الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي

محمد مظهر صديقي

كتبَه بالأردية دكتور محمد ياسين مظهر صدّيقى قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية عليكَره الهَجَمَات المُغْرِضَة على التاريخ الإسْلاَمِى ترجمة دكتور سمير عبد الحميد إبراهيم رابطة الجامعات الإسلامية

حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1408 هـ = 1988 م

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة منذ بدأ الاستدمار الغربى (ولا أقول الاستعمار) يعرف حقيقة القوة الإِسلامية الكامنة، ويعرف أن الحقيقة الإِسلامية لا تقهر بالمواجهة العسكرية أو السياسية أو الفكرية الواضحة ... منذ هذا الوقت والحملات المغرضة الخفية والظاهرة، والصريحة والماكرة تترى على كل ما يتصل بالإِسلام ... * إنهم يهاجمون -بالفكر الخبيث لا بالحجة- الإسلام عقيدة وشريعة. * وإنهم يهاجمون -بالفكر الماكر- الإِسلام حضارةً وتاريخًا. * وإنهم ليعملون على تشويه كل ما قدمناه للبشرية، مع أنهم -باعترافهم- عالة علينا، قد أخذوا مِنَّا الأخلاق والقيم والعلوم والفنون ... فلم يعرفوا الفروسية، ولا الحمامات، ولا احترام المرأة والثقة بأنها إنسان كالرجل تمامًا، ولا الانضباط، ولا المدارس والجامعات ... لم يعرفوا كل ذلك وغيره إلا من خلالنا، وعندما جلسوا تحت أقدامنا يتعلمون فى قرطبة وغرناطة وبجاية والقيروان وصقلية وبغداد ودمشق والقاهرة ... حتى البابا سلفستر الثانى كانت مفخرته الكبرى أنه تتلمذ على المسلمين فى قرطبة، وتعلم لغتهم ودرس علومهم ... ومع ذلك -وبحقد وغدر لا مثيل لهما فى التاريخ- ذهبوا يلتهمون كل ما لدينا، ويطورون عقولهم وحياتهم، وفى الوقت نفسه ينكرون أى فضل

لنا ... اللهم إلا عدد قليل منهم؟ برىء -إلى حد ما- من هذه الآفة التى لا تليق بالحضارة ولا الإنسانية!! ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ الذى يمثل موقفًا شخصيا يمكن القول فيه بأنه دفاع عن الذات أمام الإِسلام -حتى ولو بالافتراء على الإسلام- بل تعدى الأمر ذلك إلى محاولة تشويه الإِسلام وحضارته وتاريخه، ليس أمام الأوربيين هذه المرة، بل أمام المسلمين أنفسهم ... وهذه أخبث من الأولى؛ لأنها محاولة تعكير المنابع الإِسلامية، حتى يضل أصحابها عن طريقها، وتتهاوى علاقتهم بها. وقد ظهرت طبقة من المستشرقين لا عمل لها -على الأقل خلال القرون الثلاثة الأولى لنشأة الظاهرة الاستشراقية- إلا تشويه الحضارة الإِسلامية والتاريخ الإِسلامى، والتركيز على الشخصيات الملحدة والمنافقة والقلقة والشعوبية فى هذا التاريخ ... وفى المقابل محاولة تضخيم خلافات المسلمين مع بعضهم، حتى لكأنهم كانوا ينتظرون منهم أن يكونوا ملائكة، أو قومًا بلا وجهات نظر وآراء. وقد أخفوا الجوانب التى تغطى معظم المساحة، وهى مساحة الإشراق والعظمة فى تاريخنا الإِسلامى أفرادًا وحكومات وطبقات منسجمة متوازنة متكاملة. ولم يتورعوا عن محاولة النيل من أعظم شخصية عرفها التاريخ (كما يقول منصفوهم وعلى رأسهم برناردشو ومايكل هارت ولوبون وغيرهم) وهى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهبوا يلتمسون الثغرات -من وجهة نظرهم المريضة- فى شخصيات الصحابة والتابعين والدول الإِسلامية المتلاحقة. وقد وضح أن الإِنفاق السخىّ الذى تبذله وزارات المستعمرات وإدارات

الاستخبار على كثير من المستشرقين والباحثين، وعلى بعض الجامعات، إنما كان أمرا مخططًا له، وداخلاً فى إطار خطة السيطرة على الشعوب الإِسلامية، وفصمها عن عناصر قوتها وركائز حضارتها، ومحاولة تمييع رؤيتها لأساسيات وجودها. وهذا الكتاب الذى تقدمه رابطة الجامعات الإِسلامية اليوم للكاتب الهندى المسلم الدكتور محمد ياسين مظهرى (الأستاذ بجامعة عليكَرة الإِسلامية) ليس إلا حلقة فى سلسلة متابعته للحملات المغرضة على تاريخنا الإِسلامى ... ونحن نتمنى أن يمدّ الكتّاب المسلمون -ومنهم المؤلف- الطرف إلى محاولات طوائف أخرى غير المستشرقين تشويه تاريخنا الإِسلامى، وعلى رأس هؤلاء المشوهين لتاريخنا المتجرئين عليه المفسرين له تفسيرًا خاصًا طائفة القرامطة التى انبعثت لها رءوس فتنة فى عصرنا من جديد، بعد أن كانت الفتنة نائمة (ولعن الله من أيقظها). وأبت هذه الرءوس إلا أن توقظها عن طريق الطعن فى الصحابة والهجوم على تاريخ المسلمين، وادعاء العصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثارة الفتن فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء الشيوعيون الذين يؤولون الوقائع وفق تفسيرهم اليسارى الطبقى المادى. ومع كل ذلك نقول مطمئنين: إن هذه الحملات المغرضة ليست بنت اليوم .. بل إنها موجودة منذ ظهر الإِسلام .. فالصراع بين الإِسلام والباطل سنة كونية .. وإن التجربة الحضارية الإِسلامية فى التاريخ لهى أقوى من أن تشوه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو بعض الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهزيل .. فالحق هو الأقوى دائمًا .. ومن خلف كل الضبابيّات استطاع الإِسلام دومًا أن ينفذ بأشعته، وأن يهدى الذين لديهم بصائر .. أما العميان .. الرافضون -مبدئيًا- للحقيقة .. فلن ينتفعوا بهدى الإِسلام (ولا يزالون مُخْتَلفين إلاَّ من رَحِم ربُّك ولذلك خلقهم) ... ومع هذا الخلاف

المستمر بين كتيبة الحق، وكتائب الباطل .. فالعاقبة -فى نهاية الصراع- للمتقين، (وإنَّ جُنْدَنا لهُمُ الغالبون) .. (ولقد كتبنا فى الزبور من بَعْدِ الذِّكْرِ أن الأرض يَرِثُها عِبادِيَ الصالحون). صدق الله العظيم رئيس رابطة الجامعات الإِسلامية د/ عبد الله بن عبد المحسن التركي

تمهيد

تمهيد المؤرخون القدامى: القرن الأول والثانى الهجري ظل التاريخ الإِسلامى -دون غيره- هدفًا لهجمات مغرضة من بين تواريخ دول العالم، ولا يزال حتى الآن هدفًا لهذه الهجمات المتنوعة التى أخذت أشكالاً مختلفة وفى مقدمتها: العصبيات القبلية، ومصالح الشعوب والجماعات المختلفة ومسلك كل منها، والاختلافات السياسية. وقد مثلت هذه الأمور بداية تلك الهجمات، ذلك لأن مصادر التاريخ الإِسلامى التى كتبت فى الأمصار العراقية، وبخاصة فى الكوفة والبصرة وبغداد، لم تنج من تعصب المؤلفين ورواة الأخبار الذين لم يبتعد أكثرهم عن العصبية بكافة أنواعها. ومع أن هناك مؤلفين ورواة أوائل كتبوا فى السيرة، والمغازي وتوافرت الثقة فيهم من أمثال: أبان بن عثمان (المتوفى 101 - 105 هـ/ 719 - 724 م)، وعروة بن الزبير (المتوفى 94 هـ/ 712 م)، وعبد الله بن أبى بكر بن عمرو بن حزم (المتوفى 130 هـ/ 747 م)، وعاصم بن عمر ابن قتادة (المتوفى سنة 119 هـ/ 736 م)، وابن شهاب الزهري (المتوفى سنة 124 هـ/ 741 م)، وموسى بن عقبة (المتوفى 141 هـ/ 759 م)، ومعمر بن راشد (المتوفى 154 هـ/ 762 م)، وغيرهم من الثقات الذين يعتد بمؤلفاتهم، لكن هناك أيضًا من هم من أمثال شرحبيل بن سعد (المتوفى 133 هـ/ 740 م)، ووهب بن منبه (المتوفى 110 هـ/ 728 م)، ومحمد بن

إسحاق (المتوفى 150 هـ لم 768 م) وأبي معشر السندي (المتوفى 170 هـ/ 788 م)، ومحمد بن عمر الواقدي (التوفى 207 هـ/ 823 م)، وهشام بن محمد بن سائب الكلبي (المتوفى 204 هـ/ 820 م)، ومحمد بن سعد (المتوفى 230 هـ، 844 م)، وغيرهم ممن يوجه لهم النقد نظرًا لما اتصفت به كتاباتهم من إفراط وتفريط. ومع أنه قد ظهر من بينهم من لم يثبت ضده أي نقد موجه من أهل الجرح والتعديل، فى ضوء الأبحاث الجديدة، إلا أنه من الصحيح أيضًا أنه صدرت عنهم روايات ضعيفة بل موضوعة. ويعتبر أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي (المتوفى 157 هـ/ 774 م) من رواة ومؤلفى الحوليات، وهو بالإِضافة إلى تدوينه وتحقيقه بل وتعصبه لتاريخ قبيلته " أزد " كان أيضًا معبرًا عن وجهات نظر الشيعة كما كان مخالفًا للروايات الشامية. وها هو سيف بن عمر التميمي (المتوفى 180 هـ/ 796 م) يكتب عن أعمال ومآثر قبيلته تميم بمبالغة شديدة، ويخلط كتاباته بعناصر رومانية، بينما يتهم عوائد بن حكم الكلبي (المتوفى 147 هـ/ 764 م) بتلفيق روايات مكذوبة لصالح الأمويين والشاميين. وسواء كان الاتهام الموجه إليه صحيحًا أم غير صحيح، إلا أن هناك بالضرورة ما يدل على ميوله الأموية فى رواياته. ويفهم من خلال الدراسة التحليلية أن جميع رواة ومؤلفي الحوليات تقريبًا يدخل فى عملهم عُنصر العصبية القبلية بصورة واضحة تمامًا، كما أنهم من الناحية السياسية كانوا يعبرون عن وجهات نظر قبائلهم. ويتحدثون بلسان هذه القبائل. ومع أن جميع المؤرخين وكتاب السير يتفقون بصورة عامة على أن روايات على بن محمد المدائني (المتوفى 225 هـ/ 840 م) كانت معتبرة وموثوقًا بها، وأنها قائمة على منهج تاريخي صحيح وتتفق تمامًا مع العقل والقياس، إلا أن بعض رواياته ضعيفة ولا تخلو من ميول مذهبية، وفكرية. وهذه حقيقة

تاريخية سلم بها المؤرخون والمحدثون بصفة عامة، وهي أن جميع الروايات التاريخية التي جمعت في الأمصار العراقية: الكوفة والبصرة خاضعة للعصبية. [وجميع رواة الحوليات ينتمون في معظمهم لهاتين المدينتين]، وكذلك الشأن في الكتب التي كتبت عن موضوعات التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية فيما بعد -وبخاصة بعد تعمير بغداد وتطويرها كعاصمة للخلافة العباسية- فهذه الكتب كانت تضم أحكامًا وأفكارًا ضد الأمويين، وكانت هناك أسباب عدة لهذا الأمر: أولها: أن عصر خلفاء بني أمية بدأ فورًا بعد عصر الخلافة الرشيدة، مما جعل المقارنة بين حكام العصرين أمرًا طبيعيًا، وهي مقارنة كان وضع الأمويين فيها ضعيفًا دائمًا ... بالنسبة للخلفاء الراشدين قمة الحضارة الإِسلامية بعد الرسول. وثانيها: أن نتيجة بعض أعمال خلفاء بني أمية أدت إلى بدء حركة تمثلت في الطعن فيهم، وهو طعن لم ينج منه الصحابة الكرام الذين ينتمون إلى البيت الأموي!! وثالثها: الحسد أو التنافس السياسي الذي ظل قائمًا بين العراق والشام منذ البداية؛ إذْ كانت الشام مركزًا للخلافة الأموية بينما كان العراق المعارض السياسي والمعارض " المذهبي " للشام. ورابعها: أن الخلافة العباسية قامت على أساس معارضة الأمويين، وبالتالي أصبحت الروايات والكتب التاريخية في العالم يسودها طابع العداء للأمويين. المؤرخون العالميون: يُعَدُّ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) العصر الذهبي لتدوين التاريخ الإِسلامي حين ظهرت على الملأ المآثر العلمية للمؤرخين والمؤلفين الكبار.

فها هو كتاب " السيرة النبوية " الذي كتبه عبد الملك بن هشام (المتوفى 218 هـ/ 833 م) والموسوعة التي تعد طبقًا لأبحاث زماننا أكمل وأول مؤلف عن السيرة وصلنا حتى اليوم. ومع أن هناك ثقة يدعمها الاطمئنان بما لدى ابن هشام من قدرة منهجية، إلا أن العديد من الروايات عنده -رغم احتياطه الكامل- لا يمكن أن توضع على محك عِلْمَي الرواية والدراية، هذا بالإضافة إلى أننا نلاحظ ميله إلى القبائل الجنوبية وبعض الأفراد، وهذا إن دل على شىء فإنما يدل على تأثير عامل العصبية القبلية لديه. أما إمام علم التاريخ في هذا القرن فهو محمد بن جرير الطبري (المتوفى 310 هـ/ 923) ورغم الإجماع على إمامته التاريخية إلا أن من المعروف أنه جمع في كتابه العظيم " تاريخ الرسل والملوك " الروايات المسندة إسنادًا صحيحًا وغيرها من الروايات غير الصحيحة، وقد جمع الروايات الصحيحة والروايات الضعيفة والموضوعة في سياق واحد!! ولم يدرسها أو يحللها أو يكشف ضعفها، وكان من نتيجة ذلك أن أصبح من الصعب على القارىء العادي أن يميز الصحيح من الخطأ فيها. وقد شاع قول النقاد والمحدثين فيه: " بأنه جامع للروايات أكثر منه مؤرخًا " وهو رأي صحيح إلى حد ما، وربما أدرك هو نفسه ذلك وشعر به!!! أما كتب أحمد بن يحيى البلاذري (المتوفي 279 هـ/ 892 م) فتعد من أهم المصادر فيما يتعلق بتدوين تاريخ القرون الأولى، لأنه وضع الروايات العراقية جنبًا إلى جنب مع الروايات الشامية، لكنه لا يعرض التاريخ بصورة مترابطة ومسلسلة، وهو في بعض الأوقات يقبل الروايات الضعيفة.

أما أحمد بن أبي يعقوب اليعقوبي (المتوفى سنه 292 هـ/ 903 م) فهو مؤرخ شيعي بصورة أساسية، ورغم ذلك تقلّ عنده عناصر المبالغة والأسلوب الخرافي الأسطوري، إذا ما قورن بالآخرين. وعلى العكس منه أبو حنيفة الدينوري (المتوفى 282 هـ/ 895 م) والذي لجأ إلى الأسلوب الأسطوري الخالص، رغم أن موضوع بحثه كان واسعًا، ويتضمن أمم العالم المختلفة. هذا بينما يعدّ مواطنه ابن قتيبة الدينوري (المتوفى 276 هـ/ 889 م) مؤرخًا حقيقيًا ومعترفًا به بصورة عامة على أنه ثقة، مع أن تاريخه من ناحية أخرى يفتقد طابع التسلسل التاريخي في كتاباته!! وكان معظم مؤلفي القرن الرابع حتى السادس الهجري (العاشر حتى الثاني عشر الميلادي) يتمتعون بإحساس ناضج بالتاريخ، إلا أن توجههم الأساسي كان لعصرهم دون غيره من العصور، واكتفوا بالأخذ عن شيوخهم الكبار السابقين ما يحتاجون إليه من أخبار قرون التاريخ الإِسلامي الأولى. ويعد على بن حسين المسعودي (المتوفى 345 هـ/ 956 م) ومعه حمزة الأصفهاني (المتوفى 360 هـ/ 970 م) من أهم المؤرخين ويفهم من تعليقات ابن خلدون (المتوفى 808 هـ/ 1406 م) وتلامذته أن المسعودي لم يكن موفقًا تمامًا رغم كونه مؤرخًا يمتاز بالحسّ التاريخي، فهو لم ينج من السير على طريقة العصبية، ومن قبول الكتابات المزورة، والروايات الملفقة. ولم يكن مؤرخو هذين القرنين والقرون التالية لهما مؤرخين إسلاميين بمعنى الكلمة، فلم يبرأوا من العصبيات الاجتماعية، والمحاباة القبلية، والميول السياسية، والخلافات الفقهية، والنزاعات المذهبية. وقد صدر هذا عن بعضهم نتيجة لنقص في المعرفة إلا أن عددًا كبيرًا منهم قد ترك جروحًا وبثورًا وبصمات سيئين عن عمد وعن قصد على صفحات التاريخ الإِسلامي؛ نتيجة

لتدوينه لما يعجبه ومالا يعجبه ونتيجة لعصبيته، وهكذا قام معارضو الإسلام بالاستفادة من الكتابات الضعيفة لدى هؤلاء الكبار العظام وجعلوها عونًا لهم أثناء هجماتهم الفكرية ومؤامراتهم المغرضة على تاريخنا العظيم. المستشرقون: لا شك أن المستشرقين هم أكثر من شوهوا التاريخ الإِسلامي. وطبقًا لتصريحات العلماء والباحثين فقد بدأ الاستشراق أساسًا لطعن الإِسلام وتشويه صورته، وقد امتلأت قلوب المعارضين للإسلام، وبخاصة من أهالي البلاد المفتوحة بالعداوة للإِسلام، وهي عداوة امتزجت بالحقد والكراهية، وبعدها انتقل هذا الشعور المعادي للإسلام من جيل إلى جيل لقرون في شكل روايات راجت بين الروم والبيزنطيين والآراميين والمسيحيين واليهود. وهي روايات اعتمدت في معظمها -إن لم تكن كلها- على الشائعات واتسمت بالجهل بالحقائق والعداء الصارخ للإِسلام. وهكذا طوت هذه الروايات رحلتها عبر الزمان على " مطية " الإِشاعات، كما عبرتها أحيانًا على صفحات كتابات ومؤلفات تاريخية، وعلى كتب الرحلات والأسفار. وقد أشعلت هذه العداوة للإِسلام العصبيات القومية والنعرات الحضارية والشعوبية، إلا أن المسلمين قد نجحوا -مع ذلك- إلى أن يصلوا بالحضارة إلى مدارج عالية وإلى أن يرقوا رقيًا سياسيًا كبيرًا وتتسع فتوحاتهم وتصل عندها العداوة للإِسلام إلى حد إعلان الحروب الصليبية. وحين فشلت قوة سيوف ومدافع العالم الغربي والنصراني في إطفاء نور الإِسلام، بدأ هذا العالم الغربي والنصراني في استخدام خداع حركة الاستشراق، وبدأت هذه الحركة تبدو منظمة ومنسقة في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، وبدأ جربر دي أرالياك ( Gerber de araliac) وقسطنطين

الأفريقي Castantian African، وأدلرد باغ ( Adelardy Bagh) وروجر بيكن ( Roger Bacon) وجون الدمشقي، بدأوا بحملاتهم المغرضة على التاريخ الإِسلامي والسيرة النبوية. وبعد قرون بدأ كل من فولتير ( Voltaire) واليكسندر روس Alexander) (Ross وهيلبيرت ( Hildebirt) ودانتي ( Dante) وغوليوم بوستل ( Guillaume Postel) وجوزف اسكالييه ( Joseph Scaliger) في طبع أبحاث علمية معادية للإسلام. ومنذ القرن السادس عشر الميلادي بدأت حركة الاستشراق عملها طبقًا لخطة عملية محكمة، وصلت إلى ذروتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين؛ إذْ قام المستشرقون المشهورون من أمثال وليم بيدويل William) (Bedwell وب فاتيه ( P. vattier) وهاتينجر بتشويه السيرة النبوية تشويها ذريا، وكانت دوافعهم من وراء كل هذا دوافع دينية بحتة. وإذا ما استثنينا المستشرق هنري سُتبّه ( Henry Stubbe) الذي كان إلى حدٍ ما يتصف بالعدل والإِحساس والشعور والضمير، فإن جميع المؤرخين الغربيين حملوا على قلوبهم علامات تدل على عداوتهم للإسلام ورغم أن كلا من سيمون أوكلاي Simon) (ockley وإيدوارد بوكاك Edward Pocake وجورج سيل ( George Sale) ، وإيدوارد جيبون ( Eduard Gibbon) وفولتير ( Voltaire) قد التزموا بالموضوعية أحيانًا إلا أنهم استهدفوا في معظم الأحيان وضع السم بين صفحات التاريخ الإِسلامي. وخلال القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وصلت حركة الاستشراق إلى قمتها، وفي هذه الفترة قام عدد من المستشرقين بالبحث عن جوانب التاريخ الإِسلامي المختلفة والبحث في أزمنته المختلفة، وألقوا الضوء على نواياهم واتجاهاتهم من وراء أبحاثهم تلك. ومن بين هؤلاء جان جاك سيديلّو، وديفرجيه ( Desvergers) وبيرون

Perron، وجوزف وايت ( Joseph White) و ى. هـ بالمر E. H. Palmer ودي غوييه ( De Goeje) ووستنفيلد ( Wustenfeld) وبيريزين ( Beresine) وسخاو ( Sochau) وفان كريمر ( Van Kremer) ووليم ميور ( William Muir) وليبون ( Lebon) وجولد تزيهر ( Goldziher) وولهاوزن ( Wellhausen) وغيرهم. وأيضًا قام مستشرقو العصر الحديث بالكتابة عن الإِسلام والتاريخ الإِسلامي من وجهة نظرهم الاستشراقية الخالصة، ونذكر من بينهم مونته ( Montent) و، ج ديمومبيونه ( G. Demombynes) و ت. أرنولد ( T. Arnold) إس لين بول ( S. Lan-Poole) ونكلسون ( Nicholson) ونولدكه ( Noldeke) وهرجرنيه ( Hergrenje) وجوزيف هوروتس ( Joseph Herotitz) ، وبروكلمان ( Broekolman) وبارتهولد ( Bartthold) وهـ. ج. ويلز ( H. G. Wells) وهـ. جب ( H. Gibb) وسميث ( W. C. Smith) وجوزف شاخت ( Joseph Schacht) وبرنارد لويس ( Bernard Leuis) وتور اندريه ( Tor Andre) وفرانسسكو جبرائيلي ( Francisco Gebraeli) ومونتجمري وات ( Montgemry Watt) . لقد قامت حركة الاستشراق في بدايتها بالتركيز على الهجوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى التاريخ الإسلامي. وكان هذا قائمًا على الجهل من ناحية، والعداوة من ناحية أخرى، جهل بالإِسلام وعداوة للإِسلام. ثم كانت المرحلة التالية، فانطبع اتجاه مؤرخي تلك الفترة بعدم العلمية، وساده الجهل الكامل، إلا أن هذا الاتجاه بدأ يتجه تدريجيًا في التغير، نظرًا للتعرف على المصادر الإسلامية، ونظرًا لرقي الثقافة والحضارة، وقد بدأ أسلوب الكتابة يسوده الاتزان، ويتصف بالمعرفة ويرتكز على البحث والتحقيق، إلا أنه من وراء كل هذا استمرت المؤامرة القديمة والخطة المسمومة البالية.

وفي الفترة الأخيرة بدأ الهجوم على التاريخ الإسلامي متخفيًا داخل رداء أسلوب الفكر العلمي القائم على البحث وأسس التحليل والنقد. ومع أن هؤلاء المستشرقين ومن يساندهم قد ادّعوا أنهم طالعوا التاريخ الإسلامي والعلوم والفنون الإسلامية، مطالعة قائمة على الحيادية والإنصاف بإخلاص وأمانة، إلا أن الحق أنهم لم ينصفوا حتى الآن التاريخ الإسلامي. فالمستشرقون أساسًا قاموا بمطالعة الإسلام وقراءته. وفي أذهانهم وعقولهم خلفيات قائمة على الخلْط بين الإسلام والمسيحية، والإسلام واليهودية والمشرق والمغرب، وقد قاموا أولاً بالهجوم الواضح الفاضح الذي يدل فقط على كراهيتهم الشديدة للإسلام، ولا شىء غير ذلك، ثم تدرج المنهج مع تطور العقل، فترك المستشرقون أسلوب الكراهية الواضحة والعداء الواضح واتجهوا للتستر وراء الطريقة العلمية، وطريقة العرض التي تحمل بين طياتها إثارة الشبهات والشكوك في التاريخ الإسلامي بطريقة خبيثة، فأدّوا بذلك مهمتهم على أحسن وجه، ونجحوا فى خداع البسطاء ممن انطوت عليهم حيل المستشرقين الخبيثة!!

الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ

الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ لقد بدأ اتجاه جديد لكتابة السيرة والتاريخ الإسلامي في العصر الحاضر. وهذا الاتجاه يقوم على مطالعة التاريخ الإسلامي طبقًا لنظرية التفسير الاجتماعي والاقتصادي للتاريخ، وهي نظرية حديثة. وهكذا بدأ العديد من المؤلفين والمؤرخين، من بينهم مسلمون، بتتبع العوامل والمحركات والدوافع الاجتماعية والاقتصادية أثناء مطالعاتهم لجوانب التاريخ الإسلامي، وقام البعض منهم يضع نصب عينيه -سلفًا- نظرية الصراع الطبقي والجدلي للاشتراكية، والنظرية القائلة بالتفسير المادي للتاريخ، وهكذا صاغوا التاريخ الإسلامي على أساس أنه تاريخ للصراع الطبقي، وهكذا يرى هؤلاء المؤرخون الاشتراكيون أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية هي المسئولة عن حركة التاريخ الإسلامي، وليس العوامل السياسية أو الدينية!! وطبقًا لنظريتهم هذه فلا وجود لتأثير العوامل الدينية والأخلاقية في التاريخ، ويمكن أن نرى النتائج الخطيرة، والتأثير العميق للأفكار المتعلقة بالنظريات الاشتراكية والعوامل الاقتصادية لدى المستشرق الألماني هوبرت كرايم ( Hubert Crime) ود. س. مارغليوث D.S.Margoliatt والمستشرق برنس لون كتان ( Prince Leen Caetain) وبرنارد لويس ( Bernard Lewis) ومكسيم رودنسن ( Maxime Rodinson) . هذا بينما نرى (مونتجمري وات) يركز كثيرًا على وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية وذلك من خلال كتاباته التاريخية. ومن بين المؤرخين المسلمين نرى عبد الحي شعبان الذي يمثل الأسلوب الاشتراكي في الكتابة ونرى الكاتب اليساري المصري أحمد عباس صالح،

ورصيفه محمود أمين العالم، وأخيرًا محمود إسماعيل وعبد المنعم ماجد بدرجة كبيرة هذا بينما يمثل وجهة النظر الجديدة أو الاتجاه الجديد المسمى بالاتجاه الطبي، أو اتجاه علم الأمراض Pathological كل من اسبرنجر Sprenger، وهنري لامنس Henry Lammens، وتور اندريه Tor Andre وطبقًا لنظرياتهم قام هؤلاء المستشرقون فجنوا ثمرات طيبة لخدمة الاستشراق في باب سيرة الرسول وفي التاريخ الإسلامي. المؤرخون المغرضون والانتهازيون: إلا أن أخطر طبقة من هؤلاء هم أولئك الذين يجرحون في التاريخ الإِسلامي ويطعنون فيه، وذلك بما لديهم من طبع سيىء، ومكر وخبث ودهاء، فأدعياء علم التاريخ من المؤرخين والمؤلفين، يقومون بالبحث في رواياتنا ومصادرنا، فينتقون من بينها الروايات والشروحات التي تخدم أهدافهم وأغراضهم الرامية إلى تصديق المزاعم والأفكار التي يعتقدونها سلفًا ويؤمنون بها مسبقًا، وبالتالي، وعلى بعض المواد والمعلومات المنتقاة والمخلخلة أقاموا بنيان كتاباتهم التاريخية الجاهلة من أولها إلى آخرها، من أول لبنةٍ فيها حتى آخر طابق فيها. ومن الغريب أن هؤلاء الأدعياء الماسخين للتاريخ حين لا يجدون معلومات أو روايات تؤيد ادعاءاتهم، يقومون بإطلاق العنان لخيالاتهم. فيثبتون أحداثًا ووقائع تاريخية بعيدة كل البعد عن الواقع، وذلك من خلال مطالعاتهم لما بين السطور، وعلى كل حال فإن اتجاههم هذا لا يقوم فقط على الافتقار إلى التمييز بين الصحيح والخطأ من المصادر والمراجع، أو بين المسند والضعيف من الأخبار، بل هم يقبلون الروايات الخاطئة والضعيفة، ويصرفون النظر عن الروايات الصحيحة. وهذه الطبقة من المؤرخين في معظمها إنما يقوم أصحابها بعرض الروايات

التاريخية بطريقة معوجة معكوسة ملتوية، ليخرجوا من وراء ذلك بنتائج تحقق هدفهم، رغم أنها من الناحية التاريخية خاطئة تمامًا. وهناك جريمة أخرى يرتكبها هؤلاء يمكن أن نلاحظها في كتاباتهم وهي أنهم لا يوثقون بياناتهم وتفسيراتهم بذكر مصادر معتمدة لأية رواية. وذلك لأنها قائمة أساسًا على مزاعمهم وعلى أهوائهم وميولهم، ولا وجود ألبتة لمصادر تؤيد مزاعمهم وافتراءاتهم، وإذا ما ذكروا مصادر تؤيد مزاعمهم فهي في معظمها مصادر مشبوهة أو مرفوضة!! ومن أمثال هؤلاء المؤرخين نذكر بالهند " المؤرخ " البروفيسر (خورشيد أحمد فاروق) فكتاباته ما هي إلا مجموعة من الروايات المخلوطة من هنا وهناك التي تنتهي بالضرورة إلى التفسيرات الخاطئة والنتائج الممسوخة. ونذكر من المؤرخين العرب (جورجي زيدان وفيليب حتى) وآخرين يندرجون تحت هذه الطبقة، ومع أنهم لا يندرجون تحت تصنيف المؤرخين المستشرقين إلا أنه لا فرق بينهم وبين من يدعون التاريخ والتأليف من المستشرقين من ناحية المحركات والوسائل والأهداف، فهم يشتركون معًا فيها للوصول إلى هدف واحد، وهو تشويه حقيقة التاريخ الإسلامي. ولا بد -لكى تتحقق الأهداف- من أن تأخذ طريقة كتابة هذه الطبقة وأسلوب استدلالها الطابع الذي يميز طريقة كتابة العلماء، مما يُرهب القارىء، ويؤثر فيه بحيث لا يتمكن من إدراك ما وراء كتاباتهم هذه، ولا يتمكن من فهم بياناتهم الخاطئة وتفسيراتهم المسقطة على الوقائع والموجهة لأهداف محددة. المؤرخون المنحازون يندرج تحت طبقة المؤرخين المنحازين بعض العلماء والمفكرين المسلمين الجدد ممن قاموا ببحث فترة ما من فترات التاريخ الإِسلامي، أو عصر حكم

من التاريخ الإسلامي بحثًا تاريخيًّا تفصيليًّا، وهؤلاء ممتازون وبارعون فيما يتعلق بتبحرهم العلمى، وصلابتهم الدينية وفكرهم العالي ومطالعتهم الواسعة، ومعلوماتهم الوفيرة وقدرتهم على النقد والتحليل. كما أن دوافعهم ونواياهم ليست خالصة لوجه الله. وهؤلاء أمامهم مشكلتان يعجزون حقيقة عن علاجهما، المشكلة الأولى هي أنهم رغم ما لديهم من علم وفضل يفتقرون إلى الإدراك التاريخي السليم. وذلك لأن تربيتهم ونشأتهم العلمية لم تكن لتؤهلهم ليكونوا مؤرخين. والمشكلة الثانية هي أن هؤلاء افتقروا إلى أصالة المنهج وعمق التفكير فى كتاباتهم التاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى فهم يقيمون بعض نظرياتهم بناء على أفكارهم وميولهم ومزاعمهم التي اعتنقوها وآمنوا بها قبلاً، ولم يتمكن هؤلاء من التخلص من هذه الأمور حتى وقت كتاباتهم لكتبهم وأبحاثهم. بل اعتبروا كتاباتهم القائمة على الأفكار والمزاعم التي يعتنقونها هي التفسير الصحيح للقيم الإسلامية والتاريخ الإسلامي. وكانت النتيجة المنطقية لهذا الأمر، أنهم يشاهدون مجرد جانب واحد من الصورة، فيعرضون هذا الجانب الواحد فقط للآخرين، ومن الواضح أن يجد هؤلاء من يميل إلى نظرياتهم تلك، وقد أدى بهم سلوكهم المنحاز هذا إلى قبولهم للأخبار والروايات التي تتفق مع نظرياتهم وأفكارهم، ثم يغفلون أو يتغافلون تمامًا عن جميع الروايات والأخبار التي تتعارض مع خططهم المحددة أو يمرون عليها مرورًا سريعًا. إلا أن السبب الأهم لسلوكهم هذا هو جهلهم بالمعلومات الحديثة، مما نتج عنه ورود تفسيراتهم وشروحاتهم الخاصة بالتاريخ الإسلامي منحازة وتعالج جانبًا واحدًا، كما جاءت ناقصة غير مكتملة، وهناك أمثلة على هؤلاء المؤرخين ممن كتبوا بالأردية في شبه القارة الهندية الباكستانية ْوممن كتبوا بالعربية في مصر ولبنان. وكنموذج لقد بحث بعضهم موضوع

تطور وسقوط نظام الخلافة الإسلامية، وقدم نظريته التي يؤمن بها، ودافع عنها دون عرض لوجهات النظر الأخرى. اتجاه خطير وهناك اتجاه فكرى خاطىء غير إسلامي ترك آثارًا سلبية خطيرة على التاريخ الإسلامي، وهو الاتجاه المتمثل في نظرية التفريق بين الدنيا والدين، أو بين الدين والدولة، ومن المسلم به أنه لا مجال -أىّ مجال- لهذه النظرية في المبادىء الإسلامية، فهذه النظرية من نتاج الرهبانية النصرانية، وقد دخلت الإسلام عن طريق التصوف الذي خضع بدوره إلى تأثره بالفلسفات المسيحية والبوذية والهندوكية، فطريقة الزهد والتنسك في الحياة في القرون الأولى إنما كانت ردّ فعل للمادية الشديدة وحب الدنيا الذي طغى وسيطر بشدة على بعض طبقات المجتمع الإسلامي. فقد قام الزهاد والنساك المسلمون بخوض معركة الدفاع عن الدين حتى يقيموا التوازن بين الدين والدنيا، وهو الأمر الذي يمثل أساس الإسلام. وكان هذا الأمر بذاته هو هدف التصوف الإسلامي في البداية إلا أنه حين بدأت عناصر غير إسلامية تدخل فيه كانت النتيجة التي لمسناها هي التفريق بين الدين والدنيا، فانكمش الدين ليصبح مجموعة من الرسوم قائمة على بعض العبادات، وأصبحت السياسة والتجارة والزراعة والحكم والخدمات العسكرية كلها من أمور الدنيا التي يصبح الارتباط بها ضروريًا للنجاة الأخروية والفلاح الدنيوى. ولقد قام بعض الخلفاء المسلمين والسلاطين وبعض الولاة والحكام فأوضحوا أن السياسات الخاطئة، والأعمال غير الصحيحة ليست من الإسلام، وأدوا بلا شك فريضة النهي عن المنكر وأقاموا الأصول الإسلامية، إلا أنهم من جانب آخر لم يحاولوا محاولة جادة الوقوف في وجه الاتجاهات اللا إسلامية، فلم يؤدوا مبدأ " الأمر بالمعروف " بل اتجهوا بدلاً من هذا إلى

الخانقاهات والتكايا، ولم يكتفوا بهذا بل نصحوا الآخرين أيضًا بالابتعاد عن الحكم والسياسة، مما نتج عنه تكاثر عدد الأشرار ورجال السوء داخل ديوان الحكم، ويومًا بعد يوم أصبحت مناصب السياسة والسلطة غير إسلامية. ومن ناحية أخرى فإن النزوع إلى السلبية وعدم التعاون مع الحكومة لم ينتشر فقط بين الناس، بل أصبحت فكرة تقويم الحكومة فكرة تتعارض مع الإسلام. وكذلك أصبح التعاون والاشتراك مع الحكومة اتجاهًا غير إسلامى. وهكذا لم يعد علماؤنا والرجال الصالحون فينا والغالبية العظمى من عامة الناس معارضين فقط لحكومة زمانهم أو على الأقل غير متعاونين معها، بل أصبحوا أدوات لمحاولة إضعاف هيئات الحكومة الإسلامية وسياستها، وكان أكثرهم السبب في الضعف السياسي، وتطور الهيئات السياسية بطريقة غير طبيعية، أو زوالها من البلاد الإسلامية. وليس من سبب حقيقي لهذا السلوك سوى هذه السلبية لهؤلاء العلماء والمتصوفة وعامة الناس الرافضين للإسهام في صناعة التقدم، وللأسف فقد أخذ هذا الاتجاه الخطير المتحيز له المؤرخون اتجاهًا وسلوكًا عامًّا، بعد أن مسح بجرة قلم جميع خدمات الخلفاء والحكام المسلمين. وقد ظهر هذا السلوك وهذا الاتجاه بوضوح تام في التاريخ الإسلامي بعيد النصف الثاني من القرن الأول، ولم يكن هناك فرق في هذا بين مؤرخينا وبين المؤرخين الآخرين من غير أهلنا، وهكذا جاءت جهود العلماء الانتهازيين ونظائرهم من المفكرين والمؤرخين ناقصة وخاطئة. وقد استغلوا الحيل الشرعية والخدع الفقهية، واستفادوا منها لتحقيق أهدافهم، فجعلوا يشْرحُونها بطرق عكسية أحيانًا وملتوية أحيانًا أخرى، وهكذا أخطأوا أيضًا في كتابة التاريخ، وبناء على مجموعة من الأعمال أو

الإجراءات اللا إسلامية أو اللا أخلاقية جعلوا جميع إدارات الحكومة وإدارات الحاكم كلها غير إسلامية. وكان الواجب عليهم أن يتبعوا الأسلوب الصحيح، فيثبتوا خطأ ما هو خطأ، وينقدوه بموضوعية، ثم يبرزوا ويؤيدوا ما هو صحيح، وذلك لأن عمل المؤرخ في الحقيقة إنما هو تنقيح الروايات وتحليل الأحداث والوقائع التاريخية، وعليه فإن إصدار الفتاوى والأحكام الإجمالية العامة يخرج تمامًا وبأي حال من الأحوال عن دائرة عمله!! ونحن في الصفحات المختصرة التالية سنقوم بتحليل معظم الهجمات المغرضة والحملات الفاسدة التي عممها أصحابها على مختلف عصور التاريخ الإسلامي وهنا يظهر سؤال هام وهو: ما هى عصور التاريخ الإسلامي؟ إن عصور التاريخ الإسلامي تتضمن بلا شك العهد النبوي حين كان الإسلام في أوج قوته وعظمته الدينية والدنيوية. ولا شك أنه يتضمن أيضًا زمان الخلافة الرشيدة، حين كانت أمور الخلافة تمضي طبقًا للقرآن الكريم والسنة النبوية، ولكن هل يتضمن التاريخ الإسلامي أيضًا عصور الخلافة الأموية والعباسية، حين تسربت بعض العناصر اللا إسلامية في الحكومة والسياسة؟ وما هو الاسم الذي يطلق على مختلف عهود الحكومات الإسلامية في زمان انحطاط الخلافة العباسية؟ إننا سوف نجيب على هذا السؤال بعد التحليل التاريخي لكل حكومة وخلافة، وبطريقة أصولية، ولا شك أنه يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقة أصولية، وهو أنه لا يوجد شكل خاص أو إدارة معينة للحكومة والسياسة في الإسلام. والحكومة والسلطة التي مضت طبقًا للأصول الإسلامية هى حكومة إسلامية وسلطة إسلامية. وتتصف بإسلاميتها طبقًا للقدر الذي مضت عليه طبقًا لهذه الأصول، وبقدر ما تتعارض سياستها مع هذه الأصول بقدر ما

تكون غير إسلامية، ولقد قام علماؤنا ومفكرونا ومؤرخونا بوضع الحكومات الإسلامية منذ زمان العهد النبوي وحتى زماننا على محك تلك الأصول، فأصدروا قراراتهم بإسلامية هذه الحكومة وعدم إسلامية تلك الحكومة. ولم يستطع واحد من المؤرخين المنصفين أن ينفي إسلامية الدولة الأموية أو الدولة العباسية أو الدولة الأيوبية؟ أو المملوكية أو دولة العثمانيين -على الأقل من ناحية الأصول- فضلاً عن خضوع خلايا كثيرة في الحياة للنظام الإسلامي في هذه الدول العظمى .. وبالتالي فهي داخلة -بكل المقاييس- في عصور التاريخ الإسلامي .. حتى وإن اختلفنا مع بعض صور التطبيق فيها كما هي سنة الله في الحياة البشرية!! وعلى كل حال فنحن -من ناحية الهجمات المغرضة- سوف نقتصر في عرضنا هذا على تحليل العهد النبوي وعهد الخلافة الرشيدة، إذ إن الغارات الفكرية المغرضة على التاريخ الإسلامي بأكمله أمر يحتاج إلى مجلد ضخم!!

العهد النبوي (571 - 632/ - 11 هـ) على الرغم من أن كتابة السيرة تعد طبقًا للأصول الحديثة جزءًا من التاريخ إلا أنها لا تمثل بحد ذاتها تاريخًا، فالسيرة النبوية تستثنى من هذه الكلية؛ ذلك لأن السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لازم وملزوم، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما الآخر ... يمكن أن يكتب شىء عن الجزء الخاص بالفترة السابقة للبعثة في السيرة النبوية، إلا أنه من ناحية أخرى يعد جزءًا من التاريخ الإسلامي، ذلك لأن هذا الجزء من السيرة لا يمكن فصله عن شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، رغم أنه يتضمن السنوات الأربعين الأولى قبل بعثته صلى الله عليه وسلم تلك التي تتضمن خلفية هامة وضرورة للكتابة عن الإسلام، وتجب مطالعتها لفهم التاريخ الإسلامي. هذا بالإضافة إلى أن عددًا من الكتاب المغرضين قد حاولوا النيل من هذا الجزء من السيرة النبوية لتحقيق أهدافهم الذميمة، ومن هنا وجب الرد عليهم، حتى يمكن كشف وجوه الحق حول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يمكن الوقوف على حقيقة الدوافع والمحركات الكامنة وراء هذه الهجمات التي تركت آثارها على التاريخ الإسلامي، فيتم تداركها بطريقة صحيحة. الاسم والنسب: تتفق جميع مصادر التاريخ الإسلامي تقريبًا أن مولده صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل، وأنه سُمي بمحمد وأحمد، وطبقًا لقول ابن إسحاق فإن آمنة تلقت الإلهام بتسميته بالاسمين بنداء من هاتف غيبي، ورغم أن المؤرخين لا يعترفون بهذه الرواية الغيبية. لأنها ليست رواية تاريخية ثابتة، إلا أن الجميع يعترف بأن هذين الاسمين قد أطلقا عليه في النهاية، وتشهد الأحاديث النبوية والمصادر التاريخية بصحة هذه الحقيقة شهادة كاملة. ولم يكن إنكار المستشرقين وبعض

المؤرخين المحدثين الاعتراف بالسند التاريخي لهذين الاسمين راجعا لمجرد جهلهم وعداوتهم الشديدة، بل قاموا بتحوير اسمه الكريم مرة بعد مرة، وتجنبوا عمدًا وقصدًا ذكر اسمه صحيحًا على ألسنتهم. وفي النهاية وفي العصر الحديث اضطر الجميع إلى الاعتراف بالحقيقة التاريخية؛ لأن إنكار هذه الحقيقة سوف يمزق ستار علميتهم وموضوعيتهم. لقد ظل المستشرقون ومن مضوا في ركابهم من المؤرخين الآخرين يطعنون في حسب ونسب الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم فراحوا يحطون من قدر نسبه، ويقللون من قدر حسبه ويقولون بأنه من أسرة اجتماعية متواضعة، وقد قام مرجليوث ومن تبعه بوضع افتراضهم على هذا الزعم الباطل بأن والده المحترم (عبد الله) توفي قبل مولده صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كانت حالته المالية عليه الصلاة والسلام بعد يتمه غير طيبة، وبناء عليه اتجه صلى الله عليه وسلم في طفولته إلى احتراف رعى أغنام أهل مكة، وبخاصة عمه أبي طالب، وهذا في رأيهم دليل على تدني المستوى الاجتماعي، وقد أغفل جميع هؤلاء المؤلفين والمؤرخين الشواهد التاريخية التي تثبت أنه أحد أفراد أسرة بني هاشم، وهي من الأسر التي تتمتع بأشرف نسب، وكان لها شرف السيادة في الأشهر الحرم على قريش مكة طبقًا للأصول آنذاك، ومن هنا كان ينظر إليها نظرة إعزاز واحترام في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، وكان لبني هاشم شرف تحمل مسئولية السقاية بين أشراف قريش، وكل هذا لا يدل أبدًا على تدني المستوى الاجتماعي ولا على الضعف المالى كما زعم المؤرخون والمستشرقون. هذا بالإضافة إلى أنه قد اشتهر في العرب آنذاك أن يقوم أبناء الشرفاء والأحرار برعي ماشية الأسرة؛ لأن الرعي كان حرفتهم، وكان دليلاً على ثراء العديد من القبائل. هذا وتبالغ بعض الروايات من مصادرنا ومراجعنا في أن بني هاشم كانت لها السيادة الكاملة في مكة المكرمة وبخاصة حتى موت عبد المطلب، وكان

جميع زعماء القبائل والشيوخ تحت إمرتهم، ومن بين من بالغ في الأمر فوقع في الخطأ مولانا شبلي النعمان، وبعض المؤرخين المسلمين، وقد رأي أنه بعد وفاة عبد المطلب خرجت السيادة القومية والحكومة من بني هاشم وتحولت إلى بني أمية والدليل على هذا هو أن قائد جيوش قريش في حرب " الفجار " كان من بني أمية، بينما الحقيقة هي أن السياسة المكية كانت قائمة أصلاً على أسس وأصول تحدد المسئوليات وتحدد الإشراف عليها، وطبقًا لهذه الأسس فقد كانت جميع بطون قريش تنال كل منها مسئولية معينة بصورة تتساوي فيها البطون جميعها، فإذا كانت السقاية في بني هاشم، فقد كانت الرفادة في بني نوفل، والقيادة في بني أمية، والحجابة في بني عبد الدار، وهكذا كانت هناك عشر مسئوليات تم تقسيمها على مختلف الأسر في قبيلة قريش في زمان قصي بن كلاب جد قريش الأكبر. وتتضح هذه الحقيقة في جميع مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي مثل تاريخ مكة المكرمة للأزرقي (المتوفى 244 هـ/ 858 م) والفاكهي (المتوفى 272 هـ/ 885 - 886 م) وغيرهما. المنافسة بين بني هاشم وبني أمية: أثيرت قضية المنافسة بين بني هاشم وبني أمية، وأرادت بعض الروايات في مصادرنا أن تثبت أن هذه المنافسة بين هاتين الأسرتين - اللتين تنتميان إلى عمومة واحدة من رجلين عظيمين من بطن بني عبد مناف بدأت منذ عهد الجاهلية، واستمرت حتى وصلت إلى زمان هاشم وحرب بن أمية، بل صدرت بعض الروايات -التي لا يمكن تصديقها أو قبولها بحال من الأحوال- عن هذين الاثنين، وطبقًا لهذه الروايات فإن أصحابها كما يظهر يحاولون إثبات أن المنافسة التي جرت بين الاثنين هي بذاتها نفس المنافسة التي استمرت بينهما طوال فترات العهد الإسلامي، والتي جعلت بني أمية يواجهون

ويعارضون بني هاشم، بل جعلتم أعداء يناصبونهم العداء على الدوام، وهكذا قام بنو أمية -كما يدعى هؤلاء زورًا- بمعارضة الإسلام ونصبوا المؤامرات ضد الحكومة الإسلامية، وبعد أن نجحوا في خططهم تلك استولوا غصبًا على الحكم، وحين أصبحت السلطة في أيديهم أوقعوا الظلم والقهر ببني هاشم. كل هذه الاتهامات التي لو نزلت على جبل لحطمته، ملأ بها الرواة المغرضون والمؤرخون الذين لا يمتون للتأريخ بصلة روايات مصادرنا التاريخية. إن أساس قضية المنافسة بين بني هاشم وبني أمية يجب أن ننظر إليها أصلاً في ضوء خلفية اختلافات الفتنة الكبرى، وهي الفتنة التي أدت إلى الأمر المفجع الذي أدى بدوره إلى شهادة ثالث الخلفاء الراشدين، فلم تكن هناك منافسة بصورة أساسية بين هاتين الأسرتين، لا في زمان الجاهلية، ولا في عهد الرسالة، ولا في زمان الخلافة الرشيدة بطوله. فكلتاهما ليستا فقط من أهم أعضاء بني عبد مناف بل بينهما صلة قرابة متينة لا تنفصم عراها أبدًا، وبينهما صلة من المحبة والانسجام لا تنقطع أوصالها بأي حال من الأحوال. فابن عبد المطلب بن هاشم أبو لهب، وابنتاه أم الحكم بيضاء وصفية، هؤلاء كانوا ينتسبون إلى أسرة بني أمية. كما أن صلة المصاهرة هذه ظلت قائمة في أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أسرة عمه أبي طالب بن عبد المطلب أيضًا. وهكذا كان بين عقيل بن أبي طالب الهاشمي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة زواج مع الأمويين: السيدة زينب، والسيدة رقية والسيدة أم كلثوم، وبعدها قام رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالزواج من ابنة أبي سفيان السيدة أم حبيبة وظلت سلسلة المصاهرة والزواج مستمرة بين هاتين الأسرتين بل توطدت العلاقات أكثر فأكثر في زمان العهد الأموي. كما أنه لا يندر أن نجد أمثلة للزواج والمصاهرة في العهد العباسي.

وبالاضافة إلى صلة المصاهرة فإن رابطة العلاقات التجارية والاجتماعية بين الأسرتين كانت قوية واستمرت على هذا المنوال سواء كان ذلك في العهد الجاهلي أو في العهد الإسلامي، وكانت العلاقة بين أبي سفيان الأموي والعباس الهاشمي تتسم بالمحبة والمودة؛ إذ كانت علاقاتهما وثيقة ومتينة. وتحليل الصلات والعلاقات التي ربطت بين الأسرتين تحليلاً يشمل جميع جوانبها يدل على أن ما قيل عن منافسة غير ودية بينهما لا أساس له. وما ذكر في المصادر التاريخية يدلنا أيضًا على أن هذه الروايات قد صيغت أو تم " تلفيقها " فبولغ فيها، وجاءت هكذا بما حملته من مبالغة في مصادرنا التاريخية. وهذه المحاولات ما هي أصلاً إلا صدى للميول العدائية لبني أمية، التي جعلت الرواة من أعداء بني أمية يسلكون هذا السبيل من أجل مسخ هذا العهد الأموي العظيم في التاريخ الإسلامي، بالإضافة إلى أن المؤرخين الجدد (من الماركسيين وغيرهم) ممن حاولوا تفسير التاريخ على أساس فكرة الصراع بين الطبقات وجدوا في تلك الروايات مأربهم فراحوا يصبغون التاريخ الإسلامي على أساس وجهة نظرهم الشيوعية ليجعلوه تاريخ صراع بين الطبقات!! حياة الرسول - المرحلة الأولى: قام بعض المؤرخين المسلمين المحدثين بتحوير بعض الوقائع البديهية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يفسرونها تفسيرات حديثة ويشرحونها شرحًا جديدًا، هذا بينما اعتبر المستشرقون جميع أحداث سيرة الرسول قبل بعثته روايات غير تاريخية أو مجرد حكايات. وهكذا لم توضع جميع وقائع ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطفولته وفترة شبابه الأولى على محك التاريخ الموضوعي عند المستشرقين وطبقًا لتحليل فيليب حتى، رغم أنه- أي محمدًا صلى الله عليه وسلم - ظهر في نور التاريخ الكامل، إلا أننا نجد عدة

روايات صحيحة فقط تتعلق بحياته في مراحلها الأول، وفي كسبه للعيش وسعيه وجهده في محاولاته لبناء شخصيته وتطويرها، وإعداد نفسه للمهمة العظمى التي تولاها فيما بعد. ونرى الفكرة نفسها لدى أعظم المستشرقين في العهد الحديث " مونتجمري وات " الذي يعترف تمامًا بتاريخ ولادته عليه الصلاة والسلام وتاريخ وفاة والدته وتربية جده عبد المطلب ورعايته له، ووفاته، ويعترف بعد ذلك بإشراف عمه أبي طالب عليه وتربيته ورعايته له وبكل ما رافق ذلك من وقائع، إلا أنه من ناحية أخرى يقر بأن جميع الوقائع والحقائق الأخرى، ما هي إلا روايات تتعلق بالعقيدة وهي حكايات أسطورية. وبصفة عامة يكذب المستشرقون رواية تربيته ورعايته في بيت حليمة السعدية في مضارب بني سعد بن بكر وهذا هو رأي بعض المؤرخين المسلمين المحدثين أيضًا، فهم يزعمون أن هذه الرواية لا وجود لها في التاريخ الإسلامي كله، ولا في عهد الجاهلية، والرواية المقبولة لدى هؤلاء أنه عليه الصلاة والسلام أرسل إلى مكان ما بالبادية ليتدرج في التربية تحت إشراف مرضعته، وهذه دعوى بلا شك غير صحيحة، فمثل هذه الوقائع العديدة نجد لها شواهد وعلامات في الحديث والسيرة وكتب أسماء الرجال. ويروي البخاري أنه بعد ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمه آمنة أرضعته أولا، وبعد ثلائة أيام أرضعته ثويبة أمة أبي لهب وطبقًا للرواية فإن حمزة أيضًا قد أرضع عن هذه الأمة لعدة أيام، وعليه فهو بالإِضافة إلى أنه كان عمه في النسب فهو أخوه في الرضاعة وقد ذكرت عدة روايات موثوق بها هذه الصلة. إلا أن المؤرخين المسلمين المحدثين أنكروا واقعة إرضاع ثويبة للنبي لمجرد أن هذا الأمر لا يليق بالنبوة، أو أنه قد يعدّ دليلاً لدى من يريدون الطعن في النبوة، ويعطون دليلاً فحواه أن الله تعالى -طبقًا لما جاء في القرآن الكريم- قد حرم على موسى عليه السلام

أن يرضع لبن أية امرأة أخرى غير أمه، هذا بينما لم تكن علة التحريم في موسى أن يحفظ من رضاعة امرأة غير محترمة بل كان الهدف الأساسي -وهو ما ذكره القرآن الكريم- هو العودة إلى أحضان الأم مرة أخرى، فكيف يفهم بعضهم، وعلى أي أساس - أن إرضاعه من امرأة أخرى يقدح في عظمة كونه رسولاً؟!! وقد ارتبطت واقعة إرضاع حليمة السعدية للنبي صلى الله عليه وسلم ببعض المعجزات والكرامات، وبعض هذه الروايات ضعيف وغير مسند، ولكن هذا لا يعني بدوره رفض الواقعة كلها - وهو ما لا يتماشى مع الصدق التاريخي، ولا شك أن مسلك المؤرخين المسلمين المحدثين غير صحيح بالمرة. وهكذا كذبت هذه الطبقة من المؤرخين المسلمين الروايات الخاصة برعاية أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويريدون أن ينال عمه الأكبر الزبير بن عبد المطلب شرف تربيته رسول الله، وقد أقاموا هذا القياس المجرد طبقًا للرواية القائلة بأن الزبير خلف والده، كما كان ثريًا أيضًا، ولهذا فهو الأليق بتربية ابن أخيه، ودليلهم على ذلك أيضًا هو أن أبا طالب لم يتمكن لضيق ذات يده أن يقوم بتربية ورعاية عقيل وعلي، ولهذا أودع الاثنين -على الترتيب- تحت رعاية العباس بن عبد المطلب والنبى صلى الله عليه وسلم. وهذا استدلال سقيم من عدة وجوه. أولها أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسان الثري بأقدر على الرعاية والتربية، فالمحبة والشفقة أكثر ضرورة للتربية والرعاية الصحيحة من المال والثروة وتلك هي التربية التي نالها النبى صلى الله عليه وسلم في بيت أبي طالب. وحتى وفاة أبي طالب فقد كانت حياته كلها مرآة لشفقته التي لا حدود لها، ولحبه العظيم له. ثم إن أبا طالب حين كان يرعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في شبابه، كما لم يكن معدمًا أو فقيرًا كما يظهر، إذ إن واقعة رعي

رسول الله لماشيته إن دلت فإنما تدل على أنه لم يكن معوزًا أو معسرًا بل كان ميسور الحال، وطبقًا لدستور العرب كان امتلاك ماشية الرعي دليلاً على الثروة والغنى. ومن ناحية النقد التاريخي، فإن هذا الاستدلال أيضًا غير صحيح؛ لأنه حين أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفالة أبي طالب، لم يكن عقيل ولا على قد ولدا بعد بل ربما لم يكن لأبي طالب آنذاك أولاد، ومن هنا فلم يكن ثمة عبء في كفالة أحد. ومن الصحيح أن العباس والنبي الأكرم كانا تحت رعاية أبي طالب، لكن من المعروف أن الرسول وعمه أبا طالب صارا من تجار مكة المعترف بهما، بينما في وقت وفاة عبد المطلب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره وكان العباس في الثانية عشرة وحمزة في العاشرة. وهكذا فإن جميع محاولات المؤرخين هؤلاء إنما ترجع إلى رغبتهم في أن يسلبوا أبا طالب وأسرته شرف كفالة النبى. وفي النهاية نقول إن واقعة سفر أبي طالب إلى الشام ومقابلته لبحيرا الراهب إن لم تدل على ما كان لأبي طالب من ثروة فإنها تعبر بصدق عن أنه كان ميسور الحال؛ لأن أيًّا من تجار مكة لم تكن لديه القدرة آنذاك على إرسال قافلة أو المضي بقافلة إلى الشام دون أن يكون صاحب ثروة كبيرة أو معقولة على الأقل. قصة بُحيرا الراهب: رغم أن المستشرقين ومن حذا حذوهم من المؤرخين ينكرون جميع وقائع السيرة الأولى أو يعتبرونها مجرد أساطير لا تاريخًا، إلا أنهم يذكرون واقعة أو

قصة الراهب بُحيرا بطريقة أو بأخرى، حتى يتمكنوا من إثبات أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعلم جميع أصول وقوانين الإسلام وفلسفة الدين بأكملها من راهب مسيحي أثناء سفره (وعبوره!!) إلى الشام. ومن الجدير بالاهتمام أن أكثر المؤرخين المسلمين المعتمدين ونقاد الحديث وعلماء الجرح والتعديل ينفون هذه القصة، ويعتبرونها من حيث أصول الرواية والدراية قصة موضوعة، إلا أن المستشرقين الذين ادّعوا تحليلها ونقدها لا يقولون فقط بصحة هذه القصة، بل يعتبرونها القصة الوحيدة التي تشير إلى نبوءة البعثة النبوية قبل وقوعها بحوالى 28 سنة تقريبًا، وهكذا يجعلون الإسلام في صورة المستفيد من المسيحية في تشكيل الدين!! ولم تتبادر حقيقة هامة إلى أذهانهم: كيف أن صبيًّا عمره 12 سنة لم يتلق أي تعليم نظامي يمكن أن يفهم بعقليته البسيطة الأصول الفلسفية للدين وقواعد فكره العالمية وأصوله المعقدة؟ ثم أليس هناك تضاد ظاهر في هذا القول، فالمسيحية التي راجت آنذاك في الشام ومصر، كم كانت مختلفة عن الإسلام من ناحية العقائد والأصول. بل إن تصور الدين والعقيدة في المسيحية والإسلام تصور مختلف ومنفصل تمامًا كما اعترف بهذا " مونتجمري وات " والمستشرقون الآخرون. وهو ما سنوضحه في بحثنا بعد ذلك. وعلى كل حال فسواء كانت رواية بحيرا الراهب صحيحة أو غير صحيحة مسندة أو ضعيفة، وسواء اعترف بها علماء المسلمين والمؤرخون أم لم يعترفوا، فإنها رواية صحيحة لدى معظم المستشرقين الذين لجئوا إلى التعصب الديني بدلاً من إعمال الإحساس والشعور التاريخي واستخدام الاستدلال التاريخي وأسلوب البحث الصحيح، مما جعلهم يقررون أن الإسلام مأخوذ من المسيحية. رسول الله صلى الله عليه وسلم في شبابه: والواقعة الثانية في جملة الوقائع الهامة التي حدثت قبل البعثة المحمدية كانت

عام 691 م وهي أن الرسول الأكرم قد اختار لنفسه حرفة التجارة، واشترك في حرب " الفجار " وفي سنة 695 م تزوج النبي من خديجة، وحين كان عمره 35 سنة اشترك في تعمير الكعبة وحلف الفضول. وقد حاول المستشرقون أن يمروا على هذه الأحداث في عمومها مرّ الكرام. بل غضوا أنظارهم تمامًا عن أمر احترافه صلى الله عليه وسلم للتجارة حتى يثبتوا أن ثروته إنما كانت نتيجة لزواجه من خديجة، وقد عبر " حتّى " عن هذا الزواج بقوله: " في زمان يصل بنا إلى دهاليز الفترة التاريخية المضيئة!! " أي أنه قبل ذلك كانت أحداث حياته صلى الله عليه وسلم أساطير وخرافات وهذا زعم مرجعه تعصب " فيليب حتِّى " الدينىّ، وإلا فالحقيقة أن حياته صلى الله عليه وسلم من المهد إلى اللحد كانت مرآة واضحة أمام تاريخ مضىء في بيت الزمان. أما " مارجوليوث " فيتهم السيدة خديجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم اتهامات باطلة، فيقول إنهما كانا وهما نائمان يقومان بعبادة صنم يدعى " عُزّى " وكان هدف المستشرق سابق الذكر أن يثبت فقط أن عبادة الأوثان التي شاعت في مكة قبل البعثة تركت أثرها عليه صلى الله عليه وسلم. هذا بينما أراد " وليم ميور " أن يثبت من خلال قصة بُحيرا الراهب أن واقعة لقاء الرسول مع الراهب وما أخذه عنه من تعاليم كانت سببًا في كراهية الرسول الأكرم لعبادة الأوثان، وطبقًا لبيانات المستشرقين سابقي الذكر ومزاعمهم تلك، وللسبب نفسه نلاحظ التضاد الظاهر في بيانات كلٍّ منهما، بينما أساس أفكارهما لا يقوم على أية حقيقة صحيحة، بل يقوم على مجرد القياس والتخمين، ولهذا كان استدلالهما بأكمله استدلالاً مضللاً ويتعارض مع الحقائق التاريخية. وقد خرج " مارجوليوث " من أسفار الرسول التجارية بنتائج محيرة وهى أن ما جاء ذكره في القرآن الكريم من السفن التي تمشي في البحر والطوفان

وغير ذلك من أمور إنما ترجع إلى التجارب والمشاهدات الذاتية للرسول صلى الله عليه وسلم (1) وعليه قام المؤرخ المذكور -بناء على قياسه وظنه- بالزعم بأن الرسول سافر إلى مصر أيضًا. مع أن جميع كتب التاريخ الإسلامي تخلو من هذه القياسات الضالة المضللة والنتائج العجيبة!! والهدف الذي يرمي إليه المستشرق من ذلك هو أن يثبت عن طريق الاستدلال أن القرآن الكريم هو من كلام الرسول، وليس بالكلام الإلهي، بينما يثبت بالروايات التاريخية وبطريقة متواترة أن كلام القرآن الكريم هو كلام من عند الله، أنزله من اللوح المحفوظ نزل به جبريل الأمين على فؤاده صلى الله عليه وسلم. ويحاول كثير من مؤرخينا المعاصرين بعامة والمستشرقين بخاصة أن يثبتوا أنه بعد زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، تحسنت أحواله المادية ولهذا ترك العمل بالتجارة وبقية الأعمال الأخرى، وبدأ الانصراف إلى العبادة والرياضة الروحية وهذه النقطة تعطي دفعة لإثبات هدفين لهؤلاء. الأول: هو أن ثروته كلها كانت بسبب اعتماده على ثروة السيدة خديجة. والثاني: أنه بعد أن تحسنت أحواله المادية انصرف عن مشاغل الدنيا وأعمالها، وانصرف إلى العبادة والرياضة بينما يتضح من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم ظل يعمل بالتجارة بعد الزواج، كما كان قبل الزواج إذ عمل بالتجارة وهو في العشرين، وعلى العموم لقد اعتمدت حياته التجارية على تجربته الطويلة لعشرين سنة نال خلالها تجارب متنوعة، وأضافت أيضًا إلى ثروته. كما يثبت من الروايات أن " التحنث " [الرياضة والعبادة] الذي كان يقوم به صلى الله عليه وسلم إنما كان لشهر واحد (رمضان) خلال السنة بأكملها، أما باقي السنة فكان _______ (1) قال لي أحد الأساتذة اليابانيين أنه يؤمن بمحمد رسولاً وبالقرآن كتابًا منزلاً من عند الله وسبب إيمانه بذلك ما ورد ذكره في القرآن عن الزلازل ومن المعروف -يقول الأستاذ- أن الجزيرة العربية منطقة خلت تمامًا من الزلازل، ودقة الوصف في القرآن لا يمكن أن يأتي بها بشر. (المترجم)

يقضيها في أداء واجباته الدنيوية ومنها التجارة أيضًا. واستمر هذا إلى آخر أيام حياته قبل البعثة وفي هذا الخصوص نرى روايات كثيرة جدًا في مصادر مختلفة، إلا أنها غير واردة بشهورها وسنواتها حتى يمكن تحديد التدرج التاريخي أو الترتيب التاريخي لحياته التجارية طبقًا لذلك. وما جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة الضحى عن ثروة النبي وغناه إنما يتعلق بزمان عمله بالتجارة، وطبقًا لروايات المفسرين الكبار فإن هذه السورة تتعلق بالفترة الأولى لما بعد البعثة مباشرة، وما ورد فيها من ثروة إنما يرجع إلى ثروته الشخصية التي لم تكن مرهونة بمنّة أحد غيره. ولهذا فما يريد المستشرقون إثباته من فكرة الرهبانية إنما هو أمر خاطىء، فحياته صلى الله عليه وسلم كانت كلها جهدًا وجدا وكفاحًا وعملاً متواصلين.

البعثة النبوية (رمضان 13 قبل الهجرة/ 610 م)

البعثة النبوية (رمضان 13 قبل الهجرة/ 610 م) إن أكبر اعتراض أثاره المستشرقون هو اعتراضهم على الوحي الإلهي الذي أنزله الله تبارك وتعالى عن طريق الروح القدس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أسباب اعتراضهم عدم درايتهم بالمصادر الإسلامية وجهلهم بحقيقة الوحي الرباني، وأكثر من هذا تعصبهم الديني وعداوتهم للإسلام؛ لأن أكثر المستشرقين إما أنهم مسيحيون وإما أنهم يهود. ولهذا فهم يدركون أنهم إن اعترفوا بنزول الوحي الرباني فإن هذا يعني اعترافهم بالرسالة المحمدية، وهذا يعني عندهم إنكار نبوة موسى وعيسى عليهما السلام. وهذا ما لم يكونوا على استعداد له أبدًا. ومنذ البداية وحتى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. شاع في الغرب أن الوحي الذي نزل على محمد (خداع) Imposter، واتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خدع الناس بإيهامهم بتلقي الوحي الرباني وذلك حتى ينال لنفسه أهدافًا سياسية واجتماعية واقتصادية. وبعد ذلك بفترة ظهرت قصة اليمامة، وكانت من خرافات العقل الأوربي، وطبقًا لهذه الأسطورة فإن يمامة كانت تجلس على كتف الرسول وكانت تلتقط من أذنه الحب وهكذا كان يوهم الناس أنها تخبره بالكلام الإلهي. ولا نرى ضرورة للحديث عن هذه القصة الخرافية التي لا معنى لها. فجانبها الخرافي واضح وأظهر من الشمس أما " لامانس " فهو يقرر أن الوحي الإلهي كان نتيجة أضغاث أحلام ونتيجة لحدس ذاتي ( Outo - Suggestion) هذا بينما يرى البعض أن نزول الوحي كان نتيجة غيبوبة طارئة أو نتيجة لخداع حسّي أو هلوسة أو هذيان hallu cination، بينما كان عند البعض الآخر شيئًا ملازمًا لحالات الهستيريا.

و " نولدكه " الذي نال في الغرب اليوم درجة جعلته يعرف هناك كمفسر للقرآن يرى أن الوحي كان نتيجة لحالات عصبية حين تنتهي يحدث الوهم، ويحدث ما يتبع ذلك من إلهام. أما " وليم ميور " -الذي يعد مؤرخ الإسلام- فيكتب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتابته الشكوك والشبهات فيما يصله من إلهام وفي هدفه النبوى، ولهذا ظل لفترة طويلة حائرًا وبعد فترة طويلة أخرى، وحين تأكد عن طريق عامل من العوامل الخارجية أنه نبي بدأ مهمته في تبليغ ونشر الإسلام، وقد خرج هذا المستشرق سابق الذكر نتيجة لتفسيره الخاطىء لبعض الروايات وعجزه عن فهمها فهمًا صحيحًا بالقول بأن السبب في ذلك كان " الطعام " الذي يأكله الرسول. وقد كشف عدد من المؤرخين المسلمين وكتاب السيرة الستار عن حقيقة ما ادعاه هذا المستشرق المذكور من مهارة بالعربية - فقد كان ضعيفًا، وكان يتمتع بالخبث والتفكير الفج المعوج وكان أصيلاً في عداوته وحقده على الإسلام. وعلى الرغم من هذا فقد قام بعض مستشرقي القرنين التاسع عشر والعشرين برفض جميع الأفكار والنظريات الفجة - والتي تقول بأن الوحي كان مجرد وهم وادعاء كاذب. أو أنه كان حالة من حالات الغيبوبة الطارئة أو هزة من هزات الأعصاب إلى غير ذلك. والسبب في رفضهم لها هو عدم إمكانية إثباتها عن طريق مصادر التاريخ الإسلامي، كما أنها لا تبدو معقولة في ضوء العقل والمنهج العلمي ونمو المعرفة الصحيحة. وقد اعترف كثير من المستشرقين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول

صادق مثله مثل الأنبياء السابقين، وأن الوحي كان ينزل عليه من عند الله القدوس. ومع ذلك فما زالت العقيدة المسيطرة على الغالبية العظمى من هؤلاء المستشرقين هي أن الوحي الرباني الذي نشاهده اليوم في صورة القرآن الكريم المكتوب هو في الحقيقة من صنع ذهن محمد ومهارة عقله. وأنه قد استفاد في ذلك بالتأثيرات المسيحية في منطقة الشام، واستفاد بتعليمات الإنجيل والتوراة. وما أعجب هذا الأمر، وما أغرب أن يقول المؤرخون النصارى: إن القرآن مأخوذ عن تعليمات عيسى عليه السلام، بينما يرى المؤرخون والمفكرون اليهود أنه استفاد من تعاليم موسى، إلا أن الأعجب من هذا وذاك أن المؤرخين والمفكرين المسيحيين واليهود يغضون أنظارهم تمامًا عن أن يعلنوا أو يظهروا هذه الحقيقة فيما يتعلق بالقرآن الكريم وهي أن القرآن الكريم جاء مصدقًا ومكملاً للتعليمات الإلهية الصحيحة الموجودة في التوراة والإنجيل والصحف السماوية الأخرى فهو لم يرفضها ولم ينسخها ابتداءً. وإذا كان للمستشرقين وأتباعهم أن يفهموا ويقروا الحقيقة القائلة بأن الإسلام دين أزلي وأبدى نزل من عند الله الرحيم لهداية البشرية منذ زمان آدم عليه السلام. وقد ارتقى الدين مع رقي العقل والفهم الإنساني، في أزمنة مختلفة حيث أرسل الله أنبياءه ورسله. واكتمل الدين من عند الله ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ليصبح الإسلام هو الدين الإلهي الوحيد إلى يوم القيامة ... لو آمنوا بهذا الأمر بعد فهمهم له لما ظهرت الشكوك، ولا الشبهات، ولا المشكلات، ولا الألغاز التي أثاروها، والتي تظهر أن رؤيتهم للإسلام، لا تقوم على أي أساس موضوعى نابع من فقه بالإسلام نفسه. ويجب هنا أن نفهم نقطة أخرى، وهي أن الشرائع التي تنزلت على جميع الأنبياء السابقين. إنما كانت مناسبة لزمانهم ومتماشية مع ظروف مستواهم الحضاري.

إلا أن الشريعة المحمدية قد اكتملت الآن وهي القانون الإلهي الذي لا يتغير ولا يتبدل في جميع الأزمنة. رغم أن العقائد والأصول الدينية لدين محمد هي التي كانت في زمان الأنبياء الكرام السابقين. فعقائد التوحيد الإلهي والرسالة ونبوة الرسل، والآخرة كانت نفسها تمثل الأصول الشاملة للديانات السابقة، وهذا هو السبب في أن المنصفين والمحققين والمعاصرين الذين عرفوا للرسول حقه، حين سمعوا عن الرسالة الإلهية اعتبروها على الفور ميراثًا لأنبيائهم الكرام، فقبلوها وآمنوا بها. وتصرح المصادر الإسلامية أن ورقة بن نوفل -وهو يمت بصلة قرابة إلى السيدة خديجة وكان عالمًا مسيحيًا- هذا العالم حين سمع تفصيلات نزول الوحي على رسول الله صاح قائلاً: والله إن هذا لهو الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام!! والنجاشى إمبراطور الحبشة المسيحي حين سمع خطاب جعفر بن أبي طالب ممثل المهاجرين المسلمين لم يصدق فقط برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بل إنه حين سمع الآيات القرآنية التي نزلت في سورة مريم في حق عيسى عليه السلام قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة. وعالم المدينة المنورة اليهودي عبد الله بن سلام اعترف بنبوة الرسول الأكرم من أول لقاء به، وقرر أن رسالته إنما هي تكملة ومتممة لنبوة وشريعة موسى. وخلال مراحل التاريخ الإسلامي المختلفة يمكن تقديم الأدلة والشواهد التي لا تعد ولا تحصى، والتي تثبت أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هو آخر حلقة من حلقات سلسلة الأنبياء الكرام وهو خاتمهم.!! ومع أن الأغلبية العظمى من المستشرقين في العصر الحديث جعلوا من نزول الوحي الإلهي على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم موضع شك في نظرهم، إذ لا يمكن بحكم ارتباطاتهم - أن يقولوا شيئًا يؤيدها علانية، إلا أنهم راحوا يستفيدون من أصول التأريخ الحديثة فقالوا بأن الوحي والنبوة والرسالة أمور ميتافيزيقية

أي أمور غيبية، لهذا فهي خارجة عن تجربة الإنسان ومشاهداته ومن هنا فهي تخرج عن دائرة المؤرخ؛ لأن المؤرخ يصدق أو يرفض الروايات والأخبار المتعلقة بالوقائع الحسية والتجارب الواقعية، أما نزول الوحي فهو تجربة يمر بها النبي فقط، ولهذا فلا يمكن لشخص آخر أن يصدقها أو يرفضها، ولهذا يجب على المؤرخين أن يتوقفوا عندها.!! ويرى المستشرق المعاصر المشهور بميوله الإِسلامية وهو " مونتجمري وات " أن المؤرخ لا يستطيع أن يقول إنه كان وحيًا إلهيًا بحق؛ إذ إن الوحى أمر يخرج عن دائرة بحث المؤرخ. وطبقًا لأصول البحث التاريخي الحديثة، فليس من عمل المؤرخ أن ينكر نزول الوحي الإلهي أو أن يقره، وليس من شأنه أن يصدقه أو يرفضه، لأن هذا يخرج عن دائرة عمله، ولكن يجب -مع ذلك- أن نسلم أيضًا بهذه الحقيقة وهي أن التصديق بنبوة رسول ورسالته إنما يكون قائمًا على مطالعة شخصية الرسول وسلوكه بعد إعلانه النبوة والرسالة، وبناء على تحليل أو نقد للرسالة التي يقدمها. وعلى هذه الأسس يقوم المؤمنون بهؤلاء الرسل أو الأنبياء دائمًا بالاعتراف بنبوة ورسالة أنبيائهم. وصحيح أيضًا أن هذه التجربة الميتافيزيقية التي يطلق عليها الوحي لا يمر بها أحد آخر سوى النبي. ولكن لو أن هناك شهادات على مروره بهذه التجربة، ولو شهد من شاهدوا هذه التجربة بعيونهم، حينئذ يصبح الأمر واقعة تاريخية على المؤرخ واجب الاعتراف بها، ولو قام عدد من الأفراد أو جماعة من جماعته بتصديقه تصديقًا كاملاً، فإن هذه أيضًا تعد واقعة تاريخية تؤيدها التجربة الروحانية التي سبقت التأييد وعلى المؤرخ أيضًا أن يعترف بها. وطبقًا لأصول البحث يمكن أن نرى شهادات المعاصرين فيما يتعلق بنزول الوحي الإلهي على محمد صلى الله عليه وسلم ونرى كم وصلت درجة اعترافهم بعظمة

شخصيته، وكم صدقوا بكل يقين جوانب رسالته. ويفهم من تحليلنا للمصادر أن هذا الأمر تجاوز الحد تواترًا من ناحية الشهادة التاريخية، فهناك جم غفير من المعاصرين يشهدون بكل الحق على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه، وعظمة شخصيته. وإذا ما تركنا هؤلاء وتركنا مؤيديه جانبًا فإن معارضيه أيضًا قد اعترفوا برسالته صلى الله عليه وسلم رغم أنهم " يؤمنون به بقلوبهم وينكرونه بألسنتهم ". ثم هناك حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، وهي أنه بعد تبليغه لدين الله لمدة 23 سنة عرف جميع أهل شبه الجزيرة العربية تقريبًا حق الرسالة التي قدمها لهم، واعترفوا وفهموا وآمنوا بالكلام المنزل من عند الله على رسوله، وآمنوا تمامًا بأنه رسول الله وأن القرآن كلام من عند الله وأنه وحي أوحي إليه. وهذه أكبر حقيقة تاريخية على نبوته وعلى رسالته، وهي شهادة خالصة على ذلك يجب على كل مؤرخ أن يعترف بها، ولا يمكن لأحد أن يُنكرها إلا إذا كان متعصبًا بعيدًا عن الأصول والأخلاق الإنسانية والمنهج العلمي المحايد. تعاليم القرآن الكريم: وكما يقوم المستشرقون وأتباعهم من المؤرخين الجدد بتوجيه النقد المغرض البعيد عن أصول التأريخ إلى الوحي الإلهي ونزوله - يقومون أيضًا بتوجيه اعتراضات وإلصاق شبهات بتعاليم القرآن الكريم وتدوينه، ومن أهم الاعتراضات التي يوجهونها إلى تعاليم القرآن الكريم. بعض الاعتراضات التي يمكن أن تلتبس عليهم والتي تتعلق بالظروف المكية التي نزل الوحي يعالجها مواكبًا ظروف البيئة مثل تعليمات الإنفاق والسخاء والنجدة وغيرها (1)، إلا أن البعض الآخر من اعتراضاتهم مما يتعلق بالأحكام السياسية فهي بلا شك _______ (1) فكأنهم يرون أن القرآن استجابة للبيئة العربية وتحدياتها فقط!!

اعتراضات لا محل لها على الإِطلاق، وترجع هذه الاعتراضات إلى قصور في فهم هؤلاء المعترضين أساسًا وعدم إدراكهم للسور والآيات المكية والمدنية وعدم فهم أحكامها. إن مطالعة القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتفاسير والتاريخ الإسلامي توضح أن أحكام القرآن الكريم كانت تنزل طبقًا لمستلزمات الوقت الحاضر، وضرورات المجتمع المسلم، وقد امتدت هذه السلسلة عبر فترة طويلة وصلت إلى ربع القرن تقريبًا. ونزول الوحي تدريجيًا كما هو معروف من القرآن الكريم إنما كان لحكمة خفية، فقد كان القرآن هاديًا للأمة الإِسلامية آنذاك، ولم يكن لينزل مرة واحدة. فلا تستطيع الأمة أن تحمله. وكان هذا التقدير الإلهي قاضيًا بأن تتطور جميع الهيئات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية طبقًا لمستلزمات العصر، وهذا الأمر في حد ذاته يحمل بين طياته إثبات صدق الرسالة والنبوة المحمدية، ولو أنزل القرآن الكريم دفعة واحدة لكان من الممكن ألا يكون هناك من يشهد على نزوله، وإن وجدوا فإنهم سيكونون قلة، فخلال ربع القرن المذكور شاهد الآلاف من الناس بعيونهم وسمعوا بآذانهم القرآن ينزل على رسول الله، وليس هذا فقط بل إن نزول الأحكام الإلهية طبقًا لمستلزمات الوقت والزمان كان أمرًا مُشاهدًا. وما أورده المستشرقون حول عدم موافقتهم على ظروف بعض تعاليم القرآن، إنما هو أمر يرجع أصلاً لقلة مطالعاتهم وقصور فهمهم، وإلا فإن القرآن الكريم، كان مطابقًا تمامًا لظروف حياة المسلمين، وهو بالإضافة إلى ذلك يوضح طريق الهداية للبشرية كلها حتى يوم القيامة. تدوين القرآن: فيما يتعلق بتدوين القرآن الكريم، فطبقًا للروايات الإسلامية، تم ذلك بطريقتين طبقتا في العهد النبوى.

الأول بعد نزول الوحي، إذ لم تحفظ الآيات المنزلة بتمامها في قلب النبي فقط، بل قام صلى الله عليه وسلم بتعليم صحابته ما أنزل عليه، وتلاوته، وتحفيظه لهم، وهناك حقيقة مهمة وشيقة وهي أنه -علاوة على المسلمين والمؤمنين- فإن أعداء الإسلام أيضًا قد حفظوا الكثير من آيات القرآن، ويُعرف من الروايات أن مشركي مكة كانوا يذهبون خفية فيستمعون إلى تلاوة الرسول للقرآن في الصلوات، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن الكريم أثناء تبليغه للدين الحنيف في أوقات عديدة مستشهدًا بها في المواضع المناسبة، وكان هذا هو الحال بالنسبة للصحابة أيضًا، إذ تصادفنا في كتب التاريخ أكثر من واقعة تأثر بها الكفار بعد سماعهم لتلاوة أبي بكر الصديق وغيره للقرآن الكريم. والطريقة الثانية أنه منذ العصر المكي الأول قام صلى الله عليه وسلم بمهمة حفظ القرآن الكريم مكتوبًا. ويفهم من روايات التاريخ الإسلامي المتعددة أن عددًا من الصحابة الكرام في مكة المكرمة قد كلفوا بمهمة كتابة القرآن الكريم. وهذا صحيح وتعترف به المصادر والمراجع الإسلامية، وتوضح أيضًا أن القرآن الكريم لم يكن مرتبًا في صورة كتاب في العهد النبوي، بل وُجد مكتوبًا على أشياء. متعددة ومختلفة إلا أن الحقيقة التاريخية التي لا يمكن لأحد أن ينكرها هي أن القرآن الكريم قد حفظ مكتوبًا داخل فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى أنه حفظ في فؤاد وعقل مئات بل آلاف من الحفاظ. وهذه أيضًا حقيقة أو مسلمة تاريخية. إذ إن عددًا من كتاب الصحابة كان كل منهم قد أعد صحيفة في العهد النبوي كتب فيها معظم السور وهكذا، وبالنسبة لقضية تدوين القرآن الكريم نقول بأن القرآن كله من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، كما هو موجود اليوم في شكل المصحف المتداول هو بذاته ما حفظ في ذاكرة الصحابة، وما كتب في صحائفهم، وعلى أشياء متعددة ومتنوعة.

ويثير المستشرقون عامة، والمعاندون الجدد خاصة هذا الاتهام القائل بأن تدوين القرآن كان في العهد العثماني (أى على عهد عثمان بن عفان) رغم أن جميع هؤلاء المؤرخين والمؤلفين لا ينكرون الشواهد التاريخية المذكورة سابقًا، والتي تشهد على تدوين القرآن الكريم في العهد النبوي، بل إنهم ينكرون أيضًا الحقيقة القائلة بأنه في العهد الصديقي كان القرآن الكريم قد رُتب في شكل مصحف. وقد ثبت ثبوتًا متواترًا أنه بناء على طلب عمر بن الخطاب فإن الخليفة الأول أبا بكر الصديق كوّن جماعة ومجلسًا من الصحابة الكرام، كان على رأسهم حافظ القرآن وكاتبه الشهيد زيد بن ثابت الخزرجي، وقام هذا المجلس بجمع جميع السور المكتوبة لدى الصحابة الكرام ودوّنها في شكل كتاب، وكان هذا هو أول مصحف، وهو الذي عُرف باسم المصحف الصديقي أو المصحف الأعظم، وبعد استشهاد عمر الفاروق كان هذا المصحف محفوظًا لدى أم المؤمنين السيدة حفصة، وقام عثمان رضى الله عنه بإعداد نسخ من هذا المصحف الصديقي، وأرسلها إلى أمصار وديار الدولة الإسلامية حتى تكون كتابة القرآن ونطقه وقراءته ماضية على نسق واحد ومستوى واحد، وألا يوجد فيها أي نوع من أنواع الاختلافات، أما ماسخو التاريخ الإِسلامي فقد أنكروا جميع هذه الحقائق البديهية وقاموا بترويج أفكار لا أساس لها من الصحة لمجرد أنهم من القائلين بالتحليل والنقد التاريخي في هذا الموضوع، وهدفهم المسبق بالطبع هنا هو أساسًا صد الناس عن كتاب الله، فإذا لم ينجحوا في هدفهم هذا فليعملوا بعد ذلك على ابتلاء الناس -على الأقل- بسوء الفهم، وبلبلة الأفكار، وغرس الشك والشبهات في أذهان المسلمين الأميين أو قليلي التعليم وإقناعهم بأن الكلام الإِلهي لم يكن محفوظًا ليصدوا الناس بذلك عن قبول الحق.

وهذا هو الواقع يشهد أنهم لم يستطيعوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فكل من يقرأ القرآن الكريم بذهن متفتح يرى نفسه مجبرًا على الاعتراف بأنه كلام من عند الله سواء اعترف بذلك أو لم يعترف. تطور الدعوة الإسلامية في العهد المكي: قدم ابن إسحاق وغيره من كتاب السيرة تحليلاً لتطور انتشار الإسلام في مكة المكرمة، وطبقًا لما أورده فإن المسلمين الأربعة الأوائل كانوا: السيدة خديجة بنت خويلد الأسدى، وأبا بكر الصديق التيمي، وزيد بن حارثة الكلبي، وعلي بن أبي طالب الهاشمي، وقد أثبت ابن إسحاق بعد ذلك قائمة تضمنت أسماء الخمسين الذين أسلموا في الدور الأول بالترتيب، وهم الذين شرفوا بالإسلام في بداية الدعوة الإسلامية، وطبقًا لما أوردته المصادر، فقد انتشر الإسلام خارج مكة نتيجة لجهوده صلى الله عليه وسلم وصحابته من المبلغين، وبدأت القبائل وأفرادها الذين يقيمون قريبًا من مكة تفد عليها، كما بدأ نشر الإِسلام في المناطق المختلفة بفضل جهود المبلغين الذين ينتمون إلى تلك المناطق ذاتها وهكذا قام المبلغون المحليون بنشاط مشهود داخل مناطقهم في سبيل نشر الإسلام. ولو قمنا بتحليل الوضع القبلي والأسرى والاجتماعي وبخاصة للسابقين الأولين من مسلمي مكة لوجدنا أنفسنا أمام حقيقة واضحة تجلت في أنه كان من بينهم أناس من جميع طبقات المجتمع المكي، ومن بينهم أفراد ينتمون إلى أغنياء مكة المكرمة ورؤسائها، ومع أن عددهم كان قليلاً نسبيًا فإن أكثرهم كان من شباب قريش الذين كانوا ينتمون إلى أشراف بطون قريش. وفي مقابل هذا دخل في الإسلام بعض الفقراء وكان معظمهم من الموالي والغلمان. ومن العجيب أن ينادي بعض المؤرخين المغرضين بأن جميع المسلمين الأوائل كانوا ينتمون إلى طبقات فقيرة معوزة.

ومن العجيب أيضًا أن يقبل بعض المؤرخين المسلمين هذا الرأي القائم على التحليل الوهمي والبعيد كل البعد عن الواقع التاريخي، بل بدأوا يضيفون قولهم: إن من قبلوا دعوة الأنبياء وفي البداية كانوا هم الضعفاء الفقراء وهذا يصدق على الأنبياء السابقين إلى حد ما كما يتضح من بعض آيات القرآن الكريم، مثلَما يصدق أيضًا من خلال مصادرنا حين تشير بعض الروايات والتعليقات العامة إلى أن المسلمين الأوائل كانوا ينتمون إلى طبقات ضعيفة، ولكن هذا التحليل غير صحيح على إطلاقه. والحقيقة أن الذين قدموا نظرية أن المسلمين الأوائل كانوا ينتمون إلى طبقات ضعيفة معدمة، كانوا يرمون من وراء ذلك إلى هدف آخر، وكانوا يريدون الخروج بنتيجة منطقية عن طريق هذا الهدف البعيد، وقد وصلوا إلى مرامهم فيما بعد وتمثل هذا في أنه لما كان مسلمو العهد المكي فقراء معدمين من هنا اضطروا إلى الهجرة من عالم الفقر هذا إلى المدينة المنورة، حيث كانت الحالة الاقتصادية هناك تختلف عما كانوا عليه قبلاً في مكة، ولهذا تحمل المهاجرون المسلمون مشقة الهجرة الشديدة وقد حاول هؤلاء المؤرخون أن يثبتوا في الأذهان أن نظرة هؤلاء المسلمين الأوائل كانت مُنْصَبّة على الوصول إلى حالة من الرخاء الاقتصادي تخرجهم مما كانوا فيه من فقر وعسر. وهكذا قالوا بأن المسلمين، طبقًا لعادات العرب ودستورهم، بدأوا سلسلة من الإغارة والهجوم على القوافل التجارية والقرى القريبة ونتيجة لهذا الهجوم وهذه الإِغارة بدأت سلسلة الغزوات والسرايا بين المسلمين وغير المسلمين. ولم يفهم المؤرخون المسلمون ما تضمره هذه الخطط والأهداف الخطرة بعيدة المدى للمؤرخين أعداء الإسلام والكائدين له، ولهذا أخذوا يحللون ويدرسون أقوال هؤلاء المؤرخين ثم كان من المستلزمات الحتمية لدخول تأثيرات غير إسلامية على المسلمين، أن اعتبر المسلمون الفقر والفاقة أمورًا

قريبة من الروح الإسلامية، بينما الغنى والثروة، إن لم يكونا ضد الإسلام، إلا أنهما منافيان للتقوى والورع -على الأقل- ومن هنا قبلوا هذه النظرية التي روجها المؤرخون المغرضون بينما هي نظرية خاطئة تمامًا من الناحية التاريخية. فالإسلام ليس ضد الغنى، والحضارة الإسلامية ليست حضارة الفقر والفقراء!!! معارضة الإِسلام: كما أن رصد سلوك القبائل والأسر المختلفة في مكة تجاه الإسلام كان رصدًا غير تاريخي وغير دقيق وخاليًا من العمق في أساس هذا الأمر، بل كان قائمًا على عنصر العصبية القبلية والفخر الذاتي، وقد ذكر المؤرخون المعارضون لبني أمية أن بني أمية كانوا أكثر الناس معارضة للإِسلام لأنهم كانوا المنافسين التقليديين لبني هاشم، وقد خدع بعض مؤرخينا المسلمين بهذه النظرية. ومن ناحية أخرى عرض بعض المستشرقين لنظرية عجيبة شيقة لكنها مضللة، وتقول هذه النظرية إن بني هاشم كانوا من الناحية الاقتصادية ضعفاء ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام بحركته الدينية ضد أكابر تجار مكة المكرمة فإن بني هاشم ساندته وعضدته، وهاتان النظريتان خاطئتان بصورة قاطعة، وقد رُوِّجتا من أجل تشويه التاريخ الإسلامي عن طريق خطط مقصودة متعمدة. أما بالنسبة لقضية معارضة بني أمية للإسلام فهي من وجهة النظر التاريخية خطأ مؤكد، وذلك لأن من بين المسلمين السابقين الأوائل أفرادًا عديدين ينتمون إلى فروع بني أمية المختلفة، وفي العهد المكي قبل عدد من أفراد بني أمية الإسلام، من بينهم عثمان بن عفان الأموي، وخالد بن العاص وأخوه عمرو، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعدد آخر.

أما فيما يتعلق بمساندة بني هاشم للدعوة، فمن المعروف أن بعض الأفراد قاموا بالمساندة بينما البعض الآخر بالمعارضة، وأكثرهم أعرض عن قبول الإسلام، ويبرز من بين المعارضين أبو لهب بن عبد المطلب، وسفيان بن الحارث، ومن بين من قبل الإسلام علي بن أبي طالب وأخوه جعفر، فضلاً عن عدة أشخاص آخرين. أما فيما يتعلق بمساندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان لمحبة أبي طالب والعصبية القبلية دورهما وأثرهما إذ إن أي قبيلة في المجتمع المكي لم تكن لتترك أحد أفرادها بدون حماية أو رعاية وإلا أصابها العار، ومنعت العزة والفخار. وهكذا فإن مساندة أبي طالب لم تكن مساندة للإسلام أو المسلمين وإنما كانت لأحد أفراد القبيلة أي محمد بن عبد الله ... أي لمحض العصبية القبلية والحب الشخصي وليس لمبدأ الإسلام!! ومن هذا المنطلق يجب أن نلاحظ أن معارضة الإسلام أو مساندته لم تكن قائمة على أسس قبلية، إذ إن أعظم نجاح حققته الحركة الإِسلامية أنها ضمَّت بداخلها جميع أفراد القبائل والأسر منذ بداية الدعوة، فمن ساند الإِسلام ودافع عنه دافع عنه لأنه هو الإِسلام، الدين الحق سواء كان قد فهمه بطريقة جيدة أو لم يفهم ما بداخل الدين من أمور عقدية أو اجتماعية أو سياسية، إلا أنه بالضرورة تأثر بتعليماته وعقائده الأساسية. هذا بينما يقف الذي عارض الإِسلام إنما عارضه وخالفه لأن الإِسلام دين ومذهب سواء كان هذا في جانب مصلحته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أم لا. ومن الممكن أن يكون البعض قد عارض الإِسلام بناء على عصبية قبلية، كما تصادفنا رواية في حق أبي جهل المخزومي، إلا أن أية قبيلة أو أسرة لم تخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد أنه كان بن بني هاشم أو من قريش. لأنه إن خالف

أخٌ محمدًا فإن أخًا آخر له يقوم بالدفاع عن محمد وحمايته بل وافتدائه. مثلما هو الحال بالنسبة لأخي أبي جهل المخزومي لأمه عياش بن أبي ربيعة المخزومى الذى أسلم، ومن بني مخزوم أيضًا أعلن الأرقم بن أبي الأرقم ومعه عدد آخر الإسلام وكان من بين المسلمين الأوائل. والأصل أن ما حدث بين الأسر من فرقة إنما كان سببه إعلان بعض الأفراد من الأسرة الواحدة لإِسلامهم، فكان الابن مسلما والأب كافرًا أو العكس، أو يصبح الزوج مسلمًا وتصر الزوجة على البقاء في الكفر أو العكس، وقد يكون السيد كافرًا وغلامه يعلن الإِسلام أو العكس، ولقد كانت شكاوى شيوخ وأكابر مكة -الذين عاشوا على التقاليد القديمة والمثل العتيقة- من الإسلام قائمة على أن الإسلام أظهر فيهم خللاً اجتماعيًا، فهو يفرق بين الدم والدم أي بين أفراد الأسرة الواحدة. ولهذا فالنظرية القائلة بأن بني أمية كانوا من أكثر الناس مخالفة للإِسلام قبل إسلامهم في النهاية نظرية لا تؤيدها أدلة قوية بل هي نظرية باطلة، ولئن كان أبو سفيان قد قاد كثيرًا من المعارك ضد الإِسلام -قبل إسلامه- فلم يكن ذلك لعصبية قبلية، بل كانت قيادة أبي سفيان لجيش مكة في جميع معارك قريش بعد غزوة بدر لأنه كان قائدًا كبيرًا لقريش عامة وليس كفرد من أفراد بني أمية، أو لأنه معارض للإِسلام بصفة قبلية. لقد كان وضعا فرضه عليه منصبه؛ إذ كان يتولى مسئولية القيادة داخل أشراف قريش لكفاءته الشخصية وكان جيشه مكونًا من سائر قريش الذين لم يؤمنوا ... !! تعذيب المسلمين: حاول المستشرقون من ناحية أخرى مسخ باب مضىء في التاريخ الإِسلامي يتعلق بالتعذيب الذي تعرض له مسلمو مكة وذلك حتى يروج هؤلاء

المستشرقون لمفاسدهم وخططهم الخبيثة الرامية إلى بلبلة أفكار المسلمين، فقد قام عدد منهم يدعي أن الإيذاء الذي وقع بالمسلمين من جانب قريش إنما كان قاصرًا على السخرية والتعريض والهجوم بالكلام والشتائم، وأن التعذيب الجسماني كان شيئًا لا يذكر، والروايات التي تصادفنا فيما يتعلق بتعذيب المسلمين في المصادر الإسلامية، توضح لنا مبالغة المؤرخين المسلمين، مما دفع المؤرخين الآخرين إلى رفض مثل هذه الروايات بسبب تلك المبالغة. والحقيقة أن إيذاء مسلمي مكة على يد قريش يُعد بابًا مضيئًا في التاريخ الإسلامي، وهو دليل ثابت على غيرتنا وحميتنا الدينية، ويعرف من الروايات الموثقة أن عددًا من الصحابة وبخاصة الضعفاء منهم كانوا بلا حول ولا قوة وقد تعرضوا لظلم يحطم الصخر ويهز الجبال، وقد مرّ بمراحل التعذيب تلك صحابة كرام من مثل بلال بن رباح الحبشي، وخباب بن الأرت التيمي، وعمار بن ياسر، ووالديه ياسر وسمية، وعدد من الغلمان والإماء من مثل زنيرة، وأم عبيس وغيرهما تعرض بعضهم لحرّ الظهيرة. وقد وضعوا على صدورهم الأحجار كاللظى. وتعرض بعضهم للكي بالنار في مواضع عديدة في أجسامهم، وتعرض بعضهم للضرب على الرأس حتى تفجرت الدماء منها، هذا بالنسبة لأولئك الذين لم يكن لهم حول ولا قوة. هذا كما تعرض رجال الأسر المعروفة للإيذاء والتعذيب على يد أقاربهم وذويهم. وممن تعرض للتعذيب عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعيد ابن يزيد العدوي، وعدد كبير من السادة والسيدات الذين مروا بمراحل عديدة من العذاب. والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يسلم من أنواع الإيذاء والتعرض لشخصه الكريم وأكبر دليل على الظلم الذي حاق بمسلمي العهد المكي من مظالم قريش هو أن أكثر من مائة مسلم تركوا وطنهم وديارهم للنجاة من قهر قريش وظلمهم،

ولجأوا إلى الحبشة واتخذوها مهجرًا لهم. ثم إن ما مرّ به الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من جراء محاصرة شعب بني هاشم ومقاطعتهم لهم مقاطعة اجتماعية إنما كانت مأساة استمرت مدة طويلة، وهى إن دلت فإنما تدل على قدرة المسلمين على الصبر وضبط النفس. وفي سفر الطائف أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم قدرته على الصبر حين أخذ المشركون يقذفونه بالحجارة حتى نزل الدم من رأسه المبارك. هذه التضحيات هي باب يضىء على درب الحركة الإسلامية، وهي مأثرة من التضحيات التي قدمها المسلمون الذين رفعوا لواء الإسلام، ولا يعرف حق هذه التضحيات غير خالق العالم جل وعلا قال الله تعالى في سورة التوبة آية 100: ((وَالسَّابِقُونَ الْأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَبَّعَوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) صدق الله العظيم. إلا أن أعداء الإِسلام من المؤرخين يحتمون داخل خيمة التحقيق والتحليل، فيحاولون الإقلال من قيمة هذه التضحيات التي لا مثيل لها، ويرجعونها إلى مجرد عصبية دينية أو قبلية والمؤرخون النصارى إنما يقللون -بطريقة شعورية أو غير شعورية- من تضحيات مسلمى العهد المكي عن قصد أو عن غير قصد حتى يمكنهم إيجاد مبرر لفرار بل وغدر حواريي المسيح عليه السلام وقت الشدة والمحنة، أما المؤلفون اليهود فهم عن طريق هذا يريدون توجيه الأنظار بعيدًا عما حدث من حركات غير أخلاقية في صحراء سيناء من المتآمرين ومثيري الفتن على سيدنا موسى عليه السلام. وطبقًا للروايات الإِسلامية، وطبقًا للترتيب والتطور التاريخي للأحداث فإنه يثبت أيضًا أن قريشًا في مكة قاموا بتضييق الخناق، وحصار المسلمين فضيقوا على المسلمين سبل الحياة حتى اضطروا في النهاية إلى الهجرة من أرضهم

التي أَلِفوها ومن وطنهم الذي عاشوا فيه ليهاجروا بلا متاع إلى أرض أخرى ومدينة أخرى لم يألفوا العيش فيها. وأهم أسباب هجرة المسلمين إلى المدينة إنما تتلخص في إيذاء قريش. هذا بينما ترى طبقة من المستشرقين أن الهجرة كانت للظلم الذي تعرض له المسلمون ويريد هؤلاء المستشرقون أن يثبتوا أن معارضة قريش لرسول الله وخلافها معه إنما كان نتيجة للأسباب الاقتصادية أكثر من كونه خلافًا لأسباب دينية. وتهدف هذه الطبقة من المستشرقين إلى أن تجعل الحركة الإِسلامية حركة قائمة على ردود فعل اقتصادية ومعاشية، وأن تطعن في مكانة الحركة الدينية أو تجعل العامل الديني عاملاً ثانويًا. إلا أن الظلم الأكثر من هذا قام به أولئك الناس الذين قالوا في نفس واحد، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قائدًا وزعيمًا دينيًا وأقروا أن الحركة الإِسلامية كانت حركة اقتصادية واجتماعية أكثر من كونها حركة دينية، وصحيح أن حركته حملت بداخلها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية. وكان هذا أمرًا ضروريًا، إلا أنها كانت ذات توعية دينية مذهبية بالمقام الأول. أما الجوانب الأخرى كلها فتندرج تحت هذه النوعية وتتفرع منها. وبدون الدين الإِسلامي لم تكن لها مكانة تذكر، ولنقل إنها كانت ثمارًا للحركة الدينية فالأساس كان في الدين وفي الدين فقط. قصة إله.!! راج بين المستشرقين موضوع عجيب، ويتعلق بقصه إله. وقد وردت قصة إله هذه في المصادر الإِسلامية كما يلي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في حرم الكعبة الآيات (19/ 20) (1) من _______ (1) يقول تبارك وتعالى: ((أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الْثَّالِثَةَ الأُخْرَى)). المترجم

سورة النجم. ثم قام وسجد لله تعالى سجدة شكر فقام شيطان وقرأ معه فقرة شيطانية خلطها هكذا " تلك الغرانيق وإن شفاعتهن لترجى " وتأثر بها الكفار فسجدوا إذ وجدوا أن هذا يعني وجود سبيل للمصالحة بين الإِسلام وبين مذاهبهم القديمة. وحين انتشر هذا الخبر بين المسلمين، بل في نواحي مكة، أعلن أشراف مكة قبولهم الإِسلام. ويتضح أن المحدثين وناقدي الروايات يرون أن هذا الأمر وبخاصة الفقرة الشيطانية وقصة المزج في الآيات القرآنية. كلها روايات غير صحيحة وموضوعة لا أساس لها من الصحة إلا أن المستشرقين بما لهم من طباع ظالمة ونظرة تحليلية خبيثة يقولون إن الفقرتين لم يأت بهما أىّ شيطان بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمزجهما عمدًا وقصدًا حتى يضع شياطينهم في مكانة قياسية، فأضافهم على نظام العبادة الإِسلامي فقد ضاق بمعارضتهم له. وأصبح على استعداد لأن يجرى معهم مصالحة دينية (نعوذ بالله)!! إن أي شخص طالع الإِسلام مطالعة صحيحة وهو يحمل حِسًّا وشعورًا تاريخيًا سليمًا يعرف جيدًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أبدًا على استعداد لإِجراء أية مصالحة من أدنى درجة مع أحد على أساس أي من العقائد أو الأصول. فما بالنا بعقيدة التوحيد التي هي أصل الأصول في الإِسلام والتي هي الأساس الرئيسي لدعوته وحركته. وإذا افترضنا -وهو محال- التسليم بدعوى المستشرقين هذه فإن هذا يعني إجراء مصالحة وصداقة مع الشرك الصريح، فأية ضرورة تبْقى الآن للإِسلام؟!! لقد كانت عداوة قريش مكة والمشركين الآخرين من العرب للإِسلام قائمة على هذا الأمر، وهو أن الإِسلام لا يدعهم يشركون مع الله أحدًا غيره، وأن يعترفوا بربوبية واحدة هي ربوبية أحكم الحاكمين وحاكميته المطلقة، وأن ينفذوا ويطيعوا أحكامه جلت قدرته.

الهجرة إلى المدينة المنورة:

والحقيقة أنه عن طريق هذا الهجوم يريد المستشرقون الهجوم على التاريخ الإِسلامي من الناحية النظرية ويلاحظ أنه يتضح من نظرياتهم تلك السطحية والتضاد. وعلى الرغم من أنهم لا يمكن أن يهزّوا بذلك عقيدة المسلمين فإنهم يريدون إدخال الشك في أذهان بعض الناس، ويريدون أن يمنعوا غير المسلمين من الاتجاه إلى بوابة الإسلام وإلى الدخول في الحق، وهذا هو الهدف الأساسي لهؤلاء الأعداء. وهو الهدف الذي يجب أن نكون على بينة منه، وأن نقف يقظين في مواجهته حتى لا نخدع. الهجرة إلى المدينة المنورة: أشاع المؤرخون المغرضون أن حالة مسلمي مكة الاقتصادية كانت سيئة، لهذا خرجوا مهاجرين تجاه المدينة لا يملكون مالاً ولا متاعًا. وقد عرض المستشرقون والمؤرخون المغرضون لهاتين الفكرتين طبقًا لخطة محكمة وهدف معين، وقبل بعض المؤرخين المسلمين ذلك القول دون إعمال للفكر، ولم يفكروا بالقطع أن هذا يعضد مؤامرة أعداء الإسلام، ومن المعروف أن عددًا من مهاجرى مكة قد قدموا تضحيات لا مثيل لها، لقد ترك العديد من المهاجرين أملاكهم ومتاعهم خلفهم وهاجروا، خرجوا بأيديهم خالية تمامًا من كل شىء، وبعضهم قد سلبتهم قريش جميع أموالهم ومتاعهم حين خرجوا تاركين مكة، إلا أن الحقيقة أيضًا تتمثل فيما ذكره ابن إسحاق والمؤرخون القدامى الآخرون [كتاب السوانح]، ويفهم مما كتب هؤلاء أن عددًا من الأسر والأفراد المسلمين قد وفقوا في نقل ممتلكاتهم معهم. والمؤرخون المغرضون والمخططون ضد الإسلام إنما يحاولون التشهير بسوء حال مهاجري مكة الاقتصادية بالباطل حتى يثبتوا نظريتهم القائلة بأنهم هاجروا إلى المدينة نظرًا لأنهم لم يتحملوا سوء أحوالهم المعيشية كأنهم يريدون أن يقولوا: إن أنصار المدينة كانوا سيئي الحال مثلاً بسبب قتالهم معًا. ثم زادوا على ذلك بقولهم إن عددًا كبيرًا من المهاجرين قد ورد إلى المدينة خالي الوفاض مما مثّل

عبئًا ثقيلاً على الحياة الاقتصادية بالمدينة نظرًا لنفقات قيامهم وإطعامهم. ومضى هذا النظام المؤقت -بطريقة ما- لعدة أيام، ولكن حين انتهت جميع الوسائل فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أمامه من سبيل سوى أن يتبع طريقة المعيشة القديمة للعرب، وهو استخدام أسلوب الإغارة على القوافل التجارية والإغارة على القرى المجاورة. وطبقًا لادعاءات هؤلاء المستشرقين والمؤرخين فإنه من هنا بدأت سلسلة الغزوات والسرايا التي استمرت طويلاً والتي كانت تقوم على غنائمها الحياة المدنية كاملة تقريبًا!! وادعاءاتهم هذه خاطئة بلا شك، فمن الصحيح أن أنصار المدينة قد أظهروا تضحيات مثالية، فقد استضافوا إخوتهم من المهاجرين في بيوتهم لعدة أشهر، وتواضعوا أمامهم، وعاملوهم بكل حب واحترام، واقتسموا معهم أملاكهم، وأراضيهم، وحتى بيوتهم التي تفيض عن حاجتهم، وأشركوهم معهم في التجارة والزراعة ومع ذلك فمن الخطأ القول: إن المهاجرين قد اعتمدوا على ثروة الأنصار وضيافتهم لهم، ويتضح من الروايات أن جميع تجار مكة، والحرفيين والعمال من المهاجرين كانوا قد انصرف كل منهم إلى حرفته وعمله، وبدلاً من أن يحطموا الحياة الاقتصادية للمدينة ويربكوها شاركوا بنصيب في ازدهارها وتطورها. لقد قام كل بما يستطيع أن يحسنه من صناعة وتجارة وزراعة. وهناك موقف مشرف لعبد الرحمن بن عوف الزهري، فإنه قد شكر مضيفه سعد بن الربيع شكرًا جزيلاً، وسأله عن الطريق إلى السوق. ومنذ ذلك اليوم بدأ يكسب كثيرًا بما له من مهارة في التجارة حتى أنه في أيام قلائل تمكن من أن يتزوج. ومن الصحيح أيضًا أن هناك بعض الأفراد المعسرين الذين كانوا أنفسهم يعيشون حياة عسر في مكة!! لقد استطاع معظم المهاجرين بعد قدومهم إلى المدينة الاعتماد على أنفسهم

المهمات الأولى:

من الناحية الاقتصادية ونجحوا في ذلك تمامًا. المهمات الأولى: طبقًا للنظرية الاقتصادية التي ذكرها المستشرقون والتي أشرنا إليها قبلاً، وفحواها أن حياة المهاجرين الاقتصادية، حين لم تصل إلى كيفية تمكنهم من الحياة بطريقة ما، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك أسلوب الإغارة والنهب العربي القديم، ولهذا جعل نصب عينيه أن يغير أولاً على القوافل التجارية لقريش، التي كانت تمر بالقرب من المدينة المنورة على طريق التجارة الدولي، متجهة إلى الشام شمالاً وإلى مكة جنوبًا، وهكذا وبعد الهجرة بستة أشهر أرسل أول سرية، وجعل على رأسها عمه حمزة بن عبد المطلب الهاشمي، وأمرها بالاتجاه إلى طريق التجارة الرئيسي، إلا أنه لم ينجح في الإغارة على قوافل قريش، وهكذا أرسل الرسول تباعًا، ولمدة سنتين سبع مهمات سرايا، وقاد بنفسه أربعة منها إلا أنه لم ينل منها غنيمة لكن المهمة الثامنة وقد كانت عند مكان يدعى نخلة، وكانت بقيادة عبد الله بن جحش وقبل غزوة بدر، كانت هناك قافلة ضخمة لقريش متوجهة إلى الشام. وقد أراد الرسول أولاً أن يوقفها بالقرب من هذا الطريق. وانتظر عودتها لكنها فاتته. فاضطر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مواجهة الجيش الذي قدم لإنقاذ قوافل قريش القادمة، وهو ما نتج عنه غزوة بدر. ولو استخدمنا التحليل والنقد التاريخي، فإنه فيما يتعلق بالمهام الأولى الثمانية قبل غزوة بدر يفهم من المصادر أنه لا توجد أية شهادة عينية أو رواية واضحة فيما يتعلق بأهداف جميع هذه الغزوات والسرايا يمكن أن يفهم - أو يثبت منها بالدليل أن دوافعها ومحركاتها كانت اقتصادية. ولابد أن يقول بعض كتاب السيرة وبعض المؤرخين المسلمين إن بعض هذه السرايا كانت موجهة ضد قوافل قريش إلا أن تحليل هؤلاء ليس له علاقة بالحقيقة، فلم يرو عن رسول

الله صلى الله عليه وسلم وعن أي مجاهد من المجاهدين وعامة الصحابة الذين اشتركوا في هذه المهام أن هدف هذه المهام كان قافلة من القوافل، ولأن رواتنا وكتاب الأخبار من أهلنا قد وضعوا أمام أعينهم وهم يكتبون خلفية مقاومة قريش في مكة للرسول ومعارضتها للإِسلام لهذا ظنوا -وظلوا يظنون- أن كل إجراءات رسول الله هذه كانت بالضرورة موجهة ضد قريش، بينما لم يكن الأمر كذلك. ويفهم من دراسة وفحص هذه الروايات أن هدف معظم هذه المهمات، وخاصة تلك التي أرسلت إلى مناطق القبائل العربية كان هدفًا سياسيًا تبليغيًا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يعقد معاهدة صداقة وتعاون مشترك مع القبائل العربية المجاورة، وتم ذلك على عهده صلى الله عليه سلم، وكما تذكر الروايات فقد عقدت معاهدات تعاون مشترك مع قبائل بني حمزة وأسلم وغفار وغيرها. كل هذا حدث نتيجة لإِرسال تلك المهمات الأول التي هدفت إلى تبليغ الإِسلام أو إقامة علاقة سياسية بالمفهوم الحديث. وكانت بعض هذه المهمات تهدف إلى جمع المعلومات والوقوف على الظروف الجغرافية الإِقليمية مثلما يفهم من واقعة " نخلة "، أما مهمة عسفان فقد كانت إجراءً حربيًا خالصًا ضد مهاجمين من مكة قاموا بالهجوم على مراعي المدينة، وأصابوها في المال والأنفس، واضطر المسلمون إلى القيام بهذه المهمة. ويجب أن نذكر أن المنازل المختلفة حيث وقعت هذه المهمات الأولى كان بينها وبين طريق التجارة مسافة بعيدة، كما كان قيام المسلمين الموكل إليهم هذه المهام يقع في مناطق محددة، ولمدة معينة، ولم يكن هناك تصادم مع القوافل إلا ما يدعو لذلك، بل لم يكن هناك صدام في معظم الأحيان، وما عدا سرية نخلة فإن جميع المهمات بدون جدل أو جدال -وكما يقول المستشرقون- عادت بدون أن تحقق هدفها، فقد كان عدد الجنود المسلمين قليلاً، كما أن بعض الحقائق والقرائن توضح أن دوافع هذه المهمات لم يكن

اقتصاديًا، بل كان غير ذلك، حتى سرية نخلة فقد كانت - طبقًا لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم - لمعرفة الظروف، والتعرف على أحوال المنطقة، لا للإغارة والسلب، ونظرًا للظروف التي تغيرت فجأة إذ تم الهجوم على فصيلة من جند المسلمين مما اضطرهم إلى الاستيلاء على القافلة المكية، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أظهر عدم رضاه عما حدث، ولم يلمس بيده مال الغنيمة هذا حتى غزوة بدر. أما المستشرقون فإنهم بما يحملون من خبث اتهموا الرسول الأكرم والمسلمين، وخاصة مجاهدي سرية نخلة، بأنهم قاتلوا في الشهر الحرام، وبهذا لم يحترموا قدسيته، إلا أن القرآن الكريم والمصادر الإسلامية قد برأتهم من هذه التهمة التي يرددها المستشرقون. وإذا كان أنصار المدينة قد فتحوا صدورهم لإخوتهم المهاجرين واستضافوهم في بيوتهم، وأشركوهم معهم في أملاكهم وممتلكاتهم وفي تجارتهم وزراعتهم عن طريق المؤاخاة. فمن أين تظهر قضية الغارة والإغارة؟ ومن الثابت من رواياتنا وهي تلك الروايات التي اعترف بها الأعداء أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى حتى بين المهاجرين والأنصار في أعقاب الهجرة مباشرة ونتيجة لهذه المؤاخاة فإن المسلم لم يصبح أخًا للمسلم فقط بل يحق له أن يرثه في أملاكه في حالة وفاته، وبعدها -حين أثبت القرآن الكريم حق الوراثة برابطة الدم- لأن حالة المهاجرين المادية تحسنت، ظلت هذه المؤاخاة قائمة أيضًا إلا أنه لا وراثة فيها، ومارغوليوث وهو من المستشرقين المعادين للإسلام لم يعترف فقط بالتضحيات العظيمة التي بذلها الأنصار، بل اعترف أيضًا بحقيقة الحالة الاقتصادية الطيبة للمهاجرين وكسب عيشهم عن طريق العمل بالتجارة والزراعة والصناعة وغيرها. ويثبت من كل هذه الحقائق أن المهمات الأولى كانت تهدف في المقام الأول

والأخير إلى هدف تبليغي دعوي وسياسي، ولم يكن للعامل الاقتصادي أي دور وراءها. أما ما يثيره المستشرقون والمؤرخون الجدد من أن الدافع إليها كان دافعًا اقتصاديًا فهو خطأ جسيم من أوله إلى آخره. غزوة بدر هناك وجهتا نظر فيما يتعلق بغزوة بدر، الأولى تتعلق بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، والثانية تتعلق بأصحاب السيرة والسوانح. وتحليل جميع روايات المصادر المتعلقة بأصحاب وجهة النظر الثانية يدل على أن المهمة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مسلمي المدينة على القافلة المكية المتجهة إلى الشام والتي كانت تحمل بعض أموال قريش، بقيادة أبي سفيان بن حرب الأموي. خرج إليها من المدينة المنورة (314) فدائي من بينهم (83) من المهاجرين و (231) من الأنصار، وحين وصلوا إلى بدر عرفوا أن قافلة أبي سفيان التجارية قد نجت، وبعد أن سمعت قريش بخبر خروج المسلمين، أعدت جيشًا ضم حوالي ألف جندي تقريبًا، ووصل بالقرب من بدر، واضطر المسلمون إلى الدخول في الحرب التي انتهت بنصرهم في النهاية. ولكننا نعرف من الآيات الأولى لسورة الأنفال (آية 5 - 20) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه من المدينة المنورة كان قد علم بقيام جيش قرشيي مكة قبلاً، وطبقًا للآيات القرآنية حين خرج رسول الله من المدينة مع المسلمين، كانت هناك إمكانية لأن يلتقى ويصطدم مع القافلة العائدة من الشام ومع الجيش القرشي القادم من مكة، وكانت جماعة من المسلمين تتوق إلى القتال وكانت جماعة أخرى تتمنى أن تلتحم وتصطدم مع القافلة التجارية القادمة من الشام، وتتحاشى الاصطدام بجيش قريش، لأن في هذا خطرًا على أرواحها، وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المسلك بقوله: ((كأنَّما يُسَاقُون إلى المَوْت)) (1) إلاّ أن الله تعالى أراد أن يفصل بين الحق والباطل في هذه _______ (1) ((يُجَادِلُونَك في الحق بعد ما تبين كأنما يُساقُون إلى الموت وهم ينظرون)) الأنفال آية 6. المترجم.

الموقعة، ولهذا نجت القافلة التجارية، والتحم المسلمون بجيش قريش، وصدق الوعد الإلهي، وقد جاء التأييد الإلهي كما أوضحت كتب الأحاديث المتعددة، البخاري ومسلم ومسند أحمد بن حنبل وغيرها، وأيدته أيضًا بعض الروايات التاريخية. والمستشرقون والمؤرخون الجدد الذين أسكرتهم نظرية الدوافع الاقتصادية، قد غضوا النظر تمامًا عما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية في هذا الصدد، كما صرفوا النظر عن الروايات التاريخية التي تتعارض مع نظرياتهم، والتي تؤيد النظرية القرآنية. ووجهة نظر المستشرقين والمؤرخين المخالفين للإسلام واضحة تمامًا، إذ يقولون بأن الدافع الأساسي للغزوات والسرايا الإسلامية كان الغزو والإِغارة والحصول على الغنائم، ولهذا فمن المفهوم أنهم سوف ينصرفون تمامًا عن جميع الروايات والشواهد التي تتعارض مع نظريتهم. وفي الحقيقة فإن المشكلة هنا في أولئك المؤرخين المسلمين الذين يعارضون -من جانب- نظرية الغزو والإِغارة، ومن ناحية أخرى يرون أن خطة إغارة المسلمين على قافلة قريش العائدة من الشام إنما كانت مقدمة لغزوة بدر، فالاستدلالان يعارض كل منهما الآخر، لهذا خرج بعض هؤلاء المستشرقين -بنظرية غريبة- وهي أن جميع المهمات الأولى التي خرجت قبل غزوة بدر كانت مخططة للخروج من أجل التصدي للقوافل التجارية المكية، وأرادوا أن يثبتوا الدافع الفعلي فقالوا إن الهدف لم يكن الإِغارة، بل أراد الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق هذا الأسلوب أن يؤثر على الاقتصاد المكي حتى يضطر أشراف قريش وأكابرها الذين ركبهم الغرور إلى عقد معاهدة أو مصالحة سياسية مع المسلمين. لقد قام العلامة (شبلي النعماني) بكتابة بحث عظيم عن غزوة بدر، عرض فيه لما جاء في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وجميع الروايات التاريخية،

غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -

وحللها تحليلاً صحيحًا. وبعدها عرض لأسلوب الرسول، وقدم تحليله مطابقًا للروح الإسلامية ومطابقًا للنظر التاريخي الصحيح وخرج (شبلي) بعد تحليله الصحيح لأحداث غزوة بدر، نتيجة لدعم آرائه بالدلائل القاطعة والبراهين الحتمية، فقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين خرج مع المسلمين من المدينة المنورة، كانت في ذهنه وأمامه خطة واحدة وهي الالتحام مع جيش مكة، بينما كان لقاء قافلة قريش التجارية أمرًا ممكنًا، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم تكن لديه نية أبدًا في نهب القافلة أو الإغارة عليها؛ إذ إن الظروف التاريخية الثابتة تدل على أن المحرك والدافع الأساسي لغزوة بدر كان الجهاد الإِسلامي. أما أولئك الذين حاولوا أن يجعلوا هدفها اقتصاديًا، فهم يؤيدون دون فهم أو تفكير نظرية المؤرخين المغرضين والمستشرقين أعداء الإسلام في هذا الشأن وهم يحاولون أن يثبتوا أنّ جميع الغزوات الإِسلامية والسرايا الإِسلامية كانت تهدف إلى الغزو والسلب، وأن هدفها كان اقتصاديا بحتًا. غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة بدر، لم يتجرأ أي من المؤرخين المغرضين على البحث عما أسموه بالدوافع الاقتصادية لأى غزوة أو سرية من الغزوات التي وقعت مع قريش مكة؛ لأن جميع الغزوات والسرايا التي وقعت بعد ذلك كانت منبثقة عن مجرد تصادم أو تلاحم سياسي، مع أن بعض المؤرخين قد أثبتوا أنها غزوات سياسية فقط. إلا أننا نقرُّ بأنها بأي صورة من الصور كانت مظهرًا من مظاهر الجهاد الإِسلامي. ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يضع نصب عينيه أموال الغنائم هدفًا، فقد كان فتح مكة وغزوة حنين والطائف من أطيب الفرص التي واتته، فأثناء فتح مكة كانت جميع ثروات أغنياء قريش أمامه يستطيع أن يستولي عليها، ولو أراد المسلمون لانتقموا مما حاق بهم من ظلم على يد قريش مكة، ولنهبوا ثرواتهم ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن أهل مكة كلهم.

وفي غزوة حنين استولى الرسول صلى الله عليه وسلم على الأموال التي أخذت من الأعداء فقط في ميدان القتال، ولم يهجم على قرى الأعداء وأهلها ولم يسلبهم مالهم، وكان من الممكن أن يحصل على الكثير من الأموال إذا ما قبل الأموال التي يفتدي بها أسرى حنين أنفسهم، إلا أنه أطلق سراحهم أيضًا بلا فدية؛ لأنهم كانوا من القبيلة التي أرضع فيها، وما جاء ضمن نظرية التصادم المسلح مع قريش ومن قبلها الإغارة على القوافل، إنما هو أمر عجيب وغريب، إذ ينال المسلمون أقل الغنائم مقابل مواجهة أعداء كثيرين. وإذا حللنا جيدًا بإيمان وبحق في ضوء النظر التاريخي الصحيح جميع الغزوات النبوية فسوف نعرف أن أول هدف من أهداف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إعلاء كلمة الله، والجهاد في سبيل الله، وأنّ نظريات الدوافع الاقتصادية ليست فقط نظرية خاطئة، بل إن ترويجها إنما هو في أساسه راجع إلى سوء نية وخبث القائلين بها.!! العلاقات مع اليهود: الروابط الفكرية عرض معظم المستشرقين والكثير من المؤرخين الجدد علاقات الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود الحجاز بطريقة خاطئة تمامًا، وحاولوا بكل الطرق مسخ التاريخ الإسلامي. وكانت نقطة بداية هذه العلاقات بعد الهجرة النبوية حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة إلى قبول الإسلام. وهو طبقًا لتلك الروايات - ما كان ينتظره من مدة طويلة، وما عدا بعض الأشخاص الصالحين من أصحاب النوايا الطيبة، فإن جميع يهود المدينة رفضوا دعوته، نظرًا لما كانوا عليه من غرور وكبر وعصبية دينية، وشعورهم بالتفوق الاقتصادي والاجتماعي. وقد قسم المستشرقون العلاقات النبوية مع يهود المدينة إلى قسمين: في القسم الأول ذكروا تلك المساعى -التي هي في رأيهم- كانت تهدف من جانب النبي إلى أن يُلبس الإِسلام ثوب اليهودية، وأطلقوا على هذه الفترة

" عصر المصالحة ". والفترة الثانية هي التي أطلقوا عليها " عصر المعارضة " أو المواجهة، حين يئس النبي من دخولهم في الإسلام، فلم يعمد فقط إلى نقد نظامهم الاجتماعي والاقتصادي والديني، بل اتخذ ضدهم إجراءات عسكرية، حتى تمكن من قمعهم وطردهم، واضطر المستشرقون في عرضهم لهذين القسمين من حياة الرسول أن يحللوا الأمور بتفصيل جعلهم يثيرون الكثير من العقول ويصيبونها بالاضطراب. لقد تغنى المستشرقون منذ فترة طويلة وبعيدة بأن رسول الله كان يأمل أن تدخل قبائل اليهود في الإسلام بعد الهجرة، وحتى يقربهم إلى الإِسلام ويلين قلوبهم بدأ في صياغة الإسلام صياغة تتطابق مع الدين اليهودي والشريعة اليهودية، وهكذا تبعهم في الاحتفال بصوم يوم عاشوراء، ثم كان يوم الجمعة، وجَعَل بيت المقدس قبلة المسلمين، وأجاز ذبيحتهم وحلل الزواج من نسائهم، ولكن حين رفض اليهود جميع محاولاته هذه الرامية للصلح، نظرًا لعجرفتهم وغرورهم، وبدأوا في نقده ونقد دينه نقدًا عقليًا ونقليًا، حينئذ ترك الرسول أسلوب المصالحة معهم، وبدأ يُعارضهم وينقدهم نقدًا عقليًا مقرونًا بمواجهتهم بحزم وبشدة وبصورة عملية. وفيما يتعلق بالنقد العقلي فقد أوضح ما لدى اليهود من إفراط وتفريط في الدين، وتحريفهم وتبديلهم للتوراة، والتحايل على الأحكام الإِلهية، وانغماسهم في المساوىء الاجتماعية، وتجاوزهم للحدود الإِلهية في المعاملات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من أمور واردة في القرآن الكريم. وفي بداية فترة المواجهة بدلاً من صوم يوم عاشوراء فرض صوم رمضان، وبدلاً من الاتجاه إلى بيت المقدس أصبحت الكعبة هي قبلة المسلمين. ولم يصدر عن المؤرخين أي شىء آخر في الأمور الأخرى الخاصة

بالمصالحة، فلم يكتبوا برفضها كما لم يكتبوا بتصديقها. ويعرف حتى طلاب السنوات الأول من دارسي التاريخ الإسلامي أن تحويل قبلة المسلمين في الصلوات الخمس عن بيت المقدس، قد تم قبل عدة سنوات من الهجرة في وقت لم تكن هناك لقضية إرضاء اليهود أو مهادنتهم مكان، ولم تكن فكرة الهجرة إلى المدينة حتى قد وردت على الخيال. ثم إن صوم عاشوراء كان نفلاً وكان بالنسبة للمسلمين سنة نبوية، وذلك بعد إقرار فرضية صوم رمضان، ولا يزال حتى اليوم سنة يقيمها المسلمون، ثم أي مصلحة تلك التي اقتضت فرض صيام " ثلاثين " يومًا [شهرًا] بدلاً من صيام يوم واحد؟! لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطر لمخالفة الدين اليهودي، وطريقة اليهود وأسلوبهم لحرّم ذبيحتهم ولحرم الزواج من نسائهم وحرم صوم عاشوراء ... وهي الأمور التي لا تزال مباحة حتى يومنا هذا. وقد أقر صلاة الجمعة كما هي وكما كانت عليه دون تغيير. إن محاولة المستشرقين وأعداء الإِسلام من المؤرخين إعطاء بيانات خاطئة لمسخ التاريخ هو في الأصل دليل واضح وبيان فاضح على عداوتهم الشديدة وتعصبهم الديني ضد الإِسلام ورسول الإِسلام، ونظرتهم الخاطئة هذه إنما يرجع سببها إلى اعتبار الإِسلام والمسيحية واليهودية أديانًا منفصلة عن بعضها البعض، ويتعارض بعضها مع البعض، بينما القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وجميع الروايات الإِسلامية توضح أنه ليس فقط الأديان الثلاثة بل جميع الأديان التي جاء بها جملة الأنبياء الكرام كانت تتفق مع الإسلام، وقام علماؤها ورهبانها بتحريف التعليمات الإِلهية الأصلية، فحرفوا الأديان ومسخوها وانحرفوا بها عن جادة الطريق، ومن الواضح أن الإِسلام يعترف بالدين اليهودي والمسيحى قبل تحريفهما؛ لأنهما ينبعان من منبع واحد، وهناك بالضرورة اشتراك في الأصول والعقائد، وهناك ولا شك أيضًا اختلاف ممكن

تشكيل المجتمع الإسلامي: المؤاخاة

في الشريعة والقانون، إذ كانا يتطابقان بالضرورة مع ظروف ومستلزمات الحالات والزمان وضرورات كل أمة، والمستشرقون قد أخطأوا، وجانبهم الصواب وهم يقسمون سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة إلى فترتين مختلفتين، طبقًا لغرضهم الدفين وهوى نفسهم الكمين، والتاريخ يثبت بصورة قاطعة أن سياسته صلى الله عليه وسلم مع القبائل اليهودية كانت من البداية وحتى النهاية تمضي على وتيرة واحدة. تشكيل المجتمع الإِسلامي: المؤاخاة يلزمنا لفهم النوعية الصحيحة للعلاقات السياسية للدولة الإِسلامية مع يهود المدينة أن نقف جيدًا على المعلومات الأولية والضرورية المتعلقة بتشكيل المجتمع الإِسلامي، وبناء وتطوير الدولة الإِسلامية في المدينة المنورة، وهي تلك الأمور التي كان ليهود المدينة صلة قريبة منها وعلاقة بها. بعد الهجرة مباشرة قام صلى الله عليه وسلم عن طريق المؤاخاة بإقامة علاقة محكمة من الأخوة وعلاقة قوية من المحبة بين مهاجري مكة وأنصار المدينة، فأوجد بين هاتين الطبقتين من المسلمين فكرًا مستقلاً وانسجامًا وتناسقًا اجتماعيًّا وسياسيًا واقتصاديًا، وقضى هذا الأمر على جميع ما من شأنه أن يوجد تنافرًا داخليًا بين المجتمع أو يوجد بصيصا لدلالة " أنا وأنت " داخل المجتمع المسلم الذي قام على دلالة " نحن ". وكانت هذه أول خطوة عملية وربما أعظم عمل تطبيقي لقيام المجتمع الإِسلامي الصحيح. لقد كان المجتمع منظمًا تنظيمًا مستقلاً وثابتًا، وُضع أساسه بناء على حكم القرآن الكريم ((إِنَّما الْمُؤْمنُونَ إِخْوَةٌ)). وعن طريق هذا الحكم. أبعد الإِسلام امتيازات التفريق القبائلي والاجتماعي بنجاح كبير، ونُظّم المجتمع الإِسلامي على أساس الإِسلام فقط.

الصحيفة النبوية:

ويذكر المستشرق " مونتجمري وات " ومن على شاكلته هذه المؤاخاة بطريقة عارضة بلا دليل أو شهادة. وهم يعتبرونها تدبيرًا عسكريًا أراد به صلى الله عليه وسلم أن يوجد بين المهاجرين والأنصار انسجامًا عسكريًا في ميدان القتال. ولرفض هذه النظرية نسوق دليلاً واحدًا ملخصه أنه لما كان هناك اختلاف في العدد بين مجاهدي المهاجرين ومجاهدي الأنصار، فكيف قام هذا الانسجام العسكري؟. في المهمات الأول وطبقًا للروايات المشهورة فإن المهاجرين فقط دون غيرهم هم الذين اشتركوا فيها. فكيف يمكن أن نقبل هذه النظرية التي يروجها المستشرقون، بينما المؤاخاة قد حدثت قبل ذلك بكثير، ثم إنه في الوقت الذي تمت فيه المؤاخاة لم تكن فكرة الحرب وميدان القتال قد ظهرت إلى الوجود. وعلاوة على ذلك يفهم من الروايات أن المؤاخاة مع المهاجرين القادمين حتى فتح مكة، ظلت قائمة مع الأنصار، بل يمكن أن نجد لها أمثلة بعد فتح مكة. وعلى كل حال يتضح من المصادر أن المؤاخاة كانت محاولة لإيجاد مجتمع مستقل متجانس كانت فيه قضية حق الوراثة قضية عرضية، أما بقية النظام فقد ظل موجودًا حتى النهاية، وهو النظام الذي بُني عليه المجتمع الإِسلامي وتطور وارتقى بل وكان وجوده منحصرًا عليه تمامًا. الصحيفة النبوية: عن طريق المؤاخاة، وبعد أن حدث تناسق وتجانس وانسجام بين طبقتي المسلمين داخل المجتمع، كان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية هامة هي توثيق العلاقات بين طبقات المجتمع الأخرى غير المسلمة وبخاصة قبائل اليهود. فهذه الطبقات بصفتها غير مسلمة لم تكن تمثل ركنا من أركان المجتمع الإسلامي

الذى يقوم أساسه على الدين الإسلامي. ولهذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد معاهدة تعاون وصداقة مع كل قبيلة على حدة، وبعدها وعن طريق معاهدة جماعية -ذكر متنها ابن إسحاق في سيرته الشهيرة- أوجد الرسول بين مسلمي المدينة كلهم وغيرهم من الطبقات الأخرى غير المسلمة وحدة سياسية مشتركة، وتعاونا وانسجما، وهذا الأمر أوجد بدوره انسجامًا واتحادًا سياسيًا بين طبقات المسلمين وغير المسلمين في المدينة كلها. وقد عرفت هذه المعاهدة في المصادر باسم " صحيفة الرسول " وأطلق عليها المستشرقون اسم " دستور المدينة " وطبقًا لقول " فينسنك " و " وات " وأشباههما من المستشرقين فإن هذه المعاهدة النبوية شملت 470 مادة يلقي بعضها الضوء على العلاقات بين المسلمين واليهود كما أن بعضها يتعلق بالروابط بين اليهود والدولة الإسلامية، ففي المادة الأولى والثانية إعلان بأن المسلمين أمة واليهود أمة، وهذا استدلال عجيب جدًا أن يقدم " ولهاوزن " و" مونتجمري وات " وغيرهما باعتبار الدين والمذهب أساس المجتمع الإسلامي ومن ناحية أخرى يعتبرون أن اليهود [وليس فقط اليهود] بل الطبقات الأخرى غير المسلمة أعضاء داخل " الأمة الإسلامية "، وهو الأمر الذي لم تثبت أبدًا صحته بأي شكل من الأشكال خلال التاريخ الإسلامي، ثم يعترف المستشرقون أيضًا أنه طبقًا لدستور المدينة فإن اليهود وغيرهم من غير المسلمين لم يحصلوا على حقوق تتساوى مع حقوق المسلمين. وفي عدة مواد من مواد المعاهدة أُقرت الأصول القديمة التي كانت تتبعها كل قبيلة طبقًا لدستورها القديم، فيما يتعلق بالدية والدم، وتتحمل القبيلة كلها مسئولية أعمالها ومسئولية أعمال أفرادها، وكان ينبغي على جميع الفئات المشتركة في هذه الصحيفة أن تعتبر المدينة حرمًا، وعليها أن تتحمل مسئولية الدفاع عنها، ودفع

النفقات الدفاعية طبقًا للحصة المقررة عليها، إذا ما تعرضت المدينة للهجوم، وإذا ما وقع خلاف أو نزاع في أي معاملة من المعاملات، فيلزم الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الجميع إطاعة وتنفيذ حكمه وقراره، ويجب ألا يخرج أحد بدون إذنه إلى حرب أو جدال، وألا يلجأ أحد إلى أعداء الإسلام، وبخاصة قريش، وألا يرتكب أحد أي عمل من شأنه أن يكون معاديًا للمسلمين، وأن يكون الجميع أوفياء بأي حال من الأحوال للدولة الإِسلامية. المعارك مع يهود المدينة: يجب تحليل العلاقات السياسية بين الدولة الإِسلامية ويهود المدينة على ضوء الصحيفة النبوية. فبعد غزوة بدر قام يهود بني قينقاع فلم يطعنوا في حق رسول الله والمسلمين فقط، بل أثاروا القتال والنزاع والفتن، وهو ما يتنافي صراحة والمعاهدة، وفي زمانهم اعتدى أحد اليهود على امرأة مسلمة في سوق الصرافة الذي كانوا يمتلكونه ويعملون به، فقام مسلم غيور فضرب المجرم، فقام اليهود على الفور وقتلوا هذا الشاب المسلم، وحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم رد بني قينقاع عن غيِّهم هذا، وعن أفعالهم الشائنة تلك، وذكّرهم بشروط المعاهدة، إلا أنهم لم يُظهروا فقط استعدادهم للقتال بل قاموا بنقض المعاهدة تمامًا، وكانت النتيجة القيام بعمل عسكري ضدهم. فقاموا باللجوء إلى حصونهم وحوصروا فيها، وحين دبَّ اليأس في قلوبهم، وبعد خمسة عشر يومًا، أعلنوا الاستسلام دون شرط، فتم إجلاؤهم عن وطنهم، وحملوا معهم جميع أمتعتهم وأموالهم وأجناس الطعام والمواشي، دون الممتلكات غير المنقولة والسلاح، وبعد جلائهم عن الوطن قامت عدة قبائل يهودية بتجديد المعاهدة مرة أخرى، إلا أنه بعد غزوة أحد عمد بنو النضير إلى مساعدة قادة جند وغزاة قريش أعداء المسلمين

ودفعهم غرورهم إلى التآمر على الدولة الإِسلامية الناشئة، تلك التي تعاهدوا على أن يكونوا أوفياء لها، وأن يتحملوا مسئولية الدفاع عنها، وطبقًا للمعاهدة، وحين ذهب الرسول إليهم للحصول على النصيب الواجب دفعه في دية قتل بني عامر، تآمر اليهود عليه وحاولوا قتله صلى الله عليه وسلم، وتم عقابهم عن غدرهم هذا بنفيهم، وحصلوا على جميع التسهيلات التي حصل عليها من قبلهم بنو قينقاع، حتى إنه سمح لهم بالحصول على فوائد قروضهم التي كانت لدى المسلمين، وحصلوا عليها كاملة، وطبقًا لأقوال المؤرخين خرج هؤلاء اليهود من ديارهم معززين مكرمين لدرجة أن نساءهم قمن بوضع ما يمتلكن من ذهب للزينة على أجسادهن. ومن الملاحظ أن قضية بني قريظة كانت مختلفة إلى حد ما، فقد نقضوا المعاهدة في وقت حرج ودقيق، كان المسلمون فيه بين الحياة والموت وهو ما حدث في الأوقات الحرجة من غزوة الخندق حين أرادوا مساعدة الأعداء بكشف جناح المسلمين، ولم تنجح مؤامرتهم بتوفيق من الله، وبعد عودة جيوش الأحزاب، اتخذت ضدهم إجراءات عسكرية، وفي النهاية اضطروا إلى إلقاء السلاح والتسليم دون شروط، وأصدر حكمًا ضدهم رجل انتخبوه هم هو سعد بن معاذ الأوسي، الذي حكم عليهم طبقًا لما جاء في التوراة، وهو قتل جميع الرجال العاقلين البالغين، وأن تصبح زوجاتهم إماءً وأطفالهم غلمانًا، وقد أثبت باحثان مسلمان هما (و. ن. عرفات) و (بركات أحمد) أن جميع بني قريظة لم يقتلوا، كما أن أولادهم ونساءهم لم يصبحوا غلمانًا وإماءً، بل إن رؤساءهم فقط اعتبروا مجرمي حرب فقتلوا، وتم العفو عن بقيتهم، وردت إليهم أموالهم، كما توضح مصادرنا القديمة أيضًا أن عددًا من أسر بني قريظة وأفرادها تم العفو عنهم بوساطة بعض المسلمين، على شرط أن يتبع اليهود سلوكًا يتسم بالوفاء، وردت إليهم أملاكهم وممتلكاتهم جميعًا.

ويتضح من تحليل جميع الروايات أن الدولة الإِسلامية قامت باتخاذ إجراءات عسكرية ضد هذه القبائل اليهودية الثلاث نظرًا لأسباب سياسية كانت مسئوليتها كاملة تقع على كاهل القبائل المذكورة، فقد قاموا بمعارضة المعاهدة ونقضها قصدًا وعمدًا والعمل خلافًا لما جاء في موادها، وخلافًا لما وقّعوا عليه وأقروه، كما قاموا بارتكاب غدر واضح فاضح ضد الدولة التي تعهدوا رسميًا بمسئولية الدفاع عنها وحمايتها، وقد عوقبوا طبقًا لجرائمهم التي ارتكبوها وليس لأنهم يدينون باليهودية، ويتضح من المصادر -وهو ما يعترف به أيضًا مونتجمري وات ومن على شاكلته من المستشرقين- أنه رغم هذه الإجراءات فقد بقيت في المدينة المنورة أكثر من عشرين أسرة يهودية، ولم يثبت أبدًا ضدها أي إجراء سياسي في العهد النبوي، وفي عهد الخلافة بطولها، فلم تُسلب أموالهم ولا ثرواتهم، ولم يُستول على أملاكهم ولا على ممتلكاتهم، ولو كان هدف الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحصول على الأموال والغنائم لما سمح رسول الله بأن تأخذ القبائل التي نفاها أموالها ومنقولاتها وأمتعتها معها، ولما أعاد لهم قروضهم التي كانت لدى المسلمين. وصحيح أن الأهمية الاقتصادية للممتلكات غير المنقولة أكثر، وفائدتها أعم، إلا أن الحقيقة أيضًا هي أن الأموال والأمتعة والأجناس التي حملها اليهود معهم كان من الممكن أن تمثل من ناحية أخرى عونًا ومددًا عظيمًا للمسلمين داخل دولتهم. إن المستشرقين عمدوا إلى تضخيم الإجراءات العسكرية للدولة الإسلامية ضد اليهود إلا أن بعضهم بدأ الآن تدريجيًا في الاعتراف بالحق، رغم أن هذا الاعتراف يحمل بين طياته السمّ إلى حد ما. يجب أن ننظر دائمًا إلى علاقات يهود المدينة في ضوء خلفية تشكيل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، وإلا فلن نحللها وننقدها بطريقة صحيحة.

تشكيل الدولة الإسلامية:

تشكيل الدولة الإسلامية: عرض بعض المستشرقين وعلى رأسهم (مونتجمري وات) نظرية فحواها أن النظام السياسي الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة قد قام على أسس قبلية، وطبقًا لرأيه، فقد كان هناك وفاق بين مختلف القبائل والبطون في المدينة المنورة، وكان هذا الوفاق يضم تقريبًا تسع قبائل كبيرة، ويمكن القول بأنها كانت تمثل تسع وحدات سياسية من بينها وحدة تضم المهاجرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيسًا للمهاجرين فقط، وبالإضافة إليه كان هناك ثمانية رؤساء سياسيين للقبائل كانوا في جميع الأشكال متساويين معه في الرتبة والمكانة، ولم يكن له عليهم أي أفضلية. ويحاول هؤلاء المستشرقون في النهاية أن يثبتوا أنه لم يكن حاكمًا للمدينة، كما أنه لم تكن هناك دولة إسلامية بالمدينة تحكم جميع القبائل الأخرى. وهذه نظرية خاطئة من الناحية التاريخية ودلائلها باطلة، ففي بيعة العقبة الثانية اعترف مسلمو المدينة برسول الله زعيمًا وقائدًا مثلما اعترف به مسلمو مكة بعد الهجرة، ولم تنته سيادته صلى الله عليه وسلم إلى حد السيادة على المهاجرين فقط، بل امتدت لتشمل قبيلتي الأنصار أيضًا، ويمكن القول بأنه بعد الهجرة مباشرة كان صلى الله عليه وسلم هو شيخ ورئيس جميع طبقات المسلمين بلا استثناء وبعد دستور المدينة أصبح عليه الصلاة والسلام هو القائد السياسي للمدينة بأكملها بما فيها من يهود وغيرهم من غير المسلمين، ورغم أن اليهود لم يعترفوا به كرسول فإنهم بانضمامهم إلى المعاهدة النبوية أو الصحيفة النبوية سلموا بزعامته السياسية، تلك الزعامة التي جعلتهم يعترفون بالحيثية القانونية للإجراءات العسكرية التي اتخذت ضدهم. لقد كان صلى الله عليه وسلم هو الحاكم الأعلى للمدينة والقائد الديني والسياسي للجميع. اعترف به الجميع بعد الهجرة مباشرة وحتى غزوة الخندق كانت القبائل

الموجودة في أطراف ونواحي المدينة قد اعترفت بسيادته، وقد كان منبع سيادته وقيادته رسالته ونبوته، والمستشرقون أساسًا لا يريدون التسليم في كتاباتهم بهذه المكانة الأساسية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها مكانة دينية. يهود خيبر: كان يهود خيبر من بين القاطنين خارج المدينة يحيكون المؤامرات ضد الدولة الإسلامية، وكان من أهم العناصر المتآمرة يهود بني نضير الذين نفوا من ديارهم، وخاصة شيوخهم ورؤساءهم الذين كانت نيران الانتقام والحسد تعتلج في داخلهم، فقد لعبت أيديهم دورًا في غزوة الأحزاب، وفي تأليب القبائل العربية على المدينة، وفي دفع بني قريظة إلى الغدر، وبعد صلح الحديبية وحين اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب قريش في مكة رأي أن أول عمل يجب أن يقوم به هو أن يسد باب مؤامرات يهود خيبر، وقام جيش المسلمين الذى ضم مجاهدي غزوة الحديبية بمحاصرة خيبر وكان بها عدة قلاع، تم حصار بعضها ولم تصمد للحصار، فسقطت واحدة بعد الأخرى وحين وضح لليهود أنهم سيهزمون عرضوا الصلح فقبله الرسول، وتم على أن يُقدِّم زراع اليهود نصف نتاج أراضيهم كل موسم بمثابة خراج، وبعدها تم عقد معاهدات أخرى مع يهود خيبر الآخرين الذين يعيشون في قرى فدك وتيماء ووادي القرى على نفس الشروط. وصفحات التاريخ الإسلامي شاهد عدل وحكم فصل على أن المسلمين لم يغدروا وصانوا شروط معاهداتهم بكل أمانة وإنصاف وخوف من الله، ويشهد على ذلك الأعداء الذين هزموا، يشهدون على أصول العدل والإنصاف الإسلامي، وعلى سلوك المسلمين السامي، وما اتبعه المسلمون مع أهل خيبر ونواحيها من القرى إنما يثبت بذاته أن الإجراءات العسكرية التي نفذت ضد هذه المناطق لم تكن وراءها أية عوامل أو محركات اقتصادية بل كان هدفها

الأساسي الجهاد الإِسلامي الذي تم به رفع كلمة الله وتقوية الإِسلام وصيانة الأمة الإِسلامية والحفاظ على الدولة الإِسلامية. والجيش الإِسلامي لم يكن كغيره من الجيوش يعمد إلى السلب أو النهب أو القتل أو الدمار، فلم يكن ليتعرض إلا للسلاح ولأموال الغنيمة التي يحصل عليها في ميدان القتال. إن القبائل اليهودية التي سلكت مع الدولة الإِسلامية سلوكًا طيبًا سليمًا، ولم تلجأ إلى أسلوب التآمر أو الخداع ولم ترفع في وجه الدولة الإِسلامية السلاح، هؤلاء لم يتخذ المسلمون ضدهم أي إجراء عسكري، ولقد كان الإِجراء العسكري الذي اتخذه المسلمون ضد خيبر والقرى المجاورة لها إجراء اضطر إليه المسلمون حتى يقتلعوا جذور المؤامرات والفتنة والفساد. الخطّ السياسي للعلاقات مع غير المسلمين: يتضح من تحليل الخط السياسي للدولة الإِسلامية مع الفئات غير المسلمة أن الخط السياسي الذي اتخذه الرسول بعد الهجرة كان يهدف إلى دعوة القبائل والبطون غير المسلمة إلى الإِسلام، فإن امتنعوا عن قبول الإِسلام عقد معهم معاهدة صلح وتعاون أو على الأقل عدم انحياز. وهكذا تم عقد معاهدات من هذا القبيل مع القبائل المجاورة للمدينة المنورة، وبخاصة القبائل الغربية مثل مزينة، جهينة، كنانة وغيرها، وبالتدرج وفي فترة بسيطة دخلت هذه القبائل في الإِسلام. وقبل أن تنجح هذه التدابير والخطط التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاحًا كاملاً بدأت سلسلة الغزوات مع قريش مكة، وكان من نتيجة ذلك أن بعض القبائل التي ناصبت الإِسلام العداء انتهجت نهجًا يهدف إلى التآمر على الدولة الإِسلامية وقتالها واضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعلن الجهاد ضد جميع هذه العناصر المعادية، وأخضع كثيرًا من تلك القبائل بهزيمتها، إلا أن الأسلوب

الذى اتبعه معها كان قائمًا على العدل والإنصاف، فالقبيلة أو الجماعة التي طلبت الصلح، أجيبت إلى طلبها، ولكن حين كان الأمر يقتضي إقامة وحدة سياسية للجزيرة العربية كلها؛ لأنه بدون هذه الوحدة لا يمكن للدولة الإسلامية أن تبقى، ولا يمكن أن تكتمل الفريضة الإلهية الرامية إلى إعلاء كلمة الله، حينئذ أصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطالب جميع السكان العرب بالموافقة على أحد مطلبين: إما أن يقبلوا الإسلام، ويصبحوا بذلك من مواطنى الدولة الإسلامية بصورة كاملة فيؤدون الفرائض الإسلامية كاملة بما فيها الأحكام التي تخص المال أي الزكاة والصدقات، وإما أن يعترفوا بالتفوق السياسي للدولة الإسلامية إن أرادوا البقاء على دينهم، وعليهم أن يخضعوا لها، ويكون ضمان هذا الوفاء هو دفع الجزية السنوية وفي مقابل دفع الجزية تكون على الدولة الإِسلامية مسئولية حماية أرواحهم وأموالهم وعزتهم وكرامتهم، ويحصلون بذلك على مكانتهم في المجتمع بصفتهم من " أهل الذمة " ويكون لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم التي حددها الإسلام، ومن خلال هذه الخلفية، ومن خلال تحليلنا لجميع الغزوات والسرايا النبوية تحليلاً كاملاً نعرف أن المسلمين قد رفعوا السيف في وجوه تلك العناصر التي أثارت الفتنة والفساد أو كانت عاملاً من عوامل إثارة الفتنة والفساد، وكانت تهدف إلى القضاء على الدولة الإسلامية، على أن الدولة الإسلامية قد اتخذت من المصالحة أسلوبًا لها مع جميع الفئات التي كانت تدعو للمصالحة، وتريد الحياة في أمن وسلام. وفيما يتعلق بالحصول على الفوائد الاقتصادية وأموال الغنيمة فإن التاريخ يثبت أنها لم تكن هي الدافع، ولم تكن هي المحرك، ولم تكن هي الهدف بل كان كل هذا من ثمار الجهاد الإسلامي، وإذا ما حللنا جميع أموال الغنيمة التي تم الحصول عليها أثناء الغزوات والسرايا النبوية فإن نصيب حياة المسلمين الاقتصادية في المدينة كان اثنين بالمائة (2%) فقط، أما الباقي فقد كان من نصيب الدولة للحفاظ على الأمن، لقد كان الهدف الأساسي لجميع تلك الغزوات والسرايا هو الجهاد الإِسلامي وهو ما يمكن أن تجد له مئات الأمثلة التي قدمها لنا القرآن الكريم وقدمتها لنا الأحاديث النبوية، وقدمها لنا التاريخ الإسلامي.!!

الرسالة العالمية:

الرسالة العالمية: مع أن المستشرقين وبعض المؤرخين الجدد يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رسولاً للعرب دون غيرهم، وأن الرسالة التي حملها كانت قاصرة على منطقته التي عاش فيها، بل كانت وقفًا أيضًا على زمانه هو، وأكثر من هذا فإنهم يدعون بدعوى عجيبة وغريبة وهي أنه لا شرف له في المجىء بهذا " الانقلاب " أو " الثورة الإِسلامية " (1) لأن المجتمع العربي آنذاك كان متعطشًا لثورة اجتماعية وحركة إصلاحية أخلاقية، وحين وجد هذا المجتمع إمكانات قدوم مثل هذه الثورة الاجتماعية والأخلاقية في شكل الإسلام خطا خطوة للأمام فرحب أفراده به. وهذا الادعاء بشطريه لا يوجد فيه تناقض فقط، بل إنه لا يقوم على محك التحليل والنقد التاريخي وسوف نقوم بتحليله بشطريه. من بين مستشرقي العصر الحديث المشهورين " مونتجمري وات " وهو من المتعاطفين مع التاريخ الإسلامي، إلا أن إعجابه بالإِسلام لا يمنعه من أن يقدم من خلال كتاباته الاستعراضية تلك النظرية الخاطئة في حق الرسالة العالمية والنبوة العالمية لرسول الله بعد بحث وكد وجهد جهيد، وهو يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد تشريفه للمدينة المنورة لم يعرض الإِسلام على يهود المدينة المقدسة لمدة طويلة ولم يقل للفئات الأخرى من غير المسلمين أن يدخلوا في الإِسلام، فلقد كانت رغبته وكان هدفه فقط هو أن يعترفوا به، كواحد من أنبياء الله " حتى يجد لنفسه شهادة تصديق " بين العرب على قبول رسالته، إلا أنهم لم يفعلوا هذا، وهكذا وبعد مدة كافية حين عرض عليهم الدعوة إلى الإسلام، فرفض اليهود قائلين له: إن الإِسلام هو دين العرب فقط، وليس لبقية الفئات والجماعات؛ لأنه ليس دينًا عالميًا، وحتى يرد على استدلال اليهود هذا عرض عليهم تصور الدين الإِبراهيمى، قائلاً بأن الإِسلام الذي جاء به والدين الذي يدعو إليه هو في الأصل الدين الحقيقي لأبي الأنبياء والجد الأكبر للعرب _______ (1) ليس الإسلام إنقلابًا ولا ثورة بل دعوة ونبوة وإنما استعمل المؤلف مصطلحات المستشرقين فقط تهكمًا بهم!!

واليهود، إبراهيم عليه السلام، وهو الدين الذي يجب أن تقبله البشرية جمعاء، بما فيهم اليهود والنصارى الذين ابتعدوا عن الدين الأصلي لإبراهيم عليه السلام، وقد حاول المستشرق المذكور بكل جد وجهد أن يثبت أن السور والآيات المكية لا توجد فيها تصورات لدين إبراهيم، إلا أن ذكر إبراهيم ودين إبراهيم قد وردا بكثرة في السور والآيات المدنية، وبسرعة بعد ظهور الاختلاف الفكري والعملي مع اليهود، وكأن ربط الإِسلام بدين إبراهيم لم يكن لمجرد أن اليهود والنصارى عارضوا الإِسلام. وقد واجه " مونتجمري وات " ومن هم على شاكلته مثل " ريتشارد بيل " وغيره، صعوبة في أن يثبتوا مزاعمهم وأفكارهم، فصرفوا النظر تمامًا لا عن الروايات الإسلامية فقط بل عن روايات وآيات الكتاب المقدس أيضًا، وقاموا بتأويلها تأويلات عجيبة، ولا بد أن في القرآن الكريم والأحاديث النبوية والروايات الجاهلية وشواهد التاريخ الإِسلامي، ما يثبت بصورة حتمية أن العرب قبل ظهور الإِسلام لم يعتبروا أنفسهم من أولاد إبراهيم فقط، بل كانوا يعتبرون أنفسهم أتباع دينه ومذهبه. وأكثر من هذا هو تسليم بعض المستشرقين بالحقيقة القائلة بأن اليهود إنما عارضوا رسول الله لمجرد شعورهم بالتفوق والتمييز الجنسي وشعورهم بالتفوق الديني، فقد كان تفكيرهم منحصرًا في أن آخر الأنبياء سيولد من بين بني إسرائيل ولكن حين كانت بعثته صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل أنكروا الإِيمان برسالته، لما فيهم من عصبية إسرائيلية، ولكن كان من بينهم علماء حق وعدل وعلى رأسهم العالم اليهودي الشهير عبد الله بن سلام، الذي صدق بالبشارات الواردة في التوراة والإِنجيل فيما يتعلق ببعثته صلى الله عليه وسلم، وآمن برسالته وقال: إنها رسالة عالمية، وإن محمدًا مرسل لجميع البشر، ودعا أهل دينه أيضًا للدخول في الإِسلام، وفضلاً عن ذلك يتضح من خلال عدد من آيات القرآن أن إبراهيم وعيسى عليهما السلام قد بشرا بقدوم رسول مكي

تبليغ الدين ونشر الإسلام:

يأتي من بعدهما اسمه أحمد، والعديد من الآيات القرآنية تخبرنا بوضوح تام بأنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى البشرية جمعاء، وهناك شهادات لا حصر لها يمكن استخراجها من الحديث والتاريخ على عالمية رسالته وإنسانية نبوته. والنتيجة المنطقية والشهادة المنطقية هي أن هذه الجماعة الضخمة من البشر قد اعترفت به رسولاً لله مرسلاً للناس كافة، ولما كانت نبوته ورسالته للناس كافة فإن النتيجة اللازمة والمنطقية هي أنه خاتم النبيين وخاتم المرسلين، بالإضافة إلى هذا فإن الحفاظ على القرآن الكريم وتعليمات الإسلام حتى يوم القيامة هو شهادة منطقية على ختم نبوته عليه السلام. هذا بالإضافة إلى الشهادات العديدة التي لا تقبل الرفض والتي تتخلل جميع مصادر التاريخ الإسلامي ومراجعه، ومع ذلك يلاحظ إصرار المستشرقين وعنادهم وتغاضيهم عن جميع تلك الحقائق والشواهد. أما الشطر الثاني من دعواهم فتتضح حقيقته في السطور التالية: تبليغ الدين ونشر الإسلام: قام المستشرقون وأعداء الإسلام بالهجوم هجومًا خطرًا على أهم أبواب التاريخ الإسلامي ألا وهو تبليغ الرسالة -وهي الفريضة الأساسية- قائلين بأن نشر الإِسلام في العهد النبوي قد تم على نطاق محدود جدًّا. وطبقًا لتفكيرهم فهم يعتبرون أن الحياة النبوية في مكة [13 سنة] كانت محدودة التوفيق والنجاح، وفي خارج مكة أسلم عدد قليل جدًا من الأشخاص، وفي حياته بالمدينة [10 سنوات] لم يستطع أن يعطي لفريضة التبليغ حقها؛ لأنه اضطر في معظم الأوقات أن يواجه قريشًا وبقية القبائل العربية، وأن يخوض معها قتالاً مسلحًا. وعام الوفود (9 هـ/ 630 - 631 م) الذى يشهد بأن الجزيرة العربية بأكملها قد قبلت الإسلام. هو أيضًا غير مقبول لدى المستشرقين، لأنه طبقًا لتفكيرهم فإن معظم القبائل العربية قد

قبلت الرفعة السياسية للدولة الإسلامية ولم تقبل الإسلام. وقد ذهب بعض المستشرقين اليهود والنصارى إلى حد أنهم قسموا حياة الرسول الطيبة إلى قسمين منفصلين، فجعلوه رسولاً مكيًّا مرة، ورسولاً مدنيًا مرة أخرى، ففي رأيهم أنه في مكة المكرمة يبدو وكأنه رسول بينما هو في المدينة جعل من نفسه قيصر العرب وحاكمًا سياسيًا؛ لأنه طبقًا لتفكيرهم الباطل هذا فإن الرسول في المدينة أنهى الرسالة وأبطل تبليغ الدين. وطبقًا لدعواهم هذه فقد قضى معظم وقته في هذه الفترة في الحرب وفي إقامة التنظيم السياسي، وفي تكوين وتشكيل الحكومة والدولة، ولا شك أن بعض المؤرخين من ذوي الحس والشعور يقدمون هذا العذر قائلين: ولابد أنه قام بمحاولات من أجل تبليغ الدين غير أنها انحصرت في المشاكل السياسية وطبقًا لاعتقادهم فالإسلام قد انحصر داخل القبائل المتركزة بالقرب من المدينة ومكة، أما قبائل مثل هوازن وغطفان فقد قبلت الإسلام فقط لتنال الرفعة السياسية، ولم تقبله لتنال رفعة دينية أو رفعة بالإسلام، أما القبائل اليهودية والمسيحية فقد قبلت بالحاكمية السياسية فقط، وأنكرت ورفضت تمامًا فكرة تغيير الدين، بينما لم يصل الإسلام إلى المناطق العربية الجنوبية والمناطق الشرقية ولا إلى قبائل المنطقة الشمالية الشرقية وإلى المناطق الشمالية، وطبقًا لدعواهم تلك فإن جميع هذه المناطق إذا كانت قد سلمت برفعة المدينة وحكمها إلا أن هذا الأمر اقتصر فقط على المعاملات السياسية، ولم تكن له أي علاقة بالدين. وعلى المسلمين أن يحللوا تاريخيًا هذه الدعوى الطائشة التي يدعيها المستشرقون. ورغم أننا حتى الآن لم نحلل تحليلاً كاملاً قضية تبليغ الإسلام ونشره في العهد النبوي مرحلة تلو مرحلة إلا أننا عرضنا عرضًا سريعًا لبعض المطالعات فقط، ويفهم من مطالعة مصادر التاريخ الإسلامي ومراجعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حالفه التوفيق الكامل في تبليغ ونشر الدين في مكة المكرمة، فقد وجد

السكان المسلمون في العهد المكي:

في أسر وبطون قريش مسلمون وكان كل بيت من بيوت مكة فيه مسلم، وذلك قبل أن يثبت الإسلام رايته هناك بعد فتح مكة ويفهم من المؤلفات المتقدمة لابن إسحاق وابن سعد والطبري والبلاذري، وكذلك الكتب المتأخرة لابن عبد البر وابن الأثير وابن حزم أن بطونًا وأسرًا متعددة من قريش البطائح (بنو هاشم، بنو أمية، بنو مطلب، بنو نوفل، بنو تيم، بنو مخزوم، بنو زهرة، بنو سهم، بنو أسد، بنو جُمح). وقريش الظواهر (بنو حارث، بنو فهر، بنو عامر، بنو لؤي وغيرها). قد وجد فيهم من أعلن الإِسلام، ثم كانت الأسر والبيوت المتفرعة من هذه البطون. وطبقًا لما ورد في المصادر الإِسلامية فإن الإِسلام قد انتشر في معظم الأحيان بين هذه الأسر الفرعية ثم كانت البطون والأسر المتحالفة مع بطون وأسر قريش من مثل حلفاء بني بكير حلفاء بني عدي، وبني غنى حلفاء بني هاشم، وبني غنم بن دودان حلفاء بني أمية وغيرهم، ويعرف من الروايات أن الأسر المتحالفة المذكورة كانت بأكملها مسلمة ثم كانت طبقات الموالي والغلمان التي أثر فيها الإِسلام تأثيرًا كبيرًا مثلهم كبقية الفئات الأخرى، وقد رتب (ليون كيتاني ومونتجمري وات) وغيرهم، قوائم بقبائل وأسر مهاجري مكة، ولم يضمنوا هذه القوائم بعض أسماء رجال الإسلام، ومن العجيب أن هؤلاء الذين ينادون بحرية المرأة ومساواة المرأة بالرجل قد أخرجوا من قوائمهم أسماء النساء المسلمات والأطفال!! السكان المسلمون في العهد المكي: يعرف من تحليل قبائل وبطون مسلمي مكة أن عددهم حتى الهجرة إلى المدينة قد قارب الألف نسمة، ويبدو هذا الرقم في الظاهر مبالغًا فيه، لكن تحليل الروايات طبقًا للأصول التاريخية الحديثة يدل على أن الرقم غير مبالغ فيه. في رواياتنا العامة لا نجد بيانًا كاملاً واضحًا يذكر جميع أفراد الأسرة وخاصة المسلمين فيها، ولهذا فالأمر يترك تأثيرًا على المؤرخ والقارىء يجعله يظن أن

هؤلاء الأفراد فقط كانوا هم المسلمين دون غيرهم. ولكن إذا أمعنا النظر في القوة العددية للأسر فسوف نقف على العدد الأصلي لأفرادها، وهناك حقيقة ظلت خافية بصورة عامة وهي الموالي، فهؤلاء كانوا يعدون من أفراد الأسر كما يتضح من بيانات المؤرخين القدامى، وهكذا يتضح من النظرة النقدية التحليلية أن أسرة الرسالة النبوية كانت تضم في مجملها حوالي خمسة عشر فردا، بينما أسرة الصديق رضى الله عنه وأسرة الفاروق رضي الله عنه كانت تضم كل منها عشرة أفراد، ولا يقل عدد المسلمين في أسرة كل من عبيدة ابن حارث، وعثمان بن مظعون الجمحي، وحارث بن قيس السهمي عن هذا العدد أيضًا. وهكذا ففي ست أسر مسلمة وصل عدد المسلمين إلى 65 فردًا، ويذكر ابن إسحاق أن أسرة بني غنم بن دودان قد ضمت من المسلمين المكيين عشرين رجلاً وخمسة نساء ويذكر أسماءهم، بينما يفهم من معلومات وبيانات ابن سعد وابن حزم أن عدد الأفراد البالغين منهم يصل إلى أربعين، ويرى ابن إسحاق وابن سعد أن المجموع الكلّى للمسلمين المكيين لبني غنم بن دودان وصل إلى 31 شخصًا. ومن الجدير بالذكر هنا أن المستشرقين لم يضموا إلى إحصائياتهم المهاجرين الذين هاجروا إلى الحبشة في أوقات متتالية وأقاموا بها وعادوا إلى المدينة فقط في (7 هـ/ 629 م) لم يضموهم إلى مسلمي العهد المكي. ولقد جاوز عدد المسلمين المكيين بالحبشة مائة مسلم، ومنهم من سمعت مكة بخبر إسلامه فاهتزت، وهكذا يمكن تخمين عدد الأنفس أو عدد السكان طبقًا للأصول الجديدة للإِحصاء السكاني بضرب عدد الرجال البالغين في خمسة لنصل إلى العدد التقريبي للسكان المسلمين. ومن الواضح أن هذه الأصول لا تأخذ في الاعتبار تعدد الأزواج والموالي

نشر الإسلام خارج مكة:

والغلمان، وهو ما يجعل النسبة المتوسطة للسكان في القرون الوسطى تزيد على ما هو مقرر حاليًا، ففي القرون الوسطى يجب أن يضرب عدد البالغين في (6) أو (7) كما ذكر (بركات) في كتابه عن الرسول الأكرم ويهود الحجاز. ومن هذه الناحية إذا أخذنا القائمة التي رتبها المستشرقون، فإن عدد مسلمي مكة التقريبي يصل إلى ما ذكرناه. نشر الإسلام خارج مكة: هناك خطأ شائع يتعلق بتاريخ نشر الإِسلام في العهد المكي إذ اعتقد البعض أن السكان المسلمين خارج مكة المكرمة كانوا إما صفرًا أو عددًا لا يذكر، بينما يتضح من الروايات التاريخية أن هذا التصور من أوله إلى آخره تصور خاطىء، فالجميع يعرف أن من غير أهل مكة وجد أبو ذر الغفاري وإخوته التسع عشرة، وهم من المسلمين الأوائل للعهد المكي، لكن الحقيقة أن هؤلاء الناس لا يعرفون أن أبا ذر قبل الهجرة إلى المدينة تمكن بجهوده -التي تدل بلا شك على شغفه بالإسلام، وعلى أن ذلك الشغف فاق كل حد- أن يدخل قبيلته كلها في كنف الإسلام، هذا بالإضافة إلى قبيلة أسلم وهي مجاورة لهم وحليفة لهم، فقد صارت في معظمها إن لم تكن بأكملها قبيلة مسلمة، وطبقًا لما تذكره الروايات فإن هاتين القبيلتين ضمتا على الأقل ألفي نسمة، هذا بالإضافة إلى أن من قبائل العرب التي تعرفت على الإِسلام فدخلت فيه في العهد المكي: خزاعة، أزد، شنوة، وأهم بطونها دوس، بنو أسد بن خزيمة، أشعر وعبد القيس وغيرها، وكان بعض هذه القبائل ينتمي إلى منطقة الجنوب، وبخاصة اليمن والجزء الشرقي. ثم لا ينبغي أن ننسى أن معظم أهل المدينة المنورة ممن شرفوا بالإِسلام إنما شرفوا به في العهد المكي، وحتى زمان الهجرة النبوية كان معظم قبائل الأوس والخزرج بالمدينة من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام نتيجة لجهود المبلغين

من مثل أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير العبدري، سفير رسول الله في المدينة قبل الهجرة وطبقًا لقول ابن إسحاق، فلم يكن هناك من قبيلة أوس من هم خارج دائرة الإِسلام سوى أوس مناة الذين ظلوا خارج دائرة الإِسلام حتى غزوة الخندق، وكان كل بيت مدني بيتًا للإِسلام على وجه التقريب. وهناك حقيقة هامة خفيت بصفة خاصة عن الأنظار وهي أن تشكيل الأمة الإِسلامية في المدينة المنورة، وتوسيع الدولة الإسلامية، والنجاح والتوفيق العسكري والسياسي والاجتماعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان من ثمار الكفاح المجيد للعهد المكي، والحقيقة أن المستشرقين المغرضين والمؤرخين من أعداء الإِسلام يحاولون بخبثهم التآمر على هذا العهد المكي بالتقليل من الأثر الديني للحياة النبوية في العهد المكي، وهذه المؤامرة جزء من خططهم التي يريدون عن طريقها إثبات النظرية القائلة بأن الإِسلام لم ينشر تأثيراته الفكرية وتأثيراته الدينية بنفس القدر الذي نشر به قوته السياسية أو العسكرية، وهم يريدون أيضًا أن يوافقهم الناس على نظريتهم تلك. ويرى بعض المؤرخين والمفكرين أن أفكار المساواة الاجتماعية في الإِسلام، وتصور الإِسلام للعدالة الاقتصادية كان سببًا في نشر الإِسلام، بينما الحقيقة هي أن نشر الإِسلام وبخاصة في مكة المكرمة إنما كان مرجعه إلى الجانب الديني، أما الجوانب الأخرى فكانت كلها جوانب ثانوية. رسول أو حاكم: فيما يتعلق بهذا الاتهام وهو أن الرسول يبدو في مكة رسولاً بينما يبدو في المدينة حاكمًا وسياسيًا، فسببه أن المستشرقين وأذنابهم حبسوا أنفسهم داخل التصور الضيق للدين، هذا بالإِضافة إلى افتقارهم إلى الإِحساس والشعور التاريخي أو نقصه لدى البعض منهم -وكذلك راجع إلى تعصبهم أو جهالتهم- ولما كان أكثر موجهي هذه التهمة من اليهود والنصارى الذين يمثل الدين لديهم

دائرة محدودة قاصرة على رسوم العبادات، لهذا فقد نظروا إلى الإِسلام في نطاق نظرتهم إلى دينهم، بينما الإِسلام دين شامل يضم جميع جوانب الحياة سواء ما يتعلق فيها بالعقيدة أو ما يتعلق بالسياسة والمجتمع أو ما يتعلق بالجيش والحكومة أو ما يتعلق بالاقتصاد وغير ذلك، ولا يمكن لأي فرع من هذه الفروع أن تخرج عن دائرة الإِسلام الواسعة. والأصل في الإِسلام أنه لا فرق بين الدين والدنيا، فكل ما يجعلنا نغفل عن الله ونعمل خلاف أحكامه هو الدنيا، وكل ما يدخل في دائرة أحكام الله ومرضاته هو الدين. ومن هنا وجب تحليل ودراسة الحياة المدنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضوء هذه الخلفية لتصور الدين في الإِسلام وهو تصور واسع وشامل. ويُعرف من مطالعة الحياة المدنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام بتشكيل الأمة الإِسلامية وتنظيم الحكومة الإِسلامية طبقًا لما جاء بالقرآن الكريم وطبقًا لأحكام الله، وكل هذا عمل ديني، وكل ما قام به وأنجزه من خلال الغزوات والسرايا كان في سبيل تقوية الإِسلام كما أن دحض الكفر وهزيمته إنما هو من الأعمال الدينية. ورغم كل هذا فالحقيقة الواضحة أمام الجميع أنه صلى الله عليه وسلم خلال كفاحه العسكري، والسياسي لم يصرف النظر ولم يتقاعس عن بذل جهده في سبيل تبليغ الدين ونشره، ويعرف من الروايات أنه بعد الهجرة مباشرة قام بدعوة القبائل اليهودية وبقية فئات العرب من غير المسلمين على السواء، وأرسل جماعات لتبليغ الدين في مختلف المناطق، ومنها سرية مؤتة وسرية الرجيع وسرية ذات الملاح، وغيرها من السرايا التي تلخصت مهامها في نشر الدين. لقد ارتكزت خطته صلى الله عليه وسلم في القيام أولاً بدعوة الفريق الذي يحاربه إلى الإِسلام، وكانت هذه هي السنة التي مضى عليها الصحابة الكرام، وكان

رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام أثناء الحرب والنزال، أو بعد الغزوات. وهناك أمثلة عديدة على ذلك، كما كان يدعو أسرى الحرب إلى الإسلام، وقد تأثر الكثير بحسن سلوك رسول الله ودعوته، فأعلنوا إسلامهم. كم دخل من أناس في الإسلام في فتح مكة، وفي غزوة حنين والطائف!! لقد أسلمت جميع القبائل الجنوبية الشرقية عن طريق الدعوة والتبليغ، وفي عام الوفود، حين قدم ممثلو القبائل من كل أركان الجزيرة العربية، ليعلنوا إسلامهم، وليصبحوا لا مسلمين فقط، بل مبلغين لدين الله، يدعون قبائلهم لدخول الإسلام. وطبقًا لإرشادات رسول الله كان جميع ولاة الحكومة الإسلامية، وقضاتها وعمالها وأعضائها أساسًا من المبلغين والمعلمين، وكان هذا أول فرض واجب على هؤلاء الولاة والحكام جميعًا. والخلاصة أن النظام النبوي بأكمله سواء كان سياسيًا أو عسكريًا، اجتماعيًا أو اقتصاديًا، كان محوره ومركزه هو الإسلام وتبليغ الإسلام، وكان هذا هو السبب في أنه عند حجة الوداع كان في ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عرفات 140000 [مائة وأربعون ألفًا] مسلمًا، وهناك أضعافهم كانوا داخل بيوتهم مشغولين بذكر الله. والحقيقة أن خطة تبليغ دين الله وطريقة التبليغ قد تغيرت طبقًا للظروف الجديدة في المدينة المنورة. واتهام المستشرقين إنما يقوم فقط على أنهم لا يريدون أن يفهموا سواء عن عمد أو عن غير عمد هذه السياسة النبوية ومتغيراتها. واتهامهم الثاني يقوم على أن أكثر القبائل العربية، بالإضافة إلى يهود ونصارى المناطق المختلفة لم يقبلوا الإسلام ورفضوه، بل لم يعترفوا بالتفوق السياسي للإسلام، ولا شك في أن بعض القبائل في المناطق البعيدة والمناطق الساحلية ومناطق الحدود لم تدخل في الإسلام، ولكن لا يمكن أن يقال إن الإسلام لم يصل إليها أبدًا؛ ففي داخل مثل هذه القبائل جميعها كانت تدور معركة بين الإسلام والكفر، إذْ أسلم بعض بطونها وأسرها فيما كان البعض الآخر لا يزال قائمًا على مذهبه القديم، ولما كان معظم هذه القبائل من

المسيحيين لم يسمح تعصب المستشرقين لهم أن يعترفوا بتلك الحقيقة الدالة على أن أهل دينهم من المسيحيين قد قبلوا الإسلام بكل سرور وبكل إخلاص ورضا. والتحليل الكلي يخبرنا أن الأغلبية العظمى للقبائل العربية قد قبلت الإسلام ودخلت في كنفه، ولم يعد خارج هذه الدائرة سوى بعض الفئات والأفراد ممن كانوا يعيشون في المناطق الحدودية. وبديهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مطالبًا من رب العزة آنذاك أن يُدخل أهل الدنيا كلهم في الإسلام، بل كان عليه آنذاك أن يُدخل مجموعة كبيرة من البشر في كنف الإسلام، لتقيم مثالاً عمليًا أمام الناس، وهو ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ رسالته إلى جميع أفراد البشرية. والآن فإن على هذه الأمة الإسلامية مجتمعة تقع فريضة نشر الإسلام وعليهم أن يبلغوا الناس جميعًا به!! بناء الدولة الإسلامية: أظهر المستشرقون والمؤرخون الجدد خطأين كبيرين فيما يتعلق بالدولة والحكومة الإسلامية: الأول هو أن الدولة الإسلامية لم تشمل جميع شبه الجزيرة العربية، وكانت محصورة في مركز أو وسط الجزيرة العربية، والخطأ الثاني هو أن الدولة الإسلامية كانت قائمة على النظام القبلي القديم للعرب، وفيه كانت تفتقد إلى المركزية. وفيما يتعلق بالخطأ الأول، لو استعرضنا التاريخ الإِسلامي فسوف نعرف أنه في المجتمع المدني وبعد الهجرة، فإن الدولة الإِسلامية التي قامت ونشأت كانت منذ البداية دولة مدنية، ثم بعدها ونتيجة للمهمات الأولى التي أرسلها الرسول، ونتيجة لمعاهدات الصلح والتفاهم مع القبائل المختلفة والصحيفة النبوية والغزوات والسرايا، بدأت الدولة تتسع تدريجيًا في جميع الجهات، وبعد غزوة بدر انتشرت وتوسعت بسرعة جهة الحدود الغربية، وإن كان توسعها

وانتشارها قد قلّ قليلاً حتى أيام غزوة الخندق إلا أنه بعد غزوة الخندق، بدأت الدولة توسع حدودها بسرعة ونتيجة لغزوة خيبر، وصلت حدودها من ناحية الشمال إلى مدى بعيد، وبعد فتح مكة وفتح حنين وغزوة الطائف ضمت إليها المناطق الشرقية والقبائل الجنوبية، وبعد خضوع قبائل العرب أصبحت الدولة الإِسلامية تضم شبه الجزيرة العربية بأكملها، واعترفت جميع القبائل العربية والمناطق العربية بتفوق المدينة وسلطتها والدليل التاريخي الذي لا يقبل الاعتراض والشك، هو أن القبائل التي أسلمت قد قبلت مسئولية أداء الزكاة والصدقات، بينما قبلت الفئات غير المسلمة دفع الجزية والخراج، وظلوا بكل إخلاص وإيمان يحافظون على عهدهم في أدائها، هذا بالإضافة إلى أنه فيما يتعلق بجميع المعاملات السياسية والنظامية كانوا يطبقون أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكتفي هنا بذكر مثالين فقط: كان بنو تغلب، ونصارى ويهود القرى الشمالية يؤدون الجزية والخراج، بل عرض هؤلاء دفع الزكاة مضاعفة بدلاً من الجزية، عرضوا هذا بأنفسهم، وهو ما لم يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأهم من ذلك أن نصارى نجران لم يسلموا فقط بأداء الجزية، بل واتفقوا على شرط التوبة من العمل بالربا، هذا بالإضافة إلى أنهم التزموا بالعمل طبقًا للأحكام النبوية الأخرى، وهذه دلالة عملية على ما كان للدولة الإِسلامية والحكومة الإِسلامية من عامل مؤثر. يتأكد من البحث السابق أيضًا أن دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكومته كانت قائمة على أصول مركزية، بينما كان النظام والشكل السياسي للعرب قبل الإِسلام قائمًا على نظام قبلي خالص. ففي النظام الجاهلي كانت كل قبيلة، بل كان كل بطن يمثل بنفسه وحدة سياسية تقوم في داخلها وبطريقة مستقلة بتسيير جميع أمورها الداخلية والخارجية بطريقة حرة لا يتدخل فيها أحد، أما في دولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له السيطرة وكان له الحكم على جميع القبائل

تنظيم الحكومة:

والمناطق المرتبطة بالمدينة المنورة. وكان على كل فرد من أفراد الدولة الإِسلامية أن يطيع جميع الأحكام التي يصدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فالمسلمون كانوا يعتبرون إطاعة رسول الله فريضة دينية تضم أيضًا الوفاء السياسي وكانت فريضة الطاعة هذه قلادة يتزينون بها دائمًا، بينما سلمت الفئات الأخرى من غير المسلمين واعترفت بسلطة الرسول السياسية عليهم. فأطاعوه وخضعوا لأحكامه، وليس هذا فقط بل قام صلى الله عليه وسلم فعين حاكمًا له في جميع أنحاء البلاد، وعلى جميع قبائل ومناطق شبه الجزيرة العربية، حتى يقوم بتنفيذ قانون الله وتسيير نظام الحكم الإسلامي في البلاد، وكان هؤلاء الحكام النبويون على طريقتين؛ حكام مركزيون وحكام محليون. وكان الرسول يعينهم ويغيرهم ويعزلهم، بصفته الحاكم الأعلى، وكان جميع العمال والحكام المركزيين في الأقاليم وفي القبائل ممثلين للحكومة الإسلامية وعمالاً لها، مع أن نظام الحكم النبوي لم يكن ليضم أصول التقسيمات الخاصة بالمسئوليات طبقًا للعصر الحاضر إلا أننا سنعرضه بنفس الشكل الحديث حتى يمكن فهمه. تنظيم الحكومة: أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم نظامًا عسكريًا، ونظامًا مدنيًا، ونظامًا ماليًا، وكانت مسئولية أو منصب القائد الأعلى في نظام الجيش من نصيبه عليه الصلاة والسلام، وكان القائد العام المستقل، ولم يكن في وجوده وجود لأي قائد آخر، إلا أنه طبقًا لبعض الظروف، وانطلاقًا من فكرة تربيته للأمة، فقد كان ينقل مسئوليات جيشه إلى نوابه، مثلما حدث في الغزوات حين كان صلى الله عليه وسلم قائدًا عامًا للجيش قرر أن يعين له بعض النواب للقيادة داخل النظام الذي سمي " خميس " إلى تقسيم الجيش إلى خمس مجموعات: المقدمة، الميمنة، الميسرة، القلب، والساقة، عين رسول الله قادة لجميع أقسام الجيش عدا " القلب "، ومن الواضح أنهم جميعًا كانوا يلتزمون بأوامره وإرشاداته،

ويخضعون لحكمه ودستوره، وفي السرايا كان يعين قائدًا للجيش الإسلامي نائبًا عنه، وقد وصل عدد هؤلاء طوال العهد النبوي إلى 74 قائدًا، وكان تعيينهم يتم طبقًا لما لهم من كفاءة ولياقة، وطبقًا للظروف والملابسات المحيطة بالمواقف ذاتها لا طبقًا لعوامل تتعلق بالقبيلة أو النسب أو الحسب أو ما إلى ذلك، بالإِضافة إلى ذلك فيما يتعلق بتعيين ضباط الجيش الآخرين، فقد عين رسول الله أصحاب الألوية، ضباط الطلائع، العيون، الدليل، أصحاب المغانم والأسرى، أصحاب السلاح والفرس، والضباط محافظي المجموعات. وتم تقسيم النظام المدني إلى نظام مركزي ونظام إقليمي، وداخل النظام المركزي احتل خلفاء الرسول المكانة الأهم، فكانوا يتولون الإشراف على أمور الأمة في غيابه، وبعدهم يأتي المستشارون والكتبة وسفراء النبي، وخص بعض " الضباط " لتصفية القضايا، والوقوف على الأمور الخاصة. وكان للشعراء والخطباء مكانة هامة أيضًا، فقد كانوا يدافعون عن الدولة الإسلامية عن طريق الإِعلام والدعاية الصادقة، وكان أهم مسئول في الأقاليم الحكومية هو الوالي أو الحاكم الذي كان يعين ويرسل من المدينة المنورة، وكان في الأصل ممثلاً للسلطة المركزية لدى أهل القبائل وفي الأقاليم، وقد ورد ذكر تعيين 32 حاكمًا (واليًا) في 26 إقليم أو ولاية، وكان يساعد الحاكم أو الوالي مسئولون محليون وكانوا بصفة عامة من شيوخ القبائل، وعلاوة على ذلك كانت هناك بعض المسئوليات والمناصب التي يتولاها بعض المسئولين في الحكومة المركزية وفي الأقاليم أيضًا مثل الحاجب وغير ذلك، وكانت شئون الحكم تدار بالتعاون بين المسئولين المحليين والإِقليميين ومسئول الحكومة المركزية، وكان جميع هؤلاء يقومون بإدارة شئون البلاد تحت إشرافه صلى الله عليه وسلم وطبقًا لإرشادات الأحكام القرآنية. وفي النظام النبوي كان نظام المالية يضم عدة مناصب ومسئوليات؛ ففى الحكومة المركزية كان هناك عمال الصدقات المركزيين، كما كان هناك في

الأقاليم وفي المحليات كليهما عمال محليون يقومون بتحصيل الزكاة والصدقات من المسلمين وجمع الجزية والخراج من غير المسلمين، ويجمعونها لدى الوالي أو الحاكم، وكان عمال الصدقات المركزيون يقومون بإرسال نصيب الحكومة المركزية -الذي كان يشتمل على الخمس- إلى المدينة المنورة. ومن الواضح أن عمال الصدقات المركزيين كانوا يقومون بإيصال صدقات المناطق المركزية إلى المدينة المنورة وما حولها من مناطق خاضعة لها ومن بين المسئولين كان هناك من يقوم على الإنتاج كأعمال الخرص / الخراص، وأصحاب الحمى [الأول على الزراعة والإنتاج والثاني على المراعي]. ونتساءل ... أي علاقة لنظام الحكم المركزي المفصل هذا الذي مضى على نسق ثابت ومحدود من النظام القبلي للعصر الجاهلي؟ لقد كان رسول الله من حيث كونه مبلغًا عن الله هو الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية جميعها، ولهذا كانت مركزية حكومته ودولته أمرًا لازمًا وشيئًا منطقيًا ظهر ووضح في شكل تطور الإدارات السياسية. أما النتيجة التي وصل إليها المستشرقون، والتي تقول إن حكمه صلى الله عليه وسلم كان مبنيًا على أساس النظام القبلي فقد اشتملت على نتائج خاطئة، حقا لقد استفاد صلى الله عليه وسلم إفادة كاملة من بعض هيئات النظام القبلي القديم. وقد أقرها ما دامت ذات فائدة، إلا أنه أسس دولته وحكومته على أصول المركزية، وأكبر دليل على مركزية النظام هو الوحدة السياسية التي شملت شبه الجزيرة العربية كلها، وهي الوحدة التي تحققت لأول مرة للعرب في ظل الإسلام ومحمد رسول الله، وكانت مركزية الحكم والدولة من ثمار كون الإسلام دينًا وسياسة معًا أي دين ودولة، دنيا وآخرة معًا .. وهكذا وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة سنوات أظلَّ الإسلام جزءًا كبيرًا من العالم، وشملت حدود الدولة الإسلامية منطقة شبه الجزيرة العربية ومناطق أخرى تمتد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

الخلافة الرشيدة

الخلافة الرشيدة (11 - 40 هـ / 632 - 661 م) قيام مؤسسات الخلافة: انتقل الرسول الأكرم إلى الرفيق الأعلى في 12 ربيع الأول سنة 11 هـ 20 يونية سنة 632 م، وبعد وفاته كان من الضروري أن تظهر هذه القضية إلى الوجود وهى: من سيخلفه؟ وما هي حقوقه ومسئولياته؟ وما هي حدود عمله؟ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعين في حياته خليفة له، كان من الضروري أن تبرز هذه القضية، ويثار هذا السؤال، ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان خاتم الأنبياء وخاتم الرسل ولا يمكن لأي شخص أن يكون رسولاً أو نبيًا بعده، ولهذا كان من الواضح للأمة كلها، أنه ما عدا مسئولياته النبوية التي نالها صلى الله عليه وسلم من حيث كونه رسول الله، فإن جميع المسئوليات الأخرى كان لمن يخلفه أهلية القيام بها. لقد ظهر اختلاف في الرأي بين الصحابة الكرام على من يخلفه، وهذه مرحلة ضرورية وحتمية في تطور أي مؤسسة أو إدارة، إلا أن الأمة اجتمعت على ما فيه خيرها ووجدت الحل الأمثل لقضية الخلافة، ووصلت إلى قرار لا يمكن أن يكون هناك ما هو أحسن منه لصالح الإسلام، ففي اجتماع سقيفة بني ساعدة، وبعد بحث كافٍ تم انتخاب أبي بكر الصديق بالإِجماع ليكون أول خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقرب الصحابة إلى النبي وأفداهم له وأكثرهم تضحية ولم يكن في الأمة من هو أحق بهذا الحق منه. ولقد حاول مغرضو المؤرخين والمتآمرون مسخ الأحداث المتعلقة بمؤسسات الخلافة، بداية الخلافة، اختلاف الصحابة الكرام، وانتخاب الخليفة الأول،

بل ووجهوا هجومًا عنيفًا عليها، وقد حاول هؤلاء المؤرخون أن يجعلوا من اختلاف الأمة على من يخلف الرسول صراعًا طبقيًا، وفي رأيهم أن الأمة الإسلامية انقسمت بعد وفاة النبي إلى ثلاث مجموعات متحاربة متناحرة، وهم: المهاجرون، الأنصار، وأصحاب النص والتعيين، وكل طبقة من هذه الطبقات كانت تريد أن تحصر الخلافة فيها، والطبقة الأخيرة كانت تريد أن تجعل من علي رضى الله عنه خليفة بناء على حق الولاية، وعلاوة على هذه الطبقات الثلاث كانت هناك جماعة بني أمية والذين كانوا يرون لأنفسهم شرفًا سياسيًا واجتماعيًا داخل المجتمع العربي، كما كانوا ولا شك يحلمون بأن يتولوا حكم العرب إلا أن التاريخ الإسلامي قد أثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك لأصحابه قضية خلافته، وكانت هذه حكمة عالية نبعت من روح الإسلام. والبحث الذي دار في سقيفة بني ساعدة لم يكن نتيجة تخريب سياسي أو تكتل فئوي بل هو دليل على إبداء جميع الأفكار والنظريات، فالأنصار بما قاموا به من تضحيات يرون أنفسهم أحق بالخلافة بينما ممثلو المهاجرين يريدون أن يحسم الأمر في ضوء المصلحة الأهم للأمة، وفي النهاية يتفق الأنصار مع وجهة نظر المهاجرين في هذا الأمر، وقد ظل الأنصار طوال عصر الخلافة الرشيدة وحتى العصر الأموي والعباسي يبحثون عن الحق من أجل الوصول إليه لا من أجل هوى النفس كما يحاول المؤرخون المغرضون إثباته، وفيما يتعلق بالفئتين المذكورتين أخيرًا (أصحاب النص والتعيين والأمويين) فلم تكن لها وجود كجماعة أو طائفة سياسية في تلك المرحلة التاريخية، أما التكتل فهو أمر وقع في القرن الرابع. ومن الملاحظ أن نظرية المؤرخين السابقة إنما تعرض فقط من أجل إعطاء صورة تعبر عن اختلاف الأمة، ومن أجل تصوير الاختلاف على أنه صراع

طبقي، وذلك لمسخ التاريخ الإسلامي. وهناك كاتب جديد هو " البروفسر خورشيد أحمد فاروق " قام بتشويه التاريخ الإسلامي -عن قصد أو عن غير قصد- إلا أنه للوصول إلى نتيجة يبغيها استخدم مراجع ومصادر خاطئة وروايات غير صحيحة ليصل في بحث من أبحاثه إلى أن ثلاثة من كبار رجال الأمة: أبا بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبا عبيدة الجراح، أعدوا خطة محكمة لتكون الخلافة في قبيلة قريش فقط دون غيرها، على ألا تجتمع الخلافة والنبوة في أسرة واحدة من قريش أي بني هاشم، وأن يُحرم منها أنصار المدينة. وتحليل هذا الكاتب تحليل ضعيف قائم على روايات موضوعة ونتائج فاسدة، وهو ينظر إلى التاريخ الإسلامي كله من زاوية قائمة على العصبية وقد أشار إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار بعض بني هاشم ليتولوا مناصب في الدولة مع أنهم في العهد النبوي كله لم ينالوا سوى أربعة مناصب ومسئوليات عارضة، وهؤلاء هم: حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وأخوه، ونوفل بن حارث، وكانت تلك المسئوليات قيادة الجيش أو شيئًا من هذا القبيل. وفي مقابل ذلك نال غيرهم من بني أمية والخزرج والأوس وغيرهم مناصب أكثر، ومن موالي بني هاشم تولى زيد بن حارثة وابنه أسامة وغيرهما مناصب في القيادة العسكرية، ولأنهم من طبقة الموالي فلم يكن هناك أى دعوى من أي نوع. وجميع بني هاشم وموالي بني هاشم ممن تولوا مناصب في الحكم إنما تولوها بناء على ما يتمتعون به من كفاءة واستحقاق لا بسبب تحيز أو ترجيح على أحد، والكاتب المذكور يذكر من فيء الأراضي، الحدائق السبع التي وهبها مخيرق اليهودي وأملاك قبائل اليهود الذين نفوا من المدينة (بنو قينقاع، بنو نضير، بنو قريظة) والأراضي الزراعية في خيبر وفدك وتيماء ووادي القرى.

ويذكر الدخل والخراج الوارد منها. وصحيح أن أفراد بني هاشم قد نالوا نصيبهم من هذه الأموال مثلهم في ذلك مثل غيرهم، وصحيح أيضًا أنه تقرر نصيب من خمس أموال الغنائم لفقراء بني هاشم، إلا أن هناك بالإِضافة إلى ذلك بعض الحقائق التي صرف الكاتب نظره عنها وتجاهلها، فلو أن نصيبًا من خمس الغنائم كان قد خصص لبني هاشم فإن نصيبين منها قد خُصص لفقراء المسلمين ولشراء الأسلحة، كما أن دخل فيء الأراضى لم تنله بنو هاشم فقط بل استفاد منه جميع طبقات الأنصار والمهاجرين، ثم إن هذه ليست صدقات، إذ كان لها مصرفها الذي تصرف فيه. طبقًا للضرورات، كما أن ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، والطبري وغيرهم وجميع المؤرخين الأوائل وكتاب السوانح، وكل من كتبوا عن الخراج والأموال من مثل أبي يوسف وابن قدامة ويحيى بن آدم وأبي عبيد قاسم بن سلام وغيرهم، تتضح من كتاباتهم أن جميع طبقات المسلمين كانت مستفيدة من جميع الأراضي والأموال. إن النقد التاريخي والتحليل التاريخي يستلزم أن نقوم مع تحليلنا للدخل بتحليل المصرف والنفقات أيضًا، حتى يمكن تحليل الداخل والمنصرف، أو حتى يمكن أن نحلل تحليلاً صحيحًا تجميع الثروة والحصول عليها. ويشهد التاريخ أن جميع الطبقات الغنية بين الصحابة الكرام قاموا بإنفاق نصيبهم (أسهمهم) كلها على ضرورات وحاجات الأمة بدلاً من إنفاقها على أنفسهم وعلى أسرهم، والتحليل الاقتصادي للكاتب المذكور إنما ارتكز على الإفراط والتفريط وأخذ شكلاً متعصبًا، واتجه إلى مسخ المصادر التاريخية وهذا جزء من خطة معينة يهدف إليها. وهذا هو الحال في الاتهام الذي قال فيه: إن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد أعدوا خطة، أو أحاكوا أنواعًا من المؤامرات لقصر الخلافة على قريش

وحرمان أسرة النبوة وأنصار المدينة منها. ولا شك أن صدى نظريات المستشرقين يُسمع واضحًا في فكرة الفج هذا. وقد قال " وليم مور " و" فيليب حتى " و " ديغلري " وجميع المستشرقين تقريبًا بحكاية مؤامرة هؤلاء الصحابة الثلاثة للقبض على الخلافة، كما اعتبروا انتخاب أبي بكر في سقيفة بني ساعدة هو المحصلة النهائية لهذه المؤامرة، كما أن هؤلاء المؤرخين يوجهون التهم أيضًا القائلة بحرمان أنصار المدينة من حقهم المشروع. يقول خورشيد حول أحداث سقيفة بني ساعدة: " قرر قادة الأنصار تعيين سعد بن عبادة الخزرجي خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعقدوا اجتماعًا لإعلان قرارهم هذا، اشترك فيه سعد بن عبادة وبقية أكابر الأنصار ". وبعد أن يذكر خطة سعد بن عبادة يقول: " سأل بعض قادة الأنصار، لو رفض مهاجرو قريش مطلبهم هذا، واستشاطوا لهذا المطلب قائلين بأن الخلافة حق لهم، فماذا يجب على الأنصار أن يعملوا؟ وبعد نقاش طويل وقيل وقال صدر قرار يتلخص في أنه يجب على الأنصار حينئذ أن يطالبوا بأن يكون الخليفة مرة قرشي ومرة أنصاري ". وعندئذ وهنا يقوم المؤرخ المذكور باقتباس خطاب حباب بن المنذر من الطبري وهو الخطاب الذي يتضمن الفقرة الشهيرة: " فمنا أمير ومنهم أمير ". وبعد أن يحيل القارىء إلى غليان الأنصار كرد فعل لرد عمر الفاروق عليهم ردا مفحمًا، يقوم الكاتب فينقل رد حباب بن منذر عن ابن أبي الحديد وكتاب الإِمامة والسياسة، وهو الرد الذي قال فيه يجب إخراج قريش من المدينة والاستيلاء على الخلافة ويزداد النقاش الحاد بين الفريقين ويشاهد هذا أحد قادة الخزرج الممتازين وهو بشير بن سعد فيقوم بتأييد قريش في خطاب يلقيه بين الناس، وحين يرى أبو بكر أن مجرى الأمور يتغير، يقوم بترشيح زميلين له من قريش ليكون أحدهم خليفة، إلا أن عمر يذكر أفضلية أبي

بكر وتفوقه على الجميع، فيشير بالبيعة فجأة، إلا أن بشير بن سعد يسبقه ويبايع أبا بكر، ثم يقوم الفاروق، ومن بعده الصحابة الآخرون، فيبايعون أبا بكر، ويقوم زعيم الأوس أُسيد بن حضير نظرًا لخوفه من الخزرج، يقوم هو وجميع رؤساء قبيلته كلهم فيبايع أبا بكر ولم يبق سوى سعد بن عبادة الذى لم يبايعه. والكاتب يوزع اتهاماته على الجميع فيتهم بشير بن سعد الخزرجي بالحسد والغيرة، ويتهم أُسيد بن حضير وأكابر الأوس بالتعصب القبلي، ويتهم عمر ورفاقه بالتآمر والتخطيط، ويتهم الخليفة الأول باغتصابه حق بني هاشم وعدم التعاون معهم. ويركز الكاتب المذكور كل جهده على نقطة هامة بالنسبة له وهي كيف يثبت أن البحث والجدال الذي دار بين الصحابة في نقاش قضية الخلافة إنما هو اختلاف وتفرقة بين الأمة ومن هنا استخدم كل وسيلة وكل سبيل لإثبات ذلك، فهو يقول بأن بني هاشم قد أجرموا لأنهم تحرزوا من بيعة الصديق، بينما جميع الروايات توضح أن ثلاثة أو أربعة أفراد فقط هم الذين امتنعوا عن بيعته. وأصح رواية من هذه الروايات هي الرواية التي تقول بأن عليًّا رضي الله عنه وجميع رفاقه وأصحابه حين سمعوا خبر خلافة أبي بكر قاموا بمبايعته، وقد قام رضي الله عنه وخرج من بيته في الحال ولم يكمل وضع ثيابه على جسمه حتى لا يتأخر عن البيعة. أما قضية الفدك وأراضي الفىء الأخرى فقد اختلف أبو بكر في البداية مع فاطمة رضي الله عنها في مسألة الوراثة والتركة، وبعد أن تحدث معها وناقشها رضيت وانشرح صدرها، ولم تطلب شيئًا بعد ذلك، وفيما يتعلق بقضية أنصار المدينة، يتضح من الروايات أنهم أنفسهم أحسّوا بضعف موقفهم، وأعطوا الحق لقريش، ليس فقط بناء على أنهم قبيلة رسول الله،

بل لأنهم كانوا يعرفون ما قدموه من خدمات دينية وتضحيات. وكانوا على علم بتلك الظروف والعوامل التي يمكن أن تجعل الجزيرة العربية كلها تعترف بحكم قريش وولايتها، وهذا هو السبب الذي جعلهم يعترفون بأفضلية المهاجرين وتفوقهم حين ذكرهم أبو بكر بدقة الموقف وحساسيته، ولا شك أنهم كانوا في البداية يتمنون أن يشاركوا في السلطة العليا عن طريق اقتراحهم الذى يهدف إلى المصالحة، وهو الاقتراح القائل: " فمنكم أمير ومنا أمير "، وخورشيد جعل هذه الفقرة أمامه، ورأى أنها تدل على انتقال السلطة بين قريش والأنصار، وأنها تعني المشاركة في الحكم والسلطة، ثم هو من ناحية أخرى يرى أن اقتراح بشير بن سعد الخزرجي وأُسيد بن حضير الأوسي مخالف للأنصار وفي صالح قريش، ومن ناحية أخرى يدعي أن جميع قادة الأنصار أرادوا أن ينصبوا سعد بن عبادة الخزرجي خليفة، وحين لم يوفقوا في ذلك لم يرضوا فقط بالخليفة الأول، بل اتبعوا سياسة عدم التعاون معه طول مدة خلافته. إن الشعور التاريخي والاحساس التاريخي للكاتب لم يوقفه ولم يمنعه من الحصول على معلومات من مراجع ضعيفة متحيزة زائفة، قدم على أساسها نظرياته فجاءت فاسدة، إن المؤرخين يتفقون جميعًا على أن ابن أبي الحديد واليعقوبي من مؤلفي الشيعة، لهذا فرواياتهم في حق الخلفاء الثلاثة غير مقبولة أساسًا، شريطة ألا تتصادم مع المراجع الأخرى. والأمر الثاني أن يتفق المؤلف مع روايات كتاب " الإمامة والسياسة " وهو كتاب مزيف، وحين يحيل القارىء إلى روايات الطبري فهو يأخذ جانب التحيز ولا يتبع أسلوب الحيدة، إنه يأخذ الروايات التي تحقق مطلبه فيذكرها ويصرف نظره ويتجاهل عن الروايات التي تخالف نظرياته، وأكبر جرم في كتاباته التاريخية هو أنه ينسب إلى أفراد وطبقات الأمة أعمالاً ونوايا لا يمكن أن يجد مصدرًا أو مرجعًا

يؤيدها، ثم إنه يقوم بتوجيه اتهامات سطحية ساذجة ركيكة إلى الصحابة الكرام خلال تحليله التاريخي، إن دلت على شىء فإنما تدل على ميوله الشخصية وما طبع عليه. والهدف الأساسي للكاتب المذكور هو أن يوجه الطعن لأهم واقعة في التاريخ الإسلامي، وهي الواقعة التي خرج منها الإسلام منتصرًا، ونجا مما أحيك له من مؤامرات. بعد أن اتضحت الصورة الأصلية من خلال عرض وتحليل جميع المصادر التاريخية، اتضح لنا أن فاجعة وفاة الرسول كانت صدمة مفاجئة ومحيرة، لدرجة أن عمر الفاروق هذا الرجل صاحب الإِرادة الحديدية وصاحب الفكر الثاقب قد أصيب بالحيرة والدهشة، كما اجتاح المدينة كلها شعور غريب، وأبو بكر الصديق يسمع بخبر وفاة الرسول فلا يصدق، وبعد أن يصدق خبر وفاة النبي، ألقى خطبته الشهيرة بالمسجد النبوي، تلك الخطبة التي أعادت للناس هدوءهم وتفكيرهم، ثم بدأ تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكفينه تمهيدًا لدفن جسمانه الطاهر وفي تلك الأثناء كان اجتماع سقيفة بني ساعدة حيث يدور النقاش في قضية من يخلف رسول الله. وحين طال النقاش وشعر النعمان بن بشير الخزرجي بحرج الموقف، خرج لإخبار المهاجرين بألا يتخذوا ما يسىء للموقف أكثر، وحضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة مع بعض المهاجرين الآخرين ووصلوا إلى سقيفة بني ساعدة حتى لا يسمحوا للموقف بأن يطول أكثر، وتشهد الروايات بأن جموع الأنصار أظهروا سرورهم بوصولهم هناك، فعرض الأنصار وجهة نظرهم، وقدموا الدلائل المؤيدة لحقهم، فامتدح أبو بكر مآثرهم وتضحياتهم التي قدموها للأمة، إلا أنه بناء على عدة أسباب ودلائل فإن لقريش الأفضلية، واتفق الأنصار على ذلك، ولما قدم الأنصار اقتراحهم على أساس جعل الخلافة مشاركة بين قريش

فتنة الردة:

والأنصار، ورأى أبو بكر أن هذا أمر لا يمكن العمل به، قدموا اقتراحًا بديلاً؛ وهو أن تكون الإمارة في قريش والوزارة في الأنصار، ثم أُسمعوا إرشاد النبي أن يكون الإمام والحاكم من قريش. وحين سمع الجميع الإرشاد النبوي خفضوا رؤوسهم، وحينئذ قام أبو بكر فأخذ بيد أخويه من المهاجرين، واقترح البيعة لأحدهم، إلا أن عمر أعلن أن لأبي بكر الأفضلية، وأشار بيده طالبًا أن يبايع الجميع أبا بكر، وعليه قام جميع الصحابة الموجودين فبايعوا أبا بكر، وطبقًا لرواية أخرى فإن عمر ذكر فجأة موضوع البيعة هذا، إذ لم يكن هناك أي تفكير مسبق في عقد الخلافة على أبي بكر، وبعدها صعد أبو بكر إلى المنبر في المسجد النبوي لأنه لم يشأ فقط أن يحصل على تصديق الأمة الذي حصل عليه، بل ليسمح وليأذن للأمة بأن تنتخبه، لأنها لم تكن قد انتخبته بعد. وهكذا أجمعت الأمة على مبايعته بالخلافة. فتنة الردة: بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أُعلن العصيان في بعض مناطق الجزيرة العربية ضد الإسلام ومركز الإسلام " المدينة "، وهو العصيان الذي أطلق عليه المؤرخون المسلمون " الردة " أو " الارتداد ". وقد حاول المستشرقون بصفة عامة، والمؤلفون المحدثون بصفة خاصة، اعتبار فتنة الردة هذه عصيانًا سياسيًا ورغبة تحرر طبيعية لدى قبائل العرب، ورغبة في التحرر من التسلط السياسي والعسكري لخلافة الصديق وسيطرة المدينة. والمستشرقون -طبقًا لأسلوب فكرهم الخاص- قالوا إن هذه الحركة كانت رغبة ومحاولة للحصول على الحرية، ويرون أن إطلاق اسم " ردة " أو " ارتداد " عليها إنما هو خطأ، وذلك لأنه إذا أطلقنا هذا الاسم

على هذه الحركة المعادية للإسلام فإنه يستلزم أن يكون العصاة قد أسلموا قبلاً ثم تركوا الإِسلام بعد وفاة النبي. والمستشرقون لا يريدون أن يعترفوا أن شبه الجزيرة العربية كلها كانت خاضعة لراية الإسلام في العهد النبوي، ففي ظنهم أنه لم تكن هناك قبيلة مسلمة سوى مهاجري قريش وأنصار المدينة وبعض القبائل في وسط الجزيرة، أما بقية القبائل العربية فقد قبلت بالتفوق السياسي للمدينة والرسول، وبعد وفاته أرادت أن تتخلص من هذا الخضوع، ومن هنا حاولت أن تتحرر من سيطرة المدينة وتنال استقلالها القديم. ولم ينكر المستشرقون فقط أن قبائل المنطقة الحدودية (بالجزيرة العربية) قد قبلت الإِسلام، بل إن من يمشون في ركابهم من مثل خورشيد أحمد فاروق ينكرون أيضًا أن قبائل المنطقة المركزية (وسط الجزيرة) والعرب الوسطى قد قبلت الإِسلام ويقول: " كان أول هدف عسكري خطير، وأقرب هدف عسكري خطير، وأهم هدف عسكري خطير أمام أبي بكر هو نجد، حيث كانت تسكن قبائل ذات حال حسن إلى حدٍّ ما، ومتمدنة ومتحدة، منها عامر وهوازن وسليم وفزارة وعبس وذبيان وأسد وطيىء وتميم وحنيفة، وكانت في عددها وقوتها أكثر من القبائل الأخرى. ومن هذه القبائل لم يدخل في الإِسلام إلا خمسة أو عشرة في قبيلة ما وفي قبيلة أخرى خمسون أو مائة ولا أكثر من ذلك، وكان السواد الأعظم منهم إما أنهم خاضعون للمدينة ويعارضون الصلاة والزكاة، وإما أنهم خضعوا للمدينة خضوعًا اسميًّا فقط، حتى يحفظوا على أنفسهم استقلالهم، وكانوا على استعداد لتحمل أداء فريضة الصلاة بشرط إسقاط الزكاة ". والكاتب المذكور في بيانه هنا، بالإضافة إلى أنه خلط وأخطأ في ذكر منطقة السكن الجغرافي للقبائل وعدد آخر من الأمور، فالأهم من ذلك أنه ذكر أن الإسلام لم ينتشر بين القبائل المذكورة، وإذا انتشر فقد انتشر على نطاق ضيق جدًّا.

ونسوق مثالاً واحدًا هنا دليلاً على خطئه، فطبقًا لبيان ابن إسحاق فإن بني سليم فقط قد أعدوا ألف مجاهد تقريبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمهمة فتح مكة. فهل كانوا جميعًا غير مسلمين؟ ثم إنه ذكر أن هوازن وطيئا وغيرهم لم يكونوا مسلمين، بينما كانوا قد أسلموا. وهوازن لم يشاركوا في الردة. ودعوى المؤرخ المذكور هي في الواقع على عكس الواقع، أي أن السواد الأعظم كان من المسلمين، وأن عددًا قليلاً كان غير مسلم، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نجحوا في التشويش على الآخرين. والخطورة الأكثر هنا هي تلك الحملة الخطرة التي قادها الكاتب خورشيد فاروق، فقال عن القبائل العربية إنها لم تكن مع المدينة ومع الإسلام بإيمان القلب وبإخلاص النية وصدقها، بل كانت معها نفاقًا وخوفًا من الخليفة، أو بسبب علاقة قرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منة. ثم يقول الكاتب المذكور: " ظلت قريش مكة وثقيف الطائف وبعض فروع قبائل نجد وعدة قبائل من قبائل المناطق المحيطة بالمدينة، بالإضافة إلى مزينة وجهينة وغفار وأسلم وأشجع وكعب، وهي القبائل التي خافت على نفسها عقاب الخليفة العسكري، أو كانت تربطها مع رسول الله قرابة أسرية، أو نتيجة لإحسانه وفضله، هذه القبائل ظلت تمسك بتلابيب الإسلام، أما بقية العرب فقد تغيرت اتجاهاتها وتغير لونها وعقدت العزم على التحرر من سيطرة المدينة ". وطبقًا لبيان الكاتب المذكور لم يقبل أحد الإسلام في العهد النبوي بإخلاص من كل قلبه أو بفهم وإدراك، كما أن أحدًا لم يشأ أن يظل قائمًا على الإسلام بعد وفاة الرسول بإخلاص وإيمان، لقد قام عدي بن حاتم الطائي بإدخال قبيلته الباغية وبقية القبائل، وبخاصة بعض جماعات جديلة وأسد إلى حظيرة الإسلام بعد حرب بزاحة، إلا أن البروفيسر فاروق يرى أن عودتهم

إلى الإسلام كانت بسبب مصلحة سياسية وضغط عسكري أو بسبب الخوف والعقاب. كما قرر الكاتب المذكور أن الثلاثة الذين ادعوا النبوة، مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وأسود العنسي، هم رؤساء أكبر قبائل البلاد، وذكر أنه نتيجة لسوء نواياهم وقلوبهم السوداء انفصلوا عن رسول الله وتحرروا من سيطرته، كما ذكر أنهم كانوا أكبر منافسين للنبي صلى الله عليه وسلم، واعترف أيضًا بنبوتهم، كما اتهم بني هاشم والأنصار بعدم التعاون في حروب الردة، وعدم اشتراكهم في الجهاد الإِسلامي، بينما يذكر من ناحية أخرى أنه في حرب اليمامة اشتركت جماعة عددها أربعمائة أو أربعمائة وخمسون من الأنصار، كما يرى أيضًا أنه من بين الألف ومائتي شهيد من شهداء حرب اليمامة لا يزيد عدد المهاجرين والأنصار عن ثلاثمائة وهكذا نرى البيانات والمعلومات التي ساقها خورشيد فاروق مليئة بالتضاد والتناقض في كل السطور وفي كل الصفحات. يريد المستشرقون ومن والاهم في الهند من مثل خورشيد أحمد فاروق، أن يثبتوا من خلال حروب الردة أن الإِسلام قد راج في العهد النبوي بين القبائل المركزية فقط، وأن بقية القبائل في نجد وتهامة واليمامة لم تدخل الإسلام، وإن كانت قد قبلت الإِسلام فإنما كان ذلك في الظاهر فقط، أما قبائل مناطق الحدود فكانت جميعها على غير الإسلام، وما حدث أصلاً كان عصيانًا سياسيًا لا ردة، لأنهم لم يسلموا أصلاً، وهذا العصيان كان يهدف إلى الحصول على الحرية الإقليمية، والتخلص من سيطرة المدينة، والتحرر من العبء الاقتصادي الملقى على كاهلها من قبل المدينة، ولقد أحاط العصيان السياسي بالبلاد جميعها ولم ينج منه سوى بعض المناطق المركزية، ولم يقم الخليفة الأول بسحق العصيان بحد السيف، بل أوقع العديد من المظالم الشديدة في المتمردين وأجبرهم بالقوة على قبول الإِسلام.

يفهم من مطالعة التاريخ الإِسلامي أن النظريات السيئة لهذه المؤلفات كلها اتهامات خاطئة، إذ إن جميع العرب قد أسلموا في العهد النبوي سوى سكان بعض المناطق القليلة للقبائل التي تعيش على الحدود، ولم تقبل قبائل هوازن، غطفان (عدا فزارة)، سليم، مزينة، جهينة، أسلم غفار، طيىء (عدا عوت وجديلة) خزاعة، كنانة، ثقيف، قريش، أنصار المدينة الأوس والخزرج أزد، أزد شنوءة، عبد قيس، وتميم (على الأقل ثلاثة فروع) وعدد آخر من القبائل، لم تقبل هذه القبائل الإسلام فقط وتقيم عليه، بل إن جميع أفرادها وشيوخها قد ظلوا على الإسلام في زمان تلك الفتنة، والقول بأن إسلام هذه القبائل كان إسلامًا ظاهريًا أو للعرض فقط أو بسبب من الأسباب الأخرى، إنما هو بمثابة مزاح على صفحات التاريخ الإسلامي، لقد سقوا الإسلام بدمائهم في حروب الردة. ويحاول خورشيد فاروق ومن هم على شاكلته من الأساتذة أن يضعوا هؤلاء الذين ادعوا النبوة في صف واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما يفهم من الروايات أن الذين آمنوا بأقوال أولئك المتنبيين قد عادوا فكذبوا دعواهم تلك، ولم يبق معهم سوى من جمعتهم بهم العصبية القبلية. لقد قام أبناء اليمن الذين ترأسهم فيروز الديلمي بالجهاد ضد الأسود العنسي، وقضوا عليه وسحقوا حركته، وقامت بعض جماعات قبيلة كل من طليحة الأسدي ومسيلمة الحنفي بالاشتراك في الجهاد الإسلامي، لقد كانت هذه فتنة الردة أساسًا، اشتركت فيها فقط بعض القبائل التي لم تتلق تعليمًا صحيحًا ولا تربية صحيحة. لقد كان للعوامل الاقتصادية والعوامل السياسية دخل، إلا أن هذا لا يمكن أن يتطور ليتخذ شكل العصيان ضد الدين، لقد أرادت بعض الفئات التخلص من أداء الزكاة، إلا أنها كانت صادقة في مطلبها هذا، إذ ستقيم بقية أركان

الدين؛ لأن هذه الفئات فهمت خطأ أن الزكاة واجبة فقط في حياة الرسول، ومصادرنا فيما يتعلق بهذه الفتنة قد حللت الفتنة تحليلاً صحيحًا حين قسمت المرتدين إلى طبقات ثلاث: الطبقة الأولى: مانعو الزكاة. أنكرت هذه الطبقة إعطاء الزكاة، ولم تنكر أي ركن آخر من أركان الدين. الطبقة الثانية: شملت أولئك الذين تركوا الإسلام وارتدوا. الطبقة الثالثة: شملت من ادَّعوا النبوة ممن كانوا يحلمون بتحقيق سلطة سياسية في ظل ادعائهم النبوة. وفيما يتعلق بدائرة فتنة الارتداد والعصيان، فيمكن أن تحدد عن طريق منازل الجيوش الأحد عشر التي كان أبو بكر قد أرسلها لقتال مختلف المرتدين والعصاة وقادة القبائل التي ظهر فيها مدعو النبوة. وقام الخليفة الأول نفسه بالاشتراك مع الجيش الذي قام ضد العصاة في رندة وذي القصة، وكانوا قد تجمعوا في مناطق مختلفة هناك، في محاولة للهجوم على المدينة إن وجدوا فرصة لذلك، أما باقي الجيوش فقد قام خالد المخزومي لمحاربة جيش بقيادة طلحة الأسدي كما أرسل عكرمة بن أبي جهل المخزومي وشرحبيل بن حسنة الكندي لقمع قبيلة بني حنيفة باليمامة الذي كان رأسها هو مدعي النبوة مسيلمة الكذاب، كما أرسل عمرو بن العاص لقتال المرتدين من قبائل قضاعة وكلب، وأرسل طريفة بن حاصر السلمي لمواجهة بني سليم، كما أرسل خالد بن سعيد الأموي لقتال المرتدين في المناطق الغربية من حدود الشام، بينما أرسل مهاجر ابن أبي أمية إلى اليمن، وأرسل السويد بن مقرن إلى تهامة اليمن، وأرسل عرفجة ابن هرثمة إلى مهرة، وأرسل حذيفة بن المحصن الأزدي إلى عُمان وعلاء بن حضرمي إلى البحرين. يثبت من التحليل السابق أن المناطق الحدودية فقط هي التي أججت نيران

الفتوحات الإسلامية

الردة، أما العرب الوسطى فقد ارتد منها منطقة أسد وطيىء فقط، وهناك حقيقة هامة أن من بين القبائل المرتدة عددًا كبيرًا جدًا من المسلمين المخلصين الذين حافظوا على عقيدتهم بدمائهم وقت المحنة وأعلنوا الجهاد ضد المرتدين من قبيلتهم بعد قدوم جيوش الإسلام، ولهذا فمن الخطأ أن نقول بأن الردة أو الارتداد أو العصيان شمل العرب كلهم. والنظرية الأكثر خطأ هي تلك التي تقول بأن الخليفة الأول قد نشر الإسلام بحد السيف حتى أدخل العرب في الإسلام. وإنه ليثبت من خلال دائرة الإجراءات العسكرية والنطاق الذي تناولته العمليات العسكرية أنه لا يمكن إجبار العرب عن طريق القوة بقبول الإسلام، وتثبت الوقائع التاريخية أن عددًا من العصاة والمرتدين قد دخلوا دائرة الإسلام باقتناع ثم إن الإسلام لا يقول أبدًا بإجبار الناس بالقوة على اعتناق الدين. ومن هنا فإن التحليل التاريخي الذي يحاول المستشرقون والمؤرخون الجدد نشره بين الناس إنما بني على روايات خاطئة وأدلة ممسوخة واستنتاجات فاسدة. الفتوحات الإسلامية الدوافع والأهداف كما قام المستشرقون والمؤرخون الجدد بالبحث عن الدوافع والأهداف الاقتصادية للفتوحات الإسلامية في العهد النبوي، فإنهم يقومون أيضًا بالإشارة إلى الأسباب والعوامل الاقتصادية والعسكرية والعوامل الأخرى التي أدت إلى الفتوحات الإسلامية للبلاد المجاورة كالعراق والشام ومصر وإيران وغيرها في عهد الخلافة الرشيدة، إلا أن الحكاية الأعجب هي التي نسمعها منهم، وهي بداية الفتوحات الإسلامية بعد حروب الردة.

يرى أكثر المؤلفين أنه في زمان حروب الردة تحولت الدولة الإِسلامية كلها إلى معسكر للجيش، لأنه كان من الضروري إخضاع الجزيرة العربية كلها من جديد لسيطرة المدينة المنورة، ولهذا استلزم الأمر إجراءً عسكريًا قويًا. وعلى نطاق واسع حتى يمكن أن يجعل الجزيرة العربية كلها تابعة للحكم الإسلامي. وكان من اللازم توجيه المسلمين بل القوى العسكرية للقبائل العربية التي تفوقت بما لها من أسباب مختلفة إلى خارج الجزيرة العربية، وأصبح البحث عن سبيل أمرًا ضروريًا، وإلا عادوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام من حروب داخلية، ولهذا فكر الخليفة الأول في أن تستفيد الأمة الإسلامية من هذه القوة العسكرية الفائضة، وبدلاً من أن تستخدم في أمور غير نافعة رأى توجيهها إلى حدود العراق ثم الشام وفتح جبهات قتالية هناك. ويرى " فيليب حتى " ومن يوافقه في رأيه من المؤلفين أن الخليفة الأول لم تكن لديه في البداية أية خطة محددة مدروسة لفتح المناطق المجاورة، والخطة تتلخص في القيام -عن طريق مهمات بسيطة تتركز على النهب والسلب والاغارة- باستنفاذ القوة العسكرية للعرب من ناحية والحصول على أموال الغنائم من ناحية أخرى، وبعد فتح تلك المناطق ثم ضمها إلى الدولة الإسلامية، وهو ما لم يكن متصورًا لذاته من تلك المهام، ولكن حين انتشرت هذه الارساليات العسكرية بسرعة كبيرة، خرج زمام المحاربين من يده، وحين بدأت الفتوحات فجأة تم وضع خطة منظمة لها، وهو ما نتج عنه قيام الدولة العربية. إن دوافع الفتوحات الإسلامية أو نظرية بدايتها تلك وعرضها بهذا الشكل إنما هو خليط من الصحة والخطأ، فصحيح تمامًا أن الدولة الإسلامية في البداية لم تضع خطة منظمة للفتوحات، كما أنها لم تكن ترغب في مَدِّ حكمها ونشر سلطانها على البلاد المجاورة، إلاّ أن تحليل أسباب بدايتها هو تحليل خاطىء.

لقد وضح من التحليل السابق لحروب الردة أن الدولة الإِسلامية لم تتحول إلى معسكر أو مخزن للسلاح. وتحليل قوتها العسكرية يوضح أن عدد الجيش الإِسلامي كان لا يزيد عن 15 أو 20 ألفًا، ثم إن من بينهم جنود معظم المهمات، وهو ما أضاف إلى القوة العسكرية. فمثلاً إن الزيادة في عدد جيوش خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وشرحبيل بن حسنة كانت نتيجة لاشتراك جند المهمات، وبعدها فإن جنود القائدين الأخيرين قد زادوا في القوة العددية للمهمات والمرسلة إلى العرب الجنوبيين، وقد تجاهل المستشرقون هذه الحقيقة، وهي أنه في العهد النبوي لم يكن هناك جيش مستقل منظم، هذا بالإِضافة إلى أن أكثر المجاهدين المشاركين في المهمات كانوا قد عادوا إلى مناطقهم أو إلى قبائلهم بعد انتهاء تلك المهمات. وتوضح بعض الروايات والمراجع والمصادر أنه في الدور الأول للخلافة الرشيدة على وجه خاص، وفي الفترات التالية بوجه عام، ظهرت قضية نقص عدد الجنود، وقد تعرضت بعض الجبهات لأزمات شديدة نتيجة هذا النقص. وقائد بني بكر بن وائل المثنى بن حارثة الذي يتهمه المؤرخون بتهمة قيامه بالهجوم العسكري على جبهة العراق، اضطر إلى أن يكتب عدة مرات إلى المدينة بسبب نقص الجنود، وفي النهاية اضطر إلى أن يأتي إلى المدينة. ولو سلمنا بنظرية الإِرساليات الحربية، واستنفاد الطاقة العسكرية الزائدة، فإن النتيجة المنطقية التي نستخلصها هي ألا يجب أن تكون هناك شكوى من قلة عدد القوة العسكرية، وكان يمكن السيطرة على هذه المشكلة بسهولة. ثم إذا كان الهدف هو استنفاد الطاقة العسكرية الزائدة، فقد كان يكفي فتح جبهة واحدة، إلا أن فتح جبهتين في وقت واحد، ومواجهة مشكلة قلة عدد الجند لا يمكن أن يكون دليلاً على بعد النظرة العسكرية، وهكذا فهذه النظرية بأكملها فريسة للتضارب، ولا تؤيدها الوقائع التاريخية أبدًا. صحيح أن بداية

الفتوحات الإسلامية كانت مع حروب الردة، غير أن لها صورة أخرى غير تلك الصورة. لقد قام العديد من المرتدين والمتمردين باللجوء فقط إلى المناطق الخاضعة للعراق وإيران، بل بدأوا أيضًا في الإغارة على المناطق الإِسلامية، وكانت الحكومات هناك تعضدهم وتساندهم مساندة واضحة، وتقوم بحمايتهم، وفي تلك الحالة أصبحت جبهة العراق أشد خطرًا. ومن الواضح أن القبائل الموالية للمدينة كانت ترد على الغارات الموجهة ضد حدودها. وقد طلب المثنى بن حارثة الشيباني الإذن له بالهجوم على المناطق المغيرة، وذلك للوقوف في وجه تلك العمليات العدوانية على حدود الدولة الإِسلامية، ولم يسمح له في البداية، وفي النهاية وحين عرف الخليفة الأول بخطورة الموقف سمح له باتخاذ الإجراءات المناسبة، وقد وجد خالد بن الوليد فرصة في حروب ردة اليمامة، فصار في ركابه في العودة، وصدر الحكم بالتقدم ناحية الحدود العراقية لمساعدة المثنى ومن معه من المجاهدين، وهكذا بدأت الفتوحات على الجبهة العراقية. وكانت هذه تقريبًا هي الظروف التي ظهرت على جبهة الشام، وكرد فعل لمهمة أسامة قامت الحكومة البيزنطية بالإِعداد للهجوم على الدولة الإِسلامية، ثم نتيجة لحروب الردة قام عمرو بن العاص وخالد بن سعيد بسلسلة من الإجراءات التأديبية ضد المرتدين والبغاة من قبائل قضاعة وكلب وغيرها، ونتيجة لذلك بدأ الاصطدام مع القبائل الموالية للإِمبراطورية البيزنطية. وبناء على المخاطر المتوقعة من جانب الروم قام أبو بكر الصديق بالتشاور مع الصحابة الكرام بإرسال أربع مهمات صغيرة لدرء أبواب هذه المخاطر بقيادة يزيد بن أبي سفيان الأموي، وأبي عبيدة بن الجراح الفهري، وشرحبيل بن حسنة الكندي، وعمرو بن العاص السهمي، ولم يزد عدد جندهم مجتمعين على 27 ألفًا، ولم يكد هؤلاء يبدأون مهماتهم حتى قام هرقل إمبراطور

البيزنطيين -وكان في مدينة حمص آنذاك- بإرسال جيش جرار لمواجهة المسلمين، وأصبح الوضع على جبهة الشام دقيقًا للغاية، فأمر أبو بكر خالد ابن الوليد بالتوجه إلى جبهة الشام على الفور، لأنه لم يكن لديه جيش بالمدينة المنورة من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تتخذ الإمبراطورية الإيرانية أية إجراءات عسكرية بصورة منظمة حتى ذلك الوقت، ونتج عن ذلك فتح باب الحرب بصورة كاملة على مصراعيه على جبهة الشام، وقد قامت الحكومة الإيرانية بإعلان الحرب بصورة منظمة، ففتحت بذلك جبهة ثانية، وهكذا بدأت الفتوحات الإسلامية. وهناك عدة أسباب تفسر ما مضت عليه الفتوحات الإسلامية من سرعة، وما كانت عليه من اتساع وفتوحات في وقت واحد. من بين هذه الأسباب، الحالة السياسية للإمبراطوريتين الإيرانية والبيزنطية المتدهورة، بالإضافة إلى سوء وفساد الوضع الاقتصادي والتمزق والتفتت الاجتماعي والديني، فقد بدأت عظمة هاتين الإمبراطوريتين في الزوال، وهي العظمة التي كانتا عليها في زمان قسطنطين وخسرو برويز، ونتيجة لما أصابهما من انحطاط وتدهور أصبحتا عاجزتين عن مواجهة الإمبراطوريات القوية، ولكن على الرغم من كل هذا فقد كانتا أقوى إمبراطوريات العالم حينذاك، وكانتا أفضل من العرب من ناحية المهارة الحربية والعسكرية وكثرة الجند والسهولة والانسياب في ميدان الحرب، وكذلك من ناحية إعداد وتجهيز الجند بالأسلحة والعدة والعتاد، وكذلك في جميع الإدارات والأقسام الأخرى المتعلقة بالجيوش، ومع هذا فيرى بعض المؤرخين أن التكتيك الحربي للعرب تفوق على ما لدى الروم والإيرانيين، فقد استخدم العرب الأسلوب الحربي المؤثر في ميدان غرب آسيا وشمال أفريقيا، وكانت لهم براعة ومهارة في ركوب الخيل والجمال، وهو ما لم يتوفر أبدًا لدى الروم. ومن الممكن أن يكون " التكتيك " العسكري للعرب قد تفوق في جهة

ما، أو في مرحلة ما من مراحل الحرب، إلا أنه لم يثبت بأي حال من الأحوال تفوق العرب في المجالات الحربية التي سبقت الإِشارة إليها، وعلى الأقل فإن مصادرنا التاريخية تثبت وتؤكد تمامًا تفوق التكتيك العسكري للجيوش المعادية. وهناك سبب آخر يقول بأن نهاية إمارات لخم وغسان، وهي الإمارات التي كانت تقوم بدور Buffer States، أي الدول المصدة أو التي تتلقى الصدمات الأولى بين العرب والإِمبراطوريات المجاورة، مما سهل للعرب إحكام السيطرة على المناطق التي دارت فيها المعارك. والقول بأن العرب كانوا ينظرون بطمع إلى تلك المناطق يتعارض مع الحقائق التاريخية، وهو قول يزيد عليه قول آخر بأنهم تفوقوا في تلك المناطق لأنها مناطق صحراوية، مع أن الجيوش الإِسلامية خاضت معارك شرسة جدًا على الجهتين العراقية والشامية، وتحملت أحيانًا جراح الهزيمة، والضغط المستمر من قبل الجيوش المعادية، ثم هذه حقيقة أن جوًا عسكريًا وسياسيًا لم يكن قد بدا على الجبهتين. وهناك سبب من أسباب الفتح، وهو أن أهل البلاد المفتوحة كانوا يئنون تحت ثقل المتاعب الاقتصادية والسياسية وغيرها، فقد اعتبروا الفاتحين المسلمين منقذيهم مما هم فيه، فرحبوا بالإِجراءات العربية، وتعاونوا مع الجيوش العربية، وهناك سبب آخر مكمل لجملة هذه الأسباب، فقد قيل لقد ذاقت القبائل العربية ذاتها حلاوة النصر الذي تحقق من خلال الفتوحات العربية، وهي القبائل التي كانت تعيش في المناطق الحدودية، ولهذا تعاونت مع العرب الفاتحين من أجل العصبية القبلية والعرقية والفوائد المادية. وليس بالمصادر التاريخية ما يؤيد هذين السببين أيضًا تأييدًا كاملاً، فقل أن تجد في مصادرنا أمثلة وشهادات تؤيد هذا الأمر، بل لا يوجد أبدًا في بعض الأماكن ما يؤكد أن السكان المحليين قد أيدوا الجيوش الإِسلامية، بل هناك شهادات واقعية فعلية تدل على عكس ذلك، وهو وصول طلبات عديدة

من الجبهات للمدينة المنورة طلبًا للمدد والعون، وفي معظم الأوقات كان هذا العون مجرد عدة مئات أو ألف جندي، وفيما يتعلق بمسألة الترحيب العام بالفاتحين المسلمين من جانب السكان فهذا أمر صحيح، إلا أنه من الطبيعي بل من الشائع ألاّ يشترك السكان المدنيون في القتال، وبلا شك أمد هؤلاء السكان المسلمين بالعون المعنوي، وهو ما حُرمه القادة والجنود الرومان والإيرانيون. ومن الواضح أنهم تأثروا كثيرًا بالأخلاق الإسلامية. لقد حاول فيليب حتى أن يستطلع ويحلل الفتوحات الإسلامية وكأنها صدام بين الشرق والغرب، ويكتب ناصحًا بوجوب تحليل الفتوحات الإسلامية بتلك الخلفية، إِذ إن الشرق الأوسط القديم كان توّاقًا إلى استرجاع مناطقه المحتلة، والمشرق تحت تأثير الإسلام بدأ يرى حلمه القديم من جديد، فأراد أن ينزع عن نفسه رداء التسلط الغربي الذي استمر لآلاف السنوات. وهو يقول: إن الفتوحات الإسلامية كانت أيضًا عاملاً من عوامل الاستغلال الإقليمي، وهذه النظرية الخاصة بالفتوحات الإسلامية هي بالمصطلح الحديث النظرية التفسيرية، إلا أن زمان الفتوحات الإِسلامية وهو القرن السابع الميلادي لم يشهد تصور الشرق والغرب كما يريد المؤرخ المذكور تفسيره، كما أن الفاتحين المسلمين والحكام المسلمين لم يَرد أبدًا على أذهانهم التصور القائل بتخلص الشرق من تسلط الغرب والاستقلال الإِقليمي واسترجاع السلطة الضائعة. والحقيقة أن السبب المجرد للضغط على أهمية هذه الأسباب والعوامل والتأكيد عليها مرة بعد مرة، إنما يهدف إلى إخفاء العامل الأساسي للفتوحات الإسلامية. والواقع أن السبب الأساسي لسرعة الفتوحات الإسلامية وتماسكها، وهو ما لا يريد المعاندون والمخالفون من أعداء الإسلام الاعتراف به، هو الحماسة الدينية لدى حملة الإسلام، وما كان لذلك من نتائج، ويعترف مؤرخ غربي

بذلك فيقول: " بالإِضافة إلى العوامل والدوافع المساعدة السابقة، فإن سبب هذا النجاح الساحق والتوفيق الباهر يكمن في الإسلام الذي بدّل العرب البدو " المتوحشين " الذين لم يكن يجمعهم نظام إلى جيش وفىّ منظم: ملتزم بالضبط والربط، متمدن ومتحضر .. إنه الإسلام الذي ملأ قلوبهم، والإحساس الذي سيطر عليهم بأن القتال جهاد ينالون أجره رضا من الله ومغفرة، ومال الغنيمة هو إنعام مادي دنيوي دليل على مرضاة الله. ومع أن هذا الاعتراف يضم فقرة كالسم في العسل وهي " القتال ضد أتباع الأديان الأخرى جهاد " ذلك لأن المسلمين قاموا بالجهاد للقضاء على الظلم والبربرية والإِفساد في الأرض، لا لمجرد قتال أتباع الأديان الأخرى، وهو ما يتضح حقيقة للعيان، وفيليب حتى، اضطر إلى الاعتراف بالحقيقة فقال: " وكأن العرب الذين حرموا من الكفاءة والديانة قد تحولوا بعد وفاة النبي بسحر ساحر إلى أبطال عسكريين ومثل هؤلاء الأبطال لم نكن لنفتقدهم في مكان واحد من ناحية العدد أو الكفاءة، فخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ممن قاموا بمهمة فتح إيران والعراق والشام هم أمثلة نادرة جدًا وعظيمة في تاريخ الحروب العالمية، وقد تفوقوا على ما قام به نابليون وهنى بال وحتى الإِسكندر الأكبر ". وفي هذا الاعتراف وردت جملة بريئة في ظاهرها تحمل السم في باطنها وهي " بعد وفاة النبي ". والحقيقة أن المد الإِسلامي السريع كان نتيجة منطقية وضرورية لتعاليم رسول الله ولتربيته الحكيمة لصحابته وللمسلمين، ولما تم قبلاً من إخضاع الجزيرة العربية كلها للإسلام، ومن بعده قام الصحابة الكرام وبتأثير من أعمال رسول الله وتوجيهه فتحوا البلاد المجاورة لنشر كلمة الحق. أهداف الفتوحات: أكبر هجوم على الفتوحات الإسلامية هو الهجوم على سلسلة أهدافها، فقد

أقر " فيليب حتى " أن هدف الحملات الأول [الغزوات] على قبائل الحدود كان الغزو والإِغارة والرغبة في التمتع بالدعة واللذات، والمؤرخ المذكور في بحثه عن أهداف الفتوحات يقدم وجهة نظره في ثلاث نقاط: الأولى: وجهة النظر التي تساير وجهة نظر علماء الإِسلام، والقائلة بأن الفتوحات الإِسلامية كانت دينية خالصة. الثانية: وجهة النظر التي تساير وجهة النظر النصرانية، وهي أن المسلمين الفاتحين قاموا بتخيير الأمم المفتوحة بين الإِسلام أو السيف، أي أن وسيلة الإسلام في انتشاره هي السيف. ووجهة النظر الثالثة يعرضها هو نفسه، وهي أن الجزية والخراج كانا أكثر محبة لدى المسلمين الفاتحين من غيرها. وبعد أن يقدم استشهاده بالآية التاسعة من سورة التوبة (1) يكتب: " نتيجة لضغط الظروف، ثم وجود بديل ثالث، كان على الزردشتيين والبربر والترك اختياره (أي الإسلام) فلقد كوّن الإِسلام لديهم فكرة حربية جديدة، ووجهة نظر اجتماعية سهلة، ومع أن الإِسلام قام بدور لا مثيل له في توحيدهم، إلا أن هذا لا يكفي لتوضيح وشرح الفتوحات العربية بطريقة كاملة، وبدلاً من الحماس الديني فإن الضرورات الاقتصادية قد تفوقت لدى العرب على الحرب، فمشكلات الصحراء كانت سببًا في هجومهم على الهلال الخصيب، حتى ينالوا الراحة والدعة، ومن الممكن أن تكون فكرة الذهاب إلى الجنة قد ظلت تداعب قلوب بعض الناس، إلا أن الهدف الأساسي كان الثروة والحصول على الفوائد المادية. _______ (1) ((اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون)) التوبة 9. المترجم.

ويدعى فيليب حتى أن بيانات وتصريحات ليون كيتاني، وبيكر وغيرهما من المؤرخين الجدد، وأن المؤرخين العرب القدامى قد أهملوا تمامًا هذا الجانب الاقتصادي للفتوحات الإِسلامية، وهكذا ينقل نص خطاب الخليفة الأول من فتوح البلدان للبلاذري، والذي كتبه لعرب مكة والطائف واليمن ونجد والحجاز، يدعوهم للمشاركة في الجهاد الإسلامي دافعًا إياهم مشجعًا لهم بما قد يحصلون عليه من أموال الغنيمة. " ولم يثبت سوى بيت من الشعر عن شجاعة القائد الإيراني رستم يخدم به مفاهيمه وأهدافه ". ولقد ترك بعض المؤرخين النظرية القائلة بالأهداف الاقتصادية الخالصة، ولا شك أن بعض المؤرخين المتصلبين لا يزالون يتعلقون بها، والسبب في ذلك هو أن هذه النظرية مبنية على مزاعم عديدة وغير مقبولة، لأنها أولاً تقرر أن الفتوحات الإِسلامية هي عبارة عن حلقة من سلسلة الهجرات السامية المغرقة في القدم، وبناء عليه وبعد الإسلام حدثت زيادة كبيرة بين السكان العرب وبسرعة هائلة مما مثّل بدوره ثقلاً اقتصاديًا، وجعل معيشتهم تواجه صعوبات متنوعة، وبسبب هذا اتخذت الهجرة العربية السامية الجديدة شكل الفتوحات. وقد أبطل المؤرخ فرانسسكو جبرائيل النظرية القائلة بالضغط السكاني الذي نتج عنه هجرة اقتصادية لأنه لا يوجد إثبات يدل على الزيادة في السكان منذ ذلك التاريخ، وبعد مجىء الإسلام، بل أكثر من هذا يقول إن العرب الفاتحين طوال فترات فتوحاتهم الطويلة لم يفرحوا أو يُسروا بالسكن بالمناطق كثيرة السكان، أو يفرحوا بالإِقامة في المناطق التي فتحوها، وكانوا بعد الفتح يفضلون في معظم الأحيان العودة إلى مناطقهم الصحراوية، ثم حتى زمان خلافة عمر ظلت سياسة الحكومة ألاّ تسمح للعرب بالإِقامة بالبلاد المفتوحة، وطبقًا لقول جبرائيل: إن بين الصحراء برمالها والعرب محبة قديمة، استمرت حتى مع العهد الأموي، لدرجة أن خلفاء بني أمية كانوا يفضلون بناء قصورهم في الصحراء والبادية وكانوا يقضون فيها كثيرًا من أوقاتهم.

نوعية الفتوحات الإسلامية:

و " فيليب حتّى " الذي سبق ذكره قدم ثلاثة أمثلة فقط يؤيد بها نظرية العامل الاقتصادي، بينما يمكن تقديم آلاف الأمثلة ضده من التاريخ الإسلامي. والخطاب الذي نقله عن أبي بكر الصديق فيه في البداية حَضٌّ للمسلمين على الجهاد الإسلامي، ثم قرر أن أموال الغنيمة هي جائزة وإنعام، وهو ما تغافل عنه المؤرخ، وهكذا قدم بطريقة ساخرة ما جاء عن رستم القائد الإيرانى، ولم يقدم رد وجواب المبعوث المسلم الذي يتضح منه أن الجهاد هو الهدف المطلوب لا الغنيمة، فقد كان هدف الفتوحات في المقام الأول هو الجهاد الإِسلامي، وهو ما بدأ المستشرقون يعترفون به أيضًا، وعلى رأسهم جبرائيل، وكما قال فإن الدوافع والأهداف الأخرى كانت دوافع وأهدافًا ثانوية، فإذا كان عامل الإِسلام والدين هو منتهى هدف هذه الفتوحات، فإن هذه السرعة التي شهدها الفتح الإسلامي، وهذا التماسك وهذه الصلابة لا يمكن أبدًا أن تكون نتيجة لأسباب أخرى غير نشر الإِسلام لأسباب تتعلق بالفوائد الاقتصادية وما إلى ذلك، ولا أحد ينكر أهمية العوامل الأخرى بالإضافة إلى الإِسلام والجهاد، ولكن طبقًا لقول أحد المستشرقين، إن الجهاد في سبيل الله للحصول على الجنة في الآخرة هو الأساس، وليس الحصول على الأجر الدنيوي كان أصل الدوافع والأهداف التي نتجت عنها الفتوحات الإِسلامية. نوعية الفتوحات الإِسلامية: لقد كان الهدف الأساسي للفتوحات الإِسلامية هو إعلاء كلمة الله، وبصورة أساسية فإن الدولة الإِسلامية كانت تهدف إلى تبليغ رسالة الله إلى غير المسلمين عن طريق الدعوة والإِرشاد، كما حدث في العهد النبوي في شبه الجزيرة العربية، ولو أن هناك فرقًا بين العصر المكي والعصر المدني في زمان النبى صلى الله عليه وسلم، فهو أنه في العصر المكي تم نشر الإسلام بأسلوب التبليغ، ولكن في العهد المدني حين سُدَّت الطرق وأغلقت أمامه، تم تحقيق

نفس الهدف في ظل الفتح والنصر، ولو سمحت الظروف لما اضطرت الدولة الإِسلامية لإشهار السيف في وجه أحد، ولكن حين قام الكفر بسل سيوفه ضد الإِسلام اضطر الإسلام أيضًا إلى رفع السيف، وهذه هي أصول الجهاد الإِسلامي التي لا تقبل تعديلاً أو نسخًا. إن استخدام كل طريقة مشروعة في سبيل الحفاظ على الإسلام وإعلاء كلمة الله، واستخدام التبليغ والإِرشاد في حالات السلم، واستخدام القوة والشوكة والفتح والنصر على الجبهات لا يحتاج بالضرورة إلى تقديم أي اعتذار. ولنقارن فتوحات فاتحي العالم مثل الإِسكندر وجنكيز وهني بال ونابليون وغيرهم بالفتوحات الإِسلامية. إن أهمية أهدافها ومقاصدها تقل بل تصغر أمام أهمية الفتوحات الإِسلامية، ولا شك أن فاتحي العالم هؤلاء قد سيطروا على العالم في معظمه، إلا أن سيطرتهم كانت مجرد سيطرة وتحكم في شعوب العالم المفتوحة، لا امتلاكًا للعالم، وهناك فرق بين السيطرة والامتلاك، لقد أصابوا قلوب الناس بسيوفهم، ثم لم يضمدوا جراحها، لكن الفاتحين المسلمين حرروا الإِنسانية من عبودية الإِنسان، ورفعوا عن كاهل الناس الثقل الاقتصادي، وأعطوا البشرية الحرية الدينية وأقاموا حكم القانون، وبعد الفتوحات أقاموا الأمن والنظام، وعملوا على بناء ورقي البلاد المفتوحة، كما أصلحوا جميع جوانب الحياة وطوروها، عملوا على رقي التجارة والزراعة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والتمدن، وقد شهدت جميع جوانب الحياة في البلاد المفتوحة ازدهارًا ورخاء وقام المسلمون بإضاءة قناديل العلم والمعرفة، أعطوا ما عندهم لأهل البلاد المفتوحة، كما أخذوا ما عند هؤلاء من علم وفضل. لقد أرست الفتوحات الإِسلامية أسسًا جديدة للثقافة والحضارة من أهمها: الحاكمية الإِلهية، المحبة النبوية، العظمة الإِنسانية، وهذا هو السبب الذي جعل أهالي البلاد المفتوحة يرحبون دائمًا بالفاتحين المسلمين، لأنهم رأوا فيهم منقذي

انتخاب الخليفة الثالث:

البشرية، وبالتدرج وبدون أي جبر أو إكراه دخلوا في دين الله أفواجًا، تعلموا العربية، وقبلوا الثقافة الإِسلامية لدرجة أنه لم يكن هناك فرق بين البلاد المفتوحة في عهد الصحابة ومركز الإِسلام، حيث انتشر نور الإِسلام في جميع البلاد التي تمثل اليوم العالم الإِسلامي كله. انتخاب الخليفة الثالث: يوجه بعض محبي النقد، نقدًا إلى مجلس انتخاب الخليفة الثالث، وهو المجلس الذي شكله عمر رضي الله عنه، ويثيرون حوله الشبهات من الناحية التاريخية، إلا أن الواقعة المسلم بها في التاريخ الإِسلامي هي أن الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه قد أقام قبيل وفاته ديوانًا للمرشحين للخلافة يتكون من ستة صحابة أجلاء هم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأسند إلى عبد الرحمن بن عوف مسئولية أن يتولى رئاسة عملية انتخاب الخليفة الجديد. ومن تحليل الروايات يفهم أن الثلاثة الآخرين قاموا بسحب أسمائهم من الترشيح لصالح الثلاثة الأوائل بناء على رأي عبد الرحمن بن عوف، ثم سحب عبد الرحمن نفسه وأسند إلى نفسه فقط مسئولية المساعدة في انتخاب الخليفة، وكانت الأغلبية العظمى من الأمراء والرؤساء والصحابة الكرام بالمدينة في صف عثمان، ولهذا أصدر عبد الرحمن قراره في صالحه، وهكذا تم اختيار عثمان خليفة رسول الله الثالث. ويقرر سيد أمير علي، وهو يمثل طبقة من مؤرخي المسلمين، أن قرار عمر تشكيل ديوان مرشحي الحكومة كان قرارًا خاطئًا، وقائمًا على مجرد عصبية دينية، ويقول -وهو حزين- إن عليًّا كان يمكن أن يكون خليفة بسهولة من بعده، إلا أنه لم يفعل ذلك، فأعطى فرصة لتآمر الأمويين على الاستيلاء على الحكم والسلطة، لأنهم كانوا أصحاب أثر وسلطة، ليس فقط

في المدينة، بل كانت بينهم عداوة سابقة مع بني هاشم أيضًا، ولهذا فقد حُرِم عليّ من حقه المشروع، وفتح لقرن من الزمان الباب للظلم والقهر الأموي. وهو يرى أن خلافة عثمان كانت دمارًا ووباءً على الإِسلام. وهذا التحليل الذى يعرضه المؤرخ المذكور إنما يخفي وراءه تعصبًا فكريًا وعقديًا، وإلا فالتاريخ الإسلامي يرشدنا إلى أن عهد خلافة عثمان رضي الله عنه كان عهد رقي وازدهار. ثم يأتي من ناحية أخرى خورشيد أحمد فاروق فلا يترك شخصية من الشخصيات دون لوم أو تجريح، وذلك في معرض حديثه عن انتخاب الخليفة الثالث، فهو يتهم الصحابة الستة بأنهم متآمرون، وأنهم يحبون الدنيا ويحبون الرئاسة، وكان من وراء تآمرهم على الحكومة والرئاسة الحصول على فوائد مادية، فقد اتهم عبد الرحمن وسعدًا بالتحيز، واتهم عليًّا بالتآمر ضد الخليفة، كما اتهم أيضًا عليًّا بالتهرب من إعلان بيعته لعثمان وأنه أجبر فيما بعد على أن يبايعه (1)، كما اتهم عمار بن ياسر باتهامات كثيرة، منها مخالفته ومعارضته للخلافة العثمانية وأنه " أمات الإِسلام " وغير ذلك من تعبيرات مشينة. وقد قام فاروق بتوجيه اتهاماته بمهارة فائقة فقدمها كلها في رداء نقله عن الروايات، ومعظم رواياته روايات شيعية، وكذلك عن ابن أبي حديد، أو أنه قام بنفسه بتفسير معنى روايات لم ينقلها وعبر عنها هو كما يحلو له، واختار المؤرخ المذكور الأسلوب المتعصب المنحاز، فقام بنقل مثل هذه الروايات التي تتعلق بمشاجرات الصحابة الكرام، إلا أنه تعمد ألا يذكر جميع تلك الروايات التي تشهد على سمو عملهم ومسلكهم، وتشهد على إخلاصهم وإيمانهم، ويكفي أن نورد مثالاً واحدًا، وهو اتهامه لعلي بأنه لم يبايع عثمان رضي الله عنه، وبعد مدة، وبعد ضغط من الصحابة اضطر علىّ إلى مبايعة عثمان، بينما _______ (1) انظر ترجمتنا لكتاب الثورة الإيرانية في ميزان الإسلام الصادر عن دار الصحوة بالقاهرة. المترجم.

الصحيح وما ورد في الروايات المسندة أن عليًّا كان أول من بايع عثمان رضي الله عنه بعد اختياره خليفة، والحقيقة أن خورشيد أحمد فاروق ومن على شاكلته من المؤرخين يريدون أن يجعلوا التاريخ الإسلامي كله تاريخ صراع طبقي، حتى يمكن أن يثبتوا أن أثر الإسلام وأثر الصحبة النبوية لم يكن أبدًا له وجود، أو أنه لم يثبت مطلقًا أن هناك أثرًا.

التآمر على الخلافة الإسلامية

التآمر على الخلافة الإسلامية لقد تعرض عثمان رضي الله عنه لقدر من الطعن واللعن والذم واللوم بطريقة لم تتعرض لها أية شخصية في التاريخ الإسلامي، وكان الأمر بالنسبة للأعداء والمعارضين بسبب خططهم النجسة، ومؤامراتهم الرامية إلى الطعن في شخصيته الكريمة، وإذا كان لنا من أسف فإنه على قلة فهمهم، فقد سقطوا في شبكة ما يروجه أعداء الإسلام عن شخصية عثمان. ومن بين المؤرخين المسلمين طبقة مخلصة مؤمنة، إلا أنها بسبب قصورها في التحليل الصحيح للتاريخ قبلت الكثير من الاتهامات الخاطئة الموجهة ضد عثمان واعتبروها وقائع تاريخية صحيحة، فاتهموه بها، وقاموا بمسخ هذا الباب من التاريخ الإسلامي بسبب تلك المزاعم التي ارتسمت ورسخت في عقولهم وأفكارهم وقلوبهم. وهناك عدد كبير من أولئك الناس الذين قاموا بتحليل خلافة عثمان تحليلاً غير تاريخي وغير علمي، وذلك بسبب عصبية عرقية أو اعوجاج فكري أو قصور ذهني، والحقيقة أن سلسلة الاتهامات الموجهة ضد عثمان إنما نبعت من تلك المؤامرة التي أحيكت حول الصحابة الأمويين عامة والخلفاء الأمويين بصفة خاصة. وسوف نحاول تحليل هذه المؤامرة بشىء من التفصيل لأنها تهم المهتمين بشئون التاريخ الإسلامي. عزل وتعيين العمال في عهد عثمان: يقسم هؤلاء المعترضون مساوىء عهد خلافة عثمان (12 سنة) رضي الله عنه بصفة عامة إلى قسمين:

القسم الأول مضى فيه الخليفة الثالث يدير شئون الخلافة على النهج الصحيح، وكان هذا العهد من الخلافة يمضي على نهج النبوة. القسم الثاني انحرف فيه عن السنة النبوية وسنة الشيخين، وأتى بتصرفات خالف فيها حتى أكابر الصحابة، وفي النهاية وبسبب كل هذا حدث العصيان والتمرد ضده، وهو ما انتهى بمأساة استشهاده. ومع أن بعض المؤرخين لم يثيروا قضية تقسيم زمان خلافته إلى تلك الفترتين إلا أنهم قاموا بترديد خُرافة الأعمال الصحيحة والأعمال الخاطئة، وقد وجهت العديد من التهم إلى عثمان رضي الله عنه، وفيما يلي عرض وتحليل لهذه الاتهامات في ضوء الروايات الإسلامية الصحيحة حتى نضع أمام القارىء الصورة التاريخية الصحيحة واضحة جلية. أكبر اتهام وجه إلى عثمان رضي الله عنه أنه في البداية ظل على عهوده مع الصحابة الكرام، إلا أنه تدريجيًا بدأ في عزل أكابر الصحابة، ومن بينهم عمرو ابن العاص حاكم مصر، وسعد بن أبي وقاص حاكم الكوفة، وأبو موسى الأشعرى حاكم البصرة، والمغيرة بن شعبة حاكم البصرة، وعبد الله بن الأرقم القائم على بيت المال بالمدينة، وعبد الله بن مسعود القائم على بيت المال بالكوفة، مما نتج عنه -كما يقول المؤرخون- هيجان شديد بين كبار الصحابة والعامة أيضًا. والاتهام الثاني يتعلق بهذا الاتهام، وهو أن الخليفة الثالث قام بتعيين شباب قريش في مناصب كبار الصحابة، وبخاصة الشباب من أقاربه ممن لم يؤدوا أي عمل يستحقون به تلك المناصب، ولم يكن لهم أي دور إسلامي، ولقد أدت محاباته لأقاربه إلى مزيد من الهيجان. ويرى بعض المؤرخين أن هذا هو السبب في ظهور التمرد والعصيان وحدوث النهاية التي أدت إلى استشهاد الخليفة.

إن سياسة عزل وتعيين العمال (الحكام) كانت اتخذت كسلاح ضد عثمان، ولكن هذه السياسة ذاتها كانت قائمة منذ العهد النبوي وفي عهد الشيخين، فقد كان الخليفة في كل وقت يقوم بمثل هذه التغييرات في أعضاء الحكومة طبقًا للمصالح والسياسة ولما يراه صوابًا. وقد قام عمر رضي الله عنه فعزل عددًا من حكامه وقادته ومنهم خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وهم من أكابر الصحابة ويفهم من واقعة سعد بن أبي وقاص أن تغييره لم يكن نتيجة لأي خطأ ارتكبه، بل كان بناء على المصلحة السياسية، إذ كانت سياسة الخليفة الثاني في الكوفة والبصرة قائمة على استبدال الحكام إذا ما لزم الأمر، وإذا ما طالب المسلمون. ويفهم من الروايات أن عمر درءًا للفتن التي حدثت في المدن قام بالترتيب وبناء على شكاوى أهل البصرة والكوفة فعزل سعد بن أبي وقاص، وعمار ابن ياسر، وأبا موسى الأشعري، وعمر بن سراقة، والمغيرة بن شعبة الثقفي. ومن الجدير بالذكر أن شكاوى الناس ضد هؤلاء الحكام شكاوى مسبَّبة فسعد ابن أبي وقاص الزهري لا يؤدى الصلاة بطريقة جيدة، وعمار ضعيف ولم تكن له قدرة على الإِدارة، وأبو موسى أيضًا مثله، أما المغيرة بن شعبة فقد اتهم مرة بارتكاب الزنا، ومرة أخرى بقبول الرشوة. وطبقًا لإحدى الروايات فقد أوصى عمر خليفته أن يعيد تعيين سعد بن أبي وقاص حاكمًا على الكوفة مرة أخرى، وهكذا قام الخليفة الثالث في بداية خلافته بالعمل بالوصية وعينه واليًا على الكوفة، وكان هذا أول مثال لتعيين صحابي جليل القدر في خلافة عثمان، غير أن مشادة حدثت بين سعد بن أبي وقاص والقائم على بيت المال عبد الله بن مسعود، إذ أخذ الأول قرضًا من بيت المال ولم يعده، وقد ضخّم أهل الكوفة الأمر، ولهذا رأى عثمان أن الواجب يقتضي استدعاءه، وبعدها استدعى أيضًا عبد الله بن مسعود. والذي كان يحز في

نفس عبد الله بن مسعود هو أمر الخليفة بالاستيلاء على مصحفه، وكان عزيزًا عليه، والاستيلاء على المصحف المسعودي لم يكن أبدًا نتيجة ظلم أو قهر ولكن كان من سياسة عثمان رضي الله عنه أن يقوم بجمع المصاحف الخاصة بالقراءات، والعمل على توحيد القراءات من مصحف واحد في جميع أنحاء الدولة الإِسلامية. أما عزل المغيرة فكان بناء على وصية الفاروق. إذ إن الصحابي المذكور قد اتهم خطأ بقبول الرشوة. أما عزل أبي موسى والي البصرة فتم طبقًا لسياسة الدولة، إذ تم بناء على شكاية أهل البصرة ضده، وعزل عبد الله بن الأرقم المخزومي كان بسبب تقدمه الكبير في السن، وعزل عمرو ابن العاص حاكم مصر إنما كان بسبب ما حدث بالنسبة لخراج الإِقليم، وحتى لو لم توجد هذه الأسباب فإن للخليفة الحق في عزل قادته أو خلفائه مثل الحكام، فتعيينهم مشروط بقبول الخليفة وثقته بهم. وفيما يتعلق بالاتهام القائل بعزل كبار الصحابة، وعدم تعيين كبار الصحابة بدلاً منهم، فهناك ردود عدة على هذا الاتهام، إلا أن هذا الاتهام غير تاريخي بالمرة، فبعد عزل المغيرة بن شعبة عين الخليفة مكانه أبا موسى الأشعري، كما قرر تعيين زيد بن ثابت الأنصاري مكان القائم على بيت المال عبد الله بن الأرقم المخزومي، وعلاوة على ذلك فإن كبار الصحابة كانوا قد كبروا في السن بالمقارنة بأعمارهم في خلافة الفاروق، أو قبلها في خلافة الصديق وفي العهد النبوي. والحقيقة هي أنه كان يتم ترجيح الصف الثاني دائمًا، والصف الثالث من الصحابة أو الشباب في ولاية الأقاليم والأعمال، ففي العهد النبوي كان عتاب بن أسيد الأموي في مكة، وعثمان بن أبي العاص الثقفي في الطائف، والحارث بن نوفل الهاشمي في جدة، ويزيد بن أبي سفيان في تيماء، وخالد بن سعيد الأموي في صنعاء، وعمرو بن سعيد الأموي في وادي القرى، وأبان بن سعيد الأموي في البحرين، وحكم بن سعيد الأموي في

في عهد خلافة الصديق وخلافة الفاروق.

قرى عربية، وعدد من الأفاضل من مجموعة الشباب مثل معاذ بن جبل الخزرجي، وعمرو بن حزم الخزرجي، وزياد بن لبيد الخزرجي، وكان بعضهم حديثي العهد بالإِسلام تمامًا، وأبو سفيان الأموي وابنه الشهير معاوية توليا أهم المناصب في العهد النبوي. وفي خلافة الفاروق، وبعد وفاة أخيه الأكبر تم تعيينه على ولاية الشام، وظل هكذا لعدة سنوات، بل ظل على ولاية الشام طوال عهد خلافة الفاروق. ويمكن تقديم العديد من الأمثلة على تعيين الشباب في عهد خلافة الصديق وخلافة الفاروق. والجزء الثاني من الاعتراض الأول، وهو أن عثمان قد عين أقاربه وأصدقاءه بدلاً من كبار الصحابة، وعين الوليد بن عقبة الأموي، وسعيد بن العاص الأموي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري على -بالترتيب- الكوفة والكوفة ومصر، بينما فاز عبد الله بن عامر بولاية البصرة، ومروان بن الحكم بوظيفة كاتب الخليفة، ولم تتم إعادة تعيين معاوية بن أبي سفيان على الشام فقط، بل أُعطي المزيد من المناطق أيضًا. ومن الناحية التاريخية يمكن اعتبار هذا الاتهام صحيحًا بصورة جزئية، فالبعض قد عينهم عثمان، والبعض كان تعيينهم قد تقرر في خلافة الفاروق، وما جاء بالنسبة لمعاوية فقد فاز بالولاية في خلافة الفاروق ولمدة ثمان سنوات، وأقامه عثمان طوال مدة خلافته على ولايته هذه، نظرًا لما كان له من كفاءة وقدرة على الإِدارة، والجميع يعترف بهذه الحقيقة، أن ولايته من أحسن الولايات من حيث النظام والربط والضبط والإِدارة. فهل يعزل الوالي لما يؤديه من واجب جعل ولايته تمتاز عن غيرها بنظامها وانتظامها وحسن إدارتها؟! ثم إن الخليفة كان يثق كل الثقة فيه، ولم تصدر ضده أية شكوى، دينية كانت أو سياسية أو إدارية. وبعض المؤرخين يقدمون هذا المنطق، بل هم يتمنطقون قائلين بأن معاوية صار ملكًا للشام بسبب طول مدة حكمه عليها، وقد امتدت

جذوره داخل البلاد، وأصبحت قوية متينة بحيث أصبح من الصعب زعزعته، ولهذا السبب حدث ما حدث من خلاف مع الخليفة الرابع، رغم أن الخلاف مع الخليفة الرابع كان من نوعية أخرى سوف نبحثها فيما بعد. وقد كان الوليد بن عقبة الأموي أكثر من تعرضوا للذم من عمال عثمان رضي الله عنه، فقد وجهت له الاتهامات من كل نوع، من بينها الاهتمام بالسحرة، والخمر، ونقض العهد. وإشاعة الفرقة بين طبقات المسلمين، وفي العهد النبوي عُهد إليه بجمع الصدقات من قبيلة بني المصطلق، لكنه -طبقًا لبعض الروايات- عاد دون أن يجمع الصدقات، وبسبب عناده الجاهلي، وصل إلى رسول الله وأخبره بأن القبيلة رفضت أداء الصدقات، وأنهم يعدون العدة للهجوم على المدينة، وكان رسول الله على وشك الهجوم عليهم، وإذا بوفد من بني المصطلق يصل ويطلع الرسول على أمر الوليد بن عقبة، فنزلت الآية رقم 6 من سورة الحجرات في حقه (1). والتي ورد فيها لفظ " فاسق " صفة لعامل الصدقات. وهذه الرواية بأكملها تضمنت نقاطًا جديرة بالاعتراض والرفض. وقد قرر عدد من المفسرين بوضوح أن المراد بـ ((فاسِقٌ)) ليس الوليد؛ لأنه كان صحابيًا جليلاً، وتأكيد هذا الأمر هو أنه رضي الله عنه قد تولى عهدة عامل الصدقات في أوائل خلافة الصديق، ثم تم تعيينه أيضًا قائدًا للجيش الإسلامي، وفي عهد عمر عين عاملاً للصدقات أولاً، وبعدها حاكمًا للجزيرة، ومن هنا غيّره عثمان وجعله حاكمًا على الكوفة، ويتضح تمامًا من رواية ابن خلدون أن تعيينه في الأصل كان تغييرًا، فقد ظل منذ خلافة الفاروق في وظيفة حاكم، ويعترض بعض المؤلفين بأن الخليفة الثالث قد نقله من وظيفته _______ (1) ((يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)). الحجرات 6 (المترجم).

كحاكم على جزيرة صغيرة ليعينه على الكوفة، وهي ولاية كبيرة، وهذا الأمر خطأ من الناحية التاريخية، فمقاطعة الجزيرة لم تكن أبدًا قليلة الأهمية، فقد عين عليها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. ومن التهم الأخرى الموجهة إليه تهمة شرب الخمر، وهي تهمة كبيرة تستلزم الحد إذا ما ثبتت عليه، وهناك تناقض كامل في جميع الروايات الخاصة بهذه التهمة، رواية تقول لقد كان هذا في صلاة الفجر، أو صلاة أخرى، وصلى أربع ركعات وهو سكران وتضرر المأمومون وغير ذلك من الاتهامات. هذا ... وقد ذكر الطبري رواية برَّأته مما نسب إليه من تهم، وربما كانت أقرب إلى التصديق، وقرينة للقياس، وطبقًا لهذه الرواية فقد كانت هناك مؤامرة تحاك للطعن في الوليد بن عقبة، مما نتج عنها اتهامه بالسكر. وكان القائمون على هذه المؤامرة ثلاثة، هم: أبو مورع الأسدي، وجندب بن زهير الأزدي، وأبو مصعب بن جثامة، ومعهم مالك الأشتر النخعي. والثلاثة الأوائل من مثيري الفتنة، وقد أرادوا الانتقام من الوليد لقتله أبناءهم، وقد حكم على قاتلهم بالموت، أما مالك النخعي فقد كان من مثيري الفتن والعصيان ضد عثمان. ومن الجدير بالذكر أن تهمة الشراب والسكر يمكن إثباتها عن طريق شهادة كاذبة، وكانت التهمة أساسًا نتيجة لمؤامرة حاكها أكابر الكوفة الغاضبون، وطبقًا لرواية الطبري كان للوليد مكانة طيبة ومحبة في قلوب العامة، بينما كان الأكابر غاضبين منه، ولم يكن هذا الغضب بناء على أي سبب ديني أو أي سبب معقول، بل كان بناء على أغراض ذاتية. والحقيقة أن أي حاكم من حكام الكوفة لم ينج أبدًا من الاتهامات؛ لأن أهلها وبخاصة أكابرها اعتادوا إثارة الفتن. وبعد عزل الوليد بن عقبة الأموي عن حكم الكوفة قام الخليفة الثالث في سنة 29 هـ بتعيين أحد أقاربه وهو سعيد بن العاص الأموي واليًا على

الكوفة، إلا أن أحدًا لم يعترض على هذا التعيين، بل إن أشراف الكوفة الذين تسببوا في عزل الوليد عادوا معه إلى الكوفة، ولم يتهم أحد الخليفة الثالث بأنه عين أحد أقاربه؛ لأنه كان صحابيًا جليلاً، وكان عضوًا من أعضاء مجلس كتابة وتدوين المصحف العثماني، وكان ذا شخصية عالية، وظل واليًا على الكوفة لخمس سنوات، واعترف الجميع بما له من قدرة على الإدارة، وبما له من كفاءة وصلاحية. وفي نهاية خلافة عثمان حين طالب أهل الكوفة بتغيير الحاكم، قام عثمان بناءً على طلبهم بتعيين أبي موسى الأشعرى حاكمًا للكوفة. أما طلب عزل أبي موسى الأشعرى عن ولاية البصرة، فقد قدمه أكابر المدينة. كما طالبوا أيضًا بتعيين حاكم شاب قادر على الإدراة، وهكذا قام عثمان بالاستجابة إلى طلبهم. وعين عبد الله بن عامر بن كُريز حاكمًا للبصرة. وكان بقاؤه في وظيفته هذه راجعًا إلى ما له من قدرة إدارية أو ما أدَّاه من خدمات جليلة. بل كان ذلك لأنه يُرضي مثيري الفتن بالبصرة، وهذا هو السبب الذى جعله يبقى في وظيفته هذه حتى آخر خلافة عثمان، ولم يشك أحد منه، وقد جاء مدح أعماله الطيبة على لسان علي رضي الله عنه. وبعد عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر تم تعيين عبد الله بن سعد ابن أبي سرح العامري، ولم يكن أمويًا، بل كان أخًا لعثمان رضي الله عنه في الرضاعة. وصحيح أن عبد الله ارتد عن الإسلام بعد أن أسلم، إلا أن الحقيقة تشهد أنه تاب وأصلح وعاد إلى الإسلام، وجميع الروايات تشهد بأنه كان مسلمًا صالحًا وصادقًا. وأولئك الذين أساءوا إليه بسبب ارتداده ينسون أن الإِسلام يَجُبُّ ما قبله، كما ينسون أن سخريتهم به ليست من العدل في شىء، ففي زمان ولاية سعد رضي الله عنه على مصر، زاد خراجها زيادة كبيرة، وهذه الزيادة قد رآها البعض نتيجة للظلم والقهر، على حين تثبت الأبحاث أن ذلك كان نتيجة لحسن إدارته. لقد أقام صلة مباشرة بين الحكومة والزراع

وأصحاب المنتوجات، وقام بفصل الوسطاء (1)، الذين كانوا يقومون بتحصيل المبالغ كاملة لكنهم لا يؤدونها للحكومة كاملة، بل يحجزون لأنفسهم بعضها، وإذا كان الأمر كذلك، فمن حق الباحث أن يعترف بما كان له من حسن الإدارة والنظام. والحقيقة أن الناس غفلوا عن منجزاته هذه، واتهموه بناء على عداوتهم لبني أمية، ولم يفهموا لم يرتكبون من مخالفات في حق التاريخ الإسلامي. لقد قامت جماعة من المؤرخين بنقد مروان بن الحكم الأموي أيضًا، ومن المؤسف أنهم استخدموا لذلك أسلوبًا غير لائق، ووجهوا له اتهامات يصعب على العقل أن يقبلها، ومن تلك الاتهامات أنه قد سمح لأبيه بالتدخل في شئون الحكومة، وأنه قد اختاره كاتبًا [سكرتيرًا] للخليفة، وهذا المنصب من المناصب المهمة، وأنه سلك سلوكًا غير مقبول مع بعض الصحابة الكرام، وغير ذلك. لقد قبل المؤرخون كثيرًا من الروايات التي سيقت ضد مروان، وسكت بعضهم عن كثير من الروايات التي تتحدث عن الجوانب المضيئة في شخصيته وسيرته. لقد كان عالمًا بالتفسير، ولقد قرر الحافظ الذهبي أنه كان قارئًا وفقيهًا ومتمسكًا بالحدود الإلهية. والمحدثون يرون أنه محدث ثقة، وقد روى عنه الإمام البخاري في كتابه، وقد قرر الحافظ ابن حجر في الإِصابة ومقدمة فتح الباري أنه كان ثقة في الحديث. وهي تدل على علو مقامه. إن ما جاء ذكره بالنسبة لاتهام عثمان رضي الله عنه بتفضيله ومحاباته للأمويين هو اتهام يتنافي مع حقائق التاريخ. والدليل الذي يقدمه المتَّهِمُون هو أن عظماءهم لم يعينوا أقاربهم في مناصب الحكومة، والصحيح أن القرابة لم تكن أساسًا للتعيين، كما لم تكن شرطًا _______ (1) وهم من أُطلق عليهم في فترات متأخرة " أصحاب الالتزام ". المترجم.

التصرف في بيت المال:

ضروريًا للحرمان من المناصب، والشرط الأصلي كان اللياقة والكفاءة، وقد انطبقت هذه الشروط بتمامها على عمال عثمان رضي الله عنهم، ونظرًا للكثرة العددية لأسرته وجد من بينهم العديد من الأفراد الأكفاء. ويذكر التاريخ أنه ابتداءً من العهد النبوي وحتى العهد العثماني تولى الأمويون باستمرار مناصب الحكومة، ولهذا فاتهام بعض المؤرخين لهم بأنهم حاولوا في العهد العثماني الاستيلاء على مناصب الحكومة عن طريق التآمر، وأنهم نجحوا في ذلك، اتهام ربما ابتعد عن الصواب كثيرًا، ثم إن اتهام أحد بمحاباة أقاربه وتفضيلهم إنما يكون صحيحًا إذا ما أسندت إليهم الوظائف لمجرد أنهم أقارب فقط، كما أن حرمان القريب الكُفء من الوظيفة بسبب القرابة ليس عدلاً إسلاميًا، بالإضافة إلى ذلك فهناك حقيقة هامة يجب أن ننظر إليها من منطق أن عدد أقارب الخليفة بين جميع عمال عثمان كان قليلاً، ونسبتهم كانت بسيطة وعادية، ومن بينهم عدد قام بتعيينه رؤساؤهم المباشرون، والحقيقة أن إلصاق تهمة المحاباة وتفضيل الأقارب بالخليفة الثالث، والقول بأنه تسلط، فعزل هذا وعين ذاك، إنما هو جزء من مؤامرة كريهة حيكت ضد الخلافة الإسلامية، ولسوف نلقي الضوء عليها بعد قليل. التصرف في بيت المال: من بين العديد من التهم الأخرى الموجهة من جانب المؤرخين المغرضين في حق عثمان رضي الله عنه، تهمة أكبر من جميع التهم الأخرى، وهي التصرف بطريقة غير مناسبة في بيت المال الرسمي، وإغداق الأموال دون وجه حق على أقاربه، وهناك رواية تقول بأن الخليفة الثالث قد وهب مروان بن الحكم خمس أفريقية، وأعطى عبد الله بن مسعود خمس مصر ووهب خيبر لعبد الله بن خالد. لقد كان عثمان رضي الله عنه ثريًّا، رزقه الله المال الوفير، وما كان يعطيه

القطائع:

لأحبابه وأقاربه إنما كان يعطيه من ماله الخاص. لا من خزانة الدولة الرسمية. أما الهبات والهدايا لأصحاب الوظائف فقد كانت لحسن خدماتهم، وهي سياسة قديمة قام بها عمر رضي الله عنه إذ وهب أنس بن مالك مبالغ وصلت من البحرين، بالإضافة إلى هذا، فهناك روايات أخرى تفيد بأن سبب اعتراض الناس هو أن الخليفة الثالث قام باسترداد هذه العطايا المقدمة للثلاثة المذكورين، وأدخلها في بيت المال، وقد ذكر ابن خلدون أن مروان كان قد اشترى خمس أفريقية. وأنه لم يكن عطية من الخليفة، وقد خطّأ جميع الروايات التي تشير إلى مسألة العطية، وعلى ذلك فربما كانت هذه الاتهامات من تعصب بعض كتاب التاريخ. القطائع: وهناك اتهام آخر موجه ضد عثمان، ويتعلق بالقطائع أو الإقطاعيات، والتاريخ يشير إلى أنه قد جرى العرف طوال العهد النبوي بذلك، فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعطاء مختلف الناس إقطاعات متنوعة، وكذلك كان أبو بكر وعمر، فقد قام أبو بكر بمنح إقطاعات للزبير وطلحة، وكانا من أقاربه، وممن نالوا كرم قطائع الفاروق: عثمان وعلي والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت الخزرجي، وطبقًا للعرف السابق، فإن الخليفة الثالث قام في فترة خلافته بإعطاء بعض الناس قطائع نظير خدماتهم واستحقاقاتهم، من بينهم عثمان بن أبي العاص الثقفي، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، والزبير وخباب بن الأرت، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وكان من بينهم فقط الزبير الذي تربطه به علاقة مصاهرة. ويثبت في ضوء جميع هذه الحقائق أن الاتهام الموجه للخليفة الثالث إنما هو اتهام غير صحيح. محاسبة العمال: ومن الاتهامات الموجهة إلى عثمان تأخره في محاسبة عماله على جرائمهم،

الاتهامات الأخرى:

ومثال ذلك أنه لم يقم بإجراء حد شرب الخمر على الوليد بن عقبة، كما أنه لم يحاسب مروان بن الحكم، ولم يوقفه عن تهديداته، وطبقًا للروايات التاريخية فإن الخليفة حين سمع الشهادات كاملة عن شرب الخمر في حق الأول لم يتباطأ في إقامة الحد عليه. ويتضح من الروايات أنه قام بالحجر على مروان في حينه. أما ما يتعلق بموضوع عدم إقامة الحد على ابن عمر لقتله الهرمزان وجفنية فقد قام هو نفسه طبقًا للإجازة الشرعية، وطبقًا لإجماع الصحابة الكرام بدفع دية القتلى من جيبه الخاص كخليفة، ولهذا فليس هناك قضية تتعلق باتهامه بتأخير تنفيذ الحكم. الاتهامات الأخرى: إن قائمة الاتهامات الموجهة ضد عثمان رضي الله عنه قائمة طويلة، إلا أن عددًا من المؤرخين قاموا بتفنيدها والرد عليها، واعتبروها اتهامات باطلة أساسًا، وهذه الاتهامات من النوع القائل بالصلاة أربع ركعات أثناء الحج في مكة، وأمور كثيرة يمكن أن يطلق عليها أنها اختلافات فقهية، وكان عثمان رجلاً صاحب بصيرة، وعارفًا بالشريعة، ولا يمكن أن يقال هنا غير ذلك. كما يتضح من استعراض الأحداث التاريخية أن هذه الاتهامات كانت نتيجة لمجرد تعصب أعمى وعداء دون حق، وجهل بالتاريخ. أهم ملامح السياسة العثمانية: هناك نقطتان تتعلقان بملامح السياسة العثمانية بالنسبة للعمال الأولى: أن الخليفة أعلن في جميع البلاد أنه ستتم محاسبة العمال علنًا كل سنة وفي موسم الحج، ومن لديه شكوى فعليه أن يقدمها للخليفة مباشرة، وتم تنفيذ هذا الأمر. الثانية هي أنه حين وصلت الشكاوى ضد العمال بكثرة إلى المدينة المنورة قام عثمان بناء على مشورة كبار الصحابة بتشكيل لجنة للتحقيق نيابة عنه فيما نسب إلى عمال الأمصار وبموجب رواية للطبري، تم إرسال محمد بن مسلمة

الأنصاري وأسامة بن زيد الكلبي وعبد الله بن عمر العدوي، وعمار بن ياسر إلى الكوفة والبصرة والشام، ومصر بالترتيب، وذلك للتحقيق في الشكاوى، وأشار جميع هؤلاء الصحابة (ما عدا عمار بن ياسر) بعد أن أجروا التحقيقات المطلوبة " إلى أنهم لم يروا هناك أي أمر غير مرض ". وقد خالف عمار في ذلك. ولم يكتف عثمان بهذا، بل طلب عمال الولايات واستجوبهم واطمأن إلى إجاباتهم، وأصدر حكمه بإعادتهم، ولكن في أثناء ذلك تمت المؤامرة الخبيثة التي هدفت إلى الطعن في عثمان وعماله، وأعلن العصيان ضد الخلافة الإسلامية، واستشهد عثمان رضي الله عنه، وتفتتت الوحدة الإِسلامية. وتشير المصادر إلى أن أول شخص وضع البذرة الأولى في المؤامرة ضد عثمان هو عبد الله بن سبأ، الذي ارتدى رداء الإسلام بعد ترك يهوديته، حتى يكمل أهدافه الكريهة ولقد أصاب بسهمه عصفورين، إذ عرض تصورًا مبالغًا فيه لحب أهل البيت، وجعل الخلافة حقًّا موروثًا لعلي رضي الله عنه، ومن ناحية أخرى جعل خلافة عثمان غير شرعية. وطبقًا لما ورد بالطبري فقد بدأ نشر مؤامرته من محاور ثلاثة. المحور الأول أنه أثار الناس ضد عثمان تحت غطاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمحور الثاني محاولة التشنيع والإِساءة إلى العمال العثمانيين. والثالث نشر الإشاعات عن محاباة الخليفة الثالث لأقاربه. ويفهم من رواية أخرى للطبري أن المتآمرين قاموا بنشر الكراهية ضد الحكومة بطريقة مخططة محكمة، وكانوا يعرفون تمامًا أن العامة والخاصة لن يتحملوا أبدًا أي اتهام ضد شخصية عثمان وذاته، وأنهم لو اعتمدوا على ذلك فسوف تفشل حركتهم من أولها، ولهذا بدأوا معارضتهم للحكومة بإثارة الفتنة ضد عمال عثمان على أساس توجيهها إلى الخليفة فيما بعد إذا قبلها الناس،

واختار هؤلاء لتنفيذ مخططهم معسكرات الكوفة والبصرة، حيث التربة خصبة تمامًا للمؤامرات، فهي من حيث كونها مدنًا جديدة ليس لها سكان أصليون، وليس لها مثل أو تقاليد، وكان لعبد الله بن سبأ في مراكز الغدر هذه العديد من المؤيدين وقد قام هو بنفسه كما أرسل دعاته ونقباءه فقاموا بالدعاية التي كان من نتيجتها إثارة الفتنة، تلك الفتنة التي خُدع بها الكثيرون من البسطاء، وانطلقت الشرارة الأولى للمؤامرة في الكوفة، أما نيران الفتنة في البصرة فقد أوقدها عبد الله بن سبأ بنفسه، إذ تآمر مع أحد قطاع الطرق المشهورين هناك، ويدعى حكيم بن جبلة، وقاد حركة النقد واللوم والتجريح. إلا أنه أخرج من هناك بسرعة فوصل إلى الكوفة حيث انضم إلى أهل الفتنة التي اشتدت هناك، ثم أخرج من هناك فذهب إلى الشام، لكنه لم يتمكن من التحرك هناك فوصل في النهاية إلى مصر، حيث وجد بها معارضين لعثمان، هما محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر، ونظرًا لعداوتهم الشخصية، قادا حركة العداء ضد عثمان وحكومته. وتُلقي روايات الطبري وابن الأثير الضوء على نشاطاتهم. وبوصول عبد الله بن سبأ إلى مصر وجدت حركته لها قائدًا. وبدأ عدد المتآمرين ومثيري الفتنة يزداد تدريجيًا، وبعد ذلك، وطبقًا لخطته تم الهجوم على المدينة المنورة مركز الخلافة، حيث وضعت خطة قتل الخليفة الثالث، وطبقًا لهذه الخطة وصل المتآمرون في وقت واحد من ثلاث جهات مختلفة، الكوفة، والبصرة، والفسطاط. ولقد اختاروا وقتًا كانت فيه المدينة خالية من معظم الصحابة الكرام ومن الجيش، فقد كان ذلك في شهر الحج، ووصول المجموعات الثلاث في وقت واحد إلى المدينة إنما يدل على التآمر الدنىء. وكانت ذريعتهم في ذلك هي الحصول على موافقة الخليفة على مطالبهم، وهكذا وحين وافق الخليفة الثالث على مطالبهم بناء على مشورة

الفتنة الكبرى:

ووساطة كبار الصحابة لم يكن أمامهم من سبيل سوى العودة، إلا أنهم لم يكونوا ليعودوا دون أن يحققوا مرامهم وهدفهم الخبيث، وفي الطريق قاموا بالعودة بحجة بعض الخطابات المزورة، ويُعلم من الطبري والمصادر الأخرى أن عليًّا ناقش هؤلاء المتمردين، وحاول أن يثنيهم عن عزمهم، إلا أنهم في هذه المرة جاءوا مصممين على تنفيذ مخططهم. فحاصروا المدينة، ولم يكن أهل المدينة وكبار الصحابة على علم بهذه المؤامرة الخطرة، كما لم يكونوا على استعداد لمواجهة هذه المحاصرة، لهذا كانوا جميعًا بلا حول ولا قوة، ولم ينج أحد من أيدي المتمردين إلا ونال الإيذاء، وهكذا جلس الكثير من الناس في بيوتهم لا يبارحونها، ولا شك أن عددًا من الصحابة الكرام وأولادهم قاموا بحماية الخليفة الثالث حماية كاملة ودافعوا عنه. قام المتمردون أولاً بالإساءة إلى عثمان في المسجد، وأخذوا يلقون عليه بالطوب، لدرجة أنه سقط مغشيًا عليه وهو يخطب في الناس وبعد ذلك قاموا بمحاصرة منزله، فمنعوا عنه الطعام والماء. وقام عدد من الصحابة وأمهات المؤمنين بالمخاطرة بالروح حتى أوصلوا إليه الطعام، وفي النهاية قرر العصاة المتمردون اغتيال الخليفة لأنه رفض طلبهم بالتنازل عن الخلافة، فقاموا بالهجوم على بيته لكنهم لم يتمكنوا من الدخول من البوابة الرئيسية، حيث وجد عدد من الفدائيين يدافعون عن الخليفة، ولهذا تسلقوا الحائط المؤدي من منزله إلى طريق المسجد، وكان من بين هؤلاء محمد بن أبي بكر ومالك بن الأشتر النخعي وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر التيمي وغيرهم، وهجموا على الخليفة، بينما كان يتلو القرآن الكريم. وتفجر الدم الطاهر على أوراق المصحف، ونجحت مؤامرة المتآمرين، وانفرط عقد الأمة الإسلامية. الفتنة الكبرى: يطلق المؤرخون المسلمون على الفترة من بداية المؤامرة ضد الخليفة الثالث

عثمان رضي الله عنه اسم " الفتنة الكبرى " وهذا اسم على مُسمى، إذ انفرط عقد الخلافة الإسلامية وتفتتت وحدة الأمة، وتخاصم المسلمون وتناحروا وانقسمت الأمة الإسلامية حينذاك إلى ثلاث مجموعات متحاربة، وإلى جماعة غير منحازة. مجموعة كانت في صف علي تؤيده وتسانده وقامت لانتخابه خليفة رابعًا بعد استشهاد عثمان في المدينة المنورة. ومجموعة أخرى كانت مع عائشة الصديقة رضي الله عنها، وكان من حماتها الزبير وطلحة ومن في صفهم ممن وقفوا يطالبون بالقصاص لمقتل عثمان، وقادوا حركتهم أولاً في مكة وبعد ذلك في البصرة. والمجموعة الثالثة وهي المجموعة القوية، وضمت حماة معاوية ابن أبي سفيان والي الشام والأوفياء له، وقد قاموا يطالبون بالقصاص من مقتل عثمان، وأنكرت هذه المجموعة الاعتراف بخلافة علي. والمجموعة الرابعة ضمت من احتاط من الصحابة الكرام وكبار المسلمين ممن لم يرغبوا في أن يلوثوا أنفسهم بالحرب الداخلية بين المسلمين، ولهذا ظلت هذه المجموعة واقفة وحدها منفصلة عن الجميع. حدث هذا في حين وصلت الأمور إلى درجة من الغموض والتعقيد يصعب معها التمييز بين الصواب والخطأ، وبين الحق والباطل، إذ كانت كل جماعة تعتبر نفسها على حق والآخرين على باطل، كان علي يرى أنه الأحق بالخلافة، ولهذا كان من الضروري أن يبايعه جميع المسلمين، ومن ناحية أخرى كان الحق مع مطالبة عائشة ومعاوية بالقصاص من قاتل عثمان. وعلى الخليفة الرابع أن يقتص منهم، فإن لم يفعل فهو متهم بحمايته لهم، هذا بينما كانت دعوى علىّ رضي الله عنه أنه لا حول له ولا قوة، وكان هذا إلى حد كبير صحيحًا في بداية خلافته، نتيجة لما كانت عليه الظروف من تعقيد في هذا العصر الذي سمي بحق عصر الفتنة الكبرى. وربما حملت وجهة نظر المؤرخين القدامى بعض التعصب وربما كان في

السيدة عائشة وحركتها الإصلاحية:

رواياتهم فيها الكثير من الميول القبلية أو الميول الطائفية؛ لذا كان من واجبنا الوقوف بحذر أمام كثير من رواياتهم. السيدة عائشة وحركتها الإصلاحية: يتهم بعض المؤرخين المؤيدين لعلي رضي الله عنه سواء القدامى منهم أو المحدثون عائشة ومن معها بإعلان العصيان ضد الخليفة صاحب الحق، وقالوا بأنهم كانوا على باطل، وفي هذا الصدد ذكر المؤرخون القدامى بعض الروايات التي تؤيد عليًا وتعارض هؤلاء الكبار من الصحابة والتابعين. وعلى سبيل المثال ففي حديثهم عن واقعة الجمل ذكروا رواية عائشة، وهي رواية نباح كلاب قرية مروا عليها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما معناه أن هؤلاء الثلاثة على باطل وسوف يحاربون عليًا في يوم ما، وطبقًا للرواية الأخيرة فإن طلحة والزبير تركا ميدان القتال بناء على تذكير علىّ لهم، واعترفا بخطئهم؛ والحقيقة أن الروايات الثلاث موضوعة ولا تستقيم على محك الرواية والدراية كليهما، ويفهم من الروايات الصحيحة للمصادر أن هدف عائشة ومن معها هو القصاص من قاتل عثمان حتى يمكن سد باب الفتنة وينصلح حال الأمة. لكن خورشيد أحمد فاروق لم يترك شخصية في هذا الأمر دون طعن أو تجريح، فرأى أن طلحة والزبير كانا يريدان الخلافة، وأنهما قد حاولا بكل قوة الحصول عليها مثلهم في ذلك مثل علىّ، وقاموا بالإغداق على مؤيديهم السياسيين من أموالهم وثرواتهم في الكوفة والبصرة، ولكن حين أيدت الكوفة عليا وبايعته ... ضعفت الفرق الأخرى وأخذت البيعة بالقوة من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. إن اتهام طلحة والزبير باتخاذ إجراءات تهدف إلى الحصول على الخلافة، وتشكيل فرق سياسية، والتمسح بدم عثمان هو مجرد اتهام. إنهما لم يحاولا أبدًا الحصول على الخلافة، وقد كانا أول من قاما بسحب اسميهما بناء على اقتراح عبد الرحمن بن عوف من بين المرشحين في المجلس الذي شكله عمر،

سلوك علي:

وهذا دليل بيّن وواضح في سلوكهما، ثم إن الوقائع التاريخية في مكة والبصرة ترد بطريقة كاملة هذه التهمة، فلو كانا يريدان الخلافة لما تصالحا أبدًا مع عليّ. " إن هذين الصاحبين الجليلين قد طالبا عليًّا بحكومة الكوفة والبصرة، ورفض عليّ إعطاءهما هذا المطلب ولهذا خالفاه ". هذا اتهام لا تصدقه ولا تؤيده أية رواية تاريخية. وصحيح أنهما كانا يؤمنان بضرورة القصاص من قاتل عثمان، وقد كانا صادقين في هذا الأمر، ورؤيتهم لقتلة عثمان في جيش عليّ جعلهم على يقين من صدق موقفهم. ولقد اتهم سيد أمير على السيدة عائشة قائلاً بأنها عارضت عليًّا بسبب عداء شخصي، واشتركت في حرب الجمل، بينما قام خورشيد أحمد فاروق باتهامها بمحاولة تعيين طلحة بن عبيد الله التيمي أحد أقاربها طمعًا في الثروة، ونظرًا للعصبية القبلية بالإِضافة إلى اتهامها بالشكوى من أمور شخصية، والتهمتان لم تثبتا بأي شكل من الأشكال في أي مصدر من المصادر، ويتضح من خطابات عائشة، ومن بياناتها التاريخية، ومن سير الأحداث أنها أرادت حل قضية تهم الأمة، ولو كانت فيها هذه العصبية لما اقترحت أن يقوم عمر بإمامة الصلاة بدلاً من والدها في مرحلة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتضح من كلامها قبل وقعة الجمل أنها كانت تعمل بكل إيمان وصدق من أجل الحق. سلوك عليّ: اعتبر خورشيد أحمد حماية علي لقاتلي عثمان، وتأييده لهم، وتنصيب نفسه خليفة بتعاونهم، ورفضه تقديمهم للقصاص، خطأ كبيرًا، كتب يقول: " إن أولئك الذين اشتركوا أو قاموا بقتل الخليفة السابق، قاموا بتنصيب عليّ خليفة، ولا يمكن أن يهز أساس خلافته بتسليمه إياهم لمعارضيه ليقتصوا منهم " وكانت الصعوبة التي تواجه عليًّا أنه كان يعرف أن القتلة موجودون داخل جيشه، إلا أنه لم يكن قادرًا على معرفتهم وتمييزهم، ولكن المودودي يرى

احتجاج معاوية:

أنه قد تأذى وأعلن براءته منهم، وقبل حرب صفين وصل مبعوث معاوية للتباحث مع عليٍّ، فقام جيش علي الذي كان يضم الآلاف بالدق على الطبول معلنا أنهم جميعًا قاتلو عثمان، وصار الوضع في غاية التعقيد والغموض، ووسط هذه الظروف كان التعرف على القتلة وعقابهم أمرًا مستحيلاً، فلو كانت الظروف مواتية لأمكن الكشف عن القتلة، ولأمكن عقابهم. إلا أن الأحداث تطورت بسرعة فائقة لم تسمح بوجود تلك الفرصة. احتجاج معاوية: معظم مؤرخينا يعارضون معاوية، ويلقون على أكتافه بمسئوليات حرب صفين، وهم يرون أن معاوية اتخذ من قصة القصاص لعثمان ذريعة لاستكمال أهدافه السياسية، فأثار مشاعر أهل الشام، وأغدق على الناس بالأموال، حتى جعلهم في صفه ونتيجة لذلك نجح نجاحًا كاملاً في تحقيق أهدافه. وكان معاوية ورفاقه في العمل من مثل عمرو بن العاص يرون قتلة عثمان داخل جيش عليّ فيشعرون أنهم على حق، وقد أعلنوا عن ذلك فيما كتبوه إلى علي خاصة وكبار الأمة بصفة عامة. وأكبر المدافعين عن علي من مؤرخينا وهو المودودي يكتب أن عليًّا: " بعد موقعة الجمل ... تغير سلوكه تجاه قاتلي عثمان، وظل يتأذى من هؤلاء الناس حتى وقعة الجمل، وتحملهم بقلب غاضب، وكان ينتظر الفرصة للقبض عليهم، إلا أنه تدريجيًا حدث تقارب بينه وبين أولئك الناس الذين أثاروا الفوضى ضد عثمان، ثم صاروا في النهاية مسئولين عن قتله، حتى أنه أسند منصب الولاية لمالك بن الحارث الأشتر ومحمد بن أبي بكر، بينما يعرف الجميع الدور الذي لعباه في مقتل عثمان ... " ومن الواضح أنه وسط هذه الظروف المعقدة فإنّ اتهام معاوية بأنه على باطل تمامًا إنما هو اتهام غير صحيح، والتحليل المقبول هو ما ينسب في التاريخ إلى سيدنا عليّ، حين سئل عمن مات على حق وعمن مات على باطل، فقال:

" إن من حارب في سبيل مرضاة الله سينال الجنة، ومن حارب طلبًا للجاه والحرص على الدنيا فهو في النار " ولقد لجأ المؤرخون عمومًا إلى الإفراط والتفريط وهم بصدد تحليل أحداث الفتنة الكبرى، والسبب في ذلك هو جميع المزاعم والأفكار التي رسخت في أذهان الناس منذ فترات طويلة، ولقد ساهم مؤرخونا القدامى بدور أساسي في تشكيل هذه الأفكار، والذين كانوا بصورة واضحة منحازين إلى صف عليّ، وكانوا يعارضون من يعارضه، ولهذا يجب على القراء أن يحتاطوا حين يطالعون كتبهم بصورة عامة، وكتب المؤرخين الجدد بصفة خاصة، ويجب أن نقبل الروايات بشقيها بعد دراسة وفحص وتمحيص.

خاتمة المطاف

خاتمة المطاف يتضح من البحث المفصل السابق نوعية الهجمات المغرضة للمستشرقين والمؤرخين المغرضين على أهم فترات وأحداث التاريخ الإسلامي، وقد ألقينا بنظرة في هذا الصدد على كتابات المؤرخين المسلمين الأوائل وكتابات المستشرقين والمؤلفين المحدثين التي بنيت على تحليل وتفسير الروايات التاريخية بطريقة خاطئة. وكان ذلك نتيجة للميول الفكرية لهؤلاء المؤرخين، ونتيجة لتأثير عامل العقائد الدينية، ولهذا يجب علينا أن نقف من كتاباتهم في يقظة، وألا نقبل آراءهم في سهولة، وأن نلاحظ الأمور التالية: الأمر الأول: أن نلاحظ دائمًا في الروايات والمصادر الإسلامية القديمة أن الراوى كثيرًا ما يتأثر بميوله الذاتية، فلا يحتاط في قبول أو رفض الروايات، كما أنه قد يتأثر بعاطفته القبلية، ومع هذا فإن أكثر ما كتبوه طبقًا لإيمانهم وطبقًا لعقيدتهم كان صحيحًا من وجهة نظرهم، فليست كل رواية من رواياتهم مشكوكًا ومشتبهًا فيها، وأكثر الروايات صحيحة، ولو علم القارىء الاتجاه الفكري لكل راوٍ ومؤلف فسوف يفهم جيدًا وجهة نظره ومدى الصدق في رواياته. الأمر الثاني: يجب الانتباه فيما يتعلق بالمؤرخين المسلمين الكبار إلى ما يذكر عن الرواة الأوائل لأنهم كانوا ينتمون إلى مناطق مختلفة، ولأنهم كانوا عراقيين، وقد يلاحظ موقفهم ضد الشاميين والأمويين على الخصوص، وقد يميلون إلى العباسيين ويعارضون الأمويين. الأمر الثالث: أن مؤرخي القرن الثالث الهجري وما بعده كانوا جامعي روايات، فإذا ما وجدت في كتاباتهم تأييدًا أو معارضة لطبقة ما أو فرد ما،

فيجب أن ينتبه القارئ، فقد يكون الأمر على عكس ذلك، لأنهم يعتبرون جمع الروايات من كل نوع، سواء كانت صحيحة أو ضعيفة واجبًا عليهم، ولا يرون من الضرورة أو من واجبهم نقدها أو التعليق عليها، ولا يرون ذلك من واجبات عملهم، بل يتركون عملية النقد للقراء، ولهذا لا يجب أن تقبل رواياتهم على علاّتها دون أن توضع دائمًا على محك النقد. الأمر الرابع: يسود هذه الروايات طابع المبالغة والغلو، ولهذا وجب ملاحظة هذه الأمور عند قراءتها، كما لا يجب أن تقبل المعجزات والكرامات والخوارق والتنبؤات دون نقد أو تحليل، لأنه كثيرًا ما تكون مملوءة بالمبالغة، بالإضافة إلى أن تكون موضوعة أو مختلقة. الأمر الخامس: يجب الاحتياط دائمًا فيما يتعلق بمشاجرات الصحابة، فهم ليسوا بمعصومين، فصدور الأخطاء أو ارتكابها من جانبهم ليس بالمستحيل، بل هو ضرورة من ضرورات البشر، ولكن لا يوجد لديهم، وخاصة أكابر الصحابة سوء النية أو سواد الباطن، لهذا فما قاموا به، قاموا به بكل إيمان، فلو تذكرنا الأهداف والمقاصد فيما يتعلق باختلافاتهم فإننا حينها يجب أن نفهم تعليقات الرواة وكتاب الأخبار، ولا يجب أن نقبلها طالما لا توجد لها شواهد تاريخية مؤكدة. الأمر السادس: لا يجب أن نقبل بعيون مغلقة ما يذكره أصحاب الأخبار أو النقلة، أو بيانات المفسرين أو علماء الجرح والتعديل؛ لأنهم عادة ما يذكرون آراءهم الذاتية المبنية على معلوماتهم، وكثيرًا ما تكون معلوماتهم عن شخص ما أو طبقة ما أو إدارة ما ناقصة، وهكذا يكون تعليقهم بالضرورة غير مكتمل وغير واقعي. الأمر السابع: يجب أن ننظر إلى كتابات المستشرقين بالشك دائمًا، ويجب أن نشك فيما يكتبون حتى نتيقن بأنفسنا من صحته، فمعظم المستشرقين

لهم موقف متعصب ضد التاريخ الإسلامي والإسلام، ومعظمهم لم يطالع التاريخ الإسلامي جيدًا. كما أنهم لا يعرفون اللغة العربية جيدًا. كما أن معرفتهم بالهيئات الإسلامية غير دقيقة. ولهذا فكتاباتهم في معظمها تفتقد إلى التوازن والصواب. الأمر الثامن: معظم المؤرخين المحدثين إما تأثروا بالرواة القدامى أو تأثروا بكتابات المستشرقين، ولهذا يجب على القارىء أن يضع في ذهنه عنصر التأثير هذا حتى لا ينخدع بأسلوبهم وشرحهم للأحداث. الأمر التاسع: لا يجب قبول أية كتابات مهما كانت دون نقد أو تحليل. يجب أن يكون عقلنا واعيًا وقلبنا مدركًا، فنحن يمكن أن نشاهد جيدًا من خلال وجهات نظرنا نحن التضارب والتضاد في بيانات المؤرخين وميولهم الفكرية والعقدية، وأهدافهم وأغراضهم. وعليها يجب أن نقرأ التاريخ الإِسلامي بتناظره الصحيح.

المراجع

المراجع 1 - ابن الأثير، عز الدين على بن محمد. م (360 هـ / 1233 م). الكامل في التاريخ - بيروت 1965 م. أسد الغابة - طهران 1909 م. 2 - ابن أبي الحديد. م (655 هـ / 1259 م). شرح نهج البلاغة القاهرة 1959 م. 3 - ابن حجر العسقلاني م (852 هـ/ 1448 م). الإِصابة في تمييز الصحابة - القاهرة 1938 م. تهذيب الأخلاق - حيدر أباد الدكن 1911 م. لسان الميزان - حيدر أباد الدكن 1911 م. فتح الباري في شرح البخاري - بولاق 1882 م. 4 - ابن حزم، علي بن أحمد م (456 هـ / 1064 م). جمهرة أنساب العرب - القاهرة 1948 م. جوامع السيرة - القاهرة 1956 م. 5 - ابن حنبل، أحمد بن محمد م (241 هـ / 855 م). المسند - القاهرة 1949 م. 6 - ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد م (804 هـ/ 1406 م). كتاب العبر - بيروت 1956 م.

المقدمة - القاهرة - ط مصطفي محمد. 7 - ابن سعد محمد م (230 هـ/ 845 م). الطبقات الكبرى بيروت 1957. 8 - ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا م (709 هـ/ 1309 م). كتاب الفخري - القاهرة 1899 م. 9 - ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم دينوري م (276 هـ / 889 م). كتاب المعارف القاهرة 1960 م. عيون الأخبار - القاهرة 1925 م. كتاب الإمامة والسياسة - القاهرة 1925 م. (منسوب). 10 - ابن كثير، إسماعيل بن عمر م (774 هـ / 1373 م). البداية والنهاية - القاهرة 1932. 11 - ابن هشام. عبد الملك م (218 هـ/ 833 م). السيرة النبوية - القاهرة 1925 م. 12 - أبو حنيفة الدينوري م (282 هـ / 895 م). كتاب الأخبار الطوال - ليدن 1888 م. 13 - أبو داود. سليمان بن الأشعث. م (275 هـ / 888 م). السنن - القاهرة 1922 م. 14 - أبو عبيدة قاسم بن سلام م (224 هـ / 836 م). كتاب الأموال - القاهرة 1934 م. 15 - أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم م (182 هـ / 798 م). كتاب الخراج القاهرة 1933 م. 16 - أرزقي. محمد بن عبد الله م (244 هـ/ 858 م).

أخبار مكة بيروت 1964. 17 - البخاري. محمد بن إسماعيل م (256 هـ/ 870 م). الجامع الصحيح - القاهرة 1955 م. التاريخ الكبير - حيدر أباد الدكن 1941 م. 18 - البغدادي، محمد بن حبيب م (245 هـ / 859 م). كتاب المحبر حيدر أباد الدكن 1942 م. كتاب المنمق حيدر أباد - الدكن 1964 م. 19 - البلاذري، أحمد بن يحيى م (279 هـ / 892 م). أنساب الأشراف ط1 القاهرة 1959 م، الرابع - القدس 1938 م. الخامس - القدس 1936 م. فتوح البلدان القاهرة 1932 م. 20 - الطبري، محمد بن جرير م (311 هـ/ 923 م). تاريخ الرسل والملوك القاهرة 1960 م. جامع البيان عند تأويل آي القرآن، القاهرة 1960 م. 21 - الفاكهي - محمد بن إسحاق م (272 هـ/ 882 م). المنتقى في أخبار أم القرى - بيروت 1994 م. 22 - مالك بن أنس م (179 هـ / 795 م). الموطأ القاهرة 1951 م. المدونة القاهرة 1905 م. 23 - مسلم بن الحجاج القشيري م (261 هـ / 915 م). الجامع الصحيح - القاهرة 1952 م. 24 - المسعودي. على بن حسين م (345 هـ / 956 م). مروج الذهب - القاهرة 1927 م.

كتاب التنبيه و الأشراف - ليدن 1892 م. 25 - الواقدي، محمد بن عمر م (207 هـ / 822 م). كتاب المغازي - لندن 1966 م. 26 - يعقوب، أحمد بن أبي يعقوب م (292 هـ / 903 م). التاريخ - بيروت 1960 م. كتاب البلدان - ليدن 1860 م. 27 - يحيى بن آدم م (202 هـ/ 818 م). كتاب الخراج - ليدن 1896 م. 28 - أحمد أمين، فجر الإِسلام - القاهرة 1964 م. ضحى الإِسلام - القاهرة 1964 م. 29 - طه حسين، على هامش السيرة - القاهرة 1974 م. الشيخان - القاهرة 1960 م. الفتنة الكبرى - ط دار المعارف. 30 - عمر أبو النصر، خلفاء محمد - بيروت 1935. محمد وعصره - بيروت 1949 م. 31 - أبو الأعلى المودودي، خلافت أورملة آيت دهلي 1969 م. 32 - خورشيد أحمد فاروق تاريخ إسلام دهلي 1982 م. 33 - شبلي نعمان - سيرة النبي أعظم كَرمق 1973 م. 34 - نقوش. (مجلة) رسول غير إراده فروغ ارندلوصور (مجلد) 1982 م. 35. Andre , Tor , Mohammad the Man and His Faith , London 1956. 36. Arnold , T.W., The Caliphate , London 1956 ; The Preaching of Islam London 1935.

37. Broekelmaun , C., History of the Islamic Peoples , London 1952. 38. Caetani , Leon , An nabi dé El Islam , Milan 1905. 39. Cambridge History of Islam , Cambridge 1970. 40. Dennett , D. C , Consersion & Poll-Tax in Early Islam , Cambridge 1950. 41. Gabrieli , F. Ashort History of the Arabs , London 1965 ; Muhammad and The Conquest of Islam. 42. Gibb , H.A.R, Studies on the Civilization of Islam , London 1962. 43. Hitti , P.K., The History of the Arabs , New York 1964 ; Makers of Arab History , London 1969. 44. Margoliouryth D.S., Muhammad and the Rise of Islam , London 1905. 45. Muir , W., The Life of Muhammad Edinburgh 1923. 46. Watt , W.M., Muhammad At Mecca , Oxford 1953: Muhammad At Medina , Oxford 1956.

الفهرس - تمهيد - المؤرخون القدامى، القرن الأول والثاني الهجري ........ 5 المستشرقون ..................................................... 10 - الاتجاهات الجديدة في كتابة السيرة والتاريخ .................... 14 المؤرخون المغرضون والانتهازيون ................................. 15 المؤرخون المنحازون .............................................. 16 اتجاه خطير ....................................................... 18 - العهد النبوي .................................................. 22 الاسم والنسب .................................................. 22 المنافسة بين بني هاشم وبني أمية ................................... 24 حياة الرسول - المرحلة الأولى .................................... 26 قصة بُحيرا الراهب ............................................... 29 رسول الله صلى الله عليه وسلم في شبابه .......................... 30 - البعثة النبوية ................................................... 34 تعاليم القرآن الكريم .............................................. 39 تدوين القرآن ..................................................... 40 تطوير الدعوة الإسلامية في العهد المكي ............................ 43 معارضة الإسلام .................................................. 45 تعذيب المسلمين .................................................. 47 قصة إله .......................................................... 50

الهجرة إلى المدينة المنورة ............................................ 52 المهمات الأولى ..................................................... 54 غزوة بدر .......................................................... 57 غزوات النبي ....................................................... 59 العلاقات مع اليهود: الروابط الفكرية ............................... 60 تشكيل المجتمع الإسلامي: المؤاخاة ................................... 63 الصحيفة النبوية .................................................... 64 المعارك مع يهود المدينة .............................................. 66 تشكيل الدولة الإسلامية ............................................ 69 يهود خيبر .......................................................... 70 الخط السياسي للعلاقات مع غير المسلمين ............................ 71 تبليغ الدين ونشر الإِسلام ........................................... 75 السكان المسلمون في العهد المكي .................................... 77 نشر الإسلام خارج مكة ............................................ 79 رسول أو حاكم .................................................... 80 بناء الدولة الإِسلامية ............................................... 83 تنظيم الحكومة ..................................................... 85 - الخلافة الرشيدة .................................................. 88 فتنة الردة .......................................................... 96 - الفتوحات الإِسلامية: الدوافع والأهداف ........................ 102 أهداف الفتوحات ................................................. 109 نوعية الفتوحات الإِسلامية ........................................ 112

انتخاب الخليفة الثالث ............................................. 114 - التآمر على الخلافة الإسلامية .................................... 117 عزل وتعيين العمال في عهد عثمان ................................. 117 التصرف في بيت المال ............................................. 126 القطائع ........................................................... 127 الاتهامات الأخرى ................................................. 128 أهم ملامح السياسة العثمانية ...................................... 128 الفتنة الكبرى ..................................................... 131 السيدة عائشة وحركتها الإصلاحية ................................ 133 سلوك علي ....................................................... 134 احتجاج معاوية ................................................... 135 - خاتمة المطاف ................................................... 137 - المراجع ......................................................... 141

§1/1