الهداية إلى أوهام الكفاية

الإِسْنَوي

الهداية إلى أوهام الكفاية تأليف الإمام الشيخ جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي المتوفى سنة 772 هـ دراسة وتحقيق وتعليق الأستاذ الدكتور مجدي محمد سرور باسلوم

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد، وآله وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم إنا نحمدك على الهداية إلى ما شرعته، ونسألك القيام بالكفاية لما أودعته، ودوام الرعاية لما استرعيته، ونضرع إليك في الصلاة والسلام سرمدًا على سيدنا محمد المعصوم في القول والعمل، المحفوظ من الزيغ والزلل، وعلى آله وأصحابه تسليمًا كثيرًا، وبعد. فإن كتاب: ((الكفاية في شرح التنبيه)) للشيخ الإمام العلامة نجم الدين أبي العباس أحمد بن الرفعة الأنصاري- رضي الله عنه- لما برز للنواظر في قشيب جموعه رافلًا، وسطع لذوي البصائر وإن كان نجم سمائه آفلًا، اتخذه النقلة المكثرون عمدة، والنقدة المتحرون عدة، وهو حقيق بذلك، وجدير بما هنالك، إذ نهض فيه وسعى، وجمع فأوعى، وأطال واستطال، وأوسع المحال وصال، ونظر فحقق، وناقش فدقق ورجح فوضح، وجرح فأوضح، وكيف لا ولم يخرج من إقليم ((مصر)) بعد انقراض ابن الحداد- فيما علمناه- من الفقهاء من يساويه، ولا من بقية الأمصار بعد الرافعي من يضاهيه؟! ومن تأمل ما صنفه وجده أكثر مما صنف الشيخ محيي الدين، هذا مع ما بينهما أيضًا من التباين في دقة الأعمال وغموضها، إلا أن الكتاب المذكور مع ذلك يشتمل على جملة عظيمة من الأوهام، وما يقارب الوهم من الإطلاق والإيهام، وارتكاب دعوى نفي الخلاف وهو ثابت مستور [؟ مسطور]، أو التوقف في نقله وهو منقول، بل مشهور، حتى اتفق من الغريب وقوع الاعتراض عليه بسبب ذلك في أول شيء افتتح به كتابه وفي آخر شيء ختمه به- كما ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- وقد وقع لي هذا النوع الغريب في ثلاثة تصانيف مما صنفته على هذا الأسلوب: أحدهما: ((المهمات في شرح الرافعي، والروضة))، وهو الكتاب الذي يتعين تحصيله على كل شافعي، خصوصًا القضاة، والمفتين، والمدرسين، وقد من الله سبحانه وتعالى وله الفضل بتمامه.

ثانيها: ((التنقيح))، وهو الكتاب المشهور، الكثير الفوائد على صغر حجمه، الموضوع للاستدراك على تصحيح ((التنبيه)) للنووي. ثالثها: ما ذكرت، وهو هذا الكتاب. فلما رأيت الكتاب المذكور قد اتصف بما وصفناه، وائتلف كما ذكرناه، رأيت من النصح أن أنبه على ما حصل لديه من الغلطات، وأنوه بما احتمله من السقطات، ليجتنب الناظر التعويل عليها، ويتحامى المناظر الركون إليها، وذلك في الحقيقة من صلاح حال الكتاب من غير نقصان في مرتبة مصنفة بالكلية، إذ لا يتصور عادة- خصوصًا مع طول التصنيف- أن يسلم المصنف من الخطأ، والتحريف، والوقوع في مخالفة الأولى، والحود عن الطريقة المثلى، فكل مأخوذ من قوله ومتروك، ألا والسعيد من انعدت غلطاته، وانحسرت سقطاته، وقيد له من تدارك زلله وأصلح خلله، وعزمت- إن شاء الله تعالى- أن أكمل هذا الأمر المهم بفائدة يعظم وقعها، ويكثر نفعها مع قلة حجمها، ونظمها وهو ضبط ما يخشى تحريفه من الأسماء واللغات الواقعة فيه، وتفسير ما يحتاج إلى التفسير منها، فلما شرح الله- تعالى- لذلك صدري، ويسر له أمري جمعت ما حضرني من ذلك، وتيسر لي مما هنالك وسميته: ((الهداية إلى أوهام الكفاية))، والله هو المسئول أن يوفقنا إلى الصواب فيه وفي سائر أحوالنا، وينفع به بمنه وكرمه. وقد ولد المصنف- رحمه الله- بمدينة مصر سنة خمس وأربعين وستمائة. وتوفي بها في الثاني عشر من رجب سنة عشر وسبعمائة، وقد أوضحت حاله مبسوطًا في كتاب ((الطبقات)) التي جمعت فيها فأوعيت، ودعوت فأسمعت- رضي الله عنه وأرضاه- وحشرنا وإياه في دار كرامته ومستقر ورحمته، وغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وجميع المسلمين بمنه وكرمه. * * *

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب المياه قوله- رحمه الله-: الكتاب، مأخوذ من ((الكتب)) وهو الضم. يقال: تكتبت بنو فلان، إذا تجمعوا. انتهى. اعلم أن ((الكتاب)) و ((الكتب)) - كما قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وابن عصفور وغيره من النحاة-: مصدران لـ ((كتب))، ثم توسعوا فأطلقوا ((الكتاب)) على ما وقعت عليه الكتابة، كما توسعوا فقالوا: درهم ضرب الأمير، أي: مضروبه، ولم يقل أحد: إن المصدر مشتق من المصدر، فكيف يصح أن يكون ((الكتاب)) مأخوذًا من ((الكتب))؟!. قوله: والتحقيق ما قاله القاضي حسين في باب نية الوضوء: أن الطهارة الشرعية: رفع الحدث وإزالة النجس، لأن الطهارة مصدر ((طهر))، وذلك يقتضي رفع شيء، والشرع لم يرد [باستعمال] ((الطهارة)) في غير رفع الحدث وإزالة النجس، فاختص الاسم بهما، وإطلاق حملة الشريعة ((الطهارة)) على ما عدا ذلك من مجاز التشبيه. ثم قال القاضي: إن الطهارة عينية وحكمية: فالعينية: ما يختص وجوبها بمحل حلولها، وهي إزالة النجاسة. والحكمية: ما يتعدى وجوبها عن [محل] حلول موجبها كالوضوء والغسل وبدلهما. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن القاضي الحسين من كون الطهارة رفع الحدث وإزالة النجس، غلط فاحش ليس له ذكر في الباب الذي عزاه إليه وهو باب نية الوضوء، ولا في غيره- أيضًا- بل جزم في الباب المذكور بعكسه، وهو أن التيمم طهارة، ولم يذكر ما يخالفه، فإنه قال في أول الباب ما نصه: الطهارة على نوعين: عينية، وحكمية،

فالحكمية: ما يتعدى وجوبها ... إلى آخر ما نقله عنه المصنف. ثم مثل للحكمية بالوضوء والاغتسال والتيمم، ولم يذكر ما يخالفه. ثم إن كلام ابن الرفعة متدافع، لأنه نفى أولًا أن يكون التيمم ونحوه طهارة، وجزم في آخر الكلام بعكسه. واعلم أن القاضي عقد أولًا بابًا في نية الوضوء، وبعده بابًا في سننه، وأراد ابن الرفعة الأول لا الثاني، فإن الثاني ليس فيه شيء من ذلك الكلام بالكلية، وأما الأول ففيه بعض ما ذكره كما سبق، فاعلمه. الأمر الثاني: أن ((الطهارة)) ليست من قسم الأفعال، لأنها مصدر ((طهر)) - بضم الهاء- وليست بمصدر لـ ((تطهر))، فإن قياسه: ((التطهير)) - بفتح الطاء وضم الهاء- ولا لـ ((طهر)) مشدد الهاء، فإن قياسه ((التطهير)). وأما ((الرفع)) فمن قسم الأفعال، إذ هو مصدر ((رفع))، وحينئذ فلا يصح تفسير أحدهما بالآخر. الثالث: أن الطهارة قد توجد حيث لا فعل بالكلية كما في الخمر إذا انقلبت بنفسها خلا، فلو عبر بالارتفاع لخلص من هذين: الرابع: أن ما ذكروه في التيمم من عدم التسمية والرفع مردود، ففي الحديث الصحيح: ((وترابها طهورًا)، ولهذا قال الشافعي: طهارتان، فلا يفترقان وفي هذا رفع وهو امتناع الصلاة، بخلاف الأغسال المستحبة، وستعرف- أيضًا- شيئًا من هذا الكلام في باب الأذان، فراجعه. قوله: واقتضى الفصل جوازه بما نزل من السماء وهو المطر وذوب الثلج والبرد، أو نبع من الأرض وهو ماء البحار وماء الآبار وماء الأنهار. انتهى. أهمل- رحمه الله- من ماء الأرض رابعًا وهو الأعين. قوله: نعم، لا يكفي في رفع الحدث وإزالة النجس إمرار الثلج والبرد على المغسول من الأعضاء ما لم يكن الهواء حارًا، فيذوب حالة الإمرار ويجري عليها، ويكفي في الممسوح منها، وفي ((الحاوي)) وجه آخر: أنه لا يكفي فيها- أيضًا- لأنه لا يعد ماسحًا. انتهى كلامه. وما نقله عن ((الحاوي)) من أنه لا يكفي في المسح- أيضًا- على وجهٍ، غلطٌ سببه: انعكاس كلام ((الحاوي))، عليه فإنه قد قال ما نصه: فأما إذا أخذ الثلج فدلك به أعضاء طهارته قبل ذوبانه وانحلاله: فإن كان المستحق في العضو المسح كالرأس أجزأه، لحصول المسح به، وإن كان المستحق به الغسل لم يجز، لأن حد الغسل: أن

يجري الماء بطبعه، وهذا مسح، وليس بغسل، مسح ما يجب غسله غير مجزئ، فلو كان الثلج في إمراره على الأعضاء يذوب عليها، ثم يجري ماؤه عليها- ففي جوازه وجهان لأصحابنا: أحدهما: يجزئ، لحصول الغسل بجريان الماء على الأعضاء. والثاني: لا يجزئ، لأنه بعد ملاقاة الأعضاء يصير جاريًا. هذا كلام الماوردي، وهو جازم بصحة المسح به، وإنما حكى الخلاف في صورة خاصة من صور الأعضاء المغسولة، فانعكس على المصنف. قوله: فإن قيل: قد روى عبد الله بن مسعود قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، فقال: أمعك ماء؟ فقلت: لا، معي نبيذ، فأخذه فتوضأ به، وقال: ((تمرة طيبة وماء طهور)). فجوابه: أنه روي عن ابن عباس أنه أنكر كونه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن ... ، إلى آخره. وما ذكره آخرًا ان ابن عباس قد أنكر، سهوٌ، فإن المنكر هو ابن مسعود نفسه كما ذكره الماوردي وغيره. قوله: وبهذا الطريق ينبغي أن يكون الاستدلال بما ذكرناه، لا بمفهوم اللقب الذي لم يقل بأنه حجة إلا الدقاق. انتهى. وما ذكره من أنه لم يقل به غير الدقاق، ليس كذلك، فقد نقله الآمدي عن الحنابلة- أيضًا- وحكاه السهيلي في ((نتائج الفكر)) عن أبي إسحاق المروزي، والغريب أن المصنف قد نقله في أول التيمم عن بعض أصحابنا. وحكى ابن برهان في ((الوجيز)) قولًا ثالثًا: أنه حجة في أسماء الأنواع: كالغيم والماء، دون الأعيان: كزيد وعمرو. قوله: تنبيه: قول الشيخ: على أي صفة كان من أصل الخلقة، أراد به- والله أعلم-: ما خلقه الله تعالى من ملوحة وعذوبة وغير ذلك. انتهى كلامه. واعلم أن الصفة المذكورة هنا في حد الماء المطلق، وهي الصفة التي خلق عليها الماء- لا يصح تفسيرها بالعذوبة والملوحة ونحوهما كالحرارة والبرودة، لأن بقاء الماء عليها مذكورًا للاشتراط بلا شك، والإلزام: أن يكون كل نازلٍ من المساء أو نابعٍ من الأرض طهورًا من غير شرط آخر، وحينئذ: فيتناول النجس والمتغير والمستعمل، وإذا كان مذكورًا للاشتراط فيلزم من تفسيره بذلك خروج الماء عن الطهورية بطرآن الملوحة- مثلًا- بصب ملح مائي أو ماء مالح ونحوه، لا رجم أن الرافعي في ((الشرح الصغير)) صرح بأن العذوبة والملوحة والحرارة والبرودة ليست داخلة في

ذلك، وسكت عن الكلام عليه ي ((الشرح الكبير)). قوله: فالعبارة السديدة أن يقال: الماء المطلق ما ينطلق عليه اسم الماء من غير قيد لازم، واحترزنا بـ ((اللازم)) عن غير اللازم كالإضافة إلى مقره أو ممره. انتهى كلامه. وحاصله: أن التقييد بـ ((اللازم)) لابد منه، وأن العبارة بدونه لا تكون سديدة، وهو غفلة، بل الواجب حذفه والاقتصار على ما ينطلق عليه اسم الماء من غير قيد، لأن المضاف إلى المقر أو الممر- كماء البئر والنهر ونحوهما- وإن كان مقيدًا، لكنه ينطلق عليه- أيضًا- من غير قيد، لكون التقييد غير لازم، فدخل فيما قلناه المعنى الذي قاله بعينه، وإنما حصل هذا الوهم للمصنف من جهة أن بعضهم قد استعمل هذه العبارة في النفي، فقال: ما لا يكون مقيدًا بقيد لازم، وتقييد هذه العبارة بـ ((اللازم)) لابد منه، فسها فعداه إلى حالة الإثبات أيضًا. قوله: ومفهوم كلام الشيخ يقتضي أمورًا. ثم قال: الثالث: عدم كراهة الطهارة بماء زمزم، لأنه- عليه الصلاة والسلام- توضأ منه وقل العباس: ((لا أحلة لمغتسل، لكن لشاربٍ حلٌ وبلٌ)) محمولٌ على حالة احتياج الناس إليه للشرب لكثرتهم. انتهى كلامه. واعلم أن المصنف قد نقل في باب الاستطابة عن الماوردي: أنه يحرم الاستنجاء به، واستدل بما قاله هنا عن العباس، ولم يذكر فيه خلافًا، وإن كان فيه كلام ستعرفه هناك، إن شاء الله تعالى. وهذا الاستدلال من المصنف عجيب، لأن العباس كان يستقي الماء في سقايته للشاربين، والماء الذي يستقيه مملوك له، فيجوز استعماله في الوجه الذي أباحه فيه دون غيره. والبل- بكسر الباء-: هو المباح، قال الجوهري. قال: وقال الأصمعي: كنت أظن أنه إتباعٌ، إلى أن أخبر المعتمر بن سليمان بأنه المباح في لغة حمير. قوله: فرع: إذا كان المخالط لا يغير الماء، لموافقته لصفاته، ولو قدر مخالفًا في بعض الصفات لغيره التغير المؤثر، وذلك مثل ماء الورد الذي انقطعت رائحته، والماء المستعمل إذا قلنا: إنه لو بلغ قلتين لا تجوز الطهارة به كما قاله في ((الكافي)) وغيره، ونحوهما- فهل يسلبه الطهورية؟ ينظر: فإن كان أكثر من الماء سلبه بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلافة ليس كذلك، بل فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: ما قاله. والثاني: إن بلغت الكثرة إلى ثلاثة أضعاف الماء منعت، وإلا فلا، حكاه الصعير- بالصاد والعين المهملتين- في ((نهاية المستفيد في احترازات المهذب)). والثالث: إن بلغت سبعة أضعاف منعت، وإلا فلا، حكاه هو، وما نقله المحب الطبري شيخ الحجاز في ((شرحه)) للتنبيه. وفي المسألة وجهان آخران لا يردان على المصنف: أحدهما: ما اختاره القفال في ((فتاويه)): أن المضر من ذلك هو الكثير، قال: وتعرف الكثرة بالعادة. والثاني: أن الذي يضر هو الثلث فصاعدًا، حكاه في ((الفتاوى)) المذكورة عن أبي يعقوب الأبيوردي. واعلم أن الرافعي والنووي وغيرهما قد ذكروا أن المستعمل إذا جمع حتى بلغ قلتين عاد طهورًا على الصحيح، ثم ذكروا- أيضًا- أن الماء إذا ضم إلى ماء مطلق، فبلغ قلتين- أيضًا- كان حكمه حكم الماورد وغيره من المانعات، حتى إذا كان أكثر من الماء ضر، وإن كان أقل قدر مخالفًا للماء وهذا الذي ذكروه في غاية الفساد، فإنه يلزم من كونه يقدر مخالفًا عند اتصاله بالماء الكثير أن يكون كالخل وغيره من المائعات، وحينئذ فلا فائدة في بلوغه قلتين، وكيف يتخيل متخيل أن المستعمل إذا خلط بماء كثير طهور يسلبه الطهورية، وإذا خلط أو بماء جنس حتى بلغ قلتين يجعله طهورًا؟! وقد فرع المصنف حكم هذه المسألة- وهو جعله كالمائع- على القول بأنه إذا خلط بماء مستعمل أو نجس لا يعود طهورًا، وهو تفريع صحيح يندفع به الاعتراض، وكلامه يقتضي نقل ذلك عن الكافي، وعنى به ((الكافي)) للخوارزمي تلميذ البغوي، فإنه ((الكافي)) الذي ينقل عنه، وقد رأيت نسخً من هذا الكتاب، فلم أجد ما قاله مذكورًا فيه، بل ذكر المسألتين على ما فيهما من الإشكال كما ذكرهما غيره، ثم رأيت- أيضًا- ((الكافي)) للإمام أبي عبد الله الزبيري، و ((الكافي)) للإمام أبي الفتح سليم الرازي، و ((الكافي)) للشيخ نصر المقدسي، لاحتمال إرادة شيء من ذلك، فلم أجد المسألة فيهن بالكية. وإذا لعمت ذلك فينبغي تأويل كلام المصنف على إرادة أصل المسألة، لا الحمل المذكور

قوله: قال: وإن تغير بما لا يختلط به كالدهن والعود جازت الطهارة به في أحد القولين، لأنه تغير بالمجاورة فلم يمنع من الطهارة، كما لو تغير بجيفة بقربه. انتهى. وهذا القياس غير مستقيم، لأن العلة التي علل بها الفرع- وهي المجاورة- ليست موجودة في الأصل، وقد نظمه غيره على الصواب فقال: لأنه تغير بما لم يختلط به، فأشبه الجيفة، فجمع بعدم الاختلاط، وهو صحيح، وأما التعبير بالمجاورة فذهول. قوله فيما لا يدركه الطرف: وأضاف إليه بعض الشارحين مثالًا آخر ذكره الرافعي، وهو أن ينفصل رشاش من موضع نجس، فيقع في الماء بحيث يرى اضطراب الماء بسببه، ولا يدرك جرمه. انتهى. وهذا النقل عن الرافعي غلط، فإنه ذكر له في شيء من كتبه. قوله: ومن هذا القبيل ما إذا أكلت الفأرة شيئًا نجسًا، ثم ولغت في ماء قليل، والذي يحصل من كلام الغزالي وغره أن في المسألة ثلاثة أوجه. ثالثها: إن غابت قبل الولوغ غيبة تحتمل ورودها في ماء كثير لم ينجس، وإلا فينجس. ثم قال بعد حكاية وجهين في وقوع الحيوانات في الدهن وغيره: هل تنجسه، لما على منفذها من النجاسة أم لا؟ -: إن الوجه الثالث يجري في هذه المسألة أيضًا. انتهى. وما ذكره أولًا من حكاية الأوجه الثلاثة في الفأرة إذا أكلت شيئًا نجسًا وغابت، فإنما ذكره هؤلاء في الهرة لا في الفأرة، ولا يصح قياسه عليها، لأن علة الطهارة في الهرة مشقة الاحتراز منها، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((إنها من الطوافين عليكم والطوافات))، وهذا المعنى منتفٍ. نعم، حكى المتولي وجهين في إلحاق سائر السباع بها. قوله: وقد أفهم تقييد الشيخ بقوله: منه- أي من الماء المطلق- أن المائعات تتنجس بما لا يدركه الطرف قولًا واحدًا، وقد قاله بعض الشارحين، واعتقادي عدم صحته، وقد سوى الأصحاب بين الماء القليل والمائع في الميت الذي لا يسيل دمه ... إلى آخر ما ذكره. وهذا الذي اقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، وهو أن المائعات هل لها حكم الماء فيما لا يدركه الطرف أم لا؟ - قد ذكره النووي في ((المنهاج)) على وفق ما حاوله المصنف بحثًا، فإنه قال: وتستثنى ميتة لا دم لها سائلًا، فلا تنجس مائعًا على

المشهور. وكذا في قوله: نجس لا يدركه طرف. قلت: ذا القول أظهر، والله أعلم. فانظر كيف عبر فيما قبله بالمائع. ثم قال: وكذا- أي هذا الحكم، وهو عدم تنجيس المائع- ثابت أيضًا فيما لا يدركه الطرف، وفي المسألة زيادات ذكرتها في ((المهمات)). قوله: فإن كانت ميتة لا نفس لها سائلة لم تنجسه في أحد القولين، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله- وروي: فليغمسه- فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء، وإنه تدلى بجناحه الذي فيه الداء)) رواه البخاري. وادعى ابن المنذر أنه لا يعرف أحدًا قال بنجاسته غير الشافعي. وأبو الطيب حكى أن محمد بن المبارك ويحيي بن أبي كثير قالا به أيضًا. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي نقله هنا عن البخاري فيه زيادة وتغيير عما فيه، ولفظ البخاري عن أبي هريرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، والآخر شفاء)) هذا لفظه، ذكره في بابٍ بعد باب قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164]. الأمر الثاني: أن تعبيره بمحمد بن المبارك، تحريف وغلط، وإنما هو: محمد بن المنكدر. وهذا هو الذي قاله القاضي أبو الطيب، ونقله عنه- أي عن القاضي المذكور- صاحب ((الشامل)) و ((البحر)) والنووي في ((شرح المهذب)) وهو- أيضًا- واضح، فإن ابن المبارك اسمه: عبد الله. ونقله عنه وعن يحيي بن أبي كثير معًا: الدرامي في ((الاستذكار)). نعم، نقله الصيمري وغيره عن عبد الله بن المبارك. قوله: وما كان نشوءه من الماء كالعلق إذا مات فيه، لا ينجس قولًا واحدًا، وهو قياس قول الأصحاب: إن دود الطعام إذا مات فيه لا ينجس قولًا واحدًا. انتهى. ودعواه عدم الخلاف ممنوع، ففيه طرق حكاها الدرامي في ((الاستذكار)) حاصلها ثلاثة أوجه، ثالثها: التفصيل بين أن يكون قليلًا أو كثيرًا. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن كان الماء قلتين ولم يتغير فهو طاهر، وإن تغير

فهو نجس. ثم قال: وكلامه في المتغير يقتضي أنه لا فرق بين ما تغير كله أو بعضه، قال الرافعي: وهو ظاهر المذهب. انتهى. وما زعمه من أن مقتضى اللفظ هو شمول القسمين، باطل بلا شك، بل مقتضاه تغير الجميع، ألا ترى أنه إذا تغير البعض يصح أن يقال: ما تغير هذا، وإنما تغير بعضه؟! وقد صرح الرافعي بما ذكرناه في كلامه على ألفاظ ((الوجيز))، والعجب ذهول المصنف عنه مع كونه واضحًا ومسطورا- أيضًا- في ((الرافعي))! وقد خالف النووي في هذه المسألة، وقال: الأصح: أن المتغير كنجاسة جامدة. قوله: وقيل: إن القلتين ستمائة رطل، وبالأمنان ثلاثمائة من، وهو اختيار القفال والزبيري صاحب ((الكافي))، كما قال الإمام والفوراني. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام والفوراني صحيح، وعبارة الفرواني في ((الإبانة)): وذكره صاحب ((الكافي)) في كتابه، لكن نقلهما ذلك عن الزبيري غلط، فقد راجعت كلام الزبيري في كتابه المعروف به وهو ((الكافي))، فرأيت فيه الجزم بأن القلتين خمسمائة رطل، ذكر ذلك في موضعين من كتابه: أحدهما: في أوله، وثانيهما: بعد التيمم، وهذا الغلط وقع أولًا للقفال، فتابعه عليه أصحابه ثم أتباعهم. قوله: وإن تغير- أي: طعمه أو لونه أو ريحه- فهو نجس، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه)) رواه ابن ماجه، ورواية أبي داود: ((خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه)). انتهى كلامه. وما عزاه لأبي داود من ذكر هذا الاستثناء غلط، فإنه ذكر الحديث من غير استثناء بالكلية. قوله: ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق، والماء يجري عليها- فقد حكى صاحب ((التقريب)) نصًا للشافعي: أن للماء في الحفرة حكم الركود، قال الإمام: ونحن نقول: إن كان الماء الجاري يغلب ما في الحفرة ويبدلها ويخلفها فهو جارٍ، وإن كان يلبث الماء قليلًا، ثم يزايل ما في الحفرة- فله في زمان اللبث حكم الركود وإن كان لا يلبث، بل يثقل حين كثر، ثم يشتد في الجري- فله في زمان التثاقل حكم الماء الجاري الذي بين يديه ارتفاع وهو يتحرك على بطء، وإن كان ما في الحفرة لابثًا وفيه نجاسة، والماء يجري عليها- فما في الحفرة نجس، والجاري عليه في حكم الجاري على نجاسة واقفة لا تتزحزح. انتهى كلامه.

وتعبيره فيما نقله عن الإمام بقوله: ((بل يثقل حين كثر))، تحريفٌ مؤذن بعدم تصوير للمسألة، والصواب المذكور في ((النهاية)): ((بل تثقل حركته))، فاعلمه. قوله: فائدةٌ: ((القديم)) إذا أطلق فالمراد به ما صنفه الشافعي بالعراق، ويسمى كتاب ((الحجة))، ومن رواة القديم- كما قال الروياني-: أحمد بن حنبل والزعفراني وأبو ثور. و ((الجديد)) إذا أطلق فهو ما صنفه وأفتى به في مصر، ورواته: المزني والربيع المرادي والربيع الجيزي والبويطي وحرملة وابن [عبد الله بن] عبد الحكم وعبد الله بن الزبير المكي. ثم قال: وقد ذكر الإمام في كتبا الخلع أن ((الأم)) من الكتب القديمة، ولم أظفر بذلك في غيره. انتهى كلامه. وما قاله- رحمه الله- من عدم الظفر به لغيره غريب، فقد صرح الخوارزمي بذلك في كتابه ((الكافي))، وهو كثير النقل عنه، فقال في خطبة الكتاب المذكور: وأما ((الأم)) و ((الإملاء)) فصنفهما الشافعي بمكة بعد أن فارق بغداد في المرة الأولى وقبل رجوعه إليها في المرة الثانية، ثم رجع بعد تصنيفهما إلى بغداد، فأقام أشهرًا، ثم خرج إلى مصر فصنف بها كتبه الجديدة. هذا كلامه. لكن المعروف خلاف ما قالاه، حتى قال صاحب ((الاستقصاء)): إن المزني روى أنه صنفهما بمصر. واعلم أن المصنف قد أسقط من رواة القديم: الحسين بن علي البغدادي المعروف بالكرابيسي، كان يبيع الكرابيس: وهي الثياب. توفي سنة خمس وأربعين- وقيل: ثمان وأربعين- ومائتين. قوله: خاتمة: وصف الماء بالاستعمال لا يثبت له ما دام يتردد على المحل، فإذا انفصل عنه ثبت له. ثم قال: والبدن جميعه في الغسل في حكم العضو الواحد في الوضوء، فلا يصير الماء مستعملًا بانتقاله من عضو منه إلى عضو آخر، وفي ((الحاوي)) حكاية وجه آخر: أنه يصير مستعملًا بالانتقال كما في الوضوء، وذلك يتصور بما إذا نزل الماء من على وجهه إلى صدره وقطع ما بينهما من الفضاء، والأصح الأول، وهو ما أبداه الإمام احتمالًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه في بدن الجنب كلام غير منتظم مخالفٌ بعضه بعضًا، فإنه قد

ذكر أولًا أنه بمثابة العضو في الوضوء، وإذا كان كذلك كان الانفصال الخارق للهواء مضرًا كما في عضو المتوضيء، فتفريع عدم الضرر من كونه كالعضو تفريع معكوس، لا جرم أن النووي في ((التحقيق)) لما صدر بالقاعدة التي ذكرها المصنف صحح أن الانفصال يضر، فقال: وبدن جنبٍ كعضو محدثٍ. وقيل: لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه، وقيل: إن نقله ضر. هذا لفظه، فينبغي حمل الانفصال المذكور في المحدث على ما إذا جرح ولم يعد، لا على انفصاله من كفه- مثلًا- ووقوعه على ساعده، أو من عضو إلى عضو: كانتقاله من الوجه إلى اليد، أو من إحدى اليدين إلى الأخرى، ولكن على هذا التقدير لقائل أن يقول: لم كان انتقاله من عضو المحدث إلى بقية ذلك العضو قطعًا، وفي الجنب على وجهين، مع أن بدن الجنب أكثر تفاوتًا من عضو واحد من أعضاء المحدث؟ الأمر الثاني: أن المصنف لم ينقل احتمال الإمام على وجهه، فإن الإمام بعد حكاية القول بأنه يصير مستعملًا قال ما نصه: وفيه نظر، لأن الماء إذا كان يتردد على البدن، ففي الأعضاء تفاوت في الخلقة، وليس سطحًا بسيطًا، وإذا كان كذلك فيقع في جريان الماء بعض التقاذف لا محالة، فما كان من هذا الجنس فهو محطوط لا اعتبار به قطعًا، فأما التقاذف الذي لا يقع إلا على ندور: فإن كان عن قصد فمستعمل، وإلا فلا يبعد أن يعذر صاحب الواقعة، فإن الغالب وقوع ذلك في الزمن الماضي، ولم يقع عنه بحث من سائل. هذا كلامه، فانظر ما بينهما من التباين! قوله: نعم، قال الخضري: إذا انغمس الجنب في ماء قليل ناويًا ارتفعت جنابته عن أول جزء لاقى الماء، وصار الماء مستعملًا، قال: ويخالف ما لو صب الماء عليه، حيث لا نحكم بالاستعمال لمجرد الملاقاة، لقوة الورود، وعلى هذا فقد يقال: إنه يصير مستعملًا بانتقاله من عضو إلى عضو على الاتصال المحسوس في الجنابة من محل إلى محل في العضو الواحد في الوضوء. انتهى كلامه. وهذا النزاع الذي ذكره باطل لا يمكن القول به، وهل يمكن أحدًا أن يقول بوجوب ماء جديد لكل جزء من أجزاء الوجه، وكيف نقول في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه بغرفةٍ؟! قوله: و [على الأول] لو انغمسا معًا، ونويا تحت الماء- جازت طهارتهما، ولو نويا عند إدخال أرجلهما فيه رفع الجنابة ارتفعت عن الجزء الذي اقترنت به النية فقط

دون ما بعده- توافق عليه الخضري وغيره- كما قال بعضهم- وقال في ((الروضة)): إنه يرتفع حدث السابق عن جميع بدنه. وفيه وجه الخضري. انتهى كلامه. واعلم أن هذا الذي نقله عن ((الروضة)) لا يلاقي المسألة التي يتكلم فيها، لأن ذلك إن كان راجعًا إلى ما إذا نويا تحت الماء فلا يجيء وجه الخضري هنا، لأن محله فيما إذا نوى قبل استكمال غمس البدن كما سبق، وهو واضح. وإن كان راجعًا إلى ما إذا نويا عند إدخال أرجلهما: فإن كانت صورة تلك فيما إذا نويا معًا، وهو الذي يقتضيه كلامه، فالحكم فيها- وهو الذي قاله في ((الروضة)) -: أنه يرتفع عن جزئهما، ويصير مستعملًا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح، وإن كانت صورتهما فيما إذا نويا مترتبين فيتعين أن يكون الحكم فيها ما نقله عن ((الروضة))، وهو قد أجاب فيه أولًا بما يخالفه من وجهين: أحدهما: ارتفاعه عن الجزء المقترن بالنية فقط، والحكم بخلافه. والثاني: حصول ذلك للأول وللثاني- أيضًا- مع أن الثاني لم يصادف محلًا. فظهر أن ذكره لكلام ((الروضة)) هنا سهو لا محل له، ولا شك أن صورة المسألة التي أرادها: أن ينويا معًا، وهو- أيضًا- أقرب إلى السياق، وأقل في الاعتراض.

باب الآنية

باب الآنية قوله: قال القاضي الحسين: وإذا أراد الإنسان استعمال الماورد الذي في آنية الفضة فطريقه: أن يقلبه في يساره، ثم يقلبه من يساره في يمينه، ويستعمله، فلا يكون محرمًا، وليس من الاستعمال المحرم: شم البخور الذي يصعد من على مبخرة فضة والقرب منها. نعم الاحتواء على المبخرة منه. انتهى كلامه. واشتراطه القلب أولًا في يدٍ خصوصًا اليسرى، ثم تحويله منها إلى الأخرى- غلط لا معنى له، فإنه إذا صبه في إحدى يديه يمينًا كانت أو شمالًا، لا على قصد الاستعمال، ثم استعمل بيمينه- إما بالدلك أو بالرش أو نحوه- كفى ذلك بلا نزاع، فإنه لم يستعمل إناء الفضة. وقد ذكر القاضي في ((تعلقيه)) ما ذكرناه، ثم حكى عن القاضي أبي عاصم- على جهة المثال، لا على جهة الاشتراط- أنه كان يفعل بعض ذلك، فقال: ولو كان في آنية الذهب والفضة ماء ورد لا يجوز الاستعمال منه، فإن صبه في موضع آخر، ثم استعمله- يجوز. وحكى- رضي الله عنه- قال: كنت مع القاضي أبي عاصم في موضع، فأتى بآنية من فضة فيها ماء ورد، فصبه على يمينه، ثم صب من يمينه على يساره، ثم استعمله. هذا لفظ ((تعليقه)) القاضي، وما ذكره من جواز الشم منها مع القرب هو مقتضى ما في ((التعليقة)) المذكورة- أيضًا- والمعروف الذي جزم به في ((شرح المهذب)) مع كثرة جمعه: خلافه، فقال: الخامسة: قال أصحابنا: يستوي في التحريم جميع أنواع الاستعمال من الأكل والشرب والبول في الإناء والتجمر بمجمرة فضة إذا احتوى عليها، قالوا: ولا بأس إذا لم يحتو وجاءته الرائحة من بعدٍ، وينبغي أن يكون بعدها بحيث لا ينسب إلى أنه متطيب بها. هذا كلامه. قوله: وهل يجوز اتخاذه؟ - يعني إناء الذهب والفضة- فيه وجهان، وجه الجواز: أن المنع معلق بالاستعمال دون الاتخاذ. قال البندنيجي وغيره: ولأنه لا خلاف في صحة بيعه، وهذا فيه نزاع مذكور في

كتاب البيع. انتهى. وما ذكره من ذكر النزاع فيه في البيع غلطٌ، لا ذكر له فيه لا من كتابه ولا من غيره، والظاهر: أنه إنما أراد كتابه هذا، فإنه أخر تصنيف الربع الأول عن الأرباع الثلاثة. نعم، ذكر النواوي في باب الأواني من ((شرح المهذب)): أنا إذا قلنا بتحريم الاتخاذ فينبغي تخريجه على الخلاف المشهور في بيع الجارية المغنية بزيادة على قيمتها لولا الغناء، وحينئذ فيكون الصحيح الجواز. وهذا التخريج ضعيف، بل تخريجه على الآلة المحرمة- كالمزمار والأوتار- وعلى الأصنام ونحوها، أشبه، ومع ذلك فالفرق قائم أوضحته في كتاب ((مطالع الدقائق في الجوامع والفوارق)). قوله: ووجه التحريم- وهو الصحيح-: أن ما حرم استعماله على الرجال والنساء حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالملاهي، قال البندنيجي وغيره: ولأنه لا خلاف في وجوب الزكاة فيها، ولو كان الاقتناء مباحًا لكانت لا تجب على قول كالحلي المباح. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كانت الزكاة إنما تجب على قول كالحلي المباح. قلت: وهذا إنما يتم أن لو كانت الزكاة إنما تجب في المحرم، وهي تجب في المحرم والمكروه، واتخاذ الآنية من الذهب والفضة مكروه. انتهى كلامه. وما نقله من عدم الخلاف، وارتضاه وقرره، وعارض بخلافه- غريب، فقد ذكر الماوردي في كتاب الزكاة من ((الحاوي)) أنها فيها قولين في الحلي المباح. ورأيت في ((التحرير)) للجرجاني حكاية الخلاف فيه- أيضًا- فقال في كتاب الزكاة: فصل: وتجب الزكاة في أواني الذهب والفضة إذا كانت للاستعمال، وكذلك إذا كانت للقنية على الصحيح. هذه عبارته، ولم يحك هذا الخلاف في ((الشافي)). قوله: وما عدا المستثنى ي كلام الشيخ باقٍ على الإباحة، سواء كان خسيسًا أو نفيسًا بسبب صنعته: كالزجاج المحكم والخشب ونحوهما، وهو كذلك، ولا نعرف فيه خلافًا، إلا ما حكي عن بعضهم أن فيما نفاسته في صنعته وجهًا: أنه يحرم، ولم نره في كتاب يوثق بنقل صاحبه. انتهى كلامه. وهو الذي نفاه قد ذكره صاحب ((البيان)) فقال: إن صاحب ((الفروع)) أشار إلى وجهين في تحريمه. وصاحب ((الفروع)) الذي أشار إليه هو سليم الرازي، كذا ذكره صاحب ((المعين)) في خطبة كتابه المذكور. قوله: فإن كان المشركون لا يتعبدون باستعمال النجاسة كأهل الكتاب، فآنيتهم وثيابهم كآنية المسلمين وثيابهم. انتهى كلامهم. وما ذكره في أهل الكتاب من كونهم لا يتدينون باستعمال النجاسة ليس كذلك،

فإن من جملة ما يتعبد به النصارى في كنائسهم ويتقربون به: أكل الخبز بعد غمسه في الخمر كما هو معروف. ثم رأيت بعد ذلك في ((شرح التنبيه)) للمحب الطبري موافقتي على ما ذكرت. ثم قال: قلت: ويلزم طرد القولين الاثنين هنا- أيضًا- لأنهم يتدينون بشرب الخمر. قوله: وإن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة كطائفة من المجوس والأبارهم [كذا] من الذين يغتسلون بأبوال البقر تقربًا، ففي جواز استعمالها وجهان. ثم قال: وفي ((تعليق)) البندنيجي: أن الذي نص عليه الشافعي في القديم و ((حرملة)): الإباحة، واختاره أبو إسحاق، وحمل الحديث الوارد في النهي على ما إذا تحقق نجاسة ذلك. انتهى كلامه. وما نقله عن أبي إسحاق من اختيار الإباحة سهو، فإن اختياره المنع، كذا صرح بنقله عنه الماوردي في ((الحاوي)) وابن الصباغ في ((الشامل))، وهو الذي نقله عنه- أيضًا- البندنيجي في ((تعليقه)). قوله: وقد أفهمك قول الشيخ: وما ضبب بالفضة ... إلى آخره، أن المضبب بالذهب غير جائز بكل حال، وهو ما أورده الماوردي هنا وفي كتاب الزكاة، والشيخ في ((المهذب))، وحكاه البغوي عن العراقيين، وحكاه النووي عن رواية أبي العباس الجرجاني والشيخ أبي نصر المقدسي. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: أبي نصر، سهو، فإن كنية المقدسي: أبو الفتح، واسمه: نصر، وأما أبو نصر فكنية ابن الصباغ، والمصنف- رحمه الله- مع جلالة قدره كان قليل المعرفة بالمصنفين وبالمصنفات إلى المشهورة. قوله: وإن اشتبه ذلك على أعمى ففيه قولان: أحدهما: يتحرى. والثاني: لا يتحرى. ثم قال: وإن قلنا بالثاني تعين عليه تقليد بصير، فإن لم يجد من يقلده، أو لم يظهر للبصير شيء- قال الشافعي: لا يتيمم، بل يتوضأ بما أدى إليه تخمينه على أبلغ ما يقدر عليه. قال القاضي أبو الطيب: ولا يعيد. وعن الشيخ أبي حامد: أنه يتيمم ويصلي ويعيد، وهو الأصح في ((الروضة))، وقال ابن الصباغ: إن ما ذكره أبو حامد أقيس، وما ذكره أبو الطيب أقرب إلى نص الشافعي. انتهى كلامه.

اعلم- وفقك الله- أنه لا خلاف في وجوب الإعادة في هذه المسألة، سواء قلنا: يتيمم، أم لا، وما نقله عن القاضي أبي الطيب من عدم الوجوب غلط، وكذلك ما نقله عن ابن الصباغ في تقرير ذلك. ولنذكر كلام ابن الصباغ، ليتضح ما أشرنا إليه من الغلط، فنقول: قال قبيل باب المسح على الخفين ما نصه: وأما إذا لم يغلب على ظنه ولا على ظن البصير، فإنه قال، فإنه قال- يعني الشافعي-: لا يتيمم، ويخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك، ويصلي. ولم يذكر الإعادة، قال القاضي أبو الطيب: وعندي أن الإعادة واجبة، لأن الماء لم يثبت عنده طهارته بأمارة. وما قاله أشبه بأصل الشافعي. قال: وكذلك البصير يفعل. قال: وقد حكى البندنيجي في ((التعليق)) أنه قال سألت أبا حامد: إذا لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما؟ قال: يصلي بالتيمم إن خاف فوات الوقت، ويعيد. وما قاله القاضي فهو على ما نص عليه الشافعي في الأعمى، وما قاله أبو احمد أقيس، لأنه لم تثبت طهارة الماء. هذا كلام صاحب ((الشامل))، وقد اتضح له منه أن ما نقله المصنف عن القاضي غلط، بل هو موافق للشيخ أبي حامد في عدم وجوب الإعادة، وإن اختلفا في شيء آخر. وكذلك- أيضًا- ما نقله عن صاحب ((الشامل)) من مغايرة قوله في القضاء لقول أبي حامد، حيث نقل عنه ترجيح مقالة أحدهما بكونها أقرب إلى النص، ومقالة الآخر بكونها أقيس. ثم إن ابن الصباغ إنما ذكر هذا الترجيح للمقالتين في البصير لا في الأعمى- فتأمله تقطع به- فنقله المصنف إلى مسألة الأعمى مع مخالفته في التعبير عن صيغة الترجيح، ولا شك أن المصنف استمد في هذه المسألة من كلام ((الشامل))، فاختلط عليه من أوله إلى آخره. قوله: نعم، لو كانت الآنية ثلاثة، وقد وقعت النجاسة في اثنين منها، واجتهد ثلاثة فيها، فأدى اجتهاد كل واحد إلى طهارة إناء- لا يجوز أن يقتدي بعضهم ببعض في صلاةٍ ما بتلك الطهارة، كما لو وقعت النجاسة في أحد الإناءين، فاجتهد فيهما اثنان، فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة إناء، واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر. على أن في مسألة الاستشهاد وجهًا حكاه الشيخ أبو محمد في كتاب الحج: أنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر، بناء على قولٍ في أن من أحرم بنسك ثم نسيه هل يتحرى؟ وإذا ثبت في هذه الصورة جرى في الأخرى. ولو كان النجس من الثلاثة واحدًا، وقد أدى اجتهاد كل شخص إلى طهارة واحد- ففي جواز اقتداء بعضهم ببعض كلام سبق في

باب صفة الأئمة. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الشيخ أبي محمد من حكاية الوجه في الإناءين غلط، بل إنما حكاه في المسألة الأخيرة وهي الأواني، فقال في كتاب الحج: مسألة: إذا شك الرجل في النسك الذي أحرم به، فلم يذكر أنه أحرم بحج أو عمرة: فهل يجوز له التحري والاجتهاد، أم لا؟ فعلى قولين. ثم قال ما نصه: وعلى هذين القولين تنبني مسألة اختلف أصحابنا فيها، وهي أن الجماعة إذا اجتهدوا في أواني حلت في بعضها نجاسة متيقنة، واستعملوها عن آخرها، وأراد بعضهم الاقتداء ببعض في الصلاة- هل يجوز لهم الاقتداء أم لا؟ فعلى وجهين. هذا لفظه في كتابه المسمى بـ ((السلسلة)). قوله: ولو اختلطت ميتة بمذكيات بلد، أو إناء بول بأواني بلد- فله الأخذ من غير اجتهاد، وإلى متى يأخذ؟ قال في ((البحر)): فيه وجهان، أصحهما [كذا]: إلى أن يبقى واحد، والثاني: إلى أن يبقى قدرٌ لو كان الاختلاط به ابتداء منع الجواز. انتهى كلامه. ومقتضاه: أن التصحيح المذكور لصاحب ((البحر))، وليس كذلك، فإنه ذكر المسألة قبيل باب المسح على الخفين، ولم ينقل تصحيح ما صححه هنا عن أحد بالكلية، ولا أشار إلى ترجيحه، بل لما حكى الوجه الثاني عبر بقوله: وهذا أوضح- يعني: أقيس- وأجرى على القواعد. والأمر كما قال، ولا شك أن النووي في ((الروضة)) نقل الوجهين عن الروياني، وأعقبهما بهذا التصحيح المذكور، وعبر بعبارة توهم إيهامًا بعيدًا أن التصحيح للروياني، فاغتر به المصنف، فاعلمه. * * *

باب السواك

باب السواك قوله: ويتأكد- أيضًا- في حالة اصفرار الأسنان، وإن كان ذلك بسبب غير التغير، قال الرافعي: ويشهد له قوله- عليه الصلاة والسلام-: ((ما لكم تدخلون علي قلحًا؟! استاكوا)). انتهى كلامه. وهذا الذي عزاه إلى الرافعي من استدلاله بهذا الحديث غلط، فإن الحديث المذكور ليس له ذكر في ((الرافعي)) بالكلية، والحديث المذكور رواه النسائي في ((الأغراب)) والطبراني- واللفظ له- في ((المعجم الكبير)) من حديث تمام بن بالعباس، ورواه البغوي والبزار في ((مسنديهما)) من رواية تمام بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب، والصواب: أنه من حديث تمام، قاله البغوي. قوله: ويكره للصائم بعد الزوال، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))، رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن. والخلوف- بضم الخاء- تبدل الرائحة، والسواك يزيله، ونظمه دليلًا أنه أثر عبادة مشهود له بالطيب، فكرهت إزالته كدم الشهيد. انتهى كلامه. أما الحديث فهو كما قال، غير أن البخاري ومسلمًا قد أخرجاه في ((صحيحيهما))، فكيف ينبغي مع ذلك إسناده لمن أسنده على الوجه الذي ذكره وهو تحسينه، لا تصحيحه؟! وأنا القياس الذي ذكره فإن الرافعي قد ذكره- أيضًا- وهو غير مستقيم، لأن إزالة دم الشهيد حرام لا مكروه، وحينئذ فإن كان هذا القياس صحيحًا فيلزم استواء المقيس والمقيس عليه في الحكم، فلا يكون أحدهما مكروهًا والآخر محرمًا، فكان الصواب أن يعبر بقوله: فكان إبقاؤه راجحًا على تركه. قوله: والمستحب أن يستاك بعود من أراك، لما روى أبو زجرة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستاك بالأراك)). انتهى كلامه. وتعبيره عن الراوي بقوله: أبو زجرة، تحريف، وصوابه: أبو خيرة- بخاء معجمة مفتوحة، من بعدها ياء مثناة من تحت، ثم راء مهملة، ثم هاء- ويعرف بالصباحي: بصاد مهملة مضمومة، بعدها باء موحدة، وبعد الألف حاء مهملة، كذا ضبطه النووي

في ((شرح المهذب)) هنا. ثم قال- نقلًا عن ابن ماكولا-: إنه لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه القبيلة سواه. وأيضًا: فحديث أبي خيرة إنما هو من قوله لا من فعله، هكذا رواه الطبراني وغيره في حديث قال فيه: ثم أمر لنا بأراك، فقال: ((استاكوا بهذا)). وفي رواية له: فزودنا الأراك نستاك به، والله أعلم. قوله: وكذا استياكه بكل عين تزيل القلح- أي: فإنه يجزي بلا خلاف- ولا يرد على ذلك ما إذا تمضمض بماء الغاسول ونحوه، فإنه لا يحصل سنة السواك وإن أزال القلح، لأنه لا يسمى مستاكًا، على أن الإمام قال: إنه ليس عريًا عن احتمال بعيد. انتهى. مقتضى ما ذكره أن التمضمض بنفس الغاسول يكفي، وإن كان كلام الإمام إنما هو في الماء، وليس كذلك، فإن الإمام قال في ((النهاية)): لو تمضمض بغاسول قلاع، وتحامل حتى أزال القلح- فما أراه كافياًا، وفيه احتمال. وعبر- أعني الإمام- أيضًا في ((مختصر النهاية)) بقوله: ولو تمضمض بشيء قلاع فالوجه القطع بأنه لا يكفي. قوله: وقد استدل الجيلي له- أي: لوجوب الختان- بأن بقاء ما يجب قطعه يحبس النجاسة، وذلك يمنع صحة الصلاة، وفيه نظر، لأن القاضي أبا الطيب ذكر أن الخصم استدل على أن ذلك سنة بأنه أمر به حتى لا يجتمع تحتها بول، وهذا القدر من النجاسة لا تجب إزالته عندنا، وإنما هو مستحب، فيجب أن يكون القطع مثله، فأجاب عنه ولم يمنعه الحكم، فدل على أنه عندنا كذلك، انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل كلامه أنه لم يقف على نقل في المسألة، فإنه توقف فيما قاله الجيلي، واستند في التوقف إلى شيء ضعيف، والذي قاله الجيلي من وجوب الإزالة وبطلان الصلاة عند عدم ذلك قد رأيتهما مجزومًا بهما في ((فتاوى)) القفال وشبهه بباطن الفم. الأمر الثاني: أن هذا الفهم الذي فهمه المصنف من كلام القاضي مع الحنفية فهم عجيب، فإن الخصم- وهو أبو حنيفة- يقول: إن مقدار ما تلوث به المنفذ لا تجب إزالته من أي موضع كان في البدن. ولهذا قال: لا يجب الاستنجاء بالكلية. وهذا هو الذي ذكره القاضي أبو الطيب بعينه، ألا تراه عبر بقوله: ((وهذا القدر))، ففهم المصنف منه غير ما أراده.

قوله: وختان المرأة يسمى خفضًا، كما يسمى ختان الرجل إعذاراً. انتهى. الخفض: بخاء معجمة وفاء ساكنة وضاد معجمة، والإعذار: بعين مهملة وذال معجمة ثم راء مهملة، وسيأتي فيه كلام آخر في الرد بالعيب.

باب صفة الوضوء

باب صفة الوضوء قوله في قول الشيخ: نوى رفع الحدث، أو الطهارة للصلاة، أو الطهارة لأمر لا يستباح إلا بالطهارة: كمس المصحف وغيره. ثم قال: واحترز بقوله: للصلاة، عن نية مطلق الطهارة، فإنها لا تكفي عند الجمهور لترددها بين طهارة الحدث والخبث، واللغوية والشرعية، وحملوا ما نقله البويطي من قول الشافعي: لو نوى طهارة مطلقة أجزأه، على إرادة الطهارة للصلاة أو من الحدث. انتهى كلامه. وما ذكره من حمل كلام الشافعي في ((البويطي)) على إرادة الصلاة غلطٌ، سببه: عدم الوقوف على كلام البويطي، فإنه قد صرح بالإجزاء وإن لم ينو الصلاة، فقال ما نصه: قال الشافعي: وإن نوى به الطهارة، ولم ينو به صلاة مكتوبة ولا نافلة ولا جنازة ولا قراءة مصحف- أجزأه أن يصلي به. هذا لفظه بحروفه، ومن ((البويطي)) نقلته. قوله: وقد أفهم كلام الشيخ أمورًا. منها: أن نيته على غير هذا النحو الذي ذكره لا تصح، وذلك يشمل صورًا لا يسلم بعضها من نزاع. منها: ما إذا نوى استباحة ما لا يستباح إلا بالطهارة كالصلاة وغيرها، فإن المشهور من المذهب إجزاؤها، ويمكن أخذه من قول الشيخ: نوى رفع الحديث، لأنه يشمل ما إذا أتى مطابقة أو تضمنًا، ونية استباحة ما لا يستباح إلا بالطهارة تضمنت رفع الحدث. وأيضًا: فإنه قد تعرض في صفة الغسل إلى أن نية الاستباحة كافية، وتعرض هنا إلى ذكر كيفية أخرى لم يتعرض لمثلها ثم، فكان كلامه في كل باب ينبه على ما يقبل مثله في الباب الآخر. انتهى. وهذا الجواب الثاني سهو، فإنه لم يتعرض هناك لنية الاستباحة، بل ذكر مثل ما ذكر هنا، فقال: أو نوى الغسل لاستباحة ما لا يستباح إلا بالغسل. وهذا هو نظير قوله

هنا: أو الطهارة لأمر لا يستباح إلى بالطهارة. لا جرم أن المصنف هناك قد اقتصر على الجواب الأول. قوله: ما إذا نوى رفع الحدث الأكبر، وقد جزم الماوردي بأن ذلك يجزئ، بخلاف ما إذا كان جنبًا فنوى رفع الحدث الأصغر لا يجزئه، لأنه يصح أن يرتفع الأدنى بالأعلى دون العكس، وفي ((الرافعي)) وجه: أنه لا يجزئ في الأولى- أيضًا- لأنه نوى طهارة غير مرتبة. وهو المختار في ((تلخيص)) الروياني، وقال القاضي الحسين: لعل الخلاف مبني على أن الحدث الأصغر يحل جميع البدن أم لا؟ فإن قلنا: يحل، أجزأ، وإلا فلا، إذ كيف يصح الفرض بنية النفل؟! وكيف كان الأمر فالصحيح الأول. انتهى. واعلم أن ما ذكره في هذا الفصل غلط، لأن الرافعي وغيره ممن تكلم في المسألة فرضوا ذلك فيما إذا اغتسل، وكلام الشيخ الذي استدرك هذا عليه إنما هو في الوضوء. قوله: نقلًا عن الشيخ، ويسمي الله- تعالى- ويغسل كفيه ثلاثًا، ثم يتمضمض ... إلى آخره. ثم قال ما نصه: واعلم أن بعضهم قال: إنما أتى الشيخ هنا بـ ((ثم))، وعطف بالواو فيما تقدم، لأن الغرض أن تجتمع النية مع التسمية مع غسل الكفين، لتكون النية مقارنة لهما. قلت: وعلى هذا يعرض سؤال، وهو أن الأصحاب كافة قد استحبوا مساعدة اللسان القلب بالنطق للمنوي، وإذا كانت النية مقارنة للتسمية وغسل الكفين تعذر مساعدة اللسان للقلب. انتهى كلامه. واعلم أن النقل في هذه المسألة على خلاف ما نقله فيها عن بعضهم استنباطًا من لفظ ((التنبيه))، وأقره عليه، وأورد عليه سؤالًا، فقد نص عليه الشافعي في ((المختصر))، فقال ما نصه: قال- الشافعي-: وإذا قام الرجل إلى الصلاة من نوم، أو كان غير متوضئ- فأحب أن يسمي الله- تعالى- ثم يفرغ من إنائه على يديه، ويغسلهما ثلاثًا. هذا لفظ الشافعي، وجرى عليه أئمة المذهب عند شرحهم له، وصرحوا بأن الأمر فيما كما قاله، حتى قال الشيخ أبو حامد في ((التعليق)): فأما الهيئة: فالتسمية أولًا، ثم غسل الكفين. وصرح به- أيضًا- الغزالي في ((الوسيط)). والعجب منه في هذه المسألة حيث قال ما قال مع شهرة القائلين بها لا سيما

((الوسيط))، وكأن المصنف أخذ ما ذكره من ((الإقليد)) وهو شرح ((التبنيه)) للشيخ تاج الدين الفركاح، فإنه قال: يستحب في أول غسل الكفين اقتران النية والتلفظ بالتسمية، فتجتمع الثلاثة- وهي: القصد، والنطق، والفعل- في وقت واحد. هذا كلامه، وهو مدفوع بما ذكرته، والرجل قليل الخبرة بالمذهب، وولده أمثل منه فيه، فمن جهل نص إمامه وكلام مشاهير أصحابه في أشهر كتبه وكتبهم، في مسألة من أوائل الفقه- كيف حاله في غير ذلك؟! قوله: نعم، إتيان الشيخ بالواو بين المضمضة والاستنشاق يعرفك أن تقديم المضمضة على الاستنشاق ليس شرطًا في تأدية السنة، وهو وجه في المسألة مع إجزائه يشترط إذا قلنا: إنه يفصل بغرفتين كما قاله الإمام، أو بست غرفات كما قال الرافعي وجعله أظهر، والماوردي أطلقهما. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من اختصاص الوجهين بما إذا فرعنا على أنه يفصل بست غرفات غلط، فإن حاصل كلام الرافعي جريانهما مطلقًا، سواء قلنا يفصل بغرفتين أو بست، فإنه حكى أولًا قولين في أنه هل يفصل أو يجمع. ثم قال ما نصه: فإن قلنا بالفصل ففي كيفيته وجهان: أصحهما: أنه يأخذ غرفة يتمضمض منها ثلاثًا، وغرفة أخرى يستنشق منها ثلاثًا، لأن علي بن أبي طالب كذلك رواه. والثاني: أنه يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاثًا للاستنشاق، لأنه أقرب إلى النظافة وأيسر. ثم على هذا القول تقدم المضمضمة على الاستنشاق، وهذا التقديم مستحق على أظهر الوجهين. هذا لفظ الرافعي بحروفه، وهو يبين لك أن المذكور في الكتاب سهو، وكان سببه: أن الرافعي لما ذكر الوجهين عقب الوجه القائل بالست توهم عودهما إليه، ذاهلًا عن تعبير الرافعي بقوله: ((ثم على هذا القول))، فإنه صريح في أن مراده قول الفصل، وأما الفصل بست فإنه وجه لا قول. واعلم إن إمام الحرمين لم يحك على قول الفصل إلا الفصل بغرفتين فقط، ولم يذكر الفصل بست، فحكايته للوجهين في اشتراط التقديم- تفريعًا على أنه يفصل بغرفتين- ليس لمعنى في الغرفتين دون الست، كما دل عليه نقله عن الرافعي في عكسه، بل لأن الإمام لم يحك إلا ذلك، فاعلمه. قوله- بعد حكاية قول الفصل والجمع-: وهذا الخلاف في الأفضل بلا خلاف، حتى لو تمضمض واستنشق كيف كان أدى سنتهما. انتهى.

وما ادعاه من عدم الخلاف كأنه قلد فيه النووي في ((شرح المهذب))، وهو غريب، ففي ((النهاية)) الجزم بامتناع الخلط إذا شرطنا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، فإنه قال: وقطع أصحاب القفال بأن ترتيب الاستنشاق على المضمضة مأمور به، والخلط يجزئ إذا قلنا: الترتيب ليس مأمورًا به، والخلط وإن أجزأ إذا لم نشترط الترتيب ليس مأمورًا به. هذه عبارته، وهي تحتاج إلى تأمل. قوله: ولو كان عليه شعر خفيف وكثيف غسل ما تحت الخفيف دون الكثيف، والماوردي خص ذلك بما إذا تميز أحدهما عن الآخر، فإن لم يتميز وجوب غسل ما تحت الجميع، لما في الإفراد من المشقة، وقيل: إنه يجب غسل ما تحت الجميع مطلقًا، قال الرافعي: وهو المذكور في ((التهذيب)). انتهى. واعلم أن هذا النقل عن ((التهذيب)) غلط، فإن المجزوم به في ((التهذيب)) أن لكل واحد حكمه، ولكن الرافعي وقع له هذا الغلط، ولم يتفطن له المصنف. نعم، الخلاف ثابت وإن ثبت غلط النقل عن ((التهذيب))، فقد جزم القاضي الحسين بالوجوب، كذا رأيته في ((شرح التلخيص)) له، وهو كتاب عزيز الوجود. قوله: فرع: إذا حلق الشعر الذي لا يجب غسل ما تحته بعد إفاضة الماء عليه لا يجب غسل ما تحته، وكذا في الشعر إذا حلق بعد المسح عليه لا يعيد المسح على الرأس، بخلاف ما إذا ظهرت الرجل من الخف بعد المسح، والفرق: أن الشعر هنا أصل، بدليل أنه لو غسل ما تحته فقط أجزأه في الأصح، وعن ابن خيران: إلحاق شعر الرأس بالخف، وهو بعيد. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بـ ((الأصح)) فيما إذا غسل ما تحت شعر الوجه صريح في إثبات الخلاف في إجزائه، ولم يذكر ذلك أحد علمناه مع شدة الفحص، بل ولا هو- أيضًا- في الموضع الذي أحال عليه، وهو الكلام على مسح الرأس، وإنما نقل عدم الإجزاء عن القاضي فقط، واقتصر عليه. الثاني: أن ما نقله عن ابن خيران قد حكاه عنه الإمام ومن تبعه، وهو تحريف، فإن القائل به إنما هو ابن جرير، فلا خلاف إذن في المسألة، وممن نبه عليه النووي في ((شرح المهذب)) وفي غيره، وأشار إليه هو- أعني المصنف- في موضعه. قوله: وإذا خلق له يد زائدة أو إصبع زائدة أو سلعة في محل الفرض وجب غسل

ذلك، ولو خلق ذلك في غير محل الفرض لم يجب غسله، إلا أن يحاذي شيء منه شيئًا من محل الفرض، فيجب غسل المحاذي فقط. وفي ((الشامل)) و ((الحاوي)) وغيرهما حكاية وجه: أنه لا يجب، اعتبارًا بمنبته، قال الرافعي: وقد صار إلى تقريره كثير من المعتبرين. ثم قال: والراجح عند كثير من الأصحاب هو الأول، وبه جزم البندنيجي والإمام، بخلاف ما إذا انكشطت جلدة من العضد وتدلت منه لا يجب غسل شيء منها، سواء قابل محل الفرض أم لا، لأن اسم ((اليد)) لا يقع عليها. انتهى. وما حكاه من الخلاف في وجوب غسل ما حاذى محل الفرض من السلعة ليس له ذكر في شيء من هذه الكتب التي أضاف نقله إليها، فضلًا عن أن يكون هو الصحيح، فإنهم إنما حكموه في اليد الزائدة، وأما السلعة فإن بعض المذكورين لم يتعرض لها، وبعضهم تعرض لها وجزم بعدم الوجوب، وما ذكره المصنف من الفرق بعدم وقوع اسم ((اليد)) منبه على الصواب لمن تنبه، وقد تفطن المصنف في شرح ((الوسيط)) فصرح فيه بالتقرير الذي ذكرته، وبأنه لا خلاف في عدم الوجوب. قوله: لأن عمر روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من توضأ، فأحسن وضوءه. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، صادقًا من قلبه- فتح الله له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)) أخرجه مسلم. انتهى كلامه. وهذا اللفظ كله لم يخرجه مسلم عن عمر، بل لفظه في الرواية عنه: ((ما منكم من أحد يتوضأ، فيبلغ أو يسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله- إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء))، وهو مغاير لما ذكره المصنف من وجوه، فتأمله. وفي رواية له: ((من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله))، هذا هو ما ذكره مسلم فاعتمده، ولا تغتر بنقل غيره عنه.

باب فرض الوضوء وسننه

باب فرض الوضوء وسننه قوله: وليس في هذا إلا أن فيه جميعًا بين إرادة الحقيقة والمجاز، وذلك جائز عند بعض أصحابنا. انتهى كلامه. وهذا الذي نسبه إلى بعض الأصحاب واقتضى كلامه ضعف هو مذهب الشافعي، كما هو معروف في كتب الأصول، ونقله أصحابنا في كتبهم حتى في ((الروضة)) في كتاب الإيمان. قوله: وعن صاحب ((التلخيص)) أنه يتقدر المسح بثلاث شعرات كما في حلق الرأس في الحج، واختاره البصريون من أصحابنا، قال الرافعي: وقد أفهم كلام بعض النقلة احتمالًا في اعتبار قدر ذلك- أيضًا- في المسح على البشرة. انتهى كلامه. واعلم أن الاحتمال أبداه الرافعي، ثم نقل عن بعضهم ما يدل عليه، فإنه نقل عن ابن القاص أنه يتقدر بثلاث شعرات. ثم قال: وهل يختص هذا الوجه بما إذا كان المسح على الشعر، أم يجري في مسح البشرة حتى يشترط المسح على موضع ثلاث شعرات؟ في كلام النقلة ما يشعر بالاحتمالين جميعًا، والأول أظهر. هذا لفظه، وبينهما فرق ظاهر، ولا جرم حكاهما في ((الروضة)) وجهين. قوله: والدلالة على وجوب الترتيب [كذا] من وجهين: أحدهما: أنه- سبحانه وتعالى- أمر بغسل الوجه بحرف الفاء الموجب للتعقيب والترتيب إجماعًا، حيث قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وإذا ثبت تقديم الوجه ثبت استحقاق الترتيب، لأنه لا قائل بالفرق. ثم ذكر بعد ذلك أنه لا فرق في استحقاق الفاء للترتيب بين فاء الجزاء وغيرها. انتهى. وما ذكره- رحمه الله- من دعوى الإجماع على أن الفاء للترتيب ليس كذلك، فقد ذهب الفراء إلى أنها لا تدل على الترتيب، وذهب الجرمي إلى أنها إن دخلت على الأماكن أو المطر فلا ترتيب، تقول: نزلنا- أو نزل المطر- نجدًا فتهامة، وإن كانت تهامة في وقوع المطر سابقة على نجد.

واعلم أن الاستدلال الذي ذكره المصنف استدلال باطل لا ينبغي أن يكون موضوعًا في تصنيفٍ- كما قاله النووي- لأن الترتيب إنما وقع بين هذه الجملة وما قبلها، لا بين أفراد هذه الأعضاء. قوله: ومن السنة ما [كذا] روى مسلم عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء، فقال: ((ما منكم من أحد يقرب وضوءه، ثم يتمضمض ويستتنشق- إلا خرت خطايا فيه وأنفه مع الماء، ثم يغسل وجهه كما أمر الله تعالى إلا خرت خطايا وجهه مع أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى مرفقيه إلا خرت خطايا بدنه من أطراف أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه مع الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا رجليه من أطراف أصابعه من الماء)). انتهى كلامه. وهذا الحديث ذكره مسلم في كتاب الصلاة في باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، لكن هذا اللفظ كله ليس في روايته، إذ ليس فيها: ((كما أمر الله)) في غسل الرجلين، وفيها: ((ثم يغسل قدميه إلى الكعبين)) أي: بلفظ ((إلى)) لا بلفظ ((مع)). قوله: التتابع: عبارة عنه تطهير العضو بعد العضو بحيث لا يجف المغسول قبيله قبل شروعه فيه، مع اعتدال الزمان والمكان، فلا اعتبار بشدة الحر والبرد، ولا بالبلاد الشديدة الحرارة أو البرودة. قلت: وينبغي أن ينظر إلى اعتدال المستعمل له، فلا يعتبر بمن عليه حرارة وضدها. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا في اعتدال المستعمل واقتضى كلامه عدم ذكر الأصحاب له، غريب، فقد ذكره الرافعي، وجزم باشتراطه على وفق ما ذكره، فقال: والتفريق الكثير: أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص، ولا عبرة بحال المحموم. هذا لفظه، وتبعه عليه في ((الروضة)). قوله: والجديد: أن التتابع غير واجب، لأن ابن عمر روى ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح رأسه، فدعي إلى جنازة، فأتى المسجد، فدعا بماء، فسمح على خفيه، وصلى عليها)) قال الشافعي: وبين ذهابه من السوق إلى المسجد تفريق كثير. وقد روي ذلك موقوفًا على ابن عمر. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن الشافعي روى هذا مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس كذلك، فإن الشافعي إنما رواه موقوفًا، فقال في ((الأم)) في كتاب اختلاف مالك والشافعي، في باب نوم الجالس- ما نصه: قال الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه بال

في السوق، فتوضأ: فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم دخل المسجد، فدعي لجنازة، فمسح على خفيه. هذا لفظه بحروفه، ومن ((الأم)) نقلته، ورأيت في ((الأم)) - أيضًا- في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى- وهذا الكتاب بعد باب قطع العبد في باب صلاة الخوف منه- ما نصه: وقد روي عن ابن عمر أنه توضأ وخرج إلى السوق، ثم دعي لجنازة، فمسح على خفيه وصلى. انتهى، وهو نظير ما تقدم في الوقف على ابن عمر، لكن في هذه مخالفة لذلك لا تخفي. نعم، روى صاحب ((البيان)) هذه القصة عن ابن عمر مرفوعة. قوله: والقولان في تفريق الوضوء جاريان في تفريق الغسل، وهل يجريان في تفريق التيمم؟ قال ابن القطان وطائفة: نعم، وقال الجمهور: لا، بل يبطل بالتفريق قولًا واحدًا. ثم قال: وبعضهم قال: إنه لا يضر قطعًا. انتهى. وما نقله عن الجهور من القطع بالبطلان قد خالفه في باب التيمم مخالفة عجيبة فقال: إن المشهور طريقة القولين. وستعرف لفظة هناك. * * *

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين قوله: وفي تعبير الشيخ بلفظ ((الجواز)) تنبيه على أمرين، أحدهما: أن المسح غير واجب وغير مستحب وغير مكروه، وهو مشهور، لكن أبو الطيب حكى هنا عن الشافعي أنه مكروه. انتهى كلامه. وهذه الحكاية عن أبي الطيب غلط من المصنف- رحمه الله- فإن أبا الطيب لما ذكر هذه المسألة في ((تعليقه)) - وهو الكتاب الذي ينقل منه المصنف عنه- نقل أن الشافعي رواه عن مالك، لا أن الشافعي نفسه قال به، فإنه قال: وروي عن مالك ست روايات، إحداها: أنه يمس مؤقتًا مثل قول الشافعي الجديد، وروي عنه أنه قال: يمس حتى تصيبه الجنابة. وهذا مثل قول الشافعي القديم، وروي عنه أنه قال: يمسح المسافر دون الحاضر، وروي عنه أنه قال: يمسح الحاضر دون المسافر، وروى عنه ابن فديك أنه لا يمسح أصلًا، وروى عنه الشافعي أنه كره المسح على الخفين. هذا كلامه بحروفه، ومن ((تعليقه)) نقلت. قوله: ولو كان المحدث لابس خف بالشرائط، وقد دخل عليه وقت الصلاة، ووجد من الماء ما يكفيه لو مسح على الخف، ولا يكفيه لو غسل الرجلين- فالذي يظهر: وجوبه، لقدرته على الطهارة الكاملة، ولا يأتي فيه الخلاف الذي يأتي في التيمم، لوضوح الفرق. انتهى. وأشار بالآتي في التيمم إلى ما إذا كان على طهارة، وأرهقه حدث، ولم يكن لابسًا للخف، فإن في وجوب لبسه ليمسح عليه وجهين، أصحهما: عدم الوجوب. وهذا الفرع الذي ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله، قد صرح به صاحب ((البحر)) في كتاب التيمم، وحكى فيه الاتفاق فقال: فرع: إذا كان لابسًا للخفين في السفر، وهو على طهارة، ومع ماء يكفيه لوجهه ويديه ومسح رأسه فقط، ومعه ثلج يابس يمسح به الخفين، ولا يمكنه إذابته- فعليه الوضوء ومسح الخفين به قولًا واحدًا، لأنه يمكنه تحصيل وضوئه هذا كلامه. قوله: أما إذا أجنب في أثناء المدة انقطعت مدة المسح بوجوب غسل الرجلين،

وهكذا الحكم في المرأة إذا حاضت أو نفست، قاله الرافعي، واستدل له بحديث صفوان، وفيه نظر، لأن حديث صفوان يدل على أن المسح على الخف لا يقوم مقام غسل الرجلين في الجنابة، لا أنه تبطل مدة المسح. نعم، إن كان لا يتأتى غسل الرجل في الخف فالنزع واجب لأجل الغسل، فإذا نزع بطلت به المدة، وإذا لم ينزع هل نقول: تبطل، تنزيلًا لوجوب النزع منزلته، أم لا؟ هذا محل الاحتمال، وإن كان يتأتى غسل الرجلين في الخف ينبغي ألا تبطل مدة المسح، بناء على أن الوضوء لا يندرج تحت الغسل، ويصير ذلك بمنزلة ما قاله الأصحاب فيما إذا دميت رجله في الخف، إن أمكن غسلها فيه لم تبطل المدة. انتهى كلامه. فأما ما اعترض به على الرافعي من أن حديث صفوان إنما يدل على أن المسح لا يقوم مقام الغسل فليس كذلك، بل يدل على وجوب النزع، فإن لفظه- على ما حكاه الرافعي وغيره-: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا سفرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة)). وأما قوله: وإذا لم ينزع فهل نقول: تبطل، تنزيلًا لوجوب النزع منزلته، أم لا؟ هذا محل الاحتمال- فيقال له: توقفك في البطلان في هذه الحالة يستدعي جواز المسح على تقدير عدم البطلان، وإلا لم يكن لبقاء المدة فائدة، وجواز المسح لابد له من فائدة، وما فائدته مع قيام الجنابة، فإنه لا يستبيح معها شيئًا من الموانع، والفرض: أنه لابد من النزع، وإذا نزع عاد الحدث. وأما قوله: وإن كان يتأتى غسل الرجلين في الخف فينبغي ألا تبطل مدة المسح، بناء على أن الوضوء لا يندرج تحت الغسل ... إلى آخره- فإن تفريعه عدم البطلان على عدم الاندراج كلامٌ عجيب، بل إذا أمكن الغسل في الخف، وقلنا بما قاله من أنه ينبغي ألا تبطل المدة- فإنه يمسح إلى انقضاء المدة. نعم، إن كان قد أحدث الحدث الأصغر- أيضًا- مع الأكبر: فإن توضأ أولًا ومسح قبل الغسل فلا كلام، وإن اغتسل وقلنا بعدم الاندراج احتاج إلى الوضوء والمسح، ولكن لا ارتباط له بالبطلان وعدمه. وخطر لي في الجواب عن الثاني: أن يتوضأ ويمسح، لفائدة النوم والأكل والشرب والجماع وغيرها مما استحبوه في باب الغسل. قوله: قال الأصحاب: والرخص التي تتعلق بالسفر ستة، منها ما يختص بالطويل بلا خلاف، وهي: المسح على الخفين، والقصر، والفطر، ومنها ما يجوز في الطويل والقصير بلا خلاف، وهي الصلاة على الراحلة ونحوها، وفي هذا شيء ستعرفه،

ومنها ما اختلف قول الشافعي فيه، وهو الجمع في السفر والتيمم. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من نفي الخلاف في جواز الصلاة على الراحلة في السفر القصير ليس كذلك، بل في اشتراط السفر الطويل في ذلك قولان مشهوران في ((الرافعي)) وغيره، وقد حكاهما المصنف في باب استقبال ودعواه- أيضًا- أنه لا خلاف في اختصاص القصر بالسفر الطويل ليس كذلك، بل فيه قول: أنه يجوز في القصير- أيضًا- بشرط الخوف، حكاه الرافعي وغيره، وحكاه المصنف- أيضًا- في صلاة المسافر. الأمر الثاني: أن ما ذكره من انحصار رخص السفر في ستة باطل- أيضًا- فإن ترك الجمعة من رخص السفر، وكذلك عدم القضاء على المتيمم الفاقد للماء، وعدم القضاء على الزوج إذا سافر بواحدة من نسائه بالقرعة. فالجمعة لا تختص بالطويل، بخلاف الأخيرتين على الصحيح. وعدوا- أيضًا- أكل الميتة من رخص السفر. قوله: وابتداء المدة من حين يحدث، لأنها عبادة مقدرة بوقت، فكان أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة، ثم هذا الدليل يدل على امتناع تجديد الوضوء المشتمل على مسح الخفين، ولاشك في أنه مكروه. انتهى كلامه. واعلم أن عبارته تقتضي الامتناع فيما قبل الحدث وبعده، مع أن التعليل المتقدم الذي استنبط منه ما ذكره إنما يدل على المنع فيما قبل الحدث خاصة، ثم إن دعواه أنه لاشك في الكراهة عجيب، فقد جزم النووي في ((شرح المهذب)) هنا بجوازه واستحبابه فيما قبل الحدث، على خلاف ما دل عليه التعليل السابق. قوله: فإن مسح في الحضر ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام- أتم مسح مقيم. ثم نبه على أمرين، فذكر أحدهما. ثم قال: الثاني: أن المسألة الثانية مصورة بما إذا بقي من مدة المقيم شيء كما إذا كان قد مسح دون يوم وليلة، لأن فيه تنبيهًا على محل خلاف المزني، أما إذا كان قد مسح في السفر يومًا وليلة فأكثر ثم أقام، استأنف وفاقًا، وإنما قلنا ذلك، لأن في ((تعليق)) البندنيجي: أنا أبا العباس- يعني ابن سريج- حكى عن المزني أنه قال: إذا كان مقيمًا ثم سافر أو مسافرًا، ثم أقام- بني إحدى المدتين على الأخرى، ويقسط ذلك على الزمان: فإن كان مقيمًا، فمضى من مدة الإقامة ثلثها من حين الحدث، ثم سافر-فله أن يمسح بعد أن حصل مسافرًا يومين وليلتين ثلثي مدة السفر، في مقابلة

ما بقي من مدة الحضر وهو ثلثا يوم وليلة. وإن كان مسافرًا، فمسح يومًا وليلة، ثم حضر- فقد مضى له ثلث مدة السفر، فيضيف إلى هذا ثلثي مدة الحضر. انتهى كلامه. وما ادعاه أولًا من الوفاق على الاستئناف فيما إذا استوفى مدة المقيمين قبل الإقامة، مستندًا إلى ما نقله عن البندنيجي- غريب، فإن النقل المذكور عليه، لا له، فتأمله. وكأنه نظر إلى المثال دون ما قبله. قوله: وقد قال الأصحاب: المستحاضة ومن في معناها إذا توضأت ولم تصل، ولبست الخف، ثم أحدثت الحدث المعتاد- يجوز أن تتوضأ، وتمسح على الخف، وتصلي فريضة واحدة وما شاءت من النوافل، فإن كانت قد صلت الفرض استباحت النافلة فقط. ثم قال: وعن الشيخ أبي حامد: أن لها أن تستوفي مدة المسح يومًا وليلة في الحضر، وثلاثة أيام ولياليهن في السفر. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الشيخ أبي حامد قد رأيت في ((تعليقه)) عكسه، وهو الجزم بالمذهب المشهور، والرافعي عبر بقوله: ((وعن أبي حامد))، فكأنه توهم أن المراد به الشيخ أبو حامد، فصرح به هنا. وذكر بعده بنحو صفحة ما هو أشد منه، فقال جوابًا عن سؤال أورده على الشيخ ما نصه: وجوابه: أن اشيخ أبا حامد قائل باستيفاء المدة، وهذا الكتاب مختصر من ((تعليقه)) كما هو المشهور، وحينئذ لا يحسن معه هذا السؤال. هذه عبارته، وهي زائدة على تلك في الخلل، والذي في ((الرافعي)) يجوز أن يراد به القاضي أبو حامد المروروذي، وهو الظاهر، لما ذكرناه، ولأن ذاك لا يطلق إلا مقيدًا بـ ((الشيخ)). قوله: وقد أفهم كلام الشيخ أمورًا. أحدها: أنه لا يجوز المسح على ما لا يسمى خفًا، وذلك يشمل صورًا. منها: إذا أخذ قطعة جلد، وأحكمها بالشد بحيث لا يرى معها بشرة القدم، ويمكن متابعة عليها، وهو ما حكاه القاضي الحسين عن الأصحاب، لأنه غير مخروز، وأبدا جوازه احتمالًا لنفسه. انتهى. وما نقله عن القاضي الحسين هنا غلط، فإن القاضي لم يذكر هذه المسألة في ((تعليقه)) بالكلية. وأما هذا الكلام الذي نقله عنه المصنف جميعه فإنما ذكره في الخف المشقوق

القدم إذا شد بالشرج. قوله: ومنها أن صاحب ((التخليص)) اشترط في الملبوس أن يكون حلالًا، لأن المسح على الخف رخصة، فلا تباح بالمعاصي، ويندرج في ذلك الخف المغصوب والمسروق. ثم قال: لكن الذي عليه عامة الأصحاب: أنه لا يشترط ذلك، وصححه الغزالي. انتهى كلامه. واعلم أن الغزالي في ((الوسيط)) قد رجح المنع فقال: إنه أحسن الوجهين. وفي كلام ((الوجيز)) إشعار برجحانه- أيضًا- نعم، صرح في ((البسيط)) بالجواز، وعبر بلفظ ((الأصح))، فاعلمه، فيجوز أن يكون المصنف قد أراد الكتاب المذكور. قوله: وفي المسح على الجرموقين قولان. أحدهما: يجوز. وهذا ما قاله في القديم و ((الإملاء))، واختاره المزني، ونص عليه في ((الأم))، لأنه قال فيه- كما حكاه البندنيجي ... إلى آخره. وهذا النقل عن ((الأم)) غلط عجيب، فإن المنصوص عليه فيها إنما هو المنع، وقد نبه على هذا الغلط في ((المطلب)). قوله في المسألة: والثاني: لا يجوز. ثم قال ما نصبه: وهذا ما نص عليه في الجديد و ((الأم)) كما قاله أبو الطيب، وهو الأصح. انتهى كلامه. وهذا التعبير الذي نقله عن أبي الطيب يوهم أن القاضي قائل بأن ((الأم)) ليست من الكتب الجديدة- على وفق ما قاله الإمام- مع أن القاضي لم يذكر شيئًا يوهم ذلك أصلًا. قوله: ولو كان الأسفل لو انفرد لا يمكن المسح عليه، والأعلى لو انفرد لأمكن المسح عليه- جاز المسح عليه قولًا واحدًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك، فقد رأيت في ((الاستذكار)) للدرامي فيه طريقين، ونقلهما- أيضًا- عنه النووي في ((شرح المهذب)). قوله: التفريع: إن قلنا بالجواز ففي كيفية تنزيل الأسفل مع الأعلى ثلاثة معان عن ابن سريج حكاها البندنيجي وغيره: أظهرهما: أن الأعلى بدل عن الأسفل، والأسفل بدل عن الرجل.

والثاني: أن الأسفل كاللفافة، والخف هو الأعلى. والثالث: أن الأسفل بمنزلة طاقة من طاقات الخف والبطانة له. وبنى المراوزة على هذه المعاني فروعها، منها: إذا لبس الأسفل على الطهارة، ثم أحدث ومسح عليه، ولبس الأعلى- فقال الرافعي: إن منهم من بناه على المعاني، فقال: إن قلنا بالأول والأخير فله المسح عليه، وإن قلنا بالوسط فلا. وهذه طريقة القاضي حسين، وحاصلها وجهان حكاهما أبو الطيب وغيره، ومنهم من قال: إن قلنا بالوسط انبنى على أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث أم لا: فإن قلنا: إنه يرفعه، جاز له المسح، وإلا فلا. انتهى. وما نقله- رحمه الله- عن اختيار القاضي الحسين لهذه الطريقة ليس كذلك، بل إنما اختار الطريقة التي تليها، وهي الجواز على الأول والأخير، وبناء الوسط على رفع الحدث، كذا ذكره في ((تعليقه)). واعلم أن تعبيره عن الثلاث المتقدمة بـ ((المعاني)) قلد فيه الرافعي و ((الروضة)) مع أنها أوجه لابن سريج كذا صرح به جماعة منهم: الإمام في ((النهاية))، والروياني في ((البحر))، والعمراني في ((البيان))، والرافعي في ((الشرح الصغير)) فقال: فيه ثلاثة أوجه عن ابن سريج. هذه عبارته. قوله: ومنها: لو تخرق الأسفل من إحدى الرجلين، فإن قلنا بالمعنى الأول قال في ((التهذيب)): نزع واحدة من الرجل الأخرى، كي لا يكون جامعًا بين البدل والمبدل، وليس كما إذا تخرق الأعلى من إحدى الرجلين، حيث جرى في لزوم النزع من الأخرى الخلاف الذي سلف، لأن ما لاقاه المسح هنا باقٍ، ولا كذلك ثم، فإنه الذي نزع فصار كالخف ينزع عن الرجل. انتهى كلامه. وهذا الفرق الذي ذكره المصنف إنما ذكره للرد على كلام ذكره الرافعي، فإنه لما ذكر الحكم والتعليل السابقين عبر بقوله: كذا ذكره في ((التهذيب)) وغيره، ولك أن تقول: هذا المعنى موجود فيما إذا تخرق الأعلى من إحدى الرجلين، وقد حكوا وجهين في لزوم النزع من الرجل الأخرى، فليحكم بطردهما هاهنا. هذا كلام الرافعي، وهو كلام محقق متين، والفرق الذي ذكره المصنف غلط عجيب على العكس من المسألة، فإن الأعلى الذي حصل المسح عليه، وأشبه الخف الواحد المنزوع من إحدى الرجلين- هو الذي حصل فيه الخلاف، والتحتاني هو المجزوم به، فتوهم العكس حالة شروعه في الفرق.

واعلم أن كلام المصنف- تبعًا للرافعي- يوهم أن البغوي علل بالجمع بين البدل والمبدل، مع أن البغوي لم يذكر ذلك بالكلية، والمراد بالجمع: بالنسبة إلى المسح، لأن الخف الواحد الباقي على إحدى الرجلين مبدل عن الجرموق، والجرموق في الأخرى بدل عن الخف. قوله: وقد قيد في ((الوجيز)) استحباب مسح الأسفل بما إذا لم يكن عليه نجاسة. وهذا منه تفريع على جواز الصلاة في الخف الذي أزيل جرم النجاسة عنه بمسحه على الأرض، وإلا فقد تقدم أن الخف المتنجس الذي لا تجوز الصلاة فيه لا يجوز المسح عليه. انتهى كلامه. وهو عجيب، فإن الذي أفهمه كلامه المتقدم وكلام غيره إنما هو فيما إذا كان الخف جميعه متنجسًا، أما لو كان الأعلى طاهرًا والأسفل متنجسًا فإنه لا يمسح الأسفل، لما فيه من انتشار النجاسة، بل يمسح الأعلى فقط، ويصح مسحه، وحينئذ: فإذا أراد الصلاة: فإن كانت النجاسة مما يعفى عنها فواضح وإن لم يعف عنها أزالها بطريقها: إما بالماء على قولٍ، وإما بالدلك على آخر. وقد أجاب الرافعي في كلام الغزالي بنحو ما ذكرته، فقال باحثًا في كلامه: ولا شك أنه إذا عند المسح على أسفل خفة نجاسة فلا يمسح عليه، لأن المسح يزيد فيها، والقول في أنه كيف يصلي فيه: أتتعين إزالة النجاسة عنه بالماء كما في سائر المواضع، أم يكفي دلكه بالأرض- سيأتي في كتاب الصلاة، إن شاء الله تعالى. هذا كلام الرافعي، وهو واضح. نعم، يتجه تخريج المسألة على أن المسح على الخف هل يرفع الحدث، أو لا يرفعه وإنما يبيح الصلاة؟ فإن قلنا بالأول- وهو ما صححه في ((الروضة)) من ((زوائده)) - فلا إشكال في صحة المسح مع نجاسة الأسفل، وإن قلنا بالثاني فيظهر بناؤه على أن من تيمم وعلى بدنه نجاسة: هل يصح أم لا؟ ويجوز أن يفرق بينهما. قوله: فإن اقتصر على مسح القليل من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على ذلك من أسفله لم يجزئه على ظاهر المذهب، وقيل: يجزئه. ثم قال بعد تقرير هذا الخلاف ما نصه: وقد جعل الرافعي محل الخلاف فيما يحاذي أخمص القدمين والكعبين، وقال: إنه لا كلام في أن ما يحاذي غير الأخمص وغير العقبين يجوز الاقتصار عليه، انتهى كلامه وتعبيره بالكعبين هنا غلط، فإن الكعب هو العظم الناتئ بين مفصل الساق والقدم،

والصواب التعبير بالعقبين كما عبر به ثانيًا. قوله: وإن ظهرت الرجل من الخف، أو انقضت مدة المسح- وهو على طهارة المسح- غسل القدمين في أصح القولين، واستأنف الوضوء في القول الآخر. ثم قال: فعن ابن سريج وأبي إسحاق وابن أبي هريرة وجمهور البغداديين: أنهما مبنيان على القولين في تفريق الوضوء: فإن قلنا: يجوز، اقتصر على غسل القدمين، وإلا استأنف. وعن الشيخ أبي حامد والقفال وأصحابه: أنهما مبنيان على أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث أم لا؟ وفيه قولان مستنبطان. انتهى. وما نقله عن الشيخ أبي حامد من بنائهما على رفع الحدث ليس كذلك، بل الذي صححه إنما هو الأول، وهو البناء على تفريق الوضوء، كذا رأيته في ((تعليقه))، وعبر بلفظ ((الأصح))، إلا أنه صحح بعد ذلك استئناف الوضوء، على خلاف قضية البناء، فاعلمه.

باب ما ينقض الوضوء

باب ما ينقض الوضوء قوله: في البحث مع الرافعي في أن المني لا ينقض الوضوء-: أما الأول، فلأن الماوردي ادعى الاتفاق على وجوب الوضوء بخروج دم الحيض، وهو موجب لنقض الطهارة. انتهى. وما نقله من الاتفاق وأقره مردود، فقد رأيت في ((اللطيف)) لأبي الحسن بن خيران البغدادي: أن الحيض والنفاس لا يوجبان الوضوء. ثم قال: والصحيح- كما ستعرفه- أن الموجب لغسل الحيض طروءه وإن كانت صحته تتوقف على انقطاعه، كما أن الوضوء يجب بخروج البول وتتوقف صحته على انقطاعه. انتهى. وما ذكره من كونه الصحيح، ومن كونه سيأتي- فإن المسألة قد ذكرها في ((باب ما يوجب الغسل))، وحكى فيها خلافًا متعارضًا، بل نقل هناك عن الإمام: أن الأكثرين على وجوبه بالانقطاع. ثم قال: وتصوير الأصحاب الجنابة المجردة عن الحدث بذلك لا يدفع كون المني ناقضًا للوضوء، لأن مرادهم تصوير جنابة لا يجب معها فعل الوضوء، بل يكون الغسل فيها كافيًا بلا خلاف، ونحن كذلك نقول في هذه الصورة، لا لأنه لم يوجد نقض الطهارة الصغرى، بل لأنه قد وجد في حال واحد في آن واحد، فاكتفينا بأعمهما، بخلاف ما إذا تقدم أحدهما على الآخر، فإنا نوجبهما على رأي. انتهى. وهذا الحمل الذي ذكره منافٍ لكلام الرافعي وغيره من الأصحاب في باب الغسل، فراجعه. ثم قال- ردًا على الرافعي أيضًا-: ولا يتصور مقارنة الحدث الأصغر للأكبر، إلا إذا جعلنا المني لهما، فإن كان لا يوجب الوضوء تعذر تصوير اجتماع موجب الوضوء والغسل في حال واحد. انتهى.

وما ذكره من عدم التصوير ذهول عجيب، فقد يلمس أو يمس حالة خروج المني ونحو ذلك. قوله: وقد حكي وراء ما ذكره الشيخ في النوم أقوال بعيدة: أحدها: أنه لا ينتقض الوضوء إذا وجد في الصلاة في الركوع والسجود والقيام، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((إذا نام العبد في سجوده باهي الله به الملائكة، فيقول: ملائكتي، انظروا إلى عبدي: روحه عندي، وجسده بين يدي))، فسماه ساجدًا بعدما نام، وقد اختاره في ((المرشد)). والثاني- حكاه ابن الصباغ عن القديم-: أن النوم في الصلاة لا ينقض الوضوء، واستدل له بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}، فأخرجه مخرج المدح، وما تعلق به المدح ينفي عنه إبطال العبادة. انتهى كلامه. ومقتضاه: أن ابن الصباغ صدرت منه حكاية القول والاستدلال: فأما الحكاية للقول فصحيحة، وأما الاستدلال فليس له ذكر في ((الشامل)) بالكلية، بل استدل له بالحديث الذي ذكره المصنف دليلًا للقول الأول. ويظهر- أيضًا- أن القولين المذكورين قول واحد، غير أن بعضهم أجمله، وبعضهم فصله، فتوهم المصنف المغايرة، ولهذا لم يسلك أحد ما سلكه من المغايرة أصلًا، ويدل عليه- أيضًا- أن صاحب ((الشامل)) استدل للثاني بما استدل به المصنف للأول كما ذكرنا، وأيضًا: فلأن المرشد عبر عنه إذا نام في هيئة من هيئات الصلاة. قوله: ولا فرق بين أن يكون القاعد هزيلًا أو سمينا، وفي الهزيل وجه: أنه ينتقض وضوءه، لأن اللحم ينضغط بأليتيه المحل. انتهى كلامه. وإثبات الخلاف في هذه الصورة غير صحيح، فإنه لا أصل له، لا نقلًا ولا معنى، والحاكون له حكوه على سبيل الاستثناء لانتفاء المعنى، ولابد منه، ولهذا نقله الروياني في ((البحر)) عن الأصحاب. قوله: وبنى القاضي الحسين الثانية- يعني لمس الميتة- على أنه هل يجب الحد بوطئها، ويجب تجديد غسلها؟ وفيه وجهان. وقضية البناء ترجيح عدم النقض، وبه صرح الغزالي، لكن الأظهر في ((الحاوي)): النقض. انتهى كلامه. وما نقله عن الغزالي من ترجيح عدم النقض صحيح، فقد صرح به في ((البسيط)) خاصة، وعبر بالأصح، ولم يتعرض للمسألة في ((الوسيط)) و ((الخلاصة))، وحكى فيها

خلافًا في ((الوجيز)) من غير ترجيح. وأما نقله ذلك عن الرافعي فلغط، ولهذا أسقط من بعض النسخ، فإن الذي رجحه الرافعي في ((شرحيه)) - الكبير، والصغير- إنما هو النقض، وعبر في ((الكبير)) بالظاهر، وفي ((الصغير)) بقوله: رجح- على البناء للمفعول- ولم يذكر المسألة في ((المحرر)). قوله: ولو مس محرمًا ليست برحم كالمحرمة عليه بالرضاع أو المصاهرة فإن في نقض الطهارة طريقين حكاهما العمراني في ((الزوائد)): إحداهما: طرد القولين، ولم يذكر الرافعي غيرها. والثانية: القطع بالانتقاض. قلت: ولو فصل بين من كانت حلالًا له في وقت ثم حرمت عليه بذلك، فينتقض الوضوء بمسها، وبين من لم تحل له أصلًا، فيكون في لمسها القولان- لم يبعد، ويشهد لذلك ما ستعرف في باب الظهار. انتهى كلامه. وهو غريب جدًا، فإن حاصله أن العمراني في ((الزوائد)) قد حكى الطريقين في المحرم بالمصاهرة، سواء حلت ثم حرمت أم لم تحل أصلًا، وليس كذلك، بل إنما حكاهما في الكتاب المذكور فيمن حلت ثم حرمت فقال: مسألة: لمس أم الزوجة والربيبة وكل من كانت حلالًا ثم حرمت عليه، منهم من قال: فيه قولان كذوات المحارم، ومنهم من قال: ينتقض الوضوء قولًا واحدًا، لأنها كانت محللة له فهي كأم الموطوءة بشبهة. هذا لفظه في ((الزوائد))، وذكر في ((البيان)) مثله فقال: وإن لمس امرأة كانت حلالًا له ثم حرمت كأم زوجته وربيبته، فقد اختلف ... إلى آخره. وقد استفدنا- أيضًا- من كلام العمراني نقل ما أبداه المصنف بحثًا، واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، فإن الطريقة الثانية القاطعة هي التي حاول المصنف إثباتها، وقد رأيت- أيضًا- هذه الطريقة في ((نكت التنبيه)) لابن أبي الضيف التميمي. واعلم أن في كثير من نسخ هذا الكتاب التعبير بقوله: ولم يذكر الرافعي غيرها عقب الطريقة الثانية، وهي طريقة القطع. وذلك غلط من النساخ سببه أنها بخطه في حاشيةٍ لها تخريجةٌ خفية بعد الطريقة الأولى، وقريبة في الموضع من الثانية، فألحقها النساخ بالثانية خطأ منهم، فلا يرد ذلك على المصنف، فتفظن له. قوله: تنبيه الرحم: علاقة القرابة، مأخوذ من ((الرحم)) - بضم الراء- وهو العطف. والمحرم: مفعلٌ من ((الحرمة)) بمعنى ((الحرام)) - مقتضبٌ من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ

عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}، والمراد: من لا يحل له نكاحها بسبب القرابة وغيرها. انتهى كلامه. وما ذكره في حد المحرم حد فاسد جدًا، بل الصواب فيه ما قاله غيره، وهي: كل امرأة حرم نكاحها على التأييد بسبب مباح لحرمتها. واحترزنا بـ ((التأبيد)) عن أخت الزوجة وعمتها وخالتها. وبـ ((السبب المباح)) عما إذا وطئ امرأة بشبهة، فإن أمهاتها وبناتها- وإن حرمن عليه على التأبيد- فإن المحرمية لا تثبت على الصحيح، لأن السبب ليس مباحًا: أما شبهة المحل: كوطء الجارية المشتركة، وشبهة الطريق: كالوطء بالنكاح والشراء الفاسدين، فلأنه حرام. وأما شبهة الفاعل: كوطء من ظنها زوجته، فلأنه لا يوصف بإباحة ولا تحريم، لأنه ليس فعل مكلف، إذ الغافل لا يكلف. نعم، لو تزوج الموطوءة بشبهة ودخل بها، فالمتجه: الحكم على أمهاتها وبناتها بالمحرمية، وحينئذ فيرد على الضابط، لأن السبب المباح- وهو العقد والدخول- لم يحرمهن، لأنهن حرمن قبل ذلك، ويستحيل تحصيل الحاصل. واحترزنا بـ ((المحرمة)) - أي الاحترام والإعظام- عن الملاعنة، فإن تحريمها للتغليظ، وهذا الضابط ينتقض طردًا بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعكسا بالموطوءة في الحيض والنفاس والإحرام والصوم الواجب ونحو ذلك، كأم الزوجة إذا عقد على ابنتها عقدا حرامًا بأن وقع بعد خطبة الغير. قوله: وأصح حديث في المس- كما قاله البخاري- ما روته بسرة بنت صفوان أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: ((إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ليس بينه وبينها سترة فليتوضأ))، قال الترمذي: وهو حسن صحيح. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن بسرة اسم امرأة، لا اسم رجل كما توهمه المصنف، وهي جدة جدنا لأبينا مروان بن الحكم، أم أمه، وهذا معروف مشهور في ((السنن)) الأربعة وغيرها، وهي بباء موحدة مضمومة ثم سين مهملة ساكنة. الأمر الثاني: أن هذا الحديث ليس هو حديث بسرة الذي قال فيه البخاري وغيره ما قال، بل هو حديث آخر رواه ابن حبان في ((صحيحه)) من رواية أبي هريرة، وأما حديث بسرة فلفظه: ((من مس ذكره فليتوضأ)).

قوله: وفي ((التتمة)) حكاية وجه: أن الشك في الحدث إذا كان قبل الدخول في الصلاة لا يبني على يقين الطهارة، وإن كان بعد الدخول فيها بنى عليه كمذهب مالك. انتهى. وما نقله عن ((التتمة)) من حكاية هذا الوجه غلط، أوقعه فه تقليده للرافعي، فإن صاحب ((التتمة)) إنما نقله عن الحسن البصري، وممن نقله عنه أيضًا: الماوردي في ((الحاوي))، والبندنيجي في ((الذخيرة))، وسليم الرازي في ((التقريب))، غير أن صاحب ((التتمة)) نقله عن الحسن ولم يصرح بالبصري، والباقون صرحوا به. نعم، حكى صاحب ((التعجيز)) في شرحه له وجهًا: أنه يأخذ بالحدث مطلقًا، ساء كان في الصلاة أو خارجها. قوله: وقد قال صاحب ((التخليص)): اليقين لا يرفع بالشك إلا في أربع مسائل: إذا وقع الشك في انقضاء وقت الجمعة، فإنهم يصلون ظهرًا، وظني أني ذكرت فيه خلافًا في باب الجمعة. وإذا شك في انقضاء مدة المسح بنى الأمر على ما يوجب الغسل. وإذا شك هل وصل إلى طنه أو لا؟ وإذا شك: هل نوى الإتمام أو لا؟ يلزمه الإتمام فيهما، والأصحاب قالوا: بل ذلك رجوع إلى الأصل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن صاحب ((التخليص)) من كونه حصر ذلك في أربع مسائل غريب، فإنه ذكر إحدى عشرة مسألة، فقال في ((باب المسح على الخف)) - وهناك يذكر المسألة- ما نصه: ولا يزول اليقين بالشك إلا في إحدى عشرة مسألة: إحداها: قال الشافعي في ((كتاب الربيع)) وكتاب ((الجامع الكبير)): ولو شك مقيم: هل تم وليلة أم لا؟ لم يجز له أن يمسح على الخفين، وكذلك لو علم أنه صلى ثلاث صلوات، وشك في الرابعة: هل صلاها أم لا؟ لم يكن له إلا أن يجعل نفسه كأنه صلى بالمسح الرابعة، ولا يكون له ترك صلاة الرابعة حتى يصليها. قال المزني: هذا عندي غلط. والمسألة الثانية: مسافر شك: هل مسح وهو مقيم، أو مسح بعد ما سافر؟ والثالثة: مسافر أحرم خلف رجل لا يدري أمقيم هو أم مسافر؟ بطل القصر. والرابعة: لو أن ظبيًا بال في قلتين من ماء، فوجده متغيرًا، لا يدري أن التغير من نجاسة أو غيره- فهو نجس.

والخامسة: المستحاضة عليها الصلاة والإمساك في كل يوم شك: هل هو يوم انقطاع الدم أم لا؟ والسادسة: إذا علم أن النجاسة ما أصابت بدنه وثوبه إلا في موضع قليل، وشك في ذلك الموضع- كان عليه غسله. والسابعة- قلته تخريجًا-: إذا شك المسافر هل وصل إلى البلد الذي قصد أم لا، لم يجز له شيء مما رخص للمسافر. والثامنة: إذا شك المسافر في سفره هل نوى الإقامة أم لا، لم يكن له رخصة المسافر، قلته تخريجًا. والتاسعة: المستحاضة ومن به سلس البول أو غيره، إذا توضأ ثم شك: هل انقطع أم لا، فصليً على ذلك- لم يجز. والعاشرة: إذا طلب في سفره الماء وتيمم، ثم أبصر شيئًا لا يدري أسراب هو أو ماء، وشك فيه، فصلى- لم يجزئه وإن كان سرابًا، قلته تخريجًا. والحادية عشرة: رجل رمى صيدا، فجرحه، فغاب عنه، فلحقه ميتًا والسهم فيه، فشك: هل أصابته رمية أخرى من حجر أو غيره- لم يجز له أكله، وكذلك لو أرسل عليه كلبًا. هذا آخر كلام ابن القاص، ومن ((التخليص)) نقلت، والذي أوقع المصنف في هذا الوهم تقليده للغزالي، فإنه عبر في نواقض الوضوء من ((الوسيط)) بقوله: واستثنى صاحب ((التخليص)) من هذه القاعدة أربع مسائل. واغتر الغزالي بأنها في كلام الإمام، فإنه قال في الباب المذكور: استثنى صاحب ((التلخيص)) مسائل، ونحن نذكر المستفاد منها، ونحذف ما لا شك فيه مما استثناه كذا وكذا، وذكر أربعة. الأمر الثاني: أن المسألة الرابعة التي نقلها المصنف عن صاحب ((التخليص))، وهي ما: إذا شك في أنه هل نوى الإتمام أم لا- لم يذكرها صاحب ((التخليص)) بالكلية، وإنما ذكر عوضها ما إذا شك هل نوى الإقامة أو لا، وقد ذكره الإمام في ((النهاية)) والغزالي في ((الوسيط)) على الصواب، وقد رأيته في كثير من شروح ((التخليص)): كشرحه للقفال، وشرحه للشيخ أبي علي السنجي، وشرحه للقاضي حسين بتخطئة ابن القاص في استثناء هذه المسائل من هذه القاعدة، وإن سلموا له حكمها، قالوا: لأنها لم نعمل فيها بالشك، وإنما لها شرط شككنا في وجوده، والأصل عدمه، قال في

((شرح المهذب)): والظاهر ما قاله ابن القاص من الاستثناء، إلا في الثالثة والسادسة والحادية عشرة. ثم قال: ومما يجب استثناؤه مسألتان: إحداهما: إذا توضأ، ثم شك: هل مسح رأسه أم لا؟ فإنه يضر على الصحيح. الثانية: إذا سلم وشك: هل صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ قوله: وما كتب للدراسة، ثم يمحى بعد ذلك كألواح الصبيان- في تحريم مسه على البالغين وجهان: أحدهما: لا، لأنه لم يقصد بإثباته الدوام، وهذا ما حكاه الماوردي عن الأكثرين. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الماوردي غلط، فإنه ذكر ذلك بالنسبة إلى الصبيان، فاعلمه. وهذه المسألة وشبهها مما يحرم بالحدث مذكور في ((الحاوي)) عقب الوضوء وقبل الاستطابة. قوله: وهل يجوز لمن على بدنه نجاسة وهو متطهر مسه؟ فيه وجهان، أصحهما في ((الحاوي)) و ((تعليق)) أبي الطيب: لا، والفرق بين الحدث والخبث: أن الحدث يتعدى، بخلاف النجاسة. انتهى كلامه. فيه أمور: منها: أن نقله تصحيح المنع عن الماوردي وأبي الطيب غلط: فأما الماوردي فإنه لم يصحح شيئًا بالكلية، وأما أبو الطيب فصحح الجواز، ذرك ذلك قبيل باب الاستطابة من ((تعليقه))، فإنه نقل عن أبي القاسم الصيمري: أنه لا يجوز، قياسًا على الحدث. ثم قال ما نصه: والصحيح أنه يجوز، بدليل الإجماع. وأما ما اعتل به الصيمري فغير صحيح، لأن الحدث يتعدى، ويعم حكمه جميع الجسد، والنجاسة لا يجاوز حكمها محلها. هذه عبارته. ومنها: أن الأصحاب جزموا بأن مسه بالموضع النجس لا يجوز، وإنما محل الخلاف فيما عداه، وممن نقله النووي في ((زوائده)). ومنها: أن التفرقة ليست على الوجه الذي صححه كما هو مدلول كلامه، وإنما هي على الضعيف الذي لم يذكره.

باب الاستطابة

باب الاستطابة قوله: ورفع الثوب قبل الدنو من الأرض على وجه الندب، وفيه نظر، لأن الصحيح: أن كشف العورة في الخلوة لا يجوز من غير حاجة، وقيل: دنوه من الأرض لا حاجة به إلى الكشف. انتهى كلامه. والذي قاله ضعيف جدًا، فقد أطبقوا على جواز الاغتسال عاريًا في الخلوة مع إمكان الستر، وذلك لما فيه من المشقة، والمراعاة لرفع الثوب شيئًا فشيئًا أشد في الحرج، فجاز لأجل ذلك، والممتنع إنما هو الكشف لا لمعنى بالكلية، على أن النووي في ((نكت التنبيه)) خرج إيجاب ذلك على الخلاف المذكور، ولم يسبقه أحد إليه. قوله: ولا يتكلم، لما روى ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يخرجان الرجلان يضربان الغائط كاشفي عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك)) رواه أبو داود. ومعنى ((يضربان)): يطلبان. انتهى. وتعبيره بـ ((ابن مسعود)) تحريف، وإنما هو: أبو سعيد، كذا هو في ((أبي داود)) وغيره. قوله: نقلًا عن علي، رضي الله عنه-: إنما كنا نبعر، وأنت تثلطون ثلطا. انتهى. يقال: ثلط البعير- بثاء مثلثة مفتوحة، ولام مفتوحة أيضًا، وطاء مهملة- يثلط، بكسر اللام: إذا ألقى روثه رقيقًا. قوله: وقد أفهم كلام الشيخ: أنه لا يجزئه الاستنجاء بالحجر الواحد إذا لم يكن له غير حف، وإن غسله من أول دفعة ونشفه، ثم استنجى به، ثم غسله ونشفه واستنجى به، وهو وجه حكاه الرافعي مقيسًا على عدم جواز التيمم بالتراب المتيمم به، والحجر الواحد في الحمار، وتكرير شهادة الشاهد الواحد ... إلى آخر ما ذكر. وما ذكره من حكاية الخلاف فيما إذا غسله سهو، ونسبته إلى الرافعي سهو- أيضًا- فقد صرح الرافعي وغيره بأنه لا خلاف في المسألة، والذي وقع للمصنف سببه

الغلط من مسألة إلى مسألة كما يعرف بمراجعة الشرحين. قوله: فرعان: إذا لم تزل العين بالثلاث وجبت الزيادة عليها، ويستحب أن يكون وترًا إن حصل الإنقاء بالشفع، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((من استجمر فليوتر))، وعن ابن خيران: أنه يجب ذلك، لظاهر الخبر. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ابن خيران نقله النووي في ((شرح المهذب)) عن ((البيان))، فقلده فيه المصنف، وهو غلط، فإن ابن خيران أوجب استيفاء ثلاثة أخرى لأجل النجاسة الباقية، كذا نقله عنه في ((البيان)) فقال: وإن لم ينق بالثلاث لزمه أن يزيد رابعًا، فإن أنقى بالرابع أجزأه، ولا يلزمه استيفاء ستة أحجار، وحكى في ((الفروع)) أن ابن خيران قال: يلزمه ذلك. وليس بشيء، لأن المقصود قد حصل. هذا كلام ((البيان))، وعلى هذا: لو استعمل الخامس لم يكف، ولو استعمل الخامس لم يكف، ولو استعمل فلم ينق المحل بها لم يكفه استعمال سابع، بل لابد من ثامن وتاسع، وذكر- أعني العمراني- في ((الزوائد)) نحوه فقال: مسألة: وذكر صاحب ((الفروع)) في فروعه: إذا استنجى بحجر واحد وأنقى فهل يلزمه إتمام الثلاث؟ وجهان، والصحيح: يلزمه، ولو لم ينق لزمه أن ينقي، ولم يلزمه استعمال ثلاثة أحجار أخرى، وعن ابن خيران: يلزمه. هذه عبارته، وذكر المحب الطبري في ((شرحه للتنبيه)) مثله أيضًا. قوله: والمسربة: بضم الميم، وكذا الراء، وفتحها، قال النووي وغيره: مجرى الغائط. انتهى كلامه. وما ذكره من ضم الميم غلط لا أصل له، فإن المذكور في كتب اللغة- كـ ((العباب)) للصغاني و ((المحكم)) لابن سيده و ((جامع)) القزاز وغيرها من الأصول المبسوطة في هذا الفن- إنما هو ضبطه بالفتح. واعلم أن تجويز الوجهين في الراء قد ذكره في ((لغات التنبيه)) تبعًا لابن الأثير في ((النهاية))، فإنه قال: المسربة- بضم الراء-: ما دق من شعر الصدر سائلًا إلى الجوف، والمسربة- أيضًا، بفتح الراء وضمها-: مجرى الحدث من الدبر، كأنها من ((السرب)) وهو المسلك. انتهى ملخصًا. ولكن المعروف في مجرى الغائط إنما هو الفتح لا غير، والوجهان إنما ملحهما إذا أريد بها الشعر، كذا صرح به الصغاني في ((العباب))، حتى ابن سيده في ((المحكم)) والقزاز في ((جامعه)) والجوهري في ((صحاحه)) لم يطلقوا المسربة على مجرى الغائط بالكلية، ووقع للنووي في ((شرح المهذب)) أغرب من ذلك، فإنه ضعف الفتح فقال: المسربة: مجرى الغائط، وهي بضم الراء، وقيل: يجوز فتحها. هذه عبارته، وهو

مخالف لما ذكره في ((لغات التنبيه))، وكأنه وجده في كلام بعض المصنفين الذين التبس عليهم ذلك، فقلده. قوله: فإن ابن الصباغ قال: لا يجوز الاستنجاء بأوراق الأشجار، لأنها تعلف للدواب، وقال الماوردي: لا يحرم الاستنجاء بعلف الدواب، وهل يحرم بما نأكله نحن وهي؟ ينظر: إن كان أكلنا له أكثر حرم، وإن كان أكلها له أكثر فلا، فإن استويا فوجهان. انتهى. وما نقله- رحمه الله- عن ابن الصباغ غلط، فإنه لم يتعرض للأوراق بالكلية، ولا لعلف الدواب، بل كلامه يقتضي الجواز، فإنه نص على أن مطعوم الآدميين والجن لا يجوز الاستنجاء به، فدل على أنه يجوز بعلف الدواب، وقد نص الشافعي- رحمه الله- على نفس المسألة وهي الأوراق، وصرح بالجواز من غير كراهة، ذكر ذلك في ((البويطي)).

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل قوله: وقول الشيخ: ومن إيلاج الحشفة في الفرج، يقتضي أن إدخال مقدار الحشفة من ذكر مقطوع الحشفة لا يوجب الغسل، وهو وجه حكاه الرافعي عن رواية ابن كج. وقال الماوردي: إن الشافعي نص عليه. وعلى هذا: إذا أولج باقي الذكر وجب الغسل، والأصح: أن مقدار الحشفة قائم مقامها ... إلى آخره. واعلم أن هذا الوجه قد ذكره الرافعي، ولكنه لم يحكه عن رواية ابن كج، بل عبر بقوله: وروي وجه- على البناء للمفعول- وسبب وهم المصنف: أن الرافعي ذكر ابن كج قبل هذا الكلام بقليل في حكاية وجه غير هذا. واعلم أن كلام ((التنبيه)) يقتضي أنه لا غسل على من قطعت حشفته بالكلية، فاقتصار المصنف في شرح مفهومه على مقدار الحشفة عجيب. قوله: وقيل: يجب عليها- أيضًا- من خروج الولد، أي: الذي لم يخرج بسببه نفاس، لأن الولادة مظنة خروج الدم ... إلى آخره. واعلم أن ما قاله ليس كافيًا في صورة الخلاف، بل شرطه: ألا ترى بللا بالكلية، وممن صرح بذلك الرافعي والنووي في كتبهما. قوله: وقال الماوردي: لا فرق في تحريم القراءة باللسان بين قراءة القرآن أو آية منه أو حرف، لعموم الخبر، وقال أبو الطيب: إنه لو كبر أو هلل أو قال كالآمر خذ الكتاب بقوة، ونحو ذلك- إن قصد يه غير القراءة جاز، وإن قصد به القرآن لم يجز. وسكت عن حالة الإطلاق، والظاهر التحريم كما هو مقتضى كلام الماوردي، وكلام الغزالي أصرح في المنع منه، فإنه قال: يستوي في التحريم الآية وبعضها، إلا أن يأتي بها على قصد الذكر كقوله: بسم الله، والحمد لله. ثم نقل بعد ذلك الجواز عند الإطلاق عن القاضي الحسين والإمام والرافعي، وأن الإمام ادعى القطع به. انتهى كلامه. وقد دل مجموع ما ذكره على أن الظاهر تحريم النطق بالحرف الواحد وإن لم

يقصد به القرآن، فتأمله. وهذا مما لا يتأتى القول به. وقد ذكر الشيخ تاج الدين في ((الإقليد)) التحريم عند الإطلاق في قسم لا يبعد القول فيه بالتحريم، فقال: المحرم على الجنب كل ما ظهر آية قرآن وصورته، آية كان أو بعض آية، لا ما ليس كذلك مثل: ((ثم نظر))، إلا أن يقصد القراءة، و: ((باسم الله)) و: ((الحمد لله)) علمت استعمالها ذكرا، فلا تحرم إلا بقصد كونهما قرآنًا، بخلاف ((بسم الله الرحمن الرحيم))، فإنها تحرم على الجنب، إلا أن يقصد الذكر. هذا كلامه، وهو متوسط بين مقالة الرافعي وابن الرفعة. قوله: قال الأصحاب: يستحب للجنب ألا يأكل ولا يشرب ولا يجامع ولا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة ويغسل فرجه، ولا يستحب مثل ذلك للحائض والنفساء إلا بعد انقطاع دمهما، قال أبو الطيب وابن الصباغ: والفرق: أن وضوء الحائض لا يفيد شيئًا، ولا كذلك وضوء الجنب، فإنه يخفف الجنابة ويزيلها عن أعضاء الوضوء ويطهرها، والإمام قال: إنه لا يرفع الحدث، وقضية ذلك التسوية. انتهى كلامه. وما ذكره عن هذين من كون هذا الوضوء يزيل الجنابة عن أعضاء الوضوء عجيب: أما الرأس فواضح، وهو عدم الغسل، وأما ما عداها، فلأن من نوى الوضوء مع علمه بأن عليه الجنابة لا ترتفع جنايته، فإن فرض أنه نوى رفع الجنابة لم يكن المأتي به وضوءًا، وصورة المسألة إنما هو فيمن توضأ. تنبيه: ذكر في هذا الباب أم سليم بنت ملحان، وملحان بكسر الميم- ويقال: بفتحها- وبالحاء المهملة، وهي أم أنس بن مالك بلا خلاف، ووهم جماعة فزعموا أنها جدته. وذكر بعده حديث أبي داود: ((إذا نضحت الماء فاغتسل))، قال: والنضح هو الظهور، قال: ويقال: نضح الماء، أي: رفعه. اعلم أن النضح بالضاد المعجمة والحاء المهملة هو الرش، ونحوه ومنه قولهم: فِ الإناء ينضح، أي يخرج منه شيء ويظهر.

باب صفة الغسل

باب صفة الغسل قوله: نقلًا عن الشيخ-: ومن أراد الغسل نوى الغسل من الجنابة، أي: إن كان جنبًا، أو الحيض، أي: إن كان حائضًا، لأنه الذي عليه. ثم قال: ولو حملنا ((أو)) في كلام المصنف على التخيير كان له وجه، لأنه حكى وجه فيما إذا كان عليه حدث الحيض فنوى رفع حدث الجنابة، أو بالعكس- أنه يجزئه، كما لو نوى المتيمم استباحة الصلاة من الجنابة، وكان حدثه حدثًا أصغر، فإنه يجزئه، والصحيح: أنه لا يجزئ، لأنه نوى غير ما هو عليه، والحدث الأكبر والأصغر بالنسبة إلى المتيمم على حد واحد، لأنه لا يختلف الواجب فيه بسببهما، وعليه يتعين حمل كلام الشيخ على ما ذكرنا. انتهى كلامه. وهذا الفرق الذي ذكره سهو، فإن الواجب في الغسل من الجنابة والحيض- أيضًا- لا يختلف، وكأن المصنف- رحمه الله- ظن أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في الحدث الأكبر والأصغر- أيضًا- وحينئذ فيكون الواجب فيهما من الغسل مختلفًا. ثم إن تصحيحه عدم الإجزاء محله في حالة العلم، فأما إذا ظن أن الذي نواه هو الذي عليه، ثم تبين خلافه- فيجزئه، كما في نظيره من الحدث الأصغر. وأيضًا: فتصريحه بالتخيير صريح في أن ذلك مع التعمد من المغتسل، وإذا تقرر أن الكلام في الغسل هنا مع العلم فيكون الحكم في الغسل كالحكم في التيمم سواء، وقد صرح به في ((الروضة)) في باب التيمم من ((زوائده)) فقال: ولو تيمم بنية الاستباحة ظانًا أن حدث أصغر، فبان أكبر، أو عكسه- صح قطعًا، لأن موجبهما واحد، ولو تعمد لم يصح في الأصح، ذكره المتولي. هذا كلام ((الروضة))، ولاشك أن المصنف لم يطلع على هذا الخلاف بالكلية، فضلًا عن أن يكون الصحيح البطلان. قوله: ولو نوى- أي الجنب- باغتساله رفع الحدث الأصغر، فإن تعمد لم يصح غسله في أصح الوجهين، وإن غلط فظن أن الأصغر حدثه لم يرتفع الحدث عن غير أعضاء الوضوء، وفي ارتفاعه عن المغسول من أعضاء الوضوء وجهان، أصحهما:

الارتفاع، وعلى هذا في ارتفاعه عن الرأس وجهان، لأن واجبها في الوضوء المسح، وفي الغسل الغسل، والمسح لا يقوم مقام الغسل. قلت: وليت شعري القائل بارتفاعه هل يقول بارتفاعه عن جملة الرأس، أو عن القدر المجزئ في الوضوء؟ والظاهر الثاني، وإن صح فأي موضع هو؟ انتهى كلامه. والبحث الذي ذكره عجيب، بل الصواب عند هذا القائل ارتفاعه عن الجميع كما هو مدلول عبارتهم، لأنه لا يعقل مع التبعيض الذي لم يتعين موضعه الأمر بغسل الباقي، وذلك بناء على أن الجميع يقع فرضًا، فإن قلنا: إن الزائد على مقدار الواجب يقع نفلًا- وهو ما صححه المصنف في ((باب فرض الوضوء)) - فلا يرتفع عن الرأس، وحينئذ يكون للمنع علتان: إحداهما: هذه، والثانية: ما ذكره. واعلم أن ما ذكره في تعليل المنع إنما يتضح بزيادة ذكره الرافعي، فإنه قال- أعني الرافعي-: ولا يرتفع عن الرأس في أصح الوجهين، لأن فرض الرأس في الوضوء المسح، والذي نواه: إنما هو المسح، والمسح لا يغني عن الغسل. ورأيت في ((شرح الفروع)) للشيخ أبي علي السنجي: أنه ينبغي ألا يرتفع عن اللحية إذا كانت كثيفة، لأن فرضها الإفاضة على الظاهر، وغسل باطنها سنة. قال: إلا أن يتخرج على أن النفل هل يسد مسد الفرض؟ قوله: ثم في الأمر بالإتيان بالوضوء الكامل في أول الغسل، ما يغني عن التصريح بأمرين، أحدهما: الأمر بالإتيان بالتسمية في أوله كما صرح بذكرها العراقيون والمارودي. ثم قال: وفي ((التتمة)) حكاية وجه آخر: أنه يكره له التسمية، وهو في ((تعليق)) القاضي وقال: إن من أصحابنا من قال: الأولى أن يقول: باسم الله العظيم- أو: الحليم- الحمد لله على الإسلام، حتى لا يكون على نظم القرآن. انتهى كلامه. وما نقله عن ((التتمة)) و ((التعليق)) من حكاية وجه في كراهة التسمية ليس كذلك، فإنهما إنما حكياه في عدم استحبابها، ولا يلزم منه كراهتها، ولفظ ((التتمة)): الثانية: هل تسن له التسمية أم لا؟ فيه وجهان، أحدهما: تسن، كما في حق المتوضئ، والثاني: لا تسن، لأن التسمية وإن كان يقصد بها التبرك فالنظم نظم القرآن، والقراءة محرمة على الجنب. هذا لفظه، وذكر القاضي نحوه. قوله: فائدة: هذا الوضوء هل يحتاج إلى نية تخصه أو لا، لأنه من سنن الغسل فنيته تشمله، كما تشمل نية الوضوء المضمضة والاستنشاق؟ الذي حكاه الرافعي:

الثاني، وهو ظاهر كلام الأصحاب والشيخ. وقال في ((الروضة)): المختار: أنه ينوي به سنة الغسل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنه قد تقرر أن الغسل بنية الغسل المطلق لا يصح، بل لابد أن ينوي الغسل من الجنابة أو فريضة الغسل أو غيرهما من الأمور المشروحة في موضعها، فهذه النية إن تأخرت عن الوضوء لم يحصل له عليه ثواب، ولم يكن وضوءًا شرعيًا. وإن قارنت أوله- وهو ما يدل عليه فحوى كلام المصنف- ارتفعت الجنابة عن المغسول من هذه الأعضاء بلا نزاع، لوجود النية المعتبرة مع ما يجوز غسله، إذ لا ترتيب في الغسل، وبقي عليه سنة التبييت، فلا يتصور ما قاله المصنف من كون نية الغسل تشمله، وقياسه على حصول المضمضة والاستنشاق عند نية الوضوء قياس فاسد، لأن هاتين السنتين محلهما غير محل الواجب، إذ لا يجب إيصال الماء إلى باطن الفم والأنف، وأما نقله ذلك عن الرافعي فإنه ظاهر عبارته، إلا أنه لم يصرح به، بل قال ما معناه: أنه إذا كان جنبًا غير محدث، أو جنبًا محدثًا، وقلنا بالمذهب: وهو اندراج الأصغر تحت الأكبر- فالوضوء من محبوبات الغسل. قال: ولا يحتاج إلى إفراده بنية. هذه عبارته، ونقل النووي في ((شرح المهذب)) عن الأصحاب: أنه لا فرق في حصول سنة الغسل بين أن يقدم الوضوء كله أو بضعه أو يؤخره أو يفعله في أثناء الغسل، ولكن الأفضل تقديمه. فإن سلم الرافعي ما ذكره النووي فأخره صح أن يقال: إنه لا يحتاج إلى إفراده بالنية، لأنه من سننه ونية الغسل قد تقدمت، ولكن ظاهر كلام الرافعي يشعر بالتقديم لا غير، ولم يرد في الأحاديث الصحيحة غيره، وهو قياس ما ذكروه في سنن الوضوء من اشتراط تقديم غسل الكفين ثم المضمضة ثم الاستنشاق، وعللوه بأنه الوارد في الأحاديث. ثم إن المصنف قد ذكر بعد ذلك- قبيل قول الشيخ: ((ثم يدلك)) - كلامًا آخر ضعيفًا متعلقًا بما نحن فيه لا يخفى ضعفه على متأمله، فليعلم. الأمر الثاني: أن ما نقله عن ((الروضة)) ليس مطابقًا لما فيها، فإنه قد قال: قلت: المختار: أنه إن تجددت الجنابة نوى بوضوئه سنة الغسل، وإن اجتمعنا نوى به رفع الحدث الأصغر، والله أعلم. هذا لفظ ((الروضة))، فالذي نقله المصنف عنه إنما ذكره في قسم واحد، وهو أندر القسمين وقوعًا، لأن الغالب في الجنابة أن يصاحبها الحدث، وما ذكره النووي قد سبقه إليه ابن الصلاح في مشكل ((الوسيط)) وهو حسن

جدًا، وهو مخالف في الحقيقة لقول الرافعي: إنه لا يحتاج إلى إفراده بالنية. إلا أن ما ذكره النووي صحيح فيما إذا قدم الوضوء، فأما إذا أخره- على مقتضى ما ذكره في ((شرح المهذب)) - وقد اجتمع عليه الحدثان، فلا يتجه القول بأنه ينوي به رفع الحدث، لأنه يعتقد ارتفاعه بغسل الجنابة فيكون متلاعبًا. قوله: في قول الشيخ يفعل ذلك ثلاثًا-: أي الإفاضة، والتخليل، والدلك. ثم قال: وظاهر كلام الشيخ أن التخليل والإفاضة على الرأس والجسد يفعل مرة ثم مرة ثم مرة، والخبر يقتضي موالاة التخليل وموالاة الإفاضة على الرأس، ثم غسل باقي الجسد، وهو ما نص عليه في ((المختصر)) والأصحاب كافة. انتهى. وما ذكره من استحباب الموالاة في التخليل، ناقلًا له عن الحدث ونص الشافعي والأصحاب قاطبةً- صريح في استحباب التثليث فيه، مع أن ذلك لم يرد لا في الحديث ولا في كلام الشافعي ولا كلام أصحابه. واعلم أن ما ذكره من بعد هذا في الكلام على غسل المرأة موهم جدًا، فاعلمه، وتعلم صوابه من ((المهمات)). قوله: وفي ((مسلم)): كان إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب. قال: والحلاب: إناء ضخم يحلب فيه. انتهى. هو بحاء مهملة مكسورة، كذا ضبطه ابن الأثير، ونقل عن الأزهري أن جماعة ضبطوه هكذا، ثم اختار الأزهري أنه بجيم مضمومة، وهو ماء الورد، فارسي معرب. قوله: والسك- بضم السين-: طيبٌ معجون بالمسك، فإن لم يكن فيه مسك سمي سكيكة. انتهى. والسين مضمومة، والسكيكة: تصغير ((السك)). قوله: وقد أفهم قول الشيخ: والمستحب ألا ينقص الماء في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مد- أن الزيادة على ذلك فيهما ليست مكروهة، وكلام الأصحاب يدل على أن المستحب الاقتصار على الصاع والمد، لأن الرفق محبوب، وعليه يدل ما روي أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: ((سيأتي أقوام يستقلون هذا، فمن رغب في سنتي وتمسك بها بعث معي في حظيرة القدس)). انتهى كلامه. وما ذكره من أن كلام الأصحاب يدل على خلاف ما ذكره الشيخ عجيب، بل عبارة الأصحاب- حتى الرافعي في كتبه كلها، وكذلك النووي- كعبارة الشيخ، بل الذي ذكره الأصحاب في السنن لا يتصور معه في العادة الاقتصار على هذا القدر،

فكيف يتصور منهم القول باستحباب الاقتصار؟! قوله: وصورة الغسل الذي لا ينتقض معه الوضوء: أن يولج في دبر ذكر أو فرج بهيمة، وكذا لو لف على ذكره خرقة وأولج في فرج امرأة على الصحيح، وبها صوره الشيخ أبو محمد، وعدل عن التصوير بما إذا نظر بشهوة فأنزل، لأن خروج المني عنده يحصل الحدثين كما ذهب إليه القاضي أبو الطيب. ووجه ذلك بأنه لا يتصور خروج المني وحده، بل تخرج معه رطوبة يتعلق بها وجوب الوضوء، قال الإمام: وفي هذا نظر، فإن المني إذا انفصل طاهرًا، وتلك الرطوبة التي قدرناها ينبغي أن تكون نجسة ثم يجب الحكم بنجاسة المني. قلت: وهذا قاله الإمام، بناء على اعتقاد أن رطوبة باطن الذكر كرطوبة باطن فرج المرأة، وإنا المنع من الحكم بنجاسة رطوبة باطن الذكر: أنها لا تخرج كرطوبة فرج المرأة، وكلام غيره يدل على طهارتها. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن القاضي أبا الطيب قد جزم في ((تعليقه)) بأن المني لا ينقض الوضوء، ذكر ذلك في مسألة من وجب عليه وضوء وغسل. الأمر الثاني: أن ما أسنده المصنف إلى الشيخ أبي محمد من أن خروج المني ناقض، ومن تعليله بكونه لا يتصور خروجه وحده- ليس كذلك، بل الذي ذكر هذا كله هو الإمام نفسه، ولم يسنده إلى أحد، ثم اعترض عليه بما ذكره المصنف.

باب الغسل المسنون

باب الغسل المسنون قوله: وأيهما آكد؟ فيه قولان: أحدهما: غسل الجمعة، لصحة الحديث فيه. والثاني: الغسل من غسل الميت، لاختلاف قول الشافعي في وجوبه. انتهى. وما اقتضاه كلامه من أن غسل الجمعة ليس بواجب بلا خلاف، ليس كذلك، فقد ذهب الشافعي في كتاب ((الرسالة)) إلى وجوبه، فإنه ذكر قوله- عليه الصلاة والسلام-: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم))، وقوله: ((من جاء منكم الجمعة فليغتسل)). ثم قال عقبهما ما نصه: قال محمد بن إدريس: فكأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل يوم الجمعة: واجب، وأمره بالغسل- يحتمل معنيين، الظاهر منهما: أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير الغسل، ويحتمل أنه واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة. هذا لفظه بحروفه، ومن كتاب ((الرسالة)) نقلته، وهو من الكتب الجديدة، فإنه من رواية الربيع. ثم استدل الشافعي للاحتمال الثاني بقضية عثمان لما دخل وعمر يخطب، وأخبر بأنه لم يزد على الوضوء، ولم يأمره بالرجوع إلى الغسل، وقد استفدنا- أيضًا- من كلام الشافعي المتقدم أن الغسل شرط لصحة الجمعة فاعلمه، وهذا الذي نقلناه مذكور قبيل ((باب النهي عن معنى دل عليه معنى من حديث غيره))، وهو نحو نصف الكتاب. ورأيت- أيضًا- في ((شرح غنية)) ابن سريج لأحد تلامذة القفال لم يتحرر لي مصنفه، حكاية قولين فيه، وأن القديم هو الوجوب، ذكره قبل التيمم بنحو صفحة، وتاريخ فراغ النسخة التي نقلت منها: سنة سبع عشرة وخمسمائة، فثبت أن الوجوب منصوص عليه في القديم والجديد معًا. قوله: وزاد صاحب ((التخليص)) على ما ذكرناه: الغسل من الحجامة ومن دخول الحمام، وأنكره المعظم، وحكى الإمام في كتاب الجمعة عنه: أنه يستحب الغسل لدخول الكعبة، أيضًا. انتهى كلامه.

وهذا النقل الذي عزاه الإمام إلى ابن القاص غلط، وإن كان نقل المصنف عن الإمام صحيحًا، فإن صاحب ((التخليص)) قد عبر بقوله: وقال في القديم: أحب لمن أراد الدخول في الإسلام أن يغتسل، ومن الحجامة والحمام، والغسل لطواف الزيارة. هذا لفظه، ومن ((التخليص)) نقلته، وإذا علمت ذلك ففي ما ذكره المصنف أمران: أحدهما: أن كلامه يدل على أن صاحب ((التخليص)) ذهب إليه، وليس كذلك، بل إنما نقله عن نصه في القديم. الأمر الثاني: أن المذكور- وهو ابن القاص- لم يتعرض في ذلك لدخول الكعبة، بالكلية بل إنما ذكر طواف الزيارة كما تقدم نقله عنه، وسبب هذا الغلط أن القفال في ((شرحه للتخليص)) قد عبر عن قول ((التخليص)): و ((الغسل لطواف الزيارة))، بقوله: و ((الغسل لزيارة البيت))، وهو تعبير صحيح مستعمل في كلام الأصحاب كثيرًا، فتوهم إمام الحرمين عند وقوفه عليه: أن المراد دخول البيت- شرفه الله تعالى- فصرح به، فوقع في الغلط، وإنه لمعذور في ذلك، ثم نقله عنه المصنف معتقدًا صحته، وهو عجيب، لاسيما من الإمام! وذلك من آفات التقليد، وآفات حمل الكلام في مواطن الاحتمال على ما يخطر بالبال من غير مراجعة، ولو راجعا ((التخليص)) لم يقعا في شيء من ذلك، وقد راجعت كلام ابن القاص في ((المفتاح)) - أيضًا- فلم أجده قد تعرض لذلك بالكلية. تنبيه: ذكر ثمامة بن أثال وقصته في الغسل، فأما ((ثمامة)) فبثاء مثلثة مضمومة، وأثال: بهمزة مضمومة بعدها ثاء مثلثة، وفي آخره لام. وذكر- أيضًا-: المخضب، اسم لإناء من أواني الماء، وهو بكسر الميم، وبالخاء المعجمة الساكنة بعدها ضاد معجمة مفتوحة، وفي آخره باء موحدة.

باب التيمم

باب التيمم قوله: قال الإمام: ومع وجوبه فهو رخصة، وقال البندنيجي: إنه عزيمة، فحصل فيه وجهان، صرح بهما غيرهما، وأثرهما يظهر فيما إذا سافر في معصية وعدم الماء، فإنه يتيمم وتجب عليه الإعادة إن قلنا: إنه رخصة، وإلا فلا. انتهى كلامه. وما نقله عن البندنيجي من كونه عزيمة قد صرح به في هذا الباب من كتابه المسمى بـ ((الذخيرة))، لكن رأيت في صلاة المسافر من الكتاب المذكور- أيضًا- الجزم بأنه رخصة، وذكر الغزالي في ((المستصفى)) تفصيلًا حسنًا فقال: إن تيمم لعدم الماء بالكلية فهو عزيمة، وإن تيمم مع وجوده لمرض أو عطش أو نحوهما فرخصة. قوله: وإنما عدل في ((المهذب)) عن قول ((التنبيه)): و ((يجب التيمم عن الأحداث)) إلى قوله: ((ويجوز))، لوقوع الخلاف في الجواز، فإن بعض الصحابة قال: لا يجوز عن الجنابة. ولا جرم صدر كلامه بجوازه في الأصغر، لكونه مجمعًا عليه، ثم ثنى بالأكبر، للاختلاف فيه، وفل هذا في ((المهذب)) دون ((التنبيه))، لأنه مبسوط يحتمل مثل ذلك، أو لأنه لما قرره في ((المهذب)) أراد أن يبين هنا أمرًا زائدًا عليه، إذ لا يلزم من جوازه وجوبه. انتهى. وهذا الجواب خطأ، لأن القائل بأنه لا يجوز قائل بأنه لا يجب بالضرورة، فصار الخلاف فيهما معًا، وهكذا القائلون بجوازه يوجبونه عليه، ولا يخيرون بين تركه وفعله. وما اقتضاه- أيضًا- آخر كلامه من أن ((المهذب)) سابق في التصنيف على ((التنبيه)) فليس كذلك، فإن الشيخ بدأ في تصنيف ((التنبيه)) في أوائل رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وفرغ منه في شعبان سنة ثلاث وخمسين، كذا ذكره جماعة منهم الشيخ تاج الدين الفركاح في خطبة شرحه لـ ((التنبيه)) المسمى بـ ((الإقليد)). وبدأ في تصنيف ((المهذب)) سنة خمس وخمسين، وفرغ منه يوم الأحد سنة تسع وستين، ذكره النووي في خطبة شرحه له. قوله: و ((الصعيد)) مجمل بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((جعلت لي الأرض مسجدًا وجعل ترابها لي طهورًا))، كذا حكاه ابن التلمساني عن رواية مسلم، والمشهور: ((وجعلت

تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء))، ولا يقال: هذا لا حجة فيه، لأنه مفهوم لقبٍ، لأنا نقول: قد قال بعض أصحابنا: إنه حجة. انتهى. واعلم أن مسلمًا رواه عن حذيفة بلفظ ((التربة)) لا بلفظ ((التراب))، وأما رواية ((التراب)) فرواها الدارقطني في ((سننه)) وأبو عوانة الإسفراييني في ((صحيحه)). قوله: وقد اندرج في التعبير بالتراب التراب الأحمر والأصفر وهو الطين الإرمني. انتهى. والطين المذكور- وهو الإرمني- إنما هو قسم من التراب الأحمر لا الأصفر، كذا ذكره الرافعي وغيره. والإرمني: بكسر الهمزة، وفتح الميم. منسوب إلى إرمينية، ناحية من نواحي الروم، كذا قاله الجوهري، وذكر النووي في ((دقائق الروضة)) المسمى بـ ((الإشارات)) أنها بكسر الميم على القياس، وكذا ابن الصلاح في ((المشكل)) وزاد أن مدينة ((خلاط)) منها. قوله: الثاني: أن التراب الممزوج بماء الورد والخل ونحوهما إذا جف يجوز التيمم به، ولا خلاف فيه. انتهى كلامه. وما حكاه من نفي الخلاف غريب، فقد جزم في ((الحاوي)) بالمنع عند تغير التراب به، فقال: فصل: وأما التراب إذا خالطه طيب أو زعفران، فإن تغير بما يخالطه من الطيب لم يجز التيمم به، وإن لم يتغير فلا يخلو حال ما اختلط به من الطيب من أحد أمرين: إما أن يكون مائعًا كماء الورد، أو مذرورًا كالزعفران، فإن كان مائعًا جاز التيمم به، لأنه إذا لم يغلب عليه وجف فيه صار مستهلكًا، وكذا سائر المائعات كالخل واللبن إذا خالطت التراب. هذا كلام الماوردي. قوله: والتفريق في الضربة الثانية متفق على وجوبه. انتهى كلامه. ودعواه الوجوب غريب، فضلًا عن الاتفاق عليه، فإن المجزوم به في ((الرافعي)) وغيره: أنه لا يجب، ولكن يجب عليه التخليل إن لم يفرق، لأجل وصول التراب إلى ما بين الأصابع، فإن فرق استغنى عنه. قوله: والمذكور في أكثر كتب العراقيين: أن نية رفع الحدث لا تجزئ- وكذا نية الطهارة- عن الحدث، ولم يحك في ((الوسيط)) غيره. انتهى كلامه. وليس في ((الوسيط)) ذكر لنية الطهارة عن الحدث. واعلم أن القول بعدم الإجزاء فيها مشكل، لأن التيمم طهارة، وهي طهارة عن حدث لا عن خبث، فإذا صرح المتيمم بذلك لزم أن يصح.

قوله: تنبيه: كلام الشيخ يقتضي أمورًا. ثم قال: السابع: أن الموالاة ليست من الواجبات ولا من السنن، والمشهور: أن في وجوبها قولين كما في الوضوء. ومنهم من قطع بالوجوب، ومنه من قطع بعدمه. انتهى كلامه. وما ذكره من أن المشهور طريقة التخريج على القولين قد خالفه في ((باب فرض الوضوء وسننه)) مخالفة عجيبة، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: فإن الماوردي وأبا علي الزجاجي وآخرين قالوا فيمن إذا كان معه ماء طاهر وماء نجس وهو عطشان: إنه يتطهر بالماء الطاهر، ويشرب النجس، ولا يتيمم. انتهى كلامه. واعلم أن ما نقله- رحمه الله- عن الزجاجي قد قلد فيه الرافعي، فإنه قد نقله عنه هكذا، وكلام الزجاجي ليس مطابقًا له، فقد رأيت كتابه الذي ينقل الرافعي والأصحاب عنه، وهو ((زيادات المفتاح)) الملقب بـ ((التهذيب))، فقال بعد كتاب الطهارة بنحو ورقة ما نصه: ولو كان مع المسافر ماءان: طاهر، ونجس، توضأ بالطاهر، وحبس النجس للعطش. هذه عبارته، ومقتضاه: أن العطش ليس حاصلًا الآن، وإنما هو متوقع، ولهذا قال: وحبس النجس. ودعوى المصنف في الشرب حال التيمم، وأين أحدهما من الآخر؟! فإنه لا يلزم من إيجاب الوضوء بالطاهر إذا لم يكن به عطش- لأجل وجود المقتضى، وعدم اقتران المعارض- إيجابه عند العطش، لاقتران المعارض. واعلم أن ((الزجاجي)) هذا: بضم الزاي وتخفيف الجيم. قوله- نقلًا عن الشيخ-: ولا يجوز التيمم لمكتوبة إلا بعد دخول الوقت وإعواز الماء أو الخوف من استعماله. ثم قال: وظاهر عطف ((إعواز الماء أو الخوف من الاستعمال)) على ((دخول الوقت))، يقتضي أن يكون قيد ((المكتوبة)) قيدًا فيهما- أيضًا- حتى لا يكون واحد منهما شرطًا في النافلة وغيرها، وليس كذلك، بل لا يجوز التيمم لذلك إلا عند الإعواز أو الخوف من الاستعمال، سواء خشي فوت ذلك أم لم يخشه، وهذا مذهبنا، والجواب: أن المراد مجموعة ما ذكر- من دخول الوقت، والإعواز أو الخوف- شرط في المكتوبة، ومفهومه: أن المجموع ليس شرطًا في غيرها، بل البعض، وهو كذلك. انتهى ملخصًا.

وليس الأمر كما ذكره في الجواب، بل لا فرق في ذلك بين المكتوبة والنافلة المؤقتة. قوله: وقد حد الغزالي ومن بعده المسافة التي يتردد إليها عند التوهم بما يلحقه فيه غوث الرفاق، أخذا من قول الإمام: لا نكلفه التعدي عن مخيم الرفقة فرسخًا أو فرسخين وإن كانت الطرق آمنة، ولا نقول: لا يفارق طنب الخيام، فالوجه القصد، وهو أن يتردد إلى حيث لو استغاث بالرفقة لأغاثوه مع ما هم عليه من التشاغل بالأشغال والتفاوض في الأقوال، وهذا يختلف باستواء الأرض واختلافها صعودًا وهبوطًا، قال الرافعي: ولا يلفى هذا الضابط في كلام غيره، وليس في الطرق ما يخالفه. قلت: بل عبارة الماوردي توافقه، لأنه قال: عليه طلبه في المنزل الذي حصل فيه من منازل سفره، وليس عليه طلبه من غير المنزل الذي هو منسوب إلى نزوله. انتهى كلامه. واعلم أن المقدار الذي يتردد إليه عند التحقق هو المقدار الذي ينتهي إليه النازلون في حاجاتهم كالاحتطاب والاحتشاش، قال الرافعي: وهذه المسألة فوق حد الغوث، وهو القدر الذي يجب عند التوهم. إذا علمت ذلك فقد ذكر الماوردي: أن كل موضع يجب الذهاب إليه عند التحقق وجب الطلب منه عند التوهم. وهذا الكلام صريح في وجوب الذهاب عند التوهم إلى فوق حد الغوث، وهو خلاف ما قاله الإمام، فيكون الماوردي مخالفًا للإمام في هذا التفصيل، وهذا الذي نلقناه عن الماوردي قد ذكره المصنف بعد هذا بأوراق عند قول الشيخ: وإن دل على ما بقربه. وأما ما نقله عن الماوردي هنا دليلًا على الموافقة فلا دلالة فيه. قوله: قال في ((الروضة)): قال أصحابنا: ولا يجب من كل واحد من الرفقة بعينه، بل ينادي فيهم: من معه ماء، من يجود بالماء؟ ونحوه، حتى قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة لم يطلب من كل بعينه. وفي ((الرافعي)): أنه إذا كان معه رفقة وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم. انتهى كلامه. وهو يقضتي أن الرافعي والنووي مختلفان، وليس كذلك، إلا أن الرافعي لما ذكر ما نقله عنه وكان فيه إجمال وإبهام، تعقبه النووي ففسره بما تقدم نقله عنه، فاعلمه! وقد ذكره النووي كذلك بعبارة واضحة في ((شرح المهذب)) وغيره. قوله: ولو أقرض ثمن الماء، وهو واجد له في بلده عادم له في موضعه- فالأصح في ((الرافعي)): أنه لا يجب القبول، لأنه يحتمل أن يهلك ماله قبل وصوله إليه، وهذا

بخلاف ما لو أقرض الماء نفسه، فإن الأصح في ((الرافعي)): وجوب قبوله، ووجهه بأنه إنما يطالب عند الوجدان، وحينئذ يهون الخروج عن العهدة. قلت: وفي ذلك نظر، فإنه إن أراد وجدان الماء فقد نص الشافعي على أنه إذا أتلف عليه ماء في مفازة، ولقيه في بلد- أن الواجب قيمته في المفازة، فإن الماء في البلد تقل قيمته، وستعرف ذلك في كتاب الغصب. وإن أراد وجدان قيمته في البلد فقيمته وثمنه الذي يقرضه إياه سواء في المعنى، فلا فرق، والله أعلم. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن هذا التقسيم الذي ذكره ليس بحاصر، لأنه أهمل قسمًا ثالثًا الظاهر أنه المراد، وهو أنه قد يكون واجدًا له قبل وصوله للبلد، وحينئذ يندفع المحذور المذكور. الثاني: أنه لا يلزم من تنصيص الشافي في الغاصب على ذلك لتعديه، أن يكون المقترض الآخذ بالرضا كذلك، لظهور الفرق. قوله: ولو بذل له ماء، أو بيع بثمن المثل- لزمه قبوله. ثم قال: وثمن المثل: هو الذي يبذل في مقابلته في ذلك الموضع في عموم الأحوال، قاله أبو إسحاق المروزي، ولم يحك البندنيجي والماوردي وابن الصباغ غيره، واختاره الروياني. وقيل: ما يبذل في مقابلته في ذلك الموضع مع السلامة واتساع الماء، حكاه الإمام عن بعض المصنفين، وهو في ((الإنابة)). وقيل: ما يبذل في مقابلته في تلك الحالة، وهو ما حكاه الإمام عن الأكثرين، والأصح في ((الإبانة))، ولم يحك الشيخ أبو حامد- كما قيل- غيره. وقيل: إن الماء لا ثمن له، والمعتبر أجرة نقله إلى ذلك المكان، قال الإمام: وهذا مبني على أن الماء لا يملك، وقال الغزالي: إنه جار وإن قلنا: الماء مملوك. انتهى. فيه أمور: أحدها: أن الوجه الأول هو الوجه الثاني بعينه، وإنما اختلف التعبير خاصة، هكذا ساقه الأصحاب عند العزو إلى أبي إسحاق، فتفطن لذلك الأمر. الثاني: أن ما نقله عن تصحيح الفوراني في ((الإبانة)) صحيح، لكنه صحح في ((العمد)) الوجه الذي قبله. الأمر الثالث: أن هذا النقل عن الشيخ أبي حامد نقله عنه في ((البيان))، وليس كذلك، بل الصواب- وهو ما نقله في ((شرح المهذب)) عنه- إنما هو الوجه المتقدم

عليه، وهو المعروف في المذهب، على خلاف ما صححه الرافعي تقليدًا للإمام، وقد أوضحته في ((المهمات)). الرابع: أن ما نقله عن الغزالي مذكور في ((الوسيط))، ولكنه خالف في ((البسيط)) فجعله مفرعًا على أن الماء لا يملك. قوله: الثالث: لو خالف عند وجوب قبول البذل، وتيمم- لا يصح، وفي ((الكافي)) وغيره: أن الماء المبذول إن كان باقيًا عند تيممه، والباذل باق على بذله- لم يصح، وإذا صلى أعاد، وإن كان تالفًا، أو رجع الباذل عن بذله- ففي الإعادة وجهان، فإن قلنا: يعيد، فمحل الإعادة إذا وجد الماء، فيستعمله ويعيد، ولا يعيد قبل ذلك، قاله في ((التتمة)). والحكم فيما لو كان معه ماء، فصبه عبثًا بعد دخول الوقت- كالحكم فيما إذا لم يقبل الماء. انتهى. وما نقله عن ((التتمة)) سهو ليس مطابقًا لما فيها، فإنه قال في الصب عمدًا: إن في لزوم القضاء وجهين، فإن أوجبنا فقيل: صلاة واحدة، وقيل: الصلوات التي يؤديها بالوضوء الواحد في عادته. ثم قال ما نصه: فرع: إذا أوجبنا عليه الصلاة فلا تصح الإعادة في الوقت، لأنه لو كان يصح القضاء بالتيمم لصح الأداء لكن يؤخر حتى يجد الماء، أو ينتهي إلى حالة تصح صلاته فيها بالتيمم، فيعيد ما أوجبنا عليه إعادتها. هذا لفظه. قوله: ولو لم يقدر على الماء إلا بشق العمامة ونحوها وجب إذا لم يحصل نقص يزيد على ثمن الماء في وجهٍ، وعلى أجرة مثل ذلك في وجه آخر. ثم قال ما نصه: والحق ما قاله بعضهم أن المعتبر ألا يزيد على قدر ثمن مثل الماء أو أجرة مثل ذلك، فإن زاد لم يجب. انتهى. وحاصل ما ذكره في الأخير: أنه متى زاد على أحدهما سقط الوجوب، وهذا باطل قطعًا، لم يقل به أحد، لأنه متى امتنع البائع أو المؤجر إلا بزيادة، وقدر على الآخر بقيمة مثله- وجب عليه قبوله بلا خلاف كما ذكره المصنف وغيره. نعم، ذكر الرافعي وغيره: أن المعتبر ألا يزيد على أكثر الأمرين من الثمن والأجرة، ولاشك أن المصنف أراده، ولكن أخطأ في العبارة. قوله: وإن تيمم وصلى، ثم علم ماء حيث يلزمه طلبه- أي: وكان قد علم به، ثم نسيه- أعاد في ظاهر المذهب، وهذا هو الذي نص عليه في ((البويطي)). انتهى. واعلم أن الذي نص عليه في ((البويطي)) من وجوب الإعادة إنما هو فيما إذا لم

يكن قد علم بها بالكلية، وقد نقله عنه على الصواب جماعة منهم ابن الصباغ والنووي في ((شرح المهذب))، ثم إن تقييده- أيضًا- بقوله: أي وكان قد علم ثم نسي، كما أنه لا يستقيم مع هذا النص لا يستقيم- أيضًا- مع كلامه في أثناء المسألة، فاعلمه، فإن فيه تنبيهًا لمن أراد الوقوف عليه. قوله: ولو تيمم ثم سمع شخصًا يقول: عندي ماء وديعة، فإنه يبطل تيممه في هذه الصورة، لأنه يتعين عليه عند سماع ذكر الماء طلبه، وهو مبطل للتيمم، ولو انتفى وجوب الطلب مع سماع ذلك، مثل أن قال: عندي وديعةً جرة ماء- أي بتقديم الوديعة- لم يبطل. انتهى. وهذه المسألة الثانية شرطها: أن يعرف غيبة المودع، حتى إذا علم حضوره أو لم يعلم الحال بطل- أيضًا-: أما الأول، فلتوجه الطلب، وأما الثاني، فلاحتمال الحضور المقتضي للطب، كذا جزم به الرافعي في ((الشرح)) والنووي في ((شرح المهذب))، وهو واضح. قوله: ولا فرق في عدم وجوب القضاء على المتيمم في السفر بين السفر الطويل والقصير، وقد حكي عن نصه في ((البويطي)): أن ذلك يختص بالطويل كما في القصير. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((البويطي)) ليس بجيد، فإن الذي دل عليه كلامه: أنه لا قضاء مطلقًا، وأما ما نقله عنه المصنف فإنه إنما قاله في تعيين التيمم، ناقلًا- أيضًا- له عن غيره، فقال: وقد قيل: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. هذه عبارته. قوله: فرع: إذا تحرم المسافر بالصلاة، ثم نوى الإقامة في أثنائها- فحكمه إذا أتمها حكم المصلي في الحضر، فل رأي الماء قبل نية الإقامة فقياس المذهب: بطلانها، وهذا ما نقله أبو الطيب، وكذا الرافعي. انتهى كلامه. واعلم أن ما ادعاه من كونه قياس المذهب ذهول عجيب، لأن المصلي بالتيمم في موضع يغلب فيه عدم الماء لا قضاء عليه، مسافرًا كان أو مقيمًا، وفي موضع يغلب فيه الوجود يجب عليه في الحالين، كذا جزم به الرافعي في آخر الباب في الكلام على ما يجب قضاؤه وما لا يجب، قال: وقولهم: إن القضاء يجب على الحاضر دون المسافر، مشوا فيه على الغالب. وذكر المصنف مثله قبل هذا الموضع بنحو ورقة. إذا علمت ذلك فلنرجع إلى مسألتنا، فنقول: هذا المسافر الذي رأى الماء، ثم نوى الإقامة، وادعى بطلان تيممه لأجل الإقامة-: إن كان سفره يغلب فيه العدم، وهو

الظاهر من كلامه، والمستقيم أيضًا من جهة المعنى- فنية الإقامة فيه لا أثر لها، لأنه لو كان مقيمًا هناك وتيمم لعدم الماء، ثم رآه في أثناء صلاته لم نحكم بإبطالها، فبطريق الأولى هذا، وإن كان سفره يغلب فيه الوجود بطلت صلاته بمجرد رؤية الماء، ولا يتوقف الإبطال على نية الإقامة، لأنها لا تغني عن القضاء، فبطل ما ادعاه. وهذه المسألة حصل فيها ذهول للرافعي كما أوضحناه في ((المهمات))، ثم إن المصنف قلده فيه، وادعى أنه قياس المذهب، فزاد الكلام خللا. قوله: أما إذا كان غسل الصحيح يتأذى به موضع القرح، بأن كان يخاف إن غسل أن يسيل الماء إلى القرح: فإن لم يمكنه أن يمسحه بخرقة رطبة ينغسل الموضع بها ولا يسيل، ولا قدر على من يغسله له من غير سيلان- فإنه يكتفي بالتيمم ويصلي ويعيد. ولو كان لا يتأتى فعل ذلك منه ولا من غيره إلا بضرر يلحقه، كما إذا كان في وجهه جراحات، وهو جنب لا يمكن غسل رأسه إلا بوصول الماء إلى الجراحات- فقد سقط فرض غسل الرأس عنه، قاله أبو الطيب وغيره. انتهى كلامه. وهو صريح في أن المسح بدون الغسل لا أثر له حتى ينقل إلى التيمم، وليس كذلك، فقد نص الشافعي عليه، وجزم به الأصحاب، كذا قاله في ((التحقيق))، وذكر نحوه في ((شرح المهذب))، إلا أنه مشكل بالعليل نفسه، فإنه لا يجب مسحه بالماء كما قاله الرافعي، وجزم به النووي في الكتابين المذكورين. واعلم أن ما ذكره المصنف- أيضًا- في جراحات الوجه مردود، فإن كلام الأصحاب يخالفه، وقد نقله عنهم في ((شرح المهذب)) فقال: قال أصحابنا: فإن كانت الجراحة على وجهه، فخاف إن غسل رأسه نزول الماء إليها- لم يسقط غسل الرأس، بل يلزمه أن يستلقي على قفاه ويخفض رأسه، فإن خاف انتشار الماء وضع بقرب الجراحة خرقة مبلولة، وتحامل عليها، ليقطر منها ما يغسل الصحيح الملاصق للجرح، فإن لم يمكنه ذلك أمس ما حوالي الجرح الماء من غير إفاضة، وأجزأه، وقد رأيت نص الشافعي في ((الأم)) نحو هذا. هذه عبارته. قوله: تنبيه: القرح- بفتح القاف وضمها-: هو الجرح، قاله النووي، وقال غيره: إنه كالجدري، وإن الجرح في الحكم كهو. وعلى هذا ينطبق قول الماوردي: ((إذا كان بعض بدنه جريحًا أو قريحًا))، وقول الشيخ: ((وتيمم عن الجرح)) يجوز الأمرين، فتأمله. انتهى كلامه. وما ذكره من أن كلام الشيخ محتمل للأمرين ليس كذلك، بل هو صريح فيما نقله

عن النووي خاصة، لأنه فسر القرح بالجرح، فتأمله. قوله- في الكلام على الجريح-: وقد صار الشيخ أبو محمد إلى القطع بإيجاب إلقاء لصوق على الجرح إذا أمكن من غير ضرر يلحقه، وقال الإمام: إنه لم يره لأحد. ثم قال: ويشهد له ما ذكرناه من أنه لو صب الماء قبل دخول وقت صلاةٍ لا يأثم، بخلاف ما بعده. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الإثم مردود، فإن فيه إضاعة مال، وما ادعاه من ذكره قبل ذلك فسهو، فإن الذي ذكره إنما هو عدم القضاء، ولا يلزم منه عدم التأثيم. قوله: وقد أورد الرافعي على تصوير محل الخلاف فيه سؤالًا اعتقد صحته، فاستضعف به قول أبي محمد، فقال: اعلم أن ظاهر المذهب اشتراط الطهارة عند إلقاء الجبيرة واللصوق ليجوز المسح عليهما، فالشيخ أبو محمد يأمر به قبل الحدث ليمسح عليه، وإذا تطهر بعد الحدث كما في مسألة لبس الخف ... إلى آخره. ثم إن المصنف أجاب بوجهين، فذكر الأول. ثم قال: وأحسن منه الثاني، وهو أن الطهارة إنما هي شرط عند إلقاء الجبيرة واللصوق على ظاهر المذهب في إسقاط القضاء، لا في جواز المسح على ذلك كما صرح به هو من قبل. انتهى كلامه. وما نسبه إلى الرافعي من أن اشتراط الطهارة عند الوضع على ظاهر المذهب إنما هي لإسقاط القضاء لا لجواز المسح، غلط، فقد صرح الرافعي هنا بعكسه، فقال ما نصه: والثاني: أن يضع الجبيرة على طهرٍ كالخف لابد وأن يلبس على الطهارة، ليجوز المسح عليه، هذا ظاهر المذهب، وفي وجه: لا يشترط الوضع على طهارة، ثم ليس معنى اشتراط الطهارة تعذر المسح أصلًا لو وضع الجبيرة على الحدث، ولكن المراد: أنه يلزم النزع وتقديم الطهارة إن أمكن النزع، وإلا فيجب القضاء بعد البرء. هذا لفظه، وصرح به- أيضًا- كذلك في آخر الباب، وقد ذكره المصنف على الصواب بعد ذلك في الكلام على وضع الجبائر. قوله: ولو نوى استباحة صلاتي فرضٍ قضاءً، أو قضاءً وأداءً كذا- فهل يصح تيممه ويستبيح به فرضًا واحدًا منهما، أو لا يصح؟ فيه وجهان، والأصح في ((الرافعي)) هو الأول. وهذا إذا قلنا بالصحيح: أن تعيين الفريضة ليس بشرط. انتهى كلامه من غير زيادة عليه. وما ذكره من أن الوجهين إنما يأتيان إذا قلنا: إن التعيين ليس بشرط، لا وجه له،

بل يأتيان- أيضًا- إذا قلنا: إنه شرط، فعين، والتصوير السابق ليس مقيدًا بحالة إطلاق الفرضين حتى نقول فيه ذلك، لا جرم أن الرافعي وغيره لم يذكروه، بل ولا هو_ أيضًا- في ((المطلب)). قوله: ولا نزاع عند الأصحاب أنه لا يصلي بالتيمم الواحد أكثر من فرض واحد من الصلوات الخمس. انتهى. ليس كما قال من عدم النزاع، فقد ذهب الروياني في ((الحلية)) إلى الجواز، وسبقه المزني إلى ذلك، وهو بناء على أصله في أن التيمم يرفع الحدث. قوله: والمراوزة والماوردي قالوا: هل يجوز أن يجمع بين الطواف وركعتيه إن قلنا: إنهما سنة؟ فنعم على المذهب، وإن قلنا: إنهما واجبتان، فلا في أصح الوجهين في ((تعليق)) القاضي حسين، ووجه مقابله- وهو المذكور في ((الحاوي)) و ((التتمة)) -: أنهما كالجزء منه. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من حكاية الخلاف في الجمع بين الطواف الواجب وركعتيه إن قلنا: إن الركعتين سنة- لا وجه له، ولا ذكر له في كلام المراوزة، ولا في كلام غيرهم. نعم، الطواف المسنون هل ركعتاه واجبتان أم لا؟ فيه طريقان للمراوزة، وحكاهما الرافعي وغيره: منهم من قطع بالاستحباب، ومنهم من قال: إنه على الخلاف في الطواف الواجب، ولا يستبعد أن يترتب على المسنون أمر واجب، فعلى هذه الطريقة: لو صلى فرضًا بالتيمم، ثم طاف تطوعًا، وأراد أن يصلي ركعتيه بذلك التيمم- ففيه الخلاف. فحصل للمصنف اختلاط واشتباه من هذه المسألة بلا شك. قوله: ولو نسى صلاة من الخمس، ولم يعرف عينها- لزمه الخمس، ويكفيه لها تيمم واحد، لأن الواجب في الأصل صلاة واحدة، وقيل: لابد من خمسة تيممات، لأن كلًا من الخمس واجبة، فلو نسي صلاتين من الخمس: فعلى الأول يكفيه تيممان: إما بأن يصلي بكل منهما الخمس، أو يصلي بالأول الصبح والظهر والعصر والمغرب، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلو عكس فصلى بالأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبالثاني الصبح والظهر والعصر والعشاء- لم يخرج عن العهدة، لجواز أن يكون الفائت الظهر والعشاء، فيكون الظهر قد تأدى بالأول، فلا يؤدي به العشاء، فطريقه: أن يصلي العشاء مرة أخرى، وعلى الثاني يلزمه خمسة تيممات. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: وبالثاني الصبح والظهر والعصر والعشاء، ذكر ((العشاء)) فيه سهو،

وصوابه: المغرب. وأيضًا: فقوله: لجواز أن يكون الفائت الظهر والعشاء، تعبير ناقص، وكان حقه أن يقول: لجواز أن يكون الفائت الظهر أو العصر أو المغرب مع العشاء. قوله: ولو نسى صلاتين من صلوات يومين، فإن كانتا مختلفتين: فعلى الوجه الأول يلزمه تيممان كما ذكرنا، وعلى الثاني: يتيمم عشرة تيممات. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من كونه يتيمم عشرة تيممات غلط، بل لا يلزمه إلا خمسة كما لو كانا من يوم واحد، وكأنه توهم أن الحكم يتغير بكونهما من يومين، ولا أثر له قطعًا، لأن الذي عليه إما هو صلاتان، وأوجبنا الخمس لأجل التباسهما، فمن يقول: لابد لكل صلاة من تيمم، يوجب عليه خمسة تيممات لخمس صلوات، وقد صرح به مع وضوحه في ((شرح المهذب)) فقال: هذا كله إذا كانت الصلاتان أو الصلوات مختلفات، سواء كانت من يوم أو يومين. هذه عبارته. قوله في المسألة: وإن كانت الصلاتان من جنس واحد- أي: متفقتين- فعلى الأول يلزمه عشرة تيممات، يصلي بكل واحد صلاة يوم، وعلى الثاني يأتي بعشرة تيممات. انتهى. والصواب على الأول: أنه يلزمه أن يتيمم مرتين، وكأنه أراد أن يذكر التفريع على الثاني قبل الأول، فلما ذكر صدره رجع إلى التفريع على الأول، وذهل عن تغيير ما صدر به كلامه، فوقع في الوهم. قوله:- أيضًا- في المسألة: فلو شك: هل هما متفقتان أو مختلفتان، بنى الأمر على اختلافهما، لأنه أحوط. انتهى. وما ذكره من بناء الأمر على الاختلاف سهون والصواب بناء الأمر على الاتفاق، ويتضح بما ذكره هو قبل ذلك فيما إذا علم الحال من الاتفاق أو الاختلاف. وكأن المصنف- رحمه الله- كان في حالة وضع هذه المسالة كلها مشوش الفكر، أو مغلوبًا عليه بالنعاس، فإنه مع وقوع هذه الأوهام قد أجحف في المسالة إلى الغاية، ولم يبين الضوابط المذكورة فيها ولا الشروط، وقد تكلم عليها الرافعي أحسن كلام، فليته نسخ ما قاله برمته! قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن لم يجد ماءً ولا ترابًا صلى الفريضة وحدها، وأعاد إذا قدر على أحدهما، أي: استدراكا للمصلحة بقدر الإمكان. ثم ظاهر كلام الشيخ ومن وافقه في العبارة- وهو صاحب ((الكافي)) - أنه يعيد عند قدرته على التراب، سواء كانت صلاته يسقط فرضها بالتيمم أو لا، في الوقت أو بعده، كما أن

هذا حكمه إذا قدر على الماء، وفي إعادته إذا قدر على التراب قبل فوات الوقت- والصلاة لا تسقط به- نظر يقوى في حال قدرته عليه بعد خروج الوقت، ولا جرم خص الماوردي والفوراني وجوب الإعادة بحالة قدرته على الماء، والإمام خصه بحالة قدرته على طهور، وأما غيرهم فلم يتعرض لحالة وجوب الإعادة. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي توقف في حكمها، وذكر ما حاصله عدم التصريح بها- مسألة مسطورة مشهورة، وقد نقلها النووي في ((شرح المهذب)) عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: لا يعيد بالتراب إلا إذا كان في موضع يسقط القضاء. وجزم به- أيضًا- في ((فتاويه))، وعلله بأنه لا فائدة فيه إذا لم يسقطه، وقد ذكرها البغوي في ((فتاويه)) - أيضًا- وجزم بالوجوب إذا قدر عليه في الوقت. وإن كان في موضع لا يسقط القضاء، قال: فإن قدر عليه بعده ففيه احتمالان أحدهما: لا يلزمه، لأنه لا فائدة فيه. والثاني: يلزمه، لأن وقت وجوده كوقت الصلاة، ولهذا إذا لم يجد الطهورين، وخرج الوقت، ولم يصل، ثم وجد أحدهما- وجب عليه استعماله، فدل على عدم مراعاة الوقت. هذا كلام البغوي، وهذه المسألة التي استشهد بها في آخر كلامه مسألة حسنة، لكن للقائل الأول أن يقول: هذا قد ضيع حق الوقت وفوته، فيقضيه، بخلاف ما إذا صلى. قوله: وهل تتنزل الجبيرة منزلة الخف في التقدير بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر؟ فيه وجهان، والأكثرون على عدم التقدير. ثم قال: وقد استشكل المتأخرون تصوير ذلك، لأنه إن كان يخاف من نزعها عند انتهاء مدة الخف لم يجب نزعها بلا خلاف، وإن لم يخف وجب النزع والغسل بلا خلاف، والإمام صوره بالحالية الثانية، وهذا لا يشفي الغليل. وبعضهم قال: محل الخلاف إذا كان لا يتأتى النزع، وفائدة التوقيت: أنه يعيد ما صلاه بعد المدة. والذي يظهر لي: أن يكون محله عند الخوف كما قال، لكن الفائدة: أنه بعد المدة لا يصلي ما لم يجدد المسح، تنزيلًا للمسح بعد المدة منزلة التيمم بعد فعل الفريضة، وإن صح هذا كان في احتياجه إلى تجديد الغسل ما سلف. انتهى كلامه. وما ذكره من عند نفسه لا يكفي- على حذقه- وكذلك ما نقله- أيضًا- عن بعضهم، بل لابد من المجموع بزيادة فنقول: إذا انقضت المدة فله حالان: أحدهما: أن يكون على طهارة المسح، فإن قلنا: إنها لا تتأقت، صلى بهذه

الطهارة، وإن قلنا: إنها تتأقت، فلابد في المسح بعد هذا من النزع وغسل العضو مع ما يترتب عليه، لكنه لا يتأتى، فيمسح ويغسل ما بعده، ويقضي كمن وضع على غير طهر. الثاني: ألا يكون: فإن قلنا لا يتأقت، فيمسح ويصلي، ولا إعادة، لأنه قد وضع أولًا على طهر، وإن أقتناه فلابد من نزعه والطهارة الكاملة قبل المسح عليه، وقد تعذر فيسمح ويعيد. وهذا الذي ذكرته كلام محقق لو عرض على الأئمة لقبلوه.

باب الحيض

باب الحيض قوله: ثم التسع في حق الصبية تقريب أو تحديد؟ فيه وجهان: فإن قلنا: إنه تقريب- وهو ما رجحه الروياني والرافعي- فلا يؤثر نقصان اليوم واليومين كما قاله الماوردي. والمتولي قال: إن قلنا: إنه تقريب، ففائدته أنها لو رأته قبله بزمان لا يسع طهرًا وحيضًا يكون حيضًا، دون ما إذا كان يسعهما، وهذا ما أورده الرافعي، وفي ((البحر)) حكاية الأمرين. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن ((التتمة)) و ((البحر)) من كون هذا الزمان الذي لا يسع حيضًا وطهرًا يكون أوله من حين رؤية الدم، غلط مخالف لما ي الكتابين المذكورين، فإن المذكور فيهما: أن أوله من حين الانقطاع، فقال في ((التتمة)) ما نقصه فمنهم من قال: تقريب، حتى لو رأت الدم قبل التسع لمدة قريبة تجعل حيضًا، وحد القرب: ألا يكون بين انقطاع الدم والتسع زمان يتسع لحيض وطهر. هذه عبارته، وذكر في ((البحر)) مثله- أيضًا- فقال: ومن أصحابنا من قال: حد القرب: ألا يكون بين انقطاع الدم والتسع زمان يتسع لحيض وطهر. هذا لفظه- أيضًا- وما نقله المصنف عن ((التتمة)) ذكره النووي في ((شرح المهذب)) تبعًا للرافعي، فقلد المصنف فيه أحدهما. قوله: نص الشافعي في موضع على أن أقله يوم وليلة، وفي آخر على أن أقله يوم، واختلفوا فيهما على ثلاث طرق: إحداها: القطع بأن أقله يوم وليلة. والثانية: القطع باليوم فقط، واختارها في ((المرشد))، ونقلها في ((الشامل)) عن أكثر الأصحاب. والثالثة: على قولين. انتهى ملخصًا. وما نقله عن ((الشامل)) هنا غلط، فإن الذي فيه عن الأكثرين إنما هو القطع بالقول المعروف وهو ويم وليلة، وقد نقله عنه في ((شرح المهذب)) على الصواب. وأما

((المرشد)) فإنه قال: وأقل الحيض يوم، لأنه وجد، وأكثره خمسة عشر، وغالبه ست أو سبع. هذه عبارته، وليس فيها ما يقتضي اختيار الطريقة القاطعة، لأنه مصنفه لا يذكر فيه إلا ما عليه الفتوى، ولا يتعرض لما في المسألة من الخلاف، فيجوز أن يكون قد اختار طريقة القولين، ولكن صحح أن أقله يوم، فدعوى المصنف ما ادعاه ذهول عجيب وغفلة، على أنه يجوز أن يكون قد أراد: مع الليلة، كما حملوا عليه عبارة الشافعي، ويدل عليه أنه لم يصرح بالليالي في القسمين الآخرين، وهما الأكثر في الغالب. قوله: فإن قيل: لو دل الاستقراء على أن أقل الطهر دونه خمسة عشر يومًا، هل يجري فيه الخلاف السابق، أي في أقل الحيض ونحوه؟ قلت: الظاهر من كلام الأصحاب إجراؤه، إذ لا فرق، لكن نص الشافعي على إتباع الوجود، فإن الماوردي قال في كتاب العدد ... إلى آخر ما قال. انتهى. وكلامه- رحمه الله- يقتضي عدم الوقوف على الخلاف، ولهذا حاول إثباته من جهة القياس، وهو غريب جدًا فإن الخلاف مشهور في كتب الأصحاب حتى في ((الرافعي))، فإنه قال: لو رأينا من تحيض أقل من يوم وليلة أو أكثر من خمسة عشر، وتطهر أقل من خمسة عشر- فثلاثة أوجه. أظهرها: أنه لا عبرة به. هذا كلامه، والمصنف قد نقل هنالك ما يدل عليه، فإنه قال عقب ذكر الشيخ لأقل الحيض وأكثره ما نصه: فإن قيل: إذا كان مستندكم في التقدير لأقله وأكثره هو الاستقراء، فينبغي إذا وجد في عصر من الأعصار بسبب تغير الطباع أقل من ذلك أو أكثر، أن تتبعوه- قيل: قد قال به جماعة من المحققين منهم الأستاذ أبو إسحاق، وأبو إسحاق المروزي- كما قال في ((التتمة)) - والقاضي الحسين في جواب له، وعليه يدل ما سنذكره من نص الشافعي من بعد. ثم قال: ومنهم من منع النقصان عما ذكرنا والزيادة عليه، ومنهم من قال: إن قال بعض العلماء به اعتمد، وإلا فلا. انتهى. وحكاية الخلاف في أكثر الحيض يؤخذ منها الخلاف في أقل الطهر. واعلم أن الرافعي عبر بقوله: أحدها: نعم، وذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في جواب له، والقاضي الحسين فيما حكى. والمصنف جعل القائل بذلك في جواب له هو القاضي الحسين، فكأنه لما نقل هنا حالة التصنيف من ((الرافعي)) قدم وأخر.

قوله: وإن رأت المرأة يومًا طهرًا ويومًا دما ففيه قولان: أحدهما: تضم الطهر إلى الطهر، والدم إلى الدم. والثاني- وهو الأصح عند الجمهور-: أنها لا تضم، بل الجميع حيض. ثم استدل على الثاني فقال: ولأن الناس أجمعوا على أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، فلو قلنا: يوم النقاء طهر، لأدى إلى أن يكون يومًا. انتهى. وما نقله من الإجماع المذكور ليس بصحيح، فإن في أقله خمسة مذاهب حكاها في ((شرح المهذب)) كلها دون الخمسة عشر: أحدها: أنه غير محدود بالكلية، وهو رواية ابن القاسم عن مالك، ونقله ابن المنذر عن أحمد وإسحاق. والثاني: خمسة أيام، ورواه ابن الماجشون عن مالك. والثالث: ثمانية، رواه سحنون عنه. والرابع: عشرة، نقله الماوردي عنه. والخامس: ثلاثة عشر، وهو منقول عن أحمد، أيضًا. وقد نقل المصنف القول الأول والرابع قبل هذا الموضع بدون الورقة. ثم إن الخلاف ثابت- أيضًا- عندنا في المسألة، ويعرف من الاعتراض المذكور قبل هذا. قوله: لما روى البخاري عن عائشة: ((أن نساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء)). والكرسف: القطن، والقصة البيضاء: شيء كالخيط الأبيض يخرج عند انقطاع الدم. انتهى كلامه. وتفسيره القصة بأنه شيء كالخيط تحريف فاحش، بل القصة هو الجص الذي تبيض به البيوت، قال في ((شرح المهذب)): القصة- بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة- هو الجص، شبهت الرطوبة النتنة الصافية بالجص. هذه عبارته. والدرجة: بضم الدال وإسكان الراء المهملتين وبالجيم، وروي بكسر الدال وفتح الراء، وهي خرقة أو قطنة أو نحو ذلك تدخله المرأة فرجها، ثم تخرجه لتنظر: هل بقي شيء من أثر الحيض أم لا؟ واعلم أن البخاري ذكر هذا الأثر تعليقًا، أي: بغير إسناد، فاعلمه. فإن كلام المصنف قد يوهم خلافه، إلا أن تعليقات البخاري هكذا صحيحة إذا كانت بصيغة جزم، وقد رواه- أيضًا- مالك في الموطأ بإسناد صحيح. قوله: لأنه روي عن ابن عباس أنه قال: ((دم الحيض أسود محتدم بحراني ذو

دفعات، له رائحة تعرف)). والمحتدم: الحار، يقال: يوم محتدم، إذا كان شديد الحر. والبحراني: الشديد الحمرة، ينسب إلى ((البحر))، لصفاء لونه ... إلى آخر ما قال. والمحتدم: بحاء ودال مهملتين، وما ذكره في تفسيره ذكره الفقهاء في كتبهم، والمشهور في كتب اللغة- كما نبه عليه في ((شرح المهذب)) -: أن المحتدم هو الذي اشتدت حمرته حتى اسود. قوله: الثاني: أنه لا فرق في جعل الأسود حيضًا- إذا وجد شرطه- بين أن يكون مبتدأ به أو متأخرًا أو متوسطًا، حتى لو رأت خمسة دمًا أحمر، وخمسة دمًا أسود، ثم أطبق الأحمر، أو رأت خمسة عشر دمًا أحمر، ثم مثلها أسود، أو بالعكس- كان الأسود هو الحيض. وعن ابن سريج: أنه يشترط في جعله حيضًا: أن يقع مبتدأ به، فلو وقع الابتداء بالأحمر فلا تمييز. وحكى الغزالي وجهًا: أن النظر إلى ما وقع الابتداء، فإن وقع بالأسود فهو الحيض، وإن وقع بالأحمر فهو الحيض. وقيل: إن أمكن جعلهما حيضًا- كما في مثلنا- جعل، وإن لم يكن كما لو رأت خمسة حمرة، ثم أحد عشر سوادًا- ففاقدة للتمييز. وقيل: إن كانت مبتدأة فحيضها السواد، وإن كانت معتادة فيحضها ما سبق ولو كان حمرة. انتهى ملخصًا. وهذا الوجه الذي ذكر أن الغزالي حكاه في الأمثلة الثلاثة غلط منه- أي: من المصنف- فإن الغزالي حكاه في المثال الثاني والثالث، وأما إذا تقدمت الحمرة فإنه وإن حكى- أيضًا- الوجه فيه لكن شرط له ألا يمكن الجمع، كما هو مدلول كلام ((الوسيط))، وزاد إيضاحًا في ((البسيط)) فقال: وحكى الشيخ أبو محمد في ((المحيط)) وجهًا: أنه إذا امتنع الجمع جرد النظر إلى الأولية. هذه عبارته. وإذا تقرر ذلك فالمثال الذي ذكره المصنف أولًا لم يمتنع فيه الجمع، فلا يجئ الوجه فيه. قوله: ولو رأت المبتدأة حمرة فتترك الصلاة فيها، لاحتمال ألا تجاوز أكثر الحيض، فلو استمر إلى مجاوزة خمسة عشر وطرأ الأسود فتترك- أيضًا- فيها، لأنها مستحاضة، والاعتبار بالقوى، وهذه امرأة تؤمر بترك الصلاة شهرًا كاملًا، ثم ينظر: إن انقطع الأسود على خمسة عشر قضت أيام الأحمر، وإن جاوز الخمسة عشر فلا تمييز، وفيما تحيضه من أول الدم الأحمر قولان يأتيان في الكتاب، وابتداء دورها الحادي والثلاثون على القولين، فإن حيضناها يومًا وليلة أمرت بترك الصلاة أحدًا

وثلاثين يومًا، وإن حيضناها ستًا أو سبعًا أمرت بترك الصلاة ستًا وثلاثين أو سبعًا وثلاثين. انتهى ملخصًا. وهذا الذي ذكره في غاية الترك قلد فيه غيره، ومقتضاه: أنه لا يتصور الترك زيادة على ذلك، وهو غريب، فقد تؤمر بالترك في أضعاف هذه المدة: كما إذا رأت صفرة، ثم شقرة، ثم حمرة، ثم سوادًا بلا ثخانة ولا رائحة كريهة، ثم سوادًا بأحدهما، ثم سوادًا بهما معًا، ونحو ذلك، وأقام كل دم خمسة عشر- فإنها تترك في كل واحد، للمعنى الذي قالوه، وهو كونه أقوى من غيره. قوله: وإذا قلنا: إن المبتدأة ترد إلى عادة العشيرة، فاختلفت عادتهن- تعينت الست، لوقوع الاتفاق عليه، ولو زادت على السبع ردت إلى السبع. ثم قال: وحكى الإمام عن شيخه عند اتفاق عادتهن ومجاوزتها السبع أنه قال: يحتمل أن تثبت لها تلك العادة بعينها، ولا تختص بالست والسبع. قال: وهذا الذي ذكره حسن ولكني لم أره لغيره، وعندي: إنما ذكره مخرجًا [كذا]، وإنا أبدى وجهًا من الاحتمال. انتهى كلامه. والذي ذكره في آخره كلام عجيب لا يفهم منه شيء، أو يفهم منه غير المراد، وسببه إسقاط حرف وتقديم كلمة، فإن الإمام قال: وعندي أنه ما ذكره وجهًا مخرجًا. هذه عبارته، ومعناه: أنه لم يذكر ما ذكر على أنه وجه مخرج. قوله: وهذه المرأة- أي الناسية للعادة والوقت- تسمى بالمتحيرة: إما لتحيرها في شأنها، أو لتحير الفقيه في أمرها. انتهى كلامه. وهو غلط سقط منه شيء، وصوابه الذي قاله الرافعي وغيره: أنها تسمى متحيرة، لتحيرها، ومحيرة- بكسر الياء- لتحير الفقيه في أمرها. فكل اسم له علة، فنسي أحد الاسمين، وجمع بين العلتين. قوله: واغتسالها يكون بعد دخول الوقت على الأصح، وقيل: لو وجد دخوله، وانطبق آخره على أول الوقت- جاز. انتهى. وهذا الوجه لم يحكه المصنف على وجهه، فإن قائله يشترط- أيضًا- انطباق أول الصلاة على آخر الغسل، كما صرح به الأصحاب، حتى الرافعي فقال: وفي وجه: لو وقع غسلها قبل الوقت، وانطبق أول الوقت وآخر الغسل- جاز. هذه عبارته. قوله- فيما إذا كان على المتحيرة صوم يومين، وأرادت قضاءهما-: إنها تصوم

ستة أيام من ثمانية عشر يومًا: ثلاثة في أولها، وثلاثة في آخرها، فتبرأ ذمتها منها، لأن الدم إن كان قد طرأ في أثناء اليوم الأول منها انقطع في مثله من السادس عشر، وسلم لها السابع عشر والثامن عشر. قال: ولا يختص الخروج عن العهدة بصوم الثلاث في أول الثمانية عشر متواليات، وكذلك في آخرها، بل لو صامت يومين في أول المدة، ويومين في آخرها، ويومين فيما بين ذلك، سواء كانا متصلين باليومين الأولين أو باليومين الأخيرين أو مفردين عنهما- خرجت عن العهدة. ثم قال ما نصه: وضابط هذا: أن تعرف ما عليها من صوم وتصومه مثله بعد استكمال خمسة عشر يومًا من أول صومها الأول، وتصوم يومين فيما بين الصومين، مثاله: إذا كان عليها ثلاثة أيام صامتها في أي وقت شاءت، وصامت يومين بعدها إلى تمام خمسة عشر يومًا، وتصوم ثلاثة أيام عقب الخمسة عشر، فتخرج عما عليها بيقين. انتهى كلامه. وهذا الضابط الذي ذكره غلط فاحش، والعمل المتفرع عليه في المثال المذكور غلط- أيضًا- فإن الصواب فيما إذا أرادت أن تصوم مثله: أنها تصومه بعد استكمال ستة عشر، لا كما قاله من كونه بعد خمسة عشر، فإذا كان عليها صوم ثلاثة كما مثله هو، فصامتها في أول الشهر مثلًا، وصامت بعدها يومين- فإنها تصوم الثلاثة الباقية بعد ستة عشر، فتصوم السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، فعلى تقدير أن يطرأ الدم في أثناء اليوم الأول، فيقطع في أثناء السادس عشر- فتصح لها الثلاثة التي بعده، وأما على ما قاله المصنف من كونها تبتدئ بالسادس عشر فلا يصح لها يومان، فيبقي عليها يوم، فلا تبرأ ذمتها، وهذا واضح، وسبب الوهم: أن الرافعي ذكر أنها تضعف مع عليها وتزيد يومين، ثم لها حينئذ طريقان: إحداهما: أن تصوم نصف المجموع متواليًا متى شاءت، والنصف الآخر بعد استكمال خمسة عشر من صومها. والطريقة الثانية: ما حاول المصنف ذكره. وقد الرافعي الطريقة الأولى، فسها المصنف منها إلى الثانية، فعبر بـ ((الخمسة عشر)). قوله: نعم، يتصور أن تخرج عن عهدة اليومين بخمسة أيام لكن من تسعة عشر يومًا، فتصوم يومًا، وتفطر يومًا، وتصوم الثالث، ثم تصوم- أيضًا- السابع عشر من اليوم الأول والتاسع عشر منه، وفيما بين الرابع والسادس عشر تصوم اليوم الخامس،

وضابط هذا: أن تعرف ما عليها من صوم، فتصوم يومًا وتفطر يومًا، إلى أن تستوفيه، ثم تترك الصوم ثمانية عشر يومًا من أول صيامها، فتصوم يومًا وتفطر يومًا قدر ما صامت وأفطرت من أول المدة، وتصوم يومًا آخر فيما بين آخر فطرها بعد صيامها الأول والسادس عشر منه، مثاله: إذا كان عليها صوم ثلاثة أيام تصومها من أحد وعشرين يومًا، فتصوم يومًا، وتفطر ثانية، وتصوم ثالثه، وتفطر رابعه، وتصوم خامسه، فيحصل لها صيام ثلاثة أيام قدر ما عليها، وتصوم السابع عشر من أول يوم صامته والتاسع عشر منه، والحادي والعشرين منه، وذلك قدر ما صامته أولًا، وتصوم فيما بين اليوم السادس من أول صيامها واليوم السادس عشر منه يومًا آخر، فتخرج عن العهدة. انتهى كلامه. وهذه القاعدة التي أطلقها واقتضى كلامه اطرادها في جميع ما عليها، ليست كذلك، بل إنما تأتي إلى تمام سبعة أيام، وأما من الثامن فصاعدا فالأمر فيه كما قالوه من زيادة يومين على الضعف، ولا تتأتى البراءة بزيادة يوم كما ذكره الدرامي ونقله عنه في ((شرح المهذب)). قوله: ولو كان رمضان ناقصًا والشهر الآخر تامًا: فعلى قياس الشافعي- وهو بطلان خمسة عشر يومًا من الكامل- لا يخفى الحكم، وعلى الطريقة المشهورة- وهو بطلان ستة عشر يومًا- فيحصل لها منهما سبعة وعشرون يومًا، والباقي عليها يومان. وقال في ((المهذب)): يلزمها قضاء يوم واحد. فمن الناس من خطأه، ومنهم من أجراه على ظاهره- وهو صاحب ((البيان)) - فقال: الشهر الهلالي لا يخلو في الغالب عن طهر كامل، فيحصل أربعة عشر يومًا كالكامل، وبعضهم يحكي عنه غير هذه العبارة، وهو: أن الشهر الهلالي لا يخلو عن طهر صحيح، إما متفرقًا وإما متتابعًا، فإذا كان الشهر تسعة وعشرين يومًا فلابد من وجود طهر كامل، فيدخل النقص على أكثر الحيض، لأنه يجوز نقصه، ولا يدخل على أقل الطهر، لأنه لا يجوز نقصه، قال بعضهم: هذا لا يصح، ومحل المنع فيه ما ادعاه من أن الشهر الهلالي لا يخلو من طهر صحيح، والمسلم: أنه لا يخلو عن طهر صحيح إنما هو الدور إذا كان ثلاثين يومًا، لا الشهر الناقص. قلت: وهذا لا يقدح في قول العمراني، لأن مراده أن الشهر الهلالي لا يخلو عن طهر كامل وحيض عند الشافعي، ولذلك اكتفى في عدة المتحيزة بثلاثة أشهر، ووافقه جمهور أصحابه ... إلى أخر ما ذكره. وهذا الذي قاله- رحمه الله- ليس بشيء، لأن التفريع على قول الاحتياط،

والشافعي وغيره يجوزون خلو الشهر الواحد عن الطهر الكامل بلا شك، واعتذروا عن الاعتداد بثلاثة أشهر بأن الصبر إلى سن اليأس حرج شديد، لأنه لا يرغب فيها إذ ذاك، فاكتفينا بالأشهر، لأن الغالب اشتمالها على ثلاثة أطهار، وقد ذكر المصنف هذا كله هناك، ولو استحضر المصنف هنا ما قالوه هناك لم يذكر ما ذكر. قوله: فإن كان الذي عليها متتابعًا بنذر أو غيره، فإن كان بقدر ما يقع فيه في شهر صامته على الولاء، ثم مرة أخرى قبل السابع عشر، ثم مرة أخرى من السابع عشر، مثاله: عليها يومان، تصوم يومين متواليين والسابع عشر والثامن عشر، وتصوم بينهما يومين متتابعين. ولو كان عليها شهران متتابعان صامت مائة وأربعين يومًا على التوالي، أربعة أشهر لستة وخمسين يومًا، وعشرين يومًا لأربعة أيام. انتهى كلامه. وهذا الضابط الذي ذكره ومثل له باليومين قد استدرك عليه الدرامي، وتبعه صاحب ((الحاوي الصغير)) فقال: محله إلى آخر اليوم السابع فقط. قال: وشرطه: أن يقع الصوم المتوسط بعد الثالث من صومها الأول وقبل السادس عشر، فتترك يومًا بعد الصوم الأول وهو الرابع في مثالنا، ويومًا قبل الأخير وهو السادس عشر في المثال المذكور، ثم تصوم بينهما، وحاصله: أنها تصوم مرتين متفرقتين في خمسة عشر، والمرة الثالثة من سابع عشر صومها الأول، وأما الثامن إلى آخر الرابع عشر فطريقها فيه: أن تصوم ستة عشر يومًا مع قدر المتتابع متواليًا، والخمسة عشر فاصعدًا حكمها يعلم مما ذكره في الشهرين. قوله: ويحرم عليها الصلاة، ويسقط عنها فرضها، للإجماع، ويدل على السقوط ما رواه مسلم: ((أن معاذة سألت عائشة: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقال: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكن أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة)). ويحرم عليها الصوم، للإجماع، ومفهوم خبر عائشة يدل عليه. انتهى. والخبر الذي نقله عن عائشة لا يدل بمنطوقه ولا بمفهومه على الترك، فإن العبادة قد يشرع فعلها ومع ذلك يجب قضاؤها لخلل فيها، وذلك كثير جدًا. سلمنا دلالة الخبر على الترك، لكن لا يدل على تحريم فعله وهو المدعى. قوله: ثم ليس لتحريم الصوم عليها معنى معقول كما قال الإمام، ويدل عليه أن عائشة لما سئلت عن الفرق عدلت إلى النص، وقد قيل: المعنى فيه: أن يضعفها. انتهى كلامه.

وما ذكره هنا من الاستدلال بقصة عائشة سهو، فإن عائشة إنما سئلت عن الفرق بالنسبة إلى القضاء لا بالنسبة إلى الأداء، وقد تقدم لفظه قريبًا، فراجعه. قوله: والصحيح عند الجمهور: أن الحائض ليست مخاطبة بالصوم في حال الحيض. ثم قال بعد ذلك: قال بعضهم: وفائدة الخلاف تظهر إذا قلنا: إنه يجب التعرض للأداء والقضاء في النية. انتهى كلامه. ومعناه: أنا إن قلنا بوجوبه عليها نوت القضاء، وإلا نوت الأداء، فإنه وقت توجه الخطاب عليها، وهذه الفائدة التي نقلها عن بعضهم وأقرها قد رأيتها مصرحًا بها في كتاب ((الذخائر)) بالتقرير الذي ذكرته والتعليل، والذي قاله غير صحيح، فإنه لا يلزم من كونه وقت توجه الخطاب أن يكون أداء، بل هو قضاء على كل حال، لخروج وقته الأصلي، بدليل من استغرق الوقت بالنوم مثلًا فإن الصلاة التي يفعلها بعد ذلك قضاءٌ بلا نزاع، حتى أول العلماء قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن ذلك وقتها))، على وقت الفعل. ورأيت لبعض الفضلاء- ممن قدم إلى ديار مصر بعد وفاة صاحب ((الذخائر)) بقليل- تصنيفًا قد شرع فيه في الرد على ((الذخائر))، فوضع على الربع الأول منها مجلدة لطيفة أبدى فيها مناقشات وتصحيفات وغير ذلك وقت لمصنفها، إلا أن فيه تعصبًا بينًا وتحاملًا غالبًا أنبأ عن شدة حسد- نعوذ بالله من ذلك- وهذا الموضع من جملة المواضع التي تكلم فيها، فقال في أثناء كلامه عليه: وكيف نقول إذا نوت الأداء؟ هل نقول: أداء صوم شهر رمضان، أو: أداء صومٍ ما، غير مضاف إلى ((رمضان))، وكل منهما لا يمكن صحته، ولقائل أن يجيب عن هذا المنع بما ذكره في القسم الأول والتزام صحته. قوله: وقد أفهم كلام الشيخ أن التيمم لا يقم مقام الغسل في إباحة ما ذكرناه إذا وجد شرطه، ولا شك في أنه يقم مقامه. انتهى. وما اقتضاه كلامه من عدم الخلاف فيه ليس كذلك، فإن التيمم الواقع في الحضر في هذه الحالة فيه وجهان مشهوران نقلهما المصنف في آخر باب التيمم عن القاضي الحسين والخوارزمي: أحدهما: أنه يقوم مقام الغسل في إباحة هذه الأشياء كما في السفر. والثاني: أنه لا يحل به غير الفرض، فتحرم معه قراءة ما زاد على الفاتحة وما في معناها من النوافل، وفي الفاتحة وجهان.

قوله: إذا عرفت ما هو النفاس فأقله- كما قاله الشيخ-: مجة، أي: دفعة، وهي بضم الميم، مأخوذة من: مججت الماء، إذا رميت به من فيك، فكأن الرحم يرمي بالدم رمية واحدة ثم ينقطع. انتهى كلامه. وما ذكره من كونها بضم الميم غلط، بل صوابه الفتح، وتعبيره بقوله: فكأن الرحم يرمي بالدم رمية واحدة، يدل عليه- أيضًا- فإن المرة من مصدر الثلاثي تكون بفتح الأول، وعادة المصنف أن يأخذ هذه الأشياء من ((لغات التنبيه)) للنووي، وقد وقع فيها على الصواب. قوله: وفي ((ابن يونس)) تبعًا لـ ((المهذب)): أن المزني قال: أكثر النفاس أربعون يومًا. ولم أره في غيرهما منسوبًا إليه، بل تفاريعه التي تأتي تدل على موافقة المذهب. انتهى كلامه. وهذا النقل عن المزني قد ذكره- أيضًا- الشاشي في ((الحلية)) والعمراني في ((البيان)) وابن أبي عصرون في ((الانتصار)). قوله: أما إذا لم يخرج بعد الولد دم، ورأته بعد ذلك، ولم ينته النقاء إلى أقل الحيض: فهل يكون ابتداء النفاس من وقت الولادة، أو من وقت رؤية الدم؟ فيه وجهان في ((النهاية))، والمذكور منهما في ((تعليق)) القاضي الحسين: الثاني. انتهى كلامه. وهذا النقل عن القاضي سهو، فإنه إنما ذكر ذلك فيما إذا انقطع دم النفاس، ثم عاد قبل خمسة عشر أو بعدها، وقد تفطن المصنف في ((المطلب)) للصواب ونبه على خطأ المذكور هنا. قوله: فيما إذا عبر دم النفاس الستين-: إن حكمه حكم الحيض في الرد إلى التمييز إن كانت مميزة، وإلى العادة إن كانت معتادة، وإلى الأقل أو الغالب- على اختلاف القولين- إن كانت مبتدأة. ثم قال: والتعليل السالف في رد المبتدأة إلى أقل الحيض يقتضي ألا يجعل للمبتدأة في النفاس إذا أطبق بها الدم نفاسٌ أصلًا، بناء على أنه لا أقل للنفاس، فإنه يحتلم أن تكون ذات جفوف ... إلى آخر ما قال. واعلم أن ما قاله- رحمه الله- لا يستقيم، لأن الذي يقول: لا أقل للنفاس، يقول: أقله لحظة، كما حكاه هو قبل هذا في الكلام على أقله، نقلًا عن الماوردي، وصرح به الرافعي حيث قال: فإن رددناها إلى الأقل فنفاسها لحظة. مع قوله: إنه لا

حد لأقل النفاس. قوله: وما ذكره الشيخ في الأحوال الثلاثة هو المذهب، ووراءه وجهان: أحدهما: أن الدم إذا جاوز الستين كانت الستون نفاسًا، وما زاد استحاضة. والثاني: أن النفاس ستون، وما زاد عليها حيض بشرطه. ثم قال: ومحل هذا الوجه- كما قال الماودري- فيمن لم تكن مبتدأة بالحيض والنفاس، أما المبتدأة بهما فلا خلاف في أن ما جاوز الستين استحاضة. نعم، هل يكون نفاسها الستين أو ما سلف؟ فيه الخلاف، وكلام الرافعي كالصريح في أن الخلاف في المعتادة والمبتدأة [كذا]، لأنه لما ذكر أن ظاهر المذهب ما ذكره الشيخ قال: وفيه وجهان آخران، أحدهما: أن الستين نفاس، وما زاد استحاضة، بخلاف ما في نظيره من الحيض، لأن الحيض محكوم به ظاهرًا لا قطعًا، فجاز أن ينتقل عنه إلى ظاهر آخر، والنفاس مقطوع به أو الولادة معلومة، والنفاس هو الدم الخارج بعد الولادة، فلا ينتقل عنه إلى غيره إلا بقين، وهو مجاوزة الأكثر. فعلى هذا: نجعل الزائد استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد، والمردود إليه في المبتدأة، أي: من أكثر الطهر، أو غالبه، أو أقله، على ما مر، ثم ما بعده حيض. انتهى كلامه. وما ادعاه- رحمه الله- من دلالة كلام الرافعي على الخلاف غلط فاحش، سببه: التباس وجه بوجه، فإن الذي حكى هو عن الماوردي نفي الخلاف فيه عن المبتدأة، ورأيته أيضًا في كلامه- إنما هو الوجه القائل بأن الزائد حيض، والوجه الذي دل كلام الرافعي على التسوية فيه بين المبتدأة وغيرها إنما هو القائل بأن الزائد استحاضة، فتأمله. قوله: وعليه يدل قوله- عليه الصلاة والسلام-: ((فلتغتسل، ثم لتستثفر، ثم لتصل)) كما رواه أبو داود. وتستثفر: بتاء معجمة باثنتين من فوق مفتوحة، وسين مهملة ساكنة، وتاء مفتوحة بثلاث ساكنة، وفاء مكسورة، وراء مهمة، ومعناه: أن تجعل المرأة على قبلها خرقة أو غيرها، والقطن أمس، لأنه جاء في حدث حبيبة بنت جحش أنه- عليه الصلاة والسلام- قال لها: ((أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم)). انتهى كلامه بحروفه. وفيه أمران: أحدهما: أن تعبيره في ضبط ((تستثفر)) بقوله: وتاء مفتوحة بثلاث ساكنة، وهم سقط منه شيء، وصوابه أن يقول: وتاء مفتوحة مثناة، ثم ثاء مثلثة.

الأمر الثاني: أن تعبير بقوله: حبيبة بنت جحش، تحريف، إنما هي: حمنة، بحاء مهملة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم نون مفتوحة. قوله: ووضوء المستحاضة يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث على المذهب، فعلى هذا: لا يجزئها إلا نية استباحة الصلاة كما في التيمم، وقيل: إنه يرفع الحدث، وقياسه: أن تصح بنية رفع الحدث فقط، ولم أره، وقيل: يرفع الحدث الماضي دون المستقبل والمقارن، فعلى هذا: تنوي رفع الحدث للماضي والاستباحة للمقارن والمستقبل، وبه قال القفال، وغلطه الإمام. انتهى كلامه. وما ذكره من كونه لم ير أحدًا يقول بالصحة فيما إذا نوى رفع الحدث فقط، غريب جدًا، فقد حكاه الرافعي والنووي في باب صفة الوضوء من كتبهما حتى في ((المحرر)) و ((المنهاج))، بل حكى الرافعي هذا الوجه مع قولنا: إن وضوءها لا يرفع الحدث، وعلله بأن الرفع يتضمن الاستباحة. قوله: فرع: إذا كان من به سلس البول لو صلى قائمًا سال بوله، وإن صلى قاعدًا استمسك- فهل المستحب أن يصلي قائمًا أو قاعدًا؟ فيه وجهان، أصحهما في ((الروضة)) و ((الكافي)): الثاني، ولا يعيد على الوجهين معًا. انتهى. واعلم أن حكاية الوجهين في الاستحباب ليس له ذكر في ((الروضة)) ولا في ((الكافي)) ولا في أصوله كـ ((التهذيب)) و ((تعليقه)) القاضي حسين و ((فتاويه))، ولم أر من قاله غير المصنف، بل كلامهم يقتضي أنهما في الإيجاب، وكذلك كلام ((التحقيق)) و ((شرح المهذب)).

باب إزالة النجاسة

باب إزالة النجاسة قوله: قلنا: قد قال به- أي: بنجاسة مني الآدمي- صاحب ((التلخيص)) تخريجًا، كما قاله القاضي الحسين وغيره، والماوردي قال: إن الكرابيسي حكاه عن القديم، وفي ((التتمة)) حكاه عن الشافعي ولم يقيده بالقديم، وأنه يكفي فيه الفرك، وسوى بين رطبه ويابسه. انتهى كلامه. وما حكاه عن ((التتمة)) من كونه لم يقيد هذا القول بالقديم، وأن الفرك فيه كاف- كلاهما غلط، فقد قال في ((التتمة)) ما نصه: ويحكى عن القديم قول آخر- وهو مذهب مالك-: أن المني نجس، رطبًا كان أو يابسًا، ويجب غسله في الأحوال كلها. هذا لفظه بحروفه. قوله: وفي ((التتمة)) حكاية وجه: أن القيء إذا لم يتغير يكون طاهرًا، وهو بعيد. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن صاحب ((التتمة)) لم يحكه وجهًا، بل جزم به. الثاني: أن دعواه بعده ليس كذلك، ففي كتب المذهب- حتى ((الروضة)) وهذا الكتاب نفسه- أن البهيمة إذا أكلت حبًا ثم ألقته صحيحًا: فإن كانت صلابته باقية، وهو الذي لو زرع لنبت- كان طاهر العين، فيغسل ويؤكل، وإلا يكن نجسًا، وقياسه كذلك في القيء، بل أولى، لأن الخارج من الدبر أسوأ من الخارج من الفم، وحينئذ لو شب ماء وتقيأه فإنه يطهر بمكاثرته، وإن كان حبًا ونحوه غسله وأكله بالشرط المتقدم. قوله: نعم، لو ماتت الدجاجة ونحوها وفي جوفها بيض ففي نجاسته ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان قويًا فهو طاهر، وإن كان ضعيفًا رخوًا فنجس. ثم قال ما نصه: والقاضي الحسين والغزالي قالا: إن لم يتصلب فنجس، وإن تصلب فوجهان. وعليه جرى الرافعي. انتهى كلامه. وما حكاه عن الرافعي من متابعتهما على هذه الطريقة غلط، فإن المذكور في

شرحيه ((الكبير)) و ((الصغير)) إنما هو الجزم بالوجه الثالث، ولم يذكر هذه الطريقة ولا غيرها مما يقتضي خلافًا. قوله: واستدل غير الماوردي على نجاسة الخنزير بأنه أسوأ حالًا من الكلب، فإنه يجب قتله، ولا يجوز الانتفاع به، بخلاف الكلب. انتهى. وهذا الذي ذكره من وجو بقتله خلاف المنقول، فإن منقول المذهب هو الاستحباب، حتى جزم به النووي في ((شرح المهذب)) هنا، وكذلك العمراني في ((البيان)). قوله: وفي نجاسة الجزء المبان من الآدمي طريقان. ثم قال: وطرد- أعني الرافعي- الخلاف في المبان من السمك والجراد ومشيمة الآدمي، وصحح القول بطهارة الجميع، والمذكور في ((تعليق)) أبي الطيب والبندنيجي و ((التتمة)): نجاسة الجميع. انتهى كلامه. وما ذكر عن ((التتمة)) غلط، فإن المذكور فيها: أنها طاهرة في أصح القولين، كبعض الآدمي، ذكر ذلك في الباب الثاني في الماء النجس. قوله: فرع: إذا رأى شعرًا ولم يعلم أنه طاهر أم نجس، فإن علم أنه شعر مأكول اللحم فهو طاهر، وإن علم أنه شعر غير مأكول فهو نجس، وإن شك فيه قال الماوردي: ففي طهارته وجهان من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء: هل هي على الحظر فيكون نجسًا، أو على الإباحة فيكون طاهرًا؟ وهذا فيه نظر، لأن الخلاف المذكور مفرع على القول بمسألة الحسن والقبح، ونحن لا نقول به. انتهى كلامه. وما ذكره من أن الخلافة المذكور مفرع على الحسن والقبح كلام عجيب، فإنه لا ارتباط بينهما ولا مناسبة بالكلية، وكأنه لما سمع أن الأصوليين تنزلوا وسلموا للمعتزلة قاعدة التحسين والتقبيح، ومع ذلك لم يجزموا بحكم العقل فيه، بل حكوا فيه خلافًا لأصحابنا ولغيرهم- توهم أنه مفرع عليه. وليس كذلك، فإن مدرك الخلاف هاهنا إنما هو أدلة سمعية وأقيسة شرعية، لا التحسين والتقبيح العقلي، وذلك واضح عند أهل المعرفة بهذا الشأن. قوله: ومن النجاسات: شعر الميتة، وعشر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته، ولبن ما لا يؤكل لحمه غير الآدمي. ثم قال: وظاهر قول الشيخ: وشعر ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حال حياته، يقتضي إدخال شعر الآدمي وإن قلنا بطهارة جثته ... إلى آخر ما قال.

وما ذكره من شموله ليس كذلك، لأن الاستثناء والصفة ونحوهما إذا تعقبت جملًا عادت إلى الكل عند الشافعي، والشيخ قد قال بعده: غير الآدمي. قوله: وما تنجس بذلك. ثم قال: وعدول الشيخ عن قوله: وما لاقى ذلك، إلى ما ذكره، لأنا مع الملاقاة قد لا نحكم عليه بالنجاسة، وذلك في صور: إحداها: الماء الكثير. والثانية: القليل إذا وقع فيه ما لا يدركه الطرف. والثالثة: إذا وجدت الملاقاة بين جافين. انتهى. أهمل مع هذه الثلاث مسائل أخرى: الأولى: ما لا نفس له سائلة. ثانيها: الهرة إذا أكلت فأرة ونحوها، ثم غابت وولغت. ثالثها: اليسير من الشعر الذي حكمنا بتنجيسه فلا ينجس الماء القليل، كما نقله في باب الأواني من ((الروضة)) عن الأصحاب. قال: ولا يختص الاستثناء بشعر الآدمي في الأصح. رابعها: الحيوان إذا كان على منفذه نجاسة، ثم وقع في الماء، فإنه لا ينجسه على الأصح، كما قاله الرافعي في شروط الصلاة. خامسها: الصبي على التصوير المذكور في الهرة، كما ذكره ابن الصلاح في ((فتاويه)). سادسها: الدخان النجس. وقد أشار إليها المصنف بعد ذلك. قوله: وإذا دبغ جلد الميتة جاز بيعه على الجديد، والقولان جاريان في إجارته، وفي أكله إذا كان مما يؤكل. ثم قال ما نصه: وفي ((تعليق)) القاضي الحسين: أنا إذا قلنا: لا يجوز بيعه، فلا يحل أكله، وفي إجارته وجهان، وإن قلنا: يحل بيعه، تجوز إجارته، وفي حل أكله وجهان. انتهى كلامه. وهذا التفصيل المذكور هنا قد ذكره الماوردي في ((الحاوي))، ولم يذكره القاضي حسين، وقد نبه عليه المصنف بخطه في حاشية الكتاب. قوله: إذ الولوغ يختص بما إذا كان في الإناء شيء، أما إذا لم يكن فيه شيء فيقال:

لحس الإناء، والشرب أعم من الولوغ، فإن كل شرب ولوغ، ولا يلزم العكس. انتهى كلامه بحروفه. وما ذكره من كون الشرب أعم سهو، وإنما هو أخص، وتعليله الذي ذكره يدل عليه، فإنه ضابط الأخص. قوله: ووجهه في الكلب قوله- عليه الصلاة والسلام-: ((طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات أولاهن بالتراب))، وفي رواية: ((إحداهن))، أخرجه مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه. انتهى كلامه. واعلم أن رواية ((إحداهن)) لم ترد في رواية أبي هريرة، ولا خرجها- أيضًا- مسلم، وإنما الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: ((أولاهن))، ثم رواه- أيضًا- من ثلاث طرق أخر عن أبي هريرة- أيضًا- ولم يذكر فيه: ((أولاهن)) ولا غيرها، بل اقتصر على الغسل سبع مرات. نعم، رواها- أعني ((إحداهن)) - الدارقطني من رواية علي، وقد نبه النووي على ذلك- أيضًا- في ((شرح المهذب)) فقال: رواية ((إحداهن)) غريبة لم يذكرها البخاري ومسلم ولا أصحاب الكتب المعتمدة، إلا الدارقطني، فإنه رواها من رواية علي. وذكر نحوه في كتاب ((الخلاصة))، وتقع في كتب الفقه: ((أخراهن)) بالخاء المعجمة والراء، ولم أرها في شيء من كتب الحديث باللفظ الذي ذكروه. نعم، روى الشافعي والدارقطني: ((أخراهن)) أو ((أولاهن))، وهي صحيحة كما قاله في ((شرح المهذب))، وروى مسلم- أيضًا-: ((وعفروه الثامنة))، وهي في المعنى كرواية ((أخراهن))، على ما قرره الأصحاب. قوله: ولا خلاف في أنه إذا وقعت في الإناء بعد الولوغ نجاسة كفاه غسله سبع مرات، بل لو وقعت قبل غسل السابعة كفته. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف تبع فيه النووي في ((شرح المهذب))، وليس كذلك، فقد حكى الرافعي في ((الشرح الصغير)) وجهًا: أن السبع لا تكفي، بل لابد من غسل ثامنة لأجل تلك النجاسة، فقال: ولا فرق بين أن يصيب الموضع نجاسة أخرى، كما إذا ولغ الكلب في الإناء ووقع فيه خمر، أولا يصيب، وفي وجهٍ: يغسل لتلك النجاسة، ثم لنجاسة الكلب. هذا لفظه. قوله: وقد أبعد بعض الأصحاب فحكى قولًا: أن الجارية ملحقة بالغلام في النضح، لقول الشافعي: ولا يبين لي فرق بين الصبي والصبية. ثم قال: والمذهب المشهور: الأول، ومراد الشافعي: أنه لا يبين لي بينهما فرق من

جهة المعنى وإن فرقت السنة بينهما. انتهى كلامه. وما ذكره من رد القول وحمله على المحمل المذكور ذهول عن زيادة في آخر كلام الشافعي، فإنه قال: ولا يبين لي في بول الصبي والجارية فرق من السنة الثابتة، ولو غسل بول الجارية كان أحب إلي، احتياطًا، وإن رش عليه ما لم تأكل الطعام أجزأ، إن شاء الله تعالى. هذا لفظه، نقله عنه البيهقي في ((سننه)) وابن الصلاح في ((مشكله)). قوله: والدهن هل يمكن تطهيره أم لا؟ فيه خلاف. ثم قال: والزئبق متفق على عدم إمكان غسله، قال القاضي حسين: لأنه لا يتقطع عند ملاقاة الماء على الوجه الذي يتقطع عند إصابة النجاسة. انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق غريب، فقد ذكر جماعة من الطريقين- أعني العراقيين والخراسانيين- ما يخالف ذلك: فقال الشيخ أبو علي السنجي في ((شرح التلخيص)) والمحاملي في ((اللباب)) والبغوي في ((التهذيب)) وغيرهم: إنه إن لم يتقطع بعد إصابة النجس طهر بصب الماء عليه، وإن تقطع فكالدهن. ورأيت- أيضًا- هذا التفصيل في ((التخليص)) لابن القاص وفي ((شرحه)) للقفال، وكذلك- أيضًا- ((شرحه)) للقاضي حسين، وفي ((عقود المختصر من نقاوة المعتصر)) للغزالي، إلا أنهم جزموا فقالوا: إن لم يتقطع طهر، وإن تقطع فلا. قوله: وفي ((الحاوي)) و ((التتمة)) وجه نسبه الإمام إلى صاحب ((التلخيص)): أنه لا يعفي عن اللون الذي تعسر إزالته مطلقًا. انتهى. واعلم أن المتولي إنما حكى الوجه في أنه لا يطهر، ثم صرح في آخر كلامه بأنه نجس معفو عنه، وأما ((النهاية)) فالذي نقله أيضًا إنما هو عدم الطهارة، ولا يلزم منه عدم العفو.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة قوله: والصلاة في اللغة: هي الدعاء، وفي الشرع: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، بشرائط. سميت بذلك، لاشتمالها على الدعاء ... وقيل: سميت بذلك، لأن المصلى إذا قام بين يدي الله- تعالى- في الصلاة أصابه من خشيته ما يستقيم به اعوجاجه، مأخوذ من ((التصلية))، يقال: صليت العود، إذا لينته بالنار، فسهل تقويمه من الاعوجاج. قال النووي: هذا فيه غباوة ظاهرة من قائله، لأن لام الكلمة في ((الصلاة)) واو، وفي ((صليت)) ياء، فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف؟! انتهى كلامه. وهذا الذي قاله النووي، ونقله عنه المصنف، وارتضاه- كلام عجيب وغباوة ظاهرة، فإن المشدد تقلب فيه الواو ياء نحو: زكيت المال، وصليت الظهر. والظاهر أن النووي توهم أنه مأخوذ من قولهم: صليت اللحم- بالتخفيف- صليًا، كرميت رميًا: إذا شويته، ذاهلًا عن كون ((التفعلة)) - كـ ((التزكية)) و ((التصلية)) - إنما هي مصدر للمعتل المشدد لا للمخفف، أو لم يحط بهذه القاعدة علمًا. قوله: ويؤمر الصبي بالصلاة لسبع، ويضرب على تركها لعشر. ثم قال: وما ذكره الشيخ من السن في الحالين هو المشهور، ولم يورد البندنيجي غيره، وقال القاضي أبو الطيب من أصحابنا، من قال: لا يتقدر بمدة، بل متى حصل تمييز أمرناه وضربنا. ثم قال: وعلى الأول: هل يكون الأمر والضرب في أثناء السنة أو بعدها؟ فيه وجهان حكاهما الجيلي. انتهى. وما حكاه عن الجيلي ليس مطابقًا لما فيه، لا في الأمر بالنسبة إلى السابعة ولا في الضرب بالنسبة إلى العاشرة، فإنه قد قال: وهل يؤمر بذلك إذا دخل في السبع أو عند استكمال السبع؟ فيه وجهان، وكذا قوله: ((اضربوهم لعشر))، هل هو تحديد أم لا؟ فيه وجهان. هذه عبارته، وحاصل الوجهين في الأمر: أنه هل يكون بابتداء السنة أو بانتهائها؟ وتعبير المصنف بـ ((الأثناء)) غير مطابق ولا منضبط، ولعله أراد التعبير بـ ((الابتداء)) فسبق القلم إلى ((الأثناء)).

وأما الخلاف في كون العشرة للتحديد أم لا فغير ما نقله عنه المصنف بالكلية، فإن المفهوم من مقابل التحديد إنما هو التقريب، وكونه للتحديد أو التقريب متجه، لأن الضرب سببه احتمال البلوغ، وفي كون سن إمكان البلوغ تحديدًا أو تقريبًا، خلافٌ مشهور. قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن امتنع من فعلها جاحدًا لوجوبها، أي: منكرًا لوجوبها، وهو غير معذور، بأن كان قد تقدم إسلامه وخالط المسلمين- كفر. ثم قال بعد ذلك: أما من كان حديث عهد بالإسلام، وقد نشأ في بادية بعيدة- فيعرف أن الصلاة واجبة عليه، فإن أصر على الإنكار كان حكمه من نشأ في الإسلام. انتهى كلامه. وكان الصواب أن يقول: أو قد نشأ، بلفظ ((أو)). واعلم أن ((الجحد)) في اللغة عبارة عن الإنكار بعد الاعتراف، وأما ((الإنكار)) فأعم، فقول المصنف: أي منكرًا ... إلى آخره، مجموعة تفسير لـ ((الجحد)) لا لفظ ((منكر)) فقط، فاعلمه. قوله: ثم إذا ضربنا له، أي: لتارك الصلاة، مدة، فقتله فيها قاتل- قال صاحب ((البيان)): لم يأثم، ولا ضمان عليه كقاتل المرتد. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب ((البيان)) من عدم الإثم غلط، ففي ((البيان)) الجزم بعكسه، فإنه قال: تجب استتابته ثلاثًا، فقتله قاتل قبل الثلاث- أثم، ولا يجب ضمانه كالمرتد. هذه عبارته. ثم إنه لا يتأتي القول به، لما فيه من قطع المدة التي رأى الإمام ضربها له، ولما فيه من الافتيات عليه، فإن قتله موكول إليه، بل لو قتله بعد المدة أثم- أيضًا- للمعنى الثاني، إلا أن يكون إمامًا.

باب مواقيت الصلاة

باب مواقيت الصلاة قوله: والأصل في ذلك وغيره من مواقيت الخمس: ما روى ابن عباس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمني جبريل عند باب البيت مرتين: فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم. فلما كان الغد: صلى بي الظهر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر، ثم التفت إلى فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين)) رواه أبو داود، وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. انتهى. واعلم أن الواقع في رواية أبي داود والترمذي إنما هو: ((عند البيت)) أعني بإسقاط لفظ ((الباب)) على خلاف ما ذكره. والشراك- بشين معجمة مكسورة وراء مهملة-: أحد سيور النعل التي من فوقه. قوله: نقلًا عن القاضي الحسين-: فإن قيل: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء تقديمًا، ومن شرط صحة الجمع: أن يقع أداء الصلاتين في وقت إحداهما، وذلك يدل على أن أول قوت المغرب يمتد أكثر مما وصفتم- قلنا: لا نسلم أن من شرط صحة الجمع ما ذكرتم، بل من شرط صحته أن تؤدى إحدى الصلاتين في وقتها، ثم توجد الأخرى عقيبها. قلت: وأيضًا: فالصلاتان في الجمع كالصلاة الواحدة، وقد تقدم أن المغرب تجوز استدامتها، فكذا ما جعل في معناها. انتهى موضع الحاجة من كلامه ملخصًا. والجواب الذي نقله عن القاضي وارتضاه جواب باطل، وممن نبه عليه النووي في ((شرح المهذب))، فإنه نظير من جمع بين الظهر والعصر في آخر وقت العصر بحيث وقعت الظهر قبل غروب الشمس، والعصر بعد الغروب، وهو لا يجوز. وأما الجواب الذي ذكره هو من عند نفسه فمردود، لأن المد في سائر الصلوات

يجوز بلا كراهة- أيضًا- كما ذكره الرافعي، وحينئذ فيلزم جواز الجمع- أيضًا- في الصورة المتقدمة التي منعناها بلا كراهة- أيضًا- وهو باطل بالاتفاق، بل الجواب الصحيح: أن الوقت المذكور يسع الصلاتين بزيادة، خصوصًا إذا كانت الشرائط عند الوقت مجتمعة، فإن فرضنا ضيقه عنهما، لأجل اشتغاله بالأسباب- امتنع الجمع، لفوات شرطه: وهو وقوع الصلاتين في وقت إحداهما، كما يمتنع الجمع في غير المغرب- أيضًا- عند فوات هذا الشرط، وقد أورد نظير هذا في آخر صلاة المسافر على وجه أضعف مما ذكرناه هاهنا، فراجعه. قوله: وقد اختاره- أي: اتساع وقت المغرب- ابن المنذر والزبيري وابن خزيمة والخطابي والبيهقي والغزالي في ((الإحياء)) والبغوي في ((التهذيب)). وقال النووي وغيرهم: وهو الصواب. وقال الرافعي: إن به الفتوى. وكذا قال الروياني: به أفتى انتهى كلامه. وهذا النقل الذي نقله عن الرافعي ليس الأمر فيه كذلك، فإن الرافعي إنما نقله عن طائفة معينة فقال: واختار طائفة من الأصحاب القول الأول ورجحوه، وعندهم أن المسألة مما يفتى فيها على القديم. هذه عبارته. قوله: وقد ذهب الشافعي وأصحابه إلى أن صلاة الصبح هي الوسطى، لأن الله تعالى قد بين فضلها في آية أخرى فقال: {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]. قال المفسرون: تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأنها بين صلاتين ليلتين وصلاتين نهاريتين وصلاتين تجمعان وتقصران، وهي لا تقصر ولا تجمع. ثم قال في آخر الكلام: إنها العشاء، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتين يجهر فيهما وصلاتين لا تقصران. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما استدل به من شهود ملائكة الليل والنهار فيها فإنه بعينه ثابت في العصر، كما دل عليه الحديث الصحيح المعروف: ((كيف تركتم عبادي؟ قالوا تركناهم يصلون وجئناهم يصلون)). الثاني: أن ما استدل به للعشاء من كونها بين صلاتي ليل غير مستقيم، فإن صلاة الصبح من صلوات النهار، وقد ذكره هو قبل ذلك كذلك. الثالث: أن تفسير ((الوسطى)) بمعنى: المتوسط بين شيئين أو أشياء، فاسدٌ، كما نبه

عليه شيخنا أبو حيان في ((تفسيره))، لأن ((وسطى)) تأنيث ((أوسط)) بمعنى ((الأفضل)) أو ((الأعدل)) ونحوه، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28]، أي: أعدلهم. نعم، ((الوسط)) معناه: ((المتوسط))، ولكن مؤنثه: ((المتوسطة))، لا ((الوسطى)). قوله: وإذا أخر الإحرام إلى أن بقي مقدار لا يسع الفرض حرم إن جعلنا الصلاة قضاء، وإن جعلناها أداء جاز عند العراقيين، واختار الإمام المنع، وجزم به في ((التهذيب)). انتهى. وما حكاه عن الإمام صحيح مذكور في هذا الباب، لكنه قد خالف ذلك في باب المستحاضة، فجزم بالجواز، فقال: الثانية: إذا وقع بعض الصلاة في الوقت وبعضه خارجه فالصلاة مقضية أو مؤداة؟ فيه خلاف: فإن قلنا: مؤداة، فيجوز في حال الاختيار تأخير الصلاة إلى هذا الحد، حتى لو لم يقع في الوقت إلا مقدار تكبيرة جاز، وكانت الصلاة مؤداة. هذا لفظه. قوله: فرع آخر: يجوز أن يعتمد على صياح الديك المجرب إصابته، كما قاله القاضي الحسين في ((تعليقه))، وتبعه في ((التتمة))، وعن ((فتاويه)) حكاية وجهين فيه. انتهى كلامه. وما نقله عن ((فتاوى)) القاضي من حكاية خلاف ليس كذلك، فإن الذي فيها إنما هو الجزم بالاعتماد. قوله: والأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((أول الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والوقت الأخير عفو الله)). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب ... وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((الصلاة لوقتها))، وفي رواية: ((الصلاة لأول وقتها)). متفق عليه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله هنا عن الترمذي غلط منه عليه، فإن الترمذي لم يتكلم على الحديث بالكلية، بل رواه ولم يتعقبه بشيء. وقال البيهقي: روي من طرق كلها ضعيفة. وقال ابن القطان: إن فيه يعقوب بن الوليد المدني وهو كذاب. الثاني: أن زيادة لفظ ((أول)) في صدر الحديث ليست في ((الترمذي))، ولا معنى لها أيضًا.

الثالث: أن هذا الاتفاق الذي ذكره في آخر كلامه محله الصلاة لوقتها، وأما الرواية التي هي موضع الحاجة، وذكر الاتفاق عقبها- فليست في ((الصحيحين)) ولا في أحدهما، بل ذكر النووي في ((الخلاصة)) أنها ضعيفة، إلا أن الأمر على خلاف ما ذكر النووي، سببه: ذهول من طريق إلى طريق، فإن الرواية المذكورة صحيحة رواها ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما))، وقال الحاكم، والبيهقي في ((الخلافيات)): إنها على شرط الشيخين. وأما الحديث الأول الذي نقل عن الترمذي تحسينه فضعيف. قوله: وقد أفهم قول الشيخ: إلا الظهر في الحر لمن يمضي إلى جماعة، فإنه يبرد بها- أمورًا. ثم قال: الثاني: أنه لا فرق في ذلك بين البلاد الحارة والمتوسطة والباردة، وهو وجه حكاه الماوردي، والإمام حكاه عن شيخه في البلاد المعتدلة. انتهى كلامه. وما حكاه عن الماوردي من استحباب الإبراد في البلاد الباردة على وجه، ليس كذلك، فإن الذي حكاه عن بعضهم إنمنا هو اطراده في كل بلد شديد الحر، فقال: والثاني: أن ذلك وارد في كل البلاد إذا كان الحر فيها شديدًا. هذه عبارته، فذهل عن آخر الكلام. قوله: وذكر الغزالي والقاضي وغيرهما أن الذي يبرد يؤخر إلى أن يصير للحيطان ظل يمشي فيه. ثم قال: والشيخ أبو علي في ((شرح التلخيص)) حده بأن يحصل ذلك ولا تخرج الصلاة بسبب ذلك عن نصف الوقت. قلت: وهذا يظهر أن يكون تفريعًا منه على أن وقت الفضيلة لا يمتد إلى نصف الوقت، إذ لو كان كذلك لم يكن الإبراد مستثنى. انتهى كلامه. وهذا البحث الذي ذكره بحث فاسد، فإن التأخير إلى هذا الوقت في الإبراد مطلوب، وإذا قلنا بأن وقت الفضيلة يمتد إلى هذا الوقت لا نقول باستحباب التأخير إليه، بل التقديم مستحب بلا خلاف، فيصح ممن قال بأن الإبراد إلى نصف الوقت أن يقول بأن وقت الفضيلة يمتد إلى نصفه أيضًا. ووجه استثناء الإبراد: أن التأخير إلى هذا الوقت فيه- أي في الإبراد- مطلوب، بخلاف غيره، وهذا واضح جلي. قوله: وإن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض أو نفساء، أو أفاق مجنون أو مغمى عليه، قبل طلوع الشمس بركعة- لزمهم الصبح، وإن كان بدون ركعة ففيه قولان.

ثم قال: ثم المعتبر من الركعة ماذا؟ المشهور: أنها المشتملة على أقل ما يجزئ، وهل يشترط فيها زمن الرفع من الركوع والسجود كما هو في إدراك الجمعة، أو يكتفي بإدراك القيام والقراءة والركوع فقط ما في إدراك المسبوق الركعة؟ هذا لم أر للأصحاب تصريحًا به، والقياس على الجمعة يقتضي إلحاق ما نحن فيه بها، وكلام الإمام الآتي يقتضى خلافه. وعن الشيخ أبي محمد أن المعتبر ركعة من العقد والهوي من غير قيام وقراءة، نظرًا إلى ركعة المسبوق. انتهى كلامه. وما ذكره من احتمال الاكتفاء بإدراك القيام والقراءة والركوع دون ما بعده، وقياس ذلك على إدراك المسبوق الركعة- كلام عجيب، فإنه صريح في أن هذه الثلاثة وحدها كافية في إدراك المسبوق الركعة دون الإتيان بما بعدها من الرفع والسجود، وهذا واضح البطلان، فإنه لابد في إدراكه مما بعد هذه الثلاث، وأما هذه الثلاث فلا تشترط، بل الشرط فيها هو الركوع فقط، وأما القيام والقراءة فلا، ولهذا قاس الشيخ أبو محمد مقالته على ركعة المسبوق، فالتردد الصحيح إما هو بين الركعة الكاملة وبين مقالة الشيخ أبي محمد. قوله: وإن كان ذلك- أي: زوال العذر- قبل الغروب لزمهم الظهر بالمقدار الذي يجب به العصر، وفي قولٍ: لابد من زيادة أربع ركعات، ليتصور الفراغ من واحدة والشروع في أخرى، وتلك الأربع في مقابلة الأولى، وقال أبو إسحاق في مقابلة صاحبة الوقت. ويبنى على ذلك ما إذا زال العذر في آخر وقت العشاء، فإن جعلنا الأربع هناك في مقابلة الثانية فلابد منها- أيضًا- هاهنا، وإن جعلناها في مقابلة الأولى اكتفينا هنا بثلاث لأجل المغرب. وقد حكي عن صاحب ((الإفصاح)): أنه يلزمه الظهر والعصر بإدراك مقدار أربع ركعات من وقت العصر، والمغرب والعشاء بمقدار ثلاث ركعات، وقياس ما سبق عن الشيخ أبي محمد من تعلق الإدراك بركعة المسبوق: أن نعتبر ركعتين فقط وإن كان مقيمًا، اعتبارًا بصلاة المسافر، وحينئذ فنعتبر على هذا القول ثلاثًا إن قلنا بالخمس، وركعتين وتكبيرة إن قلنا بالأربع مع التكبيرة، وركعتين فقط إن قلنا بالأربع فقط. ثم قال: وإذا تأملت ما ذكرناه من قول ووجهن وولدته، وأردت أن تعرف ما قيل فيما تدرك به الصلاة عند زوال المانع في آخر وقتها من قول ووجه- قلت: في الصبح ثمان مقالات: تدرك بمقدار بعض تكبيرة بذلك ومقدار طهارة بتكبيرة، بذلك

وطهارة ركعة مسبوق، بذلك وطهارة ركعة تشتمل على أقل ما يجزئ، بذلك وطهارة، وفي الظهر هذا الخلاف إذا زال المانع في آخر وقته، وإن زال في آخر وقت العصر، ففيما تدرك به العصر هذا الخلاف، وفيه مع الظهر عشرون قولًا ووجهًا: الثمانية السالفة. والتاسع: بإدراك ركعتين فقط، تركيبًا من طريقة الصيدلاني وصاحب ((الإفصاح)) كما سلف. والعاشر: بذلك وقدر طهارة. والحادي عشر: بإدراك أربع ركعات. والثاني عشر: بذلك وطهارة. والثالث عشر: بإدراك أربع ركعات وبعض تكبيرة. والرابع عشر: بذلك وطهارة. والخامس عشر: بإدراك أربع ركعات وتكبيرة. والسادس عشر: بذلك وطهارة. والسابع عشر: بإدراك خمس ركعات إحداها ركعة مسبوق. والثامن عشر: بذلك وطهارة. والتاسع عشر: بإدراك خمس ركعات مشتملة على أقل ما يجزئ. والعشرون: بذلك وطهارة. انتهى كلامه. واعلم أن ما ذكره من كونه يتحصل في الظهر والعصر عشرون، ليس كذلك، بل يتحصل مما حكاه ثمانية وعشرون قولًا ووجهًا، وهي الثمانية المذكورة في الصلاة الواحدة، وكل منها- أي من الثمانية- مع أربع ركعات في قول صارت ستة عشر، وكل من الثمانية- أيضًا- مع ركعتين، وهو الذي مال إليه الإمام، اعتبارًا بصلاة المسافر- صارت أربعة وعشرين، ويجيء مما نقله عن ((الإفصاح)) مع ما مال إليه الإمام أربعة أخر: أحدها: ركعتان فقط، ثانيها: ركعتان وطهارة. ثالثها: بأربع ركعات فقط، رابعها: بذلك وطهارة. والحاصل أن التاسع في كلامه- وهو الركعتان فقط، تركيبًا من طريقة الصيدلاني وصاحب ((الإفصاح)) - يجيء منه عشرة أقوال، أهمل منها ثمانية وهي: بعض التكبيرة، والتكبيرة الكاملة، وركعة مسبوق، والركعة الكاملة، كل من هذه الأربعة مع الطهارة ودونها. قوله: وفي المغرب وحدها ما سلف في الصبح وحده إن زال العذر في وقتها،

وإن زال في وقت العشاء ففيما تدرك به العشاء ما سلف فيما يدرك به العصر وحده، وفيها مع المغرب- على طريقة الشيخ- ما سلف في الظهر مع العصر، وعلى الطريقة المشهورة اثنتا عشرة مقالة: يدركهما بثلاث ركعات، بذلك وزمن طهارة, بثلاث ركعات وبعض تكبيرة، بذلك وطهارة بثلاثة ركعات وتكبيرة، بذلك وطهارة بأربع ركعات إحداها ركعة مسبوق، بذلك وطهارة بأربع ركعات متساوية، بذلك وطهارة، وبهذه يحصل فيما يدرك به المغرب والعشاء اثنان وثلاثون قولًا ووجهًا. انتهى كلامه. وما ذكره في المغرب مع العشاء من أنه يأتي فيها على الطريقة المشهورة اثنا عشر قولًا، سهو، فإنه إنما يأتي فيها عشرة أقوال، خاصة وقد عدها هو كذلك، فتأمل ما ذكره. ثم إنه بنى على هذا السهو الذي وقع فجعل الجملة اثنين وثلاثين، وإنما هي- بمقتضى ما ذكره ثلاثون فقط. ثم إنه في المغرب والعشاء يزداد على اثنين وثلاثين- بسبب قول صاحب ((الإفصاح)) - وجهان وهما: ثلاث ركعات بطهارة، وثلاث بلا طهارة. وإن ركبته مع قول أبي إسحاق واحتمال الإمام زادت أربعة أخرى وهي: أربع ركعات بطهارة، وأربع بغير طهارة، وركعتان بطهارة، وركعتان بدونها. لكن اعتبار الركعتين في المغرب والعشاء لا وجه له. واعلم أن هذا النقل الذي ذكره عن صاحب ((الإفصاح)) في المسألة السابقة، ثم فرع عليه هنا وهناك ما فرع- ليس بنقل صحيح، بل المذكور فيه اعتبار أربع ركعات في المغرب والعشاء كما في الظهر والعصر، والحاصل اعتبار مقدار الثانية فقط. ثم إنه حكاه قولًا، ولم يرتضه، ولم يرده، فإنه حكى قولين، فذكر الأول. ثم قال: والثاني: أنه لا يكون مدركًا بأربع ركعات، فإذا أدرك أربع ركعات فقد كملت بنفسها، فجاز أن تكون الأخرى تابعة لها فأما أن يكون مدركًا للثانية- وهي لم تكمل بنفسها بالإدراك- فلا معنى له. هذا لفظه، ومن ((الإفصاح)) نقلت، ولم يذكر غير ذلك مما يتعلق بما نحن فيه، وما ذكره حكمًا وتعليلًا هو عين ما ذكرته لك، وكأن هذا الناقل الذي نقل عنه المصنف قد اغتر بقوله: للثانية. وقد استغربت لفظه قبل هذا فوجدته يريد بـ ((الثانية)) غير صاحبة الوقت، ولا يستقيم هنا غير ذلك.

باب الأذان

باب الأذان قوله: وحكى القاضي أبو الطيب والمروازة وجهًا: أن الإمامة أفضل منه، وقال القاضي أبو الطيب والغزالي: إنه الصحيح. وكذا الرافعي، ورجحه الروياني- أيضًا- وحكاه عن نص الشافعي في كتاب الإمامة، وعلله بأن الإمامة أشق. انتهى كلامه. وما نقله هنا عن الروياني ليس كذلك، فإن الذي رجحه الروياني في ((البحر))، وحكاه عن نص الشافعي في كتاب الإمامة- هو وجه آخر ذكره المصنف بعد هذا، وهو أنه إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة فهي أفضل، وإلا فالأذان، وأما ترجيح الإمامة مطلقًا فإنه لم يختره، بل قال: ومن أصحابنا ... إلى آخره. قوله: وقد نص الشافعي في ((الأم)) على كراهة الإمامة فقال: أحب الأذان، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غفر الله للمؤذنين))، وأكره الإمامة، للضمان وما على الإمام فيها. انتهى كلامه. وما نقله هنا عن الشافعي قلد في نقله النووي كما دل عليه كلامه قبل هذا، والنووي قلد فيه جماعة، وليس هذا النقل على وجهه، بل له تتمة دالة على خلاف ما يدل عليه هذا اللفظ لم يذكرها المصنف ولا الذين قلدهم في نقله، فإن الشافعي قد قال عقب هذا الكلام المنقول عنه من غير فصل ما نصله: وإذا انبغى أن يتقي ويؤدي ما عليه في الإمامة، فإن فعل رجوت أن يكون أحسن حالًا من غيره. هذا لفظه، وهو يدل على عدم كراهة الإمامة في هذه الحالة، بل على استحبابها. وقد نقل هذا النص على الصواب جماعة منهم صاحب ((الشامل)). ثم قال بعد نقله: وهذا يدل على أنه إذا كان يقوم بحقوق الإمامة وما يجب فيها كانت أفضل. وكذلك قال في ((البحر)): فيما ذكروه من لفظ الشافعي خلل، ولم يذكروا تمام الكلام، فإنه قال كذا وكذا ... ثم ذكر ما أسلفته. قوله: والإقامة إحدى عشرة كلمة معروفة. ثم قال: ووراءه أقوال عزيت إلى القديم: أحدها: أنها عشر كلمات، وذلك بألا يكرر لفظ الإقامة، والثاني: تسع كلمات، ما ذكرناه قبله غير أنه لا يكرر لفظ التكبير

في آخرها، ليكون قد رد الإقامة إلى شطر الأذان، والثالث: ثمان كلمات، ما ذكرناه غير أنه لا يكرر التكبير في الأول- أيضًا- وفي قولٍ اختاره ابن خزيمة من أصحابنا: أنه إن رجع في الأذان ثني الإقامة- أي: جميع ألفاظها- وإلا أفرادها. انتهى كلامه. وتعبيره في آخره بقوله: وإلا أفردها، مقتضاه: إفراد الجميع، وهو مقتضى كلام الرافعي و ((الروضة))، وليس كذلك، بل يثني في هذه الحالة لفظ التكبير في الأول والأخير، ولفظ الإقامة- أيضًا- فيجعلها أحد عشر، كذا نبه عليه في ((شرح المهذب)). قوله: وقد ذكرنا أنه يجوز الأذان لكل صلاة ما دام وقت اختيارها باقيًا. انتهى. وما اقتضاه كلامه من عدم الجواز بعد ذلك عجيب مخالف لكلامهم، وكأنهم عبروا بالمشروعية اختيارًا، فتوهم المنع بعده. قوله: ويستحب أن يرتل الأذان ويدرج الإقامة، لما روى أبو داود عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا بلال، إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر))، وروي: ((وإذا أقمت فاحذم)). قال أبو عبيد: الرواية بالحاء. ويكره البغي وهو التطريب، وقيل: أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار. انتهى. يقال: حدر، إذا أسرع، وكذلك: حذم، بالحاء والذال المعجمة والميم في آخره. والبغي: بباء موحدة مفتوحة بعدها غين معجمة ساكنة، وهي تطلق على المعاني المعروفة كالفساد والتكبر ونحوهما، وتطلق على ما ذكره المصنف. قال الأزهري: البغي: هو أن يكون في رفع صوته يحكي كلام الجبابرة والمتكبرين. وقال صاحب ((الحاوي)): البغي: تفخيم الكلام والتشادق فيه. قوله: وعن ((البحر)): أنه يحرم الأذان على الجنب وإن كان يصح، والمذكور في ((تلخيص)) الروياني وغيره اختصاص ذلك بما إذا كان الأذان في المسجد. انتهى كلامه. والنقل المذكور عن ((البحر)) غلط، بل الذي فيه- أيضًا- إنما هو تقييده بالمسجد على وفق ما نقله المصنف عن ((التخليص)). قوله: وقول الشيخ: ويستحب أن يؤذن على طهارة، يفهم كراهة أذان المتيمم، وإن استباح بتيممه الصلاة، لأنه على غير طهر عند الشافعي، ولا شك في أنه كالمتطهر بالماء. انتهى كلامه. وما ادعاه من كون التيمم ليس بطهارة، وأن الشافعي قد قاله عجيب، بل الذي

نص عليه الشافعي، وكذا الأصحاب غير الإمام: أنه طهارة، وجاء به الحديث الصحيح كما سبق إيضاحه في أوائل الكتاب. ولاشك أنه التبس عليه، فتوهم من كونه لا يرفع الحدث أنه ليس بطهارة، ثم إنه لا يلزم من كون الشيء مستحبًا أن يكون تركه مكروهًا. قوله: وأن يؤذن على موضع عال، لأنه قد روي أن الذي رآه عبد الله بن زيد حين أذن طلع على جذم حائط أو على نشزٍ من الأرض. انتهى. الجذم- بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة-: هو الأصل، والنشز- بفتح الشين-: هو المرتفع، قال تعالى: {فَانشُزُوا} [المجادلة:11] أي: ارتفعوا. وهذا الحديث رواه البيهقي بإسناد صحيح، إلا أنه لم يذكر ((النشر)). قوله: ويستحب أن الذي يقيم هو الذي أذن، فإن أذن جماعة فالأول هو المستحق إن كان راتبًا، فإن لم يكن لم يستحق التقديم في أصح الوجهين في ((الوسيط)). ثم قال: وحيث قلنا: يستحق شخص التقدم في الإقامة، فأقام غيره، أو أقام من لم يؤذن- ففي الاعتداد بإقامته وجهان حكاهما المسعودي: المشهور منهما- وهو الذي أورده-: الاعتداد، ومقابله: أنه لا يعتد به، تخريجًا من قولنا: إنه لا يجوز أن يخطب واحد يوم الجمعة ويصلي غيره. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الأول- أيضًا- أولى إذا كانا معًا غير راتبين كما قاله الرافعي وغيره، وكلام المصنف أولًا وآخرًا يدفعه. الأمر الثاني: أن هذا الخلاف الذي حكاه تخريجًا مما إذا خطب واحد وأم آخر إنما يستقيم في المسألة الثانية، وهو ما إذا أقام غير من لم يؤذن، فأما في المسألة الأولى، وهو ما إذا أذنا وقلنا باستحقاق واحد، فأقام غيره- فلا. وقد صرح بالخلاف كما ذكرته صاحب ((البيان)) وصاحب ((التتمة)) وغيرهما. وتعبيره بقوله: الاعتداد، بعد التعبير بقوله: أورده- وقع هكذا في النسخ، أي: بإسقاط الفاعل وهو المورد. تنبيه: وقع هنا ذكر الصدائي، وهو منسوب إلى ((صداء))، بضم الصاد وتخفيف الدال المهملتين وبالمد، يصرف ولا يصرف، وهو حي من اليمن. قوله: ثم ظاهر كلام الشيخ: أنه يلتفت في الحيعلة في الأذان والإقامة، وهو المشهور، وعليه العمل، وحكى الإمام أن بعض المصنفين ذكر مرة أن الالتفات غير

محبوب في الإقامة، قال: وهو غير صحيح، وفي ((التتمة)) و ((الرافعي)): أنه إن كان الجمع كثيرًا التفت يمينًا وشمالًا فيها، وإلا فلا. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الرافعي ليس بصحيح، بل حاصل ما ذكره الجزم بالاستحباب فيما إذا كثروا، وتصحيحه- أيضًا- عند عدم الكثرة، فراجعه. وأما ((التتمة)) ففيها التفصيل الذي ذكره المصنف، إلا أنه لم يعبر بكثرة الجمع، بل بكبر المسجد. قوله: ويستحب أن يجعل المؤذن إصبعيه في صماخي أذنيه، لما روى البخاري ومسلم عن أبي جحيفة قال: رايت بلالًا يؤذن ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه)). انتهى كلامه. وهذه الزيادة التي ساق الحديث لأجلها- وهي جعل الإصبعين في الصماخين- لم يخرجها البخاري ومسلم: فأما مسلم فلم يذكرها بالكلية، وأما البخاري فإنه ذكر الحديث بدونها، ثم ذكرها بعد ذلك تعليقًا- أي: من غير رواية عن أحد- ولم يجزم بها- أيضًا- فقال: ويذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه. هذا لفظه. نعم، رواها الترمذي وصححهما، ولفظه: عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: رأيت بلالًا يؤذن، ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعيه في أذنيه ... إلى آخر الحديث. ثم قال الترمذي: إنه حسن صحيح. قوله: وقد أفهم كلام الشيخ أنه يقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، مرة واحدة أو أربع مرات، والمذكور في ((تلخيص)) الروياني أنه يقول ذلك مرتين: مرة عند قول المؤذن: حي على الصلاة، ومرة عند قوله: حي على الفلاح، لأنه ظاهر السنة. قال: ويحتمل خلاف ذلك. انتهى كلامه. وما ذكره عن الروياني في ((التخليص)) إن كان ثابتًا كما قاله فقد خالفه في ((الحلية))، فإنه نقل في المسألة وجهين، وصحح الأربع فقال: والاختيار: أن يقول في الأذان: لا حول ولا قولة إلا بالله، أربع مرات، وفي الإقامة مرتين في أصح الوجهين. هذا لفظه، وذكر في ((البحر)) عن بعضهم أنه يقول مرتين، ولم يصرح برده ولا باختياره. قوله: وتقيم المرأة ولا تؤذن، أي: لا يستحب لها الأذان، فلو خالفت وأذنت كره، كذا قاله في ((المهذب)) والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ في إمامة المرأة، وقال ابن

الصباغ هنا: إن الشافعي قال: إنه لا يكون مكروهًا. وقال في رواية البويطي: يكون محمودًا. انتهى. واعلم أن الذي قاله الشافعي من عدم الكراهة إنما قاله عند عدم الرفع، وممن نقله عنه هكذا [النووي] في ((شرح المهذب))، والذي قاله الشيخ في ((المهذب)) إنما فرضه عند الرفع، فإنه قال: ويكره للمرأة أن تؤذن، لأنها في الأذان ترفع الصوت. هذه عبارته قوله: في الحديث: بـ ((هوى من الليل)). الهوي: القطعة، وهو بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء، وضم الهاء لغة. قوله: ولو كان الجمع في وقت الثانية، وبدأ بالثانية- أذن لها وأقام، ثم أقام للأولي ولم يؤذن، وقال الماوردي: يؤذن للثانية، وهل يؤذن للأولى؟ فيه ثلاث أقوال، لأنه قد أبطل الجمع بتقديمها فصارت كالفائتة. قال الإمام: ولا يعهد أن يوالي بين أذانين إلا في صورة واحدة على خلاف فيها، وهي ما إذا قضى فائتة قبل الوقت، فأذن لها على القول باستحبابه، فلما فرغ منها دخل الوقت، فأراد أن يصلي الحاضرة- فإنه يؤذن لها. قلت: وعلى طريقة الماودري لا ينحصر في ذلك. انتهى كلامه. قد أهمل المصنف مسألة متفقًا عليها ذكرها في ((الروضة))، وهي إذا أخر المؤداة إلى آخر وقتها، فدخل الفرض الآخر عقب فعلها، فإنه يؤذن لهما قطعًا.

باب ستر العورة

باب ستر العورة قوله: فإن قيل: الستر لا يختص وجوبه بالصلاة، فوجب ألا يكون شرطًا فيها كالنظر إلى المحرمات- فجوابه: أنا لا نسلم أنه لا يختص بالصلاة: أما على قولنا: إنه لا يجب في الخلوة، فظاهر، وأما على قولنا: إنه يجب في الخلوة، فهو يجوز في حال دخول الخلاء وحلق العانة ونحو ذلك، وبه يظهر أنه يختص بالصلاة. انتهى كلامه. وهذا البحث الذي ذكره عجيب: فأما دعواه أن اختصاصها بالصلاة واضح إذا لم نوجب الستر في الخلوة فذهول عن وجوب الستر بين الناس، وأما دعواه الاختصاص- أيضًا- مع القول بإيجاب ذلك، فأغرب، فإن الوجوب كما هو ثابت في حال الصلاة فهو ثابت- أيضًا- في الخلوة عند عدم الحاجة وبين الناس مطلقًا، فأين الاختصاص؟! قوله: ويكفي المتخذ من الجلود والرقوق والخرق والورق المصنوع والمخلوف والليف، وما لا يلبس أصلًا كالماء الكدر والطين والتراب والدنان الضيقة الرأس والحفرة في الأرض، لأن ذلك يستر البشرة، وهو كذلك عند الأصحاب إلا الماوردي، فإنه قال: إذا قلنا بوجوب الستر في الخلوة، فهل يجوز أن ينزل في ماء النهر والعين بغير مئزر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم، لأن الماء يقوم مقام التراب في ستر عورته. والثاني: لا، لما روي أنه- عليه الصلاة والسلام- نهى أن ينزل بغير مئزر، وقال ((إن للماء لسكانا)). وتعليل الوجه الأول يؤذن بأن محل الخلاف إذا كان الماء كدرًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من اتفاق الأصحاب على ذلك، وأنه لم يخالف إلا الماوردي في الماء الكدر- عجيب، فقد ذرك الروياني في ((البحر)) وجهين- أيضًا- وكذلك الشاشي في ((الحلية))، وزاد على ذلك فصحح بطلان الصلاة. ونقل في ((البحر)) - أيضًا- عن ابن أبي أحمد- يعني ابن القاص- أن الماء لا يكفي ولو كان

ساترًا للبشرة، ذكره في شروط الصلاة، ونقل الرافعي عن القفال أنه لا يكفي، وهو أجل من الماوردي وأقدم منه. ثم إن المصنف قد نقل بعد هذا بنحو ورقة عن القاضي الحسين حكاية وجهين فيه وفي الطين- أيضًا- وهذا يدل على قدم الخلاف. الأمر الثاني: أن كلام الماوردي صريح في أن الممتنع إنما هو النزول في النهر ونحوه لأجل سكانه، وليس فيه تعرض للماء من حيث هو، كمن أخذ ماء وجعله في إجانة وفسقية ونحوهما. و ((المصنوع)) في كلام المصنف هو بالصاد المهملة والنون، وأشار به إلى الورق الذي يكتب فيه، وأشار بـ ((المخلوق)) إلى ورق الشجر. قوله: تنبيه: قول الشيخ: وهو شرط في صحة الصلاة، يفهم أنه شرط مطلق، وقوله من بعد: فإن لم يجد صلى عريانًا، ولا إعادة عليه- يدل على أنه شرط عند القدرة، أما مع العدم فلا. نعم، إذا قلنا: يصلي عاريًا ويعيد، كان شرطًا مطلقًا. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من دعوى الشرطية على القول بوجوب الإعادة غلط، فإن القول بوجوب الإعادة لا يخرجها عن كونها صحيحة، فكيف تكون السترة في هذه الحالة شرطًا في الصحة؟! قوله: وقد اختار هذا ابن بنت أبي أحمد، أي: ابن القاص. انتهى. اعلم أن لفظ ((البنت)) هنا غلط، فإن المذكور اسمه أحمد، ويكنى أبوه به، فيقال له: ابن أبي أحمد، كذا ذكره الأصحاب، وأوضحته في كتاب ((الطبقات)). قوله: وروي: أن جابرًا صلى في داره ورداؤه على المشجب. اعلم أن ((المشجب)) - بميم مكسورة وشين معجمة ساكنة، بعدها جيم مفتوحة ثم باء موحدة- هو الخشبة التي تعلق عليها الثياب، قال الجوهري. قوله: وأورد بعضهم على الشيخ سؤالًا، وأجاب عنه فقال: قوله: إن المستحب أن يصلى الرجل في ثوبين قميص ورداء، يفهم أن الثوبين ليس بشرط، فأي فائدة لقوله بعد ذلك: فإن اقتصر على ستر العورة جاز؟! وأجاب بقوله ... إلى آخر ما ذكره وما ادعاه من الإفهام عجيب لا أدري ما سببه، ونتبرع فنقول: بينهما واسطة، ولهذا أن الإمام أحمد لا يوجب الثوبين، ولا يجوز الاقتصار على سائر العورة، بل يوجب وضع شيء على العاتق ولو حبلًا. قوله: فإن وجد ما يكفي إحدى السوئتين ستر القبل، وقيل: الدبر، وعلى هذا: الخنثى المشكل يتخير، وفي المسألة وجه ثالث: أنه يتخير بين القبل والدبر.

ثم قال: وقيل: إن ستر القبل في حق الرجل أولى، والدبر في المرأة أولى، حكاه القاضي وصاحب ((الروضة)). انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن المذكور في ((الروضة)) إنما هو عكس هذا الوجه، وقد صرح به هكذا القاضي الحسين في كتاب التيمم، فقال: إن كان الواجد امرأة سترت القبل، وإن كان رجلًا ستر به الدبر، لأن دبر الرجل وفرج المرأة أكبر في الغلظ في أعين الناظرين من الفرج الآخر. هذا كلامه، وذكر مثله- أيضًا- في أثناء شروط الصلاة، ثم إنه أيضًا اختاره. الأمر الثاني: أن ما ذكره في الخنثى يقتضي أنه يتخير بين القبل والدبر، تفريعًا على أنه يتعين الدبر في حق غيره، وهذا ظاهر الفساد، بل الصواب تفريعه على الأول، وحينئذ ينحصر التخيير في القبلين، وهكذا ذكره الرافعي، وجعل محل التخيير إذا لم يجد إلا ساتر أحد القبلين خاصة، فإن وجد ما يسترهما تعين عليه ذلك، وهو واضح، وقد القول فيه في الكتاب المسمى ((إيضاح المشكل من أحكام الخنثى المشكل)) قوله: وأطلق أبو مجالد البصري، وهو من متأخري الأصحاب ... إلى أخره. صوابه: أبو مخلد، بسكون الخاء المعجمة وفتح اللام.

باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة

باب طهارة البدن والثوب وموضع الصلاة قوله: وإن أصاب أسفل الخف نجاسة، فمسحه على الأرض بحيث أزال عين النجاسة، وصلى- ففيه قولان، الجديد: أنه لا يجزئه. ثم قال: وقد أفهم كلام الشيخ أمورًا، أحدها: أن الخف لا يطهر على القول الأول، والأصحاب مطبقون عليه، وهو نظير قوله: إن المحل بعد الاستنجاء بالحجر نجس وإن جازت الصلاة قبل غسله. انتهى كلامه بحروفه. ودعواه إطباق الأصحاب على عدم الطهارة باطلة، فقد رأيت للجرجاني في كتابه المسمى بـ ((الشافي)) فيه خلافًا فقال: فصل: ومنها: النجاسة تصيب أسفل الخف ولا يجب غسلها بالماء، لما فيه من لحوق المشقة وعموم البلوي، ولكنه يدلكها بالأرض، فإذا أزال عينها طهر على أحد القولين، للحاجة، وقيل: لا يطهر بالدلك قولًا واحدًا، ولكنه يعفى عن أثرها بعد الدلك على أحد القولين، للحاجة، وهو الأصح، ولا يعفى عنه على القول الآخر حتى يغسل بالماء كالثوب النجس. هذا لفظه بحروفه. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن صلى وفي ثوبه دم البراغيث، أو اليسير من سائر الدماء أو سلس البول أو دم الاستحاضة- جازت صلاته، لأن ذلك يتعذر الاحتراز منه. ثم قال: وقد أفهم كلام الشيخ أمورًا، أحدها: أن البدن ليس كالثوب في العفو عما ذكره، وهذا وإن أمكن توجيهه بما سنذكره عن القاضي في الفرق بين دم البراغيث وغيره، لكن المنقول: أن البدن في ذلك كالثوب إذا صادفه ذلك ابتداء. انتهى كلامه. وحاصله: أنه ليس في المذهب مقالة موافقة لما أفهمه كلام الشيخ من عدم العفو في البدن، وليس كذلك، فقد حكاه الجرجاني في ((التحرير)) وجهًا- أي: في الدم- وفرق بأن تكرر الغسل في الثوب يبليه، فعفي عنه فيه، بخلاف البدن. قوله: الثاني: أن دم القمل والبق والبعوض والزنابير، ونحو ذلك مما ليس له نفس

سائلة- لا يلتحق بدم البراغيث، وهي تلتحق به بلا شك، وكذا ونيم الذباب وبول الخفاش. انتهى. وما اقتضاه كلامه من نفي الخلاف في ونيم الذباب- وهو روثه- ليس كذلك، ففيه وجه: أنه لا يلتحق بدم البراغيث، حكاه النووي في ((التحقيق)) وغيره. قوله: الثالث: ما أفهمه كلام الشيخ أنه لا يلتحق بدم الاستحاضة دم القروح السيالة التي يدوم مثلها وتنزف الدماء، والتي لا تدوم. وفي الثاني خلاف حكاه الرافعي في أنه هل يلتحق بدم البراغيث فيعفى عن القليل منه، وفي الكثير وجهان، أو يلتحق بدم الأجنبي [كذا] فلا يعفى عنه مع الكثرة ومع القلة؟ وجهان. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: وفي الثاني خلاف، ظاهر في أن الرافعي لم يحكه في الأول، وهو الذي يدوم، وليس كذلك، وقد حكى الرافعي فيه وجهين أحدهما- وهو ما نقله عن قضية كلام الأكثرين، وصححه النووي-: أنه كالبثرات، والثاني: أنه كدم الاستحاضة، قال: وهو الأولى. قوله: ولا خلاف في العفو عن قليل دم البراغيث إلا إذا حصل ذلك بفعله، كما إذا قتل قملة أو برغوثًا ونحو ذلك، في ثوبه أو بدنه- ففي العفو عنه وجهان مشبهان بما إذا فتح الصائم فاه قصدًا غبار الطريق. ثم قال: ومثلهما جارٍ فيما لو صلى على ثوب فيه دم براغيث، أو لبس ثوبًا فيه دم براغيث. انتهى. وتعبيره بقوله: أو لبس، غير صحيح، فإن الثوب المعفو عنه الذي ذكره هو وغيره هو الثوب الملبوس بلا نزاع، وإنما صوابه أن يقول: أو حمل في كمه، فإن المتولي قد نقل المسألة هكذا، ونقلها عنه في ((شرح المهذب)) - أيضًا-: لأن البسط والحمل مستغنى عنه، ولهذا صحح النووي في ((التحقيق)) عدم العفو في المسألتين جميعًا. قوله: وقضية إطلاق الشيخ العفو عن القليل من دم الكلب والخنزير، وبعض المتأخرين استثناه وقال: إنه نص على استثنائه الأئمة، لما خص به من التغليظ. انتهى كلامه. وهو يشعر بأنه لم يقف على نقل في ذلك، والاستثناء المذكور قد رأيته مجزومًا به في كتاب ((المقصود)) للشيخ نصر المقدسي، وفي ((البيان)) للعمراني، ونقله النووي في ((شرح المهذب)) عن ((البيان))، وذكر مثله في ((التحقيق)) وقال: إنه لم ير لغير العمراني تصريحًا بموافقته ولا مخالفته.

قوله: الثالث: أن ((سلس البول)) و ((دم الاستحاضة))، معطوف على ((اليسير من سائر الدماء))، لأنه أقرب مذكور، وهو يفهم عدم العفو عما كثر من ذلك، وليس الأمر كما أفهمه كلامه في سلسل البول ودم الاستحاضة، بل العفو شامل للقليل منه والكثير، وحينئذ يتعين أن يكون معطوفًا على قوله: ((دم البراغيث)). انتهى كلامه. وما ذكره من كونه معطوفًا على ((اليسير)) ... إلى آخره، يقتضي عكس ما يحاوله من إفهام العفو عن القليل دون الكثير في سلسل البول والاستحاضة، ويصير دالًا على العفو مطلقًا- كما هو الصواب- ويظهر ذلك بما إذا قدرته في موضع ((اليسير))، لأن هذا هو شأن المعطوف، بل الصواب- على هذا التقدير الذي يريده- أن يقول: إنه معطوف على ((سائر)). وهو الذي ذكره النووي في ((لغات التنبيه)) جازمًا به فقال: ((وسلس البول)) و ((الاستحاضة)) مجروران عطفًا على ((سائر)). هذا كلامه، وهو غلط، لأن الحكم بخلافه، فيتعين عطفه على ((دم البراغيث))، لاسيما أنه واضح فصيح. قوله: قال الإمام: لأنه صح أنه- عليه الصلاة والسلام- نهى عن الصلاة في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريقة وبطن الوادي، والحمام، وظهر الكعبة، وأعطان الإبل. وقد أخرج هذا الخبر بمعناه الترمذي، ولكن في بعض رجاله مقال. انتهى. اعلم أن هذا الخبر المذكور قد اشتمل على ((بطن الوادي))، مع أنه لم يقع في رواية الترمذي، بل ولا يعرف عن غيره- أيضًا- والذي ذكره هو وغيره عوضًا عنه: ((المقبرة)). قوله: وإن اشتبه عليه ثوب طاهر وثوب نجس اجتهد، وصلى فيما غلب على ظنه طهارته، ولا يجب عليه عندنا إعادة الاجتهاد لصلاة أخرى، وقال القاضي الحسين والمتولي: إنه يجب عليه أن يعيد الاجتهاد ثانيًا، وهو الذي صححه الرافعي والنووي. انتهى. وهذا الكلام الذي نقله عن الرافعي والنووي غلط: أما الرافعي فلم يذكر المسألة في كتبه بالكلية، وأما النووي فذكرها في ((شرح المهذب)) و ((التحقيق))، وصحح عدم وجوب الإعادة، وعبر بـ ((الأصح))، ولم يذكر في غير ذلك ما يخالفه. قوله: اعلم أن المصنف قد ذكر في هذا الباب ألفاظًا: منها: في حديث البخاري عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع في قبل البيت ركعتين، وقال: ((هذه القبلة)). انتهى.

قبل بضم القاف والباء، ويجوز إسكان الباء، واختلفوا في معناه: فقيل: مقابلها، وقيل: ما استقبلك منها، أي: بوجهها، ويؤيده رواية ابن عمر في ((الصحيحين)) في هذا الحديث: ((فصلى ركعتين في وجه الكعبة)). ومنها: الكنيسة- بفتح الكاف وكسر النون المخففة وبالسين المهملة- هي الأعواد المرتفعة على المحمل، المعدة لأن يوضع عليها السترة التي تستر الراكب وتقي من الحر والبرد، يقال: كنس الظبي يكنس- كضرب يضرب- إذا دخل في كناسه، وهو موضعه من الشجر. ومنها: الصبي العرم: هو بعين مهملة مفتوحة وراء مكسورة، قال الجوهري: صبي عارم، أي: شرس الخلق، يعني سيء الأخلاق كثير الخلاف، ومراد الفقهاء: من لا تركن النفس إلى إخباره. ومنها: عتبة بن غزوان الصحابي باني البصرة، فأما ((عتبة)) فبعين مهملة مضمومة بعدها تاء مثناة ساكنة، وأما ((غزوان)) فبغين معجمة مفتوحة وزاي معجمة ساكنة. قوله: وقد اقتضى كلام الشيخ وجوب الاستقبال في أمور، منها: صلاة الجنازة في الحضر والسفر، لأنها فرض كفاية، وعليه نص في ((الأم))، ومنه يؤخذ أنه لا يجوز فعلها على الراحلة، إذ لو جاز لم يشترط فيها الاستقبال، وهو الصحيح، والغزالي وجهه بأن معظم أركانها القيام، ومقتضاه: أنه لو تمكن من القيام عليها أنه يجوز، وقد قال الإمام: الظاهر أنه يجوز، وإن قال في الفريضة: إنه لا يجوز مطلقًا. انتهى. واعلم أن المعروف في حكاية النص المذكور في الجنازة إنما هو في منع فعلها على الراحلة، كذا حكاه الرافعي وغيره في كتاب التيمم، وحكاه المصنف- أيضًا- هنالك كذلك، ثم علله الرافعي وغيره بما ذكره من كون معظم أركانها هو القيام، ثم استنبطوا من ذلك جواز فعلها عليها قائمًا إذا تمكن منه، وقياسه: تجويز المشي- أيضًا- إلى القبلة وإلى غير القبلة، وأما الذي ذكره من كون النص في الاستقبال حتى يلزم امتناع فعلها على الراحلة فعلى العكس، ويقتضى- أيضًا منع الأداء قائمًا، وليس كذلك. واعلم أنه قد وقع هنا في ((شرح المهذب)) تصحيح امتناع المشي، وفي ثبوت ما قاله نظر، والغالب أنه وهم، ويدل عليه أنه لما صححه قال: كما تقدم في التيمم. وليس له ذكر هناك. قوله: والمحكى عن نصه في ((الأم)): أنه لا يجوز فعل المنذورة على الراحلة

والأصحاب قالوا: هو جواب على أن النذر كواجب الشرع كما هو الصحيح، أما إذا قلنا: إنه كجائزه، فيجوز على الراحلة كما في النفل. ثم قال: وفي ((الرافعي)) حكاية وجه آخر: أنه إن أوجبها بالأرض لا يصليها على الراحلة، وإن أوجبها وهو راكب أجزأه فعلها على الدابة. انتهى. وحكاية هذا الوجه غلط، وعزوه إلى الرافعي غلط- أيضًا- فإن الرافعي إنما نقله عن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة، ولهذا قال: ولك أن تعلم المسألة بالحاء. فتوهم المصنف أنه الكرخي الشافعي، ذاهلًا عما قاله الرافعي بعده، فأثبته وجهًا. قوله: ومنها- أي: ومن الصلوات التي دل كلام الشيخ على أنه لا يجوز فعلها على الراحلة-: ركعتا الطواف، وذلك ظاهر إذا قلنا: إنهما فرض، أما إذا قلنا: إنهما: سنة، فقد قال الرافعي والمتولي والفوراني: إنه يجوز فعلهما على الراحلة. والذي رأيته لغيرهم: أنه لا يجوز- أيضًا- لفقد السير حال الإتيان بهما مع كونه في البلد، والأصحاب متفقون على أنه لا يجوز للمسافر وهو في البلد أن ينتقل على الدابة في حال سكونه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الذي ذكره في تقرير المنع من فقدان السير عجيب جدًا، فإن ركعتي الطواف لا يشترط فعلهما في مكة، بل يجوز فعلهما فيما شاء من الأمكنة أو الأزمنة، كما صرح به هو وغيره في كتاب الحج، فقول من قال: إنه لا يجوز وهو في البلد، صحيح، وذلك لفقدان السير، وقول الرافعي وغيره: إنه يجوز إذا كان مسافرًا، صحيح- أيضًا- فتخيله أن ذلك اختلاف، عجيب جدًا، وقد جزم في ((شرح المهذب)) بالجواز على القول بالنفلية مع اطلاعه وتتبعه للخلاف. الأمر الثاني: أن ما ادعاه من عدم الخلاف في حال السكون عجيب- أيضًا- فقد ذكر هو قبل ذلك بدون الورقة ما يخالفه فقال: أما إذا لم يكن المقيم سائرًا فقد افهم كلام بعضهم أنه لا يجوز بلا خلاف على مذهب الإصطخري، وكلام الإمام كالصريح في أنه لا يشترط على هذا المذهب أن يكون سائرًا، كما لا يشترط ذلك في المسح على الخف يومًا وليلة في الحضر، وإن كان الترخص بالمسح شرع، إعانة للسائر على مقاصده. قوله: قال بعضهم: إنما صحت صلاة الصف الطويل، لأنه لم يتعين الخارج منه عن السمت. وإلى هذا يميل كلام ابن الصباغ، لأنه قال- بعد حكاية صحة صلاة

الصف الطويل-: وهذا لعمري يكون مع تقوس الصف، فأما مع الاستواء فلا تمكن المحاذاة، وإنما طريقه الظن، وإذا لم يتعين المخطئ فلا يجب على أحد القضاء. قلت: وقول ابن الصباغ: وهذا لعمري يكون مع تقوس الصف، مؤذن بأن محل الكلام إذا كان بمكة، وإلا فلا معنى للتقوس. انتهى. وهذا الذي ذكره من أنه لا معنى للتقوس عجيب جدًا، وكلام ابن الصباغ على عمومه، فإن الصف الطويل الخارج عن مكة متى لم يتقوس، وإلا خرج بعضه عن المحاذاة قطعًا كما في مكة. قوله: وقد قال الأصحاب: إنه إذا كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل خلقي كالجبال والتلال جاز له الاجتهاد عند فقد المخبر- كما سنذكره- وإن كان الحائل طارئًا كالبناء فهل يلزمه طلب اليقين، أو يجوز له الاجتهاد كما لو كان الحائل خلقيًا؟ فيه وجهان، قال في ((المهذب)) و ((التتمة)): إن ظاهر المذهب منهما: الثاني. وهو المختار في ((التهذيب)) و ((المرشد))، وقال القاضي أبو الطيب: إنه أشبه بالصواب. وقال الغزالي: إنه بعيد. انتهى كلامه. وما حكاه عن القاضي أبي الطيب من جواز الاجتهاد لمن هو بمكة- سواء كان الحائل خلقيًا أو حادثًا- قد نقل عنه بعد ذلك بدون صفحة عكسه، فقال: وقال أبو الطيب: إن من كان بمكة ففرضه طلب اليقين، سواء كان الحائل أصليًا أو طارئًا، ومن كان خارجًا عنها: فإن كان مكيًا ففرضه- أيضًا- طلب اليقين كيف كان الحائل، وإن كان غريبًا: فإن كان الحائل أصليًا ففرضه الاجتهاد، وإن كان حادثًا ففيه الوجهان. هذه عبارته، وهو كما ذكرناه، أعني على عكس المتقدم، وقد راجعت كلام القاضي فوجدته موهمًا. قوله: ولو انهدم البيت- والعياذ بالله تعالى- ولم يبق من جدرانه شيء شاخص، فالواجب: أن يستقبل جميع العرصة، فلو وقف بوسط العرصة واستقبل باقيها لم يصح، وعن ابن سريج أنه يصح، وهو خلاف النص، قال الإمام: ولا شك أن تخريج ابن سريج يجري فيما لو صلى على ظهر الكعبة. وهذا منه دال على أن ابن سريج إنما نص على الجواز في العرصة، وكذا حكاه بعضهم، وصرح في ((التهذيب)) عنه بنفي الجواز على ظهر الكعبة، والفرق لائح، إذ لا شيء عند انهدامها يستقبل غير العرصة، فقام بعضها مقام كلها، كما قام بعض بناء البيت مقام كله، ومع بقائها لا يستقبل عرصتها، فلذلك امتنعت الصلاة على ظهرها من غير شاخص. انتهى كلامه.

وهذا النقل المذكور عن ((التهذيب)) غلط، ففي التهذيب عن ابن سريج: أنه يجوز، فقال ما نصه: ولو صلى على ظهر الكعبة لا يجوز، إلا أن يكون بين يديه شيء من بناء الكعبة مثل مؤخرة الرحل، وقال ابن سريج: يجوز وإن لم يكن بين يديه شيء من بناء البيت إذا وقف بحيث يمكنه السجود، وبه قال أبو حنيفة: كما لو صلى على أبي قبيس. هذا كلام البغوي، وهو صريح فيما قلناه، وقد نقله النووي في ((شرح المهذب)) على الصواب. نعم، وقع في بعض نسخ ((الرافعي)) ذلك، فقال: وصرح في ((التهذيب)) بنفي الجواز عنه. هذه عبارته، فتبعه عليها المصنف، فغلط، وفي بعضها: بنقل الجواز، وهذه هي الصواب، ولم يصرح البغوي بخلاف ابن سريج في الواقف في العرصة، فاعلمه، فإن النووي قد غلط في ((شرح المهذب)). قوله: واعلم أنا حيث جوزنا الصلاة في الكعبة فصلاة النفل فيها أفضل منها خارجها، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، فإن رجاها فخارجها أفضل، قاله في ((الروضة))، وفيه نظر، لأن من قاعدة الشافعي: أنه إذا دار الأمر بين إدراك فضيلة وبين بطلان العبادة على اعتقاد غيره كان ترك الفضيلة إذا حصلت العبادة مجمعًا عليها أولى، دليله مما ستعرفه في القصر ونحوه. انتهى كلامه. وهذا السؤال قد ذكره النووي لما ذكر هذا الحكم، وأجاب عنه فقال في ((شرح المهذب)): فالجواب: أنه إنما يستحب الخروج من خلاف محترم، وهو الخلاف في مسألة اجتهادية، أما إذا كان الخلاف مخالفًا لسنة صحيحة كما في هذه المسألة فلا حرمة له، ولا يستحب الخروج منه، لأن صاحبه لم تبلغه هذه السنة، وإن بلغته فهو محجوج بها. هذه عبارته. قوله: والغزالي مال إلى أنه لا يشترط فيمن يقلده العدالة، لأنه قال: قلد مكلفًا مسلمًا عارفًا بأدلة القبلة، وهو ما ادعى في ((التتمة)) أنه المذهب. وقول الغزالي: قلد مكلفًا مسلمًا، يدل على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة عنده، وفيه ما تقدم. انتهى كلامه. وما ذكره عن دلالة كلام الغزالي غلط، فإنه يدل على أنهم مخاطبون، لا على عكسه، فتأمله. قوله: وإن تقين الخطأ لزمه الإعادة في أصح القولين، لأن ما لا يسقط بالنسيان من شرائط الصلاة لا يسقط بالخطأ كالطهارة. ثم قال: والفرق بينه وبين الطهارة من الحدث والخبث: أنها أغلظ، بدليل أنه لو

توضأ بالإناءين، أو صلى في الثوبين اللذين وقع الاشتباه فيهما صلاتين باجتهادين- وجب عليه إعادتهما، ولو صلى إلى جهتين باجتهادين لم تجب الإعادة. انتهى كلامه. وما ذكره في الفرق من وجوب إعادتهما غلط، لأنه إذا اجتهد ثانيًا، وأداه اجتهاده إلى عكس ما أداه إليه الأول- فالمنصوص: أنه لا يستعمله بالكلية، بل يتيمم، ويجب قضاء الثانية خاصة، وقيل: لا يقضيها، وابن سريج قال: إنه يستعمله ويورده موارد الأول، ولا يعيد واحدة من الصلاتين. قوله: ثم ظاهر كلام الشيخ أن المراد بيقين الخطأ خطأ العين إذا قلنا: إنها الفرض، أو خطأ الجهة إذا قلنا: إنها الفرض، وكلام الماوردي مصرح بأن محل الخلاف إذا أخطأ من جهة إلى جهة، أما إذا أخطأ من العين إلى الجهة فلا يضره ذلك، وحكاه عند حكايته للقولين في أن الفرض العين أو الجهة عن نصه في ((الأم)). ولو ظهر له أنه انحرف عن الجهة يمينًا أو شمالًا والجهة واحدة بعد الفراغ من الصلاة فلا يضره ذلك، قاله في ((المهذب)) وغيره. انتهى كلامه. وما نقله عن الماوري من خطأ العين إلى الجهة هو الخطأ في التيامن والتياسر بعينه، إذ العين لابد أن تكون في جهة، فالجهة في كلام الماوردي: إن كان المراد بها جهة أخرى خلاف الجهة التي فيها الكعبة فهو الخطأ من جهة إلى جهة، وهو المذكور قبله، وقد جعله مغايرًا له. وإن كان المراد جهة الكعبة فهو التيامن والتياسر المذكور بعده، وقد جعله مغايرًا له- أيضًا- فثبت بطلان ما توهمه على كل تقدير، والمراد: الثاني، كما أشرنا إليه.

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة قوله: ومحل النية القلب. قيل: ولأجل ذلك سميت نية، لأنها تفعل بأنأي عضو في الجسد وهو القلب. انتهى. وهذا للفظ لم أقف على ضبطه. قوله: قال أبو إسحاق المروزي: إنه لابد من وصف الصلاة بكونها فرضًا، لتتميز عن صلاة الصبي والصلاة المعادة في جماعة، وقد حكاه الإمام عن صاحب ((التخليص)) - أيضًا- وقال الرافعي: إنه الأظهر عند الأكثرين. قال الرافعي عند الكلام على نية الوضوء: وهو يجري في سائر العبادات المفروضة. والبندنيجي والماوردي وغيرهما قالوا: إنه لا يجري في الحج والعمرة والطهارة، لأنه لو غير ذلك إلى نفل لانعقد بالفرض دون النفل، قال بعضهم: ووجه أبي إسحاق يجري في صلاة الجنازة والمنذورة إن قلنا: يسلك به مسلك الواجب. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن الإمام من كونه نسب هذا الوجه إلى صاحب ((التلخيص)) سهو، فإن الإمام لم يذكر ذلك، ولا ذكره- أيضًا- صاحب ((التلخيص)) لا في ((التلخيص)) ولا في ((المفتاح)). الأمر الثاني: أن كلام المصنف صريح أو كالصريح في أن الرافعي أجرى الوجه المذكور في الطهارة، ولهذا استثناها من كلامه كما استثنى الحج والعمرة، وهو غلط، فإن الرافعي صرح بعكسه، فقال: والأولى ألا نجعل اعتبار النية في الوضوء على سبيل القربات، بل نعتبرها للتمييز، ولو كان الاعتبار على وجه القربة لما جاز الاقتصار على أداء الوضوء وحذف الفريضة، لأن الصحيح أنه يشترط التعرض للفرضية في الصلاة وسائر العبادات، وقد نصوا على أنه لو نوى أداء الوضوء كفاه، بل كان يلزم أن يجب التعرض للفريضة وإن نوى رفع الحدث أو الاستباحة. هذا لفظ الرافعي.

الأمر الثالث: أن ما نقله عن بعضهم من جريانه في صلاة الجنازة، واقتضى كلامه استغرابه- هو المجزوم به في ((الرافعي)) في موضعه. قوله: وقد اعترض الرافعي على اشتراط الفرضية فقال: إن عنى بالفريضة في هذا المقام كونها لازمة على المصلي بعينه وجب ألا ينوي الصبي الفريضة بلا خلاف، والأئمة لم يفرقوا بين الصبي والبالغ، بل أطلقوا الوجهين. وإن عنى بها كون الصلاة من الصلوات اللازمة على أهل الكمال: فمن نوى الظهر أو العصر فقد تعرض لإحدى الصلوات اللازمة على أهل الكمال، وكونها ظهرًا أخص من كونها صلاة لازمة عليهم، والتعرض للأخص يغني عن التعرض للأعم. وإن عنى بها شيئًا آخر فليلخصه أولًا، ثم يبحث عن لزومه. قال: وبهذا كان التعرض للصلاة مغنيًا عن التعرض للفريضة ونحوها من الأوصاف. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي في آخر كلامه غلط، فإن الرافعي عبر بقوله: ولهذا كان التعرض للصلاة مغنيًا عن التعرض للعبادة. هذه عبارته، وهو استدلال على أن الأخص يغني عن الأعم، فتوهم المصنف أن المراد استنتاج عدم اشتراط الفريضة، فأتى بها عوضًا عن العبادة، وعبر بقوله: وبهذا أغني، بالباء عوضًا عن اللام، وذهل عن تعبيره هو: بالصلاة، فإن الصلاة لا تغني عن الفريضة قطعًا. قوله: وبعضهم ينسب إلى الشيخ أبي حامد وجوب التعرض للقضاء، ويسكت عن التعرض للأداء، وقد حكاه البندنيجي هكذا عن نص الشافعي في ((الأم))، ولم يحك غيره. انتهى. وما نقله عن البندنيجي من أن الشافعي نص عليه ليس كذلك، فقد راجعت كلام البندنيجي من النسخة التي كان المصنف ينقل منها، فلم أر فيه نسبة ذلك إلى الشافعي، بل لم ينقل عن الشافعي في هذه المسألة شيئًا بالكلية. نعم، ذكر ما نسبه المصنف إلى الشيخ أبي حامد من وجوب نية القضاء، وسكت عن الأداء، وكلامه يقتضي عدم وجوب نيته، ونص الشافعي في ((الأم)) يدل على الاكتفاء بتعيين المكتوبة، وقد قنله عنه في ((المطلب)). قوله: لأن فعل النفل المطلق قبل الصبح وقبل صلاة الفجر لا يجوز على وجه، وبعد صلاة الصبح لا يجوز بلا خلاف. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف غريب، فإن الكراهة حيث تثبت في الأوقات المكروهة هل هي للتحريم أو للتنزيه؟ على وجهين مشهورين.

قوله: وقيل يجزئ: الأكبر الله، لأنه ينطلق عليه اسم التكبير، والذي اختاره القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري والماوردي والإمام: أنه لا يجزئ، وقال البندنيجي: إنه المذهب. ولم يحك القاضي الحسين غيره، لأن فيه تغيير ما ورد به الشرع من الترتيب، وقال في ((الشامل)): إن الشيخ أبا علي علله بأنه قدم النعت على المنعوت وهو لا يجوز، وأن بعض الأصحاب رد عليه ذلك وقال: هو جائز، كقوله: الخالق الله. قال بعضهم: والتعليل والرد كلاهما فاسد، فإن ((الأكبر الله)) ليس بنعت ولا منعوت، وإنما هو مبتدأ وخبر، ولأن اسم ((الله)) معرفة و ((الأكبر)) نكرة، ولا تنعت معرفة بنكرة. ثم قال: وهذا الخلاف هل يجري في ((الله أكبر))؟ فيه طريقان ... إلى آخره. واعلم أن تعبيره بالشيخ أبي علي فيما نقله عن ((الشامل)) غلط، فإن المراد بهذا اللفظ إنما هو السنجي، وليس له ذكر هنا، وإنما المذكور هنا أبو علي الطبري، ولهذا عبر في ((الشامل)) بقوله: وقال أبو علي في ((الإفصاح)). وهذا أقدم من الأول، وقد رأيت ما نقل عنه في تصنيفه المذكور، فتوهم المنصف أنهما واحد فصرح به، وتعبيره- أيضًا- في تتمة ما نقله في ((الشامل)) عن ((الإفصاح)) بقوله: وهو لا يجوز، ليس كذلك- أيضًا- بل إنما عبر بقوله: وذلك بعيد في العربية. هذه عبارته في ((الإفصاح))، ومنه نقلت. نعم، عبر في ((الشامل)) في النقل عنه بقوله: فلا يقدم، فتصرف فيه، وعبر بما نقلته عنه. وما ذكره- أيضًا- من أن ((الأكبر)) نكرة ... إلى آخره غلط فاحش، وكأن هذا القائل ذكره في ((أكبر)) العاري عن لام التعريف، فالتبس على المصنف، وكلام المصنف في هذا كله عجيب ساقط سببه الكلام فيما لا يحسنه، أو نقله عمن هو بهذه الصفة. قوله: ولا خلاف في أنه إذا قال: الله هو أكبر، أو: الله أكبار- أنه لا تنعقد صلاته، لأن ((أكبار)) جمع ((كبر)) وهو الطبل. وهل يستحب أن يمد التكبير، أو يجذمه وهو قطع التطويل؟ فيه وجهان في ((التتمة)). انتهى. المراد باللفظ الأول: أن يأتي بهاء واحدة، ويمدها حتى تصير بمنزلة الضمير المنفصل. والكبر- بكاف وباء موحدة، مفتوحتين- قال ابن الأثير: هو الطبل ذو الرأسين، وقيل: هو الذي له وجه واحد. والجذم- بجيم وذال معجمة- هو القطع.

قوله- نقلًا عن الشيخ أبي حامد-: ويرفع يديه مع التكبير حذو منكبيه، فإذا انقضى التكبير حط يديه، لأن الرفع كان لأجله وقد زال. ثم قال: وما ذكره الشيخ هو المحكي في ((تعليق)) البندنيجي عن نصه في ((الأم)). وقيل: ينبغي أن يفرغ من رفع يديه مع فراغ التكبير، كما بدأ برفعهما معه، لأ الرفع لأجل التكبير، وهذا ما حكاه في ((المهذب))، وقال: إن سبق بيديه أثبتهما مرفوعتين حتى يفرغ من التكبير، نص عليه في ((الأم))، وعن أبي إسحاق وأبي علي: أنه يكون انتهاء الرفع مع انتهاء التكبير، وهو خلاف النص. انتهى كلامه. وحاصل هذا الكلام اشتماله على ثلاثة أوجه في زعم المصنف، وأن ما قاله الشيخ في ((التنبيه)) ونص عليه الشافعي مغاير للوجهين الأخيرين، وهو سهو، فإن الثاني هو عين الثالث، وهو واضح لا يحتاج إلى تأمل. ولنا وجه: أنه يستحب انتهاء التكبير مع انتهاء الإرسال، فراجعت لأجل ذلك كتاب ((الإفصاح)) لأبي على الطبري و ((المهذب)) للشيخ، وكلام أبي إسحاق، لاحتمال أن يكون المصنف قد أراد هذا الوجه ولكن حصل له غلط في التعبير، فرأيت- أيضًا- مقالة الجميع متحدة على وفق ما نقله المصنف عنهم. ثم إن كلام الشيخ في ((التنبيه)) لا ينافي ما ذكره في ((المهذب)) حتى يعده وجهًا آخر، بل الظاهر أنه هو، لاسيما أن دعوى اتفاق كلامه أولى من اختلافه، فآل الأمر إلى أن ما زعمه من أن المذكور ثلاثة أوجه في الحقيقة وجه واحد، فسبحان من لا يسهو! تنبيه: ذكر المصنف هنا ألفاظًا: منها: قبيصة بن هلب، فأما قبيصة: فبقاف مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة بعدها ياء ثم صاد مهملة. وهلب: بهاء مضمومة ولام ساكنة ثم باء موحدة. ومنها: أن أبا طالب العشاري روى في ((الأفراد)) عن بعض الصحابة ... إلى آخره. العشاري: بعين مهملة مضمومة ثم شين معجمة. ومنها: الرسع: براء مضمومة ثم سين مهملة ساكنة وغين معجمة، وهو ما رق من المنكب واتصل بالذراع، ويقال فيه: الرصغ، بالصاد، قاله الجوهري. قوله: وفي ((التتمة)) حكاية طريقة أخرى: أن كل سورة آخر آيها بالياء والترادف مثل البقرة غيرها فالبسملة منها آية كاملة، وكل سورة آخر آيها على نمط آخر مثل سورة ((اقتربت)) فالبسملة منها بعض آية، اعتبارًا لآخر الآيات. انتهى. والصواب المذكور في ((التتمة)) هو لفظ ((الرديف))، فتحرف على المصنف،

والرديف الواقع بعد الياء قد يكون نونا كما في آخر البقرة، وقد يكون طاء كما في قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54]. قوله: وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يسرع في القراءة، فقال: ((هذا كهذ الشعر؟!)) أو قال: ((كهذا الأعراب)). انتهى. والهذ- بهاء مفتوحة وذال معجمة مشددة: شدة العجلة. قوله: والمذهب الأول، يعني أن القراءة اليسيرة والذكر اليسير يقطعان الولاء إذا كان أجنبيين. ثم قال: فإن قيل: نص الشافعي على أن تخلل الكلام اليسير بين الإيجاب والقبول في العقود لا يؤثر في قطع الولاء، فإنه قد نص على أنه إذا خالع زوجتيه، ثم ارتدتا، ثم قبلتا وعادتا إلى الإسلام- صح الخلع، فما الفرق؟! هذا لفظه. وما ادعاه من دلالة النص على ما قاله عجيب، فإن الردة لا تستلزم القول، بل تحصل- أيضًا- بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك، وليس في عبارة الشافعي أنهما ارتدتا لفظًا، وحينئذ فلا يصح مدعاه. قوله: وكلام بعضهم يوهم أن في تكرار بعض الفاتحة عمدًا خلافًا في البطلان، وهذا لم أعثر عليه في شيء من كتب الأصحاب، بل الذي رأيته فيها عدم الإبطال وحكاية الخلاف في الإتيان بكلها، وقد تردد الشيخ أبو محمد في تكرار بعض الآية. انتهى ملخصًا. والذي أنكره لم يحك في ((البيان)) غيره فقال: إنه الذي يقتضيه القياس. ولم يزد عليه. وما نقله عن الشيخ أبي محمد- أيضًا- كاف في إثبات الخلاف، وقد عد الغزالي الحروف ركنًا من أركان الفاتحة، وهو يقتضي عد الآية من أركانها بطريق الأولى، ولنا خلاف مشهور في تكرار الركن القولي. قوله: وفي وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية قولان، أصحهما: نعم. ثم قال بعد ذلك: أما إذا كان مأمومًا في صلاة سرية فإنه يقرأ الفاتحة قولًا واحدًا. انتهى. وما ادعاه من نفي الخلاف ليس كذلك، فقد حكى الرافعي وجهًا: أنه لا يجب عليه. قوله: ويستحب أن يقرأ في العصر والعشاء من أوساط المفصل، ووجهه: أن

العصر هي الثانية من صلاتي جميع النهار، كما أن العشاء هي الثانية من صلاتي جميع الليل. انتهى كلامه. وما ذكره في العصر مخالف لمذهبنا، فإن مذهبنا أنها ثالثة، إذ النهار عندنا من الفجر. قوله: فإن قيل: هذا يعارضه ما روي عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بطوال الطويلتين؟ قال: قلت: ما طوال الطويلتين؟ قال الأعراف. أخرجه أبو داود والبخاري مختصرًا. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: طوال الطويلتين، غلط منه في الموضعين، وكيف يتصور أن يكون في السورتين الطويلتين سور طوال، بل صوابه- وهو المذكور في الحديث-: ((طولى)) على وزن ((فعلى)) بضم الأول، وهو ((أفعل)) تفضيل تأنيث ((الأطول)) من ((الطويلتين))، قال ابن أبي مليكة والطويلتان: الأعراف والمائدة. قوله: ولو قدر على من يلقنه الفاتحة في الصلاة، قال القاضي الحسين في ((فتاويه)): لا يجب عليه ذلك، وله أن ينتقل إلى البدل. انتهى كلامه. وحاصله: أن القاضي يقول: لا يجب على المصلي أن يتلقن، وليس كذلك، فإن الذي دلت عليه عبارة القاضي إنما هو عدم وجوب تلقين الحافظ للمصلي، فقال ما نصه: مسألة: إذا كان لا يحسن الفاتحة، فشرع في الصلاة، فجاء رجل، فجعل يلقنه الفاتحة حرفًا حرفًا، فصلى- صحت صلاته، ولكن لا يلزم ذلك، فلو صلى بالبدل يجوز. هذه عبارته، وعوده إلى الحافظ أسرع إلى الفهم وأقرب إلى مدلول اللفظ وإلى القياس، فكيف يتصور أن يقول قائل: لا تجب على المصلي القراءة إذا أجاب الحافظ إلى التلقين، مع أنه قادر على أداء الفرض بالفاتحة؟! وبالجملة فهو غير ما ذكره المصنف لو فرضنا صحة التزامه. قوله: وإذا كان يحسن آية ففيه قولان: أحدهما: يقرؤها، ثم يضيف إليها من الذكر ما يتم به قدر الفاتحة. والثاني: يكرر ذلك سبعًا. واستدل ابن الصباغ للأول بما رواه أبو داود قال جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزئني في صلاتي، فقال: ((قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إليه إلا الله، والله أكبر))، قال: هذا لله، فما لي؟

قال: ((تقول: اللهم، اغفر لي، وارحمني، وارزقني، واهدني، وعافني))، قال: وفي هذا الذكر: ((الحمد لله))، ولا يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكريرها. قلت: وفي هذا الاستدلال نظر من وجهين، أحدهما: أن المأمور به في الخبر بعض آية، والنزاع إنما هو فيما إذا كان يحسن آية، وما دونها لا يجب عليه أن يأتي به، إذ لا إعجاز فيه. انتهى كلامه. وهذا الرد الذي ذكره ذهول عجيب وغفلة، فإن ابن الصباغ قد دفع هذا بقوله: ولا يتعذر عليه أن يقول: رب العالمين. يعني أن من كان يحفظ هذا الذكر إذا لقنه لا يتعذر عليه حفظ باقي الآية بالضرورة، وهو: رب العالمين. قوله: ثم اختلفوا، فقال البغوي: لا يشترط الترتيب بين البدل والأصل، وكيفما قرأ جاز. وقال القاضي الحسين والمتولي والأئمة- كما قال الإمام-: إنه إن كان يحسنها من الفاتحة وجب الترتيب، فإن كانت أول الفاتحة أتى بها، ثم بالذكر، وإن كانت من آخرها أتى بالذكر ثم بها، وإن كانت في وسطها أتى بالذكر أولًا عما قبلها ثم بها، ثم بالذكر عن الباقي. قلت: وعلى هذا لو كان يحسن الآية من غير الفاتحة ينبغي أن ينظر في عدد حروفها إذا قلنا باعتبار عدد الحروف، فإن وافقت آية من أول الفاتحة أو وسطها أو آخرها قدرناها بدلها، وأتى بالذكر بدلًا عما بقي، وإن لم تكن حروفها قدر حروف آية منها بل أقل فيظهر أن يتخير في تقديم الذكر وتأخيره، ويجوز أن يتعين تقديم الآية، لأنها أقرب إلى الأصل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن البغوي من ذهابه إلى عدم وجوب الترتيب غلط، فإن البغوي حكاه وجهًا ضعيفًا، وصحح وجوب الترتيب فقال: وإن كان يحسن النصف الأول من الفاتحة فيقرؤه، ثم يأتي بالبدل عن النصف الثاني، وإن كان يحسن النصف الثاني فيأتي عن النصف الأول بالبدل، ثم يقرأ النصف الثاني مراعاة للترتيب، وقيل: لا يجب الترتيب بين البدل والأصل. هذه عبارته في ((التهذيب)). الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه بحثًا غير مستقيم، بل الصواب الجاري على القواعد أنه يتعين البداءة بقراءة الآية، لأنها أصل حقيقة بالنسبة إلى الذكر، والقاعدة: أن الأصل إذا لم يكف لا ينتقل إلى البدل إلا بعد إكمال ما قدر عليه من الأصل، بدليل القدرة على بعض الماء، وقدرة المضطر على لقمة من الحلال، فإنه لا

ينتقل إلى التراب والميتة إلا بعد استعمالهما. قوله: وإذا انتقل إلى الذكر فهل يتعين أن يقول: سبحان الله، والحمد لله ... إلى آخره؟ فيه وجهان، أرجحهما عند الرافعي وغيره: أنه لا يتعين. ثم قال ما نصه: وعلى هذا يشترط أن تكون حروف ما يأتي به من الذكر بقدر حروف الفاتحة، لأنه لا يمكن اعتبار قدر الآي إلا بذلك، وحكى الرافعي وجهًا: أنه لا يشترط وعلى هذا يأتي بسبعة أنوع من الذكر، ويقام كل نوع مقام آية، وهذا ما حكاه في ((التهذيب))، قال الرافعي: وهو أقرب تشبيهًا لمقاطع الأنواع مقام الآيات. انتهى كلامه. ومقتضاه: أن الرافعي رجح عدم اشتراط استيفاء الحروف، وأن الأنواع السبعة إنما تشترط إذا لم يشترط استيفاء الحروف، وليس كذلك، بل صحح الرافعي أنه لابد من استكمال حروف الفاتحة، ثم ذكر أن الأقرب اشتراط الأنواع السبعة مع ذلك- أيضًا- ويتضح ذلك كله بمراجعة كلام الرافعي. ثم إن تعبيره في آخر كلامه بقوله: مقام الآيات، غير مستقيم، بل عبر الرافعي بقوله: بغاية الآيات، فكأنها تحرفت عليه. قوله: وسلك الرافعي طريقًا آخر فقال: يشترط أن تكون حروف الأذكار معادلة بحروف الفاتحة، ويعد الحرف المشدد من الفاتحة بحرفين من الذكر، ولا يراعي في الذكر الترتيب، وهل يشترط أن تكون كلمات الذكر معادلة لعدد آيات الفاتحة؟ فيه وجهان. انتهى كلامه. وما حكاه عن الرافعي من الجزم باشتراط استكمال الحروف، وأن في الكلمات وجهين- غلط منه على الرافعي، وكذلك بقية الكلام- وهو الكلام المتعلق بالتشديدات- ليس له ذكر أيضًا في ((الرافعي)). قوله: وفي الحديث: ((التكبير جزم))، ثم قال: وقال الرافعي: لفظ ((الإنحناء)) إشارة إلى أنه لو انخنس، وأخرج ركبتيه وهو ماثل منتصب- لم يكن ذلك ركوعًا. انتهى. قال ابن الأثير في ((غريب الحديث)): أراد بالجزم: أنه لا يمد ولا يعرب آخره، بل يسكن. وأما الماثل فمعناه: الواقف، يقال: مثل بين يديه- بفتح المثلثة- مثولًا، فهو ماثل، ويقال- أيضًا-: مثل، إذا التصق بالأرض، وهو من الأضداد كما قاله الجوهري. قوله: ويكره التطبيق، وهو أن يطبق يديه ويجعلهما بين ركبتيه، لأنه نهى عن ذلك

بعد أن كان يفعل- رواه أبي- وأنه يضرب فاعله بالأكف على الركب. رواه البخاري. انتهى. واعلم أن هذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم- أيضًا- عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: صليت إلى جنب أبي، فطبقت بين كفي، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب. وقوله في هذا الحديث: إلى جنب أبي، يعني: والدي، وهو سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك. وقد صرح في ((المهذب)) بذلك فقال: ولا يطبق، لما روي عن مصعب بن سعد ابن أبي وقاص قال: صليت إلى جنب سعد بن مالك، فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما، فضرب بيدي وقال: اضرب بيدك على ركبتيك، وقال: يا بني، إنا كنا نفعل هذا، فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب. هذا كلام ((المهذب))، وإذا تأملت ما ذكرناه علمت أن المصنف توهم أن المراد بقوله: أبي، ليس هو: والدي، وأنه مضموم الأول، مصغر، وهو: أبي بن كعب، فصرح بما ذكره، وهو غلط. ثم إنه خلط- أيضًا- في كيفية رواية الضرب، والصواب ما تقدم. قوله: ورواية أبي حميد في وصف ركوعه: ((فيصهر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده)). انتهى. يقال: صهر ظهره- بفتح الصاد المهملة وفتح الهاء المخففة- أي: ثناه وعطفه. وأقنع رأسه، أي: رفعه، ومنه قوله تعالى: {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم:43] وأما ((صافح)) فبصاد مهملة وبالفاء والحاء المهملة- أيضًا- ومعناه: أنه غير مبرز صفحة خده ولا مائل في أحد الشقين. قوله في الركوع: وقال القاضي الحسين والماوردي: ومن العلماء من قال: ينبغي أن يقول ذلك خمسًا، ليقوله المأموم ثلاثًا. وقد حكاه الروياني وجهًا لنا، ولم يذكر في ((الحلبة)) - كما قيل- غيره. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الروياني ليس بصحيح، فإنه في ((البحر)) إنما حكى ذلك عن الثوري فقال: وحكى الطحاوي عن الثوري أنه قال: ينبغي أن يقول الإمام: سبحان ربي العظيم، خمسًا، حتى يدرك من خلفه ثلاثًا. هذا لفظه، وأما في ((الحلية)) فإنه لم يذكر أن ذلك مستحب، بل ذكر أن الإمام لا تستحب له الزيادة على الخمس فقال: ولا يزيد الإمام على خمس تسبيحات، للتخفيف على المأمومين. هذه عبارته. قوله: ويرفع رأسه قائلًا: سمع الله لمن حمده، وعن ابن كج: أنه يبتدئ بقوله: سمع

الله لمن حمده، وهو راكع، ثم إذا انتهى أخذ في رفع الرأس واليدين، انتهى كلامه. وحاصل ما ذكره أن ابن كج يقول بأنه لا يأخذ في رفع الرأس واليدين إلا بعد فراغ ((سمع الله لمن حمده))، وهو غلط، فإن المصنف- رحمه الله- لم ينقله من كتاب ابن كج، ولهذا قال: وعن ابن كج. والرافعي- رحمه الله- قد وقف عليه، وهو من جملة المصنفات التي غالب نقل الرافعي منها، ولا نعلم وصول الكتاب إلى مصر، وقد عبر- أعني الرافعي- بقوله: لأن القاضي ابن كج ذكر أنه يبتدئ بقوله: سمع الله لمن حمده، وهو راكع، ثم إذا ابتدأ به أخذ في رفع الرأس واليدين. هذه عبارته، ولا شك أن المصنف أخذه من الرافعي فتحرف عليه. قوله: وأدنى السجود: أن يباشر بجبهته المصلى، لما روى مسلم وغيره عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا. أي: لم يزل شكايتنا. انتهى كلامه. واعلم أن مسلمًا لم يتعرض لقوله: ((في جباهنا وأكفنا))، وإنما خرج أصل الحديث ولفظه عن خباب قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكونا إليه حر الرمضاء، فلم يشكنا. قال زهير: قلت لأبي إسحاق: أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجيلها؟ قال نعم. انتهى لفظ مسلم. نعم، روى هذه الزيادة البيهقي بإسناد حسن- كما قاله النووي في ((الخلاصة)) - قال والحديث المذكور منسوخ، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإبراد بالظهر. قوله: وهذا التصوير مؤذن بصحة ما قاله بعض الشارحين لهذا الكتاب: أنه لا خلاف في أنه لا يجزئه أن يضع جبهته على الأرض ويمد [يديه] ورجليه، لأنه لا يسمى سجودًا، فإن السجود في اللغة: التطامن، ومنه قولهم للبعير إذا تطامن ليركبه راكبه: قد سجد. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي أشعر كلامه باستغرابها قد ذكرها الرافعي- رحمه الله- وجزم بها، واستدل بها لمسألة أخرى، وقال في ((شرح المهذب)): لا يجزئه بلا شك. وقد ذكر المسألة في ((التتمة)) - أيضًا- ثم قال: إلا أن يكون به علة لا يمكنه السجود إلا هكذا. قوله: وفي مباشرة المصلى بالكف قولان، أصحهما: أنه لا يجب، لأنه- عليه الصلاة والسلام- صلى في مسجد ابن عبد الأشهل وعليه كساء ملتحف به، يضع يديه عليه، يقيه برد الحصا. رواه ابن ماجه. انتهى. وتعبيره بقوله: ابن عبد الأشهل، تحريف، وصوابه: بنى، وهي قبيلة من الأنصار معروفة.

قوله: وفي ((أبي داود)): ((كان إذا سجد لو مرت بهمة لنفذت))، وفيه عن ابن عباس: ((رأيت بياض إبطه وهو مجخ)) أي: مخو. انتهى. البهمة- بباء موحدة مفتوحة ثم هاء ساكنة-: هي الأنثى من صغار المعز، وتقع في نسخ الكتاب: بهيمة- بزيادة الياء- وهو تحريف. والمجخي: بجيم ثم خاء مشددة. والمخوى- بالخاء المعجمة- من ((التخوية))، وهو رفع اليد عن الجنب والبطن عن الفخذ. قوله: فإن قال معه: اللهم، لك سجدت، وبك آمنت ... إلى آخره. اعلم أن الشيخ قد ذكر قبل قوله: فإن قال معه ... إلى آخره- ويقول: سبحان ربي الأعلى، ثلاثًا، وذلك أدنى الكمال. وقد أسقطه المصنف، وأدى إسقاطه إياه إلى اعتقاد أن الشيخ لم يذكره، وإلى عدم ذكر ما يعود عليه الضمير المذكور في لفظ ((معه)). نعم، قد وقع التعرض لشيء من ذلك في الكلام على الركوع، لكنه لا يكون عذرًا في الإسقاط، للأمرين اللذين ذكرتهما، ولأنه لم يتعرض هناك لذكرها ثلاثًا، فهو سهو بلا شك. قوله: ويجلس بين السجدتين مفترشًا. ثم قال: وعن رواية أبي علي في ((الإفصاح)) حكاية قول آخر: أنه يجلس على صدور قدميه. وروى البويطي عن الشافعي: أنه يجلس على عقبيه، وتكون صدور قدميه على الأرض، لأن العبادلة- وهم عبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير- كانوا يفعلون ذلك بين السجدتين، وهذا هو الإقعاء، والمشهور من مذهب الشافعي: أن الإقعاء فيها مكروه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا في تفسير العبادلة قد خالفه في باب الديات فقال: ودية المرأة على النصف من دية الرجل، روي عن العبادلة: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، رضي الله عنهم. هذه عبارته، فأسقط منهم ((عبد الله بن الزبير)) وجعلهم ثلاثة، والذي ذكره في الجنايات قلد فيه الرافعي، والرافعي قلد الزمخشري في ((المفصل))، فإنه ذكره كذلك في أوائله في الكلام على ((علم الغلبة)). الأمر الثاني: أن إدخال ابن مسعود فيهم، خلاف المعروف، فإن المعروف عند العلماء أن العبادلة أربعة آباؤهم صحابيون، وهم: ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمرو ابن العاص.

قال النووي بعد تفسيره بهؤلاء الأربعة: إن ((صحاح)) الجوهري قد وقع فيها الإتيان بـ ((ابن مسعود))، عوضًا عن ((ابن [عمرو بن] العاص))، قال: وهو غلط نبهت عليه، لئلا يغتر به، كذا قاله في ((تهذيب الأسماء واللغات)) في ترجمة ابن الزبير، والذي قاله النووي غلط عجيب، فإن الجوهري قد ذكر ((ابن العاص)) ولم يذكر ((ابن مسعود)). نعم، على الجوهري انتقاد من وجه آخر، وهو أنه أخرج ((ابن الزبير)) منهم وجعلهم ثلاثة فقط، فقال في آخر الكلام على لفظ ((عبد)) ما نصه: والعبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص. هذا لفظه. قوله: ويقبض الخنصر والبنصر، ويرسل المسبحة، وفي الإبهام والوسطى ثلاثة أقوال: أشهرها: أنه يقبضهما- أيضًا- وعلى هذا فقيل: يضع الإبهام على وسطاه، وقيل: يضعهما بجنب الأصابع الثلاثة. كذا حكاه القاضي الحسين في ((تعليقه)). ثم قال: وقيل: إنه يقبضه كأنه عاد ثلاثة وخمسين في وجه، وفي وجه: كأنه عاد ثلاثة وعشرين، والأخيران هما المذكوران في غيره. والقول الثاني: يقبض الوسطى ويرسل الإبهام مع المسبحة، قاله في ((الإملاء))، وعلى هذا: هل يضع السبابة على الإبهام كأنه عاد تسعة وعشرين، أو يرسلهما غير متراكبين؟ فيه وجهان. والقول الثالث: أن يحلق الإبهام مع الوسطى، وعلى هذا: فيحلق برأسيهما، وقيل: يضع أنملة الوسطى بين عقدتى الإبهام. وقد خرج الترمذي أحاديث تدل لكل منها، وهي تدل على أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يفعل كذا مرة وكذا أخرى، ولأجله قال بعض الأصحاب- كما قال الروياني في ((تلخيصه)) -: إنه يتخير فيها، وهو المذكور في ((الشامل)) وغيره، كما قاله الرافعي، ومفهوم كلام الأكثرين: أن الخلاف في الأفضل. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من حصول أربعة أوجه، تفريعًا على القول الأول، ودعوى أن الوجهين الأخيرين هما المذكوران في غير ((تعليق)) القاضي الحسين- غريب جدًا، فإن المستفاد من جميع ما ذكره وجهان لا غير، والأخيران تفسير للأول، والرافعي ممن صرح بذلك- أيضًا- فقال: وفي كيفية وضع الإبهام على هذا القول وجهان:

أحدهما: أنه يضعها على إصبعه الوسطى كأنه عاقد ثلاثة وعشرين. وأظهرهما: أنه يضعها تحت المسبحة كأنه عاقد ثلاثة وخمسين. هذه عبارته، وأما هذا الناقل عن القاضي الحسين فقد غلط فيه عليه، فإن عبارة القاضي: وماذا يفعل بالأصابع؟ فيه أقوال: أحدها: يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل السبابة. وماذا يفعل بالإبهام على هذا القول؟ وجهان: أحدهما: يضعها على وسطاه. والثاني: على بطن الكف بجنب الثالثة. وقيل: إنه يقبضها كأنه عاد ثلاثة وعشرين في وجه، وفي وجه: كأنه عاد ثلاثة وخمسين. والقول الثاني: يقبض الخنصر والبنصر، ويرسل السبابة، ويحلق الإبهام والوسطى. هذه عبارته، فقوله: وجهان، لم يذكر أنهما مع قبض الإبهام كما قاله المصنف، بل تعبيره بقوله: وقيل: إنه يقبضها، صريح في أن الوجهين الأولين مع بسطها، وحينئذ فيكون مع إرسال المسبحة وجهان، وهما المذكوران في كلام المصنف بعد ذلك، ومع ضمها وجهان- أيضًا- وهو واضح. نعم، عبر القاضي بالأقوال، ولم يذكر إلا قولين. الأمر الثاني: أن ما توهمه من التنافي بين ما نقله الإمام وما نقله عن الرافعي غريب- أيضًا- بل القائلون بأن الكل سنة قائلون بأن الخلاف في الأفضل منها، وقد صرح النووي في ((شرح المهذب)) بذلك، بل لا يمكن القول بخلافه، لأنهم إذا قالوا: الكل سنة، والخلاف ثابت عندهم وعند غيرهم- لم يبق للخلاف محل إلا بيان الأفضل، والرافعي لم يعبر بالتخيير كما عبر المصنف، فإنه لما ذكر الخلاف عبر بقوله: ثم قال ابن الصباغ وغيره: كيفما فعل من هذه الهيئات فقد أتى بالسنة. هذه عبارته، ولو ذكر المصنف أن مفهوم كلام الأكثرين أن الخلاف في السنة لكان تصحيحه ممكنًا، وإلا فما ذكره غير منتظم بالكلية. قوله: نقلًا عن الشيخ-: والواجب منه خمس كلمات، وهي: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. هذا ما رأيته فيما وقفت عليه من ((التهذيب))، وقد حكاه الإمام عن رواية الصيدلاني، وأن العراقيين ذكروه، غير أنهم

نقصوا كلمة واحدة، وهي: ((أشهد)) في المرة الثانية، وقال الرافعي: إن الذي حكاه العراقيون عن نص الشافعي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسوله، وتابعهم القاضي الروياني، وكذا صاحب ((التهذيب))، إلا أنه نقل: ((وأشهد أن محمدًا رسوله))، وأن الصيدلاني وابن كج تبعا العراقيين، إلا أنهما أسقطا لفظ ((وبركاته)). انتهى ملخصًا. وما ادعاه من أن الرافعي نقل ذلك عن هؤلاء بالضمير مع ((الرسول)) عوضًا عن الظاهر حتى يقال: وأن محمدًا رسوله، ولا يجب أن يقال: رسول الله- ليس كذلك، فإن المذكور في ((الشرحين)) عنهم إنما هو الظاهر مطابقًا لما نقله المصنف عنهم قبل ذلك. نعم، وقع في ((الروضة)) في هذا الوهم، فكأن المصنف قلدها في النقل عن الرافعي. واعلم أنه قد تلخص من مجموع ما ذكرناه امتناع الضمير عند الجمهور، وقد صرح النووي في ((شرح المهذب)) وغيره بذلك، لكن ينبغي أن يعلم أن الضمير قد ثبت مع زيادة ((العبد)) في التشهد الوارد في الصحيح من رواية ابن مسعود وأبي موسى، ولم يقع الظاهر إلا في رواية ابن عباس. وقد اتفق العلماء على جواز التشهد بالروايات الثلاث كما قاله النووي في ((شرح مسلم)) في أول باب التشهد، فلزم من ذلك استثناء هذه الصورة، واختصاص محل الخلاف بما عداها، فتفطن له. قوله: لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة، فقال: أو لا أهدى إليك هدية؟! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فيكف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم، صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). انتهى كلامه. واعلم أن البخاري قد أخرج هذا الحديث في آخر باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، ولفظه فيه: ألا أهدي إليك هدية سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله علمنا كيف نسلم؟ قال: ((قولوا: اللهم، صل على محمد وعلى آلي محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد

مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). هذا لفظ رواية البخاري، وفيه مغايرة من وجوه، منها: ذكر ((إبراهيم)) مع ((الآل)) في ((الصلاة))، وكذلك في ((البركة)). قوله: قال الماوردي: والدعاء بأمر مباح، وقال بعض أصحابنا: المباح: أن يدعو بما يجوز أن يطلب من الله- تعالى- وأما ما يجوز أن يطلب من المخلوقين فلا يجوز، وإذا سأله بطلت صلاته. كذا حكاه ابن يونس ومن بعده من الشارحين، ولم أره في مشاهير الكتب، بل الرافعي حكاه عن بعض أصحاب أبي حنيفة. انتهى كلامه. وإنكاره لذلك غريب، فقد حكاه الروياني في ((البحر)) والشاشي في ((الحلية)) والعمراني في ((البيان))، وذكر الرافعي في آخر كلامه قريبًا منه فقال: ويجوز أن يعلم بالواو- أيضًا- لأن الإمام حكى في ((النهاية)) عن شيخه أنه كان يتردد في مثل قوله: اللهم، ارزقني جارية حسناء، صفتها كذا، ويميل إلى المنع منه، وأنه يبطل الصلاة. هذا لفظه، وكأنه مثال للوجه المتقدم. قوله في حديث مسلم: ((كأنها أذناب خيل شمس)) ... وفي الحديث- أيضًا-: ((جزم السلام سنة)) قال الترمذي: حسن صحيح. انتهى. أما ((الشمس)): فبإعجام الشين الأولى وضمها وإهمال الثانية، جمع ((شموس))، تقول: شمس الفرس- بفتح الميم- شموسًا وشماسًا، أي: منع ظهره، فهو شموس- بالفتح- وبه شماس، ورجل شموس: صعب الخلق، والعامة تقوله بالصاد. وأما ((الجزم)) فبالجيم والزاي المعجمة، وقد تقدم الكلام عليه في التكبير. قلت: حديث ((جزم السلام)) يأتي بعد. قوله: ثم نية السلام على الحاضرين في التسليمتين ثابتة في حق المنفرد، وأما الإمام فينوي ذلك في حق من على يمينه وشماله إذا تأخر سلامهم على سلامه، كما قال القاضي الحسين وغيره: إن المستحب ألا يسلم المأموم الأولى حتى يسلم الإمام الثانية، أما إذا سلم الأولى عقب سلام الأولى- كما قال في ((التتمة)): إنه المستحب- فكلام بعضهم يشير على أنه ينوي بالثانية الرد على من على يساره والسلام على الملائكة والجن، والجمهور على أنه لا فرق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن القاضي الحسين من استحباب تأخر سلام المأموم عن تسليمتي الإمام محله في المأموم الذي هو على يسار إمامه خاصة، فإن كان على

يمينه فالمستحب عنده: أن تكون الأولى عقب الأولى كما يفعله غالب الناس، وإن كان محاذيًا له فهو بالخيار بين الأمرين، كذا جزم به في هذا الباب من ((تعليقه)) فقال: فأما المأموم: فإن كان على يمين الإمام، فإذا سلم الإمام عن يمينه سلم، وينوي الخروج من الصلاة والرد على الإمام والسلام على من عن يمينه من الملائكة ومسلمي الجن والإنس، وإذا سلم عن يساره لم تجب نية الخروج من الصلاة، وإنما ينوي السلام على من على يساره، ومن على يسار الإمام المستحب له ألا يسلم إذا سلم الإمام عن يمينه حتى يسلم عن يساره، ليمكنه الرد عليه إذا سلم عن يمينه، ومن خلف الإمام يستوي في حقه اليمين واليسار: فإن شاء سلم إذا سلم الإمام عن اليمين، وإن شاء سلم إذا سلم الإمام عن اليسار، وإنما ينوي الرد عليه إذا سلم عين اليمين، أن التيامن مستحب في كل شيء هذا لفظه، وهو كما ذكرته لك، وهو يراعي الرد على الإمام بالأولى، فلهذا قال: إن من على اليمين يسلم الأولى عقب الأولى ويرد بها وإن كان غير مواجه للإمام، وحاصله أن الأمرين عنده على السواء، أي: فعل الأولى عقب الأولى وعقب الثانية، بدليل المحاذي، وإنما يترجح أحدهما إذا كان فيه الرد على الإمام بالأولى. نعم، قد صحح النووي في ((التحقيق)) ما نقله المصنف عن القاضي. الأمر الثاني: أن ما نقله عن بعضهم من استحباب رد الإمام على من على يساره، تفريعًا على طريقة المتولي- هو الموافق للقواعد ولكلامهم، ودعواه أن الجمهور على أنه لا فرق حتى يقتصر الإمام- أيضًا- على الحاضرين ولا ينوي الرد، ممنوع، والمطالبة قائمة بقائله أو ناقله، ويدل على فساده أنه ادعاه في المأمومين- أيضًا- فقال: إن المأموم لا يرد على الإمام على طريق الجمهور، وعلى الطريق الأخرى: يرد عليه بالثانية إن كان على يمينه، وبالأولى إن كان على يساره، مع أن الرافعي جازم بهذا الكلام، بل قد ذكر المصنف عقب هذا الكلام ما يعكر عليه فقال: وإن كان خلف الإمام، قال في ((الأم)): هو كما لو كان على يسار الإمام، فإن نوى السلام على إمامه في الأولى، وإلا نواه في الثانية. ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار: إن شاء رد على الإمام عن يمينه، وإن شاء رد عليه عن يساره. هذا كلامه، وهو جازم بأنه يرد، والمأموم المحاذي قسم من أقسام المأمومين. قوله: قال الأصحاب: وينبغي للإمام بعد فراغه من الدعاء ألا يثبت مكانه، بل يثب، لأنه جاء في الحديث: ((إذا لم يقم إمامكم فانخسوه))، وهذا يدل على أن الجميع

محبوسون إلى أن يقوم الإمام. ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه، واختلف أئمتنا في أنه من أي قطر يميل: فمنهم من يقول: يفتل يده اليسرى ويجلس على الجانب الأيمن من المحراب، ومنهم من يقول- وهو القفال-: يفتل يده اليمنى ويجلس على الجانب الأيسر. وقال الإمام إذا لم يصح في هذا نقل فلست أرى في ذلك إلا التخيير، ثم ينصرف في أي جهة شاء. واستحباب قيامه عقب الدعاء، محله إذا لم يكن ثم نسوة، فإن كان فيستحب له أن يجلس، كيما يخرجن. انتهى كلامه. وحاصله: أن الإمام يستحب له إذا لم يكن ثم نسوة أن يمكث بعد السلام للدعاء، فإذا فرغ منه وثب قائمًا، ثم جلس، ويستقبل الناس، على الخلاف في كيفية الاستقبال. وهذا المجموع على هذا الترتيب لم يقل به أحد، ولا معنى له- أيضًا- وقد قال النووي في ((شرح المهذب)): قال الشافعي والأصحاب- رحمهم الله-: يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم يكن خلفه نساء. هكذا قاله الشافعي في ((المختصر))، واتفق عليه الأصحاب، وعللوه بعلتين: إحداهما: لئلا يشك هو أو من خلفه هل سلم أم لا. والثانية: لئلا يدخل غريب فيظنه بعد في الصلاة فيقتدي به. أما إذا كان خلفه نساء فيستحب أن يثبت بعد سلامه، ويثبت الرجال قدرًا يسيرًا يذكرون الله- تعالى- حتى ينصرف النساء، ويستحب لهن أن ينصرفن عقب سلامه. هذا كلامه. هذا كلامه، فذكر أن الانتقال عن مكانه عقب السلام، على خلاف ما ذكره المصنف من كونه عقب الدعاء، ولم يتعرض هنا للدعاء إلا فيما إذا كان معه نسوة، إلا أنه- أعني النووي- ذكر قبل ذلك أنه يستحب الذكر والدعاء عقب الصلاة لكل مصل، وهو معارض لما ذكرناه عنه. ثم قال بعده: فرع: إذا أراد أن ينفتل في المحراب، ويقبل على الناس بالذكر والدعاء وغيرهما- قال البغوي: فالأفضل أن ينفتل عن يمينه. قال وفي كيفيته وجهان: أصحهما: يدخل في يساره في المحراب ويمينه إلى الناس، ويجلس على يسار المحراب. والثاني: يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس، ويجلس على يمين المحراب. وقال الإمام: إن لم يصح في هذا تعبد فلست أري فيه إلا التخيير. هذا كلامه، وقد

ذكر الماوردي كلامًا هو أقرب إلى جميع ما سبق، فقال: إذا فرغ الإمام من صلاته: فإن كان من صلى خلفه رجالًا لا امرأة وثب ساعة سلم، ليعلم الناس فراغه من الصلاة، ولئلا يسهو فيصلي، وإن كان معه رجال ونساء ثبت قليلًا، لينصرف النساء، فإذا انصرفن وثب، فإذا الإمام: فإن كانت صلاة لا ينتفل بعده كالصبح والعصر استقبل القبلة ودعا، وإن كانت صلاة ينتفل بعدها كالظهر فيختار له أن ينتفل في منزله، ويستحب للمأموم ألا يتقدم إمامه، ويخرج معه أو بعده. هذا كلامه، وهو حسن جامع لجميع ما سبق، إلا أنه يوهم اختصاص الذكر والدعاء بالصبح والعصر، وليس كذلك. قوله: في التشهد الأول: ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده في أصح القولين. ثم قال: ولا يصلى في الآخر، لأن مبناه على التخفيف، روى ابن عباس ((أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يجلس في الركعتين كأنه يجلس على الرضف حتى يقول)) رواه أبو داود، والرضف: الحجارة المحماة. انتهى كلامه. وهذا الحديث ليس كما قال المصنف من كونه من رواية ابن عباس، بل الذي في ((أبي داود)) وغيره إنما هو روايته عن ابن مسعود. و ((الرضف)): بالضاد المعجمة الساكنة وبالفاء. قوله: وهل يقرا السورة في الركعتين الأخيرتين؟ فيه قولان: أحدهما. لا. قال: وهذا ما نقله البويطي عن الشافعي والمزني- كما قال أبو الطيب- وقاله في القديم. انتهى لفظه بحروفه. والمفهوم منه أن البويطي نقله- أيضًا- عن المزني، وليس كذلك، بل المراد- وهو الذي قاله أبو الطيب-: أن البويطي والمزني نقلاه عن الشافعي. قوله: وقد روى الدارقطني بسنده عن أنس بن مالك قال: ((ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا))، وقد رأيت في كلام بعض الشراح أن مسلمًا خرج هذا الخبر، وبعضهم نسبه إلى رواية الإمام أحمد في ((مسنده)). انتهى. فأما نسبة هذا الحديث إلى ((مسند)) أحمد فصحيحه، وأما إلى مسلم فلا. نعم، الحديث صحيح صححه الحاكم والبيهقي وغيرهما. قوله: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا يدعو على أحياء من سليم على رعل وذكوان وعصية)) رواه أبو داود. انتهى. رعل: براء مهملة مكسورة وعين ساكنة مهملة- أيضًا- بعدها لام، وذكوان: بذال معجمة مفتوحة بعدها كاف ساكنة، وعصية: بعين وصاد مهملتين، أصله مصغر ((عصا)).

قوله: وإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جميع الفرائض، وفي قول: لا يجوز. ثم قال ما نصه: أما إذا لم تنزل نازلة فمفهوم كلام الشيخ: أنه لا يجوز، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه، والغزالي في ((الوسيط)) عن المراوزة، ولم يحك في ((المهذب)) غيره، وعليه نص في ((الأم))، وقال في ((الإملاء)): إن شاء قنت، وإن شاء ترك. حكاه البندنيجي، وهو يقتضي أنه غير مستحب ولا مكروه، قال الرافعي: وهو قضية كلام أكثر الأئمة، ومنهم من يشعر إيراده باستحبابه في جميع الصلوات، قال في ((الروضة)): والأصح استحبابه. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما حكاه عن ((الوسيط)) من النقل عن المروازة غلط، فإنه لا ذكر له في هذه المسألة، وإنا نقل مقابلة عن العراقيين، ثم عبر عن هذا بقوله: وقيل. وقد بين في ((البسيط)) قائله وأنه الشيخ أبو محمد. الثاني: أن ما حكاه عن ((المهذب)) من عدم الجواز ليس كذلك- أيضًا- فإنه قال: وأما رفع اليد في القنوت فالذي يقتضيه المذهب: أنه لا يرفع. ثم قال: وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه من غير حاجة، وإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا. هذا لفظه، فقوله: فلا يقنت، يحتمل نفي الاستحباب ونفي الجواز على السواء، ويدل عليه: أنه ذكر مثل ذلك في الرفع كما تقدم، والمراد عدم الاستحباب قطعًا، فتلخص أنه لم يثبت التحريم عن أحد ممن نقل عنه سوى الشيخ أبي محمد. الأمر الثالث: أن ما نقله- رحمه الله- عن الرافعي من أن قضية كلام الأكثرين: أن القنوت في غير النازلة لا يستحب ولا يكره- لغط عجيب، بل في ((الرافعي)): أن قضية كلامهم: أنه لا يجوز، وكذلك- أيضًا- ما نقله عن النووي من تصحيح استحبابه في الحالة التي يتكلم فيها- وهي حالة عدم النازلة- غلط أيضًا، فإنه إنما خالف الرافعي فصحح طريقة القائل بأن الخلاف في استحبابه، وحينئذ فيكون الأصح عنده: أنه إن نزلت نازلة استحب القنوت، وإلا فلا يستحب، لأن الصحيح عنده من الخلاف في أصل القنوت هو هذا التفصيل، والصحيح: أن ذلك الخلاف في الاستحباب، فيلزم ما قلناه. وقد لخص النووي كلام الرافعي، فراجعه يتضح لك ما ذكرته، والعجب هنا من المصنف، فإنه غير كلام الرافعي والنووي تغييرًا فاحشًا، وإن كان في اختصار النووي استدراك نبهت عليه في ((المهمات)).

باب فروض الصلاة

باب فروض الصلاة قوله: وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي عدهما شرطين- يعني النية والتكبير- لأنه قال: في الصلاة الرباعية خمس وأربعون خصلة، ثمان منها قبل الدخول وهي: الطهارة عن الحدث، وطهارة البدن والثوب والبقعة التي يصلي عليها من النجس، وسترة العورة، والعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية، والتكبير. ولم أر لغيره من أصحابنا خلافًا في أن التكبير ليس بشرط. انتهى كلامه. واعلم أن الخلاف في كون التكبير شرطًا أم ركنًا ثابت، صرح به الروياني في ((البحر)) فقال: فرع: التكبير عندنا من الصلاة، نص عليه في ((الأم))، وقال بعض أصحابنا: بالفراغ منه يدخل فيها. وهذا غير صحيح، بل يجب أن يدخل في الصلاة بأول التكبير. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن القاضي أبا الطيب قد ذكر المسألة بعد خمس أوراق من أول باب صفة الصلاة من ((تعليقه))، وصرح بأن التكبير من الصلاة فقال: مسألة: عندنا: أن تكبيرة الإحرام من الصلاة، وبه قال الكافة. وقال أبو حنيفة: ليست من الصلاة. هذا لفظه، ثم قال: واحتج من نصره بأشياء، منها: أنا أجمعنا على أنه لو بقي من آخر التكبير حرف واحد لم يكن مصليًا في تلك الحالة. قال: والجواب عنه: أنا نقول: لا يمتنع أن يكون حال التكبير غير مصل، ويكون التكبير من الصلاة. انتهى كلامه. وهذاتصريح بأنه من الصلاة، وما نقله عنه المصنف قد ذكره بعد ذلك بكراريس كبيرة في أول باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة، ولا منافاة بينهما، لأنه لما لم يدخل إلا بتمامة أطلق عليه أنه قبل الصلاة. قوله: وقد قال الماوردي في كتاب الإيمان: إنها إنما تكون نية عند اقترانها بالفعل، فإن تجردت عن الفعل كانت قصدًا. انتهى كلامه. وما نقله هنا عن الماوردي قد نقل عنه في باب صفة الوضوء ما يخالفه فقال: والماوردي قال: إنها- يعني النية- قصد الشيء مقترنًا بفعله، فإن قصده وتراخى عنه

فهو عزم، كذا قاله في كتاب الأيمان. هذا كلامه. قوله: ونية الخروج من الصلاة، قيل: تجب، وقيل: لا تجب. ثم قال ما نصه: التفريع: إن قلنا بالأول فلا يختلف المذهب في أنها ركن. انتهى. وما ذكره من عدم الاختلاف باطل، فقد رأيت في ((العمد)) للفوراني حكاية وجهين في أنها ركن أو شرط، وكذلك في ((الإبانة)) له- أيضًا- فقال في أول الباب الخامس في صفة أعمال الصلاة ما نصه: اختلف أصحابنا في السجدة الثانية والنية واستقبال القبلة ونية الخروج، هل هي من الأركان؟ فعلى وجهين. هذه عبارته. قوله: فإن أوجبناها لم نشترط تعيين الصلاة، لأنها قد تعينت بالشروع، وعلى الوجهين: لو عين في نيته صلاة غير التي هو فيها عمدًا بطلت صلاته، قال القاضي الحسين: لأنه أبطل ما هو فيه بنية الخروج عن غيره. نعم، لو فعل ذلك سهوًا: فعلى الأول يسلم ثانيًا ويسجد للسهو، وعلى الثاني: لا. وفي ((الرافعي)): أن القول بالبطلان عند التعمد مفرع على القول بالوجوب، أما إذا قلنا: لا يجب، فلا يضر الخطأ في التعيين. انتهى كلامه. وأوله وآخره يقتضي استغراب ما نقله عن الرافعي من كونه لا يضر الخطأ، أي: تعيين خلاف ما هو عليه إذا لم نوجب النية، وأنه منفرد بذلك، وهو عجيب، فإن الأكثرين قالوا بهذه المقالة، فقد رأيته في ((شرح التلخيص)) للقفال، و ((التهذيب)) للبغوي، ((العدة)) لأبي علي الطبري و ((البيان)) للعمراني. نعم، صححه صاحب ((البحر))، فتبعه عليه، ومعظم الكتب لم تتعرض للمسألة: كـ ((النهاية)) و ((الحاوي)) و ((الشامل)) و ((التتمة)) و ((الاستذكار)) وكتب الفوراني والغزالي وابن عصرون. واعلم أن ما ذكره من كونه إذا فعله ناسيًا يسجد للسهو ويسلم، لا شك أن محله إذا لم يطل الفصل، وقد رايته مصرحًا به في ((العدة)) للطبري و ((شرح التلخيص)) للقاضي الحسين، ورأيت في ((شرح التلخيص)) - أيضًا- لأبي عبد الله الختن- بالخاء المعجمة- أن الساهي لا يحتاج إلى السجود ولا لإعادة السلام، قال: لأنه فرض أتى به في موضعه، وإنما سها في نيته، فلم يضر كما لو اعتقد أن الثانية ثالثة. قوله: وقد ذكر الجيلي أن الخلاف في وجوب النية في السلام ينبني على أنه من الصلاة أم لا؟ قال: وفيه قولان: فإن قلنا: إنه منها، أوجبناها، وإلا فلا، والذي رأيته فيما وقفت عليه: أنه من الصلاة عندنا، مع حكاية الخلاف في وجوب النية. انتهى. وهذا الخلاف الذي قد ذكر أنه لم يقف عليه قد ذكره صاحب ((الذخائر)).

قوله: وسننها أربع وثلاثون. ثم قال: ووضع الأنف في السجود، لأن اسم ((السجود)) يصدق بدونه، وقد تقدم في وجوبه وجه. انتهى. واعلم أن المقابل للمشهور إنما هو قول لا وجه، كذا حكاه في ((البيان))، ونقله كذلك النووي في ((الروضة)) و ((شرح المهذب))، وكلام المصنف هناك مضطرب: فذكر أولًا ما يوهم أنه وجه، ثم صرح عقبه بأن صاحب ((الزوائد)) - يعني العمراني- حكاه قولًا. قوله: وقد ذكر في ((المهذب)) سنة أخرى، وهي الاعتماد على الأرض عند القيام، ولم يعدها هنا، وإن كان قد ذكرها في الباب قبله، وكذا ذكر فيه ترتيل القراءة، ولم يعدها هاهنا لأنه لا يختص بالصلاة. انتهى كلامه. وهو موهم إيهامًا ظاهرًا أن الشيخ لم يذكر في الباب قبله زيادة على هاتين السنتين، مع أنه ذكر أمورًا فيه وفي غيره، منها: مد التكبير إلى أن يقوم، ومنها: تطويل السورة وتقصيرها، والالتفات في السلام، ومنها: السواك- كما ذكره في بابه- والأذان والإقامة، على أن الشيخ قد ذكر أمورًا أخرى، وتكلف المصنف في إدراجها بجعلها صفات لبعض ما صرح به الشيخ أو معطوفًة تقديرًا. قوله: وإن كان المتروك ثلاث سجدات جعل سجدة من الأولى وسجدة من الثالثة وسجدة من الرابعة، ويأتي بركعتين، لأن الأولى تنجبر بسجدة من الثانية، ويبطل ما بقي منها، وتنجبر الثالثة بالسجدة التي في الرابعة، ويبطل ما أتى به بعدها، وحينئذ فتكمل له ركعتان، فتبقى عليه ركعتان، فيأتي بهما، ويستجد للسهو. انتهى كلامه. واعلم أنه يتصور ترك الأولى وغيرها: إما بسجوده فيها على كور عمامته، أو لنزول عصابته على وجهه، أو غير ذلك من فوات الشروط: كترك الطمأنينة. إذا تقرر هذا، فالصواب أنه يلزمه ركعتان وسجدة، فإن أسوأ الأحوال: أن يكون المتروك هو السجدة الأولى من الركعة الأولى والسجدة الثانية من الركعة الثانية وواحدة من الرابعة، وإنما قتلنا: إنه الأسوأ، وذلك لأنا لم قدرنا أنه ترك السجدة الأولى من الركعة الأولى امتنع حسبان الجلوس الذي بعدها، لأنه ليس قبله سجدة، ولكن بعده سجدة محسوبة، فيبقى عليه من الركعة الأولى الجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية. ولما قدرنا أنه ترك السجدة الثانية من الركعة الثانية لم يمكن أن يتكمل بسجدتها الأولى الركعة الأولى، لفقدان الجلوس بين السجدتين قبلها. نعم، بعدها جلوس محسوب،

فيحصل له من الركعتين ركعة إلا سجدة، فيكملها بسجدة من الثالثة، وحينئذ فتفسد الثالثة، لأن القيام إليها كان قبل كمال التي قبلها، ثم ترك واحدة من الرابعة، فتبقى عليه ركعتان وسجدة، فيسجد ثم يأتي بركعتين. وهذا العمل كله واضح، وهو أمر عقلي لا شك فيه. فإن قيل: إذا قدرنا- كما قلتم- أنه ترك السجدة الأولى فيلزم بطلان الجلوس الذي بعدها، وحينئذ فلا يكون المتروك ثلاث سجدات فقط- قلنا: هذا خيال فاسد، فإن المعدود تركه إنما هو المتروك حسًا، وأما المأتي به في الحس، ولكن يبطل شرعًا، لسلوك أسوأ التقادير- فلا يحسب في تصوير المسألة، إذ لو قلنا بهذا لكان يلزم في كل صورة، وحينئذ فيستحيل قولنا: ترك ثلاث سجدات فقط أو أربعًا، لأنا إذا جعلنا المتروك من الركعة الأولى هو السجدة الثانية- كما قاله الأصحاب- فيكون قيام الركعة الثانية وركوعها وغير ذلك مما عدا السجود باطلًا، وهكذا في الركعة الثالثة مع الرابعة، وحينئذ فلا يكون المتروك هو السجود فقط، بل أنواعًا أخرى من الأركان، وكذا ترك السجدة الواحدة لا يتصور- أيضًا- على هذا الخيال، وإنما ذكرت هذا الخيال الباطل، لأنه قد يختلج في صدر من لا حاصل له، وإلا فمن حق هذا السؤال ألا يدونه مصنف، ولا يورده منصف، وإيراده في الحقيقة مشعر بعدم فهم مورده لهذه القاعدة، ومن حقه أن يشرح المسألة على شيخ يفهمه إياها. قوله: وإن كان أربع سجدات جعل سجدة من الأولى وسجدة من الثالثة وسجدة كذا من الرابعة، ويأتي بسجدة وركعتين، لأن الأولى تنجبر بسجدة من الثانية ويبطل باقيها، ومعه قيام الثالثة وركوعها والرفع منه، فيأتي بسجدتين تتم بهما، وتكون ثانية له، فتبقى عليه ركعتان. انتهى كلامه بحروفه. وهو غلط، فإنه قد ذكر- أولًا- أنه يلزمه سجدة وركعتان، ثم شرع في تعليله، فقرر فيه أنه يلزمه ركعتان وسجدتان، والصواب ما ذكره- أولًا- من وجوب سجدة واحدة مع الركعتين، لا ما ذكره ثانيًا من وجوب سجدتين، وهو واضح. قوله: أما إذا تذكرها- يعني السنة- بعد فوات محلها، كما إذا تذكر أنه ترك رفع اليدين في تكبيرة الإحرام بعد فراغها. انتهى كلامه. لم يذكر- رحمه الله- جواب ((أما))، وأبقى السؤال بلا جواب، وكأنه أراد أن يقول: فلا يعود إليها، أو: فلا يأتي بها- وما كان في معناه- فنسيه.

باب صلاة التطوع

باب صلاة التطوع قوله: أفضل عبادات البدن الصلاة، ووجهه: قوله- عليه الصلاة السلام-: ((استقيموا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) رواه أبو داود. ورأيت في كلام بعضهم: ((استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) انتهى كلامه. وهذا اللفظ الذي أورده في معرض الاستغراب قد رواه ابن ماجه في ((سننه)) في كتاب الوضوء، والبيهقي فيه، وفي فضائل الصلاة، قبيل استقبال القبلة، روياه من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص، ومن حديث ثوبان، لكن في رواية ابن ماجه عن عبد الله: ((أن من خير أعمالكم))، أعني بإثبات ((من)) وكذلك في بعض روايات البيهقي، وإسناد رواية عبد الله فيه ضعف، وإسناد رواية ثوبان جيد، لكنه من رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، وقد قال أحمد بن حنبل: إن سالمًا لم يسمع من ثوبان. وذكره مالك في ((الموطأ)) مرسلًا معضلًا، فقال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا. إلا أنه أتى بـ ((لن)) عوضًا عن ((لا)) في ((يحافظ)). واستقيموا، معناه: ألزموا طريق الاستقامة. ولن تحصوا، أي: تطيقوا الاستقامة في جميع الأعمال، وقيل: لن تحصوا ما لكم في الاستقامة من الثواب العظيم. قوله: ولأنه تلو الإيمان الذي هو أفضل القرب، وأشبه به، لاشتمالها على نطق باللسان وعمل بالجنان واعتقاد بالقلب. انتهى. وهذا التعبير غفلة عجيبة، فإن ((الجنان)) هو ((القلب))، والصواب أن يقول- كما قاله غيره-: وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان. والمراد بالأركان: الأعضاء. قوله: وأفضل التطوع ما شرع له الجماعة. ثم قال: فإن قيل: قد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم- فجوابه: أنه محمول على النوافل المطلقة، لقيام الإجماع على أن رواتب الفرض أفضل منها ... إلى آخره.

وما ادعاه من الإجماع غريب، ففي ((الرافعي)) عن أبي إسحاق المروزي: أن صلاة الليل أفضل من الرواتب. وقال في ((الروضة)) و ((شرح المهذب)): إنه قوي: للحديث المذكور. قوله: وفي الوتر وركعتي الفجر قولان، أصحهما: أن الوتر أفضل، لأن أبا حنيفة يقول بوجوبه، ولم يختلف أحد في عدم وجوب ركعتي الفجر. انتهى. وما ادعاه من عدم الاختلاف في ركعتي الفجر ليس كذلك، فقد ذهب الحسن البصري إلى وجوبهما، كذا نقله النووي في ((شرح المهذب)) عن القاضي عياض عنه. قوله: ولأنها- يعني ركعتي الفجر- تبع لصلاة الصبح، والوتر تبع للعشاء، والصبح آكد من العشاء، لأنها الصلاة الوسطى عند الشافعي، فوجب أن يكون متبوعها أوكد من متبوع العشاء. انتهى. وتعبيره بـ ((المتبوع)) سهو في الموضعين، والصواب التعبير بـ ((التابع)) فيهما. قوله: ويدل على عدم وجوب الوتر قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، فلو كان الوتر واجبًا لم يكن فيها وسطى، لأن الستة لا وسط لها، كذا قاله الماوردي. وقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((كتب على ثلاث- ولم تكتب عليكم-: الضحى والأضحى، والوتر))، ولأنه- عليه الصلاة والسلام- كان يوتر على الراحلة كما ثبت في ((الصحيحين))، وروى مسلم أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يسبح على الراحلة، ويوتر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. فإن قيل: لا دلالة فيه، لأن الوتر كان واجبًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: أجاب ابن الصلاح بأن المراد: أن ما وجب على العموم لا يجوز أداؤه على الراحلة، والوتر ليس كذلك. انتهى ملخصًا. وما ذكره أولًا عن الماوردي استدلال غلط، كما تقدم في الكلام على الصلاة الوسطى، وأما ما ذكره أخيرًا فذهول عن المنقول، فإنه- عليه الصلاة والسلام- إنما كان يصلي الوتر على الراحلة في السفر، والوتر لم يكن واجبًا عليه إلا في الحضر، كذا ذكره الحليمي في ((شعب الإيمان)) والشيخ عز الدين في ((القواعد))، والقرافي في ((شرح المحصول)) و ((شرح التنقيح)). قوله في الحديث: ثم خرج ليلة في رمضان، فرأى الناس قزعًا في المسجد فمن واحد يصلي، ومن اثنين يصليان، ومن ثلاثة يصلون ... إلى آخره. اعلم أن المشهور في الحديث: فرأى الناس أوزاعًا. والأوزاع- بالزاي المعجمة-: هم المتفرقون، من قولهم: وزعه على الناس، أي: فرقه، والمصنف قد ذكره كما يراه،

فيجوز أن يكون بالقاف من ((القزع)) المقول على السحاب وعلى الشعر، وهو القطع المتفرقة. وذكر قوله في الحديث- أيضًا-: من تعار من الليل ... إلى آخره. تعار: بتاء مفتوحة بنقطتين من فوق، ثم عين مهملة، وبالراء المشددة. يقال: تعار الرجل من الليل، إذا استيقظ من نومه مع صوت، قاله الجوهر. ثم ذكر المصنف- أيضًا- نعيم بن هبان: فأما نعيم فبضم النون، وأما ((هبار)): فكتبه المصنف بالنون في آخره، وهو غلط، بل بالراء على كل حال، ثم اختلفوا فقيل: إنه بالهاء والباء الموحدة المشددة، وقيل: إنه بالهاء- أيضًا- ولكن بالميم المشددة، وقيل: إنه بالحاء المكسورة والميم المخففة. قوله- فيما إذا جمع مصلي الوتر بين أكثر من ركعتين-: وقد تلخص من ذلك أن له أن يقتصر على تشهد واحد بلا خلاف، وهل تجوز الزيادة على التشهد الواحد؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا، والثاني: نعم، فيتشهد ما شاء، والثالث- وهو الأصح-: يجوز بتشهدين، ولا تجوز الزيادة عليهما. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف في الاقتصار على تشهد واحد ليس كذلك، بل فيه وجه مشهور مذكور حتى في ((الرافعي)): أنه لابد من تشهدين. قوله: ثم المشروع من القنوت هنا هو ما ذكرناه في الصبح، لرواية أبي داود عن الحسين بن علي قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر ((اللهم، أهدني فيمن هديت ...)) إلى آخره. والذي ذكرته عن المصنف من كون الراوي هو الحسين بالتصغير هو كذلك في خطه، وهو خطأ، فإن روايه إنما هو الحسن مكبرًا لا مصغرًا، كذا هو في كتب الحديث وغيرها، وقد وقع له نظير هذا بعينه- أي التباس الحسين بالحسن- في باب العدد، ويأتي هناك التنبيه عليه، إن شاء الله تعالى. قوله: فإذا فرغ من القنوت فالمستحب أن يقول: ((سبحان الملك القدوس، رب الملائكة والروح))، لما روي في خبر أبي أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يقول ذلك ثلاث مرات، ويطيل في آخره. انتهى كلامه. وما ذكره من كونه يقول ذلك بعد القنوت ذكره صاحب ((البحر))، فقلده فيه المصنف، وهو سهو، فإن المنقول للأصحاب والوارد في الحديث إنما هو بعد الفراغ من الوتر.

قوله: روى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقول الليل فترك قيام الليل))، وروى البخاري ومسلم- أيضًا- عنه ... إلى آخره. واعلم أن المصنف قد عبر بقوله: عن عبد الله بن عمر- أعني بغير واو- كما نقلناه عنه، فيقتضي أن يكون عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو غلط صريح، وإنما هـ عبد الله ابن عمرو بن العاص.

باب سجود التلاوة

باب سجود التلاوة قوله: وقيل: إنه لا يسن للمستمع السجود إلا إذا سجد القارئ، وقياس هذا: أن القارئ لو كان محدثًا أو صبيًا أو كافرًا لا يسجد، وقد حكاه في ((البيان)) وجهًا. ولو كان القارئ في الصلاة والمستمع خارج الصلاة، وسجد القارئ- فإنه يستحب للمستمع أن يسجد معه على الأصح، وبه جزم القاضي الحسين، وفيه وجه عن رواية صاحب ((البيان)): أنه لا يسجد. انتهى كلامه. وما ذكره من كون صاحب ((البيان)) قد حكاه وجهًا ليس كذلك، بل جزم به في المسألتين وجعله مذهبنا، فإنه جعل المسألتين معًا من الخلافيات بيننا وبين أبي حنيفة، وقد نقله عنه الرافعي على الصواب. قوله: ولو وسجد إمامه، ولم يعلم المأموم بذلك حتى رفع الإمام رأسه من السجود- فلا يجوز له أن يسجد، كما لو جلس إمامه للتشهد الأول وقام ولم يعلم، أو قنت ولم يعلم. ثم قال: نعم، لو أراد هذا أن ينوي مفارقته ليسجد ليس له ذلك، بخلاف ما لو نوى مفارقته ليأتي بالتشهد أو القنوت، والفرق: أنهما من أبعاض الصلاة، فتركهما يوجب نقصانًا في الصلاة، ولا كذلك سجود التلاوة. ولو لم يسجد الإمام فلا يسجد المأموم، وفي ((الذخائر)) وجه: أنها لا تبطل. قال بعضهم: وينبغي أن يخرج على الخلاف في المفارقة، وقد تقدم الفرق. انتهى كلامه. وما ذكره من أن سجدة التلاوة لا تلتحق بالتشهد ونحوه، للفرق المذكور- قد جزم في باب سجود السهو بخلافة نقلًا عن البغوي، ذكر ذلك في الكلام على قول الشيخ: ((وإن ترك فعلًا مسنونًا))، وستعرف لفظة هناك. قوله: وهي أربع عشرة سجدة. ثم قال: والدليل على هذه السجدات- ما عدا السجدة الأخيرة في ((الحج)) وسجدات المفصل- الإجماع، كما قال بعضهم. وفي الأخير في ((الحج)) ما أسلفناه

من حديث عقبة بن عامر. قال أبو إسحاق: وقد أدركنا الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين. وإنما ذكر هذا، لأن حديث عقبة في رجاله ابن لهيعة ومشرح بن هاعان، ولا يحتج بحديثهما. انتهى. ودعوى الإجماع مردودة، فقد رأيت في ((تعليق)) القاضي الحسين ما نصه: وقال علي- رضي الله عنه-: ((عزائم السجود أربع: في ((الم تنزيل))، و ((حم)) السجدة، والنجم، وسورة ((اقرأ باسم ربك)). هذا كلامه، ورأيت في ((الإنابة)) للفوراني مثله، أيضًا. والمراد بـ ((أبي إسحاق)) هنا هو السبيعي، منسوب إلى جد له يقال [له]: السبيع، بسين مفتوحة مهملة، ثم باء موحدة مكسورة، بعدها ياء بنقطتين من تحت، ثم عين مهملة. واقتصار المصنف على كنيته غريب. تنبيه: ذكر المصنف ألفاظًا: منها: مشرح، وهو بميم مكسورة، وشين معجمة ساكنة، وراء مهملة مفتوحة، وحاء مهملة. ومنها: هاعان: بهاء وعين مهملة. ومنها في الحديث: تشزن الناس للسجود، أي: استعدوا- هو بتاء مفتوحة، ثم شين معجمة مفتوحة- أيضًا- بعدها زاي معجمة مشددة، ثم نون. ومنها: أنه رأى نغاشيًا، فسجد لله. والنغاشي، قيل: إنه ناقص الخلقة، وقيل: هو مختلط العقل. انتهى. والنغاشي: بنون مضمومة، ثم غين وشين معجمتين، وفي آخره ياء مشددة للنسب. ويروى أيضًا بحذف الياء على وزن ((اللغات)) و ((الغراب)). قال ابن الأثير بعد ذكره لهاتين الروايتين: هو القصير جدًا، الناقص الخلق، الضعيف الحركة. والحديث رواه البيهقي بإسناد ضعيف ومرسل. ومنها: أن عمر سجد عند فتح اليرموك، وعلي عند رؤية ذي الثديين قتيلًا بالنهروان. أما ((اليرموك)) فبياء مفتوحة مثناة من تحت، وراء مهملة ساكنة، وبالكاف: اسم لموضع بالشام كانت فيه واقعة عظيمة بين المسلمين والروم، انتصر فيه المسلمون. وأما ((الثدية)) فبالثاء المثلثة، تصغير ((الثدي)): وهو الذي يرتضع منه الطفل، ودخلت الثاء وإن كان مذكرًا كأنه أراد: قطعة من ثدي، وقيل: هو تصغير لـ ((الثندوة))،

بحذف النون، وهو رأس الثدي المسمى بالحلمة. ويروى: ((ذو اليدية)) بالياء المثناة من تحت، تصغير ((اليد)). ذكره جميعه ابن الأثير في ((النهاية))، وذكر المصنف الكلمة على أنها مثناة. قوله: ومن سجد في غير الصلاة كبر للإحرام رافعًا يديه، ثم يكبر للسجود، ويكبر للرفع. ثم قال: وفي قول الشيخ: للإحرام، دليل على أمرين: أحدهما: اشتراط النية، إذ لا إحرام بدونها، وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب. والثاني: أنه يكون في حال استقراره قبل هويه إلى السجود إما قائمًا أو جالسًا. وكلامه من بعد يدل عليه، أيضًا. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف في اشتراط النية ليس كذلك، ففي ((الوسيط)) عدم اشتراطها، وممن نقله عنه الرافعي، وقد حكاه الإمام- أيضًا- وجهًا، وصرح بحكايته- أيضًا- الرافعي في آخر المسألة، فقال في كلامه على لفظ ((الوجيز)) ما نصه: في أقل سجود التلاوة أربعة أوجه: أحدها: أن الأقل سجدة بواجباتها في صلب الصلاة لا غير. والثاني: سجدة مع التحرم والتحلل والتشهد. والثالث: مع التحرم والتحلل لا غير. والرابع: مع التحرم لا غير. وجعل- أي الغزالي- أولها أصحها، وهو متأيد بما حكى عن الشافعي أنه قال: وأقله سجدة بلا شروع ولا سلام. هذه عبارته، وقد صرح المصنف وغيره بأن الساجد للتلاوة في الصلاة لا يحتاج إلى نية بالاتفاق، وذلك يزيد ما قلناه إيضاحًا. الأمر الثاني: أن ما اقتضاه كلامه من إيجاب الإحرام قبل الهوي غير مستقيم، لأن السجدة نافلة، والنوافل لا يجب فيها ذلك. قوله في المسألة: والتكبير في حال التحريم من تخريج ابن سريج، وقال الرافعي: إنه من تخريج أبي إسحاق. انتهى. وما نقله عن ابن سريج صحيح، فقد قال القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)): إن ابن سريج خرج ذلك في الركوع، وإن أبا إسحاق خرجه في السجود. وأما ما نقله عن الرافعي من كون التخريج المذكور لأبي إسحاق فغلط، ليس له في ((الرافعي)) ذكر بالكلية، وقد تقدم من كلام القاضي ما يدفعه أيضًا.

قوله: من سجد للتلاوة في الصلاة كبر للسجود وللرفع منه. ثم قال: وعن أبي هريرة: أنه لا يكبر لهذا السجود ولا للرفع منه، حكاه عنه هكذا الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وغيرهما، ورأيت فيما وقفت عليه من ((الحاوي)) أنه قال: يسجد من غير تكبير، ويرفع مكبرًا. ورأيت في ((تعليق)) القاضي الحسين عنه: أنه لا يكبر لرفع الرأس منه، وسكت عن التكبير للسجود. ثم قال بعد ذلك في الكلام على السجود في غير الصلاة ما نصه: ومذهب ابن أبي هريرة جار هنا- أيضًا- فلا يكبر للسجود ولا للرفع منه، صرح به أبو الطيب عنه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن ((الحاوي)) عن ابن أبي هريرة ليس كذلك، بل فيه عنه عدم التكبير فيهما، موافقًا لما نقله عنه الشيخ أبو حامد وغيره، فقال: والوجه الثاني- وهو قول أبي علي بن أبي هريرة-: يسجد غير مكبر، ويرفع غير مكبر. هذه عبارته. الأمر الثاني: أن ما نقله عن أبي الطيب- أيضًا- ليس الأمر فيه كذلك، فإنه لم يتعرض لخلاف بالكلية فيما إذا سجد في الصلاة، لا عن ابن أبي هريرة ولا عن غيره، وأما في خارج الصلاة فقال ما نصه: وقال ابن أبي هريرة: يسجد من غير تكبير لإحرام ولا لغيره. هذا لفظه في ((تعليقته))، وهو الكتاب الذي ينقل عنه المصنف.

باب ما يفسد الصلاة

باب ما يفسد الصلاة قوله: إذا أحدث في صلاته بطلت صلاته، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((إذا فسا أحدكم في صلاته فلينصرف فليتوضأ، وليعد صلاته)) رواه أبو داود، وقال الترمذي: إنه حسن. ولا فرق في ذلك بين أن يفعله قصدًا أو سهوًا. ومن هنا يظهر لك أن ما يقع في بعض النسخ من تقييد البطلان بالحدث عامدًا لا صحة له. ثم قال: وإن سبقه الحدث ففيه قولان ... إلى آخره. وما ذكره من فساد التعبير بالعمد عجيب فاسد، فإن المعتمد للحدث قد يكون عالمًا بكونه في الصلاة، وقد يكون ساهيًا، وفي كلا الحالين تبطل صلاته بلا خلاف، وإنما القولان إذا سبقه الحدث، وكأنه يوهم أن تعمد الحدث مقابله وقسيمه سهو الصلاة، وليس كذلك. وقوله في الحديث: ((فسا)) هو بفتح الفاء وبعدها سين مهملة ثم ألف، أي: أخرج الريح، تقول منه: فسا فسوًا، والاسم: الفساء، بالمد. قوله: ويجب على المصلي إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تبطل بها الصلاة، وقيل: إنها لا تجب وتبطل الصلاة بها. ثم قال: وألحق به أبو إسحاق إنذار الأعمى والصغير ونحوهما من الوقوع فيما يهلكه إذا لم يمكن الإنذار بغير الكلام، وهو الأصح في ((الحاوي)) واختيار جماعة، وقيل: إن ذلك لا يجب عليه، ولو فعله بطلت صلاته، كذا قاله في ((المهذب))، وغيره جزم بالوجوب وقال بالبطلان عند الإنذار، وفرق بين ذلك وبين إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه قد لا يقع فيما يخاف عليه الهلاك، وجزم به البندينجي، وقال الرافعي: إنه الأصح عند الأكثرين. انتهى كلامه. وما نقله من حكاية خلاف في الوجوب غلط، وعزوه ذلك إلى ((المهذب)) غلط- أيضًا- فإن حاصل ما فيه إنما هو الجزم بالوجوب وحكاية الخلاف في البطلان، وقد صرح النووي في ((شرحه)) بذلك فقال: وجب الكلام بلا خلاف، وهل تبطل صلاته؟ فيه الوجهان. هذه عبارته.

قوله: أما لو تنحنح لامتناع القراءة إلا به فلا خلاف في أنها لا تبطل. انتهى. أطلق المسألة، وصورتها في القراءة الواجبة، كما قاله في ((شرح المهذب)) و ((التحقيق))، وسكت عن حكم المستحبة، والقياس تخريجها على الخلاف في الجهر، والأصح فيه: أنه ليس بعذر. قوله: وإن خطا ثلاث خطوات، أو ضرب ثلاث ضربات متواليات- بطلت صلاته، للإجماع على أن العمل الكثير يبطلها دون القليل، وليس لذلك ضابط، فرجع فيه إلى العرف، والعرف يعد الثلاث المتواليات كثيرة. ثم قال: وما ذكره الشيخ من البطلان بالثلاثة هو طريقة الشيخ أبي حامد، ولم يخالف منطوقها أحد من الأصحاب. نعم، مفهومها يقتضي أن الخطوة والخطوتين والضربة والضربتين لا تبطل، وبه صرح الشيخ في الباب بعده. انتهى كلامه. وما ادعاه من الاتفاق على البطلان بالثلاثة ليس كذلك، فإن لنا وجهًا حكاه الرافعي والمصنف وغيرهما: أن الكثير ما يسع زمانه ركعة، والقليل: ما لا يسع، ولا شك أن الثلاثة تنقص عن الركعة، والذي أوقع المصنف فيما وقع فيه: أن الرافعي ادعى ذلك، وأخرج القائل بالركعة، فذهل عنه وادعى التعميم، فراجعه. قوله: وإن أكل عامدًا بطلت صلاته، لأنه يعد معرضًا عن الصلاة، ومنهم من لاحظ فيه كونه فعلًا ففرق بين القليل والكثير، قال الرافعي: والمرجع فيه على هذا قلة وكثرةً إلى العرف. وأفهم كلامه أن كلامهم عائد إلى قلة المأكول وكثرته، والذي يظهر على هذه الطريقة: أن يكون النظر إلى قلة الفعل والمضغ وكثرته. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من أن كلامه يفهم أنه راجع إلى المأكول لا إلى الأكل غير صحيح، لأن الرافعي إنما فرضه في الأكل خاصة، وليس فيه ما يوهم اعتبار المأكول بالكلية، فراجع كلامه تجده كذلك. ثم إن الرافعي قد نص على أن مجرد المضغ إذا كثر يبطل وإن لم يصل بسببه شيء إلى الجوف، لأنه فعل من الأفعال، فإذا كان الرافعي يبطل بالفعل الكثير عند عدم وصول شيء إلى الجوف بالكلية، فبطريق الأولى مع حصول شيء. قوله: ولا يدخل فيها وقد حضر العشاء ونفسه تتوق إليه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قرب العشاء وقد حضرت الصلاة فابدءوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب)) رواه البخاري ومسلم. انتهى كلامه. والتقييد بقوله: ((قبل أن تصلوا صلاة المغرب)) من تفردات مسلم، ولم يروه البخاري.

قوله: ولست أعرف خلافًا أن الساهي البارق ... إلى آخره. يقال: برق البصر، يبرق، على وزن ((علم يعلم))، برقًا: إذا تحير، فهو بارق: أي متحير. متحير. وأما برق يبرق- كوزن ((خرج يخرج)) - فمعناه: تلألأ، والمصدر: البروق. قوله: وإن سلم على المصلي فيستحب له الرد بالإشارة، وفي ((التتمة)): أن الأولى: ألا يرد حتى يفرغ. وفي ((الذخائر)): أنه حكى عن الشافعي أن الرد بالإشارة في الصلاة مكروه. ثم قال: ولا يجب الرد في هذه الحالة، ولا بعد السلام بحال، لأن السلام لم يكن مشروعًا، بل قد نص الشافعي على كراهة السلام على الخطيب، قال ابن الصباغ: والمصلي أولى بذلك، ويشهد لكراهة ذلك قوه- عليه الصلاة والسلام- ((غرار في الصلاة ولا تسليم)) أخرجه أبو داود. قال أحمد بن حنبل: معنى ذلك فيما أرى: لا تسلم ولا يسلم عليك. وقيل غيره. انتهى. وما اقتضاه كلامه من نفي الخلاف في وجوب الرد غريب، فقد حكى الرافعي في كتاب السير وجهًا: أنه يجب الرد في الصلاة بالإشارة، ووجهًا آخر: أنه يجب الرد بعد السلام باللفظ. واعلم أن الحديث الذي ذكر المصنف رواه البيهقي بهذا اللفظ، ورواية أبي داود: ((في صلاة))، أعني بتنكير ((الصلاة)). والغرار- بكسر الغين المعجمة وتكرير الراء المهملة-: هو النقصان. وقد اختلف العلماء في ضبط قوله: ((ولا تسليم)): فروى منصوبًا، ومجرورًا: فمن نصبه عطفه على ((غرار)) أي: لا غرار ولا تسليم في الصلاة، وهذا هو معنى ما نقله المصنف عن أحمد. ومن جره عطفه على ((صلاة))، أي: لا غرار في صلاة ولا في تسليم، وبهذا جزم الخطابي، ويؤيده ما جاء في رواية البيهقي: ((لا غرار في تسليم ولا صلاة))، والغرار في التسليم: أن يسلم عليك إنسان فترد عليه أنقص مما قال بأن، قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتقول: عليكم السلام، قال: وللغرار في الصلاة تفسيران: أحدهما: ألا يتم ركوعها وسجودها ونحو ذلك. والثاني: أن ينصرف وهو شاك: هل صلى ثلاثًا أو أربعًا مثلًا؟ قوله: وقول الشيخ: وإن بدره البصاق وهو في المسجد بصق في ثوبه، وحك بعضه ببعض- عام في المصلي وغيره. انتهى. والذي قاله ذهول، فإن الضمير في قوله: بدره، عام على المصلي، وكذلك

الضمائر التي قبله وبعده جميعها. قوله: وإن كان في غير المسجد بصق على يساره أو تحت قدمه اليسرى، هذا الكلام ليس على التخيير، بل هو على حالين، ويدل عليه ما روى أبو داود عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام الرجل إلى الصلاة، أو: إذا صلى أحدكم- فلا يبزق أمامه ولا عن يساره، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغًا، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به)) وأخرجه الترمذي وقال: إنه حسن. وعلى هذا يجب حمل كلام الشيخ، أيضًا. انتهى كلامه. وهذا الكلام الذي ذكره عجيب جدًا، فإن الحديث صريح في التخيير، إلا أنه شرط في البصق على اليسار فراغه، وهذا لا شك فيه. وقول المصنف في الحديث: ((ولا عن يساره)) سبق قلم، وصوابه: عن يمينه. والمحاربي: بالحاء والراء المهملتين وبالباء الموحدة. قوله: ولو كان مروره من وراء السترة كره بلا خلاف كما أفهمه كلام الشيخ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي)) أخرجه مسلم. انتهى كلامه. وهذا الحديث ليس في ((صحيح)) مسلم، بل الذي فيه إنما هو الحديث المشهور الذي ذكر فيه: ((أربعين خريفًا))، وكذلك في ((البخاري)) - أيضًا- نعم، روى ابن ماجه معناه من رواية أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: ((لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضًا في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا)) قال ابن حبان: حديث صحيح.

باب سجود السهو

باب سجود السهو قوله: وإن تكلم ناسيًا، أو سلم ناسيًا، أو قرأ في غير موضع القراءة- سجد للسهو. ثم قال: الثاني: أنه لا فرق في القراءة بين أن تكون الفاتحة أو بعضها أو غير ذلك، وهو في الفاتحة متفق عليه إذا كان على وجه السهو، وفي غير الفاتحة وجهان في ((الحاوي)). انتهى كلامه. وما ذكره من الاتفاق غريب، فإن المسألة فيها وجهان مشهوران في ((الرافعي)) وغيره من الكتب المشهورة، حتى جعل النووي الخلاف قويا فإنه عبر في ((الروضة)) و ((المنهاج)) بلفظ ((الأصح))، وقد أشار المصنف بعد هذا إلى ذكر هذا الخلاف. قوله: ومن هنا تؤخذ قاعدة قررها الأصحاب في الباب: أن ما لا يبطل الصلاة ارتكابه من المنهيات على وجه العمد لا يتقضي السجود سهوه. ولم يستثن من ذلك إلا قراءة الفاتحة أو غيرها في غير المحل. انتهى كلامه. وما ذكره من كونه لا يستثنى إلا هذه المسألة غريب، فإنه يستثنى من ذلك مسائل أخرى ذكرها الأصحاب مفرق: إحداها: القنوت قبل الركوع، فإن عمده لا يبطل الصلاة، مع أن سهوه يقتضي السجود على الأصح المنصوص، كما ذكره النووي في باب صفة الصلاة من ((زوائد الروضة)). الثانية: إذا طول ركنًا قصيرًا ساهيا، وقلنا: لو تعمده لم يضر- فإنه يسجد على الصحيح، كما ذكره من ((زياداته)) - أيضًا- في هذا الباب. الثالثة: إذا ترك التشهد الأول ناسيًا، وتذكره بعدما صار أقرب إلى القيام- فله أن يعود إليه، ثم إذا عاد سجد على ما صححه الرافعي في ((الشرح الصغير))، وتبعه النووي في ((المنهاج))، مع أنه لو تعمده لم تبطل صلاته، لأنه يجوز له أن يترك التشهد وينتصب. الرابعة- استثناها ابن أبي الصيف في ((النكت)) - وهو القاصر إذا زاد ركعتين سهوًا، فإنه يسجد، مع أنه يجوز له زيادتهما. وفي هذه بحث ذكرته في ((المهمات)).

قوله: وفي كلام الشيخ احتراز عن مذهب أبي عل بن خيران في أن من لم يكن خلف الإمام، لكن مقتديًا به في قدوة حكمية: كالطائفة الثانية في صلاة ذات الرقاع إذا خرجت إلى وجه العدو- فإنها إذا سهت في الركعة التي تأتي بها لا يحمل عنها عنده، وكذا المزحوم في الصلاة إذا سها فيما يأتي به- حيث تكون القدوة حكمية، كما ستعرفه- لا يتحمل عنه الإمام على رأي، والمنصوص: خلافه. انتهى. واعلم أن الإمام إذا قام إلى الثانية فيجوز للمقتدين به ألا يتموا الصلاة، وأن يذهبوا إلى مكان إخوانهم وجاه العدو وهم في الصلاة، فيقفون سكوتًا، وتجئ هذه الطائفة فتصلي مع الإمام ركعته الثانية، فإذا سلم ذهبت إلى وجه العدو ويقفون سكوتًا، وجاء الأولون إلى مكان الصلاة وأتموا لأنفسهم، وذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الصلاة وأتموا. هذه هو أصح القولين، ورواه ابن عمر، وفي قول: لا يجوز ذلك. ولم يذكر المصنف في صلاة الخوف خروج الفرقة الثانية إلى وجه العدو، فإنه لم يستوعب الكيفية كما استوعبها الرافعي، واقتصر في حكاية الخلاف على خروج الفرقة الأولى إلى وجه العدو ساكتة، وحينئذ فلم يذكر المصنف أن الطائفة الثانية تخرج إلى وجه العدو قبل الإتيان بالركعة حتى يفرع عليه، وبتقدير ذكره فإن إتيانها بالركعة على هذا التقدير إنما يكون بعد السلام، وحينئذ فلا يحمل مطلقًا، وكأنه أراد الطائفة الأولى فسبق القلم إلى الثانية، وأراد سهوها في مدة وقوفها ساكتة قبل إتيانها بالركعة، وعلى كل حال: لو لم يأت بقوله: إذا خرجت إلى وجه العدو، لاستقام. وقد علمت مما ذكرناه هاهنا ما يرد عليه في ذلك الباب، وعدم استيفاء الكيفية المختلف فيها. قوله: وإن سها إمامه تابعه في السجود، وقيل: لا تجب المتابعة على المسبوق مطلقًا. ثم قال: وقيل: إن كان سهوه قبل اقتدائه فلا يتابعه فيه، بخلاف ما إذا كان بعد اقتدائه، وقال الإمام: إنه الظاهر. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام غلط، فإن الإمام صحح أن السهو يتعدى حكمه إلى المسبوق، ثم فرع ما نقله عنه المصنف على الضعيف، وهو لا يتعدى، فراجعه. قوله: وإن ترك- أي الإمام- فعلًا مسنونًا، واشتغل بفرض لم يخرج به من الصلاة، مثل: أن ترك التشهد الأول، أو: ترك سجود التلاوة حين قرأ آية سجدة

تابعه، ولم يشتغل بفعله، لأن متابعة الإمام واجبة فلا تترك لأجل سنة، فلو اشتغل بفعله بطلت صلاته إن لم ينو مفارقته، وإن نوى مفارقته جاز على الأصح، لأن هذه مفارقة بعذر، صرح به في ((التهذيب)). انتهى كلامه. وما جزم به من كون ذلك مفارقة بعذر قد ذكر ما يخالفه في باب سجود التلاوة، وفرق بينه وبين التشهد والقنوت بأنهما من الأبعاض، بخلاف هذا، وقد تقدم ذكر لفظه هناك، فراجعه. قوله: في قول الشيخ: ((وإن لم يسجد حتى سلم الإمام ولم يطل الفصل سجد، وإن طال ففيه قولان، أصحهما: أنه لا يسجد)) -: إن ظاهر ما ذكره- يعني الشيخ- مفرع على أن محل السجود قبل السلام، وبذلك قيده الشارحون لكلامه. ولا يظهر للتقييد معنى، فإنا إذا قلنا: إن محله بعد السلام، إذا كان السهو زيادة ولم يطل الزمان سجد في وقت السجود، وإن طال ففيه القولان، صرح بهما البندنيجي وغيره. انتهى كلامه. واعلم أن ما قاله من عدم فائدة التقييد كلام غريب، فإن لنا قولًا ثالثًا: أنه يجوز قبل السلام وبعده، والشارحون قد ذكروا هذا القول، ثم قيدوا كلام الشيخ بما سبق، للاحتراز عنه، فاعلم ذلك.

باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها

باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها قوله: ولا يكره فيها ما له سبب: كصلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وقضاء الفائتة، لما روى أنه- عليه الصلاة والسلام-: ((رأى قيس بن قهد يصلي ركعتين بعد الصبح، فقال: ما هاتان الركعتان يا قيس؟ فقال: ركعتا الفجر لم أكن صليتهما، فسكت ولم ينكر عليه)) انتهى كلامه. والاستدلال الذي ذكره غير صحيح، لأن ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح أداء لا قضاء على المعروف، وقد جاء في ((صحيح)) ابن حبان ما هو أصرح منه، وهو أنه صلاهما عقب سلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ولا عند الاستواء يوم الجمعة، لما روى أبو سعيد الخدري ((أنه- عليه الصلاة والسلام- نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة)) رواه أبو داود. انتهى كلامه. واعلم أن أبا داود لم يروه عن أبي سعيد كما اقتضاه كلام المصنف، بل رواه مرسلًا عن أبي قتادة، والراوي عن أبي سعيد إنما هو البيقهي في كتاب ((المعرفة))، والحديث ضعيف، قال البيهقي: في إسناده من لا يحتج به. وقد ذكر المصنف في الباب ألفاظًا: منها في الحديث: ((حين تضيف الشمس إلى الغروب)) أي: تميل، هو بفتح التاء المثناة من فوق الضاد المعجمة أيضًا- ومنه: ((الضيف))، لما فيه من الإمالة إليك. ومنها: عمرو بن عبسة، هو بعين مهملة مفتوحة، وباء موحدة مفتوحة- أيضًا- ثم سين مهملة، بعدها هاء. ومنها: قال: ((الصلاة محضورة)) هو بالضاد المعجمة، أي: تحضرها الملائكة. ومنها: ((تسجر بجهنم)) هو بسين مهملة ساكنة وبالجيم، أي تحمى ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ} [التكوير:6]. ومنها: قيس بن قهد، هو بقاف مفتوحة وهاء ساكنة، وهو في اللغة: الأبيض الأكدر.

باب صلاة الجماعة

باب صلاة الجماعة قوله: الجماعة سنة في الصلوات الخمس، لما روى أبو هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة)) أخرجه مسلم. وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) أخرجه البخاري ومسلم. ووجه الدلالة منهما على السنة: أن لفظ ((أفضل)) موضوعه فيما لأحدهما مزية فيما يشاركه فيه. ثم قال: وقيل: إن الجماعة فرض على الكفاية. وقد نص الشافعي عليه في كتاب الإمامة، والقائلون به يحملون الأدلة السالفة على ما إذا كان ثم عذر من مرض ونحوه، أو على صلاة النافلة. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما توهمه من أن صيغة ((أفضل)) المقتضية للمشاركة هاهنا في الفضلية، لكونها ((أفعل)) تفضيل المستلزمة لعدم الوجوب، قد وقعت هنا في الحديثين- سهو، فإنها لم توجد في الحديث الأول، بل الموجود فيه لفظ ((تزيد)) وإن كان المعنى واحدًا، ثم إن هذا التقرير تكلف لا حاجة إليه، فإن الحديث قد صرح بالاشتراك والزيادة. الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه من حمل التفضيل عمن حصل له عذر من مرض أو نحوه، قد ذكر بعد ذلك في آخر الكلام على الأعذار ما يخالفه، وأن المعذور المنفرد لا ينقص أجره، فقال: واعلم أن هذه الأعذار كما تنفي الحرج عن التارك تحصل له فضيلة الجماعة وإن صلى منفردًا، إذا كان قصده الجماعة لولا العذر، للأخبار الواردة في ذلك، قاله الروياني في ((تلخيصه))، ويشهد له ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا- أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئًا)) ز أخرجه النسائي هذا كلامه. وما نقله ثانيًا من حصول الثواب نقله- أيضًا- في ((البحر)) عن القفال، وارتضاه

وجزم به- أيضًا- الغزالي في ((الخلاصة))، وهو الصواب، ففي صحيح البخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا))، وخالف في ((شرح المهذب)) فقال: وهذه الأعذار مرخصة للترك، وأما فضيلة الجماعة فلا تحصل له بلا شك وإن تركها لعذر. هذا كلامه، وهو مردود بما سبق نقلًا واستدلالًا، وقد ذكر الرافعي في ((باب صفة الصلاة)) في فصل القيام: أن من صلى قاعدًا لمرض تحصل له فضيلة القيام. وقال في ((شرح مسلم)): إنه لا لاف فيه، وهو يقوي الحصول في مسألتنا، إلا أن بينهما فرقًا ظاهرًا، وهو أنه قد أتى عن القيام ببدل، بخلاف الجماعة، لكن الرافعي علله بقوله: لأنه معذور. وتبعه عليه في ((الروضة)). قوله: واختار أبو ثور وابن المنذر وابن خزيمة أن الجماعة فرض عين، والمعروف خلافه، إذ لو كانت كذلك لكانت شرطًا فيها كالجمعة. انتهى. وهذا الكلام صريح في أن ابن خزيمة لا يقول بالشرطية، وليس كذلك، فقد نقل الإمام عنه أنها شرط للصحة. قوله- في التفريع على أن الجماعة فرض-: والمسافرون لا يتعرضون لهذا الفرض بلا شك كما قاله الإمام. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من القطع بعدم الوجوب وارتضاه، قد ارتضاه- أيضًا- النووي في ((التحقيق)) فقال: والجماعة في حق المسافرين سنة قطعًا، وهذا الذي قاله الإمام وتابعه عليه من تابعه غريب ومردود، فإن الشافعي- رضي الله عنه- قد نص في ((الأم)) على وجوبها عليهم كما تجب على غيرهم، فإنه استدل على وجوب الجماعة من القرآن والحديث. ثم قال بعد ذلك ما نصه: فأشبه ما وصفت من الكتاب والسنة ألا يحل ترك أن يصلي كل مكتوبة في جماعة، حتى لا يخلو جماعة مقيمون ولا مسافرون من أن تصلي فيهم جماعة. هذا لفظ الشافعي بحروفه، ومن ((الأم)) نقلته. قوله- أيضًا-: وفي الحديث: ((إلا عجوزًا في منقلبها))، قال: والمنقل: الخف، وقيل: المندل، وهو بكسر الميم كما قاله الهروي، وقال الجوهري: بالفتح. انتهى. وهو بنون ساكنة بعدها قاف، قال الأزهري: يقال للخف: المندل والمنقل، بكسر الميم فيهما. وقال ابن مالك في ((المثلث)): المنقل- بالكسر والفتح- هو الخف مطلقًا، وبالضم: الخف المصطلح عليه. وذكر الجوهري ما حاصله: أن النقل- بلا

ميم، ولكن بنون تفتح وتكسر، وبقاف ساكنة، هو الخف الخلق والنعل الخلق، وكذلك ((المنقل)) بفتح الميم والقاف. وإذا علمت ما ذكرناه علمت أن كلام المصنف مشتمل على تخليط وانعكاس، وأنكر النووي في ((التهذيب)) تفسير ((المنقل)) بالخف الخلق، قال: بل هو الخف مطلقًا عند اللغويين. قال: والتقييد بـ ((الخلق)) قاله الإمام وغيره من الفقهاء. والذي أنكره عجيب، لما سبق عن الجوهري وغيره. قوله: ويعذر في ترك الجماعة بالمطر. ثم قال: والوحل، لأنه أشد من المطر في الأذى، وحكى المراوزة وجهًا آخر: أنه بمجرده ليس بعذر ما لم ينضم إليه المط، وعليه ينطبق قول الغزالي في ((الوسيط)): والمطر مع الوحل عذر فيها. ومثل ذلك قاله القاضي الحسين في الجمعة، وعلى هذا: فالفرق بينه وبين المطر: أن الوحل له أمد ينتظر، ولا كذلك المطر. انتهى كلامه. والذي حكاه عن الغزالي والقاضي وجه آخر خلاف الوجه الذي حكاه أولًا، وليس هو منطبقًا عليه كما توهمه المصنف، فإن مدلوله: أن المطر وحده ليس عذرًا، بل لابد من ضم الوحل إليه، وهو عكس ما حكاه عن المراوزة، وإذا لم يكف المطر وحده فالوحل بطريق الأولى، وحينئذ فلابد منهما معًا، وقد صرح بنقله عنه هكذا في باب الجمعة فقال: وظاهر كلام الشيخ: أنه لا يشترط مع ذلك الوحل، وقد اشترطه القاضي الحسين وقال لو وجد أحدهما لم يجز الترك. قوله- في الأعذار-: والريح الباردة في الليلة المظلمة، لما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: ((أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال- عليه الصلاة والسلام-: ألا صلوا في الرحال)). انتهى كلامه. وتركيب هذا الحديث باللفظ الذي ذكره المصنف تركيب عجيب غير مفهم، أو تركيب مفهم ما ليس بصحيح، وبالجملة فالمصنف قد أخطأ في لفظ الحديث، ولفظه في ((الصحيحين)): عن ابن عمر: أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر أن يقول: ((ألا صلوا في الرحال)). قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن أحرم مع الإمام، أي: في غير الجمعة، ثم أخرج نفسه من الجماعة لعذر، وأتم منفردًا- جاز، وإن كان بغير عذر ففيه قولان أصحهما: أنه يجوز. ثم قال في آخر المسالة ما نصه: والانتقال من الجماعة إلى الانفراد لا يجوز ولو

كان في الركعة الثانية. انتهى كلامه. واعلم أن ما قاله من عدم تخريج الجمعة على القولين وجزم به، ليس الأمر فيه كما قاله، بل الحكم أنها مخرجة عليهما حتى يكون الصحيح فيها الجواز- أيضًا- كذا جزم به الرافعي في كتاب الجمعة، وتبعه عليه- أيضًا- النووي وقال في ((شرح المهذب)): إنه لا خلاف فيه. ولا شك أن المصنف لم يقف على كلامهما، لكونه في باب آخر، فإنه لو وقف عليه لكان أقل المراتب أن يحكي ما جزم به وجهًا في المسألة إن لم يجزم به كما جزما، أو لم يصححه، ولم يقف- أيضًا- في المسألة على نقل، وإلا لكان يعزوه إلى قائله، فإن عادته أن يعزو ما هو أوضح منه. قوله: ولو كان بعض المأمومين يؤثر التطويل دون بعض، قال الجيلي: راعى الأكثر، ويحتمل أن يقصر مطلقًا. قلت: وهو الذي يدل عليه الخبر، قال- عليه الصلاة والسلام-: ((إني لأدخل في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه)) أخرجه البخاري. انتهى. وما ذكره من نقل الترك احتمالًا عن الجيلي فقط، وتقويته بالحديث- مؤذن بعدم اطلاعه في المسالة على نقل، وهو غريب، فقد صرح بالمسالة جماعات، منهم البغوي فقال: وإن رضي بعضهم دون بعض فليخفف، مراعاة لحق الضعيف، قال النووي في ((شرح المهذب)): فإن جهل حالهم، أو كان فيهم من يؤثر التطويل، وفيهم من لا يؤثره- لم يطول، اتفق عليه أصحابنا. هذا لفظه، ثم استدل بالحديث الذي استدل به المصنف، وكلام الرافعي وغيره كالصريح فيه، وفي ((فتاوي)) ابن الصلاح: أنهم لو آثروا التطويل إلا واحدًا أو اثنين، لمرض ونحوه- فإن كان ذلك مرة ونحوها خفف، وإن كثر حضوره طول مراعاة لحق الراضين، قال النووي في ((شرح المهذب)): وهذا التفصيل الذي قاله حسن متعين. قوله: واحترز الشيخ بقوله: في الأذكار، عن التخفيف في القراءة، فإنه غير مستحب، بل المستحب فيها ما تقدم، وهو: في الصبح والظهر من طوال المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساطه، كما قال القاضي الحسين. انتهى كلامه. واعلم أن اختيار الشيخ- رحمه الله-: أنه لا فرق في التخفيف بين القراءة والأذكار، فقد صرح بذلك في ((المهذب)) فقال: في القراءة والأذكار. هذه عبارته، وحينئذ فيكون اقتصاره هنا على الذكر لأجل أنه صادق على القراءة، ولهذا قال الجيلي في ((شرحه)) لقول الشيخ ((في الأذكار)): كالقراءة. وقال الشيخ تاج الدين

الفركاح: إن قوله: في الأذكار، ناقص عن كلام ((المهذب)). قال: والصواب: التخفيف في الجميع. وما ذكره هؤلاء هو المعروف من نص إمام المذهب ونص أصحابه، ولهذا قال النووي في ((شرح المهذب)): قال الشافعي والأصحاب: يستحب للإمام أن يخفف القراءة والأذكار بحيث لا يقتصر على الأقل، ولا يستوفي الأكمل المستحب للمنفرد من طوال المفصل وأوساطه وأذكار الركوع. هذا كلامه، وهو الحق الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن السبب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف)) هو التطويل في القراءة، فيكون مرادًا بالإجماع، وأنكر على معاذ- أيضًا- بسبب ذلك، وحكى الدرامي وجهين في المنفردة: هل الأفضل له التطويل أم لا؟ قوله: وإذا أحس الإمام بداخل وهو راكع استحب له أن ينتظره في أصح القولين، ويكره في الآخر. ثم قال: جاء أبو بكر- رضي الله عنه- مسرعًا والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فأحرم في طرف المسجد، ثم انتقل إلى قرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((زادك الله حرصًا! ولا تعد)). انتهى. وهذا الذي جاء هو أبو بكرة- بتاء التأنيث في آخره- واسمه: نفيع- بنون مضمومة بعدها فاء- وهو ابن الحارث، وسياتي أيضًا الكلام عليه في الشهادات، والذي رأيته في كلام المصنف بإسقاط التاء، وكأنه توهم أنه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه. قوله: في المسألة-: وألحق العراقيون الانتظار في التشهد الأخير بالانتظار في الركوع، لأجل إدراك فضيلة الجماعة، وعلى قياس طريقة الفوراني والغزالي التي سنذكرها، من أنه لا يدرك فضيلة الجماعة دون ركعة: أنه لا ينتظره فيه، وأعرض الرافعي عن ملاحظة هذا الأصل وقال: القياس: أن يكون الانتظار فيه كالانتظار في القيام. والأوجه ما ذكرناه. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الرافعي من عدم ملاحظة هذا الأصل غلط عجيب، فإن الرافعي إنما ألحقه بالقيام بعد التفريع على الأصل المذكور، فقال: وقياس قول من يقول: إنه لا يدرك فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة مع الإمام: أن يكون حكم الانتظار هاهنا حكمه في القيام ونحوه. هذه عبارته. نعم، قد يقال للرافعي: متى راعينا هذا الأصل فلا يجوز في التشهد وإن جوزنا في القيام، لأنه في القيام يحصل له فضيلة الجماعة، بخلاف التشهد، ولعل هذا المعنى هو الذي كان في نفس المصنف، ولكن

التبس عليه حالة التصنيف. قوله: ولو صلى الشافعي خلف الحنفي فثلاثة أوجه: أحدها: يصح مطلقًا، سواء قرأ الفاتحة أم لا، وهو الذي نص عليه الشافعي، وعلى هذا: فلو ترك فعلًا فوجهان، والفرق: فحش المخالفة في الأفعال. والوجه الثاني: لا يصح مطلقًا، لأنه وإن أتى بها لا يعتقد وجوبها، وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقاضي الحسين. والثالث: إن أتى بها صح، وإلا فلا. انتهى ملخصًا. وما حكاه عن القاضي الحسين والشيخ أبي حامد من البطلان مطلقًا، غلطٌ، بل مذهبهما الثالث، فاعلمه. قوله: الموسوس إذا كان يردد القراءة، فركع الإمام قبل أن يفرغ- يجب عليه أن يتمها، قاله القاضي، ويظهر أن يكون كالمختلف بغير عذر. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد صرح به النووي في ((شرح المهذب)).

باب صفة الأئمة

باب صفة الأئمة قوله: وصاحب البيت أحق من غيره. ثم قال: وسلك الماوردي طريقًا آخر فقال: إذا كان صاحب الدار مثل الحاضرين عنده فهو أولى، وإن كانوا أقرأ منه فلا حق له في الإمامة، وليس لهم أن يجمعوا إلا بإذنه، فإن أذن لأحدهم فهو أحق بإمامتهم، وإن لم يأذن صلوا فرادى. انتهى كلامه. وما نقله عن ((الحاوي)) من أنه لا حق له إذا كانوا أقرأ منه غلط عجيب، فإن الماوردي فرض المسألة فيما إذا كان المالك أميًا فقال: إن صاحب الدار إن كان أميًا اعتبرت حالتهم: فإن كانوا مثله فهو أحق بإمامتهم، وإن كانوا أقرأ فلا حق له ... إلى آخره. هذا كلامه. وهو كلام صحيح، وأما إذا كان قارئًا، وكانوا أقرأ منه- فإن الحق له بلا خلاف، على خلاف ما اقتضاه كلامه. قوله: وفي ((الرافعي)) حكاية وجه: أن الصبي القارئ أولى من البالغ الذي ليس بقارئ، والخبر يشهد له. انتهى كلامه. وما نقله هنا عن الرافعي ليس له ذكر في ((شرحه الكبير)) ولا في ((الصغير)) ولا في ((المحرر)). قوله- فيما رواه البخاري عن عمرو بن سلمة-: وكان العرب تلوم بإسلامها، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. انتهى. تقول: تلوم زيد عمرًا- بتشديد الواو-: إذا انتظره، وهو في الحديث مضارع حذف منه إحدى التاءين وأصله: تتلوم، أي: تنتظر كما في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر:4] أي: تتنزل. قوله: وفي صلاة القارئ خلف الأمي، وهو الذي لا يحفظ الفاتحة- قولان: الجديد: عدم الصحة. ثم قال: وحكى ابن يونس طريقة أخرى منزلة للنصين على حالين: فحيث قال لا تصح، أراد: إذا كان يقدر على إصلاح لسانه، وحيث قال: تجوز، أراد: إذا كان لا يقدر

على ذلك. وهذه الطريقة لم أرها كذلك، بل الإمام والبغوي جعلا محل الخلاف إذا كان لا يقدر. ثم قال: وفي اقتداء القارئ خلف الأخرس والأرت والألثغ قولان- أيضًا- ... إلى آخره. انتهى. والطريقة المنقولة عن ابن يونس طريقة ثابتة فيه، إلا أن نقلها في الأمي غلط فاسد- أيضًا- من جهة المعنى، وإنما هي في الأرت والألثغ ونحوهما، وقد ذكرها ابن يونس عقب ذكرها ولاءً، إلا أنه لم يصرح بالمقصود، والتصوير يقتضيه. ثم إن كلام ابن الرفعة يشعر بأن المشهور تعميم الخلاف، مع أن التعميم هو الغريب، ولهذا لم يحكه الرافعي بالكلية، بل جزم بالتفصيل، وكذلك النووي في ((شرح المهذب)). قوله: وهل تجوز صلاة الجمعة خلف من يصلي الظهر؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كانت الظهر مقصورة جاز، وإن كانت تامة فلا. قلت: ويظهر أن يقال: إن تم العدد به فلا يصح مطلقًا، وإن تم دونه فهو محل الخلاف، ويؤيده تصريحهم به في المحدث. انتهى ملخصًا. وهذا الذي ذكره بحثًا هو حاصل ما ذكره النووي في باب صلاة الجماعة من ((شرح المهذب))، والرافعي في كتبه في باب الجمعة، ولهذا عبر في ((المنهاج)) بقوله: والمسافر في الأظهر إذا تم العدد بغيره، أي: تصح الجمعة خلفه.

باب موقف الإمام والمأموم

باب موقف الإمام والمأموم قوله: ولو كان المأموم أطول من الإمام، وساواه في العقب، ورجلهما سواء صحت صلاته على الصحيح، وبه جزم في ((التتمة))، لأن ابن عباس صلى بعلقمة والأسود أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وعبد الله كان قصيرًا. انتهى كلامه. وما ذكره من أن عبد الله هذا هو ابن عباس غلط، بل هو ابن مسعود، وقد ذكره على الصواب صاحب ((البيان)) وغيره، ثم إن ابن مسعود مشهور بالقصر، وبأن علقمة والأسود مختصان بصحبته. قوله- نقلًا عن الشيخ-: وإن حضر ومع الإمام واحد عن يمينه أحرم عن يساره، ثم يتقدم الإمام، أو يتأخر المأمومان، وقيل: إذا أمكن الإمام التقدم- أيضًائ- فالأفضل تقدمه دون تأخر المأمومين، لأنه ينظر ما يتقدم إليه، ولأنه فعل واحد، والذي نقله الرافعي عن الأكثرين هو ما قاله الشيخ. انتهى. والذي قاله عجيب، فإن الذي نقله الرافعي عن الأكثرين: أن تأخرهما أولى من تقدمه، على عكس هذا الوجه، وهذه المقالة لم يذكرها الشيخ بالكلية، بل حاصل كلامه التخيير، ولا خلاف فيه. قله: ولنوضح ذلك بالمثال، فنقول: إذا وقف الإمام في الإيوان مثلًا، ووقف شخص في آخر الإيوان من جهة يمين الإمام أو يساره، ووقف إل جانب هذا الشخص شخص في الصحن بحيث اتصل جانبه بجانبه- صحت صلاة من في الايوان ومن في الصحن، فإذا وقف واقف عن يمين الواقف في الصحن، أو يساره في الصحن- أيضًا- فإن لم يكن بينهما فرجة صح، وإن كان بينهما فرجة فعلى الخلاف السابق. ولو وقف في آخر الإيوان من وراء الإمام شخص، ووقف أخر وراءه في الصحن، وبينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها- صحت صلاة من الإيوان وهذا الواقف في الصحن على الأصح. وإذا وقف واقف عن يسار هذا الواقف في الصحن أو يمينه أو خلفه، كان حكمه في اشتراط الاتصال وعدمه كما لو وقف عن يمين الإمام أو يساره

أو خلفه في ساحة مملوكة. انتهى كلامه. وما ذكره في الواقف على يمين الواقف في الصحن أو يساره، من أنه يجئ فيه اعتبار الفرجة وعدمها كالواقف في بناء آخر- سهو، بل حكمه معه حكم الواقف على يمين الإمام أو يساره في مكان واحد، حتى يشترط ألا يزيد على ثلاثمائة ذراع، لأنهما- أيضًا- في مكان واحد، وهذا واضح جلي، وقد أشار إليه الرافعي وغيره، فقال: أعني الرافعي-: وإذا وجد هذا الشرط، وكان في بناء المأموم بيت عن اليمين أو الشمال- اعتبر الاتصال بتواصل المناكب، كما سبق. هذا كلامه، وذكر مثله النووي في ((شرح المهذب))، وهو يدل على أنه إذا لم يكن فيه بيت، بأن كان ساحة واحدة أو صحنًا- كما فرضه المصنف- لا يشترط فيه الاتصال، ولعل هذا هو الذي أوقع المصنف في الوهم.

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر قوله: والميل الهاشمي منسوب إلى ((هاشم)) بن عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه الذي قدر أميال البادية وبردها. انتهى كلامه. وما ذكره من نسبة ذلك إلى ((هاشم)) جد النبي - صلى الله عليه وسلم - غلط سبقه الرافعي إليه، بل هو منسوب إلي ((بني هاشم))، فإنه فعلوا ذلك حين أفضت إليهم الخلافة، وكان لبني أمية أميال هي أكبر من هذه، كل خمسة منها ستة من الهاشمية، ولهذا قدرها الشافعي في القديم بأربعين ميلًا، فخالفوهم قطعًا لآثارهم بالكلية. وقد نبه ابن الصلاح في ((مشكل الوسيط)) على ذلك فقال- مشيرًا إلى الرافعي-: وأخطأ بعض الشارحين لـ ((الوجيز))، فأفحش، فزعم أن ذلك نسبة إلى ((هاشم)) جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه لم يدر أن النسبة إلى ((بني هاشم)): هاشمي. هذا كلامه، وقد ذكره النووي في ((لغات التنبيه)) و ((شرح المهذب)) على الصواب، فليت أن المصنف قلده في ذلك على عادته في نقل اللغات! قوله: واحترز بقوله: ((الظهر والعصر والعشاء))، عن المغرب والصبح، فإنه لا قصر فيهما بإجماع أهل العلم، كما قاله ابن المنذر ... إلى آخره. واعلم أن دعوى الإجماع ممنوعة، فقد ذهب ابن عباس إلى جواز قصر الصبح إلى ركعة، لكن بشرط الخف- أيضًا- وهو وجه عندنا قال به محمد بن نصر المروزي من متقدمي الأصحاب، كذا رايته في ((الطبقات)) للعبادي. قوله: وقال المتولي: من سافر من بلد عليها سور فلابد أن يخرج من السور، وإن كان على بابها نهر فيعبر النهر، وإن كان حولها رباض ومنازل متفرقة فحتى يفارقها، ونسب الرافعي ذلك لبعض تعاليق المروروذيين. انتهى. وما ذكره المصنف في اشتراط قطع المنازل المتفرقة من حكاية الرافعي ذلك عن بعض التعاليق، غلط، إنما حكاه عنه في المنازل المتلاصقة، فاعلمه. والرباض: جمع ((ربض)) - بالضاد المعجمة- كجمل وجمال، وهو ما حوالي البلد من الأبنية.

قوله: فإن المحققين من علماء الشريعة لا يقيمون لمذهب أهل الظاهر وزنا، كذا قاله الإمام، وفيه نظر، فإن القاضي الحسين نقل عن الشافعي أنه قال في الكتابة: وإني لا أمتنع عن كتابة عبد جمع القوة والأمانة، وإنما أستحبه، للخروج من الخلاف، فإن داود يوجب كتابة من جمع القوة على الاكتساب والأمانة من العبيد. وداود من أهل الظاهر، فقد أقام الشافعي لخلافه وزنا، واستحب كتابة من ذكره لأجل خلافه. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الشافعي من استحباب الخروج عن خلاف داود قد ذكره القاضي الحسين في هذا الباب، إلا أنه غلط فاحش، فإن للشافعي- رحمه الله- مات في مصر آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين، وأما داود فإنه ولد بالكوفة سنة اثنتين ومائتين. ونشأ ببغداد وتوفي بها سنة تسعين- بتاء ثم سين- وأخذ العلم عن أصحاب الشافعي، وصنف كتابين في فضائل الشافعي، كذا قاله جماعة منهم النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)). قوله- نقلًا عن الشيخ-: فإذا بلغ سفره ثلاثة أيام كان القصر أفضل من الإتمام، ويستثنى من كلام الشيخ مسألتان: إحداهما: الملاح الذي أهله وماله معه، لأن أحمد يمنع من القصر الثاني من عادته السفر دائمًا. انتهى ملخصًا. ويستثنى- مع ما ذكره- صور أخرى: إحداها: إذا وجد من نفسه كراهة القصر، فالقصر له أفضل، بل يكره له الإتمام إلى أن تزول تلك الكراهة. وكذلك القول في جميع الرخص، كذا ذكره الرافعي، وقد ذكر المصنف هذه المسألة قبل ذلك، ويوهم كلامه أنها من محل الخلاف، وهو باطل، فاجتنب ذلك. ومنها: كل موضع جرى فيه خلاف في جواز القصر، وهو كثير، وتعليلهم يرشد إليه، فاقتصاره على هذا الفرد عجيب، وذكر المحب الطبري شارح ((التنبيه)) نوعًا ثالثًا، وهو خطأ أوضحته في ((شرح المنهاج)). قوله- فيما إذا قام في بلد لقضاء حاجة، ولم ينو الإقامة-: إنك إذا جمعت ما قيل من الخلاف واختصرت قلت: في ذلك ثمانية عشرة قولًا ووجهًا، أحدها ... كذا إلى أن قال: والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر: من حاجته غير قتال يقصر أربعة أيام، ومن حاجته قتال يقصر سبعة عشر يومًا، أو ثمانية عشر يومًا، أو تسعة عشر يومًا، أو عشرين يومًا، أو أبدًا، والثامن عشر: يقصر ... إلى آخره.

وهذا الكلام فيه نقص، وصوابه أن يقول: والسابع عشر، بعد قوله: والسادس، فإنه حكى في الكلام الذي بعده خمسة أوجه لا أربعة، ويدل عليه أنه افتتح بعد هذا بالثامن عشر لا بالسابع عشر. قوله: فرع: إذا صلى الظهر، ثم العصر، وتذكر أنه ترك سجدة من الظهر- بطل هو والعصر كما تقدم، ولو تذكر أنها من العصر بطل الجمع، وأعاد العصر في وقتها، ولو جهل أنها من الظهر أو العصر أعاد كل صلاة في وقتها، أخذًا بالاحتياط، وهذا فيما إذا طال الفصل، فلو قرب أعاد الصلاتين جمعًا، قاله الرافعي. انتهى. وما نقله هنا عن الرافعي وهم، ليس في ((الرافعي)) ولا يصح- أيضًا- بل يعيد الجاهل المذكور كل صلاة في الوقت، سواء طال الفصل أم لا، وهو واضح. نعم، ذكر الرافعي ذلك فيما إذا تيقن أن المتروك من الثانية، فنقله المصنف إلى هذه المسألة سهوًا. قوله: وإن أراد الجمع في وقت الثانية فيشترط أن ينوي في وقت الأولى كون التأخير لأجل الجمع. ثم قال: وحكى الإمام عن شيخه وعن الصيدلاني في آخر الباب: أنه لو لم ينو عصى بالتأخير. قال الإمام: وفيه شيء، فإنا إذا لم نشترط نية الجمع عند إقامة الصلاة فلا يبعد أن يقال: نفس الشرع يسوغ التأخير، ويصير الوقت مشتركًا. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: نفس الشرع، لا معنى له، والصواب- وهو المذكور في ((النهاية)) - التعبير بالسفر عوضًا عن الشرع، وحينئذ فيكون ((نفس)) ساكن الفاء لا مفتوحها، فاعلمه. قوله: وهل يجوز الجمع بعذر الثلج إذا لم يبل الثوب؟ فيه وجهان. ثم قال: وأبداهما القاضي الحسين في ((تعليقه)) احتمالين لنفسه فيما إذا كان يبل الثواب، ووجه المنع بأن السنة وردت في المطر. انتهى كلامه. وحكاية الوجهين في حالة ابتلال الثوب غلط لم يذكره القاضي الحسين، بل ولا غيره- أيضًا- على خلاف ما وقع في ((الرافعي)) كما أوضحته في ((المهمات)). نعم، أطلق القاضي الوجهين وتعليله بهذا، دفعا لمن اعتبر مطلق المشقة، وقد علل بذلك من صرح بأن محل الوجهين فيما إذا لم يذب كما أوضحته هناك. قوله: سؤال شرط الجمع: أن تقع الصلاتان في وقت إحداهما بلا خلاف،

والجديد: أن وقت المغرب بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويؤذن ويصلي خمس ركعات، وقضية هذا: أن يكون للشافعي قول أنه لا يجوز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب في الحضر بعذر المطر، لأنه لا يقع منها في وقت المغرب إلا ركعتان، مع أن الأصحاب مطبقون على جوازه، وتكلف بعضهم جوابًا، ويظهر أن يقال في جوابه: إن الثانية كالجزء من الأولى، بدليل وجوب المولاة، وله أن يستديم المغرب إلى مغيب الشفق، فلذلك جاز الجمع، وإن كان وقت الأولى يخرج في أثناء الصلاة الثانية. انتهى كلامه. والسؤال المذكور قد أورده في باب مواقيت الصلاة على جمعها- أيضًا- بالسفر، وتقدم أن جوابه واضح جدًا، وأن الجواب الذي ارتضاه باطل، فراجعه. ثم إن دعوى عدم الخلاف في اشتراط وقوع الصلاتين في وقت إحداهما ليس كذلك، فقد سبق هناك عن القاضي الحسين: أنه خالف، وارتضى المصنف مقالته، وأيضًا: فدعوى الاتفاق على جواز هذا الجمع باطل، فقد حكى الماوردي والفوراني أنه لا يجوز الجمع تقديمًا به، أي: بالمطر كما ذكرته في ((المهمات)). ثم إنه أهمل الإقامة، وهي معتفرة بالاتفاق. قوله: وإذا نوى الجمع، ثم نوى تركه في أثناء الأولى، ثم نوى الجمع ثانيًا- قال في ((الروضة)) حكاية عن الدراكي: إن فيه قولين: انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن التعبير بالدراكي- أعني بالكاف- وقع هكذا بخط المصنف وفي باقي النسخ، وصوابه: الدرامي- بالميم- فإنه المذكور في ((الروضة))، وكذلك رأيته في ((الاستذكار)) له، أعني للدرامي. الثاني: أن الدرامي قد عبر بقوله: ففيه القولان- أعني بـ ((أل)) وأشار إلى القولين في الاكتفاء بالنية في أثناء الصلاة، والصحيح منهما: الاكتفاء، وكذا عبر النووي في ((الروضة))، ولا يؤخذ ذلك من تعبير المصنف. قوله: اعلم أنه قد وقع في الباب ألفاظ: منها: ليلة الهرير إحدى ليالي صفين: أما ((الهرير)): فبهاء مفتوحة، وراءين مهملتين، الأولى مكسورة، وبينها ياء بنقطتين من تحت، تقول العرب: هر فلان الحرب هريرًا، أي: كرهها. كذا قاله الجوهري، فكانت سميت بذلك، لكراهتم الحرب في تلك الليلة لكثرة ما وقع فيها من القتل،

وقال النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)): كان بعضهم يهر على بعض، فلذلك سميت. قال: وهي حرب وقعت بينه وبين الخوارج، وقيل: بينه وبين معاوية في صفين. انتهى. وأما ((صفين)): فبصاد مهملة مكسورة وفاء مشددة، وهو موضع بقرب الفرات معروف بين الرقة وبالس. ذكره الجوهري في باب ((صفين))، وهو يدل على أن نونه عنده أصلية، لكن إعرابه بإعراب جمع المذكر السالم- على لغة- يدل على أن عينه ولامه فاءان، ونونه زائدة. ومنها: صالح بن خوات، وسهل بن أبي حثمة: أما ((خوات)) فبحاء معجمة، وواو مشددة، وتاء مثناة، وهو في اللغة: الرجل الجرئ. وأما ((حثمة)): فبحاء مهملة، وثاء مثلثة ساكنة، والحثمة: هي الأكمة الحمراء، وبها سميت المرأة: حثمة. قاله الجوهري، قال: وتقول: حثمت، بمعنى ((أعطى)) وبمعنى ((دلك)). ومنها: ضربه بالسيف حتى برد، هو بالباء الموحدة، والراء والدال المهملتين، ومعناه: مات.

باب ما يكره لبسه وما لا يكره

باب ما يكره لبسه وما لا يكره قوله: وفي الصحيح: أن عمر رأى حلًة سيراء ... إلى آخره. ثم قال: والسيراء- بكسر السين المهملة، وفتح الياء المثناة من تحت، وبعدها راء مهملة، ثم ألف ممدودة-: هو الحرير الصلب، فمعناه: حلة حرير، والحلة: ثوبان: إزار، ورداء. انتهى. وتعبيره بـ ((الصلب)) تحريف، إنما هو: الصافي، أي: الخالص. كذا نقله ابن الأثير، وتعبير المصنف عقبه بقوله: فمعناه: حلة حرير، يدل عليه: فإن معناه: جميعها لا بعضها. وفسر بعضهم ((السيراء)) بالمصمت، وهو الخالص- أيضًا- فيجوز أن يكون أيضًا قد تحرف على المصنف منه. قوله: وإلباس الصبي، فإنه لا يحرم عليه ذلك- يعني لبس الحرير- عند العراقيين، وقيل: يحرم. ثم قال: وفي المسألة وجه ثالث: أنه يحرم عليه ذلك بعد سن التمييز، ولا يحرم قبله، وهو ما صححه الرافعي في ((الشرح)). اعلم أن الرافعي لما حكى هذا الوجه لم يضبطه بالتمييز- كما نقله المصنف عنه- بل ضبطه بالسبع وغيرها، وتبعه عليه النووي في كتبه حتى قال في ((شرح المهذب)) ما نصه: وهكذا ضبطوه في حكاية هذا الوجه، ولو ضبط بالتمييز لكان حسنًا، لكن الشرع اعتبر السبع في الأمر بالصلاة وغيره. هذا لفظه. قوله: عن أبي عثمان النهدي. هو بنون مفتوحة، ثم هاء ساكنة. قوله وإن كان حريرًا مصمتًا ولكن هو كمد اللون. انتهى. المصمت- بميم مضمومة وصاد مهملة ساكنة-: هو الخالص، وأما ((كمد)): فبكاف مفتوحة، وميم مكسورة، وبالدال، مأخوذ من ((الكمدة)) - بضم الكاف وسكون الميم- وهو تغير اللون، تقول: أكمد القصار الثوب، إذا لم ينقه، قاله الجوهري.

قوله: قال- يعني الشيخ ويجوز للمحارب لبس الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح، ولبس المنسوج بالذهب إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره. اعلم أن الشرط الذي ذكره الشيخ، وهو قوله: إذا فاجأته الحرب ولم يجد غيره. اعلم أن الشرط الذي ذكره الشيخ، وهو قوله: إذا فاجأته الحرب ولم يجده غيره- يجوز أن يكون الشيخ أراد عوده إلى المسألتين، عملًا بالقاعدة المستقرة عندنا: أن الشرط إذا تعقب جملًا عاد إلى جمعيها، وهو ما نقله المزني، حيث اعتبر في لبس الحرب أن تفجأه الحرب ولا يجد غيره، وكذلك في لبس المنسوج بالذهب، إذ بذلك تتحقق الضرورة، وعلى ذلك جرى صاحب ((الحاوي)) والبغوي، ولفظ ((الوسيط)) هنا قد يفهمه، لأنه قال: لبس الحرير وجلد الكلب جائز عند مفاجأة القتال، وليس جائزًا في حال الاختيار. ويجوز أن يكون الشيخ أراد عوده إلى المسألة الأخيرة فقط، وأما المسألة الأولى فلا يشترط فيها مفاجأة الحرب وعدم وجدان غيره، بل يجوز لبسه ابتداء وإن وجد غيره من آلة الحرب، لأن حاجة القتال لا تتقاعد عن حاجة القمل والحكة، وهذا ما حكاه الرافعي عن ابن كج، حيث قال: إنه يجوز اتخاذ القباء ونحوه مما يصلح في الحرب من الحرير ولبسه فيها على الإطلاق، لما فيه من حسن الهيئة وزينة الإسلام، لتنكسر قلوب الكفار منه كتحلية السيف ونحوه. وعبارة البندنيجي توافق ذلك، فإنه قال: المذهب: أن الحرير مباح حال الحرب لحاجة وغير حاجة. انتهى كلامه. واعلم أن المسألة الأولى في كلام الشيخ: أنه يجوز للمحارب لبس الديباج الثخين الذي لا يقوم غيره مقامه في دفع السلاح، وجواز ذلك لا خلاف فيه في كلام الرافعي ولا في غيره، ولا يمكن- أيضًا- مجئ الخلاف فيه، لأنه لبسه لضرورة أو لحاجة، فعلم بذلك أن جميع ما ذكره المصنف في هذه المسألة من التقدير والاختلاف فاسد لا يوافق صورة المسألة، وإنما محل ما ذكره في لبس الحرير لا لحاجة أصلًا ذكره هو، وكأنه ظن مسألة الشيخ، فاسترسل، وأطال في هذا الكلام الذي ليس بمطابق. قوله: إن عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب. أما ((عرفجة)): فبعين مهملة مفتوحة، والراء والفاء والجيم، والعرفج: شجر معروف. وأسعد: بالهمز. والكلاب: بكاف مضمومة، ثم لام مخففة، وهو اسم ماء كانت عنده وقعة في الجاهلية.

قوله: ثم ما أبحنا لبسه من المصبوغ، ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا فرق فيه بين ما صبغ غزله ثم نسج، أو ما صبغ بعد النسج، وفي ((تعليق)) القاضي الحسين في ((باب هيئة الجمعة)): أن المصبوغ بعد النسج إن كان صبغه ليمنع الوسخ جاز لبسه، وإن صبغ للزينة فلا يجوز للرجال لبسه، لأنه لباس النساء. انتهى كلامه. وما ذكره من أن ظاهر كلامهم أنه لا فرق، يدل على أنه لم يستحضر نقلًا صريحًا بالتسوية، وقد صرح الماوردي في ((الحاوي)) والروياني في ((البحر)) بالجواز للرجل أيضًا، وقد نقله عنهما المصنف في أول باب الإحرام.

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة قوله: وقد روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي من بيته حين عمى، فكان إذا سمع النداء بالجمعة أكثر الترحم على أبي أمامة سعد بن زرارة، واستغفر له، فسألته عن ذلك، فقال: إنه كان أول من جمع بنا في هرير من حرة بني بياضة في نقيع الخضمان، قلت: يا أبت، كم كنتم؟ قال: أربعون. أخرجه أبو داود. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ((سعد))، غلط، بل صوابه: ((أسعد)) بزيادة ألف في أوله، وكذلك تعبيره بقوله: ((هرير))، غلط- أيضًا- وصوابه: ((هزم)) بهاء مفتوحة وزاي معجمة ساكنة بعدها ميم، و ((الهزم)) في اللغة: هو الموضع المتشقق، ولهذا ورد النهي عن النزول فيه ليلًا لكونها مأوى الحشرات. و ((الحرة)) - بحاء مهملة مفتوحة، وراء مشددة-: أرض فيها حجارة سود. والنقيع هنا: بالنون. والخصمات: بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وفي آخره تاء التأنيث، وتحرف على المصنف فكتبه بالنون. قوله: ومن شرط الخطبتين: القيام. ثم قال: وحكى القاضي الحسين فيه وجهًا آخر: أنه غير واجب فيهما، بناء على أن الخطبتين غير بدل عن الركعتين، وقد حكاه القاضي ابن كد- أيضًا- وحكاه بعضهم قولًا معزيًا إلى ((حلية)) الروياني. انتهى كلامه. وهذا النقل المعزي إلى ((حلية)) الروياني غلط، فإن المذكور فيها الجزم بالاشتراط، وهذه عبارته: ويجب فيها الطهارة والقيام مع القدرة. وكذا هو مجزوم به- أيضًا- في ((حلية)) الشاشي. قوله: فرع: لا تجوز الخطبة بالفارسية في أصح الوجهين، وبه جزم الروياني في

شرح ((التلخيص)). انتهى. وذكره الشرح هنا قد كرره في مواضع من هذا الباب، وهو غلط سبق إليه القلم، فإنه ليس له شرح عليه، وإنما له كتاب يسمى ((التلخيص)) ظفر به المصنف، ونقل عنه في مواضع. * * *

باب هيئة الجمعة

باب هيئة الجمعة قوله: ويبكر الناس بعد طلوع الشمس. ثم قال: وقيل: إن التبكير يكون من طلوع الفجر، وهو الذي صححه الشيخ في ((المهذب))، وكذا الرافعي والروياني في ((شرح التلخيص)). انتهى. وتعبيره بقوله: في ((شرح التلخيص))، غلط، بل صوابه التعبير بـ ((التلخيص))، وقد تقدم قبله مثله. قوله: ونقل في ((الروضة)) عن الشافعي: أنه استحب فيها ما يستحب في ليلة العيد، لأنه يقال: إن الدعاء فيها مستجاب. انتهى كلامه. وهو صريح في استحباب إحيائها بالصلاة أو غيرها، وهو غلط، فإن تخصيص ليلة الجمعة بالصلاة مكروه كما ثبت في ((صحيح)) مسلم، وجزم به النووي في باب صلاة التطوع من ((التحقيق)) و ((شرح المهذب))، بخلاف ليلتي العيد. وأما نقله ذلك عن ((الروضة)) فغلط- أيضًا- فإن النووي ذكر المسألة فيها في باب صلاة العيد فقال: يستحب في ليلتي العيد التكبير والإحياء بالعبادة. ثم قال من ((زوائدة)) ما نصه: قال الشافعي: وبلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان. قال الشافعي: وأستحب كل ما حكيته في هذه الليالي. هذا لفظه، وأوضحه أيضًا في الباب المذكور، وأن مشيخة من خيار أهل المدينة يجتمعون ليلتي العيد في المسجد، فيدعون ويذكرون الله تعالى حتى تذهب ساعة من الليل، وأن عمر كان يحيي ليلة النحر ثم قال ما نصه: قال الشافعي: وأنا أستحب كل ما حكيته في هذه الليالي من غير أن يكون فرضًا. انتهى. وحاصله: أن كل شيء حكاه من غير في ليلة من هذه الليالي فإنه يوافق القائل به، وليس فيه ما نقله المصنف. قوله: وساعة الإجابة. قيل: إنها من حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها، لقول عمرو بن عوف المزني:

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((في يوم الجمعة ساعة من النهار لا يسأل العبد الله- عز وجل- شيئًا إلا أعطاه له، قيل: أي ساعة هي؟ قال: حتى تقام الصلاة إلى الانصراف منها)) رواه مسلم، وهذا القول صححه في ((الروضة)) لأجل هذا الخبر. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- هاهنا سهو، فإن الذي صححه النووي في ((الروضة)) و ((شرح المهذب)) وغيرهما: أن ساعة الإجابة ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، قال: وقد ثبت ذلك في ((صحيح)) مسلم من رواية أبي موسى الأشعري، وذكر في ((لغات التنبيه)) أن هذا الجلوس هو الذي يكون في أول صعوده. قوله: بقي من تفاريع مسائل الزحام فروع: إذا لم يزل الزحام حتى سجد الإمام في الثانية فإنه يسجد معه وجهًا واحدًا، قاله القاضي أبو الطيب والماوردي والبغوي، لكن القاضي والماوردي قالا: إنه يحصل له إذا سجد معه ركعة ملفقة من ركوع من الأولى وسجود من الثانية، فيكون فيها الوجهان. وقال البغوي: إن قلنا: إنه يجب عليه متابعة الإمام، كانت الركعة ملفقة، وإن قلنا: يمشي على ترتيب صلاة نفسه، حصلت له ركعة من الجمعة، كذا رأيته فيما وقفت عليه منه، لكن في ((الرافعي)) أنه قال: إن قلنا: إن الواجب عليه رعاية ترتيب صلاة نفسه، حصلت له ركعة ملفقة، وإن قلنا: إن الواجب عليه متابعة الإمام، فالحاصل له ركعة غير ملفقة. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن ((التهذيب)) صحيح، وأما ما نقله عن الرافعي فغلط من المصنف عليه، فإن المذكور في ((الرافعي)) عن ((التهذيب)) إنما هو العكس مما قاله المصنف، وموافق لما نقله هو عن ((التهذيب)) فقال: والحاصل ركعة ملفقة إن قلنا: الواجب متابعة الإمام، وغير ملفقة إن قلنا: الواجب عليه رعاية ترتيب صلاته، ذكره في ((التهذيب)). هذا لفظ الرافعي، وذكر في ((الروضة)) نحوه.

باب صلاة العيد

باب صلاة العيد قوله: وكلام الشيخ مصرح بانعقادها فرادى، وهو الجديد الذي نص عليه في ((الأم)) فقال: ولا بأس أن يصلوها في مساجد الجماعات في المصر، فإذا فعلوا فلا أحب أن يخطب أحد في المصر إذا كان به إمام، خوف الفتنة. انتهى كلامه. وهو عجيب، فإن النص المذكور دليل على أنه لا يطلب تعدد الخطبة في الأماكن التي يصلون فيها، وأما الصلاة فرادى فليس فيه تعرض له بالكلية. قوله: فرع: لو اقتدى في العيد بمن يخالفه في التكبير: بأن كان هو يعتقد أنها في الأولى ست، وإمامه يعتقد أنها سبع، أو بالعكس- فهل يتابع إمامه، أو يمشي على اعتقاد نفسه؟ حكى الإمام في كتاب الجنائر قولين، الذي ذكره منهما هاهنا، وكذا الفوراني والرافعي: إتباع الإمام. انتهى كلامه. والذي نقله عن الرافعي من الاقتصار على المتابعة عجيب، فإن الرافعي قد حكى هاهنا القولين معًا. قوله: لو فاتته صلاة في يوم العيد، فقضاها في غيره- لم يكبر، وفيه احتمال للإمام، والمنقول: الأول. انتهى. ومعناه: أنه لم يقل أحد بغير الأول، وهو غريب، فقد حكى ابن يونس شارح ((التنبيه)) وجهًا: أنه يكبر.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف قوله: قال الأزهري: ((الكسوف)) و ((الخسوف)) مترادفان. ثم قال: والقول الثاني: ليسا مترادفين، بل متغايران: فالكسوف للشمس، والخسوف للقمر. قال الجوهري: وهو الصحيح. انتهى كلامه. وما نقله عن الجوهري من التباين غلط، فقد صرح الجوهري في ((فصل الكاف)) و ((فصل الخاء)) بأن ((الخسوف)) و ((الكسوف)) يطلق عليهما معًا، قال: إلا أن الأجود إطلاق ((الكسوف)) على الشمس و ((الخسوف)) على القمر، والظاهر: أن بعضهم نقل عن الجوهري أنه الفصيح، فتحرف على المصنف بـ ((الصحيح))، وركبها مع القولين لا مع اللغتين، فلزم وقوعه في صريح الغلط. قوله- نقلًا عن الشيخ-: قال: وإذا اجتمع صلاتان مختلفتان بدأ بأخوفهما فوتًا. ثم قال: فإن استويتا في الفوات بدأ بآكدهما، كالوتر والكسوف يبدأ بالكسوف ... إلى آخره. ثم نقل بعد ذلك عن بعضهم أنه قال: ما ذكره الشيخ من المثال متجه إذا قلنا: لا يصلي لخسوف القمر بعد طلوع الفجر كما هو القديم، أما إذا قلنا: يصلي- كما هو الجديد الذي لم يحك الشيخ غيره- فلا يتجه، لأنه يبدأ بالوتر فإنه أسرع فوتًا، قال: وإنما يتجه على هذا أن يقول: كركعتي الفجر والخسوف [كذا]، فيبدأ بالخسوف [كذا]. قلت: وهذا السؤال جاء من اعتقاد السائل أن وقت الوتر يخرج بطلوع الفجر، أما إذا قلنا: إنه يدوم إلى طلوع الشمس- كما صار إليه بعضهم- فلا ... إلى آخر ما ذكره. وهذا السؤال الذي أورد على الشيخ، واعتقد المصنف صحته، وحاول الجواب عنه بتخريجه على قول ضعيف- سؤال ساقط عجيب، فإن هذه الصلاة تفوت تارة بالانجلاء، وتارة بفوات الزمن المقدر له، وهو من أول الليل إلى طلوع الفجر على قولٍ، وإلى طلوع الشمس على قولٍ آخر، والشيخ لم يذكر أن خوف الفوات في المثال الذي ذكره لأجل فوات الزمن المقدر حتى يورد عليه ما أورد، بل أطلقه،

ويعلم من بطلان الحمل على هذا إرادة القسم الآخر، وهو ما إذا شرع الكسوف في الانجلاء ولم يبق منه إلا القليل، ولم يبق- أيضًا- من طلوع الفجر إلا القليل، فقد استويا في الفوات. تنبيه: تنبيه: ذكر أن الشافعي قال: إذا خالف قولي حديثًا فاضربوا بقولي عرض الحائط ... إلى آخره. عُرض: بعين مهملة مضمومة، وراء ساكنة، وضاد معجمة. كذا ضبطه الجوهري، وقال: معناه: اعترضوا عليه كيف شئتم، من قولهم: نظرت إليه عن عُرض، وضربت من عُرض، يعني: كيف اتفق، لا تبالي من ضربت.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء قوله: وقال الجيلي هنا: إن القفال ذكر في ((الخصال)) أن الاستسقاء فرض على الكفاية. انتهى. وتعبيره بـ ((القفال)): تحريف، وصوابه: الخفاف، وهو الذي ذكره الجيلي- أيضًا- وقد راجعت كتاب ((الخصال)) للمذكور، فرأيت الأمر فيه كما نقله عنه الجيلي، وهو الجزم بأنها فرض. قوله: واستسقى عمر عام الرمادة. انتهى. وهي الهلاك، وهو براء ودال مهملتين، وبالميم، وفي آخره تاء التأنيث. قال الجوهري: هي أعوام جدب تتابعت على الناس، سمي بذلك، لهلاك الناس والأموال فيه. يقال: رمد- بالفتح- يرمد، بالكسر والضم، رمدًا، بالسكون، ورمادة: إذا هلك. قوله: قال الله- تعالى- حكاية عن موسى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ...} الآية [هود:52]. انتهى. وما ذكره من حكاية ذلك عن موسى غلط، وصوابه: هود، والآية في السورة المذكورة. قوله: والبذلة- بكسر الباء-: ما يلبس حال العمل، وجاء فلان في مباذلة، أي: في ثياب بذلته. انتهى. اعلم أن ((فعلة)) - وهو المكسور الأول- يجمع على ((فعل)) بكسره أيضًا، كقربة وقرب، وبضمه: كلحية ولحى. وأما الواقع في الكتاب وهو ((مفاعله)) فلا يكون جمعًا لذلك، وسبب غلط المصنف: أنه يأخذ الكلام على الألفاظ من ((تحرير التنبيه)) للنووي، والنووي ذكر- تبعًا للجوهري- أن المفرد يقال فيه: بذلة، ومبذلةٍ- بكسر الميم- فتقول: جاء في مباذلة. انتهى، وهذا الكلام صحيح عائد على ((مبذلة))، فلما نقله المصنف نسي المفرد الثاني، وذكر جمعه، فوقع في الغلط. قوله: والصبغ: دون الكتف مما يلي المرفق.

هو بضاد معجمة مفتوحة، وباء ساكنة، وعين مهملة. قوله: وإن خرج أهل الذمة لم يمنعوا، فقد يحييهم الله- تعالى- استدراجًا، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]. انتهى. والآيتان المذكورتان متعاكستان في التلاوة، وكأن المصنف رأى كلًا منهما في تصنيف، فظن عدم اتصالهما، فوصلهما بالعكس. قوله: وما أفهمه كلام الشيخ من عدم الترتيب بين الخطبتين والصلاة هو ما صرح به المتولي، واختاره النووي في ((الروضة)). انتهى. وما نقله عن اختياره في ((الروضة)) ليس كذلك، فإنه إنما نقله عن ((التتمة)) خاصة، ولم يصرح باختياره ولا برده، بل ذكر دليلًا لصاحب ((التتمة))، فراجع ((الروضة)) يتضح لك ذلك. نعم، جزم به في ((المنهاج)) من ((زوائده))، ونقل في ((شرح المهذب)) أن الشيخ أبا حامد نقله عن الأصحاب، وأن ابن المنذر أشار إلى استحبابه. قوله: فقال عمر: ((لقد طلبت الغيث بمجادح السماء)) يعني الاستغفار. والمجاديح: جمع ((مجدح)) - بكسر الجيم وفتح الدال، وقيل: بضم الميم- هو كل نجم كانت العرب تستمطر به المطر، فأخبر عمر أن المجاديح التي يستمطر بها هي الاستغفار، لا النجوم. انتهى. والمجدح: بميم مكسورة- ضمها لغة- وجيم ساكنة، ودال مفتوحة، بعدها حاء مهملة، ذكره الجوهري. وقد أهمل المصنف ضبط ما ينبغي ضبطه، والذي ضبطه أخطأ في ضبطه، فإنه عبر بقوله: بكسر الجيم، وصوابه: الميم، وتعبيره في الجمع بـ ((المجاديح)) - أعني بالياء- دون ((المجادح))، ضعيفٌ عند البصريين، فإنه إنما يجوز عندهم فيما كان قبل آخره مدة نحو: مفتاح ومفاتيح. قوله: غدقًا- بالعين المعجمة-: أي كثير الكثير، وقيل: كبيره. انتهى. وهو كلام محرف، فإن النووي في ((اللغات)) (104) عبر بقوله: هو الكثير الماء، وقيل: كبار المطر. انتهى، وحاصله: أن معناه: إما كثرة الماء، أي: لا قلته، وإما كبر النقطة النازلة، أي: لا صغرها، فعبر عنه المصنف بتعبير لا معنى له، وكأن القلم سبق من ((المطر)) إلى لفظ ((الكثير)) ويكون حينئذ ((كثير)) المذكور أولًا بالمثلثة، والمذكور آخرًا بالموحدة. قوله: السح- بسين مفتوحة وحاء مهملتين-: هو المطر الشديد الواقع على

الأرض. انتهى. وتعبيره بالواقع- أعني بالألف- وقع كذلك بخطه، وهو تحريف، وصوابه: الوقع- بسكون القاف- كما عبر به النووي في ((اللغات))، أي: الإصابة، وهو الذي يكون له صوت شديد عند إصابته للأرض. قوله: واللأواء: شدة الجوع، وهو ممدود بالمد. انتهى. وتعبيره بـ ((المد)) بعد ذكر ((الممدود)) لا معنى له، بل صوابه أن يقول: ممدود بالهمز. قوله: قال الشافعي: ويدعو بما رواه المطلب بن حنطب ... إلى آخره. هو بحاء مهملة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم طاء مهملة مفتوحة، بعدها باء موحدة، وحنطب: جد المطلب، واسم أبيه: عبد الله. قوله: روى مسلم: أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء انتهى. هو بالقاف والضاد المعجمة، وسميت بذلك، لأنها أبيعت في قضاء دين عمر بن الخطاب بوصية منه، وكان ستة وثمانين ألفًا أو نحوها- كما رواه البخاري- واشتراها بعد ذلك مروان، وسكنها. ووقع في خط المصنف: العضا- بالعين- وهو تحريف. قوله: تنبيه: ذكر في الحديث ألفاظًا: منها: ((سلع))، وهو- بفتح السين المهملة، وإسكان اللام، وبالعين المهملة- اسم لجبل معروف بالمدينة. ومنها: ((قزعة))، بقاف مفتوحة، وزاي معجمة وعين مهملة مفتوحتين، هي القطعة من السحاب، جمعها: قزع، بحذف التاء، سميت بذلك، لتقطعها، ومنه: القزع، لحلق بعض الرأس. ومنها: ((سحابة مثل الترس))، هو بتاء مثناة من فوق مضمومة، ثم راء ساكنة بعدها سين مهملتان، وهو الذي يستتر به الشخص وقت القتال. ومنها: ((فما رأينا الشمس ستا))، يروى ((ستا)) على أنه اسم للعدد المعروف الذي يلي الخمس، ويروى: ((سبتًا)) - بالموحدة ثم المثناة- على أنه اسم لليوم المعروف، وكني به عن الجمعة بكمالها، لأنه أولها على مقالةٍ، وعلى مقالة أخرى: أول الجمعة هو الأحد. قوله: فإن استسقوا، فتأخرت الإجابة- أعادوا ثانيًا وثالثًا. ثم نص في ((المختصر))

على أنهم يعيدون ذلك عقب اليوم الذي استسقوا فيه، ونص في القديم على أنهم يصومون ثلاثة أخرى قبل العود الثاني، واختلف الأصحاب في ذلك: فقال ابن القطان: المسألة على قولين، وليس في الاستسقاء مسألة فيها قولان إلا هذه. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يشعر بحصر الإعادة في المرة الثانية والثالثة فقط، وليس كذلك، بل لا يزالون يكررون ذلك إلى حصول السقي، كذا صرح به في ((شرح المهذب)). الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخر كلامه من حصر القولين في هذه المسألة ليس كذلك، فإن تحويل الرداء فيها قولان للشافعي، كما تقدم. قوله: ويستحب أن يقول عند نزول المطر: ((اللهم صيبًا نافعًا))، كما رواه البخاري، وفي رواية ابن ماجه: ((سيبًا نافعًا)) مرتين أو ثلاثة، قاله في ((الروضة))، ويستحب الجمع بينهما. انتهى كلامه. الصيب- بصاد مهملة مفتوحة، وبعدها ياء مثناة من تحت مكسورة، ثم باء موحدة-: هو المطر، كذا نقله البخاري في ((صحيحه)) عن ابن عباس، قال الواحدى: إنه المطر الشديد، من قولهم: صاب يصوب، صوبًا: إذا كان من علوٍ إلى سفلٍ، وقيل: الصيب: السحاب. وأما ((السيب)) فهو بسين مفتوحة، ثم ياء مثناة ساكنة، بعدها باء موحدة-: هو العطاء. والمراد بقوله: يستحب الجمع بينهما، أي: بين رواية البخاري وابن ماجه، كذا أوضحه النووي في ((شرح المهذب))، وذكره في ((الروضة)) من غير إيضاح، بل كما ذكره المصنف، فاعلمه، فإن كلام المصنف يوهم أنه لم يذكره في ((الروضة)). قوله: وشاهده ما رواه أبو داود مرسلًا عن أبي حسين أنه- عليه السلام-: ((نهى أن يشار إلى المطر)). انتهى. وصوابه ابن أبي حسين، بزيادة لفظ ((ابن))، وروي- أيضًا- مرفوعًا عن ابن عباس، والمحفوظ- كما قاله البيهقي في ((السنن)): إرساله. قوله: قال الشيخ: ويستحب أن يسبح للرعد والبرق، أي: يسبح الله تعالى عند رؤيتهما، فيقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. انتهى. وتعبيره بقوله: رؤيتهما، سهو، والصواب: عند سماع الرعد ورؤية البرق، وهذا

اللفظ الذي ذكر أنه مستحب رواه مالك في ((الموطأ)) بإسناده الصحيح عن عبد الله بن الزبير موقوفًا عليه. واعلم أن ما ذكره المصنف من استحباب التسبيح للبرق ذكره الشيخ في ((التنبيه))، فتابعه عليه النووي في ((زيادات الروضة)) و ((المنهاج))، ثم المصنف، ولم يذكره الشيخ في ((المهذب)) ولا النووي في ((شرحه)) له، واستدلال المصنف وغيره على الرعد خاصة يدل على عدم الاستحباب فيه.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز باب ما يفعل بالميت قوله: وإذا مات فيستحب أن يقرأ عنده سور ((يس))، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرءوا على موتاكم يس)) أخرجه أبو داود. قال القاضي الحسين: وقيل: تقرأ عند القبر. والأول: أصح. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الأصح عند الأصحاب: أن الأمر الوارد به الحديث هو قراءتها بعد الموت، وقيل: عند القبر، ومن انتفاء الاستحباب قبل ذلك- عجيب لا ذكر له في كلام القاضي ولا في غيره. نعم، حكى القاضي وجهين، أحدهما: في حالة النزع، والثاني: بعد الدفن.

باب غسل الميت

باب غسل الميت قوله: فلو مات- أي: الزوج- وهي في عدة من طلاق رجعي، فالمحكي عن نصه في ((الجامع الكبير)): أنها لا تغسله، لأن نظرها إليه في حال الحياة كنظر الأجنبية، فكانت كهي بعد الموت، وفي ((شرح)) ابن التلمساني وجه لم أره في غيره: أن لها أن تغسله، لجريان التوارث بينهما. انتهى كلامه. وهذا الوجه الذي استغربه حتى قال: إنه لم يره لغير المذكور، قد حكاه صاحب ((البحر)) وكذلك صاحب ((الذخائر))، ونقله عن الشيخ أبي حامد، ورأيته مجزومًا به في ((التعليق)) له، أي: للشيخ أبي حامد- وقال بعد أن ذكر جواز ذلك: إن النظر المحرم في الرجعية هو النظر بشهوة. قال: أما بغيرها فيجب ألا يحرم. قوله: ولا ينظر الغاسل إلا إلى ما لابد له منه، لما ذكرناه، والذي يعاون الغاسل في معنى الغاسل إذا لم يستغن عنه، فإن استغنى عنه فيستحب ألا يستعين. انتهى كلامه. وما جزم به من التسوية بين الغاسل والمعين ليس كذلك، فقد جزم الرافعي- وتبعه عليه في ((الروضة)) بالتغاير، فقال: إن الغاسل ينظر بالحاجة كمعرفة المغسول وغيره، والمعين لا ينظر إلى لضرورة. قوله: ويفعل ذلك- أي: غسل الميت- ثلاثًا. ثم قال: فإن احتاج إلى الزيادة على ذلك غسل، لخبر أم صفية. انتهى كلامه. وتعبيره بـ ((أم صفية)) سهو، بل الصواب: أم عطية، وقد ذكره هو قبل ذلك في عدة مواضع على الصواب، والحديث: أنها قالت: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته، فقال: ((اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور))، ورواه مسلم، وابنته هذه هي زينب زوج أبي العاص بن الربيع، وهي أكبر بناته.

قوله: ويجوز للجنب والحائض غسل الميت على غلط، قاله في ((الروضة)). انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ((على)) غلط انعكس به الحكم، وصوابه- وهو المذكور في ((الروضة)) - تعبيره بـ ((لا)) أي: ((لا)) النافية. * * *

باب الكفن

باب الكفن قوله: وتجب مؤنة التجهيز في ماله، مقدمةً على الدين والوصية، وهذا إذا لم يكن ماله مرتهنًا بدينه، ولا جانيًا، قال في ((الروضة)): ولا مبيعًا ثبت لبائعه حق الرجوع فيه، فإن كان فإنه يقدم كما ذكرناه في الفرائض. انتهى. وهذا الكلام يقتضي حصر الاستثناء فيما ذكره، وليس الأمر على هذا الحصر، بل قال الأصحاب: إن كل حق تعلق بعين فإنه يقدم، وحينئذ فيدخل فيه مسائل أخرى. إحداها: إذا مات رب المال قبل قسمة مال القراض، فإنه يقدم حق العامل على الكفن، لأن الرافعي في كتاب القراض قد صرح بأن حقه يتعلق بالعين. الثانية: المعتدة عن الوفاة بالحمل سكناها مقدمٌ على التجهيز، لأن الرافعي قد نص في كتاب العد على امتناع بيعها، للجهل بمقدار زمن العدة. الثالثة: نفقة الأمة المزوجة وإن كانت ملكًا للسيد، قال الرافعي: إلا أن حقها يتعلق بها، قال: كما أن كسب العبد ملك للسيد، وتتعلق به نفقة زوجته. الرابعة: كسب العبد بالنسبة إلى نفقة زوجته كما ذكرناه. الخامسة: إذا قبض السيد نجوم الكتابة، ثم مات قبل الإيتاء- ومال الكتابة باق- ففي ((الرافعي)) و ((الروضة)): أن حق العبد يتعلق بعينه، وحينئذٍ فيقدم. السادسة: إذا أعطى الغاصب قيمة المغصوب، للحيلولة، ثم قدر عليه- فإنه يرده، ويرجع بما أعطاه، فإن كان المعطى تالفًا تعلق حقه بالمغصوب، ويقدم به كما نص عليه في ((الأم)) في كتاب الإقرار بالحكم الظاهر، فقال: وإذا أحضر الغاصب العبد الذي غصبه إلى سيده جبرت سيده على قبضه منه ورد الثمن عليه، فإن لم يكن عند سيده ثمنه قلت له: بعه إياه بيعًا جديدًا إن رضيتما حتى يحل له ملكه، فإن لم يفعل بعت العبد على سيده، وأعطيت الغاصب مثل ما أخذ منه، وإن كان لسيده غرماء لم أشركهم في ثمن العبد، لأنه عبد قد أعطى الغاصب قيمته. هذا لفظ الشافعي، ونقله في ((المطلب)) عنه. واعلم أن تقييد ابن الرفعة للمرهون بقوله: بدينه، ليس بجيد، بل لو كان مرهونًا

بدين غيره كان الحكم- أيضًا- كلك. قوله: ففي ((الصحيحين)) عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة. قال ابن الصباغ: وسحول- بفتح السين-: مدينة بناحية اليمن يعمل فيها ثياب يقال لها: السحولية، والسحول- بضم السين-: الثياب البيض من القطن وهو الكرسف، قال القاضي الحسين: والخبر بالضم على الصحيح. قلت: وفي مسلم ما يرد عليه، لأنه روى عن عائشة أنها قالت أدرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة يمانية كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية، ليس فيها عمامة ولا قميص. انتهى كلام ابن الرفعة. وهذا الرد لا أدري ما وجهه، فإن أقرب شيء يعود عليه- كلام القاضي، وليس فيه ما يدفع كلامه، غايته أن فيه قيدًا آخر وهو كونها من اليمن، فتأمله. تنبيه: ذكر ألفاظًا منها: المعمل، هو بميم مضمومة، وعين مهملة ساكنة، وميم مكسورة، بعدها لام- هو المكتسب المحترف. ومنها: الساج: اسم للطيلسان، هو بسين مهملة وجيم. قوله: وكأن الفرق بين القريب وبيت المال: أن التكفين من بيت المال أوسع، ولهذا لو نبش الميت، وأخذ كفنه- لا يجب على القريب تكفينه ثانيًا، ولو كان قد كفن من بيت المال كفن ثانيًا وثالثًا ما قاله المتولي، لأن العلة في الكرة الأولى: الحاجة، والحاجة موجودة. انتهى كلامه. وما نقله عن المتولي صحيح في التكفين من بيت المال، وأما في التكفين من مال القريب فلا، بل جزم بأنه يجب تكفينه ثانيًا فقط، فقال: الخامسة عشرة: إذا نبش القبر، وأخذ الكفن: فإن كان قد كفن من ماله يكفن ثانيًا، وإن كان قد كفنه من يلزمه نفقته فكذلك، وإن كفن من بيت المال يكفن ثانيًا وثالثًا، لأن العلة في الكرة الأولى: الحاجة، والحاجة موجودة. هذا كلام المتولي بحروفه، ونقله عنه النووي- أيضًا- في ((شرح المهذب)) على الصواب. قوله: وصنيفة الثوب: طرته. هو بصاد مهملة مفتوحة، ثم نون مكسورة، ثم ياء، بعدها فاء مفتوحة، ثم تاء التأنيث، كذا قاله الجوهري، وقد ضبطه المصنف ضبطًا فاسدًا ناقصًا.

باب الصلاة على الميت

باب الصلاة على الميت قوله- نقلًا عن الشيخ-: فإن اجتمع جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم. ثم قال: وهذا الكلام يشمل ما لو حضروا معًا، وأرادوا إفراد كل واحد بالصلاة والإمام واحد، ولم يخش التغير، والمنقول في ((الحاوي)): إنه يقرع، ويقدم من خرجت قرعته وإن كان مفضولًا. انتهى. والذي ادعاه من الشمول غير صحيح، فإن تعبيره بقوله: فإن تعبيره بقوله: ((قدم إلى الإمام))، يشعر بالصلاة عليهم دفعة واحدة، فلو ادعى أن هذه الصورة خرجت بهذا القيد- وقد صرح به صاحب ((الحاوي)) - لكان أصوب. قوله: ويقف الإمام عند رأس الرجل وعجيزه المرأة، وحكى الماوردي أن البصريين من أصحابنا قالوا: يقف عند صدر الرجل، ولم يورد الفوراني والغزالي والبغوي غيره. انتهى. وما نقله عن الأولين صحيح، وأما ما نقله عن الثالث- وهو البغوي- فغلط، فإنه في ((التهذيب)) قد حكى وجهين، وزاد على ذلك فصحح الوقوف عند الرأس. قوله: فلو كبر شخص على ميت خمسًا فهل تبطل صلاته؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، لأنه ذكرٌ، وزيادة الذكر ليست مبطلة، كذا علله الروياني، وعلله الرافعي بثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونقل الماوردي وغيره عن ابن سريج: أن الاختلاف المذكور من الخلاف في المباح، وأن بعضه ليس أولى من بعض، والذي نقله عن ابن سريج غير الوجه الذي صححه الرافعي، لأن الخمس والأربع عند ابن سريج سواء، وصاحب ذلك الوجه يقول: إن الأربع أولى، فهو غيره. انتهى ملخصًا. والذي اقتصر عليه في المغايرة عجيب، فإنه يقتضي أن ابن سريج يقول بتجويز الخامسة فقط، وليس كذلك، بل يقول- أيضًا- بجواز الاقتصار على ثلاث، فإن الماوردي نقل ذلك عن طائفة، ونقل الأربع عن طائفة ثانية، والخمس عن ثالثة، ثم نقل عن ابن سريج: أنه من الخلاف المباح، فدل على أن ابن سريج يجوز الثلاث- أيضًا- والوجه الذي صححه الرافعي جازم بمنع الثلاث، فأين أحدهما من الآخر؟!

ثم إن المغاير التي زعمها مردودة، فإن المراد بالمباح في كلامهم غالبًا إنما هو الجائز، فقال: إن جميع ما رد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه يجوز لنا فعله، وليس تعيين بعضه للجواز بأولى من تعيين البعض، وكيف تصح إرادة المستحب والأربعة متفق عليها، والزائد مختلف في جوازه؟! والخروج من الخلاف مستحب بلا شك إذا لم يوقع في ترك سنة. قوله في المسألة- أي: زيادة الخامسة-: وفي ((تعليق)) القاضي الحسين و ((التتمة)): أنه إن كان عالمًا بطلت صلاته، وإن كان جاهلًا لم تبطل. وإذا جمعت بين النقلين حصل لك ثلاثة أوجه، ثالثها: الفرق بين العالم والجاهل، والرافعي خص الوجهين بحالة العلم، وقطع بالصحة في حالة الجهل، وفيه نظر، لأنا قد قررنا أن عدد التكبيرات كعدد ركعات الصلاة، وتحرم بها- لم تصح صلاته، فكذا ينبغي أن يكون هنا كذلك. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا النقل الذي نقله المصنف عن الرافعي في الجاهل سهو، وحينئذٍ فلا يرد السؤال لا في حال الجهل، بل لم يتعرض للجهل بالكلية، فإنه قال: فلو كبر خمسًا لم يخل إما أن يكون ساهيًا، أو عامدًا ... إلى آخره. وما ذكره- أيضًا- عن ((التتمة)) غلط، فإنه إنما ذكر الفرق بين الناسي والعامد، وكذا نقله النووي- أيضًا- في ((شرح المهذب)). نعم، النقل عن القاضي الحسين صحيح، وكأنه عبر به عن الناسي، ولهذا فهمه عنه تلميذه- وهو المتولي- وأيضًا حتى لا يلزمهم الاعتراض الذي ذكره المصنف، فإنه اعتراض صحيح. الأمر الثاني: أن زيادة التكبير لا تزيد على زيادة الركن أو الركعة، وزيادتهما نسيانًا لا تضر بلا خلاف، وحينئذ فكيف يستقيم حصول ثلاثة أوجه عند الجمع بين كلام ناقل الوجهين- وهو الرافعي وغيره- وكلام القاضي والمتولي؟! بل إطلاق الوجهين محمول على التعمد لا على النسيان، لما ذكرناه، وحينئذٍ فيوافق كلام الرافعي، وأما الجهل فلا يتأتى فيه خلاف، فتلخص أنه ليس في المسألة إلا وجهان. قوله: وقد أفهم عطف الشيخ القراءة على التكبيرات أن دعاء الاستفتاح والتعوذ غير مشروعين في هذه الصلاة، والأصح: استحبابه. انتهى. وما ادعاه من الإفهام عجيب، فإن التعوذ لما كان من مستحبات القراءة كان

التعرض لها تعرضًا له، فلو ادعى أن الإفهام بالعكس كان أصوب. قوله: وحكى الرافعي عن النص أنه لو أخر قراءة الفاتحة إلى التكبيرة الثانية جاز. ثم قال: وقياس ما حكاه: أن تتعين التكبيرة الثالثة للصلاة، والرابعة للدعاء إن كان الترتيب بين القراءة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء شرطًا، كما هو ظاهر الخبر. انتهى كلامه. فأما تأخير هذين الركنين- وهما الصلاة والدعاء- فالمنقول فيه: المنع، على خلاف ما ذكره بحثًا، كذا صرح بنقله الشيخ محيي الدين في ((شرح المهذب))، حتى ادعى نفي الخلاف في أن الدعاء لا يؤخر عن الثالثة. وأما توقف ما قاله على وجوب الترتيب فظاهر الفساد، إذ لا منافاة بين اجتماع الكل في تكبيرة واحدة مع الإتيان بالترتيب، فإنه قد يؤخر القراءة إلى الثانية ولكن يأتي بها ثم بالصلاة ثم بالدعاء قبل التكبيرة الثالثة. واعلم أن النووي في كتاب ((التبيان)) قد جزم بوجوب الفاتحة عقب الأولى. قوله: وبقي واجبات أخرى لم يذكرها الشيخ، منها: طهارة الحدث والخبث، وسترة العورة، واستقبال القبلة. انتهى. وما ذكره من الإهمال مردود، فإنها صلاة، وقد سبق من كلام الشيخ أن هذه الأمور شرط في الصلاة، فتركه هاهنا إحالة على ما سبق. قوله: وعن ((بحر المذهب)) فيما سمعته: أن الصلاة على الغائب لا تفعل إلا حيث لم يكن صلى عليه أحد، وكذا كانت قصة النجاشي. انتهى كلامه. واعلم أن صاحب ((البحر)) إنما نقل هذه المقالة عن الخطابي، وقال: إنها حسنة. وذلك بعد أن ذكر- كما ذكر غيره- أنه يصلي على الغائب من غير تفصيل، ولفظه: فإن قيل: النجاشي آمن وكتم إيمانه وهو بين كفار، ولم يكن ثم من يقوم بحقه، فلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليه إذ هو وليه وأحق الناس به- قلنا: أبو حنيفة، وهو المخالف، لا يقول بهذا، لأنه قال: إذا غرق في البحر لا يصلى عليه. ولأن النجاشي ملك يستحيل ألا يوافق في دينه أحدًا فيصلي عليه إذا مات، وذهب الخطابي إلى هذا التأويل فقال: إذا مات الآن مسلم ببلد، فإن علم أنه قد صلى عليه لم يصل عليه من كان غائبًا، وإن علم أنه لم يصل عليه لعائق، فالسنة أن يصلي عليه، وهذا حسن. هذا كلام ((البحر)).

باب حمل الجنازة والدفن

باب حمل الجنازة والدفن قوله: ويختار أن يجعل للنساء على السرير كالقبة، وكذا فعلته أسماء بنت عميس لزينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه رأته كذلك في الحبشة، فلما رآه عمر قال: نعم خباء الظعينة. انتهى. واعلم أن الرائي له هو: زينب لا أسماء، على خلاف ما يوهمه كلامه، فكأنها أوصت بذلك. وعميس: بعين مهملة مضمومة، وبسين مهملة، أيضًا. والظعينة- بالظاء المشالة-: هي المرأة. قوله: فإن الواحد أول العدد، وليس بعدد عند الحساب. انتهى. وتعبيره بـ ((أول)) تحريف، فإن أول الأشياء من الأشياء، فلو قلت: زيد أول الداخلين، لكان منهم، وإنما الذي قاله أهل الحساب، ونقله عنهم الرافعي في مواضع-: أن الواحد منشأ العدد أو أصله، فتحرف عليه ((الأصل)) بـ ((الأول)). قوله: أهل الذمة لا يمكنون من إخراج الجنازة نهارًا، ويجب على الإمام أن يمنعهم من ذلك، حكاه الجيلي عن ((الأحكام السلطانية)). انتهى كلامه. وهذا النقل ليس مطابقًا لما في ((الأحكام السلطانية)) للماوردي، وإن كان مطابقًا لكلام الجيلي، فإن الماوردي قد ذكر المسألة في الباب الثالث عشر من الكتاب المذكور، فقال ما نصه: ويشترط الإمام عليها مستحقًا ومستحبًا. فذكر المستحق. ثم قال: وأما المستحب فستة. فذكر منها: إخفاء دفن موتاهم، ثم قال- بعد أن عددها- ما نصه: وهذه الستة لا تلزم بعقد الذمة حتى تشترط عليهم، فتصير بالشرط ملتزمة، ويؤدبون على ارتكابها، ولا يؤدبون إن لم تشترط. هذا كلامه، وليس فيه تعرض لمنع إخراجها نهارًا على الإطلاق كما اقتضاه كلام الكتاب، ولا وجوب الاشتراط عليهم، بل قوة كلامهم تقتضي عدم الوجوب، ولهذا أعقبه بعدم التأديب عند عدم الاشتراط، وهذا الخلل وقع في نقل الجيلي عنه، لا في نقل المصنف عن الجيلي. ثم إن اقتصار المصنف على النقل عن الجيلي عجيب، فإن المسألة قد ذكرها

الرافعي في آخر عقد الذمة من جملة مسائل منقولًا أكثرها عن ((الحاوي)) للماوردي، وعبر بقوله: يؤخذ على أهل الذمة أن يخفوا دفن موتاهم، وألا يخرجوا جنائزهم ظاهرة. هذه عبارته من غير زيادة عليها. واعلم أن الماوردي في ((الحاوي)) لما ذكر المسألة حكى وجهين في وجوب ذلك بالشرط. قوله: وكيفية ذلك: أن يوضع رأس الميت- وهو في التابوت- عند الموضع الذي يكون فيه رجلاه في القبر، ثم يسل من قبل رأسه سلًا، وينزل إلى القبر على رأسه، ويستحب أن يدنى في اللحد من مقدمه، كي لا ينكب على وجهه. انتهى كلامه. ومراده بالكلام الأخير ما ذكره الأصحاب من استحباب تقريب وجه الميت وباقي بدنه إلى جدار اللحد، حتى لا ينقلب على وجهه. وقوله: يدنى، هو بالنون. ومقدمه: هو الجدار الذي يلي وجه الميت. قوله: ويكره أن يجعل تحت رأسه مخدة، أو تحته مضربة، وقال في ((التهذيب)): لا بأس به، إذ روى ابن عباس ((أنه جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء)) أخرجه مسلم. انتهى. وما اقتضاه نقله عن ((التهذيب)) من المخالفة في المخدة والمضربة، سهو أوقعه فيه الرافعي كما أوضحته في ((المهمات))، فإن البغوي إنما ذكر ذلك في المضربة خاصة، فإنه قال: ويجعل تحت رأسه لبنة، ولا بأس أن يبسط تحت جنبه شيء. هذه عبارته. واعلم أن تعبيره بـ ((جعل))، هو بضم الجيم على البناء للمفعول، فإن ابن عباس راو له لا جاعل، بل الجاعل له إنما هو شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلله بقوله: ((حتى لا يلبسها أحد بعده)). قوله: ويحثي عليه كل من حضر الدفن ثلاث حثيات بيديه جميعًا. انتهى. وتعبيره بـ ((من حضر الدفن))، مخالف لكلامهم، فقد عبر الرافعي والنووي بقولهما: ويحثي من دنا. وعبر في ((شرح المهذب)) بقوله: من على القبر. وعبارة الشيخ في ((المهذب)) وغيره: لمن على شفيره. ثم إن تعبير المصنف هاهنا تعبير ركيك فتأمل كلامه إلى آخره. قوله: وتسطيح القبر أفضل من تسنيمه، فإن قيل قد روى أن رجلًا رأى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر مسنمة، قيل: راوي هذا الخبر مجهول، ولا حجة عندنا في المراسيل. انتهى كلامه. وما ذكره من رد هذا الخبر، وتعبيره بقوله: روي، وتعليله بجهالة راويه- عجيب،

فإن الحديث رواه البخاري في ((صحيحه)) عن سفيان التمار أنه شاهد ذلك، ولأجل ذلك اعتذر البيهقي عن الحديث كما نقله عنه النووي في ((شرح المهذب)) بأمور، منها: أنه كان أولًا كذلك، ثم وقعت حائط البيت فأعيد مسنما، ومنها: أنه وإن كان صحيحًا إلا أنه من فعل الصحابة، رضي الله عنهم. ثم إن تعبيره- أيضًا- في مثل هذا بالمرسل غير مستقيم، فتأمله، وأين الإرسال هاهنا؟! قوله- في المسألة-: نعم، قال أبو علي الطبري في ((الإفصاح))، وكذا أبو علي بن أبي هريرة: إن تسنيمه الآن أفضل، لأن التسطيح صار شعارًا للروافض. وزاد فقال: إنه لا يجهر بالتسليم، لأنه صار شعارًا لهم، وكلام الغزالي قد يفهم منه اختيار ما صار إليه ابن أبي هريرة من ترك الجهر بالسلام. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن عزو اختيار التسنيم إلى ((الإفصاح)) غلط، فإن المذكور فيه هو اختيار التسطيح، فقال: ويرش عليه الماء، ليستمسك التراب، ويوضع عليه الحصباء. ثم قال: وقد ذكرنا أن القبر يسطح، لما روي أنه- عليه السلام- سطح قبر ابنه إبراهيم، وقال القاسم: رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر مسطحة. وقال بعض أصحابنا: هذا إنما يفعل إذا لم يؤد ذلك إلى افتنان العامة، وإيهام أن صاحب القبر يميل إلى البدعة. هذا كلامه، ومن ((الإفصاح)) نقلته، وهو مذكور في وسط كتاب الجنائز لا في الكلام على الدفن، فاعلمه، وحاصله حكاية وجه في المسألة، كما حكاه الرافعي والمصنف وغيرهما. ثم إنه لم يطلقه، بل قيده بحالة التوهم، وهذا أن وقع فإنما يقع في بعض النواحي، وإلا فأكثر الأماكن لا يعرفون فيها ذلك بالكلية. وسبب وقوع المصنف في هذا الغلط: أن أبا علي بن أبي هريرة شيخ أبي على الطبري ذهب إلى هذه المقالة، وهو الذي عبر عنه في ((الإفصاح)) بـ ((بعض الأصحاب)). ثم إن الشيخ أبا إسحاق رأى ذلك معزوا على أبي علي، فتوهم أنه الطبري، لا ابن أبي هريرة، فصرح به في ((المهذب)) غالطًا فيه، ثم إن المصنف وقف على ((المهذب))، فقلده، وزاد عليه أنه في ((الإفصاح))، لكونه هو الكتاب المشهور عنه، فتفطن لهذه الأمور، واحمد الله على تيسير الوقوف عليها! الأمر الثاني: أن ما نقله من تعدية ذلك إلى الجهر بالتسليم في الصلاة قد تكرر منه كما ذكرته في لفظه الذي نقلته عنه، وهو غلط عجيب حصل من تحريف، وصوابه- وهو الذي ذكره الإمام والغزالي والرافعي والنووي في كتبهم-: إنما هو البسملة، أي:

بسم الله الرحمن الرحيم، لا التسليم، وليت شعري ما الذي فهمه من المراد به: هل هو الذي يأتي به الإمام، أو المأموم، أو المنفرد، فإن كلا منها لا تستقيم إراداته؟! قوله: والمعنى في رش الماء أن يلتصق به ما وضع عليه من حصًا، وليمنعه من أن ينهار، وكذا المتولي، وألحق به طلاءه بالخلوق ترابه، فيزول أثره، ولأن فيه تفاؤلً بتبريد المضجع، ويكره أن يرش عليه ماء الورد، لأن فيه إضاعة للمال، قاله في ((التهذيب)). انتهى كلامه. وهو مشتمل على تخبيط، ولا يفهم منه معنى، وسببه تقديم وتأخير، كأنه حصل عند نقله من المسودة، والحاصل- كما تحرر لي من مراجعة أصوله-: أن تعبيره بقوله: ((وكذا المتولي، وألحق به طلاءه بالخلوق))، محله بعد قوله: قاله في ((التهذيب))، فاعلمه. ثم إن التعليل بأن فيه تفاؤلًا لا بتبريد المضجع، قد حرف- أيضًا- ألفاظه، وصوابه ما عبرت به، فتفطن له. قوله: قال البندنيجي: قال أصحابنا: إن البناء على القبر في المقابر المسبلة مكروه. وكلام غيره يقتضي أنه لا يجوز، لأنه عللوا المنع بأن فيه تضييقًا على الناس، ولو بني عليه هدم، فقد قال الماوردي: قال الشافعي: رأيت من الولاة بمكة من يهدمه، ولم أر الفقهاء يعيبون عليه. انتهى ملخصًا. وما اقتضاه كلامه من عدم الوقوف على نقل التحريم، حتى استنبطه من التعليل- غريب، فقد صرح به خلائق منهم، الماوردي في ((الحاوي)) قبيل هذا الكلام الذي نقله هو عنه، وعبر بقوله: لم [يجز]. وعلل بهذه العلة بعينها، وكذلك القاضي الحسين في ((تعليقته))، وابن أبي عصرون في ((الانتصار))، والنووي في ((شرح المهذب)). قوله: روى أبو داود عن همام بن عبد الله قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقلنا: الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال: ((احفروا وعمقوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد)). انتهى. وتعبيره بـ ((همام)) غلط، وصوابه- وهو المذكور في ((أبي داود)) - إنما هو جابر. قوله: فلو بادر بعض الورثة، ودفنه في أرض تركها الميت- كان للآخر نبشه وإخراجه، والأولى ألا يفعل، لما فيه من هتك الميت. انتهى كلامه. وما جزم به من كونه خلاف الأولى قد وقع في ((الرافعي)) - أيضًا- ولكن الأصحاب قالوا: إنه يكره. وقد نقله عنهم النووي في ((شرح المهذب)). قوله: ولا يدوس القبر إلا لحاجة، وفي هذه الحالة ينبغي أن يقلع ما في رجليه،

لما روى بشار قال: حانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرة، فإذا رجل يمشي في القبور بنعلين، فقال: ((يا صاحب السبتيتين، ألق سبتيتيك)) رواه أبو داود. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: بشار- أعني بالألف- تحريف، وإنما هو: بشير، بالباء الموحدة والشين المعجمة والياء المثناة من تحت، وهكذا ذكره أبو داود، وهو بشير بن معبد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان اسمه في الجاهلية: زحمًا- بزاي معجمة- فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيرًا. والسبتيتان: هما النعلان، الواحد: سبتية، منسوب إلى ((السبت)) - بسين مهملة مكسورة، ثم باء موحدة ساكنة، ثم تاء مثناة- وهي جلود البقر المدبوغة بالقرظ، قاله الجوهري. قوله: لما روى يزيد بن حصيب ... إلى آخره. هكذا ذكره- أعني يزيد- وصوابه: بريدة، بباء موحدة مضمومة، وراء مهملة مفتوحة، ثم ياء مثناة من تحت للتصغير، ثم دال مهملة بعدها تاء التأثنيت. والحصيب- بحاء مهملة مضمومة، وصاد مهملة مفتوحة- تصغير ((الحصب)). تنبيه: وقع في الباب ألفاظ منها: حين يقوم قائم الظهيرة، هو بظاء معجمة مشالة، وبالتاء في آخره- هو وقت شدة الحر عند انتصاف النهار، ويسمى- أيضًا-: الهاجرة، وقائمها: هو البعير البارك، يقوم في ذلك الوقت، لشدة الرمضاء. ومنها: الرجل الربع، هو- بفتح الراء وسكون الباء- من ليس بطويل ولا قصير، ويسمى- أيضًا- بالمربوع. ومنها: القصة- بقاف مفتوحة وصاد مهملة مشددة- هي الجص الذي يبيض به الثوب، تقول منه: قصص داره، يقصصها. ومنها: الموتان- بضم الميم وبالتاء المثناة- هو كثرة الموت في الحيوان.

باب التعزية والبكاء على الميت

باب التعزية والبكاء على الميت قوله: وتستحب التعزية قبل الدفن بلا خلاف. انتهى. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك، فقد قال الخوارزمي في ((الكافي)) ما نصه: ووقتها من الموت إلى ثلاثة أيام. وقيل: من الدفن إلى ثلاثة أيام. انتهى. وحاصله حكاية وجه: أن أولها من الدفن، وهو الذي نفاه المصنف، وقد حكى الخوارزي وجهًا آخر لم يذكره المصنف، وهو: أنها تفوت بتمام يوم الدفن. قوله: ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك!))، قال ابن يونس ومن تبعه: وزاد بعضهم ((وخلفه عليك))، أي: كان الله خليفة عليك. ولم أره في تعزية المسلم بالمسلم، بل في غيره كما سنذكره. انتهى كلامه. وهذا الذي أنكره على ابن يونس، وقال: إنه لم يره إلا في غير هذا القسم- عجيب، فقد صرح به الروياني في ((البحر))، واقتضى كلامه نقله عن الشافعي، وذكر- أيضًا- في ((الحلية)) نحوه، فإنه لم يذكر فيها إلا تعزية المسلم بالمسلم خاصة، مشيًا على الغالب، فقال ما نصه: ولفظ التعزية كذا وكذا، وذكر الدعوات الأربع مع أنها لا تكون إلا للمسلم بالمسلم، لأن الكافر لا يدعى له بالمغفرة ولا بإعظام الأجر. قوله: ويجوز البكاء على الميت. ثم قال: و ((البكا)) يمد ويقصر، ويقال: بكيت الرجل، وبكيته، وبكيت عليه. انتهى. فأما دعواه المد والقصر فصحيح، ولكن بمعنيين، وقد أوضح الجوهري، فقال: إنه يمد ويقصر، إذا مددت أردت الصوت، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها، قال حسان بن ثابت: بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل هذا كلام الجوهري، فاقتصر المصنف أو من نقله المصنف عنه على صدر الكلام، فوقع في الخلل.

وأما تعبيره بقوله: وبكيته، فإنه بتشديد الكاف، كذا ضبطه الجوهري فقال: وبكيت الرجل، وبكيته- بالتشديد- كلاهما إذا بكيت عليه، وأبكيته: إذا صنعت به ما يبكيه. هذا كلامه، فليته ذكره كما ذكره! قوله: ويحرم تخميش الوجه، وهو أخذ لحمه بالأظفار، ومنه قيل: نهشته الكلاب. انتهى. التخميش- بالخاء والشين المعجمتين- هو الخدش، إلا أن الجوهري جعله ثلاثيًا، فقال خمش وجهه- أي بالتخفيف- ويخمشه ويخمشه، أي بكسر الميم وضمها. وأما ((النهش)) - بالشين المعجمة والمهملة أيضًا- فهو أخذ اللحم بمقدم الأسنان، كذا ذكره الجوهري- أيضًا- وهي مادة غير مادة ((الخمش))، وحينئذ فكيف يستقيم أن يقول المصنف: ومنه كذا وكذا؟! قوله: فإن قيل: جزم الشيخ بجواز البكاء بعد الموت، وقد ورد النهي عنه، وأقل درجات النهي: أن يحمل على الكراهة ... إلى آخره. وما ذكره عجيب، فإن الجواز يصدق على المكروه وعلى غيره، على أنه قد وقع له في غير هذا الموضع مثله أيضًا. قوله: والجواب عن قوله- عليه الصلاة والسلام-: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) بوجوه، منها- ما نقله القاضي الحسين عن ابن سريج-: أن المعنى ليعذب حين البكاء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. انتهى. وتعبيره بـ ((الصفات)) - أعني بالفاء بعد الصاد- غلط لا معنى له، ولم يذكره القاضي أيضًا، بل الصواب- وهو الذي رأيته في ((تعليقته)) أيضًا- إنما هو: ((الصلات)) باللام، أي: الحروف التي توصل معنى كلمة إلى كلمة أخرى، ومع ذلك فإن مجيئه في هذا المثال لا يصح، لأن لفظ ((حين)) من الأسماء، لا من الحروف. تنبيه: ذكر في الباب ألفاظًا. منها: الحشرجة- بحاء مهملة مفتوحة، ثم شين معجمة ساكنة، ثم راء مهملة بعدها جيم، وفي آخره تاء التأنيث-: هي الغرغرة عند الموت وتردد النفس، قال الشاعر: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة قوله: قال- يعني الشيخ-: وما لم يقم ملكه عليه كالدين الذي على المكاتب ... إلى آخره. ثم قال: والجديد الصحيح: الوجوب فيه، أي: في الدين في الجملة، لكنه ينظر: فإن كان الدين حالًا على مليء مقر، ظاهرًا وباطنًا، باذلًا له- وجبت فيه الزكاة، وطولب بإخراجها بعد حولان الحول- كما قال الإمام وغيره- وحكى ابن التلمساني في ((شرحه)) لهذا الكتاب: أن الغزالي حكى وجهًا آخر: أنه لا تجب، وأنه صححه. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الغزالي غلط، فإنه لم يحك في شيء من كتبه في الصورة المذكورة خلافًا، لا في الوجوب ولا في الإخراج، بل جزم فيها بالوجوب، وأشعر كلامه بالجزم بالإخراج- أيضًا- وسبب الوهم: أن الغزالي حكى وجهين في وجوب الإخراج عن الدين المؤجل على القول بالوجوب فيه، وصحح عدم الإخراج، فحصل الوهم منه إلى هذه المسألة، وهذا الخلاف الذي لا أصل له قد حكاه أيضًا المصنف في باب قسم الصدقات، وسيأتي التنبيه عليه- إن شاء الله تعالى- في موضعه. قوله: الرابعة: الدين الزكوي لمن تجب عليه الزكاة لا يمنع وجوب الزكاة على المديون في مثله على الجديد، والقديم: أنه يمنع، واختلفوا في تعليله فقيل: لأن ملكه واهٍ، لأن صاحب الدين يمكنه انتزاعه من يده متى شاء إذا امتنع هو من الأداء، وقيل: لأن الإيجاب عليه يؤدي إلى إيجاب زكاتين في مال واحد، لأنها تجب على صاحب الحق، فلو ألزمنا المديون الزكاة- أيضًا- لصار المال الواحد سببًا لزكاتين على شخصين، فلو كان الدين لذمي، أو مكاتب، أو كان مما لا تجب فيه الزكاة- فلا تجب الزكاة على الأول، وتجب على الثاني. ثم قال ما نصه: وقد اقتضى المعنيان الوجوب فيما إذا كان الدين مؤجلًا، وقلنا: لا زكاة في المؤجل، فإن قلنا: تجب الزكاة فيه، فيمتنع الوجوب، نظرًا للعلة الأولى،

وتجب، نظرًا للعلة الثانية، قاله القاضي الحسين. انتهى كلامه. وما ذكره آخرًا، وعزاه إلى القاضي- سهو، فإن صوابه العكس، وهو الوجوب على العلة الأولى، والمنع على الثانية، وذلك واضح، فتأمله. قوله: ولو أكرى دارًا سنتين- مثلًا- بثمانين دينارًا حالة، كل سنة بأربعين، وكانت معينة أو في الذمة، وقبضها، وأقامت عنده حولًا كاملًا- فقد استقر ملكه على أربعين التي هي أجرة السنة الأولى، فتجب عليه زكاتها بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس بصحيح، فقد حكى هو بعد هذا بنحو ورقة عن ((التتمة)) وجهًا: أن الأجرة لا تملك إلا شيئًا فشيئًا، وحكاه- أيضًا- الرافعي عن ((النهاية))، إلا أن حكايته عنها غلط، أي: عن النهاية، كما أوضحته في ((المهمات))، وإذا لم تملك إلا شيئًا فشيئًا لزم انتفاء الزكاة قطعًا، لعدم الحول. قوله- في المسألة-: وهل تجب زكاة باقي الأجرة وهو المقابل للسنة الثانية أم لا؟ فيه قولان، واختلفوا في القولين: فقيل: إنهما في أصل الوجوب، وقال الشيخ أبو حامد وشيعته والأكثرون: لا خلاف في الوجوب، وإنما القولان في الإخراج، أي: هل يجب عليه إخراج زكاة أجرة السنتين عند مضى السنة الأولى، أو الواجب عليه عند مضيها إخراج الزكاة عن حصتها من الأجرة، وهي نصف وثمن دينار، فإذا مضت السنة الأخرى أخرج زكاة أجرة السنة الثانية لسنتين؟ فيه قولان، أصحهما: الثاني. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في آخر كلامه من إخراج نصف وثمن دينار، لأنها الواجب في حصة السنة الأولى من الأجرة- وهم، بل واجبها دينار، لأن قسط كل سنة أربعون، وقد ذكر بعد هذا بدون الورقة على الصواب، وأما النصف والثمن فحصة مثال آخر ذكره الرافعي، وهو أن يكريها أربع سنين بمائة دينار، فذهل فأخذ الحكم من كلام الرافعي، ونقله إلى المثال الذي مثل هو به، فحصل الغلط. الأمر الثاني: أن ما ذكره- أيضًا- في آخر التفريع على القول الثاني الذي صححه هو وغيره: أن السنة الثانية إذا مضت فيخرج زكاة أجرتها لسنتين- فيه أيضًا أمور: الأول: أنه يلزمه مع ذلك إخراج الزكاة ثانيًا عن الأربعين التي كان قد أخرج عنها في السنة الأولى، وهو لم يذكره بالكلية. الثاني: أن ما قاله من كونه يجب عليه- أيضًا- عند انقضاء السنة الثانية أن يخرج

زكاة أجرتها لسنتين، لكونها قد أقامت عنده حولين، ولم يخرج عنها شيئًا بالكلية إنما يستقيم على أن الزكاة متعلقة بالذمة حتى يكون الأربعون كلها باقية على ملكه في مدة السنتين، أما على الصحيح- وهو قول الشركة- فهو صحيح في عام واحد وهو الأول، وأما العام الثاني فلا تجب عليه إلا زكاة تسعة وثلاثين، لأن الفقراء قد ملكوا منها دينارًا بتمام الحول الأول، ولم يخرجه، لعدم استقرار الملك، وحينئذٍ فليس على ملكه في مدة الحول الثاني إلا تسعة وثلاثون، وهذا الاستدراك ذكره المصنف بعد هذا في أثناء كلام آخر، ونبه عليه- أيضًا- الرافعي ناقلًا له عن غيره، وحذفه من ((الروضة)) ذهولًا فلم يذكره فيها بالكلية. الثالث: أن هذا الكلام جميعه إنما يأتي إذا أعطى الزكاة من موضع آخر، وإلا ينقص الحساب، وقد نبه الرافعي والمصنف وغيرهما على ذلك، وحينئذٍ فيكون أول الحول الثاني في الأربعين بكمالها من حين إعطاء الزكاة، لا من أول السنة، لأن شركة الفقراء باقية إلى حين الإعطاء، وكلام المصنف ينفيه، وكذلك كلام الرافعي وغيره. قوله: وكذا يجري الخلاف فيما إذا قبض مائة دينار عن مسلم في ذمته إلى سنتين، فحال الحول على الدنانير، وقلنا: ينفسخ العقد بانقطاع المسلم فيه. ثم قال: التفريع: إن قلنا بطريقة أبي الطيب، وهو أن القولين في الوجوب لا في الإخراج- وجب عليه عند انقضاء الحول الأول إخراج دينار لا غير، فإذا مضى الحول الثاني نظر: فإن كان قد أخرج ما وجب عليه في السنة الأولى من عين المال وجب عليه إخراج زكاة تسعة وأربعين دينارًا، وإن أخرج من غيره وجب عليه زكاة الخمسين. وإن قلنا بطريقة الشيخ أبي حامد، وهو أن القولين في الإخراج مع الجزم بالوجوب: فإن قلنا: يجب الإخراج، فيخرج عند تمام الحول الأول زكاة جملة الثمانين وهي ديناران، ثم إذا حال الحلول الثاني أخرج- أيضًا- دينارين إن كان قد أخرج من مال آخر، وإن أخرج منه فيخرج زكاة ثمانية وسبعين دينارًا ... إلى آخر ما ذكر. وهذا الكلام الذي ذكره- رحمه الله- غلط، فإنه اختلط عليه مثال بمثال: فأوائله من تفريع مثال الأجرة السابق، وهو استئجار الدار سنتين بثمانين دينارًا، وآخره من تفريع المثال المذكور قريبًا في السلم، وهو ما إذا أسلم مائة دينار في شيء إلى سنتين. قوله: وفي المال المغصوب والضال والدين على مماطلٍ إذا وصل المال إليه، قولان: أحدهما: يزكيه للأحوال الماضية.

والثاني: لا زكاة في شيء منها. وقال مالك: تجب زكاة السنة الأولى خاصة، لأن مذهبه: أن التمكن شرط للوجوب، ولانعقاد الحول الثاني، فإذا وجد الإمكان بعد أحوال فقد وجد شرط وجوب الزكاة للسنة الأولى، ولم يوجد شرط عقد الأحوال بعدها، كذا قاله صاحب ((البحر)) وغيره، قال الرافعي: وما ذكره مالك يقتضى أن يكون للشافعي قول مثله، لأن له قولًا: إن الإمكان من شرائط الوجوب كمذهب مالك. قال ابن الرفعة: قلت: وقد ذال في ((البحر)): إن القاضي أبا على الزجاجي الطبري ذكر في ((زيادة المفتاح)) هذا قولًا لنا، وجعل في المسألة ثلاثة أقوال، وانفرد هو بهذا. قلت: وما ذكره أبو علي إن كان نقلًا فلا اعتراض عليه، بل نستفيد منه أن للشافعي قولًا: أن الحول الثاني إنما يعقد عند التمكن من الأداء عن الأول كما قال به بعض الأصحاب، وإن كان تفقهًا- كما أبداه الرافعي- فلا وجه له، لأنا وإن قلنا: إن التمكن شرط للوجوب، فابتداء الحول الثاني من حين انقضاء الأول، لا من وقت التمكن- كما ستعرفه- وبهذا خالف مذهبنا مذهب مالك. انتهى كلامه ابن الرفعة، رحمه الله. وقد راجعت لفظ أبي علي الزجاجي في الكتاب المذكور فوجدته قد عبر بقوله: ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: لا زكاة عليه لما مضى، ويبتدئ الحول من يوم الوجود. والثاني: عليه زكاة السنين كلها. والثالث: لا تجب إلا لسنة واحدة. هذه عبارته من غير زيادة عليها، ومن كتابه نقلت، وقد قال في خطبة الكتاب ما نصه: ولم أتجاوز فيه من منصوص الشافعي وتخريج صاحبيه- وهما المزني وابن سريج- على مذهبه إلى غير ذلك، إلا مسائل قليلة سميت قائلها. هذه عبارته- أيضًا- في الخطبة، فثبت أن القول الثالث إما منصوص عليه أو من تخريج أحد الإمامين. قوله: ومنها المال المرهون هل تجب فيه الزكاة؟ فيه طريقان حكاهما القاضي الحسين والمتولي عن الأصحاب: إحداهما: تخريجه على القولين في المغصوب والضال، ولم يورد في ((الوجيز)) غير هذه الطريقة. والثانية: القطع بالوجوب.

ثم قال ما نصه: وقد قال الرافعي عند الكلام في زكاة الفطر: إن هذا الخلاف لم نلقه إلا في حكاية الإمام والمصنف في ((الوسيط))، والذي أطلقه الجمهور هو الوجوب. نعم، يجيء الخلاف في الوجوب من طريق آخر: وهو: أن الرهن لابد وأن يكون بدين، فيكون الخلاف في أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟ والذي قاله الجمهور جواب على القول المشهور، وهو أنه لا يمنع. قلت: وفيما قاله نظر من وجهين. انتهى كلام ابن الرفعة بحروفه. وما نقله عن الرافعي غير مطابق، فلنذكر كلامه في زكاة الفطر وفي هذا الموضع، فقال في زكاة الفطر: وتجب فطرة العبد المرهون. ثم قال ما نصه: قال الإمام والمصنف في ((الوسيط)): هكذا أطلقوا القول في المرهون، ويحتمل أن يجري فيه الخلاف المذكور في زكاة المال المرهون، واعلم أن الخلاف في زكاة هذا المال وهو المرهون لم نلقه إلا في حكاية هذين الإمامين، والجمهور أطلقوا الوجوب هناك أيضًا. هذا كلام الرافعي. ثم قال: وأما المغصوب والضال ... إلى آخره، والذي نقله عنه المصنف غلط من وجهين: أحدهما: في أن الغزالي لم ينقل الخلاف إلا في ((الوسيط))، فإن الرافعي لم يخصه به، بل حكاه الغزالي- أيضًا- في ((البسيط)) و ((الوجيز))، والغريب أن الرافعي حكاه عن ((الوجيز)) في الكلام على زكاة المال، فقال في الكلام على شروط الزكاة، وهو بعد باب الخلطة ما نصه: الثانية: لو رهن ماشية أو غيرها من أموال الزكاة فقد حكى الإمام والمصنف في ((الوسيط)) في وجوب الزكاة فيها عند تمام الحول وجهين، لامتناع التصرف، وعلى ذلك جرى هاهنا. ثم قال: نعم، يجئ في وجوب الزكاة في المرهون الخلاف بجهة أخرى، وهو أن الرهن لابد وأن يكون بدين ... إلى آخره ما نقله عنه ابن الرفعة قبل ذلك، فتلخص أن ما نقله في الكتاب عن الرافعي من التخصيص بـ ((الوسيط)) عكس ما في ((الرافعي))، فإنه صرح بعدم التخصيص حيث نقله عن ((الوجيز)). الوجه الثاني: أن قول الرافعي: نعم، يجئ الخلاف في الوجوب من طريق أخرى ... إلى آخره- لم يذكره الرافعي في زكاة الفطر كما نقله عنه ابن الرفعة، وإنما ذكره في زكاة المال، وقد ذكرت لك لفظه في الموضعين وكأن المصنف كان مستحضرًا لذلك من حيث الجملة، فنقله على غير وجهه، ونسبه إلى غير موضعه.

قوله: ولو رهن نصابا، وحال عليه الحول وهو معسر- ففي أخذ الزكاة منه خلاف. ثم قال: نعم، إذا أخرجت الزكاة من المال، ثم أيسر الراهن: فهل يلزمه أن يرهن مقدار الزكاة، جبرًا للنقص الذي وقع في المرهون بأخذ الزكاة منه؟ قال الصيدلاني- وهو في ((تعليق)) القاضي الحسين منسوب إلى القفال-: الزكاة تتعلق بالذمة، فيجب ذلك، وإن قلنا: تتعلق بالعين، فوجهان، أصحهما عند القفال: المنع، وقال الإمام: إنهما ينبنيان على الوجهين فيما إذا ظهر ربح في مال القراض، وقلنا بأن العامل لا يملك شيئًا من الربح إلا بالقسمة، ورب المال قد أدى الزكاة من مال القراض، فيجعل كأن رب المال استرد طائفة من المال، أو يرجى به مجرى سائر المؤن؟ فإن قلنا: إن ذلك كالمؤن، فلا يمتنع ويجب الجبر، وإن قلنا: هو كاسترداد طائفة، فيتجه إيجابه. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من البناء المذكور غلط، فإن الإمام نقله عن الصيدلاني، وزاد على ذلك فاستشكله، فإنه قال: قال الصيدلاني: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فيجب ذلك عليه، وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، ففي وجوب ذلك وجهان مبنيان على أن الزكاة إذا وجبت في مال القراض ... ثم ذكر البناء المتقدم، ثم إنه بعد استكمال البناء رد على الصيدلاني، فقال ما نصه: وما ذكره من الاحتمال متجه، ولكن في البناء نظر، من جهة أن نفقات عبيد القراض من الربح ونفقة المرهون واجبة على الراهن. هذا لفظه، ثم ذكر بعد ذلك توجيه الاحتمال الذي أشار إليه. قوله: ولو كان المال ماشية كأربعين من الغنم مثلًا فهل حق الفقراء شائع في كل واحد من العدد بقسطه، أو في واحد من العدد، أو أكثر لا بعينه؟ فيه وجهان في ((الزاوئد)) عن صاحب ((الفروع)) ذكرهما في ضمن مسألة ما إذا أفرز الزكاة وباع الباقي. انتهى. وهذان الوجهان اللذان اقتضى كلامه استغرابهما حتى عرفهما بما عرف، قد ذكرهما الرافعي بعد المسالة بنحو ورقة، في الكلام على بيع المال الزكوي قبل إخراج الزكاة منه، ولا شك أنه لم يطلع على ذلك في كلامه. قوله- في المسألة-: فإن قلت: لعل القائل بالأول هو الصائر إلى جواز تضحية شخصين بشاتين يملك كل واحد منهما نصفهما على الإشاعة، وهو يطر في عتق نصفي عبدين في الكفارة، ومن قال بالثاني لعله القائل بعدم الإجزاء في المسألتين ...

إلى آخر ما ذكر. وما قاله هاهنا من إثبات الخلاف في الأضحية قد نفاه في كتاب الظهار في الكلام على الكفارة، فقال: إنه لا خلاف في عدم الإجزاء، وسأذكر لفظه هناك- إن شاء الله تعالى- فراجعه. قوله: والإنسان لا يجب له على نفسه شيء، وإذا امتنع الوجوب لذلك سقط، ولا ينتقل إلى الغير. ثم قال: ويشهد لذلك أن من عليه قصاص لمورثه وغيره، إذا مات مورثه لا يثبت له قصاص على نفسه، لاستحالة أن يثبت للإنسان شيء على نفسه، ولما كان ذلك ممتنعًا سقط. انتهى. وما ذكره من سقوط القصاص لا شك فيه، وما ذكره من كونه لم يجب له فقد خالفه في أوائل الجنايات، فذكر ما حاصله: أنه يجب، ثم يسقط. وسوف أذكر لفظه في موضعه- إن شاء الله تعالى- فراجعه. والمسالة شبيهة بما إذا مات للمحرم قريب يملك صيدًا، والصحيح: أنه يدخل في مكله ثم يزول، وقيل: ينتقل إلى الأبعد، وقيل غير ذلك، والقياس طرد الوجهين هنا. تنبيه: ذكر في الحديث لفظ ((الأوضاح)) بالضاد المعجمة والحاء المهملة، وهو الحلى المتخذ من الدراهم الصحاح: كالقلادة ونحوها، واحدها: وضحٌ، بفتح الضاد.

باب صدقة المواشي

باب صدقة المواشي قوله: لو علفت السائمة فيما دون الحول فهل يؤثر؟ فيه أوجه. ثم قال بعد ذلك: قال الرافعي: والأوجه المذكورة هل هي مختصة بما إذا لم يقصد بالعلف قطع السوم وإن قصده ينقطع لا محالة، أو هي شاملة للحالين؟ في كلام الناقلين لبس في ذلك، ولعل الأقرب الأول، وكذا أورده صاحب ((العدة)) وغيره. قلت: ويؤيد ذلك ... إلى آخر ما قاله. وما نقله- رحمه الله- من تخصيص الخلاف بالحالة الأولى وأقره، ليس هو كذلك، فقد رأيت في ((الشافي)) للجرجاني التصريح بالخلاف فيما إذا علف على قصد القطع، فقال ما نصه: وإن علفها الحول أو بعضه، ولم ينو نقلها إلى العلف- فلا حكم له، وإن نواه انقطع حولها في أصح الوجهين. هذا لفظه. قوله: فإذا حال الحول فهل تجب الزكاة، أم لابد من التمكن؟ فيه قولان، أصحهما: الأول، ويعبر عنهما بأن التمكن شرط في الضمان أو شرط في الوجوب، وفائدتهما تظهر فيما إذا نقص النصاب بعد الحول وقبل التمكن، مثل أن كل المال خمسًا من الإبل، فتلفت واحدة: فعلى الأول سقط عنه خمس شاة. وعلى الثاني: لا شيء عليه. ثم قال ما نصه: والقولان متفقان على أنه مهما حصل التلف بآفة سماوية قبل التمكن فلا ضمان، وعلى أنه إذا أتلف المال قبله وجب، وفي ((الجيلي)) حكاية وجه في المسألة الأخيرة: أن ذلك يمنع الوجوب إذا قلنا: إن التمكن شرط فيه. انتهى كلامه. وهذا الكلام يقتضي الاتفاق في المسألتين، ويؤيده نقل خلاف في الثانية خاصة عن حكاية الجيلي وحده، وقد صرح النووي في ((شرح المهذب)) بذلك فقال: إنه لا خلاف فيهما، وكلامه في ((الروضة)) تبعًا للرافعي يوهمه- أيضًا- وليس كذلك، بل الخلاف ثابت في المسألتين، صرح به الإمام محمد بن يحيي في ((تعليقه)) في الخلاف بيننا وبين أبي حنيفة، فإنه ذكر استناد الحنفية إلى عدم الوجوب عند التلف، وإلى

إيجابه عند الإتلاف، ثم أجاب عن ذلك فقال: قلنا: من الأصحاب من منع المسألة وقال: يجب الضمان عند التلف، تفريعًا على قول الوجوب قبل التمكن، وقد منع الشيخ أبو علي والغزالي- رحمه الله- مسألة الإتلاف، وقالا: لا ضمان فيها، تفريعًا على قولنا: إن الإمكان شرط الوجوب. هذا لفظه بحروفه، وهذا كله معرف لمقدار الجيلي واطلاعه. قوله: روي أن ساعيًا لعمر وهو سعد بن رستم قال له: إن هؤلاء يزعمون أنا نظلمهم فنعد عليهم السخلة ولا نأخذها منهم، فقال: اعتد عليهم بالسخلة يروح بها الراعي على يديه ولا تأخذها. انتهى. ذكر الماوردي أن هذا الساعي اسمه سفيان بن عبد الله الثقفي، وكان قد استعمله على الطائف. قوله: وفي ((الحاوي)) أنه- عليه الصلاة والسلام- قال لراعيه: ((عد عليهم صغيرها وكبيرها)). انتهى. في ((الحاوي)): لساعيه- بالسين- وهو الصواب. قوله- نقلًا عن الشيخ: والجذع من الضأن: ما لها ستة أشهر، والثنية من المعز: ما لها سنة. ثم قال: وما ذكره الشيخ في بيان الجذعة هو الذي اختاره الروياني في ((الحلية)) كما قال الرافعي، وقد حكي عن ابن الأعرابي أنه قال: المتولد بين شاتين يجذع لستة أشهر إلى سبعة، وبين هرمين يجذع لثمانية، وقيل: هو ما أتى عليه ثمانية أشهر، وهو اختيار الروياني في ((الحلية)). انتهى كلامه. وما ذكره من نقل الرافعي عن ((حلية)) الروياني غلط من المصنف على الرافعي وعلى ((الحلية))، فقد رأيت في ((الحلية)) المذكورة اختيار ثمانية أشهر كما نقله عنه المصنف في آخر كلامه، وهو الذي نقله- أيضًا- الرافعي عنها. نعم، ما اختاره الشيخ نقله الرافعي عنه- أي عن ((التنبيه)) - ثم إن الظاهر أنه ذهل عما نقله عنه قبله، وإلا كان من حقه أن ينبه على غلط الأول إن كان غلطًا. نعم، وقع للنووي في ((شرح المهذب)) هذا الغلط بعينه، فكأنه سبب غلط المصنف، وهو الظاهر. قوله: وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، وسميت بذلك، لأن أمها قد آن لها أن تكون ماخضًا. ثم قال: والماخض: اسم جنس لا واحد له من لفظه، والواحدة: خلفة. انتهى.

وتعبيره بقوله: والماخض، تحريف، فصوابه: المخاض- بالخاء قبل الألف- فإن أهل اللغة قد نصوا على أنه كما يكون مصدرًا- وهو ألم الولادة- يطلق أيضً على الجمع وهي الحوامل المسماة بالخلفات، واحدها: خلفة، بخاء معجمة مفتوحة، ولام مكسورة. قوله: والمولود من الإبل قبل انتهائه إلى السنة تختلف أسماؤه: فالذي قاله الماوردي: أنه يقال لولد الناقة إذا وضعته لدون وقته ناقص الخلق: خديج، وإن وضعته لوقته ناقص الخلق: مخدوج، وإن وضعته لوقته كامل الخلق قيل له هبع وربع، ثم فيصل، ثم سليل، ثم حاسر، فإذا تمت سنة قيل فيه ما ذكرناه، أي: ابن مخاض، وبنت مخاض. انتهى كلامه. اعلم أنه ينبغي الكلام على هذه الألفاظ أولًا فنقول: أما ((خديج)) و ((مخدج)) كذا فبالخاء المعجمة، ثم الدال المهملة، ثم الجيم، مأخوذ من ((الخداج)) وهو النقصان، ومنه سميت: خديجة- رضي الله عنها- فإنها لم تستكمل مدة الحمل، بل وضعت لستة أشهر. وأما ((هبع)) و ((ربع)) فبضم أولهما، والثاني منهما باء مفتوحة، بعدها عين مهملة، وقد فسر اللغويون هاتين اللفظتين- ومنهم الأزهري والجوهري- فقالوا: الربع: هو الذي ينتج في أول زمان النتاج وهو زمان الربيع، وجمعه: رباع- بكسر الراء- وأرباع، والهبع: هو الذي ينتج في آخر النتاج في زمان الصيف، وسمي بذلك- كما قاله الجوهري- من قولهم: هبع، إذا استعان بعنقه في مشيه، وذلك أن الربع أقوى منه، لكونه ولد قبله، فإذا سار الهبع معه احتاج- أي الهبع- إلى الاستعانة بعنقه، حتى لا ينقطع عنه. قال: وهو في جميع السنة يسمى حوارًا، أي: بضم الحاء والراء المهملتين. هذا كلامه. وأما الفصيل فسمي بذلك، لأنه فصل من أمه وأما الفصيل فسمي بذلك، لأنه فصل من أمه. وأما ((سليل)) - بسين مهملة مفتوحة ولامين بينهما ياء مثناة من تحت- فهو ولد الناقة حالة وضعه قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى. والحوار يطلق عليه إلى انفصاله عن أمه. إذا علمت ذلك فاعلم أن ما نقله عن الماوردي من اشتراط نقصان الوقت والخلقة معًا في مسمى ((الخديج)) ليس كذلك، بل شرطه نقصان الوقت فقط، ولم يتعرض للذي اجتمع فيه النقصانان.

قوله: وقال القاضي الحسين: تسمى الأنثى من ولد الناقة حين وضعه: ربعة وهبعة، والذكر: ربعًا وهبعًا، إذا كان ربيعيًا. ثم قال بعد ذلك: يسمى حوارًا، وقبل تمام السنة يسمى فصيلًا. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن التقييد بالربيعى راجع إلى الاسمين وهما ربع وهبع، أو إلى الأخير خاصة وهو هبع، ويقتضي- أيضًا- أن الاسمين يطلقان على كل مولود للناقة، وذلك كله غلط، ووجه الغلط يعلم مما سبق، وهذا الغلط متوجه على القاضي، وأما نقل المصنف عنه فإنه صحيح شاهدته في ((تعليقته)). قوله: وقال البندنيجي: الفصيل اسمه من حين يفصل عن أمه إلى انتهاء سنة من عمره، ويقال له حوار. انتهى كلامه. ومراده بقوله: ويقال ... إلى آخره، وهو الذي رأيته في ((تعليق)) البندنيجي- أن الحوار يطلق على الفصيل- أيضًا- ولهذا عبر المصنف بقوله: ويقال- أعني بالواو- فاعلمه، فإنه يقع في بعض النسخ بالفاء الدالة على أن الحوار لا يطلق إلا بعد انقضاء السنة. نعم، كلامه مشعر بأن اسم ((الحوار)) لا يطلق عليه قبل الفطام، وقد سبق خلافه. قوله: وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم تكن عنده أخرج ابن لبون، للحديث، وإذا أجزأ ابن اللبون أجزأ الحق والجذع عنها بطريق الأولى، وهو ما جزم به الأصحاب عند فقد ابن اللبون من ماله، وكذا معظمهم مع وجوده. وحكى الماوردي- وتبعه الروياني- وجهًا ضعيفًا: أنه لا يجزئ، لأنه لا مدخل له في الزكاة. انتهى كلامه. وقد تلخص منه أن الماوردي والروياني وسائر الأصحاب جازمون بإجزاء الحق عند فقد ابن اللبون، وأن الوجه الضعيف إنما حكياه عند وجوده، والذي ذكره غلط، فإنه ليس في كلام الماوردي ما يشعر بذلك بالكلية، بل ولا ما يوهمه، بل مقتضاه التعميم، وكذلك في كلام غيرهما ممن حكى هذا الوده. ثم إن التعليل الذي حكاه مرشد إليه- أيضًا- فلو تأمله لم يذكر ما ذكره، ولولا خشية الإطالة لذكرت لفظهما والموجب لغلط المصنف. قوله: فإن كانت عنده وهي معيبة فكالعدم، وإن كانت كريمة فقيل: يجوز له الانتقال إلى ابن اللبون، وهو ما صدر به في ((الوسيط)) كلامه، ثم قال بعده- أي في ((الوسيط)) -: وقال القفال: يلزمه شراء بنت مخاض. انتهى ملخصًا.

وحاصله: أن الغزالي في ((الوسيط)) قبل نقل عن القفال جواز إخراج ابن اللبون، وهو غلط، فإن الغزالي لم يذكر قبله شيئًا من الوجهين بالكلية، فضلًا عن الجواز، فإنه قال ما نصه: وإن كان في مال بنت مخاض كريمة فلا يطالب بها. قال القفال: يلزمه شراء بنت مخاض، لأنها موجودة في ماله، وإنما تركت نظرًا له. وقال غيره: يؤخذ ابن اللبون. انتهى كلامه، ولا شك أنه يوهم أن الضمير في ((لا يطالب بها)) راجع إلى ((بنت المخاض))، وهو راجع إلى ((الكريمة)). قوله: وإن اجتمع فرضان في نصاب كالمائتين من الإبل فيها أربع حقاقٍ أو خمس بنات لبون، لأنها أربع خمسينات وخمس أربعينات، فيجب إخراج الأغبط، فإن أخذ الساعي غيره أجزأ إن لم يكن بتقصير منه ولا من المالك، ولكن يجب التفاوت لا يجوز إخراجه من نقد البلد، وقيل: يجب أن يشتري به شقصًا إن أمكن. ثم قال ما نصه: وإذا قلنا: يشتري الشقص، فهل يكون من جنس الأعلى أو الأدنى الذي أخرجه؟ فيه وجهان عند المراوزة، قال الإمام: والذي مال إليه الكافة هو الثاني. هذا لفظه. ثم حكى وجهًا ثالثًا: أنه مخير بينهما. إذا علمت ذلك فالذي نقله عن الإمام من ترجيح الكافة للثاني- وهو الأدنى- غلط فاحش وذهول عجيب، فإن الإمام قد قال ما نصه: وقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: ينبغي أن يكون ذلك الشقص من نوع المأخوذ حتى يتحد قبيله، ومنهم من قال: يتعين تحصيله من النوع المتروك، فإنه المأمور به، وظاهر ما ذكره الأصحاب في الوجهين: أنه يتعين نوع عند الكافة، والخلاف فيما يتعين، ولا يبعد عن القياس تخيير المالك بين الأمرين، وقد أشار إليه بعض المصنفين، وهو متجه، فتحصل إذن ثلاثة أوجه. هذا كلام الإمام، وحاصله: أن المنقول عن الكافة نفي التخيير وانحصار الشراء في أحد النوعين، وأما تعيين أحدهما فلم ينقله عنهم، والذي أوهم المصنف ذكر عقب الوجه القائل بالأدنى. قوله: فرع: لو كانت إبله أربعمائة فقد اجتمع فيها ثمان حقاق وعشر بنات لبون، فإن أخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون جاز، وقال الإصطخري: لا يجوز إلا من نوع واحد وهو الحقاق أو بنات اللبون، فإن قيل: قد ذكرتم أن الساعي لا يأخذ إلا الأغبط على المذهب، ويلزم من ذلك أن يكون كل من الصنفين أغبط إذا جوزتم الأخذ من النوعين معًا وذلك لا يمكن، قال ابن الصباغ: يجوز أن يكون لهم حظ ومصلحة من اجتماع النوعين، قال الرافعي: وهذا يفيد معرفة شيء آخر، وهو: أن الغبطة غير

منحصرة في زيادة القيمة، لكن إذا كان التفاوت لا من جهة القيمة يتعذر إخراج الفضل وقدر التفاوت. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض الذي أجاب عنه ابن الصباغ، وتوهم المصنف صحته- باطل من أصله لا يحتاج معه إلى الحمل المذكور، وإن كان الفقه الذي تضمنه صحيحًا، فقد يكون عنده أربع حقاق مما يؤمر بإخراجها هو خير من كل خمس يخرجها مما عنده من بنات اللبون، ويكون في بنات اللبون خمس هي خير من أكل أربع يخرجها مما بقي عنده من الحقاق، وذلك للتعدد الحاصل في أفراد الواجب، والعجب من توهم المصنف- والرافعي والنووي من قبله- صحة هذا الاعتراض، على أن اللفظ الذي نقله المصنف عن ((الشامل)) قد تبع عليه الرافعي، وهو لا ينافي الجواب الذي ذكرناه، إلا أنني راجعت الشامل فوجدت فيه زيادة تأبى ذلك، ويقتضي ما فهمه هو وغيره من عدم إرادته، ولو ذكروا تلك الزيادة لكان أصوب. قوله: وجمع المسنة- كما قال البندنيجي-: مسنان ومسنات. انتهى. والذي ذكرته هو صورة ما ذكره المصنف وضبطه- أيضًا- وما ذكره في اللفظ الثاني صحيح، وحاصله: أنه جمع ((المسنة)) جمع سلامة بألف وتاء، وأما اللفظ الأول فتحريف، وصوابه: مسان- بفتح الميم وتشديد النون- على أنه جمع تكسير، ووزنه: مفاعل، ولكن أدغمت النون، وقد ذكر الجوهري هذا الجمع في موضعين من ((الصحاح)) في فصل الفاء من باب المعتل، وفي آخر فصل السين من باب النون. قوله: وقال- أي البندنيجي-: يقال لما تلده البقرة حين يولد: عجل وعجول، فإذا استكمل سنة ودخل في الثانية قيل له: جذع، وللأنثى: جذعة، فإذا استكمل سنتين ودخل في الثالثة فهو: ثني، وثنية، فإذا استكمل أربعا ودخل في الخامسة فهو: سديس، والأنثى: سديسة، فإذا استكمل خمسًا ودخل في السادسة فهو: ضالع، وليس له اسم بعد ذلك إلا ضالع عام وضالع عامين. انتهى كلامه. وقد سقط في هذا الكلام تسمية ما استكمل ثلاثًا ودخل في الرابعة، ويقال للذكر منه: رباع، ويقال: رباعي- بضم الراء وتخفيف الياء- وللأنثى: رباعية، ذكره الجوهري وغيره، ومن الفقاء صاحب ((البحر)) وجماعة، والمصنف له عندنا في هذا الموضع وفي الذي قبله، فقد راجعت ((تعليق)) البندنيجي من النسخة التي كانت للمصنف، فوجدت الأمرين فيها على هذا الخلل لغلط الكاتب، إلا أن مثل المصنف من العلماء لا ينتهي في التقليد إلى هذا الحد، وقد أصلحت النسخة على الصواب،

لئلا يقع أحد- أيضًا- في هذا الغلط، وقد ذكر اللغويون أسماء مستوعبة للعشر سنين. قوله: روى أبو القاسم البغوي في ((معجم الصحابة)) عن عبد الله بن معاوية الغاضري من غاضرة قيس- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه رافدة عليه كل عام، ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة)). انتهى. الغاضري- بالغين والضاد المعجمتين، والراء المهملة- مأخوذ من ((الغضارة)) وهي الرفاهية، وقيدوه بـ ((غاضرة قيس))، لأن ذلك يوجد في قبائل من العرب، قاله الرشاطي في ((الأنساب))، وذكر الجوهري- أيضًا- نحوه. وأما الهرمة: فهي العاجزة من كبر السن، وأما الدرنة: فبدال مهملة مفتوحة ثم راء مكسورة مهملتين، بعدهما نون مفتوحة، هي الجرباء، وأصل الدرن: الوسخ. وأما الشرط: فبشين معجمة مفتوحة، ثم راء مهملة مفتوحة- أيضًا- ثم طاء مهملة، فهو رذالة المال، أي الردئ منه. قوله: ولو كان ماله ثلاثين من الإبل نصفها صحاح ونصفها مراض، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير، وكل مريضة ديناران- قال في ((التهذيب)) وغيره: يجب عليه صحيحه قيمتها ثلاثة دنانير، نظرًا إلى نصف قيمة الصحيح ونصف قيمة المريض، قال الرافعي: ولك أن تقول: هلا كان هذا ملتفتًا إلى أن الزكاة هل تتقسط على الوقص أم لا؟ فإن انبسطت عليه فذاك، وإلا قسط المأخوذ على الخمس والعشرين. قلت: لو خرج على هذا فما الذي يجعل الوقص منه؟ إن جعلناه من الصحاح أضررنا برب المال، وإن جعلناه من المراض أضررنا بالفقراء، فتعين أن يجعل منهما، وحينئذ لا تختلف النسبة على أن جعله منهما، وحينئذ لا تختلف النسبة على أن جعله منهما على السوية متعذر، لأن الخمس لا تنقسم. انتهى كلامه. والذي ذكره في تقرير الجواب الأول معكوس، بل الصواب أن جعله من الصحاح مضر بالفقراء، لأنا حينئذ نقوم الرديء ونعطيهم من نسبته، وجعله من المراض مضر بالمالك نافع للفقراء، لما ذكرناه، وهو واضح. وأما الجواب الثاني- وهو التعذر- فعجيب، فإن تقويم المال جميعه ممكن مشروع، إلا أنه غير لازم على الخمسة، والخمسة سدس الثلاثين، فيعتبر نصف السدس من قيمة المراض ونصف السدس من

قيمة الصحاح، بل تقويم النصف من ذلك صحيح لا مانع منه ولا استحالة فيه- كما زعم- وكأنه سرى ذهنه إلى إخراجه فمنعه، لأن التشقيص في الواجب ممتنع. قوله: وإن كان غنمه صغارًا أخذ منها صغيرة، لقول أبي بكر في حق مانعي الزكاة: ((والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلهم على منعه)) كما أخرجه البخاري ومسلم. وجه الدلالة منه: أه أخبر عنهم أنهم كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العناق، والعناق: الأنثى الصغيرة من أولاد الغنم. انتهى كلامه. وما ذكره نقلًا واستدلالًا باطل: أما الأول: فلأن البخاري لم يرو موضع الحاجة- وهو العناق- وإنما لفظ روايته: ((لو منعوني عقالًا)). نعم، رواه مسلم بلفظ ((العناق)). وأما الثاني- وهو دعواه الإخبار بأداء العناق- فعجيب جدًا، فإنه لم يخبر عنهم بأدائه، وإنما ذكر المقابلة على تقدير الأداء، وأتى بلفظ ((لو)) المستعملة في المستحيل وامتناع الشيء لأجل امتناع غيره، فقال: لو كان كذا لكان كذا، ولا يدل ذلك على أدائه، بل ولا على جواز الأداء، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:21] ونحو ذلك. قوله: وروى أبو داود عن مسلم بن ثفنة عن شيخ يقال له سعر ... إلى آخره. ثفنة: بثاء مثلثة مفتوحة، ثم فاء مكسورة بعدها نون، ثم تاء التأنيث. وما ذكره أبو داود من كون مسلم هو ابن ثفنة قد تبع فيه وكيعا، والصواب: أنه مسلم بن شعبه، كذا ذكره جماعات منهم الإمام أحمد والنسائي والدارقطني، ووهموا وكيعا فيما ذكره، وأما سعر- فبسين مكسورة ثم عين ساكنة مهملتين بعدها راء، وهو سعر بن سوادة- ويقال: ابن ديسم- العامري، قال الدارقطني: له صحبة. قوله: وروى أبو داود عن مسلم بن ثفنة عن شيخ يقال له سعر ... إلى آخره. ثفنة: بثاء مثلثة مفتوحة، ثم فاء مكسورة بعدها نون، ثم تاء التأنيث. وما ذكره أبو داود من كون مسلم هو ابن ثفنة قد تبع فيه وكيعا، والصواب: أنه مسلم بن شعبة، كذا ذكره جماعات منهم الإمام أحمد والنسائي والدارقطني، ووهموا وكيعا فيما ذكره، وأما سعر- فبسين مكسورة ثم عين ساكنة مهملتين بعدها راء، وهو سعر بن سوادة- ويقال: ابن ديسم- العامري، قال الدارقطني: له صحبة. قوله: والبخاتي- بتشديد الياء وتخفيفها- والعراب نوعان للإبل، كما أن المهرية والأرحبية والمجيدية والعقيلية والقرملية أنواع لها. انتهى.

اعلم أن البخاتي: إبل الترك وهي التي لها سنامان، وما عداها إبل العرب وهي المسماة بالعراب، وأنواعها- كما ذكره المصنف: المهرية، بميم مفتوحة، وجمعها: مهاري منسوبة إلى مهرة بن حيدان، أبي قبيلة، قاله الجوهري. والأرحبية: منسوبة إلى ((أرحب)) - بالحاء المهملة والباء الموحدة- قبيلة من همدان. والمجيدية: إبل دون المهرية، منسوبة إلى ((مجيد)) - بضم الميم، وفتح الجيم- وهو اسم فحل. والعقيلية- بعين مفتوحة وقاف- منسوبة إلى ((العقيلة))، وهي كريمة الإبل. والقرملية: منسوبة إلى ((القرمل)) - بقاف مكسورة وراء ساكنة وميم مكسورة ثم لام- هو البختي السابق ذكره كما قاله الجوهري- وجمعه: قرامل. إذا تقرر ذلك علمت أن البخاتي هي القرملية على خلاف ما اقتضاه كلام المصنف من المغايرة، وأن الأربعة الباقية نوعان للعراب، على خلاف ما دل عليه تعبيره- أيضًا- وكأنه رأي بعضهم عبر ببعضها، والبعض بالبعض الآخر، فتوهم التغاير فجمع بينهما. قوله: ولا تؤخذ الربي ولا الماخض ولا فحل الغنم ولا الأكولة ولا حزرات المال، إلا أن يختار رب المال. ثم قال: وما ذكره الشيخ من الأخذ في جميع الصور عند اختيار رب المال هو المشهور، إلا في فحل الغنم، فإن فيه إذا أخرجه ما تقدم في أخذ الذكر. انتهى كلامه. وحاصل كلامه: أن هذه الصورة التي قالها الشيخ لا تأتي على المذهب، وإنما تأتي على وجه ضعيف، لأن الصحيح منع أخذ الذكر عن الأنثى، وليس كما قاله، بل يتصور ذلك على المذهب في خمس من الإبل، فإن الشاة الواجبة فيها يجوز أن تكون ذكرا مع وجود الإناث كما هو المشهور، وحينئذ فإذا تبرع بإعطاء فحل غنمه جاز قبوله. قوله: وفي ((الإبانة)): أن صاحب ((التقريب)) قال: إذا أعطى كريمة لا تجزئ، لظاهر خبر معاذ. وفي ((النهاية)): أن صاحب ((التقريب)) حكاه عن غيره، وقال: إنه مزيف لا أصل له. انتهى كلامه. وهو كالصريح في أن المزيف لهذا القول هو الحاكي له وهو صاحب ((التقريب))،

وليس كذلك، بل المزيف له إنما هو الإمام، كذا هو في ((النهاية)) فاعلمه. وقوله: وفي بعض الشروح: أن بعض الخراسانيين قال: إن اشتراط الاشتراك في الفحل مخصوص بما إذا اتحد النوع، وإن اختلف كالضأن والمعز فلا يضر اختلاف الفحل، للضرورة. قلت: وحقيقة ذلك ترجع إلى أنا على الأول لا نثبت حكم الخلطة عند اختلاف نوع المال، إذ لا اشتراك في الفحل ولكن نثبتها عند اتحاده، وعلى الثاني نجوزها في الحالين، وهذا لم أره لغيره. انتهى كلامه. والذي أنكره- رحمه الله- لابد منه، وقد جزم به النووي في ((شرح المهذب)). وزاد فقال: إنه لا خلاف فيه، للتعذر، فأشبه ما لو خلط أربعين من الذكور بأربعين من الإناث. قوله: ولأجل ذلك قال الرافعي: إن اتحاد موضع الحلب لابد منه، أي: في الخلطة، وأفهم كلام النووي خلافًا فيه، لأنه قال:- أي: في ((اللغات)) -: والأصح اشتراط موضع الحلب. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يقف في المسألة على خلاف، وقد صرح الروياني بذلك في ((البحر)) فحكى فيه وجهين كما أفهمه كلام النووي، فاعلمه.

باب زكاة النبات

باب زكاة النبات قوله: في الحديث عن عبد الله بن عمر-: ((فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلًا العشر، وفيما سقى بالسواني أو النضح نصف العشر)) رواه البخاري. وعن جابر- أيضًا-: ((فيما سقت الأنهار والعيون العشر، وفيما سقى بالسواني نصف العشر)) أخرجه مسلم. انتهى. أما حديث البخاري فليس فيه لفظ ((الأنهار))، بل فيه عوضًا عنه لفظ ((العثري)) بعين مهملة مفتوحة، وثاء مثلثة مفتوحة- أيضًا- وقد تسكن، وصورته: أن تحفر حفيرة يجري فيها الماء من السيل إلى أصول الشجر، وتسمى الحفرة: عاثورًا، لأن المار يتعثر فيها إذا لم يشعر بها. وليس فيه أيضًا لفظ ((السواني)) بل ((النضح)) خاصة، وسيأتي ضبط هذه اللفظة. وأما حديث مسلم فليس فيه لفظ ((العيون))، بل فيه عوضًا عنه لفظ ((الغيم)) - بغين معجمة، وبالميم في آخره- أي: السحاب. قوله: وكان فتح خيبر في سنة من الهجرة. انتهى. وما ذكره في تأريخ الفتح غلط، بل كان فتحها في السنة السابعة بلا خلاف، وقد ذكره هو على الصواب في باب قتال المشركين. قوله: وقال في القديم: تجب الزكاة في الورس، لأن أبا بكر أمر أهل خفاش بذلك، وما ذكره الشيخ من جزم القديم بالوجوب ذكره البندنيجي- أيضًا- وقال غيرهما: إن الشافعي علق القول في القديم على صحة هذا الأثر، فقال: إن صح قلت به. وقد صح، فيكون له فيه على القديم قولان. انتهى. وما ادعاه من صحة الأثر غلط، فقد نصت الحفاظ على ضعفه، ومنهم البيهقي. ونقله عن النووي في ((شرح المهذب)) وغيره، وما ذكره من مجيء قولين على القول بصحته غلط- أيضًا- بل إنما يأتيان على القول بضعفه، وهو الذي ذكره غيره- أيضًا- فتأمل ذلك.

قوله: والورس: نبت أصفر يكون باليمن يصبغ به الثياب والحبر وغيرهما. انتهى. والحبر- بحاء مهملة مكسورة، وباء موحدة مفتةحة- جمع ((حبرة)): نوع من الثياب، وإذا علمت ذلك علمت أن ذكره من بعدها لا فائدة له، بل موهم، والظاهر أنه رأى في كلام بعضهم التعبير بـ ((الثياب)) وفي بعضها بـ ((الحبر))، فجمع بينهما. نعم، قد يقع في القرآن الكريم عطف الخاص على العام، لمعنى لا يأتي هنا: كالاهتمام في قوله تعالى: {وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]. قوله: وتضم ثمرة العام الواحد بعضه إلى بعض في إجمال النصاب، وفي الزرع أربعة أقوال. ثم قال بعد نحو ورقة: والقول الرابع: أن الاعتبار بالحصد، فإن وقع الحصادان في سنة- أي اثني عشر شهرًا- ضم أحدهما إلى الآخر، وإلا فلا. قال الرافعي: وكلام الأكثرين مائل إلى ترجيح هذا القول. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله الرافعي من ترجيح الأكثرين لهذا القول، وعزو المصنف ذلك لو ساكتًا عليه متوهمًا صحته- كلام باطل، فقد أمعنت النظر وتتبعت كلامهم، فلم أقف على ترجيحه لأحد بالكلية فضلًا عن الأكثرين، ولا شك أنه انقلب على الرافعي، فإن كثيرًا من الأصحاب قد صححوا اعتبار الزراعة في السنة، منهم: البندنيجي، وابن الصباغ، وصحح الروياني اعتبار الحصاد، ولكن في فصل واحد لا في سنة واحدة. قوله: في المسألة-: ونص في ((الكبير)) على قول خامس، فقال: إن وقع البذران في سنة، ووقع الحصادان في سنة- فأحدهما مضموم إلى الثاني، قال الرافعي: ذلك إن وقع زرع الثاني وحصد الأول في سنة. انتهى بحروفه. وهو كلام عجيب، وأحسن أحواله أن يحمل على غلط وقع للنووي في ((الروضة)) عند حكايته لهذا القول، وهو اجتماع الزرعين والحصادين معًا في سنة واحدة، مع أن المذكور في ((الرافعي)): أنه يكفي أن يقع في السنة إما الزرعان وإما الحصادان، لا كلاهما معًا كما تحرف على النووي، وقد أوضحت المسألة في ((المهمات)). قوله: ((والبعل)) في الحديث- بتسكين العين المهملة- قد تقدم شرحه، وهو ما يشرب بالعروق، وقيل: هو والعذق واحد، وهو ما سقت السماء، والمشهور

اختصاص هذا بالعذق، وأما البغل فهو ما تقدم. و ((السواني)) جمع ((سانية))، وهي الناقة التي يسقى عليها. انتهى كلامه. وتعبيره بـ ((العذق)) - أعني بالقاف- تحريف، وإنما هو ((العذى)) بعين مهملة مكسورة ثم ذال معجمة ساكنة، ثم ياء بنقطتين من تحت، كذا قاله الجوهري وصاحب ((المحكم)) وغيرهما. أما ((العذق)) بالقاف فمفتوح العين: اسم للنخلة ونحوها، وبمكسورها: اسم للقنو، وهو المسمى بالإسباطة، والذال- أيضًا- معجمة فيهما. والسانية: بسين مهملة ونون، بعدها ياء بنقطتين من تحت، وقد فسرها المصنف. قوله: ويجب إخراج الواجب من التمر يابسًا. ثم قال: فلو أخرج من الرطب قدرًا يكون إذا جف قدر الواجب لم يجزئه، لأنه بدل والبدل لا يجوز في الزكاة من غير ضرورة، فعلى هذا: إن كان باقيًا رده الساعي إليه، وإن كان تالفًا رد قيمته على المذهب في ((المهذب)) وغيره، وقيل: يرد المثل. وهذا الخلاف مبني على أن الرطب والعنب مثليان أو لا، وسيأتي الكلام فيه في الغصب. انتهى كلامه. ومقتضاه: رجحان الذهاب إلى أنهما متقومان، وقد ناقض ذلك في باب الغصب، وصرح بأن الأظهر أنهما مثليان، وستعرف لفظه هناك، إن شاء الله تعالى. قوله: وإذا قطع الثمرة، للخوف على النخيل من العطش- أخذنا منه عشر الرطب، فإن أتلفه فالواجب عليه عشر قيمته بلا خلاف كما قاله القاضي الحسين. انتهى كلامه. وما ذكره من عشر القيمة قد ذكر بعد هذا بنحو ورقتين عكسه، فأوجب قيمة العشر، ثم إنه كرر ذلك مرات، ولا شك أن عشر القيمة أكثر من قيمة العشر لأجل التشقيص، وقد أوضحت ذلك في كتاب الصداق، وذكرته أبسط من ذلك في العتق من ((المهمات))، فراجعه. قوله: فثبت من ذلك أن كون الخارص يدع النخل لرب المال وأهله قدر ما يأكلون، ولا يدخله في الخرص- وجه للأصحاب. انتهى كلامه. وما ادعاه من إثبات وجه مع إظهار العناية والتكلف عجيب، فقد نص عليه

الشافعي في ((البويطي))، وهو من أجل الكتب الجديدة، فقال: ويترك لرب الحائط قدر ما يأكل هو وأهله، لا يخرص عليه، هذا لفظه بحروفه، ومن ((البويطي)) نقلت. قوله: وإن ادعى أن الثمرة، هلكت وأسند الهلاك إلى سبب ظاهر- كالنهب، والجراد، ونزول العسكر، والبرد- نظر: إن عرف وقوع ذلك وعموم أثره صدقه، ولا حاجة إلى اليمين، فإن اتهم في هلاك ثماره بذلك السبب حلف، وإن لم يعرف وقوعه فوجهان، أظهرهما- وعليه المعظم-: أنه يطالب بالبينة. انتهى. هذا الكلام ذكره الرافعي، فتبعه عليه المصنف، وفيه أمران: أحدهما: أنه أهمل قسمًا متوسطًا ثالثًا، وهو ما إذا عرف وقوعه ولم يعرف عمومه، وقد ذكره الرافعي في آخر الوديعة، وقال: إنه يصدق بيمينه. وذكره- أيضًا- المصنف. الثاني: أن التحليف عند التهمة- لاحتمال عدم التلف به- كيف يستقيم مع فرض المسألة في عموم أثره؟! وقد ذكر هو وغيره في نظير هذا الموضع أنه إذا عرف العموم فلا تحليف، فينبغي حمل العموم هنا على الكثرة، لا كل نخلة من كل بستان. قوله: في المسألة-: وإن اقتصر على دعوى الهلاك ولم يذكر السبب، فالمفهوم من كلام الأصحاب: قبوله مع اليمين. انتهى. وهذا التعبير ذكره- أيضًا- الرافعي، وهو يشعر بعدم الوقوف على نقل صريح في ذلك، وهو عجيب، فقد جزم كثيرون بذلك، ومنهم الرافعي في آخر الوديعة. قوله: وإن ادعى أن الخارص غلط عليه، وبين المقدار: فإن كان قدرًا يحتمل مثله الغلط كخمسة أوسق في مائة، فهل يقبل؟ وجهان: أحدهما: لا، لاحتمال أن النقصان وقع في الكيل، ولعله يفي إذا كيل ثانيًا، وصار كما لو اشترى حنطة مكايلة وباعها مكايلة، فانتقص بقدر ما يقع بين الكيلين- لا يرجع على الأول. وأصحهما: نعم، لأن الكيل يقين والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى. وإن كان ما ادعاه فاحشًا لا يجوز لأهل النظر الغلط بمثله فلا يحط عنه. انتهى. وما ذكره- رحمه الله- من حكاية الخلاف في الخمسة من المائة ونحو ذلك

غلط، بل يقبل بلا خلاف، كما جزم به الأصحاب، والوجهان محلهما فيما دون هذا المقدار مما يمكن وقوعه بين الكيلين، وسبب غلط المصنف: أنه نقل هذه المسائل من كلام الرافعي، فأسقط بعضه: إما غلطًا منه، أو من الأصل المنقول منه، فإنه قال- أعنى الرافعي-: وإن ادعى بعد الكيل أنه غلط، وبين القدر: فإن كان يحتمل الغلط في مثله كخمسة أوسق في مائة قبل هذا إذا كان المدعى فوق ما يقع بين الكيلين، فإن كان يسيرًا بقدر ما يقع بينهما فهل يحط عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا، لاحتمال أن النقص وقع في الكيل، ولو كيل ثانيًا وفي. الثاني: يحط، لأن الكيل يقين والخرص تخمين، فالإحالة عليه أولى. انتهى موضع الحاجة من كلامه، وإذا تأملته علمت أنه أسقط فيه جواب مسألة وصدر أخرى، وكان حقه أن يقول- مثلًا-: كخمسة أوسق في مائة، فإنه يقبل هذا إذا كان ... ثم يذكر ما ذكره الرافعي. قوله: وهل الواجب في الأربعين- مثلًا- جزء من كل حيوان أو حيوان مبهم؟ فيه وجهان، ويتفرع عليهما ما إذا باع الجميع: فإن قلنا بالأول فيتخرج على تفريق الصفقة، وإن قلنا بالثاني فقال الصيدلاني: يبطل في الجميع قطعًا، لأن الواجب غير متعين. قلت: والوجه: أن يقال: إن كان النصاب مختلفًا، كما إذا اشتمل على كبار وصغار- فالحكم: كما قال، وإن كان غير مختلف، للتساوي في الأسنان وتقارب الصفات-: فيكون في صحة البيع فيما عدا قدر الزكاة وجهان، فإن الماوردي قد ذكر هذا التفصيل بعينه في نظيره، وهو ما إذا قال: بعتك هذه الشياه إلا شاة. انتهى ملخصًا. وما ذكره المصنف من موافقة الصيدلاني على الجزم بالبطلان عند الاختلاف ليس كذلك، فقد ذكر هو في كتاب البيع: أنه لو اختلط عبيده بعيد لغيره، فقال: بعتك عبدي من هؤلاء، والمشتري يراهم ولا يعرف عبده- قال في ((التتمة)): له حكم بيع الغائب. وقال البغوي: عندي أنه باطل. انتهى، فثبت الخلاف من غير تفصيل بين الاختلاف والتساوي. تنبيه: وقع في الباب ألفاظ: منها: الفث، وهو بفاء مفتوحة، بعدها ثاء مثلثة مشددة، وقد فسره الرافعي. ومنها: الثمام- بثاء مثلثة مضمومة، بعدها ميم مفتوحة-: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، الواحدة: ثمامة، وبه سمى الرجل المعروف.

ومنها: الثفاء- بثاء مثلثة مضمومة، ثم فاء مشددة، بعدها ألف ممدودة-: اسم لحب الرشاد، واحده: ثفاءة. ومنها: الجاورس- بالجيم، وبعد الألف واو، ثم راء وسين مهملتين-: هو الدخن، كما قاله الجوهري في الكلام على لفظ ((الدخن))، فاعلمه، ولما ذكره المصنف عبر عنه بـ ((الجاروس)) أي تقديم الراء على الواو، وصوابه ما ذكرناه، فتفطن له. ومنها: بنو خفاش، هو بخاء معجمة مضمومة، وفاء مشددة، وشين معجمة، وضبطه بعضهم بكسر الخاء وتخفيف الفاء، وهو غلط، كما قاله النووي. ومنها- في حديث أبي داود-: ((والوسق ستون مختومًا))، هو بخاء معجمة، ثم تاء مثناة من فوق، وفي آخره ميم، من ((الختم)) وهو استيفاء الشيء، أي: الكامل من الصيعان. ومنها: الغرب للدلو الكبير، هو بغين معجمة مفتوحة، ثم راء مهملة ساكنة، ثم باء موحدة. ومنها: الهلياث اسم لنوع من التمر، هو بهاء مكسورة، بعدها لام ساكنة، ثم ياء مثناة من تحت، وفي آخره ثاء مثلثة، ووقع في كلام المصنف بالعين عوضًا عن الهاء، وهو غلط، بل الصواب- وهو المذكور في شرح ((شرح المهذب)) وغيره- ما سبق ضبطه. ومنها: سهل بن أبي حثمة، هو بحاء مهملة مفتوحة، ثم ثاء مثلثة ساكنة: اسم لامرأة، قال الجوهري: والحثمة: الأكمة الحمراء، قال: وبها سميت المرأة: حثمة.

باب زكاة الناض

باب زكاة الناض قوله: قال أهل اللغة: الناض- بتشديد الضاد- ما كان نقدًا من الدراهم والدنانير خاصة، كذا حكاه النووي. انتهى. وتعبيره بقوله: خاصة، إن رجع إلى ((النقد)) أشعر بأن الدراهم والدنانير يطلقان على النقد وعلى غيره، وهو باطل. وإن رجع إلى النوعين المذكورين أشعر بأن النقد يكون منهما ومن غيرهما، وهو- أيضًا- باطل. وأما عزو ذلك إلى النووي فباطل، فإنه عبر بقوله: الناض- بتشديد الضاد-: هو الدراهم والدنانير خاصة. هذه عبارته، وكلام المصنف يحتمل التأويل، إلا أن النووي لم يذكر النقد بالكلية. قوله: وقد كان في الجاهلية دراهم مختلفة بغلية وطبرية وغيرهما، وغالب ما كانوا يتعاملون به من أنواع الدراهم في عصره- عليه الصلاة والسلام- والصدر الأول بعده نوعان: أحدهما: الطبرية، زنة كل درهم منها ثمانية دوانق، والآخر: البغلية، وهي منسوبة إلى ملك يقال له: رأس البغل، زنة كل درهم أربعة دوانق. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- في زنة البغلية والطبرية سهو، وصوابه: العكس، وهو أن زنة البغلية ثمانية دوانق، والطبرية أربعة، هكذا ذكره الأصحاب وغيرهم هنا وفي كتاب الإقرار، وممن ذكره هنا الرافعي، وكذلك النووي في كتبه حتى ((لغات التنبيه))، والمصنف ينسخها غالبًا بلفظها في هذا الكتاب، وقد ذكره المصنف على الصواب في باب الإقرار. قوله: وعامة الأصحاب على أن تحلية آلة الفرس حرام، وقالوا: إنه مقتضى نص الشافعي، وإنما قالوا ذلك، لأنه نص في ((البويطي)) و ((المختصر)) على أنه إذا كان له فضة مخلوطة على لجام فعليه إخراج الصدقة عنها، ومذهبه: أن الحلي المباح لا زكاة فيه، فدل على أن ذلك محرم. انتهى كلامه. وما ذكره غفلة عجيبة، لأن الزكاة كما تجب في المحرم تجب في المكروه- أيضًا-

فوجوب الزكاة فيه لا يدل على التحريم، لجواز أن يكون قائلًا بالكراهة. قوله: نعم، ترددوا في اتخاذ سنة أو سنتين من الذهب لخاتم من الفضة، والأكثرون: أنه لا يجوز. انتهى كلامه. والتعبير بـ ((سنة)) و ((سنتين)) غلط حصل عن ذهول، وصوابه: سن وأسنان، شبهوا ما يمسك الفص بأسنان الحيوان. قوله: وقضية التوجيه الثاني: جواز تمويه سقف البيوت وجدرانها بالذهب والفضة، ولم يختلف الأصحاب في منعه. انتهى كلامه. وما نقله من عدم اختلافهم ليس كذلك، فقد حكى الرافعي في ((الشرح الصغير)) فيه خلافًا، واقتضى كلامه تصحيح الجواز، فإنه قال هنا ما نصه: واستثنى في الكتاب عن التحريم شيئين، أحدهما: التمويه الذي لا يحصل منه شيء، وفيه وجهان قدمنا ذكرهما في الأواني، ويجريان في الخاتم والسقف والجدار وغيرها. هذا لفظه. قوله: ولا شك في تحريم التاج الذي لا يلبسه إلا عظماء الفرس على الرجال والنساء. انتهى. وما اقتضاه كلامه من الاتفاق مسلم في حق الرجال، وأما النساء ففي منعهن من لبسه نزاع ظاهر، حتى قال النووي في باب ما يجوز لبسه من ((شرح المهذب)): الصواب: الجواز من غير ترديد، لعموم الحديث، ولدخوله في اسم الحلى. تنبيه: وقع في الباب ألفاظ: منها: النش: اسم لنصف الأوقية، هو بنون مفتوحة، وشين معجمة. ومنها: ((المسكتان)): تثنية ((مسكة)) - بميم وسين مهملة مفتوحتين، بعدهما كاف- اسم للسوار الذي يلبسه النساء. ومنها: الفتخات: جمع ((فتخة)) - بفاء وتاء مثناة مفتوحتين- اسم لنوع من الخواتم، كما أوضحه المصنف. ومنها قبيعة السيف- بالباء الموحدة- وهو الذي على طرف قبضة السيف. ومنها: تعبيره بقوله: والأواني من الذهب والفضة في حكم الشرع متبرة، أي: مكسرة هالكة، يقال تبره الله تتبيرًا، أي: أهلكه وكسره، قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} [الأعراف:139].

باب زكاة المعدن والركاز

باب زكاة المعدن والركاز قوله: روى أبو داود أنه- عليه الصلاة والسلام- أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية جلسيها وغوريها، وحيث يصلح للزرع من قدس. اعلم أن بعض هذه الألفاظ قد تكلم عليه المصنف هنا، وبعضها يأتي الكلام عليه في باب الإحياء، ومما لم يضبطه: الجلسي، وهو بجيم مفتوحة، ولام ساكنة، وسين مهملة، منسوب إلى ((جلس)) وهو نجد، يقال: جلس الرجل، إذا أتى نجدًا وسمى نجدًا، لارتفاعه. والغوري- بالغين المعجمة المفتوحة- نسبة إلى الغور وهو المنخفض، عكس النجدي، والمراد به هنا: تهامة. وأما ((قدس)) - فبقاف مضمومة، ودال ساكنة وسين مهملتين- اسم لجبل عظيم بناحية نجد، قاله الجوهري. وقد ذكر ألفاظًا، منها: عتيدة، أي: حاضرة، قال تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23]. قوله: وهذا القول- أي القائل باشتراط الحول في زكاة المعدن- قال المزني: إنه أخبره به من يثق به، وإنه مومئ إليه في ((مختصر)) البويطي. انتهى. وهذا الكلام صريح في أن ناقل الإيماء هو البويطي أيضًا، لأنه عطفه على المقول، وليس كذلك، فإن البويطي لا ذكر له في ((المختصر))، وقد راجعت ((البويطي))، فوجدته قد ذكر الإيماء معبرًا عنه بقوله: قيل كذا وقيل كذا، ولم يتعرض لغير ذلك، والرافعي قد نقل جميع ذلك على وجه صحيح، ولا شك أن المصنف أخذه منه، فحصل في نقله تحريف. قوله: وإنما اعتبرنا الحول في المعدن على قول، لأنه يحتاج في تحصيله وتمييزه إلى مدةٍ، بخلاف الركاز.

قلت: وهذا الفرق يقتضي التفرقة بين ما يجده بدرة أو في بطحاء كشفها الريح أو السيل، وبين ما يوقف على الطحن والتخليص، وجوابه: أن النظر إلى الأغلب. انتهى. والبدرة- بباء موحدة مفتوحة، ودال مهملة-: عشرة آلاف درهم كما قاله الجوهري وغيره، وإذا علمت ذلك عرفت أن مدلوله لا يكاد ينتظم مع ما قاله المصنف. قوله: ولو كانت قيمة العرض في آخر الحول تزيد زكي الجميع بحول الأصل. ثم قال: وقال الإمام: إن من يعتبر النصاب في جميع الحول كما في زكاة الأعيان قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول، وقضية قياسه أن يقول: ظهور الربح في أثناء الحول بمثابة نضوضه. انتهى كلامه. زاد الإمام على هذا فقال: لابد منه. ولما نقله الرافعي عنه ارتضاه وزاد عليه: أنه يقتضي إعلام ((الوجيز)) بالواو، وهذا الذي ذكره الإمام وتابعوه عليه عجيب، فإنه يبطل بالنتاج. قوله: فإن كان نضوض الزيادة تحبس رأس المال بعد حولان الحول، ولم تزد قيمة العرض بعد الحول شيئا- فقد حكى الرافعي فيه وجهين: أحدهما: أن الحكم كما لو كان النضوض في أثناء الحول حتى يزكى بحول الأصل. وأظهرهما: أنه يستأنف للربح حولا. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي غلط عجيب، فإن الرافعي جزم بأنه يزكى بحول الأصل، ولم يحك خلافًا بالكلية، فضلًا عن تصحيح الاستئناف، بل زاد على ذلك فنقل عن الشيخ أبي علي أنه لا خلاف، وذكر مثله في ((الروضة)) - أيضًا- وسبب غلط المصنف: أنه أسقط نحو سطر من كلام الرافعي إما بانتقال نظره أو نظر الناسخ للأصل الذي وقف عليه، ويعرف ذلك بمراجعة الشرح. قوله: وإن باع الأثمان بعضها ببعض للتجارة فقد قيل: ينقطع الحول. ثم قال: وقيل: لا ينقطع، كما لو بادل عرضا للتجارة بعرض للتجارة، وهذا ما نسبه البندنيجي إلى الإصطخري، والماوردي إلى أبي العباس، والقاضي الحسين إلى

القديم، وصححه النووي. انتهى كلامه. وهذا النقل عن النووي سهو، فإن الذي صححه في ((الروضة)) و ((شرح المهذب)) و ((تصحيح التنبيه)): أنه ينقطع. ولم يخالف ذلك في غيرها من كتبه، وأما النقل عن الباقين فصحيح. قوله: ولو أذن السيد للعبد أن يستخرج من المعدن على أن ما يخرجه يكون ملكًا له، وفرعنا على أن العبد يملك بتمليك السيد- كان النيل للعبد كما حكاه ابن الصباغ وأبو الطيب، ولا زكاة عليه، وقد ادعى الإمام في أثناء قسم الصدقات أنا إذا حكمنا بأن العبد يملك بتمليك السيد، فقال له: ملكتك ما تحتطبه وتصطاده، أو: ما تتهبه، فوجد سبب من هذه الأسباب- لم يحصل الملك للعبد، فإن التمليك لا يحصل غلا من جهة السيد في ملك حاصل، وتمليك الأسباب لا يملك العبد ما يحصل بها. انتهى كلامه. وسياقه يشعر بأن كلام الإمام مخالف لما سبق، وليس كذلك، بل هما مسألتان، الثانية منهما: فيهما تنجيز للملك قبل وجود العين المملكة، وهو باطل بلا شك، والأولى بخلاف ذلك. قوله: والماء العد. هو بعين مهملة مكسورة، بعدها دال مهملة مشددة، قال الجوهري: هو الذي له مادة لا تنقطع كماء البئر والعين. قوله: في الحديث: ((وفي الركاز الخمس))، قالوا: يا رسول الله، وما الركاز؟ قال: ((المال المخلوق في الأرض يوم خلق الله السموات والأرض))، ثم قال: وهذا التفسير روايه متروك الحديث، كما نقله عبد الحق عن أبي حاتم القزويني. انتهى. والصواب- وهو الذي نقله عبد الحق في ((أحكامه)) - إنما هو ابن أبي حاتم الرازي صاحب ((الجرح والتعديل))، وهو كذلك في كتابه، وأما أبو حاتم القزويني فإنه أحد الفقهاء الشافعية. قوله: ثم دفين الجاهلية يعرف- كما قاله الأصحاب- بأن يوجد عليه اسم ملك من ملوك الشرك. أو صليب، ونحو ذلك. وفيما قالوه نظر، لأن المسلم قد يدفنه بعد

أن ملكه بهذه الصفة. انتهى كلامه. وهذا البحث ذكره الرافعي، فقلده فيه المصنف، وهو ضعيف، لأنه متوقف على استيلاء ثم دفنٍ آخر، وهو مدفوع بالظاهر والأصل. نعم، فيما نقله من الاستدلال بالصليب إشكال لم يتفطن له، وهو أنه معهودٌ الآن من ملوك النصرانية، فيصير الموجود كالأواني ونحوها، والصحيح فيه: أنه لقطة، ويتعين أن يكون هاهنا كذلك. قوله: ولو احتمل أن يكون الموجود من دفين الجاهلية أو من دفين الإسلام كالأواني والسبائك والنقار. انتهى. النقار- بكسر النون، وبالقاف، والراء المهملة- جمع ((نقرة)) بضم النون، وهي السبيكة كما قاله الجوهري وغيره. وإذا علمت ذلك علمت أن جميع المصنف بينهما سهو، وكأنه رأى كل لفظة في تصنيفٍ، فتوهم المغايرة فجمع بينهما.

باب زكاة التجارة

باب زكاة التجارة قوله: ولو كانت قيمة العرض في آخر الحول تزيد زكي الجميع بحول الأصل. ثم قال: وقال الإمام: إن من يعتبر النصاب في جميع الحول كما في زكاة الأعيان قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول، وقضية قياسه أن يقول: ظهور الربح في أثناء الحول بمثابة نضوضه. انتهى كلامه. زاد الإمام على هذا فقال: لابد منه. ولما نقله الرافعي عنه ارتضاه وزاد عليه: أنه يقتضي إعلام ((الوجيز)) بالواو، وهذا الذي ذكره الإمام وتابعوه عليه عجيب، فإنه يبطل بالنتاج.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر قوله: فالفطرة- بكسر الفاء-: الخلقة، قال الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقته التي جبل الناس عليها. والفطرة- بضم الفاء-: اسم للمخرج في زكاة الفطر. انتهى. وما ادعاه من أن ((الفطرة)) بالضم: اسم للمخرج، فهو شيء يستعمله عوام أهل العرف، والذي هو اسم للمخرج إنما هو بالكسر، وقد نقل النووي ذلك في ((شرح المهذب)) فقال ما نصه: ويقال للمخرج: فطرة، بكسر الفاء لا غير، وهي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة، بل اصطلاحية للفقهاء، وكأنها من ((الفطرة)) التي هي الخلقة، أي: زكاة الخلقة. هذا لفظه بحروفه. وكأن الذي أوقع المصنف في هذا إنما هو ابن أبي الدم، فإنه قال في ((شرحه للوسيط)): فإن أثبت الهاء قال بعض المعتبرين في ذلك: هو بضم الفاء، وهو المشهور بين الفقهاء. هذا كلامه، وما نقله عن هذا المعتبر فليس بمعتبر، إذ لا ذكر له في كلامهم، وكأنه اعتمد فيه على ما شاع الآن. قوله: لأن الشيخ أبا بكر بن الحداد قال: إذا كان له ولد صغير يملك قوت يوم العيد وليلته فلا يجب على الأب نفقته في ذلك اليوم، وتجب عليه فطرته، ولو فرضت هذه الصورة في الابن قال: لا تجب فطرته. انتهى كلامه. وهذا النقل عن أبي بكر ليس هو ابن الحداد- كما زعم المصنف- وإنما هو الصيدلاني، وقد صرح به هكذا جماعة منهم الرافعي وغيره، وليست هذه المسألة في كبت ابن الحداد، ولا عادة الأصحاب يعبرون عنه بالشيخ، وإنما يعبرون بذلك عن الصيدلاني، وسبب ما وقع فيه المصنف: أن الإمام في ((النهاية)) عبر بالشيخ أبي بكر، ولم يزد عليه، فتوهم المصنف أن المراد ابن الحداد فصرح به. قوله: فلو فضل عن فطرته صاع، واستوى الباقون في الإنفاق فهل يقسم بينهم أو يتخير؟ فيه وجهان. قال الرافعي: ولم يتعرضوا للإقراع هنا، وله مجال في نظائره. انتهى.

وما نقله عن الرافعي ساكتًا عليه معتقدًا لصحته ليس كذلك، فقد صرح به منصور التميمي تلميذ الربيع صاحب الشافعي، كذا رأيته في كتابه المسمى بـ ((المسافر)) مستدركًا به على ما نقله عن الشافعي، فقال: إذا كان عنده ما يزكي به عن بعض من يموت زكى به عمن شاء منهم، قال منصور: بل يقرع بينهم فيزكي به عمن قرع أصحابه منهم، لأن كلًا ذو حق. هذه عبارته. قوله: فإن قلت: إدراك آخر جزء من شهر رمضان لا يدرك إلا بغروب شمس ليلة العيد فلأي معنى قال- يعني الشيخ-: وغربت الشمس؟ قلت: ليبين لك أن مجموع الزمنين- أعني آخر جزء من رمضان، وأول جزء من ليلة العيد- هو سبب الوجوب. انتهى. وما ذكره من أنه يلزم من إدراك أحد الزمنين إدراك الآخر ليس كذلك، ويظهر بالأمثلة مثل أن يقول لعبده: أنت حر في آخر جزء من رمضان، أو: في أول جزء من ليلة العيد، وكما لو علق طلاق زوجته على ذلك- أيضًا- وكان الطلاق بائنًا. قوله: التفريغ: إن أوجبنا الفطرة بالغروب، فمات العبد أو الوالد بعد الغروب- لم تسقط، إلا إذا حصل قبل التمكن من إخراج الفطرة، فإن في سقوطها وجهين عن ابن سريح: أحدهما: نعم، كزكاة المال، والثاني: لا، لأنها تجب في الذمة، والذي أورده البندنيجي وصاحب ((البحر)) منهما: الثاني، أي: عدم السقوط. انتهى. وما تحصل من كلامه من اقتصار المذكورين على الثاني غلط: أما البندنيجي فلم يذكر المسألة بالكلية، وقد اعتمدت في ذلك على نسخته التي كان ينقل منها، وأما صاحب ((البحر)) فقد حكى فيها الخلاف ناقلًا له عن ابن سريج، موافقًا لما حكاه هو قبل ذلك عن غيره، إلا أنه حكاه قولين، ذكره في وسط الباب، وعقد له فرعًا لا فصلًا. قوله: والأفضل: أن تخرج قبل صلاة العيد. ثم قال: لكن المراد بالقبلية؟ المذكور في ((التهذيب)): أنها تحصل بالتفرقة في ليلة العيد ويوم العيد قبل الصلاة، وقال القاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي: إن الأفضل إخراجها في يوم العيد قبل الصلاة. وهو الذي يقتضيه ظاهر الخبر، وهو الأولى، للخروج من الخلاف في التعجيل. انتهى كلامه. وما ذكره من ترجيح قول هؤلاء على قول ((التهذيب)) صريح في ثبوت الخلاف في جواز التعجيل في ليلة العيد، وهو لم يتعرض في هذا الكتاب لحكايته، بل صرح

بعد ذلك بأنه لم ير خلافًا فيما قبلها من أيام رمضان، فضلًا عن ليلة العيد. قوله: أما إذا قلنا: وقت وجوب زكاة الفطر طلوع الفجر، فلا سبب لها إلا واحد. ثم قال: وقضية ذلك ألا يجوز التعجيل، لأن ما له سبب واحد لا يجوز تعجيله عليه، وهذا لم أره لأحد من الأصحاب، غير أن البندنيجي والماوردي حكيا أن أبا عبيد بن حربويه من أصحابنا قال: لا يجوز تعجيل زكاة المال أصلًا، وذلك في زكاة الفطر أولى، لأنها فرعه. انتهى كلامه. وما ذكره استنباطًا وادعى أنه لم ير لأحد ما يوافقه، عجيب، فإنه موجود مصرح به، كذا صرح به الروياني في ((البحر)) في باب تعجيل الزكاة، ولم يقف عليه النووي- أيضًا- حتى ادعى في ((شرح المهذب)) نفي الخلاف فيه. قوله: فإن أخرجها في يوم الفطر بعد الصلاة أجزأ مع الكراهة، كما قال القاضي أبو الطيب، لما ذكرناه من خبر ابن عباس، وقال البندنيجي: إنه يكون تاركًا للأفضل. وهو ما يقتضيه كلام الشيخ. انتهى كلامه. واعلم أن ترك الأفضل لا ينافي القول بالكراهة، وقد رأيت في ((الذخيرة)) للبندنيجي أن تأخيرها عن الصلاة مكروه، وحينئذ فلا خلاف بينه وبين القاضي، لأن تعبيره في كتاب آخر بكونه تاركًا للأفضل لا ينافيه كما قلناه، بل يستلزمه، فاعلمه! ورأيت الكراهة- أيضًا- مصرحًا بها في ((المقنع)) للمحاملي وفي ((المجموع)) له، ونقله صاحب ((الذخائر)) عن الشيخ أبي حامد. نعم، صرح الطبري في ((العدة)) وصاحب ((الاستقصاء)) بأنه لا كراهة فيه. قوله: ولو مات بعد الوجوب والتمكن وقبل انقضاء يوم العيد، فالذي أطلقه الأصحاب الاستقرار. قلت: وهل يأثم؟ يظهر تخريجه على ما لو مات في أثناء وقت الصلاة وقد تمكن من فعلها، لأن الشرع جعل وقتها موسعًا كوقت الصلاة. انتهى كلامه. وفيما ذكره بحثًا أمران: أحدهما: أن المستحب- كما قاله الأصحاب، وصرح به المصنف قبل ذلك- إخراج زكاة الفطر في يوم العيد قبل الصلاة، وحينئذ فكيف يتعقل أننا نأمره بالتأخير عن الغروب إلى صبيحة العيد، ثم نحكم عليه إذا مات بعد الغروب، بسبب تأخيره الذي أمرناه، وحدوث أمر ليس في اختياره؟! بخلاف الصلاة، فإنه مأمور بإيقاعها في أول الوقت، فإذا أراد التأخير جوزناه بشرط سلامة العاقبة على

رأي. نعم، إن فرض موته بعد طلوع الفجر احتمل أن يجئ ما قاله. الأمر الثاني: أن هذا التخريج لا يستقيم في يوم العيد أيضًا، لأن الصلاة لا يمكن تداركها، فحكمنا بالعصيان على وجهٍ، وأما هاهنا فالتدارك ممكن، ومع ظهور الفارق لا يصح التخريج. فإن قيل: التدارك ممكن في الحج، ومع هذا حكمنا بعصيانه؟ قلنا: الفرق من وجهين: أحدهما: أن مباشرته للحج بنفسه واجبة، وقد فوتها، بخلاف تفرقة الزكاة. الثاني: أن الوقت في الحج قد خرج، بخلاف ما نحن فيه. قوله: ولو كان أهل الحضر يقتانون الأقط لا غير لم يجزئهم الأقط بلا خلاف، لأنه نادر، قاله الماوردي، وحكى الرافعي في كتاب الظهار: أنا إذا جوزنا الأقط في الكفارة فهل يختص بأهل البادية أو يعم الحاضر والبادئ؟ على وجهين، ولا بعد في مجيئها هاهنا. انتهى كلامه. وحاصله: أنه لم يقف إلا على ما قاله الماودري من التخصيص، وأن التعميم محتمل، وهذا الذي ذكره غريب، فإن الجمهور قد قالوا به، ونقله عنهم النووي في ((شرح المهذب)) فقال: الذي قاله الماودري شاذ، والصحيح الذي قطع به الجمهور: أنه لا فرق. هذا كلامه، وتعليل الماوردي بكونه نادرًا يشير على أن الصورة النادرة لا تدخل في العموم، وفيه خلاف للأصوليين أوضحته مع فروعه في كتابنا المسمى بـ ((التمهيد في تخريج الفروع على القواعد الأصولية)). قوله: وتجب الفطرة مما يقتات به من هذه. ثم قال: وقيل: من غالب قوت البلد بالقياس على الكفارة، والعبرة بالغالب في وقت الوجوب لا في جميع السنة، صرح به في ((الوسيط))، قال الرافعي: ولم أظفر بهذا التقييد في كلام غيره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من الاتفاق في الكفارة على اعتبار الغالب حتى يرد على باقي الأقوال بالقياس عليها، غفلة أوقعه فيها تباعد ما بين البابين، ففي كتاب الظهار من ((الرافعي)) وغيره: أنها على هذه الأوجه الثلاثة، وذكر المصنف منها وجهين. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الرافعي من عدم الظفر بهذا التقييد، واقتضاء كلامه

الموافقة عليه، عجيبٌ، فقد صرح به أيضًا صاحب ((الذخائر))، وقد تعرض السرخسي في ((الأمالي)) لذلك- أيضًا- فقال: لو اختلف القوت بالأوقات: فإن خرج من الأعلى أجزأه وكان أفضل، وإن أخرج من الأدنى أجزأه- أيضًا- في أصح القولين، لدفع الضرر، والثاني: لا، احتياطيًا. انتهى. وحاصله: أن الاعتبار بالاقتيات في وقت من الأوقات، وقال النووي في ((شرح المهذب)): الصواب: أن المراد قوت السنة. قال: وبهذا قال السرخسي. وذكر ما سبق نقله عنه، وليس مطابقًا له كما أوضحناه. قوله: فإن عدل عن القوت الواجب إلى ما هو دونه ففيه قولان، أحدهما: لا يجزئه، لأنه إضرار بالمستحقين، وهذا ما أورده الماوردي لا غير. انتهى كلامه. وما نقله عن الماودري من اقتصاره على عدم الإجزاء مردود، فإنه حكى في الكفارات وجهين فيما إذا عدل عن الواجب إلى ما هو دونه في الكفارة، ثم جعل الفطرة كالكفارة.

باب قسم الصدقات

باب قسم الصدقات قوله: ولو كان المخرج بعيرًا جموحًا كان على المالك العقال، لقول أبي بكر: ((والله، لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلهم عليه))، قاله القاضي الحسين في كتاب الجنايات، لكنه قال في أول الزكاة: إن المالك يسترده. والمذكور في ((التتمة)) قبيل الفصل الثالث المعقود للتمكن هو الأول، وقد قيل: إنه- عليه السلام- أراد بالعقال صدقة عام، فإنه يطلق عليها في اللغة. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن كلامه يوهم أو يقتضي أن المتولي صرح بالرد حتى تكون المسألة خلافية، وليس كذلك، فقد راجعت كلام المتولي فلم أر فيه إلا وجوب تسليمه به على وفق ما نقله عن القاضي أولًا، وحينئذ فما قاله القاضي في الزكاة زيادة لا معارض لها. الأمر الثاني: أن تعبيره في آخر كلامه بقوله: إنه- عليه الصلاة والسلام- أراد بالعقال صدقة عام، ذهولٌ عجيب، فإن هذا اللفظ من كلام أبي بكر لا من كلامه، عليه السلام. قوله- في الحديث-: ((من أعطاها مؤتجرًا فله أجرة المؤتجر)) بكسر الجيم على وزن ((المقتدر)) و ((المنتظر)). هو قاصد الأجر. قوله: وإن مات وعليه زكاة مال ودين لآدمي فأقوال، أصحها: تقديم الزكاة، والثاني: الدين، والثالث: تقسيم ينهما. ثم قال: ولو اجتمع الدين وزكاة الفطر فقيل بإجراء الأقوال، وقيل: إن كانت التركة عبدًا والفطرة عنه قدمت الفطرة قولًا واحدًا، لأنها متعلقة به فأشبه أرش الجناية، وهذه الطريقة هي التي نص عليها في ((المختصر)) حيث قال: ولو مات بعد أن أهل شوال وله رقيق، فزكاة الفطرة عنه وعنهم في ماله مبدأة على الديون. انتهى كلامه. وما ذكره من دلالة نص ((المختصر)) مع الطريقة المتقدمة على شيء واحد، ذهول

عجيب، فإن الطريقة محلها في فطرة العبد خاصة دون فطرة نفسه، والتعليل بمشابهة أرش الجناية يوضحه- أيضًا- والنص قائل به في العبد وفي نفسه، والتعليل بأرش الجناية لا يأتي في الحر. قوله- في المسألة: وفي ((الرافعي)): أن الروياني حكى طريقة قاطعة بتقديم فطرة نفسه، لقلتها في الغالب، والذي رأيته في ((البحر)) و ((الحاوي)): أن ابن سلمة قال: إن الفطرة تقدم على الدين قولًا واحدًا، لقلتها في الغالب وتعلقها بالرقبة، زاد الماوردي: فاستحقت كأرش الجناية. وهذا هو عين الطريق السابق، لكن الروياني حكى الطريقة الأولى، ثم حكى عن ابن سلمة ما ذكرناه، فظن أنه غيره. انتهى. وما ذكره في آخر كلامه عن ((البحر)) يقتضي اتحاد ما قاله ابن سلمة مع الطريقة المتقدمة، لاسيما مع تأكيده بقوله: فظن أنه غيره، وليس الأمر كما توهمه، فإن صاحب ((البحر)) قد حكى عن أبي إسحاق أنها- أي فطرة العبد- تحتمل وجهين: أحدهما: أنها كفطرة نفسه حتى تتخرج على الأقوال الثلاثة في اجتماع الدين والزكاة، والثاني: القطع بتقديمها. ثم حكى عن ابن سلمة تقديمها قطعًا من غير تردد، وهذا غير الأول، لكن اعتراض المصنف على الرافعي صحيح، وقد أوضحته في ((المهمات)). قوله: واعلم أن النووي- رحمه الله- قال: إن تعبير الأصحاب في التعجيل بقولهم: وأن يسلف بمسألة الفقراء ونحو ذلك، المراد به: جميع أصناف الزكاة، من باب التعبير بالبعض عن الكل، وخصوا به الفقراء، لأنهم أهم الأصناف. قلت: ويجوز أن يحمل كلامهم على حقيقته، لأن للإمام أن يصرف زكاة الواحد لواحد من الأصناف، وحينئذ فلا حاجة إلى صرف اللفظ عن حقيقته. انتهى كلامه. وما نقله عن النووي قد ذكره- أيضًا- الرافعي، والكلام الذي ذكره المصنف وإن كان صحيحًا في نفسه إلا أن الحكم أنه ليس خاصًا بالفقراء، بل سائر الأصناف كذلك- أيضًا- فيكون ذكر الفقهاء من باب التمثيل، فلابد من صرف اللفظ عن حقيقته. قوله: وإن عجل شاة، أي: جارة في الحول، عن مائة وعشرين، ثم نتجت شاةٌ سخلةً قبل الحول-ضم المخرج إلى ماله، ولزمه شاة أخرى. ثم قال بعد ذلك: أما لو كانت المعجلة غير جارية في الحول، لكونه ابتاعها، فأخرجها، أو كانت معلوفة- فلا يلزمه شيء آخر، صرح به الرافعي والقاضي

الحسين. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم لزوم شيء آخر في هذه المسألة غلط فاحش، بل تلزمه شاة أخرى بلا خلاف، وإن كان المخرج معلوفًا أو مشترى، لأن المال الذي عجل الزكاة عنه نصاب تام، وحينئذ فلا يتوقف إيجاب الشاة الثانية إلا على واحدة فقط، لأن الفرض أنه لم ينقص شيء، وقد وجدت تلك الواحدة، بل إيجاب الشاة الأخرى فيما إذا اشترى وأخرج أو كانت معلوفة، أولى مما إذا أخرج من الذي عنده، لأن الذي عنده والحالة هذه باقٍ على حاله، بخلاف ما إذا أخرج من الذي عنده، فإنه قد نقص حسًا، ولهذا لم يجعل أبو حنيفة له أثرًا، وأصحابنا يقولون: لا أثر للنقصان الحسي، ويجعلون المخرج كالمقدر على ملكه، فظهر أنه سهو. وأما نقله ذلك عن القاضي حسين فغلظٌ سببه الانتقال من مسألة على مسألة، فإن القاضي قال: والمعجل عندنا يقع عن الفرض، وعند أبي حنيفة يقع عن النفل، فلو عجل شاة في مائة وعشرين، ثم نتج واحدة- فعندنا: يلزمه أن يعطي شاة أخرى، وعنده: لا يلزمه، لأن عندنا المعجل مضموم إلى ملكه حكمًا. ولو كان له مائتا شاة، فعجل شاتين منها، ثم نتجت واحدة عند آخر الحول- أخرج شاة أخرى. وكذلك لو عجل من ألف شاة عشر شياه، ثم تلفت وبقي أربعمائة إلا عشرة- يضم المؤدى إلى ما عنده حتى تصير أربعمائة، ونوجب عليه أربع شياه، وله أن يسترد ست شياه. هذا كله إذا عجل من عين النصاب الذي انعقد عليه الحول، فأما إذا كان له مائة وعشرون شاة إلا واحدة، فاشترى شاة، وأعطى إلى المساكين، أو كان له شاة معلوفة فأعطاها إلى المساكين، ونتجت واحدة عند الحول- لا نوجب عليه شاة أخرى، لأن المعجل لم يكن مما انعقد عليه الحول، ولو بقي ذلك في ملكه لم يكن مضمومًا إلى ما عنده حتى نوجب عليه شاتين. هذا كله كلام القاضي الحسين، وهو صحيح: فأما ما ذكره في المسالة الأخيرة فواضح، لأنه فرضها في مائة وتسعة عشر، وحينئذٍ فلا يتأتى ضم المخرج إلى ما عنده، وأما تعبيره قبل ذلك بقوله: هذا كله إذا عجل من عين النصاب، فلأنه قد ذكر قبل ذلك ما إذا ملك ألفًا فعجل عنها عشر شياه، ثم تلفت ولم يبق منها إلا ثلاثمائة وتسعون، فإنه لابد من التفصيل الذي ذكره، وذلك لأنه إن أخرج من عينها فالمخرج كالباقي عنده، فيكون عند حولان الحول كأنه مالك لأربعمائة فيجب عليه أربع شياه، ويسترد ستًا وإن أخرج مما لم ينعقد عليه الحول فلا يجب عليه إلا ثلاث شياه، لأنها

واجب ثلاثمائة وتسعين، فاعلم ذلك كله. وأما نقله ذلك عن الرافعي فموجود فيه كما قال، ولا شك أنه نقل ذلك عن البغوي على عادته فلم ينقله على وجهه، والرافعي هو الموقع للمصنف في غلطه في النقل عن القاضي الحسين، فإنه لما رأى ذلك في كلام الرافعي ارتسم في ذهنه بحيث حمل كلام القاضي عليه، ولم يتأمله حق التأمل. قوله: وجمع ((السخلة)): سخال- بكسر السين- وسخلٌ، وهو ولد الضأن والمعز، يطلق على الذكر والأنثى إلى استكمال أربعة أشهر. انتهى. لم يضبط الجمع الثاني، وهو أهم من ضبط الأول، وهو- أي ((سخل)) بفتح السين وسكون الخاء، كـ ((تمرة وتمر))، كذا ضبطه الجوهري. قوله: ثم إذا أوجبنا قيمة المعجل فبأي وقت تعتبر؟ فيه أوجه: أحدها: قيمة وقت القبض، والثاني: قيمة يوم التلف، وحكى البندنيجي عوضه: قيمة يوم الاسترجاع، فإن صح كان ثالثًا، والرابع: أقصى القيم. انتهى ملخصًا. وما نقله المصنف عن البندنيجي قد رأيته في ((تعليقه)) - كما ذكره المصنف عنه- ولكن من النسخة التي كان ينقل منها، والظاهر أنه سهو من الناسخ، لأن الفرض أن المعجل تالف، وقد رأيت ((الذخيرة)) للبندنيجي فلم يذكر فيها يوم الاسترجاع، بل ذكر عوضه يوم التلف. نعم، نقله عنه- أيضًا- النووي في ((شرح المهذب)) كما نقله عنه المصنف وقال: إنه غلط. فيجوز أن يكونا قد نقلا من نسخة واحدة. قوله: فروع: إذا أتلف المالك النصاب أو بعضه بعد التعجيل فأصح الوجهين: أنه كما لو تلف بنفسه حتى يسترجع. ثم قال ما نصه: والثاني: لا، لأنه يريد نقض الأداء بقصده. قيل: وقضية هذا التعليل ألا يجري هذا الوجه فيما إذا أتلفه إنفاقًا أو لحاجة. انتهى لفظه. فيه أمور: أحدها: أن ما ذكره استنباطًا من التعليل، واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه- غريب، فقد ص رح به في ((شرح المهذب)) فقال: قال أصحابنا: إن كان لحاجة- كالنفقة، أو للخوف عليه، أو ذبحه للأكل وغير ذلك- ثبت الرجوع قطعًا. هذه عبارته، وعبر في ((الروضة)) بنحوها أيضًا. الثاني: أن كون التعليل يقتضيه أو لا غير محتاج إلى نقل، بل يكفي فيه عرضه على فكرته. ثم إن التقسيم إلى الإنفاق أو الحاجة في غاية الركة، ولا شك أن أصل هذا قد

أخذه من الرافعي إلا أنه غيره إلى ما يراه، فإن الرافعي قد عبر بقوله: وقيل: لا، لتقصيره، وقضية هذا التعليل: ألا يجري الخلاف فيما إذا أتلفه بالإنفاق وغيره من وجوه الحاجات. هذه عبارته، وهي حسنة. الثالث: أن الخلاف في إتلاف بعض النصاب نقله الرافعي عن تخريج الإصطخري، ومثل بما إذا ملك مائتين، فعجل عنها خمسة، ثم أتلف درهمًا واحدًا، وقد صرح به- أيضًا- في ((البحر))، وعلل منع السقوط بقوله: لأنه متهم في إتلاف درهم لاسترجاع خمسة. وهذا التعليل يقتضي أنه لا يطرد في الكثير، لأنه علله بمتهم خاصة، لا مطلق التهمة. قوله: أما إذا لم يبين أنها زكاة معجلة، ولا علم بها القابض- فالمنصوص في ((المختصر)): أنه إن كان الدافع هو المالك لم يرجع، وإن كان هو الإمام رجع. فاختلفوا على طرق، أصحها- وبه قال العراقيون وبعض المراوزة-: تقرير النصين، والثانية: أن فيهما قولين بالنقل والتخريج، والثالثة: لا رجوع فيهما قطعًا، وتأويل النص في الإمام. ثم قال ما نصه: قال الرافعي: وهذا الطريق هو الذي أورده الجامعون لطريقة القفال، وصححها في ((الإبانة))، وذكر في ((الشامل)) أن الشيخ أبا حامد حكاها- أيضًا- والأظهر: أنه لا يثبت الرجوع، سواء أثبتنا الخلاف أم لا، وهو فيما إذا دفع المالك بنفسه أولى وأظهر. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما أفهمه كلامه من نسبه أواخر الكلام كله إلى الرافعي هو كذلك، إلا النقل عن ((إبانة)) الرافعي، فإن الرافعي لم يذكره. الأمر الثاني: أن ما ذكره في آخره من تصحيح عدم الرجوع في المسألتين إذا لم نثبت فيهما الخلاف، بل قررنا النصين- عجيبٌ لا ينتظم. نعم، تستقيم هذه العبارة- أعني التعبير بقوله: سواء أثبتنا الخلاف أم لا- إذا كانت الطريقة القاطعة موافقة للصحيح، ولا شك أن الرافعي نقلها من مثل ذلك المواطن إلى هاهنا ذهولًا، فتبعه المصنف. قوله: ويأتي فيما إذا كان ذهبًا أو فضة وجه: أنه لا ينضم، بناء على أن الدين لا زكاة فيه. انتهى. وما ذكره من كون الدين لا تجب فيه الزكاة مطلقًا على وجهٍ، كلامٌ باطل سبق

التنبيه عليه في أوائل الزكاة، فراجعه. قوله: ويجوز أن يدفع الزكاة إلى الإمام، لأنه نائب المستحقين. نعم، هل له المطالبة بها بأن يقول له: إما أن تدفع بنفسك، أو تدفع لي حتى أوصلها لهم؟ قال الرافعي: فيه وجهان في بعض الشروح. وهذا الكلام من الرافعي يقتضي فرض الخلاف في حالة امتناع رب المال من الدفع، والمتولي ذكر الوجهين في حق من علم الإمام أنه يخرج الزكاة. انتهى. وما توهمه من فرض الرافعي الوجهين عند الامتناع، عجيب سبقه إليه النووي- أيضًا- ولعله الذي أوقعه فيه، بل حاصل كلام الرافعي فرض المسألة فيما إذا كان المالك يؤديها لكن لا بنفسه، بل بوكيله، ولهذا عبر بقوله: إما أن تدفع بنفسك، فتأمله. وقد بسطت المسألة في ((المهمات)) فراجعها في الكلام على الأموال الباطنة. وفي الأفضل ثلاثة أوجه، أحدها: أن يفرق بنفسه، والثاني: أن يدفع إلى الإمام وإن كان جائزًا، لما روى مسلم عن جرير بن عبد الله قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن ناسًا من المصدقين يأتوننا ليظلمونا، فقال أرضوا مصدقيكم. انتهى. وهذا إنما هو استدلال على الأموال الظاهرة، وكلامه في الباطنة. قوله: وقال بعضهم: إن زكاة الفطر من الأموال الظاهرة، ونقله الماوردي عن الأصحاب. انتهى. لكن الماوردي اختار مع ذلك خلافه، فتفطن له، فإذا المتبادر إلى الذهن من هذا الكلام غيره. قوله: أما الصبي والمجنون فينوى عنهما الولي وجوبًا، لأن المؤدى عنه ليس أهلًا للنية، ومساق التعليل يقتضي منع إلحاق السفيه بهما، لأنه من أهل النية، وفي الاعتداد بنيته نظر. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي توقف فيها فيها ولم يظفر فيها بنقل قد صرح بها الجرجاني في ((الشافي))، فقال- بعد أن ذكر وجوبها على الصبي والمجنون والسفيه-: ويخرجها الولي عنهم وينوي لهم. هذه عبارته، وصرح بها- أيضًا- النووي في ((شرح المهذب)) فقال: إن ولي الثلاثة يلزمه النية بالاتفاق، فلو دفع من غير نية لم تقع الموقع، وضمن، صرح به ابن كج والرافعي وغيرهما. انتهى. مع أن الرافعي لم يذكر

المسألة، ثم إن المغمى عليه قد يولى عليه كما هو مذكور في الحجر، وحينئذٍ فينوي عنه الولي أيضًا. قوله: ويجوز أن ينوي قبل حال الدفع، أي: وبعد العزل. ثم قال: والزكاة في ذلك كالكفارة بلا فرق. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تقييد المسألة بما بعد العزل حتى تمتنع- أيضًا- في المقارنة له خطأ، بل تصح عند الاقتران- مخالف للمنقول، بل صورته: أن ينوي مع العزل. كذا صرح به خلائق كثيرون، وجزم به النووي في ((شرح المهذب)) وقال: لا خلاف فيه. وإن كان- أي النووي- قد ذكر في الفصل ما يقتضي خلافه كما أوضحته في ((المهمات))، وقد ذكره المصنف في الكلام على كفارة الظهار على الصواب، فإنه ذكر تقديم الزكاة والكفارة، ثم نقل عن الماوردي اشتراط المقارنة، ولم يذكر غيره. الأمر الثاني: أن المصنف في كتاب الأيمان في الكلام على كفارة اليمين قد نقل عن الماوردي: أن الوكيل إذا نوى التكفير، ولم ينو رب المال- أجزأه، على خلاف ما قالوه هاهنا، فيحتاج للفرق. قوله: ومؤلفة المسلمين ضربان: ضرب لهم شرف يرجى بعطيتهم إسلام نظرائهم، وقوم يرجى حسن إسلامهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم، لأنه أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم وهما من الضرب الأول، وأعطى صفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن كلا منهم مائة من الإبل وهم من الضرب الثاني. انتهى كلامه. فيه أمران يعرفان من كلام الشافعي في ((المختصر))، فإنه قال فيه ما نصه: وأعطى صفوان ابن أمية ولم يسلم، ولكنه أعاره أداة. ثم قال بعد ذلك: والذي أحفظه فيه من متقدم الخبر: أن عدي بن حاتم جاء لأبي بكر الصديق- أحسبه- بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه، أعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرًا، وأمره أن يلحق بخالد بن الوليد. هذا لفظ الشافعي بحروفه. إذا علمت ذلك فأحد الأمرين في نسبة إعطاء عدي بن حاتم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد علمت ن نص الشافعي أن الذي أعطاه ذلك هو أبو بكر، رضي الله عنه! والثاني: أنه عد صفوان بن أمية مع الذين أعطى لهم، لكونهم من مؤلفة المسلمين، مع أنه كان مشركًا كما قاله الشافعي، ويدل عليه: أن إعطاءه المائة كان من مال هوازن في وقعة حنين، وكان إذ ذاك مشركًا، وإسلامه وقع بعد ذلك كما هو معروف، وقد

صرح بذلك النووي في ((شرح المهذب)) فقال: حديث إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤلفة الكفار صحيح مشهور، من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين، وصفوان يومئذ كافر. هذا كلامه، وقد وقع صاحب ((المهذب)) في الأمرين معًا، فلم يتكلم النووي في ((شرحه)) على إعطاء عدي بالكلية، ولما ذكر حديث صفوان ذكره على الصواب، ولم ينبه على ما وقع في ((المهذب))، وكأنه ظن أن الشيخ ذكره على وجهه فلم يناقشه، والموقع للمصنف في الاعتراضين المذكورين: أن الرافعي ذكرها هكذا تبعًا لصاحب ((التتمة)) في عدي، وللقاضي الحسين في صفوان. قوله: ولو فقد الصنف في بلد المال ووجد في غيره ففيه ثلاث طرق، إحداها- قالها الماوردي-: أنه ينقل سهم الغزاة، وفي غيرهم وجهان، أحدهما: لا، بل يصرف إلى الموجودين، والثاني: نعم. ثم قال: والطريقة الثالثة: إجراء الوجهين في جميع الأصناف، بناء على القولين في جواز النقل: فإن قلنا: يجوز، جاز هنا، وإلا فلا يجوز، وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة، وقد صحح الأول منهما الغزالي والرافعي والقاضي أبو الطيب في أثناء كلامه، وصحح الثاني القاضي الحسين وغيره. انتهى كلامه. وما دل عليه كلامه من أن الغزالي والرافعي وأبا الطيب قد صححوا الأول- وهو جاز النقل- غلط: أما الغزالي فقد قال ما نصه: فعلى وجهين، أظهرهما: الرد على الباقين، لعسر النقل. هذا لفظه في ((الوجيز))، ولم يصحح شيئًا في ((الوسيط)) وغيره. وأما الرافعي فعبر بقوله: أصحهما: الرد إلى الباقين. وأما القاضي فنقل عن ابن أبي هريرة: أنه مبني على جواز النقل. ولم يزد على ذلك، وقد صحح القاضي المذكور قبل ذلك: أن النقل ممتنع، فلزم امتناع هذه. واعلم أنه لا يمكن عود ما نقله عن المذكورين إلى الطريقة الأولى، لأنهم لم يذكروها بالكلية. تنبيه: وقع في الباب ألفاظ: منها: ما تقدم. ومنها في حديث خالد: وأعتده، وشرحه مذكور في الوقف وغيره. ومنها: حجية بن عدي، هو بحاء مهملة مضمومة، ثم جيم مفتوحة بعدها ياء للنسب.

ومنها: قال الإمام: الفقير: من لا يملك سبدًا ولا لبدًا، ولا طارفًا لا تالدًا. أما ((السبد)) - فبسين مهملة ثم باء موحدة مفتوحتين، ودال مهملة- فهو القليل، و ((اللبد)) - بالفتح والموحدة أيضًا- هو الكثير، يقال: ما له سبد ولا لبد، أي: لا قليل ولا كثير، و ((السبد)) أصله للشعر النابت، واللبد أصله للصوف، ومنه سمي ((اللباد)). وأما ((التالد)) فهو الحيوان القديم الذي ولد عندك، وكذلك ((التلاد)) وأصل بابه واوٌ، و ((الطارف)) - بطاء وراء مهملتين- عكسه.

باب صدقة التطوع

باب صدقة التطوع قوله: تكره الصدقة بالفاضل عن الكفاية في الحال لمن لا يصبر على الإضافة، فأما من يصبر عليها فيستحب له ذلك، وهذه التفرقة بين الصابر وغيره هي التي أوردها البندنيجي والإمام والغزالي، وقد حكى المتولي ذلك وجهًا في المسألة وصححه، وحكى وراءه وجهين، أحدهما: الكراهية مطلقًا، والثاني: يستحب مطلقًا. وهما مذكوران في ((تعليق)) القاضي الحسين. انتهى ملخصًا. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن الإمام من كراهة التصدق لمن لا يصير ليس كذلك، بل الذي ذكره الإمام أنه لا يؤثر له، فقال نقلًا عن الأئمة: من رسخ دينه، ولاح يقينه، وظهرت ثقته بربه- فلا ينبغي له أن يدخر شيئًا لغده، وإن استشعر الرجل ضعفًا في نيته فلا يؤثر له- وهذه حالته- أن يتصدق بالقليل الذي معه ويبقى بعد التصدق جزوعًا سيئ الظن. هذا لفظه. نعم، ذكر الغزالي في ((الوسيط))، كما قاله المصنف، إلا أنه شرط في الاستحباب لمن يكون صابرًا: أن يترك قوت يومه. فعلى هذا: لو أصبح وكان شبعان واحتاج إلى العشاء فيستحب تركه. الأمر الثاني: أن ما نقله عن ((التتمة)) من الكراهية في حق من لا يصبر لم يذكره- أيضًا- فيها، والذي فيها إنما هو خلاف الأولى، فتأمله. نعم، حكى وجهًا: أنه يكره مطلقًا، ولولا طول عبارته لذكرتها. الأمر الثالث: أن ما نقله عن القاضي من الخلاف في الكراهة ليس كذلك- أيضًا- فإن الذي ذكره إنما هو الخلاف في الاستحباب، فقال: هل يستحب الانخلاع من جميع ماله؟ اختلف فيه أصحابنا: منهم من قال: لا يستحب. ثم قال: ومنهم من قال: يستحب. هذا كلامه.

كتاب الصيام

كتاب الصيام قوله: ((الصيام)) و ((الصوم)) في اللغة: هو الإمساك عن كل شيء. انتهى. وما ذكره من التعبير بـ ((كل)) غلط، فإن حاصله اشتراط الإمساك عن جميع الأشياء في مسمى ((الصوم)) في اللغة، وليس كذلك، بل أي شيء أمسك عنه صدق عليه لغةً أنه صام عنه، ويدل عليه ما سيأتي نقله عنه عقب ما نحن فيه، فكان الصواب أن يقول: هو الإمساك عن الشيء. قوله: يقال: صام فلان، أي: أمسك عن الكلام، قال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] أي: صمتًا وسكوتًا عن الكلام. انتهى. والتعبير بـ ((أي)) التفسيرية، غلط هنا، فإن مدلوله تفسير الصوم بالإمساك عن الكلام خاصة، وليس كذلك، فكان الصواب أن يأتي بـ ((إذا))، أو يقدم ويؤخر فيقول: صام فلان عن الكلام، أي: أمسك عنه، ويكون حينئذ نظير الآية، فإن فيها إطلاق ((الصوم)) وإرادة ذلك لقرينةٍ. قوله: والأصل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:183، 184]، والمراد فرض عليكم، كما جاء في قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة:21] أي: فض الله. انتهى. وما ذكره من تفسير الكتابة في الآية الثانية بالفرض- كما في الآية الأولى- كلام عجيب، بل اختلف المفسرون فيه: فقيل: معناه: قضى، وهو الذي صححه القرطبي، وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، وهو المجزوم به في ((الكشاف))، وقيل: معناه: قال، حكاه القرطبي- أيضًا- فإن أراد المصنف بالفض معنى التقدير قلنا: هذا معنى آخر غير الذي تتكلم فيه، فإن كلامنا في الإيجاب، وبتقدير أن تصح إرادته فأي حاجة إلى هذا التكلف؟! بل تفسر الكتابة أولًا بالتقدير، ولا حاجة إلى توسط الفرض. قوله: والمراد بالأيام في الآية شهر رمضان، وقيل: الأيام البيض، لأنه جمع قلة، وجمع القلة إنما يطلق على دون العشرة، وأجاب الأول بأنها قليلة بالنسبة إلى أيام

السنة. انتهى ملخصًا. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في ضابط جمع القلة غلط باتفاق النجاة، فإنه يطلق عندهم على العشرة، فالصواب أن يقول: على ما دون أحد عشر. الثاني: أن جوابه بالقلة بالنسبة إلى باقي الأيام إنما يصح أن لو كان الكلام في لفظ ((القليل))، وليس كذلك، بل الكلام في لفظٍ مدلوله من الثلاثة إلى العشرة، واصطلح النحاة على تسميته بجمع القلة، وما فوقه: بجمع الكثرة. قوله: وكان فرض صوم شهر رمضان في شعبان سنة اثنتين من الهجرة، وهي السنة التي فرضت فيها زكاة الفطر، وخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك قبل الفطر بيومين. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا في وقت فرض الصوم قد نقل في أوائل ((قتال المشركين)) عن الأكثرين ما يخالفه فقال: وفي هذا العام- يعني الثاني- فرض الصيام، وكان في شعبان، وكانوا يصومون عاشوراء، كذا نقله الماوردي، وفي ((تعليق)) أبي الطيب و ((الشامل)) وغيرهما: أن الصيام فرض بعد سنتين من الهجرة. هذا لفظه، وأما الخطبة بزكاة الفطر فرددها هناك فقال: وخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك قبل الفطر بيوم أو يومين. قوله: وقول الشيخ: ويجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم، يقتضي أن الحائض والنفساء يجب عليهما، وإن كان يحرم عليهما، ولا يصح منهما فعله، والمشهور خلافه. انتهى. وهذا لا يرد على الشيخ، لأنه عاجز عنه كذا شرعًا، والعجز الشرعي كالحسي، والعجب أن المصنف قد نقل عن القاضي الحسين في أثناء تقرير السؤال ما يؤخذ منه هذا الجواب، ولكن تركته لطوله. قوله: وأما من لا يقدر على الصوم لكبر أو مرض لا يرجي برؤه فلا يجب عليه الصوم وخير بينه وبين الفدية، أو وجب عليه الإطعام لا غير؟ فيه وجهان، أصحهما: الأول، وبنى المتولي عليهما صحة نذره، وصحح النووي عدم صحته. ثم قال ما نصه: وقال القاضي الحسين في ((التعليق)) وآخرون- كما قال الرافعي-: يحتمل أن تبنى صحة نذره على أن النذر يسلك به مسلك إيجاب الله تعالى أو

إيجاب الآدمي؟ انتهى كلامه. وما ذكره عن الرافعي من البناء المذكور غلط، فليس فيه إلا البناء المنقول عن ((التتمة)) فقال: فإن صاحب ((التهذيب)) في آخرين حكوا خلافًا في أن الشيخ هل يتوجه عليه الخطاب بالصوم ثم ينتقل بالعجز إلى الفداء، أم يخاطب بالفداء ابتداء؟ وبنوا عليه الوجهين في انعقاد نذره. هذا لفظ الرافعي. قوله: ومن ترك الصوم جاحدًا لوجوبه، أي: وهو قديم بالإسلام- كفر، لأنه كذب الله تعالى ورسوله في خبره. انتهى كلامه. اعلم أنه شرح الجحد في الصلاة والزكاة بأن تقدم عهده في الإسلام ومشي بين المسلمين، واقتصر هنا على الأول، والصواب ما ذكره هناك، فإنه لابد منهما. قوله: وروي عن أبي وائل قال: أتانا كتاب عمر- ونحن بخافقين-: إن الأهلة بعضها أعظم من بعض، فإذا رأيتم الهلال بالنهار فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس. كذا ذكره في ((التتمة))، وبعضهم يروي: بخانقين. انتهى كلامه. واعلم أن راوي الأثر المذكور هو شقيق بن سلمة وكنيته أبو وائل. وخانقين: بخاء معجمة ونون ثم قاف مكسورتين، وهي بلدة بالعراق قريبة من بغداد، وهذا مشهور لا نزاع فيه، ومن ضبطه به النووي في ((شرح المهذب)). إذا علمت ذلك فقد عبر المصنف بقوله: ابن وائل- أي بالنون- إلحاقًا له بالأبناء لا بالآباء، وعبر عن ((خانقين)) أولًا بالفاء بعد الألف، وعزاه إلى ((التتمة)). ثم قال: إن غيره يقوله بالنون، ووقعه في مثل هذه الأمور المتواترة عجيب، وأما اعتماده على نسخة واحدة بخط من لا يعرف فأعجب، بل لو صرح صاحب ((التتمة)) بذلك لم يرجع إليه فيه، للعلم بخطئه، لاسيما أن الموجود في نسخ ((التتمة)) إنما هو بالنون، وقد رواه الدارقطني والبيقهي هكذا بإسناد صحيح. قوله- في اشتباه الشهور على الأسير-: قال في ((التتمة)): ولأن غاية الأمر أنه وقع القضاء بنية الأداء، والإجماع على أنه لو شرع في الصلاة في آخر الوقت، ثم خرج الوقت- تصح صلاته وإن كان ما يقع من صلاته خارج الوقت ليس بأداء، وقد أوقع الفعل بنية الأداء. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن دعوى الإجماع ليست على إطلاقها، فإن أبا حنيفة يقول: إن الشمس إذا طلعت وهو في صلاة الصبح بطلت صلاته

الأمر الثاني: أن الصلاة التي خرج بعضها عن الوقت إنما تصح بنية الأداء إذا كان جاهلًا، أما إذا كان على بصيرة من عدم اتساع الوقت فإنها لا تصح بنية الأداء، كذا ذكره في ((النهاية)) في أوائل كتاب الصلاة في الفصل الثاني منه. قوله: وقول الشيخ: فإن وافق- أي صوم المجتهد- ما بعد رمضان أجزأه، يقتضي أن لا فرق في الإجزاء بين موافقة شوال أو ذي الحجة أو غيرهما، مع أنه لو وافق شوالًا لم يصح منه يوم العيد، وإن وافق ذا الحجة لم يصح يوم النحر ولا ثلاثة أيام التشريق. انتهى. وهو كلام عجيب، فإن هذه الأيام قد علم بطلان صومها في موضعه، والشروط لا تذكر في كل مكان. قوله: الثالثة: إذا اجتهد فغلب على ظنه أن رمضان قد فات، فصامه قضاء، ثم زال الأسر، وظهر له أن ما صامه هو رمضان- فهذا يظهر أن يكون كما لو صام على ظن أنه رمضان، فوافق ما بعده، لأنه ثم نوى الأداء وكان قضاء، وهنا عكسه، ولم أعثر في هذا على نقل. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي لم يعثر على النقل فيها قد صرح بها الروياني في ((البحر)) نقلًا عن والده كما بحثه المصنف حكمًا وتعليلًا، فرحمه الله، ما أعلى مكانته في العلم! قوله: وقيل في النذر المطلق: إنه يجوز نيته من النهار، بناء على أن النذر يسلك به مسلك جائز الشرع، والمنصوص عليه- وهو الصحيح باتفاق الأصحاب- الأول، وهو أن الفرض مطلقًا لا يصح إلا بنية من الليل. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن تقييد الوجه في النذر بكونه مطلقًا حتى لا يأتي في اليوم المعين، باطلٌ، لأن العلة- وهو كونه يسلك به مسلك الجائز مقتضاها: أنه لا فرق، لا جرم أن النووي في ((شرح المهذب)) لم يقيده بذلك. الثاني: أن ما ادعاه من الاتفاق على التصحيح ليس كذلك، فإن الغزالي قد صحح أنه يصح بنية من النهار، وحكاه هو عنه في باب النذر. قوله: واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الصبي لو نوى صوم رمضان بالنهار لا يصح وإن كان نفلًا في حقه، وكلام الشافعي في ((المختصر)) يخرجه، فإنه قال: ولا يجزئ أحدًا صام فرض شهر رمضان ولا نذر ولا كفارة إلا أن ينوي من الليل قبل الفجر. انتهى. ومعناه: أن تقييد الشافعي بالفرض يقتضي الصحة من الصبي. إذا علمت

ذلك فكلام المصنف يقتضي أنه لم يظفر بالتصريح بها في كلام أحد، وهو غريب، فقد صرح الروياني في ((البحر)) بعدم الصحة كما اقتضاه كلام الشيخ. ثم قال: وليس على أصلنا صوم نفل لا يجوز إلا بنية من الليل إلا هذا. ذكره في آخر الباب. وجزم به- أيضًا- النووي في ((شرح المهذب))، ونقل ابن أبي الدم في ((شرح الوسيط)) ما أشعر به كلام الشافعي فقال: لا يقع على رمضان بلا خلاف، وفي وقوعه نفلًا وجهان، كالمسافر نوى صوم في رمضان. انتهى. فتحصلنا على ثلاثة أوجه. قوله: ويصح النفل بنية قبل الزوال، لما روى مسلم عن عائشة قالت: دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فقال: ((هل عندم شيء؟)) فقلنا: لا، فقال: ((فإني إذن صائم))، ثم أتانا يومًا آخر، فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيسٌ، فقال: ((أرنيه، ولقد أصبحت صائمًا))، ثم أكل. انتهى. وما ذكره من رواية مسلم لهذا الحديث غلط، بل رواه البيهقي والدارقطني وقالا: إسناده صحيح. وبعض ألفاظه مخالف للمذكور هنا. قوله: وهل يصح النفل بنية بعد الزوال؟ فيه قولان. ثم قال: وحكى القاضي الحسين عن القفال أنه كان يبني هذا الخلاف على أصل آخر مقصود في نفسه، وهو أنه إذا نوى قبل الزوال فمن أي وقت يصير صائمًا؟ وفيه وجهان: فإن قلنا: يكون صائمًا من أول النهار، لم تجزئه النية بعد الزوال، لأنه لم ينو في معظم النهار، وإن قلنا: يصير صائمًا من وقت النية، صحت نيته بعد الزوال، وهذا فيه نظر من وجهين، أحدهما: أن الخلاف المذكور قولان، فكيف يمكن بناؤهما على وجهين أو على قولٍ ووجه؟! الثاني: أن الرافعي ... إلى آخر ما قال. واعلم أن ذكره لهذا النظر وسكوته عليه غريب، فإن هذا النظر قد تكرر إيراد الرافعي له، والمصنف يجيب عنه حيث أورده، منها: في الباب الذي قبل هذا وهو زكاة الفطر، في الكلام على ما إذا تزوجت بعبد أو حر معسر، فقال في الجواب: الوجهان مخرجان على أصول الشافعي، وحينئذ فلا يمتنع بناء قوليه على أصليه. هذا لفظه، فإن كان صحيحًا فلا يحسن ذكر الاعتراض هاهنا، ولاسيما على أنه من جهته، وإن لم يكن صحيحًا ورد عليه في الجواب. قوله: وإذا عرفت ذلك عرف أن النية الكاملة في رمضان أن ينوي صم الغد من أيام شهر رمضان هذه السنة أداء لله تعالى. انتهى.

وما زعم أنه نية ناقصة، فإنه أهمل منه التعرض للفرضية مع أنه قريب العهد بذكره وحكاية الخلاف في اشتراطه، ثم إن الصواب التعبير في الضابط المذكور بـ ((عن)) عوضًا عن ((من))، ولفظ ((رمضان)) في الضابط مجرور بالإضافة إلى اسم الإشارة، فتفطن له. قوله: ولو قال: نويت صوم الغد إن شاء الله، فقد جمع فيه صاحب ((البيان)) ثلاثة أوجه، ثالثها- وهو المذكور في ((تعليقه)) القاضي الحسين و ((التهذيب)): أنه إن قصد الإعانة من الله- تعالى- وأن الأمور بتقدير الله- تعالى- صح، وإن قصد الشك في فعله أو أطلق لم يصح. انتهى. وهذه الأوجه لا يمكن صحتها، إذ لا سبيل إلى صحة الصوم مع التردد في أنه يصوم أم لا يصوم، ولا إلى الفساد عند قصد الترك، وإنما تتوجه عند الإطلاق: فالبطلان حملا للفظ على مقتضاه لغة، والصحة حملًا له على الظاهر من إرادة الترك، وكأن العمراني رأى في كلام بعضهم خلافًا مطلقًا، ثم رأى كلام المفصلين، فتوهم عموم الأول، فجمع بينهما جمعًا فاسدًا. واعلم أن نقل التفصيل عن القاضي حسين صحيح، فقد رأيته في ((تعليقته))، وأما نقله ذلك عن ((التهذيب)) فلم أر له ذكرًا فيه، بل ولا للمسألة بالكلية. قوله: وفي ((النهاية)) في باب جماع التيمم: أن الأصحاب قالوا: المرض الذي يجوز الفطر هو الضرر الظاهر، وعندي: أنه كل مرض يمنع من التصرف مع الصوم. ثم قال: وعن ((البسيط)) أن بعض الأصحاب قال: إنه يكفي فيه ما يسمى مرضًا، واستوهنه، أي: استضعفه. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((البسيط)) غلط، فإنه إنما نقله عن الظاهرية تبعًا للإمام فقال في الباب الأول من أبواب التيمم: أما الإفطار فقال أصحاب الظاهر: إنه يجوز بكل ما يسمى مرضًا، وهو غير سديد. هذا لفظ ((البسيط))، وأحال الأمر فيه هنا على المذكور هناك، وقد صرح في ((شرح المهذب)) بأنه لا خلاف فيه عندنا. قوله: ولو خافت الحامل والمرضع على ولديهما أفطرتا، وفي وجوب الفدية ثلاثة أقوال، أصحها: تجب، والثاني: أنها مستحبة، والثالث: تجب على المرضع دون الحامل. ثم قال: وعن الشيخ أبي حامد حكاية طريقة قاطعة بوجوبها على المرضع، وحكاية القولين في وجوبها على الحامل، وهي التي أوردها البندنيجي لا غير. انتهى.

وما ذكره من أن البندنيجي لم يحك إلا الطريقة الأخيرة ليس كذلك، فقد رأيت في ((تعليقه)) الذي ينقل عنه- وهو الذي يعرف بـ ((شرح المذهب)) و ((الجامع)) أيضًا، وذكر المصنف في خطبته أنه ((تهذيب المذهب)) - حكاية طريقين: إحداهما هذه، وعليها اقتصر في باب أهل الأعذار، والطريقة الثانية: أنها لا تجب على المرضع قولًا واحدًا، وفي الحامل قولان. كذا ذكرها في أوائل الصوم في باب من يجب عليه ومن لا يجب، واقتصر عليها أيضًا هناك، وهذا النقل جميعه إنما نقلته من النسخة التي كانت للمصنف- رحمه الله- وقد حكي البندنيجي أيضًا في كتابه المسمى بـ ((الذخيرة)) ثلاث طرق، إحداها: أن في المسألة ثلاثة أقوال كما سبق، قالها صاحب ((الإفصاح))، والثانية- قالها الشيخ، يعني أبا حامد- أنها لا تجب على الحامل قولًا واحدًا، وفي المرضع قولان، وهاتان الطريقتان حكاهما في أول كتاب الصيام، والطريق الثالث- وهو المحكي في الكتاب- حكاها بعد ذلك بثلاثة أبواب في الكلام على من أكل عامدًا. قوله: فروع: أحدها: لو كانت الحامل والمرضع في سفر أو مرض، فأفطرتا: هل تجب عليها الفدية؟ نظر: إن فطرتا بسبب السفر أو المرض فلا، وإن أفطرتا لأجل الولد فنعم، وإن لم يكن لهما نية فوجهان، بناء على الوجهين في المسافر يطؤها على قصد الترخص: هل تلزمه الكفارة أم لا؟ ثم قال: ووافق القاضي الحسين على هذا البناء في حق المرضع إذا كانت مريضة، وقال فيها إذا كانت مسافرة: إن ألزمنا المجامع في السفر الكفارة فهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: أن المرضع يجوز أن تلزمها الفدية وإن كان يباح لها الإفطار وهي إذا كانت في الحضر، كذلك هنا. انتهى. وما ذكره عن القاضي الحسين من البناء المذكور لم يذكره في ((تعليقه)) على الوجه الذي ذكره، فاعلمه. قوله: الثالث: إذا كان للمرضع ولدان، وأفطرت بسببهما: فهل تتعدد الفدية؟ فيه وجهان في ((التتمة)) وغيرها، أصحهما في ((الرافعي)) - وهو المذكور في ((التهذيب)) -: عدم التعدد. انتهى. واعلم أن كلامه يوهم اختصاص الوجهين بالمرضع، وأنهما لا يجريان في الحامل، وليس كذلك، فقد صرح صاحب ((التتمة)) بجريانهما فيهما معًا، فقال: إذا كانت حبلى بولدين، أو ترضع ولدين: فهل يلزمها فدية واحدة أو فديتان؟ في المسألة وجهان. هذا لفظه.

قوله- نقلًا عن الشيخ-: قال: وإن أغمي عليه في بعض النهار، أي: وكان قد نوى من الليل ففيه ثلاثة أقوال. ثم قال في آخر المسألة ما نصه: أما إذا لم يكن قد نوى من الليل فيلزمه القضاء بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس بصحيح، ففي ((الرافعي)) وجه: أن القضاء لا يجب إذا استغرق الإغماء جميع الشهر، وفي ((التتمة)): أنه لا يجب وإن كان مستغرقًا ليوم واحد. وذكر في ((التهذيب)) نحوه أيضًا. نعم، فيما نقله الرافعي هنا كلام مذكور في ((المهمات)). قوله: وإن طهرت الحائض، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو قدم المسافر وهو مفطر- استحب لهم إمساك بقية النهار. ثم قال: وقد حكى ابن يونس وجوب الإمساك على الحائض تطهر والمسافر يقدم وهو مفطر، وادعى القاضي الحسين أن أصحابنا لم يختلفوا في ذلك، وتبعه الإمام، لتحقق المبيح لهم، ولعله أراد المراوزة، وإلا فقد حكى صاحب ((المعتمد)) في وجوب الإمساك على الحائض والنفساء وجهين، وجريانهما في المسافر من طريق الأولى. انتهى كلامه. واعلم أن ما ذكره من حمل الاتفاق على المراوزة حتى يكون كلام ((المعتمد)) في حكاية الخلاف محمولًا على طريقة العراقيين، حملٌ باطل سببه عدم الوقوف على كلام ((المعتمد))، فإن صاحب ((المعتمد)) إنما نقله عن المراوزة وعزاه إلى القاضي الحسين منهم، فإنه قال: ذكر فيما علق عن القاضي الحسين في الحائض إذا طهرت في أثناء النهار وجهين في وجوب الإمساك، أحدهما: لا يلزمها كالمريض، والثاني: أنه يلزمها. هذا لفظه، ثم نقل عن القاضي أنه ينبغي أن يعكس فيجب على المريض، بخلاف الحائض، لأن عذرها أشد. وما ذكره المصنف- أيضًا- من استخراج الخلاف في المسافر بالاستنباط من حكاية ابن يونس له في الحائض فإنه يقتضي أنه لم يظفر به مصرحًا، وقد صرح بنقله الفوراني في ((الإبانة)) والجرجاني في ((الشافي)) و ((المعاياة)). قوله: وإن بلغ الصبي أو قدم المسافر وهما صائمان، فقد قيل: يلزمهما إتمام الصوم، وهو ما جزم به ابن الصباغ والإمام، فعلى هذا: إذا أتم الصبي الصوم هل يجب قضاؤه؟ قال ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما: إن لم نوجب عليه القضاء وقد

بلغ مفطرًا فهنا أولى، وإن أوجبناه ثم ففي وجوبه هنا وجهان، قال إسحاق: لا قضاء عليه، وقال غيره: عليه القضاء، لأنه لم ينو الفرض. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الإمام قد ذكر المسألة في باب استقبال القبلة، ولم يوجب ما نقله عنه المصنف من الإتمام لا بالتصريح ولا بالتعريض، بل في تعليله ما يشعر بأن الإتمام لا يجب. الأمر الثاني: أن عبارته تقتضي أن إسناد عدم وجوب القضاء إلى أبي إسحاق من كلام ((الشامل))، مع أن صاحب ((الشامل)) لم يسنده إليه ولا إلى غيره، فاعلمه. قوله: ووراء ما ذكره الشيخ في بعض الصور وجوه، أحدها: فيما إذا احتقن: أنه لا يفطر، كما حكاه الرافعي عن القاضي الحسين. انتهى. واعلم أن القاضي الحسين قد جزم في ((تعليقه)) بالفطر، فقال: أما إذا احتقن- سواء احتقن في قبله أو دبره- أفطر. هذا لفظه في إحدى ((تعليقتيه))، وقال في الأخرى: عندي أنه لا يفطر إن كان في القبل كمذهب أبي حنيفة. والذي اختاره وجه مشهور، ولم يتعرض للمسألة في ((فتاويه)) ولا في ((شرح الفروع)) ولا في القطعة التي شرحها من ((التلخيص))، والرافعي قلد في هذا النقل صاحب ((المعتمد))، فإنه كذلك نقله عنه، وقد أوضحت ذلك في ((المهمات)). قوله: وكذا الخيط وإن بقي بعضه خارجًا، لأنه ممنوع من ذلك إجماعًا، ولولا أنه مفطر لما منع منه. انتهى كلامه. واعلم أن أبا حنيفة قد ذهب إلى أن الخيط البارز بعضه لا يفطر، وذهب إليه- أيضًا- بعض أصحابنا. كذا حكاه الرافعي، وهذا الوجه جارٍ في السكين- أيضًا- كما صرح به في ((الشرح الصغير))، وأشار إليه في ((الكبير)) - أيضًا- وادعى في ((شرح المهذب)) أنه لا خلاف في السكين، مستندًا إلى ما في ((الروضة)) من الجزم المخالف لما في ((الرافعي)). قوله- في الكلام على ابتلاع النخامة: وإن قدر على صرفه ومجه، فلم يفعل- ففيه خلاف بين الأصحاب: منهم من لم يؤاخذه وبه حسم الباب، ما لم يتكلف صرفه عن مجراه إلى الفم، ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه مع القدرة على مجه، وهذا ما أورده القاضي الحسين وأبو الطيب، قال الرافعي: وهو الذي أجاب به الحناطي وكثير من الأئمة، ولم يذكروا غيره. انتهى.

وما حكاه عن الرافعي في هذه المسألة فإنه سهو، فإن الرافعي إنما حكاه في اقتلاع النخامة- أي: بالقاف- وهو إخراجها من الباطن إلى الظاهر، وأما في الابتلاع- أي: بالباء- فصحح الفطر، ولم يذكر فيه هذه المقالة. قوله: وفي معنى الاحتقان ما إذا قطر في إحليله شيئًا، أو أدخل فيه مبضعًا فوصل إلى مثانته. انتهى. والمبضع- بكسر الميم- هو ما يبضع به اللحم، أي: يقطع، ومنه: ((فاطمة بضعةٌ مني)) - بفتح الباء- أي: قطعة. ولا شك أن الذي يقطع اللحم به لا يدخله عاقل في إحليله، بل الذي يدخل فيه شيء كالمردود يسمى: المسبار- بالسين والباء الموحدة- من ((السبر)) وهو الاختبار، لأن ذلك يفعل لاختبار موضع الحصاة التي تسد مجرى البول، نسأل الله تعالى العافية! ثم إن التقطير- أيضًا- أحد نوعي الاحتقان، ثم إن الإحليل- كما قال الجوهري- إنما هو مخرج البول خاصة، فاعلم ذلك. قوله: وعليه القضاء وإمساك بقية النهار، أي: على من تعدى بشيء من المفطرات. ثم قال ما نصه: وهل يجب مع ذلك شيء آخر؟ ينظر: إن كان فطره بالجماع فنعم، وهو الكفارة لا غير، وإن كان بغيره فالتعزير. انتهى كلامه. وحاصله: أن التعزير لا يجب على المجامع، وهو خلاف الإجماع كما أوضحته في باب التعزير، فراجعه. قوله- في قول الشيخ: ((وإن أكل، أو شرب، أو استعط، أو احتقن، أو صب الماء في أذنه فوصل إلى دماغه، أو طعن جوفه أو طعن بأذنه، أو داوى جرحه فوصل الدواء إلى جوفه، أو استقاء، أو جامع أو باشر فأنزل- بطل صومه)) -: فإن فعل ناسيًا أو جاهلًا بالتحريم، أو فعل به شيء من لك مكرهًا- لم يبطل. ثم قال: وصورة الجهل: أن يقدم على ذلك، لكونه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، كما قاله البغوي، وتبعه الرافعي. انتهى. وما نقله عن البغوي والرافعي من تقييد جهل الاستقاءة ونحوها بما ذكره، لم يتعرض المذكوران له لا نفيًا ولا إثباتًا، بل تعرضا له في الأكل ونحوه من الأمور المشهورة. نعم، صرح القاضي الحسين بذلك، ومال في ((البحر)) إلى خلافه، فقال: يحتمل أن يقال: لا يفطر الجاهل مطلقًا، لأنه يشتبه على من نشأ في الإسلام أيضًا. وإطلاق الشيخ في ((المهذب)) و ((التنبيه)) يقتضي ما قاله الروياني، ولم يستدركه النووي

لا في ((تصحيحه)) ولا في ((شرحه)) على ((المهذب)) مع كونه قيد الأكل ونحوه بذلك. قوله: وإن أكره حتى فعل بنفسه ففيه قولان، أصحهما: أنه لا يبطل صومه، لما ذكرناه، ومقابله: أنه يبطل، لأنه حصل بفعله. ثم قال ما نصه: وهذا ما صححه في ((الوجيز)) كما قال الرافعي، والذي رأيته في بعض النسخ تصحيح الأول، موجهًا له بأنه غير آثم. وقال الرافعي: هذه علة الفطر. ومعنى قوله: ليس بآثم، إن الإكراه إنما يؤثر في دفع الإثم. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي- رحمه الله- لم ينقل ذلك عن ((الوجيز))، كما قاله المصنف، بل عبر بقوله: ((وهذا أصح عند صاحب الكتاب))، من غير تعرض لـ ((الوجيز)) ولا لغيره. قوله: وقد قال بعض أصحابنا بإجراء القولين فيما إذا فعل به شيء من ذلك مكرهًا، حكاه القاضي أبو الطيب في ((تعليقه))، وكذا الرافعي وقال: إنه غريب. انتهى كلامه. وما حكاه عن القاضي والرافعي من حكاية الخلاف في جميع ما قاله الشيخ فغلط: فأما القاضي فلم أر في ((تعليقه)) حكاية الخلاف إلا في الأكل والمرأة إذا جومعت، وأما الرافعي فإنه لم يحكه إلا في الأكل خاصة، ولهذا قال النووي في ((شرح المهذب)): إنه لا خلاف في عدم الفطر بشيء من هذه الأمور إذا فعلت به مكرهًا إلا في الأكل على وجه. قوله- في الكلام على ما إذا وطئ زوجته وهو صائم-: وفي الكفارة ثلاثة أقوال: أحدها: تجب على كل واحد منهما كفارة. والثاني: تجب عليه دونها. والثالث: تجب عليه كفارة عنه وعنها. ثم قال- نقلًا عن الجمهور-: قالوا: نص في ((الإملاء)) على أن على المرأة الكفارة، ونص في عامة كتبه على أنها لا تجب عليها. وهذه عبارة القاضي أبي الطيب والماوردي. انتهى. وعبارة الماوردي: ذكر الشافعي في بعض أماليه أن عليهما كفارتين، فخرجه بعض أصحابنا قولًا ثانيًا، وليس بصحيح. هذه عبارته، فلم يذكر الماوردي أن الشافعي نص عليه في ((الإملاء))، بل عن بعض أماليه، وللشافعي أمالٍ قديمةٌ وجديدة، و ((الإملاء)) عندهم غير الأمالي.

قوله: وعلل أبو طاهر الزيادي عدم الوجوب على المرأة بأنها أفطرت بوصول أول جزء من الحشفة، وحكم الجماع إنما يترتب على إدخال الحشفة، فأفطرت لا بالجماع. ثم قال: وعبارة الرافعي: أن الأكثرين زيفوه- أعني قول الزيادي- بأن قالوا: يتصور فساد صومها بالجماع بأن يولج وهي نائمة أو ناسية أو مكرهة، ثم تستيقظ أو تتذكر أو تطاوع بعد الإيلاج، وتستديمه، والحكم لا يختلف على القولين. قال بعض الفضلاء: وهذا لا يتوجه به فساد قول الزيادي. وأنا أقول: فساد قول الزيادي ظاهر بما حكاه القاضي الحسين عنه، فإنه قال في ((التعليق)): وكان الزيادي يقول: لا يتصور الخلاف في هذه المسألة، لما ذكرناه من العلة، قال القاضي: إلا أنهم يصورنه فيما لو جومعت مكرهة فطاوعت في أثنائه، أو ناسية فتذكرت في خلاله فأصرت على ذلك، ففطرها حصل بالجماع لا محالة. انتهى كلامه. وما قيل من أن فساده ظاهر بما حكاه عنه القاضي، إن أراد أن الإفساد جاء من مطاوعتها بعد الإكراه وتذكرها بعد النسيان ونحوهما، وهو الظاهر- فهو عين ما حكاه الرافعي وغيره، وأيضًا: فقد صرح هو في عبارته بأن القاضي لم ينقله عنه. وإن أراد به ما قاله من كونه لا يتصور فيه الخلاف، فهذا هو الكلام الذي يحاول إفساده، فيكون هو الفاسد لا المفسد، ولم يذكر المصنف مستند ما ادعاه هذا الفاضل من كونه لا يتوجه به إفساد قول الزيادي، والظاهر: أن الإشارة إلى ما قبل كلام الرافعي وهو اتفاق الأئمة على أن القياس وجوب الكفارة عليها، وعدم توجهه على الزيادي ظاهر، وأما عوده إلى ما نقله الرافعي فغير مستقيم. قوله: أما إذا كان الوطء في الموضع المكروه فالحكم في القضاء كما تقدم، وكذا الكفارة في حق الرجل، وأما المرأة فلا يجب عليها وفاقًا كما قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي، وكذا حكم الرجل في الدبر. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من دعوى الوفاق في المرأة، وأن نقل ذلك عن أبي الطيب والبندنيجي- فلا أصل له: أما أبو الطيب فإنه لم ينقل شيئًا من ذلك، إلا أنه في ((تعليقه)) - وهي التي يريدها المصنف- نقل عن أبي حنيفة أن الواطئ في الدبر لا كفارة عليه وأن الموطوءة في القبل تجب عليها كفارة كما تجب على الرجل، فاستدل القاضي على أبي حنيفة في إيجابه على المرأة، بقوله: إنها موطوءة، فلم تجب عليها كفارة الوطء، أصله: إذا

وطئها في الموضع المكروه. هذا لفظ القاضي، ولم يذكر في ((تعليقه)) مع الاستيعاب غير ذلك. وأما البندنيجي فقال في ((الذخيرة)): مسألة: وسواء الواطئ في القبل أو في الدبر فإن الكفارة تجب، وقال أبو حنيفة: عليه القضاء دون الكفارة. ثم قال: فإن كانا صائمي، فطاوعته، فأتاها في القبل- ففيه قولان، وإنما فرضنا الوطء في القبل، ليتصور الخلاف مع أبي حنيفة. هذا لفظه في ((الذخيرة))، فتصريحه بأن التقييد إنما هو لأجل مذهب أبي حنيفة صريح في أنه لا فرق على مذهبنا. وأما في ((تعليقه)) الذي ينقل عنه المصنف، وهو الذي قال في خطبته: إنه ((تهذيب المذهب)) ويعرف أيضًا بـ ((شرح المذهب)) - فقد رأيت هذا التعليق، بل النسخة التي كان المصنف ينقل منها، فلم أر فيه إلا عكس ما ذكره، فإنه حكى في أول المسألة قولين في أنه هل تجب على المرأة أم لا، وفرع عليهما، ثم قال بعد ذلك ما نصه: وكل حكم ذكرناه بالوطء في القبل فهو في الوطء في الدبر سواء لا يختلفان على ما فصلناه، وسواء كان من الأجنبية أو من امرأته أو من الغلام. هذا لفظه بحروفه، ولم أر فيه- بعد التتبع- غيره، ولم يتعرض في ((تعليقه)) الذي علقه عن الشيخ أبي حامد لحكاية عدم الوجوب عليها، فضلًا عن دعوى الاتفاق عليه، بل ذرك ما يؤخذ منه الوجوب، فإنه لما نقل عن أبي حنيفة أن الكفارة لا تجب بالوطء في الدبر شرع يذكر طريقًا في الرد عليه فقال: إن أخبرت أن تدل على الكفارة فقل: فرج يجب الحد بالإيلاج فيه، فجاز أن تجب الكفارة بالإيلاج فيه كالقبل. هذا لفظه، ووجوب الحد بالإيلاج لا فرق فيه بين الرجل والمرأة، فكذلك الكفارة. وقد ذكر في كتاب النكاح في باب إتيان النساء في أدبارهن ما هو أصرح من ذلك، فقال: فإذا تقرر أن الوطء في الموضع المكروه محرم، فكل ما تعلق به من إفساده عبادة وإيجاب كفارة وغسل فإنه يتعلق به كتعلقة بالوطء في الفرج، فإذا وطئها في الموضع المكروه وهما صائمان أفطرا، وعليهما الكفارة. هذا لفظه. وقد ذكر النووي هنا في ((شرح المهذب)) ما هو كالصريح في عكس ما قاله ابن الرفعة، فقال: حكم اللواط وحكم وطء المرأة في دبرها حكم الوطء في جميع ما سبق. وذكر المتولي في ((التتمة)) في آخر الباب الثاني من كتاب الصداق أصرح من ذلك، فقال: الوطء في الدبر إنما يتقاصر عن المجامعة فيما يتضمن تكميلًا مثل التحصين والتحليل، أو يوجب تخفيفًا مثل الخروج عن موجب العنة والإيلاء، فأما

فيما يتضمن تغليظًا فيكون ملحقًا بالوطء كما نقول في وجوب الغسل دون الإنزال وإفساد العبادات. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من أن إتيان الرجل في الدبر كوطء المرأة في الموضع المكروه في عدم إيجاب الكفارة على المفعول به، واقتضى كلامه الاتفاق عليه- أيضًا- فليس كذلك، فقد جزم العمراني في ((البيان)) و ((الزوائد)) بخلافه، فقال- ناقلًا عن القاضي أبي الفتوح في كتاب ((الخناثي)) -: إنه لو أولج رجل ذكره في دبر خنثى مشكل أفطرا، ووجبت الكفارة على كل واحد منهما، قال في ((البيان)): إلا أن يكون المولج فيه جارية للمولج، فتكون كزوجته. انتهى، فجزم بوجوب الكفارة على المولج في دبره. قوله: وكلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في الخلاف الذي ذكره بين أن يكون قد وطئها وهي ناشز أو لا، وقال في ((البحر)): إن والده كان يقول: إن قلنا بقول التحمل لو لم تكن ناشزًا فهل يتحمل عنها والحالة هذه؟ فيه وجهان، أحدهما: لا، كزكاة الفطر والنفقة، والثاني: نعم. والفرق: أن ذلك يلزمه في مقابلة التمكين، وبالنشوز زال التمكين، والكفارة تلزمه بالجماع لا للتمكين، قال الروياني: وهذا أشبه بكلام أصحابنا، والأول أقيس. قلت: وعندي في تصوير المسألة نظر، لأنه إذا وطئها مكرهة أو نائمة فقد استوفى حقه في تلك الحالة، فزال النشوز بالنسبة إليها، وإنما لم تستحق النفقة، لأنها في مقابلة التمكين في النوم ولم يوجد في جملته، والفطرة تتبعها. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- في البحث مع الروياني غفلة، فإن النشوز كما يكون بمنع الجماع يكون بأسباب كثيرة غير ذلك: كخروجها من المنزل، ومنع الاستمتاعات، وإنما يأتي ما قاله أن لو كان النشوز خاصًا بمنع الجماع. قوله: ولو أكل ناسيًا، فظن أنه أفطر، فجامع عامدًا- لا تجب عليه الكفارة، وفي وجوبها احتمال للقاضي أبي الطيب حكاه عنه في ((المهذب)) و ((البيان))، لأن فطره بالنسيان لا يبيح له الأكل. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن المسألة لا خلاف فيها، وقد ذهب الحليمي في ((المنهاج)) إلى الوجوب، كذا رايته في هذا الباب من ((تعليق)) الإمام محمد بن يحيي حكاية عنه. قوله: ولو كان المسافر قد قدم من سفره نهارًا مفطرًا، فأخبرته زوجته أنها مفطرة لانقطاع حيضها فجامعها، وكانت صائمة- فإن الكفارة تجب عليها بلا خلاف، ولا

يتحمل عنها، لأنه غرته. انتهى كلامه. وما ذكره من نفي الخلاف سبقه إليه النووي في ((شرح المهذب))، وليس بصحيح، ففيه وجه مذكور في ((الحاوي)) فقال: خرج وجهٌ أن الكفارة على الزوج وإن غرته، لأجل الاستمتاع. هذا لفظه. قوله: ولو جامع المجنون زوجته في نهار رمضان، وقلنا بالقول الثالث: إنه يجب عليها، ويتحملها عنها الزوج- فهل يتحملها عنها هاهنا، أم تجب في مالها؟ فيه وجهان. ثم قال: وقد ألحق الرافعي بالمجنون في هذا الصبي المراهق إذا قلنا: لا كفارة عليه في نفسه. وكذا ألحق به الناسي والنائم إذا استدخلت ذكره. انتهى. وما حكاه عن الرافعي من إلحاق النائم بالمجنون حتى يجري فيه الخلاف فحكايته عنه صحيحة، لكن سكوته عليه غريب مشعر بموافقته عليه وعدم اطلاعه على خلافه، مع أنه ليس الأمر في ذلك كما قاله الرافعي، بل هو فاسد معنى، لأنه لم يوجد منه فعل بالكلية، ونقلًا، لأن الموجود في كتب المذهب إنما هو الجزم بعدم الوجوب، ولم يخرجه على ذلك أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين، مع كثرة تتبعي لكلامهم وحضور مصنفاتهم عندي، فقد جزم بعدم الوجوب عليه البندنيجي في ((الذخيرة)) وابن الصباغ في ((الشامل)) والجرجاني في ((الشافي)) و ((التحرير))، مع جزمهم في المجنون بأنه تتحملها عنه على خلاف ما صححه الرافعي، وجزم به- أيضًا- أبو علي الطبري في ((الإفصاح))، ونقل أنه لا خلاف فيه فقال: وأما إذا كان زوجها مغلوبًا أو نائمًا، فجاءت فأدخلت ذكره في فرجها- فلا كفارة على الزوج وجهًا واحدًا، لأنه لم يكن من جهته فعل معصيةٍ. هذا لفظه، ومن ((الإفصاح)) نقلته، وجزم به- أيضًا- سليم الرازي في ((المجرد)) والشيخ أبو إسحاق في ((المهذب)) و ((الشاشي)) في ((المعتمد)) والطبري في ((العدة)) وأبو الفتح سلطان في كتابه ((التقاء الختانين)) والعمراني في ((البيان)) والقاضي مجلي في ((الذخائر))، وجزم به من الخراسانيين القاضي الحين في ((تعليقه)) والمتولي في ((التتمة)) والبغوي في ((التهذيب)) وغيرهم، هذا مع وقوع الخلاف في المجنون في كلام كثير منهم كالقاضي الحسين، وصاحب ((العدة))، والشيخ في ((المهذب))، وصاحب ((المعتمد))، و ((البيان))، وسلطان المقدسي، وغيرهم، فثبت بطلان ما وقع في كلام الرافعي وارتضاه المصنف.

قوله: ولو فسد الصوم بالجماع، ثم طرأ ما يبيح الفطر فيه كالمرض، أو يسقط صومه كالحيض والجنون والموت- ففي سقوط الكفارة قولان، الراجح منهما عند العراقيين: عدم السقوط. ثم قال: وجزم طائفة- ومنهم القاضي الحسين- بأن طرآن المرض لا يسقطها كطرآن السفر، وحكاية القولين في طرآن الجنون والحيض- وصحح المتولي منهما قول السقوط. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن المتولي والقاضي قد ذكرا المسألتين معًا. وأنهما قد حكيا الخلاف فيهما قولين، ولم يتعرض القاضي في ((تعليقه)) لمسألة الجنون بالكلية، وحكيا الخلاف في مسألة الحيض وجهين، وأما المتولي فإنه ذكر المسألتين، لكن حكى الخلاف فيهما وجهين. وما ادعاه المصنف- أيضًا- من أن العراقيين رجحوا الوجوب فغريب، فقد ذكر شيخهم الشيخ أبو حامد في ((تعليقه)) هذه المسائل الثلاث، ولم يرجح شيئًا فيها، وتبعه من العراقيين- أيضًا- على عدم التصحيح سليم الرازي في ((المجرد)) والماوردي في ((الحاوي)) والشيخ أبو إسحاق في ((المهذب)) وابن الصباغ في ((الشامل)) والشاشي في ((الحلية)) و ((المعتمد))، والعمراني في ((البيان))، وما أدري ما مستندة في إطلاق هذا النقل عن العراقيين؟ نعم، رجح ذلك منهم الجرجاني في ((الشافي)). قوله: تفريعًا على قول التحمل-: لو كانت من أهل العتق وهو من أهل الإطعام، قال البندنيجي والماوردي: أطعم عن نفسه، وكان العتق في ذمته حتى يقدر فيعتق عنها. انتهى كلامه. ومقتضاه: أنه لابد من إخراج الطعام الآن والعتق بعد ذلك، ولم يذكره الماوردي هكذا، بل خير الزوج بين هذا وبين أن يعتق فيسقط الإطعام. قوله: واختلفوا في قوله- عليه الصلاة والسلام- في الوصال: ((إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى)) على أوجه. ثم قال: والثالث- حكاه في ((الشامل)) والقاضي الحسين-: أنه يطعم ويسقى من طعام الجنة وشرابها، وإنما يقع الفطر بطعام الدنيا وشرابها، قال القاضي: وقد روي هذا مفسرًا، لأنه قال: ((أبيت فيحمل إلى الطعام والشراب من الجنة)). انتهى كلامه. ودعواه أن الفطر إنما يحصل بما في الدنيا ذكره للرد على من قال: إن هذا الأكل

ينفي حقيقة الوصال، ومقتضى كلامه: أن حصول الفطر بهما من كلام القاضي وابن الصباغ، فأما القاضي فمسلم، فإنه قد ذكر في ((تعليقه)) ما يؤخذ منه، وأما ((الشامل)) فلا، بل فيه العكس، فإنه قال: فأما قوله: ((يطعمني ويسقيني)) فمن الناس من قال يطعم ويسقى على الحقيقة من الجنة، ومنهم من قال: إنما أراد بذلك أنه يقويه ويعينه بمنزلة ما يحصل من الطعام والشراب، ولو كان إطعامًا على الحقيقة لم يكن مواصلًا. هذا كلام ((الشامل)). قوله: ((فإن شوتم فليقل: إني صائم)). ثم قال ما نصه: قال في ((الشامل)) - وتبعه الرافعي-: قال أصحابنا: وليس معناه: أن يقول ذلك بلسانه لخصمه، فإن ذلك يشبه المراءاة في العبادة، ولكن معناه: أنه يقول لنفسه: إني صائم، فيكف لسانه عنه. ثم قال ابن الصباغ: ويحتمل إجراء اللفظ على ظاهره ويقوله، لا لقصد الرياء. انتهى كلامه. وما نقله عن ((الشامل)) من حكاية ذلك عن الأصحاب فغلط، فإنه لم ينقله عنهم ولا عن أحد منهم، بل عن بعض الناس، فإنه قال: عن بعض الناس أنه قال: هذا لا يتلفظ به. هذه عبارة ((الشامل)) بحروفها. قوله: وعن القاضي الحسين أنه قال: والغالب أنه في ((الفتاوي)): الأولى في زماننا أن يفطر على ماء يأخذه بكفه من النهر، ليكون أبعد عن الشبهة، فإن الشبهات قد كثرت فيما في أيدي الناس. انتهى كلامه. واعلم أن القاضي لم يتعرض في ((فتاويه)) لهذه المسألة بالكلية، على خلاف ما ظنه من كونه فيها، وأما ((التعليقة)) فإنها مختلفة، كما أوضحناه في مقدمة ((المهمات))، فالتعليقة التي وقعت للمصنف قد جزم فيها بما قاله غيره، فقال- بعد الكلام على أن الصائم ينزه صومه من الكلام القبيح-: إن من سسن الصوم الإفطار على تمر، فإن لم يكن فمذقة لبن، فإن لم يكن فشربة من نهر، وإلا فليصب من الكوز على اليد. هذا كلامه، فجعل الشرب من النهر في ثالث مرتبة، ولأجل الجزم بالمقالة المشهورة في النسخة الواقعة للمصنف ظن أن ذلك في ((فتاويه))، وأما النسخة الأخرى ففيها ما نقله الرافعي عنه، ذكر ذلك في آخر كتاب الصيام، وقد اجتمع التعليقان عندي، والحمد لله تعالى. قوله: الثاني: لو أخر القضاء رمضانين أو أكثر، فالأصح في ((الحاوي)) والمذهب في ((تعليق)) البندنيجي: أنه يجب مد واحد. والصحيح في ((النهاية)) - قال في ((البحر)):

وبه قال عامة أصحابنا-: تكرر المد بتكرر السنين، وعلى هذا: لو كان عليه قضاء أيام، ولم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء جميعها- فهل يلزمه في الحالة الفدية عما لا يسعه الوقت، أم لا يلزمه إلا بعد مجيء رمضان؟ فيه وجهان. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن ((البحر)) وإن كان صحيحًا، لكنه رجح خلافه فقال: الأظهر عندي: أن المد لا يتكرر. الثاني: أن الخلاف في وجوب الفدية عما لا يسعه الوقت قبل مجيء رمضان لا ينبني على الخلاف في تكرر الفدية بتكرر السنين، بل هو جاز على القول بالتكرار، وبخلافه. قوله- فيما إذا فاته الصوم بغير عذر-: قال في ((التهذيب)) - والحالة هذه-: ليس له التأخير بعذر السفر، فلو أخره وفعله قبل أن يأتي رمضان آخر: إما لسفر، أو لغيره- قال في ((التتمة)): فلا شيء عليه. انتهى. وهذا الكلام يوهم إيهامًا ظاهرًا أن صاحب ((التتمة)) يقول: إذا أدركه رمضان قبل فعله تلزمه الفدية، سواء كان بعذر السفر أم لا، وليس كذلك، فقد صرح صاحب ((التتمة)) بأنه إذا تركه لغير عذر، وأخره بعذر السفر حتى دخل رمضان آخر- فلا شيء عليه، وكلامه في الحقيقة معارض لكلام البغوي. قوله: ولو مات بعدما أدركه رمضان، وتمكن من القضاء قبله: فهل يقضى عنه مدان أو مد واحد؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالمد فالذي حكاه ابن الصباغ: أنه بدل الصوم، فإذا أخرجه زال التفريط بالتأخير، فلم يجب لأجله شيء، والذي حكاه أبو الطيب والبندنيجي: أنه في مقابلة التأخير، ويسقط حكم القضاء، لأن التأخير إذا انجبر فكأن العذر اتصل إلى الموت، وإذا اتصل العذر كان القضاء غير واجب، وهذا قد نسبه القاضي الحسين إلى الإصطخري، وحكى الماوردي عن ابن سريج أنه قال: يجب عليه مد واحد، لأن الفوات يضمن بالمد الواحد. انتهى كلامه. وما حكاه عن البندنيجي فقد صرح البندنيجي في ((الذخيرة)) بخلافه، فقال: وقال أبو العباس: مد واحد لأجل الفوات، ولا شيء للتأخير، كما لو مات قبل خروج وقت القضاء. هذا لفظه، غير أن المصنف إنما ينقل من ((التعليقة)) المعروفة بـ ((شرح المذهب))، وفيها ما ذكره المصنف.

قوله: وعلى هذا- أي صيام الولي عن الميت- فمن هو الولي؟ قال الغزالي: يحتمل أن يراد به هنا الوارث، وهو ما حكاه في ((البحر)) عن بعض الأصحاب لا غير، ويحتمل أن يراد به العصبات، وأن يراد به القريب وارثًا كان أو غير وارث. وفي ((الروضة)): أنه المختار، ولا يجب على الولي الصوم اتفاقًا كما قاله الشيخ أبو محمد والبغوي، بل هو مستحب. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن هذه الاحتمالات الثلاثة قد أبداها الإمام في ((النهاية)) لنفسه، ورجح منها اعتبار الإرث، وذكرها الغزالي على عادته في تلخيص ما في ((النهاية))، على خلاف ما أوهمه كلام المصنف من أنها الغزالي، والعجب أن الرافعي قد نقلها عن الإمام- أيضًا- فذهل عنه المصنف، وقد جزم الماوردي في ((الحاوي)) بأن المراد به القريب على وفق ما اختاره الإمام، فقال في كتاب الوصايا: وكان الشافعي في القديم يجوز النيابة في صوم الفرض إذا ناب عنه وارثه، وصرح القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)) بأنه القريب كما اختاره النووي. الأمر الثاني: أن ما نقله المصنف من نص الجويني الاتفاق على عدم الوجوب فصحيح، فقد نقله عنه في ((النهاية))، وأما البغوي فلا، فإنه لم يتعرض له، وإنما جزم بالوجوب فقط. الثالث: أن الوجوب ليس متفقًا على نفيه، فقد جزم القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)) بوجوب الصوم، فقال: وقال في القديم: يجب الصيام عنه. ثم قال: وقال أحمد: إن كان الصوم نذرًا وجب قضاؤه، وإن كان قضاء رمضان وجب الإطعام. ثم قال- أيضًا-: فإذا قلنا يجب أن يصام عنه هذا. كله لفظه، وجزم به- أيضًا- أبو عوانة في ((صحيحه)) في ترجمة الباب، وهو معدود من الأصحاب. قوله: ولو كان عليه قضاء يومين، فتمكن من قضاء أحد اليومين، وبقي الإمكان إلى نصف اليوم الثاني، ثم مات- وجب الإطعام لليوم الأول، وفي اليوم الثاني وجهان، وأصلهما: إذا قدر على صوم نصف يوم هل يلزمه صوم يوم، أم لا يلزمه شيء؟ فيه وجهان، وأصلهما أيضًا: أن وجوب بعض اليوم هل يستدعى وجوب الباقي؟ فيه وجهان، وهو في الكافر يسلم، قاله في ((البحر)). انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: قدر على نصف يوم، تحريف وغلط، وصوابه الذي في ((البحر)):

نذر نصف يوم. تنبيه: ذكر في الباب ألفاظًا سبق بعضها: منها: ((اختان)) بمعنى ((خان))، قال تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:187] أي: يخون بعضكم بعضًا، قاله الجوهري. ومنها: صرمة بن قيس. هو بكسر الصاد المهملة وسكون الراء. ومنها: عن الربيع بنت معوذ بن عفراء. أما ((الربيع)) فبضم الراء وكسر الياء المشددة، ومعوذ: بتشديد الواو المكسورة وبالذال المعجمة، وعفراء: بعين مهملة وفاء ساكنة ومنها: المثانة- بالثاء المثلثة- مجمع البول، وهو باطن العانة. ومنها: ذرعه القيء، أي: غلبه، بالدال المعجمة. ومنها- في حديث عمر-: هششت، هو بهاء وشينين معجمتين، تقول: هششت بفلان- بالكسر- أهش، بالفتح، هشاشة: إذا خففت إليه وارتحت إليه. ومنها: الباسور- بالباء الموحدة والسين المهملة- واحد ((البواسير))، وهو كالدمل يحدث في مجرى الغائط وفي داخل الأنف أيضًا. ومنها: الحديث: ((قم يا بلال فاجدح لنا)) يقال: جدح السويق، واجتدحه- بجيم ثم دال وحاء مهملتين-: أي لته.

باب صوم التطوع

باب صوم التطوع قوله: ويستحب صيام أيام البيض، لما روى أو داود عن ابن ملحان القتبي عن أبيه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة))، والصحيح أن أيام البيض هي هذه، للخبر. ثم قال ما نصه: وقيل: إنها الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، قاله في ((الحاوي))، ويعزى إلى الصيمري. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن تعبيره بـ ((القتبي)) تحريف، وإنما هو ((القيسي))، نسبة لـ ((عبد القيس))، وملحان. بكسر الميم وبالحاء المهملة. الثاني: أن ما عزاه إلى الصيمري صحيح، فإنه قد حكى في ((شرح الكفاية)) وجهين، وصحح ما نسبه إليه، وأما نقله ذلك عن ((الحاوي)) فإنه لم يحكه وجهًا بالكلية، فضلًا عما يوهمه كلامه من الجزم به، بل إنما حكى الخلاف بين الناس، فقال في باب صيام عرفة: اختلف الناس فيها- يعني أيام البيض- هل كانت فرضًا ثم نسخت؟ ثم قال: واختلفوا في زمانها، فقال بعضهم: الثاني عشر وما يليه، وقال آخرون: الثالث عشر وما يليه. هذا لفظه، وقال قبل ذلك في رابع فصل من كتاب الصيام: اختلف الناس في شهر رمضان: هل كان ابتداء فرض الصيام، أو ناسخًا لصوم تقدمه؟ على مذهبين. ثم قال: ولهم في الأيام البيض مذهبان. ثم حكى ما تقدم، والموقع للمصنف في هذا هو النووي، فإنه حكاه عنه في ((زيادات الروضة)) وغيرها. قوله: ولا يجوز صوم يوم الشك، أي: تطوعًا مطلقًا أو تحريا لرمضان كما قال البندنيجي، لما روى أبو داود عن صلة- وهو ابن زفر- قال: كنا عند عمار ... إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يقتضي أن البندنيجي قال بتحريمه، سواء صامه تطوعًا أو

تحريا لرمضان، وليس كذلك، بل البندنيجي قائل بالكراهة لا بالتحريم، فإنه قال في ((تعليقه)) الذي ينقل عنه المصنف: ولا يجوز أن يصوم العيدين، وكذا أيام التشريق على الجديد. ثم قال ما نصه: فأما يوم الشك فمكروه أن يقصده بالصوم. هذا لفظه، وقد صرح هو به في آخر المسألة على الصواب، فقال: وقد وافق الشيخ في عبارته- يعنى عدم الجواز- صاحب ((التتمة))، وعبارة ابن الصباغ والبندنيجي وصاحب ((البحر)) والفوراني والقاضي الحسين: أن صوم يوم الشك مكروه. هذا لفظه، وسبب الوهم: أن البندنيجي قد قال بأنه لا فرق بين صومه عن التطوع أو رمضان، فضم المصنف هذا التقسيم إلى عبارة الشيخ، فوقع في الخطأ. الأمر الثاني: أن صلة: بصاد مهملة مكسورة ثم لام مفتوحة، وأما زفر: فبزاي معجمة مضمومة، ثم فاء مفتوحة، وقد تحرف على المصنف فتفطن له. واعلم أن المصنف بعد الكلام الأول بأسطر قلائل، في الكلام على انتصاف شعبان- قد قال ما نصه: وجزم به في ((المهذب))، والقائل بالأول ... إلى آخر كلامه، ومراده بالأول: اختصاص عدم الجواز بيوم الشك، فاعلم ذلك، فإنه ملبس يتعين التنبيه عليه. قوله: ولو صام يوم الشك عن فرض صح، وهل يكره؟ فيه وجهان، قيل: مختار أبي الطيب: الكراهة، وهو الذي جزم به في ((المهذب))، وقال في ((الحاوي)): إنه مذهب الشافعي، رضي الله عنه. والذي رأيته في ((تعليق)) أبي الطيب: أنه يسقط عنه الفرض، ولا ثواب له، ويكون بمنزلة الصلاة في الدار المغصوبة. واستبعد ابن الصباغ ما حكي عن أبي الطيب من الكراهة، وقال: لم أره لغيره من أصحابنا. وما قاله مخالف للقياس، لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعًا له سبب كان الفرض أولى، كالصلاة في الوقت المنهي عنه، ولأنه لو كان عليه يوم من رمضان فقد تعين عليه فعله فيه، لأن وقت القضاء قد ضاق، ولأجل ذلك قال في ((المرشد)): إن صامه عن قضاء رمضان ينبغي ألا يكره، لأنه متعين. انتهى كلامه. وما ذكره من إنكار الكراهة في ((تعليق)) أبي الطيب غريب، فقد صرح به قبل هذا النقل الذي ذكره بقليل، فقال ما نصه: عندنا أن صوم يوم الشك مكروه، فإن صامه تطوعًا فلا ثواب له، وإن صامه عن فرض سقط الفرض ولا ثواب له أيضًا. هذا لفظه، وهو يقتضي أنه لا فرق في كراهة النفل بين ما له سبب وما لا سبب له.

واعلم أن الوجهين المذكورين في دفع الكراهة هما لابن الصباغ، وكلام المصنف يقتضي قوتهما، وهما باطلان: أما الأول- وهو القياس على النفل- فذهول عن مدرك قطعي الصحة غامض الإدراك، وهو أن صيام الفرض فيه لا يبرئ الذمة بيقين، لاحتمال أن يكون من رمضان ورمضان لا يقبل غيره، وهذا المعنى لا يأتي في التطوع، فإن غاية ما يلزم منه على تقدير كونه من رمضان ألا يعتد بما أتى به، وهذا الكلام كله على تقدير تفرقة القاضي بين الفرض والنفل ذي السبب، وقد تقدم أن كلام القاضي في ((التعليق)) يقتضي أنه لا فرق، وابن الصباغ في نقله هنا عن القاضي قد صرح بأنه ينقل من ((تعليقه)). وأما الوجه الثاني فدليل على عدم فهم المراد من كراهة الفرض في الأوقات المكروهة، وذلك أنه قد تقدم في الصلاة: أن الصبح يكره فعلها عند ظهور الشعاع، والعصر عند اصفرار الشمس، قالوا: وليس المراد من الكراهة: أنه مأمور بترك الصلاة، بل الفعل واجب عليه، ولكن المراد أنه يكره التأخير إلى ذلك، فإن أخر تضيق عليه، ولزمه الإتيان به، وقالوا- أيضًا- هناك بكراهة تأخير الفائتة ليصليها في وقت الكراهة، وما قالوه هناك فهو الذي بعينه يقال هنا، فالرد بما ذكروه هنا غلطة فاحشة.

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف قوله: وأما حده شرعًا فهو اللبث والإقامة في المسجد بقصد القربة، من مسلم عاقل، طاهر من الجنابة والحيض والنفاس، صاح كاف نفسه عن قضاء شهوة الفرج، مع الذكر. انتهى كلامه. وهذا الحد يرد على أمور: أحدها: أن ذكر اللبث لا فائدة له بالكلية. ثانيها: أنه إذا نذر اعتكاف مدة، ثم خرج لقضاء الحاجة ونحوها مما ذكروه- فإنه في حالة خروجه معتكف على الصحيح مع أنه ليس في مسجد. ثالثها: أن من أقام في المسجد لا لغرض الاعتكاف ولكن لغيره من القرب كقراءة وصلاة، واجتمعت فيه هذه الشرائط المذكورة- فإنه ليس بمعتكف، مع أن الحد صادق عليه. قوله: وخرج بقولنا: مع الذكر، قضاء شهوة الفرج ناسيًا، فإنه لا يفسد الاعتكاف على الصحيح كما لا يفسد الصوم، وقد قال الرافعي: إن الجهل بتحريم ذلك كالنسيان للاعتكاف في الإفساد. فعلى هذا: ينبغي أن يضاف قيد ((العلم)) بالتحريم إلى الحد، لكني لم أذكره لشيء سأبديه: وهو أنا قد ذكرنا أن النية لابد منها، وشرط المنوي أن يكون معلومًا للناوي، وحينئذ فلا تصح نية الشيء ما لم يعلم ما هو ذلك الشيء، فلا يتصور الجهل بتحريم الجماع في الاعتكاف مع صحته إذن، ولأجل ذلك صور العلماء الأكل والجماع في الصوم جاهلًا: بأن يكون قد أكل ناسيًا، فاعتقد أنه أفطر به، فأكل أو جامع عامدًا بناء على أنه أفطر، وأن ذلك بعد ذلك ليس بحرام، لكنه قد يفرض مثل هذا هنا أيضًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تصوير الجهل في الصوم بالتصوير المذكور، وهو أن يأكل ناسيًا، فيعتقد الفطر، فيأكل- غير مستقيم، لأن الحكم فيهما مختلف، وقد صرح باختلافه الرافعي والنووي في كتبهما، فصححوا في الجاهل أنه لا يفطر،

وصححوا فيمن ظن الفطر فأكل أنه يفطر، كذا ذكره الرافعي في أواخر الكلام على وجوب الكفارة بالجماع. الأمر الثاني: أن إطلاق نقل هذا التصوير عن العلماء غريب، فإنه لا يعرف إلا لبعض المصنفين المتأخرين، وقد نقله هو كذلك في الموضع الذي هو مظنة بسط المسألة وهو كتاب الصيام، فقال ثم: صورة الجهل المؤثر في عدم بطلان الصوم: أن يقدم على ذلك، لكونه حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، كما قاله البغوي، وتبعه الرافعي. وبعض المتأخرين صوره بما إذا أكل ناسيًا أو اغتاب، فظن أنه أفطر بذلك فتعاطى المفطرات. هذا لفظه، على أن هذا السؤال الذي ألجأ المصنف إلى ما ألجأه هو إليه من هذا التصوير الباطل وغيره جوابه ظاهر جدًا، وهو أن جهل الأشياء الغريبة عند العوام كابتلاع الحصاة ونحوه، وكالأشياء المختلف فيها عندنا كجمع الريق وابتلاعه ونحوه، والتوقف في هذا وأمثاله مما لا رجحان فيه، بعد الجزم بنية الإمساك عن الأكل والشرب ونحوهما- لا يقدح بلا شك، وإلا لزم بطلان صوم المجتهد بتوقفه في هذه الأمور، وكذلك المقلد، للاختلاف في كثير من المسائل في كل مذهب اختلافًا لا ترجيح فيه بالكلية أو عن الناوي إذ ذاك. قوله: ويكفيه أن ينوي الاعتكاف إن كان متطوعًا به، ويقيم ما شاء الله، قال الإمام: وكان شيخي يتردد في مثل هذه الصورة في الصلاة، ويقول: إذا نوى المتطوع الصلاة ولم يربط قصده بأعداد من الركعات، فالوجه: تصحيح ركعة وركعتين وثلاث وأربع إن اقتصر عليها، فأما المزيد فلم يرد فيه ثبت على الاسترسال، ففيه نظر. انتهى. وقول المصنف: في مثل هذه الصورة في الصلاة، يقتضي أن التردد ليس في الاعتكاف، بل خاص بالصلاة، وهو خلاف ما ذكره الإمام، فإن الإمام قد أدخل واو العطف على قوله: في الصلاة، فقال: ((في مثل هذه الصورة وفي الصلاة))، فنسي المصنف ذكرها، فلزم تغيير الحكم، وقد وقع على إثبات الواو في اختصارها الشيخ عز الدين فقال: تردد أبو محمد في هذا وفيمن أطلق نية الصلاة. قوله: ولو نذر أن يعتكف يومًا هو فيه صائم لزمه الاعتكاف في أيام الصوم، سواء كان صائمًا لأجل الاعتكاف أو لغيره، وهذا مما لا خلاف فيه، صرح به الرافعي. وإن قال: لله علي أن أعكف يومًا صائمًا إن شفى الله مريضي، فشفاه الله- تعالى- لزمه اعتكاف يوم وصيام يوم بلا خلاف، لكن هل يتعين صوم يوم الاعتكاف، للخروج عن موجب النذر، حتى لو اعتكف بغير صوم أو صام بدون اعتكاف لا يجزئه، أو لا

يتعين فيجزئه أن يعتكف يومًا ويصوم آخر؟ فيه وجهان مأخوذان من قول الشافعي في ((المختصر)): ((فإن نذر اعتكافًا بصوم فأفطر استأنف))، فمنهم من قال- وهو أبو علي الطبري-: أراد: استأنف الصوم، فأما الاعتكاف فلا، لأن الصوم ليس شرطًا عند الإطلاق فكذا عند النذر، كما لو قال لله: علي أن أعتكف مصليًا. ومنهم من قال: أراد أن يستأنفهما جميعًا ... إلى آخره. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف في إيجاب صوم يوم في مسألة ما إذا قال: لله علي أن أعتكف يومًا صائمًا، ليس كذلك، بل فيه وجه: أنه لا يلزم لأجل هذا النذر صيام حتى لو اعتكف في رمضان أجزأه، صرح به الرافعي في كتاب النذر في الكلام على نذر إتيان المسجد الحرام، وقد ذكره المصنف هناك في قول الشيخ: وإن نذر أن يمشي إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). الأمر الثاني: أن ما أسنده إلى أبي علي الطبري من عدم وجوب الجمع وتفسير لفظ الشافعي، وقع لصاحب ((الشامل)) فقلده فيه الشاشي ثم الرافعي ثم المصنف، وليس كذلك، فإنه ذكر في ذلك احتمالين ولم يرجح شيئًا منهما، فقال ما نصه: قال الشافعي: ((إن نذر اعتكافًا بصوم فأفطر، استأنف))، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يستأنف الصوم والاعتكاف جميعًا، لأنه لم يأت به على حسب شرطه، والثاني: يأتي بالصيام دون الاعتكاف، لأن الصيام ينفرد عن الاعتكاف، وينفرد الاعتكاف عنه. هذا لفظه، ومن ((الإفصاح)) نقلته. وقول ابن الرفعة في أول المسألة: إن الرافعي صرح بنفي الخلاف، أراد به لزوم الاعتكاف في أيام الصوم، ولم يرد به عدم التفرقة بين أن يصوم لأجل الاعتكاف أو لغيره، فاعلمه، فإن كلام المصنف موهم، والمذكور في ((الرافعي)) هو ما ذكرته. قوله: والأفضل أن يكون في الجامع. ثم قال: أما إذا قلنا بصحته، أي: صحة اعتكاف المرأة في مسجد بيتها- فيجوز أن يقال: إنه في مسجد بيتها أفضل، لأنه أستر لها، ويجوز أن يقال: إنه في المسجد أفضل، للخروج من الخلاف. والتي يكره لها الاعتكاف في المسجد، وهي التي يكره لها حضور الجماعات- فالاعتكاف في المسجد الجامع في حقها أشد كراهة. انتهى كلامه. ومقتضاه أنه لم يقف في هذه المسألة على نقل، وهو غريب، فقد نص الشافعي

على كراهة اعتكافها في غيرها، كذا ذكره القاضي الحسين في ((تعليقه))، والشيخ أبو حامد فيما علقه عنه البندنيجي، وسليم الرازي في ((المجرد))، وابن الصباغ في ((الشامل)) والشاشي في ((الحلية)) و ((المعتمد))، والعمراني في ((البيان))، وقال المحاملي في ((المجموع)): إن اعتكافها في بيتها أفضل. ولم يعبر بالكراهة، وأغرب من هذا أن المصنف نفسه قبل هذا الموضع بنحو ورقتين قد نقل عن ابن الصباغ والقاضي الحسين ما نقلته عنهما من كراهة الشافعي اعتكافها في غيره. قوله- في الكلام على نذر الاعتكاف في غير المساجد الثلاث-: ولأجل ذلك قال الرافعي: إن القول بالتعيين هو الأصح. وقال في ((البحر)): إنه غير صحيح. والمسألة على قول واحد: أنه لا يتعين، وكلام الشافعي محمول على الاستحباب، أو على ما إذا كان قد عين أحد المساجد الثلاثة ... إلى آخره. وما ذكره هنا عن الرافعي من تصحيح التعيين نقله عنه- أيضًا- في باب النذر، وهو غلط على الرافعي، فإن الأصح في ((الشرحين: الكبير، والصغير)): أنه لا يتعين، وصححه- أيضًا- النووي. قوله: كما لا يتعين الزمان لنذر الصلاة والصدقة. انتهى. وما ذكره من أن الزمان لا يتعين في الصلاة، قد ذكر في باب النذر في الكلام على نذر صوم سنة بعينها ما حاصله: أنه يتعين. قوله: وإن خرج لصلاة الجمعة بطل اعتكافه. ثم قال: وما ذكره الشيخ في الجمعة هو الذي نص عليه الشافعي في عامة كتبه، وقد حكى عن نصه في ((البويطي)): أنه لا يبطل بالخروج إليها، لأنه فرض فكان ملحقًا بما ذكرناه، قال مجلي: وعلى هذا يحتمل أن يقال: له أن يقيم بقدر سماع الخطبة والصلاة ولا يزيد، ويحتمل أن يقال: له أن يفعل مع ذلك السنة كما صار إليه أبو حنيفة، فإن زاد على القدر المشروع بطل تتابعه. انتهى كلامه. وإقرار مجلي على هذا الفرع الذي ذكره غريب، فإنه لا يأتي إلا إذا عين في نذره مسجدًا، وقلنا يتعين، وهو وجه ضعيف. نعم، إذا عين المسجد الحرام أو المدينة أو الأقصى تعين، إلا أن الجمعة تقام في هذه الثلاثة. قوله: ولو خرج لقضاء الحاجة، فعاد في طريقه مريضًا: فإن لم يقف ولا عدل عن الطريق لم يضره، وإن وقف وأطال بطل اعتكافه. ثم قال ما نصه: وإن قصر فوجهان- أو قولان، كما حكاهما في ((التتمة)) و ((العدة))

- والأصح: أنه لا بأس. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن صاحب ((التتمة)) و ((العدة)) جعلا الخلاف قولين، أو ترددا بين القولين والوجهين، وليس كذلك، ففي ((الرافعي)) عنهما: أنهما جعلاه وجهين، وهو كذلك في ((التتمة)) - أيضًا- وأما ((العدة)) فالمراد بها ((عدة)) أبي المكارم الروياني ابن أخت صاحب ((البحر))، ولم أظفر أنا ولا المصنف- أيضًا- بهذا التصنيف، لكن في ((الرافعي)) عنه ما ذكرته، وإنما نقل المصنف عنه منه. قوله: وحكى القاضي الحسين عن النص: أن له أن يصلي على الجنازة، وأجرى في ((التتمة)) الوجهين فيها أيضًا. ثم قال ما نصه: وقال في ((التهذيب)): إن كانت متعينة فلا بأس، وإلا فوجهان، أظهرهما: الجواز. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله- رحمه الله- عن ((التهذيب)) غلط منه عليه من وجهين، فإن المذكور في ((التهذيب)) عكس ذلك بلا تصحيح- أيضًا- فإنه قال ما نصه: ولو صلى على جنازة في الطريق بطل اعتكافه إن لم يتعين، وإن تعين ففيه وجهان. هذا لفظ البغوي بحروفه. واعلم أن الرافعي قد غلط- أيضًا- على البغوي فقال: ولو صلى في الطريق على جنازة فلا بأس إذا لم ينتظرها ولا أزور عن الطريق، وحكى صاحب ((التتمة)) فيه الوجهين، وقال في ((التهذيب)): إن كانت متعينة فلا بأس، وإلا فوجهان، والأول أظهر. هذا كلام الرافعي، فوقع المصنف في نسبة عكس ما قاله إليه تقليدًا للرافعي، وفي دعوى أنه جعل الأظهر الجواز، للإيهام الذي حصل في آخر كلام الرافعي حيث قال: ((والأول أظهر))، فإنه من كلام الرافعي، مشيرًا بذلك إلى الطريقة، فتوهم المصنف أنه من تتمة كلام البغوي، فصرح هو به، وهذه آفات النقل عن المتأخرين، ولأجل ذلك عنيت بجمع كتب الشافعي وكتب الأقدمين حسب الطاقة، فرارًا من التقليد، وبالجملة فهذه الطريقة لا ثبوت لها، فإني لم أظفر بها بعد الكشف التام. قوله- في المسألة-: ولو عرج في طريقه لأجل عيادة المرضى يسيرًا فوجهان حكاهما البغوي والمتولي- أيضًا- وأصحهما: القطع، لأنه تشاغُلٌ يسير لغير قضاء الحاجة. انتهى كلامه. وما ذكره من أن البغوي قد حكى الوجهين غلط، وإنما قطع بالبطلان فقال: لو مكث عنده ساعة، أو احتاج إلى العدول عن الطريق أو الوقوف للاستئذان- بطل. هذا لفظه.

قوله: وإن باشر فيما دون الفرج بشهوة، أي: كما إذا قبل أو لمس أو فأخذ ونحو ذلك مما ينقض الوضوء وفاقًا، أو على رأي، كما قاله الإمام- ففيه قولان، وجه البطلان: قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]. ثم قال: وعن الشيخ أبي محمد والمسعودي حكاية طريقة قاطعة بهذا القول. ووجه عدم البطلان ... إلى آخر ما قال. واعلم أن المنقول عن حكاية الشيخين المذكورين إنما هو القطع بالقول الثاني وهو عدم الإبطال، كذا نقله الرافعي في ((الشرح الكبير))، وذكره في ((الصغير)) بعبارة هي أوضح من عبارة ((الكبير))، وكأن المصنف قد وقعت له نسخة سقيمة من ((الرافعي)) في هذا الموضع فاعتمد عليها، وقد أمعنت الكشف عن هذه الطريقة من الكتب المبسوطة كـ ((البحر)) ونحوه فلم أظفر بها، ولم يذكرها- أيضًا- النووي في ((شرحه للمهذب)) مع كثرة جمعه، بل ذكروا كلهم القطع بعدم البطلان.

كتاب الحج

كتاب الحج قوله: والعمرة واجبة في أصح القولين، والثاني: لا، لما روى الترمذي عن جابر أنه- عليه الصلاة والسلام- سئل عن العمرة: أهي واجبة؟ فقال: ((لا، وأن تعتمر فهو أفضل))، وأجاب الأول عن الحديث بأن في رجاله ابن أرطاة وابن لهيعة وهما ضعيفان. انتهى. وما ذكره من أن الحجاج بن أرطاة رفعه فقد قال غيره: فإن الترمذي رواه عنه عن محمد ابن المنكدر عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان المحفوظ- كما قاله البيهقي- إنما هو وقفه على جابر. وأما دعواه أن ابن لهيعة رواه عن جابر مرفوعًا فغلط وقع لصاحب ((المهذب))، فقلده فيه المصنف، بل الذي رواه المذكور إنما هو عدم الوجوب، قال البيهقي: روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: ((الحج والعمرة فريضتان واجبتان)) قال: إلا أن إسناده ضعيف. وقد ذكر النووي في ((شرح المهذب)) - أيضًا- هذا الاعتراض. وابن لهيعة: هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي قاضي مصر، ويكنى أبا عبد الله. ولهيعة: بلام مفتوحة، ثم هاء مكسورة، بعدها ياء بنقطتين من تحت، وبالعين المهملة، لم يذكر له الجوهري، ولم يزد على قوله: إنه اسم رجل. قوله: وإذا دخل إلى مكة لحاجة لا تتكرر ففي وجوب الإحرام قولان: فإن أوجبنا فتركه فقد قيل: لا قضاء عليه، لعدم إمكانه، فإنه لو خرج ليقضي فعوده يقتضي إحرامًا جديدًا، فلا يمكنه تأدية القضاء لذلك. وعلى هذا: لو صار حطابا أو صيادًا وجب عليه، ونسب في ((المهذب)) ذلك إلى صاحب ((التخليص)). وقيل: يجب القضاء، وطريقه: أن يتصور بعبور المترددين الذين لا يلزمهم الإحرام للدخول كالحطابين، وينسب هذا- أيضًا- إلى صاحب ((التلخيص))، قال الإمام: وهو في غاية البعد. انتهى كلامه. وهذا النقل المذكور ثانيًا عن صاحب ((التخليص)) غلط، فإن الذي ذهب إليه هو ما نقله في ((المهذب)) عنه، فقال في أول الحج من ((التخليص)) ما نصه: وكل عبادة

واجبة على المرء إذا تركها فإن عليه القضاء والكفارة، إلا واحدة وهو الإحرام لدخول مكة، فإنه واجب، ومن تركه فلا قضاء عليه ولا كفارة، إلا في مسألة واحدة قلتها تخريجًا: وهو أن رجلًا لو دخل مكة بغير إحرام ولم يكن حطابًا فلا قضاء عليه، وإن صار حطابًا فعليه القضاء في القول الذي لا يوجب الإحرام على الحطابين. هذا لفظ ((التخليص)) ومنه نقلت: قوله: إحداها: أن يدخل لحاجة تتكرر كالحطابين والصيادين فلا يجب عليهم الإحرام، وقيل بطرد القولين، وقال في ((البحر)) عن صاحب ((التلخيص)): إنه قال: إن قلنا في غيرهم: لا يلزمهم الإحرام، فهؤلاء أولى، وإلا فوجهان. انتهى. وهذا النقل عن صاحب ((التلخيص)) سهو، فإن حاصله: أنه حكى قولين فيمن لا يتكرر، وطريقة فيمن تكرر، إحداهما: الجزم، والثانية: ذات وجهين، وليس كذلك، فإن صاحب ((التلخيص)) جازم بالوجوب فيمن لا يتكرر، وجازم بحكاية قولين فيمن يتكرر، فإنه قال ما نصه: ويجب على كل من أراد دخول مكة للإحرام بحجة أو عمرة، إلا على واحد وهو المملوك، وفيه قول: أنه رخص للحطابين ومن دخلها لمنافع أهلها. هذا لفظه بحروفه، ثم راجعت ((البحر)) فوجدته إنما نقل ذلك عن صاحب ((الإفصاح))، ثم راجعت ((الإفصاح)) فوجدت الأمر فيه كما نقله في ((البحر)) عنه، إلا أنه لم يصرح بوجهين، بل قال: فيحتمل وجهين. هذا لفظه. قوله: القسم الثاني: أن يدخلها مقاتلًا لباغٍ أو قاطع طريق، أو خائفًا من ظالم- فلا يلزمه الإحرام، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، ولو كان محرمًا لم يلبسه، وقد كان خائفًا من غدر الكفار وعدم قبولهم للصلح الواقع بينه وبين أبي سفيان. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- في هذا الفصل قد ذكره- أيضًا- غيره، وفيه أمور: أحدها: أن الاستدلال على عدم الوجوب في حق هؤلاء بلبس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذهولٌ وغفلة، وذلك لأن من خصائصه- عليه الصلاة والسلام- جواز دخول مكة بغير إحرام على القول بالوجوب على غيره، كما ذكره الرافعي وغيره في كتاب النكاح. الأمر الثاني: أن قوله: ولو كان محرمًا لم يلبسه، مع قول: وقد كان خائفًا من غدرهم- كلام متدافع غير مستقيم، فإن المحرم الخائف يباح له اللبس بلا خلاف. نعم، يستدل بما روى مسلم عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. هذا لفظ إحدى روايات مسلم.

الأمر الثالث: أن تعليل ترك الإحرام واللبس بالخوف كيف يجتمع مع قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]؟! وفي الحديث: ((لما نزلت هذه الآية ترك الحرس)). قوله: وقد حكى في ((البحر)) عن والده فيما إذا كان قد وجد الزاد والراحلة في حال ردته، ثم أسلم ومات في الحال: هل يقضي عنه أم لا؟ فيه قولان، بناء على أن الردة تزيل الملك أم لا: فإن قلنا: تزيله، لا يلزمه الحج، لأن ملكه زال عن الزاد والراحلة قبل استقرار الحج عليه، وهما شرطان في الوجوب، فصار كزوال الملك بالتلف. وإن قلنا: لا تزيل الملك، لزمه. انتهى كلامه. وهذا التصوير الذي نقله- رحمه الله- عن ((البحر)) مخالف للمذكور فيه، فإن صاحب ((البحر)) قال ما نصه: فرع: قال والدي- رحمه الله-: إذا ارتد الرجل بعدما وجد الزاد والراحلة وقبل إمكان الأداء، ومضى وقت الحج في الردة: هل يلزمه الحج حتى إذا أسلم ومات في الحال هل يقضى عنه أم لا؟ فيه قولان، بناء على أن الردة تزيل الملك أم لا. هذا لفظه ذكره في أواخر الحج، قبيل باب قتل المحرم للصيد. قوله: وإن أحرم- أي: المميز- بغير إذن الولي، وصححناه- قال الرافعي: فالزائد على نفقة الحضر يكون على الولي إن لم يحلله. انتهى كلامه. لم يصرح الرافعي بأنه على الولي، فإنه عبر بقوله: إذا أحرم بغير إذنه وجوزناه حلله، فإن لم يفعل أنفق عليه. هذه عبارته، ولم يبين هل ينفق من ماله أو مال الولي. قوله: فرع: لو أراد المولى أن يحرم عن العبد، قال الإمام: إن كان بالغًا فليس له ذلك، وهو يحرم عن نفسه. وسكت عن العبد الصغير، والقياس: أن يكون الحكم فيه كما في تزويجه. انتهى. وقد رأيت في ((الأم)) الجزم بالصحة، فقال في أول كتاب الحج: وإذا أذن للمملوك بالحج، أو أحجه سيده- كان حجه تطوعًا. هذا لفظ الشافعي، ومن ((الأم)) نقلته، وأقل مراتبه حمله على الصغير، والتخريج على النكاح مردود، فإن هذا فيه ثواب وتمرين على العبادة من غير لزوم مال، ولهذا جوزناه للوصي والحاكم، بخلاف الإجبار على التزويج. قوله- في شروط الاستطاعة-: وأن يكون ذلك فاضلًا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم، وقيل: يباعان، وفرقوا بينه وبين الكفارة: بأن العتق في الكفارة له بدلٌ معدول إليه، بخلاف الحج، لكن الذي أورده الأكثرون: الأول. انتهى كلامه.

وما نقله عن الأكثرين هنا قد نقل عنهم عكسه في كتاب الظهار كما تقف عليه في موضعه- إن شاء الله تعالى- والمذكور هنا هو الصواب. قوله: ولا يلتحق بالمسكن والخادم الحاجة إلى التزويج، فيقدم الحج عليه، اللهم إلا أن يخاف العنت، فيكون صرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج. هذه عبارة الجمهور، كما قال الرافعي، وعللوه بأن حاجة النكاح ناجزة، والحج على التراخي، قال: والأسبق إلى الفهم من التقديم الذي أطلقوه: أنه لا يجب الحج والحالة هذه، ويصرف ما يملكه إلى مؤنات النكاح، وقد صرح الإمام بهذا المفهوم. قلت: الذي حكاه الإمام عن العراقيين العبارة المذكورة. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- مستدركًا على الرافعي من أن الإمام إنما حكى عن العراقيين ما ذكره الجمهور في عبارتهم، غلطٌ عجيب، فإن الإمام قد قال ما نصه: قال العراقيون: لو فضل شيء، وخاف العنت لو لم يتزوج، وكان بحيث يباح له نكاح الأمة- لم يلزمه أن يحج، بل له صرف المال إلى النكاح، لأنه في حكم ضرورة ناجزة، والحج على التراخي، فإذن لا استطاعة ولا وجوب. هذا لفظ الإمام بحروفه، وكأن المصنف اقتصر على نقل أول الكلام ولم ينظر آخره، فوقع في هذا الغلط الفاحش، إذ لا ينبغي الاستدراك إلا بعد تثبت. قوله: لما روى البخاري ومسلم أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عبادة أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم)). قالت: أينفعه ذلك؟ قال: ((نعم، كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه))، فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط، فوجب أن يتساويا في الحكم. انتهى كلامه. واعلم أن هذه الزيادة- وهي قوله: قالت: أينفعه ... إلى آخر الحديث- ليست في ((الصحيحين)) ولا في أحدهما، بل فيهما الحديث بدونها. نعم، رواها في الحديث المذكور الشافعي في ((الإملاء))، ورواها- أيضًا- أحمد والنسائي بإسناد جيد كما قاله النووي في ((شرح المهذب))، لكن عن رجل لا عن امرأة. قوله: واعلم أن قول الشيخ: ((ولا يؤدي نذر الحج وعليه فرض الإسلام))، يجوز أن يريد بفرض الإسلام: حج الإسلام، ويجوز أن يريد به فرض الإسلام من حج أو عمرة على الجديد، حتى إنه إذا كان قد حج الفرض ولم يعتمر لا يحرم بحجة نذرها، وهذه الصورة لم أقف فيها على شيء، لكن الذي يظهر الجواز، إذ لو امتنع ذلك

لامتنع أن يحرم بالعمرة تطوعًا من اعتمر عمرة الإسلام ولم يحج. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الوقوف على هذه المسألة غريب، فقد صرحوا بجواز استئجاره ليحج عن الغير، حتى فرع الرافعي قبيل باب المواقيت على ذلك فرعًا فقال: لو استأجر للحج من حج ولم يعتمر، أو للعمرة من اعتمر ولم يحج، فقرن وأحرم بما استؤجر له عن المستأجر، وبالآخر عن نفسه- ففيه قولان، الجديد: أنهما يقعان عن الأجير. هذا كلامه، فإذا صحح حجه عن الغير تطوعًا فلأن يحج عن نفسه حجًا واجبًا أولى. قوله: قال: والإفراد: أن يحج، ثم يخرج إلى أدنى الحل ويحرم بالعمرة. هذا التفسير وافق الشيخ فيه البندنيجي وغيره، وهو إن أريد بيان حقيقة الإفراد فهو يخرج من أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم حج من الميقات، ومن لم يحرم إلا بالحج من الميقات في سنة- عن أن يكون مفردًا، وقد قال القاضي الحسين والإمام: إنه مفرد في كل واحد منهما بلا خلاف. وصرح به الغزالي في الأولى. وإن أريد به بيان الإفراد الذي هو أفضل من التمتع والقران فهو يخرجهما- أيضًا- لكن قد صرح بإخراج الأخير وإدخال الأول الرافعي حيث قال: إن محل كون القران أفضل إذا اعتمر في تلك السنة، أما لو أخر فكل واحد من التمتع والقران أفضل منه، لأن تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه ... إلى آخر ما قاله. اعلم أن الرافعي لما ذكر صورة التمتع- وهي الإحرام بالحج بعد الفراغ من العمرة- ذكر لوجوب الدم شروطًا، منها: الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، ومنها: ألا يعود في الإحرام بالحج إلى ميقات من المواقيت الشرعية ... إلى آخر الشروط المعروفة في وجوب الدم. ثم حكى خلافًا في أنها هل هي شروط لوجوب الدم فقط، أم لكونه متمتعًا؟ وقال: إن الأشهر الأول حتى يكون متمتعًا لا دم عليه. وإذا تقرر ذلك فالكلام مع المصنف في أمرين: أحدهما: فيمن أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم حج من الميقات، فإن حاصل كلامه فيه الاعتراض على الشيخ في الحكم عليها بعدم الإفراد، وأن ذلك لا خلاف فيه، وقد تقرر من كلام الرافعي أن المشهور هو ما دل عليه كلام الشيخ، غير أن الرافعي ذكر ذلك فرعًا في آخر المسألة، فذهل المصنف عنه. الأمر الثاني: وهو مستمد- أيضًا- مما قلنا: إنه نقل عن الرافعي أن هذه الصورة أفضل من التمتع والقران، وهو غلط سببه أنه بناه على أن الرافعي يجعل هذه من

صور الإفراد، ثم إنه رأى كلامه في الإفراد يقتضي أن تفضيله دائر مع وقوع العمرة في سنة الحج، تقدمت أو تأخرت، فحكم بتفضيل هذه الصورة، والفرض أنها ليست من الإفراد أصلًا، فما دل عليه كلام الرافعي وهو أن شرط تفضيل الإفراد اعتماره في تلك السنة صحيح، إلا أن الإفراد عنده أن تكون العمرة بعد الحج، فإن تقدمت كان تمتعًا، سواء وقعت في أشهر الحج أو قبله. قوله: ولو أدخل الحج على العمرة بعد أن أفسدها، فقيل: ينعقد الحج صحيحًا، وقيل: ينعقد فاسدًا، وقيل: لا ينعقد. ثم قال ما نصه: وإذا قلنا: يكون فاسدًا، فهل ينعقد على الصحة ويفسد على الاتصال، أو ينعقد على الفساد؟ فيه احتمالان. انتهى كلامه. وهو يقتضى أنه لم يقف في هذه المسألة على نقل، وهو غريب، فقد صرح الرافعي بالمسالة، وحكى فيها وجهين، فقال: فعلى هذا ينعقد فاسدًا، أو صحيحًا ثم يفسد؟ فيه وجهان. هذا لفظه، ثم صحح الأول، ذكر ذلك قبيل الفصل الثاني المعقود لتبيين الإحرام، وكان عذر المصنف في عدم وقوفه عليه أنه مذكور في غير مظنته. قوله: ولا يجب الدم على القارن والمتمتع إلا إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام، وحاضر والمسجد الحرام: أهل الحرام ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، والمتبادر إلى الفهم: أنهم المستوطنون ذلك، دون المقيمين فيه والمسافرين الحاصلين فيه. ثم قال ما نصه: وقد علل في ((الوجيز)) عدم إيجاب الدم عليه فيما إذا عن له الإحرام بالعمرة بعد دخوله مكة بأنه صار من الحاضرين، إذ ليس يشترط فيه قصد الإقامة. وقال الرافعي عقبه: إن هذا لم أجده لغيره بعد البحث، بل كلام عامة الأصحاب ونقلهم عن نصه في ((الإملاء)) و ((القديم)) ظاهر في اعتبار الإقامة، بل في اعتبار الإقامة، بل في اعتبار الاستيطان، مع أن الصورة أولًا متعلقة بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الإحرام بحج أو عمرة. قلت: وما أنكره إن كان هو الحكم فهو ما أورده الماوردي حيث قال: من مر بميقات بلده يريد حجًا أو عمرة، فلم يحرم من ميقاته، بل جاوزه وأحرم من الحل- ينظر في موضع إحرامه: فإن كان بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة فلا دم عليه لتمتعه ولا لقرانه، لأنه قد صار كحاضري المسجد الحرام. وكذا القاضي الحسين عند عد شرائط إيجاب الدم على المتمتع: الشرط الخامس: أن يحرم بالعمرة من الميقات، فإن جاز الميقات ثم أحرم بها لم يلزمه دم التمتع، وعليه

دم الإساءة، نص عليه، فمن أصحابنا من قال به. ومنهم من قال: إن بقي بينه وبين مكة مسافة القصر يلزمه دم المتعة ودم الإساءة، وإن بقي دون مسافة القصر لم يلزمه دم المتعة، ويلزمه دم الإساءة، وحمل النص عليه. وقد حكى الرافعي- أيضًا- هذا في موضع آخر، والنص المذكور نسبه الشيخ أبو حامد إلى القديم، وكذلك البندنيجي ولم يحك سواه. وإن كان ما أنكره كونه جعله من حاضري المسجد الحرام فهو قريب، لأن غيره قال: إنه كهم كما ذكرنا، وإذا كان كهم صدق عليه أنه منهم تجوزًا، والله أعلم. هذا آخر كلامه، رحمه الله! واعلم أن هذه المسالة التي نقلها عن الماوردي مستدركًا بها على الرافعي في قوله: إنه لم يجدها لغير الغزالي- لست هي المسألة التي تكلم فيها، لأن مسألة الغزالي أن يجاوز غير مريد للنسك، وصورة المسألة التي نقلها عن الماوردي: أن يجاوز مريدًا له، بل قد ذكر الماوردي- أيضًا- مسألة الغزالي بعينها، فقال: إذا صح أن أهل مكة وحاضريها لا دم عليهم في تمتعهم وقرانهم فكذلك من دخلها لا يريد حجًا ولا عمرة، ثم اراد أن يتمتع أن يقرن- فلا دم عليه. هذا كلام الماوردي، والعجيب من المصنف حيث ترك هذه التي هي عين مسألة الغزالي وذكر غيرها.

باب المواقيت

باب المواقيت قوله: ولو جاوز الميقات مريدًا للنسك، وأحرم دونه حرم عليه ذلك، ولزمه دم، فإذا عاد إلى الميقات محرمًا سقط الدم على الصحيح. ثم قال: وعلى هذا قال في ((البحر)): يكون من أراد النسك مخيرًا بين ثلاثة أشياء: بين أن يحرم قبل الميقات، وبين أن يحرم دونه ثم يعود إليه، ولا يكون مسيئًا في واحد منهما، وعلى قول من قال: لا يسقط الدم، لا يخرج عن الإساءة بذلك. فجعل كونه مسيئًا وغير مسيء مبنيًا على الوجهين. وفي ((ابن يونس)) تفريعًا على قول السقوط: أنه هل يكون مسيئًا أم لا؟ فيه وجهان، ولعله أخذهما من إطلاق صاحب ((الفروع)) القول بأنه إذا مر بالميقات مريدًا للنسك، وجاوزه ولم يحرم، ثم أحرم دونه وعاد إليه- فظاهر المذهب: أنه لا يكون مسيئًا، وقيل: هو مسيء بأصل المجاوزة. وهذا الإطلاق يمكن حمله على ما قال في ((البحر))، فلا تمسك به. انتهى كلامه. وحاصله: أنه لم يطلع على خلاف في الإساءة تفريعًا على قول السقوط، فلذلك أنكر على ابن يونس إثبات الخلاف، وزعم أن صاحب ((الفروع)) أطلقه، وتوهم أنه أخذه من إطلاقه، وليس الأمر كذلك، بل قد صرح صاحب ((البيان)) بالوجهين تفريعًا على هذا القول، وأن صاحب ((الفروع)) نقلهما كذلك، ومن ((البيان)) أخذ ابن يونس، ورأيت في كتاب ((القولين والوجهين)) للمحاملي مثله- أيضًا- فقال ما نصه: يسقط عنه الدم، وظاهر المذهب: أنه لم يسيء بذلك ولم يأثم، ومن أصحابنا من قال: أساء وأثم. هذه عبارته. واعلم أن مراد صاحب ((البيان)) بصاحب ((الفروع)) هو سليم الرازي، كما أوضحته في كتاب ((الطبقات))، فاعلمه.

باب الإحرام وما يحرم فيه

باب الإحرام وما يحرم فيه قوله: أما التطيب في ثوبه فقد قال في القديم: واجب أن يجمر رحله وثيابه. فمنهم من أجراه على ظاهره، وقال: له أن يطيب ثياب بدنه للإحرام كما يطيب بدنه، ويكون مستحبًا كما حكاه القاضي الحسين، وهو الذي صححه الإمام. انتهى كلامه بحروفه. وما نقله- رحمه الله- عن الإمام من أن الصحيح إجراء القديم على ظاهره، حتى يجوز له ذلك، ويكون مستحبًا- سهو منه، فإن الإمام إنما صحح الجواز فقط، ولم يتعرض لكونه مستحبًا، فقال ما نصه: ولو طيب المحرم قبل الإحرام إزاره أو رداءه، وتوشح واتزر، ثم أحرم- فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ذلك يسوغ كما يسوغ تطييب البدن، والثاني: لا يجوز، فإن الطيب يبقى على الثوب وينمحق على البدن، والثالث: أنه إن لم يكن عينًا فلا بأس، وإن كان عينًا لم يجز، والأصح: أنه لا يمنع تطييب الثوب. هذا لفظه بحروفه، ولم يذكر ما يخالفه. قوله: ولو نوى إحرامًا كإحرام زيد، وكان إحرام زيد فاسدًا- ففي انعقاده مطلقًا وعدم انعقاده وجهان في ((تعليق)) أبي الطيب مشبهان بوجهين حكاهما فيما لو نذر صلاة فاسدة: هل يلزمه صلاة صحيحة، أو لا يلزمه شيء؟ وقال في ((الروضة)): إن الصحيح: الثاني. انتهى كلامه. وهو يوهم أن تصحيح النووي عائد إلى المسألة الأولى فقط، لكونها هي المقصودة بالذكر، وحكاية الوجهين في الصلاة لغرض التشبيه، أو يعود إليهما معًا، وليس الأمران كذلك، بل صحح في مسألة الإحرام من ((زياداته)) انعقاده، وصحح في الصلاة عدم الانعقاد. قوله: وإن أحرم بنسك، ثم نسيه- ففيه قولان: الجديد: أنه ينوى القران، وظاهر كلام الشافعي في ((الأم)) و ((الإملاء)): أنه يلزمه ذلك، وهو المفهوم من كلام الأصحاب، وبه صرح الماوردي، وفي ((النهاية)): أنه لا يجب. ثم قال عقبه: وإذا نوى القران وأتمه سقط عنه حجة الإسلام بلا خلاف، وهل تسقط عمرته؟ إن جوزنا إدخال العمرة على الحج فنعم، وإن منعنا فالمذهب في

((تعليق)) البندنيجي وغيره: أنها لا تسقط، عن أبي إسحاق: أنها تسقط، لأن النسيان ضرورة. قال في ((البحر)) وغيره: إنه ضعيف. انتهى. واعلم أن حاصل كلامه أن المعروف وجوب نية القران، وأن الحج فقط يحصل له. إذا علمت ذلك، فاعلم أنه إذا نوى الحج فقط حصل به لا شك، لأنه إن كان محرمًا بالحج فقط، أو بالقران فتجديد نية الحج لا تضر، وإن كان محرمًا بالعمرة حصل له الحج- أيضًا- لأن إدخاله عليها جائز، فإذا كان الحج حاصلًا إذا نواه ولم يزد عليه، ولا يحصل له بنية القران زيادة عليه- أعني على الحج- فكيف يعقل مع ذلك إيجاب نية العمرة- أيضًا- لأنه إيجاب شيء لا فائدة فيه أصلًا؟! ورأيت في ((المجموع)) للمحاملي: أن أبا إسحاق له في حصول العمرة وجهان: أحدهما: ما جزم المصنف بنقله عنه، والثاني: كمقالة الجمهور. قوله: ثم لو زاد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مكروهًا. ثم قال: وقد حكى الشيخ أبو حامد أن أهل العراق ذكروا عن الشافعي: أنه يكره الزيادة على ذلك، وغلطوا فيه، فإن المنقول عنه ما ذكرناه، وهو ما أورده الفوراني. انتهى كلامه بحروفه. واعلم أن الفوراني قد جزم بكراهة الزيادة، كذا رايته في ((الإبانة)) له. قوله: تنبيه: لبيك: من ((التلبية))، وهي إجابة المنادي، والقصد بها هاهنا إجابة إبراهيم- على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام- التي أمر بها، كما تقدم في أول الباب. انتهى. وما ذكره من تقدم ذلك في أول الباب سهو. نعم، تقدم ذلك في أول كتاب الحج. قوله: قال: وإذا أحرم حرم عليه لبس المخيط في جميع بدنه. اعلم أن الشيخ- رحمه الله- قد ذكر بعد هذا مسألة أخرى، فقال: فإن فعل ذلك لزمه الفدية. ونسي المصنف هذه المسألة، فلم يتعرض لها ولا لشرحها. قوله: فإن لم يجد إزارًا جاز أن يلبس السراويل، أي: الذي لا يتأتى الاتزار به لو فتق. ثم قال: ولا يقال: ما الفرق بينه وبين القميص، حيث لا يجوز لبسه إذا لم يجد رداءً لإمكان ارتدائه بالقميص؟ لأنا نقول: المسألة مصورة في المحرم الذي لا يمكنه الاتزار بالسراويل لو فتق، أما إذا أمكن فالذي أورده الجمهور: أنه لا يجوز لبسه على هيئته. انتهى كلامه.

واعلم أنه إذا عدم الإزار، فإن تأتي الاتزار بالسراويل على هيئته فلا يجوز له لبسه بلا شك، كما في الارتداء بالقميص، وقد جزم به النووي في ((شرح المهذب))، وإن تأتى بعد فتقه جاز لبسه عند الأكثرين كما قاله الرافعي، فإنه نقل المنع عن الإمام والغزالي فقط. ثم قال: لكن الأصح عند الأكثرين إنما هو الجواز. وذكر مثله في ((الشرح الصغير)) - أيضًا- وبالغ فيه النووي في ((شرح المهذب)) فحكى طريقين، وصحح طريقة القطع بالجواز، ونقلها عن الأكثرين. إذا علمت ذلك علمت أن جميع ما قاله المصنف خطأ، فتأمله، وقد تفطن المصنف لبعضه، فكتب على حاشية الكتاب أن المنقول في مشاهير الكتب خلافه. قوله: ويحرم عليه شم الأدهان المطيبة كدهن الورد والزنبق والبان المنشوش- وهو المغلي بالمسك ونحوه- بالقياس على المنصوص عليه. وقد أطلق الإمام الحكاية عن الشافعي: أن البان ودهنه ليس بطيب، وعن بعض المصنفين: أنه يعتبر عادة كل ناحية في طيبها، وقال: إنه فاسد، فإنه يشوش القواعد، وقال الغزالي: إنه غير بعيد. والأكثرون أطلقوا القول بأنه طيب، وقيده المصنف والماوردي والبغوي بأن يكون منشوشًا- وهو المغلي بالمسك ونحوه- وقالوا: إن البان غير المغلي ليس بطيب، قال الرافعي: ويشبه أن يكون من أطلق القول بأنه ليس بطيب، مراده: غير المنشوش، ومن أطلق بأنه طيب أراد: المنشوش. قلت: لكن كلام القاضي الحسين ينفي هذا الحمل، فإنه قال: البان يحرم على المحرم استعماله، سواء شمه، أو اتخذ منه الدهن واستعمله، أو عصر ماءه واستعمله. انتهى كلام ابن الرفعة. فيه أمور: أحدها: أن ما قاله الشيخ من تحريم شم الأدهان المطيبة، ووافقه عليه المصنف- مردود مخالف لكلامهم، لم أر أحدًا قد قال به، بل الذي قاله الأصحاب: أنا إذا قلنا: إن هذه الأدهان من الطيب، كان استعمالها حرامًا، هكذا عبروا به، ومنهم الشيخ في ((المهذب)) والنووي في ((شرحه)) له، والرافعي في كتبه، فلم يقل أحد منهم بتحريم الشم، بل الاستعمال، واستعمال مثلها إنما هو بالاستهلاك، ويؤيده تصريح المصنف تبعًا للأصحاب كلهم: أن شم ماء الورد لا يحرم. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الإمام عن بعض المصنفين، كلامه يقتضي أنه نقله في البان خاصة، وليس كذلك، بل حكاه- أعني الإمام- في كل طيب، فإنه بعد ذكره

لما يحرم من أنواع الطيب قال ما نصه: فهذا قولنا فيما يكون طيبًا، وقد ذكر بعض المصنفين أن من أصحابنا من يعتبر عادات كل ناحية فيما تتخذ طيبًا، وهذا فاسد مشوش للقواعد، ولا خلاف أن ما يطعم في قطر ملتحق بالمطعومات في الربا. هذا لفظه بحروفه، وهو صريح في تعميمه، لا في البان بخصوصه، والذي أوقع المصنف فيما وقع فيه: أن البان وقع تأخيره عن سائر أنواع الطيب، وتعقيب هذا النقل له على سبيل الاتفاق، فتوهم المصنف عوده إليه لعدم تأمله للكلام بآخره. الثالث: أن ما قاله- رحمه الله- من الرد على الرافعي بهذا الكلام المنقول عن القاضي، كلام عجيب، فإنه ليس فيه إلا أن البان طيب، وليس فيه تقييد بكونه منشوشًا أو غير منشوش، وهذا هو عين ما نقله الرافعي عن الجمهور. واعلم أن ((الزئبق)): بزاي معجمة مفتوحة، ثم نون ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة، ثم قاف، قال في ((شرح المهذب)): هو دهن الياسمين الأبيض، قال: ولم يخصه الجوهري بالأبيض، وهو لفظ عربي. وأما ((المشوش)): فبميم مفتوحة، ونون ساكنة، وشينين معجمتين- هو المغلي، قال الجوهري: النشيش: صوت الماء وغيره إذا على. قوله: ويجوز له النيلوفر والبنفسج، لأنهما لا يتخذ من يابسهما طيب، فأشبها الأترج والسفرجل، قال الإمام: وفي النفس من الأترج والنارنج شيء، وألحق التفاح بالسفرجل، وستعرف ما حكاه غيره فيه. انتهى. يعني أن غير الإمام قد حكى في التفاح ما يخالف كلام الإمام، ثم ذكر بعد ذلك ما أحال هذا الموضع عليه، فقال بعد حكاية القولين في الريحان الفارسي ما نصه: والريحان الفارسي هو الضميران المذكور في باب جامع الأيمان، والقولان يجريان- أيضًا- كما قال في ((المهذب)) في النرجس والنبق، وكذا في التفاح والمرزنجوش، كما قال البندنيجي تبعًا للشيخ أبي حامد والقاضي الحسين. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدهما: أنه كما فسر الريحان الفارسي هنا بالضميران المذكور في الأيمان فسر الضيمران المذكور هناك بالريحان الفارسي المذكور هنا، وهو تفسير دوري وقع غيره فيه أيضًا. الأمر الثاني: أن ما حكاه الشيخ في ((المهذب)) من جريان القولين في النبق غلط، فإن النبق لا ذكر له فيه بالكلية، ولهذا لم يتعرض له النووي في ((شرحه)) له، ويبعد

جريان الخلاف فيه، لما ستعرفه. الأمر الثالث: أن حكاية القولين في التفاح- أيضًا- غلط، بل يجوز شمه بلا خلاف كما هو موجود في كتب الأصحاب، وصرح بذلك- أعني بنفي الخلاف فيه- جماعة منهم النووي في ((شرح المهذب))، وكيف يمكن أن يقال بجريان القولين فيه، وبالجواز جزمًا في الأترج؟! وهو- أيضًا- يبطل ما ادعاه في النبق، ويوضح الوهم السابق ذكره، وهذا الذي وقع فيه المصنف سببه تحريف ((اللفاح)) الذي أوله لام بـ ((التفاح)) المعروف، فإن الجماعة الذين ينقل عنهم ذلك ذكروه في ((اللفاح)) وهو مثله في الحروف والوزن لفظًا وخطًا، إلا ما ذكرناه من أول هذا لام، وذاك تاء، وهو معروف أكبر من التفاح وأطيب رائحة، وقد نقل في ((شرح المهذب)) عن البندنيجي حكاية القولين في اللفاح- باللام- وهو أحد الجماعة الذين نقل عنهم المصنف ذلك، ولولا أن المصنف حين ذكر التفاح أولًا أحال على هذا الكلام- كما سبق- لكان يمكن أن يقال: إن ذلك سبق قلمٍ منه. قوله: قال الأصحاب: أما الجلوس عند الكعبة وهي تجمر- أي: تبخر- فلا يكره، وإن قصد ذلك لأجل الطيب، وأما الجلوس عند العطار وعند المتطيب فقد قال البندنيجي: إنه ينظر" فإن كان لغير شم الطيب لم يكره قولًا واحدًا، وإن كان لشم الطيب كره، وأطلق الرافعي حكاية قولين فيما إذا جلس عند الكعبة وعند حانوت العطار، وقال: إن أصحهما: الكراهة. وحكي عن القاضي الحسين: أن الكراهة ثابتة لا محالة، والخلاف في وجوب الفدية. والذي رايته في ((تعليقه)): أنه هل يكره أن يستنشق الروائح الطيبة؟ فيه وجهان، وينبغي أن يخرج في وجوب الفدية- إذا قصد الاستنشاق- وجهان، كالصائم إذا فتح فاه حتى وصل إلى جوفه غبار الطريق وغربلة الدقيق، فإن في حصول الفطر به وجهين. انتهى كلامه. واعلم أن التخريج الأخير- أيضًا- من كلام القاضي، إذا علمت ذلك ففيه أمور: أحدها: أن مقتضى كلامه في نقله عن الرافعي أنه لم يفصل بين أن يقصد الشم أو لا يقصد، بل حكى قولين، وصحح الكراهة، وليس كذلك، فإن المذكور في ((الرافعي)) إنما هو التفصيل، فقال: أحدهما: لو عبق به الريح دون العين، بأن جلس في حانوت عطار، أو عند الكعبة وهي تجمر، أو في بيت يجمر ساكنوه فلا فدية، لأن ذلك لا يسمى تطيبًا. ثم إن قصد الموضع لا لاشتمام الرائحة لم يكره، وإن قصده لاشتمامها كره على الأصح، وعن القاضي الحسين: أن الكراهة ثابتة لا محالة،

والخلاف في وجوب الفدية. هذا لفظ الرافعي، وقد ظهر لك- أيضًا- من كلام الرافعي: أنه لم يحك قولين بخصوصهما، بل حكى خلافًا محتملًا للقولين وللوجهين. نعم، جعله النووي في ((الروضة)) قولين. الأمر الثاني: أن ما نقله الرافعي عن القاضي الحسين لم يعزه إلى ((تعليقته))، بل عبر بقوله: وعن القاضي- كما تقدم- والنقل المذكور قد حكاه المتولي في ((التتمة)) عن لفظه، لا عن تصنيفه، فقال بعد حكاية القولين: وكان القاضي الإمام الحسين يقول: إذا قصد القعود عند العطار أو عند الكعبة لاستنشاق الرائحة فهو مكروه، والاختلاف في وجوب الفدية. هذا لفظ المتولي، ولما لم ينظره الرافعي في كلام القاضي عبر بقوله: ((وعن))، ولم يجزم به، تقليدًا للمتولي مع أنه تلميذ القاضي، وهذا في غاية الاحتراز والتحرير. ثم راجعت- أيضًا- ((التعليقة)) للقاضي فوجدته كما نقله المتولي أو قريبًا منه، فإنه بد ذكره لما نقله ابن الرفعة عنه من تخريج الوجهين في وجوب الفدية قال: ثم المستحب ألا يجلس عند العطارين، ولا يدخل البيت الذي يخزن فيه العود. هذا لفظه، فتلخص من ((تعليقة)) القاضي: أنه لا ينبغي له فعله، فإن فعل ففي الفدية وجهان، وهو عين ما نقله الرافعي، إلا أنه لم يصرح بالكراهة. وأما ما ذكره المصنف عن ((تعليقه)) القاضي فهو مسألة أخرى، لأن كلام الرافعي فيما إذا قصد الموضع لذلك، وهو أخص مما تكلم فيه ابن الرفعة، إذ يصح حمل الوجهين المذكورين في ((التعليقة)) على ما إذا لم يقصد الموضع ولكن وصل إليه في مروره، ونحو ذلك. الأمر الثالث: أن ما اقتضاه كلامه من مخالفة الرافعي للأصحاب وانفراده عنهم في حكاية الخلاف في الجلوس عند الكعبة بقصد الطيب، فليس كذلك، وعجب- أيضًا- فإن القاضي لما ذكر المسألة علل في آخرها عدم وجوب الفدية بقوله: لأنه لم يقصد الطيب. هذا لفظه، وقال في ((التتمة)): السابعة: إذا جلس عند الكعبة وهي تجمر، فإن لم يكن قصده اشتمام الرائحة بل قصده القربة فلا يكره، وأما إذا قصد الدنو من الموضع لأجل شم الطيب، ذكر الشيخ أبو حامد قولين: أحدهما: لا يكره، لأنه لم يحصل مستعملًا للطيب، والثاني: يكره. هذه عبارته، ثم نقل عن القاضي سماعًا ما هو أبلغ منه، وهو الجزم بالكراهة، كما سبق نقله عنه. وقال القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)): قد ذكرنا أن جلوسه عند العطار واجتيازه في سوق العطارين جائز، وكذلك جلوسه في الكعبة وهي تجمر، وكذلك إذا دخل البستان.

ثم قال: إلا أنه يكره له قصد هذه المواضع لشم الروائح. هذا لفظه، ولم يتعرض الإمام ومن تبعه- كالغزالي- للمسألة، بل إنما يتكلم عن الفدية وعدمها، وكذلك جماعة منهم الماوردي. نعم، ذكر البندنيجي في ((تعليقه)) كما ذكر المصنف. واعلم أن استمداد ((الكفاية)) من خمسة كتب: ((تعليقة)) القاضي الحسين، و ((تعليقة)) البندنيجي و ((تعليقة)) أبي الطيب، و ((النهاية)) و ((التتمة))، فهذه هي التي أغلب نقله منها، فلذلك لم أذكر لك ما عداها من الذين سووا بين الكعبة وغيرها. ويلي هذه الخمسة جماعة آخرون ينقل عنهم كثيرًا، وقد علمت أنه لم يقل بما ذكره من هؤلاء الخمسة إلا البندنيجي، وقد نقل النووي في ((شرح المهذب)) كلامه. ثم قال: وليس كما قال، بل المذهب طرد الخلاف في الجميع. فصح ما قاله الرافعي، وبطل ما دل عليه كلام المصنف من انفراده بذلك. قوله: الثاني: إذا قبل المحرم بيع الصيد أو هبته، وقبضه- فعليه رده إلى صاحبه. ثم قال: ولو لم يرده إلى صاحبه حتى مات في يده، وقد قبضه على حكم البيع والهبة- لزمه الجزاء، وضمنه لمالكه بالقيمة في البيع، دون الهبة، لأنه لم يدفعه إليه على أن يستحق لأجله عوضًا، كذا قال الشافعي نصًا في الهبة، وهو مبني على أصح الوجهين في ((الروضة)) في أن الهبة الفاسدة غير مضمونة، وقد سوى الرافعي بين الهبة والبيع والوصية، وجعل الكل مضمونًا عليه بالجزاء والقيمة. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من تسويته بين الأمور الثلاثة غلط، فإنه إنما أوجب الضمان في البيع خاصة كما هو الصواب، فقال بعد حكاية الخلاف في الثلاثة المذكورة ما نصه: فإن صححنا هذه العقود فذاك، وإلا فليس له القبض، فإن قبض فهلك في يده فعليه الجزاء لله- تعالى- والقيمة للبائع. هذا لفظه، فانظر كيف لم يذكر أنه تلزمه القيمة للمالك حتى تدخل فيه الهبة والوصية، بل خصص البائع باللزوم حتى تخرجا عنه، والذي أوقع المصنف في هذا الغلط هو النووي، فإنه بعد اختصاره لكلام الرافعي على الصواب حصل له ذهول عما قرره، بحيث أداه إلى أن ظن فيه خلاف ما هو عليه، فبادر إلى التصريح بما ظنه والاعتراض عليه، والمصنف هنا قد صرح بنقله عن ((الروضة))، فرأى هذا الموضع فقلده فيه، وهو موضع غريب، فراجع ((الروضة)) تتعجب لما وقع له. قوله: ولو صال عليه حلال راكب حمار وحش، ولم يتمكن من دفعه إلا بقتل الحمار- قال الصيدلاني: ففي الجزاء قولان للقفال، والذي أورده الأكثرون منهما:

وجوبه. انتهى كلامه. وما ذكره من أن القولين للقفال حتى يقتضي أنهما وجهان، ليس كذلك، ففي ((النهاية)) وكتب الغزالي: أن القفال حكاهما قولين، وكأن الموقع للمصنف في هذا إنما هو كلام وقع للنووي. قوله: وفي موضع آخر أيد الفرق- يعني: الإمام- بأنه لو حلف لا يدخل دارا، فدخلها مجنونًا- لم يحنث قولًا واحدًا، ولو دخلها ناسيًا ففيه قولان. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الإمام من نفي الخلاف في المجنون وأقره عليه، قد ذكر مثله- أيضًا- في كتاب الأيمان نقلًا عن البندنيجي، وليس كذلك، بل في المجنون- أيضًا- قولان حكاهما المصنف في باب الإيلاء عن ((التتمة)) و ((التهذيب))، ذكره عند قول الشيخ: قال: فإن جامع، وأدناه أن يغيب الحشفة في الفرج- فقد وفاها حقها. تنبيه: ذكر المصنف في هذا الباب ((الضماد))، وهو بكسر الضاد المعجمة بعدها ميم، وفي آخره دال مهملة: اسم للعصابة المجعولة على الجرح، تقول منه: ضمد الجرح يضمده ضمدًا، على وزن: أكل يأكل أكلًا، إذا شده بالضماد، وقد حرف المصنف هذه اللفظة، فاعلم ذلك.

باب كفارة الإحرام

باب كفارة الإحرام قوله: تنبيهان: أحدهما: أن كلام الشيخ يفهم أن المباشرة فيما دون الفرج بغير شهوة لا توجب الكفارة، وظني أني رأيته كذلك في كتب العراقيين، ويؤيده تقييدهم إيجاب الفدية بوجود الشهوة، سواء أنزل أم لم تنزل، لكن الماوردي قال فيما إذا قبل زوجته بشهوة: وجبت الفدية، وإنما قبلها وهو قاصد غير الشهوة، كما إذا قبل زوجته عند قدومه، وقصد تحية القادم، ولا شهوة- فلا تجب وإن لم يكن له قصد أصلًا، لكن ظاهر الحال يدل على أنه لم تكن شهوةٌ، كما إذا قبلها عند القدوم وهو غافل عن القصدين: فهل تجب؟ فيه وجهان، ووجه المنع: اعتبار ظاهر الحال، وهذا يدل على أن مجرد المباشرة توجب الفدية، إلا أن يقصد بغير شهوة. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن توقفه لا وجه له، فإن المعروف أنه لا حرمة ولا فدية حتى قال النووي في ((شرح المهذب)): وأما اللمس بغير شهوة فليس بحرام بلا خلاف، ولا فدية فيه بلا خلاف، وأما قول الغزالي: تحرم كل مباشرة تنقض الوضوء، فغلطوه فيه، هذا لفظه. نعم، ما ذكره النووي في انفراد الغزالي بذلك وتغليظه، ليس بجيد، فإن الإمام قد جزم بذلك أيضًا. الثاني: أن ما ادعاه من أن كلام الماودري يدل على إيجاب الفدية لمجرد المباشرة، غير مستقيم، لأن تقبيل المرأة موضوع للاستمتاع، فلا ينصرف إلا بقصده، فكيف يدل الإيجاب فيها على الإيجاب لمجرد المباشرة، مع أن المباشرة تتناول اللمس وغيره؟! قوله: أما القارن: فإن فسد حجه بالجماع فسدت- أيضًا- عمرته، وإن لم يفسد، كما إذا وجد منه بعد الرمي وقبل الطواف- لم تفسد عمرته وإن لم يأت بشيء من أعمالها، وهذا بناء على الصحيح في أن الحج لا يفسد بالجماع بعد التحلل الأول، أما إذا قلنا بفساده فسدت- أيضًا- وبه قال الأودني. انتهى كلامه. وحاصل ما نقله آخرًا عن الأدوني: أنه يوافق غيره في أن العمرة تبع للحج في الإفساد وعدمه، وأنه إنما أفسد العمرة في الحج بعد التحلل الأول، لأنه قائل بفساد

الحج، وما نقله عنه غلط لم أره في كلام أحد، فإن الأودني قائل بأن الحج لا يفسد، ولكن تفسد العمرة، لأنه لم يأت بشيء من أعمالها، هكذا ذكره البغوي والرافعي والنووي، وجميع من تعرض للنقل عنه، فالتبس الأمر على المصنف. قوله: أما إذا جامع الصبي فقد تقدم ذكر الخلاف في أنه هل يفسد نسكه، أو لا بناء، على أنه يسلك بعمده مسلك عمد البالغ أم لا؟ ويظهر أن يكون جماع المجنون إذا صح إحرامه كذلك، ولو جامع ناسيًا أو جاهلًا فقد تقدم حكمه. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في المجنون يقتضي أنه لم يقف فيه على نقل، وهو غريب، فإنه جريان قولي الناسي فيه مشهور في كتب المذهب، حتى في ((الرافعي)) وإن كان الرافعي قد مثل بما إذا أحرم عاقلًا ثم جن، لكنه لا فرق. الأمر الثاني: أن ما ذكره من أن وطء الناسي تقدم فصحيح، وموضعه في الباب السابق، وهو باب الإحرام، لا في هذا الباب، فإنه لم يذكره، وأما ذكره من تقدم وطء الجاهل فليس كذلك، فإنه لا ذكر له في الباب الذي نحن فيه. ولا فيما قبله. قوله: ويجب عليه القضاء: أما في الحج، فلما روي أن رجلًا أفسد حجه، فسال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فقال: تقضي من قابل. ثم سأل ابن عباس- رضي الله عنهما- فقال: تقضي من قابل. ثم سأل ابن عمر- رضي الله عنهما- فقال مثل ما قالاه، ولا يعرف لهم مخالف. انتهى كلامه. وهذه القصة التي ذكرها قد غلط في حكايتها، فإن عمر لا ذكر له فيها، وقد ذكر القصة جماعة من أصحابنا المحدثين والفقهاء، ومنهم البيهقي في ((سننه))، ونقله عنه النووي في ((شرح المهذب))، فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه: أن رجلًا أتى عبد الله بن عمرو- يعني ابن العاص- فسأله عن محرم وقع بامرأته، فأشار إلى عبد الله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك فسله. قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهب معه فسألت ابن عمر، فقال: بطل حجك، فقال الرجل: فما أصنع؟ قال: اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابلًا فحج وأهد، فرجع على عبد الله بن عمرو وأنا معه، فأخبره، فقال: اذهب على ابن عباس فاسأله، فقال له كما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه، فأخبره بما قال ابن عباس، ثم قال: ما تقول أنت؟ فقال: قولي مثل ما قالا. قال البيهقي: إسناده صحيح. قال: وفيه دليل على صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص من جده عبد الله بن عمرو. انتهى.

قوله: ويجب عليه القضاء من حيث أحرم، لأنه تعين عليه بالشروع فيه. ثم قال ما نصه: وهذا بخلاف ما لو أحرم في أول أشهر الحج بالحج أو بالعمرة في شهر من شهور السنة، لا يلزمه قضاء الإحرام في ذلك الوقت، والفرق: أن الإحرام من الأمكنة المعينة مما يلزم بالنذر، فلزم بالشروع، ولا كذلك الأزمنة، فإنه لو نذر الإحرام من أول شوال- مثلًا- لم يجب عليه مراعاة الزمان في إحرامه، قال الرافعي: وهذا الفرق لا يسلم عن نزاع، وقد قال القاضي الحسين: إن فيه إشكالًا، لأن طول الإحرام عبادة، وما كان عبادة يلزم بالنذر. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هاهنا من أن زمان الإحرام لا يتعين بالنذر، ولم يحك فيه خلافًا- قد ناقضه في كتاب النذر، فإنه حكى فيه وفي تعيين مكان الإحرام وجهين، وصحح منهما التعيين، وستعرف لفظه في موضعه. الأمر الثاني: أن كلامه في النقل عن القاضي يوهم أنه مستشكل لهذا الحكم، لا قائل باللزوم، وليس كذلك، بل قد ذهب إلى أن الزمان كالمكان في وجوب الإحرام منه بالنذر وبالإفساد، كذا نقله عنه تلميذه صاحب ((التتمة)) في الاستئجار للحج في الكلام على تعيين الميقات. قوله: ولو كان قد أحرم في الأداء دون الميقات نظر: فإن كان قد عاد إلى وطنه أحرم في القضاء من الميقات، وإن لم تعد إليه فكذلك على أحد الوجهين، وهو المختار في ((المرشد)) وغيره، وبه جزم البغوي وغيره. ومقابله: أنه يحرم به من حيث أحرم في الأداء، وهو ما اقتضاه إطلاق الشيخ، وصححه الشيخ أبو علي. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب ((التهذيب)) من أنه إذا لم يعد يجب عليه- أيضًا- أن يحرم من الميقات، وأنه جزم بذلك- غلط، فإن صاحب ((التهذيب)) لم يذكر هذه المسألة، وإنما تكلم فيما إذا عاد، ففي ((التهذيب)) لم يذكر هذه المسألة، وإنما تكلم فيما إذا عاد، ففي ((التهذيب)) ما نصه: قال الشيخ: فإن كان قد جاوز الميقات غير مريد للنسك، ثم بدا له أن يحرم، فأحرم، ثم أفسد الحج- قال- رحمه الله-: يجب أن يحرم من الميقات في القضاء، فإن جاوزه ثم أحرم فعليه دم، لأنه جاوزه مريدًا للنسك. هذا لفظه، فهذا التعليل الذي ذكره، وهو المجاوزة على إرادة النسك- يبين أن صورة المسألة فيما إذا عاد إلى بلده كما هو الغالب، أو ما هو في معنى بلده مما يحاذي الميقات أو فوقه، وانتهى إلى الميقات على قصد النسك، وإلا لم يصح التعليل المذكور، فإنه قد يجاوز الميقات لحاجة، ثم يعن له عند انتهائه إلى

المكان الذي أحرم فيه بالأداء أن يحرم بالقضاء. واعلم أن هذه المسألة قد بسطتها في كتاب ((المهمات)) فلتطالع منها. قوله: وأما الكفارة الواجبة من غير عدوان فهي على التراخي لا محالة. انتهى. وما اقتضاه كلامه من نفي الخلاف ليس كذلك، فقد حكى هو خلافًا في كفارة القتل من ((شرح الوسيط)). قوله: والبدنة- لغة- تطلق على الذكر والأنثى، صرح به صاحب ((العين))، وقال كثير من أئمة اللغة أو أكثرهم: إنها تطلق على البعير والبقرة. وقال الأزهري: تكون من الإبل والبقر والغنم. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الأزهري من أن البدنة تطلق على الثلاثة، غلط سببه تقليده للنووي، فإنه قد وقع له- أيضًا- هذا الغلط في ((لغات التنبيه)) و ((تهذيب الأسماء واللغات)) وغيرهما، والمصنف ينقل في هذا الكتاب ما في ((لغات التنبيه)) بحروفه غالبًا، وقد راجعت كلام الأزهري في ((شرحه)) لألفاظ ((مختصر)) المزني، وهو الذي ينقل النووي منه، فقال ما نصه: والبدنة لا تكون إلا من الإبل خاصة، وأما الهدي فيكون من الإبل والبقر والغنم. هذا لفظه، ومن كلامه نقلت، فسقط من قوله: ((لا تكون)) إلى قوله: ((يكون))، إما لغلط في النسخة التي وقعت للنووي، أو لانتقال نظره من أحد الموضعين إلى الآخر كما يقع كثيرًا، ويدل على ما قلت من السقوط أو انتقال النظر: أنه في ((نكت التنبيه)) نقل ما قاله الأزهري قبيل هذا الكلام بلفظه، ثم قال في آخره ما نصه. قال- يعني الأزهي- والبدنة لا تكون إلا من الإبل والبقر والغنم. وقد راجعت- أيضًا- كلام الأزهري في كتابه الكبير المسمى بـ ((التهذيب)) فرأيت فيه أن البدنة لا تطلق على الشاة، ولكنه نقل إطلاقها على البقرة- أيضًا- فقال ما نصه: قال الليث وغيره: البدنة- بالباء- تقع على الناقة والبقر والبعير الذكر مما يجوز في الهدي والأضاحي، ولا تقع على الشاة. هذا لفظه بحروفه، ولم يذكر ما يخالفه، وإن كان مخالفًا لكلامه على ((المختصر)). قوله: نعم، اختلفوا في البدنة والبقرة والغنم الواجبة على المجامع: هل هي على الترتيب أو التخيير؟ على وجهين، ووجه الأول بأنه لما كانت كفارة الوطء أغلظ كفارات الحج تقديرًا وجب أن تكون أغلظتها ترتيبًا، ووجه الآخر- وهو الصحيح والمنصوص في ((الأوسط)) -: أن البدنة لا تجب في الحج والعمرة إلا في قتل النعامة والإفساد، فلما وجبت في قتل النعامة على وجه التخيير اقتضى أن تجب في إفسادهما

على وجه التخيير، وهذه طريقة القاضي أبي الطيب والماوردي. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الصحيح هو التخيير، وأنه المنصوص عليه في ((الأوساط))، وأنها طريقة القاضي أبي الطيب والماوردي- فغلط في الجميع، فإن الصحيح المنصوص عليه في الكتاب المذكور، وقال به القاضيان أبو الطيب والماوردي- إنما هو الترتيب، فانعكس ذلك على المصنف، فأما كونه الصحيح فيكفي عن تعداد من صحح الترتيب ما قاله النووي في ((شرح المهذب))، فإنه قال: فيه طرق، أصحها عند المصنف وسائر الأصحاب، وهو المنصوص في ((المختصر)) وغيره، ونقله القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)) عن نص الشافي في عامة كتبه-: أنه دم ترتيب. هذا كلامه، وأما القاضي أبو الطيب فقد قال: وهل يجب الترتيب في الثلاث؟ نص الشافعي على أنه يجب، وهو الصحيح، لأنه قال في ((الأوسط)): فإن لم يجد المفسد بدنة فبقرة، فإن لم يجد فسبعًا من الغنم، وإذا كان معسرًا عن هذا كله قومت البدنة بمكة. هذا لفظه، ونقله عنه- أيضًا- هكذا صاحب ((البحر))، وأما الماودري فقال بعد نقله له عن المنصوص: إنه أصح مذهب الشافعي. قوله: وقيل: اختصر القاضي مجلي ما سبق في فداء الذكر بالأنثى وعكسه، فحكى فيه سبعة أوجه: أحدها: يجوز فداء أحدهما بالآخر، والثاني: لا، والثالث: تجزئ الأنثى عن الذكر، بخلاف العكس، والرابع: إن أراد الذبح لم تجزئ الأنثى عن الذكر، ويجزئ الذكر عن الأنثى، وإن أراد التقويم فبالعكس، والخامس: تعتبر القيمة وطيب اللحم، فإن كان أحدهما أكثر قيمة وأطيب لحمًا لم يجزئ عنه الأدون ولا الخبيث اللحم، ويجزئ الأكثر قيمة والأطيب عن الأدون والخبيث، والسادس: يجزئ الذكر عن الأنثى، وأما الأنثى عن الذكر: فإن كان صغيرين جاز، وإلا فلا. والسابع ... انتهى ملخصًا. ولم يبين- أعني ابن الرفعة- هذا الوجه وهو السابع، بل ترك موضعه بخطه بياضًا، وقد رأيته في ((الذخائر)) مبينًا، فقال: يجزئ الذكر عن الأنثى مطلقًا، وأما الأنثى عن الذكر فتجزئ إن لم تلد، فإن ولدت فلا. وقد ذكر المصنف بعض هذا الوجه في أوائل كلامه. قوله: وقد قال الماوردي: إن الأصحاب لم يختلفوا في أن الأنثى أفضل عند إرادة التقويم. نعم، اختلفوا عند إرادة الذبح على قولين: أحدهما- وبه قال ابن أبي هريرة-: أنها أفضل أيضًا، والثاني: لا، وبه قال أبو إسحاق. انتهى.

ثم ذكر بعده عن القاضي أبي حامد نحوه، وادعى مغايرته لقول أبي إسحاق، مع أنه ليس مغايرًا له، فاعلمه. قوله- في الكلام على قول الشيخ-: وإن أتلف ظبيًا ما خضًا ضمنه بقيمة شاة ماخض، وكذا أخذ عليه في قوله: بقيمة شاة، لأن الواجب عليه عنز، كما قال النووي، والشاة- كما ذكرنا- تطلق على الذكر والأنثى، وجواب هذا: أن الشيخ اتبع فيه الشافعي، والمراد: العنز. نعم، لو قال: بقيمة عنز، كان أوضح. انتهى كلامه. وهذا السؤال الذي ذكره على هذا الوجه غلط، فإن الشاة وإن كانت تطلق على الذكر والأنثى، لكن الشيخ قد قيدها بكونها ماخضًا، فقال: بقيمة شاة ماخض، فاندفع احتمال إرادة الذكر وتعينت الأنثى. وهذا السؤال ذكره النووي في ((لغات التنبيه)) على وجه صحيح، فقال ما نصه: وقوله: بقيمة شاة، المراد: عنز، ولو قال بقيمة عنز، لكان أوضح. هذا لفظه من غير زيادة ولا نقصان، وهذا سؤال صحيح، فإن ((الشاة)) تطلق على الضأن والمعز، والواجب في الظبي إنما هو المعز، فلو قال: بقيمة عنز، فتعين الواجب، بخلاف الشاة، فتوهم ابن الرفعة أن السؤال جاء لكونها تطلق على الذكر والأنثى، فصرح به ذاهلًا عن ذكر ((الماخض)) بعد ذلك، فوقع في الغلط. قوله: الثاني: قال الأزهري: قال الشافعي: الحمام: كل ما عب وهدر، وإن تفرقت أسماؤه إلى: اليمام، والدباسي، والقماري، والفواخت، وغيرها. وقال الكسائي: الحمام: هو الذي لا يألف البيوت، وهو الوحشي، واليمام: هو الذي يألف البيوت. وعن الأصمعي أنه قال: كل ذات طوق كالفواخت والقماري وأشباهها فهي حمام، وفي ((المهذب)): أنه ينظر في الطائر: فإن كان حمامًا- وهو الذي يعب ويهدر- كالذي تقتنيه الناس في البيوت والدبسي والقمري، فإنه يجب فيه شاة. وهذا مغاير لجميع ما ذكرناه، فتأمله. انتهى كلامه. وما ذكره من مغايرة كلام ((المهذب)) لجميع ما تقدم سهو، فإن الذي نقله عن ((المهذب)) هو عين ما نقله أولًا عن الأزهري نقلًا عن الشافعي، وذلك لأن في بعض نسخ ((المهذب)): والدبسي- بالواو- وهو الذي نقله عنه المصنف كما تقدم في عبارته، وعلى هذا فواضح، وفي بعضها: كالدبسي- بالكاف- وهو أيضًا عين المنقول عن الأزهري، غير أنه زاد فمثل بما يقتنى في البيوت بالدبسي والقمري، واقتناء ذلك فيها معلوم، وإن لم تكن تألف البيوت، فأين مخالفة هذا التفسير لما نقله الأزهري؟!

قوله- نقلًا عن الشيخ-: وإن جرح صيدًا له مثلٌ، فنقص عشر قيمته- لزمه عشر ثمن المثل، وعلى هذا يكون مخيرًا بين إخراج الطعام والصوم عن كل مد يومًا بلا خلاف، وهل يكون مع ذلك مخيرًا في التصدق بالدراهم وعشر المثل؟ قيل: نعم، وحينئذٍ يكون مخيرًا بين أربعة أشياء. ثم قال ما نصه: وعليه ينطبق ما حكاه الرافعي عن ابن أبي هريرة: أن له إخراج القيمة وإن وجد شريكًا في الذبح معه. انتهى كلامه. وما حكاه عن ابن أبي هريرة ليس كذلك، فإن الرافعي قال ما نصه: فعلى هذا- أي وجوب عشر القيمة- لو لم يرد الإطعام ولا الصيام، ما الذي يخرج؟ حكى القاضي الحسين عن بعضهم: أنه إن وجد شريكًا أخرجه- أي العشر- ولم يخرج الدراهم، وإلا فله إخراجها، وعن ابن أبي هريرة: أن له إخراجها وإن وجد شريكًا، وعن أبي إسحاق: أنه مخير بين إخراج العشر وبين إخراج الدراهم، فهذه ثلاثة أوجه. هذا لفظ الرافعي بحروفه، وهو صريح في مغايرة قول ابن أبي هريرة لقول التخيير بينهما، وإلالم تكن ثلاثة، وسبب ما وقع فيه المصنف: أنه نظر إلى قول الرافعي في النقل عن ابن أبي هريرة: إن له إخراجها، ذاهلًا عما بعده، فتوهم أنه قائل بعدم اللزوم. قوله: وإن جرح صيدًا، فأزال امتناعه- ضمنه بكمال الجزاء، وقيل: يلزم أرش ما نقص، وهذا الثاني يحكى عن ابن سريج كما قاله الرافعي. ثم قال ما نصه: وإن قلنا بالقول المنسوب إلى ابن سريج قومناه صحيحًا، ثم مندمل الجرح، فإذا عرف ما بينهما نقول: هو الواجب، أو نقدره من المثل إن كان الصيد مثليًا؟ فيه الخلاف السابق. انتهى. وما ذكره في حكاية الخلاف مخالف لما قاله الأصحاب، حتى لما قاله الرافعي في كتبه والنووي في ((شرح المهذب)) مع تتبعه، فقال- أعني الرافعي-: والثاني، ويحكي عن ابن سريج: أنه يجب قدر النقصان. ثم قال: فعلى هذا: يجب قسطه من المثل، أو من قيمة المثل؟ فيه الكلام السابق. هذا لفظه بحروفه، فعلمنا أن الذي لا يوجب الحصة من المثل يوجب التفاوت من قيمة المثل لا من الصيد، فكأنه سقط ذلك من لفظه، وأصله: فهل نقول: هو الواجب من المثل ... قوله: واعلم أنه كما يحرم عليهما صيد الحرم يحرم الاصطياد فيه لصيد الحل،

مثل أن يرمي من الحرم سهمًا إلى صيد في الحل، أو يرسل عليه كلبًا، لأن كونه في الحرم يوجب تحريم الصيد عليه، كذا قال الأصحاب، وقد ألحقوا بذلك ما لو حبس صيدًا في الحرم وله فراخ في الحل، فماتت جوعًا، وقالوا: إنه يضمنها. وليس في كلام الشيخ تعرض لهاتين الصورتين، إلا أن يستعمل قوله: وصيد الحرم حرام، في معنيين مختلفين: وهو الاصطياد في الحرم، ونفس صيد الحرم، ولا يمكن ذلك، لأن اللفظ الواحد لا يستعمل كذلك، وأيضًا: فيعكر عليه قوله من بعد: فمن قبله منهما، فإنه يقوى أن مراده المعنى الثاني لا غير. انتهى كلامه. واعلم أن تقرير المعنى الذي حاول حمل كلام الشيخ عليه: أن ((الصيد)) مصدر، والمصدر يصح إطلاقه على اسم المفعول مجازًا، كقولهم: درهم ضرب الأمير، أي: مضروبه، وحينئذٍ: فيصح أن يراد بالصيدٌ، المصيد مع إرادة المدلول الحقيقي وهو الاصطياد، وحاصله: الجمع في استعمال اللفظ الواحد بين حقيقته ومجازه. إذا علمت ذلك، فاعلم أن اذكره من عدم الإمكان، وتعليل ذلك بعدم جواز استعمال اللفظ الواحد كذلك- عجيب، فإن مذهب الشافعي- رضي الله عنه- جواز هذا الاستعمال، - كما هو مشهور عنه في أصول الفقه- وقد أوضحته في ((شرح منهاج الأصول))، وقد نقله- أيضًا- النووي في كتاب الأيمان من ((الروضة)) في الكلام على ما إذا حلف: لا يشتري. قوله- نقلًا عن الشيخ-: ويحرم على الحلال والمحرم قلع شجر الحرم، أي: إذا كان رطبًا. ثم قال: أما إذا كان الشجر قد حف، فقلعه- فلا شيء عليه، قال القاضي الحسين: كما إذا قطع الصيد الميت إربًا إربًا، قال الماوردي والبندنيجي: ولا فرق في ذلك بين أن يستهلكه أم لا. انتهى كلامه. واعلم أن المسألة التي يتكلم فيها المصنف على كلام الشيخ إنما هي مسالة القلع- باللام- ما تقدم من عبارة الشيخ وعبارته أيضًا. والذي ذكره القاضي الحسين إنما هو القطع- بالطاء- ولهذا قاسه على قطع الصيد، وأين إحداهما من الأخرى؟! فإنه لا يلزم من جواز القطع جواز القلع، ويؤيده الحشيش اليابس، فإنه يجوز قطعه لا قلعه، ولم يتكلم في ((الروضة)) ولا في ((شرح المهذب)) على قلع اليابس، بل كلامه ربما يوهم المنع، فإنه إنما عبر بالقطع. نعم، ذكر الماودري أن قلعه جائز كما نقله عنه المصنف.

قوله: ولك أن تقول: الخلاء- بفتح الخاء، مقصور- النابت ما دام رطبًا، وكذلك العشب، فإذا يبس فهو الحشيش والهشيم، ولا يقال له رطبًا: حشيش ... إلى آخر كلامه. اعلم: أن اختصاص الحشيش باليابس نقله البطليوسي في كتاب ((الاقتضاب شرح أدب الكتاب)) عن الأصمعي خاصة، ثم حكى عن أبي حاتم أنه سأل أبا عبيد، فقال: يكون للرطب واليابس. وهو يبطل ما ادعاه المصنف. ثم إن الجوهري قد قال في الكلام على ((حش)): إن الحشيش هو اليابس خاصة))، كما نقله المصنف، لكنه قال في لفظة ((خلا)): الخلا مقصور: هو الرطب من الحشيش. هذا كلامه، فجعل ((الحشيش)) يطلق على الرطب. قوله: وألحق الأصحاب بجواز قطع الإذخر ما يتداوى به كالسنا، لأن إباحة الإذخر إنما كانت لأجل الانتفاع، فألحق به ما ينتفع به دواء، وفي ((الوسيط)) حكاية وجه آخر: أنه لا يلحق بالإذخر غيره- وإن مست إليها الحاجة كما في الإذخر- وحكاه الإمام عن رواية عن رواية صاحب ((التلخيص)). انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا النقل عن صاحب ((التخليص))، وحكاية نقله عن الإمام- غلط أيضًا، فإن صاحب ((التلخيص)) قال ما نصه: ولا يقطع من حشيش الحرم إلا ثلاثة، وهو الإذخر، وما كان لدواء، وما أنبته الناس. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلت، وأما الإمام فإنه إنما نقله عن الشيخ أبي على في ((شرح التلخيص)) فقال ما نصه: فلو مست الحاجة إلى شيء من كلأ الحرام في دواء فهل يجوز قطعة، تشيبهًا بالإذخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ في ((شرح التخليص)). هذا لفظ الإمام بحروفه. الأمر الثاني: أن حكاية الخلاف في جواز القطع للدواء غلط، فإن الإمام قد نقله عن الشيخ أبي علي كما تقدم، فتابع الإمام علي ذلك من جاء بعده كالغزالي والرافعي وغيرهما، مع أن المذكور- أعني الشيخ- إنما حكى التردد في وجوب الضمان خاصة، فقال بعد حكاية استثناء الثلاثة المتقدمة عن ((التلخيص)) ما نصه: والثاني: قال: ما كان لدواء فله قطعه. قلت: يحتمل إذا قطع أن يكون عليه الفدية، لأنه قطعه لحاجته، فصار كما لو قتل الصيد للمجاعة، واحتمل أن يكون الجواب على ما ذكره، لأنه إنما يبيح له قطع الحشيش للقبور والبيوت ولعلف الدواب للحاجة، وحاجته إلى الدواء أعظم من حاجته إلى علف الدابة، ولا تكون حاجته دون حاجة دابته، فلهذا

قلنا: لا شيء عليه. هذا كلام الشيخ أبي علي بحروفه، ومن ((شرحه)) نقلت، وحكاية الخلاف هكذا هو الصواب. ثم إن الإمام قد حكاهما وجهين، والشيخ أبو علي إنما ذكرهما احتمالين له، لكنه قريب، فإن احتمالات أصحاب الوجوه عندهم ملحقة بالوجوه. وقد ظهر لك من هذا الكلام غلط آخر وقع فيه المصنف، فإنه مع كونه قد غلط من شارح ((التلخيص)) إلى صاحب ((التخليص)) قد عبر عن الخلاف بقوله: رواه، فاقتضى أن يكون لغيره، وسببه: أن الإمام تصرف، فعبر بقوله: ذكرهما- كما تقدم- ثم إن المصنف تصرف في عبارة الإمام فعبر بقوله: رواه، فحصل الغلط، وهذه آفات النقل عن المتأخرين وعدم مراجعة الأصول. [أو]. قوله: قال- يعني الشيخ-: وما وجب على المحرم، أي: بسبب الإحرام، من طعام وجب تفرقته على مساكين الحرم كالهدي، لكن ما يعطى كل مسكين منهم؟ أطلق بعض الشراح فيه حكاية وجهين: أحدهما: مد، وهو اختيار ابن أبي هريرة. والثاني: ما شاء، ومراده: فيما عدا كفارة الأذى، فقد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب على القدر المدفوع. انتهى كلامه. وهو يشعر بأنه لم يقف على الوجهين في كتاب مشهور، وإلا لم يسنده إلى بعض الشرح المجهولة، وهو غريب، فإن الوجهين- على ما هما عليه من الإطلاق- مذكوران في ((الروضة)) في آخر باب الدماء.

باب صفة الحج

باب صفة الحج قوله: واستحب النووي دخوله مكة حافيًا، وهو ما ذكره في ((البحر)) عن بعض الناس، مستدلا بقوله- تعالى-: لموسى عليه السلام: ((لقد حج هذا البيت سبعون نبيًا، كلهم خلعوا نعالهم من ذي طوى تعظيمًا للحرم))، قال الأصحاب: ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة، وقال في ((المرشد)): إنه يستحب أن يخرج من باب بني مخزوم. انتهى كلامه. واعلم أن باب بنى مخزوم هو باب الصفا، وإنما يستحب الخروج من هذا لمن أراد السعي خاصة، فأما من أراد الخروج لحاجته فمن الباب الأقرب إليه، وإن خرج إلى بلده خرج من باب بني سهم، وما نقله عن ((البحر)) رأيته كذلك في نسخة منه- أي: من ((البحر)) - وكأنه سقط شيء من الاستدلال، وأصله قوله- تعالى-: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ...} الآية [طه:12]. قوله: فإذا بلغ إلى الركن اليماني استلمه، وقبل يده، ولا يقبله، لأنه لم ينقل. انتهى. وما ذكره من عدم نقله ليس كذلك، فقد روى الدارقطني، والحاكم في المستدرك، والبيهقي أنه- عليه السلام- قبله، إلا أن البيهقي ضعفه. قوله: ولا فرق في جواز الطواف راكبًا بين أن يكون لعذر من مرض أو لا، لأنه- عليه الصلاة والسلام- لم يطف راكبًا لمرض كما رواه مسلم عن جابر، ثم إذا جاز الطواف راكبًا فهل هو مكروه؟ قال الماوردي: إن كان بغير عذر فنعم، وهو الذي أورده أبو الطيب وغيره. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي في ((شرح مسند)) الإمام الشافعي قد ذكر أن عكرمة روى عن ابن عباس أن طوافه- عليه الصلاة والسلام- راكبًا كان لمرض، وأقوى من ذلك: ما في ((البخاري))، فإنه ترجم لطوافه- عليه الصلاة والسلام- بقوله: باب المريض يطوف راكبًا. الأمر الثاني: أن الرافعي قد جزم في ((شرحيه: الكبير، والصغير))، وكذلك النووي

في ((الروضة)) بعدم الكراهة، ويتعجب من جزمه بحكم قد جزم المذكوران في مثل هذه الكتب المشهورة بعكسه. قوله: وقد حكى الإمام عن أبي يعقوب الأبيوردي من أصحابنا وجهًا: أنه يصح طواف القدوم بغير طهارة، ويجبر بدم. انتهى. وحكايته لهذا الوجه في طواف القدوم غلط، بل إنما حكاه الإمام في طواف الوداع فقال ما نصه: وذكر أبو يعقوب الأبيوردي وجهًا في أنه هل يصح الوداع من غير طهارة؟ ثم قال: يجبر بالدم. وإنما قال هذا من حيث إنه ألزم فقيل: لو جاز جبر طواف الوداع بالدم لجاز جبر الطهارة فيه بالدم، فارتكب وقال: يجبر بالدم. هذا لفظه، وإنما أوقع المصنف في هذا الوهم: أن الإمام ذكره في القسم الثالث المعقود لطواف القدوم. قوله: لكن قد عمت البلوى بغلبة النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير وغيره، فلأجل ذلك اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين- كما قال النووي في ((المناسك)) - إنه يعفى عنها، وأنه ينبغي أن يقال: يعفى عما يشق الاحتراز منه من ذلك، كما عفي عن دم القمل والبراغيث ... إلى آخره. وهذا لكلام الذي ذكره- رحمه الله- يشتمل على سهو وتناقض، وذلك لأن النووي قد قال في ((المناسك)): وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين المطلعين أنه يعفى عنها، وينبغي أن يقال: إنه يعفى عما يشق ... إلى آخر ما تقدم. وذكر في ((شرح المهذب)) مثله- أيضًا- فظن المصنف أن قوله: وينبغي ... إلى آخره، من جملة المختار لهذه الجماعة، مع أنه للنووي لا لهم، ثم إنه لزم منه التناقض في عبارته، لأنه نقل عنهم أولا العفو مطلقًا، ثم أسند إليه ثانيًا العفو فيما يشق الاحتراز منه دون غيره. قوله: وقد اندرج فيما ذكره الشيخ عدم صحة طواف النائم، لأنه محدث على الصحيح، وقد قال الإمام: إن هذا يقرب من صرف الطواف إلى طلب غريم، ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه. انتهى كلامه. وما توهمه- رحمه الله- من أن الإمام ذكر هذا الكلام في النوم الذي يصير به الشخص محدثًا غلط، بل إنما ذكره فيما إذا كان على هيئة لا تنقض الوضوء، فقال في أوائل: فصل أوله: ((قال الشافعي- رضي الله عنه-: ويخطب الإمام يوم السابع)) ما نصه: والذي يدل على ما ذكرناه: أن الأئمة قالوا: لو حضر بطرف من أطراف عرفة

نائمًا كفاه ذلك، ولا يبعد أن يقال: لو اتفق مثل هذا من ذاك في أشواط الطواف، والنوم على هيئة لا تنقض الوضوء- فهذا يقرب من الخلاف في صرف الطواف إلى غير جهة النسك، فإنه لم يوجد منه فعل شيء أصلًا، وهذا محتمل في الطواف. ويجوز أن يقال: يقطع بوقوع الطواف من النائم الذي صورناه موقعه من حيث لم يصرف الطواف عن النسك. هذا لفظ الإمام، وهو على العكس مما نقله المصنف، وقد ذكره الرافعي على الصواب. قوله: وقد كان المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصغر مما هو عليه الآن، فاشترى عمر دورًا وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة، وهو أول من اتخذ جدارًا للمسجد الحرام، ثم وسعه عثمان كذلك، واتخذ له الأروقة، وكان أول من اتخذها له، وقيل: أول من اتخذ عبد الله بن الزبير في خلافته، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي، وعليه استقر بناؤه إلى وقتنا هذا، قاله في ((الروضة)). انتهى كلامه. وحاصل ما ذكره: أن المسجد حصل التوسيع فيه خمس مرات فقط، وليس كذلك، فقد أهمل سادسًا بعد عثمان وقبل الوليد- وهو ابن الزبير- والعجب أن النووي قد نقله في ((الروضة)) أيضًا، فسها عنه المصنف، ولم يتعرض المصنف لابن الزبير في التوسيع، وإنما حكى الخلاف عنه في اتخاذ الأروقة، هل صدرت عنه، أو عن عثمان؟ قوله: قال- يعن الشيخ: وإنه حمله محرم، ونويا جميعًا، أي: نوى كل منهما الطواف عن نفسه، ووجد شرطه في كل واحد منهما- ففيه قولان: أحدهما: أن الطواف للحامل. ثم قال: والثاني: أنه للمحمول، لأن الحامل آلة له فهو كالراكب، وهذا ما اختاره في ((المهذب))، وصحهه النووي في ((المناسك)). انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه المسألة ليست في ((مناسك)) النووي بالكلية، وليست في ((الروضة)) أيضًا. نعم، ذكرها النووي في ((شرح المهذب)) و ((تصحيح التنبيه)). الأمر الثاني: أن النووي لم يصحح وقوعه للمحمول في شيء من كتبه، بل الذي صححه في الكتب التي ذكر فيها المسألة: وقوعه عن الحامل فقط. قوله- في المسألة-: تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمورًا.

ثم قال: الثاني: أن الحامل لو نوى الطواف عن المحمول لم يجر القولان، ولأجل ذلك قال النووي في ((التصحيح)): إن الحامل إذا نواه للمحمول وقع عنه. وهذا صحيح إن كان في طواف القدوم أو في طواف متطوع به، أما إذا كان في طواف الفرض فلا، لما ستعرفه. انتهى. ومستند تفصيله بين طواف القدوم وطواف الفرض: أن طواف القدوم يحتاج إلى النية، فإذا صرفه الحامل إلى المحمول انصرف إليه، ولا يجئ فيه القولان، وأما طواف الإفاضة فإن في احتياجه إلى النية وانصرافه بالصرف خلافًا، فيجيء القولان كذلك، إذا علمت ما قلناه ففي كلامه أمور: أحدها: أن استدلاله بكلام ((التصحيح)) على تقوية ما أفهمه كلام الشيخ من عدم جريان القولين، استدلال عجيب، فإن النووي في ((التصحيح)) قد ساق هذه المسألة مساقًا ينصب عليه لفظ الأصح، ولاسيما أن عادته فيه أنه إن أثبت الخلاف عبر بـ ((الأصح)) ونحوه، وإن نفاه عبر بـ ((الصواب)). الثاني: أن هذا الكلام منه يقتضي الجزم بأن طواف القدوم يحتاج إلى النية، وليس كذلك، فإن كلام الشيخ مقتض لإثبات الخلاف، وإلحاقه بطواف الإفاضة، على ما نبه عليه هو- أعني ابن الرفعة- ونقل عن الشيخ أبي حامد وغيره ما يوافقه- أيضًا- ولم ينقل الجزم بالوجوب إلا عن إشارة وقعت في كلام ابن يونس، وحينئذ فيمشي كلام الشيخ هنا وهناك على طريقة واحدة، ويكون ما أفهمه كلامه هنا موافقًا لما أفهمه هناك، بل كلام المصنف يقتضي شهرة القول به، فإنه قال هناك: وطواف القدوم يحتمل إجراء الوجهين فيه كما يشعر به إيراد الشيخ وسياق كلامه، لأنه من سننه الداخلة في العبادة، بل قال المرني: إنه نسك فيه حتى يجب بتركه الدم، وإذا كان من سننه كانت النية منسحبة عليه، لكن في ((ابن يونس)) ما يفهم الجزم باشتراط النية فيه. هذا كلامه [أو]. قوله- أيضًا في المسألة-: ويجوز أن يكون قوله: ونويا جميعًا، أي: نويا الطواف عن المحمول، فإن فيه قولين حكاهما الفوراني وغيره: أحدهما: أنه يقع عن الحامل، والثاني: أنه يقع عن المحمول، وهو الأصح، وفيه قول ثالث: أنه يقع عنهما، حكاه النووي في ((المناسك)). انتهى كلامه. وما نسبه إلى ((المناسك)) من حكاية الثالث فغلط، إنما حكاه وجهًا منضمًا إلى وجهين آخرين.

قوله: نعم، قال الإمام تبعًا للقاضي الحسين: إنه لو خلف من الحجر مقدار الستة الأذرع على رأيه، واستظهر ثم اقتحم في طوافه الجدار وراء ذلك، وتخطى الحجر على هذا السمت- اعتد بطوافه، وإن كان ما جاء به مكروهًا. انتهى. وما اقتضاه كلامه من إسناده الإجزاء والكراهة إلى القاضي الحسين صحيح بالنسبة إلى الإجزاء خاصة، وأما الكراهة فلم يتعرض لها بالكلية، بل ولا حكم بعدم الاستحباب، فضلًا عن الكراهة. قوله: وإن طاف من غير نية فقد قيل: يصح، لأن نية الحج تأتي عليه كما تأتي على الوقوف، وهذا ما صححه النووي، وقيل: لا يصح، لأنه عبادة تفتقر إلى السير فافتقرت إلى النية كركعتي المقام، وحكى في ((الوسيط)) وجهًا ثالثًا: أنه يجزئ، إلا إذا صرفه إلى طلب غريم وقصد آخر، وهذا من تخريج الإمام، وجزم به القاضي أبو الطيب. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن النووي من تصحيح الأول غلط، بل إنما صحح في كتبه كلها الوجه الثالث، وسبب وقوع هذا الغلط: أن النووي صحح- أولًا- أن النية لا تجب، وأطلق، ثم أفرد الصرف بمسألة أخرى وذكرها عقبها، وصحح فيها عدم الإجزاء، فوقف المصنف على كلامه الأول، وغفل عن الأخير. قوله: قال الماوردي: ويستحب له بعد استلام الركن وقبل خروجه- أي: إلى المسعى- أن يقف في الملتزم، ويدعو عنده، لأنه- عليه الصلاة والسلام- فعله، وأن يدخل الحجر ويدعو تحت الميزاب، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((ما من أحد يدعو تحت الميزاب إلا استجيب له)). ثم قال: وقال ابن الصلاح: ظاهر الحديث الصحيح يدل على أن هذا مما لا ينبغي أن يشتغل به عقب الطواف الذي يستعقب السعي، بل يخرج إلى السعي، ويؤخر ذلك إلى أوان آخر. انتهى كلامه. وما نقله عن الماودري من أنه يستحب ذلك بعد الطواف المستعقب للسعي قبل خروجه إلى السع، فغلط، فإن الماوردي لم يصرح باستحبابه بعد هذا الطواف، كما نقله عنه المصنف، وإنما ذكر أنه يستحب ذلك بعد الطواف، وأطلق، وحمله- على ما أشار ابن الصلاح- على استحبابه لا دافع له لو اقتصر عليه، لاسيما أنه بعد ذكره لهذا الكلام ذكر ما يعين ما قلناه، فقال: فصل: فإذا ثبت أن تقدم الطواف شرط في صحة السعي، ففرغ من طوافه، وعاد إلى استلام الحجر بعد صلاته- خرج من باب

الصفا. هذا لفظه، وسبب وقوع المصنف في هذا: أن النووي اختصر عبارة ابن الصلاح بعبارة موهمة، فصرح المصنف بما أوهمه كلامه، وهذا من آفات كثرة الوسائط. قوله: وقد اتفق الكل على أن من شرط السعي: أن يقع بعد طوافٍ ولو نقلًا، إلا طواف الوداع، فإنه لا يتصور وقوعه بعده. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام يقتضي أن المكي إذا أحرم بالحج ثم طاف طواف نفل- أنه يصح السعي بعد، وليس كذلك، فإنه لم يجوزه أحد، وممن جزم بامتناعه النووي في ((شرح المهذب))، وشرط أن يكون بعد طواف القدوم أو الإضافة، واقتضاه- أيضًا- كلام الرافعي. الأمر الثاني: أن ما قاله من عدم تصور وقوعه بعد طواف الوداع قلد فيه الرافعي، ومنعه له غريب، وذلك لأن من أراد الخروج من مكة فإنه مأمور بطواف الوداع، لكن اختلفوا: هل من شرطه الخروج إلى مسافة القصر أم لا كما هو معروف في موضعه؟ إذا علمت ذلك، فإذا أحرم بالحج من مكة، ثم أراد الخروج- قبل الوقوف- لحاجة، فطاف للوداع، وخرج لحاجته، ثم عاد، وأراد أن يسعى بعد عوده- فهذا سعي وقع بعد طواف الوداع، وتخلل السفر بينهما لا يقدح، فإن المولاة لا تشترط فيه، وهذا التصوير واضح جلي، وقد ذكره صاحب ((البيان)) عن الشيخ أبي نصر، وزاد على ذلك فجزم بالصحة وقال: إنه مذهب الشافعي. ونقله النووي في ((شرح المهذب)) عنه، وسلم التصوير، لكنه نازع في الصحة، فقال: ولم أره لغيره ما يوافقه. قال: وظاهر كلام الأصحاب: أنه لا يجوز إلا بعد القدم أو الإضافة. وهذا التوقف منه مع هذا النقل الصريح مردود. قوله: والأفضل أن يقف عند الصخرات، ويجعل بطن ناقته إن كان راكبًا إلى الصخرات، اقتداء به، عليه الصلاة والسلام. انتهى. وما ذكره من استحباب الوقوف عند الصخرات إنما هو في حق الرجل، أما المرأة فالمتسحب لها: أن تقف في حاشية الموقف، كما تقف في آخر باب المسجد. كذا جزم به النووي في ((المناسك))، وفي آخر باب الإحرام من ((شرح المهذب))، نقلًا عن الماوردي من غير مخالفة. قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن فاته ذلك، أو وقف وهو مغمى عليه- فقد فاته

الحج أما إذا فاته ذلك، فلفوات الوقت، وأما إذا وقف وهو مغمى عليه، فلخروجه عن أهلية العبادة، وهذا ما أورده الغزالي في ((الوسيط))، موجهًا له بما ذكرناه، وصححه في ((الروضة)). ثم قال: ويؤخذ من كلام الشيخ: أنه إذا وقف وهو مجنون فقد فاته الحج من طريق الأولى، لأنه أسوأ حالًا من المغمى عليه، وقد قيل فيهما: إنه يتم حجهما- أيضًا- وهو الذي ذكره القاضي الحسين في المغمى عليه، ولأجله اقتضى إيراد البغوي ترجيحه فيه وصححه الرافعي. انتهى. اعلم أن الكلام في وقوفه المغمى عليه من وجهين: أحدهما: أنه هل يكون محصلًا للحج، أو لا يحصله، بل يكون كمن لم يقف بالكلية؟ الوجه الثاني: أنه على تقدير حصوله هل يغني عن حج الفرض، أو يقع نفلا؟ فأما الأول- وهو حصول الحد- فإن فيه وجهين: أحدهما: أنه لا يحصل، وهو الذي جزم به صاحب ((التنبيه))، ونص عليه الشافعي في ((الإملاء)). والوجه الثاني- وهو الذي نقله الرافعي عن صاحب ((التتمة))، ولم ينقل خلافه، ولم يعترض عليه-: أنه يحصل، وتابعه على ذلك النووي في ((الروضة)) و ((شرح المهذب))، إلا أن الذي تكلم فيه صاحب ((التتمة))، ونقله عنه الرافعي والنووي: إنما هو في وقوف المجنون، غير أنه إذا ثبتت الصحة فيه ثبتت في المغمى عليه بطريق الأولى. وأما الثاني- وهو الصحة بمعنى الوقوع عن الفرض- فحكى الرافعي فيه وجهين، وصحح أنه لا يحصل، فقال ما نصه: الرابعة: لو حضر وهو مغمى عليه لم يجزئه، لفوات أهلية العبادة، ولهذا لا يجزئه الصوم إذا كان مغمى عليه طول نهاره، وفيه وجه: أنه يجزئه اكتفاء بالحضور، ولو حضر مجنونًا لم يجزئه، قال في ((التتمة)): لكن يقع نفلا كحج الصبي الذي لا يميز. هذا كلامه، وإذا ظهر لك ما قلناه علمت أن في كلام المصنف غلطًا من وجهين: أحدهما: في نقله عن ((الروضة)) تصحيح الفوات في حق المغمى عليه، فإن فيهما الجزم بعكسه كما تقدم. والثاني: في نقله عن الرافعي تصحيح الإجزاء في المجنون، فإن الصحيح فيه

- كما تقدم أيضًا- عكسه، والسبب في وقوعه في الموضع الثاني هو تقليده للنووي، فإنه في ((الروضة)) قد اختصر كلام الرافعي على العكس، ثم اعترض عليه في ((زياداته)) بأن الصحيح عكسه. قوله: فإن دفع من عرفة قبل الغروب لزمه دم في أحد القولين، وهذا ما نص عليه في القديم والجديد، وقال النووي: إنه الأصح، والخلاف مبني على أن الجمع بين الليل والنهار هل هو من واجبات الإحرام، أو من سننه؟ انتهى. وما نقله عن النووي غلط، فإن الذي صححه في ((الروضة)) و ((شرح المهذب)) وباقي كتبه: أنه لا يجب، وصححه- أيضًا- في ((المناسك)) فقال، أصحهما: مستحب، والثاني: واجب. هذا لفظه، وسبب وقوع هذا للمصنف: أنه استنبط ذلك من كلام آخر مذكور بعد هذا في ((المناسك))، غافلًا عن هذا الذي صرح به فيه وفي كتبه كلها. قوله: ويصلي بمزدلفة المغرب والعشاء في وقت العشاء. ثم قال: ومحل القول باستحباب الجمع- كما قال الإمام- إذا لم يخف فوت وقت الاختيار للعشاء قبل أن يوافي مزدلفة، وفيه قولان في الكتاب الجديد: ما لم يذبه ثلث الليل، كما قاله أبو الطيب، فإن خاف فوت ذلك فيصلي في الطريق دون مزدلفة. انتهى كلامه. واعلم أن هذا التقييد الذي نقله عن الإمام خاصة قد نص عليه الشافعي في ((الأم)) في ((مختصر الحج الأوسط)) في باب ما يفعل من دفع من عرفة، فقال ما نصه: ولا يصلي المغرب والعشاء حتى يأتي المزدلفة فيصليهما، فيجمع بينهما بإقامتين ليس معها أذان، وإن أدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاهما دون المزدلفة. هذا لفظ ((الأم))، ومنها نقلت. إذا علمت ذلك فقد توجه على المصنف أمران: أحدهما: أن هذا التقييد لابد منه، وأنه مذهب الشافعي، بخلاف ما يوهمه كلامه من انفراد الإمام به، لاسيما الرافعي، فإنه نقل عن الأكثرين أنهم أطلقوا القول بذلك. الأمر الثاني: أن القول بامتداده إلى نصف الليل قول جديد لا قديم، كما ذكره هاهنا، لأن ((الأم)) من الكتب الجديدة، وقد نص عليه في ((الإملاء)) فقال: قال الشافعي: وأكره للرجل إذا دفع من عرفة أن يعرج حتى يأتي مزدلفة، فإن فعل لم يصل المغرب والعشاء حتى يأتي مزدلفة، إلا أن يدركه نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة فيصلي المغرب والعشاء قبل نصف الليل حيث أدركه. هذا لفظه بحروفه، وقد

استفدنا من نصه في ((الإملاء)): أن استحباب جمع التأخير شرطه أن يريد مزدلفة، فإن لم يرد الدخول إليها فلا يستحب له هذا الجمع، وهي مسألة حسنة ومتجهة من جهة المعنى، لأن المستحب لمن كان في المنزل في وقت الأولى أن يقدم الثانية إليها، وإنما تركنا هذا، التأخيره- عليه الصلاة والسلام- ليجمع في مزدلفة، فيبقى فيما عداه على الأصل. قوله: والمنقول عن الشافعي: أنه كره أخذ الحصى من ثلاثة مواضع: من المسجد، والحش، والمرمى. انتهى كلامه. أهمل موضعًا رابعًا نقص الشافعي على كراهة أخذه منه- أيضًا- وهو الحل، وقد صرح بنقل هذه الأربعة عنه وعن الأصحاب- أيضًا- النووي في ((شرح المهذب)) في الكلام على المبيت بمزدلفة. واعلم أن التقييد بالحش لا معنى له، بل يكره الأخذ من كل موضع نجس، كذا رأيته في ((الأم))، وهو واضح، ولك أن تقول: إذا غسل هذا الحصي المأخوذ من الموضع النجس فهل تزول كراهة الرمي، لصيرورته طاهرًا، أم الكراهة باقية، لأخذه إياه من مكان مستقذر؟ فيه نظر، والثاني يؤيده استحبابهم غسل الجمار قبل الرمي بها، سواء أخذها من موضع نجس أم لا، وحينئذ فلو لم تبق الكراهة لكان يلزم ألا يصح قولهم: يكره الرمي بها، مع قولهم: يستحب الغسل، فتفطن لذلك! والحش- بفتح الحاء المهملة وبالشين المعجمة-: هو المرحاض، وأصله في اللغة: البستان، وإنما سمي هذا بذلك، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في البساتين قبل اتخاذ هذه المراحيض المعدة لذلك. قوله: وكذا قوله النووي في ((الروضة)): إن الذي نص عليه الشافعي فيما إذا حصل بمزذلفة في النصف الأخير: أنه حصل له المبيت، وحكى قولًا ضعيفًا عن نصه في ((الإملاء)) و ((القديم)): أنه يحصل بساعة بعد نصف الليل وطلوع الفجر. انتهى كلامه. والقولان اللذان حكاهما عن ((الروضة)) قد غلط في حكايتهما غلطًا أداه إلى اتحاد القولين، فإن الصواب في حكاية الثاني: أن يقول: من طلوع الشمس، لا: طلوع الفجر، فإنه قال: لو لم يحضر مزدلفة في النصف الأول، وحضرها ساعة في النصف الثاني- حصل المبيت، نص عليه في ((الأم))، وفي قول ضعيف نص عليه في ((الإملاء)) والقديم: يحصل بساعة بين نصف الليل وطلوع الشمس، وفي قولٍ: يشترط معظم الليل. هذا لفظه.

قوله- في أثناء بحث-: قال الرافعي: ولك أن تقول: هذه الاستحالة واضحة إن قيل بوجوب المبيت، لكنه مستحب على هذا القول، فعلى هذا: لا يستحب المصير إلى الكون بها في معظم الليل أو حالة الطلوع. انتهى كلامه. وصوابه الذي قاله الرافعي: لا يستحيل المصير، بلفظ: ((يستحيل)) - أعني باللام- لا بلفظ ((يستحب))، أي: بالباء. قوله: قال في ((المهذب)): والمستحب أن يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي وهو راكب، لما روت أم سلمة قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي من بطن، الوادي وهو راكب، وهو يكبر مع كل حصاة. انتهى. وتعبيره بقوله: أم سلمة، تبع فيه ((المهذب))، وهو غلط، قال النوي في ((شرح المهذب)): والصواب الذي رواه جميع أصحاب كتب الحديث، ولا خلاف فيه بينهم: أنها أم سليمان. قال: وممن كذلك أبو داود وابن ماجه والبيقهي وغيرهم. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإذا رمى ذبح هديًا إن كان معه، لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] يعني: نحر الهدي، ولقول جابر في صفة حجه - صلى الله عليه وسلم -: ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة، ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر. ويستحب أن يأكل من كبد هديه إذا كان متطوعًا به قبل أن يمضي إلى طواف الإفاضة، وأما إذا كان واجبًا فقد تقدم الكلام فيه، وإذا كان منذورًا فسيأتي. ثم قال ما نصه: الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره، والمراد هنا- كما قال النووي-: ما يجزئ في الأضحية من الإبل والبقر والغنم. انتهى كلامه. وهذا التفسير الذي نقله عن النووي قد صرح به النووي كما قال، إلا أنه تفسير باطل يتعجب من موافقة المصنف له، فإن الهدي يطلق على ما وجب على المحرم بسبب الإحرام كدم التمتع وغيره، ويطلق على ما يسوقه المحرم- تقربًا- إلى مكة، وكل منها يشرع ذبحه في يوم النحر بعد الرمي، وكلام المصنف صريح في الموافقة على ذلك كله، فإنه مثل بالنوعين كما سبق، وإذا علمت ذلك فكل منهما لا يشترط فيه أن يكون بصفة الأضحية: فأما الواجب بسبب الإحرام، فبدليل جزاء الصيد والشجر، فإنه يجب في الصغير صغير، وفي المعيب معيب، وأما ما يسوقه المحرم ابتداء فواضح، وكذلك إذا أشار إلى ما لا يجزئ ونذر سوقه أو التزمه في ذمته، ولكن قيده بالعيب المانع من الأضحية كالصغر ونحوه، وكل هذا مشهور معروف في كتاب النذر.

قوله: وقد اقتضى كلام الشيخ هنا وفي ((المهذب)): أن الإفاضة لأجل الطواف تكون بعد الخطبة التي ذكر أنها تشرع بعد الظهر، وهو ما دل عليه كلام ابن الصباغ حيث قال: يستحب أن يخطب الإمام يوم النحر بعد صلاة بمنى، فيعلم الناس الذبح والرمي والمصير إلى طواف الإفاضة، وذلك وجه يحكى في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب. ثم قال: لكن في ((الأم)) أنه يطوف قبل الزوال. وقال القاضي في الكلام على الجبران: إنه الصحيح. ولم يذكر القاضي الحسين والغزالي والرافعي غيره، واختار القاضي أبو الطيب وجهًا ثالثًا في المسألة، فقال: إن كان الزمان صيفًا عجل الإفاضة في أول النهار لاتساعه، وإن كان شتاء أخرها لقصر النهار. انتهى. وما ذكره- رحمه الله- في أول كلامه من دلالة كلام ابن الصباغ على أنها بعد الزوال عجيب وغفلة، فإنه كما يعلمهم النحر والرمي- وإن كان يستحب قبل الزوال، لاحتمال تركهما- كذلك أيضًا يعلمهم المسير إلى مكة وإن كانت مستحبة قبل الزوال، لاحتمال ذلك. قوله: وأما آخر وقته- يعني رمي جمرة العقبة- فقال القاضي الحسين والماوردي وغيرهما: إنه غروب الشمس من يوم النحر. وفي ((النهاية)) وجه: أنه يمتد إلى طلوع الفجر، والصحيح: الأول. ثم قال ما نصه: ولك أن تقول: سيأتي أن الصحيح فيما إذا أخر هذا الرمي إلى اليوم الأول أو الثاني أو الثالث من أيام التشريق وقع أداء، وهذا يدل على أن الوقت لا يخرج بما ذكر، ويجوز أن يقال: المراد بخروج الوقت هنا خروج وقت الاختيار، وما سيأتي المراد به بيان وقت الجواز، وحينئذ يكون للرمي ثلاثة أوقات: وقت فضيلة: وهو بعد طلوع الشمس إلى الزوال، ووقت اختيار وهو من الزوال إلى الغروب، ووقت جواز وهو إلى آخر أيام التشريق. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الكلام صريح في أن الأصح جواز تأخير رمي يوم إلى يوم، لكنه قد صرح بعد ذلك بتصحيح المنع، وعبر بلفظ ((الصحيح))، ذكر ذلك في الكلام على أهل السقاية في أثناء شرحه لقول الشيخ: فيرموا يومًا ويدعوا يومًا. الأمر الثاني: أنه إذا ترك رمي يوم من أيام التشريق فإن الأصح: أنه يتداركه في باقي الأيام، ويكون أداء، هكذا قاله الرافعي وغيره، ويؤخذ منه جواز التأخير، وسيأتي ذكر ذلك في كلام المصنف واضحًا صحيحًا، وأما دعواه هنا أن ذلك سيأتي- أيضًا- في

جمرة العقبة فدعوى غير صحيحة كما ستعرفه، إن شاء الله تعالى. قوله: وما ذكره الشيخ- أي: من جواز تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر- هو الذي أورده الجمهور، وقد حكى ابن التلمساني: أنه لا يجوز له أن يخرج من مكة حتى يطوف. ثم قال: قلت: والذي يظهر لي أن أقول من قال: إنه يجوز له تأخير الطواف إلى آخر العمر، ليس على إطلاقه، بل هو محمول على ما إذا كان قد تحلل التحلل الأول، أما إذا لم يكن قد تحلل التحلل الأول فلا يجوز له تأخيره وتأخير ما يحصل به التحلل الأول إلى آخر العمر، بل لا يجوز تأخيره إلى العام القابل، لأنه يصير محرمًا بالحج في غير أشهره، وسنذكر مادة ذلك في باب الفوات والإحصار عن الماوردي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما اقتضاه كلامه من أن ما قاله التلمساني وجه مخالف للجمهور فليس بصحيح، لأن طواف الوداع واجب، ومتى طاف للوداع وقع عن الفرض، فأشار ابن التلمساني إلى هذا، وقد صرح به غيره، وهو معنى ما في ((الرافعي))، فإنه قال: وأما الحلق والطواف فلا يتأقت آخرهما، لكن لا ينبغي أ، يخرج من مكة حتى يطوف، فإن طاف للوداع وخرج وقع عن الزيارة. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن هذا البحث الذ ذكره فاسد، لأنه إن كان المراد بمصيره محرمًا في غير أشهر الحج هو إنشاء للإحرام فانتفاؤه معلوم، وإن أراد استدامته فلزوم حصوله مسلم، وليس يمتنع إجماعًا، فإن أشهر الحج قد انقضت بطلوع الفجر من يوم النحر، ولا يجب عليه تقديم أسباب التحلل على الفجر، بل الأفضل تأخيرها عنه. قوله: فإن قلنا: إن الحلق نسك، حصل له التحلل الأول باثنين من ثلاثة، وهي الحلق والرمي والطواف، لما روى أبو داود عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء))، وفي كتب الفقهاء أنه قال ((إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب واللباس)). فيه تعرض إلى لخصلة واحدة، وأما اشتراط خصلتين في حضور التحلل الأول- كما يقولونه- فالحديث الدال عليه ليس مذكورًا في كتب الحديث، بل في كتب الفقهاء، وما أشار إليه من أنه لا أصل له في كتب الحديث ليس كذلك، فقد روى الدارقطني الحديث المذكور عن عائشة من ثلاث طرق، وفي كل منها ذكر الرمي

والحلق كما ذكره الفقهاء، وفيها- أيضًا- التنصيص على الطيب واللباس، إلا أنه ضم إلى الخصلتين ثالثة وهي الذبح، وقد اتفقوا على عدم اعتبارها في التحلل، ولفظ الطريق الأول: ((إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل كل شيء إلا النساء، وحل لكم الثياب والطيب))، ولفظ الثاني: ((إذا رمي وحلق وذبح فقد حل له كل شيء إلا النساء)) ولفظ الثالث: ((إذا رميتم وحلقتم وذبحتم حل لكم كل شيء إلا النساء))، وبالجملة فالحديث ضعيف، صرح بضعفه أبو داود. قوله: ونص في ((الإملاء) على أنه يستحب رمي الجمرات في اليوم الأول من أيام التشريق، وفي اليوم الثاني منها راكبًا، لأنه يسير بعده، وفي ((التتمة)): أن الصحيح ترك الركوب في الأيام الثلاثة، وكأنه- والله أعلم- تمسك بما رواه أبو داود عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، ويخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، لكن في إسناده هذا الخبر عبد الله بن عمر بن حفص العمري، وفيه مقال، وإن كان مسلم قد خرج له مقرونًا بأخيه عبيد الله. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- تفقهًا من كون صاحب ((التتمة)) قد تمسك بالحديث المذكور غريب، فقد صرح صاحب ((التتمة)) بذلك متصلًا بالكلام الذي نقله عنه، ثم إن إخراج المصنف لهذا المستند مع علمه بضعفه دليل على عدم اطلاعه على غيره، مع أن الترمذي رواه عن ابن عمر من طريق آخر وقال: إنه حسن صحيح. وقال في ((شرح المهذب)): إنه على شرط الشيخين، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا. قوله: ومن عجز عن الرمي استناب من يرمي عنه. ثم قال: والعجز تارة يكون بالحبس ظلمًا- كما نقله البندنيجي عن نصه في ((الإملاء)) - وتارة بالمرض. انتهى كلامه. واعلم أن تقييد الحبس بكونه ظلمًا يشعر بأن المحبوس بحق لا يستنيب، وليس كذلك، بل متى عجز المحبوس بحق أو بغيره استناب، لوجود العلة، وقد صرح به النووي في ((شرح المهذب)) فقال ما نصه: ويجوز للمحبوس الممنوع من الرمي الاستنابة فيه، سواء كان محبوسًا بحق أو بغيره، وهذا متفق عليه. هذا لفظ النووي، وصورة المحبوس بحق: أن يجب عليه قود لصغير أو مجنون، فإنه يحبس، وما أشبه هذه الصورة من جهة المعنى، فأما إذا حبس بدين قادر عليه فلا يستنيب جزما. قوله: نعم، لو ترك رمي اليوم الأول: فهل يأتي به في الثاني، أو رمي اليوم الأول

والثاني فهل يأتي به في اليوم الثالث أداء؟ فيه قولان مأخذهما: أن أيام منى هل تجعل كاليوم الواحد أم لا؟ فالقديم والجديد وأحد قوليه في ((الإملاء)): أنه لا يأتي به أداء، بل يكون لكل يوم حكم نفسه بفوت الرمي فيه بغروب الشمس منه، قاله الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ، وادعى الرافعي والإمام أنه الأصح. انتهى كلامه. واعلم أن ما نقله- رحمه الله- عن الإمام والرافعي أنهما صححا أنه لا يكون أداء غلط عجيب: أما الرافعي فصحح في ((الشرحين: الكبير، والصغير)) أنه يتدارك أداء، وعبر بـ ((الأظهر))، وأما الإمام فحكى خلافًا من غير ترجيح في أنه هل يتدارك أم لا؟ وكذلك في أن المأتي به على القول بالتدارك قضاء أم أداء، لم يرجح فيه شيئًا أيضًا، ولا حكى فيه ترجيحًا عن غيره، وقد سبق في الكلام على جمرة العقبة أن المصنف قد ناقض كلامه في هذه المسألة. قوله: أما لو ترك رمي يوم النحر حتى دخلت أيام التشريق فهل يأتي به في أيام التشريق، ويكون حكمه حكم رمي اليوم الأول من أيام التشريق إذا فاته فيما ذكرناه؟ فيه طريقان: منهم من قال: نعم، وهي الطريقة الصحيحة في ((الشامل))، وجعلها البندنيجي المذهب، واختارها في ((المرشد)). انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه إذا فعله فيها لا يكون أداء على الصحيح عند هؤلاء، وليس كذلك، فإن صاحب ((الشامل)) لم يذكر سوى تصحيح الإتيان به، وكذلك صاحب ((المرشد))، إلا أنه جزم به ونقله عن النص فقال: فأما من أخر رمي جمرة العقبة حتى غربت الشمس من يوم النحر فإنه يرميه في أيام التشريق، نص عليه الشافعي. هذا لفظ ((المرشد))، ومن النسخة التي كانت لابن الرفعة وعليها خطه بذلك نقلت. قوله: فعلى هذا: إذا ترك الرمي في الأيام الأربعة حتى مضت أيام التشريق لزمه دم واحد على الصحيح. ثم قال: في آخر المسألة ما نصه: قال الرافعي: والأصح ما ذكره في ((التهذيب)): أنه تلزمه أربعة دماء. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الرافعي غلط منه عليه، فإن الرافعي قد قال ما نصه: والأصح منها- على ما ذكره في ((التهذيب)) -: إيجاب أربعة دماء. ثم قال: لكن الجمهور قالوا: إن قلنا بتدارك رمي بعضها في الباقي اكتفينا بدم، لأن جعلنا الرمي كالشيء الواحد. انتهى، فأسقط- رحمه الله- لفظ ((على))، وذهل عما نقله عن الجمهور، فوقع في الغلط، ولم ينقل في هذه المسألة عن ((التهذيب))

إلا ما ذكرته لك، وقد صرح بوجوب دم واحد في ((الشرح الصغير))، وكذلك النووي في ((الروضة)). قوله: قال أهل اللغة: يقال: أبق العبد- بفتح الباء- إذا هرب من سيده. انتهى. قال الثعالبي في كتاب ((سر اللغة)) في الفصل الثالث من الباب: إنه لا يقال للعبد: آبق إلا إذا كان ذهابه من غير خوف ولا كد في العمل، وإلا فهو هارب. وما ذكره المصنف من فتح الباء هي لغة، وفي لغة أخرى بالكسر، والمضارع فيهما متعاكس. قوله: ولو رحل من منى، فغرب عليه الشمس وهو سائر قبل انفصاله منها- لم يلزمه الرمي أيضًا ولا المبيت، لأن عليه في الحط بعد الارتحال مشقة. نعم، لو كان مشغولًا بالتأهب فغربت عليه فوجهان في ((الشامل)) وغيره: أحدهما: لا يلزمه المقام، وهو المذكور في ((تعليق)) القاضي أبي الطيب لا غير، واختاره في ((المرشد))، وقال الرافعي: إن الأصح مقابله. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من تصحيح الوجوب فغلط، فإنه قد صحح جواز الانصراف، وذكر مثله في ((الروضة)) - أيضًا- ولم يتعرض للمسألة في ((المحرر)) ولا في ((الشرح الصغير)). قوله: ويستحب لمن حج أو اعتمر أن يدخل البيت ويصلي فيه النفل. ثم قال: أما صلاة الفرض فالقياس أن تكون خارج البيت أفضل، للخروج من خلاف الأئمة، فإن مالكًا لا يرى بالصحة، وهذا كما قلنا: إن الأفضل إيقاع ما فاته من الصلاة منفردًا، للخروج من خلاف أبي حنيفة، فإنه لا يرى بصحة ذلك في جماعة، لكن في ((مناسك)) النووي أنه إن رجا كثرة جماعة فالصلاة خارجها أفضل، وإن كان لا يرجوها فداخل البيت أفضل. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره هنا في الفائتة سهو، وقد ذكره على الصواب في أوائل صلاة الجماعة فقال: إن الجماعة فيها- يعني الفائتة- سنة قولًا واحدًا، لأن في ((الصحيح)): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه الصبح في جماعة حين فاتتهم في الوادي. وما أطلق الرافعي عند الكلام فيما إذا أقيمت الصلاة وهو في قضاء فائتة من أن الفائتة لا تشرع لها الجماعة، فمحمول على أنه لا يصليها في جماعة خلف من يصلي أداء، لأن صلاة الفائتة عندنا لا تستحب خلف من يصلي أداء- كما قاله المتولي وغيره-

للخروج من خلاف العلماء في صحة ذلك. هذا كلامه، وقد اتضح به وجه الغلط، وحاصله: أنه التبس عليه فعلها في جماعة خلف مؤداة بأصل فعلها في جماعة. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أنه لم يقف على هذه المسألة إلا في ((المناسك))، وهو غريب، فقد صرح بها في ((الروضة)) في باب استقبال القبلة، وزاد على ذلك فنقلها عن الأصحاب فقال: قال أصحابنا: وذكر مثله في ((شرح المهذب))، وأجاب عما تمسك به المصنف من الخروج من الخلاف بأنه إنما يستحب الخروج منه إذا كان محترمًا، فأما ما لا حرمة له- وهو المخالف للأحاديث الصحيحة- فلا. واعلم أن الأصحاب قالوا باستحباب ركعتي الطواف خلف المقام، فإن تعذر فالمستحب الحجر، فإن تعذر ففي المسجد، ثم في أي موضع شاء. ولم يتعرضوا لفعلها في الكعبة، فهل يقال: إنه أفضل من جميع ما سبق، عملًا بما تقدم من الإطلاق، وإنما سكتوا عنه لعدم تيسيره في الغالب، بدليل أنه أفضل من الحجر ومن المسجد بلا شك، ولم يصرحوا بتقديمه عليهما، أو يقال: المقام يقدم على البيت، لفعله- عليه الصلاة والسلام- وتكون هذه الصلاة مستنثاة من ذلك الإطلاق؟ فيه نظر.

باب صفة العمرة

باب صفة العمرة قوله: وهذا صريح في أنه- عليه الصلاة والسلام- أحرم منها، أي: من الحديبية ... إلى آخره. اعلم أن ما ذكره من كونه- عليه الصلاة والسلام- قد أحرم من الحديبية لا يتصور القول به، لأنه- عليه الصلاة والسلام- خرج هو وأصحابه من المدينة على قصد النسك، ومجاوزة الميقات بغير إحرام لمن هذه صفته لا يجوز، وميقات أهل المدينة: ذو الحليفة، وأما الحديبية فليست ميقاتا لا لهم ولا لغيرهم، ولهذا قال النووي في ((شرح المهذب)): قول الغزالي في ((البسيط)) وقول غيره: إنه أحرم من الحديبية، غلط صريح، ففي البخاري أنه إنما أحرم بها عام الحديبية من ذي الحليفة. نعم، اختار الدخول منها إلى مكة لأداء مناسكه.

باب فرض الحج والعمرة وسننها

باب فرض الحج والعمرة وسننها قوله: ولو شك هل طاف ثلاثًا أو أربعًا؟ بنى علي اليقين كما في عدد الركعات. نعم: قال الشافعي: إن أخبره مخبر أنه طاف سبعة أو ثمانية، أحببت أن يقبل قوله في ذلك. قال أبو الطيب: والفرق بين هذا وبين من شك في صلاته، حيث قلنا: إنه لا يقبل في الصلاة قول غيره- هو: أن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الطواف لا تبطله. انتهى. وهذا الفرق الذي نقله عن القاضي وأقره عليه لا يستقيم، فإنه إنما يصح في أحد شقي المسألة، وهو ما إذا أخبره المخبر بالنقصان، فإنه إذا رجع إلى خبره، وكان الذي يأتي به زائدًا على السبع- لا يفسده، أما إذا أخبر بالزيادة، وهي المسألة التي صرح بها الشافعي، وساق المصنف الفرق لأجلها، كما إذا أخبر بأنه طاف سبعة أو ثمانية وشك، أو اعتقد أنه طاف ستة أو أقل- فالرجوع إلى المخبر ليس فيه هذا المعنى، بل يكون مقيدًا بعدم صحة الطواف. قوله: وقد ظهر لك بما ذكرناه أن الخلاف في أربع مسائل، وهي: الوقوف بعرفة إلى الليل، وطواف الوداع، والمبيت بمزدلفة وبمنى- ليالي الرمي، والقديم فيها الوجوب، وهو الذي صححه النووي في ((المناسك)) في الكل. انتهى كلامه. واعلم: أن المصنف قد سبق من كلامه أن الشافعي نص في القديم والجديد على وجوب الدم بترك الجمع بين الليل والنهار، واقتصاره فيه هنا على القديم يقتضي أن الجديد خلافه فاعلمه، وقد سبق في المسألة كلام آخر مذكور في صفة الحج فراجعه.

باب الفوات والإحصار

باب الفوات والإحصار قوله: ومن فاته الوقوف بعرفة فقد الحج، ويجب عليه القضاء والهدي. ثم قال: واعلم أن الوزير ابن هبيرة قال- في كتابه الذي ذكر فيه ما اجتمع عليه الأئمة الأربعة وما اختلفوا فيه-: إن محل إيجاب القضاء عليه، والهدي- إذا لم يشترط التحلل عند الإحرام إذا عرض له الحصر، فإن شرط ذلك استفاد به عند الحصر التحلل، وإسقاط الهدي، والقضاء. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بالإحصار في هذين الموضعين سهو، فإن الإحصار لا يجب فيه القضاء، وليس الكلام- أيضًا- فيه، بل كلامه في الفوات. الأمر الثاني: أن استغرابه لذلك وحكايته له على جهة الاتفاق غربيان، فإن المسألة مشهورة في كتب الرافعي وغيره من كتب المذهب، وعبروا عن ذلك باشتراط التحلل لضلال الطريق والخطأ في العدد، ومختلف فيها- أيضًا- اختلافًا كثيرًا وإن كان الأصح صحة الشرط، وممن ذكر ذلك كله المصنف في أواخر الباب في الكلام على اشتراط التحلل بعذر المرض. الثالث: أن الوزير المذكور حنبلي المذهب لا شافعي على خلاف ما يوهمه كلام المصنف هنا، واستغربه في غير هذا الموضع، فاعلمه. قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن تحلل بالإحصار لم يلزمه القضاء، لأنه لو وجب لبينه الله- تعالى. ثم قال: وأيضًا فقد كان من أحصر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفًا وأربعمائة رجل، قال الشافعي: ولم يعتمر في القابل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نفر معروفون بأنسابهم وأسمائهم. قال الماوردي: وأكثر ما قيل: إنهم سبعمائة، ولم ينقل أنه أمر من تخلف بالقضاء. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الجميع لم يقضوا قد جزم بما يخالفه في باب قتال المشركين، وسأذكر عبارته هناك- إن شاء الله تعالى- فراجعها.

قوله: وفيه قول آخر: أن المحصر يلزمه القضاء. ثم قال: وحكى الإمام عن صاحب التقريب القولين: فيما إذا صد عن البيت بعد الوقوف بعرفة وتحلل، وفيما إذا صد عن الوقوف فقط، وأنه جعل ضابط التحلل المتفق على عدم وجوب القضاء: ألا يصدر منه قبل الإحصار إلا الإحرام المحض ثم تحلل، وإذا جرى مع الإحرام نسك، ثم فرض الصد والتحلل- ففي القضاء قولان. انتهى كلامه. وما حكاه الإمام عن التقريب من ضبط مجيء القولين: أن يقع مع الإحرام نسك حاصله جريان الخلاف فيما إذا أتى بطواف القدوم أو الرمي أو الحلق إذا جعلناه نسكًا، وهنا النقل غلط على التقريب ليس له ذكر فيه، فإنه ذكر أن المحصر عن البيت يجوز له التحلل، وفي القضاء قولان، ثم ذكر أن المحصر بعد الوقوف يجوز له التحلل. ثم قال ما نصه: ثم يكون الجواب في الإعادة على القولين الذي ذكرناهما: أحدهما: لا إعادة عليه، لأنه إنما حل بعذر الحصر. والثاني: عليه الإعادة، لأنه لما وصل إلى البيت خرج عن معنى الحصر. هذا لفظه من غير زيادة عليه، ولم يذكر بعده ولا قبله غيره.

باب الأضحية

باب الأضحية قوله: وحكم الهدي في اختصاصه بأيام التشريق كحكم الأضحية، كذا صرح به الرافعي في باب الهدي، وحكى- أعني الرافعي- في كتاب الحج في ذلك وجهين، وأن أظهرهما هو الاختصاص. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي لم يحك وجهين في كتاب الحج، بل جزم بأنه لا يختص ذكر ذلك في الكلام على أسباب التحلل، وإنما حكى الوجهين في باب الهدي، فانعكس على المصنف. الأمر الثاني: أن الرافعي قد صرح في باب الهدي بأن الهدي يطلق على ما يسوقه المحرم تقربًا إلى الله- تعالى وعلى دماء الجبرانات، وهو الدم الواجب لترك مأمور به أو لفعل منهي عنه، ودم التمتع والقران ونحو ذلك، وصرح بأن الهدي المساق للتقرب يختص ذبحه بأيام التشريق في أصح الوجهين، منذورًا كان أو تطوعًا، قياسًا على الأصحية. وأما الهدي الواجب للمأمورات أو المنهيات فذكره- أعني الرافعي- في الكلام على أسباب التحلل، وجزم بأنه لا يختص بوقت، وتبعه المصنف قبل باب صفة الحج عليه، فجزم- أيضًا- به. فإذا تقرر أنهما مسألتان، وأن كل مسألة مذكورة في بابها- علمت أن ذلك قد اشتبه هاهنا على المصنف، وأنه خلط مسألة بمسألة، مع ما سبق له من الانعكاس الذي نبهت عليه في صدر المسألة، وقد اشتبه- أيضًا- من قبله على النووي في الروضة وشرح المهذب والمنهاج، فاستدرك على الرافعي في الكلام على أسباب التحلل، ونسبه إلى التناقض فيما ذكره، فتفطن لذلك، وقد أوضحته في المهمات أبسط مما ذكرته هاهنا. قوله: ويندرج فيه- أي في كلام الشيخ- الحامل إن قيل: إن الحمل في الحيوان عيب- كما هو الصحيح وستعرفه من بعد- وهو وجه محكي في ((شرح الوجيز)) للعجلي عن بعض الأصحاب، والمشهور الإجزاء. انتهى كلامه.

وما ذكره هنا من كون الإجزاء هو المشهور، وحكاية مقابله وجهًا عن هذا التصنيف المستغرب القليل الاستعمال- غريب مردود، بل المعروف عدم الإجزاء، ومقابله مستغرب، فقد صرح بكون الحمل عيبًا في الأضحية خلائق لا يحصون، منهم: صاحب ((التتمة)) في كتاب الزكاة في الكلام على الخلاف بيننا وبين داود في إجزاء الحامل هناك، وكذلك شيخ الأصحاب الشيخ أبو حامد في ((تعليقه))، والعمراني في ((البيان))، والنووي في ((شرح المهذب)) نقلًا عن الأصحاب فقال ما نصه: قال القاضي أبو الطيب: قال الأصحاب: إنما قلنا: لا تجزئ الحامل في الأضحية، لأن المقصود من الأضحية اللحم، والحمل يهزلها ويقل بسببه لحمها، فلا تجزئ، والمقصود من الزكاة كثرة القيمة. هذا لفظه من غير اعتراض عليه، ورأيته- أيضًا- في ((الذخيرة)) للبندنيجي في باب صدقة الغنم في آخر المسألة الثانية منه، وفي ((شرح المهذب)) المسمى بـ ((الاستقصاء)) في هذا الباب- أعني باب الأضحية- نقلًا عن الأصحاب أيضًا. وبالجملة: فهؤلاء أئمة المذهب قد جزموا بكونه عيبًا، وهذه كتبهم شاهدة، والسبب في دعوى المصنف ما ادعاه: هو أن المسألة المذكورة في غير مظنتها، ولم يظفر به هنا لأحد إلا لهذا الكتاب الغريب، غير مستحضر لخلافه، فاقتصر على حكايته وجهًا عنه، فاقتضى أن المشهور خلافه. والغريب: أنه في كتاب الزكاة قد جزم بكونه عيبًا نقلًا عن صاحب ((التتمة))، وقد راجعت كلام العجلي فوجدته قد ذكر المسألة في أول الضحايا فقال: قال الصيمري في ((الإيضاح)): والحامل والحائل سواء. ورأيت في تصنيف بعض أصحابنا أنه لا يجوز التضحية ابتداء بالحامل، لأن الحمل ينقص اللحم. هذا لفظه، فراجعت الكتاب الذي نقل عنه العجلي وهو ((الإيضاح)) للصيمري فلم أر المسألة فيه بالكلية. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن نذر أضحية معينة زال ملكه عنها، ولم يجز له بيعها، فإن قيل: من زال ملكه عن الشيء فلا يملك بيعه، فما فائدة قول الشيخ: ولم يجز له بيعها، بعد قوله: زال ملكه عنها؟ قلنا: له فوائد، منها: أن الخصم- وهو أبو حنيفة- قال: لا يزول الملك، ويجوز البيع، فأراد أن يذكر عن المذهب ما يخالفه. انتهى. وهذا الجواب عجيب لا يطابق السؤال بالكلية، لأن أبا حنيفة لما قال ببقاء الملك، ناسب أن يقول بجواز البيع، والسؤال ورد على فائدة امتناع البيع بعد التنصيص على زوال الملك، وإنما يحسن الجواب لو كان أبو حنيفة يقول بزوال الملك، وأن البيع

يجوز بعد ذلك. تنبيه: ذكر المصنف ألفاظًا: منها: الداجن- بدال مهملة، وبالجيم والنون-: هي الشاة، ولكن الأصل- كما قاله الجوهري- وضعها للشاة التي تألف بالبيوت، فكأنهم استعملوها في مطلق الشاة. ومنها: العفراء- بعين مهملة مفتوحة، وفاء ساكنة، وراء مهملة-: هي التي يعلو بياضها حمرةلإ، يقال: شاة عفراء، وحيوان أعفر. ومنها: أبو بردة بن نيار، هو- بنون مكسورة وياء مثناة من تحت، وراء مهملة- جمع ((نير)) - بكسر النون- أي: ((النير)) يطلق على ما وضح من الطريق، وعلى لحمة الثوب، أي: المقابلة للسدى. ومنها: النقي- بنون مكسورة، وقاف ساكنة، بعدها ياء-: هو المخ والودك، ومنه الحديث: ((التي لا تنفي)). ومنها: الثولاء التي تدور في المرعى ولا ترعى، هو- بثاء مثلثة مفتوحة- مبأخوذ من ((الثول)) - بفتح الواو- وهو جنون يصيب الشاة، فتستدبر المرعى ولا تتبع الغنم، ويستعمل في الأناسي مجازًا، فيقولون: رجل أثول، وامرأة ثولاء.

باب العقيقة

باب العقيقة قوله: ذكر فيها ((اليأفوخ))، وهو بياء بنقطتين من تحت، بعدها همزة ساكنة قد تسهل ألفا، تليها فاء، وفي آخره خاء معجمة، وهو الموضع اللين من وسط رأس المولود، وتاؤه زائدة، وجمعه: يآفيخ، قاله الجوهري وغيره: وكثير من العامة يقولون بالنون.

باب الصيد والذبائح

باب الصيد والذبائح قوله: نعم: يختلف حكم البعير إذا ند وإذا وقع في بئر: أنه لو أرسل للناد كلبًا فقتله حل، ولو أرسل عليه وهو في البئر كلبًا- ففي حله وجهان، أصحهما في ((البحر)): المنع، ومقابله: ينسب إلى البصريين، وصححه النووي في ((الروضة))، وكذا الشاشي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن النووي والشاشي من أنهما صححا الحل فغلط، بل المذكور في كلامهما إنما هو تصحيح التحريم- كما صححه في ((البحر))، وقد صرح بذلك في ((الروضة)) فقال: قلت: الأصح تحريمه، وصححه أيضًا الشاشي- والله أعلم. هذا لفظه، وذكر مثله- أيضًا- ((في المنهاج))، وكذلك في ((شرح المهذب)) فقال: إنه الأصح. وصححه صاحب ((البحر)) و ((المستظهري)). الأمر الثاني: أن الشاشي لم يصحح في هذه المسألة شيئًا بالكلية، بل نقل التصحيح عن الماوردي فقال في ((الحلية)) - وهو المسمى بـ ((المستظهري))، لأنه صنفه للخليفة المستظهر بالله-: فإن أرسل عليه كلب صيد حتى عقره لم يحل في أصح الوجهين، ذكر ذلك في ((الحاوي)). هذا لفظه، ثم راجعت- أيضًا- كتابيه، وهما ((الترغيب)) و ((العمدة))، فلم أر المسألة فهيما بالكلية، على أنه- ولا النووي- لم يظفر بهذين الكتابين، إنما وقفا على ((الحلية)) فنقل النووي عنها أول كلام وذهل عن آخره، فوقع في الوهم، ثم إن المصنف قلد النووي في نسبة التصحيح إلى الشاشي، فلما حاول إثباته على ما وقع في كلام النووي انعكس عليه، وبهذا وأمثاله يعلم الآفات الحاصلة من تقليد المتأخرين في النقل.

باب الأطعمة

باب الأطعمة قوله: وألحق به- أي بابن عرس- في الحل: الدلق واليمام والحواصل، وعلى ذلك جرى في ((التهذيب)). انتهى. وتعبيره باليمان تحريف، وإنما هو القاقم- بقافين- كذا رأيته في ((التهذيب)). قوله: وقد دل كلام الشيخ على أن الزرافة مما يتوقى بنابه، وليس كذلك، ولأجله قال الفراء في ((فتاويه)) بحلها كالثعلب. انتهى كلامه. والمراد بالفاء هو البغوي صاحب ((التهذيب))، والنقل الذي عزاه إلى ((فتاويه)) غلط، فإن المسألة ليس لها ذكر في ((الفتاوي)) المذكورة. نعم: هي مذكورة كذلك في ((فتاوي)) شيخه القاضي الحسين، والبغوي هو الذي جمعها، وهذا هو منشأ هذا الوهم، على أن الذي أوقع المصنف في هذا الغلط هو تقليده لابن يونس شارح ((التنبيه))، فإن سبقه إلى ذلك، وابن يونس أوقعه صاحب ((رفع التمويه))، فإن سبق ابن يونس إليه، وابن يونس كثيرًا ما يعتمد على ما فيه. واعلم: أن صاحب ((تتمة التتمة)) قد ذهب إلى الجواز- أيضًا- وهو الصواب وحكى الوجهين ابن يونس صاحب ((التعجيز)) في اختصاره لـ ((التنبيه))، ووقع في ((شرح المهذب)) للنووي أنها حرام بلا خلاف، وليس كذلك. قوله: والصحيح تحريم الضفدع والسرطان والسلحفاة، وبه جزم الماوردي والبندنيجي. نعم: هل الضفدع طاهر أو نجس؟ فيه وجهان في ((الحاوي)): فإن قلنا بنجاسة، فلو مات في ماء قليل: فهل ينجس من غير تغير؟ فيه وجهان، وجه المنع: لحوق المشقة كدم البراغيث. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- عن ((الحاوي)) من حكاية وجهين في نجاسة الضفدع غلط عجيب، لا ذكر لهما فيه ولا في غيره، فإنه ذكر المسألة قبيل باب صفة الماء الذي ينجس والذي لا ينجس، فقال- بعد ذكر الضفدع وحيات الماء وعقاربه- ما نصه: وهي إذا ماتت نجسة: وهل ينجس الماء بموتها فيه أم لا؟ على ما ماضي من القولين. قوله: وهل تكره الجلالة أو تحرم؟ فيه وجهان.

ثم قال: والجلالة هي التي أكثر أكلها العذرة اليابسة- كذا قاله الشيخ أبو حامد، ولم يورد النووي سواه، وقيل: هي متغيرة اللحم. انتهى. وما ذكره من اقتصار للنوي عليه غريب، فقد حكى في ((أصل الروضة))، و ((شرح المهذب)) وجهين، وزاد فصحح الثاني. نعم: خالف في ((التحرير)) - وهو ((لغات التنبيه)) - فجزم بالأول. تنبيه: ذكر المصنف ألفاظًا: منها في الحديث: ((إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)). انتهى. السفساف- بتكرار السين المهملة والفاء-: هو الرديء من كل شيء، والأمر الحقير- قاله الجوهري، وأورد هذا الحديث. ومنها: الثيتل:- بثاء مثلثة مفتوحة، ثم ياء مثناة بنقطتين من تحت، بعدها تاء مثناة مفتوحة، كذا ضبطه الجوهري- وقال: إنه الوعل المسن- أي: الذي طال عمره، والوعل هو المسمى بتيس الحبل. ومنها: الوعل- بواو مفتوحة وعين مهملة. ومنها: الأيل- يأتي ضبطه في آخر باب الربا، فراجعه. ومنه الحزرو، اسم للذي قارب البلوغ، هو بحاء مهملة مفتوحة بعدها زاي معجمة ساكنة، وبالراء المهملة في آخره، ويجوز فيه فتح الزاي مع تشديد الواو، وقد أشار إليه المصنف. ومنها: القنفذ: بضم الفاء وفتحها وبالذال المعجمة- والأنثى: قنفذة، بزيادة التاء ومنها: الفن: اسم لطائر، هو بفاء ثم نون مفتوحتين بعدهما كاف. ومنها: الببر: هو بباءين موحدتين: الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة: اسم لحيوان يعادي الأسد، ويقال له- أيضًا-: الفرانق، بضم الفاء وبالنون المكسورة بعد الألف. ومنها: ابن آوى: هو بالمد، ووزنه: ((أفعل))، ولذلك لا ينصرف كما قاله الجوهري. ومنها: ابن مقرض- بضم الميم وكسر الراء وبالضاد المعجمة، ويجوز كسر الميم مع فتح الراء. ومنها: الوبر: بواو مفتوحة وباء موحدة ساكنة. ومنها: الدلدل: بدالين مهملتين مضمومتين. ومنها: الغداف: بغين معجمة مضمومة ودال مهملة. ومنها: الزاغ: بزاي وغين معجمتين.

ومنها: اللقلق: بقافين. ومنها: الورشان: بواو مفتوحة وشين معجمة وبالنون، اسم للقمري الذكر، ويسمى-: أيضًا ساق حر، بالسين المهملة والقاف والحاء المهملة المضمومة والراء المشدودة. ومنها: اليعقوب: بياء مفتوحة مثناة من تحت وعين مهملة: اسم لذكر الحجل. ومنها: الصعوة، بصاد مفتوحة وعين ساكنة مهملتين. ومنها: النغر، بنون مضمومة وغين معجمة مفتوحة. ومنها: الحمرة، بحاء مهملة مضمومة وميم مشددة مفتوحة. ومنها: العندليب، بالنون الساكنة وبالياء الموحدة في آخره. ومنها: الببغاء، بثلاث باءات موحدة، أولاهن وثالثهن مفتوحتان، والثانية ساكنة، وبالغين المعجمة، وهي المسماة بالدرة، بدال مهملة مضمومة. ومنها: الشقراق، بشين معجمة تفتح وتكسر، وقاف مكسورة، وراء مشددة، وبعد الألف قاف. ومنها: الضوع، بضاد معجمة مضمومة وواو مفتوحة وعين مهملة. ومنها: النهاس، بالنون والسين المهملة والمعجمة- أيضًا- والنهس: أخذ اللحم بمقدم الأسنان.

باب النذر

باب النذر قوله: ولو نذر فعل معصية لغا نذره، وقيل: يلزمه كفارة يمين. ثم قال: وعلى الخلاف يتخرج نذر الصلاة في الحيض، ونذر الصوم أيام العيدين والتشريق ونحو ذلك. نعم: لو نذر الصلاة في الأوقات المكروهة- فقد تقدم أن الكراهية كراهة تحريم، فيأتي فيه الخلاف مع وجه آخر- حكاه الأصحاب: أنه ينعقد نذره على القضاء في غيرها دون الوفاء به. وهذا هو المنقول. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من أن الخلاف ليس بمنقول، وإنما هو على سبيل التخريج، وأن المنقول صحة النذر ووجوب الوفاء به في وقت آخر- غريب، فقد حكى فيه الرافعي في الكلام على الأوقات المكروهة وجهين، أضعفهما: ما ادعى المصنف انحصار النقل فيه، وأصحهما: أن نذره لاغٍ، وبناهما على أنه إذا تحرم بالصلاة في ذلك الوقت: هل ينعقد؟ إن قلنا: نعم- صح نذره، وإلا فلا. والغريب: أن المصنف قد حكاهما- أيضًا- هنالك. نعم: يصح له ما ادعاه في الوجه الثالث القائل بلزوم الكفارة، فإنهم لم يصرحوا به. الأمر الثاني: أن القائل بصحة النذر لم يوجب فعلها في وقت آخر- كما ادعاه المصنف، بل قال: إن الأولى ذلك. وممن ذكره هكذا الرافعي والنووي. قوله: ولو نذر شيئًا ولم يعلقه على شيء فقد قيل: لا يصح، لأنه لا يسمى نذرًا، والمذهب: أنه يصح، لعموم الأدلة، وما ذكره من أنه لا يسمى نذرًا ممنوع، لأن الله- تعالى- قال- حاكيًا عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ...} الآية [آل عمران:35]، فأطلق النذر ولم يذكر تعليقه. انتهى كلامه. وما ذكره من كون هذه المقالة من كلام مريم- عليه السلام- غلط عجيب وذهول، فإنه من كلام أمها لما كانت حاملًا بها، فاستحضر الآية تجده كذلك. نعم: وقع ذلك من مريم في قوله- تعالى-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} الآية [مريم:26]، فاشتبه ذلك على المصنف. قوله: والوجهان جاريان فيما لو نذر أن يحج من شوال، والأظهر- وهو اختيار

صاحب ((التهذيب)) -: اللزوم، وكذا لو نذر أن يحرم من بلد كذا. انتهى كلامه. وما ذكره هنا من أن الأظهر أن زمان الإحرام يتعين بالنذر قد خالفه في باب كفارات الإحرام، في الكلام على قول الشيخ: ويجب عليه القضاء من حيث أحرم، فإنه جزم بأنه لا يتعين، ومثل بشوال كما مثل به هاهنا، وقد سبق ذكر لفظه هناك، فراجعه. قوله: وإن نذر المشي إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... إلى آخره. ثم قال في أثنائه ما نصه: بناء على الوجهين فيما لو نذر أن يعتكف شهرًا بصوم هل يجزئه أن يعتكف رمضان؟ انتهى. وما ذكره هنا من حكاية الوجهين هو الصواب، وقد ادعى في باب الاعتكاف عدم الخلاف فيه، وسبق ذكر لفظه هناك والوعد بذكر هذا الموضع. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن نذر المشي إلى ما سواهما من المساجد لم يلزمه ... إلى آخره. ثم تكلم في أن نذر الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة هل يلزم أم لا؟ فقال ما نصه: لكن الرافعي ادعى أن الصحيح في هذه الصورة اللزوم. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي هنا قد وهم في نقله عنه، بل الصحيح عنده عدم التعيين، وقد سبق التنبيه عليه في باب الاعتكاف. قوله: الثاني إذا نذر الصلاة في مسجد غير الثلاثة انعقد نذره بالصلاة، ولم تتعين عليه الصلاة في المسجد الذي عينه في نذره، بل له أن يفعلها في بيته. ثم قال: ووراء ما ذكرناه وجوه: أحدها: أنه إذا نذر أن يصلي ركعتين في مسجد تعين عليه الصلاة فيه، حكاه في ((الذخائر)). والثاني- حكاه مجلي أيضًا-: أن من أصحابنا من قال: إذا نذر الصلاة في الجامع تعين عليه. والثالث- حكاه في ((البحر)): أنه إذا نذر الصلاة في الجامع له أن يصلي في مسجد وإن لم يكن جامعًا. انتهى كلامه. والوجه الأول المنقول عن ((الذخائر)) صحيح، وأما الوجه الثاني المنقول عنها فلم أر له ذكرًا فيها لا في هذا الباب ولا في باب الاعتكاف. قوله- نقلًا عن الطبري في ((العدة)) -: لأن اسم البدنة من جهة اللسان غير واقع

على هذين الجنسين- يعني البقر والغنم- ثم قال: وما ذكره- يعني الطبري- فيه منازعة تظهر لك مما ذكرناه في باب كفارات الإحرام. وهذه المنازعة التي أشار إليها باطلة، لأنها مبنية على ما نقله عن الأزهري هنا: أن ((البدنة)) تقع على الثلاثة، والنقل المذكور عن الأزهري غلط كما سبق بسطه، فراجعه. قوله- في الكلام على نذر صوم سنة بعينها-: وإن كانت امرأة فحاضت قضت أيام الحيض في أصح القولين، لأن الزمان زمان الصوم فأشبه رمضان، وقد وافق الشيخ في تصحيحه البندنيجي، وأبا الحسين بن القطان، وأبا علي الطبري، وقال ابن كد: إنه المشهور. وحكى في ((البحر)) طريقة قاطعة به. والثاني: لا تقضي أيام الحيض، لأنها لا تقبل الصوم فلم تدخل في النذر كأيام العيد والتشريق ورمضان، وهذا ما صححه النووي. انتهى كلامه. وهذا النقل الذي ذكره عن ابن القطان وأبي علي الطبري، وابن كج في دعواه المشهور- غلط، فإنه نقل عن المذكورين من ((الرافعي))، والرافعي نقل عنهم العكس فقال: ففي وجوب القضاء قولان: أحدهما: لا يجب كيوم العيد. والثاني: يجب كما في رمضان. ثم قال ما نصه: وهذا أصح عند صاحب ((المهذب))، والأول أصح عند أبي علي الطبري وأبي الحسين بن القطان، ونسبه القاضي ابن كج إلى الجمهور، وتابعهم الروياني. هذا كلامه من غير زيادة عليه، ولما اختصره في ((الروضة)) وفي به فقال: أظهرهما: لا يجب كالعيد، وبه قال الجمهور، وصححه أبو علي الطبري وابن القطان والروياني. هذا لفظه، ولا شك أن النسخة التي وقعت لابن الرفعة سقط منها من لفظ ((عند)) إلى لفظ ((عند))، وأما نقله عن ((البحر)) طريقة قاطعة بالوجوب فليس كذلك، بل إنما نقلها في الفطر بالمرض. قال:- يعني الشيخ-: ومن نذر صلاة لزمه ركعتان في أصح القولين، وركعة في الآخر: فإن قلنا بالأول فلا يجوز أن يصلي قاعدًا إلا أن يعجز. ثم قال ما نصه: وإن قلنا بالقول الثاني جاز أن يصلي الركعة قاعدًا، كما صرح به البغوي، وحكى الرافعي في جواز القعود فيها وجهين، وقد خرج على القولين- أيضًا- ما إذا نذر ... إلى آخر ما قال.

وما حكاه- رحمه الله- عن الرافعي من أنا إذا فرعنا على القول الثاني، وهو لزوم الركعة: أن في جواز القعود وجهين- غلط، لم يذكره الرافعي، ولا توجيه له- أيضًا- من جهة المعنى، بل فرع الخلاف على الخلاف فقال: وقوله في الكتاب: تكفيه ركعة، ليعلم بالحاء والألف، وأراد بقوله: وكذا في الصلاة، التفريع على القول الأصح عنده، وهو التنزيل على أقل جائز، وهل يجوز أن يصلي قاعدًا مع القدرة على القيام؟ فيه وجهان، بناء على الأصل المذكور. هذا لفظه بحروفه، وذكر مثله في ((الشرح الصغير)) - أيضًا- وفي ((الروضة))، وسبب الغلط- والله أعلم-: أنه توهم في قول الرافعي: التفريع على القول الأول. أنه ابتداء كلام، ولم ينظر لما قبله، واشتبهت الواو في قوله)) وهل ((بالفاء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وعليه المرجع والمآب. تم الجزء الأول بحمد الله تعالى وعونه وبركة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. يتلوه في أول الجزء الثاني- إن شاء الله تعالى- كتاب البيوع، والحمد لله أولًا وآخرًا. بلغ جميع هذا الجزء من أوله إلى آخره مقابلة محررة على يد كاتبه ومالكه على نسخة محررة شاهدت في حاشية آخر الجزء الذي نقلت منه ما مثاله بخط المؤلف- رحمه الله تعالى-: بلغ مقابلة محررة بالمسودة، كتبه مؤلفه، عفا لله عنه! انتهى آخر خط المصنف، وذلك في مجالس كثيرة آخرها يوم الأربعاء، التاسع عشر من شهر ربيع الآخر، من شهور سنة ست وستين وسبعمائة. وحسبنا الله ونعم الوكيل!

كتاب البيوع

كتاب البيوع باب ما يتم به البيع قوله: ويعتبر في البيع ثلاثة أشياء: أحدها: العاقد وهو البائع والمشتري، والثاني: المعقود عليه وهو الثمن والمثمن، والثالث: الصيغة وهي الإيجاب والقبول. قال في ((الوسيط)): وهذه الثلاثة الأركان لابد منها لوجود صورة العقد. واعترض الرافعي على الغزالي فقال: إن كان المراد أنه لابد من وجودها في دخول صورة البيع في الوجود فالزمان والمكان وكثير من الأمور بهذه المثابة، فوجب أن تعد أركانًا، وإن كان المراد أنه لابد من حضورها في الذهن ليتصور البيع فلا نسلم أن العاقد والمعقود عليه بهذه المثابة، لأن البيع فعل من الأفعال، والفاعل لا يدخل في حقيقة الفعل، ألا ترى أنا إذا عددنا أركان الصلاة والحج لا نعد المصلي والحاج أركانًا؟! بل الأشبه أن الصيغة- أيضًا- ليست جزءًا من حقيقة فعل البيع. انتهى كلام الرافعي، وأجاب المصنف فقال ما نصه: وجوابه: أن المراد الأول، وإنما لم نعد الزمان والمكان من الأركان، لأنه لا يعقل فعل من الأفعال بدونهما، عقدًا كان أو غير عقد، والعلم بذلك حاصل بالبديهة، فلذلك لم يذكرهما، بخلاف ما ذكره، فإنه لما اختلف فيه احتاج إلى ذكره. انتهى كلامه. وهذا الكلام غلط وذهول عجيب، فإن المختلف فيه إنما هو الصيغة، وأما العاقد والمعقود عليه والثمن والمثمن فلابد منها بالاتفاق. واعلم أن المنقول: أن البائع والمشتري ليسا من الأركان، كذا جزم به القاضي الحسين في كتاب الوكالة من ((تعليقته))، قال: بخلاف الزوجين في النكاح. وفرق بأنهما مقصودان فيه، بخلاف البيع. قوله: وروى الخراسانيون عن ابن سريج تخريج قولٍ: أنه يكتفي في المحقرات بالمعاطاة، وروي عنه في ((التتمة)) أنه يكتفي بها فيما جرت العادة فيه بالمعاطاة ويعدونه بيعًا، ومقتضى هذا: أن خلاف ابن سريج ليس قاصرًا على المحقرات. ثم قال ما نصه: ومثلوا المحقرات بالباقة من البقل، ومنهم من يمثلها بما دون

نصاب السرقة. قال الرافعي: والأشبه الرجوع فيه إلى العادة، فما يعتاد فيه الاقتصار على المعاطاة بيعًا ففيه التخريج، ولهذا قال صاحب ((التتمة)) معبرًا عن التخريج: ما جرت العادة فيه بالمعاطاة فهو بيع، وما لا كالدواب والعقار والجواري فلا. هذا آخر كلامه، وقد قدمت من كلام صاحب ((التتمة)) أن بينهما فرقًا، فلا يحسن الاستشهاد. انتهى كلام ابن الرفعة. وما ذكره- رحمه الله- في آخر كلامه اعتراضًا على الرافعي من أن الاستشهاد لا يحسن سهو، فإن الاستشهاد بما نقله عن صاحب ((التتمة)) لما ذكره بحثًا، واضح مطابق، بل الصواب على هذا التقدير أن نقول: فلا يحسن البحث الذي ذكره وعبر عنه بالأشبه، ووجهه: أن الذي يعد بيعًا بالمعاطاة أعم من المحقرات كما تقدم، فلا يصح تفسير المحقرات به، وجواب هذا أن نقول: إن الرافعي إنما أراد بقوله: والأشبه الرجوع فيه، أي: في التخريج، وهو الظاهر، وعلى هذا فلا إيراد. قوله: إذا باع الأب أو الجد مال ابنه الصغير هل يفتقر إلى النطق بلفظ العقد، أو تكفي نية ذلك؟ فيه وجهان: فإن اعتبرنا الإتيان باللفظ فهل يفتقر إلى القبول؟ فيه وجهان. انتهى. ومقتضاه: أن الإيجاب لابد منه جزمًا، وأن الخلاف إنما هو في القبول، وليس كذلك، بل الوجهان في أنه لابد من اللفظين أو يكفي أحدهما، سواء كان إيجابًا أو قبولًا، كذا حكاه الرافعي وغيره، وذكره المصنف على الصواب في ((المطلب))، وقال: إنا إذا اكتفينا بأحد اللفظين فلابد أن يكون يصح الابتداء به. قوله: وهذا التعليل من الماوردي مبني على اعتقاده أن البيع لا ينعقد بقوله: أبحتك هذا العبد بألف، أو: سلطتك عليه، أو: أوجبته لك، أو: جعلته لك، وما أشبه ذلك، وهذا إن أراده مع وجود النية، وجعل القائل كالشاهد فهو خلاف الظاهر من المذهب على ما حكاه الرافعي وغيره، والأصح على ما حكاه الغزالي. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما نقله عن الرافعي وغيره من تصحيح البيع بلفظ الإباحة مع النية غلط، ففي الرافعي الجزم بأنه لا يصح، وقال النووي في ((شرح المهذب)): إنه لا خلاف فيه. الثاني: أن الرافعي لم يذكر ((أوجبت)) بالكلية. الثالث: أنه لم يصحح شيئًا في ((سلطتك عليه))، والذي صحح الانعقاد إنما هو النووي في ((زوائده)). قوله: وحكى- يعني الرافعي- في باب الاستثناء من كتاب الطلاق: أن الكلام

اليسير لا يقطع الاتصال بين الإيجاب والقبول على الأصح، فيتجه جريان مثل ذلك هنا. انتهى كلامه. واعلم أن الذي حاول تخريجه هو عين ما نقله الرافعي أو داخلٌ فيما نقله، فإنه عبر بالإيجاب والقبول كما تقدم، وهو يتناول الأبواب كلها إن لم نحمله على المتبادر إلى الفهم وهو المعاملات. قوله: فروع: لو قال البائع. بعتك بألف أفقبلت؟ فقال: نعم، أو قال: بعتك بألف، فقال: نعم- انعقد البيع، حكاه الرافعي في كتاب النكاح، وفي ((النهاية)) في كتاب ((الإقرار)) أن قول المشتري: نعم، لا يكون قبولًا. انتهى كلامه. وحاصله: أن الإمام قائل بأن ((نعم)) لا تكون جوابًا للمسألتين، وليس كذلك، بل إنما أجاب به في المسألة الثانية فقط، فإنه ذكرها قبيل فصل أوله: قال: والإقرار في الصحة والمرض- فقال ما نصه: مما أجراه الأئمة: أن الرجل إذا قال لمن يبايعه: بعت منك هذا بألف، فقال: نعم- لم يكن ذلك قبولًا، فإن قول القائل: نعم يترتب على استخبار وهو يقع خبرًا، والخبر يتردد بين الصدق والكذب، وقبول العقد إنشاء لا يتصف بصدق ولا كذب. هذا كلامه، ولا يلزم من المنع في هذه أن يمنع عند الاستفهام، لأن ((نعم)) إذا لم يتقدمها استفهام لا يكون مدلولها إلا تصديق ما صدر من المتكلم وهو الإيجاب في مثالنا، فكأنه قال: صدقت في أنك رضيت بذلك وأوجبه، وإنما تكون مفيدة إجابة المتكلم إذا كان مستفهمًا، والصورة التي لم يذكرها الإمام قد وجد فيها الاستفهام، ووقعت ((نعم)) فيها مترتبة على التماس إنشاء. قوله: ولو قال: بعتك بألف إن شئت، فقال: شئت- لم ينعقد، وفي ((التتمة)) عند الكلام في نية الوضوء والتبرد: أنه يصح. ولو قال: اشتريت، فوجهان. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((التتمة)) قد نقله- أيضًا- المصنف عنه في ((شرح الوسيط))، وهو غلط عجيب، فإن صاحب ((التتمة)) إنما حكم بصحة الإيجاب فقط، ولم يتعرض لقول المشتري: شئت، فقال: وكما لو قال رجل لآخر: بعتك هذا الثوب بعشرة إن شئت، كان الإيجاب صحيحًا، لأنه لو لم يقل: إن شئت كان الخيار ثابتًا، فإذا صرح به لم يضره. هذا لفظه، ثم صرح هنا بالمسألة التي ذكرها المصنف، وجزم فيها بالبطلان فقال: الخامسة عشرة: لو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة إن شئت، فإن قال المشتري: شئت، لم ينعقد البيع، لأن لفظ ((المشيئة)) ليس من ألفاظ التمليك، وإن قال: قبلت، فوجهان. هذا كلامه، وقد ذكر الشيخ محيي الدين أنه لا خلاف في عدم الصحة فيها، كذا ذكره في ((شرح المهذب))، لكن نص الشافعي على الصحة، كذا نقله عنه

الكرابيسي في ((أدب القضاء)) فقال ما نصه: وقال- يعني الشافعي-: إذا قال لعبده أنت حر بألف، أو: أنت طالق بألف إن شئت، فشاء العبد والمرأة- عتق العبد وطلقت المرأة وعليهما الألف، وكذلك إذا قال: قد بعتك هذا العبد بألف إن شئت، فقال: قد شئت- جاز البيع. هذا لفظه بحروفه، ومنه نقلت، والنسخة التي نقلت منها أصل عتيق كتب ابن الصلاح عليها بالثناء عليه وباستغرابه وكثرة فوائده، ورأيت في ((الأم)) في كتاب الإقرار نحوه- أيضًا- فإنه قال: ما نصه: لو قال: هذا لك بألف درهم إن شئت، فشاء- كان هذا بيعًا لازمًا، ولكل واحد منهما الخيار، لأن قول إنشاء لا إقرار. هذا لفظه. قوله- في المسألة-: ولو قال: اشتريت، فوجهان، أظهرها- وهو اختيار القاضي الحسين، وبه أجاب القاضي أبو الطيب وابن الصباغ في كتاب ((الإقرار)) -: أنه ينعقد. ولو قال الطالب: اشتريت هذا منك إن شئت، فقال: بعته منك إن شئت- قال الإمام في كتاب ((الإقرار)): الذي يجب القطع به: أنه لا ينعقد، فإن الموجب علق الإيجاب بالمشيئة بعد سبق التعليق، والتعليق يقتضي وجود شيء بعده، فلو قال الطالب مرة أخرى: اشتريت، أو: قبلت- قال: فالذي يقتضيه القياس عندي أن البيع لا يصح على قياس القاضي- أيضًا- فإنه يبعد حمل المشيئة على استدعاء القائلٍ، وقد سبق فتعين حمله على المشيئة نفسها، وإذا حمل على ذلك كان تعليقًا محضًا، والتعليق يبطل البيع. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام في كتاب الإقرار من تصوير المسالة بما إذا علق المشتري- أيضًا- كلامه، وأن تعليقه مقتضٍ للبطلان- قد نقله عنه المصنف في موضع آخر أيضًا، وهو غلط، بل أجاب الإمام بالبطلان مع كون المشتري لم يعلق كلامه، فقال ما نصه: ولو قال الطالب: اشتريت منك هذا العبد بألف، فقال: بعته منك إن شئت- فيجب القطع بأن البيع لا ينعقد، فإن الموجب علق الإيجاب بالمشيئة بعد سبق القبول، والتعليق يقتضي وجود شيء بعده. هذا لفظه، ثم ذكر ما نقله عنه المصنف إلى آخره. قوله: فنقول: إذا اشترى قريبه الذي يعتق عليه ثبت فيه الخيار للبائع، وفي ثبوته للمشتري خلاف مبني على أقوال الملك، فإن قلنا إن الملك للبائع أو موقوف، ثبت له- أيضًا- وإن قلنا: إنه للمشتري، لم يثبت على الصحيح، وفي ((الحاوي)) حكاية وجه أنه يثبت أيضًا. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الحاوي من كونه قد حكى وجهًا ليس كذلك، بل جزم به. نعم، حكاه الماوردي في خيار الشرط، ولا يلزم من التردد هناك حصوله هنا،

وقد قال الإمام في كتاب الإقرار: إن من يثبت الخيار لمن يشتري أباه يتردد في خيار الشرط، ويقول: إنا يثبت خيار المجلس من جهة أنه خيار شرعي، فأما الخيار الذي يتعلق ثبوته بالشرط والاختيار فلا وجه لثبوته. هذا كلامه. قوله: وفي جواز الخيار ثلاثة أيام ما رواه مسلم وأبو داود عن محمد بن يحيي بن حبان قال: كان جدي قد بلغ مائة وثلاثين سنة وما زال يخدع، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بايعته فقل: لا خلابة، وأنت بالخيار ثلاثًا)). انتهى كلامه. واعلم أن هذه الزيادة التي ساق الحديث لأجلها، وهي قوله: ((وأنت بالخيار ثلاثًا)) - قد وهم في نسبتها إلى مسلم، والذي رواه مسلم عن ابن دينار: أنه سمع ابن عمر يقول: ذكر رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يخدع في البيوع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بايعت فقل: لا خلابة)) فكان إذا بايع يقول: لا خيانة. وأورده- أيضًا- البخاري في ((صحيحه)) في باب ما ينهى عن إضاعة المال، وفي باب من باع على الضعيف، ولم يذكر فيه هذه الزيادة. نعم، ذكرها في ((تاريخه))، ورواها- أيضًا- على الشافعي وغيره، وما وقع فيه المصنف هاهنا قد تفطن له في ((المطلب)) فذكره على الصواب أيضًا. قوله: وينتقل المبيع إلى المشتري بنفس العقد في أحد الأقوال، وبانقضاء الخيار في الثاني، وموقوف في الثالث. ثم قال: ومن فوائد الخلاف: نفقة المبيع على من تجب؟ وقد ذكره الجيلي، وقال: إذا قلنا بالوقف كانت عليهما ... إلى آخر ما ذكر. وهذه المسألة التي لم ينقلها إلا عن الجيلي مشهورة للأصحاب المعتبرين على غير هذا الحكم الخارج عن القياس: فقد ذكرها الروياني في ((البحر)) في باب بيع المال الذي فيه الزكاة، وهو قبل زكاة المعدن، وصرح بأنا إذا قلنا بالوقف كانت- أيضًا- موقوفة تجب على من تبين الملك له، وذكرها أيضًا. وذكر الرافعي: أن نفقة الولد إلى أن يعرض على القائف على الرجلين، فإذا ألحقه بأحدهما رجع الآخر عليه. وقيده في العدة بما إذا أنفق بإذن الحاكم، وإلا لم يرجع. والقاضي الحسين في كتابه المسمى بـ ((أسرار الفقه)) فقال: إن قلنا: إن الملك للبائع، فالنفقة عليه، وإن قلنا: للمشتري، فعليه، ذكر ذلك قبيل كتاب النفقات، ويعلم منه- أيضًا- من عليه النفقة على القول الثالث، لأن كون الملك فيه للبائع أو المشتري تظهر عند انقضاء الخيار، إلا أن المطالب منهما في مدة الوقف لا يعلم مما ذكره. ثم إن الفطرة تتبع النفقة، وفطرة هذا العبد تنبني على أقوال الملك كما ذكره الرافعي في آخر باب زكاة الفطر، فلزم ما ذكرناه، والحاصل: أن المسألة مذكورة في غير موضعها، فلم يتفطن لها

المصنف، فقلد هذا الناقل الضعيف في حكم ضعيف. قوله: والعلم بالأجل تارة يحصل بأن يقال: إلى يوم أو ساعة، فيصح وإن أطلق، لأنه يحمل على اليوم الذي هو فيه، كما لو حلف لا يكلم شهرًا ثم ينظر: إن كان العقد نصف النهار ثبت له الخيار إلى أن ينتصف النهار من الغد، والليل يدخل في حكم النهار للضرورة، وإن كان العقد بالليل فلابد أن يشترط الخيار في بقية الليل، كذا قاله في التتمة، وفيه نظر من حيث إنه جعل اليوم محمولًا على اليوم الذي هو فيه، وفي نظيره من الإجارة لا يصح، ولم يظهر لي فرق بينهما. انتهى كلامه. وما اعترض به على المتولي من أن نظيره في الإجارة لا يصح، واستشكل الفرق بينهما- فغريب جدًا، فإن الصحيح في ((الرافعي)) و ((الروضة)) فيما إذا قال: أجرتك شهرًا، وأطلق- أنه يصح، ويحمل على الشهر الذي هو يه، ويكمل من الشهر الذي بعده إذا كان في أثنائه، ولا فرق في التنكير بين اليوم والشهر والسنة، وقد صرح الرافعي في الإجارة باليوم بخصوصه، ولم يحك فيه إلا الصحة، فقال في الكلام على استئجار الثياب: وإن قال: يومًا، وأطلق- قال الصيمري: كان من وقته إلى مثله من الغد. هذا كلامه، والغريب أن المتولي في ((التتمة)) قد صرح هنا بالصحة في الإجارة- أيضًا- فقال في الباب التاسع من أبواب البيع: التاسعة: إذا قال: بعتك بشرط خيار يوم، اقتضى إطلاقه اليوم الذي وقع فيه العقد، كما لو قال: أجرتك شهرًا، انصرف إلى الشهر المتصل بالعقد، وإذا قال: والله لا أكلمك شهرًا، انصرف إلى الشهر الذي بعد اليمين. هذا لفظ المتولي، ثم ذكر بعده ما نقله عنه المصنف إلى آخره، فحذف استدلاله بالإجارة، ثم نسي، فظن أنه يقول بالبطلان، فاعترض عليه، لاسيما أن المصنف قد صحح في الإجارة عدم الصحة على عكس ما صححه الرافعي، فقال: إنه الصحيح الذي قطع به العراقيون. واعلم أن ما نقله عن ((التتمة)) من أنه إذا كان العقد بالليل فلابد أن يشترط الخيار في بقية الليل، هو كذلك في ((التتمة)). فاعلمه، فإن النووي قد نقل المسألة عنه في ((شرح المهذب)) على غير الصواب، فقد يقف عليه واقف فيظن صحة ذاك وبطلان ما ذكره المصنف. قوله: ويجوز الاستبدال عن الثمن على الجديد. ثم قال: ومحله إذا لم يكن الثمن مؤجلًا، أو كان ولكن لا اشتراك في علة الربا بينه وبين الثاني، أو كان مشتركًا لكنهما جنسان كالذهب والفضة، أما لو اتحد الجنس كالطعام عن الطعام لم يجز، وهذا ما حكاه القاضي في باب بيع الطعام. هذا

كلامه، ثم نقل عن الشيخ أبي حامد جواز ما منعه القاضي، وعن الماوردي منع الاستبدال عن المؤجل مطلقًا، لأنه لا يملك المطالبة به. إذا علمت ذلك فحاصل ما حكاه عن القاضي: أنه يمتنع استبدال الطعام عن الطعام المؤجل إذا كانا من جنس واحد، فإن كانا من جنسين كالقمح عن الشعير لم يمتنع، وهو خلاف ما ذكره القاضي، فإن الذي ذكره أن المؤجل إن لم يكن طعامًا جاز، وإن كان طعامًا فباعه بطعام لم يجز، وإن باعه بغيره جاز إذا تقابضا، وحاصله: منع بيعه بطعام آخر، ولم يشترط فيه أن يكون من الجنس، ومأخذه أنه بيع للربوي الحال بالمؤجل، وقبض المؤجل إذا بيع والحالة هذه إنما هو قبض حكمي، وذلك لا يكفي في الربويات كما أوضحوه في بابه، بل يتعين حمل كلام القاضي على أنه من غير الجنس، لأنه إذا كان بجنسه ونوعه كان أخذ الحال عن المؤجل تعجيلًا للمؤجل، وليس باعتياض كما جزم به الرافعي هنا. وهذا التقرير لكلام القاضي هو الصواب المطابق لما ذكره، وقد قرره المصنف كذلك في ((شرح الوسيط)) على خلاف ما قرره هنا، ونقل فيه عن نص الشافعي ما قاله القاضي من التفصيل، وينبغي إذا كان المؤجل نقدًا فباعه بنقد أن يكون كالطعام بالطعام عند القاضي. قوله: وفي الثمن ثلاثة أوجه: والثاني: أنه النقدان لا غير، والمثمن ما يقابلهما على اختلاف الوجهين. والثالث- وهو الأصح-: أن الثمن هو النقد، والمثمن: ما يقابله. فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين- فالثمن: ما اتصلت به الباء، والمثمن: ما يقابله، فإذا باع بغير النقدين في الذمة: فإن قلنا بالوجه الأول فيجوز الاستبدال عنه كالنقدين، وإن قلنا بغيره فلا يجوز. انتهى ملخصًا. وما ذكره من أنا إذا فرعنا على جواز الاستبدال عن الثمن: أنه يجوز الاستبدال هذا على الوجه الأول، فواضح، لأنه الثمن عند هذا القائل، فإن الباء قد التصقت به. وأما منعه الاستبدال على الوجهين الأخيرين فصحيح بالنسبة إلى الوجه الثاني، وهو القائل بأن الثمين هو النقدان لا غير، وأما بالنسبة إلى الوجه الثالث فلا، بل حكمه حكم الوجه الأول، لالتصاق الباء- أيضًا- وهو واضح. قوله- في المسألة أيضًا-: ويظهر للاختلاف في أن الثمن ماذا، فوائد أخر، منها: إذا كان العوضان نقدين، فعل الأول: لا يمتنع فيجري في جواز الاستبدال عن كل

منهما الخلاف المذكور. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن الوجه الأول السابق في كلامه هو أن الثمن ما دخلت عليه الباء، وما لم تدخل عليه يكون مبيعًا، وحينئذٍ فيكون نفي المبيع في المسألة المذكورة إنما هو على الوجه الثاني لا على الوجه الأول، فانعكس على المصنف. الأمر الثاني: أن ما ذكره من حكاية الخلاف في هذه المسألة لم ينقله عن أحد، ولم أقف عليه لغيره، وهو فاسد، لأن هذا مصارفة، والمعتبر في الصرف هو القبض الحقيقي، ولهذا جزم الماوردي بمنع الإبراء منه، وقد جزم به المصنف- أيضًا- في آخر باب الربا. قوله: ومنها: إذا كان العوضان عرضين، فلا يجوز على الثاني الاستبدال عن واحد منهما وجهًا واحدًا. انتهى. وما ادعاه من نفي الخلاف إذا قلنا: إن الثمن هو النقدان لا غير، باطل، وذلك لأن مثل هذا العقد ليس سلمًا على الصحيح، بل بيعًا تثبت فيه أحكامه، غير أن المبيع فيه دين، ولنا في بيع المبيع من بائعه قبل القبض خلاف مشهور، وهذا فرض منه. قوله: أما إذا كان للبائع حق الحبس، ونقله بغير إذنه- فقد حصل نقل الضمان، وهل يملك التصرف؟ فيه وجهان في ((الوسيط))، والمذكور في ((الرافعي)) و ((الحاوي)): العدم، وفي ((النهاية)) - حكاية عن الشيخ أبي محمد أن الاستيلاء كما ذكرنا لا يقتضي نقل الضمان كما لا يقتضي التصرف، وهو بعيد. انتهى كلامه. وما ذكره من أن الاستيلاء مع النقل لا ينقل الضمان على هذا الوجه غلط، بل محله إذا وجد الاستيلاء ولم يوجد النقل، بأن كان بساطًا فجلس عليه، أو دابة فركبها ولم يشترها، كذا صرح به في ((النهاية)) في ضمن فصل أوله: ((قال: من ابتاع جزافًا))، وذلك أنه حكم بضمان ما اشتراه جزافًا وقبضه مكايلة، وبأن قبض المنقول يتوقف على القبض على الأصح. ثم قال ما نصه إن قلنا: لابد من النقل في قبض المبيع، وجعلنا الاستيلاء قبض عدوان- فلو وجد الاستيلاء من المشتري من غير نقل فهو كالقابض جزافًا فيما اشترى مكايلة، وذكر شيخي وجهًا آخر: أن الاستيلاء- كما صورنا- لا يقتضي نقلًا للضمان، كما لا يقتضي التسلط على التصرف، وهذا بعيد. هذا لفظ الإمام، وقد تفطن المصنف في شرح الوسيط لذلك، فذكره فيه على الصواب.

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز

باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز قوله: وفي الرافعي أن الظاهر عند الأصحاب: منع الاستصباح بالزيت النجس. انتهى كلامه. وهذا النقل غلط على الرافعي، فإن الموضع الذي ذكر الرافعي فيه المسألة هو صلاة الخوف، وقد صحح هناك الجواز في الشرحين معًا، وعبر فيهما بالأظهر، وصححه- أيضًا- النووي، ولم يتعرض للمسألة في هذا الباب. قوله: وحكي عن القاضي الحسين وجه في جواز بيع السباع لأجل جلودها، وهو جارٍ في الحمار الذي تكسرت قوائمه، وفي الطيور إذا كان في أجنحتها فائدة، ومنهم من لم يجره في الطيور، وفرق بأن الجلود يمكن تطهيرها، ولا سبيل إلى تطهير الأجنحة. انتهى كلامه. والذي امتنع من إجراء الوجه في الطيور وفرق بهذا الفرق، هو الرافعي، فإنه نقل عن الإمام إجراء الوجه فيه. ثم قال ما نصه: هكذا قال الإمام، لكن بينهما فرق، فإن الجلود تدبغ فتطهر، ولا سبيل إلى تطهير أجنحته. هذا لفظه، والفرق المذكور ليس بصحيح، فإن الانتفاع بالريش في النبل ونحوه من اليابسات جائز، والبيع وقع في حال الطهارة، لأن الكلام في بيع الطير، ومع كونه باطلًا فليس طريقة لبعض الأصحاب وخلافًا ثابتًا عندنا، على خلاف إيراد المصنف في الموضعين. قوله: وأما السباع التي تصلح للاصطياد كالفهد والنمر والهرة، وكذا ما يمكن القتال عليه كالفيل- فيجوز بيعهما، لوجود المنفعة المقصودة، وفي الفيل والهرة وجه: أنه لا يجوز بيعهما، حكاه في ((الحلبة)). انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من جواز بيع النمر لإمكان الاصطياد به، قد ناقضه في ش ((ر ح الوسيط)) فجزم بأنه لا يجوز بيعه، وبأنه من الحيوانات التي لا يمكن الصيد بها، وكلام الرافعي والنووي فيه- أيضًا- مختلف، وقد أوضحته في المهمات.

الأمر الثاني: أن هذا النقل المذكور عن ((الحلية)) غلط، لأنه إن أراد ((حلية)) الروياني فليس للفيل ذكر، وذكر الهرة، ولكن جزم بجواز بيعها. وإن أراد ((حلية)) الشاشي- وهو المعتاد منه ومن غيره عند الإطلاق- فهو على العكس مما قاله الروياني فإنه ليس للهرة فيها ذكر، وجزم في الفيل بالجواز، وإنما حكى الخلاف قبل استئناسه وتعلمه فقال ما نصه: فأما ما لا نفع فيه من الحيوان ويرجى نفعه في الثاني: كالفهد الذي إذا علم نفع، والفيل إذا تأنس حمل وقاتل- ففي جواز بيعه في الحال وجهان: أحدهما: لا يجوز، والثاني: يجوز. هذا لفظه، وكأنه تحرف عليه ((الفهد)) بـ ((الهرة))، ولم يحرر الخلاف ومحله، فوقع فيما وقع. نعم، في ((الذخائر)) وجه: أنه لا يجوز بيع الفيل ولا الفهد، وفي صحته نظر، قال في شرح المهذب إنه لا خلاف في صحة بيعهما وبيع القرد. قوله: وفي بيع السم الطاهر الذي لا يستعمل قليله في الأدوية وجهان في ((الحاوي))، وجه الجواز: الاعتماد على قتل الكفار به. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((الحاوي)) يقتضي أنه حكى الوجهين في السم الذي يقتل قليله وكثيره، وأن علة الجواز فيه هي قتل الكفار، وهذا غلط لم يذكره الماوردي، بل جزم في هذه الصورة بالمنع، وإنما حكى الخلاف في سم لا يضر قليله، فقال في باب بيع الكلاب فأما السم: فإن كان يستعمل تداويًا كالسقمونيا وما في معناه جاز بيعه، وما لا يستعلم تداويًا بحال فضربان: أحدهما: يقتل يسيره وكثيره، منفردًا ومع غيره، فبيعه لا يجوز لعدم المنفعة. هذا لفظه، وهو كما قلنا. ثم قال: والضرب الثاني: أن يقتل كثيره ولا يقتل قليله، أو يقتل مع غيره ولا يقتل بانفراده، فقد علق الشافعي القول في بيعه، فخرجه أصحابنا على قولين: أحدهما: أن بيعه باطل كالذي قبله، والثاني: جائز، لقصوره عن حال الأول. ومن أصحابنا من جوز بيع قليله الذي لا يقتل، ومنع من بيع كثيره الذي يقتل، وهذا الفرق لا جوه. له هذا لفظه. قوله: ويجوز بيع الزرزور والطاوس، للاستمتاع بصورته، وكذا ما يستمتع بصوته. انتهى كلامه. وفيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره في الزرزور من الاستمتاع بالصورة ليس كذلك، بل العلة فيه عند الأصحاب هو الاستمتاع بالصوت، والمشاهدة- أيضًا- تقتضيه، حتى لو فرضنا

انقطاع صوته امتنع بيعه، على خلاف ما يدل عليه كلامه، والسبب في وقوع هذا الوهم له تعبير الرافعي، فإنه قال: ومنه ما ينتفع بلونه أو صوته كالطاوس والزرزور. هذا لفظه، وهو من باب اللف والنشر: الأول للأول، والثاني للثاني، ولهذا عبر في ((الروضة)) بأن قال: بلونه كالطاوس، أو صورته كالزرور. الثاني: أن هذا الكلام كالصريح في أن الزرزور لا يحل أكله مع أنه حلال، ولا خلاف فيه- أيضًا- كما قاله في شرح المهذب. نعم، هذا الإيراد لا يخص المصنف، بل وقع لجماعة منهم الرافعي كما قدمت ذكره. قوله: فما لا منفعة منه شرعًا كآلات الملاهي والأصنام إذا كانت بعد زوال صورتها، لا مالية لها، لا يجوز بيعها، وكذا لو كان له بعد الرصاص مالية على الأظهر عند عامة الأصحاب، وعليه يدل خبر جابر، ومنهم من جوز بيعها، ورأى الإمام الأظهر الجواز إذا كانت متخذة من جواهر نفيسة، بخلاف ما إذا اتخذت من خشب ونحوه. انتهى كلامه. وهو غلط من جهتين: إحداهما: فيما نسبه إلى الإمام من اختيار التفصيل المذكور في آلات الملاهي، فإن الإمام إنما ذكره في الأصنام، وحكى في الملاهي وجهين من غير ترجيح. الجهة الثانية: أن مقتضاه: أن تجويز الإمام إنما هو في الذهب والفضة والزمرد ونحوها، لأن هذه هي الجواهر النفيسة، وليس كذلك، بل عداه الإمام إلى كل ما له قيمة النحاس والصفر والعود وغيرهما. والموقع للمصنف في هذين الوهمين هو تقليده للرافعي: أما الثاني فبصريح كلامه، وأما الأول فلإلباسٍ وقع في تعبيره، ولهذا وقع فيه- أيضًا- النووي في ((اختصار للروضة))، وعداه إلى ((شرح المهذب))، والمسألة ذكرها في ((النهاية)) في باب بيع الكلاب، وقد ذكرت لفظه في كتابنا المسمى بـ ((المهمات))، وهو الكتاب الذي من الله- سبحانه وتعالى، وله الفضل- بتمامة وإبرازه. قوله: والمرهون لا يصح بيعه، لأن المقصود من الرهن الاستيثاق إلى حين قضاء الدين، فلو صح بيعه قبل ذلك لبطلت فائدة الرهن، وأبدى الإمام في كتاب الإقرار احتمالًا- في صحة بيعه، ويكون موقوفًا- من بيع المفلس ماله قبل فك الرهن. انتهى كلامه. واعلم أن في بيع الفضولي قولًا مشهورًا بأنه قديم: أنه يصح موقوفًا على الإجازة،

وقد جزم الإمام بجريانه في المرهون عند إجازة المرتهن، وأما القولان في وقف بيع المفلس على فك الحجر فإنهما ثابتان في الجديد بالاتفاق، وقد قال الإمام: إنهما لا يجريان في الراهن إلا على الاحتمال الذي أشار إليه المصنف. ذكر ذلك كله في أول كتاب الإقرار في الكلام على إقرار المفلس، فاستحضر في أن مسألتنا قولًا جزم الإمام بثبوته، وهو غير القول الذي توقف في تخريجه. قوله: وعليه يخرج ما قيل في بيع الأشجار المساقى عليها: إنه لا يصح، لأن المساقاة عقد لازم، وقد استحق العامل أن يعمل فيها ما يستحق به أجرًا، وبعض الناس يقول: كان يتجه على بيع الأعيان المستأجرة، من حيث إن العامل قد استحق جزءًا من الثمرة الذي مقتضى العقد أن يكون للبائع، وغفل عن ملاحظة هذا الأصل. انتهى كلامه. وما ذكره في هذا البحث من عزوه لبعض الناس غريب، فإن البحث المذكور للرافعي، إلا أنه لم يذكره في بابه، بل ذكره في آخر الإجارة، وهو السبب المقتضى لذهول المصنف عنه. نعم، نقله النووي في ((الروضة)) من الإجارة إلى آخر المساقاة، وقد تكلمت في هذه المسألة كلامًا شافيًا لا مزيد عليه ولا محيد عنه، فلينظر من ((المهمات)). قوله- في الكلام على بيع الفضولي-: وقد حكى هذا القول، أي: قول الصحة، من العراقيين المحاملي في اللباب. انتهى. وهذا النقل عن اللباب قلد فيه النووي في ((الروضة))، فإنه نقله عنه هكذا، مع أن المحاملي لم ينص على هذه المسألة، فإنه عدد بيوعًا للشافعي فيها قولان، ثم عبر في أثنائها بقوله: وبيع تفريق الصفقة أو بيع الموقوف. هذا لفظه من غير زيادة عليه، ولا شك أن قولي الوقف يطلقان على هذه المسألة- يعني بيع الفضولي- ويطلقان على من باع مال أبيه ظانًا فبان ميتًا، وقد صرح هو بعد هذا بأسطر بذلك فقال: فائدة: هذه المسألة على القوم القديم ملقبة بوقف العقود، وهذا اللقب ينظم معها مسألتين ... إلى آخر ما قال. قوله: وقد استدل له بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع إلى عروة البارقي دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع إحداهما بدينار، وجاء بشاة ودينار، فقال- عليه الصلاة والسلام-: ((بارك الله لك في صفقة يمينك)). قال الماوردي: فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه. انتهى كلامه.

وإسناده هذه الزيادة الأخيرة- وهي الربح في التراب- إلى الماوردي، عجيبٌ، فإنها من تتمة الحديث ... كذا رواه الشافعي في الأم قبل باب كراء الإبل والدواب بأوراق، وكذلك أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن كما قاله في ((شرح المهذب))، ورواه- أيضًا- البخاري في باب علامات النبوة من ((صحيحه)) لكن بإسناد منقطع، وإنما رواه لأجل قطعة منه مسندة، ولفظ هؤلاء الثلاثة- أعني البخاري وأبا داود وابن ماجه- هو اللفظ الذي ذكره المصنف بعينه، إلا أن البخاري وابن ماجه روياه: ((التراب)) معرفًا بـ ((أل)) والسبب في وقوع المصنف في هذا الغلط أن الماوردي ذكر ذلك كله، فتوهم المصنف أن قوله: فكان لو اشترى ... إلى آخره، من لفظ الماوردي، فصرح به فوقع في الغلط، وقد أعاد المصنف هذا الحديث في الوكالة فيما إذا وكله في شراء شاة فاشترى شاتين، وسلم من هذا الاعتراض، فإنه ساق الكلام الأخير من متن الحديث، لكن وقع في اعتراض آخر ستعرفه في موضعه، إن شاء الله تعالى. قوله: وأبدى الإمام في جواز بيع المنقطع الخبر، مع اتصال الرفاق، وعدم إجزائه في العتق عن الكفارة ظاهرًا- احتمالًا في جواز بيعه. انتهى. ومراد المصنف: أن الإمام قال: يحتمل جواز بيع العبد المنقطع الخبر مع تواصل الرفاق، وإن قلنا: لا يجزئ إعتاقه عن الكفارة ظاهرًا، والتركيب الذي عبر به المصنف فاسد، أفسده إعادته لجواز البيع في آخر الكلام. قوله- في الكلام على المغصوب-: ويصح بيعه منه- أي من الغاصب- وكذا من غيره إذا كان البائع أو المشتري يقدر على نزعه منه عند الشيخ في المهذب، والماوردي وابن الصباغ والمحاملي، وهو الصحيح عند غيرهم، لكن يثبت للمشتري الخيار إذا كان هو القادر على تخليصه وقد جهل الحال عند الشراء. انتهى كلامه. وهو صريح في إثبات الخلاف في الصحة عند قدرة البائع، وهذا لا توجيه له، ولم أقف عليه لأحد- أيضًا- بل صرح النووي في شرح المهذب بأنه لا خلاف في الصحة. قوله- في المسألة-: وكذا، أي: يثبت الخيار أيضًا للمشتري، إذا علم وعجز، لضعف طرأ عليه، أو قوة طرأت للغاصب، وفي الرافعي حكاية وجه أشار إليه الإمام: أنه لا خيار له. انتهى كلامه. واعلم أن إثباته لهذا الوجه ونقله إياه عن إشارة الإمام، قلد فيه الرافعي، فإنه قال: وفيه وجه آخر أشار إليه الإمام. هذا لفظه، وما ذكره ليس مطابقًا لكلام الإمام، فإن

الإمام فرض ذلك في عجز البائع، والرافعي يتكلم في عجز المشتري، وقد نبه المصنف على ذلك في المطلب فقال- بعد حكاية لفظ الرافعي: قلت: الذي رأيت الإشارة فيه غير ذلك. ثم ذكر ما قلناه. قوله: فرع: لو باع قطع جمل وزنًا، وكان يباع بعضه إلى أن يوزن- ففي صحة بيعه وجهان منقولان في ((الرافعي)) في أواخر كتاب الإجارة عن ((فتاوي)) القفال. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((فتاوي)) القفال غلط، فإن القفال لم يتكلم في هذه المسألة، والذي نقله الرافعي هناك عن الفتاوي المذكورة إنما هو التردد في مسألة أخرى، ثم نقل عن الأئمة أنهم خرجوا هذه المسألة على الجوابين المذكورين. قوله: وفي بيع الأعيان التي لم يرها المشتري قولان، أصحهما: أنه لا يجوز، لنهيه- عليه الصلاة والسلام- عن بيع الغرر، والثاني: يجوز إذا وصفها، أي بأن يقول: بعتك العبد التركي الذي في بيتي، إذا لم يكن ثم غيره. ثم قال ما نصه: وقيل: يشترط مع ما ذكرناه ذكر معظم الصفات، وضبطه البغوي بما يوصف به المدعى عند القاضي. وفي التتمة عدا هذا وجهًا آخر: وقيل: يشترط استيعاب جميع صفات السلم. وقال الماوردي: إنه ليس بشرط باتفاق الأصحاب. وحكى عن البصريين أنه إذا استوعب ذلك بطل، لأنه يخرج عن بيوع الأعيان ويصير من بيوع السلم، والسلم في الأعيان لا يجوز. انتهى كلامه بحروفه. وفيما قاله أمران: أحدهما: أن ما نقله عن البغوي من ضبط الصفات بما يوصف به في الدعوى، يقتضي أن البغوي جازم بذلك أو مصحح له، وليس كذلك، بل حكى فيه وجهين من غير ترجيح، فقال ما نصه: ثم فيه وجهان: أحدهما: يشترط ذكر أوصاف السلم، والثاني: ما يوصف به المدعى عند القاضي. هذا لفظه. الأمر الثاني: أن ما نقله عن الماوردي من الاتفاق على أنه لا يشترط استيعاب صفات السلم، غلط، فإن الماوردي إنما نقل الاتفاق على أنه لا يشترط استيعاب الصفات كلها التي هي زائدة على صفات السلم، فإنه قال: والوجه الثاني: أنه لابد من ذكر الصفة، لأنه مبيع غائب فافتقر إلى ذكر الصفة كالسلم، فعلى هذا: إذا قيل: إن

الصفة شرط في صحة العقد، فهل يصح أن يصفه بأقل صفاته، أو لا يصح إلا بذكر أكثر صفاته؟ على وجهين. ثم قال: فأما ذكر جميع صفاته فليس شرطًا باتفاق أصحابنا. هذا لفظه. وقال الشاشي في الحلية: هل يفتقر إلى ذكر الصفات؟ فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: لا يفتقر، والثاني: إلى ذكر معظمها، والثالث: يفتقر إلى ذكر جميعها. قوله: ولو كان المبيع عقارًا فلابد من ذكر البلد الذي هو فيه، وفي ذكر البقعة وجهان تقدم ذكرهما، ويشترط ذكر الحدود، ولا يكتفي باثنين منها، وهل يكتفي بذكر ثلاثة؟ نظر: إن لم يحصل بها التمييز لم يكف، وإلا كفي على الأصح، حكاه الماوردي، وإيراده يشعر بأن هذا لا يختص ببيع الغائب. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- من تقدم ذكرهما صحيح، ومحله في آخر الباب قبله، وما نقله أيضًا- عن الماوردي في صلب المسألة صحيح، ومحله في ((الحاوي)) بعد نحو كراس من أول البيع، فقال تفريعًا على جواز بيع الغائب: فلابد- أي في العقار- من ذكر البلد الذي هو فيه، فيقول: بعتك دارًا بالبصرة، لأن بذكر البلد يتحقق ذكر الجنس ويصير في جملة المعلوم، فأما ذكر البقعة من البلد ففيه وجهان: أحدهما: يلزم، والثاني: لا، لأن البقعة تجري مجرى الصفة. هذه عبارته. وأما الذي نقله عنه- أي عن الماوردي- في ذكر الحدود، فذكره بعد ذلك بكراريس كثيرة في آخر باب ثمرة الحائط يباع أصله، مطابقًا لما نقله عنه المصنف، لكن لم يفرض ذلك في بيع الغائب، بل الفرض فيه يؤدي إلى أن يصير كلامه ((الحاوي)) الأول منافيًا لكلامه الثاني، فيكون الثاني مفروضًا على امتناع بيع الغائب، كما إذا رأى دورًا ثم أراد بيع واحدة منها، ونقل ابن الرفعة- أيضًا- في آخر الكلام أن في إيراد ((الحاوي)) ما يشعر بأن هذا لا يختص ببيع الغائب- كالصريح في أن بيع الغائب مراده ولابد، إلا أنه يختص به، وقد علمت أنه ليس كذلك. قوله: وكذا بيع الجزر والشلجم والبصل والفجل في الأرض قبل قلعه لا يصح عند أكثر أصحابنا، لعدم إمكان وصفه، وبعضهم خرج ذلك على بيع الغائب. انتهى. و ((الشلجم)) المذكور هنا هو بالشين المعجمة وبالجيم، وهو المسمى بـ ((اللفت)) - باللام والفاء والتاء المثناة- كذا قاله في ((شرح المهذب)). قوله: والثوب المطوي لابد من نشره. قال الإمام: ويحتمل عندي جواز بيع الثياب التي لا تنشر بالكلية إلا عند القطع،

لما في نشرها من التنقيص، ويلتحق بالجوز واللوز ... إلى آخره. هذا الكلام يقتضي أنه لم يظفر بخلاف في المسألة، وقد صرح بذلك في ((شرح المهذب)) فقال: هكذا أطلقه الأصحاب، وقطعوا به. ثم نقل احتمال الإمام، واعلم أن الخلاف ثابت مشهور حتى جزم في ((شرح التلخيص)) بأنه لا يشترط، ونقله- أيضًا- عنه البغوي في ((فتاويه))، وجزم به الجرجاني في كتابه ((الشافي))، وحكى وجهين من غير ترجيح فيما إذا لم ينقص بالنشر، وعلل الجواز بأن الغرر يقل بمشاهدة ظاهرها، فتحصلنا على ثلاثة أوجه. قوله: ولا يجوز بيع الثياب التوزية في المسوح على القول باشتراط الرؤية. أما ((التوزية)) فبتاء مثناة من فوق مفتوحة، ثم واو مفتوحة مشددة، ثم زاي معجمة، وهي جنس من الثياب، منسوبة إلى ((توز)) بلدة من بلاد فارس مما يلي الهند. ويقال لها أيضًا: توج- بالجيم- قاله ابن الصلاح في ((مشكل الوسيط)). وأما ((المسوج)): فبميم مضمومة وسين وحاء مهملتين، جمع ((مسح)) بكسر الميم، وهو البلاس من الشعر. ومراد المصنف بقوله على هذا القول، أي: القول الذي نحن الآن نفرع عليه، وهو اشتراط الرؤية، فاعلم ذلك، فإنه بعيد التبادر. قوله: ولو رأى من المثلى أنموذجًا، وقال: بعتك من هذا النوع كذا- لم يصح. ولو قال: بعتك من الحنطة التي في البيت، وهذا أنموذج منها: فإن لم يدخل الأنموذج في البيع فالأصح أنه لا يكفي، وإن أدخله فالأصح الاكتفاء. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن فرضه هذه المسألة في المثلى لا يستقيم، لأن البطيخ والقثاء والسفرجل والرمان والباذنجان والرانج والبيض وغيرها من جملة المثليات، ومع ذلك لا يكفي فيها هذا بلا شك، لأن رؤية البعض مع الاتصال بالباقي لا يكفي فيها، وذلك إذا كان صبرة واحدة، فبطريق الأولى عند انفصاله عنه، لأن رؤية بعض الصبرة أوقى وأولى بالصحة من الأنموذج، فإن فيها خلافًا قويًا مشهورًا، وبعض الصبرة فيها قول أو وجه ضعيف شاذ. والموقع لابن الرفعة في هذا: أن الرافعي عبر بالمتماثلات، وهي المتساوية الأجزاء، فسبق ذهنه أو قلمه إلى المثليات. الأمر الثاني: أن شرط الجواز في مسألة الأنموذج، مع ما ذكره المصنف: أن يرده إلى الصبرة قبل البيع، فأما إذا أدخله في البيع من غير رد فإنه يكون كمن باع عينين

رأى إحداهما وباعهما جميعًا، لتميزه عنه، هكذا ذكره البغوي في ((فتاويه))، وهو متعين لا شك فيه، قال: وكذلك لو جعل الصبرة صبرتين، ثم أراه إحداهما. قوله: ولا يشترط مع ما ذكرناه من الرؤية- الذوق في، المذوق والشم في المشموم على الأصح، وهو ما ادعى الغزالي فيه الوفاق، وفي ((التتمة)) و ((البحر)) حكاية وجه في اشتراط ذلك واشتراط اللمس في الملموس من الثياب ونحوها. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن ((التتمة)) و ((البحر)) من حكاية هذا الوجه في لمس الثياب ونحوها غلط، فإنهما لم ينقلاه إلا في الشم والذوق، ولم يتعرضا للمس بالكلية، والرافعي قد سبق المصنف إلى هذا النقل عن ((التتمة)) خاصة، فلما رأى المصنف كلام ((البحر)) - أيضًا- ناقلًا لهذا الوجه في بعض ما نقله الرافعي عن ((التتمة))، عمم ذهولًا. ثم إن الذهاب إليه بعيدًا جدًا، فإن الخل والمسك ونحوهما لا يعرف المقصود منهما إلا بالشم والذوق، بخلاف الثياب، فإن إدراك المقصود منها يعرف بدون اللمس. واعلم أن من جملة الحواس: حاسة السمع، ولم يحكوا في ذلك خلافًا، فإذا باع ما يقصد لسماع صوته فهل يتخرج على الخلاف، أم يصح من غير سماعه جزمًا؟ فيه نظر، والمتجه: الثاني: والفرق: سهولة الشم والذوق، بخلاف السماع، فإنه إلى اختيار الطائر، ويدل عليه- أيضًا- جواز شرائه صغيرًا لفائدة سماع في المستقبل. قوله: ولو رأى شيئًا، ثم عقد عليه، واختلفا في النقصان عن الحالة التي وقعت فيها الرؤية- فقد قيل: القول قول المشتري. ثم قال ما نصه: وحكى الغزالي عن صاحب ((التقريب)) - وهو الأصح-: أن القول قول البائع، لأن الأصل عدم التغير واستمرار العقد. قلت: ولو فصل مفصل فقال: إما أن يكون الاختلاف في نقص أصل الخلقة أو في نقصٍ حدث بعد أن كان كاملًا، فإن كان الأول بأن ادعى البائع أنه كذا، ووجد ولم يحدث فيه نقص- فيظهر أن القول قوله، وإن كان الثاني بأن ادعى البائع أنه كان كاملًا، وأن هذا النقص حدث قبل الرؤية، وأنه رآه ناقصًا كما هو الآن- فالذي يظهر أن القول قول المشتري، عملًا بالأصل في الموضعين، كما لو وقع مثل هذا الخلاف في عيب المغضوب بعد تلفه فإن الحكم كما ذكرنا على الأصح، وسنذكر- إن شاء الله تعالى- الفرق بين هذه المسألة ومسألة العيب الذي يمكن حدوثه في موضعها. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما ادعاه هاهنا من أن الأصح تصديق البائع فقد ناقضه في ((المطلب))، فإن حكى عن الغزالي أنه صحح ما صححه هو هاهنا من أن القول قول البائع. ثم قال عقبه ما نصه: وهو في ذلك متفرد عن الإمام، بل عن جل الأصحاب، فإنك قد عرفت أن كلام القاضي والفوراني والإمام ناص على الجزم بأن القول قول المشتري، وهو ما حكاه الماوردي عن نص الشافعي في كتاب الصرف، ورأيت في الإمام ما يوافقه. انتهى كلام ((المطلب))، وبذلك يظهر أن ما ذكره في هذا الكتاب غلط من سبق قلم أو إسقاط، لأنه لا يمكن حمله على ترجيحه من جهة النقل، ولا البحث أيضًا، لأنه قد ذكر أن الظاهر من جهة البحث إنما هو التفصيل. الأمر الثاني: أن العيب الذي لا يمكن حدوثه قد ذكره الشيخ في أواخر الرد بالعيب، ولم يذكر هناك الفرق الذي وعد هاهنا في آخر المسألة بأن يذكره فيه. قوله: ولو غلب من جنس العروض نوع فهل ينصرف الذكر إليه عند الإطلاق؟ فيه وجهان، المذكور منهما في تعليق القاضي أبي الطيب في باب الربا، والمحكي عن أبي إسحاق، وهو المذهب في ((التتمة)) -: أنه ينصرف إليه. انتهى كلامه. واعلم أن كلام المتولي لا يطابق ما نقله عنه المصنف بالنسبة إلى حكاية الخلاف، فإن صاحب ((التتمة)) سوى في حكاية الخلاف بين الغالب وبين الموصوف، والوصف كافٍ، فراجع التتمة وتأملها. قوله: ولو باع بنصف دينار صحيح، وشرط أن يكون مدورًا جاز إن كان يعم وجوده. انتهى. وتقييده الصحة بما إذا عم وجوده مقتضاه: أنه إذا كان عزيز الوجود لا يصح، وليس كذلك، فقد ذكر بعد هذا بقليل أنه إذا باع بنقد يعز وجوده فإنه ينبني على جواز الاستبدال عن الثمن: فإن جوزناه صح، ثم إن وجد فذاك، وإلا فيستبدل، وإن لم نجوز الاستبدال لم يصح. وهذا الذي قاله يأتي في مسألتنا بعينه، لكن الذي أوقع المصنف في هذا هو تقليده للرافعي. قوله: ويجري خلاف تفريق الصفقة فيما إذا باع معلومًا ومجهولًا إن قلنا: يجيز بكل الثمن، وإن قلنا: يجيز بقسطه من الثمن، فلا يصح وجهًا واحدًا، وحكى الرافعي على هذا وجهًا: أنه يصح، ويثبت له الخيار، فإن أجاز لزمه جميع الثمن. انتهى كلامه. وما ذكره من الإبطال في المجهول ليس على إطلاقه، بل صورته إذا كان مجهولًا مطلقًا، فإن كان مجهولًا عند العاقد كالغائب كان مخرجًا على القولين. كذا صرح به

البغوي في ((فتاويه))، ولأجل هذا صور النووي في ((شرح المهذب)) المجهول بقوله: وعبدًا آخر، وهكذا صوره الشيخ أبو حامد والجرجاني وغيرهما. قوله: وإن جمع بينهما فيما لا عوض فيها كالرهن والهبة، فقد قيل: يصح فيما يحل قولًا واحدًا، نظرًا إلى العلة الأولى، أي: جهالة الثمن، قال الإمام: وهذا فيه نظر، فإن الدين لم يكن عوضًا عن الرهن فرهن الشيء بالدين المجهول لا يصح على الأصح كما سيأتي. وما قاله يحتاج إلى تأمل. انتهى كلامه. ووجه ما قاله المصنف: أن المرهون- وإن تعدد- مرهون بكل جزء من الدين، فلا جهالة بالكلية. وهذا الذي قاله صحيح في الكتابة والبيع لا يرجع إلى البيع، فإنه باطل قولًا واحدًا على ما حكاه الرافعي وغيره، لصدور أحد شقيه قبل تمام عقد الكتابة، وحكى الجمهور في كتاب الكتابة في صحة البيع طريقين: أحدهما: ما ذكرناه، والثاني: طرد القولين في الجميع. انتهى. وما حكاه عن الرافعي من الاتفاق على بطلان البيع ليس كذلك، فإن الرافعي قد ذكر المسألة هنا وفي باب الكتابة: فأما هاهنا فإنه لم يتعرض لإثبات الخلاف ولا لنفيه، بل جزم ببطلان البيع، وأما في باب الكتابة، فإنه حكى الخلاف فقال في أوائل الباب في الركن الثاني: ففيه طريقان: أحدهما- وبه قال صاحب ((الإفصاح)) -: أنهما على القولين فيما إذا جمع في صفقة واحدة بين عقدين مختلفي الحكم، وأظهرهما: أن البيع باطل، وفي صحة الكتابة القولان. هذا كلامه. قوله: واستئجار الكافر المسلم ينظر فيه: إن ورد العقد على الذمة صح، وإن ورد على العين قال القاضي أبو الطيب: من أصحابنا من قال فيه قولان كالشراء، ومنهم من قال: يصح، وهذا أظهر عند الرافعي. انتهى كلامه. ومقتضاه: أن الرافعي حكى طريقين وصحح طريقة القطع، وليس كذلك، فإنه لم يحك طريقة قاطعة فضلًا عن ترجيحها، وإنما حكى وجهين فقط، ورجح الصحة. قوله: ولو باع عبدًا بشرط العتق على أن يكون الولاء للبائع ففيه قولان، والجمهور على بطلان العقد. ثم قال: وعلى هذا- يعني الصحة- فهل يثبت الشرط المحكي عن الأصحاب؟ الذي لا يكاد يوجد غيره: أنه لا يثبت كما حكاه الرافعي، وقال الإمام: إنه فاسد.

وحكى وجهًا أنه يثبت الولاء للبائع من غير تقدير الملك. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- من أن الإمام قد حكى وجهًا في ثبوت الولاء فهو غلط اتبع فيه الرافعي، فإن الإمام لم يحك عن أحد خلافًا، وإنما ذكره بحثًا فقال تفريعًا على قول الصحة ما نصه: وعلى هذا ففي الولاء المشروط نظر ذهب بعض الأصحاب إلى أن الوجه فيه إلغاء الشرط، وتصحيح العقد، وهذا فاسد مع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاشتراط، ومتعلق القول بصحة العقد قصة بريرة، فلا ينبغي أن نعتبر أصلها ونعطل تفصيل القول فيها، فإذن الوجه تصحيح الشرط إذا صححنا العقد، تعلقًا بقصة بريرة هذا. لفظ الإمام، وقد تفطن المصنف في ((شرح الوسيط ((للصواب فقال: عدم ثبوت الولاء من نقل الإمام، وثبوته من فقه. قوله: ولو جرى البيع بشرط الولاء دون العتق، بأن قال: بعتكه بشرط أن يكون الولاء لي إن أعتقه يومًا من الدهر- فقد ذكر في ((التتمة)) أن العقد باطل بلا خلاف، وقال في كتاب الحج: المشهور من المذهب فساد الحج، وهذا يشعر بخلاف. انتهى. وتعبيره بـ ((الحج)) سهو، وصوابه: الخلع. قوله- فيما إذا اشترى أمة شراء فاسدًا، فوطئها فحملت منه-: ولو لم تمت من الولادة، ولكن نقصت قيمتها- قال الأصحاب: يجب عليه الأرش. وفي ((النهاية)) في كتاب الصداق أنه لو أصدق زوجته جارية حاملًا، ولدت في يد الزوجة، وانتقصت قيمتها بالولادة- أنه يجب بناء هذا على المبيع إذا جرح في يد البائع، ثم سرت الجراحة في يد المشتري، وقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك: فمنهم من جعل السراية من ضمان البيع، لأن سببها الجراحة، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمان الزوج وإن حدث في يدها. ومن أصحابنا من قال: نقصان السراية من ضمان المشتري، لأنه حدث في يده، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمانها. قلت: وقد يتجه أن يجري مثل ذلك هاهنا، وفيما إذا ماتت من الطلق، وما يتخيل بينهما من فرق فهو مندفع بما حكاه العمراني عن الطبري فيما إذا وطئ الغاصب الجارية المغصوبة، فحملت منه، ثم ردها وماتت من الولادة- أن في ضمانه لها وجهين، وغاية الأمر هنا أن يلحق بالغاصب. انتهى كلامه. وهذا البحث الذي ذكره- رحمه الله- لا يستقيم، وقد نبه هو عليه في حاشية الكتاب فقال ما نصه: هذا الإلزام غير صحيح، لأن محل القولين في الغاصب إذا كان

الولد لا يلحقه، والولد فيما نحن فيه لاحق به، فالتلف جاء من ولد نسب إليه، بخلاف ولد المغصوبة. نعم، أبو عبد الله القطان حكى فيما إذا وطئ الغاصب الجارية المغصوبة عن جهل، وعلقت منه، وماتت في يد السيد من الولادة- في ضمانها قولين، فليأتيا في مسألة الكتاب، وقد يقال: بل الإلزام صحيح من جهة أن الولد وإن لم ينسب إلى الغاصب لكنه حصل العلوق به، وهي في يده وضمانه، فهل ينظر إلى حالة وجود العلوق الذي هو السبب، أو إلى حالة الوضع؟ فيه هذا الاختلاف. هذا كلامه بحروفه.

باب الربا

باب الربا قوله: الربا مقصور، وهو من: ربا يربو، فيكتب بالألف، وقد كتب في المصحف بالواو، فأنت مخير إذن في كتبه بالألف والواو والياء. انتهى لفظه بحروفه. وهذا الكلام الذي ذكره ظاهر الاختلاف، فإن قوله: فأنت مخير إذن ... إلى أخره، يقتضي أن ما ذكره قبل ذلك يكون علة لجواز الأوجه الثلاثة، وهو لم يذكر إلا علة كتابته بالألف والواو، فالأول: انقلابها عن الواو، والثاني: إتباع رسم المصحف، وأما كتابته بالياء فلم يذكر له علة، وقد ذكرها النووي في ((لغات التنبيه)) وغيره، وهي إمالة هذه الألف عند بعضهم، لتقدم الكسرة عليها، ولا شك أن المصنف أراد نقل ما في ((اللغات)) فترك بعضه نسيانًا، وقد استوفاه في شرح الوسيط. قوله: وهو في الشرع: الزيادة في الذهب والفضة وسائر المطعومات. انتهى. وهذا الحد فاسد، فإن الزيادة من حيث هي لا دلالة فيها على الربا الشرعي بالكلية، وأيضًا: لكان ينبغي إذا ذكر هذا أن يزيد ((النقد)) فيقول: هو الزيادة في بيع النقد والمطعوم بمثلهما. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإذا باع من غير جنسه: فإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلة واحدة كالذهب الفضة والحنطة والشعير جاز فيهما التفاضل، وحرم فيهما النساء والتفرق قبل التقابض، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: ((إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد))، فشرط التقابض، وهو يستلزم الحلول)). انتهى كلامه. وهذا الاستلزام الذي ادعاه ليس كذلك، فإنه قد يبيع إلى أجل، ومع ذلك يقع القبض قبل التفرق، وهو واضح. قوله: وذهب ابن أبي هريرة وطائفة من البغداديين إلى أن النص في العرايا ورد في التمر، وقيس عليه الكرم، وقد يستدل لهم بما روى الترمذي عن زيد بن ثابت أن رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي، فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي كان بأيديهم)). انتهى كلامه. واعلم أن ما نسبه المصنف إلى الترمذي قد سبقه إليه ابن التلمساني في ((شرح

التنبيه)) فقلده فيه، والترمذي لم يذكر فيما رواه عن زيد بن ثابت أن ذلك كان بسؤال المحتاجين، ولفظه: عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن المحاقلة والمزابنة، إلا أنه قد أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بمثل خرصها)). قال أبو عيسى: هذا حديث ثابت. ثم رواه عنه من طريق آخر. ثم قال: وهذا أصح من الأول. ورواه- أيضًا- من طريق ثالث عنه، ولفظه: ((أرخص في بيع العرايا بخرصها))، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وقال: ومعنى هذا عن أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد التوسعة عليهم في هذا، لأنه شكوا إليه، وقالوا: لا نجد ما نشتري من الرطب إلا بالتمر، فرخص لهم فيما دون خمسة أوسق أن يشتروها فيأكلوا رطبًا. هذا كلام الترمذي، وقد ذكره المصنف في المطلب على الصواب. قوله: والأصل في تقرير هذه القاعدة- أي قاعدة ((مد عجوة)) - ما روى مسلم عن فضالة بن عبيد أنه قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها خرز مغلفة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة، فقال- عليه الصلاة والسلام-: ((لا، حتى تميز بينه وبينها)) فقال: إنما أردت الحجارة، فقال- عليه الصلاة والسلام-: ((لا، حتى تميز بينهما)) قال فضالة: فرده حتى ميز بينهما. انتهى كلامه. واعلم أن قوله في الحديث: ((إنما أردت الحجارة ...)) إلى آخره. فيه دلالة على بطلان العقد- أيضًا- إذا كان المقصود هو الجنس الآخر، وهو حجة لنا على أبي حنيفة في تجويز العقد والحالة هذه. إذا علمت ذلك، فاعلم أن هذه الزيادة لم يخرجها مسلم في صحيحه، فإنه روى الحديث بن عبيد من ثلاث طرق دون الزيادة المذكورة، وبغير هذا اللفظ أيضًا: أحدها: قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب- وهي من الغنائم- تباع فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن)) هذا لفظ مسلم. والطريق الثاني والثالث بمعنى ذلك. وأما الحديث الذي رواه المصنف فرواه أبو داود بلفظه وبزيادته، ولم يضعفه، فيكون حسنًا أو صحيحًا على ما علم من شرطه.

باب بيع الأصول والثمار

باب بيع الأصول والثمار قوله: ولا خلاف في اندراج الأسفل من حجري الرحا إذا كان المبيع باسم الطاحون، وكذا الأعلى على الأظهر، ولا خلاف في أنه إذا قال: بعتك هذا الباغ أو البستان أو الحائط، دخل فيه الأرض والأشجار والحيطان ومجاري الماء، وإن كان فيها بناء فعلى الخلاف. انتهى كلامه. وما حكاه من نفي الخلاف فمردود في المسألتين جميعًا: فأما الأسفل من حجري الرحا ونحوه كالإجانات في المدبغة، فالخلاف ثابت فيه في الرافعي وفي غيره كـ ((التتمة)). وأما الحيطان فقد صرح بالخلاف فيها الروياني في ((البحر))، وضعف التفرقة بينها وبين ما في الأبنية الكائنة في البستان فقال: فرع: لو قال: بعتك هذا البستان، يدخل في البيع الأرض وما فيها من الأشجار. ثم قال: وأما البناء الذي فيه والجدار المحيط به فعلى الطرق التي ذكرناها، وقال بعض أصحابنا: يدخل الجدار المحيط قولًا واحدًا، لأن البستان اسم لجميعها، وهو ضعيف عندي. قوله: وإذا باع أرضًا وفيها زرع لا يحصد في السنة إلا مرة، كالحنطة والشعير والجزر والفجل وما في معناه، لم يدخل في البيع، وللبائع تبقية ذلك إلى أول إمكان حصاده. ثم قال ما نصه: نعم، عليه- يعني البائع- قلع ما يضر بالأرض من عروق الذرة وأصول القطن، وهل يلزمه تسوية الأرض؟ الكلام فيه مثل الكلام فيما إذا كان في الدار المبيعة ما لا يسعه بابها، وقد حكى القاضي أبو الطيب فيه: أنه يجب نقض الباب حتى يخرج، ويلزم البائع ما نقض من الباب. ثم قال: ويحتمل أن يقال: يلزمه بناؤه كما تلزمه تسوية الأرض. انتهى كلامه. وحاصله: أنه لا يجب- أيضًا- تسوية الأرض إلا على احتمال ضعيف، بل يجب أرشها، لأنه جعل الحكم فيها كالحكم فيما إذا نقض الباب، ثم أوجب في نقضه ما

ذكرناه، والذي ذكره غلط نبه عليه في حاشية الكتاب فقال: المنقول في مسألة نزع العروق: وجوب التسوية، لا وجوب الأرش كما بينت ذلك في المطلب، وهذه غلطة وقعت مني في فهم كلام الرافعي، حيث قاس هذه المسألة على مسألة توسيع الباب. نعم، في الغصب وجه: أنه لا يجب على حافر الأرض التسوية، بل يجب الأرش، ولا يبعد مجيئه هاهنا. هذا كلامه. قوله: فرع: لو باع الأرض وما بها من زرع ... فإن كان قمحًا، ولم نجوز بيعه في سنبله- بطل فيه، وفي الأرض قولًا تفريق الصفقة. اعلم أن هذه المسألة حكى فيها الرافعي طريقين مبنيين على أن الصفقة إذا فرقناها وصححنا فيما يصح هل يصح: بالقسط أم بالكل؟ فإن قلنا: بالكل، جاء في الأرض القولان في تفريق الصفقة، وإن قلنا: بالقسط، فلا يصح فيها، لأن التقسيط هنا ممتنع لتعذر قيمتها. ثم صحح القطع بالبطلان، وعداه الرافعي في الكلام على تفريق الصفقة إلى كل عقد جمع مجهولًا ومعلومًا، وتبعه عليه المصنف في باب ما يجوز بيعه، وقد ذكرت لفظه هناك لغرض آخر، فراجعه. إذا علمت ذلك فما جزم به المصنف هنا من طريقة القولين مناقض لما جزم به هناك، وأنه إنما يأتي على طريقة ضعيفة عنده وعند غيره. قوله: ولا يجوز بيع الثمار قبل بدو الصلاح إلا بشرط القطع، لما روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. ثم قال: وذلك يدل على منع البيع مطلقًا .... فاستثنى منه ما قام الإجماع على جوازه، وهو البيع بشرط القطع، وبقي على عمومه فيما عداه. انتهى كلامه. وما ادعاه من الإجماع قلد فيه الرافعي، وليس كذلك، فقد ذهب سفيان الثوري وابن أبي ليلى إلى أنه لا يصح البيع مع هذا الشرط- أيضًا- وممن نقل الخلاف فيه الشيخ تقي الدين في ((شرح العمدة)). قوله: ولا يجوز بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع. ثم قال: وحكم أصول البطيخ والباذنجان ونحوهما عند الغزالي حكم الزرع، فلا يجوز إلا بشرط القطع إذا بيعت دون الأرض، والذي ذكره العراقيون وغيرهم: أنه يجوز، ولا حاجة إلى شرط القطع إذا لم يخف اختلاف ثماره. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الغزالي من منعه بيع أصول البطيخ إلا بشرط القطع، سهو تفطن له في شرح الوسيط، فإن الغزالي إنما ذكر بيع البطيخ على أصوله، وقال:

إنه لا يجوز إلا بشرط قطعه، أي: قطع البطيخ. قال: سواء بيع وحده أو مع أصوله. وأبدى الإمام الرافعي في تجويزه بدون هذا الشرط وجهًا لنفسه، تخريجًا من جزم العراقيين وغيرهم بأنه يجوز بيع الأصول من غير شرط. قوله: وفي الباقلاء واللوز قال: إنه يجوز بيعهما في قشرهما ما داما رطبين، وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب عن ابن القاص والإصطخري. انتهى كلامه. وما حكاه هو عن القاضي أبي الطيب فصحيح، وأما حكاية أبي الطيب ذلك عن ابن القاص فمردودة، فإنه إنما جوز في الباقلاء خاصة، فقال في ((التخليص)): ولا يجوز بيع شيء وعليه قشران حتى ترفع العليا، إلا واحد وهو بيع الفول رطبًا، قلته تخريجًا. هذا لفظه، ولم يتعرض المذكور- وهو ابن القاص- في المفتاح للمسألة. قوله: وكان يتجه أن يلحق العلس بالأرز في جواز بيعه في قشرته، وقد جزم القاضي أبو الطيب فيه بالمنع في باب السلم. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يقف على الجواز في العلس لأحد، وهو غريب، فقد ذكر الرافعي المسألة في اللفظ السادس المعقود لبيع الثمار، وجزم بالجواز، وزاد الشيخ محيي الدين على ذلك، فقال في باب الغرر من ((شرح المهذب)): إنه لا خلاف فيه، أعني الجواز. نعم، ذكر الرافعي في باب السلم أنه لا يجوز، وقد أوضحته في المهمات، ورأيت في ((شرح التخليص)) للشيخ أبي علي السنجي بعد نقل الجواز عن الدراكي فقط: أنه إن كان بقاؤه فيه من مصلحته جاز، وإلا فلا. قوله: ولو اشترى ثمرة، فلم يأخذها حتى حدثت ثمرة أخرى، فاختلطت بها ولم تتميز، أو جزة فطالت، أو طعامًا فاختلط به غيره- ففي الانفساخ قولان، فإن قلنا: لا ينفسخ، فترك البائع للمشتري حقه- وجب القبول. ثم قال: وإذا تركه فهل يكون هبة أو إعراضًا؟ فيه خلاف كما في النعل، صرح به الإمام. انتهى كلامه. واعلم أن الإمام قد ذكر المسألة هنا، وفي باب الخراج بالضمان، وقال: إن من أصحابنا من جعل الثمار كالنعل، ومنهم من قال: لا، فلا يلزم المشتري قبول منته. ولا شك أن هذا الكلام ليس صريحًا في الخلاف حتى نقول: صرح به الإمام، بل ولا ظاهرًا فيه، فإن سياقه يقتضي التشبيه في وجوب القبول، وكيف يأتي القول بالإعراض مع استلزامه امتناع المشتري من التصرف، وحينئذ فلا يحصل المقصود من هذه الهبة، ونحن إنما منعنا الفسخ لأجلها.

فائدة: ذكر المصنف في الباب ألفاظًا: منها: الكش، وهو- بضم الكاف والشين المعجمة- اسم للدقيق الذي في طلع كوز النخل. ومنها: الإبان- بهمزة مكسورة، ثم باء موحدة مشددة، وفي آخره نون- وهو الوقت. ومنها: الفرسك: بكسر الفاء، وسكون الراء، وكسر السين المهملة، وبالكاف، قال الجوهري: هو ضرب من الخوخ ينفلق عن نواه. ومنها: في حديث رواه عن البخاري: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثمرة حتى تشقح))، أي: تطيب، هو بالشين المعجمة والقاف والحاء المهملة. قال الجوهري: أشقح النخل. انتهى. وكذلك التشقيح، قال في مسلم: والتاء مضمومة، والشين ساكنة، والقاف مفتوحة، ومنهم من فتح الشين. قال: ويقال- أيضًا- بالهاء عوضًا عن الحاء. ومنها: أن الشافعي أمر بعض أعوانه بأن يشتر له الباقلاء الرطب، والعون هو الربيع وكان الثمن كسرة على ما حكاه القاضي، والذي حكاه عن القاضي، والذي حكاه عن القاضي قد رأيته لشيخه القفال في شرح التلخيص، فنقل عن الربيع أنه قال: مر الشافعي ببغداد بباب الطاق، فأعطاني كسرة فاشتريت له بها الباقلاء الأخضر. ورأيت في شرحه للشيخ أبي علي نحوه أيضًا. والكسرة: هي القطعة من الدرهم أو الدينار، تكسر منه للحوائج الصغار، ومن ذلك قول الفقهاء: الدراهم المكسرة والقراضة، وتسمية القطعة بالكسرة مشهور في بلاد الشرق، وصحيح في اللغة. قال الجوهري: الكسرة: القطعة من الشيء.

باب بيع المصراة والرد بالعيب

باب بيع المصراة والرد بالعيب قوله: ووراء ذلك وجوه: أحدها: أن اللبن إذا كان باقيًا يرده. ثم قال: الثالث: أنه لا يتعين التمر وإن كان غالب قوت البلد، وهو قول ابن أبي هريرة على ما حكاه الماوردي، بل يجوز إخراج ما يجزئ في زكاة الفطر، وهذا صححه الرافعي، انتهى كلامه. وما نقله من تصحيح الرافعي هنا غلط، فإن الذي صححه الرافعي في كتبه كلها إنما هو تعيين التمر، وأما المجزئ في الفطرة فصححه، تفريعًا على أن التمر لا يتعين. قوله: الخامس: أن الصاع لا يتعين، ولكن الواجب يتقدر بقدر اللبن، لما سبق من رواية ابن عمر، وعلى هذا فقد يزاد الواجب على الصاع وقد ينقص. ثم منهم من خص هذا الوجه بما إذا زادت قيمة الصاع على نصف قيمة الشاة، وقطع بوجوب الصاع فيما إذا نقصت عن النصف، ومنهم من أطلقه إطلاقًا. ثم على قول اعتبار القيمة، قال الإمام: تعتبر القيمة الوسط للتمر بالحجاز، وقيمة مثل ذلك الحيوان بالحجاز فإذا كان اللبن عشر الشاة مثلًا أوجبنا من الصاع عشر قيمة الشاة. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام غلط، ووقع للرافعي فقلده فيه المصنف، فإنه تفريع لا يلتئم بعضه ببعض، لأنه مفرع على أن الواجب يتقدر بقدر اللبن كما سبق في أول هذه المسألة، وأول هذا التفريع يقتضي اعتبار التمر والحيوان، والذي ذكره الإمام صحيح، فإنه قال: إنا إن لم نر إيجاب الصاع نعتبر قيمة التمر والحيوان، فإذا فعلنا جرى الأمر في المبذول على الحد المطلوب. هذا كلامه، ولا شك أنه موهم، وقد أوضحه الغزالي في الوسيط فقال: إنا نقوم شاة وسطًا وصاعًا وسطًا في أكثر الأحوال، فإذا قيل: هو عشر الشاة مثلًا، أوجبنا من التمر ما هو قيمة عشر الشاة. هذا كلامه، وليس فيه اعتبار اللبن لا في الأول ولا في الأخير، وقد اختصره الشيخ عز الدين على هذا المعنى أيضًا، وبالجملة: فاختصاره على ما قاله الرافعي ثم المصنف، غلطٌ محض.

قوله: وقول الشيخ: جعل، يرشد إلى أنه لا رد فيما إذا تحفلت الشاة بنفسها، وهو قضية ما صححه البغوي في مسألة المصراة. انتهى. وما يحصل من كلامه من تصحيح البغوي، عدم الرد إذا تحفلت بنفسها- غلطٌ، بل صحح العكس، وقد نقل هو عنه ذلك في موضعه، أعني ابن الرافعة. قوله: أما حموضة الرمان المعروفة وحلاوته فليست بعيب، ولا خيار لفواتها، إلا أن يشترط، وعلى ذلك يحمل ما قاله الرافعي وغيره. انتهى كلامه. وما ذكره من إطلاق الرافعي، وأنه محمول على ما فصله غيره من الشرط وعدمه فغريب، فإن الرافعي قد صرح بذلك، فقال في أوائل خيار النقص: وليست حموضة الرمان بعيب، بخلاف البطيخ. وقال في أواخر الباب فيما إذا اشترى مأكولًا لا يعرف عيبه إلا بكسرة: ولو شرط في الرمان الحلاوة فبان حامضًا بالغرر رد. قوله: واعلم أن طريق معرفة الأرش: أن يقوم المبيع سليمًا، فإذا قيل: مائة، قوم معيبًا، فإذا قيل: تسعون، عرف أن التفاوت بينهما العشر، فيرجع بعشر الثمن، وفي القيمة المعتبرة ثلاثة أقوال: أحدها: وقت العقد، والثاني: وقت القبض. ثم قال ما نصه: والثالث- وهو الأصح-: أقل القيمتين من يوم العقد إلى يوم القبض، لأنها إن كانت يوم البيع أقل فالزيادة حدثت في ملك المشتري، وإن كان يوم القبض أقل فما نقص من ضمان البائع. انتهى كلامه. واعلم أن الصحيح اعتبار الأقل كما قال، لكن هل المعتبر أقل الأمرين من يوم العقد والقبض حتى لا تعتبر الحالة المتوسطة، أو المعتبر أقل الأمور كلها من العقد إلى القبض؟ اختلف فيه كلام النووي: ففي الروضة الأول، وهو الذي قاله الرافعي في كتبه، وجزم في المنهاج بالثاني، فإنه غير عبارة المحرر، واعتذر في الدقائق. إذا علمت ذلك فقد خلط المصنف مقاله: فتعبيره أولًا بالقيمتين يقتضي الأول، وتعبيره بيوم العقد إلى القبض يقتضي الثاني. قوله: وإن وقف المبيع، أو كان عبدًا فأعتقه أو مات- رجع بالأرش. ثم قال ما نصه: وحكى الإمام قبيل كتاب الرهن أن المزني ذهب إلى أن الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوض. انتهى كلامه. واعلم أن الإمام إنما ذكر هذا النقل عن المزني في السلم خاصة لا في البيع، وقد سبقه إليه القاضي الحسين وبسطه، فلنذكر كلام القاضي ثم كلام الإمام، فنقول: قال القاضي قبل كتاب مختصر الرهن بأسطر: فصل: إذا أسلم في طعام، وقبض البعض

وأتلفه، ثم قبض الباقي واطلع على عيب به، فادعى أن المتلف كان به هذا العيب- فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل عدم العيب، فإن حلف تخلص، وإن نكل حلف المسلم، ورجع عليه بالأرش. قال المزني: وجب ألا يجز له الرجوع بالأرش، لأنه يؤدي إلى أن يأخذ بعض المسلم فيه وبدلًا عن الباقي. قلنا ليس هذا من الاستبدال في شيء، وإنما هو فسخ العقد في البعض، لأنه كاحتباس جزء، ألا ترى إنما يثبت له حق استرداد ما يقابل العيب من رأس المال، فإن نقص عشر القيمة مثلًا استرد عشر رأس المال، ولو أسلم في كر حنطة، وقبضها وأتلفها، ثم اطلع على عيب قديم بها ينقص عشر قيمتها- رجع على المسلم إليه بعشر رأس المال. هذا لفظ القاضي، فتلخص أنه لم يخالف في البيع، بل في السلم، للمعنى المتقدم، وأما الإمام فإنه قد قال في الموضع المذكور أيضًا: فرع: إذا قبض المسلم المسلم إليه، وتلف في يده، واطلع على عيب- فرده والاستبدال منه غير ممكن بعد التلف، ولكن له الرجوع بالأرش، وهو قسط من رأس المال، وإذا حصل له الرجوع به لم يكن هذا استردادًا، ولكنه في حكم فسخ العقد في ذلك المقدار المسترد. وذهب المزني إلى أن الرجوع بالأرش لا يثبت بعد تلف المقبوض. هذا لفظه، ومراده بالمقبوض: إنما هو الذي يتكلم فيه، وهو المسلم فيه، فتوهم المصنف أنه للعموم، وإنه لمعذور في ذلك، لكن الإمام أخذه من القاضي على عادته، فكان من حقه إيضاحه كما أوضحه. قوله: واعلم أن الكلام فيما يرجع بأرشه من العيوب فيما إذا خرج عن ملكه ونحو ذلك بمفروض فيما عدا الخصي، فإن كان العيب القديم هو الخصي فلا أرش له أصلًا، إذ لا نقص في القيمة حتى يعتبر من الثمن، صرح به الإمام والرافعي، وفي تعليله نظر، فإنه قال: لا أرش له كما لا رد، وقد صرح هو وغيره بثبوت الرد عند إمكانه بعيب الخصي. انتهى كلامه. وهذا الكلام الذي فهمه المصنف من كلام الرافعي غلط قبيح وذهول شنيع، فإن المراد أن المشتري في هذه الحالة قد امتنع عليه الأمران- وهما الرد وطلب الأرش- فانتقل المصنف عن صورة المسألة المطابقة للدعوى إلى صورة أخرى غير مطابقة، ثم اعترض عليه. قوله- في أمثلة العيوب-: واعتياد الإباق كما صرح به الغزالي والإمام في باب السلم، دون المرة الواحدة، خلافًا لأبي علي الزجاجي والقاضي الحسين كما صرح

به في الموضع الذي سنذكره، وهذا منهما إشارة إلى أنه لو وجد في يد البائع ولم يوجد في يد المشتري كفى، وعلى الأول لا يكفي، وإلى ذلك أشار في الإشراف. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الاكتفاء، تفريعًا على الأول وهو الاعتياد- كيف يستقيم؟! لأن الاعتياد لا يتوقف على تعاطيه عند المشتري. نعم، راجعت الإشراف فرأيت فيه ما ذكره المصنف، إلا أن في كلامه ما يدفع الوهم. قوله: وفي تعليق القاضي الحسين: أن محل الرد بعيب الإباق إذا تكرر منه في يد البائع، واشتهر ووجد في يد المشتري. أما إذا وجد في يد البائع ثم وجد في يد المشتري بحيث تنقص القيمة لم يرد، لحدوث عيب آخر في يده. انتهى كلامه. وما نقله هنا عن القاضي الحسين يقتضي أن المرة الواحدة لا تكفي، وهو مخالف لما نقله عنه في المسألة السابقة، ومخالف- أيضًا- لما صرح به القاضي في تعليقه. نعم، ذكر القاضي هذه المسألة بعبارة صحيحة فقال: فإن أبق في يده- يعني يد المشتري- ثم علم كونه آبقا: إن لم ينقص الإباق الثاني من القيمة، بأن كان قد تكرر ذلك منه، واشتهر به- رده، وإلا فلا، لحدوث العيب في يده. هذا لفظه، وموضوع هذه المسألة إنما هو الكلام على أن الإباق في يد المشتري هل يمنع الرد بعيب الإباق الحاصل في يد البائع أم لا؟ وليس سياقها لبيان الإباق الذي يرد به على البائع مما لا يرد به عليه، فعبر المصنف عن ذلك بعبارة تدل على الثاني، ولا شك في أن اللفظ قد انعكس عليه، فإن قوله: وجد في يد المشتري، لو قدمه على ما قبله فقال: وفي تعليق القاضي: أن محل الرد بعيب الإباق إذا وجد في يد المشتري، إنما هو فيما إذا تكرر منه في يد البائع واشتهر به ... إلى آخره- لكان موافقًا لما قاله القاضي. قوله: ولا رد بكون الرقيق عقيمًا وغير مخفوض أو مختون، إلا إذا كان الغلام كبيرًا يخاف عليه من الختان. انتهى كلامه. والمخفوض- بالخاء المعجمة وبالفاء وبالضاد المعجمة غير المشالة- هو المختون. قاله الجوهري، قال: واختفضت الجارية، أي: اختتنت، والخافضة: الخاتنة. إذا علمت ذلك علمت أن المذكور هنا غير صحيح، فإنه جعلهما شيئين، فقال: ولا رد بكونه كذا وغير كذا، والسبب في وقوع ذلك: أن الرافعي وجماعة عبروا بالخفض، وجماعة آخرون عبروا بالختان، فتوهم أنهما شيئان، وأن كل طائفة نصت

على ما يقله غيرها. نعم، الخفض لا يكون إلا للمرأة، والإعذار للرجل، والختان يعمهما، ثم إن تعبيره بالغلام غير مستقيم، وصوابه التعبير بالرقيق، ليشمل الأنثى. قوله:- وإن اختلفا في عيب يمكن حدوثه، أي: مثل تخريق الثوب، وكسر الإناء، والبرص، وأمثال ذلك، فقال البائع: حدث عندك، وقال المشتري: بل كان عندك- فالقول البائع، لأن حدوث العيب متفق عليه، والأصل عدم حصوله في يد البائع. انتهى كلامه. واعلم أنه كيف يستقيم الفرق بأن حدوثه متفق عليه، مع أن صورة المسالة في العيب الذي يمكن حدوثه، سواء قطعنا بحدوثه بعد وجود العيب أم احتمل مقارنتهما في الوجود كالعمى وغيره، فإنه يحتمل أن يكون طارئًا وأن يكون قد خلق أكمه. تنبيه: ذكر في الباب مخلد بن خفاف في قوله- عليه أفضل الصلاة والسلام-: ((الخراج بالضمان)). أما ((مخلد)) فإنه بميم مفتوحة، وخاء معجمة ساكنة، و ((خفاف)) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء، وهو غفاري، والحديث صححه الترمذي وغيره.

باب بيع المرابحة والنجش، والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي والتسعير والاحتكار

باب بيع المرابحة والنجش، والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي والتسعير والاحتكار قوله: وإذا اشترى سلعة جاز له بيعها من بائعها قبل إعطاء ثمنها له، وإن باعه بأقل، وكان الثمنان من نوع يجري فيه الربا. ثم قال: وهذه المسألة تعرف بمسألة العينة، أخذا من العين وهو النقد الحاضر، نبه عليه ابن الصباع في مداينة العبيد. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ابن الصباغ صحيح، لكنه بعيد في المعنى، ومخالف لكلام أهل هذا الشأن، فقد قال الجوهري: العينة- بالكسر- السلف، واعتان الرجل إذا اشترى بالنسيئة. هذا كلام الجوهري، وذكر غيره مثله. قوله: وما يزاد في الثمن ويحط منه في مدة الخيار يلحق برأس المال. ثم قال: وفي الحاوي في باب بيع الطعام: أن النقصان إذا كان قبل التفرق كان فسخًا للبيع الأول، واستئناف بيع بعده بما بقي من الثمن الأول، حتى لو كان ذلك بعد تلف المبيع أو عتقه لم ينفذ النقص، ويبقى الثمن الأول بحاله، ولو كان قبل قبض المبيع ثم حط عنه شيئًا من الثمن، ثم تلف قبل إحداث عقد ثان- بطل العقد، وهذا الحكم في الزيادة. ثم قال ما نصه: وأبطل في هذا الباب: أن يكون النقصان أو الزيادة فسخًا للعقد، وقال في أواخر باب الربا ... إلى آخر ما قاله. وهذا الذي ذكره- رحمه الله- يقتضي اختلاف كلام الماوردي، فإن الكلام فيما إذا حصل ذلك في زمن الخيار، وليس الأمر كما قال المصنف، بل الذي قاله الماوردي في هذا الباب- أعني باب المرابحة- إنما محله بعد اللزوم، وقصد بذلك الرد على أبي حنيفة، فإنه قال بلحوق الحط بعد اللزوم، ويقدر فسخًا، وأجازه بما بقي فقال- أعني الماوردي-: فإن الزيادة والنقصان لا تلحق العقد بعد استقراره، وجوز ذلك أبو حنيفة، وجعل الزيادة والنقصان فسخًا للعقد الأول واستئناف عقدٍ ثانٍ، وهذا

فاسد من وجوه ثلاثة. هذا كلام الماوردي. قوله: روى الشافعي ومسلم بسندهما عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا بيع حاضر لباد، دعوا الناس في غفلاتهم يرزق الله بعضهم من بعض)). انتهى. واعلم أن قوله: ((في غفلاتهم)) ليست في رواية الشافعي ولا رواية مسلم، وروى الحديث- أيضًا- أبو داود والترمذي بدونها. قوله: وإن قال: اشتريته بمائة، وباعه مرابحة، ثم قال: بل بتسعين- فالبيع صحيح، وفي ثبوت الخيار قولان. ثم قال ما نصه: وقد بناهما الماوردي على أن إخباره بالتسعين كذب أم لا؟ وفيه خلاف، فمن لم يجعله كذبًا، ووجهه بأن التسعين تدخل في المائة- قال: لا يثبت للمشتري خيار. قال: ومن جعله كذبًا، لأن التسعين بعض المائة، وهي مقابلة بعض المبيع، فلم يجز أن يخبر بأنها جميع الثمن ومقابلة بجميع المبيع- أثبت للمشتري الخيار. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الماوردي غلط فاحش، فإن كلام المصنف فيما إذا كذب وقت البيع بزيادة، والبناء المذكور إنما يتصور في العكس، وهو ما إذا اشتراه بمائة ثم أخبر وقت المرابحة بأنه اشتراه بتسعين، وقد صرح الماوردي بهذا فقال: فصل: ولو اشترى ثوبًا بمائة درهم، فأخبر في بيع المرابحة أنه اشتراه بتسعين درهمًا- فقد اختلف أصحابنا: هل يكون كاذبًا في إخباره؟ على وجهين: أحدهما: ليس بكاذب، لدخول التسعين في المائة، فعلى هذا الوجه: لا خيار للمشتري إذا علم بذلك. والوجه الثاني: أنه كاذب، لأن التسعين بعض المائة، وفي مقابلة بعض المبيع، فلم يجز أن يخبر بأنها جميع الثمن وفي مقابلة جميع المبيع، فعلى هذا الوجه: للمشتري الخيار في الفسخ إذا علم بذلك. هذه عبارة الماوردي.

باب اختلاف المتبايعين

باب اختلاف المتبايعين قوله: ونص الشافعي هنا أن الحكم يبدأ بيمين البائع، وفي قول مخرج: بيمين المشتري، وفي قول: أنهما يستويان. ثم قال: وهل هذا الخلاف في الاستحباب أو الاستحقاق؟ فيه وجهان في ((الحاوي))، أظهرهما: الأول، والذي نقله: الإمام الثاني. انتهى. وما نقله عن الإمام من كون التقدم على سبيل الاستحقاق غلط، فإن الإمام لم يتكلم في هذه المسألة بشيء. نعم، نقل الإمام وجوب تقديم النفي على الإثبات، فسرى الوهم إلى المصنف بسببه، فاعلمه. قوله: فيحلف: إنه ما باع بكذا، ولقد باع بكذا، ووراءه وجوه أخر، أحدها: أنه يكتفي بيمين النفي، قياسًا على سائر الخصومات، وهو مخرج من نصه فيما إذا كان في يد رجلين دار، فادعى كل منهما أن جميعها له، فإنه قال: يحلف كل منهما على مجرد نفي استحقاق صاحبه ما في يده، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر فالآخر يحلف يمينًا أخرى على الإثبات. انتهى. وما ادعاه من أن هذا هو القول المخرج من مسألة الدعاوى غلط، وإن كان وجهًا منقولًا، فإن الذي ذكره الأصحاب كلهم- حتى الرافعي- أن المخرج كالأول في أنه لابد من يمين أخرى للإثبات- أيضًا- إلا أنه لا يأتي بها متصلة بيمين النفي، بل بعد حلف صاحبه على النفي، فحلف الأول يمين النفي، ثم يحلفها الثاني، ثم يحلف الأول يمين الإثبات، ثم يحلفها- أيضًا- الثاني، حتى لو حلف الأول يمين النفي، فامتنع الثاني عنها- فلا يقضى للأول حتى يحلف يمين الإثبات، ولو امتنع الأول عن النفي وحلف الثاني عليهما- قضي له. هكذا قاله الرافعي في المسألتين، على خلاف ما يقتضيه كلام المصنف، وعلله الرافعي باحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه في ما يدعيه هو، وقد تفطن المصنف في ((المطلب)) لذلك، فذكره على الصواب كما ذكره غيره. قوله: وقد خرج الأكثرون قولًا إلى مسألة الدعوى في الدار من مسألتنا: أنه يكتفي

فيها بيمين واحدة جامعة بين النفي والإثبات. وحكى الإمام الغزالي ذلك في الدعاوى، وأثبت هنا التخريج من مسألة الدار إلى مسألتنا، وقال: إن مسألة الدار لا خلاف فيها. انتهى. واعلم أن التخريج من مسألة الدار إلى مسألتنا أشهر من عكسه، ودليله ما حكاه المصنف هنا عن الإمام والغزالي، والأصح: القطع في مسألتنا بالمنصوص كما قاله الرافعي، وطريقة التخريج ضعيفة عند الأصحاب، فإذا كانت التخريج في مسألتنا ضعيفة عند الأصحاب، مع أن الخلاف فيها أشهر من عكسه- فكيف يستقيم مع هذا أن يكون الأكثرون قائلين بالتخريج في عكسه؟! والذي أوقع المصنف في هذا: أن الرافعي قال: إذا فرعنا على التخريج من مسألة الدار إلى مسألتنا فهل يخرج من مسألتنا إلى مسألة الدار؟ قال كثيرون: نعم، والحق خلافه. فذهل المصنف عن التفريع، وسبق وهمه من ((الكثيرين)) إلى ((الأكثرين))، وقد ذكر الرافعي ذلك في كتاب الدعاوى، وعبر بما هو أوضح من تعبيره هنا، فقال: والطريق الثاني: أنهما غير مقرين بحالهما، ولكن يخرج من نصه في هذه المسألة قول في التحالف، وفي التخريج من التحالف اختلاف لأصحاب الطريقة الثانية. قوله- في المسألة-: والرابع: نقل القاضي أبو حامد في ((جامعه)): أن من أصحابنا من قال: يحلف كل منهما يمينين، فيقول البائع: والله ما بعت بكذا، ويقول المشتري: والله ما اشتريت بكذا، ثم يقول البائع: والله لقد بعته بكذا، ويقول المشتري: والله لقد اشتريته بكذا. انتهى. هذا قد تقدم الكلام عليه، وأنه هو القول المخرج، وحينئذ فنتحصل فيما سبق على ثلاثة أوجه فقط، لا على أربعة. قوله: وإن قلنا: يحلف كل واحد يمينين، فإذا حلف الأول على النفي، ونكل الثاني عنه- عرضت على الأول يمين الإثبات، فإن حلف قضي له، وإن نكل لم يقض له، لاحتمال صدقه في نفي ما يدعيه صاحبه، وكذبه فيما يدعيه. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كما لو تحالفا. انتهى كلامه. ومتقضاه: أن ما قاله الشيخ أبو محمد وجه آخر مخالف لما تقدم، وليس كذلك، بل هو تفريع على عدم القضاء له، ولهذا عبر الرافعي بقوله ثم: عن الشيخ أبي محمد: أنه كما لو تحالفا، لأن نكول المردود عليه عن يمين الرد نازل في الدعاوى منزلة حلف الناكل أولًا. هذا لفظه، فتوهم المصنف أنها مقالة أخرى.

قوله: ولو حلفا على النفي فوجهان، أصحهما- وبه قال الشيخ أبو محمد-: أنه يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى يمين الإثبات، لأن المحوج إلى الفسخ جهالة الثمن، وقد حصلت، وهذا يظهر أنه عين القول المخرج ... إلى آخر ما قال. وهذا الذي قاله عجيب- أيضًا- فإن هذا تفريع على أنه يحلف يمينين كما ذكره، والذي ذكره أولًا وادعى أنه المخرج إنما هو الاكتفاء بيمين النفي. قوله: وقيل: لا ينفسخ إلا بالحاكم، لأنه فسخ مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم، كالفسخ بالعنة والإعسار. انتهى. وما جزم به من كون الفسخ بالعنة لا ينفذ إلا من الحاكم قد ناقضه في موضعه- وهو باب الخيار في النكاح- فقال: وفي استقلالها بالفسخ وجهان، أقربهما- وذكر في ((التتمة)) أنه المذهب-: الاستقلال، كما يستقل بفسخ المبيع بالعيب، والثاني- وهو مذهب العراقيين-: أن الفسخ إلى الحاكم. هذا كلامه. قوله: ولو رهن المبيع، ثم تحالفا- قال الرافعي: يخير البائع بين أخذ القيمة والصبر إلى انفكاك الرهن، فإن أخذ القيمة كانت للحيولة على الأصح. قلت: وما قاله الرافعي من أن البائع يتخير فيه نظر، فإن الغزالي حكى فيما إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، وكان الصداق مرهونًا: لو قال الزوج: أنتظر الفكاك للرجوع، فلها إجباره على قبول القيمة، خيفة من غرر الضمان إن قلنا: إن الصداق مضمون في يدها، وإن قلنا: لا ضمان، فهل يلزمه إجابتها؟ فيه وجهان. ومنشأ هذا: أنه قد يبدو له المطالبة بالقيمة، وتخلو يدها في ذلك الوقت عن النقد. وما ذكره من المعنى موجود في مسألتنا. انتهى ملخصًا. وما حاوله من التسوية بين المسألتين قد أجاب عنه في ((شرح الوسيط)) بأن القيمة إذا أخذت كانت عين الحق، وهنا إذا أخذت لا تكون عين الحق، بل للحيولة على الأصح كما تقدم. قوله: وإن اختلفا في المبيع، فقال البائع: بعتك هذه الجارية بألف في ذمتك، وقال المشتري: بل بعتني هذا العبد بها- فالذي حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي والبندنيجي: أنهما لا يتحالفان، واختاره الإمام والبغوي. انتهى. وما حكاه عن الإمام من اختيار المنع ليس الأمر فيه كما قال، بل حاصل كلامه: الجواز، فإنه خرج الخلاف في هذه المسألة على الخلاف فيما إذا أقر لإنسان بألف من ثمن مبيع، فقال: بل عن قرض- هل يملك المطالبة أم لا؟ فإن قلنا: إنه يملك

المطالبة به، صار كالمعين، فإنه لو وقع مثل ذلك في العين ملك المطالبة بها وجهًا واحدًا، وإن قلنا: لا يملك المطالبة به، فلا تحالف. ثم إن الإمام صحح اللزوم في مسألة الإقرار كما ذكره في موضعه، فاقتضى أن الصحيح التحالف، والغريب: أن المصنف مع ذكره لما ذكره أولا عن الإمام من اختيار المنع، قد نقل هذا التخريج بعد ذلك، ولكن السبب فيه: أن الرافعي قد وقع له- أيضًا- نقل اختيار ذلك عن الإمام، فقلده فيه المصنف، ولهذا عبر بعبارة الرافعي، ثم بعد ذلك نظر في كلامه فأخذ التخريج منه. قوله في المسألة: وحكى القاضي أبو الطيب أن التحالف يجري في هذه الصورة- أيضًا- واختاره ابن الصباغ، واستدل له القاضي بأن ابن الحداد قال: إذا اختلف الزوجان، فقال: مهرتك أباك، فقالت: بل مهرتني أمي تحالفا. انتهى. وهذا التعبير الذي ذكره يقتضي عادةً أن ابن الصباغ لم يستدل بما استدل به القاضي، لأنه نقل عنهما معا القول بالتحالف، وأفرد القاضي بهذا الاستدلال، ولم يقل: واستدلا، فدل على ما قلناه، وليس كذلك، بل الاستدلال وقع منهما- أيضًا- فاعلمه. قوله: ولو اختلفا في التسليم أجبر البائع على ظاهر المذهب، وحينئذ فإن كان الثمن مع المشتري أجبر على إعطائه، وإلا حجر عليه في جميع ماله إلى أن يحضر الثمن، فإن كان- أي الثمن- في بلد آخر، نظر: إن كان بينهما مسافة القصر ثبت للبائع الفسخ، لتصرره بالتأخير، فإن فسخ فذاك، وإن صبر إلى الإحضار دام الحجر. ثم قال ما نصه: قال الرافعي: وحكي الإمام عن ابن سريج: أنه لا يفسخ، ولكن يرد المبيع إلى البائع ويحجر على المشتري، ويمهل إلى الإحضار، وادعى في ((الوسيط)) أنه الصحيح، وإن كان بينهما دون مسافة القصر فهو كما لو كان في البلد، أما لا لو كان على مسافة القصر؟ فيه وجهان. هذا آخر كلام الرافعي، ومقتضاه: أن خلاف ابن سريج فيما إذا كان المال في مسافة القصر، والذي رأيته فيما وقفت عليه من ((النهاية)): أن ابن سريج قال: إن كان ماله غائبًا عن المجلس فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ولا يحجر عليه، ويرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه الثمن، وإذا انتهى الأمر إلى الامتناع إلى الوصول إلى الثمن، لغيبة شاسعة يعد مثلها امتناعًا ثبت له الفسخ. انتهى كلام ابن الرفعة، رحمه الله. والكلام عليه متوقف على نقل كلام الإمام، فنقول: قال في ((النهاية)) ما نصه: وقال

ابن سريج: إن كان ماله في البلد، ولكن كان غائبًا عن مجلس التسليم- فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ويحجر عليه، ولا يرد المبيع إلى البائع، فأما إذا كان ماله غائبًا عن البلد فليرد المبيع إلى البائع إلى أن يتوفر عليه الثمن، ولا يثبت حق الفسخ عند ابن سريج أصلًا بهذا الوقف الذي نص عليه الشافعي، وإنما يثبت إذا انتهى الأمر إلى الإعسار أو إلى امتناع الوصول إلى الثمن بغيبة شاسعة يعد مثلها امتناعها. هذا كلام الإمام. إذا علمت ذلك علمت أن في كلام المصنف أمرين: أحدهما: أن ما اعترض به على الرافعي من أن الإمام لم يحك مقالة ابن سريج في حالة غيبة المالك، وأنما حكاها عنه فيما إذا كان ماله في البلد- غلط، سببه إسقاط من كلام الإمام، فإن الإمام قد ذكر المسألتين كما قد أوقفتك عليه، وهما: مسألة الرافعي، ومسألة المصنف، فأسقط المصنف من كلام الإمام من لفظ ((البائع)) إلى ((البائع)): إما لانتقال نظره، وإما لغلط في نسخته. الأمر الثاني: أن ما نقله عن ((النهاية)) فيما إذا كان ماله في البلد غائبًا علن المجلس، أن ابن سريج قال: إنه لا يحجر عليه، وير المبيع إلى البائع- غلط على العكس مما في ((النهاية))، فإن فيها عنه إثبات الحجر ونفي الرد كما قاله تقدم من حكاية لفظه، فتأمله. وقد وقع في ((الرافعي)) هنا- أيضًا- غلط في هذه المسألة تبعه عليه في ((الروضة))، فإنه نقل عن ابن سريج أمرًا ثالثًا، وهو أنه يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على المشتري، أعني بإثبات الأمرين، فتفطن.

باب السلم

باب السلم قوله: وادعى الرافعي أن اسم ((السلم)) يشمل القرض- أيضًا- لكن حد السلم الشرعي يخرجه، وهو: العقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلًا. انتهى. وما نقله عن الرافعي عن شمول اسم السلم للقرض نقله عنه في ((المطلب)) - أيضًا- وهو غلط على الرافعي، فإن الرافعي إنما ذكر ذلك في لفظ ((السلف)) - بالفاء- فقال: وجمع في هذا الكتاب- يعني الغزالي- بين السلم والقرض، لتقاربهما واشتراكهما لفظًا ومعنى: أما اللفظ، فلأن كل واحد منهما يسمى سلفا، وأما المعنى، فلأن كل واحد منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال. هذه عبارة الرافعي، وهو كلام صحيح صرح به غيره أيضًا. قوله: ولا يلزم قبول الرأس والرجل من الطير، والرأس والذنب من السمكة، وكان بعض أصحابنا من البصريين يقول: ما كان من الطير صغيرًا لا يحتمل أن يباع مبعضًا، لزمه فيه أخذ الرأس والرجلين، وكذا ما كان من الحيتان صغيرًا، يلزم فيه أخذ الرأس والذنب، لأنه يؤكل معه ويطبخ. والمذهب: الأول. انتهى. وهذا الذي جزم به من وجوب القبول في رأس الحوت، ولم يحك فيه خلافًا إلا وجهًا في الصغار- وهو الصواب كما أوضحته في ((المهمات)) فاعلمه، فإن الرافعي قد جزم بخلافه، فربما توهم الواقف عليهما أن المذكور هنا غلط. قوله: ولا يحتاج في السمن إلى ذكر العتق والحداثة عند الشيخ أبي حامد، لأن العتيق لا يصح السلم فيه. قال القاضي أبو الطيب: العتيق المتغير هو المعيب، لا كل عتيق، فيجب البيان. انتهى. وما نقله عن القاضي من وجوب البيان مطلقًا قلد فيه الرافعي، وليس كذلك، فقد نقل صاحب ((الشامل)) عنه: أنه إن اختلف قيمته وجب، وإلا فلا، فقال ما نصه: قال القاضي: ويقول حديث أو عتيق، إن كان يختلف. وقال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: إطلاقه يقتضي الحديث، فإن العتيق معيب، وإنما يصلح للجراح. وقال

القاضي: العتيق الذي تغير لا يدخل فيه، لأنه معيب، وليس كل عتيق متغيرًا. هذا لفظه. قوله: أما إذا لم يكن فيه- أي في المخيض- ماء بل مخض اللبن لا غير جاز السلم فيه إذا وصفه بالحموضة، قاله الرافعي. وفي ((الحاوي)): أن السلم في اللبن الحامض لا يجوز. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ظاهر كلامه يقتضي أن الرافعي يقول باشتراك وصفه بالحموضة، وليس كذلك، بل إنما ذكر أن وصف اللبن به لا يضر، فقال: وحينئذ فوصفه بالحموضة لا يضر، لأن الحموضة مقصورة فيه. هذا لفظه. الثاني: ما نقله عن ((الحاوي)) يقتضي أنه في المسألة بحالها، وأنه وجه مخالف لما يقول الرافعي، وهو غلط، فإن ما قاله الماوردي في اللبن- من حيث قد صرح الرافعي قبل هذا بقليل- بموافقة ما قاله فيه، وجزم به فقال: بل لو أسلم في اللبن الحامض لم يجز، لأن الحموضة عيب. هذا لفظ الرافعي. قوله: وعليه يدل نص الشافعي فيما إذا أصدقها ملء هذه الجرة، خلا أنه لا يجوز، لأنها قد تنكسر، والسلم الحال هل يلحق بالبيع أو بالسلم المؤجل؟ فيه وجهان، اختيار الشيخ أبي حامد منهما: أنه كالمؤجل. انتهى. وهذا الكلام معكوس، والصواب: أن يقدم لفظ ((وعليه يدل)) على لفظ: ((كالمؤجل))، وهو المذكور في ((الرافعي)). قوله: وفي ((الحاوي)): أنه لو أسلم إليه في جارية بصفة، فأتاه بها على تلك الصفة وهي زوجته- لم يلزمه قبولها، لأنه لو قبلها بطل نكاحه، وكذلك المرأة إذا أسلمت في عبد. ثم قال: فإن قيل: ما ذكره من عدم وجوب قبول الزوج والزوجة، ليس لما يلحقه من الضرر بفسخ النكاح، بل لأن الزواج عيب، والمسلم فيه لا يجب قبوله معيبا. قلت: لما كان القبض يرفع النكاح قدر عدمه وإن كان عيبًا ... إلى آخره. وهذا التكلف الذي قاله في تصوير المسألة لا حاجة إليه، بل يتصور بما إذا شرط أنه ذو زوجة، أو أنها ذات زوج، فإنه يصح السلم كما نقله الرافعي عن الصيمري، وأقره، غير أن ابن الرفعة لم يستحضر هذا الحكم، ولهذا لم يتعرض له في ((الكفاية)) بالكلية. تنبيه: قال: إذا أسلم في الرطب لم يقبل منه مشدخا، قال الشافعي: ولا محلقنا وهو

ما ذهب بعضها بأكل أو غيره. اعلم أن ((المشدخ)) - بالخاء والشين المعجمتين، بينهما دال مهملة- هو البسر يغمر حتى يتكسر، مأخوذ من ((الشدخ)) وهو كسر الشيء الذي له جوف كالرأس، وهذا النوع هو المسمى في مصر بالمعمول. وأما قوله: ولا محلقنًا، فقال الجوهري: المحلقن- بالحاء المهملة- والقاف المكسورة، والنون- هو البسر إذا ترطب الثلثان منه، واحدة: محلقنة. قال: وكذلك: ((الحلقان)) و ((الحلقانة)) بالضم. إذا علمت ذلك فالتفسير المذكور في الكتاب لا يوافق هذه اللفظة.

باب القرض

باب القرض قوله: وقد روي عن كل من ابن مسعود وابن عباس وأبي الدراء أنه قال: ((لأن أقرض مرتين أحب إلى من أن أتصدق مرة)). وروى البزار عن ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قرض مرتين يعدل صدقة مرة))، وإنما كان القرض خيرًا من الصدقة، لأنه لا يأخذه إلا محتاج إليه، بخلاف الصدقة. انتهى. وهذا الحكم الذي استدل عليه، وهو تفصيل القرض على الصدقة- لم يتقدم له ذكر، بل تقدم ما يقتضي عكسه، فإن الحديث والآثار التي ذكرها تدل على أن الصدقة من حيث هي أفضل من القرض، على خلاف ما استنبطه منها. قوله: وهذا إذا كان المقرض عينا، أما إذا كان دينا مثل أن يقول: أقرضتك عشر دراهم صفتها كذا، وقبل، فإن عين في المجلس صح، وإن عين بعد مفارقة المجلس. قال في ((المهذب)): إن لم يطل الفصل جاز، وإن طال لم يجز حتى يعيد لفظ القرض. انتهى كلامه. اعلم أن اشتراط التعيين لا يستلزم اشتراط القبض كما أوضحوه في الكلام على الاستبدال عما في الذمة، وفي كتاب الصلح، وصاحب ((المهذب)) لم يذكر التعيين، وإنما شرط القبض، فقال: وإن قال أقرضتك ألفا، وقبل، وتفرقا، ثم دفع إليه ألفا-: فإن شرط لم يطل الفصل جاز، لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب، وإن طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ ((القرض))، لأنه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل. هذا لفظه. على أن المسألة فيها نظر، وقد نقلها صاحب ((البحر))، ثم عزاها بعد ذلك إلى ((المهذب)). قوله: ومما يندرج في كلام الشيخ قرض منفعة دار بعينها، لأنه لا يجوز السلم فيها، وقد صرح بذلك القاضي حسين في كتاب الغصب، ومن جوز نظرًا إلى جواز البيع قد يجوز ذلك. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره بحثا معناه: أن من جوز السلم نظرًا إلى جواز البيع- يعني الإجارة- قد يجوز قرضها، وحاصل ما ذكره الجزم بالمنع، وليس فيه إلا ما ذكره

بحثا. إذا علمت ذلك فقد جزم بعد ذلك- بدون ورقة- بعكسه، فقال: إن القبض في المنافع المقرضة يكون بقبض العين المستوفى منها، وهو يقتضي جواز قرض المنافع. قوله: قال الأصحاب: ويصير الحال مؤجلًا فيما إذا أوصى من له الحق ألا يطالب به إلا بعد شهر مثلًا كما حكاه المتولي، وسمعت من بعض مشايخنا أنه يتأجل بالنذر أيضًا. انتهى كلامه. ومقتضاه: أنه لم يقف على نقل في هذه المسألة، وهو غريب، فقد ذكرها- أيضًا- المتولي عقب هذه المسألة التي نقلها هو عنه من غير فصل بينهما، فقال في الباب الخامس من أبواب البيع: الثامن: إذا كان له حق حل أجله، فقال: إن شفى الله مريضي، أو: رجع غائبي- فلله علي ألا أطالبه شهرًا- فالحكم فيه كالحكم فيما لو نذر عيادة المرضى وتشييع الجنائز. هذا كلام المتولي، وقد ذكرها- أيضًا- الروياني في ((البحر)) في كتاب البيع، قبل باب بيع اللحم بالحيوان بنحو ورقة، فقال: إن فيه وجهين كالوجهين فيما إذا نذر تشييع الجنازة. وهذا الكلام يقتضي أن الراجع من الوجهين هو الوجوب، لأنه الراجح في تشييع الجنائز وأنظاره. وما نقله المصنف عن ((التتمة)) قد جزم به الرافعي في باب الفساد من جهة النهي، إلا أنه لم يصرح بكونه يصير مؤجلًا، بل بوجوب الإمهال، قال المصنف في ((المطلب)): وإنما تنفذ الوصية بعدم المطالبة إلى مدة بشرط أن يخرج فيه الدين من الثلث، لأنهم قالوا: إن البيع بثمن مؤجل يحسب كله من الثلث إذا لم يحل منه شيء قبل موت الموصي، لأنه منع الورثة من التصرف فيه فكان كإخراجه عن ملكهم، وهذا مثله. ثم قال: وأنا أقول: إذا قلنا: إن الملك ينتقل في المبيع في زمان الخيار، ويجوز إلحاق الزيادة بالعقد- كان ذلك صورة أخرى، لأن الدين كان حالًا وقد تأجل. قال: بل هذه بالذكر أولى، لأن ما كان حالا تأجل، وما عداها قد يقال: إن الدين باق بصفته، وإنما يمنع من طلبه مانع كالإعسار. ذكر ذلك في آخر الباب الثالث من أبواب البيع. وهذا الاحتمال الذي أبداه ابن الرفعة من كونه حالًا امتنعت المطالبة به لعارض، بحث ظاهر، وله فوائد: منها: إذا عجله المدين قبل المدة لغرض البراءة، فهل يجبر رب الدين جزمًا- أي: على أحد الأمرين، وهما القبول والبراءة- كسائر الديون الحالة، لاسيما أن هذه

المدة لم تقع برضا المدين، أم يتخرج على الخلاف في الدين المؤجل؟ ومنها: الحنث إذا حلف: لا مال له، وقلنا بالتفصيل بين الحال والمؤجل. ومنها: إذا أفلس المدين فهل لصاحبه المطالبة به؟ إن قلنا: إنه من باب التأجيل، فيأتي فيه الخلاف في حلول المؤجل بالإفلاس، وإن قلنا: إنه حال منع المطالبة به مانع، فالمتجه عدم المطالبة لقيام المانع، ويحتمل خلافه، لما فيه من الضرر، ويحتمل التخريج على المؤجل، لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب الأصلي، ويحتمل التخريج على المؤجل، لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب الأصلي، ويحتمل التفصيل بين أن يقول: لله علي ألا أستوفيه إلا بعد كذا وكذا ونحو ذلك، فلا يحل، أو يقول: لله علي تأجيله. وهذا كله إذا كان الناذر والمديون حيين، فإن كان المديون ميتًا فلا شك أن المسارعة إلى براءة ذمته واجبة إذا حلف وفاءً، وحينئذ فلا يؤثر النذر حتى لو رضي الوارث ورب الدين معا بالتأخير لم يجز، لما ذكرنا، وأيضًا: فلأن قصد الناذر التبرع برفق المديون، وقد زال ذلك بموته. وإن كان الناذر ميتًا فالمتجه بقاء المدة، سواء كان وارثه رشيدًا أم محجورًا عليه، لأن من ورث مالا ورثه بحقوقه التي عليه والتي له، ويحتمل التفصيل السابق، وهو الفرق بين أن يلتزم التأجيل أو عدم مطالبته هو، ومن تفاريع المسألة إخراج الزكاة عن ذلك المال، فنقول: للنذر حالان: أحدهما: أن يكون بعد تمام الحول فلا إشكال في وجوب إخراج قدر الزكاة، غير أنه هل يستثنى ذلك القدر من وجوب الإنظار، لأن الملك فيه لغيره، بناء على الصحيح، وهو أن الفقراء شركاء رب المال، أو يجب الإنظار فيه- أيضًا- وهو المتجه لكونه قادرًا على تمام نذره بجواز الإخراج من غيره، كما قلنا به فيما إذا رهن مالا زكويًا وحال عليه الحول، بل الإخراج من غيره عند القدرة هاهنا أولى، لأن الرهن سابق على الوجوب، بخلاف النذر. الحال الثاني: أن يكون قبل تمام الحول، ففي إلحاقه بما بعد الحول احتمال، لأن النذر في هذه الحالة يصرف منه قبل تعلق نصيب الفقراء، وقياس مسألة الرهن وجوب الإخراج من غيره عند القدرة ومنه عند عدمها. وهذه الأمور التي ذكرناها خلاف موضوع الكتاب، واللائق بذلك إنما هو كتابنا ((المهمات)). قوله: وأما جواز أخذ البدل عن عين القرض إذا كان المقترض في يد المستقرض، ففي ((الشامل)): أنه لا يجوز أن يأخذ عوضه، لأنه قد زال ملكه عن العين، أي: إذا قلنا: إنه يملك بالقبض.

قال: أما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف فقد قال بعض أصحابنا: لا يجوز أخذ بدله للمقرض، فإنه وإن كان ملكه باقيًا إلا أنه قد ضعف بتسليط المستقرض. هذا آخر كلامه. وفي ((الرافعي)) ما يفهم حكاية هذا عن ((الشامل)) فيما إذا أورده أخذ العوض عن البدل الثابت في الذمة، وكلامه لا يقتضي إلا ما ذكرناه، فليتأمل. انتهى كلام ابن الرفعة. رحمه الله. وما نقله عن ((الشامل))، واعترض على الرافعي بسببه في حكايته عنه- غلط، سببه إسقاط بعض كلام ((الشامل))، فإنه قال ما نصه: هذا- أي جواز الاستبدال- محله إذا كان العوض قد استقر في ذمته، فأما إذا كان المقترض في يده فإنه لا يجوز أن يأخذ عوضه، لأنه قد زال ملكه عن العين ولم يستقر في ذمته، لأنه يعرض أن يرجع في العي، فأما إذا قلنا: إنه لا يملك إلا بالتصرف، فقال بعض أصحابنا: لا يجوز. هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر التعليل الذي نقله عنه المصنف، فاقتصر ابن الرفعة على قوله: ((لأنه قد زال ملكه عن العين))، وذهل عما بعده، وكأنه أولًا اقتصر عليه، ظانًا أنه لا حاجة إلى ما بعده، ثم بعد ذلك رآه مع كلام الرافعي لا يجتمع، فاعترض.

باب الرهن

باب الرهن قوله: وإن تشاحا، أي: تمانعا، فيمن يكون تحت يده، وكان الرهن مشروطًا في بيعٍ- كما نبه عليه الإمام والرافعي في الباب الثالث من كتاب البيع- سلمه الحاكم إلى عدل، لأنه العدل. ثم قال: أما إذا وقع التشاحح فيمن يقبض الرهن غير المشروط ابتداء، فالذي يظهر: أنه لا يسلم إلى العدل إلا برضا الراهن، لأن له الامتناع من أصل الإقباض. انتهى كلامه. وما ذكره في الفرق بين الرهن المشروط وبين غيره من لزوم الإقباض وعدم لزومه صريحٌ في وجوب الإقباض في الرهن المشروط، وهو سهو، فإن الوفاء به لا يلزم، وله الامتناع فيه كما في غير المشروط، إلا أنه يجوز للبائع الفسخ لعدم الوفاء كما قرروه في بابه. وأما كلام الرافعي الذي استند إليه فليس فيه دلالة لما قاله، فإنه لم يصرح بالإخبار ولا أشار إليه، بل قال: وهل يجب التعرض لكونه المرهون عند المرتهن أو عند عدل؟ فيه وجهان، أظهرهما: لا، بل إن اتفقا على يدي المرتهن أو يدي عدل فذاك، وإلا جعله الحاكم في يدي عدل. هذا لفظه، وهو صحيح لا ينافي القول به في صورة أخرى، فإنه لم يخصص هذا الحكم بهذا الفرع. نعم، كلام الشيخ محمول على الرهن المشروط كما ذكر المصنف، ولكن في الاستمرار بعد القبض، ولكن في الاستمرار بعد القبض، ولفظ الشيخ مشعر به أو صريح فيه، فتأمله. قوله: وأيضًا: فإن المرتهن ينحصر حقه في عين المرهون، حتى لا يتمكن من إجبار الراهن على الدفع من غيره- كما صرح به الإمام قبل باب الرهن والحميل بخمس عشرة ورقة- وإن كان قادرًا على تحصيله من غيره. ثم قال بعده: وإذا كان كذلك فقد خالفنا هذا المقتضى بإيجابنا بيع غير المرهون في وفاء دين الرهن. انتهى كلامه.

ودعواه أن الإمام ذكر أ، المرتهن ينحصر حقه في المرهون ... إلى آخره، صريح في أن المرتهن لا شيء له في غيره، وهذا لم يذكره الإمام، بل القول به باطل قطعًا، فإن الدين باق في الذمة، ولا يسقط بتلف المرهون، والذي قاله هناك ما نصه: ولو قال للقاضي- يعني الراهن-: أريد أن أؤدي حقه من ثمن الرهن، فليس للمرتهن أن يلزم الراهن تحصيل الدين من جهة أخرى، ولا فرق بين أن يكون قادرًا على وفاء الدين من جهة أخرى وبين أن يكون عاجزًا. هذا كلامه، ذكر ذلك في أثناء فصل أوله: ((قال: ولو كان الشرط للعدل))، ولم يذكر فيه انحصار الحق ولا ما يقتضي انحصاره، بل حاصله تقديم الوفاء من هذا على الوفاء من غيره، على أن الشيخ عز الدين قد استشكله- أيضًا- لما فيه من تأخير الحق الواجب على الفور، وهذا الإشكال إنما يأتي أن لو كانت صورة المسألة أن يكون مالكًا لحبس الحق الواجب، وليس في كلام الإمام ما يتناوله ولا ما يشير إليه، وإنما يدل على أنه لا يلزم بيع عين أخرى إذا كانت في ملكه. قوله: ولا فرق بين أن يرهن نصيبه من جملة الدار، أو من بيت منها والباقي مشترك. ثم قال: وإذا صححنا الرهن، ووقع البيت في نصيب الشريك- قال الغزالي: احتمل أن يقال: هو تلف، واحتمل أن يقال: الراهن ضامن، والتفويت منسوب إليه. انتهى كلامه. وهذان الاحتمالان للإمام، وقد نقلهما الرافعي عنه، وإنما الغزالي ناقل على عادته. قوله: والأكثرون على منع وطء المرهونة بغير الإذن، سواء كانت ممن تحبل أم لا. ثم قال: وإذا قلنا به فلا يجوز له استخدامها بنفسه، خوفًا من وطئها. انتهى. اعلم أن المصنف قد جزم في باب العارية بأن استعارة جارية الغير للخدمة لا يستلزم الخلوة المحرمة، قال: ولهذا جزم الإمام بعدم التحرم إذا استخدامها بغير خلوة. انتهى. والذي قاله ظاهر، وحينئذ فالجواز في المرهونة بطريق الأولى، لأنها ملكه. ثم إن المصنف- أيضًا- قد صحح هناك جواز إعارتها للاستخدام المذكور إذا كانت لا تشتهي، لكونها صغيرة أو شوهاء، وهو هاهنا أولى، لما سبق. قوله: التفريع: إن قلنا بنفوذ إعتاق الراهن مطلقًا فعليه قيمته يوم الإعتاق، صرح به الأصحاب،

وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف في وقت النفوذ، وإليه أشار ابن يونس بقوله: على الصحيح. انتهى كلامه. وهذا الاحتمال الذي ذكره غير صحيح كما نبه عليه بخطه على حاشية الكتاب، قال: لأن الخلاف في وقت النفوذ إنما هو إذا قلنا بالتفرقة بين الموسر والمعسر، لا بقول النفوذ مطلقًا في حالة اليسار والإعسار، هذه عبارته. قوله: ولو جنى على عبد آخر للمرتهن، نظر: إن لم يكن مرهونًا ... إلى آخره. وتعبيره بـ ((المرتهن)) سهو، وصوابه: الراهن.

باب التفليس

باب التفليس قوله: ولأن في الحجر مصلحة الغرماء، فإنه قد يخص بعضهم بالوفاء فيتضرر الباقون، وقد يتصرف فيه فيضيع حق الجميع، ومن هذه العلة يستنبط أن المال لو كان مرهونًا امتنع الحجر، اللهم إلا أن يكون فيه رقيق ونقول بنفوذ عتق الراهن، وهذا ما ظهر لي فقهًا، ولم أقف عليه منقولًا. انتهى كلامه. وما ذكره من امتناع الحجر قد ذكر بعد ذلك في الكلام على النفقة على المفلس ما يخالفه، وسأذكر لفظه، وسأذكر لفظه. ثم إن ما قاله إنما يأتي إذا قلنا: من شرط الحجر أن يكون له مال، فإن قلنا: لا يشترط حجر عليه قطعًا، لأن غاية الموجود أن يكون تعلق حق الغير به ألحقه بالمعدوم، واشتراط المال قد توقف فيه الرافعي في أول الباب فقال: يجوز أن يقال: لا حاجة إليه، بل مجرد الدين يكفي لجواز الحجر، منعًا له من التصرفات فيما عساه يحدث له باصطياد واتهاب، فإن كان كذلك فليفسر المفلس بالذي ليس له مال يفي بديونه، لينظم من لا مال له أصلًا ومن له مال قاصر. هذا كلام الرافعي، ولم ينقل خلافه. قوله: ولو أقر بعين أو دين وجب قبل الحجر قبل إقراره في الأصح، فإن لم يقبل إقراره ففضلت العين بعد فك الحجر فهل تسلم إلى المقر له؟ فيه قولان في كتاب الإقرار من ((النهاية)) و ((تعليق)) القاضي الحسين. ثم قال: وعلى قياس هذا يتجه أن يجيئا في الغرم- أيضًا- وفي الدين. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يقف على نقل في هذه المسألة، وقد صرح بها الغزالي في كتاب الإقرار من ((البسيط))، وحكى فيها الخلاف الذي حاول تخريجه، إلا أنه ذكر ذلك في الدين خاصةً، فقال ما نصه: وإن أقر بدين معاملة لم يثبت للمقر له مضاربة الغرماء أصلًا، ويؤاخذ به بعد انفكاك الحجر، وذكر الإمام في ذلك بعد انفكاك الحجر خلافًا، وزيفه، ولم يذكره في كتاب التفليس. هذا لفظ ((البسيط)) بحروفه. قوله: واعلم أن وقت القسمة حين يجاز بيع الأموال وحيازة أثمانها إن رضي الغرماء بالتأخير إلى ذلك الوقت، أو لم يمكن قسمة ما يتحصل أول فأول، أما إذا

أمكن وامتنع الغرماء من التأخير، أطلق القاضي أبو الطيب والمحاملي والإمام وغيرهم القول بإجابتهم. وفي ((الحاوي)): أنهم لا يجابون، لاحتمال أن يظهر غريم لم يطلع عليه، وهذا ما قال الرافعي: إنه الظاهر. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من أنه إذا أمكن قسمة المتحصل أولًا فأولًا، لا يقسم وإن طلب الغرماء التعجيل- غلط لا يوافق كلام الرافعي لا حكما ولا تعليلا، فقد قال الرافعي ما نصه: وما يقبضه الحاكم من أثمان أمواله على التدريج: إن كان يسهل قسمته عليهم فالأولى ألا يؤخر، وإن كان يعسر لقلته وكثرة الديون فله أن يؤخر ليجتمع، فإن أبوا التأخير ففي ((النهاية)) إطلاق القول بأن يجيبهم، والظاهر خلافه. هذا كلام الرافعي. قوله: ولأنه إذا لم يكن ذا مال وجبت نفقته على كافة المسلمين، فوجب إذا كان له مال أن يقدم بالإنفاق منه بطريق الأولى. انتهى كلامه. وما قاله منقوض بالمرهون والعبد الجاني، فإن مالكهما لا ينفق عليه منهما، وقد صرح الإمام هنا أنه إذا لم يكن للمفلس سوى المرهون لا ينفق عليه منه. قوله: واعلم أن ما ذكرناه- أي من النفقة عليه وعلى عياله- ظاهر فيما إذا كان بعض ماله لم يتعلق به حق لمعين، أما إذا تعلق بجميع ماله حق معين، إما بسبب الحجر، أو بغيره، أو بهما كالأعيان المبيعة التي لم تقبض أثمانها، والرهون والرقاب التي تعلقت بها أروش الجنايات- ففي ((النهاية)): أنه إذا لم يكن له سوى المرهون لا ينفق عليه وعلى عياله منه. وغير المرهون لم أقف فيه على نقل، والقياس: أن يحلق بالمرهون في ذلك، ويؤيده قول جمهور أصحابنا في مؤنة تجهيز الميت ودفنه: إنها لا تخرج. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله صريح في الحجر عليه إذا كان ماله مرهونًا، وقد تقدم في أول الباب ما حاصله: أنه لا يحجر عليه، فراجعه. الأمر الثاني: أن هذا النقل عن الإمام لو صح لكان صريحًا في نقل هذه المسألة المهمة، لكنه غير صحيح، ولم يصور الإمام المسألة في المفلس، بل ذكر مسألة مستقلة، فإنه قال: وكان لا يمتنع أن يلتحق المفلس- أي في نفقة الأقارب- بالفقير الذي لا مال له، ولكن أصحاب على ما ذكرناه، فليثق الطالب بما نقلناه. ولو

كان عليه دين وقد رهن به مالًا لا يملك غيره، لا ينفق عليه ولا على أهله وأولاده منه، فإن المرهون خارج عن حكم تصرفه إلى الانفكاك، والأموال باقية على حق المحجور، ولكنه بالحجر محمول على أن يبتدر صرفها إلى دين. هذا كلام الإمام، وحاصله: أنه حاول فرقا بين مسألتين مستقلتين، ولم يذكر أن هذا المرهون حجر عليه، والذي أوقع المصنف في الوهم أنه توهم أن قوله: ((ولو كان عليه)) عائد على المفلس، وغفل عن عادة الأصحاب في ترجمة المسائل بذلك، وكيف يتصور ألا يكون عليه دين حتى يأتي بهذه العبارة؟! قوله: بل يعطى في فصل الصيف كسوة الصيف: قميص، وسراويل ... إلى آخره. أهمل العمامة، ولا خلاف في وجوبها. قوله- في الكلام على إخراجه من الحبس إذا قامت بينة على إعساره-: ولا فرق في ذلك- على ما حكاه الإمام- بين أن تكون البينة معدلة، أم لا وقد شرع في طلب تزكيتها، لأن الحبس من بعض العقوبات. انتهى كلامه. وما حكاه عن الإمام من إخراجه بعد قيام البينة وقبل الاستزكاء- وهمٌ، فإن الذي قاله الإمام ما نصه: فإن وجد بينته أقامها كما سنذكر الوجه فيها، فإذا قامت وجرى البحث عن التعديل فلا يسوغ عندنا إدامة الحبس بعد ذلك، فإنه على الجملة من قبيل العقوبات، وقد يرى الوالي التعزير به وحده. وقال أبو حنيفة: لا يصغي إلى البينة على الإعسار حتى يمضي أمد فيه، ثم اختلف قوله فيه، فقال: مرة. لابد من مضي شهرين، وقال مرة: أربعين يومًا، أو خمسين يومًا، وقال مرة: أربعة أشهر. هذا كلامه، وليس فيه أن يطلق بإقامة البينة قبل تعديلها، والذي أوقع المصنف في هذا الوهم تعبير الإمام بقوله: وجرى البحث عن التزكية، مع قوله: ولا يسوغ عندنا إدامة الحبس ... إلى آخره. قال الإمام: قصد بذلك الرد على ما نقله بعد ذلك عن أبي حنيفة من امتناع قبول الشهادة إلا بعد مدة. وأما التعبير بـ ((جريان البحث عن التزكية)) فيرد على المصنف، لأنه قد يقتضي أن البحث قد وجد وانقضى، والأصحاب يطلقونه لإرادة حصول التعديل، والعجب من المصنف فيما قاله، فإنه نسب إلى الإمام أمرًا مخالفًا لسائر الأبواب! وإذا كان يحبس ابتداء في دين بشاهدين لم يعدلا مدة يظهر للقاضي جرحهما أو تعديلهما، احتياطًا للحق وإن لم يثبت- فاستدامته مع ثبوت الدين قبل ثبوت الإعسار أولى. قوله: وقد يقال على رأي الصيدلاني في حمل الشهادة بالإعسار على وقوف البينة

على التلف: إنه لا يشترط أن يكون الشاهد من أهل الخبرة، وقد يجاب بأنا وإن قدرنا ذلك فخلافه مظنون، فاعتبرنا أن يكون من أهل الخبرة ليتحقق الشرط على كل حال. انتهى كلامه. وهذا الاحتمال الذي ذكره خطأ فاحش، لأنه لا يسوغ بالإجماع الشهادة على الإعسار برؤية تلف ماله الظاهر من غير أن يعلم حاله في الباطن، والمصنف- رحمه الله- نظر إلى المال المعروف له، وذهل عن احتمال غيره، ولهذا أجاب بما أجاب من أن عدم المشاهدة مظنون- أيضًا- فاعتبرت الخبرة، وهو عجيب! وقد صرح الرافعي بالمسألة على الصواب، فقال: وإن شهدوا على إعساره قبلت بشرط الخبرة الباطنة. قال الصيدلاني: ويحمل قولهم: إنه معسر، على أنهم وقفوا على تلف المال. هذه عبارته. قوله: لو كاتب المشتري المبيع امتنع على البائع الرجوع، وإن أجره لم يمتنع، كذا قال الرافعي وغيره، وهو في الإجارة جواب على جواز بيع المستأجر، وإلا فهو كالمرهون كما صرح به المتولي. ثم قال بعد ذلك: ويشهد لما ذكره المتولي في الإجارة: أن الإمام حكى عن شيخه أن الطلاق إذا وقع قبل الدخول، والصداق مستأجر- أنه لا يرجع إلى عينه إذا منعنا بيع المستأجر، واختاره. وكذلك قال الأصحاب فيما إذا وقع التحالف والعين المبيعة مستأجرة. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- عجيب، فإن التفصيل الذي استدركه على الرافعي قد ذكره الرافعي فقال: وإن أجره فلا رجوع إن لم نجوز بيع المستأجر، وإن جوزناه: فإن شاء أخذه مسلوب المنفعة لحق المستأجر، وإلا ضارب بالثمن. هذا لفظ الرافعي، وكأنه سقط في النسخة التي وقف عليها شيء، وبالجملة فهو يدل على المعهود من حسن تفقهه. قوله: فرع: لو كان المبيع أرضًا، وقد بنى فيها المشتري وغرس، ثم أفلس ... إلى آخره. ثم قال في آخر الفرع: وفي ((النهاية)) ما يجتمع منه أربعة أقوال فيه: أحدها: أن بائع الأرض فاقد عين ماله، فلا يرجع بحال. والثاني: أن الأرض والبناء والغراس يباعان معا كما يفعل في الثوب المصبوغ. والثالث: أنه يرجع في الأرض، ويتخير بين ثلاثة أشياء كما في حق المستعير.

والرابع: أنه إن كانت قيمة الأرض أكثر فهو واحد، وإن كانت قيمة البناء أكثر فهو فاقد، وأن الحكم فيما لو وهب لولده أرضا كذلك. قال الرافعي: وأنت إذا تأملت هذا الكلام، بعد وقوفك على المذهب المعتمد، وتصفحك عن كتب علمائنا، ورأيت ما بينهما من المخالفة الصريحة- قضيت العجب منه، وقلت: ليت شعري من أين أخذت هذه الأقوال! انتهى كلامه. واعلم أن نقله لإنكار الرافعي وسكوته عليه دليل على موافقته للرافعي في الإنكار، وأنه لم يظفر بالأقوال التي نقلها الإمام، وليس كذلك، بل الأقوال ثابتة، وقد تفطن في ((المطلب)) إلى الصواب، فقال: أما القول الثالث والرابع فلا إشكال فيهما، وقد حكاهما الرافعي. قال: وأما الأول فقد نقله القاضي حسين في ((تعليقه))، فإنه نقل قولا في منع رجوع الواهب بعد الغراس أو البناء، وقال- أي القاضي-: إنه مثل قوله في المفلس إذا غرس وبنى: لا يرجع بائع الأرض فيها، فثبت القول بمنع الرجوع على الإطلاق. ثم إن ابن الرفعة أيده وقواه بأن المشتري بنى في ملكه الذي لا خيار فيه، بخلاف الموهوب له والمستعير ومشتري الشقص. وأما القول الثاني فقد حكاه ابن سريج كما مر، ونقله المحاملي وغيره. وقد ذكر- أيضًا- في ((الكفاية))، ثم سلك في ((المطلب) مسلكا آخر في الجواب عن الإمام، فقال: إذا امتنع المفلس والغرماء من القلع، والبائع من بذلك القيمة وأرش النقص- جاءت الأقوال. وكلام الرافعي مشتمل عليها، فتأمله، وحينئذ فلا اعتراض على الإمام إلا من جهة الإطلاق، فإذا حملنا كلامه على هذا اندفع الاعتراض منه.

باب الحجر

باب الحجر قوله: والمراد بالحجر في اصطلاح العلماء: المنع من التصرف. انتهى كلامه. وهذا التعريف ناقص، ولابد أن يقول: من التصرف في المال، لأن طلاق السفيه وخلعه صحيحان، فإن قيل: هذا القيد وإن حسن لإخراج طلاق السفيه، لكن يعكر من جهة أن طلاق الصبي والمجنون لا يصح، فلابد من إدخالهما- قلنا: إنما لم يصح طلاقهما، لسلب عبارتهما، وهو أمر زائد على معنى الحجر. قوله: وهو- أي الحجر- نوعان: الأول: لحق الغير، وهو خمسة أضرب: حجر المفلس لحق الغرماء، وحجر الراهن لحق المرتهن، وحجر المريض لحق الورثة، وحجر العبد لحق السيد وكذا المكاتب، وحجر المرتد لحق المسلمين قلت: وينبغي أن يلحق بما ذكر حجر سادس: وهو الحجر على الورثة في التركة لحق الميت وحق الغرماء، وسابع: وهو الحجر على السيد في المكاتب لحقه، وكذا في العبد الجاني على قول. انتهى كلامه. أهمل- رحمه الله- ضروبًا كثيرة: أحدها: الحجر الغريب المذكور في البيع، وهو الحجر على المشتري في السلعة وجميع ماله إلى أن يحضر الثمن، وكذلك المستأجر. الثاني: الحجر على الممتنع من إعطاء الدين وماله زائد، إذا التمسه الغرماء كما صححه الرافعي في بال الفلس. الثالث: إذا فسخ المشتري بعيب كان له حبس المبيع إلى قبض الثمن، ويحجر على البائع- والحالة هذه- في بيعه كما نقله الرافعي في الكلام على حكم المبيع قبل القبض عن صاحب ((التتمة)). الرابع: الحجر على المؤجر فيما استأجره على العمل فيه، وقد ذكره الرافعي في البيع في الكلام على حكم المبيع قبل القبض، في أثناء كلام أوله: قال: وبيع الميراث، فقال: ومنها: إذا استأجر صباغًا ليصبغ ثوبًا وسلمه إليه، فليس للمالك بيعه ما لم يصبغه، لأن له أن يحبسه إلى أن يعمل ما يستحق فيه العوض، وإذا صبغه فله بيعه

قبل الاسترداد إن وفي الأجرة، وإلا فلا، لأنه ليستحق حبسه إلى استيفائها. هذا كلام الرافعي، ثم عدد- أيضًا- أمثلة أخرى ملحقة بذلك، والإلحاق واضح من التعليل، وقد ذكر في ((التتمة)) ما ذكره الرافعي، ثم ذكر شيئًا آخر يبغي معرفته، فقال في الباب السابع من أبواب البيع: الثالث عشر: إذا استأجر شهرًا ليرعى أغنامه، أو ليحفظ مالا له معينًا، ثم أراد أن يتصرف في ذلك المال- فالبيع صحيح، لأن حق الأجير لم يتعلق بذلك المال، فإن المستأجر لو أراد أن يستعمله في مثل ذلك العمل لكان جائزًا. الخامس: الحجر على الغانم لمال من استرق وعليه دين، فإذا كان على حربي دين فاسترق وله مال، ثم غنم الذي أسره أو غيره ذلك المال- فإنه يحجر على حربي دين فاسترق وله مال، ثم غنم الذي أسره أو غيره ذلك المال- فإنه يحجر عليه فيه، مراعاة لأرباب الديون، كالحجر على الوارث في التركة، لأن الرق كالموت، وتوفى منه ديون العبد وإن زال ملكه عنه، كذا ذكر الرافعي في كتاب السير. السادس: ذكره الجرجاني في ((الشافي))، وهو الحجر على المشتري في المبيع قبل القبض. السابع: ذكره المحاملي، وهو الحجر على العبد المديون لحق الغرماء. الثامن: نفقة الأمة المزوجة ملك للسيد، وليس له أن يتصرف فيها ببيع أو غيره حتى يعطي بدلها للأمة، لأن حقها متعلق بعينها، كذا ذكره الرافعي. التاسع: إذا أعتق الشريك نصيبه، وقلنا: لا يسري إلا بدفع القيمة، فتصرف المالك بالبيع وغيره- ففي صحته وجوه، أصحها عند الجمهور- كما قال الرافعي-: أنه لا يصح، لأن صحته تؤدي إلى إبطال ما يثبت للمعتق من الولاء، والثاني: نعم، والثالث: يصح العتق دون غيره. العاشر: إذا قال الشريكان للعبد المشترك: إذا متنا فأنت حر، فلا يعتق العبد ما لم يموتا جميعا- إما على الترتيب أو معًا، لأنهما علقا عتقه بموتهما، كذا ذكره الرافعي في أوائل التدبير، ثم قال: فإن ماتا معا ففي ((الكافي)) للروياني وجه: أن الحاصل عتق تدبير، لاتصاله بالموت، والظاهر: أنه عتق، لحصول الصفة لمعلق العتق بموته وموت غيره، والتدبير تعليق العتق بموت نفسه، وإن ماتا على الترتيب فعن أبي إسحاق: أنه لا تدبير- أيضًا- والظاهر: أنه إذا مات أحدهما يصير نصيب الباقي مدبرا، لتعلق العتق بموته، وكأنه قال: إذا مات شريكي فنصيبي منك مدبر، ونصيب الميت لا يكون مدبرًا وهو بين المدتين ملك للورثة، فلهم التصرف فيه، بما لا يزيل الملك كالاستخدام والإجارة، وليس لهم بيعة، لأنه صار مستحق العتق بموت الشريك

الآخر، وقيل: لهم بيعه، لأن أحد شرطي العتق لم يوجد. الحادي عشر: الدار التي استحقت المعتدة بالحمل أو بالأقراء أن تعتد فيها لا يجوز بيعها، لأن حق المرأة متعلق بها، والمدة غير معلومة، بخلاف عدة الوفاة. الثاني عشر: إذا اشترى دابة، فأنعلها، ثم اطلع على عيب بها، وكان قلع النعل يؤدي إلى التعييب، فردها المشتري وترك النعل للبائع- فإنه يجبر على قبوله، وليس للمشتري طلب قيمة النعل، ثم ترك النعل هل هو تمليك من المشتري للبائع لو سقط، أم إعراض، فيكون للمشتري؟ وجهان، أشبههما- كما قاله الرافعي- هو الثاني. وإذا علمت ذلك فيمتنع بيعه على المشتري، لما تقدم في دار المعتدة. الثالث عشر: إذا أعار أرضًا للدفن فإنه لا يرجع فيها قبل أن يبلى الميت، لما فيه من هتك حرمته بالنبش، ولو أراد بيع تلك البقعة لم يجز، لجهالة مدة البقاء. الرابع عشر: إذا فعل الغاصب في المغصوب، ما يقتضي انتقاله إليه، كما لو خلطه بما لا يتميز، ونحو ذلك مما ذكروه في الغصب كالتعفين الساري للهلاك- فإنه يجب عليه البدل، ولا يمكن إيجابه عليه مع بقاء المغصوب في ملك المغصوب منه، لئلا يجتمع في ملكه البدل والمبدل، فتعين انتقاله إليه ولا يمكن أن يجوز للغاصب التصرف فيه، لأن المغصوب منه لم يرض بذمته فتعين الحجر عليه فيه. الخامس عشر: إذا أوصى بعين تخرج من الثلث وباقي ماله غائب، فيحجر على الموصي له في الثلثين، لاحتمال التلف، والأصح: أنه لا ينفذ تصرفه في الثلث- أيضًا- وإن تيقنا أنه له، كما أن الوارث لا يتمكن من التصرف في الثلثين. السادس عشر: الحرج على من اشترى عبدًا بشرط الإعتاق، فإنه لا يصح بيعه وإن كان بشرط الإعتاق على الأصح، لأن العتق مستحق عليه. السابع عشر: الحجر على السيد في بيع أم الولد. الثامن عشر: إذا أقام شاهدين على ملك سلعة، ولم يعدلا- فإن الحاكم يحول بينها وبين المدعى عليه على الصحيح وحينئذ فيمتنع عليه بيعها وهبتها وغير ذلك، كما ذكره الرافعي في الباب الثاني من أبواب الشهادات، وفي المنع قبل الحيلولة وجهان. التاسع عشر: إذا اشترى عبدًا بثوب مثلًا، وشرطا الخيار لمالك العبد- فالملك فيه له، ويكون الملك في الثوب باقيا على من بذله، لئلا يجتمع الثمن والمثمن في ملك رجل واحد، وحينئذ لا يجوز لمالكه التصرف فيه قبل فسخ مالك العبد، لئلا يؤدي

إلى إبطال ما ثبت فيه من الخيار. العشرون: إذا رهن جارية، ثم وطئها، فحبلت منه وهو معسر- فإن الاستيلاد لا ينفذ على الصحيح، فلو حل الحق وهي حامل لم يجز بيعها على الأصح، لأنها حامل بحر، وإذا ولدت لا تباع حتى يسقي الولد اللبأ ويجد مرضعة، خوفًا من أن يسافر بها المشتري فيهلك الولد، كذا قاله الرافعي، ول قيل بالبيع وإلزام الإقامة كما في الحرة وأمه كان متجهًا. الحادي والعشرون: إذا أعطي الغاصب القيمة للحيلولة، ثم ظفر بالمغصوب فله حبسه إلى استرداد القيمة، كذا نقله الرافعي في باب الغصب عن نص الشافعي، ثم مال إلى خلافه، ويلزم من حبسه امتناع تصرف مالكه بطريق الأولى. الثاني والعشرون: بدل العين الموصى بمنفعتها إذا أتلفت، حكمه حكم أصله. الثالث والعشرون: أعطى لعبد قوته، ثم أراد عند الأكل إبداله- قال الروياني: ليس له ذلك، وقيده الماوردي بما إذا تضمن الإبدال تأخير الأكل. الرابع والعشرون: إذا نذر إعتاق عبد بعينه فإنه لا يخرج عن ملكه إلا بالإعتاق، ومع ذلك لا يجوز له التصرف فيه، بخلاف ما إذا نذر الصدقة بدرهم بعينه، فإنه يزول ملكه عنه إلى الفقراء، ولو أوصى بإعتاقه أو بوقفه كان كالنذر. الخامس والعشرون: إذا دخل عليه وقت الصلاة وعنده ما يتطهر به، فلا يصح بيعه ولا هبته على الصحيح، لحق الله- تعالى- وهكذا قياس السترة ونحوها كالذي يعتمد عليه العاجز عن القيام، والمصحف الذي يقرأ منه غير الحافظ. السادس والعشرون: إذا وجبت الكفارة على الفور، وكان في ملكه ما يجب عليه التكفير به- فقياس ما سبق: امتناع تصرفه فيه، ولا يحضرني الآن نقله، ومن عليه دين لا يرجو وفاءه، أو وجبت عليه نفقة غيره- لا يحل له التصدق بما معه ولا هبته، ولكن لو فعل ففي نفوذه نظر. قوله: ولابد عند الشراء بقصد التجارة لهما- على ما حكاه الماوردي- من أن يكون ما يشترى لا يسرع إليه الفساد، وأن يكون الربح حاصلًا منه في الغالب حالًا أو مآلًا، وأن يكون بالنقد دون النسيئة. انتهى كلامه. وهذا الشرط الثالث الذي نقله عن الماوردي، وهو ألا يكون بالنسيئة- قد صرح الغزالي بخلافه في كتاب الفرائض من ((الوسيط))، فقال: يجوز لولي اليتيم أن يشتري له شيئًا بالنسيئة إذا كان في شرائه مصلحة.

قوله: وفي ((التتمة)): أن الغلام أذا أنزل المني قبل الطعن في العاشرة لا يكون بلوغًا، وأن الإنبات في السنة التاسعة يجعل بلوغًا. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب ((التتمة)) هنا قد نقله عنه في ((المطلب)) - أيضًا- وهو صحيح بالنسبة إلى إنزال المني، وأما ما نقله عنه من أن الإنبات يكون بلوغًا في السنة التاسعة، فليس له ذكر في هذا الباب بالكلية، لا نفيًا ولا إثباتًا، وإنما حكى الخلاف المعروف فيه، ولم يقيده بسنة مخصوصة. قوله: ثم المراد بالرشد في الدين: ألا يرتكب من المعاصي ما يخرجه عن حيز العدالة، وإن أتى بما يسقط المروءة: كالأكل في الأسواق ونحوه، كذا قاله ابن الصباغ وغيره، وهو بناء على المشهور من أن تعاطي هذه الأشياء ليس بمحرم، وسماعي من شيخ المشايخ قاضي القضاة تقي الدين أبي عبد الله محمد بن رزين: أنه سمع من بعض علماء الشام: أن تعاطي ما ترد به الشهادة من الأكل في الأسواق ونحوه، هل هو حرام أم لا؟ فيه ثلاث أوجه للأصحاب. ثالثها: إن كان قد تحمل شهادة حرم عليه تعاطي ذلك، لأن فيه سعيًا في إبطال شهادته المتعلق بها حق الغير، وإلا فلا. فعلى وجه التحريم: ينبغي أن يكون كسائر المحرمات. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه، وكذلك في أوائله حيث قال: وهو بناء على المشهور ... إلى آخره- يقتضي أن كل محرم يقدح هنا، وليس كذلك، بل القادح إنما هو المخرج عن العدالة كما صرح به هو في أول الكلام الذي نقلته عنه، وحينئذ فلا يلزم من كون هذا محرمًا أن يكون مما نحن فيه، لجواز أن يكون من الصغائر عند هذا القائل، وهو الظاهر.

باب الصلح

باب الصلح قوله: ولو قال: أبرئني من الدين، كان إقرارًا، وإن قال: أبرئني من المال، فكذلك على الأصح، وفي ((الإشراف)): أن ابن القاص حكى عن بعض أصحابنا: أنه ليس بإقرار، لأن الله تعالى قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] وموسى - صلى الله عليه وسلم - لم يكن آدر، وتبرئته عن عيب الأدرة لم تقتض إثبات الأدرة. انتهى كلامه. وما ذكره من الجزم في الدين والتردد في المال ذكره- أيضًا- في ((المطلب))، وهو باطل بلا شك، فإنهما على حد سواء إذا أراد بكل منهما الدين المدعى به، فيكون الوجه ثابتًا فيما، إلا أن ابن القاص تكلم على المثالين. والأدر- بهمزة مفتوحة، بعدها ألف، ثم دال مفتوحة ثم راء مهملتين-: هو الذي انتفخت خصيته، والأدرة- بضم الهمزة، على وزن ((الحمرة)): هو انتفاخها، قاله الجوهري. قوله: ولو أذن المدعى عليه المنكر لأجنبي في مصالحة المدعي، فهل يكفي ذلك في صحة الصلح، أم لابد من إقراره عند الوكيل بأن العين ملك للمدعي؟ فيه وجهان. أصحهما في ((الحاوي)): أنه يكفي. ثم قال: فعلى هذا يكفي الوكيل أن يقول: هو لك، وقد وكلني في مصالحتك. وبه جزم القاضي أبو الطيب في ((تعليقه)). وإن قلنا: لابد من إقراره فلابد أن يقول الوكيل: العين لك، وقد أقر بها المدعى عليه، ووكلني في مصالحتك. وهذا ما ادعى ابن يونس أن كلام الشيخ محمول عليه، وهو الذي أورده ابن الصباغ والمحاملي. انتهى ملخصًا. فأما ما ذكره أولا على القول بأنه يكفي من أنه لابد أيضًا من اعتراف الوكيل بأنه للمدعي، وأن القاضي أبا الطيب قائل به- فإن القاضي وإن جزم بذلك إلا أنه لم يفرعه على القول بالاكتفاء بالمصالحة، فقال: فإن صالحه للمدعى عليه جاز الصلح إذا أقر للمدعي بالعين، وقال: إنه وكلني في مصالحتك. هذا لفظ ((التعليقة))، فيجوز أن

يكون ذلك تفريعًا على اشتراط الإقرار. وأما ما ذكره على القول باشتراط الإقرار من أن الوكيل لابد مع ذلك من اعترافه بأن العين للمدعي فمعلوم: أن الوكلاء لا يشترط فيهم ذلك. وما ذكره عن ((الشامل)) من اشتراطه غلط، فإنه قال ما نصه: فإنه يقول للمدعي: إن المدعى عليه معترف لك في الباطن، وقد وكلني أن أصالح عنه. هذه عبارته، ولم يشترط معه شيئًا آخر، وكذا ذكر ابن يونس، فقال نقلًا عن الشيخ: قال: وإن كان المدعى عينًا لم يجز حتى يقول: هو لك- أي: هو مقر لك في الباطن- وقد وكلني في مصالحتك، فعند ذلك يصح. انتهى كلامه. فهذا هو الذي حمل عليه كلام الشيخ، وليس فيه اشتراط اعتراف الوكيل مع الأمرين الأخيرين. قوله: وما روى عن صاحب ((التلخيص)) من أنه جوز الصلح عن أرش الموضحة إذا علما قدره، وأنه منع صحة بيعه- فقد خالفه فيه المعظم. وقالوا: إن كان الأرش مجهولًا كالحكومة التي لم تقدر بعد لم يصح الصلح عنه ولا بيعه. وإن كان معلوم القدر والصفة: كالدراهم إذا ضبطت في الحكومة جاز الصلح عنها، وجاز بيعها ممن هي عليه. وإن كان معلوم القدر دون الصفة، كالإبل الواجبة في الدية ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع وجهان. انتهى كلامه. وما قاله- رحمه الله- من نقل هذا التقسيم عن صاحب ((التخليص)) قلد فيه الرافعي، وهو لا ينطبق على ما نقله هو عنه، فإنه فرض المسألة في المصالحة عن أرش الموضحة إذا علم قدر أرشها، فكأنه صالحه على خمس من الإبل، وهو القسم الثالث من التقسيم المتقدم، فلا يجئ القسمان الأولان أصلًا. قوله: واعلم أنه كما يجوز له أن يشرع الجناح إلى الشارع يجوز لمن له فيه داران متقابلتان أن يركب عليهما ساباطًا، ويجوز له أن يحفر فيه سردابًا ويبني عليه أزجا يمر عليه المارة، ويحكمه، صرح به العراقيون وغيرهم. قال في ((بحر المذهب)): ويمثل هذا أجاب الأصحاب- يعني في السرداب- فيما إذا لم يكن الطريق نافذًا، وغلط من قال بخلافه. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن ((البحر)) قد غلط فيه عليه، فإن المذكور في ((البحر)) إنما هو ترجيح المنع، فإنه ذكر حكم الشارع في إخراج الجناح والساباط والسرداب،

ثم قال: فرع: لو كان زقاقا غير نافذ اختلف أصحابنا فيه: فقال بعضهم- وهو اختيار أبي حامد-: الحكم فيه كالحكم في الطريق النافذ، بدليل أنه يجوز لكل أحد دخول هذا الزقاق. وقال هذا القائل: والشافعي لم ينص على هذه المسألة في ((الأم)). ثم قال ما نصه: وقال بعض أصحابنا- وهو اختيار القاضي الطبري، رحمه الله-: ليس له ذلك، لأن ذلك مملوك لهم، ولا يجوز لأحد منهم الانفراد بهوائه، وهذا أقيس عندي. هذا كلام ((البحر)) بحروفه، ولم يذكر فيه غير ذلك، ولم ينص في غير النافذ على السرداب بخصوصه، لكنه يؤخذ مما سبق في الشارع. وذكر الروياني في ((الحلية)) أيضًا مثله، فقال- بعد ذكر الجناح والساباط في الشارع-: وكذلك لو حفر سردابًا من داره إلى دار أخرى له بحذائها في طريق شارع، وأحكم ذلك بالأزج- يجوز، لأنه لا فرق بين أن يرتفق بما تحتها، أو بما فوقها إذا لم يضر بالمارين، ولو أراد ذلك في طريق سكة غير نافذ فلا يجوز إلا بإذن أهل السكة في ظاهر المذهب، وهو اختيار القاضي الطبري وجماعة. هذا لفظ ((الحلية)) - أيضًا- والموقع للمصنف في هذا الغلط هو الرافعي، فإنه نقله عن الروياني. قوله: أما إذا قلنا بالقول القديم- أي: في وضع الجذوع على جدار الجار- فلا تجوز له المصالحة على عوض، لأن من وجب عليه حق لم يجز أن يعتاض عنه. قلت: قد حكى الغزالي في كتاب الإجارة فيما إذا أسلمت امرأة، وليس هناك من يحسن الفاتحة إلا واحد، فجعل صداقها تعليمها الفاتحة- جاز على الأصح من الوجهين، مع أن ذلك واجب عليه، فيتجه أن يجئ مثل ذلك هنا. انتهى كلامه. والجواب عما قاله قد ذكره الإمام في كتاب الصداق، وهو أن الوجوب إذا لاقى الشخص يجب عليه بذلك الأجرة لغيره، وإن تعين الغير طريقًا، والوجوب هنا لم يلاق صاحب الجذوع، بل لاقى الجار أولًا، فلا يأخذ عنه عوضًا.

باب الحوالة

باب الحوالة قوله: ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع)). ألف ((أتبع)) مضمومة، وتاؤه تسكن وتخفف، وتاء ((فليتبع)) مشددة انتهى كلامه. وما ذكره جازمًا به من تشديد التاء في ((يتبع)) فإنه مقالة ضعيفة جدًا، قال النووي في ((شرح مسلم)): والصواب المعروف في كتب الحديث وغيرها: هو التخفيف. قوله- رحمه الله-: ولا تفتقر إلى رضا المحال غيره، على المنصوص، أي: في ((المختصر)). ثم قال: ومقابله: أنه لابد من رضاه، وقد رواه أبو العباس بن القاص عن نصه في ((الإملاء)). انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من أن الشافعي نص في ((المختصر)) على ذلك سهو، فإنه لم ينص فيه على المسألة. نعم نص في باب الطعام منه- أي: من ((المختصر)) - على أن الحوالة بيع، وحينئذ فيمكن أن يتفرع عليه عدم اشتراط رضا المحال عليه، وقد صرح المصنف في ((المطلب)) بذلك، وجعل المسألة مستنبطة من هذا النص، لا منصوصًا عليها. الثاني: أن ما ادعاه من نسبة مقابله إلى ((الإملاء))، وأن ابن القاص نقل ذلك- ففي ((الرافعي)) عن المذكور- وهو: ابن القاص نسبته إلى ((الأم))، ولم ينسبه على ((الإملاء)). قوله: وفي وجهٍ تجوز الحوالة بمال الكتابة ودين السلم، وعليهما. ثم قال: وقد بناه الرافعي والماوردي في مسألة المسلم فيه على أنها استيفاء لا معاوضة، ويشبه أن يبني في مسألة الكتابة عليه أيضًا. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن ما ذكره في الكتابة من البناء لم يقف عليه منقولًا، لكن قد صرح القاضي الحسين في باب الكتابة من ((تعليقه)) بالبناء المذكور موافقًا لبحثه، فإنه ذكر أن السيد ليس له أن يحيل على المكاتب بمال الكتابة، ثم قال ما نصه: هذا إذا قلنا:

الحوالة معاوضة، فإن قلنا: إنهاء استيفاء الحق، فتجوز الحوالة بمال الكتابة، سواء أحال المكاتب السيد على رجل له عليه دين، أو أحال السيد رجلا على المكاتب. هذا لفظه، ذكره بعد نصف الباب بقليل. قوله: وقيل إذا قلنا: إنهاء استيفاء، جاز أن يحيل بالحال عن المؤجل، وبالمؤجل إلى شهر عن المؤجل إلى أكثر منه، وبالصحيح عن المكسر، وبالجيد عن الرديء، ولا يجوز العكس. وفي ((الوسيط)) عكس هذا، فإنه قال: كل ما يمنع الاستيفاء، إلا بمعاونة تمتنع الحوالة فيه. ولو كان لا يمنع الاستيفاء، بل يجب القبول، ولا يشترط رضا المستحق به: كتسليم الصحيح عن المكسر، والأجود عن الرديء، والحال عن المؤجل في بعض الأحوال- جازت الحوالة به وإن كان يفتقر إلى الرضا المجرد دون المعاوضة، ففيه وجهان، وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه. انتهى كلامه. وما توهمه من أن كلام ((الوسيط)) على العكس من ذلك الوجه ليس كذلك، فإن حاصل ذلك الوجه: أن الدين المحال عليه إذا كان أجود صفة من المحال به، جازت الحوالة، وسببه- كما قال الرافعي-: أنه يجوز للمحيل إعطاؤه، فإذا أحال المؤجل مثلًا على الحال، فقد عجل. وكلام الغزالي يوافق الوجه، فإنه ذكر ثلاثة أقسام: الأول: ما يتوقف على المعاوضة لاختلاف الجنس، ولا كلام فيه. والثاني: ما لا يتوقف عليها، بل ولا على الرضا من المستحق كتسليم الصحيح عن المكسر، فتجوز الحوالة، فإذا لزمه مكسر فأحال بصحيح عنه جاز، وهو الذي جزم به الغزالي هو الوجه المتقدم. وقد تقدم تعليله عن الرافعي. والثالث: ما يتوقف على الرضا دون المعاوضة، كما لو لزمه صحيح، فأحال عنه بمكسر- ففيه وجهان. هذا ما قاله الغزالي، وحاصله: أنه جزم بذلك الوجه، وذكر معه وجهين في حوالة الأجود على الأردأ ونحوه، وأما ما ادعاه من أن في ((الوسيط)) عكس ذلك الوجه حتى يحال بالجيد على الرديء مثلًا دون العكس، فلا ذكر له في ((الوسيط)) ولا في غيره. قوله: وإذا قال لمن له عليه دين: أحلتك على فلان، فقبل، ثم اختلفا، فقال: أردت الوكالة، وقال المحتال: بل أردت الحوالة- فالصحيح، وبه قال المزني: أن القول قول المحيل. ثم قال: فإن قلنا بقول المزني، فإن كان المحتال لم يقبض الحق بعد، لم يكن له

قبضه، فلو قبضه فهل يكون مضمونًا عليه؟ فيه وجهان. قال الماوردي: مأخوذان من اختلاف أصحابنا في أن هذه وكالة فاسدة أو حوالة فاسدة؟ فإن قلنا: وكالة فاسدة، لم يضمن، وإلا ضمن. وإن كان قد قبضه برئ المحال عليه. وحكى الرافعي عن الإمام رواية وجهٍ ضعيف عن صاحب ((التقريب)) أنه لا يبرأ، والذي فهمته من كلام الإمام: ما حكيته عن الماوردي من قبل. انتهى كلامه. وما ادعاه من مغايرة كلام الإمام لما نقله عنه الرافعي، وتنزيل ذلك على ما قاله الماوردي- غلط عجيب، بل الموجوج في ((النهاية)) كما نقل الرافعي، فإنه ذكر المسألة في أواخر الباب، وحكى عن صاحب ((التقريب)) خلافًا فيما إذا صدقه المحيل: هل يكون ذلك بمثابة حوالة فاسدة أم لا؟ ثم قال ما نصه: فإن قلنا: إن سبيله سبيل الحوالة الفاسدة، فإذا كان المحال عليه سلم المال إلى المحتال فهل يبرأ بالتسليم إليه عما عليه؟ فعلى وجهين ذكرهما، يعني صاحب ((التقريب)). هذا لفظه بحروفه، والعجب كيف قال المصنف ما قال مستدركًا به على غيره لا سيما الرافعي.

باب الضمان

باب الضمان قوله: وهو ما روى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((والزعيم غارم))، وقال: إنه حسن صحيح. انتهى. واعلم أن الموجود في نسخ ((الترمذي)) إنما هو تحسينه. نعم، أخرجه ابن حبان في صحيحه. قوله: وإذا ضمن العبد بإذن سيده، وفي يده شيء من أموال التجارة- تعلق به على الصحيح. ثم قال: فرع: إذا قلنا يتعلق بمال التجارة، فهل يتعلق بما يكسبه بعد الضمان، أو به وبما في يده من الربح الحاصل من قبل، أو بهما وبرأس المال؟ فيه ثلاثة أوجه، أقيسها الثالث. انتهى. وتعبيره بقوله: بعد الضمان، سهو، بل صوابه المجزوم به في ((الرافعي)) وغيره: اعتبار الإذن لا الضمان، فإنه قد يتراخى عنه بأعوام. قوله: فإن قيل: الحر لو قال: ضمنت لك ما لك على فلان في هذا المال، لم يصح- قلنا: لا نسلم أن الضمان في العين لا يصح، فإن القاضي ابن كج صححه كما ستقف عليه. انتهى كلامه. ولم يذكر المصنف عن ابن كج بعد ذلك في المسألة شيئًا بالكلية، ولا شك أن النقل عنه غلط، لأن المصنف لم يقف على كتابه، وإنما ينقل عنه بواسطة نقل الرافعي، ولم ينقل الرافعي ذلك عنه. قوله فإن قيل: الحر لو قال: ضمنت لك ما لك على فلان في هذا المال، لم يصح- قلنا: لا نسلم أن الضمان في العين لا يصح، فإن القاضي ابن كج صححه كما ستقف عليه. انتهى كلامه. ولم يذكر المصنف عن ابن كج بعد ذلك في المسألة شيئًا بالكلية، ولا شك أن

النقل عنه غلط، لأن المصنف لم يقف على كتابه، وإنما ينقل عنه بواسطة نقل الرافعي، ولم ينقل الرافعي ذلك عنه. قوله: ولا يصح الضمان حتى يعرف الضامن المضمون له دون المضمون عنه. وقيل تشترط معرفتهما. ثم قال: وقيل: لا تشترط معرفة واحد منهما، لأن عليا وأبا قتادة ضمنا دين من لم يعرفاه، كذا قاله الماوردي، مع أنه حكى في موضع آخر: أن المضمون عنه كان من أهل الصفة. انتهى كلامه. واعلم أن هذه اللفظ الذي نقله عن الماوردي لا اعتراض عليه فيه، لأنه إنما يصح الاعتراض أن لو أراد بقوله: دين من لم يعرفاه، هو المضمون عنه، ولم يصرح به فيما نقله عنه، بل المتبادر منها عند الإطلاق إنما هو المضمون له، لأن الدين له. نعم، الماوردي عبر بقوله: ضمنا عمن لم يعرفاه ولا لمن يعرفاه. هذا لفظه، والاعتراض عليه متوجد حينئذ، وكأن المصنف لما وقف عليه ظهر له الاعتراض، ولكن عبر بعبارة تدفعه، على أن الجواب عن الماوردي سهل، وهو أنهما كانا إذ ذاك غير عالمين، ثم ظهر بعد ذلك. قوله التفريع: إن قلنا باشتراط معرفة المضمون عنه فلا خلاف في عدم اشتراط رضاه. انتهى. وما ذكره من نفي الخلاف ذكره إمام الحرمين ثم الرافعي والنووي، وليس كذلك، فقد نقل هو في ((المطلب)) عن ((تعليقه)) القاضي الحسين وجهًا: أنه يشترط، وأن أبا الحسن الجوري في ((شرح المختصر)) قد قال به أيضًا. قوله- نقلًا عن الإمام-: ولا يشترط رضا المضمون له عند الأكثرين، لكن لا يلزمه قبوله ما يحضره الضامن إن كان بغير إذن المضمون عنه. ثم قال: وإن كان بإذن المضمون عنه حيث لا يثبت له الرجوع ففي اللزوم وجهان. والأشهر: انه ليس له الامتناع، وهما مبنيان على أن المؤدى يقع فداء أو موهوبا ممن عليه الدين؟ إن قلنا بالثاني لم يكن له الامتناع. انتهى كلامه. وهذا البناء الذي نقله عن الإمام قلد الرافعي في نقله عنه، وليس مطابقًا لما في

((النهاية))، فإنه قال فيها ما نصه: إذا قال لغيره: أد ديني، وقلنا: لا يثبت الرجوع إذا لم يقيد- ففي امتناع مستحق الدين عن القبول وجهان: أحدهما: ليس له الامتناع، وهو الأشهر، فإن المؤدي مستناب من جهة الآذن، وليس لمستحق الدين تخير في عين المؤدى. والوجه الثاني: له الامتناع، فإنه إذا كان لا يملك الرجوع فالمدفوع إلى مستحق الدين يقع فداء أو موهوبًا: فإن كان فداء لم يلزمه القبول كما لو كان الأداء بغير إذنه، وإن كان المؤدى في حكم الموهوب ممن عليه فالهبة إنما يثبت الملك فيها بالقبض، ولمستحق الدين أن يقول: لست أجلب ملكًا لمن عليه الدين بيدي، ولا يلزمني ذلك. هذا كلامه ومخالفته لما قاله الرافعي ظاهرة، ثم ذكر- أعني الإمام- بعده كلامًا آخر، فقال: وإذا لم يبعد إلزامه تحصل الملك للمؤدى عنه مع افتراض عوضه باشتراط الرجوع، لم يبعد إلزامه قبض ما يقدر موهوبًا في حق المديون، وهذه الزيادة- أيضًا- لا تحقق ما قاله المصنف، فإن غايته أنه ذكر بحثًا في اللزوم على القول بأن هبة، بعد أن جزم بعدمه تفريعًا عليه، وجعل مستند عدم اللزوم شيئًا آخر. قوله: ثم محل الخلاف- أي في ضمان الثمن في مدة الخيار- إذا كان الخيار للمشتري وحده أو لهما، أما إذا كان للبائع وحده صح وجهًا واحدًا، صرح به المتولي. انتهى كلامه. واعلم أن هذا النقل مذكور في ((التتمة)) على ما نقله المصنف، لكن قد تقدم في البيع في الكلام على أقوال الملك في زمن الخيار: أن الثمن والمبيع لا يجتمعان في ملك شخص واحد، بل حيث قلنا: إن الملك في المبيع للمشتري، فالثمن للبائع، وإن قلنا: للبائع، فالثمن للمشتري، وإن قلنا: موقوف، فموقوف، وتقدم- أيضًا- أن هذه الأقوال الثلاثة جارية سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، إلا أن الصحيح أنه إذا كان الخيار لأحدهما كان الملك له، وقيل: محل الخلاف إذا كان لهما، فإن كان لأحدهما فالملك له قطعا. وعلى هذا: فإذا كان الخيار للبائع كان الملك في المبيع له: إما بلا خلاف، وإما على الصحيح، وحينئذ فلا ثمن على المشتري قطعًا، أو على الراجح، فضلًا عن كونه لازمًا، فكيف يتصور أن يقال فيه بصحة الضمان بلا خلاف مع حكاية الخلاف في عكسه؟! وبذلك يظهر أن هذه الطريقة قد انعكست على صاحب ((التتمة)).

قوله: وخرج ابن سريج قولًا بجواز تعليق الضمان، فعلى هذا: لو قال: إذا بعت عبدك لفلان بألف فأنا ضامن للثمن، فباعه منه بخمسمائة- فعند صاحب ((التقريب)): يكون ضامنًا لها، وعند ابن سريج: لا. ثم قال: قلت: وقد حكى الإمام عن ابن سريج في أواخر هذا الباب: أن رجلًا لو ادعى أن فلانًا ضمن لي ألف درهم، وأقام شاهدين: شهد أحدهما أنه ضمن ألفا، والآخر أنه ضمن خمسمائة- فالألف لا تثبت، وهل تثبت الخمسمائة؟ فعلى قولين خرجهما ابن سريج، وكان يتجه أن يخرج مثلهما هاهنا. انتهى كلامه. وما حاوله- رحمه الله- من تخريج الأولى على هذا الخلاف سهو، فإن الحكم المذكور فيها- أعني في الأولى- مفرع على صحة التعليق، والمعلق عليه هو البيع بألف، ولم يوجد، فلذلك جزم ابن سريج بأنه لا يكون ضامنًا لشيء، وهذا المعنى غير موجود في مسألة الشهادة. قوله: قال: وإن أحاله على من لا دين له عليه، أي: وصححناها- لم يرجع في الحال، لأنه لم يغرم شيئًا. قال: حتى يدفع إليه المحال عليه، ثم يرجع على الضامن فيغرمه، ثم يرجع الضامن على المضمون عنه، لأنه حينئذ غرم بإذنه. وهذا من الشيخ تفريع على أن هذه الحوالة لا تحصل براءة ذمة المحيل في الحال. فإن قلنا بالبراءة لم يشترط دفع المحال عليه، بل يشترط رجوع المحال عليه على المحيل الذي هو الضامن. انتهى كلامه. واعلم أن الشيخ قد صحح في باب الحوالة: أن الحوالة على من لا دين عليه غير صحيحة، واقتضى كلامه أن إذا صححناها برئت ذمة المحيل كما نقله عنه المصنف هناك، وحينئذ فيصير تقريره هنا لكلام الشيخ مخالفًا للمذكور هناك من وجهين، وهما: جزمه بصحة الحوالة، وبعدم البراءة، ولنا عن هذا كله مندوحة، فإن الشيخ هنا لم يتعرض لصحة الحوالة ولا لبطلانها، والحكم الذي ذكره لا يتوقف على صحتها، لأن ما وقع إذن في أداء الدين، والإذن فيه كافٍ في استحقاق الرجوع إذا وقع الأداء، فيكون قد صحح هناك بطلانها، وفرع هنا على ما صححه هناك، وهذا أصوب من التقرير الذي ذكره المصنف، فإنه واضح جلي لا تناقض معه. قوله: وإن غاب المكفول إلى موضع معلوم لم يطالب به حتى يمضي زمان يمكن

المضي فيه إليه والرجوع، فإذا مضت تلك المدة ولم يأت به حبسه الحاكم إلى أن يحضره أو يموت المكفول به، انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من تقييد غاية حبسه بالموت ليس كذلك بل الصواب ما قاله في ((المطلب)): إلى أن يتعذر إحضاره بموت أو جهل بموضعه أو إقامة عند من يمنعه. واعلم أن الاقتصار على مدة الذهاب والإياب ذكره الأصحاب- أيضًا- وينبغي أن تعتبر مع ذلك مدة إقامة المسافرين، وهي ثلاثة أيام غير يوم الدخول والخروج، للاستراحة وتجهيز المكفول.

باب الشركة

باب الشركة قوله: والدليل على بطلان الشركة في غير النقدين من النقار والسبائك وغيرهما: القياس على القراض. انتهى. والنقار- بنون مكسورة وقاف- جمع ((نقرة)) بضم النون وسكون القاف، والنقرة: هي السبيكة، كذا قاله الجمهور، وحينئذ يكون شاملًا للذهب والفضة، ولهذا قال الشافعي في ((الأم)): ولو غصب نقرة من ذهب. هذه عبارته، وإذا تقرر ما ذكرناه علمت منه- أيضًا- مرد توهمه المغايرة بين النقار والسبائك. قوله: فرع: قال الرافعي: إذا جوزنا الشركة في المثليات، فإن استوت القيمتان كانا شريكين على السواء، وإن اختلفا، كما إذا كانا لأحدهما كر حنطة قيمته مائة، وللآخر كر قيمته خمسون- فهما، شريكان بالثلثين والثلث، كذا حكاه الرافعي. ثم قال: وهذا مبني على قطع النظر في المثليات عن تساوي الأجزاء في القيمة، وإلا فليس هذا الكثير مثلًا لذلك القليل. قلت: وهذا الكلام منه يدل على صحة عقد الشركة عليها، والذي شرطناه أولا من تساوي المثلين في الوصف يمنع ذلك، وقد صرح بحكاية المنع في هذه الصورة الروياني في ((البحر)) انتهى كلامه بحروفه. وما ذكره من اشتراط التساوي في الوصف قد نقله عن الرافعي قبل ذلك أيضًا بقليل، إذا علمت ذلك فالذي ذكره المصنف من المنع في هذه الصورة، وأن اشتراط التساوي في الوصف مانع من الصحة حتى يتنافى كلام الرافعي- غريب، فإنهم إنما شرطوا التساوي في الأوصاف التي يحصل بها التمييز في مرأى العين حتى لا يمكن تمييز أحد المالين من الآخر، لا التساوي في القيمة، وقد صرح الرافعي بذلك فقال: وإذا جوزنا الشركة في المثليات وجب تساويهما جنسًا ووصفًا، فلا يكفي خلط حنطة حمراء ببيضاء، لإمكان التمييز وإن كان فيه عسر، وفي وجه: يكفي، لأنه يعد خلطًا. هذا كلامه، واعلم أن الرافعي عبر بقوله: وإلا فليس هذا الكر مثلًا لذلك الكر، ولم يعبر بالقليل والكثير.

باب الوكالة

باب الوكالة قوله: والوكالة في الشرع: إقامة الوكيل مقام الموكل في العمل المأذون فيه. انتهى وهذا حد عجيب يلزم منه الدور، لأنه تعريف الشيء بما هو مأخوذ منه، والأولى في حد ذاته أن يقال: تفويض ما له فعله مما يقبل النيابة، إلى من يفعله في حال حياته. وعدل في ((المطلب)) عما ذكره هنا، فقال: نيابة اختيارية في قول أو فعل ... إلى آخر ما قال. قوله- في توكيل الصبي في حمل الهدية، وفي الإذن في الدخول-: قال الإمام: إن لم توجد قرينة ففي الاعتماد عليه وجهان ينبنيان على الوجهين في روايته. ثم قال: وهذا ما حكاه الفقهاء، والذي حكاه الأصوليون: منع قبول روايته. انتهى كلامه. وما توهمه من المغايرة بين كلام الأصوليين والفقهاء بالنسبة إلى إثبات الخلاف ونفيه ليس كذلك، فإن الخلاف عند الأصوليين ثابت مشهور كالفقهاء، والفقهاء- أيضًا- قد صححوا المنع كالأصوليين، حتى صححه الرافعي والنووي لما حكياه في استقباله القبلة والمياه وغيرهما. وقد ذكر المصنف هنا من الألفاظ المحتاجة إلى الشرح لفظ ((العرامة))، وهي بعين مفتوحة وراء مهملتين. قوله- نقلًا عن: الشيخ-: من جاز تصرفه فيما توكل فيه جاز توكيله وجازت وكالته، ومن لا فلا، إلا كذا وكذا. ثم قال: وقد استثنى مما ذكره الشيخ مسائل، منها: إذا قال لزوجته: إذا طلقتك فأنت طالق قبلة ثلاثًا، فإنه يمتنع عليه إيقاع الطلاق على رأيٍ، وله التوكيل في الطلاق، فإذا طلق الوكيل وقع على الأصح كما حكاه الجيلي، وأجاب عنه بعد ذلك بأن قال: يجوز أن يكون الشيخ اختار فيها وقوع الطلاق. هذا لفظه. وفيه أمران: أحدهما: أن جواز التوكيل والحالة هذه قد ذكره الرافعي في كتاب الطلاق جازمًا

به، ونقله عن الإمام وغيره، واقتصار المصنف على نقله عن الجيلي غريب، فإن عادته- وهو الذي ينبغي، أيضًا- ألا يقتصر على النقل عنه إلا في شيء لم يوجد لغيره، والظاهر أنه لم يستحضر ذلك في هذا الموضع، ولم يقف عليه لغيره. الأمر الثاني: أن جوابه بقوله: يجوز أن يكون اختيار الشيخ هو الوقوع، أغرب من السؤال، فإن العادة- أيضًا- ألا تطلق هذه العبارة إلا في حكم لم يعلم اختيار قائله، والشيخ قد صرح بها في ((التنبيه))، وصح خلاف ما جوز أن يكون هو اختياره، مع أنه الكتاب المشروح ومحفوظ المصنف أيضًا. قوله: مجيبًا عن بعض الصور التي أوردت على الشيخ-: وهذا خارج من كلامه، لأن ((ما)) في قوله: من جاز تصرفه فيما يوكل فيه، نكرة موصوفة، والكاف في ((يوكل)) مفتوحة، فيكون تقديره: في شيء يقبل النيابة. انتهى. وما ذكره من تكلف إخراج ((ما)) عن كونها موصولة إلى كونها نكرة موصوفة، يقتضي توقف الجواب عليه، وهو عجيب، فإن الموصولة كذلك أيضًا. قوله: ثم جواز التوكيل في الفسوخ مصورًا بما إذا لم يكن حق الفسخ على الفور، أما إذا كان على الفور. قال الرافعي: فالتأخير فيه بالتوكيل قد يكون تقصيرًا، وهذا ما ذكره المتولي جزمًا. انتهى كلامه. واعلم أن إذا اطلع على العيب وهو يأكل، أو في حمام أو ليل- فإنه لا يلزمه المبادرة ولا التلفظ بالفسخ، وإن كان الفسخ بالعيب على الفور، فإذا وكل فيه لم يكن تقصيرًا بلا نزاع، وإذا اجتمع المالك مثلًا أو القاضي، فلم يفسخ، بل وكل فيه- كان تقصيرًا، وعليه يحمل كلام ((التتمة))، فلما انقسم ذلك قسمين عبر الرافعي بقوله: ((قد يكون))، إذ لا يحسن إطلاق الجزم بأحدهما، هذا حاصل كلام الرافعي، وما فهمه من أن الرافعي متوقف، ممنوع، فإن الحمل على ذلك يعكر عليه الرافعي فيما ذكرناه في القسم الأول، وأيضًا: فإن المسألة في ((التتمة))، ويبعد عدم اطلاع الرافعي عليها، وأيضًا: فإن هذه الصيغة ليست صيغة توقف. قوله: وما ذكره الجمهور والقاضي، بناء على الصحيح في أن الإبراء من المجهول لا يصح.

أما إذا قلنا: إنه يصح، فيحسن أن نجزم بالصحة، وعليه يتفرع ما إذا قال أبرئ فلانًا عن شيء من ديني، أو عما شئت من ديني- فيصح إبراؤه بشرط أن يبقي منه شيئًا. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من تفريع الصحة في هاتين المسألتين على القديم حتى يكون باطلًا على الجديد، سهو أوقعه فيه إلباس وقع في كلام الرافعي، فإنه قال: وقوله- يعني ((الوجيز)) -: يستدعي علم الموكل، يجوز إعلامه أيضًا، لأنا إذا صححنا الإبراء عن المجهول لا يعتبر علم الموكل أيضًا. ثم ينظر في صيغة الإبراء: إن قال: أبرئ فلانًا عن ديني، أبرأه عن الكل، وإن قال: عن شيء منه، أبرأه عن قليل منه، وغن قال: عما شئت، أبرأه عما شاء، وأبقى شيئًا. هذا كلامه، فقوله: ثم ينظر، استئناف كلام، ولذلك احترز في ((الروضة))، فذكره حكمًا مستقلًا بلفظ لا إلباس فيه، فتوهم ابن الرفعة أنه تفريع على ما قبله، فصرح به، وهو باطل. أما في قوله: عما شئت، فواضح، فإن التخيير ليس من أقسام الجهالة قطعًا، ولهذا لو قال: بع بما تراه، أو: بع ما شئيت من عبيدي، ونحوه- صح. وأما إذا قال: عن شيء منه، فلأن المجهول الذي يبطله هو الإبراء عن دينه، ولا يعلمه، لما في تصحيحه من الغرر الظاهر، ولفظ ((الشيء)) محمول على الأقل، فلا غرر فيه، وقد وافق في ((المطلب)) على ما قلناه في ((ما شئت))، وقال في لفظ ((الشيء))، إنه تفريع على الإبراء من المجهول، وأولى بالبطلان. الأمر الثاني: أن ما ذكره في المسألتين من كونه يصح إبراؤه بشرط أن يبقى شيئًا- صحيح في المسألة الثانية، وأما في الأولى فلا، بل لا يبرئه إلا عن أقل ما ينطلق عليه الاسم، أن اللفظ لا عموم فيه ولا تخيير، والاسم قد صدق بالأقل، فكيف يبرئه عن زيادة مع الشك في إرادته؟! وقد صرح صاحب ((التتمة)) بذلك، ونقله عنه في ((الروضة))، وقال: إنه واضح. وكلام الرافعي المتقدم كالصريح فيه، ولهذا غاير بني المسألتين. قوله: ثم ما ذكرناه من عدم اشتراط الفورية في الوكالة مفروض فيما إذا لم يعين زمان العمل الذي وكل فيه.

فإن تعين وخيف فواته كان القبول فيها على الفور. وكذلك لو عرضها الحاكم عليه عند ثبوتها عنده صار قبولها على الفور، صرح به الماوردي، وتبعه الروياني. انتهى. أهمل صورة ثالثة ذكرها الروياني، وهي أن يوكله في إبراء نفسه. قوله: ولا يجوز التوكيل في إثبات حد لله تعالى، لأنه يحتاط لإسقاطه، فالتوكيل في إثباته مناقض للمقصود. ولأن الوكالة لو جازت في ذلك لكانت في الدعوى، والدعوى فيه غير مسموعة كما صرح به في ((البحر)). انتهى كلامه. واعلم أنه يستثنى من ذلك مسألة واحدة ذكرها الرافعي في كتاب اللعان وقذف الزوجات، وهي دعوى القاذف على المقذوف أنه زنى. قوله: فرع: هل يجوز للوكيل البيع بالألف المأذون بالبيع بها مع من يرغب بزيادة؟ فيه وجهان في ((التتمة)) وغيرها، والذي يظهر: ترجيح المنع. انتهى كلامه. وظاهره أنه لم يقف فيه على ترجيح، فإن الرافعي لم يرجح في ((الكبير)) شيئًا، والراجح المنع كما ذكره المصنف بحثًا، فقد رجحه الرافعي في ((الشرح الصغير)) فقال: إنه الأشبه. والنووي في ((زيادات الروضة)) فقال: إنه الأصح. قوله: ولو دفع إليه آنفًا، وقال: اشتر بهذا الثمن عبدًا ولم يقل: بعينه، ولا: في الذمة- فوجهان. أحدهما- وهو قول أبي علي الطبري في ((إفصاحه) -: أن مقتضاه الشراء بعينها [وقد تقدم حكمه والثاني: أنه يجوز أن يشتري بعينها] وفي الذمة، وينقد الألف، وهو ما اختاره في ((المرشد))، ورجحه الرافعي. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية وجهين مع الإشارة إلى الشراء بالألف، وأن الرافعي وصاحب ((المرشد)) صحيحًا وجه التخيير- غلط، فإنهما لم يذكرا هذه المسألة، والمنقول فيها: أنه يتعين الشراء بالعين على وفق ما نقله المصنف عن ((الإفصاح))، كذا صرح به الإمام في الكلام على ما إذا دفع إلى إنسان دراهم، وقال: اشتر لي بها طعامًا، ونقله المصنف عنه فيما إذا وكله في شراء شاة، فاشترى شاتين، وذكر معه الوهم الذي ذكره هاهنا، والمذكور في ((الرافعي)) و ((المرشد)): ما إذا وكل وسلم الألف، فإن الرافعي

قال: ولو سلمه إليه، وقال: اشتر كذا، ولم يقل: بعينه، ولا قال: في الذمة- فوجهان، أحدهما: أنه كما لو قال: اشتر بعينه، لأن قرينة التسليم تشعر به، وأظهرهما: أن الوكيل يتخير بين أن يشتري بعينه أو في الذمة، لأن على التقديرين يكون إتيانا لمأمور، ويجوز أن يكون غرضه من تسليمه إليه مجرد انصرافه إلى ثمن ذلك الشيء. هذا كلام الرافعي، والعجب من فهم ابن الرفعة ذلك مع التعليل بقرينة التسليم! نعم، ذكر- أعني الرافعي- فيما إذا دفع دينارًا، وقال: اشتر به شاة- أنه يصح الشراء بعينه وفي الذمة، ثم ينقده. وهذا التصوير كانه لم يقع عن قصد، وأما ابن عصرون فقال في ((المرشد)): وإن دفع إليه ألفا، وقال: اشتر عبدًا، ولم يقل: بعينها- فله أن يشتري بعينها، وله أن يشتري في الذمة وينقدها فيه، عملًا بمطلق الإذن. هذا لفظه نقلته من النسخة التي كانت ملكًا للمصنف- أعني ابن الرفعة- وعليها خطه. قوله: ولو استمهل البائع الوكيل في الرد بالعيب إلى أن يعلم موكله، لم يلزمه ذلك، فلو أجاب فهل يسقط حقه من الرد؟ فيه وجهان في ((المهذب))، والمختار منهما في ((المرشد)): عدم السقوط، وقد حكاهما الإمام عن العراقيين- أيضًا- فيما لو أبطل الوكيل حق رد نفسه بإلزام العقد، وصحح وجه السقوط، وهو الذي اختاره في ((المرشد)). ثم قال عقبه من غير فاصل: وعلى هذا إذا حضر الموكل وأجاز العقد فلا كلام، وإن لم يرض به ففي ((التهذيب)): أن المبيع للوكيل، ولا يرد، لتأخيره مع الإمكان. وقيل: له الرد، لأنه لم يرض بالعيب، وضعفه وهذا القول لم يحك البندنيجي والمتولي سواه، واختاره في ((المرشد))، وادعى الإمام أنه متفق عليه، لأنه إذا لم يبطل حق الموكل بإبطال الوكيل فبالتأخير أولى. ثم هذا إذا توافق البائع والمشتري والموكل على أن العقد وقع للموكل بالنية أو بالتصريح بالسفارة. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله- رحمه الله- غلط يحتاج في فهمه إلى فكر وخلو بال وتطويل، فنقول لا شك أنه فرض ذلك فيما إذا توافقوا على أن العقد وقع للموكل كما ذكره في آخر المسألة، وحينئذ فالتفريع المشار إليه بقوله: وعلى هذا ... إلى آخره، قد تقدمه

مسألتان: المسألة الأولى: إذا استمهل البائع، والثانية: إذا رضي الوكيل بالعيب وألزم العقد: فإن كان ذلك التفريع عائدًا على المسألة الثانية- وهو المتبادر من كلامه- فهو باطل، لأنه لا خلاف والحالة هذه أن البيع للموكل، وأن له الرد على البائع، وتعود السلعة إليه، ولا تعود إلى الوكيل، وقد صرح الرافعي بذلك- أعني بعدم الخلاف فيه- ونقل القول به عن البغوي بخصوصه، وأيضًا: فتعليله الذي نقله عن الإمام يمنع تصوير المسألة بذلك بالضرورة، فراجعه. وإن كان التفريع المذكور راجعًا إلى المسألة الأولى، وهي مسألة الاستمهال، لكونها المسألة الأصلية، والثانية كالتذييل عليها- فلا يكون التفريع عليها الذي قاله كله صحيحًا، بل المستقيم منه ما نقله عن ((التهذيب)) خاصة، وقد نقله عنه الرافعي، ثم استشكله، فقال: ولو أخر كما [إذا] التمس البائع، فحضر الموكل، ولم يرضه- قال في ((التهذيب)): المبيع للوكيل، ولا رد، لتأخيره مع الإمكان، وقيل: له الرد، لأنه لم يرض بالعيب، قال: وهو ضعيف، ولك أن تقول ... إلى آخره. وهذا الذي قاله الرافعي مطابق لكلام المصنف إن أراد ما قلناه، لكن هذا التفريع إنما هو على القول ببطلان خيار الوكيل عند الاستمهال بلا شك، فكان ينبغي أن يصرح به فيقول: فإن أبطلنا، أو ما في معناه، فإنه قد ت قدم منه ذكر وجهين، لاسيما وقد نقل ترجيح عدم البطلان واقتصر عليه، فكيف يصح أن يقول: وعلى هذا، مشيرًا إلى البطلان؟! فإن ذلك لا يصح مع عدم الرجحان، فضلًا عما إذا كان مع رجحان الصحة. وعلى كل حال فما نقله عن ((التهذيب)) ثابت فيه، لكنه لا يصح الإبراء إلا بالإضمار المذكور، وأما ما بعده- وهو قوله: وهذا القول لم يحك البندنيجي ... إلى آخره، فغلط، وذلك لأنه لا يمكن حمله على الإشارة إلى الوجه الأول الذي اختاره صاحب ((التهذيب)) من أن الموكل إذا لم يرض بالبيع فيرتد على الوكيل، لأن الإمام والمتولي وغيرهما من الجماعة الذين نقل عنهم هذا القول قائلون بالعكس، وهو جواز الرد على البائع، فتأمله، فبطل العود بسببه لذلك الوجه، والتعليل الواقع في كلام الإمام يوضحه، هذا مع أمور أخرى.

منها: أنه يلزم منه أن يكون كلام البغوي هو المشهور المعروف في المسألة، والأمر بالعكس كما دل عليه كلام الرافعي. ومنها: أن قوله قبله: وعلى هذا، إنما يستقيم إذا ذكر قبله وبعده خلافه، ولم يذكره، ولا يمكن- أيضًا- حمله على الإشارة إلى الوجه الثاني الذي ضعفه البغوي، وهو القائل بأن الكيل يرد على البائع إذا رد الموكل عليه، لما قلناه من أن التعليل الذي علل به ناقلًا له عن الإمام، تعليلٌ لجواز رد الموكل على البائع، لا لجواز رد الوكيل عليه، ولأن المذكورين- أيضًا- لم يقولوا بذلك، بل قالوا بخلافه على اختلاف بينهم لا ضرورة لنا إلى الإطالة بذكره. وقد ظهر لي سبب الغلط في كلام المصنف، وهو أن المشهور- كما تقدم- جواز رد الموكل على البائع، فتوهم المصنف: أن الوجه الذي ضعفه البغوي- وهو القائل بأن له الرد- يعود إلى الموكل، فأشار إليه، فقال ما حاصله أنه المعروف، والذي ضعفه البغوي إنما هو الجواز من الوكيل، وما قلته من السبب هو الموقع له بلا شك، وقد أتعبت نفسي يومًا وليلة كاملين في تحقيق هذا الموضع، ثم في تقريره، ثم في ذكر سببه. قوله: وإن قال: اشتر بهذا الدينار شاة، فاشترى شاتين- كانا للموكل، لما روي ((انه - صلى الله عليه وسلم - دفع إلى عروة البارقي دينارًا ليبتاع به شاة، فاشترى به شاتين، فلقيه رجل، فسامومه في إحداهما، فباعها بدينار، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه شاة ودينار، وحدثه الحديث، فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك))، فكان بعد ذلك يخرج إلى كناسة الكوفة، فيربح الربح العظيم، وكان من أكثر أهل الكوفة مالًا. وقيل: للوكيل شاة بنصف دينار، والأخرى للموكل، والحديث قد قيل: إنه مرسل، كما حكيناه عند بيع الفضولي، فلا حجة فيه، وإن صح- كما ذكر عبد الحق- أن البخاري خرج عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا ...)) وذكر الحديث، ففيه ما يستدل به لهذا القول. انتهى كلامه. وما توهمه من أن رواية البخاري هنا متصلة محتج بها، ليس كذلك، فإن قول الراوي: سمعت الحي يتحدثون، هو عين الإرسال الذي أشار إليه من قال: إنه مرسل، لأن عدالة الراوي شرط، ولم تحصل تسميته حتى تعرف عدالته، كذا صرح به البيهقي

وغيره، وقد تفطن في ((شرح الوسيط)) للصواب، فقال عقبه ما نصه: وهذه وإن أخرجها البخاري فهي منقطعة، فلا حجة فيها عند الشافعي. هذا لفظه، وإنما أخرجه البخاري، لأن فيه قطعة متصلة. قوله: فرع: لو ادعى البائع على الوكيل علمه برضا الموكل بالعيب، فحلف ورد، ثم حضر الموكل، وصدق البائع- بان بطلان الرد كما حكى ابن سريج، وعن القاضي الحسين خلافه كما حكاه المتولي، والذي رأيته في ((تعليقه)): أن الموكل إذا حضر وقال: كنت قد رضيت به، لا يحتاج إلى بيع جديد. انتهى. واعلم أن هذا النقل عن ((التتمة)) ليس كما قاله، وكأنه قلد فيه الرافعي، فإنه نقل عنها ذهاب القاضي إلى نفوذ الفسخ، وعبارة ((التتمة)): حكى القاضي. وحكاية المذهب لا تستلزم ذهاب الحاكي إليه. قوله: وإن وكله في البيع في سوق، فباع في غيرها- جاز. وقيل: لا. ثم قال: وقال في ((رفع التمويه)): محل القول الثاني إذا لم يقدر له الثمن، فإن قدره فباع به جاز وجهًا واحدًا. انتهى كلامه. واقتصاره على نقل ذلك عمن ذكره عجيب، فإن المسألة مجزوم بها في ((زيادات الروضة))، نقلا عن صاحب ((الشامل)) و ((التتمة)). قوله: ولو اختلفا في التصرف فالمصدق الموكل، وفي قولٍ: الوكيل، وكلام الماوردي يدل على جريان القولين قبل العزل وبعده. ثم قال: وقد حكى الرافعي أن قول الوكيل بعد العزل لا يقبل وجهًا واحدًا، وأن محل الخلاف قبله. انتهى كلامه. وما عزاه إلى الرافعي من دعوى عدم الخلاف لم يذكره، فإنه قال: نظر: إن جرى هذا الخلاف بعد انعزال الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة، لأنه غير مالك للتصرف حينئذ، وإن وقع قبله فقولان. هذه عبارته، وحاصلها: أنه ساكت عن ذكر الخلاف، ولا يلزم منه نفيه، فإن المصنفين كثيرًا ما يطلعون على الخلاف ولا يذكرون: إما لقصد الاختصار، أو لضعف المدرك، فكيف ينسب إلى الرافعي أنه وقع في الخلل، وهو دعوى عدم الخلاف فيما الخلاف ثابت فيه بمجرد سكوته عن الخلاف؟! قوله: وقال- يعني القاضي- في كتاب الحجر: ظاهر المذهب أن الإغماء لا

يقتضي العزل. وحكاه غيره وجهًا، وهو الأظهر عند الإمام، ولذلك صححه في ((الوسيط))، لكنه احتج له بأن المغمى عليه لا يلتحق بمن يولى عليه، والمعتبر في الانعزال: التحاق الوكيل أو الموكل بمن يولى عليه. وهذا منه يدل على أن مراده إذا لم تطل مدته بحيث يولى عليه. انتهى كلامه. وما نقله عن ((الوسيط)) من التعليل بالعلة المذكورة التي تقتضي تخصيص الحكم بقصر المدة غلط، فإن هذه العلة لم يذكرها الغزالي في ((وسيطه)، بل صحح أنه لا ينعزل مطلقًا، على خلاف ما في ((الوجيز))، ولم يتعرض لتعليلٍ، وقد وقع في كلام الرافعي هنا ما يوهم ذلك، وكأنه السبب فيما وقع للمصنف، ولم يصحح في ((البسيط)) شيئًا. قوله- نقلًا عن الشيخ-: وإن تعدى الوكيل انفسخت الوكالة. ثم قال ما نصه: وهذا ما قال الإمام: إنه المذهب، كا هو قضية كلام الشيخ. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام غلط، فإن الذي عزاه في ((النهاية)) إلى المذهب إنما هو عدم الانعزال، فإنه قال: فرع: إذا أسلم الرجل عينا إلى وكيله، ووكله ببيعها، فتعدى الوكيل في العين، وصار ضامنًا بعدوانه- فالمذهب: أنه لا ينعزل عن البيع، وأبعد بعض أصحابنا فقضى بانعزاله، قياسًا على انعزال المودع، فإنه لا يعود أمينًا وإن ترك العدوان، مع اطراد الأمر بالحفظ على الأزمان. هذا لفظ الإمام.

باب الوديعة

باب الوديعة قوله: وإن أودع صبي ما لا ضمنه المودع عنده: ولا يبرأ إلا بالتسليم إلى الناظر في أمره. ثم قال: لكن لو أتلف الصبي المذكور ما أودعه من غير تسليط، فالذي يظهر: براءته، فإن فعل الصبي لا سبيل إلى إحباط فعله، ويستحيل تضمينه مال نفسه، فتعينت البراءة. انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد صرح به الرافعي في أوائل كتاب الجنايات، قبل الفصل الثاني المعقود للمماثلة، ذكره في أثناء تعليلٍ. قوله: وإذا مرض المودع عنده وجب عليه أن يوصي إلى أمين بأن يردها، وإلا يكن ضامنًا. ثم قال: وإذا مات ولم يوص، فادعى المالك أنه قصر في ترك الإيصاء، وقالت الورثة: لعل الوديعة تلفت قبل أن يوصف بالتقصير- فالظاهر كما قاله الإمام: براءة الذمة. انتهى. وما نقله عن الإمام في هذا التصوير غلط وقع للرافعي، فتبعه عليه النووي في ((الروضة))، ثم المصنف، فإن الإمام تكلم فيما إذا ثبت الإيداع بطريقة، فذكر فيه صورتين: الأولى: أن يدعي الورثة التلف وتقول: لعله إنما لم يوصِ بها لأجل أنها تلفت على حكم الأمانة، ففيه تردد، وعدم الضمان أولى. ثم ذكر الثانية فقال ما نصه: وإن قالوا: عرفنا الإيداع ولكن لم ندر كيف كان الأمر، ونحن نجوز أن تكون الوديعة قد تلفت على حكم الأمانة، فلم يوص لأجل ذلك: فإن ضمناهم في المسألة السابقة- وهي الجزم بدعوى التلف- فهاهنا أولى، وإن لم نضمنهم هناك فهاهنا وجهان: أحدهما: يجب، لأنهم لم يدعوا مسقطا، وهذا هو الأصح، والثاني: لا، لأن الأصل في الوديعة هو: الأمانة. انتهى كلامه. وحاصله: أن الصحيح في الصورة المذكورة في الكتاب على خلاف ما وقع فيه، وأن نسبة ذلك إلى الإمام غلط سببه اشتباه مسألة بمسألة على الرافعي فمن جاء بعده.

باب العارية

باب العارية قوله: العارية: مشددة الياء، وروي تخفيفها، وجمعها: العواري- مشددًا ومخففًا- وهي مشتقة من: عار الرجل، إذا ذهب وجاء، وقيلك من ((العار))، لأن طلبها عار وعيب، قاله الجوهري. انتهى. ودعواه اشتقاقها من ((عار)) غير مستقيم، لأنه فعل، والاشتقاق- على المعروف- إنما هو من المصدر، وقد رده أيضًا بعضهم بأنه من ذوات الياء، يقال: عار يعير، و ((العارية)) من ذوات الواو، لأن جمعها: العواري. وهو اعتراض مردود، لأنه يقال: عار يعير، وعار يعور- بالياء والواو- وحكاهما الجوهري. قوله- نقلًا عن الشيخ-: ويكره إعارته الجارية الشابة من غير ذي رحم محرم. انتهى. وافق الشيخ على تقييد انتفاء الكراهة في المحرم بما إذا كان ذا رحم- أي: قرابة- وليس كذلك، فإن إعارتها للمحرم من الرضاع أو المصاهرة، وإعارتها من الزوج والمرأة- جائزة بلا خلاف كما ذكره النووي في ((تصحيحه))، والعلة مرشدة إليه. قوله: ولو استعار صيدا، فتلف في يده: فإن كان المعير محرمًا، والمستعير حلالًا- فلا جزاء على المستعير، وعليه القيمة إن قلنا: لا يزول ملك المحرم عنه، وإن قلنا بزواله فلا، وعلى المحرم القيمة، لتقصيره بعدم الإرسال، قاله المحاملي: انتهى كلامه. وإيجاب القيمة على المحرم سهو، والصواب: الجزاء أو الفدية. قوله- في الكلام على ما إذا استعار شيئًا ورهنه-: وأبدى الرافعي احتمالًا لنفسه في جواز البيع في حال يسار الراهن، كما يطالب الضامن في حال اليسار، وكأنه لم يقف على ما حكيناه عن البندنيجي. انتهى كلامه. وما ادعها من أن الرافعي حكى ذلك احتمالًا لنفسه ليس كما قال، وذلك أن

الرافعي أولا نقل عن الإمام وحده: أنه لا يباع إلا بعد الإعسار ثم استدرك عليه، فقال: إن قياس المذهب هو البيع مطلقًا. وهذا اللفظ لا يقال فيه: إنه احتمال، ولا: إنه له، بل بيان لحكم المسألة، ولأجل ذلك جزم به في ((المحرر)). قوله: أما لو وضع الميت في القبر ولم يدفن، فكلام الرافعي يقتضي منع الرجوع في هذه الحالة، فإنه قال: وله الرجوع قبل الحفر وبعده ما لم يوضع فيه الميت. ثم قال: وقال المتولي: له الرجوع، ومؤنة الحفر في هذه الحالة على ولي الميت، ولا يلزم المعير الضمان. وكلام الإمام يقتضي ما ذكره المتولي. انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما ادعاه من أن كلام الرافعي يقتضي امتناع الرجوع بعد الوضع ليس كذلك، فإن الرافعي عبر بقوله: فله الرجوع قبل الحفر وبعده ما لم يوضع الميت، قال في ((التتمة)): وكذا بعد الوضع ما لم يواره التراب. هذا لفظه، وحاصله: امتناع الرجوع في المسائل الثلاث، إلا أن الأوليين لم ينقلهما عن أحد، لوضوحهما، وأما الثالثة فلما لم يجدها إلا لصاحب ((التتمة)) نقلها عنه، ولم يصرح بموافقته ولا مخالفته. نعم، خالفه في ((الشرح الصغير)) فصحح امتناع الرجوع. الأمر الثاني: أن هذا النقل المذكور عن ((التتمة)) في وجوب الضمان على الولي غلط وقع من الرافعي، فتبعه عليه المصنف، والمذكور في ((التتمة)) هو الجزم بوجوبه على المعير، فإنه قال: فرعان: أحدهما: إذا رجع في العارية بعد الحفر قبل الدفن غرم لولي الميت مؤنة الحفر، لأنه بإذنه له في الحفر أوقعه في التزام ما قد التزم من المؤنة، وفوت عليه مقصوده لمراعاة مصلحة نفسه، فلو لم تلزمه الغرامة لأدى إلى الإضرار به. هذا لفظ المتولي بحروفه. قوله: وفيما سوى الإعارة للدفن يرجع فيه متى شاء. انتهى. أهمل مسألة أخرى، وهي ما إذا كفن أجنبي ميتًا، فإن الكفن باق على ملك الأجنبي في أصح الوجهين، كما ذكره في ((الروضة)) من ((زوائده)) في كتاب السرقة. وإذا قلنا بالصحيح، فقال في ((الوسيط)) في باب الوصية: إنه يكون عارية. وقال في السرقة: إنه من العواري اللازمة. وذكر الرافعي معنى هذا- أيضًا- هناك. ولو أراد الصلاة المفروضة، فأعارة ثوبًا ليستر به عورته، أو ليفرشه في مكان

نجس، ففعل وأحرم، وكان الرجوع والأخذ يؤديان إلى بطلان الصلاة- فيتجه منه، ويحتمل الجواز، وتكون فائدته طلب الأجرة، ويستثنى من رجوع المستعير ما لو استعار الدار لسكنى المعتدة، فإنه يمتنع عليه الرجوع وإن جاز للمعير، كذا ذكره الأصحاب في كتاب العدد. قوله: وإن أتلف ولد العارية، ففي ضمانه وجهان بناهما القاضي الحسين وغيره على أن العارية تضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فعلى الأول: يضمن الولد. وعلى الثاني يكون حكمه كحكم ما لو هبت الري بثوب إلى داره. ثم قال: ولا فرق في ذلك بين الولد الموجود حال العقد أو الحادث بعده. وفي ((الجيلي)) تخصيص محل الخلاف بما إذا حدث، وجزم فيما إذا كان موجودًا حال العقد فتسلم الأم وتبعها الجحش: أنه لا ضمان. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن ((الجيلي)) خاصة قد صرح به القاضي الحسين والبغوي في ((فتاويهما))، ولم يذكر في ((الروضة)) من ((زوائده)) غيره، والتعميم الذي ذكره عجيب غير مستقيم، فإن القول بالضمان في الولد الحادث إنما محله إذا قلنا بضمان العارية ضمان الغصوب، كما صرح به الآن نقلًا عن الأئمة، والغاصب للأم إذا تبعها ولدها لا يكون ضامنًا لولدها في أصح الوجهين، كما اقتضاه كلام الرافعي، وصرح به في ((الروضة)).

باب الغصب

باب الغصب المصنف وإن احتمل عوده على القاضي أبي الطيب فإنه لا يصح أن يجاب به، لأنه- أيضًا- لم يتعرض للمسألة. قوله: ولو فتح قفصًا عن طائر، فوقف، ثم طار- لم يضمن. ثم قال: وغلط الروياني في ((البحر)) من صار إلى وجوب الضمان. وحكى الرافعي عنه وعن الشيخ أبي خلف السلمي وغيرهما- اختيار وجوب الضمان. انتهى كلامه. وسياقه يشعر بأن ما نقله الرافعي عن الروياني غلط، وليس كذلك، فإنه قد صرح بذلك في ((الحلية))، وعبر بقوله: وهو الاختيار. والغالب أن الرافعي إذا أطلق النقل عن الروياني فإنما يريد به ((الحلية))، فاعلمه. قوله: ولا خلاف في أنه لو حمله- يعني الصبي- إلى مضيعة، فاتفق أن سبعًا افترسه، أنه لا ضمان. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الخلاف ليس كذلك، فقد قال في ((المهذب)) لو كتف رجلًا، وألقاه في ارض غير مسبعة، فقتله سبع- وجبت الدية مخففة، لأنه قتل خطأ. انتهى. والصغير العاجز عن الانتقال كالرجل المكتوف إن لم يكن أولى منه بالوجوب. قوله: منفعة الكلب تكون بالاصطياد وحفظ الزرع والماشية، واقتناؤه لذلك جائز، وفي حفظ البيوت وجهان، ظاهر النص: الجواز. واقتناء الجرو الصغير الصالح للمنافع المذكورة عند كبره: هل يجوز؟ فيه وجهان. انتهى كلامه. والوجهان شرطهما: أن يكون الجرو من نسل معلم، فإن لم يكن كذلك لم يجز جزمًا، كذا ذكره البغوي في ((التهذيب)) في البيع، والصحيح من هذين الوجهين هو الجواز. قوله: وإن غصب عصيرًا، فصار خمرًا، ثم صار خلا- رده وما نقص من قيمة العصير.

ثم قال: وقيل: يرد الخل، ويضمن مثله من العصير، هكذا حكاه في ((المهذب)). وفي بعض نسخ ((التنبيه)) زيادة على هذا: وأرش ما نقص، أي: من قيمة الخل والعصير، وكأنه بناء على مذهب أبي ثور في أن الغاصب يضمن عند رده العين فوات الأسعار. ومنهم من قال: يظهر بناؤه على أن الغاصب يضمن أرش السمنين. ولم يظهر لي صحة ذلك، فتأمله. انتهى كلامه. والتخريج الأول الذي أشعر كلام المصنف بأنه ارتضاه، وهو تخريجه على مذهب أبي ثور- قد ذكر المصنف في ((المطلب)) أنه تخريج باطل، لأنه إنما قال ذلك إذا رد المغصوب بعينه، ورد الأصحاب عليه بأن ذلك كان يلزم اطراده فيما إذا تلف المغصوب ورد مثله، فدل كلامهم على أنه غير قائل به. ثم قال: والأشبه عندي في تقريره غير ذلك، وهو أن المراد أرش ما نقص من قيمة العصير المردود عن قيمة العصير المغصوب لا بسبب ارتفاع الأسواق، بل بأن يكون قد تطور قبل الخمرية إلى حالة زادت بها قيمته، فيأخذ الأرش في مقابلة تلك الصفة الزائلة. قال: وهو نظير قول الماوردي: إنه إذا غصب حنطة، فطحنها، ثم تلف الدقيق- يأخذ المثل وما نقص من قيمة المثل عن الدقيق.

باب الشفعة

باب الشفعة قوله: أما إذا بيع البناء أو الغراس مع الأرض الحاملة له لا غير، وكان ذلك عريضًا بحيث يقبل القسمة- ففي ثبوت الشفعة وجهان. أقيسهما في ((الرافعي)): المنع، لأن الأرض في هذه الحالة تابعة، والمنقول متبوع. ثم قال: ولا فرق في جريان الخلاف بين أن ينص على إدراج المغارس والأساس في البيع، أو يقول باندراجها في البيع عند إطلاق بيع البناء والغراس على وجه، صرح بذلك الرافعي. انتهى كلامه بحروفه. والمتبادر إلى الفهم منه: أن ما نقله عن الرافعي عائد إلى الحالتين وهما التنصيص والإطلاق، وقد صرح بنقله عنه في ((المطلب))، ولم يتعرض الرافعي لشيء من ذلك، وإنما حكى الوجهين ورجح بلفظ ((الأشبه))، ولولا ما ذكره في ((المطلب)) وتعبيره- أيضًا- بقوله: ذلك، الذي هو إشارة للبعيد، ولم يعبر بقوله: به لأعدناه على الوجه. قوله: بطول أغصانها وبسوقها. البسوق- ببناء موحدة مضمومة، ثم سين، مهملة وقاف- هو الطول، تقول بسق النخل- بالفتح- بسوقا، قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10]. قوله: لقول عثمان: ((لا شفعة في بئر ولا نخل، والأرف تقطع كل شفعة)). وحكى الجيلي عن الأزهري أن ((الأرف)) - بضم الهمزة، وفتح الراء المهلمة، وضم الفاء-: الحدود بين المواضع. انتهى كلامه. واعلم أن ضم الفاء وإن كان صحيحًا في هذا التركيب بخصوصه، لكنه لا مدخل له في تفسير المدلول اللغوي، فإنه لا فرق في ذلك بين ضمها وفتحها وكسرها، لأنه حرف إعراب، فلا يحسن من المصنف متابعة الجيلي عليه. وذكر الجوهري أن ((الأرف)) المذكور جمع ((أرفة)) بضم الهمزة وسكون الراء، كغرفة وغرف، ثم ذكر هذا الحديث. قوله: وفي ((أمالي)) أبي الفرج أن صاحب ((التقريب)) قال: إذا كان ما يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة بالسلم ولا بالقرض فلا شفعة فيه، لأنه تعذر أخذه بما ملك به

المتملك. وهو غريب. انتهى كلامه. ونسبة هذه المقالة إلى صاحب ((التقريب)) سهو، إنما هو صاحب ((التلخيص))، فإن المصنف قد أخذ هذا الكلام من الرافعي، والرافعي قد نقله كما ذكرته لك، فقال: ويجوز أن يعلم- بالواو- لأن في ((أمالي)) أبي الفرج السرخسي أن صاحب ((التلخيص)) قال: إذا كان ما يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة بالسلم ولا بالقرض فلا شفعة فيه، لأنه تعذر أخذه بما ملك به المتملك. وهو غريب. هذا لفظ الرافعي بحروفه، وهو لفظ المصنف، وبه يعلم أنه أخذه منه، وأيضًا: فإن المصنف لم يقف على كتاب السرخسي، وإنما ينقل عنه بوساطة الرافعي، وقد تفطن في ((المطلب)) إلى الصواب فقال: وعن صاحب ((التلخيص)). قوله: لو حضر جل مغنما، فأعطاه الإمام لحضوره شقصا من دار- فهل تثبت فيه الشفعة؟ نظر: إن أعطاه عن رضخٍ فلا، لأنه تبرع. وإن أخذه بسهم مستحق ففيه وجهان. انتهى. وما ذكره من كون الرضخ تبرعًا قد خالفه في باب قسم الفيء والغنيمة، فقال: المشهور: أنه واجب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتركه قط، ولنا فيه أسوة حسنة. هذا كلامه، ونقل الرافعي- أيضًا- أن الأكثرين عليه، فثبت مع ما وقع فيه من الاختلاف اندفاع ما ذكره من عدم الشفعة. قوله: والشفعة على الفور في قول، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الشفعة لمن واثبها))، أي: بادر. وروي: ((كنشطة العقال: إن قيدت ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها)). انتهى. النشطة: بنون مفتوحة، ثم شين معجمة ساكنة، وطاء مهملة. قال ابن فارس وغيره: الأنشوطة تنحل إذا مد طرفاها، تقول: نشطت- بلا همز- إذا أردت العقد، فإن أردت الحل. قلت: أنشطت- بالهمز- ومنه في خبر الرقيا: ((كأنما أنشط من عقال)). قوله: وفي ((ابن يونس)) حكاية وجه عن المراوزة: أن الشفعة لا تبطل بذلك، أي بقوله. بعني: ولم أقف عليه فيما وقفت عليه من كتبهم إلا على قولنا: إن الشفعة على التأبيد. انتهى. وما اقتضاه كلامه من إنكار هذا الوجه، تفريعًا على الفور- غريب، فقد صرح به الإمام في ((النهاية)) نقلًا عن رواية صاحب ((التقريب))، وحكاه المصنف عنه في ((المطلب))، وعلله بأنه قد يقصد أخذه رخيصًا، وأيضًا: فقد يقصد بذلك تطييب نفسه

وعدم القهر. قوله: وإن أخر، وقال: لم أصدق المخبر، وكان المخبر صبيًا أو امرأة أو عبدًا- لم تبطل شفعته. ثم قال: وفي ((المهذب)) قول: أنها تسقط بإخبار العبد والمرأة، تغليبًا لكم الخبر لا لحكم الشهادة، وهو في ((الوجيز)) و ((الرافعي)) الأظهر عند إخبار العدل. انتهى كلامه. وهو يوهم إيهامًا ظاهرًا أن الرافعي غاير بين المرأة والعبد، وأنه سلم عدم السقوط في إخبار المرأة، وليس كذلك، بل الصحيح فيهما معًا عند الرافعي: سقوط الشفعة، فاعلمه. قوله: وإن توكل في بيعه سقطت شفعته على وجه، لأنه قد يتهاون في طلب زيادة عليه، فصار كما لو باع الوصي شقصا له فيه شفعة. وقيل: لا تسقط كما لو توكل في الشراء. ثم قال ما نصه وعن رواية صاحب ((التقريب)) جريانه في الوصي- أيضًا- وبه قال ابن القطان والقفال- أيضًا- كما حكاه ابن الصباغ، ووجهه بأنه ذلك يجب على المشتري بعد تمام العقد. انتهى كلامه. واعلم أن لفظ القفال هنا مجرور عطفًا على ((القطان))، تقديره: وابن القفال، كذا صرح به الذي نقله المصنف عنه- وهو ابن الصباغ- فقال في ((الشامل)): وحكى ابن القفال وجهًا آخر: أن له أخذه، لأن ذلك يجب له على المشتري بعد تمام العقد. هذا لفظه. إذا علمت ذلك فاعلم أن صاحب ((التقريب)) هو ابن القفال كما صرح به الرافعي في كتابه المسمى بـ ((التذنيب))، فقال: صاحب ((التقريب)) هو القاسم بن محمد بن على بن إسماعيل الشاشي، وهو ابن أبي بكر القفال الشاشي، مشهور بالفضل وحسن النظر، وبه تخرج كثير من فقهاء خراسان، وكتابه ((التقريب)) يدل على كماله. هذا لفظ الرافعي، وذكر النووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)) نحوه- أيضًا- وعبر الرافعي في باب أدب القضاء، في آخر الأدب الثالث بقوله: وقال القاسم- يعني صاحب ((التقريب)) إن شاء الله. وإنما أتى بالمشيئة، لأنه يفسر مراد غيره بـ ((القاسم)). وما توهمه المصنف من المغايرة أوقعه فيه تعبير بعضهم بصاحب ((التقريب)) وبعضهم بابن القفال مع عدم علمه بالإلحاد وقد أوضحت حال الرجل في كتاب الطبقات

إيضاحًا بالغًا فليطلب منه. قوله: وإن اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد جاز أن يأخذ أحدهما. وقيل لا يجوز. ثم قال: أما إذا لم يكن شريكًا في الشقصين أخذ ما هو شريك فيه مقتصرًا عليه وجهًا واحدًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك فإنه لو اشترى شقصا وسيفًا لم يكن له تبعيض الصفقة في قول بل يأخذهما أو يتركهما كذا حكاه ابن القاص في باب تفريق الصفقة من ((التلخيص)) وحكاه في ((المطلب)) عنه. قال: ولو باع حصته قبل العلم بالشفعة ثم علم بطلت شفعته في أصح الوجهين عند جماعة، فعلى هذا لو باع بعض حصته فوجهان وجه الثبوت في حال الجهل وهو الأصح في ((التهذيب)) بقاء الضرر انتهى وهو يشعر بحكاية خلاف في ((التهذيب)) وليس كذلك بل في ((التهذيب)) الجزم بالثبوت. قوله: وإن هلك بعض الشقص بغرق أخذ الباقي بحصته من الثمن ثم قال فعلى هذا يقوم الجميع حال العقد فإذا قيل مائة قوم بعد الغرق فإذا قالوا تسعين علم أن الفائت العشر فيأخذ الموجود بتسعة أعشار الثمن. انتهى. وما ذكره المصنف من تقويمه بعد الغرق غلط فإن مقتضاه اعتبار الزيادة والنقصان الحاصلين بعد العقد وهو باطل، بل الصواب أن يقول: قوم الباقي يوم العقد أيضًا. قوله: فرع لو كان بين ثلاثة عقار فوكل أحدهم واحد من شركائه في بيع نصف نصيبه وجعل له إذا أراد أن يبيع مع ذلك نصيبه أو بضعه أن يفعل فباع نصف ما يملكه ونصف ما يملكه موكله من شخص. قال الماوردي: فللموكل أخذ نصيب الوكيل وللوكيل أخذ نصيب الموكل، ولا يجوز للثالث أخذ نصيب أحدهما دون الآخر، لأن البائع واحد فإما أن يأخذ الجميع أو يدع. وما قاله مبنى على أن اتحاد الصفقة وتفرقها يكون بالنسبة على العاقد وأن الوكيل له أخذ ما باعه وفي كل ذلك خلاف قد تقدم في موضعه. وقد حكى الرافعي: إنه يمتنع على أحدهما أخذ نصيب صاحبه، لأجل تفريق الصفقة عليه. انتهى كلامه.

واعلم أن الرافعي حكى ذلك وجهًا ضعيفًا في أخذ الموكل نصيب الوكيل ولم يتعرض لأخذ الوكيل نصيب الموكل فاعلم ذلك. قوله: والحيلة في إبطال الشفعة بالجوار مباحة قبل العقد، وبعده. قال البندنيجي: لأنها حيلة في إبطال ما ليس بواجب. وأما الحيلة في إبطال الشفعة بالمشاركة فينظر فيها، فإن كان بعد وجوبها فلا يحل ذلك، لأنه حق قد وجب، فلا يجوز السعي فلا إسقاطه، وأما قبل وجوبها كما إذا فعل شيئًا يزهد الشفيع فيها. قال أبو العباس: يكره ذلك، فإذا فعل صح. وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب ((الحيل)): هو مباح كما حكاه عنه البندنيجي. وفي كلام الدبيلي في ((أدب القضاء)) له ما يدل على المنع، فإنه قال: ((إذا أراد أحد الشريكين في عقار أن يبيع نصيبه من غير شريكه، فلقنه إنسان أن يهب بعض نصيبه من المشتري ويبيع الباقي منه، فإن هذا التلقين لا يجوز، لأن فيه إسقاط حق الشفيع، والمشهور الأول. وقد ذكر الأصحاب في ذلك صورًا. منها: أن يبيع الشقص الذي قيمته مائة بمائتين، ثم يأخذ عرضًا قيمته مائة عن المائتين. ومنها: أن يشتري الشقص بمائة وهو يساوي خمسين، ثم يحط عن المشتري بعد المجلس خمسين. وفي هاتين الصورتين تغرير على المشتري. ومنها: أن يشتري عرضًا من المشتري بمائتين وهو يساوي مائة، ثم يعطيه عن المائتين الشقص، وهو يساوي مائة إلى آخر ما ذكر. وهو صريح في أن الخلاف المذكور في كراهة ذلك، لا فرق بين أن يكون مسقطًا للشفعة، أو مزهدًا فيها، وأن الدبيلي قائل بعدم الجواز مطلقًا، وليس كذلك، بل هو أعني أبا الحسين بن أحمد الدبيلي جازم بالجواز مع الكراهة فيما لا يمنع الأخذ، بل يزهد فيه كالتحيل في زيادة الثمر ونحوه وبالتحريم فيما يمنعه بالكلية، سواء كان مانعًا لأخذ الجميع، أو لأخذ البعض كما مثل المصنف، كذا رأيته في كتابه الذي نقل عنه المصنف وهو أدب القضاء المسمى ((منهاج القضاء))، وهذه المسألة مذكورة في أواخره، وابن الرفعة إنما صور المسألة التي حكى فيها هذه الأوجه فيما

يزهد خاصة، لا في مطلق التحيل، والحاصل أن ابن الرفعة توهم أن الدبيلي لا يقول بالفرق، فذكر ما ذكر وهو غلط فاحش، ورأيت في كتاب ((الحيل)) لابن سراق العامري أحد كبار الأصحاب ومتقدميهم استحباب الحيلة في دفع شفعة الجوار، وإطلاق تحريمها في المشترك ولم يفصل بين ما قبل البيع وبعده. واعلم أن الكلام على الدبيلي قد ذكرته مستوفى في طبقات الفقهاء، فراجعه.

باب القراض

باب القراض قوله: ولا يصح القراض إلا على الدراهم والدنانير. ثم قال: وقيل: يجوز القراض على ذوات الأمثال، حكاه في ((الإبانة)). وفي ((البيان)) عن المسعودي انتهى كلامه. ومقتضاه أن المنقول عنه أولًا هو صاحب ((الإبانة)) غير المنقول عنه ثانيًا وهو المسعودي، وليس كذلك بل هما متحدان هنا، وذلك أن الفوراني صاحب ((الإبانة)) والمسعودي لا شك أنهما متغايران، وهما معًا من تلامذة القفال المروزي إلا أن ((الإبانة)) لما وصلت إلي اليمن ظنها العمراني وغيره من اليمنيين أنها للمسعودي فصاروا ينقلون عن المسعودي، ومرادهم بأنه الفوراني، فيحث وقع في البيان المسعودي فمراده به الفوراني، كذا قاله ابن الصلاح وغيره، وتفطن في ((المطلب)) للصواب، فقال: وحكاهما في البيان عن المسعودي لظنه أن ((الإبانة)) حين وردت عليهم اليمن أنها له، هذا كلامه هنا، وليس مطردًا كما ستعرفه في ((باب الرجعة)). قوله: قال: وإن عقده إلى شهر على ألا يشتري بعده، أي وجعل له البيع صح، لأنه لو عقد مطلقًا ملك رب المال منعه من الشراء، أي وقت شاء، فلم يكن فيما شرطه منافاة لمقتضى العقد. وفي ((المهذب)) وغيره وجه أنه لا يصح. انتهى. وتقييده بقوله: أي وجعل له البيع مقتضاه أنه لابد في جريان الوجهين من هذا الشرط حتى لو نهاه عن الشراء، ولم يصرح بجواز البيع لا يكون على الوجهين بل يجزم بالبطلان، وقد خالف ذلك في ((المطلب)) فقال: والخلاف في المسألة يظهر جريانه فيما إذا قال: قارضتك إلى شهر على ألا يشتري بعده، وسكت عن البيع نفيًا وإثباتًا، وكلام الشيخ في ((التنبيه)) يدل عليه، هذا كلامه، ولم يذكر ما يخالفه، واعلم أن الغزالي في ((الوسيط)) و ((الوجيز)) صور المسألة بما إذا صرح أيضًا بجواز البيع كما في ((الكفاية))، فتبعه الرافعي في الشرحين والنووي في ((الروضة)) عليه، وصور المسألة في ((المحرر)) بما صورها في التنبيه، وتبعه عليه في ((المنهاج)).

قوله: وإذا سافر العامل بالإذن نفقته في ماله في أصح القولين. والثاني في مال المضاربة، ثم قال وأي قدر يكون في مال المضاربة؟ قيل: الزائد على نفقة الحضر، أي: كالركوب وزيادة ملبوس ومأكول وزيادة سعر في الماء والطعام، كما حكاه البندنيجي وثمن الخف والإدارة والسطحية والسفرة والمحارة، ونحو ذلك كما حكاه الرافعي، لأن ذلك هو الملتزم لأجل السفر، وهذا هو الأصح في الرافعي وغيره. وقيل: الجميع أي ذلك، والطعام والإدام، والكسوة وأجرة المنزل، كما صرح به البندنيجي والرافعي. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي لم يتعرض لوجوب السطيحة والسفرة والمحارة، ولم يتعرض لما ذكره ثانيًا من أجرة المنزل فاعلمه. قوله: وإذا عاد وجب عليه رد ما معه في أظهر الوجهين. ثم قال: وفي ((البحر)) أن القاضي الطبري قال: رأيت في كتاب ((التهذيب)) لابن القفال في رد الكسوة وجهين. انتهى. تعبيره بالتهذيب تحريف بل هو ((التقريب)) بالقاف والراء، وقد تقدم في آخر الباب قبل إيضاحه. قوله: ليس للعامل التصرف في الخمر شراء وبيعًا وإن كان ذميًا، فلو خالف واشترى خمرًا، أو خنزيرًا، أو أم ولد ودفع ثمن ذلك عن علم فهو ضامن، وإن كان جاهلًا فكذلك على الأشهر. وقال القفال: يضمن في الخمر دون أم الولد إذ ليس عليها أمارة يعرفها. وفي ((التهذيب)) عن بعضهم: التسوية بين الخمر وبينها في عدم الضمان. قال الرافعي: وأبعد منه وجه نقله في ((الشامل)) أنه لا يضمن حالة العلم أيضًا. انتهى. وهذا الوجه الأخير نقله الرافعي كذلك، إلا أنه ليس مطابقًا لما في ((الشامل))، فإنه إنما حكى الوجه في الخمر خاصة، ومع ذلك فلم يصرح بكونه في حال العلم، ثم إن الوجه المذكور في شراء الخمر عالمًا أنه لا يصح هو في الذمي دون المسلم، لأنه يعتقده مالًا، قاله في ((البيان)). قوله: ولو قال: خذ هذه الدراهم قراضًا وصارف بها مع الصيارفة، ففي صحته وجهان. انتهى كلامه.

وما ذكره من حكاية الوجهين في صحة العقد غلط، فإن العقد صحيح وتصح مصارفته مع الصيارفة، لوجود الإذن، وإنما الوجهان في صحة مصارفته مع غيرهم، وقد أوضحه الرافعي فقال: ولو قال خذ هذه الدراهم قراضًا وصارف بها مع الصيارفة، ففي صحة مصارفته، مع غيرهم وجهان. وجه الصحة: أن المقصود من مثله أن يكون تصرفه تصرفًا لا مع قوم بأعيانهم. هذا كلامه. وذكر في ((الروضة)) نحوه أيضًا، ولا شك أن المصنف إنما أخذ المسألة من كلام الرافعي فإن الرافعي قال في آخر الباب، وهذه فروع مبددة نختم بها الباب، ثم ذكر هذا الفرع، وقد فعل المصنف ذلك بعينه، فدل على ما قلناه، وصرح بذلك في ((المطلب)) فقال: ففي صحة معارضته وجهان في الرافعي، هذا لفظه وكيف تخيل- رحمه الله- منع المصارفة مع الصارف في حالة تصريح المالك بالإذن فيه.

باب العبد المأذون

باب العبد المأذون قوله: في التفريع على أن العبد يملك بتمليك سيده: ولو وكل وكيلين حتى يهبا سالمًا لغانم وغانمًا لسالم، ثم جرى منهما جميعًا ذلك، لم ينفذ واحد منهما. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: جميعًا سهو، بل الصواب: أن يقول معًا، أي في وقت واحد، وإما إذا صدر منهما جميعًا فلا يستلزم ذلك إبطالهما، بل يحكم بصحة المتأخر، ويكون رجوعًا عن المتقدم، وقد صرح به الرافعي على الصواب.

باب المساقاة

باب المساقاة قوله تنبيه: أراد الشيخ بالكرم العنب، وكان الأولى ألا يذكر لفظ ((الكرم))، ويذكر لفظ ((العنب)) كما حكيناه عن لفظ الشافعي في ((المختصر))، لأنه ثبت في ((صحيح مسلم)): ((لا تقولوا الكرم)). انتهى. واعلم أن الشافعي وإن عبر في موضع بالعنب، لكنه عبر في هذه المسألة بخصوصها في ((المختصر)) بما عبر به الشيخ فقال: فالمساقاة جائزة بما وصفت في النخيل والكرم دون غيرهما، هذا لفظ الشافعي، وكلام المصنف يوهم أن الشافعي لم يقع منه التعبير بالكرم خصوصًا في هذه المسألة من ((المختصر)). قوله: فرع لو أقت المدة بإدراك الثمار فهل يصح؟ فيه وجهان. وجه المنع: وبه قال الأكثرون الجهل بوقت الإدراك. ووجه الجواز وهو الأصح عند الرافعي: أن ذلك هو المقصود انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله تعالى- عن الرافعي غلط، فإن الرافعي هنا مشى على ما قاله الأكثرون، ووافقهم عليه، والذي صحح الجواز هو الغزالي. قوله: فإن قيل: لم لا يجوز للمالك فسخ المساقاة ويستحق العامل أجره مثل ما عمله كما نقول في الجعالة؟ فالجواب: أن العمل في الجعالة مضبوط يمكن اعتباره، وهو في المساقاة غير مضبوط. انتهى. وما ذكره في الفرق ذهول، فقد صرح الأصحاب في مواضع من هذا الباب حتى الشيخ في هذا الكتاب الذي هو يشرح فيه جواز الفسخ بأسباب، ويرجع إلى أجرة المثل، وصرحوا أيضًا بأن العمل في الجعالة قد لا ينضبط، وحينئذ فنقول: القائل على تقدير جوازها يوجب المتيقن في الموضعين، والقول قول المالك في الزائد، لأن الأصل براءة الذمة منه. قوله: ولنختم الباب بفروع: إذا كانت الأشجار بين شخصين نصفين فساقى أحدهما صاحبه على نصيبه، وشرط له أكثر من نصف الثمر من الجميع صح، وإن

شرط له نصف الثمرة لم يصح، لأنه لم يثبت عوضًا للمساقاة. وهل للعامل أجرة المثل؟ فيه خلاف المزني وابن سريج. ولو شرط جميع الثمرة للعامل فسد على الأصح كما ذكرناه، وفي استحقاقه أجرة المثل الخلاف السابق. انتهى كلامه. مسألة المزني وابن سريج صورتها على ما ذكره المصنف وغيره: أن يشترط الثمرة كلها للمالك. وقال المزني: وهو الأصح لا أجرة للعامل، لأنه عمل مجانًا. وقال ابن سريج يستحقها، لأن المساقاة تقتضي العوض، فلا يسقط بالرضا كالوطء في النكاح. إذا علمت ذلك، فتخريج اشتراط النصف فقط على هذا الخلاف صحيح، وأما اشتراط جميع الثمرة للعامل فتخريجها على هذا الخلاف غلط ظاهر، لانتفاء المدركين السابقين، لا جرم وأن الرافعي خرج الأولى على ذلك الخلاف، ثم ذكر الثانية عقبها من غير فصل، فقال: وهل له الأجرة؟ فيه وجهان، لأنه لم يعمل له إلا أنه انصرف إليه هذا لفظه، وأوضح في ((الوسيط)) هذا التعليل الذي ذكره الرافعي فقال: وجهان مأخذهما أنه لم ينو بعمله مستأجره، فضاهى هي الأجير في الحج إذا نوى بعد التلبية صرف الحج إلى نفسه فلا ينصرف، وهل يسقط أجرته؟ فيه وجهان، هذا كلامه.

باب المزارعة

باب المزارعة قوله: قال- يعني الشيخ-: المزراعة: أن يسلم الأرض إلى رجل، ليزرعها ببعض ما يخرج منها، وهذا التفسير يقتضي صدق هذه التسمية، سواء كان البذر من صاحب الأرض، أو من العامل، أو منهما، وقد قال به جماعة، والصحيح: أن المزارعة المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج من زرعها، والبذر من مالك الأرض، والمخابرة مثلها إلا أن البذر من العامل. انتهى. وهذا الذي ذكره في الفرق بين المزارعة والمخابرة، قد ذكره الشيخ عقب ذلك، فقال: ويكون البذر من صاحب الأرض. تنبيه: ذكر المصنف أشياء: منها: أن الأكار هو الزارع، هو بفتح الهمزة وتشديد الكاف. ومنها: أن الخبار اسم للأرض الرخوة، هو بفتح الخاء المعجمة وبالباء الموحدة والراء المهملة. ومنها: أن الخبر اسم لشرب الأرض، اعلم أن الجوهري- قد ذكر: أن الخبر- بخاء معجمة مفتوحة وباء موحدة ساكنة- هي المزادة العظيمة، أي: القربة التي تسع ماء كثيرًا، فيجوز أن يكون المذكور في الكتاب هو هذا اللفظ، وأطلقوه على شرب الماء. ومنها: المعاومة نهى عنها في الحديث، وهي جعل الثمرة للمالك عامًا وللعامل عامًا آخر، وتطلق- أيضًا- على بيعها لأعوام مستقبلة.

باب الإجارة

باب الإجارة قوله: الإجارة- بكسر الهمزة: وقيل بضمها- مصدر أجره يؤجره إجارة، وهي مشتقة من الأجر، والجر ثواب العمل. انتهى. والذي ذكره- رحمه الله- في الاشتقاق غير مستقيم، فإن المصدر غير مشتق على المعروف، ولو فرعنا على اشتقاقه كما قال به الكوفيون، فإن المشتق منه إنما هو الفعل لا اسم آخر، وقد سبق نحو هذا الاعتراض في أول الكتاب. قوله: وروى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ولد إبراهيم استأجر له ظئرًا يقال لها: أم سيف امرأة حبر بالمدينة يقال له: أبو سيف. انتهى. الظئر- بظاء معجمة مشالة مكسورة بعدها همزة ساكنة- هي المرضعة، والحبر اليهودي: العالم بشريعتهم، وهو بالحاء المهملة. قوله: تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الغناء حرام. ثم قال ما نصه: وكلام القاضي أبي الطيب في ((باب بيع المصراة)) يقتضي خلافه، فإنه قال: وأما قول مالك: إن الغناء حرام فلا نسلم ذلك، وإنما قال الشافعي: إنه لهو ولعب وسخف، وليس من أهل الدين. قلت: وليس ذلك بخلاف في المسألة، بل كلام الشيخ محمول على ما إذا اتبعه شيء من آلات الملاهي المحرمة، كالمزمار ونحوه، وما قاله القاضي محمول على ما إذا لم يصحبه شيء من آلة الملاهي، وقصد صرح بهذا الحكم في الحالتين الماوردي والشاشي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من نفي الخلاف في المسألة وحمل الكلامين على حالتين قد ذكر ما يخالفه في كتاب الشهادات، وستقف هناك على لفظه، إن شاء الله. الأمر الثاني: أن ما نقله عن القاضي أبي الطيب أنه ذكره في باب ((بيع المصراة)) غلط، ليس له ذكر في ذلك الباب، وإنما ذكره في ((باب الخراج بالضمان))، وهذا الباب هو بعد باب المصراة فاعلمه، وقد ذكره في البيع من شرح الوسيط على الصواب.

قوله: فروع: إذا اكترى دابة إلى بلد فبلغ عمارتها، فللمكري استرداد الدابة، ولا يلزمه تبليغه داره، كذا أطلقه بعضهم. وقال الماوردي: مثل ذلك إذا كان البلد واسعًا، فإن كان صغيرًا فله أن يركب إلى منزله. قلت: ويتجه أن يتخرج على القولين فيما إذا استأجر حمالًا لحمل وقر إلى داره وهي ضيفة الباب هل عليه إدخاله الدار أم لا؟ ووجه الثبوت النظر إلى العرف انتهى كلامه. وهو يقتضي أن القول الثاني في الحمال هو وجوب إدخال الحطب إلى الدار بل لا يستقيم التخريج الذي يحاوله إلا بذلك، والذي ذكره غلط، بل الثاني إنما هو فساد العقد، وسبب الغلط أن الرافعي في أواخر هذا الباب عن زيادات العبادي فقال: وإنه إذا استأجر حمالًا ليحمل وقرًا إلى داره وهي ضيقة الباب، هل عليه إدخاله الدار؟ فيه قولان للعرف هذا كلامه، وتبعه عليه في الروضة، وهو يقتضي الجزم بصحة العقد، وإن القولين في الإدخال وعدمه فراجعت نسختين من ((الزوائد)) المذكورة، أحدهما بخط الفخر بن عساكر شيخ الشام في وقته وبمقابلته أيضًا، فرأيته قد عبر بقوله فيه قولان: أحدهما: يجب للعرف. والثاني: أنه يفسد إلا أن يشترطه، هذه عبارته فلما توهم ابن الرفعة من عبارة الرافعي ما توهم صرح به فوقع في صريح الغلط، واعلم أن مدرك الإفساد يعارض العرف واللفظ، وأن تقييد المسألة بالباب الضيق عندنا، بل الملك لا معنى له. والوقر: بكسر الواو، وهو الحمل قاله الجوهري. قوله: فإن باع المكري العين من المكتري جاز، وقد أشار في ((الوسيط)) إلى خلاف في صحة البيع بقوله: ((والظاهر الصحة، وأنكره بعضهم، وبعضهم قال: إنه مصرح به في ((المحيط)) وكان مستخرجه من أصول في المذهب سأذكرها. فإن قلنا بالصحيح: لا تنفسخ الإجارة خلافًا لابن الحداد. وإن قلنا بالانفساخ: ففي عود ما بقي من المنفعة إلى البائع وجهان وفي رجوع المشتري عليه بصحته من الأجرة وجهان أيضًا. ثم قال ما نصه، قلت: ومن القول بانفساخ الإجارة، ورجوع منفعة المدة الباقية إلى الأجير البائع وعدم رجوع المشتري عليه بقسطها من الأجرة تمسك القائل يصحح ما

أوهمه لفظ الغزالي من عدم صحة البيع، لكون ذلك ملازمًا للبيع فتصير المنفعة في تقيمه المدة كالمستثناة، والاستثناء باللفظ إذا كان مبطلًا للعقد كان الاستثناء بالشرع مثله. دليله: بيع الجارية واستثناء حملها، وبيعها إذا كانت حاملًا بحر والله أعلم انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الخلاف الذي أوهمه كلام الغزالي ثابت، فقد رأيته مصرحًا به في شرح المصباح لأبي الخير سلامة بن إسماعيل بن جماعة المقدسي، وأبو الخير المذكور توفي قبل الغزالي بسنين كثيرة، فإن الغزالي توفي في سنة خمس وخمسمائة، وتوفي أبو الخير سنة ثمانين وأربعمائة، كما نقله المشقرني عن الحافظ المنذري، وأوضحته- أيضًا- في كتاب ((الطبقات))، ونقل ابن أبي الدم في كتاب ((العدد)) غيره من شرحه للوسيط عن ابن جماعة المذكور، وقال: إنه رجل مجهول وهو غريب منه، فقد ترجم له غير واحد منهم المقشراي والمنذري المذكوران ومنهم الكنجي في ((تاريخ بيت المقدس)) في ترجمة الفقيه سلطان 193/أالمقدسي ثم رأيته- أيضًا- مذكورًا في خطبة كتاب البيان الذي ألفه الفقيه سلطان المشار إليه في التقاء الختانين، فقال: كان عديم النظير في زمنه، لما كان مخصوصًا به من حضور القلب وصفاء الذهن وجودة الحفظ، هذا لفظه. الأمر الثاني: ما ذكره من التمسك على إثبات الخلاف بانفساخ الإجارة إلى آخره تمسك فاسد، لأن جميع ذلك إنما هو تفريع على صحة البيع، والوجه الذي يخاف إثباته إنما هو إفساده، فكيف يستدل على الفساد بما هو مفرع على ضده، وهو قول الصحة. قوله نقلًا عن الشيخ: وإن كان- أي: العين المؤجرة- عبدًا فأعتقه عتق، ويلزم المولى للعبد أقل الأمرين من أجرته أو نفقته. ثم قال: وهذا الوجه لم أره لأحد، بل المحكى في المهذب وغيره: أن العبد هل يستحق على السيد أجرة المثل أم لا؟ فيه قولان: القديم: نعم، والجديد: لا، فعلى هذا هل يرجع على السيد بنفقته؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها تجب في بيت المال.

والثاني: وهو الأشبه في الرافعي، والمختار في المرشد: أنها تكون على السيد استيفاء لما تقدم. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن ما أنكره قد ذكره في الروضة من زوائده، فقال: فإن قلنا: النفقة على السيد، فوجهان: أحدهما: تجب بالغلة ما بلغت. وأصحهما: يجب أقل الأمرين من أجرة مثله وكفايته، هذه عبارته. الثاني: أن ما نقله عن الرافعي هنا غلط، فإن الأشبه في الرافعي إنا هو الوجه الأول، وهو الوجوب في بيت المال، فانعكس ذلك على المصنف. الأمر الثالث: أن القولين معًا في الجديد خلافًا لما ذكره هؤلاء وقلدهم فيه المصنف، فإن القول الذي نسبه المصنف إلى القديم، وهو القائل بالرجوع على السيد قد نص عليه في الأم في كتاب الصلح، وهذا الكتاب مذكور بعد أبواب اللعان فقال فيه في الكلام على ما إذا صالح على خدمة عبد سنة ما نصه: ((ولو كانت المسألة بحالها فأعتقه السيد، كان العتق جائزًا، وكانت الخدمة عليه إلى منتهى السنة يرجع بها على السيد، لأن الإجارة بيع من البيوع لا تنقض ما دام المستأجر مسلمًا)). هذا كلامه بحروفه ومنه نقلته. قوله: قال- يعني الشيخ-: ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة أي الواردة على الذمة، إلا بالعمل ثم قال: وفي الرافعي، والوسيط: أن الإجارة إذا وردت على الذمة وسلم دابة بالوصف المشروط، فمضت المدة عند المكري استقرت الأجرة لتعين حقه بالتسليم وحصول التمكين، ويمكن أن يحمل ما قاله الشيخ على ما إذا اعتمد العقد العمل، كما إذا قال: ألزمت ذمتك خياطة ثوب من صفته كذا بكذا، وما قاله الرافعي وغيره على ما إذا اعتمد الدابة فقال مثلًا: أجرتك دابة في ذمتي ونصفها. انتهى. وهذا الحمل الذي ذكره غير صحيح، فإن الرافعي صرح في القسمين بالاستقرار، فإنه صرح به أيضًا فيما إذا ألزم ذمة الحر عملًا فسلم نفسه أو عبده، ومضت المدة كما صرح به في الدابة، فعلم بذلك أن الرافعي يسوي بين الصورتين. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن دفع إليه ثوبًا فقطعه قميصًا، فقال صاحب الثوب أمرتك أن تقطعه قباءً فعليك الأرش، وقال الخياط: بل أمرتني بقميص فعليك الأجرة

تحالفا على ظاهر المذهب. ثم قال: وقد روى القاضي أبو الطيب: أن الشافعي قال في اختلاف العراقيين: كان ابن أبي ليلى يقول: القول قول المالك، وهذا أصح القولين، وعير القاضي يرونه أشبه القولين: انتهى كلامه. وهو يوهم انفراد القاضي بنقل لفظ الأصح عن الشافعي، وليس كذلك، فقد عبر بهذه اللفظة بعينها جماعات منهم: المحاملي في كتاب القولين والوجهين وفي كتاب المجموع، ومنهم ابن الصباغ في ((الشامل)) والمتولي في ((التتمة)). قوله: وفي المسألة خمسة طرق. ثم قال: والطريق الخامس عن ابن سريج: إن جرى بينهما عقد فليس إلا التحالف، وإن لم يجر فالخياط لا يدعي الأجرة، وإنما النزاع في الأرش، فهل يصدق المالك أو الخياط؟ قولان. انتهى. وحكايته هذه المقالة طريقة خامسة سهو، تبع فيه الرافعي، فإن ذلك يقتضي طرد الخلاف السابق مطلقًا، سواء جرى عقد أم لا، وهو محال، فإن التحالف إنما يكون بعد الاتفاق على العقد. وأيضًا: فإن التصوير والكلام جميعه إنما هو في طلب الخياط الأجرة ودفع الأرش عنه، ودعوى المالك عكس ذلك، نعم هذه مسألة مستقلة وحكمها متجه.

باب الجعالة

باب الجعالة قوله: فرع لو فسخ المالك العقد في غيبة العامل بعد الشروع في العمل ولم يعلم المجعول له به، ثم تمم العمل. قال المتولي: ذلك ينبني على القولين في عزل الوكيل قبل العلم. وقال الإمام: لا يبعد تخريجه على ذلك، والظاهر أن الجعالة تنفسخ. انتهى كلامه. ومقتضاه: أن الخلاف المحكي في التتمة هو في أن الفسخ هل ينفذ أو لا ينفسخ حتى يستحق المسمى على وجه وأجرة المثل على آخر؟ ويؤيده- أيضًا- نقله عن الإمام ترجيح الفسخ، وليس الأمر كذلك، بل التخريج الذي ذكره صاحب التتمة إنما هو استحقاق أجرة المثل، وأما الفسخ فجزم بنفوذه، فإنه ذكر أن المجعول له بعد الاشتغال بالعمل مخير بين الترك والاستمرار. ثم قال ما نصه: ((فأما الجاعل فلا خلاف أن له الرجوع، إلا أنه إن بلغ المجعول له خبر رجوع الجاعل عن الجعالة، فما بعد ذلك لا يستحق عليه عوضًا، وإن لم يبلغه الخبر فالمسألة تنبني على الموكل إذا عزل الوكيل ولم يبلغه العزل وقد ذكرناه، فأما علمه السابق على الرجوع فمضمون بأجرة المثل)). هذا كلامه، فانظر كيف نفى الخلاف عن المرجوع وجزم آخرا بأن ما علمه قبل ذلك مضمون بأجرة المثل، ولو كان الأمر كما دل عليه كلام المصنف، لكان في كل منهما خلاف. نعم، ما حكاه عن الإمام من أن الخلاف في جواز الفسخ مطابق لكلام الإمام، ولهذا إن الرافعي غاير بين المقالتين واستبعد كلام الإمام.

باب المسابقة

باب المسابقة قوله نقلًا عن الشيخ: قال: وإن شرط الرمى عن القسى العربية أو الفارسية، أو أحدهما يرمي عن العربية، والآخر عن الفارسية حملًا عليه بمقتضى الشرط، وكذا لو شرط أن يرمي أحدهما بالنبل والآخر بالنشاب. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- من المغايرة بين الرمي بالقسي العربية والفارسية، وبين الرمي بالنبل والنشاب غلط، فإن النبل ما يرمى به عن القوس العربية، والنشاب ما يرمى به عن القوس الفارسية. كذا صرح به المصنف في باب الوصية من هذا الكتاب فقال: ثم قوس الرمي يطلق على قوس النبل، وهو قوس العرب، وعلى قوس النشاب وهو الذي يرمي بالسهام، وعلى قوس الحسبان وهو الذي يرمي بالسهام أيضًا، لكن سهامه صغار لا يراها الإنسان حتى تقع فيه، وهما للعجم، هذه لفظه، وصرح به أيضًا الأزهري في شرحه لألفاظ مختصر المزني، فقال: والنشاب: السهم الذي يرمي عن القسي الفارسية، والنبال التي يرمى بها عن العربية، هذا لفظ الأزهري بحروفه ومن كتابه نقلت.

باب إحياء الموات

باب إحياء الموات قوله: وللأسباب المملكة للمال ثمانية: الميراث، والمعاوضات، والهبات، والوصايا، والوقف، والصدقات، والغنيمة، والإحياء. انتهى كلامه. وما ذكره من الحصر في هذه الثمانية باطل، فإنه يخرج عنه أشياء. منها: الاصطياد، ووقوع الثلج ونحوه في المكان الذي أعده لذلك، وانقلاب الخل خمرًا، والبيضة المذرة فرخًا، ودباغ الجلد، واللعان، والطلاق، والفسوخ كفسخ البيع والنكاح وغيرهما بالعيب، والإفلاس، وخلف الشرط، وتأخير تسليم المعقود عليه، وغير ذلك. ومنها: النذر، كقوله: لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم على زيد، أو على فقراء هذه البلد. ومنها: حولان الحول على المال الزكوي، والفقراء محصورون أو غير محصورين. ومنها: الهدايا، فإنها غير الهبة في اصطلاح الفقهاء، فإن أجاب بأنها داخلة في الهبة على ما قالوه في كتاب الأيمان فإنهم قالوا هناك: الهبة تمليك في الحياة بلا عوض، فكان يلزمه ألا يعد الصدقة. قوله: وإن حمى الإمام أرضًا، لترعى فيها إبل الصدقة، ونعم الجزية، وخيل المقاتلة، والأموال العشرية، ومال من يضعف عن الإبعاد في طلب النجعة ولم يضر ذلك بالناس، جاز في أصح القولين، لأنه عليه الصلاة والسلام حمى النقيع لخيل المسلمين والمجاهدين ترعى فيه، كما خرجه أبو داود والبخاري. انتهى كلامه. وما ادعاه في هذا الديث من كون البخاري رواه ليس كذلك، فإن الذي رواه أنه عليه الصلاة والسلام حمى النقيع، هذا لفظه من غير زيادة عليه، ثم إنه رواه مرسلًا لا مسندًا واللفظ الذي ذكره المصنف رواه ابن حبان في صحيحه. تنبيه: ذكر في الباب ألفاظًا منها: المعادن القبلية- بقاف وباء موحدة مفتوحتين، ولام مكسورة بعدها ياء النسبة-: موضع قريب من المدينة من جهة الفرع.

ومنها: الغورى بعين معجمة، وهو المنخفض من الأرض، والمراد به هنا تهامة. ومنها: النقيع وهو بنون مفتوحة ثم قاف وبالعين المهملة، قال: فهو بلد صغير قريب من المدينة قدر ميل في ستة أميال، وهو مستنقع وينبت فيه الكلأ بخلاف بقيع الغرقد، فإنه بالباء. انتهى. والمراد بالبلد هنا هو الأرض، كما يقال بلاد تميم، وفي الحديث: ((كان إذا بات بأرض وهو مسافر))، قال: ((اللهم إني أعوذ بك من ساكني البلد))، أي: جان الناحية. ومنها هنيء مولى عمر هو بهاء مضمومة، ثم نون مفتوحة ثم بالتصغير بعدها همزة، ومنها في الحديث: ((لا حمى إلا في ثلاثة ثلاثة: البئر وهي ملقى طينها، وطول الفرس، أي: ما انتهى إليه بخيله الذي ربط به، وحلقة القوم، أي: لا يجلس أحد في وسطها. انتهى. وقد وقع لفظ ثلاثة في لفظ المصنف مكررًا، فالأولى للعدد والثانية قد فسره بما ذكره، والذي رأيته في الصحاح: أن أثلب بهمزة مضمومة وثاء مثلثة ولام مفتوحة وباء موحدة: فتات الحجارة والتراب، فيحتمل أن يكون هو المراد في الحديث بإضمار الموضع ولكن تحرف على المصنف. ومنها: البيدر: هو بباء موحدة مفتوحة، ثم بالمثناة من تحت ودال وراء مهملتين، هو المكان الذي يوضع فيه الزرع عند حصاده، ويقال له في اللغة الجرين بالجيم والمثناة من تحت، ويسمى في إقليم مصر الجرون بالواو. ومنها: الجلسي منسوب إلى الجلس بجيم مفتوحة ولام ساكنة وسين مهملة، وهو المرتفع، ولذلك تسمى نجد جلسًا، يقال: جلس يجلس، فهو جالس إذا أتى نجدًا. ومنها القدس- بقاف مضمومة ودال ساكنة وسين مهملتين- جبل عظيم بأرض نجد. ومنها بهيسة: اسم امرأة بباء موحدة مضمومة، وهاء مفتوحة، ثم ياء للتصغير ثم سين مهملة. ومنها: أبيض بن حمال هو بحاء مهملة مفتوحة وميم مشددة. ومنها: مأرب بالباء الموحدة. ومنها: الربذة- براء مهملة وباء موحدة مفتوحتين ودال معجمة- مكان به قبر أبي ذر. ومنها: قرط بن مالك هو بقاف مضمومة وراء وطاء مهملتين.

باب اللقطة

باب اللقطة قوله: قال- يعني: الشيخ- وإن كان نصفه حرًا ونصفه عبدًا، فهو كالحر على المنصوص ... إلى آخره. ثم قال ما نصه: تنبيه: ظاهر قول الشيخ أن كالحر يقتضي أنه لا تنزع منه اللقطة. وقد حكى ابن كج في أنها هل تنزع منه أو تبقى في يده، ويضم إليه مشرف؟ وجهين: والظاهر الانتزاع، ثم وجهين على القول بالانتزاع في أنه يسلم إلى السيد أو يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه، والأظهر الثاني. انتهى كلامه. وما ذكره عن ابن كج من تفريع هذين الخلافين على القول بإلحاقه بالحر، وصحة الالتقاط سهو، وإنما هما مفرعان على بطلان الالتقاط، كذا صرح به الرافعي في شرحه فقال: فإن قلنا لا يصح التقاطه، فهو متعديًا بالأخذ ضامن بقدر الجزية في ذمته، تؤخذ منه إن كان له مال ويقدر الرق في رقبته، وذكر القاضي ابن كج وجهين من أنه تنتزع منه أو تبقى في يده، ويضم إليه مشرف، والظاهر الانتزاع، ثم الوجهان على القول بالانتزاع في أنه يسلم إلى السيد أو يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه، والأظهر الثاني، هذا لفظه، ومنه أخذ المصنف. قوله: وإن التقط ما لا يمتنع من صغار السباع، كالغنم، فهو بالخيار بين الأكل على آخره. ثم قال: وإذا اختار الأكل، فأكل، فظاهر كلام الشيخ أنه لا يجب التعريف بعده، كما هو ظاهر النص. وبه قال بعض الأصحاب، وصححه القاضي حسين، وحكى وجهًا آخر أنه يجب. انتهى كلامه. وما ذكره عن القاضي حسين وهم، فإن الذي صححه إنما هو وجوب التعريف، فإنه ذكر المسألة في أول الباب، وذكر أنه مخير بين أن يأكل ويغرم القيمة، أو يبيع ويحفظ الثمن، أو يمسكها وينتزع.

ثم قال ما نصه: وهل يجب عليه أن يعرفها، فعلى قولين: أحدهما: لا لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعريف الحيوان ولم يأمر بتعريف القيمة والثمن. والثاني وهو الأصح: عليه أن يعرفها سنة في بعض البلدان التي تقرب من ذلك الموضع، هذا لفظه بحروفه فأشار بقوله بتعريف القيمة إلى حالة الأكل، وبقوله: والثمن إلى حالة البيع، ولم يذكر غير ذلك ثم ذكر أيضًا نحو ذلك فيما إذا وجدها في البلد، فإنه حكى الخلاف في أنه: هل يأكل أم لا؟ ثم قال: فإن قلنا: جاز له أكلها هل يجب عليه أن يعرفها؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، هذا لفظه، ومقتضاه الوجوب أيضًا. قوله: وإن كان ما وجده مما لا يمكن حفظه، كالهريسة، والخيار فهو مخير بين أن يأكل، وبين أن يبيع، فإن أكل عزل قيمته مدة التعريف، كما قاله الشيخ، ثم ظاهر كلامه يقتضي: أنه الذي يعزل القيمة، وإذا عزلها صارت ملكًا لصاحب اللقطة، كا صرح به القاضيان أبو الطيب والحسين وغيرهما. وفي الرافعي: أنه يرفع الأمر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال. انتهى كلامه. وكلامه يوهم إيهامًا كبيرًا أن القاضيين قد صرحا بأنه الذي يعزل وليس كذلك، فقد راجعت كلاهما معًا فلم أجد فيهما إلا مثل عبارة الشيخ، فينبغي أن يجعل التصريح راجعًا إلى صيرورته ملكًا وما يترتب عليه. قوله: فإن قلنا: يرفع إلى القاضي ليقبض عن صاحب المال، فلم يجد حاكمًا، فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن ينيب عنه؟ فيه احتمال للإمام. انتهى كلامه. وتقييد هذا الاحتمال بحالة عدم الحاكم قلد فيه الرافعي وليس كذلك، فقد صرح الإمام بأن الاحتمال يجري مع وجود الحاكم وغيبته. قوله: وإذا أقر القيمة، قال الغزالي: فلا تصير ملكًا لصاحب اللقطة، لكنه هو أولى بتملكها ويقدم بها عند إفلاس الملتقط، وفي ذلك نظر، لأنه لو كان كذلك لما سقط حقه بهلاك القيمة المفروزة وقد نص على السقوط، وعلى أنه إذا مضت مدة التعريف كان له أن يملك تلك القيمة، وهذا يقتضي صيرورتها ملكًا لصاحب اللقطة. انتهى كلامه. وما نقله عن الغزالي من جواز تملكه للقيمة بعد التعريف غلط أوقعه فيه كلام الرافعي، كما أوضحته في المهمات. وعبارته في الوسيط: فالأظهر: أنه لا يرتفع الحجر بل يحفظه أبدًا لمالكه، لأنه بدل

اللقطة لا عينها. انتهى كلامه. وذكر القاضي حسين: أنا إذا قلنا لا يحتاج إلى عزل القيمة، فلابد من عزلها بعد الحول وقبل التملك، لأن التمليك يستدعي عينًا، وتمليك الدين غير صحيح. قوله: فروع: إذا وجد كلبًا يقتني فهل يجوز التقاطه لغير الحفظ؟ الذي مال إليه الإمام، لا، لأن الاختصاص به بالعوض ممتنع، وبغير عوض يخالف وضع اللقطة. وقال أكثرهم: يعرف سنة ثم يختص به وينتفع، فإن ظهر صاحبه بعد ذلك وقد تلف، لم يضمنه، وهل عليه أجرة المثل لمنفعة تلك المدة؟ فيه وجهان بناءً على إجارته، وجعل ابن الصباغ الانتفاع به مخرجًا على جواز إجارته انتهى كلامه. وما ذكره عن ابن الصباغ سهو، فإن الذي قاله إنما هو الذي قاله غيره، وهو تخريج الخلاف في ضمان الأجرة على الوجهين في الإجارة، فإنه قال ما نصه: فرع إذا التقط كلب صيد، كان له إمساكه ولم يكن له الانتفاع به، فإذا عرفه حولًا، كان له الانتفاع به ولا يضمن عينه، لأنه لا قيمة له، وأما المنفعة فينبغي أن تكون على الوجهين في جواز إجارة الكلب. هذا لفظه بحروفه.

باب اللقيط

باب اللقيط قوله: ولا ينفق عليه المتلقط من ماله بغير إذن الحاكم إذا أمكن، لأنه لا ولاية له عليه، وإن كان حاضنًا، وهذا ما ادعى الإمام والماوردي نفى الخلاف فيه. وفي الجيلي أن في الحاوي حكاة وجه أن له ذلك، فإن أنفق ضمن. وفي كتاب ابن كج وجه غريب: أنه لا ضمان انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يظفر بخلاف في جواز الإنفاق، وهو غريب. فقد صرح به الرافعي في أوائل كتاب الدعوى في الكلام على مسألة الظفر. وحكى فيه قولين عن القفال، وعن السلسلة للشيخ أبي محمد، وهذا الوجه الذي حكاه المصنف في عدم الضمان، مرادف لقول الجواز بلا شك، كما أوضحته في ((المهمات)).

باب الوقف

باب الوقف قوله: ((وأما الكلب فجزم المعظم بمنع وقفه، وإن جازت إجارته، وقد أجاز بعضهم وقفه، واختلفوا في أصله، فالشيخ أبو حامد كما حكاه في الإبانة عنه، والماوردي والقاضي الحسين بنوه على جواز إجارته. ومنهم من بناه على جواز هبته. ومنهم من بناه على أن الوقف لا يقتضي نقل الملك، وقد حكى في البحر طريقة قاطعة بهذا الوجه، ونسبها الفوراني إلى القفال واختارها في المرشد. ومن خرج هذا الوجه على ما ذكرناه، يلزمه تجويز وقف الموصى له بالمنفعة، ولم يجوزه)). انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الإلزام الذي ذكره آخر كلامه عجيب، فإنه خارج باشتراطهم أن تكون عينًا. الثاني: أن ما حكاه هنا عن الفوراني غلط فإن الذي نسبه الفوراني في كتاب الإبانة إلى القفال: إنما هو الجزم بالمنع، فقال: وقال القفال: لا يجوز، لأنه لا يقبل نقل الملك، هذا لفظه في الإبانة من غير زيادة عليه. قوله- نقلًا عن الشيخ: ((فإن وقف على قاطع الطريق أو حربي أو مرتد، لم يجز، وإن وقف على ذمي جاز. ثم قال: فإن قيل: يظهر أن المراد بالذمي غير معين، كما أن مراده بقاطع الطريق والمرتد والحربي ليس شخصًا معينًا، بل من يقطع أو يرتد أو يحارب، إذ لو كان معينًا، لكان كما لو وقف على زيد مثلًأ، وكان قاطع طريق، فإنه يصح جزمًا، وكذا لو وقف عليه وهو حربي أو مرتد في وجه. قلت: ليس الأمر كذلك، بل المراد الواحد المعين، فإن هذه الصيغة ليس فيها عموم، وما ذكر من أن المراد بقاطع الطريق واحد غير معين فصحيح، لأنه مضاف إلى الطريق، ومثل ذلك يقتضي العموم، وما ذكر من أن المراد بالحربي والمرتد غير

معين ممنوع، لما ذكرناه)). انتهى كلامه. وهو تخليط فاحش، فإنه الصيغة إذا لم يكن فيها عموم، لا يلزم أن يكون مدلولها واحدًا معينًا، فقد يكون واحدًا غير معين، كما لو قال: لله علي أن أعتق عبدًا، فإنه يكفيه أي عبد كان، ولا يستقيم أن يريد العموم البدلي، لأنه لا يراد به أيضًا فرد معين، وقد جعله مغايرًا له، وكذلك دعواه أن المراد بمن يقطع الطريق واحد غير معين، ثم استدل عليه بأن المضاف يقتضي العموم في غاية العجب، لاسيما والقائلون بأن الإضافة مقتضاها العموم، إنما هو عموم الشمول، وحينئذ فلا يصح أن يريد الشمولي ولا البدلي، وسبب هذا جميعه هو كلامه فيما لا علم له به، ولو سكت عن مثل ذلك، لكان خيرًا له، ويكفيه ما يبديه في الفن الفقهي من العجائب والغرائب. قوله: ((وطريق تصحيح الوقف على نفسه كما قال ابن يونس، وصاحب رفع التمويه: أن يقف على أولاد أبيه الذين من صفتهم كيت وكيت، ويذكر صفات نفسه)) انتهى. واعلم أن ما ادعاه من أن صاحب رفع التمويه صححه بهذا الطريق غلط، فإنه إنما نقل ذلك عن غيره نقل مضعف له بعد أن ذكر- أيضًا- ما يقتضي عدم الصحة، فإنه قال: فرع: ولا يجوز أن يقف على نفسه، بل طريق ذلك أن يهبها لغيره ويقبضها إياه ممن يثق به أو يبيعها عليه بثمن ما، ثم يسأله إبقاءها عليه وعلى من شاء بعده. وقيل: إن أراد أن يقف على نفسه، فله إليه طريق، وهو أن يقف على أولاد ابنه ويصف نفسه فيقول: وقفت هذا على أولاد فلان على كل من كان صفته كذا وكذا، ويذكر صفة نفسه، فإنه يدخل في ذلك الوقف. هذا كلام رفع التمويه بحروفه. والظاهر أنه أشار إلى ابن يونس، فإنه كثيرًا ما يتبعه فيما يقوله، ورأيت بخط بعض الفضلاء أن أبا علي الفارقي تلميذ الشيخ أبي إسحاق، ذكر هذه الطريقة، وكان ابن يونس اعتمد عليه فيها، وبالجملة فهي مردودة معنى، وهو ظاهر، ونقلًا فقد قال الغزالي في فتاويه: إذا وقف على أولاده، فإن انقرضوا، فعل عصبتهم، فمات بعضهم، وكان للواقف عصبة، لا يدخل بحكم العصوبة، لأنه يصير متعينًا لاستحقاق وقف نفسه، وبهذا خالف إذا وقف على المسلمين، لأنه على العموم فيدخل فيهم هذا كلام الغزالي. وهو يقتضي إبطال ما تقدم بطريق الأولى فتبين أن لا مستند للتصحيح بهذه الصورة. قوله: والمتفقهة: هم المشتغلون بتحصيل الفقه: مبتدئهم ومنتهيهم.

والفقهاء هم الذين حصلوا من الفقه شيئًا وإن قل، كذا قاله الرافعي. والذي حكاه القاضي الحسين: أنهم الذين يعرفون من كل علم شيئًا. انتهى ملخصًا. وهذا النقل عن الرافعي من استحقاقه بما قل حتى يستحق بالمسألة الواحدة، هو كذلك فيه، وتابعه عليه أيضًا في الروضة، ولكن لا أعلم من ذكره قبله، فإن غالب الكتب المطولة، كالحاوي والبحر وتعليقه القاضي أبي الطيب وغيرها، ليس فيها تعرض للمسألة. والذين تعرضوا لها، جزموا بأن هذا القدر لا يكفي، فذكر القاضي الحسين في هذا الباب من إحدى تعليقتيه، ما ذكره المصنف، وقال في التعليقة الأخرى: يعطى من حصل من الفقه شيئًا يهتدى به إلى الباقي. قال: ويعرف بالعادة. وقال في التهذيب في باب الوصية: يصرف لمن حصل من كل نوع، وكأن هذا هو مراد القاضي بقوله: من كل علم. وقال الغزالي في ((الأحياء)): يدخل الفاضل في الفقه، ولا يدخل المبتدئ من شهر ونحوه، والمتوسط بينهما درجات يجتهد المفتي فيها، والورع لهذا المتوسط ترك الأخذ. انتهى. ونقله عنه النووي في كتاب ((البيع من شرح المهذب)) وأقره. وقال في ((التتمة)) في الوصية أيضًا: إنه يرجع فيه إلى العادة، وعبر في كتاب ((الوقف)) بقوله: أي من حصل طرفًا، وإن لم يكن متبحرًا، فقد روي: أن من حفظ أربعين حديثًا عد فقيهًا. انتهى. ولا شك أن هذا اللفظ- أعني: عدم التبحر- هو الموقع للرافعي في الغلط، ثم إن ما ذكره الرافعي هنا، قد خالفه في كتاب الوصية فتأمله، وقد أوضحته في ((المهمات)). قوله: ووقعت في الفتاوى مسألة في زمن الأستاذ أبي إسحاق: وهي أن من قال: وقفت داري هذه على المساكين بعد موتي، فأفتى الأستاذ: بأن الوقف يقع بعد الموت وقوع العتق في المدبر. ثم قال: وقد حكى الرافعي عن فتاوى القفال في المسألة التي أفتى فيها الأستاذ: أنه لو أوصى بالدار بعد ذلك، كان رجوعًا. انتهى كلامه. وما حكاه من التمثيل بالإيصاء لم يذكره الرافعي، ولا يصح التمثيل به أيضًا، لأن مجرد الإيصاء لا يقتضي الرجوع، وإنما يقتضي على المشهور، وإنما حكى الرافعي عن القفال تمسك ذلك بالعرض على البيع، واعلم أن كلام النووي في الروضة هنا غير مستقيم، فتفطن لذلك، وقد أوضحته في المهمات، فراجعه إن شئت.

قوله: ولو وقف داره مسجدًا وشرط أن يصلي فيه طائفة بعينها دون غيره، فإذا انقرضوا، فعلى عامة المسلمين، فوجهان: أحدهما: أن شرطه غير متبع، لأن جعل البقعة مسجدًا، كالتحرير، فكيف يختص بجماعة. والثاني وبه جزم القاضي حسين. وقال الرافعي: يشبه أن تكون الفتوى به أولى أن يتبع، رعاية لشرط الواقف، فعلى الأول قال في التتمة: يفسد الوقف، لفساد الشرط، وقياس ما ذكرناه عن الإمام: أنه لا يفسد. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر المسألة من أن قياس ما قاله الإمام عدم الإفساد- غريب، فإن الإمام قد صرح به فقال: ومهما فسد الشرط في جعل، فالمذهب الثبوت أن الشرط يلغى وينفذ المسجد، فإن هذه الجهة مشابهة للأعيان، والشرط الفاسد إذا لم يقع على جهة التعليق، لا ينافي نفوذ العتق. هذا لفظه. ذكر ذلك في أواخر الباب قبيل فرع أوله: إذا علق الرجل عتق عبده. واعلم أن الإمام قد ذكر طريقة لم يحكها المصنف ولا الرافعي، فإنه جزم بفساد الشرط في تخصيص المسجد لجماعة، وحكى الوجهين فيما إذا شرط ألا يقام فيه إلا شعار طائفة معينة، كالحنفية، أو الشافعية، قال: والمذهب- وهو القياس أيضًا- بطلان الشرط، والقائل بالصحة، قاله على سبيل المصلحة، إذ التنافس بين أرباب المذاهب غير خافٍ، والشرط مردود فصححناه. انتهى ملخصًا. وإلى هذا الكلام الأخير أشار الرافعي بقوله: ويشبه أن تكون الفتوى به أولى، وإن كانت طريقته في فرض الخلاف مخالفة لطريق غيره، كما قدمناه. قوله: وإن وطئت الموقوفة بشبهة أو مكرهة، أخذ الموقوف عليه المهر، لأنه بدل منفعتها، وهكذا الحكم إذا زوجت، وحكى في الحلية في صورة الشبهة ثلاثة أوجه: أحدها هذا، ولم يبين ما عداه. قال مجلي في الذخائر: ويحتمل أن يكون الثاني أنه يشترى به عبد، ويكون وقفًا. والثالث: يكون للواقف، كما جعلنا التزويج إليه على قول. قلت: ويظهر فيها شيء آخر، إن صح النقل وهو: أن منفعة البضع لا تدخل على وجه، لكونها غير معتادة، كما قلنا في الموصي بمنفعته، وحينئذ فيكون كوقف دابة لاستيفاء بعض منافعها، كالركوب مثلًا وسكت عن الثاني، وصححناه، فإن الباقي

يبقى للواقف على وجه، ورجحه الرافعي، ويستحقه أقرب الناس إلى الواقف على وجه آخر. انتهى ملخصًا. وما ذكره هو وصاحب الذخائر عجيب، فإن كلام الشاشي في الحلية مشتمل على بيان الثلاثة، فإنه حكى في الولد ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يملكه الموقوف عليه. والثاني: يكون وقفًا كأمه. والثالث: يأخذه أقرب الناس إلى الواقف. ثم قال عقبه من غير فاصل ما نصه: وحكى أيضًا من مهر الموقوفة إذا وطئت بشبهة، لمن يكون له المهر ثلاثة أوجه، هذه عبارته من غير زيادة عليه، وذلك إشارة إلى الأوجه السابقة المتصلة بالكلام، وذكر في المعتمد مثله أيضًا. تنبيه: ذكر في الباب ألفاظًا منها: ابن جميل بجيم مفتوحة، وميم مكسورة بعدها. ومنها: الأعتد بعين مهملة، وتاء مضمومة مثناة من فوق، بعدها دال مهملة، يقال: فرس عتد- بفتح التاء وكسرها- أي: معد للجري، لقوته وتمام خلقته، والعتاد: بفتح العين هو العدة، قاله الجوهري: فيجوز أن يكون الأعتد جمعًا. ومنها: العمارة والفصيلة، ذكرهما في الكلام على الأنساب والقبائل، فالعمارة بكسر العين المهملة، كالتي تقبض الحراب. والفصيلة بفاء مفتوحة، وصاد مهملة مكسورة، بعدها ياء مثناة من تحت.

باب الهبة

باب الهبة قوله: فرع تعم به البلوى، إذا أقر الأب بأن هذه العين ملك لابني، وهي في يدي أمانة، ثم ادعى بعد ذلك بأن المقر به كان نحلة، وقد رجعت فيه، وكذبه الولد. جزم القاضي الحسين في التعليق هنا بأن القول قول الولد. وقال في فتاويه: الظاهر أن القول قوله أيضًا. وفي الإشراف أن القاضي أبا سعد أفتى في هذه المسألة بهراة بإثبات الرجوع، لأن الإقرار المطلق ينزل من السببين أو الملكين على أضعفهما، كما ينزل من المقدارين على أقلهما استبقاء للأصل القديم، والسبب الضعيف هنا، كون ذلك عن هبة، وأن الشيخ أبا الحسن العبادي، والقاضي أبا الطيب، والماوردي أفتوا بمنع الرجوع، لأن الأصل بقاء الملك له. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الثلاثة المذكورين في آخر كلامه، أنهم أفتوا بمنع الرجوع، وأن صاحب الإشراف نقل ذلك عنهم غلط، فإن الذي أفتى بذلك منهم ونقله عنه في الإشراف، إنما هو أبو الحسن العبادي خاصة، وأما أبو الطيب والماوردي، فليس لهما ذكر في كتاب الإشراف بالكلية، فمن أحب مراجعته، ثم إن الذي أفتى به المذكوران إنما هو الرجوع، وقد نقله عنهما الرافعي في آخر الباب الثاني من كتاب الإقرار، فتلخص أن المذكور في هذا الكتاب غلط من وجهين، واعلم أن صاحب الإشراف: هو أبو سعد الهروي المفتي في هذه المسألة بإثبات الرجوع، ولذلك جمع النووي في فتاويه بين تعريفه بهما، فقال: وأبو سعد الهروي صاحب كتاب الإشراف، وقول ابن الرفعة، وفي الإشراف أن القاضي أبا سعد ... إلى آخره كالصريح في أنه غيره، وهو معذور فيما ذكره، فإنه كان- يرحمه الله- قليل الاطلاع على تراجم الأصحاب، والهروي صرح في تصنيفه باسمه تصريحًا يوهم الواقف عليه أنه غيره، فاغتر به. قوله في المسألة: وقد رأيت للنووي التسوية بين الأب والأم والجد في ذلك، والتصحيح في الكل لقبول التفسير.

وعندي في ذلك نظر، فإن الأب يقدر على النقل من غير واسطة، ولا كذلك الأم والجدة إذا لم تثبت لها الولاية، فإن كان ما قاله نقلًا، وجب إتباعه وإن كان تخريجًا، ففيه ما ذكرناه. انتهى كلامه. وما نقله عن النووي صحيح ذكره في فتاويه، والبحث الذي أيده فيه المصنف غلط، فإن المسألة ليست خاصة بما إذا أقر لابنه الصغير، بل لو أقر للكبير، كان الحكم كذلك، كما يدل عليه كلام الرافعي وغيره ممن تكلم على المسألة، سلمنا أنه خاص بالصغير، لكن عدم القدرة على النقل لا تدفع علة الرجوع وهي التنزيل على الهبة.

باب الوصية

باب الوصية قوله: في قول الشيخ: وإن جعل إليه أن يوصي، أي: عن نفسه، أو عن الموصي، ولم يعين من يوصي إليه، ففيه قولان. ثم قال بعد تعليل القولين ما نصه: أما إذا جعل له أن يوصي عن الموصي، صح، كذا حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب البحر في الصورتين في كتاب الوكالة، وإن أطلقوا الكلام هنا، وكلام الرافعي مصرح بأن الخلاف في الصورة الثانية. انتهى كلامه. وهذا القسم مع تعبيره في أول المسألة بقوله: أو عن الموصي، غير مستقيم، لأنه تكرار ومخالفة، والصواب: أن يعبر أولًا بقوله: لا عن الموصي، ولعله كان هكذا، ولكن تحرف. قوله: مسألة إذا وقف دارًا في مرض موته على ابنه الحائز لميراثه، وقلنا بالصحيح، إنها صحيحة، ولكن يوقف على الإجازة، فالمشهور أنه ليس للوارث إبطال الوقف في شيء منها إذا احتملها الثالث، لأن تصرف المريض في الثلث نافذ، فإذا تمكن من قطع حق الوارث جميع الثلث، فلأن يتمكن من وقفه عليه، وتعلق حق الفقراء بطريق الأول. وعن القفال: أن للوارث إن ترك، ثم قال: ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يقبل الابن الوقف في حياة والده أو يقبل له لصغر، أو لا، لأن الرد والإجازة إنما يعتبران في الوصية بعد الموت. وفي النهاية: تصوير المسألة بما إذا كان الولد صغيرًا أو قبله له الوالد. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله في آخر كلامه عن النهاية هو الصواب، وما ذكره قبله من كونه لا فرق ذهول عجيب وقع للرافعي فتابعه عليه النووي، ثم المصنف، وزاد. فعبر عنه بتعبير غير مستقيم. وتقرير ما ذكرناه: أن الصحيح على ما قاله الإمام في كتاب الوقف اشتراط القبول في الوقف على المعين وتبعه عليه هناك أيضًا الرافعي ثم النووي، فلا

جرم احتاج الإمام في تصوير المسألة لما ذكره، لأن القبول لابد منه، لاسيما وهو على الفور عند من شرطه، وإن كان حكمه حكم الوصية في حياته من الثلث، وهكذا الهبة ونحوها في مرض الموت، لابد فيها من القبول الناجز، وإن كانت كالوصية، ولا يمكن القول بإجبار المورث في حياته لوارثه على قبول تمليك ناجز، ولأنه إذا لم يقع قبول بالكلية، لم يحصل الوقف، فكيف مجيء الكلام في أنه هل يملك إبطاله أم لا؟ نعم إن قلنا: لا يحتاج الوقف إلى القبول، فله الرد في غير هذه المسألة، وأما فيها، ففيه نظر، وقد ذكرت المسألة في المهمات أيضًا بأوضح مما هي هاهنا، لأجل حكاية لفظ الرافعي [أو]. قوله: وحكى الجيلي عن الشافعي قولًا كمذهب أبي حنيفة: أنه إذا لم يوص بالحج، لا يجوز إخراجه من تركته، لفقد النية. وقال: إنه في البسيط. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يقف على هذا الوقف إلا في هذا الكتاب الذي لا يعتمد على نقله، وهو غريب، فإن المصنف نفسه قد حكى هذا القول في كتاب الحج، ورواه عن القاضي الحسين، وعن الإمام ايضًا، وكأنه لم يستحضر ما هناك، ونقله أيضًا إمام الحرمين والبغوي والمتولي وجماعة. قوله: والحمى في اليوم الأول والثاني يحسب التبرع فيها من رأس المال، كما صرح به البندنيجي. وقيل: إنها من أول حدوثها مخوفة. ثم قال: وعلى الأول إذا اتصل الموت بحمى يوم أو يومين، ففي تعليق البندنيجي أنه لا أثر لذلك. وفي الوسيط: أن نبين أن ذلك مخوف، وهو منطبق على ما حكاه القاضي حسين حيث قال: إذا تبرع في مرض غير مخوف، ثم مات منه، بان لنا أنا أخطأنا، فيعتبر من الثالث. انتهى كلامه. وما حكاه- رحمه الله- عن الوسيط من أن نبين أنه مخوف إذا اتصل بالموت بحمى يوم أو يومين سهو، ففي الوسيط الجزم بأنه ليس بمخوف، فإنه قال: فأما حمى يوم أو يومين، وإسهال يوم أو يومين، فهو إذا دام، صار مخوفًا، وابتداؤه مشكل، فلا نحجر عليه، فإن دام ومات تبينًا فساد التصرف، أو بأن أن الأول كان مخوفًا. هذا كلام الغزالي.

قوله- رحمه الله- قال: يعني الشيخ: وإن اجتمع الجد والأخ، أي: من الأبوين أو من أحدهما، كما ذكره المتولي والبغوي والعراقيون. ثم قال بعد ذلك بأسطر قلائل ما نصه: قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون هنا الأخ من الأم مع الجد، كالأخ من الأب، وبه صرح المتولي وصاحب البحر، وكذلك غيرهما في نظير المسألة من كتاب الوقف. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- عن ابن الصباغ بحثًا، وعن تصريح غيره في نظير المسألة غريب، لا حاجة إليه، فقد سبق منه التصريح بذلك في أول المسألة نقلًا عن المتولي والبغوي والعراقيين، وقد ذكرت لفظه. قوله: ولو أوصى لمكاتب نفسه أو للمكاتب وارثه صح، ثم قال: ولو عجز المكاتب نفسه قبل موت الموصي بطلت الوصية، بخلاف مكاتب الأجنبي إذا وصى له وعجز نفسه، فإنها لا تبطل. قال في البحر: وكانت لمولاه. وقال في الحاوي: إن لم يكن أحدهما فهي مردودة، لأنه صار عبدًا. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- عن الحاوي ليس مطابقًا لما فيه، فإنه لم يذكر مكاتب الأجنبي، ولا مكاتب وارثه بالكلية، وإنما ذكر مكاتب نفسه خاصة، فقال: ولو أوصى لمكاتبه، كانت الوصية جائزة، لأن المكاتب يملك، فإن عتق بالأداء فقد استقر استحقاقه لها، فإن كان قد أخذها قبل العتق، وإلا أخذها، وإن رق بالعجز نظر، فإن لم يكن قد أخذها، فهي مردودة، لأنه صار عبدًا موروثًا، وإن كان قد أخذها، ففيه وجهان: أحدهما: ترد اعتبارًا بالانتهاء في مصيره عبدًا موروثًا. والثاني: لا ترد اعتبارًا بالابتداء في كونه مكاتبًا مالكًا. هذا لفظه من غير زيادة عليه. ذكره في أوائل الباب، ونقلها عنه صاحب البحر في أواخر الباب قبيل باب الوصية للأقارب، ولم يطابقه أيضًا لكنه أخف مما ذكره المصنف، ثم إن الحكم على مكاتب الوارث بالبطلان، إنما يستقيم إذا أبطلنا الوصية للوارث وهو وجه ضعيف، والأصح صحتها موقوفة على الإجازة. قوله: فرع: إذا جنى العبد الموصى برقبته، أو بمنفعته جناية نظر، فإن كانت توجب القصاص ... إلى آخره. ثم قال: وهل لمالك المنفعة بسبب الوصية فداؤه إجبارًا، كما أن لمالك الرقبة

ذلك؟ فيه وجهان، المذكور منهما في الحاوي: أن له أن يفديه، ويبقى حق مالك الرقبة فيه. انتهى كلامه. وما نقله- رحمه الله- عن الحاوي من جواز الإجبار على الفداء، ليس كذلك، بل المذكور فيه: إنما هو جواز الفداء، فإنه قال: إذا فداه، فإن الورثة على حقوقهم. قوله: ولو أوصى لواحد بالنصف، ولآخر بالثلث، وأجاز الورثة، فالمسألة من ستة، لأن مخرج النصف والثلث من خمسة، فنعطي للموصى له بالنصف ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهمان، وسهم للوارث، فإن رد الزيادة على الثلث، فالثلث للموصى لهما، وهو سهم من ثلاثة، لا ينقسم على خمسة، فيضر مخرج الثلاث في مخرج الخمسة فيصير خمسة عشر، للموصى لهما خمسة، وللورثة عشرة. انتهى كلامه. وما ذكره من كون المسألة من ستة على تقدير الإجازة صحيح، وأما تعليله لذلك بأن مخرج النصف والثلث من خمسة، فتعليل فاسد ظاهر الفساد، بل إنما صارت ستة بضرب مخرج النصف، وهو اثنان في مخرج الثلث، وهو ثلاثة، وكان هذا تعليلًا لإعطاء الخمسة، فوقع تقديمه غلطًا. قوله: في الفروع الزائدة في آخر الكتاب: إذا أوصى لامة بولدها من غيره إن لم يخرج من الثلث وقبل الموصى له، عتقت عليه، وإن ردت بقيت للوارث، إلى آخره. وهذا التعبير الذي ذكره في تصوير المسألة تعبير فاسد، وصوابه: أن يقول أوصى بأمه لولدها من غيره.

باب العتق

باب العتق قوله: ((العتق في الشرع: إزالة ملك عن رقبة آدمي لا إلى مالك، تقربًا لله تعالى)). انتهى. وهذا الحد يرد عليه الوقف، فإن الملك فيه لله- تعالى- كما أن الحر كذلك، وأيضًا فالعتق هو الزوال، وأما الإزالة، فتفسير للإعتاق، لا للعتق، وقد ذكر بعد هذا أن عتق الكافر ليس بقربه، إلا أنه قد يجاب عن هذا: بأن الكافر قصد التقرب، وإن لم يصح له ما قصده. قوله: ومحل كون العتق قربة، إذا كان منجزًا، أما العتق المعلق فليس عقد قربة، وكذلك الإيصاء ليس بعقد قربة، بخلاف التدبير، حكاه الرافعي في كتاب الصداق في مسألة الرجوع بنصفه)). انتهى كلامه. واعلم: أن العتق حيث وقع، كان قربة بلا نزاع، سواء كان منجزًا أو معلقًا. والكلام الآن فيه، ولهذا فسره بقوله: إزالة ملك، وأما تعليق العتق، فهو الذي يمكن أن يقال فيه: إنه ليس قربة، وهو الذي صرح به الرافعي هناك، فإنه نقل عن الشيخ أبي محمد: أن تدبير العبد يمنع الرجوع في نصفه، بخلاف تعليق عتقه. ثم قال: وفرق بأن التدبير قربة محضة، وتعليق العتق ليس عقد قربة، وإنما يقصد به منع أو حث، هذه عبارته، وهو كلام مستقيم، فالتبس على المصنف تعليق العتق بالعتق المعلق. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن التعليق ليس قربة، بل القياس أن يأتي فيه ما قد قيل في النذر، وقد ذكرت ذلك في كتابنا المسمى بـ ((المهمات)) مبسوطًا، وجمعت فيه من كلام الأئمة ما لم يقع في غيره، ولم يخطر للناظر وقوعه، وحررت ذلك ونقحته، فليطالع منه. قوله: فرع: لو كانت أمته تسمى حرة، قبل جريان الرق عليها، فقال: لها يا حرة، على قصد النداء- لم تعتق، وإن أطلق، فوجهان، أشبههما: عدم العتق. انتهى كلامه. والذي ذكره- رحمه الله- غلط، سلم منه في شرح الوسيط، وسبب الغلط

الانتقال من كلام الرافعي من مسألة إلى مسألة، فإن الرافعي ذكر مسألتين فقال: ولو كانت أمته تسمى قبل جريان الرق عليها: حرة فقال لها: يا حرة، فإن لم يخطر له النداء باسمها القديم، عتقت لا محالة، وإن قصد نداءها به، فوجهان. ذهب القاضي الحسين، والغزالي: إلى أنها تعتق، لأن اللفظ صريح في بابه، وإن كان اسمها في الحال حرة، وقال: يا حرة، فإن قصد النداء لم تعتق، وإن أطلق فوجهان: أشبههما: أنها لا تعتق. انتهى كلامه ملخصًا. فأخذ المصنف تصوير المسألة الأولى وجواب الثانية وحذف ما بينهما، إما لانتقال نظره، وإما لغلط نسخته. وقد أهمل الرافعي والمصنف قسمًا ثالثًا وهو ما إذا لم يكن اسمها حرة، لكن قال: أنا أسميها بذلك. ثم قال: يا حرة، وقصد النداء، قال الغزالي: الظاهر أنها لا تعتق. قوله: لو قال لعبده: أعتقك الله، قال القاضي الحسين: لا يعتق، لأنه دعاء له بالإعتاق، ولو قال: الله أعتقك، فالظاهر أن هذا صريح في العتق. انتهى كلامه. اعلم: أن هذا التفصيل قد ذكره القاضي حسين في تعليقه في باب: تدبير الصبي الذي لا يعقل ولم يبلغ، وهو قبل باب الكتابة بقليل، وخالف ذلك في فتاويه، فنقل هذه التفرقة عن بعضهم، ونقل عن العبادي أنه يعتق فيهما. ثم قال: وعندي لا يعتق في الموضعين. هذا لفظه. قوله: فلو قال: آخر عبد من عبيدي يدخل الدار، فهو حر، فدخل واحد، ثم واحد، وهكذا لم يعتق واحد منهم ما دام الحالف حيًا، لجواز أن يدخل بعدهم غيرهم، فإذا مات، تبينًا عتق آخر من دخل منهم قبل موته، إذا كان موجودًا حين اليمين، فلو كان آخرهم دخولًا من لم يكن في ملكه حال اليمين، فالذي يظهر أن يقال: لا يعتق واحد منهم، لأن الموجودين لم توجد الصفة في واحد منهم، والذي وجدت الصفة فيه، لم يكن- حين التعليق- في ملكه، فلم يقع. انتهى كلامه. لقائل أن يقول: المتجه وقوع العتق على آخر من دخل ممن هو في ملكه حال التعليق، لأن اليمين لا ينعقد على من سيحلفهم، بل على الموجودين، والموجودون في ملكه قد علم دخول آخرهم. قوله في الكلام على السراية: ولو كان العتق، أي: عتق الشريك بصفة في حال مرض الموت أو موصى به، فالنظر في اليسار بقيمة الشريك، والإعسار بها بالنظر إلى الثلث دون جميع ماله. انتهى كلامه.

وما ذكره في العتق الواقع في المرض صحيح، لأن المريض كالصحيح في السراية عليه، وأما العتق الموصى به، فلا سراية فيه، كما جزم به قبل ذلك في الكلام على أن المعسر لا يسرى عليه، وعلله بأن التركة قد انتقلت إلى الورثة. نعم! ينبغي تصوير هذه المسألة، بما إذا أوصى بعتق نصفه، وأن يكمل من ثلثه، فإن ذلك يصير كالمستثنى من مال الورثة، فيكون موسرًا به على ما نقله هو عن الروياني هناك. قوله: فرع: إذا أعسر المعتق بعد يساره ... إلى آخره، هذا تفريع على قول الوقف، فاعلمه. قوله: ولو قال أعتقك نصفك، وكان يملك من العبد نصفه، فهل وقع العتق ابتداء على نصيبه بجملته، أو ينصرف على نصف العبد مشاعًا، فيقع العتق مباشرة على نصف نصفه، ثم يسري إلى الربع الآخر الذي يملكه لا غير، إن كان معسرًا، وإن كان موسرًا فإلى الجميع؟ فيه وجهان: قال الإمام: ولا يظهر لهذا الاختلاف فائدة، إلا أن يفرض تعليق عتاق أو طلاق على ذلك بأن يقول: إن أعتقت نصفي من هذا العبد، فامرأتي طالق. قلت: وقد يظهر له فائدة هذا الباب، وهو أن شريكه لو وكله في عتق نصفه، فإن قلنا: إن العتق يقع مثالها عتق جميع العبد على الموكل والوكيل، وإن قلنا: يقع على نصيبه، لم يعتق حصة الشريك. وقد حكى ابن الصباغ في هذه الصورة وجهين. أحدهما: أنه يتناول نصيب شريكه لا غير. والثاني: يعتق نصيب نفسه لا غير، لأنه لا يحتاج إلى نية. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن حاصل كلامه أنا إذا فرعنا على قول الإشاعة وكان موسرًا، أنه يعتق منه أولًا الربع، ثم يسري إلى الباقي مما يملكه وما لا يملكه جملة واحدة، وليس كذلك، بل قائل هذا الوجه يقول: تسري أولًا إلى ما في ملكه، ثم إلى ملك شريكه، كذا نقله الرافعي، فقال: وأما على الثاني فلأنه يعتق نصفه، وهو ربع العبد، ثم يسري باقي نصفه، ثم إلى نصيب الشريك. الأمر الثاني: أن كلامه يقتضي أنه لم يظهر له إلا هذه الفائدة، وليس كذلك بل من فوائده سؤال العتق، ولنقدم عليه مقدمة، وهي أن المرأة لو قالت: طلقني ثلاثًا ولك

ألف، فطلقها طلقة ونصفًا فهل يستحق ثلثي الألف لوقوع طلقتين، أو النصف خاصة، لأنه إنما أوقع نصف الثلاث، والتكميل حكم الشرع؟ فيه وجهان في كتاب الخلع من الرافعي من غير ترجيح، ورجح في الروضة من زوائده الوجه الثاني، وما ذكروه هناك يأتي بعينه- هاهنا- فإذا قال: اعتق النصف الذي لك على ألف، فأطلق إعتاق النصف، فإن قلنا: ينزل على نصيبه استحق، وإن قلنا: يكون شائعًا حتى لا يعتق أولًا إلا نصف نصيبه، ثم سرى، فالراجح أنه لا يستحق إلا نصف الألف كما تقدم، لأن الإعتاق على مال كالخلع على مال، كما قاله الرافعي في الفصل المعقود لذلك، وهو في آخر كتاب الظهار. ثم إن صورة المسألة ما إذا قال: أعتقته عنك، وكذا إن أطلق على ما صححه الرافعي في الظهار، فإن قال: عني: ففي سرايته خلاف، نقف عليه- إن شاء الله تعالى- قبيل التدبير. قوله: ولو قال: المعتق بين ثلاثة: لأحدهم نصفه، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتق صاحب الثلث والسدس حصتهما في وقت واحد، وهما موسران، سرى العتق إلى النصف الثاني عليهما. وفي كيفية التقويم قولان: أحدهما: أنه عليهما نصفين، والثاني على قدر الملكين. وبعض الأصحاب جزم بالأول، كالجراحات. ثم قال: وهذا ما أورده في المهذب، والشامل، والحاوي، وقال الرافعي: إنه أظهر، باتفاق فرق الأصحاب إلا الإمام، فإنه قال: ليس هذا كذلك، لأن الجراحات لها غور، وضبطها غير ممكن. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من الحصر ليس كذلك، فإن الرافعي قد نقل ذلك عن الإمام الغزالي، ولعل المصنف اعتمد على الروضة في النقل عن الرافعي، فإنه قد وقع فيها ذلك، واعلم: أن كلام المصنف يوهم أن فرق الأصحاب رجحوا التنصيف مع كونهم قائلين بالقولين، وليس كذلك، بل المراد اتفاقهم على القطع. قوله:- فيما إذا أعتق أحد عبديه أو إحدى أمتيه- ثم قال: فرع: إذا باع إحداهما أو وهبها أو أجرها، فهل يكون اختيارًا منه للملك في ذلك، أم لا؟ حكمه حكم الاستخدام، فإن قلنا: يكون اختيارًا، صح البيع، قاله القاضي الحسين، وكان يتجه أن يتخرج على الخلاف في نظير المسألة من بيع الأب ما وهبه لولده. انتهى كلامه.

وهذا البحث الذي ذكره- رحمه الله- قد نبه في حاشية هذا الكتاب على فساده، فقال: إن هذا التخريج لا وجه له، لأن الملك ثم قد زال، وهو يريد استرجاعه وقطعه بالبيع، واللفظ الواحد لا يصلح مملكًا وقاطعًا للملك، ولا كذلك هنا، فإن الملك دائم، فلا منافاة. هذا كلامه.

باب التدبير

باب التدبير قوله: التدبير في الشرع: اسم لتعليق عتق يقع على العبد بعد الموت. انتهى كلامه. وهذا الضابط يدخل فيه ما إذا قال: أنت حر بعد موتي بيوم، أو قال: إذا مت ومضى يوم أو شهر، فأنت حر ونحو ذلك مما علق على شرط بعد الموت، مع أنه ليس بتدبير، لا مطلق ولا مقيد، بل تعليق عتق. قالوا: ومتى علق العتق على صفة بعد الموت، خرج عن كونه تدبيرًا، كذا جزم به المصنف في موضعين من الكلام على التدبير المقيد، وهو بعد هذا تعليل، ونقله الرافعي عن الأكثرين، وحكى معه وجهين آخرين. أحدهما: أنه تدبير مقيد. والثاني: مطلق. قوله: والمفلس يصح تدبيره قولًا واحدًا. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف غريب، فإن الحجر على المفلس، هل يلتحق بحجر السفه في أحكامه، أو بحجر المرض؟ فيه قولان شهيران حكاهما المصنف في مواضع، ثم إنه قد خرج الوصية على هذا الخلاف، والتدبير وصية على قول، وقد أتى به الرافعي هنا على الصواب، فإنه حكى في باب التفليس هنا خلافًا في صحة إعتاقه، ثم قال هنا: إن تدبيره كإعتاقه. قوله: والكناية والتدبير أن يقول: إذا مت فأنت حر، أو: لا ملك لي عليك، وكنايات العتق كنايات في التدبير. انتهى كلامه. وما ذكره من كون اللفظ الأول كناية- غلط، بل هو صريح بلا خلاف، وممن جزم به الرافعي في الشرحين، والنووي في الروضة.

باب الكتابة

باب الكتابة قوله: ولا يستحب الكتابة إلا ممن عرف كسبه وأمانته. وقيل: إذا كان له دين وأمانة يستحب كتابته، وإن لم يكن كسوبًا، لأنه يدفع إليه من الصدقات. وقيل: يستحب كتابة الكسوب وإن لم يكن أمينًا، ولا نزاع في أن ذلك لا يكره. انتهى كلامه. وما أطلقه من الاتفاق على عدم الكراهة غير مستقيم، ففي الرافعي عن ابن القطان: أنها تكره عند فقط الشرطين. [أو]. قوله: وقد حكى القاضي حسين فيما إذا لم يكن مال الكتابة عام الوجود- وجهين، كالوجهين فيما إذا كاتبه على مال عظيم في نجمين يسيرين. وتظهر فائدة الوجهين- أيضًا- فيما إذا أسلم في مال عام الوجود، فانقطع، فإن قلنا: يجوز في هذه المسألة، لم ينفسخ العقد. وإن قلنا بمقابله، فكالمسلم فيه. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: فيما إذا أسلم في مال غلط، وصوابه: فيما إذا كانت على مال. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن كان عبدين اثنين فكاتباه، فأبرأه أحدهما عن حقه أو مات فأبراه أحد الوارثين عن حقه، عتق نصيبه، وقوم عليه نصيب شريكه في أحد القولين. ثم قال: فرع: لا يجوز للمكاتب أن يدفع لأحد الشريكين شيئًا، لم يدفع مثله للآخر في حال دفعه إليه، فإن أذن أحدهما في الدفع، ففيه قولان، فإن جوزنا فحصل العتق بالقبض، ففي تقويم نصيب شريكه عليه ثلاثة أوجه: ثالثها: أنه لا يقوم عليه في الحال، ويقوم بعد زوال الكتابة، ثم قال: ولو حصل القبض بالإجبار، فكذلك الحكم، لأنه مختار في عقد الكتابة. قلت: وكان يتجه أن يتخرج على خلاف ذكرناه فيما إذا ورث عينًا، فاطلع بها على عيب، وكان عوضها بعض من يعتق عليه، فرد المعيب، فعاد إليه القريب، هل يسري؟

وهذا لا يتقاعد عن أن يكون مثل ذلك. انتهى كلامه. وهذا البحث الذي ذكره باطل. قوله: إن مسألتنا لا تتقاعد عن مسألة الإرث عجيب، فإن سبب العتق هناك- وهو الرد- مختار فيه، وأما هاهنا، فالسبب الذي هو القبض مجبر عليه، فكيف يصح التخريج مع ذلك؟! وقد نبه عليه في حاشية الكتاب. وقال: إن هذا التخريج فاسد ظاهر الفساد. قوله في المسألة: نعم لو كان المجبر على القبض هو الوارث، فلا يسري العتق إليه اتفاقًا. صرح به الأصحاب. انتهى كلامه. وما نقله من الاتفاق غريب مردود، فقد جزم البغوي في التهذيب، والقاضي الحسين في التعليق: بأنه يجري في الوارث الوجهان اللذان في حد الشريكين، والغريب أن الرافعي قد نقل ما في التهذيب، ونقل عدم الخلاف عن الإمام خاصة، فكأن المصنف لم ينظر هنا غير النهاية، نعم تابع الغزالي إمامه، عليه. قوله: والأصح في جميع التبرعات التي ذكرها الشيخ، كالهبة، والكتابة وغيرها: جواز فعلها بالإذن، ثم قال: والقولان جاريان فيما إذا وهب من سيده شيئًا وأقبضه. وحكى الإمام عن شيخه، والعراقيين طريقة أخرى: بأنها تصح قولًا واحدًا، كما لو عجل له النجم الأول. انتهى كلامه. وهو صريح في نفي الخلاف في تعجيل النجوم، وليس كذلك، ففيه خلاف حكاه الرافعي في المسألة الرابعة من الحكم الثاني. وكلامه في الحكم الثالث في الفصل المعقود لتبرعات المكاتب- توهم ما وقع فيه المصنف. واعلم أن ما ذكره من تصحيح جواز الكتابة بالإذن ليس كذلك، بل الصحيح عند الأصحاب فيها المنع وأن حكمها حكم الإعتاق. قوله: ولا خلاف أن هذا القريب إذا جنى، ليس للسيد فداؤه كالشراء حرفا بحرف. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي قد نقل عن الإمام أنه حكى عن العراقيين أن ولد المكاتب من جاريته إذا كان له كسب، جاز للمكتب أن يفديه من كسبه، ثم خالفهم الإمام وصحح أنه لا يفدى، وعلله بما ذكره المصنف، وهو أن الفداء كالشراء، وشراء القريب ممتنع عليه، ولم يتعرض المصنف للكلام على فداء ولد الجارية، استغناءً عنه بما نقلناه عنه الآن، وهو فداؤه إذا ملكه بوصية أو هبة.

قوله: وقال في الوسيط: إن المكاتب إذا جن، وسلم المال إلى السيد، عتق، لأن فعل العبد ليس بشرط، بل إذا تعذر فعله، فللسيد أخذه. ثم قال: وهكذا أطلق الأصحاب واستشكل استقلال السيد بالأخذ عند إمكان مراجعة القاضي، والإشكال على مقتضى ذلك صحيح، وهو يطرد في حصول العتق بدفع المجنون، لأن فعله كلا فعل، وما في الذمة يشترط في مقبضه أن يكون ممن هو من أهله، كما تقدم في البيع. انتهى كلامه. واعلم أن الإشكال للإمام، وقد نقله الرافعي عنه، ودعوى المصنف أن الإشكال صحيح- ليس كذلك. ووجهه: أن المجنون في معنى الممتنع من أداء الدين، وقد صححوا أن الممتنع يجوز الأخذ من ماله بغير إذنه، وإن كان لصحابه عليه بينة. قوله: ولا يجب إلا بناء عقب الصفة بلا خلاف، ولو فعله لوقع الموقع، ويجب عند بعضهم وجوبًا مضيقًا بعد العتق ... إلى آخر كلامه. واعلم أن لم تقيد الوجوب الذي نفاه بالمضيق، فدل على إرادة النوعين، ويدل عليه أنه قد ذكر بعد هذا تفاصيل في وقت وجوبه الموسع والمضيق، ولم يذكر منها أنه يجب موسعًا من حين العقد، فدل ذلك أيضًا على ما أرده وما اقتضاه كلامه من نفي الأمرين. إذا علمت ذلك، فالذي ذكره غريب. فإن الصحيح أن وقت الوجوب الموسع، يدخل بالعقد. وقد صرح هو به في المطلب، ونقله عن نص الشافعي، وهو مقتضى كلام الرافعي. قوله: وإن حبس السيد المكاتب مدة، لزمه أجرة المثل في أصح القولين، لأن المنافع تضمن بالأجرة لا بالمثل، ويحبسه مثل تلك المدة في القول الآخر. ثم قال: والقولان جاريان فيما إذا حبسه سلطان أو ظالم أو مرض أو سبي. وحكى البندنيجي في موضع آخر فيما إذا سبي المكاتب- طريقين: أحدهما: جريان الخلاف. والثاني: القطع بالقول الثاني، إذ لا يقتصر. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من القطع بالثاني سهو، وصوابه القطع بالأول. وتعليله يدل عليه، وهكذا حكى الرافعي هذه الطريقة، وصححها على خلاف ما صححه المصنف، وجزم أيضًا- أعني: الرافعي- بأن الأجرة لابد منها، وحكى القولين مع ذلك في الأم، قال: على خلاف ما يقتضيه لفظ المصنف. قوله: فلو أخذ السيد المال مطلقًا، واختلفا في أن المقبوض عن النجوم أو عن

الأرش، فالقول قول المكاتب في تعيينه، كما في سائر المواضع. ذكره القفال. وقيل: يحتمل أن يكون القول قول السيد، قاله بعض الخراسانيين. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه إن لم يظفر بمن يقول بالرجوع إلى السيد فأبداه احتمالًا عن مجهول، وهو غريب، فقد حكى الرافعي عن الصيدلاني ذلك حتى إنه لم يصحح شيئًا، وصحح في الروضة من زوائده قول القفال.

باب عتق أم الولد

باب عتق أم الولد قوله: وفي تزويجها ثلاثة أقوال: أصحها: أنه يجوز. والثاني: لا يجوز مطلقًا. ثم قال: والثالث يجوز له برضاها، لأنه ثبت لها حق الحرية بسببها، لا يملك السيد إبطاله، فلا يملك تزويجها بدون إذنها، لما فيه من الإضرار بها بعد العتق، وتملكه بإذنها كالمكاتبة. وهذا ما اختاره في المرشد، وهو القديم. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من أن هذا القول قديم ليس كذلك، بل هو المنصوص عليه في الأم لا غير. فقال: وليس له أن يزوجها وهي كارهة. هذا لفظه.

باب الولاء

باب الولاء قوله: قال الشيخ: ومن عتق عليه مملوك بملك، أو بإعتاق ... إلى آخره. ثم قال: وقول الشيخ: بملك، يقال: (بكسر الميم وفتحها)، قال أهل اللغة: ملكت الشيء أملكه ملكًا بكسر الميم، وهو ملك يميني بفتح الميم وكسرها، والفتح أفصح كما قاله ابن قتيبة والجوهري وغيرهما. انتهى كلامه. واعلم أن هذا الكلام ذكره النووي في لغات التنبيه، فأخذه منه المصنف، والنقل الذي نقله عن الجوهري وغيره، وهو أن الملك المطلق- بكسر الميم-، والمقيد باليمين، فيه وجهان: أفصحهما الفتح نقل صحيح، لكن الملك في كلام الشيخ ليس مقيدًا باليمين، حتى يقول فيه ما قال. قوله: ثم الأحكام الثابتة بسبب الولاء كما قاله الروياني وغيره- ثلاثة: الميراث، والولاية في النكاح، والصلاة على الميت والعقل. انتهى كلامه. ويرد على هذا الحصر التقديم في غسل الميت، وفي دفنه أيضًا، وإما عبر بثلاث مع كونه قد ذكر أربعًا، لأنه جعل النكاح والصلاة نوعًا واحدًا، وهو الولاية. قوله في آخر الباب: قال- يعني: القاضي حسين-: نص الشافعي على أن المرأة إذا أعتقت أمةً، زوجها أبوها بسبب عصوبة الولاء، ونص فيما إذا أعتق رجل أمته، فمات المعتق وخلف ابنًا صغيرًا، وللابن الصغير جد، أنه ليس للجد أن يزوج الأمة المعتقة، قال: وفرق القفال بينهما أن في مسألة المعتقة قد وقع الإياس عن ثبوت الولاية لها، فجعلت كالمعدومة، فانتقلت الولاية إلى أبيها، وفي تلك المسألة لم يقع الإياس بثبوت الولاية للابن الصغير. انتهى كلامه. واعلم أنا قبل الخوض في المقصود ننقل كلام القاضي المشار إليه، وقد ذكره قبل كتاب التدبير بنحو ورقة، فقال فيما إذا أعتق الكافر عبدًا مسلمًا ما نصه: ولو مات العتيق والمعتق حي، وهو كافر، وله ابن مسلم، فإن ميراثه لبيت المال، ولا يكون لابنه المسلم، وكذلك لو أن المعتق قتل العتيق، وللمعتق ابن مسلم لا يرثه المعتق، لأنه قاتل، ولا يرثه ابنه بخلاف النسب، لو قتل رجل ولده، وللقائل ولد، فإن القاتل لا

يرث المقتول، ولكن يرثه ابنه وهو أخو القتيل، والفرق بينهما: أن في باب النسب الأخوة ثابتة بين الأخ والمقتول، فلهذا قلنا بأنه يرثه، وأما في باب الولاء، فيستفيد الولاء بموت الأب، فما دام الأب حيًا، لا يثبت له الولاء، وهكذا لو استرق المعتق، وله ابن مسلم، ثم مات عتيقه، فإن ميراثه لبيت المال، ولا يكون لابنه، وهكذا نقول في التزويج لو أن كافرًا أعتق أمة مسلمة، وللمعتق أب مسلم أو أخ أو ابن، فإن ولاية التزويج إلى الحاكم، لا إلى أب المعتقة، والفرق بينهما ما ذكرناه فالزم. مسألة: فقالوا لو أن امرأة أعتقت أمة، وللمعتقة أب، فإن أباها يزوج المعتقة. هكذا نص الشافعي- رحمه الله- فنقل الولاية إلى ابنها بسبب عصوبة الولاء. ولو أن رجلًا أعتق أمة، فمات المعتق، وخلف ابنًا صغيرًا، وللابن الصغير جد، قال: ليس للجد أن يزوج الأمة العتيقة. فقيل له: ما الفرق بين هذه المسألة وبين الأولى حيث قال: ليس للجد أن يزوج الأمة العتيقة. فقيل له: ما الفرق بين هذه المسألة وبين الأولى حيث قال الشافعي: لأبي المعتقة أن يزوج عتيقها؟ قال: الفرق بينهما أن في مسألة المعتقة قد وقع الإياس عن ثبوت الولاية لها بالولاء، فجعلت كالمعدومة، فانتقلت الولاية إلى أبيها. وفي تلك المسألة لم يقع الإياس بثبوت الولاية للابن الصغير بالولاء عند البلوغ، فلهذا افترقا. هذا كلام القاضي حسين بحروفه. وقد تحرر منه أن المانع في النسب نقل الإرث وولاية النكاح إلى الأبعد، وهو واضح، وأنه لا ينقلها في الولاء، بل يثبتان معًا للمسلمين على / 206 أما ذكره القاضي، ولم ينص الرافعي على مسألة النكاح بالنسبة إلى الولاء، ولكن إطلاقه يقتضي الانتقال إلى الأبعد كما في النسب، وأما مسألة الإرث، فصرح بها، وجزم بانتقال المال إلى الأبعد كما في الإرث بالنسب. ذكر ذلك قبيل ((باب الرجوع عن الوصية)) بنحو ورقتين، فقال فيما إذا قتل السيد عتيقه ما نصه: ولا يرث السيد من ديته، لأنه قاتل، بل إن كان له وارث أقرب من سيده، فهي له، وإلا فلأقرب عصبات السيد، هذا كلامه. وقد نقله أيضًا المصنف عنه، فعلم به القول بذلك في التزويج أيضًا، لأنهما متلازمان كما سبق. وأما قول المصنف: إن الفرق للقفال، فليس للقفال ذكر في هذا الكلام الذي نقله ولا في الكلام الذي قبله أيضًا، فقد تأملت الفصل جميعه، فعلم أنه للقاضي، وأن المعبر بهذه اللفظة هو المعلق عنه هذه التعليقة. وأما قوله: إن مسألة التزويج قد نقلها القاضي عن النص، فليس كذلك، بل

المنقول عن النص: إنما هي المسألة الأولى، وهي التزويج في حياة المعتقة، وهي واضحة لا شك فيها. وأما الأخرى التي هي محل النظر، فلم يصرح بنقلها عن الشافعي، وإنما وقع التعبير بلفظ قال، وهو أيضًا عائد إلى القاضي، وحاصله أن المعلق أعاد مسألة نظير النص وأفردها بالذكر، لأن القاضي قائل بها، وسائر نظائرها، ويدل عليه أنه وقع في الكلام الذي نقلناه عن القاضي التعبير بقوله: فألزم مسألة ... إلى آخره، فدل على أنهم استغربوا كلامه، وتوقفوا فيه، ولو كان النقل في تلك عن الشافعي، لكان الإلزام إنما هو عن الشافعي، وليس كذلك. ويؤيده أنه لم ينقله قبل ذلك عند ذكره لهذه المسائل. والتفرقة بينها وبين نظيرها من الميراث، ومن تأمل، قطع بما ذكرناه. والحاصل أن القاضي قائل بذلك، والرافعي جازم بخلافه فاعلمه. وهذا الذي ذكره المصنف في هذا الباب قد ذكر مثله في باب العاقلة. نعم، نقل الرافعي في باب العاقلة عن الأئمة كلامًا حاصله: الجزم بأنه لا يزوج وهو الصواب. وسوف أذكر المسالة هناك مبسوطة.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض قوله: في باب ميراث العصبة: ولا يشارك أحد منهم أهل الفرض في فرضهم، إلا في مسألة المشركة، وهي زوج وأم أو جدة وابنان من ولد الأم وولد الأب والأم، فيجعل للزوج النصف، وللأم أو الجدة السدس، ولولد الأم الثلث، يشاركهم فيه ولد الأب والأم، لاشتراكهم في الرحم، ولو كان ولد الأب والأم أنثى لم يكن مشركة، لأن الواجب يفرض لها في هذه الحالة، لعدم من يحجبها، وتكون المسألة عائلة بنصفها إلى تسعة. ثم قال: فرع: لو كان ولد الأب والأم خنثى مشكلًا، فعلى تقدير أن يكون ذكرًا فالمسألة من ستة، ولا عول فيها، لكن نصيب أولاد الأم سهمان، وهم ثلاثة لا ينقسم عليهم، ولا وفق لذلك، فيضرب مخرج الكسر وهو ثلاثة في أصل المسألة تبلغ ثمانية عشر، وعلى تقدير كونه أنثى تكون من ستة أيضًا، لكن تعول إلى تسعة. ثم بين المسألة الأولى والثانية موافقة بالثلث، فاضرب جزءًا والوفق من إحداهما في كامل الآخر تبلغ أربعة وخمسين، فالزوج والأم ... إلى آخر ما قاله وما ذكره- رحمه الله- من أن بين المسألتين موافقة بالثلث غلط واضح، بل التسعة داخلة في الثمانية عشر، لأن الثمانية تفي بالتسعة مرتين، فيكتفي بها- أعني: الثمانية عشر، وتصح المسألة منها. وأما تصحيحه إياها من أربعة وخمسين فغلط، وكذلك كل ما ترتب عليه من القسمة.

كتاب النكاح

كتاب النكاح قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم: ((فاظفر بذات الدين، ترتب يداك))، أي: افتقرتن إن خالفت أمري [في ذلك]، لأن ترب بمعنى افتقر، وأترب بمعنى استغنى. ونقل الجيلى عن بعضهم: أن ترب هنا بمعنى استغنى، وأن ترب وأترب بمعنى واحد. انتهى. واقتصاره في هذا النقل على الشرح المذكور يوهم عدم ثبوت هذا النقل، ولاسيما وقد وقع فيه شيء غريب، وهو أن الجيلي قد نقله عن كتاب ((فعلت وأفعلت)) للزجاج، فقال: قال الزجاج في كتاب فعلت وأفعلت: تربت يداك استغنت، وجعل ترب وأترب بمعنى واحد. هذا كلام الجيلى. وقد صرح- أعني: الزجاج- في الكتاب المذكور، بعكس ذلك فقال: باب التاء من ((فعلت وأفعلت))، والمعنى مختلف يقال: ترب الرجل، إذا افتقر، وأترب إذا استغنى. هذه عبارته إذا علمت ذلك، فقد نقل أن ترب بمعنى استغنى، جماعة منهم: القاضي عياض في ((مشارق الأنوار))، والماوردي في كتاب ((الصداق)) من ((الحاوي))، والعمراني في ((البيان)) هنا. ولما تكلم القرطبي في شرح مسلم على ((تربت يمينك))، قال- وقد أحسن البديع في بعض رسائله- فقال: وقد تووحش اللفظ، وكله ورد، ويكره الشيء وما من فعله بد، هذه العرب تقول للشيء إذا أهتم: قاتله الله، ولا أب له، ولا يريدون به الذم، وويل أمة للأمر إذا تم، وللألباب في هذا الباب: أن تنظر إلى القول وقائله، فإن كان وليًا، فهو الولاء، وإن وحش وإن كان عدوًا، فهو البلاء وإن حسن. قوله: ولو تزوج السفيه من غير مراجعة الولي، لم يصح، وقال الجيلي: على الأصح: وذلك يدل على ذكر خلاف فيه، ولم أره في غيره. فلو دخل بها فلا حد، ولا يجب المهر- على الأصح- سواء كانت عالمة أو لم تكن، لأنه مفرطة بعدم البحث، كمن باع من مفلس. انتهى كلامه. فيه أمران:

أحدهما: أن ما أطلقه من عدم وجوب المهر، قد أطلقه أيضًا الرافعي، والنووي في الروضة، ومحله إذا كانت المرأة رشيدة، فإن كانت سفيهة- أيضًا- وجب، لأن رضاها بذلك لاغ، كذا نبه عليه النووي في ((فتاويه))، وهو ظاهر، يؤيده ما إذا اشترى السفيه من سفيه آخر، وقبض المبيع وأتلفه، فإن الضمان يجب عليه، ومثله: لو كانت رشيدة، لكن وطئها نائمة، أو مجنونة، أو مكرهة. وقد نبه عليه المصنف في نظير المسألة، وهو ما إذا تزوج العبد بغير إذن سيده، ووطئ، وحكى خلافًا فيما إذا كانت أمة، لأن الحق لغيرها، ويتجه جريانه هنا. الأمر الثاني: أن تعبيره في آخر كلامه بالمفلس غلط، فإن البائع من المفلس يجب له عليه الثمن بلا نزاع، واختلفوا في مزاحمته للغرماء. والصواب: أن يعبر بقوله من سفيه. قوله: أما إذا كان بين البكر وبين أبيها عداوة، فقال ابن كج في كتابه: ليس له إجبارها على النكاح، هكذا نقله الحناطي عن ابن المرزبان، ثم قال: ويحتمل جوازه. وحكى الحناطي فيه وجهين. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية الحناطي للوجهين غلط، فإن المصنف اعتمد على الرافعي في النقل المتقدم جميعه، فغنه مذكور فيه بلفظه، وليس فيه حكاية هذين الوجهين عن الحناطي، وأيضًا فإنه- أعني: المصنف- لم يقف على كتاب ابن كج ولا كتاب الحناطي. وأيضًا فإن قول الحناطي: يحتمل جوازه مناف لنقله للوجهين، وبالجملة فالوجهان ذكرهما الجيلي، شارح ((التنبيه))، فانتقل ذهن المصنف منه إلى الحناطي، أو سبق قلمه أو تحرف عليه في النقل من مسودته. واعلم: أن الماوردي قد جزم في الحاوي بما حاصله جواز الإجبار، وتبعه عليه الروياني في البحر، وبه يحصل الوجهان في المسألة، فاعلمه، فإن كلام الرافعي يقتضي أنه لم يظفر فيه بخلاف. قوله: فرع: لو قالت: وكلته بتزويجي. قاله الرافعي: فالذين لقيناهم من الأئمة لا يعتدون به إذنًا، لأن توكيل المرأة في النكاح باطل، ويجوز أن يعتد به إذنًا، لم ذكرنا في الوكالة أنها إذا فسدت، فالأصح أنه ينفذ التصرف بحكم الإذن. انتهى كلامه. البحث الذي ذكره في آخره هو ن تتمة كلام الرافعي، ومتابعة المصنف عليه

تشعر بعدم وقوفه على نقل يوافق ذلك، وهو عجيب، فقد نص الشافعي على المسألة وصرح بحصول الإذن به، كذا نقله عنه صاحب البيان. وأعجب من ذلك أن النووي قد صرح به أيضًا في الروضة، فقال: هذا عجيب من الإمام الرافعي. والمسألة منصوصة للشافعي. قال صاحب البيان: يجوز للمرأة أن تأذن لوليها غير المجبر بلفظ الإذن، ويجوز بلفظ الوكالة، نص عليه الشافعي- رضي الله عنه- لأن المعنى فيهما واحد، فهذا هو الصواب نقلًا ودليلًا. هذا كلام الروضة، وصرح بالمسالة- أيضًا- البغوي في فتاويه، وجزم بالبطلان على وفق ما يقتضيه نقل الرافعي، فقال: ((إذا جاء رجل إلى القاضي، وقال: إن فلانة قد أذنت لك في تزويجها مني، واعتمد القاضي على كلامه، جاز له تزويجها منه، فإن اتهمه، لم يجز، ولو قال: وكلتك، فلا يصح منها التوكيل)). هذه عبارته، والصواب الأول. قوله: ((فلو بلغت عاقلة ثم جنت، فهل يزوجها الأب والجد؟)) قال مجلي: وهو في الوسيط: ((فيه وجهان مرتبان على قولنا: إن ولاية المال لا تعود. ثم قال: وقال في ((التتمة)): يزوجها الأب بلا خلاف، ولكن إذا قلنا بعدم ولاية المال، فهل تنفرد أو يحتاج إلى إذن السلطان؟ فيه وجهان)). انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((التتمة)) غلط، فإنه لم يجعل الوجهين مفرعين على عدم ولاية المال، كما نقله عن المصنف، بل جعل الوجهين مفرعين على الوجهين، فقال في فصل بيان الأولياء في المسألة السادسة منه ما نصه: (فأما إذا بلغت عاقلة ثم جنت، فتزويجها إلى الأب بلا خلاف، ولكن هل تنفرد به أم لا؟ فعلى وجهين بناء على أصل، وهو أن الولاية في مالها إلى من تعود؟ فيه وجهان: أحدهما: إلى الأب، فعلى هذا ينفرد الأب بتزويجها، كما لو بلغت مجنونة. والثاني: أن الولاية في مالها تكون للسلطان، فعلى هذا، الأب، يزوجها بإذن السلطان. هذا كلامه. قوله: ولا يصح نكاح المرأة إلا بولي ذكر، أي: ليس خنثى [مشكل]. ثم قال: فروع: إذا زال إشكال الخنثى، هل يملك التزويج؟ قال في البحر: ينظر إن زال بقوله: أنا أميل إلى النساء، فلا، لأنه وإن قبل في حق

نفسه حتى يتزوج امرأة لا يقبل على غيره. وإن زال الإشكال بأمارات لا يرتاب فيها، فله الولاية. انتهى كلامه. وما نقله عن الروياني في ((البحر))، من عدم القبول إذا زال الإشكال بقوله: أنا أميل، غلط، ليس له ذكر في البحر، بل فيه الجزم بعكس ذلك، فقال في الكلام عن إخباره بالميل، وهل يقبل فيما يتهم من الولاية والميراث؟ قولان: أحدهما: لا يقبل، لتهمته فيه. والمشهور في أكثر كتبه: أنه يقبل، لأن الأحكام لا تتعبض. هذه عبارته، ذكر ذلك في أبواب النكاح قبيل باب الاختيار. قوله: حكى في الذخائر: أن المرأة إذا لم يكن لها ولي، وكانت في موضع لا حاكم فيه- ففيه وجهان: أحدهما: تزوج نفسها للضرورة. والثاني: ترد أمرها إلى رجل يزوجها. وفي البحر حكاية وجه: أنها تصبر إلى أن تجد وليًا، كما لو فقدت الشهود. قال الشاشي: وكان الشيخ أبو إسحاق- يعني: الشيرازي- يختار في مثل هذا أن يحكم فقيهًا من أهل الاجتهاد في ذلك، بناء على التحكيم في النكاح، وقد كان شيخنا يرى ذلك، ويفتى به. وقال الشيخ أبو المعالي الجويني: هذا البناء لا يصح، لأن هناك جعلاه حكمًا فيه خاصة، وهذه ولاية ممن لا يستحقها، فافترقا. انتهى كلامه. واعلم: أن أبا المعالي الجويني هو إمام الحرمين، وليس ما نقله عنه مذكورًا في النهاية بالكلية، وراجعت أيضًا كلام الشاشي في المعتمد، وفي الحلية أيضًا، فلم أر ذلك مذكورًا فيهما. نعم: هذا الكلام بعينه رأيته مذكورًا في الذخائر للقاضي مجلي عقب كلام الشاشي وكتبه صاحب الذخائر أبو المعالي أيضًا، فذكر في بعضها: قال الشيخ، أيده الله تعالى، كما وقع ذلك في التنبيه في بعض المواضع، ويراد به مصنف الكتاب، وفي بعضها قال الشيخ أبو المعالي فوقف عليه المصنف، فتوهم أن المراد بأبي المعالي هو إمام الحرمين، فصرح به مغترًا بالجويني هنا، وفي شرح الوسيط: فوقع في الغلط. قوله: فإن خرج الولي عن أن يكون وليًا، انتقلت الولاية إلى من بعده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -

بعث عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، فزوج له أم حبيبة بنت أبي سفيان، زوجها الوليد بن سعيد بن العاص، فكان ابن عمها، لأن أباها كان كافرًا حيً. قاله البغوي. انتهى كلامه. واعلم: أن أم حبيبة- رضي الله عنها- وهي بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن قصي- كانت متزوجة بعبد الله بن جحش، فأسلما، وهاجرا إلى الحبشة مع من هاجر، ثم إن عبد الله المذكور تنصر هناك، ومات نصرانيًا، فلما انقضت عدتها، بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، فزوج بها له، وكان ولي نكاحها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن قصي، وكان أيضًا قد أسلم وهاجر، وكان أبوها أبو سفيان إذ ذاك مشركًا، وأصدقها النحاشي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعمائة دينار، وهي أربعة آلاف درهم. وهذا كله ثابت مشهور في كتب السير والأحاديث، وإذا علمت ذلك، علمت أن في كلام المصنف أمرين: أحدهما: دعواه أن الولي العاقد هو الوليد بن سعيد، وهو غلط محض في نفسه، وعلى البغوي أيضًا، بل صوابه- وهو المذكور في التهذيب، إنما هو خالد بن سعيد. الأمر الثاني: أن كلامه يوهم أن العاقد هو ابن عم أم حبيبة على الحقيقة، وقد ظهر لك مما ذكرناه أن أباه ابن عم أبيها، والله أعلم. قوله: فرع: هل يجب على الحاكم طلب البينة بعدم حضور الولي، وخلوها عن النكاح والعدة، أم يستحب؟ فيه وجهان. فإن قلنا: لا يجب، فلو ألحت في المطالبة، ورأي السلطان التأخير، هل له ذلك؟ حكى الإمام فيه وجهين عن الأصوليين. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه، ذكره الرافعي فأخذه المصنف منه، وهو يقتضي أن هذين الوجهين لأصحابنا، وأن الأصوليين نقلوهما، ولهذا اغتر النووي بذلك في الروضة، فأطلق حكاية وجهين، ولم يتعرض للنقل عن الأصوليين بالكلية، وهذا كله غلط. فإن الإمام- لما ذكرنا أنها إذا سألت ذلك وألحت- قال ما نصه: وهذا لا ينتهي إليه كلام الفقهاء، وهو من محض أحكام الإمامة، وقد اختلف أرباب الأصول فيه، فذهب، وروينا في الأصول على أنها تجاب، وأقصى ما يمكن السلطان منه، أن يستمهلها، فإن أبت أجابها. وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني إلى أن القاضي لا يجيبها إن رأى ذلك، ويقول:

لا تجب علي إجابتك ما لم أحتط. هذا لفظ الإمام بحروفه، وقد اتضح أن أحد القائلين هو القاضي أبو بكر، وهو من المالكية، والظاهر أن الآخر هو الشيخ أبو الحسن الأشعري، وحينئذ فليست المسألة ذات وجهين. قوله: وجريان الرق في الأمهات. قال الرافعي: يشبه أن يكون أيضًا مؤثرًا، ولذلك تعلق به الولاء. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنهما لم يظفرا بنقل في المسألة وهو عجيب، فقد صرح البيان بالمسألة، وجزم بأنه كفء. ونقله عنه في الروضة، وقال: إنه المفهوم من كلام الأصحاب. قوله: ووجه ذلك أن الأصحاب أطبقوا على أن المرأة لو أذنت لوليها في أن يزوجها من معين، فزوجها مدة، ثم ظفر انه غير كفء، فلا خيار لها بخلاف ما إذا خرج معيبا وقد حكم ذلك الإمام. انتهى كلامه. وما ذكره من إطباق الأصحاب وقع في النهاية، فقلده فيه المصنف، وليس كذلك، فقد خالف فيه البغوي، فجزم في فتاويه بثبوت الخيار. قوله: قال الرافعي: واعلم أن الحرف الدنية في الآباء والاشتهار بالفسق مما يتعير به الولد، فيشبه أن يكون حال الذي كان أبوه صاحب حرف دنية، أو مشهور بالفسق مع التي أبوها عدل كما ذكرنا في حق من أسلم بنفسه مع التي أبوها مسلم. انتهى. وما ذكره الرافعي بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، وتابعه عليه المصنف، قد جزم الهروي في ((الإشراف)) بخلافه، فقال: إن ذلك لا يؤثر، وجعل ابن المعيب كابن الأبرص ونحوه. مثله أيضًا ذكر في الورقة الأخيرة من الكتاب المذكور. قوله: ولو قال: زوجتك هذه فلانة، وسماها بغير اسمها، فالأصح في التتمة الصحة. والمحكى في الإبانة عن المذهب خلافه، وهو الذي جزم به في التهذيب والشامل. وفي المهذب: جزم بالصحة فيما إذا قال: زوجتك هذه فلانة. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإبانة والتهذيب، والشامل غلط، أما الإبانة فالصحيح فيها الصحة، فإنه قال: في الباب الثالث في حكم التزويج: ولو أخطأ في التسمية، فقال: زوجني بنتك فاطمة، وكان اسمها عائشة، فقال: زوجتك، لم يصح إلا أن يشير إليها، فيقول فاطمة هذه، فعلى وجهين، الصحيح بناء على أنه لو قال: بعت منك هذا

البغل فإذا هو فرس، هذا لفظه. وأما التهذيب، والشامل فإن فيهما الجزم بالصحة، فأما البغوي فقال: ولو قال: زوجتك فاطمة ولم يقل ابنتي، وله ابنة واحدة، لم يصح، لأنه لم يميز ابنته من غيرها. فإن نوها جاز، ولو قال: زوجتك ابنتي فاطمة، وله بنت واحدة اسمها عائشة، يصح، لأن قوله ابنتي صفة لازمة لا تتعدى، فاعتباره أولى من اعتبار الاسم الذي يتعدى. وقيل: لا يصح، والأول أصح، كما لو أشار إليها فقال: زوجتك هذه فاطمة، وكان اسمها عائشة صح، لأن الإشارة ألزم، فالخطأ في الاسم لا يضر. هذا كلامه. والمسألة التي ذكرها آخرًا هي مسألتنا، وقد ظهر لك أن البغوي جزم فيها بالصحة على عكس ما قاله المصنف. وذكر في الشامل أيضًا نحوه، وكأنه غلط، فأجاب بالحكم الذي ذكره البغوي أولًا، وقد ذكر مثله في الشامل. قوله: وإن كان الكلام، أي الفاصل بين الإيجاب والقبول يسيرًا أجنبيًا عن العقد، فهل يمنع ذلك صحة العقد؟ فيه وجهان منقولان في النهاية عند الكلام في الخطبة. وقال الرافعي عند الكلام في الاستثناء في الطلاق: إن الأصح أنه لا يقطع الاتصال. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الرافعي سهو، فإنه لم يصحح هناك شيئًا منهما، وإنما نقل التصحيح عن الإمام، بل قد حكى الرافعي الوجهين في هذا الباب في الكلام على الخطبة، وهو قبيل الكلام على أركان النكاح، وصحح منهما عدم الصحة. قوله: ولو قال: أنكحتك، فقال: رضيت نكاحها، حكى الوزير ابن هبيرة أنه يصح، ولم أره لغيره. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن كلامه يشعر بأن الوزير المذكور الشافعي، وليس كذلك، بل هو حنبلي المذهب، واسمه يحيي، ويلقب بعون الدين، صنف كتبًا كثيرة في علوم متعددة، وغالبها فيما يتعلق بالحديث، ومنها: تصنيف مشهور قريب من حجم التنبيه فيما اتفقت عليه الأئمة الأربعة، وهو الكتاب الذي نقل المصنف منه هذه المسألة. ولد- رحمه الله- بقرية من قرى بغداد، وتوفي ببغداد فجأة سنة ستين وخمسمائة. عن أربعة وستين سنة، وأقام في الوزارة نحو سبع عشرة سنة، ذكره ابن خلكان في تاريخه.

والمصنف مع ما اتصف به من جلالة القدر في المذهب، كان قليل المعرفة بالأصحاب وبالتصانيف. الأمر الثاني: أن كلامه يشعر بأن ابن هبيرة هو القائل بذلك، وقد راجعت كلامه فوجدته قد نقلها عن الشافعي، فاعلمه. الثالث: أن الإمام قد ذكر المسألة في النهاية في فصل، أوله قال: ولو زوجها الولي، ذكر ذلك في سياق النكاح والبيع جميعًا، إلا أن مثل بالبيع. ثم قال: ولا يبعد انعقاد البيع به، ولم يذكر نقلًا يخالف ذلك. قوله: وإذا كان الراغب فيمن لا ولي لها هو القاضي، زوجها به من فوقه من الولاة، أو يخرج إلى قاضي بلد آخر ليزوجها به أو يستخلف خليفة إن كان الاستخلاف جائزًا له. كذا قاله الغزالي. وفي الشامل في جواز قبوله من خليفته وجهان، المذهب ألا يجوز. انتهى. وهذا الخلاف الذي حكاه عن الشامل ليس له ذكر فيه في هذا الباب. قوله: نقلًا عن الشيخ: فإن كانت الزوجة أمة، فالأولى ألا يعزل عنها، لما روى مسلم عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة، قالت: سئل - صلى الله عليه وسلم - عن العزل فقال: ((هو الوأد الخفي))، ثم تلا قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9]. ومراد الشيخ بعدم الأولوية هو الكراهة، فإنه صرح به في المهذب. وقطع الخراسانيون بأنه لا يكره، ولم يحك الشاشي سواه. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الشاشي جازمًا بعدم كراهته غلط، فقد جزم بالكراهة في كتبه الثلاث وهي: المعتمد والحلية والترغيب، وموضع المسألة في هذه الكتب هو كتاب القسم بين الزوجات، فاعلمه. وأما كتابه المسمى بالعمدة، فلم يتعرض فيه للمسألة بالكلية. تنبيه: جدامة- بالجيم والدال المهملة والميم- ومن ذكرها بالمعجمة فقد صحف، كذا قاله الدارقطني قال: وهي أخت عكاشة من أمه. والمراد: دفن البنات بالحياة. قوله: وإن كانت حرة، لم يجز إلا بإذنها. قال في التتمة: وهو ظاهر المذهب. وقال الرافعي: إنه أظهر الطريقين.

وقيل: يجوز من غير إذنها، وهو الأصح في النووي، وما نقله- رحمه الله- عن الرافعي من تصحيح المنع بغير إذنها غلط، فإن حاصل ما في الرافعي أنه يجوز بالإذن، وكذلك بدونه في أصح الوجهين عند الغزالي، ولم يذكر نقلًا آخر يخالفه بالكلية، ثم إن النووي لما اختصر ذلك، أطلق تصحيح الجواز على عادته، ولم ينسبه إلى الغزالي، ولم يتعرض أعني الرافعي للمسألة في المحرر، ولا في الشرح الصغير. وقد عبر المصنف عن الروضة بالنووي، كما يعبرون عن شرح الوجيز بالرافعي. قوله: ولا خلاف على المشهور في جواز العزل في أمة نفسه. انتهى. اعلم أنه وقع- أيضًا- في الرافعي والروضة، أنه لا خلاف في الجواز. والظاهر أن المصنف أراده، وكانه أشار بالمشهور إلى ما ذكره أولًا، وإذا تقرر هذا، فقد حكى الروياني في البحر وجهًا أن ذلك لا يجوز فيها أيضًا فاعلمه.

باب ما يحرم من النكاح

باب ما يحرم من النكاح قوله: ويزول الإشكال باختيار الخنثى الذكورة أو الأنوثة عند فقد العلامات على المشهور. وفي الحاوي في باب الحضانة: أنه لو أخبر عن اختياره بأنه رجل أو امرأة، عمل على قوله في سقوط الحضانة، وهل يعمل على قول في استحقاقها؟ فيه وجهان، ووجه عدم القبول التهمة. قلت: ومقتضى هذا أن يجري هذا الوجه في جميع ما يترتب له على اختيار الذكورة أو الأنوثة. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن الأصحاب لم يطردوا الوجه المذكور في جميع ماله، وهو غريب. فقد صرح إمام الحرمين والماوردي والروياني وخلائق بطرده في كل ما يترتب له حتى الرافعي، فإنه صرح في الجنايات باطراده فيما إذا ادعى الذكورية، وطلب دية الذكر أو القصاص فيه، وصرح في الفرائض باطراده فيما إذا ادعى أنه ذكر، وطلب إرث الذكور، وكان أزيد من إرث الإناث، وفي غير ذلك من الصور، وقد صرح النووي في التحقيق وغيره بجريان الخلاف في كل ما يتهم فيه، وجعلها قاعدة عامة. قوله: ولو لم ترض الحرة التي وجدها إلا بأكثر من مهر المثل، وهو يجده. قال في الإبانة حكاية عن القفال، وفي الزوائد حكاية عن الطبري، وفي الرافعي عن البغوي: أنه لا ينكح الأمة، وطردوا ذلك عنهم فيما لو وجد الرقبة في الكفارة بثمن غال، فإنه لا يجوز له أن يكفر بالصوم. وقال في التتمة: له أن ينكح الأمة كما في التيمم إذا لم يجد الماء إلا بأكثر من ثمن المثل، فإنه يجوز له أن يتيمم. وتوسط الإمام والغزالي فقالا: إن كانت المغالاة بقدر كبير يعد بذله إسرافًا، فله نكاح الأمة، وإلا فلا. والفرق بينه وبين التيمم: أن الحاجة على الماء تتكرر، فيحصل الضرر بخلاف النكاح، ولأن النكاح يتعلق به أغراض كلية، فلا يعد باذل المال في مثلها مغبونًا.

قال في البسيط: وهذا منشؤه أمر، وهو أن نقصان الولي من مهر المثل في حق الطفلة، والزيادة في حق الطفل مهما كان إلى حد يقدر غرض في المواصلة، ويجعله الولي وسيلة إليها، فهو محتمل، وما انتهى إلى حد الإسراف فهو ممنوع. واعلم أن ما ذكره عن صاحب التهذيب لم أر كلامه في التهذيب مصرحًا به ولا مشيرًا إليه، لأنه فرض المسألة فيما إذا كان في بلد، وصداق الحرائر ببلد آخر أرخص، وهو واجد لذلك، فقال فإن لم تلحقه مشقة في الخروج إليها، لا يجوز له نكاح الأمة، وكذلك رقبة الكفارة إذا بيعت بثمن غال، وهو واجد لا ينتقل إلى الصوم، فيحمل أيضًا على ما إذا كان ببلد آخر أرخص، لسياق ما تقدم من كلامه. وإذا كانت الصورة كذلك، فليست الزيادة على بلد آخر زيادة على مهر المثل وقيمة المثل، فإن العبرة في المتقومات ببلد التقويم لا غير. ثم كلام الرافعي يدل على أنه نقل ذلك عن التهذيب في هذا الموضع، لأنه قال: قال هاهنا: لا يقبل. وقال في الكفارات: يعدل. وذكر ما أورده هنا، ذكر من ينقل وجهًا بعيدًا أو تخريجًا غريبًا، وأفهم أن بين الكلامين تناقضًا، ولا تناقض بينهما. انتهى كلامه بحروفه. والذي ذكره- رحمه الله- في تغليظه الرافعي فيما نقله عن التهذيب في تصوير المسألة، وحكمها، غلط، وكذلك في تأويله هو بمسألة الرقبة بما إذا كان الغلو ببلد آخر، وهكذا تغليظه للرافعي في نسبة ظاهر كلام البغوي إلى التناقض غلط أيضًا، والذي ذكره الرافعي جميعه صحيح، وسبب غلط ابن الرفعة غلط النسخة التي نقل عنها من التهذيب، أو انتقال نظره هو من مسألة إلى مسألة حال النقل، فإن البغوي قد قال هنا ما نصه: وإن كان معه طول حرة، وتلك الحرة غائبة أو كان صداق الحرائر ببلد أرخص، وهو واجد لذلك، فإن لم تلحقه مشقة في الخروج إليها، لا يجوز له نكاح الأمة، وإلا فيجوز، ولو لم يكن في البلد إلا حرة واحدة، وهي تغالي في المهر، وهو واجد له، لا يجوز له نكاح الأمة، وكذلك رقبة الكفارة إذا بيعت بثمن غال، وهو واجد له لا ينتقل إلى الصوم بخلاف التيمم، يجوز إذا بيع الماء بثمن غال، لأنه متكرر. قال الشيخ: وعندي فيه نظر، هذا لفظ التهذيب بحروفه، فسقط من نسخة ابن

الرفعة من قوله: ((يجوز إلى قوله: ((يجوز))، أو انتقل نظره إليه، كما يقع كثيرًا للنساخ، والمبادرة إلى تغليظ الأئمة- خصوصًا مثل الرافعي- اعتمادًا على ما يجده الشخص في نسخة واحدة عجيب، والذي ذكره البغوي في الكفارات، وأشار الرافعي إلى مخالفته للمذكور هنا صحيح، فإنه قال هناك: وإن وجد الرقبة بثمن غال، لا يجب الشراء كما لا يجب شراء الماء إذا بيع بثمن غال، بل يتيمم. قال الشيخ: ورأيت أنه يجب أن تشترى بالثمن الغالي، إذا كان واجدًا له. هذه عبارته. والجواب عن كلام البغوي سهل، وهو أنا علمنا بقوله في النكاح، وفيه نظر أنه يميل إلى عدم الوجوب على خلاف المنقول، ثم إنه في الكفارات أجاب أولا بما يعتقده هو، ثم نقل بعد ذلك ما رآه لغيره ووقف عليه منقولًا، فقال: ورأيت، أي: وقفت لغيري. قوله: وإن جمع الحربين حرة وأمة في عقد واحد، وهو ممن يحل له نكاح الأمة، بأن وجد حرة تسمح بمهر مؤجل أو بما دون مهر المثل وغيره، وقلنا: إن ذلك لا يمنع نكاح الأمة، فلا يصح نكاح الأمة، لأن الأمة لا تقارن بالحرة، كما لا يدخل عليها، وأما الحرة: فقيل: يبطل نكاحها جزمًا. وقيل: على قولين، ثم قال ما نصه: وجزم الجرجاني في المعاياة بصحة نكاح الحرة والأمة، ولم أره في غيره. انتهى كلامه. وهذا الذي أشعر به كلامه من إنكار هذه المقالة قد سبق إليه النووي في الروضة على وجه أشد من المذكور هنا، فإن ادعى أنه لا خلاف في المسألة، ولم يطلع على مقالة الجرجاني بالكلية، والذي قالاه غريب. فقد جزم القاضي أبو الطيب في المجرد بصحة نكاحهما، وعلله بأن المانع من نكاح الأمة معدوم. هذا كلامه. ونقله- أيضًا- عنه الروياني في البحر، نعم جزم في تعليقته بالبطلان فيهما، وقد أنكر ابن الصلاح- أيضًا- مقالة الجرجاني، وقال إنها لا تعرف في شيء من كتب المذهب. قوله: ولو وجدت شروط نكاح الأمة إلا أنها مملوكة لكافر، جاز نكاحها في الأصح.

وقيل: لا حتى لا يسترق الكافر ولدها المسلم. ثم قال: وقد أبدى القاضي مجلي في صورة المسألة نظيرًا، فإن الكافر لا يجوز إقرار يده على المسلمة، فكيف يتصور تزويجها من مسلم. ثم لو قدرنا التزويج، فإنا نبيعها بعد ذلك من مسلم، فلا يسترق ولدها كافر. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن محلي وأقره عجيب، فإن ذلك يتصور بما إذا وقف جارية على كافر فأسلمت، فإن أولادها الحادثين يمكلهم الكافر الموقوف عليه على الصحيح، فإذا تزوجت من المسلم جاءت الأولاد ملكًا للكافر. قوله: وإن تزوج بشرط ألا ينفق عليها أو لا يبيت عندها، أو لا يقسم لها، أو لا يتسرى عليها، أو لا يسافر بها بطل الشرط والمسمى، وصح العقد، ثم قال: وحكى الجيلي قولًا أو وجهًا أنه يبطل. انتهى. وهذا الخلاف بهذا التردد بين القول والوجه، قد حكاه الرافعي عن ابن خيران.

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب

باب الخيار في النكاح والرد بالعيب قوله: ((والعنة امتناع الوقاع، وهي في اللغة الحظيرة، ومنه سمي العنان عنانًا، لأنه يبس الدابة عن مرادها)). انتهى كلامه. وهو يقتضي أن أهل اللغة وضعوا لفظ ((العنة)) للحظيرة، ثم إنهم أيضًا يعني- أهل اللغة- استعملوه مصدرًا للمعنى المذكور هنا، وليس كذلك، فإن المعروف في المصدر إنما هو التعنين، والعنانة كما هو مشهور في اللغة، ونبه عليه النووي. قوله: فرع: ليس للزوج إجبار المرأة الرتقاء على شق الموضع، فإن فعلت وأمكن الوطء فلا خيار. ويمكن أن يجيء فيه الخلاف المذكور، فيما إذا اطلع على عيب المبيع بعد زواله. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله، قد سبقه إليه الرافعي، وتابعه عليه في الروضة، وقد صرح الماوردي والروياني في البحر بحكاية الخلاف الذي تفقها فيه، إلا أنهما جعلا محله بعد العلم وقبل الفسخ، فإن كان قبله فلا خيار جزمًا. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن حدث العيب بالزوج، أي: قبل الدخول، كان لها أن تفسخ دفعًا للضرر، إذ تعين ذلك طريقًا. أما إذا حدث بعد الدخول، فإن كان الحادث الجنون أو الجذام أو البرص، فقد حكى صاحب الكتاب فيه وجهين. قال الرافعي: ولم ير لغيره نقل الوجهين في المسألة، لكن أطلقوا الجواب بثبوت الخيار. انتهى كلامه. وهو يقتضي أن الحاكي للوجهين هو صاحب التنبيه، إما في التنبيه أو في المهذب، وهو سهو، بل الحاكي للوجهين هو الغزالي في الوجيز، لكن الرافعي عبر بهذه الصيغة، لكونه في الكتاب الذي تصدى لشرحه، فنقل المصنف عبارته يعني: عبارة الرافعي قبل أن يقدم عليها ما يدل على المارد، فوقع في الخلل. قوله: واعلم أن التغرير بالحرية لا يتصور من سيد الأمة، لأنه متى وجد منه،

عتقت. وصح النكاح قولًا واحدًا، ويتصور من وكيله، كما فرضناه. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم تصوير التغرير من السيد سبقه إليه الرافعي في كتبه، وكذلك النووي أيضًا. وليس كما قالوه، بل يتصور في مسائل: منها: ما لو كان اسمها حرة. ومنها: ما لو أطلق عليها لفظ الحرة، وأراد به المشهور في العرف، وهو العفة عن الزنا، فإنها لا تعتق بذلك، وإن كان اللفظ صريحًا، لوجود الصارف عن معنى العتق إلى غيره. ومنها: ما لو كان راهنًا وهو معسر، وقد أذن له المرتهن في زواجها، وفي معناها الأمة الجانية. قوله: وإذا عتقت الأمة تحت عبد، ثبت لها الخيار على الفور. وفي قول: إلى أن يصيبها اختيارًا، فإن أصابها قهرًا، ففي سقوط الخيار تردد، لأنها كانت متمكنة من الفسخ. ثم قال ما نصه: وهذا مفروض فيما إذا لم يقبض على فمها، أما إذا قبض عليه، فلا تردد في بقاء حقها. وهذا يناظر تفصيل الأصحاب فيما إذا خرج أحد المتبايعين من مجلس العقد قهرًا. انتهى كلامه. واعلم أن في سقوط الخيار في البيع بالإخراج قهرًا مع انسداد الفم خلافًا، حكاه الرافعي والمصنف وغيرهما، وإذا استحضرت ذلك علمت تهافت كلامه هنا، وأن أوله مناف لآخره.

باب نكاح المشرك

باب نكاح المشرك قوله: ولو طلق المشرك امرأته ثلاثًا، ثم تزوجها قبل أن تنكح زوجًا غيره، ثم أسلما لم يقرا عليه، لأنها لم تحل له قبل زوج، فلم يقرا كما لو أسلم وتحته محرم. قلت: لو خرج ذلك على القولين في أن نكاحهم صحيح أو فاسد، لم يبعد. انتهى. وهو شعر بأنه لا خلاف في المسألة، وقد صرح جماعة بالتخريج المذكور، منهم الفوراني في ((الإبانة)).

كتاب الصداق

كتاب الصداق قوله: فأما ما ورد به الكتاب، أي: من الأسماء، فأربعة: الصداق، والنحلة، والفريضة، والأجر، والذي وردت به السنة ثلاثة: المهر، والعقد، والعليقة. انتهى كلامه. واعلم أن تعبيره بالعليقة ذكره النووي في لغات التنبيه، فتابعه عليه المصنف. والذي قاله القاضي عياض، والهروي في الغريبين أن العلاقة بالألف. قوله: فرع: فسخ النكاح بسبب إعسار الزوج بالصداق، هل يشطر الصداق. قال في الجيلي في كتاب ((النفقات)) إن قلنا: إنه فسخ، سقط جميعه. وقال في التتمة في ضمن فرع: وهو إذا كانت الزوجة صغيرة فأعسر زوجها بصداقها لا يفسخ الولي، لأنه إن كان قبل الدخول يشطر المهر، وإن كان بعده، فهو باق في ذمته، فلا فائدة في الفسخ. وهذا يشعر بأن الفسخ بالإعسار يشطر المهر، فإن فسخ الولي يتنزل منزلة فسخ المولى عليه بدليل ما تقدم. ويمكن أن يقال في هذه الصورة: يتشطر إذ لا تضييع من جهتها، بخلاف ما إذا فسخت هي، ويمن أن يكون بناء على أنه طلاق. انتهى كلامه. وحاصله أنه لم يقف على نقل في المسألة ممن يعتبر وهو عجيب، فقد صرح خلائق بأن ذلك فرقة من جهة المرأة حتى يسقط الجميع، منهم الرافعي في كتاب المتعة. واعلم أن تعاطي الفسخ من المرأة ليس بطلاق، بلا خلاف، بل القائل بأنه طلاق، معناه أن الزوج يؤمر بالطلاق كالمولي، وكلام المصنف بعيد عنه. قوله: وإن طلق قبل الدخول، وكان الصداق ناقصًا نقصان صفة، فالزوج بالخيار بين أن يرجع فيه ناقصًا من غير أرش، وبين أن يأخذ نصف قيمته. انتهى كلامه. ومحله: إذا كان متقومًا، فإن كان مثليًا، فإنه يرجع إلى نصف مثله، كذا نبه عليه المصنف في المطلب، وهو صحيح.

قوله: قال الإمام: فإن قال قائل: يرجع الزوج بنصف قيمة الكل أو بقيمة نصف الكل، وبينهما تفاوت. قلنا: يرجع بقيمة نصف الكل، فإنه لم يفته إلا ذلك. قلت: ومما يؤيد ذلك أن من أعتق نصف عبد يملكه وهو موسر، وسرى على نصف شريكه، يجب عليه قيمة نصفه لا نصف قيمته. وقد صرح بذلك- أيضًا- الشيخ في المهذب. انتهى كلامه. واستشهاده واستدلاله بمسألة العتق يقتضي الاتفاق عليها، وهو عجيب، فإن كلام الأصحاب مختلف فيها- أيضًا- حتى اختلف فيه كلام الرافعي، كما أوضحته في كتاب العتق من المهمات، فراجعه. قوله: وإن حصلت الفرقة والصداق لم يقبض. فعفي الأب أو الجد عن حق المرأة، صح على القديم بشروطه، ولو تقدم عفو الولي على الفراق، لم يصح. وقيل: يصح. ثم قال: وعلى الأول لو وقع العفو مع الفراق، كما إذا اختلعا به فوجهان، الذي أجاب به وفي التتمة والتهذيب منهما الجواز. وفي الوسيط: أن أظهرهما المنع، وهو ما يدل عليه كلام ابن الصباغ. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الوسيط غلط، سبقه إليه الرافعي فقلده فيه المصنف، وذلك لأن الغزالي لما عدد الشرائط قال ما نصه: وأن تكون بعد الطلاق لا قبله، فإن كان معه بأن اختلعها بالمهر، ففيه تردد. والأظهر أنه كالمتأخر، هذا لفظ الوسيط، وهو بالعكس مما نقله المصنف عنه. قوله في المفوضة: وإن مات أحدهما قبل الفرض، ففيه قولان: أحدهما: يجب المهر، لما روى معقل بن يسار، وقيل ابن سنان الأشجعي أن بروع بنت واشق نكحت بغير مهر، فمات، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمهر نسائها. والثاني: لا يجب، والحديث قد رجه علي، وقال: كيف نقبل في ديننا قول أعرابي بوال على عقبيه؟ انتهى كلامه وما ذكره عن علي- رضي الله عنه- لم أر له ذكرًا في شيء من كتب الحديث، وسألت عنه صاحبنا الشيخ زين الدين العراقي حافظ العصر، فقال: لا أعلم له أصلًا في كتبهم، وأما بروع فبباء موحدة مكسورة، وراء مهملة ساكنة، وواو مفتوحة وعين مهملة. قوله: وإن أعتق أمةً بشرط أن يتزوجها، ويكون عتقها صداقها، فقبلت، عتقت، ولا

يلزمها أن تتزوج به. ثم قال: فأما نفوذ العتق فلأنه أعتقها على شرط باطل، فلغا الشرط وثبت العتق، كما لو قال لعبده: إن ضمنت لي خمرًا فأنت حر، فضمنه، كذا علله الأصحاب. قلت: وفي المسألة المقيس عليها نظر، فإن ذلك يشابه ما لو حلف لا يبيع الخمر، فإنه لا يحنث إذا وجد منه صورة البيع على المذهب، والضمان كذلك. انتهى كلامه. وما نقله عن الأصحاب من تصوير المسألة المقيس عليها بقوله: إن ضمنت لي، ليس كما نقله عنهم، فقد تصفحت في ذلك كلام جماعة كبيرة، منهم: الفوراني والمتولي، وابن الصباغ، والغزالي، والرافعي، والنووي وغيرهم، فلم أر أحدًا منهم ذكر هذا التعليل، بل عبروا بقولهم: كما إذا أعتقها على خمر أو خنزير، ومنهم من يعبر بقريب منه، والتعبير به واضح. وقد ذكروا- أيضًا- وقوع الطلاق المعلق على الخمر ونحوه، وعلة وقوعهما معروفة هناك. قوله: ولا يمكن بناء قولين على وجهين. انتهى كلامه. ذكر مثله في غير هذا الموضع، وقد خالفه في باب زكاة الفطر في الكلام على ما إذا زوج أمته بعبد أو حر معسر، فقال: والبناء المذكور ممكن، لأن الوجهين مخرجان من أصول الشافعي، وحينئذ فلا يمتنع بناء قولين على أصلين، هذه عبارته. قوله: الثاني لو وقع الاختلاف في قدر المهر، أو صفته بين ولي الصغيرة، أو المجنونة، وبين الزوج، فوجهان. أظهرهما، وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق: أنهما لا يتحالفان، ولكن توقف إلى البلوغ أو الإفاقة. والثاني: أنهما يتحالفان، وهو الأصح في المهذب. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ابن سريج، وأبي إسحاق سهو، فإن الذي ذهبا إليه هو الثاني، وهو القول بالتحالف، كما هو مشهور معروف في كتب الأصحاب، حتى إن الرافعي صرح بنقله عنهما أيضًا.

باب الوليمة

باب الوليمة قوله: ومن دعي وهو صائم بصوم تطوع، استحب له أن يفطر. ثم قال: ولا فرق بين أن يشق عدم الأكل على الداعي أم لا. وقال الخراسانيون: إن كان يثقل على الداعي ترك الأكل، أو ألح عليه في الإفطار، استحب له ذلك، وإلا لما يستحب. انتهى. وما اقتضاه كلامه من التسوية بين أن يشق عليه أم لا في إثبات الخلاف مردود، فقد صرح النووي في التصحيح بعدم الخلاف في حالة المشقة، فقال: والصواب أن من دعي وهو صائم صومًا تطوعًا، ولا يشق على الداعي صيامه، فإتمام الصوم له أفضل، هذه عبارته. وما نقله ابن الرفعة في الإلحاح، لم يتعرض له في الرافعي والروضة.

باب عشرة النساء والقسم والنشوز

باب عشرة النساء والقسم والنشوز قوله: ((وإذا تزوج جديدة، فإن كانت بكرًا أقام عندها سبعًا، وإن كانت ثيبًا، أقام ثلاثًا. ولا فرق بين أن يكون ثيابتها بالنكاح أو بالزنا أو بالشبهة، ولو حصلت بمرض فعلى الوجهين في اشتراط استنطاقها، أي عند تزويجها. كذا قاله الرافعي، ومقتضاه: أن التي ثابت بالزنى يكون حكمها حكم البكر على الصحيح، كما تقدم في الاستنطاق)). انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن ما نقله عن الرافعي في المريضة قد ذكره الرافعي، إلا أن الرافعي لم يذكر هذه المسألة في الاستنطاق بالكلية، فسكوت المصنف عليه، يقتضي صحة ما قاله من تقدمة هناك، وإلا كان يلزمه التنبيه عليه والاحتراز منه. الأمر الثاني: أن ما قاله من أن التي ثابت بالزنا، يكون حكمها الأبكار على الصحيح، وأنه قد تقدم في النكاح كذلك، غلط عجيب، فإن الصحيح في الرافعي: أن حكمها حكم الثيبات. وقد ذكره المصنف في كتاب النكاح كذلك، ثم إن الكلام الآن ليس هو في الثيابة بالزنى، حتى يذكر فيهما ما ذكر، بل تلك قد تقدم حكمها، فما وجه إعادتها. قوله: وإن بلغا إلى الشتم والضرب، بعث الحاكم حرين مسلمين عدلين، ثم إن لفظ صاحب التهذيب أن على الحاكم أن يبعث حكمًا، وهو يشعر بالوجوب. وقال الروياني في الحلية: يستحب للحاكم أن يبعث الحكمين. انتهى. وما نقله عن الحلية من الاستحباب تبع فيه الرافعي، ولفظه في الحلية: المستحب للحاكم أن يبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، هذه عبارته. وليست صريحة فيما

قاله، ولا ظاهرة، فإنها كما تحتمل أصل البعث، تحتمل البعث من أهلهما، فيكون الموصوف بالاستحباب هو البعث المقيد. نعم نقل الروياني في البحر عن الشافعي أنه مستحب فإنه قال: المستحب للحاكم أن يبعث عدلين، والأولى أن يكون واحدًا من أهله وواحدًا من أهله وواحدًا من أهلها.

باب الخلع

باب الخلع قوله: إذا وقع عقد الخلع بلفظ الخلع من غير نية للطلاق، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه طلاق، واختاره صاحب التهذيب. وقال في النهاية: إن الفتوى عليه. والثاني: أنه فسخ لا ينتقص العدد، وهو القديم والمتصور في الخلاف، واختاره القاضي أبو حامد. وذكر في الإبانة أنه الأصح، وكذلك القاضي أبو الطيب في آخر تعليقته. وذكر أبو مخلد البصري أن الفتوى عليه. والثالث: أنه ليس بطلاق ولا فسخ، ونص عليه في الأم. وقال الإمام والروياني: إنه ظاهر المذهب. انتهى. وتعبيره بقوله: القاضي أبو حامد، سهو، إنما هو الشيخ أبو حامد. هكذا نقله الرافعي وغيره، ولا شك أن المصنف إنما اعتمد عليه، فإنه قد نقل في كتابه جميع ما ذكره، فمنه ما وقف عليه المصنف ومنه ما لم يقف عليه. واعلم أن القاضي الحسين قد نقل في كتاب أسرار الفقه، وهو كتاب لطيف نحو حجم التنبيه، يشتمل على فوائد كثيرة: أن القفال قد اختار أيضًا أن الخلع فسخ، واختاره أيضًا من المتأخرين ابن أبي عصرون. قوله: والقبول في المسألة الثالثة وهي ((أنت طالق على ألف))، أن يقول: قبلت الألف، والإتيان باللفظ شرط على ما حكاه الرافعي، ومجلي، وصاحب الشامل والمتولي: أنها إذا دفعت له الألف على الفور وقع الطلاق، لأنه طلقها على الألف فكيف حصلت له، وقع بها الطلاق. انتهى لفظه بحروفه. وحاصله: أن بعض المذكورين قد خالف الرافعي وليس فيه تمييز القائل، ثم إنه عبر عن هذه المخالفة المبهم قائلها بعبارة مبهمة- أيضًا- غير دالة على المعنى. قوله: وإن قال: إن أعطيتني عبدًا فأنت طالق ولم يصفه، فأعطته مكاتبًا أو مغصوبًا، لم تطلق على الصحيح. ثم قال: وحكم المرهون والمستأجر من غيره والمملوك بعضه- حكم

المغصوب، وكان يتجه أن يكون في المستأجر خلاف مبني على جواز بيعه. انتهى كلامه. وما حاول بحثًا من مجيء الخلاف قد سبقت حكايته له، فإنه قد صرح بأنه كالمغصوب، وفي المغصوب وجهان سبق ذكرهما في الكلام الذي نقلته عنه، إلا أنه لم يصرح بالتخريج. نعم، ذكر في الروضة هنا كلامًا من زوائده، فقال: يجري الخلاف في المستأجر إذا لم يجوز بيعه، وإلا فهو كغيره والله أعلم. والذي ذكره- أعني: النووي- كلام متجه، فإن كان هو مراد المصنف وهو الظاهر، فتكون العبارة قد تحرفت عليه، وذهل عن ذكر النووي له. قوله: وإن خالعها على ثوب معين على أنه هروي فخرج مرويًا، بانت وله الخيار بين الرد والإمساك، لأن ذلك اختلاف وصف في العوض، إذ الهروي والمروي نوعان من القطن، واختلاف الوصف في العوض لا يمنع الصحة، وإنما يثبت الخيار، كالبيع. قال السرخسي: وهذا على قولنا: إن اختلاف الصفة لا يتنزل منزلة اختلاف العين، وفيه قولان ذكرناهما في النكاح، فإن نزلناه منزلة اختلاف العين، فالعوض فاسد وليس له إمساكه، ويرجع إلى مهر المثل أو بدل الثوب لو كان هرويًا. قلت: وما قاله من أن اختلاف الصفة كاختلاف العين مذكور في الزوجين، لأن الوصف فيهما يقوم مقام الرؤية، فإذا اختلف الوصف كان بمنزلة ما لو رأى عينًا وعهد على غيرها، وأما بلد الخلع فهو بالمبيع أشبه، ولم يعلم خلافًا فيما إذا اشترى عبدًا وشرط أنه تركي فخرج غير تركي أنه يبطل البيع، بل المنقول ثبوت الخيار. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من الصحة بلا خلاف إذا ظهر المبيع على خلاف الوصف المشروط غريب، فقد حكى الرافعي في ((باب خيار النقص)) في ذلك قولين. نعم، البحث الذي ذكره صحيح، فإن الخلاف المحكي في النكاح مفرع على قول الصحة في البيع، كما أوضحه الرافعي وغيره، فيكون الخلاف غير الخلاف. قوله: ولو قالت لزوجها: هذا الثوب هروي، فقال: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق، فأعطته، وبان مرويًا. قال في التتمة: ينبني ذلك على أن المتواطأ عليه قبل العقد، هل هو كالمشروط في الصداق؟

إن قلنا: نعم، لم يقع الطلاق، وإلا وقع، وليس له إلا الثوب، وهذا البناء فيه نظر، فإن المنقول عن الأصحاب في مسألة تناظر هذه المسألة من الحكم ما يفهم منه أن هذا ليس من قبيل الشروط، وذلك أنهم قالوا: لو دفع إلى خياط ثوبًا، وقال له: إن كان يكفيني هذا قباءً، فاقطعه فقطعه، فلم يكفه، وجب عليه الأرش. ولو قال: أيكفيني هذا قباء، فقال: نعم، فقال: اقطعه فقطعه، فلم يكفه فلا شيء عليه، وكان مقتضى ما قاله في التتمة أن يخرج ذلك على الشرط السابق إذا جرى منه إخبار قبل القطع، كما جرى منها إخبار قبل العقد. انتهى كلامه. وهذا التنظير الذي ذكره المصنف قد نبه هو على الحاشية بخطه على بطلانه، فقال ما نصه: هذا التنظير ليس بصحيح، وليست مسألة الخياط تناظر ما نحن فيه، لفقد تخيل التواطؤ فيها الذي يقام مقام الشرط المقارن. هذا لفظه بحروفه.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق قوله: وفي طلاق السكران قولان. ثم قال: ومنهم من خص القولين في ما له كالنكاح، أما ما عليه، كالضمان، والإقرار، فهو نافذ لا محالة تغليظًا عليه. وعلى هذا فلو كان التصرف له من وجه، وعليه من وجه، كالبيع، والإجارة، فيحكم بنفوذه تغليبًا لطرف التغليظ. وفي التهذيب: أنه يصح الإجارة ولا يصح بيعه، لأنه يجمع ما له وعليه، فغلب ما له، وكذلك لا يصح نكاحه ولا إنكاحه. انتهى كلامه. وما نقله عن التهذيب تفريعًا على صحة ما عليه دون ما له من صحة الإجارة دون البيع- غلط نشأ عن تحريف، فإن صاحب التهذيب قال ما نصه: فعلى هذا يصح إقراره، ولا يصح بيعه، لأنه يجمع ما له وعليه، فيغلب جانب ما له وكذلك لا يصح نكاحه ولا إنكاحه. هذا لفظ التهذيب فتحرف الإقرار بالإيجاز ثم عبر هو عنه بالإجازة. قوله: الرابع: إذا جرى لسانه بكلمة الطلاق ولم يرفع صوته بقدر ما يسمع، ففي التتمة: أن الكرخي حكى أن المزني نقل فيه قولين: أحدهما: وقوع الطلاق، لأنا نوقع الطلاق بالكناية مع النية، فعند اللفظ أولى. والثاني: المنع، لأنه ليس بكلام، ولهذا يشترط في قراءة الصلاة أن يسمع نفسه. انتهى كلامه. وما نقله عن التتمة من حكاية الكرخي للقولين عن المزني غلط، فإن صاحب التتمة إنما حكاه عن الزجاجي، ذكر ذلك قبيل الفصل الرابع، وهكذا نقله عنه الرافعي أيضًا والنووي في الروضة، وصحح من زوائده القول الثاني وهو ظاهر. قوله: والنية المؤثرة في الكناية بالاتفاق أن تقترن بجميع اللفظ من قوله ((أنت)) إلى

آخر القاف من طالق، كما صرح به المتولي في باب النية في الصلاة، فإن اقترنت بأوله ثم عزبت في أثنائه، فالمذهب الوقوع. ولو خلا أوله- وهو ((أنت)) - عن النية، ثم نوى في أثنائه عند قوله: ((طالق))، ففي الوقوع وجهان. انتهى كلامه. فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بطالق غلط في الموضعين، بل الصواب التعبير ببائن أو نحوه، فإن الكلام في الكنايات، وقد عبر في التتمة بالبائن كما ذكرناه لا بما نقله عنه، وهو طالق. الثاني: أن ما نقله عن التتمة من الاتفاق لم يتعرض له بالكلية وإن كان صحيحًا. الأمر الثالث: أن تمثيله اقترانًا بالأثناء بما إذا خلا عنها ((أنت)) وقارنت طالقًا- وقع في التتمة هناك. وفي الرافعي هنا فقلدهما المصنف فيه وهو غلط، لأن اللفظ الذي تردد الأصحاب في أن النية هل يشترط اقترانها بجميعه، أم يكفي اقترانها ببعضه؟ إنما هو لفظ الكناية فقط، لأن المقصود من النية تفسير إرادة الطلاق الذي يحتمله ويحتمل غيره، والمفتقر إلى التفسير لما فيه من الاحتمال إنما هو صيغة الكناية دون ما معها، فتقدم النية عليها لا يفيد قطعًا وإن كان متصلًا بـ ((أنت)) أو غيرها مما قبله، وقد صرح بهذا الذي ذكرته: البندنيجي والماوردي وصاحب الشامل وغيرهم، إلا أن المصنف في المطلب قد أثبت وجهين في المسألة، وأيد الاكتفاء عند ((أنت)) بما إذا وقع ((أنت)) في زمن الطهر و ((طالق)) في زن الحيض، فإن ابن سريج قال: يكون الطلاق سببًا ويحصل لها قراء واحد. قوله: وهل الحرام من الصرائح، أو من الكنايات؟ فيه خلاف. ثم قال: وعد الحرام من الكنايات على قولنا ليس بصريح محله: إذا قلنا: إن لفظ ((الحرام)) غير صريح في إيجاب الكفارة. أما إذا قلنا: إنه صريح، فقد حكى الحناطي وجهًا: أنه لا يكون طلاقًا، وهو قضية الضابط المذكور في النهاية وغيرها: أن اللفظ إذا كان صريحًا في باب ووجد نفاذًا في موضوعه فلا سبيل إلى رده عن العمل فيما هو صريح فيه، ويستحيل أن يكون صريحًا

نافذًا في أصله ووضعه، ويكون كناية منوية في وجه آخر، وهو ما جزم به في المهذب تفريعًا على هذا القول عند الكلام فيه. والمذهب: أنه يكون طلاقًا. قال في الذخائر: لأنه إنما يكون صريحًا في إيجاب الكفارة عند عدم النية، فأما مع وجود النية فلا يكون صريحًا في الكفارة. انتهى كلامه. وهذا النقل عن المهذب والذخائر غلط، أما المهذب: فإنه جزم بأن الزوج إذا نوى به الطلاق وقع، ولم يتعرض للتخريج الذي نقله عنه المصنف بالكلية، فإنه قال: فصل: إذا قال لامرأته: أنت علي حرام ونوى به الطلاق فهو طلاق. هذا لفظه، ولم يتعرض فيما إذا نوى لغير ذلك. ثم قال بعد ذلك في الكلام على إيجاب الكفارة بها: وإن قال: أنت علي حرم ولم ينو شيئًا ففيه قولان. أحدهما: تجب عليه الكفارة، فعلى هذا يكون هذا اللفظ صريحًا في إيجاب الكفارة، لأن كل كفارة وجبت بالكناية مع النية كان لوجوبها صريح ككفارة الظهار. والثاني: لا تجب، فعلى هذا لا يكون هذا اللفظ صريحًا في شيء، لأن ما كان كناية في جنس لا يكون صريحًا في ذلك الجنس، هذا لفظه. وكأن هذا هو سبب الوهم ولا ذكر لذلك في تهذيب البغوي أيضًا حتى يقال: هو الذي ذكره المصنف ولكن تحرف بالمهذب. وأما النقل المتقدم عن صاحب الذخائر فإنه ليس له ذكر فيها، فإن المسالة مذكورة في الكتاب المذكور في ثلاثة مواضع: أحدها هذا، والثاني في الإيلاء، والثالث في الظهار، ولم أر ما قاله المصنف في شيء من المواضع الثلاث. قوله: وإشارة الأخرس بوقوع الطلاق معتبرة، ثم إن كانت مفهمة للطلاق فيكتفي بها، وإن لم ينو، كذا قاله في التهذيب، وقسم الإمام وغيره الإشارة إلى صريحة تغني عن النية، وهي التي فيهم منها الطلاق المخصوصون بالفطنة والذكاء، وصوابه وهون المذكور في النهاية ونقله عنه الرافعي- أيضًا- أن يقول: إلى صريحة مغنية عن النية، وهي التي يفهم منها الطلاق كما واقف عليها، وإلى كناية مفتقرة إلى النية، وهي التي يفهم منها الطلاق المخصوصون بالفطنة. انتهى.

قوله: وإذا أضاف الطلاق إلى جزء منها وقع بطريق السراية. وقيل: من باب التعبير بالجزء عن الكل، وله فوائد. ثم قال: وقد يضاف إلى فوائده ما إذا ضمن إحضار جزء من إنسان شائع أو غير شائع لا تبقى الحياة بدونه، فإن قلنا: إنه بطريق السراية، لم يصح الضمان، وإن قلنا: بطريق التعبير بالبعض عن الكل، لم يصح، لكن لو قيل، لكن لو قيل به للزم أن يكون الصحيح صحة الضمان، وقد حكينا أن الراجح خلافه. انتهى. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: أن يكون الصحيح صحة الضمان وهم، وصوابه عدم صحة الضمان، فإنه مقتضى التفريع، وأيضًا فإن الصحيح هناك هو الصحة، وحينئذ فلزوم خلافها باطل. قوله: ولو قال: حياتك طالق، ففي النهاية أن يقع. وفي التهذيب: أنه إن أراد الروح وقع، وإن أراد المعنى القائم بالحي لم يقع. انتهى كلامه. وما نقله عن التهذيب من أنه لا يقع إذا أراد المعنى القائم بالحي ليس مذكورًا فيه، وإنا عبر في التهذيب بقوله: إن أراد به الروح طلقت واقتصر عليه، فنقله عنه الرافعي. ثم قال- أعني: الرافعي-: وهذا فيه إشعار بأنه إن أراد المعنى القائم بالحي لا تطلق كسائر المعاني، وبه قطع أبو الفرج الزاز، ويشبه أن يكون هو الأصح. هذا كلامه ثم إنا نقول: إن كلام البغوي يشعر بأنه لا يقع عند الإطلاق أيضًا، فلا وجه لاقتصاره على نقل عدم الوقوع في قسم واحد. قوله: وفي فتاوى القفال: أنه لو قال لامرأته: يا بنتي، وقعت الفرقة بينهما عند احتمال اللبس. انتهى كلامه. وتعبيره باللبس تحريف لا معنى له، وصوابه وهو المذكور في الفتاوى المذكورة إنما هو السن، أي يحتمل ما قاله من كونه بنتًا له، والمصنف- رحمه الله- لم يظفر بهذه الفتاوى، وإنما اعتمد فيها على نقل الرافعي، والرافعي قد ذكره على الصواب. قوله: ولو قال: امرأتي هذه محرمة علي لا تحل لي أبدًا، نقل الرافعي عن جده: أنها لا تطلق، لأن التحريم قد يكون بغير الطلاق، وقد يظن ما لا يحرم محرمًا. وقيل: يحكم عليه بالبينونة. انتهى كلامه. وما ذكره من كون الرافعي نقل ذلك عن جد نفسه قد وقع له مثله- أيضًا- في غير هذه المسألة، وهو غلط عجيب، وإنما نقل لذلك هو سريج الروياني عن جده: أبي

العباس، كذا نقله في باب أركان الطلاق بعد نحو خمسة أوراق من أوله، وسبب غلط المصنف في ذلك أن الرافعي ذكر هذه المسألة في أثناء مسائل كثيرة، ذكر في أولها أنها منقولة عن سريج المذكور، فوقف المصنف على المسألة غافلًا عما سبق في أول الفصل من عزوها إلى سريج، فظن أن المراد بقوله: قال جدي، أن الرافعي هو القائل ذلك يعني جد نفسه، فصرح به فوقع في الغلط، ثم إن جد الرافعي ليس معدودًا في أهل العلم بالكلية ولا معروفًا بشيء من ذلك إلا أن المصنف- رحمه الله- مع جلالة قدره وانفراده في زمانه- قليل الخبرة بالأصحاب، بل بالمصنفات أيضًا.

باب عدد الطلاق والاستثناء فيه

باب عدد الطلاق والاستثناء فيه قوله: وإن قال: أنت طالق نصف طلقة، أو نصفي طلقة، طلقت طلقة ... إلى آخر ما ذكر. أهمل- رحمه الله- من كلام التثنية مسألة فلم يذكرها، وهي ما إذا قال: أنت طالق نصفي طلقتين أعني: بالتثنية فيهما، وقد أجاب الشيخ فيها بوقوع طلقتين، وكذلك جزم به الرافعي أيضًا. قوله: وإن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا أن يشارك أبوك واحدة، فقال أبوها: شئت واحدة، لم تطلق كما لو قال: أنت طالق، إلا أن يدخل أبوك الدار فدخل. وعلى هذا لو شاء اثنتين أو ثلاثًا لم يقع شيء أيضًا، لأنه شاء واحدة وزيادة. وقيل: تقع اثنتان ويكون تقدير الكلام إلا أن يشاء أبوك واحدة، فلا تقع تلك الواحدة وتقع ما سواها، وهذا محكى في التتمة. وقيل: تقع واحدة، ويكون تقدير الكلام: إلا أن يشاء أبوك واحدة، فلا تقع الثلاث وتقع الواحدة. ومحل الخلاف عند الإطلاق، فلو قال: أردت المعنى الثاني أو الثالث، قبل. ولو قال: أردت المعنى الأول وفرعنا على الوجه الثاني أو الثالث فهل يقبل منه حتى لا يقع شيء؟ فيه وجهان أظهرهما القبول. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من القبول جزمًا إذا قال: أردت المعنى الثاني مستقيم إذا فرعنا على الأول، وأما إذا فرعنا على الثالث، فادعى أنه أراد الثاني، فلا شك أن فيه نقصانًا في العدد، فيجري فيه الوجهان في عكسه. قوله: في المسألة، ولو قال: أنت طالق واحدة إلا أن يشاء أبوك ثلاثًا، فإن شاء ثلاثًا، لم يقع شيء جوابًا على الأولى وهو الصحيح، وإن لم يشأ شيئًا أو شاء واحدة أو اثنتين، وقعت واحدة، كذا حكاه الرافعي ولم يتعرض للتفريع على ما عدا [القول]

الأول القول. ويظهر أنا إذا فرعنا على [القول] الثالث أنها تطلق ثلاثًا، وعلى [القول] الثاني أن يكون الحكم مثل الأول. انتهى كلامه. وما ذكره هنا بحثًا، قد خالفه في شرح الوسيط، فقال: قياس الأوجه الثلاث هو عدم الطلاق.

باب الشرط في الطلاق

باب الشرط في الطلاق قوله: وإن قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض وتطهر، لأنه علقه بتمام الحيض، وهكذا علله الرافعي، وزاد عليه، فقال: وحينئذ فيقع سنيًا، فإن صح ما وقفت عليه من النسخ هكذا، ففيه نظر، لأن الطلاق إنما يقع بعد وجود الشرط أو معه، والشرط هنا وجود الحيضة بكمالها. فلو وقع بطريق التبين لوقع قبل وجود شرطه، فلعل هذا من الناسخ، ومما يؤيد ذلك أنه قال من بعد: لو قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، طلقت ثلاثًا في انتهاء ثلاث حيض مستقبلة، وتكون الطلقات سنية، فلو كان الطلاق يقع بطريق التبين، لم تكن الطلقات سنية. انتهى كلامه. واعلم أن الذي ذكره الرافعي وتبعه عليه في الروضة فيقع سنيًا بسين مضمومة، أي: لا بدعيًا، وشكلها كشكل من عبر بقوله تبنيًا بلا فرق، فغفل المصنف عن هذا المعنى، وانصب ذهنه إلى المعنى الآخر ثم استشكله. نهاية ما فيه أن يكون بعض النساخ قد نقطها بنقط التبين، ويالله العجب هل تعتبر نقط آحاد النساخ، وهذا الموضع لو وقع لآحاد المبتدئين لم يعذر، ومن الغريب أن المصنف قد كرر هذا المعنى بما نقله عن الرافعي بعد ذلك، وغفل عن أن يكون هو المراد أيضًا من تلك اللفظة، وأغرب منه أنه طال اعتقاده له حتى كتب حاشية بخطه قرر فليها هذا المعنى، وأجاب بجواب لا حاصل له، بل مردود الحكم، فإنه قال ما نصه: جوابه: أنه أراد أنا نتبين أنها طلقت في أول الطهر أو معه، لا أنها طلقت من وقت اللفظ، هذا لفظه، وما قاله من انتفاء إرادة اللفظ فهو المراد بلا شك، ثم إنه يقتضي أن كل شرط يقع مشروطه بطريق التبين، فليته أجاب بتقدير ثبوت المعنى الذي زعمه بأنها إذا طعنت في الطهر تبنيا وقوع الطلاق في الزمن الذي قبله، وهو آخر الحيض على خلاف ما قرره هو في الجواب، لأن المعلق عليه هو الحيضة، واشتراط الطعن في الطهر إنما هو لتحقق انقضاء الحيضة. قوله: قال:- يعني: الشيخ- وإن كان له عبيد ونساء فقال: كلما طلقت امرأة فعبد حر، وإن طلقت امرأتين فعبدان حران، وإن طلقت ثلاثًا فثلاثة أعبد أحرار، وإن

طلقت أربعًا فأربعة أعبد أحرار، فطلق أربعة نسوة، عتق خمسة عشر عبدًا على ظاهر المذهب. وقيل: عشرة. وقيل: سبعة عشر، ثم قال: وما قاله- رحمه الله- إنما يجيء إذا كان المأتي به صيغة ((كلما)) في كل مرة، فإنها تقتضي التكرار وليس لغيرها هذا الوصف ... إلى آخره. وما قاله من توقف هذا الحكم على الإتيان بـ ((كلما)) في كل مرة قد قاله أيضًا غيره وليس كذلك، بل إنما يشترط الإتيان بها في المرة الأولى والثانية فقط، ولا يشترط في الثالثة ولا في الرابعة، لعدم التكرار فيها وهذا واضح، وإذا اختبرته بالعمل اتضح لك. قوله: ولو قال: أنت طالق في سلخ رمضان، ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه يقع في آخر جزء من الشهر، وهذا ما أجاب به الشيخ أبو حامد، وهو المذكور في المهذب، والشامل ... إلى آخره. وما نقله عن المهذب هنا غلط، فإن هذه المسألة التي حكى فيها الأوجه الأربعة، وهي مسألة الشيخ ليس لها ذكر فيه بالكلية، والتي فيه ما إذا قال في آخر الشهر، وقد جزم فيها بالوقوع في آخر جزء، وهذه المسألة أعني مسألة الآخر ليس فيها إلا ثلاثة أوجه: أصحها هذا. والثاني يقع بأول النصف الأخير. والثالث: بأول اليوم الأخير، وفي مسألة السلخ هذه الثلاثة، ووجه رابع كما ذكره المصنف: أنه يقع في أول الشهر، لأنه إذا مضى جزء فقد أخذ الشهر في الانسلاخ، ولا يصح أن يكون المراد التهذيب فتحرف بالمهذب، لأن المذكور في التهذيب في المسألتين هو الوقوع بأول اليوم الأخير. قوله: وإن قال: كلما خرجت إلا بإذني فأنت طالق، فأي مرة خرجت بغير الإذن طلقت لأن ((كلما)) تقيد التكرار، فإذا أراد الخلاص من اليمين فليقل لها: أذنت لك أن تخرجي متى شئت. انتهى كلامه. وتعبيره في طريق الخلاص بقوله: متى سهو، وتوريط له لا تخليص، بل طريقه: أن يأتي بـ ((كلما))، لأنها للتكرار بخلاف ((متى)) و ((متى ما)) و ((أي وقت)) ونحوها، كذا ذكره الرافعي في كتاب الأيمان، وذكر نحوه أيضًا هاهنا ووافق عليه أيضًا المصنف، وقالوا: إن معناه التراخي.

باب الشك في الطلاق وطلاق المريض

باب الشك في الطلاق وطلاق المريض قوله: وإذا طلق إحدى المرأتين بعينها فيجب عليه تبيينها، وإذا بين وجبت العدة من حين الطلاق، لأنه وقت وقوعه. ثم قال ما نصه: وفي الذخائر حكاية وجه آخر عن الحاوي: أن الطلاق يقع من حين التبين، ونقل عنه أنه ليس بشيء. انتهى كلامه. وما نقله عن الذخائر من حكاية الوجه عن الماوردي، وأقره عليه ليس له ذكر في الحاوي في هذا الباب، بل فيه الجزم بأنها من حين الطلاق، إلا أن نقل المصنف عن الذخائر صحيح. قوله: وإن قال: إن كان هذا الطائر غرابًا فامرأتي طالق، وإن لم يكن غرابًا فعبدي حر، فطار ولم يعرف، فيتوقف عن التصرف فيهما حتى يعلم، وعليه نفقتهما إلى البيان. وفي الرافعي حكاية وجه: أن العبد يؤجره الحاكم، وينفق عليه من أجرته، فإن فضل شيء، حفظه إلى أن يتبين الحال. وفي الذخائر حكاية الخلاف فيما إذا أراد السيد أن ينفق عليهن، وأراد الإمام أن يكتسبن، وينفقن على أنفسهن من كسبهن، فأحد الوجهين تغليب قول السيد، والثاني تغليب قول الإمام، وذكرنا الإماء، لأنه صور المسألة فيهن. انتهى كلامه. واقتصاره في التعبير عن الوجه الأول بقوله: إذا أراد السيد أن ينفق عليهن، تعبير عجيب ناقص موهم أن المراد أنه دعي إلى مجرد النفقة دون الاستخدام ولاسيما تقريبه كون الرقيق أمة، وليس كذلك، بل المراد أنه دعي إليهما معًا كما صرح به غيره، ثم إن الوجهين المشار إليهما قد حكاهما الماوردي أيضًا، ومثل بالإماء، ومنه أخذ صاحب الذخائر، ولاشك في أن العبيد كذلك. قوله: إذا طلق امرأته في مرض الموت طلاقًا بائنًا، لم ترثه في أصح القولين. ثم قال: ولو طلق إحدى زوجتيه على الإبهام، ثم عين في مرض الموت فهل

يكون فارًا؟ فيه وجهان ينبنيان على أن الطلاق يقع من حين التعيين، أو من حين اللفظ، كذا حكاه مجلي عن الحلية، وأبدى الرافعي ذلك احتمالًا للبوشنجي. انتهى كلامه. وما ذكره من حكاية الرافعي لذلك احتمالًا ليس كذلك، بل جزم به كسائر المنقولات، فقال: قال إسماعيل البوشنجي يخرج على أن التعيين إلى آخر ما ذكر، هذه عبارته وذكر مثله في الروضة، والمراد بالحلية هنا حلية الشاشي، فإن ذلك مذكور فيها في كتاب الفرائض. فاعلمه.

باب الرجعة

باب الرجعة قوله: وله أن يطلقها ويظاهر منها، ويولي منها، قبل: أن يراجعها، لأن الزوجية باقية. وفي الجيلي حكاية وجه أنه لا تلحقها الطلقة الثانية، وعزاه إلى البسيط. ووجه آخر: أنه لا يصح الظهار والإيلاء، وبناه على عدم وقوع الطلقة الثانية والثالثة، وعزاه إلى تعليق أسعد، وأن في البسيط إشارة إليه، وقد تتبعت مظانه فيه فلم أجده ولا الأول. والله أعلم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا النقل عن الجيلي قد حصل فيه إسقاط، فإن الجيلي حكى وجهًا: أن الرجعية لا تلحقها الطلقة الثانية ولا الثالثة. ثم قال: وقال الشيخ أبو علي: تقع الثالثة دون الثانية، لأن الثانية لا تفيد في حقها شيئًا بخلاف الطلقة الثالثة، فإنها تفيد البينونة الكبرى، ذكره في البسيط هذه عبارته. الأمر الثاني: أن هذا الخلاف الذي أنكره المصنف قد ذكر الشافعي في ((الأم)) ما يوافقه، فقال عقب الكلام فيما شهدوا لزوج بين الطلاق ما نصه: ولم أعلم مخالفًا في أن أحكام الله- عز وجل- في الطلاق والظهار والإيلاء لا تقع إلا على زوجة ثابتة النكاح، يحل للزوج جماعها، وما يحل للزوج من امرأته، إلا أنه يحرم الجماع في الإحرام والحيض، وما أشبه ذلك حتى ينقضي، هذا لفظه بحروفه، وقد صرح صاحب البيان بحكاية الخلاف في الإيلاء بخصوصه، فقال في باب الإيلاء: وقال المسعودي: هل يصح إيلاؤه من الرجعية؟ فيه وجهان. هذه عبارته، وقد نبه ابن الصلاح وغيره كما تقدم إيضاحه في باب القراض على أن صاحب البيان متى نقل عن المسعودي، فمراده به الفوراني، وقد راجعت نسختين من الإبانة، فوجدت فيهما الجزم بصحة الإيلاء من الرجعية، وهو يبطل ما ادعوه إلا أن يكون الغلط قد وقع في بعض أجزائه الإبانة دون البعض، فيستقيم، وأما الظهار منها فقد حكى صاحب البحر في أثناء الباب وجهًا عن بعض الأصحاب: أن الظهار

من الرجعية لا يصح إلا بعد الرجعة، وهو قريب مما حكاه الجيلي. واعلم أن القول ببطلان الإيلاء قوي، لأن الزوجة محرمة عليه، وإيلاؤه إلى البينونة، والأصل عدم وجود المقتضي لحلها وهو الرجعة، ومناط صحة الإيلاء وهو إيذاء الزوجة بحلفه على الامتناع منتف هنا، فتعين بطلانه بالكلية، أو يقف على الرجعة، وهكذا القول في الظهار أيضًا. والمراد بأسعد المتقدم ذكره هو: أبو الفتح أسعد بن أبي نصر الميهني- بميم مكسورة بعدها ياء بنقطتين من تحت، ثم هاء مفتوحة، ثم نون- وقد أوضحت حاله في كتاب الطبقات إيضاحًا تامًا لم أسبق إليه، ولله الحمد. قوله: وفي الذخائر: أن الشاشي حكى عن ابن أبي العباس، أي: ابن سريج وجهًا: أن الرجعة تحصل بالوطء والمباشرة بشهوة والقبلة، سواء نوى بذلك الرجعة أو لم ينو. انتهى. وقد راجعت كتاب الشاشي الذي ينقل عنه المصنفون وهو الحلية، فلم أر ذلك فيه بالكلية، ثم راجعت كتابه الأكبر، وهو المعتمد، فلم أره فيه أيضًا. قوله: وفصل القفال فيما إذا سبق الرجل بدعوى الرجعة، فقال: إن كان قول المرأة: قد انقضت عدتي متراخيًا عن قول الرجل، فالحكم كما تقدم، وإن كان متصلًا به فهي المصدقة بيمينها، لأنا نجعل إقراره بالمراجعة في زمن العدة، كإنشاء الرجعة في الحال إلى آخره. ثم قال: قلت: وما قاله القفال من أن الإقرار بالرجعة كالإنشاء قد يمنع منه، كما سيأتي انتهى. وما نقله عن القفال خاصة في تنزيله منزلة الإنشاء، واقتضى كلامه إنكاره، قد نص عليه الشافعي في ((الأم)) في باب التحالف عند الكلام على التحالف في القراض، فقال: إن دعوى الرجعة في زمن العدة رجعة.

باب الإيلاء

باب الإيلاء قوله: تنبيه: لو اقتصر الشيخ على قوله: ((كل من صح طلاقه وهو قادر على الوطء صح إيلاؤه))، وترك لفظ الزوج كما فعل في باب الظهار، لكان أولى، لأن لفظ الزوج يخرج الرجعية إذا قلنا: إن الطلاق الرجعى يقطع الزوجية. انتهى كلامه. وما ذكره من أولوية الحذف ذهول، فإن الشيخ احترز به عن القاضي، فإنه يطلق على المولى عند امتناعه من الفيئة، ومع ذلك لا يصح إيلاؤه. قوله: وإن قال: والله لا أنيكك، أو لا أغيب ذكرى في فرجك، أو لا أفتضك وهي بكر فهو مول. ثم قال: وفي المهذب تقييد النيك بالفرج، وحكاية الوجهين في مسألة الافتضاض من غير أن يقال بذكرى. انتهى كلامه. وما حكاه- رحمه الله- عن المهذب من كونه قيد النيك بالفرج غلط، فإنه جعله موليًا ولم يقيده بذكر ولا فرج، فقال: فصل: وإن قال: والله لا أنيكك أو لا أغيب ذكري في فرجك أو لا أفتضك بذكر وهي بكر، فهو مول في الظاهر والباطن، لأنه صريح في الوطء في الفرج هذا لفظه وقد ظهر لك منه أن المقيد بالفرج إنما هو تغييب الذكر، والمقيد بالذكر إنما هو الافتضاض، وكلاهما واضح.

باب الظهار

باب الظهار قوله: والعود هو: أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، ثم قال ما نصه: وهذا هو الجديد، وفي القديم حكاية قول على ما حكاه الشيخ أبو حاتم القزويني: أن العود هو الوطء. قال الإمام: وهو إن صح فهو حكم المرجوع عنه. انتهى كلامه. قال الإمام: وهو إن صح فهو حكم المرجوع عنه. انتهى كلامه. وهذا النقل عن القزويني غلط، سببه إسقاط يعلم من كلام الرافعي، فإن الرافعي قد قال في شرح الكبير ما نصه: فلتعلم قول الوجيز بالواو، لأن الشيخ أبا حاتم القزويني حكى عن القديم قولًا: أن العود هو العزم على الوطء، ونقل الإمام وغيره عن القديم: أن العود هو الوطء، هذا لفظه. ومنه أخذ المصنف بلا شك، فسقط من العود إلى العود، إما لانتقال نظره أو لغلط في نسخته. قوله: وإن بقي من اللعان الكلمة الخامسة فظاهر منها، ثم أتى بالكلمة، لم يصر عائدًا وهذا متفق عليه، لأنه والحالة هذه فارقتها بكلمة واحدة، فكان كما لو طلقها. وفي الجيلي: أنه قد قيل: يطرد الخلاف فيه أيضًا وهو بعيد. انتهى كلامه. وهو يقتصر أنه لا خلاف في المسألة إلا هذا النقل الذي لا يعتمد وليس كذلك، فإن الفوراني في الإبانة قد حكى فيه هذا الخلاف الذي حكاه الجيلي. قوله: وإن ظاهر منها ظهارًا مؤقتًا فأمسكها زمانًا يمكن فيه الطلاق، فقد قيل: يصير عائدًا، وقيل: لا يصير عائدًا إلا بالوطء، وهو الصحيح وظاهر النص، وعلى هذا هل يحصل العود عند الوطء أو بالوطء نتبين أنه صار عائدًا من وقت الإمساك؟ وجهان أشبههما في الرافعي الأول، وعلى ذلك ينبني حل الوطء. فإن قلنا بالثاني كان الوطء حرامًا، كما لو قال لزوجته: إن وطئتك فأنت طالق قبله. وإن قلنا بالأول كان له الوطء، لكن يجب عليه إذا غيب الحشفة أن ينزع، كما ذكرنا فيما إ ذا قال: إن وطئتك فأنت طالق. قال الإمام وقد ذكرنا هناك وجهًا: أنه لا يحل الوطء ولا شك في خروجه هنا. قلت: وفي ذلك نظر، لأن من قال به ممن صور المسألة بما إذا كانت اليمين

بالطلاق الثلاث، لأن الوطء يستعقب النزع [وهو حرام] ولا سبيل إلى حصوله في حالة الإباحة فيمنع من الابتداء لأجل ذلك. وهنا أي: في الظهار يمكن النزع في حالة هي حلال له، بأن يعلق العتق عن كفارته بالجماع، أو ينجزه عقيب تغييب الحشفة فينتفي المحذور وهو بمثابة ما أبديته فيما إذا كانت اليمين بطلاق رجعي، أي: من قدرته على رجعتها عند تمام الإيلاج. انتهى كلامه. وما ذكره من تصوير القائلين بالتحريم في الطلاق البائن دون الرجعي، قد أشار إليه أيضًا في باب الإيلاء، وهو غلط قبيح وذهول عجيب، فإن الخلاف مصور في كتب الأصحاب بالطلاق البائن والرجعي معًا، حتى في الشرحين للرافعي والروضة للنووي ولهذا قال صاحب التنبيه: وإن كانت اليمين بالطلاق الثلاث طلقت ثلاثًا، وقيل: إن كانت اليمين بالطلاق لم يجامع، فأطلق تحريم الجماع بعد أن قدم التقييد بالثلاث لغرض آخر. قوله: وإن أعتق نصف عبدين وهو معسر فقد قيل: يجزئه، لأن الأشقاص تنزل منزلة الأشخاص في الزكاة، كما إذا ملك نصف ثمانين شاة ونصفها الآخر لذمي، فإنه يلزمه ما يلزمه لو ملك أربعين شاة. وقيل: لا يجزئ، لأنه مأمور بإعتاق رقبة، ونصفا رقبة ليسا برقبة. وقيل: إن كان الباقي حرًا أجزأه لحصول الاستقلال بالتصرف، وإن كان رقيقًا لم يجزه، وهو الأظهر في الرافعي والروضة. ثم قال: فإن قيل ما ذكرتم، أي في تعليل الأول موجود في الأضحية، وقد جزمتم بعدم الإجزاء. قلنا: فرق الأصحاب بينهما بأن التشقيص عيب، ومطلق العيب يمنع الإجزاء في الأضحية ولا كذلك هنا، وهذا الفرق قد يمنع، فإن الأضحية- أيضًا- لا تمنع من الإجزاء فيها إلا ما ينقص اللحم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما ذكره من جزم الأصحاب في الأضحية بعدم الإجزاء ليس كذلك، فقد جزم الجرجاني في المعاياة بجوازه في الأضحية بعدم الإجزاء ليس كذلك، فقد جزم الجرجاني في المعاياة بجوازه في الأضحية مع حكايته للخلاف في الرقبة على عكس ما ذكره المصنف، ذكر ذلك في كتاب الزكاة، فقال: مسألة: لا يجوز إخراج نصفين من شاتين عن شاة في الزكاة في أصح الوجهين، ويجوز مثله في

الهدي والأضحية وكفارات الحج، والفرق أن المقصود منها اللحم، فكان الأشقاص فيها كالأشخاص، وفي الزكاة بخلافه. وأما إخراج نصفي رقبتين في الكفارة فإن كان باقيهما حرًّا جاز، وإن كان الباقي رقيقًا فإنه يجوز أيضًا في أصح الوجهين. هذا لفظه، ثم قد حكى المصنف الخلاف في إجزاء التضحية بذلك في كتاب الزكاة قبيل باب صدقة المواشي، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. الأمر الثاني: أن ما ذكره من أن نصفي رقبة ليس برقبة غلط في التعبير، بل هو رقبة بلا شك، والصواب أن يقول: نصف رقبتين. قوله: وفي تعليق القاضي الحسين: أن الشافعي- رضي الله عنه- نص على إجزاء أنصاف الرقاب عن الكفارة، فقال: ولو أعتق رقبتين عن كفارتي ظهار أو ظهار وقتل أجزأه، ويقع نصف عن هذا ونصف عن ذاك، لأن الجملة إذا قوبلت بالجملة يتوزع آحادها على آحادها. ثم قال: وقد حصل لك بما ذكرناه أن هذه المسألة التي وجد فيها النصف، لم يختلف أحد من أصحابنا في حصول الإجزاء فيها، وقد صرح بذلك ابن الصباغ. وفي الرافعي: أن الإمام ذكر أن منهم من أثبت خلافًا فيها. والذي رأيته في النهاية في هذا الموضع إجراء الخلاف فيما إذا أعتق نصف عبدين خالصين له عن كفارة واحدة، وجعله بمنزلة ما إذا أعتق نصفين من عبدين باقيهما حر دون ما عداه. انتهى كلامه. اعلم أن الرافعي قد صور مسألة النص بما إذا أعتق العبدين عن الكفارتين، وصرح المعتق بالتشقيص، فقال: عن كل كفارة نصفًا من هذا ونصفًا من هذا، وحكى فيها خلافًا عن النهاية والبسيط، وقد رأيت التصوير وحكاية الخلاف المذكورين في النهاية والبسيط مطابقًا لما نقله عنهما الرافعي، ولم يصرح المصنف بهذا التصوير، بل صور مسألة النص بما إذا أعتق العبدين عن الكفارتين، ولم يرد على ذلك، والرافعي لم يذكر هذه المسألة، وإنما ذكرها الإمام وجزم فيها بالصحة. ثم قال: واختلف أصحابنا في كيفية الوقوع، فمنهم من قال: يقع عن كل كفارة عتق عبد، ومنهم من قال: يقع عن كل واحد نصفا العبدين. ثم ضعف الثاني. إذا علمت ذلك، فإن كان التصوير الذي ذكره المصنف للنص مثل التصوير الذي ذكره الرافعي له، فالخلاف الذي حكاه- أعني: الرافعي- عن الإمام صحيح، وإنكار

المصنف له غلط عجيب، فإن الإمام قد ذكره عقب الموضع الذي نقله عنه المصنف بأسطر، وذلك قبيل فصل أوله: قال: ولو أعتقه على أن يجعل، وإن كان- أعني: التصوير- مغايرًا له كان نقله عن الرافعي حكاية الخلاف فيه غلطًا، كما قدمناه، على أن الرافعي قد حصل له أيضًا في المسألة غلط، نبهت عليه في كتاب المهمات. قوله: والفرق أن الكفارة لها بدل، ولأجل هذا الفرق كان المسكن والخادم يباعان في الحج على المشهور، ولا يباعان هنا. انتهى كلامه. وما ذكره من كون المشهور هو البيع في الحج غلط، سببه اشتباه الكلام عليه لمعنى يطول ذكره بل الأكثرون على عدم البيع، وقد صرح هو به في كتاب الحج وسبق ذكر لفظه هناك فراجعه.

باب اللعان

باب اللعان قوله: وإن انتفى عن ولدها وقال: وطئك فلان بشبهة، أي: وصدقه فلان وادعى الولد، عرض على القائف ولم يلاعن لنفيه، لأن له طريقًا آخر ينقطع به النسب وهو العرض على القائف وإلحاقه بفلان، وإنما يصار إلى نفي النسب باللعان إذا لم يكن للإسقاط طريق آخر، ألا ترى أن ولد الأمة لا ينتفي باللعان على الأصح، لإمكان نفيه بدعوى الاستبراء. ثم قال: فإن ألحقه القائف بفلان لحقه، وإن ألحقه بالزوج فله إذ ذاك أن يلاعن. انتهى كلامه. وما ذكره آخرًا من لعان الزوج عند إلحاق القائف الولد به، قد جزم الرافعي بخلافه وعلله بأنه كان يمكن ألا يلحقه القائف به، واللعان إنما شرع حيث لا طريق سواه، نعم، جزم الروياني في البحر بما قاله المصنف، فكأنه أخذه منه، ولم يقف الرافعي، وإنما ذكرت هذه المسألة لئلا يظن من لا اطلاع له أن ما قاله سهو، لا قائل به. قائل: فإذا بلغ الرجل إلى لفظ اللعنة أو المرأة للغضب، استحب للحاكم أن يقول: إنها أي اللفظة الخامسة موجبة للعذاب، أي: في الدنيا، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. انتهى كلامه. وما ذكره من تفسير العذاب بعذاب الدنيا غير مستقيم. فإن المراد بالعذاب الدينوي إنما هو الحد، وذلك إنا يتصور من الزوج خاصة، فإنه إذا أتى بالكلمة الخامسة وجب الحد على المرأة، وأما الكلمة الخامسة من المرأة فلا توجب حدًا بل تسقطه، وحينئذ فلا يصح تفسير كلام الشيخ بالعذاب الدنيوي، لأنه جعل الخامسة من كلامهما موجبة لذلك، والصواب ما قاله الشيخ محيي الدين في تعليقته على التنبيه: أن المراد به إنما هو العذاب في الآخرة. قوله: في حديث المعراج أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى نسوة معلقات بثديهن ... إلى أن قال: يأكل حرايبهم وينظر على عوراتهم، والحرائب جمع الحريبة وهو المال النفيس انتهى.

الثدي- بضم الثاء المثلثة كسر الدال وتشديد الياء- جمع ثدي- بفتح الثاء. والحريبة بالحاء والراء المهملتين وبالياء بنقطتين من تحت بعدها باء موحدة، وقد فسره المصنف بما سبق. قوله: وإن كانا ذميين لاعن بينهما في المواضع التي يعظمونها، فيلاعن بين اليهوديين في الكنيسة، وبين النصرانيين في البيعة، وبين المجوس في بيت النار. انتهى. والذي ذكره الجوهري أن الكنيسة والبيعة للنصارى، وأن الصلوات لليهود وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:40]، ولم يتعرض في الكشاف في سورة الحج للكنيسة، وقال: إن البيعة لليهود، والصوات للنصارى، ونقل النووي في تهذيب الأسماء واللغات عن الجوهري: أن الكنيسة للنصارى، ولم يذكر البيعة. قوله: وإن تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، أي: سواء كانت بتلك الزنية التي قذفها الزوج بها أو غيرها، لما روى الترمذي عن ابن عباس: أنه - صلى الله عليه وسلم - لاعن بين هلال وامرأته، وقضي ألا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى ولا يرمي ولدها، فمن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. انتهى. هذا الحديث رواه أبو داود ولم يروه الترمذي. نعم، ذكر أن ابن عباس ممن روى اللعان من حيث هو، فإنه قال: وفي الباب عن ابن عباس، وسهل بن سعد الساعدي.

باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق

باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق قوله: ولو لم يحصل العلم بأن الولد ليس منه، بل غلب على ظنه ذلك، كما إذا أتت به بعد الوطء والاستبراء بستة أشهر أو أكثر إلى أربع سنين، فقد حكى الإمام في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يباح له النفي. والثاني: حكاه عن العراقيين أنه إن رأى بعد الاستبراء مخيلة الزنى التي تسلط على القذف أو تيقن الزنا جاز، بل وجب، وإن لم ير شيئًا فلا يجوز له. والثالث: يجوز النفي، سواء وجدت مخيلة الزنى أو لم توجد، ولا يجب بحال لمكان التردد. قال الرافعي: وكلام أصحابنا العراقيين يوافق الأول. قلت كلام البندنيجي والمحاملي وابن الصباغ يوافق الثاني، وهو الذي حكاه الإمام عنهم. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذه الأوجه متداخلة، فإن الثالث هو الأول بعينه، وقد صرح الإمام والرافعي بأن القائل بالأول يقول: يجوز ولا يجب، بل الأولى أن يشير على نفسه والإمام- رحمه الله- لم يحك الوجه هكذا، فإنه ذكرها في أوائل الباب، وقال فيها وجهان صريحان وفي كلام الأئمة ما يدل فحواه على ثلاثة، أحدها يجوز مطلقًا ولا يجب. والثاني: قاله العراقيون إن لم ير مخيلة فلا يجب، بل لا يجوز، وإن رآها وجب، ثم قال مستدركًا على العراقيين ما نصه: وإيجاب النفي قد لا يتجه مع إمكان العلوق من الروح، وهذا هو المسلك الثالث. هذه عبارته، فعلمنا أن الثالث الذي استخرجه من فحوى كلامهم: أنه إن لم ير مخيلة فلا يجوز، وإن رآها جاز، ولكن لا يجب كما يقوله العراقيون، ولا شك أن في كلام الإمام هنا غموضًا، فلذلك حصل هذا الوهم فيه للغزالي في البسيط، والرافعي في الشرحين الكبير والصغير، والنووي في الروضة

والمصنف. نعم، تفطن في المطلب للتكرار، ولم يتفطن إلى الثالث الذي خفي استخراجه عن هؤلاء الئمة، ومن الله- تعالى- بمعرفته، وما أحسن قول القائل: اعرفوا الرجال بالحق ولا تعرفوا الحق بالرجال. الأمر الثاني: أن الرافعي قد وقع فيه نسبة الجواز إلى العراقيين، وهو غلط كما نبه عليه المصنف، إلا أن هذا الغلط سببه إسقاط واحدة وهي الثاني، ويدل عليه كلام الرافعي عقبه، كما أوضحته في المهمات فراجعه، إلا أن هذه اللفظة قد سقطت من النسخة التي هي بخط الرافعي، ولأجل ذلك إنما لما لخص الشرح الصغير منه وقع ذلك فيه أيضًا على جه لا يقبل التأويل، فإنه نسي محله وتصرف في العبارة. قوله: ولو كان بين الولدين ستة أشهر فصاعدًا لم يلحقه أحدهما بإقراره بالآخر، لكن ينظر إن نفى الأول باللعان كان له نفي الثاني- أيضًا- باللعان، ولا ينتفي بدونه، لأنها وإن بانت باللعان كان احتمال وطئه لها بعد وضع الأول ممكنًا، فيجوز أن تكون قد علقت قبل اللعان، ويكون حائلًا حال حصول البينونة. وفي المهذب: أن الثاني ينتفي بغير لعان، لأنها علقت به بعد زوال الفراش. قال الرافعي: وليس هذا وجهًا آخر بل الأشبه أنه سهو، والتوجيه الذي ذكره ممنوع. انتهى كلامه. وما ذكره الرافعي واقتضى كلام المصنف الموافقة عليه، قد تابعه عله- أيضًا- في الروضة وهو غريب، فإن الذي ذكره في المهذب قد جزم به قبله شيخه القاضي أبو الطيب في التعليق وبسطه وأطال الاستدلال عليه، ذكره في أثناء أبواب اللعان في باب ما يكون قذفًا وما لا يكون بعد ورقتين من أوله، وقد بسطت ذلك في المهمات، فيراجع

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان باب من يصح يمينه وما يصح به اليمين قوله: ولو حلف ألا يفعل مباحًا، كما إذا حلف لا يلبس الناعم ولا يأكل الطيب من الطعام، فقيل: إن حلها أفضل، واختاره الشيخ أبو حامد. وقيل: المقام عليها أفضل، واختاره القاضي أبو الطيب. ثم قال بعد تعليل الخلاف ما نصه: وقال ابن الصباغ بعد حكاية الخلاف: إن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، فمنهم من يكون له ذلك أعون على نفسه، وأمكن له في طاعته وأقطع للدنيا عنه، فيكون في حقه طاعة. انتهى كلامه. وما حكاه جميعه من الخلاف والتعليل وتفصيل ابن الصباغ، إنما محله في عقد اليمين لا في حلها كما زعمه المصنف، صرح بذلك ابن الصباغ فقال: فأما إذا حلف ألا يأكل اللين ولا يلبس الناعم، فالذي اختاره الشيخ أبو حامد أن اليمين في ذلك مكروهة. وفي وجه أن اليمين في ذلك طاعة، واختاره القاضي أبو الطيب، لأن السلف كانوا يقصدون قشف العيش، وهذا فقد اختلف المتقدمون فيه، وهو مختلف باختلاف أحوال الناس، فمنهم كذا وكذا لجميع ما تقدم من التفصيل، وهذا صريح في عكس ما قاله المصنف من جعل ذلك في الحل، وقد نقله عنه الرافعي في العقد على الصواب، ولا يلزم من كون العقد مكروهًا أن يكون الحل مكروهًا، لأن الماوردي حكى وجهين في العقد، وعلله بأنه عرض الله- تعالى- لليمين.

قوله: وإن حلف باسم له يسمى به غيره مع التقييد، كالرب والرحيم والقادر والقاهر، ولم ينو غيره انعقدت يمينه، سواء نوى به اليمين أو أطلق، فإن نوى به غيره لم تنعقد. ثم قال: وقد ألحق الغزالي بهذا النوع لفظ العليم والحكيم. انتهى كلامه. وما ذكره من إلحاق الغزالي هاتين اللفظتين بهذا النوع وهم، بل ألحقهما بالنوع الثالث، وهو الذي يطلق على الرب وغيره كالحي والموجود حتى لا يصح عند الإطلاق.

باب جامع الأيمان

باب جامع الأيمان قوله: وإن حلف لا يشرب السويق فاستفه لم يحنث، فلو كان خاثرًا بحيث يتناول بالمعلقة فحساه. قال الرافعي: فيه خلاف، والأشبه أنه لا يحنث، وهو ما قطع به الشيخ أبو نصر، وهذا الخلاف أبداه الإمام احتمالًا. ولو حلف لا يأكله فاستفه أو بله وتناوله بأصبعه أو ملعقة- حنث. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما قاله من أن الخلاف الذي ذكره الرافعي قد أبداه الإمام احتمالًا غلط عجيب، فإن الإمام جازم في مسألة الرافعي بالحنث، وأنه يسمى شربًا، وإنما تردد في تسميته أكلًا- أيضًا- فإنه قال في الباب الثاني من جامع الأيمان بعد ورقة من أوله ما نصه: والذي يتردد الرأي فيه أن يكون خاثرًا، يتأتى تعاطيه بالملاعق، ويتأتى تحسيه على صورته، فكيف الوجه هذا محتمل؟ عندي يجوز أن يقال: تحسيه شرب في حم البر والحنث، ويجوز أن يقال: يتناوله اسم الأكل والشرب جميعًا، والعلم عند الله تعالى. هذه عبارته. وقد ذكر الغزالي في البسيط مثله- أيضًا- ولكنه في الوسيط حكاه على غير وجهه، وعبر فيه بعبارة توهم أنه خلاف محقق للأصحاب، فإنه عبر بقوله: ولو حلف لا يشرب سويقًا فصار خاثرًا بحيث يؤكل بالملاعق فتحساه، ففيه تردد، هذه عبارته من غير زيادة عليه، ولا شك أن الخلاف الذي ذكره الرافعي إنما أراد به التردد الذي ذكره الإمام، كما أشار إليه المصنف، إلا أنه قد حصل فيه خلل من وجهين، والموقع له في الأمرين معًا هو كلام الوسيط، وكلام الغزالي في الوسيط أراد فرض المسالة في الأكل، فسبق القلم أو الذهن إلى الشرب، ثم عبر بالتردد كما عبر به الإمام، إلا أنه أطلقه ولم يضفه إليه، وإطلاقه صحيح إلا أنه محتمل لأمرين، ففهم الرافعي منهما

غير المراد، وقد مشى في الروضة على هذا الغلط الذي وقع للرافعي، وقد أوضحت ذلك كله في كتاب ((المهمات)). الأمر الثاني: أن ما حكاه عن أبي نصر- يعني: ابن الصباغ- من قطعه بما رجحه الرافعي من عدم الحنث ليس كذلك، فإنه إنما قطع به في بله بالماء، ولم يجعله مانعًا، فإنه قال ما نصه: وجملته أنه إذا حلف لا يشرب سويقًا فاستفه، أو بله بالماء وأكله بالملعقة أو بأصابعه لم يحنث، لأنه ليس بشرب، وإن طرح فيه ماء فماثه فيه ثم شربه، حنث، لأنه شرب. هذا لفظه من غير زيادة عليه وهو كما قلناه من أنه إنما قطع بعدم الحنث في صورة أخرى، وماث- بالميم والثاء المثلثة- معناه مرس وأذاب وقد اتضح بجميع ما قلناه الجزم بالحنث في مسألة الرافعي بخلاف ما رجحه، وتبعه عليه في الروضة، وإنما محل التردد إذا حلف لا يأكل. قوله: وإن حلف لا يلبس له ثوبًا فوهبه منه، أو اشتراه أو لبس ما اشتراه له، أي: بطريق الوكالة لم يحنث، لأنه لبس ثوبًا له حالة اليمين. انتهى كلامه. وتعبيره في آخر كلامه بقوله: حالة اليمين سهو، لأنه إذا اشتراه منه أو اوتهبه لا يحنث بلبسه، كما اقتضاه كلامه، وإن كان له حالة اليمين، بل الصواب: أن يقول حالة اللبس، فإن الاعتبار بتلك الحالة لا بحالة الحلف. قوله: فإن حلف ليضربن عبده مائة سوط، فشد مائة سوط وضربه بها دفعة واحدة، كفى إذا غلب على ظنه أن ثقل الجميع وصل إليه، بخلاف ما لو قال: لأضربنه مائة ضربة، فضربة بالمائة المشدودة فإنه لا يبر في أظهر الوجهين، والفرق أنه جعل هناك العدد للأسواط وهي متعددة، وهاهنا جعل العدد للضربات فلابد من تعددها. ثم قال ما نصه: وعنده أيضًا، أي: عند القائل بالفرق، أنه لابد من تواليها حتى تقع الضربة بعد الضربة، حتى تتم الضربات المذكورة، قاله الإمام وغيره، هذه عبارته، وهي تقتضي أن التفريق في الزمان لا يجوز، وليس كذلك بل هو جائز بلا خلاف. وإنما أشار الإمام بذلك إلى إيضاح اشتراط التعدد، كما يدل عليه عبارته وعبارة الغزالي في البسيط، فعبر المصنف بتعبير موهم وزاده إيهامًا بقوله: وعنده أيضًا، ولا شك أنه التبس ذلك على المصنف، وقد تفطن في المطلب لذلك وقرره على الصواب، ومحل ذكرها في النهاية في أول الباب وفي البسيط في آخره. قوله: وإن حلف لا يكلم فلانًا حينًا أو دهرًا أو زمانًا أو حقبا بر بأدنى زمان.

ثم قال: وكذلك إذا قال: أحقابًا، لأنها أسماء مبهمة تطلق على قليل الزمان وكثيره. انتهى كلامه. وما ذكره في الأحقاب غير صحيح، لأنه لو حلف لا يكلمه أيامًا لم يبر إلا بثلاثة أيام، فكذلك إذا حلف على الأحقاب لابد من ثلاثة أزمنة، والذي أوقع المصنف في هذا الوهم أن الرافعي ذكر ذلك فيما إذا حلف على الإثبات، كقوله: لأقضين دينك إلى حقب، فقال: لا يحنث إلا بالموت بعد التمكن. قال: وكذلك لو أتى بأحقاب، والذي ذكره واضح، لأن زمان البر إذا اتسع في الإثبات مع التعبير بالمفرد، فمع الجمع أولى فنقله المصنف إلى مسألتنا وهو النفي ذهولًا. قوله: تنبيه: الحقب- بضم الحاء وضم القاف وسكونها- هو الدهر وجمعه أحقاب، كذا قاله أهل اللغة. انتهى كلامه. وما ذكره من كون المضموم والساكن لغتين في الدهر، ذكره النووي في لغات التنبيه، فقلده فيه المصنف، والمعروف خلافه، فقد جزم الجوهري بأن الساكن مدلوله ثمانون سنة، ويقال أكثر من ذلك، وجمعه حقاب بكسر الحاء، قال: وأما مضمومها فهو الدهر وجمعه أحقاب. وذكر ابن الأثير في النهاية في ساكن القاف ما ذكره الجوهري، ولم يذكر غيره. قوله: وإن حلف لا يأكل هذه التمرة، فاختلطت بتمر فأكله إلا تمرة، ولم يعرف أنها المحلوف عليها لم يحنث، لاحتمال أنها المحلوف عليها، والأصل فراغ ذمته من الكفارة، والورع أن يكفر لاحتمال أنها المحلوف عليها. انتهى كلامه. والصواب: أن يقول في الكلام الآخر، لاحتمال أنها غير المحلوف عليها، أعني بإثبات لفظ غير. قوله: تنبيه: الجرعة- بكسر الجيم وفتحها- قاله ابن السكيت. ويقال: جرعت الماء بكسر الراء على المشهور. وحكى الجوهري أيضًا فتحها. انتهى كلامه. وما ذكره في الجرعة من الكسر غلط إنما هو الضم، وقد ذكره النووي في تحريره على الصواب، ومنه أخذ المصنف على عادته، ونقل كلامه هنا بحروفه، فغلط في هذه اللفظة، وكذلك نقله ابن السكيت وابن الأثير في غريبه مع جمعه، ولم يذكر الجوهري إلا الضم. قوله: وإن حلف فقال: إن شاء الله ناويًا رفع اليمين لم يحنث.

ثم قال بعده: فإن جرى الاستثناء على لسانه على العادة، ولم يقصد به رفع اليمين لم يصح الاستثناء، لأن ذلك لغو الاستثناء، ولما لم ينعقد لغو اليمين لم ينعقد لغو الاستثناء. فإن قيل: حكى صاحب البيان فيما إذا نوى صوم غد من شهر رمضان وقال: إن شاء الله- خلافًا في انعقاد نيته عند عدم قصد التعليق، فهلا جرى مثله هاهنا؟ فالجواب: أنا أخذنا بالأحوط في الموضعين. انتهى كلامه. والسؤال الذي ذكره عجيب، فإن مسألة الشيخ في اللغو وهو الذي لم يقصد بل سبق إليه، والإجماع على أنه لا أثر له، ومسألة صاحب البيان فيما إذا قصد اللفظ، ولكن لم يقصد به التعليق ولا التبرك، وهو أن الأمور كلها لا تقع إلا بمشيئة الله- تعالى- والخلاف حكاه الماوردي على أن كلام البيان غير محرر، فإن تعبيره يقتضي جريان الخلاف في ما إذا قصد التعليق أو قصد التبرك، ولا يمكن القول به، بل إطلاق من أطلق محمول عليها، صرح به غيره، وهو أنه إن أراد التبرك لم يصح أو حقيقة التعليق صح. قوله في المسألة: واعلم أن قول الشيخ، ولم يقصد به رفع اليمين، يفهم أنه إذا قصد به رفع اليمين أنها لا تنعقد. وفي الشامل: والصورة هذه أنها تنعقد، وفي ذلك نظر. انتهى كلامه. واعلم أن المصنف قد حكى قبل هذا الكلام بأسطر خلافًا في انعقاد اليمين مع الاستثناء بالمشيئة، فمنهم من قال: نعم، لكن المشيئة غير معلومة فلم يحكم بالحنث، وقيل: لا تنعقد أي: لأنه لا يتصور فيها الحنث بخلاف التعليق بمشيئة زيد ونحوه، ومقالة ابن الصباغ التي أعادها واستغربها هي أحد الوجهين.

باب كفارة اليمين

باب كفارة اليمين قوله: تنبيه: يشترط في إجزاء العتق المعجل عن الكفارة أن يبقى العبد حيًا إلى الحنث وكذا على الإسلام، فلو مات قبل الحنث أو ارتد لم يجزئه كما في الزكاة المعجلة، كذا صرح به الرافعي. ومقتضاه أن يعتبر بقاء سائر الأوصاف، وكذا بقاء من صرف إليه الطعام أو الكسوة على صفة الاستحقاق إلى الحنث. انتهى كلامه. وما ذكره استنباطًا واقتضى كلامه عدم ذكر الرافعي له عجيب، فقد صرح الرافعي عقب ذكره لهذين المثالين بقاعدة عامة، يؤخذ منها فقال: وتغير الحال في التكفير قبل الحنث لهو في تعجيل الزكاة، هذه عبارته. قوله: وفي الحاوي: أنه يعتبر في التكفير بالمال أن يكون ثمن الرقبة فاضلًا عن كفاية وقته، حتى إن التكفير بالمال قد يجب على من يحل له الزكاة، واعتبر العمر الغالب، وهو معنى قول الشافعي وجماعة أنه دائر مع الأخذ من الزكاة. ثم قال ما نصه: ويتجه أن يجيء فيما نحن فيه وجه ثالث، أبداه الرافعي احتمالًا في كتاب الظهار: أن المعتبر كفاية سنة. انتهى كلامه. ما ذكره احتمالًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله غريب، فقد صرح البغوي في فتاويه بذلك، ثم إن القائلين باعتبار الأخذ من الزكاة يلزمهم جريان الخلاف المذكور، لأن الأخذ هل يختص بالسنة أم يتعدى إلى العمر؟ فيه خلاف مشهور. قوله: أما إذا لم يجوز للكافر أن يتملك عبدًا مسلمًا ليعتقه عن كفارته، فيقال له: إن أردت الوطء فأسلم وأعتق، وكذا لو كان معسرًا عن الرقبة، وهو قادر على الصوم لا يجوز له العدول إلى الإطعام، لأنه يمكنه أن يسلم ويصوم، هكذا قاله البغوي، وحكاه الإمام عن القاضي. ثم قال: وفيه نظر، فإن الخطاب بالعبادة البدنية لا يجب على الكافر الأصلي، فكان الصوم مخرجًا من كفارة الذمي.

قال الرافعي: وقد يجاب عن ذلك بأنا لا نحمل الذمي على الإسلام، ولا نخاطبه بالصوم، ولكن نقول: لا نمكنك من الوطء إلا هكذا، فإما أن تتركه أو تسلك سبيل الحل، وأيضًا فالإطعام بدل عن الصيام، وتقدير البدل في حق من لا يتحقق في حقه المبدل مستبعد، وهذا أبداه في تردده، وجعل الغزالي ما ذكره الإمام المذهب، واستبعد ما قاله القاضي انتهى. فيه أمران: أحدهما: أن الرافعي قد نقل عن التتمة قبل ما نقله عن البغوي، فأسقطه المصنف عند نقله لكلام الرافعي إما نسيانًا أو لسقوطه من نسخته. الثاني: أن ما ذكره بحثًا للإمام من إسقاط اعتبار الصوم، ولم يقف عليه منقولًا، قد حكاه الماوردي في باب حكم المهادنين، فقال: وفي جواز إطعام الكافر فيها، أي: في كفارة الظهار، وجهان: أحدهما: يجوز، لأنها إطعام. والثاني: لا، لأنها بدل عن الصيام هذه عبارته.

باب العدد

باب العدد قوله: وقد روي: أن الحسن بن علي- رضي الله عنهما- ولد بعد ستة أشهر من ولادة أخيه الحسين. انتهى كلامه. كذا وقع في أصل المصنف بخطه أن الحسن بعد الحسين وهو غلط، فإن الحسن أكبر من الحسين بلا نزاع. قال النووي وغيره: إن الحسن ولد في نصف رمضان سنة ثلاث، وتوفي بالمدينة مسمومًا سنة تسع وأربعين، وأن الحسين ولد في شعبان سنة أربع، وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بالعراق رضي الله عنهما. قوله: وإن أذن لها في الخروج إلى منزل أو إلى بلد لحاجة، ثم اختلفا- فقالت: نقلتني إلى الثاني ففيه أعتد، فقال: ما نقلتك فالقول قول الزوج. ثم قال: وإن مات الزوج واختلفت هي والورثة في ذلك فالقول قولها، لأنهما استويا في الجهل بقصد الزوج، ومع الزوجة ظاهر وهو أن الأمر بالخروج يقتضي خروجها من غير عود، وهذا ما حكاه القفال عن نص الشافعي في الصورتين على ما حكه الفوراني، وهو الأصح باتفاق الأصحاب. ونقل نص الشافعي أن القول قول الوارث أيضًا، ونص أن القول قولها سواء كان الاختلاف مع الزوج أو وارثه انتهى كلامه. واعلم أن هذه التفرقة المنقولة عن الفوراني عن نص الشافعي موجودة في كلام الفوراني، فقد رايتها في ((الإبانة))، له لكن المشهور في نقل هذا النص إنما هو العكس، فقد قال القاضي الحسين في التعليق في الكلام على اختلافها هي والزوج ما نصه: نص هاهنا على أن القول قولها، وإنما ذاك لأن الظاهر معها. وحكى المزني في الجامع الكبير عن النص: أنه لو وقع هذا الاختلاف مع الوارث، فقالت: نقلني أبوك، وقال: لم ينقلك، فالقول قول الوارث وليست المسألة على قولين، هذا كلام القاضي وهو أجل أصحاب القفال، وكذا ذكره الإمام في النهاية والبغوي في التهذيب، ونقل الرافعي أن الصيدلاني نقله هكذا عن القفال.

نعم، تابع الفوراني على ذلك بعض من جاء بعده، كالغزالي فاعلمه، وقد نقل الرافعي هذا الاختلاف، واقتصار المصنف على كلام الفوراني وترك من هو أثبت منه غريب. قوله: فروعك لو قال الزوج أو الوارث: لم يحصل الانتقال بالإذن، فالقول قوله. قال الإمام: ويحتمل أ، يجعل القول قولها، لوجه ذكر فيما لو قال صاحب اليد: أعرتني هذه الدار. فقال المالك: ما أعرتك، أنه يجعل القول قول صاحب اليد. انتهى كلامه. وما نقله عن الإمام من أنه ذكر ذلك في الصورتين ليس كما قاله، فإن الإمام لم يذكر ذلك إلا في الاختلاف بينها وبين الزوج، ولم يذكر الاختلاف مع الورثة. قوله: فرع: لو حصل العتق والطلاق معًا اعتدت عدة الحرائر وجهًا واحدًا، وذلك يتصور بأن يعلق السيد عتقها والزوج طلاقها على شيء واحد ... إلى آخر كلامه. وما اقتضاه كلامه- رحمه الله- من نفي الخلاف ليس كذلك، بل في اعتدادها بعدة الحرائر أو الإماء عند وجود سبب العتق والعدة معًا خلاف مشهور، وقد حكاه المصنف في آخر باب الاستبراء، فقال فيما إذا مات سيد الأمة وزوجها: إن فيه أحوالًا، ثم قال: الثالثة أن يموتا معًا فلا استبراء على الصحيح، وتجب عليها عدة الحرائر على الصحيح عند البغوي، وهو موافق لما حكيته عن الماوردي فيما إذا وقع الطلاق والعتق معًا- أنها تعتد عدة الحرائر وجهًا واحدًا، وعند الغزالي: عدة الإماء تفريعًا على أنها إذا عتقت في أثناء العدة تتم عدة أمة، أما إذا قلنا: عدة حرة فهاهنا أولى. هذا كلامه. قوله: إن قاسم بن أصبغ ذكر عن زينب بنت أم سلمة ابنة النحام توفي عنها زوجها، فأتت أمها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن ابنتي تشتكي عينها، أفأكلحها؟ قال: لا، قالت: إني أخشى أن تنفقئ عينها، قال: لا وإن انفقأت. رواه عبد الحق في أحكامه الكبرى، وقال: إن إسناده صحيح. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ابنة النحام غلط، وصوابه: ابن، أي: بالتذكير على أنه صفة لسلمة، والنحام- بنون مشددة مفتوحة وحاء مهملة مشددة أيضًا، قال الجوهري: يقال: نحم الرجل ينحم بالكسر، فهو نحام مأخوذ من النحيم، وهو التنحنح والزحير. قوله: وإن تزوجت في العدة، ووطئها الزوج الثاني على ظن الإباحة وهي حامل انقطعت العدة.

ثم قال: وانقطاعها بالوطء هو الصحيح، ونسبه الإمام إلى القفال. وقيل: إنها تنقطع بالعقد، ونسبه الإمام إلى الشاشي، وهذا يدل على أنه غير القفال. انتهى كلامه. وهو عجيب يقتضي أنه لا قفال من أصحابنا إلا الشاشي، وليس كذلك، فإن المراد بالشاشي هو القفال أيضًا، ولكن القفال الأول هو المروزي إمام المراوزة، وهو متأخر عن القفال الشاشي، وقد أوضحته في الطبقات. قوله: فرع: للزوج أن يراجعها بعد التفريق في عدته إن كان الطلاق رجعيًا، وفي جواز تجديد النكاح إذا كان بائنًا وجهان حكاهما المراوزة، والأصح منهما عند القفال: لا، وبه أجاب صاحب التهذيب والقاضي الروياني وغيرهما، ومقابله هو المحكي عن الشيخ أبي حامد انتهى كلامه. وهؤلاء الجماعة المذكورن قائلون بعكس ما ذكره المصنف، فالشيخ أبو حامد قائل بالمنع، والباقون قائلون بالجواز، وهكذا ذكره الرافعي من غير زيادة ولا نقصان، فأخذ المصنف المسألة منه، فانعكس عليه. قوله: وإن وطئها الزوج في العدة بشبهة وحبلت من الوطء الثاني، وكانت ترى الدم على الحمل، وقلنا: إنه حيض، فهل تحسب عن العدة؟ فيه وجهان أظهرهما نعم، فإن قلنا: تحسب فليس للزوج الرجعة قبل ذلك. انتهى كلامه. وصوابه: أن يقول بعد ذلك عوضًا عن التعبير بقوله قبل. قوله: أما إذا كان يعاشر الرجعية معاشرة الأزواج من غير وطء، مثل أن يخلوا بها ليلًا ويؤاكلها ويقبلها، فهل تنقضي العدة؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: تنقضي عدة المطلقة البائنة دون الرجعية. ثم قال: وعلى القول بعدم انقضاء العدة، فذاك بالنسبة إلى لحوق الطلقة الثانية والثالثة، أما بالنسبة إلى ثبوت الرجعة فلا، كذا قاله الفراء في فتاويه- يعني: البغوي- وفي فتاوي القفال ما يوافقه، وصرح به الروياني في الحلية. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن هذا الذي نقله عن فتاوى البغوي وغيره وأقره عليه، ولم ينقل خلافه يقتضي أنه الموجود في الفتاوى المذكورة لا غير، وأن الحكم في المسألة كذلك أيضًا، وليس الأمر فيهما على ما زعم، ويظهر الأمر أن يذكر ما قاله في الفتاوى في المسألة، فيقول: قال فيها ما نصه: قال أصحابنا: لا نحكم بانقضاء العدة وإن مضت

لها أقراء وله الرجعة قال شيخنا: والذي عندي أنه لا يحكم بالانقضاء كما ذكروه، ولكن بعد مضي الأقراء لا رجعة أخذًا بالاحتياط في الجانبين، هذا كلام البغوي، وقد ظهر منه ثبوت الخلاف في صحة الرجعة، وأن المعروف صحتها على خلاف المنقول عنه هاهنا. الأمر الثاني: أن ما نقله المصنف عن حلية الروياني من عدم ثبوت الرجعة غلط، فإنه لم يتعرض فيها للكلام على المراجعة بالكلية لا نفيًا ولا إثباتًا، وإنما تكلم في الطلاق وقال: إنه يقع، والموقع للمصنف في هذه الأمور هو التباس وقع في كلام الرافعي، وقد أشبعت الكلام عليه في المهمات فليطلب منه.

باب الاستبراء

باب الاستبراء قوله: ومن لا يحل وطؤها قبل الاستبراء لا يحل التلذذ بها، لاحتمال أن تكون حاملًا من سيدها، فتكون أم ولد له ويتبين أنه لم يملكها، ولأن هذه الاستمتاعات تدعو إلى الوطء المحرم فحرمت إلا المسبية، فإنه يحل التلذذ بها في غير الجماع. ثم قال ما نصه: وقيل: لا يحل كما في غيرها وللعلة الثانية، وهذا أصح في النهاية. انتهى كلامه. وهذا النقل عن النهاية غلط، فإن الأصح فيها الوجه الأول. قوله: الثالثة: إذا زوج أمته ثم مات السيد والزوج معًا، فلا استبراء على الصحيح ويجب عليها عدة الحرائر على الصحيح عند البغوي، وعند الغزالي عدة الإماء. انتهى. ومقتضاه أن البغوي قد حكى خلافًا وليس كذلك، بل هو جازم، وقد وقع التعبير بالقطع في الشرح والروضة.

باب الرضاع

باب الرضاع قوله: قال الشيخ: وإن ثار لها لبن من وطء من غير حمل، ففيه قولان: أحدهما: يحرم، لأن لبن النساء غذاء للأطفال، وهذا رأيته فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب، وهكذا الحكم عندهم فيمن لا ولد لها من بكر أو ثيب. والثاني: لا يحرم، لأن ولد الرضاع تابع لولد النسب ولا ولد لها، وهذا القول حكاه مجلي وجهًا في البكر والثيب التي لا ولد لها، ونسبه إلى الخراسانيين، والرافعي اقتصر على حكايته في البكر إلحاقًا لها بلبن الرجل. انتهى كلامه. وحاصله: أنه لم يقف على حكاية ذلك في الثيب، وأن ما حكاه مجلي ونسبه إلى الخراسانيين غير معروف وهو غريب، فإن الإمام قد حكاه فيهما معًا في باب رضاع الخنثى، فقال: البكر والثيب التي لم تلد قط إذا در لهما لبن، ففي تعلق الحرمة بذلك اللبن وجهان ظاهران: أحدهما: أن الحرمة تتعلق به نظرًا إلى الجنس. والثاني: لا، لأنه لم يتبع مولودًا. هذه عبارته. قوله: أما إذا كانت في سن من لا تحمل، كبنت ثمان- فلبنها نجس، ولا تثبت الحرمة به. قال ابن يونس: ولا خلاف أنه لا يثبت التحريم بالنسبة إلى زوجها. انتهى كلامه. وما اقتضاه كلامه من موافقة ابن يونس على عدم الخلاف ليس كذلك، فقد حكى الإمام في باب رضاع الخنثى عن جماعة من أصحابنا: أنه على الوجهين في لبن الرجل، فقال: وقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أنه لا حكم له، وقال آخرون: هذا بمثابة لبن الرجل، فإن هذا لبن من غير إمكان حمل. هذا لفظه. تنبيه: ذكر المصنف في حديث سهلة بنت سهيل قالت: كنا نرى سالمًا ولدًا، وكان يدخل علي وأنا فضل. انتهى. الفضل- بفاء وضاد معجمة مضمومتين- هي التي خلعت ثيابها التي تلبسها عند الخروج.

كتاب النفقات

كتاب النفقات باب نفقة الزوجات قوله: وفي مقدار الواجب أقوال، المشهور منها أنها مقدرة بمدين على الموسر، ومد ونصف على المتوسط، ومد على المعسر، والثاني عن رواية الشيخ أبي محمد أنه يعتبر بقدر الكفاية كنفقة القريب، والثالث عن رواية صاحب التقريب: أن الاعتماد فيه على فرض القاضي، وعليه أن يجتهد في ذلك. انتهى كلامه. وما نقله عن صاحب التقريب من عدم التقدير مطلقًا غلط، فإن أصل من تعرض لحكاية ذلك عن التقريب هو الإمام، فقال ما نصه: حكى صاحب التقريب والشيخ أبو علي في نفقة المتوسط، والزيادة على المد في نفقة الخادمة في حق الموسر أنه تقدير في الزيادة، وإنما النظر به إلى اجتهاد القاضي. هذه عبارته. وحاصلها أنه إنما يرجع إلى اجتهاد القاضي في نفقة المتوسط خاصة، وظاهرها أيضًا أنه لا في المد، بل في الزيادة عليه، ثم إن الغزالي في الوسيط نقل كلام الإمام بعبارة موهمة، فقال: ونقل صاحب التقريب قولًا: أن الزيادة على المد لا مرد لها، وهو إلى فرض القاضي. هذا لفظه. وهو موافق لنقل الإمام في أنه لا مدخل لاجتهاد القاضي في نفقة المعسر، ولا في المد بالنسبة إلى الموسر والمتوسط، لكنه مخالف له في أنه يرجع إليه فيما زاد على المد في حقهما معًا، ثم إن الرافعي نقل كلام الوسيط على أزيد بيان مما فيه من الخلل، فقلده فيه المصنف فأخطأ. قوله: فالذي ذكره الماوردي أن الموسر: من يقدر على نفقة الموسرين في حق نفسه، وحق كل من يلزمه نفقته من كسبه لا من أصل ماله.

والمعسر: من لا يقدر على أن ينفق من كسبه على نفسه، وعلى من يلزمه نفقته لا نفقة المعسرين، وإن زاد عليها كانت من أصل ماله لا من كسبه. والمتوسط: هو أن يقدر على أن ينفق من كسبه على نفسه وعلى من يلزمه نفقته نفقة المتوسطين، وإن زاد عليها كان من أصل ماله، وإن نقص عنها فضل من كسبه، ثم قال بعد ذلك: فرع: لو اختلفا في يساره وإعساره، فإن لم يعرف له مال فالقول قوله، وإن عرف له مال أيسر به فالقول قولها. وهذا يظهر على قول من اعتبر وجود المال في اليسار، وأما على طريقة القاضي والماوردي، فالذي يظهر أنه لا أثر لوجود المال أو عدمه. انتهى كلامه. ومقتضاه: أنه لم يقف على كلام الماوردي، أو أنه قائل بالمال، كما قاله غيره وليس كذلك، فقد ذكر الماوردي المسألة بعبارة توافق طريقته، فقال: القول قوله ما لم يتحقق يساره، لأن الأصل في الناس العدم، والأصل براءة الذمة حتى يتحقق الاستحقاق. انتهى. فعبر باليسار، وعنده أن اليسار ليس للمال فيه مدخل. قوله: وإن تصرفت فيما أخذت من الكسوة ببيع أو غيره، جاز كالمهر. وقيل: لا يجوز لأن له غرضًا في تجملها، وهذا قول ابن الحداد، وهو مبني على أن الكسوة إمتاع والأول على القول بأنها تمليك. ثم قال ما نصه: فإذا قلنا بمذهب ابن الحداد، فقد قال أبو إسحاق: إن لها أن تلبس ما دون المأخوذ كما في النفقة، والظاهر المنع، لما للزوج من غرض التزين. انتهى كلامه. وما ذكره من تفريع الخلاف المذكور آخرًا على قول ابن الحداد غلط، بل الصواب وهو المذكور في الرافعي وغيره: تفريعه على مقابله، وهو طريقة الجمهور. قوله: ولا تجب النفقة إلا يومًا بيوم. وقال في القديم: تجب بالعقد، إلا أنه لا يجب التسليم إلا يومًا بيوم، ثم قال بعد ذلك: وللقولين فوائد عند المراوزة.

منها: لو اختلفا في التمكين فقالت المرأة: مكنت من وقت كذا، وأنكر، فإن قلنا بالجديد فالقول قوله وإلا فقولها، ومحل الخلاف مصور في الوجيز والوسيط بما إذا تنازعا في النشوز. قال الرافعي: ولفظ الأكثرين كما صورناه، ويجب أن يكون ما ذكره محمولًا عليه. ومنها إذا لم يطالبها بالزفاف، ولم تمتنع هي منه، ولا عرضت نفسها عليه، ومضت مدة فتجب النفقة على القديم، وأما على الجديد فلا، وهو ما حكى الإمام عن العراقيين القطع به. انتهى كلامه. وما ذكره في الفائدتين للخلاف ذهول عجيب، وتناقض ظاهر وقع للرافعي، فتبعه عليه، فإن الفائدة الأولى حاصلها: أن الإيجاب في القديم بالعقد مشروط بالتمكين، والفائدة الثانية حاصلها: أن الإيجاب في القديم بالعقد مشروط بالتمكين، والفائدة الثانية حاصلها: أنه مشروط بعدم النشوز، وهو مناقض للأول، ثم إنه نقل الفائدتين معًا عن المراوزة وليس كذلك، ولا شك أن الأولى طريقة العراقيين، والثانية طريقة الخراسانيين، فأخذ تفريعين من طريقتين مختلفتين ذهولًا عن المدرك، فوقع فيما وقع، ويتلخص من الطريقتين ثلاثة أقوال: أحدها: العقد وحده إلا أنه لا يستقر إلا بعدم النشوز. والثاني: العقد بشرط التمكين. والثالث: التمكين فقط، وفائدة الخلاف في الضمان وفيما لو حلف: لا مال له. قوله: وإذا صامت تطوعًا، سقطت نفقتها. وقيل: لا، ثم قال: وقال الماوردي: إن لم يدعها إلى الخروج منه بالاستمتاع، فهي على حقها، وإن دعاها فامتنعت- كانت ناشزة إن كان ذلك في أول النهار، وإن كان في آخره فلا، لقرب الزمان. ويفهم من كلامه أنه لو دعاها إلى الخروج لغير الاستمتاع فلم تفعل، كانت على حقها، وهذا وجه حكاه في العدة ثالثًا. قال الرافعي: وقد استحسن الروياني هذا التفصيل، والأكثرون سكتوا عنه. انتهى كلامه. والتفصيل الذي نقل الرافعي استحسانه عن الروياني إنما هو الأول، وهو التفصيل

بين أول النهار وآخره لا الثاني، وهو التفصيل بين الأكل والاستمتاع، فاعلمه، فإنه عكس ما يقتضيه كلام المصنف على أن الثاني أيضًا حسن. قوله: فرع: لو ادعت المرأة أن الزوج أبانها وأنكر، فالقول قوله، ولا تستحق عليه النفقة، قاله الرافعي في القسم والنشوز أصلًا مقاسًا عليه. انتهى كلامه. وهذه المسألة مقيدة بما إذا لم تمكن الزوجة من نفسها، فأما إذا عادت ومكنت فإنها تستحق، فقد قال الشافعي في الأم: لو ادعت عليه أنه طلقها. وفي السكنى قولان أصحهما عند العراقيين وغيرهم: الوجوب. ثم قال ما نصه: ومحل الكلام في المسألة إذا لم يتقدم الموت طلاق، أما إذا تقدمه طلاق بائن فلا نزاع في وجوب السكنى. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم النزاع ليس كذلك، فقد قال الرافعي قبيل الاستبراء بقليل: إن في كلام ابن الحداد ما يقتضي إجراء الخلاف فيه. قوله: والجديد أنه لا يجوز الفسخ بالإعسار إلا بعد مضي ثلاثة أيام من وقت ثبوت إعساره. ثم قال: الثالثة إذا مضت الأيام الثلاثة، فلها الفسخ صبيحة اليوم الرابع إن لم يسلم نفقته، وإن سلمها لم يجز الفسخ بما مضى، وليس لها أن تقول: آخذه عن نفقة بعض الأيام الثلاثة، لأن الاعتبار في الأداء بقصد المؤدي. انتهى كلامه. وهذه المسألة التي ذكرها في آخر الكلام غلط تصويرًا وتعليلًا، وبيانه يتوقف على مسألة ذكرها عقب هذه المسألة فقال: الرابعة لو مضى يومان بلا نفقة ووجد نفقة اليوم الثالث وسلمها، وعجز في الرابع فيستأنف المدة أو يبني؟ فيه وجهان: أظهرهما البناء، فعلى هذا يصبر يومًا آخر، ويفسخ في اليوم الذي يليه. هذا كلامه. إذا علمت ذلك، ظهر لك غلط ما تقدم، فإن عدم إجابة المرأة إلى أخذه عن أحد الثلاثة، وتعليله بأن الاعتبار بقصد المؤدي إنما يستقيم أن لو كان منه نفع للمرأة وليس كذلك، لأنا لو أجبنا المرأة لصار الرابع ثالثًا، وحينئذ فلا يفسخ إلا صبيحة الغد؟ لضرورة استكمال الثلاث، بل لا يفسخ إلا بعد تجديد الإمهال على وجه كما سبق، وكذلك الحكم لو حسبناها عن الرابع، وأعسر عن نفقة الغد، فإنها تفسخ من

غير تجديد للمدة على الأصح، كما ذكره الرافعي والمصنف بعد ذلك. واعلم أن الرافعي قد وقع له هذا الغلط على كيفية هي أفحش مما وقع للمصنف، كما نبهت عليه في ((المهمات))، فتابعه عليه في الكتاب، وقد ذكر الإمام الغزالي المسألة على الصواب، فإنهما صوراها بما إذا سألت المرأة أن يأخذ ذلك عن نفقة ماضية ويفسخ الآن، والتصوير المذكور صحيح لا اعتراض عليه.

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم

باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم قوله: والمكاتب لا يجب نفقته على ولده بل في كسبه، وفيه احتمال وجه أبداه الماوردي أن نفقته تجب على الولد لسقوط نفقته بالكتابة. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يظفر بمقالة جازمة بوجوبها على الابن وهو غريب، فقد جزم الرافعي بذلك في أوائل قسم الصدقات، وتبعه عليه النووي في الروضة، وفيه شيء مذكور في ((المهمات))، ثم إن الماوردي حكى عدم الوجوب أيضًا احتمالًا، ولم يرجح أحدهما على الآخر، وقد حكاه الرافعي عنه حكاية واضحة مطابقة، ولم يحكه المصنف على وجهه، ثم إنه مطالب بمستنده في عدم الوجوب. قوله: فرع: لو كان له ابن وولد خنثى مشكل، فإن قلنا: عند اجتماع الابن والبنت النفقة عليهما، فكذلك هنا وإن قلنا: النفقة على الابن فوجهان: أحدهما: النصف على الابن والنصف الآخر يستقرضه الحاكم، فإن بان أن الخنثى ذكر وجب عليه وإلا فالرجوع على الابن، كذا قاله الرافعي. والأولى أن يقال: وإن بان أنه أنثى رجع به على الابن لأنه قد لا يظهر أنه ذكر ولا أنثى ويستمر إشكاله. وأظهرهما أنه يؤخذ الجميع من الابن. انتهى كلامه. وهو يقتضى أنه إذا استمر إشكاله إلى الموت لا يرجع به على الابن، والصواب ما اقتضاه كلام الرافعي، لأنه لا يمكن تفويت ذلك على من اقترض منه، وقد تيقنا أهلية الذكر للوجوب، وشككنا في المشارك له، والأصل عدمه. قوله: وإن كان أبواه على الزوجية وأرادت الأم أن ترضعه لم يمنعها الزوج، فإن طلبت الأجرة فقد قيل: يجوز استئجارها واحتج له بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]، ولو لم يجز استئجارها لم يكن لها أجرة، وهذا هو الأصح في الرافعي. وقيل: لا يجوز، لأنه يستحق الاستمتاع بها في تلك الحالة، فلا يجوز أن يعقد عليها عقدًا آخر. انتهى كلامه. واستدلاله بالآية سهو تبع فيه الرافعي، فإن الآية في المطلقات، فتأمل أولها وهو

{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] إلى آخرها. تنبيه: وقع في كلام المصنف هنا الخول وهو- بخاء معجمة، وواو مفتوحتين بعدهما لام- قال الجوهري: هم الحشم، الواحد خائل، وقد يكون الخول واحدًا أو اسم يقع على العبد والأمة. قال الفراء: هو جمع خائل. هذا كلامه.

باب الحضانة

باب الحضانة قوله: فيما إذا طلقت المرأة واختار الطفل الأب، وإذا مات الولد في بيت الأب لم تمنع من حضور غسله وتجهيزه إلى أن يدفن، وله أن يمنعها من زيارة قبره إن دفن في ملكه بحق نفسه، وإن كان في غير ملكه فكذلك، لكن بحق الله- تعالى- انتهى كلامه بحروفه. وما جزم به من المنع من زيارة القبر إذا لم تكن في ملكه غير صحيح، فإن الصحيح المعروف جواز زيارة النسوة القبور، وقد نقله في كتاب الجنائز عن الأكثرين، ولعل الذي تكلم في هذا الفرع وأجاب بهذا الجواب فرضه فيما إذا كانت المرأة معتدة، فغفل المصنف عن ذلك.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات باب من يجب عليه القصاص ومن لا يجب قوله: وروى أبو داود أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة حجة الوداع: ((ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا عاقله، فمن قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، أو يقتلوا))، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح. انتهى. وما ذكره من كون أبي في شرح الوسيط وهو غلط، بل الذي رواه المذكوران وغيرهما أنه كان في خطبته يوم فتح مكة. قوله: نقلًا عن الشيخ: وإن وجب القصاص على رجل فورث القصاص ولده لم يستوف، وصورة ذلك أن يقتل ولد عتيق والده أو عتيق زوجته وله منها ولد، ثم يموت العتيق أو الزوجة بعد بينونتها منه وقبل استيفاء القصاص. ثم قال: وكلام الشيخ مصرح بأن الابن يرث القصاص الواجب على أبيه لكنه يسقط، والقياس يقتضي عدم إرثه، لأن المسقط قائم، لكن لو صير على هذا لاقتضى إيجاب القصاص على الأب، لأن المانع ينقل الإرث إلى الأبعد، والمصير إليه مستبعد، لكون الابن بصفة الوراثة. انتهى كلامه. وما قرره هنا من كون السقوط بعد الإرث قد خالفه قبيل صدقة المواشي، فجزم بأنه لا يجب بالكلية على وفق البحث الذي أجاب عنه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه، واعلم أن المصنف قد نقل هاهنا عقب هذا الكلام عن الإمام شيئًا، وليس مخالفًا للمذكور هنا، فتفطن له.

باب ما يجب به القصاص من الجنايات

باب ما يجب به القصاص من الجنايات قوله: قال الشيخ: أو خنقه شديدًا. الخنق- بفتح الخاء وكسر النون- مصدر خنقه يخنقه- بضم النون- خنقًا، ويجوز إسكان النون مع فتح الخاء وكسرها. وحكى عن صاحب المطالع فتح النون، وهو شاذ وغلط. انتهى. واعلم أن هذا الكلام قد أخذه المصنف من التحرير للنووي على عادته، وما نقله عن المطالع من فتح النون هو فيه، أعني في المطالع، لكن الأمر فيه كما نقله في الكتاب من كونه وهمًا ولم يبين مستنده، وذلك لأن المذكور في الكتب المطولة فما هو دونها إنما هو الثلاث المذكورة، وكسر النون أشهرها على وزن الكذب، ويؤيد الغلط أن المطالع مختصر المشارق للقاضي عياض، والمشارق لم يذكره، بل ذكر السكون والكسر ورجح السكون على خلاف ما قاله الأكثرون. قوله: وذهب قوم إلى نفي الكراهة في تعلم السحر، كما لا يكره تعلم مذاهب الكفر للرد عليهم، وبهذا قال بعض أصحابنا، كما حكاه الإمام أيضًا، وبه جزم القاضي الحسين والغزالي في الوسيط. انتهى كلامه. وفيما نقله- رحمه الله- عن وسيط الغزالي أمران: أحدهما: أنه لم يتعرض للكراهة بالكلية حتى يقال: إنه نفاها، وإنما صرح بالجواز فقط، فإنه ذكر ذلك في كتاب دعوى الدم والقسامة، فقال: فإن قيل: تعلم السحر حرام أم لا؟ قلنا: إن كان فيه مباشرة محظور من ذكر سخف، أو ترك صلاة فذلك هو الحرام، فأما تعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه فليس حرامًا، وإنما الحرام الإصرار بفعل السحر، لا تعلمه. هذا لفظه. واعلم أن الغزالي أشار بقوله: ((فذلك)) إلى مباشرة المحظور، ولا يمكن عوده إلى السحر المشتمل عليه، لن تعلمه إياه ليس فيه مباشرة لذلك المحظور، وإنما المباشرة تكون بفعله، فدخل في قول الغزالي: تعلم حقائق الأشياء، فلا يحرم عنده. الأمر الثاني: أن الغزالي قد جزم بتحريم تعلم السحر في كتاب الإجارة في الكلام على ركن المنفعة على خلاف ما جزم به هاهنا. قوله: وإن جدعه أي: قطع المارن والقصبة أو بضعها اقتص في المارن.

ثم قال: والجدع- بكسر الجيم والدال المهملة- ما ذكرناه. ويقال أيضًا لقطع الأذن والشفة واليد: جدعه يجدعه فهو أجدع وهي جدعاء انتهى كلامه. وما ذكره من كون الجدع- بكسر الجيم- غلط إنما هو بالفتح، وهذا الكلام كله نقله عن اللغات للنووي، إلا كونه بكسر الجيم فإنه لم يذكره. قوله: قال يعني الشيخ: ويؤخذ اللسان باللسان للآية مع أن له حدًا ينتهي إليه، فأشبه الأنف. وقال أبو إسحاق: لا قصاص فيه انتهى كلامه. وأشار- رحمه الله- بالآية إلى قوله- تعالى-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...} [المائدة:45] إلى آخرها، فإنه استدل بها أولًا ثم أحال عليها في العين والأنف وغيرهما والاستدلال المذكور سهو، فإن الآية الكريمة ليس فيها تعرض إلى اللسان، وهل يمكن أن يخالف فيه مخالف إذا كان مذكورًا فيها؟! قوله: فرع: إذا قطع يد رجل ثم سرت إلى النفس، فقال ورثة المقطوع: مات من السراية، وقال الجاني: بل من سم شربه وهو موح، فمن القول قوله؟ وجهان في تعليق القاضي الحسين، وأصحهما: قبول قول الوارث. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- في تصوير هذه المسألة فاسد، فإنه صورها بما إذا سرت إلى النفس، ومع هذا التصوير لا يبقى تردد أصلًا، بل الصواب أن يقول: ثم وجد ميتًا. قوله: تنبيهان: أحدهما: العضد من المرفق إلى الكتف، وفيها لغات أشهرها: عضد- بفتح العين وضم الضاد- وعضد- بضم العين- وعضد- بفتح العين وكسر الضاد- وعلى هذا لا يجوز كسر العين وإسكان الضاد. انتهى كلامه. وما ذكره في آخر كلامه من أنه لا يجوز ذلك غلط، بل الصواب أن يقول: وعلى هذا يجوز بإسقاط ((لا)) وقد ذكره النووي في لغات التنبيه كذلك، وقال في آخره- أعني النووي: إنه يجمع بذلك خمس لغات، والخمس لا يأتي إلا بجواز الكسر، والمصنف نقل ذلك من كلام النووي باللفظ الذي ذكره على عادته، غير أنه أسقط الكلام الأخير. تنبيه: وقع في الباب ألفاظ منها: الوترة- بتاء مثناة مفتوحة بعدها راء مهملة- وهي: الجلدة الحاجزة بين المنخرين، ومنها عمور الأسنان- بضم العين وبالراء المهملتين- جمع عمر- بفتح عمر- بفتح العين وإسكان الميم، وهو ما ين الأسنان من اللحم.

باب العفو والقصاص

باب العفو والقصاص قوله: ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان أو إذنه. انتهى كلامه. وما ذكره من التخيير بينهما يقتضي أن مجرد الحضور كاف في جواز إقدام المستحق مثلًا أو آحاد الناس، ولا يتأتى القول بذلك، بل الشرط إنما هو الإذن، سواء حضر أم لم يحضر، ولكن لابد من الإذن لمعين أو لواحد من جماعة معينين. قوله: وإن قطع إصبع رجل، فقال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث منها، فسرت إلى النفس- سقط القصاص في الجميع. وقيل: يجب في النفس، وعلى هذا قال القاضي ابن كج: لو عفا عن القصاص لم يكن له إلا نصل الدية لسقوط النصف بالعفو عن أرش اليد. انتهى كلامه. وما ذكره في آخره من إيجاب النصف وتعليله بما ذكره غلط، بل يجب له تسعة أعشار الدية، لأن المقطوع إنما هو الأصبع وواجبها عشر من الإبل، نعم، ابن كج فرض المسألة فيما إذا كان المقطوع هو اليد، فنقل المصنف ذلك الحكم على هذا المثال سهوًا. قوله: وإن قلع سن صغير لم يثغر أي لم يسقط أسنان اللبن، لم يجز أن يقتص منه حتى يؤيس من نباتها، لأن العادة أنها تعود. ثم قال ما نصه: وهذا بخلاف الموضحة والجائفة، فإنه يقتص منهما في الحال وإن كان الغالب عودهما. والفرق أنا لو لم نفعل لصارت معظم المواضح والجوائف هدرًا. انتهى كلامه. وما ذكره في الجائفة غلط، لأنه لا قصاص فيها أصلًا، لأنها لا تنتهي إلى عظم، وقد سبق إيضاحه في كلامه عند قول الشيخ وأما الجروح فيجب فيها كل ما ينتهي على إلى عظم وصرح به الرافعي أيضًا في الكلام على الشجاج فقال: وفي عكسه الجائفة لها أرش مقدر ولا قصاص فيها. هذا لفظه. وبالجملة فلا خلاف في عدم وجوب القصاص، والذي أوقع المصنف في هذه الغلطة الفاحشة التباس حصل في كلام الرافعي، فاعلمه واحذره.

باب ما تجب به الدية من الجنايات

باب ما تجب به الدية من الجنايات قوله: في قول الشيخ: إذا أصاب رجلًا بما يجوز أن يقتل فمات منه- وجبت الدية، هذا يدخل فيه الخطأ وعمد الخطأ، والعمد المحض المقتضي للقصاص إلى آخر ما ذكر، ثم قال إنه أطال في إدخال الموجب للقصاص بتكلف وتعسف، والذي ذكره عجيب، فإن الكلام في هذا القسم، وهو موجب القود، قد سبق في الباب قبله، والكلام الآن في الموجب للدية خاصة، وكيف يصح أن يعبر عما يوجب القود بقوله: يجوز أن يقتل، فإن هذا ضابط لما يوجب الدية، وأما الذي يوجب القصاص فلابد أن يقتل غالبًا، ويدل عليه كلام الشيخ في أول الجنايات، حيث قال: والجناية ثلاثة ... إلى آخره فتأمله.

باب الديات

باب الديات قوله: ودية المرأة على النصف من دية الرجل للحديث، قال: ويروى ذلك عن العبادلة: ابن مسعود وابن عمر وابن عباس. انتهى. وما ذكره في تفسير العبادلة غلط، ومناقض لما قدمه في باب صفة الصلاة، وقد أوضحته هناك فراجعه. قوله في الكلام على الغرة: وقال- يعني الرافعي-: إن الأئمة لم يتكلموا في التغليظ عند وجود الغرة، إلا أن الزيادي قال: ينبغي أن يقال: تجب غرة قيمتها نصف عشر الدية المغلظة وأن هذا حسن. انتهى كلامه. واعلم أن تعيره بالزيادي تحريف سببه تقدم ذكره في أثناء كلام نقله عن القاضي الحسين قبل هذا بنحو ثلاثة أسطر، والصواب المذكور في الرافعي والروضة إنما هو الروياني وهو كذلك في كلام الروياني، فقد رأيته في البحر باللفظ الذي نقله عنه الرافعي وهو لفظ ينبغي قوله نقلًا عن الشيح: وتجب في هذه الخمسة الحكومة، يعني: الخارصة والدامية، والباضعة والمتلاحمة والسمحاق. ثم قال: ووراءه أمران حكاهما الماوردي، وثالث عن غيره، فأحد الأمرين حكاه أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة عن الشافعي: أن الحكم كذلك إذا لم يمكن معرفة قدر الشجة في الموضحة، فإن أمكن ذلك اعتبر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتى وصلت إلى العظم، فإذا عرف مقداره من نصف أو ثلث أو ربع كان فيه بقدر ذلك من أرش الموضحة، فإن علم أنه النصف وشك في الزائد- اعتبر شكه بتقويم الحكومة، فإن زاد على النصف وبلغ الثلثين زال حكم الشك في الزيادة ثابتًا بها، وحكم بها ولزم ثلثا ودية الموضحة، وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها، وحكم بنصف دية الموضحة، وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة، وثبت حكم النصف، وهذا ما نسبه الرافعي إلى الأكثرين، وعليه اقتصر في المهذب. قوله: وقال ابن الصباغ: إنه الذي قاله أصحابنا.

وحكى القاضي أبو الطيب قبل الكلام في دية اليهودي والنصراني أنا إذا عرفنا نسبة المجروح من الموضحة نوجب أكثر الأمرين مما اقتضاه التوزيع، أو حكومة لا تبلغ بها أرش الموضحة. والفرق بين هذا وبين ما حكيناه عن أبي إسحاق وغيره أنا على هذا نوجب الحكومة إذا زاد قدرها على قدر ما اقتضاه التوزيع مع تحقق قدر النسبة، وعلى رأي أبي إسحاق إذا تحققنا نسبة الجرح من الموضحة من غير شك في زيادة عليه، لا نوجب إلا قدر النسبة. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الرافعي و ((المهذب)) و ((الشامل)) نقل غير مطابق، فأما الرافعي فإن حاصل ما ذكره إنما هو ما ذهب إليه القاضي أبو الطيب، فإنه قال ما نصه: وقال الأكثرون: إن لم يمكن معرفة قدرها من الموضحة، فكذلك ولا تبلغ حكومتها أرش موضحة، وإن أمكن أن يعرف قدرها بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة أو المتلاحقة عرف أن المقطوع نصف أو ثلث في عمق اللحم، فيجب قسطه من أرش الموضحة، فإن شككنا في قدرها من الموضحة- أوجبنا اليقين، قال الأصحاب: ويعتبر مع ذلك الحكومة، ويجب أكثر الأمرين من الحكومة وما يقتضيه التقسيط، لأنه وجد سبب واحد منهما، فيعتبر الأكبر كما سيأتي في قطع بعض اللسان وذهاب بعض الكلام هذا لفظه فتأمله. فإنه لا نجده يعطي إلا ما قلناه لاسيما التعليل الذي ذكره، وكذلك أيضًا المقاس عليه. وأما المهذب فلم يذكر فيه إلا وجوب القسط من أرش الموضحة عند إمكان معرفته، وأما مسائل الشك فلم يتعرض لشيء منها بالكلية، وأما الشامل فإنه ذكر جميع ما عزاه المصنف إليه، لكن الذي عزاه إلى الأصحاب إنما هو وجوب القسط خاصة، وأما مسائل الشك فعزى جميعها على أبي إسحاق فقط. قوله: فرع: يجري القصاص في حلمة الرجل بحلمة الرجل، سواء أوجبنا في حلمة الرجل الدية، فإن لم نوجبها قطعت حلمة الرجل بالمرأة إن رضيت دو العكس، وتقطع حلمة المرأة بالمرأة. وفي التتمة وجه: إن لم يتدل الثدي لا يجب القاص، لاتصالهما بحلم الصدر وتعذر التمييز.

ولا يجب القصاص في الثدي كما قاله في التهذيب، لأنه لا يمكن رعاية المماثلة فيه، ولكن للمجني عليه أن يقطع الحلمة ويأخذ حكومة الثدي. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أنا ما ذكره عن التتمة من حكاية خلاف في الحلمة غلط، وقع للرافعي فتبعه عليه النووي والمصنف، بل صرح بعدم الخلاف، وإنما حكى هذا الوجه في الثدي نفسه، ثم ضعفه، وقال: إن المذهب المشهور وجوبه، ذكر ذلك في الباب الخامس في الجنايات على ما دون النفس في المسألة التاسعة من الفصل الثالث، وقد ذكر من لفظه في المهمات فراجعه. الأمر الثاني: وليس هو من شروط كتابنا، وإنما وقع استطرادًا أن ما نقله عن البغوي من عدم القصاص في الثدي مقالة ضعيفة، وأن المذهب المشهور له كما استفدنا من التتمة وجوبه، وقد وقع هذا الموضع للرافعي أيضًا. قوله: في الكلام على الحكومة قال- يعني: الشيخ-: وإن كانت الحناية مما لا ينقص بها شيء بعد الاندمال، ويخاف منها التلف حين الجناية كالأصبع الزائد، وذكر العبد أي إذا كان أشل، أو فرعنا على القديم في أن الواجب فيه ما نقص من القيمة، كما سنذكره قوم حال الجناية، فما نقص من ذلك وجب، لأنه لما تعذر تقويمه في حال الاندمال لانتفاء النقص قوم في الحالة التي يظهر فيها وهي حالة الجناية. ثم قال: وقد ذهب ابن سريج إلى أن الجناية إذا لم تنقص شيئًا بعد الاندمال لا يجب فيه شيء، وبه جزم بعضهم في ذكر العبد، ورجحه الرافعي وقال: إن الإمام قال: إن قول ابن سريج هو ظاهر القياس على آخره. ثم قال: أما إذا قطع ذكر العبد، وفرعنا على الجديد في أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، فالواجب القيمة وإن زادت بسبب ذلك. انتهى كلامه. واعلم أن هذا الكلام الذي نقله عن الرافعي في الذكر بعد تصويره إيجاب الحكومة فيه بما إذا كان أشل، أو فرعنا على القديم، يقتضى أن الرافعي خالف في المسألين، فلم يوجب شيئًا وليس كذلك، فإن الرافعي لم يذكر ذلك إلا في الذكر السليم تفريعًا على القديم، ولم يتعرض فيه للذكر الأشل أصلًا، ولا لما في معناه وهو الزائد، بل قد ذكر قبل ذلك بنحو ورقة في الحكومات أن الحر إذا جرح، واندملت جراحته ولم يبق نقص أن الأصح وجوب شيء باجتهاد الحاكم، فيكون العبد كذلك لاسيما أنهم قد قالوا: إن العبد أصل الحر في الحكومات: نعم، نسأل عن الفرق بين

ذلك بين عدم الوجوب إذا فرعنا على القديم، لأن الواجب في الموضعين ما نقص، وإلا يلزمهم الفرق بين الحر والعبد، فإن كلا منهما قد جرح لم تنقصه شيئًا. قوله: فرع: لو كانت الأمة حال القتل زوجة، قال الرافعي في أول فصل مذكور في نكاح الغرور: إن الواجب قيمتها خلية عن الزوج، وإن كان تقدير ذلك فيها ممكن لو بقيت، ولكنا نعتبر الصفة التي كانت الجارية عليها في حال الإتلاف. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله- رحمه الله- عن كلام الرافعي هناك لم أر له ذكرًا فيه.

باب العاقلة وما تحمله

باب العاقلة وما تحمله قوله: وابتداء المدة وهي الثلاث سنين من وقت زهوق الروح. ثم قال: وفي الوسيط والوجيز أن ابتداءها من وقت الرفع إلى القاضي، لأن هذه مدة تناط بالاجتهاد. وهذا ما حكاه الفوراني فيما وقفت عليه من الإبانة. انتهى كلامه. وما نقله عن الإبانة غلط عجيب، فقد راجعت ثلاث نسخ منها، فرأيت فيها الجزم النقل المعروف، ثم بعد ذلك حكى ما قاله الغزالي عن أبي حنيفة، ثم استظهرت على ذلك فراجعت أيضًا نسختين من كتاب الفوراني المسمى بالعمد، فرأيت فيهما مثل ذلك أيضًا، والذي حكاه ابن الرفعة: إما أن يكون سقط منه في آخره التعبير بقوله عن الحنفية، أو يكون في ذهنه ذلك اعتمادًا على ما أبديته في كتب عديدة من أن كثيرًا مما أنكر على الغزالي قد وجد مصرحًا به في الإبانة للفوراني لكونه أي: الغزالي قد أمعن في النظر فيها، فتوهم أنه وقف عليه فيها فصرح به، وإلا فالرجل ثقة بلا شك، فيكف يقول ما يقول؟ واعلم أن الغزالي في البسيط قد نقل ذلك عن الأصحاب وعبر بقوله: قال أصحابنا: وما ذكره عجيب، لا أدري ما سببه. قوله: وما ذكر الإمام أن الأئمة قيدوا الضرب على عصبات المعتق بموت المعتق، وأنه يمكن تعليله بأن العصبات لا حق لهم في الولاء، فيقعون من المعتق في حياة المعتق موقع الأجانب، فإذا مات المعتق ورثوا بالولاء، وصار الولاء لهم لحمة كلحمة النسب، فإذ ذاك يضرب عليهم وأنه لا يتجه إلا هذا. نعم، إذا لم يكن ثم معتق وضربنا على عصبته، فهل يختص الضرب بالأقربين ولا يتعداهم، أم يتعداهم إلى الأباعد كصنعنا في عصبات النسب؟ هذا فيه تردد ظاهر، والأصح الثاني. قلت: ومادة الاحتمال الأولى تقوى بما حكاه القاضي الحسين في باب الولاء عن نص الشافعي فيما إذا أعتق رجل أمة، فمات المعتق وخلف ابنًا صغيرًا، وللابن

الصغير جدان، الجد ليس له أن يزوج الأمة المعتقة، وكذا يقوى ما حكاه الإمام عن الأئمة في حال حياة المعتق بما حكاه القاضي الحسين في باب الولاء: أن المعتق لو قتل المعتق، وللمعتق ابن- لا يرث القاتل المقتول ولا ولده يرثه. ولا شك في أن المعتق لو كان امرأة يتحمل العقل عن معتقها من يملك تزويجها، صرح به الفوراني، وإن سكت عن الكلام فيما سبق. انتهى كلامه. وهذا الحكم الذي ذكر أن القاضي الحسين نقله في باب الولاء عن النص غلط، سبق إيضاحه هناك، فراجعه. قوله: ومن مات من العاقلة قبل محل النجم- سقط ما عليه، كما لا تجب الزكاة عليه قبل الحول. ثم قال ما نصه: قال الإمام: وهذا يخرج منه أنا لا نحكم بأن الدية تجب مؤجلة على العاقلة، بل نقضي بأن ابتداء وجوبها في آخر السنة، وهذا فيه تعقيد، فإن الدية إن كانت واجبة، فلتجب على العاقلة ولتكن مؤجلة عليهم، فإن لم تكن واجبة، فهذا يبعد عن قياس الأصول، فإن موجب الدية القتل، وقد وقع. والأوجه أن يقول: وجبت الدية بالقتل وهي متأصلة، ولكنا لا نضيف وجوبها إلى العاقلة، فإن كانوا فقراء تبينًا أن وجوبها لم يتعلق بهم، ولكن متعلقة ببيت المال. انتهى كلامه. وهذه المسالة التي لم ينقل فيها إلا بحث الإمام فقط، قد تعرض لها الشافعي- رضي الله عنه- في الكلام في إضافة العفو إلى العاقلة.

باب قتال البغاة

باب قتال البغاة قوله: والبغاة طائفة لهم شوكة خرجت على الإمام بتأويل باطل ظنا، فلو كان بطلان التأويل مقطوعًا به ففيه وجهان. قال الرافعي: أوفقهما لما أطلقه الأكثرون: أنه لا يعتبر. والثاني: يعتبر، ويكفي تغليطهم في القطعيات، وقد يغلط في القطعيات غالطون. قال الرافعي: وعلى الوجهين يخرج أن معاوية ومن تبعه مخطئون فيما اعتقدوه قطعًا أو ظنًا، لأنهم باغون عند الأئمة بلا شك، وعليه يدل الخبر المشهور ((أن عمارًا تقتله الفئة الباغية))، فإن شرطنا في البغي أن يكون بطلان التأويل مظنونًا، فنقول: كان مبطلًا فيما هذب إليه ظنًا، وإن لم نشترطه وأثبتنا اسم البغي وحكمه مع القطع ببطلان التأويل، فنقول: كان معاوية مبطلًا قطعًا، وهذا الكلام لم يظهر لي توجيهه. انتهى كلامه بحروفه. واعلم أن الرافعي- رحمه الله- نقل في أول كلامه عن العلماء: أن البغاة ليسوا كفرة ولا فسقة، وأن البغي ليس باسم ذم، وإنما هو الخروج على الإمام بتأويل ظنوه صحيحًا، أي: فيكون لهم فيه أجر، ثم ذكر بعد ذلك هذا الكلام الذي ذكر ابن الرفعة أن توجيهه لم يظهر له، ومعنى كلام الرافعي: أن معاوية باغ بلا شك، وليس بمعاند ولا محق، فإن شرطنا في البغي بطلان التأويل بالظن لزمنا أن نقول: إن معاوية كان تأويله باطلًا ظنًا، وإن لم نشترط ذلك جاز أن يقال: إنه باطل بالقطع، هذا معنى كلام الرافعي، وهو واضح جلي، فإن الرافعي عبر بقوله: وبنى على الوجهين أن العلماء أطلقوا القول بأن معاوية ومن بايعه كانوا باغين، وعليه يدل الخبر المشهور ((أن عمارًا تقتله الفئة الباغية))، فإن شرطنا في البغي أن يكون بطلان التأويل مظنونًا، فنقول: إن معاوية كان مبطلًا فيما ذهب إليه ظنًا، وإن لم نشترطه وأثبتنا اسم البغي وحكمه مع القطع ببطلان التأويل فقد نقول: إن معاوية كان مبطلًا قطعًا. قال الإمام: وهذا مخاض لا نخوض فيه ولسنا للتشاغل به. هذه عبارة الرافعي وهي تدل على ما ذكرناه دلالة واضحة، فلما نقله المصنف قدم

وأخر وأسقط لفظة ((قد))، فحصل الخلل. قوله: ولا يتبع في الحرب مدبرهم ولا يذفف على جريحهم. قال الجيلي: فلو قتل المدبر، أو ذفف على الجريح، لم يجب القصاص على فاعل ذلك. انتهى كلامه. واقتصاره على نقل ذلك عن هذا الكتاب المتأخر الذي لا يوثق بما فيه يقتضي عدم الوقوف عليه في كلام غيره، وهو عجيب، فقد نص الشافعي- رحمه الله- في البويطي على المسألة، وأجاب بأنه لا قصاص، وممن نقله عنه صاحب البحر، ولم يصرح الرافعي بالمسألة، وإنما حكى وجهين في قتل الأسير، وصحح منهما في الروضة من ((زوائده)) عدم القصاص، لشبهة خلاف أبي حنيفة، وهو أيضًا قريب من مسألتنا، فإن أبا حنيفة خالف في الجميع. قوله: ولو استعان أهل البغي بأهل العهد إلى مدة، قال القاضي أبو الطيب: كان ذلك نقضًا لعهدهم إلا في مسألة واحدة، وهي إذا كانوا مكرهين، وأقاموا بذلك بينة دون ما إذا ادعوا ذلك، أو ادعوا الجهل بالحال، والفرق بينهم وبين أهل الذمة حيث قبلنا دعواهم للإكراه والجهل بلا بينة- أن الذمة أقوى، وبهذا نقول: يجوز أن ينبذ إليهم عهدهم لخوف الخيانة، ولا كذلك في أهل الذمة، وعلى ما قاله جرى الأئمة، ولم أر له مخالفًا فيما وقفت عليه. انتهى كلامه. وما ذكره من عدم الوقوف على ما يخالفه عجيب، فقد خالفه صاحب التتمة فقال في آخر الباب الثاني عشر: إذا استعانوا على قتال أهل العدل بالمستأمنين فأعونهم، فإن ادعوا إكراهًا وجهلًا، فالحكم على ما ذكرنا في أهل الذمة. هذا لفظه. تنبيه: وقع في الباب ألفاظ منها: ربقة: اسم للحبل الذي يجعل في عنق وقت الحلب- هو بكسر الراء المهملة وإسكان الباء الموحدة وبالقاف. ومنها في حديث الحديبية أنه كتب كتاب القضية هو- بالقاف والضاد المعجمة بعدها ياء مشددة بنقطتين من تحت- ومعناه: القضاء: أي الحكم. ومنها غزوة العشيرة- هو: بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة- على أنها تصغير عشرة. ومن ذلك ((صير الباب)) أي: شقه الذي ينظر منه لما في البيت- هو: بكسر الصاد المهملة وبعدها ياء ساكنة بنقطتين من تحت ثم راء مهملة.

ومنه ((المدرا)) - وهو: بميم مكسورة ودال مهملة ساكنة وراء مهملة ثم ألف مقصورة- جريدة صغيرة يفرق بها شعر الرأس. ومنها ((القضم)) و ((الخضم)) فالقصم- بالقاف والضاد المعجمة- هو: العض بالأسنان، والخضم- بالخاء والضاد المعجمتين- هو: الأكل بجميع الفم، يقول: منه خضمت الشيء- بالكسر- أخضمه بالفتح خضمًا، وفسره المصنف بأنه العض بالأضراس.

قوله: ولا تصح ردة الصبي، وفي كلام الإمارة إشارة إلى حكاية خلاف في صحة ردته، فإنه قال: وسبيل الردة الصادرة منه كسبيل صدور الإسلام منه، كما ذكرناه في ((اللقيط)) انتهى كلامه. وهذا الكلام دليل على أنه لم يظفر بالخلاف مصرحًا به، وهو عجيب، فقد صرح به الرافعي في اللقيط، وجزم بأن ردته صحيحة إذا صححنا إسلامه، واستدرك عليه في الروضة وصوب عدم صحة الردة. قوله: ويصح ردة السكران في أصح القولين. ثم قال: وفي صحة استثنائه في حالة السكر وجهان: أحدهما: أنها تصح كما تصح ردته، لكن المستحب أن تؤخر إلى الإفاقة. قال الماوردي: وهذا ظاهر مذهب الشافعي وبه قال أبو إسحاق. والثاني: وهو المذكور في الشامل المنع، لأن الشبهة لا تزول في تكل الحالة، ولو عاد إلى الإسلام صح إسلامه وارتفع حكم الردة. انتهى كلامه. واعلم أن توبة المرتد لا تحصل إلا بما يحصل به إسلام سائر الكفار، وهو التلفظ بالشهادتين، وحينئذ فجزمه بصحة إسلامه في حال السكر بعد حكاية الوجهين جزم منه بصحة توبته، وذلك عين المسألة الأولى على خلاف ما اقتضاه كلامه من التغاير، ولا يصح أن نريد بالمسألة الأولى حكاية الخلاف في صحة امتناعه حتى ترتب عليه جواز القتل إن صححناه، لأنه علل عدم الصحة بأن الشبهة لا تزول، وهذا إنما يستقيم أن يكون تعليلًا لعدم صحة الإسلام المانع من القتل، لا لعدم صحة الامتناع، وهذا الكلام جميعه وقع للرافعي، فنقله المصنف منه على ما هو عليه غير متفطن لما وقع فيه، والظاهر أن قوله: ((ولو عاد)) محله بعد الوجه الأول على أنه تفريع عليه، ويكون بالفاء لا بالواو، فأخره الناسخ من المسودة إلى ما بعد ذلك. قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن ارتد وله مال ففيه قولان، أي منصوصان في صدقة الورق.

أحدهما: أنه باق على ملكه، لأن الكفر لا ينافي الملك، كالكفر الأصلي، ولأن الردة سبب لهدر الدم، فلا يزيل الملك، كالزنى والقتل في الحرابة، وهذا قد نص عليه أيضًا في زكاة المواشي، وهو الأصح في ((الحاوي)) واختاره المزني والنووي. انتهى كلامه. وما نقله عن النووي من اختيار بقاء الملك غلط، فإن الذي صححه النووي في كتبه كلها، إنما هو الوقف. قوله: وإن علقت من المرتد كافرة بولد في حال الردة وانفصل وهما كذلك، فهل هو كافر أصلي أو مرتد؟ على قولين: قلت: ولو قيل بأن ولد المرتد من الكافرة الأصلية كفره أصلي، ومن المرتدة يكون مرتدًا، لم يبعد بناء على أصلين: أحدهما: أن الذمي لا يقتل بالمرتد، لكونه أشرف منه مع اشتراكهما في الكفر. والثاني: أن المتولد بين وثني وكتابية تقعد له الذمة لحكمنا بتبعيته في هذه الحالة لها في الدين، لكونها أشرف دينًا من أبيه، كما يتبعها في الإسلام لشرفه. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه، قد ذركه البغوي في ((التهذيب))، ونقله عنه النووي في الروضة من زوائده، وجزم به على القول بكفره، وصرح بأنه لا فرق في ذلك بين أن يكون أبوه مرتدًا وأمه كافرة أصلية أو بالعكس. تنبيه: وقع في الباب ألفاظ، منها: ((مغربة خير)) هو بالإضافة، ومعناه غريب، قال الجوهري: يقال: هل جاءكم مغربة خير، يعني: الخير الذي طرأ عليهم من بلد سوى بلدهم. ومنها: الباطنية والثنوية والبراهمة. فأما الباطنية: ففرقة من الزنادقة يعتقدون حل إتيان النساء المحارم. والثنوية- بالثاء المثلثة المفتوحة بعدها نون مفتوحة أيضًا- وهو نسبة إلى الاثنين، أحد أسماء العدد، سموا بذلك لاعتقادهم صدور الخير من النور والشر من الظلمة. والبراهمة- بالباء الموحدة- قوم يوحدون الله- تعالى- إلا أنهم ينكرون الشرائع. قال الجوهري: هم قوم لا يجوزون على الله- تعالى- بعثه الرسل.

ومنها: أن وفدًا من بزاخة وغطفان ممن كانوا قد ارتدوا جاءوا إلى أبي بكر. اعلم أن بزاخة- بباء موحدة مضمومة بعدها زاي ثم خاء معجمتان- هو اسم موضع كما قاله الجوهري. وأما غطفان- فبالغين المعجمة والطاء المهملة وبالفاء- وهو أبو قبيلة وهو غطفان بن سعد بن سعد بن قيس غيلان، مأخوذ من الغطف وهو سعة العيش، يقال: عيش أغطف، أي: واسع.

باب قتال المشركين

باب قتال المشركين قوله: وفي السنة الثانية غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بدر المشهورة، وكانت في يوم السبت السابع عشر من شهر مضان. انتهى كلامه. وما ذكره من كون هذه الغزوة كانت في يوم السبت غلط، فإن المنقول أنها كانت يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان، كذا ذكره ابن هشام في السيرة وغيره أيضًا، وأوضحه النووي في التهذيب وغيره، فقال فيه: وثبت في البخاري عن ابن مسعود أن يوم بدر كان يومًا حارًا، وكانت يوم الجمعة، هذا هو المشهور، وروى الحافظ أبو القاسم ابن عسكر في تاريخ دمشق في باب مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد فيه ضعف- أنها كانت يوم الاثنين. قال- يعني ابن عساكر-: والمحفوظ أنها كانت يوم الجمعة. انتهى. نعم، سافر من المدينة يوم السبت في الثاني عشر، وقيل: في الثالث، قال: ليس يوم الخرج بيوم الوقعة، فأخذ يوم الخروج وتاريخ الوقعة، فإن الوقعة كانت في السابع عشر، وقيل: في الثالث: قال: ليس يوم الخروج وتاريخ الوقعة، فإن الوقعة كانت في السابع عشر كما قدمنا. قوله: وفي هذه السنة- يعني السابعة- كانت غزوة حنين وفتحها، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرة القضاء في هلال ذي القعدة، وخرج معه من شهد الحديبية وغيرهم، إلا من قتل منهم أو مات، وأحرم من قبل السير الذي صد منه. انتهى كلامه. وما ذكره من كون خيبر في السابعة قد خالفه في ((باب زكاة النبات))، كما سبق التنبيه عليه هناك، وأما دعواه أنه قد خرج معه جميع من حضر عمرة الحديبية من الأحياء فليس كذلك، وقد تقدم في كتاب الحج من كلامه خلافه، وقد ذكرت لفظه هناك فراجعه. قوله: ولا يستعين بمشرك إلا أن يكون في المسلمين قلة، والذي يستعين به حسن الرأي في المسلمين، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر استعان بيهود بني قينقاع، فغزوا معه وشهد معه صفوان بن أمية حنينًا بعد الفتح، وهو يومئذ مشرك، وقد استعار منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين درعًا عام الفتح، فقال: أغصبًا يا محمد؟ قال: بل عارية مضمونة

مؤداة، واستصحبه معه في غزوة هوازن. انتهى كلامه. وحاصله أن غزوة حنين غير غزوة هوازن، وليس كذلك، بل هي غزوة واحدة، ولكن حنين اسم لمكان القتال، وهوازن اسم للقبيلة الكافرة المقاتلة، ولا شك أن بعض الأصحاب عبر بحنين، وبعضهم بهوازن، فظن المغايرة، ووقعت في الكتاب مواضع أخرى نظير هذا، نقف عليها في مواضعها، وهذا نظير ما وقع له في كتاب القضاء من ((المطلب))، حيث نقل عن الأزهري ومحمد بن شهاب. واعلم أن قينقاع- بقاف مفتوحة بعدها ياء بنقطتين من تحت، ثم نون مضمومة بعدها قاف. قوله: ونفوذ الأمان من آحاد الرعية مشروط بأمرين: أحدهما: ألا يتعطل الجهاد، وذلك مثل أن تؤمن نفرًا يسيرًا من الواحد إلى العشرة، وكذا المائة والقافلة، وكذا القافلة، وكذا القلعة الصغيرة، كما حكي عن البيان. وفي الرافعي: أن الأشبه في القلعة المنع. انتهى. وهذا النقل عن الرافعي حاصله المنع في القلعة المذكورة التي عدد أهلها محصورون، وليس كذلك، فإن حاصل كلام الرافعي ثلاثة أوجه، أشبهها: أن العبرة بالحصر وعدمه، فيجوز أمان المحصورين وإن كانوا أهل جميع القرية، ولا يجوز أمان غير المحصور. والثاني: يجوز أمان أهل القرية وما في معناها كالقلعة، وإن كانوا محصورين، لقلتهم غالبًا. والثالث: يمتنع في القرية ونحوها إن كانوا محصورين لكونهم جميع من فيها، وقد شرح في الشرح الصغير كلام الكبير وأوضحه، فإنه لخصه تلخيصًا حسنًا، فقال: ولا يجوز لآحاد المسلمين إلا أمان واحد من الكفار أو جماعة محصورين كعشرة وعشرين. وقيل: يجوز أن يؤمن أهل قلعة، وفي معناها القرية الصغيرة. وقيل: لا يجوز أن يؤمن الواحد أهل قرية وإن قل عددهم، والأشبه الأول. هذه عبارته. قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن قتل من الكفار، كره نقل رأسه من بلد إلى بلد،

لأنه لم يعهد في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا له فائدة، وقد روي أن جماعة نقلوا رءوس الكفار من قتلى دمشق في زمن أبي بكر إلى المدينة، فقال: لا تنقلوا هذه الجيف إلى حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يخالفه أحدٌ. انتهى كلامه. وما استدل به من قصة أبي بكر فليس مطابقًا للمدعى، لأنه لم ينه إلا عن نقله إلى حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وهم لو كانوا أحياء لمنعناهم دخول الحجاز جميعه لغير مصلحة لنا، فالمدينة أولى. تنبيه: في الباب ألفاظ منها: حاطب بن أبي بلتعة، وحاطب- بالحاء والطاء المهملتين- وبلتعة- بالباء الموحدة وبسكون اللام والتاء المفتوحة المثناة من فوق والعين المهملة- يقال: فلان يتبلتع في كلامه فهو بلتعاني، أي: يتظرف ويتحذلق، وليس عنده ظرف ولا حذلقة. ومنها: الشرخ. قيل: الصغار، وقيل: الشباب هو- بشين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة وبالخاء المعجمة. ومنها: السوقة- بضم السين المهملة وإسكان الواو وبالقاف-: من ليس بملك، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. ومنها: أن المشركين حملوا دريد بن الصمة في شجار لما فيه من الرأي، وكان عمره مائة وخمسة وخمسين سنة- كما قاله الماوردي- وقيل: مائة وخمسين سنة، والشجار: الهودج. انتهى. الشجار- بشين معجمة مكسورة بعدها جيم في آخره راء مهملة- تجمع على شجر- بضم الشين والجيم-: هي مراكب دون الهودج مكشوفة الرءوس، كذا نقله الجوهري عن أبي عمرو. والصمة- بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم. واعلم أن ما ذكره في سنن دريد خلاف المعروف، فقد قال السهيلي في الروض الأنف: يروى عن ابن إسحاق أن عمره كان يومئذ مائة وستين سنة. قال: وروى أبو صالح- كاتب الليث- عن الليث أنه كان مائة وعشرين سنة، ومنها: أنا أبا داود روى عن رباح أو رياح، أي: بالباء الموحدة أو الياء المثناة من تحت والراء مفتوحة على الأول ومكسورة على الثاني. ومنها: العرادة- بعين مفتوحة وراء مشددة وبعد الألف دال والجميع مهملات-

قال الجوهري: هو شيء أصغر من المنجنيق. ومنها في الحديث: فمن خفر مسلمًا، أي: نقض ذمته وغدر به، وذكره الجوهري رباعيًا فنقول: أخفر زيد عمرًا، وأما الثلاثي وهو خفر فمعناه: أمنه وأجاره، ومنه الخفارة بالخاء المعجمة والفاء. ومنها: سعية هو بسين مفتوحة وعين ساكنة مهملتين، بعدهما ياء بنقطتين من تحت، ومنها: ولده أسيد- هو بفتح الهمزة وكسر السين المهملة. قاله ابن ماكولا.

باب قسم الفيء والغنيمة

باب قسم الفيء والغنيمة قوله: في قول الشيخ: ((الغنيمة ما أخذ من الكفار بالقتال، وإيجاف الخيل والركاب)) أن الواو هنا بمعنى أو. ثم قال: فإن قلت: يلزم من هذا أن يكون ما أخذ من الكفار عند انجلائهم بسبب حصول خيل المسلمين، أو ركابهم في دار الحرب، وضرب معسكرهم والبروز في مقابلتهم غنيمة، لأنه قد حصل بإيجاف خيل أو ركاب، وليس كذلك. قلت: قد حكى الإمام عن رواية الشيخ أبي علي وصاحب التقريب في ذلك وجهين، فلعل الشيخ اختار جعله غنيمة، ومقابله- وهو الصحيح عند الإمام-: أنه لا يكون غنيمة، بل فيئًا. انتهى كلامه. وما ذكره من أنه يحتمل أن يكون مختار الشيخ أنه غنيمة غريب جدًا، فقد صرح الشيخ بعد هذا بقليل بالمسالة وجزم بالمعروف، وهو أنه فيء فقال: وأما الفيء فهو اأخذ من الكفار بغير قتال، كالمال الذي تركوه فزعًا من المسلمين. قوله: والكلب لا يدخل في الغنيمة عند العراقيين، ونص عليه الشافعي، بل يعطيه الإمام لمن شاء من الغانمين، لأنه ليس بمال، ونقل الإمام عن العراقيين ما ذكرناه، واعترض عليه الرافعي فقال: والذي يجده في كتبهم أنهم إذا تسامحوا فيها وأمكنت قسمتها عددًا قسمت، وإلا أقرع بينهم، وما ذكره الرافعي لم أقف عليه فيما وقفت عليه من كتبهم إلا احتمالًا لصاحب الشامل، بل النقل فيها كما قاله الإمام. انتهى ملخصًا. وما ذكره الرافعي قد ذكره من العراقيين أبو نصر البندنيجي في كتابه المعتمد، وابن أبي عصرون في الانتصار. قوله: ويرضخ للعبد، لما روى أبو داود عن عمير مولى آبي اللحم إلى آخره. اعلم أن آبي- بمد الهمزة اسم فاعل من أبي يأبى بمعنى امتنع- سمي بذلك، لأنه امتنع في الجاهلية من أكل ما ذبح للأصنام، واسمه خلف بن عبد الملك. قاله ابن معين في التنقيب.

قوله: والخرثي في الحديث متاع البيت- هو بضم الخاء المعجمة وراء مهملة ساكنة وثاء مثلثة مكسورة وياء مشددة. قوله: قال- يعني الشيخ-: ومن مات منهم، أي: من أجناد أهل الفيء، دفع إلى ورثته أي: من الأولاد الذين كانت تلزمه نفقتهم وزوجته- الكفاية: أي: من أربعة أخماس الفيء اعتبارًا بالمصلحة. ثم قال: ووراء ما ذكره الشيخ أمران، أحدهما: حكى في المهذب وغيره من الكتب المشهورة قولًا جعله الرافعي الأظهر: أن الذرية والزوجة لا يعطون شيئًا، لأن ما استحق به العطاء، وهو إرصاد النفس للجهاد مفقود فيهم. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي أنه صحح عدم الإعطاء للزوجة والذرية- غلط، فإن الذي صححه هو النووي إنما هو الإعطاء. قوله: ثم تقدم بعد بني عبد مناف بني قصي، وهم بنو عبد العزى وبنو عبد الدار، لأن عبد العزى وعبد الدار إخوة عبد مناف، وهم أولاد كلاب، لأن كلابًا ليس له عقب من غيرهم، ثم تقدم بنو مرة وهم بنو تيم وبنو مخزوم، لأن تيمًا ومخزومًا إخوة كلاب. انتهى كلامه. وهذا الكلام الذي ذكره فيه غلط وإسقاط، وذلك لأنه يقدم بعد أولا قصى بنو زهرة بن كلاب، وهو أخو قصي ثم يقدم بعد أولاد كلاب ما ذكره المصنف، وهم أولاد مرة ابن كعب، فأسقط أولاد زهرة، ولزم من إسقاطهم الحكم على عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى بأنهم أولاد كلاب مع أنهم أولاد قصي. قوله في المسألة أيضًا: ((ثم يقدم بنو كعب وهم بنو عدي وبنو سهم وبنو جمح، لأنهم إخوة مرة)) انتهى كلامه. وما ذكره من أن عديًا وسهمًا وجمحًا إخوة مرة غلط، بل عدي فقط أخو مرة، وأما سهم وجمح فإنهما ولدا أخي مرة، واسم أبيهما هصيص- بضم الهاء وفتح الصاد المهملة مصغرًا- فيكون عدي وهصيص ومرة إخوة، وقد ذكره الرافعي وغيره على الصواب وهو مشهور معروف. قوله: ((أيضًا قال- يعني: الشيخ-: وإن كان في مال الفيء أراض، وقلنا: إنها- أي الأخماس الأربعة- للمصالح، صارت وقفًا تصرف غلتها فيها، وإن قلنا: إنها للمقاتلة، قسمت بينهم لأنها ملك لهم، فوجب قسمته بينهم كالمنقول، وهذا ما اختاره النووي وقيل: تصير وقفًا، وتقسم غلتها بينهم، لأن ملك الغلة في كل عام أمد وأنفع، وهذا أصح في الرافعي، وعلى هذا فهل تصير وقفًا بنفس حصولها للفيء أم لا

بد من أن يتلفظ الإمام؟ فيه وجهان، الذي صححه الرافعي والنووي هو الثاني، وقالا: إن رأى الإمام أن يبيعها، ويصرف ثمنها لهم فعل، وإن رأى وقفها فعل، وهذا وجه ثالث. انتهى ملخصًا. وما ذكره من أن النووي قد اختار خلاف ما صححه الرافعي في هذه المسألة ليس كذلك، بل اتفقا على أن الصحيح التخيير بين الخصال الثلاث، وهي الوقف والقسمة، إما للعين أو للثمن بعد البيع، وكلامه أخيرًا صريح فيه.

باب عقد الذمة وضر بالجزية

باب عقد الذمة وضر بالجزية قوله: ((ومن فعل ما يوجب نقض العهد)) ففيه قولان، أصحهما في المهذب وغيره: أنه يقتل في الحال. ثم قال: وقولهم: ولكنه إذا بذل الجزية، فهل يعصم بها دمه؟ يظهر أن يقال: إنه يترتب على الأسير إذا بذلها، وقد ذكرنا فيه خلافًا في ((باب قتال المشركين))، فإن قلنا في الأسير: إنه يعصم دمه فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. فإن قلت: الذي يقتضيه كلام أبي الطيب، وابن الصباغ الجزم بعصمة دمه، لأنهما قالا فيما إذا امتنع الكل من بذل ما التزموه زائدًا على الدينار من ضيافة أنهم يقاتلون، فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد، فإن طلبوا بعد ذلك عقد الذمة وبذلوا قدر الدينار وجب قبوله، والكف عنهم. قلت: يمكن حمل ذلك على ما إذا خرجوا عن قبضة الإمام بالقتال، فامتاروا عن الأسير، وما ذكرناه مفروض فيما إذا كانوا في قهره وقبضته. انتهى كلامه. وهو يقتضي أنه لم يقف في المسألة على نقل صريح، والمسألة قد صرح بها الإمام في النهاية في ((كتاب السرقة))، وجزم بأنه يجب إجابته إلى ذلك، وفرضها فيمن هو في قهر الإمام، على عكس ما ادعاه المصنف، ونقله الرافعي أيضًا هناك عنه في أول الكلام على السارق وجزم به.

كتاب الحدود

كتاب الحدود باب حد الزنى قوله: وقال الغزالي: إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج، أي: من غير حائل، محرم قطعًا، مشتهى طبعًا إذا انتفت عنه الشبهة. قال الرافعي: وفي قوله: ((محرم قطعًا)) غنية عن قوله: ((إذا انتفت الشبهة عنه))، وفيه نظر، لأن المراد بكونه محرمًا قطعًا أن يكون لا خلاف فيه، وذلك قد يوجد مع وجود الشبهة، كما إذا وطئ الجارية المشتركة بينه وبين غيره وأخته المملوكة. انتهى كلامه. وهذا النقل المذكور عن الرافعي سهو، وكذلك ما ترتب عليه من البحث الذي باحثه فيه المصنف، فإن الرافعي إنما ذكر العكس، فقال: في قوله: ((إذا انتفت عنه الشبهة)) غنية عن قوله: ((محرم قطعًا)).

باب حد القذف

باب حد القذف قوله: وإن وطئ بشبهة لا توجب الحد، كمن وطئ في نكاح بلا ولي ولا شهود، فقذفه قاذف، ففي حده وجهان. انتهى. وما ذكره من عدم الوجوب على من وطئ في نكاح بلا ولي ولا شهود سهو، تبع فيه ظاهر عبارة التنبيه في باب حد الزنى، والمنقول فيه عندنا وجوب الحد، وإنما لا يجب عند انتفاء أحدهما خاصة، فأبو حنيفة يجوزه بلا ولي، ومالك بلا شهود. قوله: واعلم أن الرافعي عد قوله يا لوطي من كنايات القذف، وكذلك القاضي أبو الطيب والشيخ في المهذب. وقال ابن الصباغ: فيه نظر، لأنه يستعمل في الرمي بالفاحشة، فلا ينبغي أن يقبل قوله: إني أردت به أني على دينهم، بل يكون قذفًا، وقد حكاه صاحب الكافي وجهًا مع جزمه بأنه عند الإطلاق يكون كقوله: يا زاني على أن في بعض النسخ بدل قوله يا لوطي يا لائط، والظاهر أنها الصحيحة، ولذلك لم يتعرض النووي للكلام عليها. انتهى كلامه. وما استدل به- رحمه الله- على تصحيح هذه النسخة من أن النووي لم يتعرض لها غلط عجيب، فقد تعض لذلك، واستدرك على الشيخ، وصوب أنه كناية، فقال: ما نصه: والصواب أن قوله للرجل والمرأة: يا لوطي كناية، هذا لفظه في التصحيح، وتصويبه غريب، فإن في الروضة من زياداته أيضًا في أول كتاب اللعان: أن الصواب الجزم بأنه صريح على عكس ما في التصحيح هنا. واعلم أن هذا النقل المذكور عن الكافي صحيح، والمراد كافي الخوارزمي ذكره في باب حد القذف، لكنه خالفه في أبواب اللعان، فتفطن له. تنبيه: ذكر في الباب ألفاظًا، منها: حمنة بنت جحش- سبقت في الحيض. ومنها: مسطح بن أثاثة- وهو بميم مكسورة وسين ساكنة وطاء مفتوحة وحاء مهملات. وأثاثة: بهمزة مضمومة وثائين مثلثتين بينهما ألف.

باب حد قاطع الطريق

باب حد قاطع الطريق قوله: فإن مات قبل أن يقدر عليه سقط انحتام القتل والصلب، وقطع الرجل. وقيل: يسقط قطع اليد، وصححه الرافعي. ثم قال: وقيل: لا يسقط، أي: بنفس التوبة، لأن القطع ليس من أحكام المحاربة، بل هو من أحكام المحاربة، بل هو من أحكام أخذ المال على وجه يتعذر الاحتراز منه، ولذلك اعتبرنا فيه أخذ النصاب، والحرز كالسرقة، وهذا قول أبي إسحاق، واختاره الشيخ أبو حامد، كما قاله البندنيجي وتبعه النووي. انتهى كلامه. والذي صححه النووي في الروضة والمنهاج وتصحيح التنبيه، وغيرهما السقوط كما صححه الرافعي وهذا الخلاف ينبني على أن قطع اليد والحالة هذه، هل هو مما يختص بالمحاربة؟ فيه خلاف، والأصح كما قال الرافعي: نعم، على خلاف ما جزم به المصنف في التعليل، فاعلمه.

باب حد الشرب

باب حد الشرب قوله: والمنصوص أنه لا يجوز ضرب الشارب بالسياط، بل بالأيدي والنعال ونحوهما، فإن ضربه بالسوط فمات، فقد قيل: يضمن بقدر ما زاد على ألم النعال. وقيل: يضمن جميع الدية. ثم قال: وقد حكى المارودي، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وجهًا بدل الأول: أنه يضمن نصف الدية، لأنه مات من مضمون وغير مضمون، وحكاه الرافعي في كتاب ((موجبات الضمان)) عن حكاية ابن المرزبان وغيره، وهذا ما اختاره النووي، وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه أهل التحقيق، وفي الحاوي في آخر الفصل أنه الظاهر من مذهبه. انتهى كلامه. وهذا النقل المذكور هنا عن النووي والإمام غلط، فإن الذي صححه في الروضة وتصحيح التنبيه وغيرهما إنما هو الوجه الثاني، وهو ضمان كل الدية، والمسألة في الروضة محلها بعد هذا الباب في كتاب موجبات الضمان، وأما الإمام فقال في أوائل هذا الباب- يعني: حد الخمر-: ولو جلد الإمام الشارب أربعين سوطًا فمات، ففي الضمان قولان. ثم قال ما نصه: فإن أوجبناه، فالذي ذهب إليه أهل التحقيق: أنا نوجب عليه الضمان بكماله.

باب التعزير

باب التعزير قوله:- يعني الشيخ- بهذه الأمثلة: إن التعزير يجب في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة. انتهى كلامه. وقد علم منه أنه إن كان في المعصية حد أو كفارة، فلا تعزير فيها، لكنه يستنثى منه الجماع في نهار رمضان، فإنه يجب فيه التعزير مع الكفارة بالإجماع، كذا رأيته في ((شرح السنة)) للبغوي في الكلام على حديث الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان، وعبر بقوله: أجمعت عليه الأمة وجزم به أيضًا ابن يونس صاحب ((التعجيز)) في شرح له، ورأيت للرافعي في شرح مسند الإمام الشافعي في الكلام على الحديث المذكور ما يقتضيه أيضًا، فإنه قال: واستدل بعضهم بهذا الحديث على أنه يجوز للإمام ترك التعزير إذا رآه، ووهم المصنف فذكر في كتاب الصيام ما حاصله أن التعزير لا يجب، وقد نبهت هناك على غلطه تنبيهًا مختصرًا، وأحلت إيضاحه على المذكور في هذا الباب، ومما يستثنى- أيضًا- جماع الزوجة حائضًا، وقلنا بوجوب الكفارة، فإنه يوجب- أيضًا- التعزير بلا خلاف، كما صرح به بعض الأصحاب، وقد ذكر الشيخ عز الدين في ((القواعد الكبرى)) مسألة لابد من استثنائها أيضًا، فقال: ولو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام، لم يجز تعزيرهم عليها، بل تقال عثرتهم وتستر زلتهم، قال: وقد جهل أكثر الناس فزعموا أن الولاية تسقط بالصغيرة، ذكر ذلك في أوائل الفصل المعقود لبيان التسميع في العبادات، وهو نحو ثلث الكتاب، فإن قيل: يستثنى أيضًا يمين الغموس، فإن فيها الكفارة والتعزير، كما جزم به في ((المهذب))، وكذلك قتل المسلم إذا لم نوجب القود، كما إذا قتل الوالد ولده أو الحر العبد، فإن فيه التعزير، وإن كان فيه كفارة، كما نص عليه الشافعي في ((الأم))، وصرح به عنه ابن الصباغ في ((الشامل)). وغيره. قلنا: أما الأول فالجواب عنه ما قاله الشيخ تقي الدين بن الصلاح في فتاويه، والشيخ عز الدين في ((القواعد)) أن في يمين الغموس جهتين، إحداهما الكذب، والأخرى انتهاكه للاسم المعظم، حيث أكد به الكذب، فالتعزير للكذب والكفارة للانتهاك.

وأما الثاني: وهو القتل، فالجواب عنه أن الكفارة في المسألة المذكورة في مقابلة تفويت النفس المؤمنة، وليست في مقابلة معصية، حيث أقدم على القتل بدليل إيجابها في قتل الخطأ، وإذا لم يكن في مقابلة المعصية، فيشرع التعزير زجرًا للإقدام عليها. قوله: ويجوز التعزير بالحبس. ثم قال: ومدة الحبس إذا رآه هل تتقدر؟ قال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا: نعم تتقدر بشهر للاستبراء والكشف، وبستة أشهر للتأديب والتقويم، وغيره لم يقدرها. انتهى كلامه. وما ذكره- رحمه الله- من أن غير الزبيري لم يقدرها ليس كذل، فإن الشافعي قد صرح بتقديرها بما دون السنة، فقال في ((الأم)) في باب من لا قصاص بينهم لاختلاف الدين ما نصه: قال الشافعي: وإذا قتل المؤمن الكافر عزر، ولا يبلغ في تعزيره في قتل ولا غيره حدًا، ولا يبلغ بحبسه سنة، ولكن حبس يتنكر به وهو ضرب من التعزير، هذا لفظه بحروفه، ومن ((الأم)) نقلته، وهي فائدة جليلة، وحكمها متجه منقاس، فإن الشارع جعل تغريب السنة واجبًا في حد الزنى، والحبس في معناه وأشد منه، فوجب أن يكون التعزير به ناقصًا عنه على قياس سائر التعازير، وعذر المصنف وغيره من الأصحاب ممن تنشط فيطالع ((الأم)) في عدم وقوفهم على هذا النص كونه مذكورًا في غير مظنته، وقد ذكر المصنف في باب قطع الطريق أنه إذا وقع قبل أن يأخذ المال، عزر بالحبس أو بغيره. ثم قال: وفي تقدير الحبس وجهان: أحدهما: لا، بل يعتبر فيه ظهور التوب. والثاني: نعم، لأنه قد أقيم في الحرابة مقام الحد، وعلى هذا فقال الزبيري: يتقدر بستة أشهر كيلا تزيد على تغريب الزنى في حق العبد. وقال ابن سريجة: يقدر بسنة. قوله: ويجوز للإمام النفي في التعزير، كما قاله الماوردي، وأن ظاهر مذهب الشافعي- رضي الله عنه- أن مدته مقدرة بما دون السنة ولو بيوم، كي لا يصير مساويًا للتغريب، وكذا صرح به في ((الإشراف)) عن قول الشافعي، وقد أشار الإمام إلى تضعيف هذا القول في ((الغياثي)) وإن لم يحكه، بأن التغريب بعض الحد، فلو غرب في التعزير مدة سنة لم نكن قد بلغنا به الحد. انتهى كلامه. وهذا النقل عن ((الإشراف)) و ((الغياثي)) غلط، فإنهما لم يذكرا ذلك في النفي،

وإنما ذكراه في المسألة التي قبلها وهي الحبس، فإن الهروي في ((الإشراف)). قال: مسألة التعزير ليس بوجب، بل للإمام فعله، إن رأى الصلاح في الضرب ضرب، ولا يبلغه مقدار الحد، وإن رأى الصلاح في الحبس، ولا يبلغه سنة، فإن كان مثله يتعظ إذا وعظ اقتصر عليه. وهذا قول الشافعي في جميع أنواعه، هذا لفظه، وهو قريب من أواخر الكتاب. وأما إمام الحرمين في ((الغياثي))، فإنه قال في الباب الثامن فيما يناط بالأئمة بعد نحو كراس من أوله ما نصه: وليس الحبس ثابتًا في حد حتى يحط التقصير عنه، ويسوغ للقاضي أن يحبس في درهم أمدًا بعيدًا إلى اتفاق القضاء أو الإبراء وقد منع بعض الفقهاء تبليغ مدة الحبس في العزير سنة نظرًا إلى مدة التغريب في حد الزنى، وهذا فاسد عندي لما قدمناه ذكره، وليس التغريب حدًا كاملًا فينقص عنه تعزير، وإنما هو جزء من حد، فيتفطن لذلك الناظر. هذا لفظه بحروفه وقد نقلته من نسخته صحيحة كتب عليها الشيخ ((تقي الدين بن الصلاح)) أنها بخط تلميذ المصنف الشيخ ((عبد الجبار الخواري البيهقي))، وقد ظهر لك مما نقلناه غلط المصنف من المسألة الأولى إلى الثانية، وما قاله الإمام في ((الغياثي)) قد تقدم جوابه في المسألة السابقة. وإنما قال ما قال لعدم علمه بمن قال.

باب أدب السلطان

باب أدب السلطان قوله: وجعل الأمر شورى بعده بين اثنين فصاعدًا إلى عدد محصور كالاستخلاف، إلا أن المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، جعل عمر- رضي الله عنه- الأمر شورى في ستة، فقال: هذا الأمر إلى علي وبإزائه الزبير، وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه أبو عبيدة بن الجراح، فلما جلسوا للشورى بعد موت عمر، قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال أبو عبيدة: جعلت أمري إلى عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: أيكم يبرأ من هذا الأمر ويجعله إليه؟ فلم يجبه أحد، فقال عبد الرحمن: أتجعلوها إلى وأخرج منها نفسي، والله شهيد؟ فقالا: نعم، فقال: قد فعلت، ثم بعد ذلك بايع عثمان. انتهى كلامه. وما ذكره من أن أبا عبيدة من أهل الشورى وقع في تعليقة القاضي الحسين، فقلده فيه المصنف، وهو غلط عجيب، فإن أبا عبيدة قد مات قبل ذلك في خلافة عمر سنة ثماني عشرة في طاعون عمواس، وهي قرية بالشام بين الرملة وبيت المقدس ودفن بغور نيسان، ولهذا قال عمر: لو كان أبو عبيدة حيًا ما عدلت بها عنه، وقد ذكر البخاري القصة، وذكر سعد بن أبي وقاص عوضًا عن أبي عبيدة، وكان سعد أحد العشرة حيًا أيضًا، إلا أن عمر لم يدخله فيهم، لكونه ابن عمه.

كتاب القضاء

كتاب القضاء باب ولاية القضاء وأدب القاضي قوله: وإن تحاكما إلى رجل يصلح للقضاء فحكماه في مال، ففيه قولان. ثم قال: فإن تحاكما إليه في النكاح واللعان والقصاص وحد القذف، فقد قيل: يجوز، وقيل: لا يجوز. انتهى. واعلم أن ما ذكره هاهنا في حكاية لفظ الشيخ تبع يه ابن يونس شارح ((التنبيه))، وهو مخالف لما في ((التنبيه))، فإن في أكثر نسخه فقد قيل: يجوز. وقيل: لا يجوز. وقيل: على قولين، وفي بعضها، فقد قيل: لا يجوز، وقيل: على قولين، وهذه النسخة أقرب إلى الصواب، فإن الأولى ظاهرها يقتضي ثلاث طرق، إحداها قاطعة بالجواز، وكيف يستقيم القطع به مع حكاية قولين في المال؟! فينبغي تأويله على حكاية طريقين، إحداهما حاكية لوجهين، والثانية لقولين. قوله: والخنثى المشكل فيما نحن فيه كالمرأة. قال: الماوردي: ولو بان أنه رجل لم يصح تقليده، يعني: أنه لو بان بعد التقليد رجلًا لم تنعقد ولايته، كما صرح به في البحر، وقال: إنه المذهب. قال: وقيل فيه وجهان: أما إذا بانت رجوليته قبل التولية صح تقليده جزمًا. قاله في البحر. انتهى كلامه. وهذا الذي نقله عن الماوردي والروياني غلط، فإن الماوردي قال: وكذلك تقليد الخنثى لا يصح، لجواز أن يكون امرأة، فإن زال إشكاله وبان رجلًا، يصح تقليده، هذا لفظه، ولم يذكر في الخنثى غيره، وحينئذ فالمذكور في الحاوي إنما هو المسألة الأخيرة في كلام المصنف، ولم يتعرض للأولى، وفيها نظر، ومقتضى عموم كلام الرافعي أنه لا يصح، وأما الروياني فإنه بدأ بالمسألة التي اقتصر الماوردي عليها،

وأجاب فيها بمثل ما أجاب به- أيضًا- ثم ذكر بعدها مسألة أخرى لم يتعرض لها الماوردي ولا المصنف، وهو ما إذا حكم في حال الإشكال، ثم بان أنه رجل، وحكى فيها الطريقتين المذكورتين في كلام المصنف فإنه قال: فرع: لا يجوز تقليد الخنثى، فإن زال إشكاله وبان رجلًا يجوز أن يكون قاضيًا، ولو ولي في حال الجهل بحاله، فحكم ثم بان رجلًا، فالمذهب أنه لا ينفذ حكمه، وقيل: فيه وجهان، هذه عبارته. قوله: فإن قيل: هذا يقتضي أن تكون صفة الإسلام في الكاتب واجبة، قلنا: قد قال بعض الأصحاب، ولم يورد الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم سواه، وهو الصحيح، والقائل بالأول قال: ما نكتبه لابد وأن يقف عليه القاضي ثم يمضيه، فيؤمن فيه الخيانة، وقد حكى عن ((البيان)) تصحيحه. انتهى كلامه. وهذه الحكاية عن ((البيان)) غلط، فإن الذي صححه إنما هو اشتراط الإسلام، وعبر بالأصح. قوله: لو سلم الخصمان على القاضي رد عليهما، وإن سلم عليه أحدهما، ففي فرض رده ثلاثة أوجه مجموعة في ابن يونس، وهي مأخوذة من كلام مجلي: أحدها: يرد عليه في الحال. والثاني: بعد الحكم. والثالث: يرد عليهما. انتهى كلامه. ومقتضاه أنها ملفقة من فحوى كلام مجلي، أو من اقتضاء كلامه ونحو ذلك، وهو غيب، فإن الأوجه الثلاثة صرح بها الماوردي في ((الحاوي)) وتبعه الروياني في التحريم أن الثالث وهو الرد عليهما لم يبين وقته، وقد بينه المذكوران، فقالا: يرد عليهما معًا عقب سلام الأول، فاعمله، فإن كلام المصنف يوهم خلافه. قوله: فرع آخر: إذا تقدم للقاضي خصمان وقالا: إن بيننا خصومة في كذا، وقد فصلها القاضي فلان بيننا، وحكم بكذا، ولكنا نريد أن نستأنف الحكم بيننا باجتهادك، ونرضى بحكم واجتهادك، فعن القاضي ابن كج حكاية وجهين فيه، أشبههما في الرافعي: الثاني. انتهى كلامه بحروفه. وترجيح الثاني متوقف على بيانه، ولم يتقدم له ولا للأول في كلامه ذكر بالكلية، وقد ذكره الرافعي- رحمه الله- على الصواب ولكن حصل للمصنف في نقله غلط، فقال قبيل الطرف الثاني: فهل يجيبها أم يتعين- الحكم الأول، ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد؟ فيه وجهان أشبههما الثاني.

باب صفة القضاء

باب صفة القضاء قوله: قال- يعني الشيخ-: وإن أقام شاهدًا واحدًا أي: عدلًا وسأله أن يحبسه حتى يأتي بالثاني، أي: وقال: إنه في مكان قريب، كما قال الشافعي، ففيه قولان. أصحهما: أنه لا يحبس، لأن الحق لم يثبت بعد، وهذا ما نص عليه في اللعان، وقد وافق الشيخ في تصحيحه ابن الصباغ وصاحب البحر والتهذيب، والنووي. والثاني: يحبس، لأنه لما حبس مع كمال العدد ونقصان العدالة جاز أن يحبس مع كمال العدالة ونقصان العدد، وهذا ما ادعى الرافعي أن الروياني اختاره. انتهى كلامه بحروفه. وهو صريح في أن الصحيح في ((التنبيه)) عدم الحبس، وليس كذلك، فإن الموجود فيه حكاية قولين من غير ترجيح بالكلية، ولهذا إن النووي نبه عليه في التصحيح، وصحح أنه لا يحبس، والذي أوقع ابن الرفعة في هذا الغلط إيهام وقع في كلام ابن يونس شارح التنبيه، فإنه عبر بقوله: قال: وإن أقام شاهدًا واحدًا وسأله أن يحبسه حتى يأتي بالثاني ففيه قولان، أصحهما: أنه لا يحبس، لأن الحق لم يثبت بعد. هذه عبارته، وابن الرفعة- رحمه الله- كان يعتمد غالبًا في نقل كلام التنبيه عليه، لكونه هو الشرح المتداول في ذلك الوقت، فظن أن التصحيح من تتمة كلام الشيخ، وإنما هو من كلام ابن يونس، ناقلًا له من المهذب وغيره. قوله: وإن استعدى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه، كتب إلى رجل من أهل الستر- أي: وصلاحية القضاء- ليتوسط بينهما. انتهى كلامه. ما ذكره من اشتراط أهلية القضاء وقع في شرح التنبيه لابن يونس، فتابعه المصنف عليه، وليس هذا مراد الشيخ ولا مراد غيره من الأصحاب، بل المراد شخص من وجوه أهل القرية والمعتبرين فيها، كشيوخ الزرع والموسرين الكرماء ونحوهم، ولهذا عبروا بقولهم: أهل الستر، ولم يقولوا أهل القضاء، وعبروا أيضًا بقولهم: ليتوسط، ولم يقولوا: ليحكم. قوله: وإذا ثبت عند الحاكم حق فسأله صاحب الحق أن يكتب له محضرًا بما جرى كتبه.

ثم قال: وعن ابن جرير الطبري وهو كما قاله الرافعي في أوائل كتاب الزكاة- أنه لا يكتب المحضر إذا لم يعرف الخصمين حتى لا يصير محضره الذي ثبت له حجة على ما يكون باسمهما ونسبهما. انتهى كلامه. واعلم أن المصنف قد أخلى بياضًا بمقدار نصف سطر بين ((هو)) وبين ((كما))، والذي قاله الرافعي هناك ولم يستحضره المصنف هنا، وأخلى له ليحرره ويلحقه فلم يتفق له ذلك، هو أنه ليس معدودًا من أصحاب الوجوه، بل صاحب مذهب مستقل، فإنه قال: وتفرد ابن جرير لا يعد وجهًا، وإيراد المصنف يشعر بأن الذي كان في ذهنه هو العكس، وإلا لم يبق لذكر خلافه كبير طائل. قوله: ولو احتاج المترجم إلى أجرة، فهل هي على صاحب الحق أم في بيت المال كأجرة الحاكم؟ فيه وجهان في الأحكام لابن شداد، وقال: إذا قلنا بالأول، فالواجب عليه أجرة المثل فيما يتعلق بخاصته في مثل حقه. انتهى كلامه. وما ذكره أخيرًا في بيان مقدار ما يجب يعتبر قريبًا من المهمل، أو له دلالة لكن على حكم ممنوع، وهو إيجاب البعض على الطالب، والبعض على خصمه، والصواب الاقتصار على اللفظ الأول وهو إيجاب أجرة المثل، وسبب ذكر هذه الزيادة أن الإمام ذكر المزكي والمترجم والمسمع، وحكى وجهين في أن أجرتهم تجب في بيت المال أو على طالب الحق. ثم قال ما نصه: فعلى هذا- أي: الثاني- يجب على كل واحد مقدار أجرة المثل فيما يتعلق بحقه وخصومته. هذا كلامه، ومعناه أن كل واحد من المذكورين تجب عليه بمقدار ما يقع له من العمل، وذكر في البسيط نحوه أيضًا، فاقتصر المصنف على المترجم واتبعه بهذا اللفظ المضطرب ظنًا منه أن الخصومة- بالميم- هي الخصوصية بالصاد، فأبدلها بالخاصة لكونها أوضح، وزاد لفظه ((مثل)) لغير معنى، فلزم الخلل، ثم إنك قد علمت أن الوجهين بتفردهما مشهوران، فكيف عدل إلى كتاب خامل الذكر قليل الجدوى لمتأخر غير ماهر في هذا الفن، ولا معروف لغالب أهله، وقد تأملت الكتاب المذكور فلم أظفر فيه بطائل. قوله في المسألة: وفي الرافعي عوضًا عن الأول أن مؤنة ما يترجم للمدعي على المدعى عليه، لأنه يبلع كلامه، والخلاف جار في أجرة المسمع، ويكون على الوجه الأول على صاحب الحق. انتهى. واعلم أن الذي ذكره الرافعي على ما هو موجود في النسخ المعتمدة أن مؤنة من

يترجم للمدعى عليه على المدعى عليه، أعني بزيادة الجار والمجرور مع الأول، وهكذا هو في الروضة أيضًا، والتعليل الذي يشهد للمصنف على هذا الحكم الذي نسبه إلى الرافعي لم يذكره الرافعي فاعلمه، ثم إن كلام المصنف وكلام الرافعي الموجود في النسخ إنما وقع فيه التعرض في طلب الأجرة لقسم واحد، وإن اختلفا أيضًا في تغيير ذلك القسم، فإن الرافعي اقتصر على ذكر ترجمة كلام المدعي للمدعى عليه، وابن الرفعة بالعكس، وحينئذ فيقال لهما: ما حكم القسم الآخر؟ ولا شك أن القسم الذي ذكره الرافعي هو القسم الذي ينبغي الكلام عليه أولًا، فإنه سابق، وبالجملة فنسخ الرافعي قد حصل فيها إسقاط تابعه عليه في الروضة، وقد علم ذلك السقوط من الشرح الصغير فإنه عبر بقوله: وعلى هذا أي: إذا لم نوجبه على بيت المال، أو تعذر أخذه منه فمؤنة ما يترجم للمدعي على المدعي، ومؤنة ما يترجم للمدعى عليه على المدعى عليه. هذه عبارته، والحاصل منها إيجاب المؤنة على المنقول إليه لا على المنقول عنه، فإنه عبر بـ ((على)) ولم يعبر بـ ((عن))، وقد ظهر أن الواقع في هذا الكتاب عن الرافعي غلط، نعم الذي ذكره أيضًا الرافعي وتبعه عليه في الروضة مردود نقلًا وبحثًا، فإن المعروف وجوبه على طالب الحق، كما أوضحته في ((المهمات)). تنبيه: ذكر أن المخدرة تسمى الخفرة- هو: بخاء معجمة مفتوحة وفاء مكسورة وراء مهملة.

باب القسمة

باب القسمة قوله: وقد اعترض الإمام على الأصحاب في إطلاقهم القول بأن القسمة التي فيا رد بيع، وقال: الوجه الذي يراه بناء هذا على الإجبار على القسمة وقد قال الأصحاب: لا سبيل إلى الإجبار على بذلك العوض أصلًا، وهل يجري الإجبار على القدر الذي لا حاجة فيه إلى الرد بأن يجعل العبد الذي يساوي ستمائة سهم ويجعل ستمائة من العبد المساوي ألف سهم، ويبقى الشيوع في مقدار أربعمائة؟ فيه خلاف فإذا تحرر ذلك قلنا: القدر الذي يقابل العوض لا شك أنه سبع وما يجري فيه بيع، ومن سمى هذا القدر قسمة فهو متجوز أو غافل، وما لا يقابله العوض. فإن قلنا: يجري الإجبار فيه، ففي ذلك القدر قولًا الإفراز والبيع مذهبًا واحدًا. وإن قلنا: لا يجري الإجبار فيما وراء ذلك، ففي القسمة المفتقرة إلى التراضي طريقان سبقا، فليجريا هنا، وقد بطل إطلاق القول بالقطع بأن القسمة المشتملة على الرد بيع، وبان أن هذا التفصيل لابد منه ولم يذكره إلا بعد أن رأينا في كلام الأئمة ما يدل عليه، ولما رأى الغزالي ما قاله أي: الإمام اقتصر على إيراده في ((الوسيط)). قلت: وفيما قاله الإمام من التخريج نظر من حيث إن هذه القسمة اعتمدت التقويم والتعديل، فإن نجعل أربعة أخماس النفيس في مقابلة جملة الخسيس، وذلك تقويم وتعديل، وقد حكينا عنه من قبل فيما إذا احتاجت القسمة إلى تقويم وقلنا بالإجبار رواية طريقين: إحداهما: القطع بأنها بيع، وهي التي صححها الغزالي. والثانية: إجراء القولين، وإن قلنا بعدم الإجبار، فالمذهب أنها بيع، وقضية ذلك أن ينعكس ما أبداه من التخريج، ويقال: إن قلنا بعدم الإجبار، فالوجه القطع بأنها بيع بناء على المذهب، وإن قلنا بالإجبار، ففيها الطريقان. انتهى كلامه. وما نقله عن ((الوسيط)) من موافقته للإمام غلط، بل قد ذكر المسألة على وفق ما أبداه المصنف بحثًا، وادعى أنه قياس كلام الإمام، فقال: وأما قسمة الرد فهي بيع في القدر الذي يقابله العوض، وفي الباقي وفي قسمة التعديل بيع أيضًا إن قلنا: لا يجبر

عليه، وإن قلنا: يجبر فطريقان، منهم من خرج على القولين، ومنهم من قطع بأنه بيع ولكن يجبر للحاجة. هذا لفظ ((الوسيم)) بحروفه. قوله: وإن نصبوا حكمًا يقسم بينهم اعتبر التراضي بعد خروج القرعة على المنصوص، لأن هذه قسمة لابد في ابتدائها من التراضي، فكذلك في الانتهاء كقسمة الرد، وهذا ما قطع به المراوزة وبه أجاب الشيخ أبو حامد، كما قال الرافعي: وقال: إن إليه مال المعتبرون. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الشيخ أبي حامد غلط، فإن الرافعي إنما نقله عنه فيما إذا تقاسما بأنفسهما، فإنه ذكر أولًا ما نقله عن الرافعي في ما إذا نصبا قاسمًا. ثم قال عقبه ما نصه: وبه أجاب الشيخ أبو حامد فيما لو اقتسما. هذه عبارته. فنظر المصنف إلى المسألة المعقودة أولًا، وذهل عن اللفظة الأخيرة فحصل الغلط. قوله: على أن يكون لأحدهما قراح، وللآخر قراح آخر ... إلى آخره. القراح- بقاف مفتوحة وراء وحاء مهملتين- قال الجوهري: هي المزرعة التي ليس عليها بناء، وفيلا فيها شجر، والجمع: أقرحة. قوله: ولو كان بينهما عبدان قيمة أحدهما مائة والآخر مائتين، وأراد أحدهما القسمة بأن يجعل الخسيس وربع النفيس بينهما، فقد حكى الفوراني وصاحب البحر فيه قولين، وحكى الرافعي فيها طريقة جازمة بالإجبار، انتهى كلامه. وما عزاه هنا إلى حكاية الرافعي في هذه الطريقة غلط، بل الذي حكاه الرافعي إنما هو العكس، وهو القطع بعدم الإجبار وتبعه عليه في الروضة أيضًا. قوله: وإن ادعى نكاح امرأة، فالمذهب أنه يذكر أنه تزوجاه بولي مرشد، وشاهدي عدل، ورضاها، إن كان رضاها شرطًا، وقيل: لا يجب ذكر هذه الأمور، بل يستحب، لأن مطلق اسم النكاح ينصرف إلى النكاح الشرعي. ثم قال ما نصه: قال في الإشراف: وأصل هذا الخلاف أن العبد إذا أذن له في نكاح صحيح فنكح نكاحًا فاسدًا هل يجب المهر حيث يجب في النكاح الصحيح أم لا؟ وقضية هذا البناء أن يكون الصحيح الاكتفاء بالإطلاق، لأن الصحيح أنه يجب حيث يجب في النكاح الصحيح. انتهى كلامه. وهو غلط من وجوه، أحدها: أن مهر زوجة العبد في النكاح الصحيح هل يجب في كسب العبد أو في ذمة السيد؟ على قولين: أصحهما الأول، وحينئذ فإذا أذن له سيده في النكاح، وأطلق، فنكح نكاحًا فاسدًا ووطئ فيه، فمنهم من قال: يجب المهر

حيث يجب في النكاح الصحيح فيجري فيه القولان، ومنهم من قال: يجب في ذمة العبد وهو الصحيح، ومنهم من قال: يتعلق برقبته، وأما إذا أذن له في نكاح صحيح فنكح نكاحًا فاسدًا فيأتي فيه القولان الأخيران، وهما التعلق بالذمة أو بالرقبة، وأما الوجوب حيث يجب في النكاح الصحيح حتى يجب في كسبه أو على السيد فلم يقولوا به، ولا يتأتى القول به مع تصريح السيد بالصحة لما فيه من المنافاة فتصوير المصنف المسألة بذلك، سهو، وحكايته عن الإشراف سهو أيضًا، فإنه لما ذكر هذا البناء والتخريج الذي أشار إليه المصنف، عبر بقوله: وإن نكح بإذن سيده نكاحًا فاسدًا فقد قيل: النكاح يتناول الفاسد والصحيح. هذا لفظه في الإشراف، الثاني: أن تصحيحه الوجوب حيث يجب في النكاح الصحيح- غلط أيضًا، فإن هذا قول قديم لم يصححوه، والجديد الصحيح عندهم وجوبه في ذمة العبد كما هو مقدر واضحًا في الصداق، وقد صرح المصنف هناك بذلك فيما إذا أذن له في النكاح وأطلق، ولم يذكر صورة التقييد بالنكاح الصحيح. وإذا كان القول المذكور ضعيفًا عند الإطلاق، فبطريق الأولى فيما إذا قيد الإذن بالنكاح الصحيح، الثالث: أن هذا التخريج الذي ذكره ليبين به كلام الإشراف سهو وصوابه العكس، وهو الاكتفاء بالإطلاق إذا قلنا: لا يجب حيث يجب في النكاح الصحيح، وعدم الاكتفاء بالإطلاق إذا قلنا: يجب، وهو واضح. قوله: والثاني عن أبي الحسين الطبسي. اعلم أن النقل في هذه المسألة عن أبي الحسين المذكور ذكره الرافعي فتبعه المصنف، ولا شك أن في أصحابنا رجلين أوضحت حالهما في كتاب الطبقات، أحدهما: أبو الحسين الطيبي- بطاء مكسورة بعدها ياء ثم باء، موحدة نسبة إلى بلد يقال لها: الطيب- الثاني: أبو الحسن الطبسي- بطاء مهملة مفتوحة ثم تاء موحدة مفتوحة أيضًا، وفي آخره سين مهملة نسبة إلى بلد يقال لها: الطبسين على التثنية- فيحتمل أن يكون المذكور هنا هو الأول، ويحتمل أن يكون الثاني. قوله: وإن أقر بعين لغيره فكذبه المقر له، بطل إقراره عند القفال والأكثرين، وقيل: يحفظه الحاكم. ثم قال: وقد قاس القاضي أبو الطيب الوجه المعزى إلى اختيار القفال في كتاب الصلح على ما إذا قال لرجل: لك عندي ألف درهم، فقال: ما لي عندك شيء، فإنه لا يصح هذا الإقرار، ولا يلزمه شيء، فكذلك هنا، وهذا من القاضي تفريع على

الصحيح، وإلا فقد حكى الرافعي في كتاب الرهن أن الإنسان لو أقر بأنه جنى على المرهون فكذبه الراهن وصدقه المرتههن وأخذ منه الأرش ثم حصلت البراءة من الدين، ففيما يفعل مما أخذ من الأرش وجها، أصحهما: أنه يرد إلى المقر وبه جزم في الحاوي والاستقصاء، والثاني: يجعل في بيت المال. انتهى كلامه. فيه أمران: أحدهما: أن ما زعمه من أن الوجه الذي حكاه الرافعي في مسألة الرهن يجري في الدين سهو، فإن الوجه المذكور محله على ما حكاه المصنف وغيره بعد قبض الدين من المقر وحصول البراءة من دين المرتهن، وفي تلك الحالة المقر به عين لا دين، لأن المقر يدعي أنه ليس مالكًا له لكونه أقبضه إقباضًا صحيحًا عما في ذمته بزعمه، فالمسألة عكس المسألة، ولو فرضنا أن محله أيضًا قبل القبض، لم يلزم جريانه في مسألتنا، لأنا هناك حكمنا أولًا بصحة الإقرار لتعلق حق المرتهن به، فاستصحبنا الصحة بعد ذلك بخلاف ما نحن فيه. الأمر الثاني: أن استنباطه لهذا الوجه مما ذكره دليل على أنه لم يقف على التصريح به في مسألتنا وهو غريب، فإن الرافعي قد صرح به في الركن الثاني من كتاب الإقرار، وسيكون لنا عودة هناك إن شاء الله تعالى إلى ذكر لفظه. قوله: فرع لو شهد شاهدان أنه اشترى من فلان ساعة كذا وشهد آخران أنه كان في تلك الحالة ساكتًا، فهل تقبل هذه الشهادة الثانية ونحكم بالتعارض أو لا تقبل؟ فيه خلاف، والذي ذهب إليه الأكثرون كما ذكره الإمام أنها مردودة لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات، ومقابله يوجه بأن هذا نفي يمكن تقدير العلم فيه، وقد ادعى الرافعي في الفروع التي ذكرها في آخر كتاب الطلاق أنه ظاهر المذهب، لأنه قال: لو رأى ذهبًا وحلف بالطلاق أنه الذهب الذي أخذه من فلان، فشهد شاهدان أنه ليس ذلك الذهب وأنه حانث، فظاهر المذهب وقوع الطلاق وإن كانت هذه شهادة على النفي، لأنه نفي يحيط العلم به. انتهى كلامه. وما نسبه إلى الرافعي من كونه قد قال إن ظاهر المذهب هو القبول سهو، بل الذي ادعاه إنما هو الروياني، وسبب الاشتباه أن الرافعي نقل عنه مسائل كثيرة وعطف بعضها على بعض، وكثرت تلك المسائل بحيث يظن الواقف أن ذلك من كلام الرافعي على العادة لبعد آخرها عن المنقول عنه. واعلم أن الرافعي قد ذكر مسألة السكوت في كتاب ((القسامة))، وجزم بعدم القبول على وفق ما نقله الإمام عن الأكثرين.

قوله: ((وإن مات نصراني أي من عرف بالنصرانية وترك ابنًا مسلمًا وابنًا نصرانيًا، فأقام المسلم بينه بأنه مات مسلمًا وأقام النصراني بينة بأنه مات نصرانيًا. قال الماوردي: فلهما أربعة أحوال، أحدها: أن يطلقا الشهادتين، فيحكم بشهادة الإسلام، لأن معها زيادة علم، الثانية: أن يقيدا فنقول: بينة المسلم أن آخر كلامه عند الموت الإسلام ونقول: بينة النصراني أن آخر كلامه هو التنصر، فيتعارضان، الثالثة: أن تطلق بينة المسلم وتقيد بينة النصراني، فيحكم بالشهادتين بأن نحكم بارتداده بعد إسلامه، وميراثه في الرابعة العكس، فميراثه للمسلم. ثم قال: وقد اختصر الفوراني في التعبير عما ذكرناه من الحكم في الحالتين الأخيرتين، فقال: إذا كانت إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة فالعمل بالمقيدة أولى. انتهى كلامه. وما ذكره عن الفوراني من كونه موافقًا لما ذكره غريب، فإن الحالة الثالثة لم يعمل فيها بالمقيدة، إذ لو عملنا بها لأعطينا ماله للنصراني، بل علمنا بكل منهما، وجزم الرافعي فيما إذا قيدت بينة النصراني وأطلقت بينة المسلم بالتعارض على خلاف ما نقله عن الماوردي، وأقره وسكت- أعني الرافعي- عن عكسه، ولا يصح التحاقه به لوضوح الفرق فاعلمه، فإن بعض الشراح قد غلط في ذلك. قوله: ولو كان من عليه الحق منكرًا ولا بينة له، فله أن يأخذه لعجزه عن حقه، وقال القفال: ليس له الأخذ، بل يقتضر على التحليف، وعلى الأول لو كان صاحب الحق مرجوًا إقراره لو حضر عند القاضي وعرض عليه اليمين وجب إحضاره، ولم يجز له الأخذ إن قلنا: لو كان مفرًا مماطلًا لم يجز له الأخذ. قاله الرافعي. انتهى كلامه. وهذا الذي عزاه إلى الرافعي واقتضى كلامه عدم الوقوف عليه من كلام غيره كما هو اصطلاحه عند الاقتصار عليه قد صرح به القفال كما حكاه عنه في ((البحر)) وحينئذٍ، فكيف يجامع أيضًا هذا النقل لما نقله عنه المصنف في أول المسألة؟ قوله: فإن كان المأخوذ في الظفر من غير جنس حقه باعه بنفسه، وقيل: يواطئ من نقر له بحق عند الحاكم وأنه ممتنع، أي: وهذه السلعة له، فنتبع الحاكم عليه، وهذا الثاني هو قول أبي علي ابن أبي هريرة، والتصوير الذي ذكره الشيخ نقله عنه جماعة، وفي الحاوي عنه أن طريقه أن يدعي عليه أن له دينًا على غريم وقد ائتمن هذا على ما في يده أن يبيعه في ديني، وأصل إلزامه ببيع ذلك وبقضاء ديني من ثمنه، فيعترف

المدعى عليه بذلك. انتهى كلامه. وفيه أمران، أحدهما: أن ما نقله عن ابن أبي هريرة من ذهابه إلى الوجه الثاني وهو بيع الحاكم عليه ليس كذلك، بل اختياره الأول، فإنه حكى وجهين وصححه وعبر بلفظ الأصح، ثم إنه لما ذكر الوجه الثاني صوره بالتصوير الأول فاعلمه. كذا رأيته في اختصار شرحه على المختصر الذي علقه عنه أبو علي الطبري صاحب الإفصاح، والمسألة فيه مذكورة قبل كتاب العتق، الأمر الثاني إن إطلاق تجويز الأخذ من غير الجنس محله إذا لم يجد أحد النقدين، فإن وجده بعين ولم يعدل إلى غيره. كذا نقله المصنف في المطلب عن التتمة، ولم ينقل خلافه وارتضاه، وهو واضح. قوله: وفي التهذيب الموافقة على تصحيح الاستقلال إذا لم يكن للأخذ بينة، أما إذا كانت قال، فظاهر المذهب أنه لا يبيعه إلا بإذنه. انتهى كلامه. وهذا النقل عن التهذيب فيه إسقاط وتغيير، فإنه قال: إن كان الحاكم عالمًا بالحال لا يبيعه إلا بإذنه على ظاهر المذهب، وإن كان جاهلًا ولا بينة له باعه بغير إذنه، لأنه إذا أقر بين يدي الحاكم: أني أخذت مال فلان بحق لا يصدقه أي: الحاكم بغير حجة. هذه عبارته، وهكذا نقلها عنه الرافعي أيضًا وحاصلها أن استيدان الحاكم إنما ذكره مع علمه، وأما مع وجود البينة فلم يذكره فيها، بل سكت عنه عنه ولم يصرح بحكمه، فحذف المصنف مسألة علم القاضي، وجعل الاستيدان محله عند وجود البينة. قوله: ولو غصب إنسان عينًا من إنسان، وظفر المغصوب منه بعين للغاصب، والامتناع قائم، قال الإمام: فله أن يأخذه ويبيعها وينتفع بقيمتها كما لو أبق العبد المغصوب. ثم قال ما نصه: فإذن، البيع بنفسه ظاهر المذهب، وإذا رد الغاصب العين رد الظافر قيمة العين. انتهى كلامه بحروفه. وتعبيره بقوله، ((ثم قال)) إلى قوله: ((وإذا رد)) تعبير فاسد، وفساده واضح، والإمام عبر بقوله: ((فإذن ظاهر المذهب أن الظافر لا يبيع بنفسه)) هذه عبارته، فأفسدها المصنف بالتقديم والتأخير والإسقاط. قوله في القسامة: وإن كانت الدعوى في قتل عمد، ففي القود قولان، أصحهما: أنه لا يجب. ثم قال: والثاني يجب لما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل في القسامة رجلًا من بني النضر بن مالك. انتهى كلامه.

وتعبيره بالنضر تحريف وإنما هو نصر بصاد مهملة ساكنة كذا هو في أبي داود بضبط الحافظ شرف الدين الدمياطي وهو نصر بن مالك بن حسل، وكأن المصنف بقي في ذهنه الواقع في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مالك بن النضر عكس المذكور هنا. قوله: في الكلام على توزيع الخمسين يمينًا على الورثة، ولو خلف المقتول جدًا وأخًا لأب وأم وأخًا لأب، فالأخ للأب والأم يعادد الأخ للأب على الجد ولا يرث، فيحلف الجد عشرين يمينًا والأخ للأبوين ثلاثين. انتهى كلامه. وهذا الكلام غلط، فإن الخمسين في المثال المذكور تنقسم إلى ثلاثة، ويجبر المنكسر فيخص كل واحد سبعة عشر يمينًا، ثم إن الشقيق يحلف أربعة وثلاثين يمينًا، لأن فائدة الأخ للأب ترجع إليه فيحلف دون الأخ للأب، لأنه لا يأخذ شيئًا، ويحلف الجد سبعة عشر، فيكون المجموع إحدى وخمسين يمينًا، وأما الجواب الذي ذكره فمحله فيما إذا كان ولد الأب أنثى لا ذكرًا فإن أصل المسألة من خمسة، ويجيء فيه العمل الذي ذكره المصنف. قوله: ومن توجهت عليه اليمين لجماعة، حلف لكل واحد منهم، فإن اكتفوا منه بيمين واحدة لم يجز في الأصح. ثم قال: وفي ((البحر)) في باب ما على القاضي في الخصوم أن بعض أصحابنا بخراسان حكى في مسألة الكتاب وجهًا أنه يجوز للحاكم أن يحلفه يمينًا واحدة من غير رضى الخصوم، وكان الروياني أشار بالبعض الذي لم يصرح به إلى الفوراني، فإن في الإبانة له ما يدل عليه، وهذا الوجه موافق لما في الرافعي في كتاب ((اللعان))، وهو أنه لو شهد له شاهد بحق على رجل وعلى آخر بحق جاز أن يحلف معه يمينًا واحدة يذكر فيها الحقيق، وقضية ما ذكره الشيخ وغيره أن يقال في هذه الصورة بالاحتياج إلى يمين. انتهى كلامه. فيه أمران، أحدهما: أن ما ذكره تفقهًا وظنًا من تفسير البعض المجهول بالفوراني هو كذلك، وهذه عبارة الروياني حيث نقل عنه كما نبه عليه ابن الصلاح، ودل عليه الاستقراء الثاني: أن ما ذكره من أن مقتضى ما قالوه أنه لابد من يمينين ليس كذلك كما نبه عليه المصنف في الحاشية، لأن الشيخ فرض المسألة فيما إذا كانت الأيمان عليه، وفي الصورة الأيمان له. قال: وقد صرح القاضي بأن الأيمان إذا كانت له كما في هذه الصورة، وكما إذا ادعى على جمع فنكلوا أن له أن يحلف يمينًا واحدة. كذا ذكره في كتاب ((اللعان)) ولم يحك غيره.

تنبيه: وقع في الباب ألفاظ، منها: مطرف قاضي صنعاء من اليمن- هو بميم مضمومة وطاء مهملة مفتوحة وراء مشددة مكسورة، ومنها بهاء بالشيء إن استأنس به حتى سقطت حرمته هو بباء موحدة مفتوحة ثم هاء بفتح وبكسر بعدها همزة، قاله الجوهري، ومنها: كسر السبت على اليهود هو إخراجه يوم السبت، وقطع بعبده فيه بالسكون. جعلوا القاطع للشيء كالكاسر له. قوله: وعد في العدة من الصغائر النظر بالعين إلى ما لا يجوز. انتهى. وما نقله هنا عن صاحب العدة وارتضاه ولم يحك غيره تبعًا للرافعي قد صحح عكسه بعد هذا في باب تحمل الشهادة، وسوف أذكر لفظه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: فروع: الغناء بغير آلة مكروه عندنا، غير محرم على المشهور، عن أبي الفرج الزار رواية وجهين، أحدهما: إنه يحرم كثيره دون قليله، والثاني: أنه حرام على الإطلاق. ثم قال: وفي الرافعي أن القاضي أبا الطيب قال بتحريم سماعه من الأجنبية قال الرافعي: وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل هو عورة؟ انتهى كلامه. وما ذكره هنا من ثبوت الخلاف في تحريم الغناء قد ناقضه في أول الإجازة، وادعى أن لا خلاف في عدم تحريمه، وقد سبق ذكر لفظه هناك، فراجعه. قوله: أما إذا ردت شهادته بسبب الكفر، كما إذا ارتد وهو مسموع القول في الشهادة، فلا يشترط في قبول شهادته بعد الإسلام استبراء حاله بإصلاح العمل بلا خلاف، نعم، قال الماوردي: إذا أسلم عند إرادة قتله فلابد من الاستبراء. انتهى. وما اقتضاه كلامه من عدم الخلاف في غير هذه الصورة ليس كذلك، فقد حكى سريج الروياني في تصنيفه في أدب القضاء المسمى بالروضة في ذلك ثلاثة أوجه، أحدها: يجب الاستبراء في الكافر مطلقًا، والثاني: لا، والثالث: إن كان مرتدًا وجب، وإلا فلا. ذكر ذلك قبيل باب العلم بالشهادة، وبذلك يتحصل مع ما قاله الماوردي أربعة أوجه. قوله: والتقويم ملحق عند أبي إسحاق بما نحن فيه، فثبتت بالشاهد والمرأتين والشاهد واليمين، وقال ابن أبي هريرة: لا مدخل للنساء فيه. قال الزبيلي: قال أبو الحسن: والأولى قول أبي إسحاق. انتهى كلامه. واعلم أن أبا الحسن المذكور، هو الزبيلي فإنه كنيته، ووقع في كتاب الزبيلي التعبير بأبي الحسن، فقال: قال أبو الحسن، والأولى قول أبي إسحاق وهذه عبارته،

فكأنه قال: قلت: وهو كما وقع في التنبيه في باب ما يوجب الغسل، قال الشيخ: وعندي أنه يلزمه الغسل، فتوهم ابن الرفعة أنه نقل عن غيره، وهو خطأ فاجتنبه. قوله: وإن شهد ثلاثة بالزنا، وجب على الشهود حد القذف في أحد القولين، لما روي أن المغيرة بن شعبة كان أميرًا على البصرة من قبل عمر وكان منكاحًا- أي كثير التزويج- فخلا بامرأة في دار كان ينزلها وينزل فيها معه أبو بكرة ونافع ونفيع وزياد ابن أبيه، وكان جميعهم من ثقيف، فهب ريح ففتحت الباب فرأوه على بطن امرأة فبلغت القصة عمر، فاجتمعوا عنده فبدأ أبو بكرة فشهد بالزنا، ثم شهد نافع، ثم شهد ابن معبد، ثم أقبل زياد ليشهد، فلم يصرح بشيء. انتهى كلامه ملخصًا. وفيه تخليط وتخبيط، فغن ((نفيع)) المصغر هو أبو بكرة، وإنما كني بذلك لأنه أسلم حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - محاصرًا للطائف وتدلى إليه من حصنها ببكرة فلقب بذلك، ولهذا فإن المصنف لم يذكره آخرًا عند الكلام على أداء الشهادة، وكان نافع ونفيع أخوين شقيقين، وهما ولدا الحارث بن كلدة- بفتح الكاف واللام- وزياد أخوهما لأمهما واسمهما سمية- بسين مهملة مضمومة ثم ميم مفتوحة ثم ياء مشددة تصغير اسم- وكانت أمة للحارث بن كلدة، فأتت منه بنافع ونفيع، ثم أتت بزياد من غير أب معروف، فلذلك كان يقال له: ابن أبيه- بالباء الموحدة- وكان أبو سفيان يذكر أنا حملت منه في الجاهلية، فاستلحقه معاوية في خلافته ووقع في الكتاب أنه زياد بن أمية- بهمزة مضمومة وميم مفتوحة وياء مشددة- وهو أيضًا تحريف. قوله: في المسألة الثانية قال العلماء: الصحابة عدول وهذه القصة تقتضي الطعن في المغيرة أو في من شهد عليه، فما العذر؟ انتهى. وهذا الكلام عجيب، مؤذن بعدم فهم المراد من قول العلماء: إن الصحابة عدول، فيقول: معنى كونهم عدولًا أن مجرد الصحبة شاهدة للتعديل مغنية عن البحث عنهم والفحص، فإن ظهر من أحد منهم ما يقتضي التفسيق فليس بعدل كسارق رداء صفوان، ومن يثبت زناه كالغامدية وماعز، ولهذا عبر القرافي في كتبه الأصولية بعبارة حسنة، فقال: إنهم عدول إلا من تحققنا قيام المانع به، ثم مثل بمن ذكرناه، وليس المراد من كونهم عدولًا أنه يلزمهم اتصافهم بذلك ويستحيل خلافه، فإن هذا هو معنى العصمة المختصة بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- على أن المصنف قد أجاب عما ذكره بجواب آخر. قوله: وقد ألحق الغزالى وإمامه قول المقر على درهم بقوله: درهم صغير،

ووافقهما البغوي. انتهى. وتعبيره أولًا بقوله: ((درهم)) تحريف، وصوابه: دريهم، بزيادة ياء التصغير. قوله: بخلاف الأموال، حيث لا تقبل فيها شهادة امرأتين ويمين المدعي بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف ليس كذلك، فإن فيه خلافًا ذكره الرافعي في كتاب الشفعة وتبعه عليه في الروضة، فقال في أوائل الباب الثالث، فصل: إذا أخر الطلب ثم قال: أخرت لأني لم أصدق، فإن أخبره عدلان أو عدل وامرأتان بطل حقه، وفي النسوة وجهان بناء على أن المدعي هل يقضي له بيمينه مع امرأتين؟ إن قلنا: لا، فهو كالمرأة، وإلا فكالعدل الواحد. هذا لفظه، وقد عد الرافعي وغيره الشفعة من قسم المال حتى لا تقبل إلا ما يقبل فيه وهو واضح، فظهر بذلك بطلان دعوى عدم الخلاف. قوله: ولا خلاف أنه يجوز أن يتعمد النظر إلى الوجه عند تحمله الشهادة لها أو عليها، وكذا عند الأداء وإن كانت في غاية الجمال، إلا أن يخاف الفتنة، فلا ينظر ويكف عن الشهادة إلا أن تكون متعينة عليه، فإنه ينظر بعد ضبط نفسه، كما قاله الماوردي والرافعي. انتهى كلامه. واعلم أن الرافعي إنما ذكر ذلك بحثًا، فقال: فتشبه هذه عبارته. نعم ذكره الماوردي وكذلك الروياني في ((البحر)) وعبرا بما إذا خاف إثارة الشهوة. قوله: نعم لو تعمد النظر للوجه من غير حاجة، فسق. انتهى كلامه. وما جزم به هاهنا من فسقه بذلك قد تقدم منه في كتاب الشهادات في الكلام على تعداد الصغائر- عكسه، وتقدم ذكر لفظه هناك، فراجعه. قوله: وإن كان المشهود به نسبًا أو موتًا أو ملكًا مطلقًا جاز أن يتحمل بالاستفاضة. ثم قال ما نصه: وقد ألحق الإمام بهذه الصور الثلاث صورة رائعة، وهي الشهادة بالاعتبار، فقال إنه يتحملها بالاستفاضة، لأنه لا مطلع عليه، ولو لم يكن في إثباته طريق لتخلد الحبس على المعسر. انتهى كلامه. وهذا النقل عن الإمام غلط، فإن الإمام إنما ألحقه بها في الاكتفاء بالظن، ثم صرح بأن الاستفاضة لا تكفي. قوله: وتثبت الاستفاضة باثنين عند الشيخ أبي حامد، ولم يورد البندنيجي والقاضي أبو الطيب سواه، وقال الماوردي: الصحيح أن الاعتبار في ذلك بالعدد

المقطوع بصدق مخبره، وهو عدد التواتر، وعلى ذلك جرى النووي وحكى الإمام وغيره الوجهين، وفي ابن يونس أن مفهوم كلام ابن الصباغ أنه إذا كثرت الأخبار بحث يقع في قلبه صدقهم، وإن لم يبلغوا عدد التواتر- كفى. انتهى كلامه. وما نقله عن النووي من اختياره لعدم التواتر المقيد للعلم غلط، فقد عبر النووي في أصل الروضة بقوله: الأصح أنه يشترط أن يسمعه من جميع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم ويؤمن تواطؤهم على الكذب. هذه عبارته، وعبر في ((تصحيح التنبيه)) أيضًا بقوله: يؤمن، ولم يعبر بالعلم، وكذلك في المنهاج، وسبب الغلط اشتباه الفرق بين المستفيض والمتواتر، وتوهم التسوية بينهما، وليس كذلك، فقد قال الأصوليون وغيرهم: إن المتواتر هو الخبر الذي بلغت رواته في الكثرة مبلغًا أحالت العادة تواطؤهم على الكذب، والمستفيض الذي لم ينته إلى ذلك، بل أفاد الأمن من التواطؤ على الكذب، والأمن معناه الوثوق، وذلك بالظن المؤكد، وما نقله المصنف عن الماوردي قد نقل عنه الرافعي خلافه، والصواب ما في الكتاب كما بينته في المهمات. قوله: وقد أطلق القاضي حسين والرافعي في باب حد الزنى حكاية وجهين في استحباب كتمان شهادة الشهود في حدود الله تعالى، وأن أصحهما المنع كي لا يتعطل. انتهى كلامه. واعلم أن القاضي الحسين قد ذكر وجهين في وجوب الشهادة، وزاد على ذلك فاختار الوجوب، وعبر بقوله: والذي أختاره أنه واجب، ثم فرق بينه وبين عدم وجوب الإقرار بأن التوبة واجبة عليه وطهره حاصل با. ذكر ذلك في كتاب المسمى: ((أسرار الفقه))، قبيل كتاب السرقة. قوله: وفي جواز الشهادة على الشهادة في حقوق الله تعالى قولان، أصحهما: المنع. ثم قال ما نصه: وقال ابن الصباغ: إنهما جاريان في الشهادة بالإحصان. قلته تخريجًا. انتهى لفظه. وهذا النقل عن ابن الصباغ غلط، بل القائل له إنما هو ابن القاص في التلخيص، وعادته في كتابه المذكور أن يعبر بهذه العبارة، وهي قلته تخريجًا. نعم نقل ابن الصباغ في ((الشامل)) هذا الكلام عنه، فنسي المصنف فعزاه إليه غلطًا. قوله: فرع: أطلق الماوردي القول بأنه لا يجب على شاهد الأصل أن يشهد على شهادته إذا طولب بذلك، واختار لنفسه وجوبه إن كان مما ينتقل إلى الأعيان كالوقف

والإجارة والديون المؤقتين بأجل لا يعيش إليه غالبًا، وقال ابن عصرون: إن خاف ضياع الحق كوقوعه في مرض مخوف وإرادة الجهاد، وجب. ثم قال: وقال الشاشي: عندي أنه لو بنى هذا على وجوب الإشهاد على الحاكم في ما حكم به وكتابه المحضر كان أشبه، قلت: وفيما ذكره نظر، لأن الإشهاد على القاضي واجب بلا خلاف. انتهى كلامه. وما ادعاه من عدم الخلاف في الإشهاد ليس كذلك، بل فيه وجهان حكاهما الشاشي، المذكور قبل ذلك قبيل باب القسمة في كتاب ((الحلية))، فقال: فإن ثبت الحق عند الحاكم بالبينة فسأله المدعي أن يشهد على نفسه بما حكم به، فهل يلزمه؟ فيه وجهان هذه عبارته، ثم حكى بعد ذلك أيضًا الوجهين في وجوب إجابته إلى كتابة المحضر، وهو الكتابة بصورة الحال، وإلى التسجيل، وهو الكتابة بتنفيذ ما في المحضر. قوله: قال الإمام: الاسترعاء: استفعال من الرعاية، وقال النووي: إنه مأخوذ من الرعية أو المراعاة، كأنه يقول للمتحمل: أقبل على رعاية شهادتي. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ((الرعية)) وقع كذلك للنووي في لغات التنبيه، والصواب الرعاية، لأن الرعاية والمراعاة مصدران لـ ((راعى))، فإن لم نلاحظ راعى، بل رعى، فمصدره الرعي لا المراعاة، ثم إن كلام ابن الرفعة يوهم أن مقالة النووي مغايرة لمقالة الإمام، وليس كذلك. قوله: ويلتحق خوف الغريم وسائر ما يترك به الجمعة بالمرض في تجويز الشهادة على الشهادة كما أطلقه الإمام والغزالي. قال الرافعي: وليكن ذلك في الأعذار الخاصة دون ما يعم الأصل والفرع، كالمطر والوحل الشديد. انتهى كلامه. وما استدركه الرافعي من إخراج العذر للأصل والفرع عن تجويز سماع شهادة الفرع ونقله عنه المصنف معتقدًا لصحته قد تابعه عليه أيضًا في الروضة، وهو تقييد باطل ووهم عجيب، فإن مشاركة غيره له لا تخرجه عن كونه عذرًا في حق الفرع، إلا إذا اشتركا في سبب يستحيل معه الحضور، لا فيما يمكن مع المشقة، فإن وجد المدعي من يتخلف ويؤدي الشهادة على الأصل في تلك الحالة سمعت، ووجوده كبير، خصوصًا عند الإعطاء ما يحصل به الرضى، وإن لم يجد ذلك كان المانع فقدان الفرع. قوله: ولا تثبت شهادة كل واحد من شاهدي الأصل إلا بشاهدين، فإن شهد اثنان

على أحد الشاهدين ثم شهدا على الآخر، ففيه قولان: أحدهما: يجوز كما لو شهدا على مقرين. ثم قال: والثاني: لا يجوز، لأنهما قاما مقام أحد الشاهدين، فلو قاما مقام الآخر أشبه ما لو شهد الواحد على الحق مرتين، وهذا ما صححه المزني وصححه القاضي الحسين والسرخسي والنووي. وقال البغوي: إنه الجديد. انتهى. وما نقله عن النووي من تصحيح المنع غلط، فإن الذي صححه في الروضة والمنهاج وتصحيح التنبيه وغيرها. إنما هو الجواز. قوله نقلًا عن الشيخ: ومتى رجع شهود المال بعد الحكم لزمهم الضمان في أصح القولين، لأنهم حالوا بينه وبين ماله بغير حق، فأشبه من غصب عبدًا فأبق في يده. ثم قال: ولا يلزمهم في الآخر، لأن العين إنما تضمن باليد أو الإتلاف وهما معدومان، وهذا ما ادعى الفوراني والإمام أنه الجديد، وصححه النووي. انتهى كلامه. وهذا النقل عن النووي قد ذكره أيضًا في باب الإقرار من المطلب وهو غلط، فإن الذي صححه في كتبه كلها إنما هو الغرم، كما صححه صاحب التنبيه. قوله: وإذا ردع شهود الطلاق الرجعي في العدة ففيه وجهان. أحدهما: ولم يخرج البغوي في التهذيب سواه وهو الظاهر عند القاضي الحسين يجب الغرم بمجرد الرجوع، ولكنه يرد إن راجع، والثاني: لا يجب إلا إذا انقضت العدة ولم يراجع. انتهى. وما نقله عن التهذيب غلط، فإن هذا القسم ليس مذكورًا فيه بالكلية، وقد ذكرت لفظه في ((المهمات))، فإن الرافعي أيضًا قد غلط في النقل عنه ولكن بالعكس، فنقل عنه عدم الوجوب، ووقع في الروضة أيضًا غلط في اختصاره لكلام الرافعي، فاعلم ذلك كله وراجعه من المهمات، فإنه غريب. قوله: ومن حجر عليه لفلس يجوز إقراره بالحد والقصاص. ثم قال ما نصه: وفي المال قولان، أي: إذا أسند إلى ما قبل الحجر، أحدهما: يجوز، أي: ويضارب المقر له به مع الغرماء في الدين، ويسلم له العين، والثاني: لا يجوز في الحال. انتهى كلامه. وهو صريح في أن المال المقر به عينًا كان أو دينًا إذا قلنا بصحة الإقرار به لابد من إسناده إلى ما قبل الحجر، فأما تقييد الدين بذلك فصحيح، وأما العين فذهول.

لأن المقتضي لتقييد الدين إنما هو تقصير الذي عامله بخلاف العين، فإنه قد يغصبها أو يستعيرها أو تودع عنده، ولهذا أطلق الرافعي في العين، وفصل في الدين. قوله: فإن لم يصح، فيؤاخذ بذلك بعد فك الحجر، ثم قال: وقد حكيت في باب التفليس عن رواية الإمام والقاضي الحسين قولين فيما إذا أقر بعين ثم فضلت بعد فك الحجر، هل يسلم للمقر له أم لا؟ وقلت: إن القياس طرد ذلك في الدين أيضًا، وقد أشار إليه في الوسيط أيضًا هنا أخذًا من قول الإمام هنا: إن الأئمة حكوا قولين في صحة بيع المفلس عينًا من أمواله موقوفًا على التبيين في الجديد، فإن كنا نرى بوقف بيع المفلس فإقراره بقبوله للوقف، وإن رددنا إنشاء تصرفه ففي إقراره تردد حينئذ، وإلا ظهر في القياس ألا نرده بل نقفه، فإن الإقرار ليس إنشاء تصرف، وإنما هو إخبار، والمفلس من أهل الإخبار، فإن رددنا قوله في الحال لحقوق الغرماء، فإذا زالت فلا يبعد أن يؤاخذ المقر الآن بموجب إقراره، وهذا واضح، ورد إقراره عند تقدير زوال الغرماء مشكل في القياس جدًا. انتهى كلامه. واعلم أن ما ذكره من أن الغزالي في ((الوسيط)) قد أشار إلى طرد هذا الخلاف في الدين أخذًا من هذا البحث الذي نقله عن الإمام ليس كذلك، بل أخذه من تصريح الإمام بالخلاف، كذا ذكره في البسيط في هذا الباب، فقال: وإن أقر بدين معامله لم يثبت للمقر له مضاربة الغرماء أصلًا، ويؤاخذ به بعد انفكاك الحجر، وذكر الإمام في ذلك بعد انفكاك الحجر خلافًا، ورفعه، ولم يذكره في كتاب التفليس. هذا لفظه في البسيط بحروفه. قوله: وإذا أقر بسرقة ثم رجع لم يؤثر رجوعه في المال ويؤثر في القطع، وقيل: لا. هذه طريقة القاضي، وقيل: يسقط القطع، وفي المال قولان، ثم قال: ولو أقر رجل بأنه استكره امرأة على الزنى، فالمهر والحد واجب عليه بإقراره، فلو رجع عنه لم يسقط المهر، وفي سقوط حد الزنى جوابان للقاضي، أحدهما: يحتمل أن يكون كحد السرقة، ويحتمل أن يقال: يسقط الحد قولًا واحدًا، لأن وجوب الحد ينفك عن المهر، ووجوب القطع لا ينفك عن مطالبته برد عين أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر. قال الإمام: ومن سلك الطريقة الأخرى في القطع، وقال: إذا سقط ففي سقوط الغرم خلاف، قد يلتزم مثل هذا هنا، فنقول بسقوط الحد، وفي سقوط المهر قولان. قلت: ويقوي هذا أن القاضي قال في باب حد الزنى: لو قال: زنيت بفلان أو بفلان، هل يحد لأجل الذي قذفه؟ فيه خلاف، وجه المنع أن

المقصود هو الإقرار بالزنى، وعلى مقابله إذا رجع عن الإقرار سقط حد الزنى، وهل يسقط حد القذف، فيه وجهان بناء على ما لو أقر بالسرقة ثم رجع يسقط القطع وفي الغرم خلاف، ووجه الشبه أن المقصود هنا الإقرار بالزنى دون القذف، وفي السرقة المقصود حق الآدمي بالإقرار، فمتى رجع عن المقصود، ففي التابع قولان. انتهى كلامه. وأشار بقوله: ووجه الشبه أي: بين الصورة التي حاول الإمام جريان الخلاف فيها، وهي سقوط المهر عمن أقر بالاستكراه على الزنا، ثم رجع وبين الصورة التي قوى بها المصنف بحث الإمام، وهي سقوط حد القذف عمن قال: زنيت بفلان ثم رجع، إذا علمت ذلك فاعلم أن ما ذكره في تقرير الشبه فاسد، وذلك لأنه انتقل إلى السرقة، وليس الكلام فيها، ثم إنه مع انتقال إليها قررها على العكس مما هو فيه، ومما يلائمه كلامه، فإن حاصله سقوط المال في السرقة، وحكاية قولين في سقوط القطع، وهذا مع كونه لا يلائم كلامه لم يقل به أحد، وإن أراد المصنف عود الشبه إلى الكلمة التي قبله وهي قوله بناء على ما لو أقر بالسرقة، فتقريره فاسد أيضًا، لأنه على العكس كما قلناه وأوضحناه، وإن أراد أيضًا الشبه بين ما خرج الإمام منه وخرج إليه حيث قال: قال الإمام ... إلى آخره، فكذلك أيضًا لا يستقيم، لما ذكرناه أيضًا من كونه على العكس بالنسبة إلى السرقة. قوله: ومن أقر له حل بمال فكذبه المقر له ترك في يده، وقيل: يحفظه الحاكم، ثم قال: وظاهر كلام الشيخ وغيره يقتضي أن محل الخلاف ما إذا أقر بالعين، وهو ما صرح به القاضي الحسين والإمام الرافعي، أما إذا أقر بالدين فقد ذكرنا عن القاضي أبي الطيب في باب الدعاوى ما يقتضي الجزم بأنه لا ينزع، وهو ما حكاه القاضي الحسين واقتضاه كلام التهذيب، وقد ادعى ابن يونس أنه لا فرق في جريانه بين العين والدين، وقد لنا: ثم وجه استنبطناه من كلام الرافعي. انتهى كلامه. وما نقله عن الرافعي من أن محل الخلاف في العين ليس بصحيح، فإن الرافعي لم يصرح بنفي الخلاف عن الدين، بل صرح بإثبات الخلاف فيه عقب ذكره لهذه المسألة، فقال في الركن الثاني من كتاب الإقرار بعد حكاية الخلاف في العين وتحلل مسائل أخرى ما نصه: ويعتبر في المقر شرط آخر أغفله في الكتاب، وهو أن يكون معينًا، فلو قال لإنسان أو لواحد من بني آدم، أو لواحد من أهل البلد: علي ألف، هل يصح إقراره؟ خرجه الشيخ أبو علي على وجهين، بناء على أنه إذا أقر لمعين بشيء

فكذبه المقر له هل يخرج من يده؟ إن قلنا: نعم، لأنه مال ضائع، فكذلك هاهنا، ويعتبر الإقرار، وإن قلنا: لا، لم يصح هذا الإقرار، وهو الصحيح. هذا كلامه. وذكر أيضًا في الباب الثاني من أبواب الشفعة مثله، فقال: إذا ادعى أحد الشريكين على رجل أنه اشترى وأقام بينة قضى بها، ثم إن وافق المدعى عليه بعد ذلك، سلم إليه الثمن وإلا فهل يترك في يد المدعي أو يأخذه القاضي ويحفظه أو يجبر على قبوله أو الإبراء منه؟ فيه ثلاثة أوجه مذكورة في الإقرار وغيره. هذا لفظ الرافعي، والغريب أن المصنف قد حكاها أيضًا هناك، وقد وقع للمصنف في شرح الوسيط مثل ما وقع له هاهنا، وزاد على ذلك فقال: إنه لم ير الخلاف إلا لابن يونس مع كونه قد نقل عن الرافعي ما نقلناه عنه. قوله: وإن قال: بلى أو نعم أو أجل لزمه، ثم قال: وكذا لو قال: لعمري، كما قاله في ((الحاوي)) و ((المهذب)): قال الرافعي: ولعل العرف يختلف فيه. انتهى كلامه. واعلم أن ((إي)) معناها: نعم، ولا تستعمل في اللغة إلا مع القسم، قال تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}، إذا علمت ذلك فالمذكور في الرافعي والمهذب هو كما قال المصنف، وهو لعمري وحدها، والتوقف فيه ظاهر، وأما الماوردي فوهم المصنف في ما نقله عنه، فإنه لم يذكر ذلك إلا مع لفظ ((أي))، فقال: فإن قال: بلى أو نعم أو أجل أو صدق أو إي لعمري، كان مقرًا لجميع ذلك. هذا لفظه وهو صحيح لا إشكال فيه، لا من جهة اللغة ولا من جهة العرف، وقد وهم في ((المطلب)) وهمًا هذا الوهم، فنسب إلى الثلاثة أنهم قالوا بذلك في ((أي لعمري)) أعني مع الإتيان بلفظ ((إي)) وهو صحيح بالنسبة إلى الماوردي دون المهذب والرافعي. قوله: ولو قال: مالك علي أكثر من مائة، ففي لزوم المائة له وجهان في الرافعي، والراجح عدم اللزوم، وبه أجاب في العدة ويشبه أن يجري مثلها فيما لو قال: مالك علي إلا مائة، أخذًا مما حكيناه فيما إذا حلف لا يأكل إلا هذا، هل يحنث إذا لم يأكله أم لا؟ وفيه خلاف. انتهى كلامه. وما ذكره بحثًا من جريان الوجهين في مسألة الإقرار غير مستقيم، بل الصواب ما قاله الأصحاب من الجزم بلزوم المائة، وذلك لأن المسألة التي حاول التخريج منها وهي ما إذا حلف لا يأكل إلا هذا، لا شك أن الحالف قد منع نفسه من أكل غير المشار إليه، وأخرج المشار إليه، ولنا قاعدة وهي أن الاستثناء من النفي إثبات، فبعضهم يقول: الثابت بعد الاستثناء نقيض الملفوظ به قبله، فعلى هذا إذا لم يأكل

المشار إليه يحنث، لأن الثابت فيه الأكل، لأنه نقيض ما قبله. وبعضهم يقول: الثابت نقيض ما دل عليه لفظه وهو الامتناع، فعلى هذا إذا انتفى الامتناع في المشار إليه ثبت التخيير فيه، وهذا كله بخلاف ما إذا كان الحلف على ماضٍ أو حاضر، فإنه إذا قال مثلًا: والله ما أكلت إلا هذا فيحنث إذا لم يكن قد أكل جزمًا لانتفاء توجيه الوجه الآخر، وهو التخيير لعدم إمكانه، فلما لم يحتمل الاستثناء إلا وقوعه في الخارج، حنث إذا لم يكن كذلك، فكذلك مسألتنا لا تحتمل إلا الوقوع في الخارج، فلذلك جزم الأصحاب بها، ولم يخرجوها على هذه القاعدة، فافهم ذلك، فإنها قاعدة نافعة جدًا. قوله: ولو قال: له علي ألف إن شاء الله، لم يلزمه شيء على الصحيح، ثم قال: ولا خلاف في أنه لو قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله- لا يقع شيء، لأن الطلاق قابل للتعليق على الجملة، بخلاف الإقرار. انتهى كلامه. وما ادعاه من نفي الخلاف غريب، فإن فيه خلافًا مشهورًا حتى حكاه الغزالي في ((الوسيط)) في كتاب الطلاق، وحكاه المصنف أيضًا هناك. قوله: في كتاب الطلاق، وحكاه المصنف أيضًا هناك. قوله: وإن قال: له علي شيء ثم فسره بحد القذف قبل وقيل: لا، والوجهان حكاهما أبو الطيب عن رواية أبي محمد البافي. انتهى. والبافي- بباء موحدة وبالفاء- نسبة إلى باف إحدى قرى خوارزم، درس ببغداد بعد الدراكي، ومات بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وقد أوضحت حاله في ((الطبقات)). قوله: فيما لو قال: له علي مال، ولا خلاف في أنه لا يقبل تفسيره بخمر ولا خنزير، لأنه ليس بمال. انتهى. وما ذكره من نفي الخلاف في الخمر ليس كذلك فإن لنا وجهًا، أن الخمر المحترمة طاهرة يجوز بيعها، وحينئذ فيصح التفسير بها على هذا الوجه. قوله: وإن قال: له علي ما بين الدرهم والعشرة- لزمه ثمانية، وفي المفتاح عن الشافعي أنه يلزمه تسعة، واختاره في ((المرشد))، وفي ((الإشراف)) أن المزني نقل في المنثور أنه يلزمه عشرة، وقد حكاه أبو خلف السلمي عن القفال، ثم قال ما نصه: ومثل هذه الأقوال قد حكاها الرافعي فيما لو قال: أعطوه ما بين الدرهم والعشرة، وأن الأستاذ أبا منصور حكى عن بعض الأصحاب أنه إن أراد الحساب فللموصي خمسة وخمسون، وإن لم يرد الحساب فله المتفق وهو ثمانية. قال الرافعي هناك: ولا يشك

في اطراد هذا في الإقرار. انتهى كلامه. واعلم أن المسائل المتعلقة بما نحن فيه ثلاثة، أحدهما: من درهم إلى عشرة، وفيها ثلاثة أوجه مشهورة، وأصحها: وجوب تسعة، والمسألة الثانية: ما بين درهم إلى عشرة، وفيها أيضًا الثلاثة المذكورة، لكن الصحيح المشهور منها وجوب ثمانية، والمسألة الثالثة: ما بين درهم وعشرة، والمعروف في هذه الجزم بوجوب الثمانية، فقد قال الماوردي: إن هذا مما لم يختلف فيه أصحابنا، وقال الإمام: أطبق عليه الأصحاب، وقطع به القاضي أبو الطيب مع حكاية الخلاف في المسألة الثانية، وقطع به أيضًا الشيخ في التنبيه، ولم يقف الرافعي في المسألة على تصريح بنقل، فلذلك توقف في أنها هل تلتحق بما قبلها، أو يقطع فيها بالثمانية؟ وتوقفه مردود نقلًا ومعنى، ولذلك رد عليه النووي، وقال: القطع بالثمانية هو الصواب، إذا علمت ذلك، فاعلم أن جميع ما حكاه المصنف من الاختلاف في هذه المسألة التي تكلم فيها، وهي ما بين درهم وعشرة غلط، وإنما محله في المسألة الثانية، وهي التي ترد بـ ((إلى)) عوضًا عن الواو، والذين نقل عنهم ذلك إنما قد صوبوه فيها أيضًا، فقد راجعت الأصول المذكورة كالمفتاح لابن القاص، والإشراف للهروي وشرح المفتاح لأبي خلف السملي، ويعرف أيضًا بالطبري، فوجدت الأمر كما ذكرته لك، وحيث نقل الرافعي عن أبي خلف المذكور، فمن هذا الكتاب وهو شرح المفتاح ينقل، ولكن المصنف أخذه من الرافعي، والرافعي حكاه في ما قلناه، وكذلك أيضًا ما حكاه عن الرافعي في مسألة الوصية من جريان الأوجه الثلاثة، ومن حكاية الوجه الرابع الذي أجراه في الإقرار، جميعه أيضًا غلط، بل محله في المسألة التي ذكرناها، وقع له أيضًا هذا الغلط في ((المطلب)) مع زيادة غلط آخر. واعلم أن ما نقله الرافعي في الوصية من لزوم خمسة وخمسين إنما يأتي إذا أدخلنا الطرفين، وإدخال الأول ضعيف، فالذي ينبغي إذا أراد الحساب أن يلزمه أربعة وخمسون. قوله: وإن قال: له علي مائة وعشرة دراهم، كان الجميع دراهم، وقيل: يرجع في تفسير المائة إليه، ثم قال: وفي ((الحاوي)) وجه ثالث: أنه إذا كان ما بعد الألف عددًا بلفظ الجمع، كقوله: ألف وثلاثة أو اربعة دراهم، وهكذا إلى العشرة- لم يكن ذلك تفسيرًا للألف، وإن كان ما بعد عددًا منسوبًا للدرهم، كقوله أحد عشر درهمًا فما زاد كان تفسيرًا للألف، لأن التمييز أخص بالصفات والنعوت. انتهى كلامه.

والتعبير الذي ذكره المصنف عن القسم الثاني من هذا الوجه المنقول عن ((الحاوي)) لا نعلم المراد منه، وقد بينه الماوردي، فقال: وإن كان عددًا منصوب التمييز كقولنا: أحد عشر درهمًا، فما زاد كان تفسيرًا للألف، هذا لفظه، وهو حسن. قوله: لو قال: علي عشرة أحط منها درهمًا أو أخرجه أوأندره، ففيه وجهان في ((الحاوي)): قال الجوهري: ندرت الشيء- بالنون والدال المهملة- أي: أخرجته، ويقول: أندر كذا من الحساب، أي: أخرجه وأسقطه، والنادر بمعنى: الشاذ. يرجع إلى هذا. قوله: وفي العدة أنه لو قال له: علي ألف درهم إلا مائة درهم أو خمسين درهمًا، لزمه الألف في أحد الوجهين، لأن الاستثناء المتأخر مشكوك فيه، فلا ترفع المتقدم المتيقن، كقوله: إلا مائة درهم أو عشرة دنانير. انتهى كلامه. والتعليل الذي ذكره غير مستقيم، لأن المشكوك فيه إنما هو خمسون فقط، واتفق الاستثناء على أن الصحة في خمسين، ثم إن العدة المذكورة هي عدة أبي الحسين الطبري، والمصنف لم يقف عليها، وإنما ينقل عنها بواسطة صاحب البيان، وقد راجعت العدة المذكورة فلم أر المسالة فيها بالكلية، مع أن النسخة التي عندي أصل صحيح قديم، حاله تقتضي أنه قد حرر على المصنف. نعم رأيت ما ذكره ابن الرفعة منقولًا عنه في كتاب الزوائد للعمراني، فقلده فيه المصنف، وفي ثبوته نظر، ويدل على عدم ثبوته أن العمراني لم يذكره في البيان. قوله: وإن قال: له هؤلاء إلا عبدًا العشرة إلا واحدًا، فماتوا إلا واحدًا فذكر أنه المستثنى، قبل على المذهب، ثم قال: ولو قتلوا إلا واحدًا فذكر أنه المستثنى، قبل وجهًا واحدًا، وإن كان الحي أقل قيمة، لأن حق المقر له متعلق بقيمة المقتولين. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ((أقل قيمة)) سهو، وصوابه أكثر قيمة لأن المقر يزعم أن الحي له فلا يمنعه ذلك زيادة قيمته على قيمة المقتولين. قوله: تنبيه: قول الشيخ زيف، هو بضم الزاي وتشديد الياء المفتوحة وجمعه زائف، يقال: درهم زائف ودرهم زيف بفتح الزاي وإسكان الياء. انتهى كلامه. وتعبيره بقوله: ((وجمعه زائف)) غلط، فإنه على العكس، والصواب أن يقول: وهو جمع زائف، كذا ذكره النووي في لغاتهن ومنه يأخذ المصنف، ولم يتعرضا لتفسير الزائف، وقد فسره الزمخشري بناقص العيار، أي: كثير الغش ذكره في تفسير قوله

تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}، وذكر غيره أيضًا نحوه. قوله: ولو قال: حاتم فيه فص أو عليه فص، لم يلزمه الفص، كما قاله في ((المهذب))، لكن الصحيح في ((النهاية)) وتعليق القاضي الحسين: أن الصحيح اللزوم، ثم قال: بل قال الثعالبي في فقه اللغة: إنه لا يقال: خاتم إلا إذا كان فيه فص، وإلا فهو فتخة. انتهى. والفتخة- بفاء مفتوحة ثم تاء بنقطتين من فوق مفتوحة أيضًا، ثم خاء معجمة- وجمعه: فتخ، وفتخات. قوله: وإن قال: له عندي عبد عليه عمامة، فالأكثرون على أنه لا يلزمه العمامة، وقال ابن القاضي في ((التخليص)) يدخل، وأجاب في ((المفتاح)) بمثل جواب الجمهور، وقد حكي الإمام ذلك، وقال الرافعي: إنه وهم، بل جوابه في ((المفتاح)) كجوابه في ((التخليص)) انتهى. وهذا الذي قاله الرافعي وهم، فإن في المفتاح خلاف ما في التلخيص، وقد ذكرت لفظه في المهمات، فاعلمه. قوله: وإن كان لرجل فأقر بولد منها بحث يلحقه نسبه، فهل تصير الجارية أم ولد أم لا؟ فيه وجهان، ثم قال: لو تبين أنه وطئها زنا، قال الرافعي: فإن كان منفصلًا عن اللفظ فهو كما لو بين النسب، وإن كان متصلًا باللفظ فلا يثبت النسب، ولا أمية الولد. قاله في ((التهذيب))، ولك أن تقول: ينبغي أن يتخرج على قولي تبعيض الإقرار. قلت: لا وجه لذلك، لأن المسألة مصورة في ((التهذيب)) بما إذا كان التفسير منفصلًا، لأنه قال في صدر المسألة: إذا كان أمتان لكل واحدة ولد، فقال: أحد هذين الولدين ولدي، يؤمر بالتعيين، فإذا عين في أحدهما ثبت نسبه، وهل تصير أم ولد؟ فيه قولان، وإن أطلق فقولان أيضًا، وإن قال: استولدتها بالزنا لا يقبل هذا التفسير، وهو كالإطلاق، وإذا كان ذلك، فقوله: ((هذا ولدي)) صدر منه منفصلًا في أول لفظه، وقضيته أن تكون أمه أم ولد على قول، وقوله بعد ذلك: ((استولدتها بالزنا)) يدفع ذلك، ويدفع أيضًا كون الولد حرًا نسيبًا، فكان مثل قوله: له علي ألف، ثم يقول: من، فيلزمه قولًا واحدًا. نعم، لو قال ابتداء: ((أحدهما ولدي استولدت أمةً بالزنا))، اتجه التخريج كما قال. هذا آخر كلام ابن الرفعة، والذي قاله الرافعي هو الصواب، وأما ما قاله المصنف فغريب جدًا، فإن الذي نقله الرافعي عن التهذيب صحيح، وهو مذكور بعد الكلام

الذي نقله عنه المصنف من غير فاصل بينهما أصلًا، فقال بعد قوله: وهو كالإطلاق ما نصه: ولو وصل باللفظ فلا يثبت النسب، ولا أمومة الولد. هذا لفظه، فذهل المصنف عن هذه الزيادة ولم يتمم الكلام. قال مؤلفه: فرغت من تسويدة عشية اليوم السادس عشر من شهر شعبان سنة ست وأربعين وسبعمائة. انتهى. نجز الكتاب بحمد الله تعالى وببركة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم قدره وحرمته عام ست وسبعين وسبعمائة، بلغ من أوله إلى آخره مقابلة محررة على أصل صحيح معتمد محرر، شاهدت في حاشية آخر النسخة التي نقلت منها ما مثاله بخط المؤلف، بلغ مقابلة محررة بالمسودة على يد مؤلفه، فصح إن شاء الله تعالى. انتهى آخر خط المؤلف رحمه الله، وذلك في مجالس كثيرة على يد كاتبه، آخرها يوم السبت ثالث عشر من شوال الحرام من شهور سنة ست وستين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1