدها مطقبة. قال: فيرجع فيقول: يارب، إنها عليهم مؤصدة. فيقول: يا جبريل فُكَّها وأخرج عبدي النار، قال: فيفكّها ويخرج مثل الجبل، فيطرح على ساحل الحنة حتى ينبت الله له شعراً ولحماً ودماً. عَمَد جَمع عمود عند الفراء، ما قالوا: أَدِيمُ وأَدَمُ. وقيل: هو اسم للجمع وليس يجمع على الحقيقة. وقال أبو عبيدة: هو جمع عمادٍ. وقال قطرب: هو جمع لا واحد له. فأما من قرأ " عُمُد "، بضمتين، فهو جمع عمود على القياس، كعجوز وعُجُز، وكتاب وكُتب، ورغيف ورُغُفٌ. وفعل وفعال أخوا فَعُول. والمعنى: إن جهنم عليهم مطبقة بعمد ممدة عليهم.

وفي قراءة عبد الله: " موصدة بِعَمَدٍ ممدةٍ، أي: مغلقةٍ مطبقبة بعمد ممدة. وقال ابن عباس: (معناه) أنهم أدخلوها في عمد فمدت عليهم بعماد في أعناقهم السلاسل فشدت بها الأبواب. وقال ابن زيد: (في عمد) [من] حديد مغلولين فيها، وتلك العمد (من) نار قد احترقت من النار، فهي نار ممدودة عليهم، وقال قتادة: كنا نحدث أنّها عمد يعذبون بها في النار وهو اختيار الطبري. وقال أبو صالح: هي القيود.

الفيل

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفيل مكية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} إلى آخرها. قوله: {أَلَمْ تَرَ}: تكون بمعنى التعجب، وتكون بمعنى التفخيم، وبمعنى التهويل والتعظيم. والعنى: ألم تر يا محمد بعين قلبك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟! وهو مَلك اليمن [أبرهة] الحبشي، وكان تحت يد النجاشي، أتى مع جنده إلى بيت الله الحرام ليخربه، وكان سبب إتيانه ما ذكره ابن إسحاق وغيره في حكاية طويلة أنا أذكر معناها، على اختصار إن شاء الله. وذلك أن أبرهة بنى [لملك الحبشة] كنيسة بصنعاء، وكان نصرانياً، وسمّاها القليس، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة، ووصفها

ومدحها (له) وقال: إني لست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب، فبلغ ذلك العرب من قول أبرهة، فغضب رجل من العرب لذلك، فذهب حتى أتى الكنيسة فأحدث فيها ثم رجع إلى قومه، فأخبره أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذ؟! فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي يحج إليه بمكة. فغضب عند ذلك أبرهة وحلف [ليَسيرن] إلى البيت وليهدمنه. ثم إن أبرهة وجه رجلاً من العرب يدعو العرب لحج الكنيسة التي بنى أبرهة، فقتلته [العرب]، فبلغ ذلك أبرهة فزاده غيظاً [وحنقاً] على البيت وعلى من قتل رسوله من العرب، فحلف ليغزون قاتلي رسوله، - قيل: هم بنو كنانة -، وحلف لَيَهدِمَنَّ البيت. ثم تأهب (مع) الحبشان وخرج ([لهدم] البيت وغزو بني كنانة. وخرج) معهم بالفيل، فاجتمع عليه بعض العرب لتقاتله وترده عن مذهبه

ومراده فهزمهم أبرهة وأسَرَ رَئِسَهم - واسمه ذو نفر - فأراد قتله ثم تركه [وثقفه] معه، ثم خرج إلي نفيل بن حبيب [الختعمي] في قبيلتي ختعم، فقاتله فهزمه أبرهة وأسره وعفا عنه ولم يقتله. فلما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن متعبٍ في رجال ثقيف وطلبوا منه السّلم، فأعطاهم السلام ووجهوا معه أبا رغال، [فخرج معه أبو رغال] حتى أنزله المغمس، ثم مات أبو رغال بالمغمس فدفن هناك، فالعرب ترتجم قبره من ذلك الوقت إلى الآن.

ثم إن أبرهة وجه بخيل إلى نحو مكة، [فاستاقت] له أموال أهل مكة. وكان لعبد المطلب (فيها) [مائتا] بعير، وكان سيد قريش (يومئذ). فهمت قريش ومن يقرب منهم من العرب [بقتال] أبرهة، ثم علموا أنهم لا طاقة/ لهم به، فتركوا [ذلك]. ثم إن إبرهة وجه إلى مكة يقول [لرئيسها]: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه [لي] بحرب فلا حاجة لي بدمائكم. وأمره أن يأتيه [بالرئيس] إن كان لا يريد حَربه، (فأتى [الرئيس]، وسأل عن [رئيس] القوم فدل على عبد المطلب، فبلغه الرسالة، فقال عبد المطلب: والله، ما نريد حربه)، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله عليه السلام، فإن يمنعه

فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه، فهو الله ما عندنا من دفع عنه. فقال الرسول لعبد المطلب: (انطلق إلى أبرهة، فإنه قد أمرني أن نأتي بك، فانطلق معه عبد المطلب) ومعه بعض بنيه، فلما أتى عبد المطلب (العسكر، سأل عن ذي نفر - وكان له صديقاً - فسأله عبد المطلب) عن [رأي]- أو أمر -[يشير به]، فما وجَدَ عنده فرجاً، واعتذر إليه بأنه مثقف محبوس، لكنه قال لعبد المطلب إن سائِس الفيل [لي] صديق، [فسأرسل إليه وأوصيه] بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه في ما تريد، ويشفع لك عنده إن قدر. ثم بعث ذو نفر إلى سائِس الفيل فأوصاه بما وََعَدَ بِهِ عبد المطلب، ففعل

سائس الفيل ذلك، واستأذن له على أبرهة (وعظمه في عين أبرهة) ومدحه، فأذن له أبره - وكان عبد المطلب رجلاً وسيماً عظيماً -، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه، وكان أمر أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة [يجلسه] [معه] على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره وجلس على بساطه وأجسله معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له عبد المطلب: حاجتي أن يَرد علي مائتي بعير، فلما قالها الترجمان لأبرهة، قال أبرهة للترجمان: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدتُ فيك حين كلمتني. [أتكلمني] في مائتي بعير أخذتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك وجئت لأهدمه فلا تكمني فيه؟! فقال له عبد المطلب: (إني [أنا] رب الإبل، وإنّ للبيْت رباً سيمنعه، فقال أبرهة: ما كان ليمنع مني، قال له عبد المطلب: أنت وذاك، ارْدُدْ علي إبلي، فرد عليه إبله وانصرف عبد المطلب إلى قريش، فحذرهم وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعب الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من الحبش.

ثم قام عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة: يَارَبِّ أَرْجو لَهم سِواكَا ... فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكاَ ... إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ثم ذهب عبد المطلب ومن معه من قريش إلى شعب الجبال يتحرزون فيها وينتظرون ما أبرهة فاعل. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة [وهيأ] فيله وعبر جيشه وهو مجمع على هدم البيت والانصراف إلى اليمن. فلما وجهوا الفيل - واسمه: مَحْمود - أقبل نفيل بن حبيب [الختعمي] حتى قام إلى جنب الفيل (وأخذ بأذنه) قال: أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وهرب نُفَيل حتى اصعد

في الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى، ثم وجهوه راجعاً إلى اليمن فقام [يُهَرول]، ووجهوه إلى الشّام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فَبَرَك، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل، قيل: (كانت) مثل الخطاطيف، أرسلها عليهم من البحر، مع كل طير ثلاثة أحجار، حجَر في منقاره وحجران في رجليه، كل حجر مثل الحمص أو العدس، [لا تصيب أحداً منهم] إلا هلك. ولم [تصبهم] كلهم، بل أصابت من شاء الله منهم، فخرجوا هاربين [بتدرون] الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نُفَيْل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أَيْنَ المَفَرُّ والإِلَهُ الغَالِبْ ... والأَشْرَمُ المَغْلوبْ غير الغَالِبْ فهربوا يتساقطون ويهلكون في كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، فخرجوا به [معهم] [تسقط] أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت [منها] / أنملة أتبعتها مدة بقيح/، ودم حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن

قلبه. وأول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب من ذلك العام، وهو أول ما رئي (من) الشجر [المر] مثل الحنظل والحرمل والعُشَر، فذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}، أي: [أدحضه] ومحقه. ثم قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ}. أي: متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى. و {وَأَرْسَلَ} معطوف على معنى {أَلَمْ يَجْعَلْ}، لأن معناه: جعل كيدهم وأرْسَلَ. قال ابن عباس: {أَبَابِيلَ}: " يتبع بعضها بعضاً ". وقال الحسن: هي " الكثيرة]. وهو قول قتادة. وقال غيره: هي المتفرقة. وقال مجاهد: متتابعة مجتمعة. وقال الضحاك: ممتابعة بعضها في أثر بعض.

وقال ابن زيد: " الأبابيل: المختلفة تأتي مِن [هاهنا وهاهنا]، أتتهم من كل مكان ". وقيل: إنها (كانت) بيضاً. وقيل: كانت سوداً. وقيل: كانت خضراء لها خراطيم الطير وأكف الكلاب، وهذا قول ابن عباس. وعنه [أنها] كانت خضراء خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السِّباع.

وقال عبيد بن عمير: هي طير [سود] بحرية في أظفارها [ومناقيرها] الحجارة. وقال ابن جبير: " هي طير خضراء لها مناقير صفر تختلف عليهم ". قال الكسائي: سمعت [بعض] النحويين يقولون: واحد الأبابيل: إبَّوْل، مثل عِجَّوْل وعَجَاجِيل. وقال الرواسي: واحدها: أبالة. وحكى الفراء (إبالة مخففاً). وحكى أيضاً إيبالة مثل دينار ودنانير.

وقال المبرد: واحدها: إبّيل، [مثل] سكين. وقال أبو عبيدة: لم نر أحداً يجعل لها واحداً. - وقوله تعالى: {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ}. قال ابن عباس: " {مِّن سِجِّيلٍ}: من طين "، وكذا قال عكرمة، كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصابت أحدهم خرج به الجدري، (وكان أول يوم رُئي فيه الجدري). قال أبو الكنود: " كانت دون الحِمَّصة وفوق العدسة ". قال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب حجارة منها، فرأيتها

[سوداً] مخطّطَة بحمرة. قال قتادة: كانت لا تصيب شيئاً إلاّ هشمته. وقال ابن زيد: {مِّن سِجِّيلٍ} من الشقاء الدنيا، اسمها: سجيل، وهي التي أنزل الله على قوم لوط. وأنكر الطبري (أن يكون) اسم السماء سجيلاً. وقيل: سِجّيلٍ: (فعِّيل) من السِّجْلِ، وهو الدلو. وقال أبو إسحاق: سجيل مما كتب عليهم أن يعذّبوا به، مشتق من السجل وهو الكتاب.

ثم قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ}. ي: فجعل الله أصحاب الفيل كزرع أكلته الدواب [فراثته] ويبس وتفرقت أجزاؤه، فَشبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي [حلت] (بهم) [بتفرق] أجزاء [الروث] الذي حدث من أكل الزرع. وقال مجاهد: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} " كورق الحنطة ". وقال قتادة: " هو التبن ". وقال ابن زيد: هو [ورق] الزرع [وورق] البقل إذا أكلته البهائم وراثته.

قال ابن عباس: هو قشر البُر، يعني الغلاف الذي يكون فوق حبة القمح. فمعنى {مَّأْكُولٍ}: قد أكل ما فيه من الحب. وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في بطنه [فيبقى] كقشر الحبة إذا بقا بعد خروج الحبة منه، فالتقدير: مَأكول ما فيه، أو مأكول حَبّهُ. ومن جعله الروث بعينه لم يقدر حذفاً، [لأن] المعنى: فجعلهم كورق قد أكلته الدواب وراثته.

قريش

بسم الله الرحمن الرحيم سورة قريش مكية قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ} إلى آخرها. قال الأخفش: اللام متعلقة بمعنى سورة ألم تر يا محمد كيف فعل ربك بأصحاب الفيل لتألف قريش. وقيل: التقدير: فعلنا بأصحاب الفيل هذا [منا] على أهل البيت وإحساناً إليهم إلى نعمتنا عليهم في رحلتهم الشتاء والصيف، (فتكون اللام في {لإِيلاَفِ} بمعنى " إلى ". وقيل: التقدير: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف)، وتركهم عبادة رب هذا البيت. وهذا مذهب الفراء.

وقال الخليل بن أحمد: المعنى: لن يؤلف الله قريشاً [إيلافاً] {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} أي: لهذا فليعبدوه فلا تقدير، حذف في هذا القول. وعن ابن عباس أنه قال في تفسير {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} معناه: نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. قال: كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف. وقوله: {إِيلاَفِهِمْ}، [بدل] من الأول. وقرأ يزيد بن القعقاع/ " إلفهم " جعله مصدر " ألفه إلفاً ". وكذلك ذكرت أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله A يقرأ. وعن أبي أنه قرأ: [" إلافهم "]، وهما مصدران للثلاثي على فِعْل وفِعال،

ومثله علم علماً، ولقيه لقاء، وصمت صياماً، وكتبت كتاباً. وأجاز الفراء " إيلافَهم " بالنصب على المصدر. وروي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ " لإئلفِ " بهمزتين مكسورة وساكنة، " إئْلفم " كذلك [أيضاً]، أتى بهما على الأصل، وهو بعيد لا يجوز عند كثير من النحويين، وهي لغة شاذة، وهما مصدران لاَلَفَ يُؤلِفُ. وقد قرأ [ابن عامر] " لإلف "، جعله مصدر ألِفَ إلافاً، مثل: كتب كتاباً، وصام صياماً. وقوله: {رِحْلَةَ الشتآء والصيف} منصوب " بإيلاف ". وأجاز الفراء الخفض في {رِحْلَةَ} على البدل من {إِيلاَفِهِمْ}. [وتقديره]: إيلافِهم إيلافَ رحلةِ.

قال مجاهد في معنى {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [معناه]: " إيلافهم ذلك، فلا تشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف ". وقال ابن عباس {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}، أي: " نعمتي على قريش ". وقيل: معناه أن الله عجب نبيه من ذلك، فالمعنى: اعجَب - يا محمد - لنعم الله على قريش في إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، ثم يتشاغلون بذلك عن الإيمان بالله واتباعك. ودل على هذا المعنى قوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت}. قال ابن زيد: معناه: صنعت بأصحاب الفيل ما صنعت لإلفة قريش، أي: لئلا أفرقها، وهذا (هو) قول الأخفش المتقدم. وقال ابن عباس: {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف}، أي: " لزومهم ". وعنه أيضاً (أنه قال): [نهاهم] الله عن الرحلة وأمرهم أن يعبدوا رب هذا البيْت وكفاهم المؤنة، وكانت رحلتهم في

الشتاء والصيف. فلم تكن لهم رحلة (في) شتاء ولا صيف، فأطعمهم الله جل وعز [بعد ذلك] من جوع وآمنهم من خوف، [فألفوا] الرحلة، فكانوا إذا شاؤوا [ارتحلوا] وإذا شاؤوا أقاموا. فكان ذلك من نعمة الله عليهم. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا بصرى واليمن، يختلفون إلى هذا في الشتاء، وإلى هذه في الصيف، قال: فقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ} رب هذا البيت، أمرهم أن يقيموا [بمكة]. قال الضحاك: كانوا ألفوا الارتحال في الغيظ والشتاء: إلى الشام في الغيظ، وإلى اليمن في الشتا. وهذا قول ابن زيد أيضاً. وقال ابن عباس: " كانوا يشتون بمكة، [ويصيفون] بالطائف ".

وقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت}. قيل: معناه: فليقيموا بمواضعهم ووَطَنهم، فليعبدوا رب هذا البيت وهو الكعبة. وقيل: معناه أنهم أمرو أن يألفوا عبادة رب مكة كإلفهم الرحتلين، وهو قول عكرمة. وقوله: {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} يعني قريش. قال ابن عباس: أطعم قريشاً بدعوة إبراهيم عليه السلام (حيث قال): {وارزقهم مِّنَ الثمرات} [ابراهيم: 37]. وقوله: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: وآمنهم مما يخاف غيرهم من العرب من [الغارات] والحروب والقتال، فلا يخافون ذلك في الحرم. وقال ابن عباس: آمنهم من خوف بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126].

قال مجاهد: " آمنهم من كل عدو في حرمهم ". قال قتادة: كان أهل مكة تجاراً يعتادون ذلك شتاء وصيفاً آمنين من العرب، وكانت العرب يغير بعضهم على بعض لا يقدرون على التجارة ولا يستطيعونها من الخوف حتى إن كان الرجل من أهل الحرم ليُصاب في حي من أحياء العرب، فإذا قيل حَزمي خُلّيَ عنه وعن ماله تعظيماً لذلك. قال: وكانوا يقولون: نحن من [حرم] الله، فلا يعرض لهم أحد في حرم الله جل وعز وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج إغير عليه، وهو معنى قول ابن زيد. وقال الضحاك ومجاهد: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي: من الجذام. وقاله ابن عباس، ولذلك [لا ترى] بمكة ذا جُذَام البتّة.

الماعون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة أرأيت مكية قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} إلى آخرها. يجوز، أن تكون " أرأيت " من رؤية العين، فلا يقدر في الكلام حذف. ويجوز أن يكون من رؤية القلب، فتُقَدّرُ لحذف للمفعول الثاني، والتقدير على ذلك: أرأيت الذي يكذب بالدين بعد/ ما ظهر له من البراهين، أليس مستحقاً عذاب الله؟. . . والمعنى: أرأيت - محمد - الذي يكذب بثواب الله وعقابه؟! فلا تطعه في أمره ونهيه. قال ابن عباس: {الذي يُكَذِّبُ بالدين} أي: بحكم الله جل ذكره. وقال ابن جريج {بالدين}: بالحساب.

[والدين] عند أهل اللغة في هذا وشبهه بمعنى الجزاء، كما قال {مالك يَوْمِ الدين} [الفتح: 4]، أي: يوم الجزاء، ومنه قولهم: كما تدين تدان، أي كما تجزي تجازى. فالمعنى: أرأيت يا محمد هذا الذي يكذب بالجَزاء فلا يعمل خبراً ولا ينتهي عن شر، فهو الذي يدع اليتيم، أي: يدفعه، لأنه لا ينتظر عقاباً على عَمله ولا جزاء. ثم قال تعالى: {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} أي: فهذا الذي يدفع اليتيم [عن] حقه ويظلمه. [يقال]: دعَعْت فلاناً عن حقه، فأنا أدعهُ دعَّا. قال ابن عباس: " {يَدُعُّ اليتيم}، أي: " يدفَعُ اليتيم. وقال مجاهد: {يَدُعُّ اليتيم}، أي: يدفع اليتيم فلا يطعمه ".

وقال قتادة: " يقهره ويظلمه ". وقال إبراهيم بن عرفة: يدفع اليتيم عن حقه. ثم قال تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي: لا يحض غيره على طعام المحتاج إلى الطعام. ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أي: فالوادي الذي يسيل من صديد أهل النار للسّاهين عن صلاتهم الذين يصلون ولا يريدون بصلاتهم وجه الله. وقال ابن عباس: [هم] الذين يؤخرونها عن وقتها. وهذه رواية تخالف [قول] جميع المفسرين، وقد رويت عن النبي A. فهي من أشد أية نزلت في المصلين على هذا التأويل إن صح. وعن ابن عباس أيضا أنه قال: هم المنافقون، كانوا يراءون (الناس) بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعون

المؤمنين العارية من الماعون بُغْضاً لهم. وقال مجاهد: {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} هو " الترك لها ". وعنه أنه قال: هم لاهون عنها. وقال قتادة: هم غافلون لا يبالي أحدهم صلى أو لم يصل. وقال ابن زيد: " يصلون وليس الصلاة من شأنهم ". وقال [سعد] بن أبي وقاص: " [سألت] رسول الله A عن {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} فقال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ". ورَوى [أبو بزرة الأسلمي] " أن رسول الله A قال - لما نزلت هذه

الآية: الله أكبر هذه خير لكم من [أن لو أعطي] رجل منكم مثل جميع الدنيا، هو الذي إن صلى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يخف ربه " وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال: " عن صلاتهم ساهون " ولم يقل " في صلاتهم ساهون ". ثم قال تعالى: {الذين هُمْ يُرَآءُونَ} الناس بصلاتهم إذا صلوا، لأنهم لا يصلون رغبة في ثواب، ولا [خوفاً] من عقاب، إنما يصونها ليكفوا الناس عن دمائهم وأموالهم وذَرَاريهم، وهم المنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله A، وعلى ذلك أكثر أهل التفسير. ثم قال تعالى {وَيَمْنَعُونَ الماعون}.

قال علي بن أبي طالب Bهـ: الماعون " الزكاة " وقاله ابن عمر، وقال ابن مسعود: هو المتاع يتعاطاه الناس بينهم. وهو قول ابن الحنيفة وقتادة والحسن والضحاك وابن زيد، وذلك نحو الفأس والقدر والدلو. وقال ابن عباس: " هو متاع البيت. وروي ذلك (أيضا) عن علي Bهـ. قال محمد بن كعب: " الماعُونَ: المعروف ". وقال ابن المسيّب: " المَاعُونَ " بلسان قريش: المال ". وحكى الفراء عن بعض العرب أنه قال: المَاعُونَ: الماء. وسئل النبي A عمّا لا يحل أن يمنع فقال: " الماء والملح ".

والمَاعُونَ في اللغة من المعْن، وهو الشيء القليل.

الكوثر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكوثر مكية قوله تعالى: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} إلى آخرها. قال [ابن عمر وابن عباس Bهما]: الكَوْثَرُ نهرْ في الجنة، حافتاه ذهب وفضة يجري على الدر والياقوت، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العَسَل/. روى أنس " أن النبي A قال حين عرج به إلى السماء: رأيت نهراً عجّاجاً مثل السَّهْمِ يطرد، أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، حافتاه قباب من در مجوف فقلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا الكَوْثَرُ الذي أعطاكه ربك، (قال): فضربت

[بيدي] إلى حمأته، فإذا هي مسكة ذفرة، ثم ضربت بيدي إلى [رضراضه فإذا هو] در " وقالت عائشة Bها: الكَوْثَرُ نهر في بطنان الجنة، قيل لها: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسط الجنة، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك، وحصباؤه: اللؤلؤ والياقوت. وعن أنس بن مالك أنه قال: لما أسري برسول الله A مضى به جبريل عليه السلام في السماء الثانية فإذاهو بنهر عليه قصر من اللؤلؤ والزبرجد فذهب ليشم ترابه فإذا هو مسك. قال: يا جبريل، ما هذا النُهْر؟ قال: الكوثر الذي خبأ لك وربك. وروى ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكَوْثَرُ: " [الخير الكثير] ". وقال ابن جبير: النهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه.

وعن ابن عباس أيضا أنه قال: الكوثر هو الخير الكثير والقرآن والحكمة. وقال عطاء: الكَوْثَرُ " حوض في الجنة أُعطيه النبي A ". وروي عن النبي A أنه قال: " بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر، حافتاه قِباب اللؤلؤ المجوَّف، فقال الملك الذي معي: أتدري ما هذا؟ [هذا] الكوثؤ الذي أعطاك الله، وضرب بيده إلى أرضه فاستخرج من طينه المسك ". ثم قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر}. أي: [فحافظ] (على الصلوات المكتوبة) في أوقاتها. وقال أنس: كان النبي A ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة، فأمر أن يصلي ثم ينحر. وهو قول قتادة. وقال محمد بن كعب القرظي: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله، فأنزل الله هذه السورة. فالمعنى عنده: إنا أعطيناك الكوثر يا محمد، فلا تكن صلاتك ونحرك إلا لله.

وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية يوم الحديبية لما صد المشركون النبي A عن البيت، أتاه جبريل وقال: صل وأنْحر وارجع، فقام رسول الله A، [ فخطب خطبة الفطر والنحر، ثم ركع كعتين، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، فذلك قوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر}. وهذا القول يدل على أن السورة مدنية، وقال الضحاك: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ}، أي: ادع ربك وأسأله. وقال علي بن أبي طالب Bهـ: معنى {وانحر}، ضع اليمين على الشمال في الصلاة. وروي عنه: ضع اليمنى على الساعد الأيسر على صدرك. وعنه أيضاً وعن أبي هريرة: يجعل يديه تحت السُّرة. وهذا مذهب الكوفيين.

وقيل: معنى {وانحر} ارفع يديك إذا استفحت الصلاة إلى النحر. وقال ابن جبير: معناه فصل لربك المكتوبة، وانحر البدن يمنى. وقاله ابن عباس. وحكى الفراء {وانحر} استقبل القبلة بنحرك. ثم قال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} أي: إن مُبغِضك يا محمد وعدوك هو الأبتر، أي هو الذي لا عقب له، عني بذلك العاصي بن وائل السهمي. وقال قتادة: {هُوَ الأبتر} أي: هو الحقير الذليل. قال ابن زيد: قال رجل: إنما محمد أبتر ليس له - كما ترون - عقب، فأنزل الله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر}.

(وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط، كان يقول: إنه لا يبقى لنبي A ولد وهو أبتر فأنزل الله جل ذكره: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} وقال ابن عباس: " لما قدم كعب ابن الأشرف مكة أتوه - يعني قريشا - فقالوا له: نحن أهل السَّدانة والسقاية، وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا [الصُّبُور] [المنبتر] من قومه، (يزعم أنه) [خير] منا، فقال: بل أنتم خير منه، ونزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} قال: وأنزلت عليه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} إلى قوله: {نَصِيراً} [النساء: 51 - 52]. وعن ابن عباس أنها نزلت في أبي جهل قال: والمعنى أن عدوك أبا جهل هو الأبتر.

الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكافرين مكية قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخرها. روى المفسرون أن المشركين كانوا قد عرضوا على رسول الله A أن يعبدوا الله D سنة/ على أن يعبد نبي الله آلهتهم سنة، فأنزل الله جل ذكره جوابهم {قُلْ يا أيها الكافرون} إلى آخرها. والمعنى: قل - يا محمد - {قُلْ يا أيها الكافرون} بالله لاَ أعْبُدُ ما تعبُدُونَ من الأصنام والأوثان الآن، ولا أنتم عابدون الآن ما أعبد، ولا أنا عابد في ما [أستَقْبِلُ) ما عبدتم في ما مضى {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} في ما تستقبلون أبداً ما أعبُدُ أنا الآن (و) في ما أستقبل.

وروي أن ذلك نزل في أشخاً بأعيانهم قد علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً، فأمر الله نبيه أن يؤيسهم مما طلبوا وأن ذلك لا يكون منه بد ولا منهم، فلا هو يعبد ما يعبدون أبداً ولا هم يعبدونَ ما يعبد هو أبداً لما سبق في علمه من شقوتهم. قال ابن عباس: وعد قريش نبي الله E أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه من أراد من النّساء، [وقالوا]: هذا لك عندنا يا محمد، وكُفَّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فإنّا نعرض عليك خصلة واحدة [فهي] لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا اللات والعزى (سنة)، ونعبد إلهك سنة. قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: {قُلْ يا أيها الكافرون} إلى آخها وأنزل الله أيضا {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} إلى قوله: {وَكُن مِّنَ الشاكرين} [الزمر: 64 - 66].

قال المبرد: ليس في هذا تكرير، وإنما جهل من قال إنه يكون في اللغة، وإنما المعنى: {قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} في هذا الوقف، وكذا {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} وانقضى الكلام، وهو التمام عند أبي حاتم على هذا المعنى. ومن جعله تكرير للتأكيد كان التمام آخر السورة. قال المبرد: ثم قال {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: فيما استقبل {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} مثله. وكان في هذا دلالة على نبوة محمد A، لأن كل من خاطبه بهذه الخطابة لم يسلم منهم أحد، وكذا الذين خَاطَبَهُم بقوله: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]. وروي أن الوليد بن المغيرة (و) العاصي بن وائل والأسود [بن المطلب، وأمية بن) خلف لقوا رسول الله A، فقالوا: يا محمد، [هلم]، فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد، ونشركك في [أمرنا] كله، فإن كان الذي جئت به خيراً

مما في أيدينا كنا قد (شركناك فيه، وأخذنا بحفظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت) قد شركتنا في [أمرنا] وأخذا بحظك منه، فأنزل الله جل ذكره: {قُلْ يا أيها الكافرون} إلى آخرها. قوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي: لكم دينكم فلا تتركونه أبداً، لأن الله قد قضى (عليكم) ألا تنتقلوا منه وأنتم تموتون عليه، ولي دين لا أتركه أبداً لما (قد) قدر الله علي فيه، فعليه أموت.

النصر

بسم الله الرحمن الرحيم سورة النصر مدنية قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} إلى آخرها. العامل في {إِذَا جَآءَ} على ما تقدم في {إِذَا زُلْزِلَتِ}. والمعنى: إذا جاء - يا محمد - نصر الله إياك على قومك {والفتح} أي فتح مكة. {وَرَأَيْتَ الناس. . .} في صنوف قبائل العرب {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً}، أي: الإسلام الذي بَعَثْتُكَ بِه {أَفْوَاجاً}، أي: زمراً زمراً. قال ابن عباس: " بَيْنَا رَسُولُ الله A فِي الْمدِينة إذا قال: الله أكبر، الله أكبر، جاء نصر الله والفتح، جاء أَهْلُ اليَمَنِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قال: قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قلُوبُهُمْ، لَيّنَةٌ [طِبَاعُهُمْ]، الإيمان يَمَانٌ والحِكْمَة يَمَانِيه " [قالت عائشة Bها:

" مَا صَلَّى النبيُّ A صَلاةً بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} إِلاَّ يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ". وروي عنها " أنه عليه السلام كان يقول ذلك في ركوعه وسجودة يَتَأَوَّلُ القرآن " وسئل عمر عن قوله {والفتح}، فقال: فتح المدائن والحصون، فقال لابن عباس: ما تقول؟ قال: أَجَلْ، هو مثل ضُرِبَ لمحمد، نُعِيَتْ له نفسه. وقالت عائشة Bها: " كَان رسول الله A يكثر من قول سبحان اكلله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه. قالت: فقلت: يا رسول الله، أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله واتوب إليه! فقال: خبرني ربي جل ثناؤه أني سألى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها، {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح}، (فتح) مكة {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} ".

وقال ابن عباس: سأل عمر بن الخطاب Bهـ عن قول الله {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح}، فقالوا: فتح المدائن والقصور/ قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: فقلت: هو مثل ضرب لمحمد A نعيت له نفسهز وروي عه أنه قال: هذه السورة علم وحد وحده (الله لنبيه) ونعى له نفسه، (أي) إنك لن تعيش بعد هذا إلا قليلاً. قال قتادة: " والله، ما عاش بعد ذلك إلا قليلاً، سنتين، ثم توفي A ". وهو قول ابن مسعود ومجاهد والضحك ومعنى {واستغفره}: واسأله المغفرة. {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}. (أي): إن الله لم يزل ذا رجوع لعبده المطيع إلى يجب، وقوله: {واستغفره} وقف كاف عند أبي حاتم.

تبت

بسم الله الرحمن الرحيم سورة تبت مكية نزلت هذه السورة في أبي لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي زوجته أم جميل أخت أبي سفيان وعمة معاوية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد زوج ابنته أم كلثوم من عتيبة ابن أبي لهب، وزوج ابنته رقية من ابن عمه -أبي لهب- عتبة. فلما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي) أمر أبو لهب وامرأته أم جميل ابنيهما عتيبة وعتبة بطلاق ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم ورقية فطلقاهما وأتى عتبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجفا عليه وشق قميصه، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بان يسلط الله عليه كلبه، فمضى إلى الشام فقتله الأسد فتزوج عثمان رقية وتوفيت عنده، ثم تزوج أم كلثوم فتوفيت عنده، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب، وكان لعبد المطلب عشرة من البنين منهم عبد الله والد

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو لهب وامرأته من أشد قريش عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: عتيبة هو الذي أكله الأسد بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعتبة أسلم وأبلى. قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها. أي: خسرت يدا أبي لهب، وقد خسر. فالأول [دعاء] والثاني [خبر]، كما تقول: [أهلكه] الله وقد هلك وفي قراءة عبد الله: " وقد تب " ووقع الإخبار والدعاء عن اليدين على طريق المجاز، والمراد صاحبهما، يدل على ذلك قوله: {وَتَبَّ} ولم يقل: وتبتا. وقيل: هو حقيقة، وذلك أن أبا لهب أراد أن [يرمي] رسول الله A فمنعه الله من ذلك، ونزلت: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، فالأولى على الحقيقة لليدين، والثانية لأبي لهب، لأنه إذا خسرت يداه فقد خس هو.

(قال ابن زيد: التب الخسران) قال ابن زيد: قال أبو لهب للنبي A: وماذا أعطى - يا محمد - إن آمنت بربك؟ قال: ما يعطى المسلمون. قال [فمالي] عليكم فضل! قال: تبًّا وأي شيء [تبتغي]؟ قال: تبا لهذا من دين، (تباً) أن أكون أنا وهؤلاء سواءً، فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، فعلى هذا يكون مجازا، والمرد به عين أبي لهب لاَ يَدَاهُ. وروي أن النبي A خص عشيرته بالدعوة إذ نزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] فجمعهم ودعاهم وأنذرهم، فقال له أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا، فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. قال ابن عباس: " صعد النبي A ذات يوم [الصفا]، فقال: يا صاحباه، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ فقال: أرأيتكم إن (أخبرتكم) أن العدو

[مصبحكم]) أو ممسيكم، أما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال [أبو] لهب: تباً لك: ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخر السورة ". وكان اسم أبي لهب: عبد العزى، فذلك ذُكَِ بكنيته في القرآن. وقوله: {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} إن جعلت ما أستفهاما كانت في موضع (نصب) بأغنى، وإن جعلتها نفيا كانت حرفا، وقدَّرْتَ مفعولاً محذوفاً، أي: ما أغنى عنه ماله شيئاً. والمعنى: ما يغني عنه ماله في الآخرة وفي الدنيا إذا جاءه الموت. وقوله: {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}، يعني ما اقتنى من الموال والأغراض.

وقيل: {وَمَا كَسَبَ} عني به ولده، أي ما أغنى عنه ماله وما ولد. وروى أبو الطفيل أن أولاد أبي لهب جاؤوا يختصمون في البيت، فقام ابن عباس يحجز بينهم (وقد كفّ بصرُهُ)، [فدفعه] بعضهم حتّى وَقَع عَلَى الفِرَاشِ فغَضِبَ وَقَالَ: أَخْرِجُوا عنّي الكَسْبَ الخَبِيثَ. قال مجاهد: " وَمَا كسَبَ ولده ". وقيل: معناه: وما كسب من مال وجاه. ثم قال تعالى: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} روي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ " سَيُصْلَى " بضم الياء والمعنى: سَيُقَاسِي حرَّ نارٍ ذاتِ توقُّدٍ وتَلَهُّبٍ.

يقال: صلَيْتُ بالأمْرِ أَصْلَى: إذَا قاسَيْتَ حَرَّهُ وَشِدَّتَهُ، وَصَلَيْتُهُ: شَوَيْتُهُ وفي الحديث " شَاة مَصْلِيَّة أي: مَشْويَّة والمعنى: سيصلى أبو لهب ناراً ذات له وامراته، وجاز العطف على المضمر المرفوع، [لأنه قد فرق] بينهما فقام التفريق مقام التأكيد. وقوله: {حَمَّالَةَ الحطب} نعت للمرأة وهي أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب عَمَّةُ معاوية، نعتت بهذا لأنه قد كان له زوجات غيرها. وقيل: نعتت به على طريق [التخسيس] [لها] عقوبة لأذَاها رسول الله A. ويجوز أن تكون {وامرأته} [متبدأ] و {حَمَّالَةَ الحطب} نعت، وفي {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} ابتداء وخبر في موضع خبر (لامرأة، ويجوز أن يكون

{حَمَّالَةَ الحطب} خبراً " لامرأة " و {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} ابتداء وخبر في موضع خبر ثان، [أو في موضع] الحال. ويجوز أن ترتفع " حَمَّالةُ الحطب " على البدل من [{وامرأته} وتكون (معنى) الخبر {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} الجملة إن جعلت {وامرأته} [مبتدا]. ويجوز أن يكون {حَمَّالَةَ الحطب} / نكرة [يراد] به الاستقبال على ما سنذكره من قول المفسرين في معناه. ويجوز أن يكون معرفة يراد به الماضي على ما سنذكره من قول المفسرين. فإن جعلت " المرأة " عطفاً على المضمر في {سيصلى} كان {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} في موضع الحال من المرأة. ومن [نصب] (حمَّالة) [نصبه] على الذم.

قال ابن عباس: كانت تحمل الشوك فتجره على طريق النبي A ليعقره وأصحابه، فلذلك ننعتت " بحمالة الحطب ". وهو قول الضحاك وابن زيد. وقال عكرمة: " كانت تمشي بالنميمة ". وعن مجاهد مثله، وقاله قتادة. [وقيل إن {حَمَّالَةَ الحطب} تمثيل لأذاها رسول الله A، والعرب تقول: فلان] يحطب على فلان، أي [يُغْري به] [وَيُؤذِيهِ] فشبه الحطب [بالعداوة]. وقيل: معنى {حَمَّالَةَ الحطب} أي: [الخطايا و] الذنوب والفواحش، كما

يقال: فلان يحطب على نفسه، إذا كان كثير الاكتساب الذنوب. وقوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أي: في عنقها، والجيد: العُنُقُ. قال الضحاك: " هو حبل من شجر، وهو الحبل الذي كانت تحتطب به، [وقاله] ابن عباس. وقال ابن زيد: هي حبال من شجر [ينبت] باليمن يقال لها: مسد. وقيل: {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}، أي: " حبل من نار في رقبتها ". وقال السدي: المسد: الليف. وقال عروة: " هو سلسلة من حديد ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً ". (وقال سفيان:

" حبل في عنقها من النار مثل طوق طوله سبعون ذراعاً " وعن مجاهد {مِّن مَّسَدٍ} " من حديد ". وقال عكرمة: {مِّن مَّسَدٍ} هي: " [الحدِيدَةُ] التي في وسط البكرة " وروي ذلك أيضا عن مجاهد. وقال قتادة: {حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ}: " [قِلاَدَة] " من ودع. فمن جعل هذا إخبار عما يكون في النار من حالها كانت {حَمَّالَةَ الحطب} نكرة لأنه يراد به الاستقبال، فلا يحسن أن يكون صفة ل {امرأته}. ومن جعله بمعنى قد مضى مثل [مشيها] بالنمائم وحَمْلِها الشوك لطريق رسول الله A، ف {حَمَّالَةَ الحطب} معرفة يحسن أن [تكون] صفة ل {امرأته}. والوقف في هذه السورة على مقدار ما تَقَّدَّرَ مما تَقَدَّمَ ذكره من النعت والخبر.

الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الإخلاص مكية قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها. والمعنى: الحَدِيثُ الَّذي هو الحقُّ: اللهُ أَحَدٌ، فهو رفع بالابتداء كِنَايَةً عن الحديث، و {الله} مبتدأ و {أَحَدٌ} خبره، والجملة خبر عن {هُوَ}. ولا يجيز الفراء أن [يكون] {هُوَ} كناية عن الحديث إلا (إذا) تقَدَّمَهُ شيء، وهو عنده كناية عن مُفردٍ الله خَبَرُهُ،. وهو قول الأخفش. وقال الأخفش: {أَحَدٌ} بدل من لفظ اسم الله. والمعنى: الله [إله]

واحد، أي معبود واحد لا معبود غيره تجب له العبادة. ثم قال تعالى: {الله الصمد}. {الله} رفع بالابتداء، و {الصمد} نعته، وما بعد ذلك خبر. ويجوز أن يكون {الصمد} هو الخبر. ويجوز أن يرفع على إضمار ابتداء و {الصمد} نعت، أي: هو الله الصمد، ويجوز على هذا أن يكون {الصمد} خبراً ثانياً، ويجوز أن يكون {الله} بدلا من {أَحَدٌ}. ويجوز أن يكون {الله} بدلا من {الله} الأول، وفي التكرير معنى التعظيم. وروي أن اليهود عليهم اللعنة سألوا النبي A أن يصف لهم ربه D و (ينسبه) فأنزل الله {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها.

وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بحذف التنوين من {أَحَدٌ}، حَذَفَهُ لالتقاءِ السَّاكنين. وروي عنه أنه إنما كان يفعل ذلك يريد السكوت عليه فإذا وَصَلَ نَوَّن، وَحَسُنَ الوَقْفُ عليه لأه رأس آية. و {أَحَدٌ} بمعنى واحد. وقيل: {أَحَدٌ} هنا على بابه، بمعنى: أول، كما يقال: الْيَوُمُ الأَحَدُ، أي اليوم الأول، أي: أول الأيام، وذلك مسموع من العرب. وقال بعض العلماء: في " أحد " من [الفائدة] ما ليس في " واحد " وذلك إنك إذا قلت: فلان لا يقوم به واحد، جاز أم يقوم به اثنان فأكثر. وإذا قلت: فلان لا يقوم به أحد، تَضَمَّنَ معنى " واحد " (فأكثر)، [وأَكْثَرُ] ما يقع " أحد " إذا كان للعموم بعد النفي، فذلك بَعُدَ أن يكون " أحد " [هنا] على بابه.

وجعله أكثرهم بمعنى " واحد "، لأن واحداً يقع في الإيجاب، [تقول] مرَّ بنا أحد، أي واحد. وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي: لم يكن له ولد ولا يكون، ولم يكن هو من والد ولا يكون. وقيل: معناه ليس بِفَانٍ، لأنه ليس شيء " يَلِدُ إلاَّ وهو فَانٍ {وَلَمْ يُولَدْ} ليس بمُحْدَثٍ، لم يكن فكان، فأن كل مولود فإنما وجد بعد أن لم يكن لكنه جل وعز قديم لا يَبِيدُ وَلا يَفْنَى ليس كمثله شيء. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: تَفَكَّرُوا في كل شيء، ولا تَفَكَّرُوا في ذات الله، فإن بين السماء السابعة [إلى الكرسي] سبعة آلاف نور، والله فوق ذلك. وروي أن المشركين سألوا رسول الله A عن صفة رب العزة، فأنزل الله عليه هذه السورة جواباً لهم. وقيل: إن اليهود قالوا اللنبي A /: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق اللهَ جل

ثناؤه؟ فأُنْزِلَت هذه السورة جواباً لهم. وقال عكرمة: إن المشركين قالوا: يا محمد، [أخبرنا عن ربك]، [صف] لنا ربك ما هو؟ ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله جل ذكره {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها. وقال أبو العالية: [قال قَادَةُ الأحزاب] للنبي A: انْسُبْ لنا ربَّك، فأتاه جبريل عليه السلام بهذه السورة. [وقال] ابن عباس: " دَخلَتِ اليَهُودُ عَلَىَ نَبِيِّ (الله) A فقالت: يا محمد، لنا ربَّك [وانْسُبْهُ لنا]، فقد وَصَفَ نفسَه في التوراة ونَسَبَها. فارْتَعَدَ رسول الله A حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ، فقَال: كَيْفَ تَسْأَلُونِي عَنْ [صِفَةِ] رَبِّي ونَسَبِه؟! وَلَوْ سَأَلْتُمُونِي

أَنْ أَصِفَ لَكُمْ الشَّمْسَ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لَهُمْ: {الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، أي ليس بوالد ولا بمولود، و {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} "، أي: لم يكن (لَهُ) شبيه من خلقه فيوصف به أو ينسب إليه، فهذه صِفَةُ ربي ونَسَبُه. وروى محمد بن إسحاق عن محمد [عن] سعيد " أن رهطاً من اليهود أَتَوْا إِلَى النَّبِيَّ A فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، اللهُ خَالِقُ الْخَلأْقِ، فَمَنْ خَلَقَهُ؟ فَغَضِبَ النَّبي A حَتَى [انْتَقَعَ] لَوْنُهُ غَضَباً لِرَبِّهِ، فَجَاءهُ جِبْرِيلُ عليه السلام فَسَكَّنَهُ، وَقَالَ: اخْفِضْ عَلَيْكِ

جَنَاحَكَ - يَا مُحَمَّدُ - وَجَاءَهُ مِنَ الله جَوَابُ مَا سَأَلُوهُ عَنْه، قَالَ: يَقولُ الله - جَلَّ ثَنَاؤهُ - {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} إلى آخرها، فَلَمَّا تَلاَ عَلَيْهمُ النَّبيُّ - عليه السلام - السُّورَةَ. قَالُوا: صِفْ لَنَا رَبَّكَ، كَيْفَ خَلْقُهُ؟ وَكَيْفَ عَضُدُهُ؟ وكَيْفَ [ذِرَاعُهُ]؟، فَغَضِبَ النَّبِيُّ A أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ الأَوَّلِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ - عليه السلام - فَقَالَ لهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى، وأَتَاهُ بِجَوابِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} إلى قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} ". وقوله: {الصمد}. قال ابن عباس: {الصمد} الذي لا جوف له. وهو قول مجاهد والحسن. وابن جبير والضحاك. وقال الشعبي: هو " الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ". وقال عكرمة: هو " الذي لم يخرج منه شيء {[لَمْ] يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.

وقال أبو العالية: {الصمد} الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء يلد إلا سيورث ولا شيء يولد إلا سيموت، فأخبرهم جل عز أنه لا يورث ولا يموت، وهو قول أبي بن كعب. وقال [شقيق]: {الصمد}: (السيد) الذي قد انتهى سؤدده. وقال ابن عباس: {الصمد} السَّيّدُ الذِي قَدْ كَمُلَ [فِي] سُؤْددِهِ وَالشَّرِيفُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالعظِيمُ الذي [قد] كمل فِي عَظَمَتِهِ، والحَلِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي [حِلْمِهِ]، وَالغَنِيُّ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ، وَالجَبَّارُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ، وَالعَالِمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالحَكِيمُ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهُوَ الذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدَدِ، وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ، هَذِهِ صِفَتُهُ،

[لاَ تَنْبغِي] لأَحَدٍ إلاَّ لَهُ. وقال قتادة: {الصمد} البَاقي الذي لا يَفْنَى، وقال: هذه سورة خالصة ليس فيها شيء من أمر الدنيا والآخرة. وقال [الحسن]: الصمد الدائم. والصمد عند العرب الذي يصمد إليه، الذي لا [أحد] فوقه. {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}. {كُفُواً} خبر " كان " و {أَحَدٌ} اسمها. وكان سيبويه يختار أن يكون الظرف خبرا إذا قدَّمَهُ [فيختار] إنَّ فِي الدّارِ زَيْداً جَالِساً، فجعل الظرف خبرا لتقدمه وينصب " جالساً على الحال،

فَخَطَّأَهُ المُبَرِّدُ [بِهَذِهِ] الآية، لأنه (قد) قدم الظرف ولم يجعله خبراً. والجواب عن سيبويه أن [سيبويه] لم يمنع [إلغاء] الظرف إذا [تقدم، إنما اختار أن يكون خبراً ويجوز عنده ألا [يكون] خبراً، [وقد] أشهد شاهداً على [إلغائه] وهو ومقدم، وذلك قول الشاعر: مَا دَامَ فِيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّا ... وأيضا فإنه (قد) يجوز أن يكون (كفؤاً) حالاً من النكرة [وهي] {أَحَدٌ} لمَّا تَقَدَّمَ نعتُها عليها نُصِبَ لِلْحَالِ، فيكون " [لهُ] " الخبر على مذهب سيبويه

واختياره، ولا يكون للمبرد على سيبويه حجة على هذا القول. وقال أبو العالية في [معنى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}: ليس] له [مثل] شبيه ولا عدل، وليس كمثله شيء. وقال كعب: إن الله جل ذكره [أسس] السماوات السبع والأرضين السبع على هذه السورة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} إلى آخرها، وإن الله جل ذكره لم يكافئه من خلقه أحد. قال ابن عباس: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}: ليس كمثله شيء، فسبحانه هو الله الواحد/ القهار. وقال مجاهد: معناه: ولم تكن له صاحبة. والكفء - في

كلام العرب - الشبيه والمثل. وقولهم: لا كفاء له، أي لا مثل له، وقولهم: فلان كفء لفلان معناه: نظير له وشبيه. ومنه: كافأت الرجل، أي فعلت به مثل [ما فعل]. ومنه كفأت [الإناء]، أي جعلت (في) موضع الماء [التفريغ]. وكفأت في [الشعر]: جعلت حرفا نظير حرف. وقرأ سليمان بن علي الهاشمي: ولم يكن له [كفاء] أحد، وهو بمعنى {كُفُواً} "، يقال: كفء [وكفء] وكِفاء وكفء بمعنى [فيجمع] [كفء]

[كفء] على أكفاء، ويحمع كفاء وكفئ على أكفيه.

الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الفلق مدنية قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} إلى آخر ها. (قال زر: " سألت أُبي بن كعب عن المعوذتين، فقال: سألت رسول الله A عن ذلك فقال: قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله A " وقاله ابن مسعود بمثله. ومعنى ذلك - والله أعلم - " أنهما سألا النبي A عن إثبات " قل " في أولهما، فقال النبي عليه السلام: قيل: لي: " قُلْ أَعوذُ "، فقلت: [أي]: قيل لي: اقرأ {قُلْ أَعُوذُ} فقرأها، بإثبات " قل " على أنها أمر به. وكأنه كان يقال في غير هذه السور

الثلاث: " قل ألَم نشرَحْ "، " قُل إِنّا أنزَلناهُ ". وقيل في هذه الثلاثة: اقرأ: {قُلْ أَعُوذُ}، اقرأ: {قُلْ هُوَ الله}، هذا بإثبات " قل " في ذلك، وقال أبي بن كعب وابن مسعود: فنحن نقول كما قال رسول الله A فالمعنى: اقرأ - يا محمد - {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}. قال ابن عباس: " الفلق: سجن في جهنم ". قال بعض الصحابة: الفلق بيت في جهنم، إذا فتح هرب أهل النار، [كذا في كتاب عبد بن حميد]. وذكر ابن وهب أن كعباً قال: الفلق بيت في جهنم إذا (فتح) صاح جميع أهل النار ن شدة حره أعاذنا الله منها.

وقال السدي: الفلق جب " في جهنم ". وروى أبو هريرة أن النبي A ( قال): " الفلق جب في جهنم مغطى ". وقال أبو عبد الرحمن [الحبلي]: هو جهنم. وقال ابن عباس والحسن وابن جبير ومحمد بن كعب ومجاهد وقتادة وابن زيد: هو فقل النهار، يريدون فلق الصبح، وعن ابن جبير [أيضاً] أنه جب في النار. والعرب تقول: هو أبين من فلق الصبح، ومن [فرق] الصبح يعنون الفجر، ويقولون لكل شيء أضاء من الأرض: فلق. وعن ابن عباس أيضاً: الفلق: [الخلق].

وقوله: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}، أي: من شر كل ذي شر، أمر الله نبيه أن يتعوذ من شر (كل) ذي شر، لأن ما سواه - تعالى ذكره - مخلوق. ثم قال تعالى ذكره: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}. قال ابن عباس والحسن: الغاسق [الليل إذا أظلم]. وقال محمد بن كعب {غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} " النهار إذا دخل [في الليل]. وقال مجاهد: هو الليل [: إذا أظلم، وقال أيضاً]: إذا دخل. وقال أبو هريرة Bهـ: هو " كوكب ". وقال ابن زيد: كانت العرب تقول: الغاسق سقوط الثريا، وكانت الأسقام والطاعون يكثران عند سقوطهما ويرتفعان عند طلوعها.

وروى أبو هريرة عن النبي A أنه قال: " النجم هو الغاسق ". وقالت عائشة Bها: " أخذ النبي A بيدي، ثم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة، تعوذي بالله من شر غاسق إذا وقب، (هذا غاسق إذا وقب) " وقال الزهري: الغاسق إذا وقب: " الشمس إذا غربت ". والمعروف في كلام العرب: وَقَبَ بمعنى دخَلَ. ويقال: غَسَقَ: إذا أظلمَ، فالليل إذا دخل في ظلامه غاسقٌ، وكذا القمرُ إذا دخلَ في المَغيبِ للكسوف وغيره، وكذا النجم، [فالاستعاذة] عامة من [كل] هذا، فهو الظاهر. ويقال: غَسَقَ إذَا أظلَمَ. وقال القتبي: {إِذَا وَقَبَ}: هو القمر إذا دخلَ في ساهُوِرِهِ، وهو كالغلاف له،

وذلك إذا خسف. وكلّ شيء أسْوَدُ فهو غَسَقَ. قال الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة: الغاسق الليل. قال الحسن: {إِذَا وَقَبَ}: إذا دخل على الناس. قال عكرمة: تجلى فيه عفاريت الجنّ. ثم قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد}. أي: من شرّ السواحر [اللاتي] ينفثن في الخيط حين [يَرْقِينَ] عليها. قال ابن عباس: هو (ما) خلط السحر من الرُّقَى. قال مجاهد: هو " الرُّقى فِي عُقَدِ الخَيْطِ ". وقال مجاهد: هو نَفْثُ " السواحرِ في العقد ".

ويقال: إنهنّ نساء كنّ في عهد رسول الله A سواحر، أمر النبي A بالاستعاذة منهنّ، لأنهنّ يوهمن/ أنهم [ينفعن] أو [يضرّن]، فربما لحق الإنسانَ في دينه مأثم. ويروى أنّ النبيَّ لمّا سُحِرَ عُقِدَ لهُ إحدَى عشْرة عُقْدَةً، فأَنْزَلَ الله جلَّ ذكرُه إحدى [عَشْرَةَ] آيةً بِعَدَدِ العُقَدِ، وهي المَعُوذَتَانِ. والنَّفْثُ يكونُ بالفَمِ [شَبيهٌ] بالنَّفْخِ، والتَّفْلُ لا يَكُونُ إلاّ معَ الرِّيقِ. ثم قال: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. قال قتادة: معناه: " من شرِّ عَيْنِهِ وَنَفْسِهِ ". وقال ابن زيد: أُمِرَ النَّبِيُّ A أَنْ [يَسْتَعِيذَ] مِنْ شَرِّ اليَهُودِ الّذينَ حَسَدُوهُ، لَمْ يَمْنَعُهُم أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ إلاَّ [حسَدُهُم].

وقيل: هو لَبيدُ بنُ الأَعْصَمِ وبَناتِهِ منَ السَّواحِرِ.

الناس

بسم الله الرحمن الرحيم سورة الناس مدنية {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} إلى آخرها. (المعنى: أقرأ يا محمد: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} فأَثْبَتَ " قُلْ " فِي قَرَاءَتِهِ كما أُمِرَ، أي): قل [يا] محمد، استعيذ برب الناس، وهو الله جل ذكره، {مَلِكِ الناس}، هو الله. وخص الناس بالذكر وهو تعالى جل ذكره رب جميع الخلق وملِكُهم، لأن بعض الناس كان يُعَظِّم بعض الناس تعظيم المؤمنين ربهم، فأَعْلَمَهُم [الله] أنه رب من [يعظمونه] وملكهم [يجري] عليهم [سلطانه] وقدرته.

ثم قال تعالى: {إله الناس} أي: معبود الناس، لا تجب العبادة لغيره. ثم قال: {مِن شَرِّ الوسواس الخناس}. أي الشيطان الخناس، يعني الشيطان يخنص مرة ويوسوس (أخرى، فيخنس إذا ذكره العبد ربه، ويوسوس من صدور الرجل) إذا غفل عن ذكر ربه. فقال ابن عباس: " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل [وسوس]، [وإذا] ذكر الله خنس، فذلك قوله: {الوسواس الخناس} وقال مجاهد: ينبسط الشيطان فإذا ذكر لله خنس وانقبض، فإذا غفل الإنسان انبسط، وهو قول قتادة. وقال ابن زيد: يوسوس مرة، (ويخنس مرة) من الجن والانس وكان يقول: شيطان الإنس أشد على الناس من شيطان الجن، لأن شيطان الجن يوسوس (ولا تراه، وشيطان [الانس] يعاينك معاينة).

وعن ابن عباس أن الشيطان يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور النانس حتى يستجاب له إلى ما دعا من طاعته، فإذا [استجيب] له إلى ذلك خنس. يقال: خنس: إذا استتر، وخنست عنه: تأخرت، وأخنست عنه حقه سترته. وقوله جل ذكره: {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس} قيل: إن {الناس} المتأخر هنا يراد به الجن، وذلك أنهم سموا ناساً ما سموا رجالاً في وقوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن} [الجن: 6]. وحُكِيَ عن بعض العرب أنه قال: جاء قوم [من الجن]، وقد قال الله في مخاطبة الجن لأصحابهم: {ياقومنآ} [الأحقاف: 30] فسموا قوماً [كما يسمى الأنس]. والجنة جمع جنى كما يقال: إنسيّ وإنس، والهاء لتأنيث الجماعة مثل: حجار وحجارة.

وقال علي بن سليمان: قوله {والناس} (معطوف) على {الوسواس}، والتقدير: قل اعوذ برب الناس من الوسواس والناس، فيكون {الناس} على هذا القول يعني به الإنس. وروت عائشة Bها أن النبي A كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} (ثم) يمسح (بهما) ما استطاع (من جسده) يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. A ( وشرف وكرم ومجد).

في فضل أسماء القرآن وصفاته

في فضل أسماء القرآن وصفاته وهذه أسماء القرآن وصفاته: القرآن: جامع جميع [كتب] الله جل وعز. وهو الفرقان، سمي بذلك لتفريقه بين الحق والباطل، وقيل: لتفريقه في نزوله. (وهو المثاني، سمي بذلك [لتكرر] القصص والأمر والنهي [فيه] [ليكون أوعى لمن سمعه]، وأبلغ في [نقله] إذا نقل إلى [الآفاق]. وهو الكتاب كما قال: (الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ).

وهو الذكر كما قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)، وسمي بذلك، لأنه اذكار من الله لخلقه بما ينفع ويضر، وهو مصدر: ذكرته ذكراً. [وللقرآن] أسماء هي صفات، / وذلك الهدى والموعظة والرحمة [والبيان والتبيان، وهو البشير النذير]، وهو من صفته العزيز، لأنه لا يقدر أحد على أن يبطله ولا يأتي بمثله. ومن صفته: الحكيم، لأنه يحكم، الناس، يردهم إلى الحق من قولهم: حكمت الدابة باللحام، إذا ردعتها عن أخذها غير القصد، ومنه حكمة الدابة. ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى المحكم.

ومن صفاته: المهيمن، سمي بذلك، لأنه شاهد على الكتب مصدق (لها)، يقال: هيمن يهيمن، إذا شهد ومن صفاته: بلاغ، سمي بذلك، لأنه يكفي من غيره. ومن صفاته: (الشفاء) لأنه يبرىء من الكفر. ومن صفاته: المجيد، لشرفه على سائر الكلام.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب قال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي المقرىء - رضي الله عنه -: قد أتينا -بعون الله جل ذكره- في هذا الديوان على ما شرطناه على أنفسنا في أوله حسب الطاقة ومبلغ الجهد وغاية المقدرة وعلى قدر ما تذكرته في وقت تأليفنا له واهتدينا إلى مواضعه من كتب مَن تقدَّمنا، ولسنا ننكر أن يكون قد فاتنا الكثير من المنصوص عليه وغفلنا عن تذكر أشياء قد حفظناها عند تأليفنا فأنسيناها عند تصنيفه. والكمال (لله جل ذكره، وعلوم كتاب الله جل ذكره اعظم واجل من أن يحصيها محص ويبلغ) غايتها مدع أويتناها في علم ظاهرها وباطنها متناه. وإنما ذكرنا في كتابنا هذا قدر ما فهمنا ووصل إلينا وعلمنا وروينا مما تذكرناه في وقت تأليفنا له واهتدينا إلى موضع نصه عند تصنيفنا له، ولسنا ننكر أن يغيب عنا من فهمه وعلمه كثير مما وصل إلى غيرنا وأن يكون قد غاب عن ذلك الغير كثير مما وصل

إلى فهمنا وعلمنا، ففوق كل ذي علم علم عليم، حتى يبلغ الغاية في العلم إلى العالم القدير عالم الخفيات، لا إله إلا هو العليم الحكيم. وقد تعمدنا الأختصار في ذلك الإعراب على ما شرطنا لئلا يطول الكتاب وكنا قد ألفنا كتاباً في شرح مشكل الإعراب، فلم نحتج إلى تكريره في هذا الكتاب إلا الشيء اليسير النادر لم يمكن إلا ذكره فذكرناه مختصراً. فرحم الله عبداً ترحم علينا وعلى جميع المسلمين، ودعا لنا بالمغفرة. وأنا أرغب إلى الله ذي القدرة والعزة والجبروت والعظمة (أن ينفع بذلك) ويجزل عليه الأجر، وأن يجعله لوجهه خالصاً وأن يجيرنا ويعيذنا -فيما سعينا فيه- من الرياء والسمعة والتزين به عند الناس وأن يغفر لنا ما وقع من ذلك في أنفسنا، وأن لا يؤاخذنا بخطيئة قبح عندنا [فعلها] وكرهنا العودة إلى مثلها وأن لا يؤثمنا لما وقع منا من غلط أو سهو في هذا الكتاب، فهو القادر على ذلك لا إله إلا الله. ثم صلى الله جل ذكره أولاً وآخراً على محمد النبي وعلى أهله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة كلهم أجميعن، ثم إليه جل ذكره أرغب في المغفرة والعفو لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات.

§1/1