الهادي والمهتدي

مرزوق بن هياس الزهراني

الهادي والمهتدي تأليف الدكتور/ مرزوق بن هياس آل مرزوق الزهراني الطبعة الأولى (1436 هـ - 2015 م)

الإهداء

الإهداء إلى صانع عاصفة الحزم خادم الحرمين الشريفين؛ الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود أيده الله بنصره وتوفيقه، وأعز به البلاد والعباد، فلم يكن لنا عز إلا بالله ثم به وبجنوده البواسل، وشعبه الصادق الوفي، فنبارك جهوده في خدمة دينه وطنه وشعبه والأمة الإسلامية، لقد طرق بابا بَزَّ فيه الأقران اليوم بقيادة المملكة العربية السعودية لعاصفة الجزم، وأرسى نواة مباركة في وحدة الصف العربي الإسلامي، وجدد الآمال في النفوس الأبية بنجدة جار طلب الغوث لحمايته من دمار شامل، ولحماية حدود أرض الحرمين مهبط الوحي، ومهوى أفئدة المسلمين فلا يطالها عبث أذناب الأعداء، فله مني ومن أبنائي ومن الشعب السعودي تحية ولاء وإكبار على هذا الإنجاز العظيم، إنجاز لا يصنعه إلا العظماء، والتحية موصولة لقادة التحالف العشري الميمون، شكر الله لهم المسعى، وبارك في الجهود، وخيب الله كيد الأعداء وأطماع الطامعين. المؤلف الدكتور/ مرزوق بن هيّاس الزهراني

المقدمة

المقدمة منذ بدء الخلق اقتضت إرادة الله - عز وجل - أن لا يُعبد سواه، فكانت دعوة الرسل متفقة على توحيد الله - عز وجل -، وعبادته وحده لا شريك له، وعلى هذا أطبقت دعوات الرسل عليهم السلام، فما من رسول إلا دعا أمته إلى توحيد الله - عز وجل -، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وقد كان كل نبي يُبعث في قومه خاصة، ولما أراد الله - عز وجل - أن يكون نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى الناس كافة، معززاً الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، أرسله إلى الناس كافة؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬1)، ولم تكن رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قاصرة على بني آدم، بل تشمل الجن قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (¬2)، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - اجتمع بالجن ودعاهم إلى الإسلام، فلا يسع أحدا من الجن والإنس سمع به منذ نبوته - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة إلا الإيمان به ومن لم يؤمن به - صلى الله عليه وسلم - ويتبع الحق الذي جاء به كتابا وسنة فهو من الخاسرين، وقد قال الله تعالى في شأن تكليف الجن باتباع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (¬3)، قَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: "كَانُوا سَبْعَة من جن نَصِيبين فجعلهم رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إِلَى قَومهم" وفي قَوله: فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا إِلَى قَومهم دليل على أَنه كَلمهم بعد ذَلك (¬4)، وَلهذَا {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬5)، وكان سبب صرفهم إليه - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الآية (28) من سورة سبأ. (¬2) الآيتان (1، 2) من سورة الجن. (¬3) الآية (29) من سورة الأحقاف .. (¬4) آكام المرجان في أحكام الجان 1/ 69. (¬5) الآيتان (30، 31) من سورة الأحقاف.

منعهم من استراق السمع، وقد قرأ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجُونِ، وفي رواية بوادي نخلة قرب الطائف، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "إن النفر الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جن نَصِيبِينَ (¬1)، أتوه وهو بِنَخلَةَ"، ومن هنا نقول: لن يحصل اجتماع الأمة المحمدية إلا على منهج الكتاب والسنة، فالله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬2)، ولا خلاص للأمة من نكباتها والمخاطر المحيطة بها إلا بالوحدة على منهج الكتاب والسنة، اعتقادا بوحدة المعبود - عز وجل -، وعملا بوحدة المتبوع - صلى الله عليه وسلم -، ووحدة المنهج وذلك بالعمل بالكتاب والسنة، هذه الأسس الثلاثة لا تقوم وحدة الأمة المحمدية إلا عليها، ومن رام غير هذا فإنما يبحث عن سراب، ومن هنا وسمنا كتابنا هذا بـ "الهادي والمهتدي" فالهادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نقصد هداية التوفيق فهذه خاصة برب العزة والجلال، يمنحها من يشاء من عباده، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬3)، فالهداية المنفية عنه - صلى الله عليه وسلم - هي هداية التوفيق، والذي نقصده هداية الدلالة والإرشاد وقد أثبتها له ربنا جل وعلا، فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬4)، ولا نشك في أن رحمة الله بهذه الأمة هي السمة البارزة في هذا الدين، فقد جاء الرحمة المهداة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، رسولا للعالمين ورحمة لهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬5)، أثنى على ربه - عز وجل -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم أثنى على ربه، وأنا مثن على ربي قال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس، بشيرا ونذيرا، وأنزل عليَّ الفرقان فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الأولون وهم ¬

(¬1) مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام (معجم البلدان 5/ 288) وانظر: الطبري 12/ 170. (¬2) من الآية (103) من سورة آل عمران .. (¬3) الآية (56) من سورة القصص. (¬4) من الآية (52) من سورة الشورى. (¬5) الآية (107) من سورة الأنبياء.

الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا خاتما» (¬1)، ومن رحمة الله للأمة المحمدية، أن أذاب الفوارق بين المؤمنين، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2)، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (¬4)، ولئن كان التفاضل بين الناس عربا وغير عرب مزية اجتماعية يحسب لها حسابها، فقد مقتها الإسلام في الأمة المحمدية، وأرسى قاعدة «كلكم لآدم» كما في الحديث السابق، ومن رحمة الله للأمة المحمدية أن رحمته سبقت سخطه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي» (¬5)، ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، لأن العبد مهما عمل من الخير، ومهما عُمّر في ذلك، فلن يوازي شكر نعمة واحدة من نعم الله عليه، والله غني عن ذلك كله، فكانت رحمته أوسع لعباده، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يُدخِل أحداً عملُه الجنة» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضل ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا» (¬6)، ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أن الشريعة الإسلامية بنيت على اليسر، ورفع الحرج يقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬7)، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» (¬8)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «دعوني ما تركتكم، ¬

(¬1) الطبري 14/ 437 .. (¬2) من الآية (10) من سورة الحجرات. (¬3) الآية (13) من سورة الحجرات. (¬4) أحمد حديث (23489). (¬5) أخرجه البخاري، حديث (7422). (¬6) أخرجه البخاري، حديث (5673). (¬7) الآية (185) من سورة البقرة .. (¬8) أخرجه البخاري، حديث (6024).

إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (¬1)، وكلما أتاه مستفتٍ يوم النحر في منى قال: «افعل ولا حرج» قال عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يخطب يوم النحر إذ قام إليه رجل فقال: كنت أحسب - يا رسول الله - كذا وكذا قبل كذا وكذا، ثم قام آخر فقال: يا رسول الله، كنت أحسب كذا وكذا، لهؤلاء الثلاث"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «افعل ولا حرج» (¬2)، لهنَّ كلِّهنَّ يومئذ، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: «افعل ولا حرج» والنصوص في هذا الباب كثيرة يكفي منها ما ذكرنا، كل هذا من أجل الرفق بالأمة المحمدية، وتجنيبها الغلو في العبادة، فضلا عن الغلو في الأشخاص، مهما كان فضلهم وصلاحهم. أما المهتدي: فقد قصدنا به كل من آمن بالله ربا فوحَّده في العبادة، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا فوحَّده في الاتباع، وبالإسلام دينا فوحَّد الكتاب والسنة وجعلهما أُسَّ العمل في كل شؤن الحياة، من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرث الله - عز وجل - الأرض ومن عليها، وأول هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لم يخرجوا عن العمل بكتاب الله - عز وجل - وسنة معلمهم الهدى - صلى الله عليه وسلم -، وقصدنا ضمنا الباحث عن الحق الراغب في الاهتداء. المؤلف ¬

(¬1) أخرجه البخاري، حديث (7288) ومسلم، حديث (1337). (¬2) أخرجه البخاري، حديث (6665).

القسم الأول خطوات الوحدة الإسلامية

القسم الأول خطوات الوحدة الإسلامية الاصطفاء للرسالة: كانت أول خطوة لوحدة الأمة اصطفاء نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - للرسالة، وحمل أمانة البلاغ لكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالدين الإسلامي، وإعلام الأمة بها من غير زيادة ولا نقص، لمَّا بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشده وبلغ أربعين سنة، أنزل عليه ربه الوحي، بعد أن هيأه لذلك، وكانت هذه المرحلة من أشق المراحل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان وحيدا في قومه مفطورا على الخير، والعفة والنزاهة، والصدق والأمانة، وحسن الخلق، وجاءه أمر عظيم تنوء بحمله الجبال الرواسي، ألم يقل الله - عز وجل -: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ} (¬1) إنه أمر له تبعات عظيمة، لا يقوى عليها إلا من أعده الله - عز وجل - لذلك، وكان له ناصرا ومعينا، وقد تحقق كل ذلك لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، بدءا من قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬2)، وختما بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3). نزول الوحي إنه تشريع من حكيم حميد، فالمشرِّع هو الله - عز وجل -، وناقل التشريع هو روح القدس جبريل - عليه السلام -، والرسول إلى الناس كافة هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، والوحي المنزل هو القرآن كلام الله - عز وجل -. أمر الله - عز وجل - عبده ورسوله نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بإبلاغ عباد الله تعالى إنساً وجناً ما أوحى الله - عز وجل - إليه من العلم والحكمة {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا ¬

(¬1) الآية (21) من سورة الحشر. (¬2) الآية (1) من سورة العلق. (¬3) من الآية (3) من سورة المائدة.

العهد النبوي

بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬1)، تلقى المصطفى أمر ربه، مؤمنا مصدقا بعظمة الخالق - عز وجل - لكل شيء، وعزَم على حمل الأمانة، والقيام بمسؤولية هداية الثقلين، هداية دلالة وإرشاد وتوجيه، فاصطفى الله - عز وجل - له من شاء من عباده، لنصرته ومؤازرته. العهد النبوي لن نتعرض لنشأة رسول الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسنتجاوز المرحلة الأولى مرحلة العهد المكي؛ لأن ذلك لا يجهله أحد من المسلمين، وإن وجد من يجهله منهم فهم الغثاء من الأمة المحمدية، الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم من الكائنين في آخر الزمان، وسنبدأ من العهد المدني الذي تحقق فيه إعلاء كلمة الله - عز وجل -، وكانت وقعة بدر يوما مشهودا في بداية انتصار الحق على الباطل، وما تلاها من انتصارات أسست شأن الأمة المحمدية، في جزيرة العرب أولا، وكان يوم الفتح العظيم في السنة الثامنة من الهجرة النبوية، دخل الناس في دين الله أفواجا، ولئن كان خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة سرا متخفيا ليلا من أسفلها، فقد أبا اللهُ - عز وجل - إلا أن يعود نهارا عيانا بيانا من أعلاها، خاشعا لربه متواضعا شاكرا حامدا، أعزه الله - عز وجل - في يوم أذل فيه قريشا بأجمعها، وكانت الرحمة المهداة غير متخلفة عن قريش الذين آذوا رسوله وطردوه، فلما تمكن منهم لم يظنوا به إلا خيرا لِما عرفوا من سيرته - صلى الله عليه وسلم -، وعفوه ورحمته، سألهم «يا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ » قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (¬2)، ارتبطت مكة بطيبة بعد هذا اليوم، واتجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نشر توحيد الله - عز وجل -، والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتطهير جزيرة العرب من الأوثان، فبعث البعوث، واستقبل الوفود، وشرّع للناس ما يتعلق بعبادة ربهم، وسياسة دنياهم، أحاط به الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -، وكانت المعجزات تتفجر في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأييدا ¬

(¬1) الآية (67) من سورة المائدة. (¬2) السيرة لابن حبان 1/ 315 ..

من الله - عز وجل - لصدق نبوته - صلى الله عليه وسلم -، وتثبيتا لقلوب المؤمنين به، فما زادهم ذلك إلا إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد كانت حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم، نورا وسعادة وشفاء، بصَّر من العمى، وهدى من الضلال، وانتشر الإخاء بين بني آدم، وجمع الله به قلوب المؤمنين على المحبة والإخاء، والعمل بما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، فاستظل الناس بعدله، وكمال خلقه وتواضعه - صلى الله عليه وسلم - وكان رحمة من الله - عز وجل - للأمة المحمدية ولا يزال كذلك حتى تقوم الساعة، وبعد قيام الساعة فهو شفيع الأمة المحمدية، لقد أشرق كل شيء في طيبة حين وصل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأظلم كل شيء فيها حين لحق بالرفيق الأعلى - عز وجل -، كما في حديث أنس - رضي الله عنه - (¬1)، لكنه ربى جيلا هم خيار الناس على الإطلاق، الأمثل منهم فالأمثل، رضي الله عنهم أجمعين، على أن العهد النبوي لم يسلم من كيد أعداء الإسلام، كمحاولة يهود بني النظير قتله - صلى الله عليه وسلم -، وما جرى في فتوحاته من منازلة الأعداء، ولكن الله - عز وجل - كتب له ولأصحابه - رضي الله عنهم - النصر والتمكين، إعلاء لكلمته - عز وجل -، ورحمة بالأمة من عبادة غير الله - عز وجل -، كان العهد النبوي رحمة للعالمين، لم تكن رحمته - صلى الله عليه وسلم - قاصرة على العرب بني جنسه ومحتده، بل كل من آمن به من بني آدم، وعمل بما جاء به من الهدى، فاز في الدنيا والآخرة، فهو المبعوث إلى الناس كافة، ولقد تعدى خيره وبركته إلى غير المؤمنين به، من أهل الذمة، بما أبرم لهم من حقوق يلتزم بها المسلمون، فقد حفظ دماءهم وأعراضهم وأموالهم، فلا يجوز الاعتداء عليهم بغير حق قال - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» (¬2)، وكان المؤمنون به أمة واحدة، كما وصفهم رب العزة والجلال {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬3)، المراد أمة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم كل من صدقه وآمن به من جميع بني آدم على اختلاف لغاتهم، وألوانهم، وتعدد قبائلهم وشعوبهم وأعراقهم، هذه الخيرية جاءت من إيمانهم بالله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) الترمذي حديث (3618) .. (¬2) البخاري حديث (6403). (¬3) من الآية (110) من سورة آل عمران.

واتباعهم ما جاء به من الحق والهدى، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم كما وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» (¬1)، وضرب لهم مثلا في كمال التلاحم والتآزر، وصدْق الإحساس والشعور بالمسؤولية فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬2)، وقد أذاب الإسلام كل الفوارق بين بني الإنسان، فكلهم أبناء آدم {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3)، وما دام الأمر كذلك فالتفاخر والتفاضل بينهم منفي إلا فيما يرضي الله - عز وجل -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر، ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى» (¬4)، وبسبب هذا الكمال في العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، قامت للأمة الإسلامية وحدة لم تعرف الدنيا مثيلا لها، ولم تكن حضارة على وجه الأرض أطهر وأنقى ولا أعدل وأكمل منها، كل ذلك بفضل امتزاج الدين الخالص بالحياة، وهيمنته على القلوب، فاحتوى العربيَّ وغيره، والأسود والأبيض، والغني والفقير، والمالك والمملوك، وأصبح الضاعن رجلا أو امرأة يسير من أقصى الدنيا قاصدا بيت الله الحرام لا يخشى على نفسه، آمنا مطمئنا في ظل الإسلام الوارف، وكان لسان حال كل مسلم يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم هذه هي الدائرة الأولى، وهي الأساس في بناء الحضارة الإسلامية التي أخبر باتساعها فيما بعد رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: «زويت لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطيت الكنزين: الأصفر، أو الأحمر، والأبيض يعني الذهب والفضة ¬

(¬1) أبو داود حديث (2751) .. (¬2) مسلم حديث (4685). (¬3) الآية (13) من سورة الحجرات. (¬4) إتحاف الخيرة المهرة حديث (2614).

وقيل لي: إن ملكك إلى حيث زوي لك» (¬1)، والمراد ملك الأمة، فهو نبي وليس ملكا، وتنبأ به هرقل في حواره مع أبي سفيان حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومساءلته لأبي سفيان، ولم يكن أبو سفيان مسلما في ذلك الوقت، وبعد سماع هرقل لإجابة أبي سفيان على كل سؤال سأله قال: "فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه، لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه"، وملكت ذلك الأمة بعد موته - صلى الله عليه وسلم - في عهد عمر - رضي الله عنه -، وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: حدثتني أم حرام بنت ملحان: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (¬2)، في بيتها يوما، فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟ ، قال: «رأيت قوما من أمتي يركبون ظهر هذا البحر، كالملوك على الأسرة» قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم نام أيضا فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله، ما أضحكك؟ ، قال: «رأيت قوما من أمتي يركبون ظهر هذا البحر، كالملوك على الأسرة» قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «أنت من الأولين» قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فغزا في البحر فحملها معه، فلما قدموا قُرِّبت لها بغلة لتركبها، فصرعتها فدقت عنقها فماتت" (¬3)، وقد تحقق ذلك كله، لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، حين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقد كانت كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الآفاق بدايةَ اتساع ديار الإسلام، ودعوةَ الناس كافة للدخول في دين الله - عز وجل -، وكان ركوب البحر في عهد معاوية - رضي الله عنه -، وقد كان الناس قبل بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أمما في معتقداتهم، وعاداتهم ومناهج حياتهم، جَعلت العاداتُ لكل منهم شرعة ومنهاجا، منهم من كان على جهل ببقايا ما جاءت به الرسل، ومنهم من اتخذ له إلها كما يهوى ويحب، وكان من العرب من بقي يتأمل شيئا من دين إبراهيم - عليه السلام -، وغالبهم يعبدون الأوثان، وهكذا غيرهم من المجوس والذين أشركوا، وليس بخاف على أحد دين اليهود والنصارى وما أوقعوا فيه من تحريف وضلال، فكان مبعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة مهداة لهذه ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجة حديث (3952). (¬2) من القيلولة، وهو النوم في وسط النهار. (¬3) أخرجه البخاري حديث (2788) ومسلم حديث (1912) ..

ركائز وحدة الأمة

الأمة بكل أجناسها وقبائلها عربها وعجمها على حد سواء، ولم يكن لشعب دون شعب، بل كان للناس كافة، فقامت وحدة لم يسبق لها مثيل بالصفة التي أقامها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صفة استمدها من الوحيين الذين مَنَّ الله بهما عليه، وعلى أمته - صلى الله عليه وسلم -. ركائز وحدة الأمة نستخلص من العهد النبوي أن ركائز وحدة الأمة خمس، دورها في وحدة الأمة كدور أركان الإسلام في بنائه، وهي: الركيزة الأولى: الوحدة في الإيمان: إن الإيمان بأن لهذا الكون خالقا يدبر أمره في كل ذرة منه، يقود إلى أن للإنسان ربا يستحق منه العبادة والتقديس، فإنه لا يكون في العبادة حق لغير الخالق، فلا يكون حينئذ لمقولة الدهريين قبول، لأنها مجرد هراء قادت إليه أفكار شيطانية، فقالت الألسنة الشريرة: "لا إله، والحياة مادة، وإنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر"، وأصحاب هذه المقولات هاجت بهم جنون الأفكار حتى ألقتهم في جهنم وبئس المصير، وأكثر منهم عقلا وإيمانا ذلك الأعرابي حين سئل كيف عرفت ربك؟ فقال: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟ " (¬1)، مقولة محفوظة معلومة، لأنها في بساطتها ذاتَ دلالة قاطعة على أن هذا الخلق العظيم لا يمكن أن يكون بدون خالق مدبر، فالإيمان الركيزة الأولى، وهي أساس الركائز الأربع التالية، وقد أُسست أركان الإيمان في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يُرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه"، ثم قال: «يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: ¬

(¬1) البيهقي وموقف من الإلهيات 1/ 38 ..

صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر كله: خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها - يعني علاماتها - قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة: رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» قال: ثم انطلق فلبثت ثلاثا، ثم قال: «يا عمر أتدري من السائل؟ » قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل - عليه السلام - جاءكم يعلمكم دينكم» (¬1). تضمن هذا الحديث تحديدا لأركان الإيمان وهي ستة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر كله: خيره وشره» وما من ركيزة من الركائز الأربع التالية لها إلا وهذه الركيزة محورها، وقد يقول قائل: لِمَ ذكر أركان الإسلام إذاً؟ فالجواب أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد، إذا اجتمعا افترقا في تفسير كل منهما، وأن الإسلام الإقرار باللسان، والعمل بالأركان، وأن الإيمان الاعتقاد بالقلب، وإذا افترقا أغنى كل منهما عن ذكر الآخر، لدخوله فيه ضمنا، فارتبط الظاهر بالباطن، والتحمت ركائز الوحدة الإسلامية، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي الله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا» (¬2)، لاحتواء الإيمان الركائز الثلاث التالية له، لأن المسلم تحصَّل له بالإيمان العلم بالله - عز وجل - فرضي به ربا، وحصلت له معرفة بالإسلام فرضيه منهجا، وحصل له الإقرار بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فرضيه نبيا ورسولا، وليُعلم أن مسمى الإيمان ليس محصورا في الأركان الستة ومعها أركان الإسلام الخمسة، بل هو أوسع من ذلك فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» (¬3)، ورواية مسلم «بضع وسبعون شعبة» (¬4)، فما ورد في حديث ¬

(¬1) مسلم حديث (8). (¬2) مسلم حديث (49). (¬3) البخاري حديث (9). (¬4) البخاري حديث (161) ..

الركيزة الثانية: الوحدة في المعبود

جبريل - عليه السلام - هو أصول الإيمان التي لا يصح إيمان عبد إلا باجتماعها، وقد ورد في الكتاب العزيز تناول مسمى الإيمان لأكثر مما في حديث جبريل، قال تعالى: ... {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬1)، هنا تكامل لعناصر الإيمان، وقد يؤخذ من حديث الصحيحين السابق أن أول الإيمان الإقرار، وآخره إماطة الأذى عن الطريق، صحيح أن الإيمان الاعتقاد بالقلب، ولكنه لا يُعلم إلا بالإقرار، فالنطق يكشف خبايا القلب، فكان الإقرار أول ما يُعلم به إيمان المرء، ولهذا فالمسلمون يتفاضلون في الإيمان على قدر ما يحوزون من تعظيم الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيم كتابه تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قدر التطبيق العملي لذلك. الركيزة الثانية: الوحدة في المعبود: المعبود بحق هو الله - جل جلاله - وحده لا شريك له، وعلى هذا أطبقت الأديان السماوية، وجاء القرآن الكريم داعيا إلى ذلك، آمراً النبي وأمته بالعلم بذلك، وأن يُتْبعَ العلم بالعمل قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» (¬3)، ولا عصمة لأحد بغير ذلك، وبها وبما بعدها صار الإسلام دين الله في الأرض لا يقبل سواه، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬4)، هذا الدين العظيم الذي اتسع لكل البشر بالحرية والعدل والمساواة، قوامه الكتاب والسنة، وركائز وحدة الناس عليه أولها الإيمان بالله - عز وجل -، وثانيها عبادة الله وحده لا شريك ¬

(¬1) الآية (177) من سورة البقرة. (¬2) من الآية (19) من سورة محمد. (¬3) البخاري حديث (25) ومسلم حديث (133). (¬4) من الآية (85) من سورة آل عمران.

له، فليس من العدل أن تعبد غير الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، فلا أصنام ولا أوثان ولا غير ذلك إلا الخالق البارئ المصور، من له الأسماء الحسنى، وسبحان الله عما يشركون، وعلى هذا المنوال كانت عبادة المؤمنين في العهد النبوي الكريم، وعصر الخلافة الراشدة.

الركيزة الثالثة: الوحدة في المتبوع

الركيزة الثالثة: الوحدة في المتبوع: المتبوع الذي خاطب الله به البشر جميعا وأمرهم أن يؤمنوا به هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتال من لم ينطق بالشهادتين: شطرها الأول لوحدة المعبود، وشطرها الثاني لوحدة المتبوع - صلى الله عليه وسلم - لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وقد احتفظ الإسلام بفضل الأنبياء وحافظ على مكانتهم في نفوس الناس، وجعل الإيمان بهم وبما جاؤوا به ركنا من أركان الإيمان، ولكن كانت إرادة الله - عز وجل - فيما مضى أن يبعث في كل أمة رسولا، وكان ذلك، وكانت دعوتهم إلى توحيد الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬1)، فلما وقع التحريف والتبديل فيما جاؤوا به، كانت رحمة الله لمن بعدهم أن لا يعذبهم بما اقترف غيرهم من تحريف الكتب المنزلة ولاسيما على موسى وعيسى عليهما السلام، فوعد تعالى بعدم العذاب فقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (¬2)، وإن كان هذا عاما في الأمم فهو يتناول أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، هذا من جانب، ومن جانب آخر اقتضت إرادة الله - عز وجل - أن يكون المبعوث رحمة للعالمين كافة وبشرع موحَّد، جعل فيه من اليسر والتخفيف مالم يكن فيما سبقه من الأديان، بيّن ذلك تعالى بقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬3)، وهذا يشمل التخفيف عن بني إسرائيل بنبوة عيسى - عليه السلام -، وعن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بنبوته، وأمرهم بوحدة الاتباع فلا يجوز لبشر على وجه الأرض يسمع بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يُقبل عليها ويتبين أمرها ليعلم الحق من الباطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - ورآه ينظر في التوراة: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» (¬4)، فتوحد المؤمنون على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخرجوا عن ذلك قيد أنملة، وهم الرعيل الأول من المؤمنين - رضي الله عنهم -، وقد عجبت ممن يتصدر ¬

(¬1) من الآية (36) من سورة النحل. (¬2) من الآية (15) من سورة الإسراء. (¬3) من الآية (157) من سورة الأعراف .. (¬4) شعب الإيمان للبيهقي حديث (176).

الركيزة الرابعة: الوحدة في المنهج

لتوجيه الناس، ويزعم أن كل أحد مخير فيما يدين ويعتقد ويستدل بقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬1)، وقد غفل عن تأمله أول الآية، وكذلك لو تأمل آخرها لما وقع في هذه الطامة، ولفهم أنها للتهديد والوعيد لمن لم يؤمن، هذا هو الحق، وأن من كفر فهو ظالم وموعود بالنار قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} ... أي قل يا محمد إن ما جئت به هو الحق من ربكم {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (¬2)، فالآية ليس فيها تخيير البتة بل وعيد شديد يا أولي الألباب. الركيزة الرابعة: الوحدة في المنهج: جعل الله لهذه الأمة منهجا فريدا تلتقي عليه وحدتهم المصيرية في أمر الدين خاصة، وفي أمور الدنيا عامة، فقال عن كلامه المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3)، ولو حاول الراغب في التحريف فإنه يبوء بالفشل في الدنيا، والخسران في الآخرة، لأن القرآن الكريم مصون محفوظ من رب العزة والجلال، وها هو يطوي القرن الخامس عشر وهو محفوظ كما أقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه - رضي الله عنهم -، وقد خسيء كل من أراد النيل منه لفظا أو معنى، فإن الكثيرين من صغار المسلمين تحويه صدورهم فضلا عن كبارهم، كيف لا وهو المنهج الذي استقام عليه أمر الرعيل الأول في عهد النبوة، وعهد الخلافة الراشدة، إن هذه الركائز الثلاث هي التي تغلغلت في نفوس المؤمنين بالله ربا لا شريك له في العبادة، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا إلى الناس كافة، لا شريك له في الاتباع، لأن الله تعالى أمرهم بالركيزة الأولى بوحدة الإيمان فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ ¬

(¬1) من الآية (29) من سورة الكهف. (¬2) من الآية (29) من سورة الكهف. (¬3) الآية (9) من سورة الحجر.

وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (¬1)، وفي الركيزة الثانية بوحدة المعبود، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (¬2)، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬3)، وفي الثالثة بوحدة الاتباع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4)، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬5)، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬6)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬7)، وقال عن الركيزة الرابعة (¬8)، وحدة المنهج: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬9)، وحبل الله هو القرآن الكريم، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬10)، فلا مرجعية لهم سوى الكتاب والسنة النبوية، عملا بوصية نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله» (¬11). ¬

(¬1) من الآية (136) من سورة النساء. (¬2) من الآية (36) من سورة النساء. (¬3) من الآية (60) من سورة غافر .. (¬4) الآية (31) من سورة آل عمران. (¬5) من الآية (7) من سورة الحشر. (¬6) من الآية (7) من سورة النور. (¬7) الآية (36) من سورة الأحزاب. (¬8) من الآية (29) من سورة الكهف. (¬9) من الآية (103) من سورة آل عمران. (¬10) الآية (65) من سورة النساء. (¬11) مسلم حديث (1218).

الركيزة الخامسة: حماية الركائز الأربع

ومع هذا يخرج بعض المغرورين فيزعم أن من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر على التخيير، ويرى بهذا الفهم السقيم أنه جاء بالفتح في هذا العصر، نعم فتح باب الضلال للضعفاء من المسلمين. الركيزة الخامسة: حماية الركائز الأربع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل شيء حمى، وحمى الله محارمه» (¬1)، فكل شيء في هذه الحياة لابد له من قوة، تصونه وتحميه من العوادي، ومكاسب الأمة كلها تتلخص في وحدتها على الركائز الخمس التي قام عليها الإسلام، فلا بد لكل ركيزة منها من وجود حماية تصونها من العبث، والزيادة، والنقص، فالله - عز وجل - صان القرآن وهو الذكر من العبث، والزيادة، والنقص، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2)، وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬3)، ومن الباطل محاولة تحريفه لفظا أو معنى، وهذا ضمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكذلك السنة النبوية، توعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كذب عليه فقال: «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (¬4)، وكذلك من عمل عملا لا يوافق أمره، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد» (¬5)، وهذا من حماية السنة، ومن ذلك جهود العلماء في نقد الأسانيد، والمتون، وقمع البدع، وبيان خطرها على الأمة، وقد بشرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن للعلم بالكتاب والسنة حُماته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (¬6). ¬

(¬1) مستخرج أبي عوانة حديث (5475). (¬2) الآية (9) من سورة الحجر. (¬3) (الآية (42) من سورة فصلت. (¬4) البخاري حديث (107). (¬5) البخاري حديث (20). (¬6) ذم الكلام للهروي 4/ 199.

حماية الركيزة الأولى

حماية الركيزة الأولى: الركيزة الأولى تصان من أفكار الطبائعيين، والدهريين، الذين يزعمون أن لا إله، وأن الطبيعة هي الفاعلة في الحياة، حتى زعموا أن الإنسان كان أصله قردا، فتطور بالطبيعة شيئا فشيئا حتى وصل إلى ما هو عليه، ولكن نسألهم وهم الخاسرون، لِمَ لم تتطور الشمس، وكذلك القمر وغيرهما من الكواكب؟ ، ولِمَ لم تتطور مياه الأنهار والبحار، فتكون زيتا، فتستغني عنا دول العالم، أو تكون لبنا خالصا؟ ، أو عسلا مصفى، ولِمَ لم يتطور الإنسان عن صورته هذه، منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؟ ! ، والعجب أنهم لم يتنبهوا إلى عجز الطبيعة، وحاجتها إلى خالقها، ولم يوفقوا إلى العلم بعجز الطبيعة أن تصنع لقمة طعام لمريض لا حول له ولا قوة، إن تلك الأفكار وما شابهها أو قاربها كانت تدميرا لفطرة الإيمان في النفوس، وفطرة الإنسان تقضي بحاجته إلى معبود يلجأ إليه في أزماته الفكرية والنفسية، والصحية والمعاشية، وكل ما تتطلبه حياته، وبعد موته أيضا، فكانت هذه الحاجة ملجئة إلى تنوع في المعبودات، وإلى صنع الآلهة الباطلة، والحق الصارخ الذي لا مرية فيه أن الخالق هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وليس إلا الله خالقا لهذا الكون وما فيه، فوجب على كل مسلم أن يحمي إيمانه من كل فكر لا يساوق الكتاب والسنة، فقد أوصى بذلك ربنا فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (¬1)، وأكد على أنه الخالق وحده، وأن لا إله معه سبحانه فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ ¬

(¬1) من الآية (19) من سورة محمد ..

حماية الركيزة الثانية

الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، فوجب على كل إنسان أن يعلم أنه لا إله إلا الله، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إن ناسا يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله " - عز وجل - (¬2)، وأخشى أن يلتحق بركب الطبائعيين في زمننا المروجون لأفكار هدامة نسمعها اليوم هنا وهناك ولا رادع لها بزعم حرية الرأي، ولا أشك في أن أصحابها هم نابتة سوء في المجتمع المسلم. حماية الركيزة الثانية: تصان هذه الركيزة بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فلا يُعبد الله إلا بما شرع في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬3)، وتوعد من صرف العبادة لغيره تعالى فقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (¬4)، وثبت في الحديث القدسي فيما يرويه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عن ربه - عز وجل - أنه قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه» (¬5)، والنصوص من الكتاب والسنة النبوية كثيرة في الدلالة على وجوب إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وهذا من أعظم ما يجب على المسلمين حمايته وصيانته من الدَّخَل، حتى في مجرد الألفاظ فما يوحي بالمشاركة مع الله - عز وجل - لا يجوز التلفظ به، هذا رسول الله يسمع رجلا يقول: ما شاء الله وشئت فينكر عليه ذلك ويقول: «أَمِثْلان؟ ! قل ما شاء الله ثم شئت» (¬6)، وفي رواية ¬

(¬1) الآيات (60 - 64) من سورة النمل. (¬2) الشريعة 1/ 54. (¬3) الآية (48) من سورة النساء. (¬4) من الآية (72) من سورة المائدة. (¬5) مسلم حديث (2985). (¬6) معرفة السنن والآثار حديث (6498).

حماية الركيزة الثالثة

«جعلتني عِدلا، قل ما شاء الله» (¬1)، فطهارة المسلم من الشرك تجب اعتقادا ولفظا وعملا، فلا يُعتقد أن مع الله من يُصرف له أيُّ نوع من العبادة مهما كانت تسميتها، لا وسطاء، ولا شفعاء، ولا يُتلفظ بما فيه تعظيم لا يستحقه إلا الله - عز وجل - ولا ما يشعر بعبادة لغير الله - عز وجل -، كطلب قضاء الحوائج، وتفريج الكربات، وغير ذلك، ولا يُقام بعمل فيه لله شريك أو شركاء، فلا يُنذر لغير الله، ولا يُذبح لغير الله، كالأضحية، والهدي والفدية، وغير ذلك مما هو قربة، يرجا بها جلب نفع أو دفع ضرر، ولا يُسأل غير الله فيما لا يقدر عليه أحد سواه، وعلى هذا كانت حماية الركيزة الأولى في العهد النبوي. فالركائز الخمس دوائر مغلقة يرتبط بعضها ببعض، لو كسرة واحدة منهن أذهبت قوة الكل. حماية الركيزة الثالثة: إن الركيزة الثالثة جزء لا يتجزأ من الركيزة الثانية، ولذلك كانت الشهادتان: شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله تكوِّنان الركن الأول من أركان الإسلام، فلابد في توحيد المعبود من توحيد المتبوع، والعكس كذلك إذ لا تُغني أحداهما عن الأخرى، وحماية وحدة المتبوع تكون بالتبرؤ من كل قول لا يتفق مع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (¬2)، لأنه الناقل عن الله - عز وجل -، ولأن قوله بأمر أو نهي شرع ألزمنا الله - عز وجل - به، ولذلك قال حسان بن عطية رحمة الله علينا وعليه: "كان جبريل ينزل بالسنة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ينزل عليه بالقرآن" (¬3)، لكونه وحي قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬4)، لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد» (¬5)، وفي ¬

(¬1) المعجم الكبير للطبراني حديث (13006) .. (¬2) البخاري حديث (107). (¬3) الإبانة الكبرى حديث (220). (¬4) الآيتان (3، 4) من سورة النجم. (¬5) البخاري حديث (20).

رواية «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد» (¬1)، ومِنْ الحماية عدم الغلو في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وقع في هذا المحذور أمة من الناس، مخالفين بذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله) (¬2)، وإذا كان الغلو في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهي عنه حماية لوحدة المعبود، فكذلك الغلو في أشخاص العلماء والصالحين منهي عنه، حماية لوحدة المتبوع - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو دين الإسلام، دين الوسطية لا إفراط ولا تفريط؛ لذلك حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإحداث في الدين، واعتبر ذلك من الضلال، كان - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» (¬3)، ألا يكفي هذا لتنبيه الغافلين، وتحذير الغالين من الخسران المبين؟ ! ، فتصان الوحدة في الاتباع من اقتحام البدع، وسيطرة الأهواء، فلا يكون الاتباع إلا خالصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4)، وقد ربط الله محبته باتباع عبده ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به لا يزيغ عنه» (¬6)، فلا يجوز ترك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع ما يخالفه، من الأقوال كائنا من كان قائلها، وقد فهم هذا الأئمة الأعلام وكل مسلم يجب أن يقول كما قال الأئمة رحمهم الله: قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إذا جاء القول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلى ¬

(¬1) البخاري حديث (2697). (¬2) البخاري حديث (3445) .. (¬3) النسائي حديث (1578). (¬4) من الآية (7) من سورة الحشر. (¬5) الآية (31) من سورة آل عمران. (¬6) السنة لابن أبي عاصم 15 ..

الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال؛ لأنه رحمه الله كان من أتباع التابعين، وتتلمذ على التابعين، فأبو حنيفة هو أقدم الأئمة الأربعة رحمهم الله (¬1)، والإمام مالك رحمه الله قال: كلنا رادّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ويقول رحمه الله: أوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدل هؤلاء؟ ! ، ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ويقول رحمه الله: إذا خالف قولي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذوا بقول رسول الله، واضربوا بقولي عرض (¬2) الحائط، ويقول رحمه الله: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنا من كان، والإمام أحمد رحمه الله يقول: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، هذه أقوال أئمة الإسلام رحمهم الله فكل الأقوال تذوب أمام قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما جرى عليه أمر الرعيل الأول، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: «يوشِك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ! » (¬3)، إن إخلاص العبادة لله وحده، وخلوص الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو معنى الشهادتين سواء بسواء، ولهذا ورد ما يدل على وجوب حماية هاتين الركيزتين في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك» (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» (¬5)، وهذا هو مسار الرعيل الأول. ¬

(¬1) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد 2/ 111. (¬2) بسكون الراء الموحدة المراد العرض ضد والطول، وهذا عندي أبلغ في الرفض، وبضم العين المراد به الناحية، أي ناحية الجدار، وهو عندي أقل بلاغة، وكلاهما يصح. (¬3) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد 2/ 108 .. (¬4) ابن ماجه حديث (43). (¬5) المستدرك حديث (319).

حماية الركيزة الرابعة

حماية الركيزة الرابعة: هذا هو الرصيد الأمني للأمة الإسلامية مبنيا على الركائز الثلاث السابقة؛ لكون الركيزة الرابعة هي الوحدة في المنهج، والمنهج هو العمل بكتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فكتاب الله مضمون الصلاحية لكل زمان ومكان؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، والسنة النبوية الصحيحة، كلام من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -؛ فهي محفوظة بما قام به علماء الأمة رحمهم الله من أعمال عظيمة قنّنت حمايتها من الزور والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل من تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من أهل النار لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (¬1)، بل توعد الناقلين فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين» (¬2)، ومن هنا وجب على الأمة مدافعة الأفكار الهدامة، وهي التي لا تمت إلى الكتاب والسنة بصلة، وما أكثرها من زمن قديم، ولكنها في هذا العصر أكثر انتشارا، تحت شعارات براقة تخدع البسطاء من الناس كثيرا، وتستميل أصحاب الأهواء كثيرا، ولكن المعيار الدقيق لكشفها وبيان زيفها عرضها على الكتاب والسنة، فما كان موافقا قبلناه وما كان مخالفا رددناه، ونحن مع الكتاب والسنة على البيضاء طريق الحق المبين، وهو منهج الرعيل الأول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الهادي، وأصحابه هم المهتدون، وقد بشرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن للعلم بالكتاب والسنة حُماته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (¬3)، فمن الأهمية أن نعرف من هم أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، ولماذا سموا أصحابا، وبم نعرف الصحابي من غيره. الذي عليه جمهور أهل الحديث: أن الصحابي كل مسلم رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لحظة، وعقل منه شيئاً، فهو صحابي، سواء عقل قليلاً أو كثيراً (¬4)، مثال ذلك قول محمود ¬

(¬1) البخاري حديث (107). (¬2) أحمد حديث (18236). (¬3) ذم الكلام للهروي 4/ 199 .. (¬4) تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة 1/ 30.

بن الربيع الأنصاري - رضي الله عنه -: "عقلت مجّة مجّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهي من دلو معلقة في دارنا" (¬1). ولمعرفة من هو الصحابي طرق معلومة عند العلماء وهي: أولا: التواتر المفيد للعلم القطعي بالصحبة، وهذا لا يختص بالعشرة المشهود لهم بالجنة وأمثالهم، بل يدخل فيه أيضاً كل من تواترت الرواية عنه من الصحابة المكثرين الذين بلغ الرواة عنهم العدد المفيد للتواتر كالمكثرين الرواية عنه - صلى الله عليه وسلم - وهم مرتبون حسب عدد ما رووا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 1 - أبو هريرة - رضي الله عنه - روى (5374) حديثا. 2 - عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، روى (2630) حديثا. 3 - أنس بن مالك - رضي الله عنه -، روى (2286) حديثا. 4 - عائشة رضي الله عنها، روت (2210) أحاديث. 5 - عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، روى (1660) حديثا. 6 - جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، روى (1540) حديثا. 7 - أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -، روى (1170) حديثا، وغيرهم كعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - وأمثالهم، وكذلك من اتفقت الأمة على صحة حديثه، وتلقته بالقبول وإن لم تكثر الرواية عنه كأبي قتادة - رضي الله عنه -، وأبي مسعود البدري: عقبة بن عامر مشهور بكنيته - رضي الله عنه - ونحوهما، فإن من لوازم ذلك اتفاقهم على كونه صحابياً، ويندرج في هذا عدد كثير من الصحابة المتفق على صحة أحاديثهم. ثانيا: أن تكون صحبته ثابتة بالاشتهار القاصر عن رتبة التواتر، وهو يفيد العلم النظري عند كثير من العلماء، ويلتحق بهذه الرتبة من اتفقت كتب السير والمغازي والتاريخ على ذكره في الصحابة، ويندرج في هذا النوع خلق كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - وإن كان فيهم من ليس له إلاّ الحديث الواحد أو الحديثان، وقد ألف العلماء في هؤلاء مؤلفات منها: المنفردات والوحدان. ¬

(¬1) اللطائف من دقائق المعارف لأبي موسى المديني 1/ 255.

ثالثا: من لم يشتهر من جهة الرواية عنه ولكن ذكرته كتب السير، إما بالوفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو باللقاء اليسير، أو في أثناء قصة أو غزوة، فهذه مرتبة دون التي قبلها. رابعا: من روى عنه أحد أئمة التابعين الذين لا يخفى عنهم مدعي الصحبة ممن هو متحقق بها، وأثبت له التابعيُّ الصحبة أو اللقاء، أو جزم بالرواية عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير معترض على ذلك، لما يلزم في روايته عنه على هذا الوجه من تصديقه فيما ذكر من الصحبة والرواية، سواء سماه في روايته عنه أو لم يسمه، بل قال: رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لا تضر الجهالة بعين الصحابي بعد ثبوت صحبته. خامسا: أن يقول من عرف بالعدالة والأمانة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو رأيته يفعل كذا ونحو ذلك، ويكون سنه يحتمل ذلك، والسند إليه صحيح. سادسا: أن يصح السند إلى رجل مستور لم تتحقق عدالته الباطنة، ولا ظهر فيها ما يقتضي جرحه، فيروي حديثاً يتضمن أنه صحابي. سابعا: أن يثبت أنه تولى غزوة من غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو شارك فيها. ثامنا: أن يكون ممن أمَّره أحد الخلفاء في حروب الردة وفتوح الأمصار، فإنهم لا يقدمون على الصحابي غيره. تاسعا: أن يكون ممن ثبت أن ابنه حنَّكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو مسح على رأسه، أو دعا له، فإنه كان لا يولد لأحد من الصحابة مولود إلا أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا له. عاشرا: أن يكون من يدعي صحبته - صلى الله عليه وسلم - ممن كان بمكة أو الطائف سنة عشر من الهجرة؛ إذ من المعلوم عند المحدثين أن كل من كان بمكة أو الطائف سنة عشر قد أسلم، أو حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع؛ فالحجة معه - صلى الله عليه وسلم - أمر يحرص عليه المسلمون القريبون من مكة، فيكون من حج من الصحابة. حادي عشر: أن يكون مَنْ يدعي صحبته - صلى الله عليه وسلم - من الأوس، أو الخزرج الذين كانوا بالمدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد ثبت أنهم دخلوا في الإسلام جميعاً - رضي الله عنهم -، ولم يثبت عن أحد منهم أنه ارتد عن الإسلام.

لماذا سموا أصحابا؟

ثاني عشر: أن يروي بعض صغار التابعين، ومن ليس من أهل المَيز منهم عن رجل مبهم ما يقتضي له صحبة، وهي أضعف المراتب وإن كان جماعة من الأئمة قبلوا مثل ذلك، وأثبتوا حديثهم في مسانيد الصحابة والرواة عنهم؛ ولعل ذلك والله أعلم لقرينة صدق ذلك الجيل الذي هو خير القرون، وأن مرتبة الصحبة الشريفة لم يدَّعِها أحد في ذلك العصر كذباً (¬1). لماذا سموا أصحابا؟ : في أقصر تعبير نقول: لأنهم صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخلصوا له الصحبة في المنشط والمكره، فلم يكن لديهم أثمن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعته ونصرته، بالأموال نعم، بالأرواح نعم، بالأهلين نعم، بكل شيء نعم، ولم يقدر على هذا أحد سواهم رضي الله عنهم وأرضاهم. فضل أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -: قبل الشروع في بيان التفاضل بين الصحابة - رضي الله عنهم - يجب أن نعلم أن التفاضل بين الأفراد والجماعات والأمم لا يلزم منه التفاضل من كل وجه، بل المراد منه التفاضل على سبيل الإجمال، فالتفاضل بين الخلفاء الأربعة بإجماع أهل السنة أنهم على الترتيب: أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم عمر - رضي الله عنه -، ثم عثمان - رضي الله عنه -، ثم علي - رضي الله عنه -، وهذا على سبيل الإجمال، ولا يمنع أن يكون الواحد منهم أفضل من غيره في صفة معينة، وهكذا في الجماعات والأمم، ومن اعتقد غير هذا فقد شذ عن الإجماع وانتحل غلوا، لأن المردّ في ذلك إلى الله ورسوله: فالله الخالق يصطفي من الخلق ما يشاء، وفق حكمة أرادها سبحانه، وهو فعال لما يريد، ولا معقب لحكمه، وقد جعل لكل شيء قدرا، فقد ورد فضل الصحابة على سائر الأمة المحمدية على وجه العموم، للأسباب التالية: 1 - أن الله اصطفاهم لنصرة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أنهم استجابوا لذلك مهاجرين وأنصارا، فمجرد الاستجابة والترحيب بذلك فضيلة. ¬

(¬1) تحقيق منيف الرتبة ص: 50 - 59.

3 - أنهم أكدوا استجابتهم عمليا، فكانوا مضرب الأمثال في الوفاء والتضحية في سبيل الله ورسوله، بالنفس والمال. 4 - أن الله شهد لهم في كتابه العزيز بالصدق قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1)، وهذا نص صريح في خروج المهاجرين - رضي الله عنهم - نصرة لله ورسوله، وفي صدقهم في ذلك، وأخبر تعالى بالرضا عنهم فيما صنعوا قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2)، ولذلك أمرنا الله أن نكون معهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3)، فقد شهد الله - عز وجل - بأنهم صدقوا في الإيمان والنصرة وهو الأمر الذي عاهدوا الله عليه، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬4)، وهذا عام في المهاجرين والأنصار، وكل من صدق ما عاهد الله عليه، وكذلك صرح الرب - عز وجل - بالرضى عنهم فيما صنعوا في بيعة الرضوان، لعلمه بما في قلوبهم من صدق الإيمان والنصرة، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬5)، وكان عدد الذين بايعوا أربعمائة وألف رجل، قال البراء - رضي الله عنه -: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاها، فجلس على شفيرها ثم ¬

(¬1) الآية (8) من سورة الحشر. (¬2) الآية (100) من سورة التوبة. (¬3) الآية (119) من سورة التوبة. (¬4) الآية (23) من سورة الأحزاب. (¬5) الآية (18) من سورة الفتح ..

المفاضلة بين الصحابة - رضي الله عنه -

دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا (¬1). 5 - أن الله أثنى على ثباتهم وشدتهم على أعداء الله، واتِّصافهم بالرحمة فيما بينهم، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬2)، ورغم ما هم فيه من انتماء عرقي قبلي، فلم يكن لذلك أثر في نفوسهم إلا عملا بقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3). فهم صفوة الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بسبب استجابتهم لذلك الحدث العظيم الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، ذلك الحدث هو نزول القرآن الكريم، وما تلاه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أوردنا النصوص فإنما نعني قبول الصحابة لها، والعناية بها نصا وروحا، والعلم بها رواية ودراية، والعمل بها والدعوة إليها، فكانت حياتهم عملا بالوحيين في كل شيء - رضي الله عنهم - وأرضاهم. المفاضلة بين الصحابة - رضي الله عنه -: أفضل هذه الأمة والأمم كلها بعد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين أبو بكر - رضي الله عنه -، وذلك على الإطلاق إجمالا وتفصيلا، فإنه لم يُسبق من الرجال إلى إيمان بالله ورسوله، ولم يُسبق إلى تصديق الله ورسوله، ولم يُسبق إلى خير بشهادة من أراد منافسته فلم يقدر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "مرَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأَنا معه وأَبو بكر، علَى ابن مسعود وهُو يقرأ، فقام يستمع قراءته، ثم ركع عبد اللَّه وسجد، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سره أَن يقرأَ القرآَن كما أُنزِل فليقرأْ ¬

(¬1) البخاري حديث (4150). (¬2) من الآية (29) من سورة افتح. (¬3) الآية (13) من سورة الحجرات.

أصل المفاضلة

مِن ابنِ أُمِّ عَبْدٍ» قال: فأدلجت إِلى ابنِ مسعود لأُبَشِّرَهُ بما قَال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلما ضربت البَاب سمع صوتي، فقال: ما جاء بك؟ فقلت: جئت أبشِّرُك بما قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - , قال: سبقك أبو بكر، قلت: إن يفعل فإنه سابق بالخيرات، ما استبقنا إِلى خير قط إِلا سبقني إليه أبو بكر" (¬1)، ومن هنا يكون التفاضل على الإجمال فالأول بعد أبي بكر عمر رضي الله عنهما، ثم عثمان - رضي الله عنه -، ثم علي - رضي الله عنه -، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء طلحة - رضي الله عنه -، والزبير - رضي الله عنه -، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وسعيد بن زيد - رضي الله عنه -، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، وأبو عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه -، وهؤلاء هم المبشرون بالجنة، وكلهم يصلح للخلافة، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، المهاجرون الأولون والأنصار، وهم من صلى القبلتين، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أفضل الناس بعد هؤلاء من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، أو شهراً، أو سنة، أو أقل من ذلك، أو أكثر، نترحم عليهم، ونذكر فضلهم، ونكف عن زللهم، ولا نذكر أحداً منهم إلا بالخير، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (¬2)، وقال سفيان بن عيينة: من نطق في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلمة فهو صاحب هوى (¬3). قلت: وأصحاب الأهواء هم الزنادقة ولا شك. أصل المفاضلة: أصل المفاضلة مأخوذ من كلام الله - عز وجل -، وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أثنى الله على عباده وجعل منهم النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس هذا خاصا بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد بعث في كل أمة رسولا، وكان منهم الصديقون والشهداء والصالحون، لكنه تعالى جعل خير الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل أصحابه خير الأصحاب، وجعل خير الأمة من عاش في القرون الثلاثة، على الترتيب، قال - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين ¬

(¬1) أخرجه الطبراني، المعجم الكبير حديث (8343) .. (¬2) البخاري حديث (3673) أخرجه مسلم حديث (2540). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 180).

عدالة الصحابة - رضي الله عنه -

يلونهم ثم الذين يلونهم» (¬1)، وجعل أمته - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬2)، ولم تقف المفاضلة عند هذا الحد، بل خص بعض الجماعات بمناقب، وبعض الأفراد بصفات، فالأعمال الصالحة لها مسالك وأبواب، ولأوقاتها فضائل تميزها عن غيرها، قال - عز وجل -: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3)، شتان بين الأمرين قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬4)، وعلى هذا منهج السنة أيضا، فقد فاضلت السنة بين الصحابة - رضي الله عنهم - مع أنه قد يجتمع للواحد منهم أكثر من فضيلة، فالمبشرون بالجنة هم خير الصحابة - رضي الله عنهم -، وأهل بيعة العقبة الأولى والثانية تميزوا بفضلها عن غيرهم من الصحابة، وتميز أهل بدر عن غيرهم، لذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة حاطب: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (¬5)، وبيعة الرضوان لأصحابها ميزة عمن لم يشهدها، وغير هذا كثير، وعلى هذا المنهج حصل فضل الصحابة على سائر الأمة، وفضل بعضهم على بعض جماعة وفرادى. عدالة الصحابة - رضي الله عنه -: لقد اختار الله - عز وجل - نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - واصطفاه وفضله على سائر الخلق، فاصطفى له أصحابا هم خيار الخلق بعده - صلى الله عليه وسلم -، فكان شرف الصحبة موهبة إلهية لمن اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وجعل الله تعالى من لوازم هذه الموهبة: العدالة، والصدق والأمانة، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر في قلوب العباد، ¬

(¬1) مسلم حديث (210). (¬2) من الآية (110) من سورة آل عمران. (¬3) من الآية (19) من سورة التوبة. (¬4) من الآية (10) من سورة الحديد .. (¬5) البخاري حديث (3007) ومسلم حديث (2494).

فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيّء" (¬1)، فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن العدالة ثابتة لجميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أصل مستصحب في عدالتهم لثناء الله عليهم في كتابه العزيز ومدحه إياهم قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2)، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬3)، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬4)، وقد أخبر برضاه تعالى عنهم فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬5)، وقد شهد لكثير منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، إما صراحة كالعشرة المبشرين بالجنة، أو ضِمناً كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة حاطب - رضي الله عنه -: «وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم» (¬6)، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون من أمته وأفضلها، ¬

(¬1) المسند حديث (3600) وهو من الموقوف الذي له حكم الرفع، ومما لا يقال بالرأي. (¬2) الآية (100) من سورة التوبة. (¬3) من الآية (110) من سورة آل عمران .. (¬4) الآية (29) من سورة الفتح. (¬5) الآية (18) من سورة الفتح. (¬6) البخاري حديث (3007).

فقال - صلى الله عليه وسلم -: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬1)، فالأول فيه الصحابة - رضي الله عنهم -: وهم الأخيار على الإطلاق، والثاني فيه الآخذون عن الصحابة: وهم التابعون رحمهم الله، والثالث فيه الآخذون عن التابعين: وهم أتباع التابعين رحمهم الله، فاقتضى أن الأول أفضل على الإطلاق، والثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل مما بعده إلى يوم القيامة. قال عمران: فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا (¬2)، وتمام الحديث يوضح أنه لن يأتي بعدهم أفضل منهم، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (¬3)، وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نفقة الواحد من الصحابة في سبيل الله مهما قلّت لا يوازيها في الأجر نفقة من بعدهم مهما كثرت، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» (¬4)، فالويل لمن طعن في فضل وعدالة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم أجمعين، والحكم بعدالتهم ليس معناه عند أهل السنة والجماعة عصمتهم من الخطأ، واستحالة أن يقع أحدهم في خطأ أو معصية، فقد وقعت من بعضهم المعصية، وشهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توبته بالجنة، منهم ماعز بن مالك - رضي الله عنه -، وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة، ولم يخالف فيه إلا مبتدع ضال، أو حاقد على دين الإسلام، جملة وتفصيلا، فالمستصحَب عند أهل السنة والجماعة ما كان عليه الصحابة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ليس أحد من الناس نعلمه إلا أن يكون قليلا يمحض الطاعة، والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحض المعصية، وترك المروءة حتى لا يخلطهما بشيء من الطاعة والمروءة، فإذا كان الأغلب على الرجل، والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره المعصية، وخلاف المروءة، ردت ¬

(¬1) البخاري حديث (3007). (¬2) البخاري حديث (3650). (¬3) البخاري حديث (3650). (¬4) مسلم حديث (2540).

كلام الله - عز وجل -

شهادته (¬1)، فالإنسان لا يمكنه أن ينجو من خطيئة وزلل، وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (¬2)، دليل على اعتبار الأغلب، لأنه تعالى اعتبر الثقل والخفة، وإذا كنا اليوم نقبل من أهل الإسلام، من كان غالب حاله الصلاح، فكيف بمن ناصروا رسول الله، وشهد لهم الكتاب والسنة بجملة في الخير والعمل الصالح، الذي لم يدركه أحد بعدهم، فهم خيار الأمة المحمدية، إنهم أولى بذلك دون ريب، فلا ينازع فيه إلا مبتدع فارق أهل الحق والهدى، فنحن أهل السنة نثبت عدالة الصحابة بشدة، لأنهم الأمناء على ما أخذوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم الكتاب والسنة، سواء نصّ القرآن، أو نصوص السنة، وما نقلوا من تفسير لهما، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه" (¬3)، ولو قبلنا ما زعم القادحون في الصحابة لهدمنا الإسلام من أصله، ولم يكن هناك إسلام إلا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقط وليس لما بعده حظ منه، لأنه لم ينتشر إلا من طريق أصحابه - رضي الله عنهم -، نقل السيوطي رحمه الله عن إمام الحرمين رحمه الله، أنه قال: والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم: أنهم حملة الشريعة، فلو ثبت توقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره - صلى الله عليه وسلم -، ولما استرسلت على سائر الأعصار (¬4). كلام الله - عز وجل -: هو القرآن الكريم، وهو صفة من صفات الله - عز وجل -، منزل غير مخلوق، أنزله على رسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لا ريب فيه هدى للمتقين، تلقاه جبريل - عليه السلام - عن رب العزة والجلال، وتلقاه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل، وتلقاه أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ما قال فيما تقدم من علمه بكتاب ¬

(¬1) الأم (7/ 56). (¬2) الآيتان (6، 7) من سورة القارعة .. (¬3) أخرجه البخاري. (¬4) تدريب الراوي (2/ 308).

الله الآي منه والسور، وتقدم أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ من ابن أم عبد» (¬1)، ولم يكن هذا التنويه العظيم قاصرا على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، بل تعداه إلى من تميز من أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، قال - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود - فبدأ به - وسالم مولى أبى حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأُبى بن كعب» (¬2)، ولا نقص في بقية أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، ولكن إشادة بمن تميز منهم، بحسن الصوت وقوة الأخذ والأداء، ولذلك كان يحب - صلى الله عليه وسلم -، أن يسمع تلاوة القرآن من غيره، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقْرَأْ عَلَىَّ» قال: قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ ! ، قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري» قال: فقرأت عليه النساء حتى إذا بلغت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬3)، قال لي: «أمسك» فإذا عيناه تذرفان" (¬4)، واستمع - صلى الله عليه وسلم - لقراءة أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال له: «يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» (¬5)، وفي رواية قال له أبو موسى - رضي الله عنه -: " لو علمت لحبَّرته لك تحبيرا " (¬6)، ومنهم أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن» قال أُبَى: آلله سمانى لك؟ ! قال: «الله سماك لي» فجعل أُبَيٌّ يبكى، قال قتادة: فأنبئت أنه قرأ عليه {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬7)، وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "حدثنا من كان يقرؤنا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلَّمَنا العلم والعمل" (¬8)، ¬

(¬1) أخرجه الطبراني، المعجم الكبير حديث (8343). (¬2) البخاري حديث (3808) ومسلم حديث (6488). (¬3) الآية (41) من سورة النساء. (¬4) البخاري حديث (4583) .. (¬5) البخاري حديث (5048) ومسلم حديث (1888). (¬6) البيهقي في السنن الكبير (3/ 12). (¬7) سورة البينة. (¬8) أخرجه أحمد المسند حديث (385) ..

هؤلاء وأمثالهم من الجم الغفير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم نقلة القرآن الكريم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنهم نقل العدول الأخيار من التابعين الأبرار، وعنهم أتباع التابعين، وهكذا يتواتر النقل إلى قيام الساعة، بنقل العدل عن مثله، وقد سمع القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة، وقرأ أبو هريرة - رضي الله عنه -: على أُبَي بن كعب - رضي الله عنه - وعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن على أُبَي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن» وليعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما أمر أن يقرأ على أُبَي - رضي الله عنه - لا من أجل أن يتعلم من أُبَي، بل ليتعلم أُبَي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يستمع إلى قراءته، فيحذوا أُبي حذو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القراءة، قال أُبَي - رضي الله عنه -: "يقرأ عليَّ فأحذو ألفاظه" وقرأ عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، على أبي هريرة - رضي الله عنه -، وقرأ نافع بن أبي نعيم رحمه الله على عبد الرحمن بن هرمز الأعرج رحمه الله (¬1). فالصحابة أخذوا القرآن إما درسا لبعضهم، أو سماعا لتلاواته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وغيرها، أو استمع - صلى الله عليه وسلم - لقراءة بعضهم وأقره عليها، بل أشاد بها كما تقدم سماعه لقراءة ابن مسعود، وقراءة أبي موسى الأشعري، وقراءة أُبَي وغيرهم - رضي الله عنهم -، وكان من حرص الصحابة على صحة السماع والنقل أن عمر - رضي الله عنه - وهشام بن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - اختلفا في سورة الفرقان فقرأها هذا على وجه، وهذا على وجه فقال - صلى الله عليه وسلم - «لكليهما: هكذا أنزلت» (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» فالمراد به على سبع لغات في قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. ولهذا قال الشعبي: "الحروف واحدة لكن المختلف لغات (¬3)، القوم، وإنما هو كقولك هلم وأقبل وتعال". والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام هي القراءة التي تلقوها عن أولهم تلقيا، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته، وسلكوا فيها طريقه، وتمسكوا بمذهبه، على ما روي عن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعروة بن الزبير - رضي الله عنهم -، ¬

(¬1) السبعة في القراءات 1/ 49، 55. (¬2) المنتقى من منهاج الاعتدال 1/ 359. (¬3) جزء فيه ذكر اعتقاد السلف في الحروف والأصوات 1/ 36.

ومحمد بن المنكدر، وعمر بن عبد العزيز، وعامر الشعبي رحمهم الله (¬1)، فنتج عن ذلك ما أخذه القراء السبعة رحمهم الله، المجمع على صحة قراءاتهم وأولهم: 1 - الإمام الذي قام بالقراءة بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد التابعين أبو عبدالرحمن نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم. وكان عالما بوجوه القراءات متبعا لآثار الأئمة الماضين ببلده أخذ القراءة عن جماعة من التابعين منهم: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وكان عبد الرحمن قد قرأ على أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى قراءة نافع اجتمع الناس بالمدينة العامة منهم والخاصة. توفي نافع رحمه الله سنة تسع وستين ومائة، وكانت وصيته لبنيه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2). 2 - كان الإمام الذي انتهت إليه القراءة بمكة وأتم به أهلها في عصره، عبد الله بن كثير، مولى عمرو بن علقمة الكناني، ويقال له: الداري، كان مقدما في عصره، قرأ على مجاهد بن جبر، وقرأ مجاهد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقرأ ابن عباس على أُبي بن كعب - رضي الله عنه -، ولم يخالف ابن كثير مجاهدا في شيء من قراءته، وقد أجمع أهل مكة على قراءته. وعن ابن عيينة أنه توفي سنة عشرين ومائة، رحمه الله. 3 - وأما أهل الكوفة فكان الغالب على المتقدمين من أهلها قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه؛ لأنه هو الذي بعث به إليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليعلمهم، فأخذت عنه قراءته قبل أن يجمع عثمان - رضي الله عنه - الناس على حرف واحد، ثم لم تزل في صحابته من بعده يأخذها الناس عنهم؛ كعلقمة، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، وزر بن حبيش، وأبي وائل، وأبي عمرو الشيباني، وعبيدة السلماني، وغيرهم. ¬

(¬1) السبعة في القراءات 1/ 47، 53، 54، 62، 63. (¬2) من الآية (1) من سورة الأنفال.

4 - أول من أقرأ بالكوفة القراءة التي جمع عثمان رضي الله تعالى عنه الناس عليها أبو عبد الرحمن السلمي: واسمه عبد الله بن حبيب؛ فجلس في المسجد الأعظم، ونصب نفسه لتعليم الناس القرآن، مكث يقرئ بها أربعين سنة، رحمه الله، وكان قد قرأ على علي رضي الله تعالى عنه (¬1). الإمام أبو بكر عاصم بن أبي النجود: وكان أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن، وعرض على زر بن حبيش. 5 - الإمام حمزة بن حبيب الزيات: وكان الإمام حمزة ممن تجرد للقراءة ونصب نفسه لها، وكان ينحو نحو أصحاب عبد الله؛ لأن قراءة عبد الله انتهت بالكوفة إلى الأعمش، قيل: قرأ عليه، وقيل: سمع قراءته، وقرأ على ابن أبي ليلى، وقرأ ابن أبي ليلى على المنهال بن عمرو، وقرأ المنهال على سعيد بن جبير، وقرأ سعيد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقرأ ابن عباس على أبي بن كعب - رضي الله عنه -، وقرأ أبي بن كعب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. 6 - الإمام علي بن حمزة الكسائي: كان علي بن حمزة الكسائي قد قرأ على حمزة ونظر في وجوه القراءات وكانت العربية علمه وصناعته واختار من قراءة حمزة وقراءة غيره قراءة متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة وكان إمام الناس في القراءة في عصره وكان يأخذ الناس عنه ألفاظه بقراءته عليهم. وأما البصرة فقام بالقراءة بها بعد التابعين جماعة منهم: 7 - الإمام أبو عمرو بن العلاء: كان أبو عمرو رأساً في حياة الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو إمام أهل عصره في اللغة، وقد رأساً في القراءة، والتابعون أحياء وقرأ على جلة التابعين مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ويحيى بن يعمر وكان لا يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد. توفي أبو عمرو وهو ابن ست وثماني سنة رحمه الله. ¬

(¬1) السبعة في القراءات 1/ 64، 66، 67، 69، 70، 78.

مراتب بلاغ القرآن

8 - الإمام عبد الله بن عامر اليحصبي، أهل الشام يسندون قراءتهم إليه، وكان قد أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وأخذها المغيرة عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬1). وليعلم أنه كما أخذ هؤلاء الأئمة كتاب الله مشافهة بأمانة نقل العدل عن العدل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أخذه عن كل من ذكرنا مشافهة بأمانة نقل العدل عن العدل، لا نشك في صحة ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن شك أو شكك في حرف منه فهو زنديق مارق، لا حظ له في الإسلام. إذاً هذه مراتب البلاغ: جبريل - عليه السلام -، عن رب العزة والجلال، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل - عليه السلام -، والصحابة - رضي الله عنهم -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعون رحمهم الله عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وأتباع التابعين عن التابعين رحمهم الله جميعا، وهي مراتب بلاغ وصدق ووثوق في غاية الصحة والكمال، وهذا ما علِمه أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، فتنافسوا في الأخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كل على قدر ما كتب له حتى تميز منهم عدد بدقة الأداء وجمال الصوت، فأدوا القرآن بالألفاظ التي تعلموها من رسول الله، وتلقاها التابعون، وعن التابعين تلقاها الأتباع، وعنهم أتباع الأتباع، وهلم جرا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، من دون زيادة ولا نقص عما أنزل الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. مراتب بلاغ القرآن: قد جعل الله - عز وجل - لبلاغ القرآن مراتب، يقوم بها من اصطفى من عباده، ولله أن يصطفي من خلقه ما يشاء، من الملائكة ومن البشر، وحتى من الأرض والبقاع، لا معقب لحكمه، ولا راد لما أراد سبحانه، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (¬2)، فاصطفى من الملائكة لبلاغ الرسالة روح القدس: جبريل - عليه السلام -، ومن الناس الرسل عليهم السلام، خاتمهإن من يمعن النظر في كيفية وصول الشرع إلى الأمة يجد أنه وصل من خلال خمس مراتب، وهي أوثق ما ¬

(¬1) السبعة في القراءات 1/ 47، 48، 71، 72، 79، 83، 85. (¬2) من الآية (75) من سورة الحج.

المرتبة الأولى

يكون، صدقا وأمانة والتزاما بحرفية النص، كما هو الحال في نقل القرآن الكريم، أو بالحرفية في نقل السنة، أو باللفظ المرادف الذي لا يحيل المعنى فيها عن مدلوله الصحيح. المرتبة الأولى: أمر الله - عز وجل - جبريل - عليه السلام -، بإنزال القرآن من اللوح المحفوظ، إما بالإيحاء إليه روحانيا، أو أن جبريل حفظه من اللوح المحفوظ، أو أنه نزل به مكتوبا، إلى الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، وهذه رتبة رفيعة لجبريل - عليه السلام - فهو روح القدس، وهو الأمين على وحي الله تعالى لجميع الرسل عليهم السلام، اصطفاه الله من الملائكة لما بيْنه تعالى وبيْن الأنبياء والرسل من أمر النبوات والرسالات، ولما شاء سبحانه، قال - عز وجل -: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (¬1)، فالله الذي أنزله بدلالة هذه الآية: وبدلالة قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (¬2) وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3)، منسوبا إلى ذاته سبحانه، والمراد بالحق: ما ورد فيه من أحكام، فذلك حق لا مرية فيه، نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة، وكان النازل به جبريل - عليه السلام -، فوضعه في بيت العزة، وأملاه على السفرة الكرام، {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} أي بذلك الحق نزل من السماء الدنيا إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليحقق ما أراد الله في هذا الكون، من العدالة والأمن والاستقرار، ووحدة البشرية في العبادة والمعاملات. قال ابن عباس: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفَرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفَرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين سنة (¬4). ¬

(¬1) من الآية (105) من سورة الإسراء. (¬2) من الآية (106) من سورة الإسراء. (¬3) الآية (192) من سورة الشعراء. (¬4) الإتقان في علوم القرآن 1/ 45.

المرتبة الثانية

المرتبة الثانية: نزل به جبريل - عليه السلام -، قال - عز وجل -: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (¬1)، وهنا نسب النزول به إلى جبريل - عليه السلام - لأنه نزل به أولا: من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وثانيا: من بيت العزة إلى السفرة الكرام منجما على قلب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا شرف النبوة والرسالة الذي اصطفى الله له عبده ورسوله نبينا محمد الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم -. المرتبة الثالثة: بلاغ رسول الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من آمن به، بلَّغ أصحابه - رضي الله عنهم -، وهو بلاغ للأمة كلها إذ خاطبه ربه فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬2)، وقد بلَّغ - صلى الله عليه وسلم - الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله عن أمته خير ما يجَزَي نبيا عن أمته. المرتبة الرابعة: بلاغ الصحابة - رضي الله عنهم -، كل من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به؛ كان واعيا لكل كلمة سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لذلك نال شرف البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أدَّاها كما سمعها، أو على معنى ما سمعها، لصحابي مثله، أو تابعي بعده، من غير زيادة ولا نقص، ولذلك قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مفتخرا بالنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه» (¬3)، قال عبد الرحمن السلمي: "حدثنا من كان يقرؤنا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنهم كانوا يقترئون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: ¬

(¬1) الآية (193) من سورة الشعراء. (¬2) الآية (67) من سورة المائدة. (¬3) أخرجه البخاري.

كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فعلمنا العلم والعمل" (¬1)، هؤلاء وأمثالهم من الجم الغفير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم نقلة القرآن الكريم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنهم نقل العُدُول الأخيار من التابعين الأبرار، وعنهم تابعوهم من الأئمة الأعلام، وهكذا يتواتر النقل إلى قيام الساعة، بنقل العدل عن مثله، ومثل القرآن كان أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، يلتقطون كلامه - صلى الله عليه وسلم - في كل صغيرة وكبيرة. كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومثل العناية بالقرآن كان أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، يلتقطون كلامه - صلى الله عليه وسلم - في كل صغيرة وكبيرة، كما قيل لسلمان - رضي الله عنه -: "قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخراءة: فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم" (¬2). لقد اعتنى الصحابة - رضي الله عنهم - بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من انقطع عن الكسب ولازم رسول الله حتى أكثر الرواية عنه - صلى الله عليه وسلم - وتقدم ذكر المكثرين: وهم سبعة - رضي الله عنهم -، تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بادئ ذي بدء بكلام رب العالمين، الذي نزل به الروح الأمين جبريل - عليه السلام - {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬3)، فكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصدق الكلام وأبينه بعد كلام رب العزة والجلال، وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروفا عند قريش قبل البعثة بالصادق الأمين، فقد قال عنه ربنا جل وعلا في القرآن: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬4)، وقال تعالى آمراً بأخذ ما يأمر به - صلى الله عليه وسلم -، والانتهاء عما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -: قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬5)، وذلك لكمال صدقه - صلى الله عليه وسلم - ونصحه للأمة، وحذر تعالى من مخالفة ¬

(¬1) أخرجه أحمد المسند حديث (23529). (¬2) مسلم حديث (23529). (¬3) من الآية (87) من سورة النساء. (¬4) الآيتان (3، 4) من سورة النجم. (¬5) من الآية (7) من سورة الحشر.

ذلك فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1)، وبين سبحانه أن مخالفة أمره - صلى الله عليه وسلم - ونهيه ليست من صفات المؤمنين فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم - عن كلامه: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروهم، فإن لم يقروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم» (¬3)، فأصبح التشريع الإسلامي كتابا وسنة: ما قال الله في كتابه العزيز، وما قال رسوله الصادق الأمين، فالحرام ما حرم الله ورسوله، والحلال ما أحل الله ورسوله، أضاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما سنه الخلفاء الراشدون، وهم صفوة الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم -، والمراد ما اجتهد فيه كل واحد منهم مما لا نص فيه فإنه شرع يلزم الأمة المحمدية العمل به، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة» (¬4). بناء على هذا فإن التشريع الإسلامي كتابا وسنة من لدن حكيم حميد: هو الله - عز وجل - وحده لا شريك له، فما كان من حلال وحرام فهو بأمره تعالى، سواء ورد النص به في القرآن أو السنة النبوية، أو فيهما معا، وعلم الكتاب والسنة توارثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلماء من أصحابه، وعنهم من بعدهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يرث ¬

(¬1) من الآية (7) من سورة النور. (¬2) الآية (36) من سورة الأحزاب .. (¬3) أبو داود حديث (4604). (¬4) أحمد المسند حديث (17184).

هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالي» (¬1)، فقد ورث الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم الكتاب والسنة، وهم خلفه - صلى الله عليه وسلم - واجتهد الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - فيما حدث في زمنهم من قضايا لم يرد فيها نص من كتاب ولا سنة، فكانوا خير الناس، وكان زمنهم خير الأزمان، إذ حفظوا للأمة المحمدية كل شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقامت دولة الخلافة الراشدة على أزكى ما يكون من العدل والمساواة، وسياسة الأمة بذلك في شئون الدنيا والآخرة، حتى لكأنك ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسمع صوته، لكثرة ما يلتزم كل واحد منهم - رضي الله عنهم - بأداء ما سمع من رسول الله بكل صدق وأمانة وإخلاص، وكان يستوثق بعضهم بعضا فيما سمع حتى يروي الحديث الواحد العشرات منهم - رضي الله عنهم -، وجاء بعد الصحابة التابعون رحمهم الله. ولم يكن حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على السماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاصرا على النص القرآني الكريم، بل كانوا يرقبون ألفاظه وحركاته وسكناته، ليعلموا المراد من ذلك، الذكور منهم والإناث على حد سواء، فما أكثر ما تجد في السنة قول الصحابي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا، كقول النعمان بن بشير: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحلال بين والحرام بين ... » (¬2)، ولم يكتفوا بالسماع فما أكثر ما تجد في السنة قول الصحابي: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا وكذا، كقول عائشة رضي الله عنها: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة" (¬3)، ولم يكف ذلك بل كانوا يرصدون أفعاله، فما أكثر ما تجد الصحابي يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا وكذا، وكقول عائشة رضي الله عنها: "كنت قاعدة أغزل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نورا، فبُهت، ¬

(¬1) أخرجه البيهقي، السنن الكبير (21439). (¬2) أخرجه البخاري حديث (52). (¬3) أخرجه البخاري حديث (751).

فنظر إليِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما بالك يا عائشة؟ بُهت؟ ! » قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورا، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره، قال: وما يقول أبو كبير؟ قلت: يقول: ومبرءًا من كل غُبَّرِ حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل قالت: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل بين عينيَّ" وقال: «جزاك الله يا عائشة خيرا، ما سُررتِ مني كسروري بك» (¬1)، هذه أم المؤمنين حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقول ما تقول عن حبيبها، ويأبا الزنادقة إلا القدح في طهرها، لعن الله من قدح به، ومن صدقه، ومن أذاعه ونشره، وكقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعل التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها» (¬2)، أو يقول: كنت عند رسول الله فجاء رجل فقال كذا وكذا، كقول عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: «كنت عند رسول الله فجاءه رجلان، أحدهما يشكوا العيلة، والآخر يشكو قطع السبيل. . .» (¬3)، وأسلوب آخر هو رصد ما يفعله بعض الصحابة بحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيُقر الفاعل على فعله، أو ينهاه عما فعل، ولم يكن ذلك في حال بل في أحوال كثيرة، وأبواب من العلم لا تحصى، بل كان من حرصهم أن من اضطر للغياب عن مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلف بعض من يحضر بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا عاد سأل صاحبه عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان عمر - رضي الله عنه - وهو من خواص الصحابة يتناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وجار له، فينزل عمر - رضي الله عنه - يوما، ويأتي جاره - رضي الله عنه - بما استفاده ذلك اليوم، وينزل جاره يوما، فيأتي عمر بما استفاد ذلك اليوم (¬4)، وهذا أنس بن مالك وهو خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن كان يحدث بعضنا بعضا، ولا يتهم ¬

(¬1) مختصر خلافيات البيهقي 4/ 284. (¬2) أخرجه البخاري حديث (166). (¬3) أخرجه البخاري حديث (1413). (¬4) انظر: البخاري حديث (2468).

بعضنا بعضا» (¬1)، ومنهم من لازم رسول الله وانقطع للأخذ عنه قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2)، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون" (¬3)، وأخذ صغار الصحابة عن كبارهم، فكانوا جميعا في الخير كتلة واحدة يأمن بعضهم بعضا، أصفى الناس قلوبا وأصدقهم ألسنة، وأقومهم بالحق، وأقمعهم للباطل، حقا والله هم العدول الأمناء، وقد شهد لهم جميعا بذلك، ولمن بعدهم من التابعين وأتباعهم ومن تبعهم بإحسان، شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يرث هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين وتحريف الغالي» (¬4)، فورث الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم الكتاب والسنة، وهم خلفه - صلى الله عليه وسلم - فتسلسل الصدق المطلق، والوثوق الكامل بتلك المراتب الأربع، وعلى هذا المنهج قامت دولة الخلافة الراشدة على أزكا ما يكون من العدل والمساواة، وسياسة الأمة بذلك في شئون الدنيا والآخرة، بكل صدق وأمانة وإخلاص، وبرزت خيرية القرون الثلاثة، الأمثل فالأمثل، متضمنة رجال البلاغ في المرتبة الخامسة من التابعين وأتباعهم رحمهم الله. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، المستدرك 15/ 94 .. (¬2) الآيتان (159، 160) من سورة البقرة. (¬3) البخاري حديث (118). (¬4) أخرجه البيهقي، السنن الكبير (21439) ..

المرتبة الخامسة

المرتبة الخامسة: هم الذين لم يدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأدركوا أصحابه - رضي الله عنهم -، وهم من يسمون بالتابعين، تلقفوا علم الكتاب والسنة عن أصحاب رسول الله - رضي الله عنهم -، حتى إن بعضهم رأى سبعين صحابيا، ومن أئمتهم سعيد بن جبير، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، والزهري، وغيرهم كثير رحمهم الله، كلهم التزم نهج الصحابة فيما نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا ورث علم الكتاب والسنة من كل خلف عدوله، فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله ورسوله لهم، وبإجماع المسلمين إلا من شذ ممن لا خلاق لهم، وعن الصحابة ورثه العُدُول من التابعين رحمهم الله، وعنهم أتباع التابعين رحمهم الله، وهلم جرا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهم ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين، تبقى الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، وهم على هذا النهج القويم، لا يضرهم من خالفهم، نصر من الله وفتح قريب.

الخلافة الراشدة

الخلافة الراشدة الله أكبر، ماذا كان حال المسلمين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من الوحدة والانجبار، ومن الذي لا يتمنى أن يكون رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة؟ ! ! ، ومن الذي لا يتمنى اليوم أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نومه؟ ! إن عزاءنا في ذلك أن العاملين بالكتاب والسنة، هم الداعون إلى تلك الوحدة، وذلك الانجبار، وهم أمته وهم الغر المحجّلون على الحقيقة، وهو - صلى الله عليه وسلم - قائدهم، وهم الواردون حوضه، وما قال - صلى الله عليه وسلم -: ... «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» (¬1)، ما قال هذا - صلى الله عليه وسلم - إلا لأن الخلفاء هم الصفوة من الأصحاب، والأصحاب هم الصفوة من الناس، وأمته - صلى الله عليه وسلم - هي الصفوة من الأمم، إن من يجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، في القدوة والعمل كغيرهم من الناس فقد ضل سواء السبيل، وهو ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن نهج نهجهم إلى يوم الدين، هم الفرقة الناجية؛ لأنهم اتبعوا ولم يبتدعوا؛ لأنهم المحققون لقيود الكتاب والسنة، آمنوا بالكتاب والسنة جملة وتفصيلا، فطبقوا قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، وكم يخافون من قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3)، ويعملون بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬4)، حياتهم دعوة وإصلاح وبناء عملا بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ¬

(¬1) الترمذي، حديث (2676) وقال: حسن صحيح. (¬2) من الآية (7) من سورة الحشر. (¬3) من الآية (7) من سورة النور .. (¬4) الآية (36) من سورة الأحزاب.

اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1)، نقاء في الاعتقاد، حين تحقق فيهم قول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (¬2)، تمسكوا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ » قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» (¬3)، وهم الواعون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ألا ولا لقطة من مال معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروهم، فإن لم يقروهم فلهم أن يعقبوهم بمثل قراهم» (¬4)، وهم الصابرون امتثالا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (¬5)، وغير ذلك كثير من منهج الإسلام، مما يطول ذكره وتفصيله، إنها فرقة مجاهدة في تطبيق الكتاب والسنة، جملة وتفصيلا، في كل مناحي الحياة، حتى في كيفية لباس الثوب، والنعل، وآداب الدخول والخروج، وركوب الدابة، قائمون على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي وعد الله - عز وجل -، ومن كان حريصا على مثل هذه الشعائر اليسيرة السهلة، فهو لما سواها من الأمور العظيمة أطلب، وعليها أحرص، ولرسم الصورة لمنهج المهتدين، نَطْرق باب المهتدي الأول. والعجب أن لفتة أعرض عنها أهل الأهواء، وكأنها عندهم لم تكن ولم ينطق بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، مع أنها من غرر كلامه - صلى الله عليه وسلم -، ومن علامات صدق نبوته حين قال في شأن الاختلاف والفتن: «فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتى وسنة الخلفاء ¬

(¬1) الآية (108) من سورة يوسف. (¬2) من الاية (36) من سورة النساء. (¬3) أخرجه مسلم، حديث (1217) وهو طويل. (¬4) أخرجه أحمد المسند حديث (17213). (¬5) البخاري حديث (3792) ومسلم حديث (2493) ..

الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ» (¬1)، لفتة هامة في سداد أهل السنة، وإشارة واضحة وجلية إلى أنه سيكون بعده - صلى الله عليه وسلم - خلفاء من أصحابه يلون أمر الأمة المحمدية، فأمر الأمة بالتمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم -، وبما يسنه كل واحد منهم، لأنهم راشدون مهديون، ولا أشك في علم رسول الله بأعيانهم، وقد ورد عنه ما يشير إلى ذلك في صور منامية رآها رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت الناس مجتمعين فى صعيد، فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفى بعض نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها عمر، فاستحالت بيده غربا، فلم أر عبقريا في الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن» (¬2)، فاجتماع الناس فيه إشارة إلى اجتماعهم على الخلافة ونزع أبي بكر أولا، يدل على أنه الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والضعف في النزع إشارة إلى قلة الزمن الذي يكون فيه أبو بكر - رضي الله عنه - خليفة، وهو ما حدث فعلا فلم يبق في الخلافة سوى سنتين، ونزعُ عمر ثانيا، فيه إشارة إلى أنه الخليفة بعد أبي بكر - رضي الله عنه -، ويدل وصف عمر - رضي الله عنه - بقوة النزع على مدة خلافته وقوة عهده، وهو ما حدث فعلا، فلم يكن في الخلفاء بعده أعظم منه عملا، ولا عدلا، ولا قوة للأمة - رضي الله عنه -، ومما يؤكد أحقية أبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3)، فالآية عامة في استخلاف المؤمنين بعد المشركين، وأهل الكتاب، وهو وعد بشر الله به المؤمنين في أول الإسلام، لتقوى عزائمهم على الثبات ومقارعة المشركين، واليهود والنصارى، وعد بأن يكون للمؤمنين خلفاء يخلفون، أولهم يخلف رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أول الخلفاء أبو بكر - رضي الله عنه -؛ تحققت هذه الآية الكريمة فيه، وفي الثلاثة بعده - رضي الله عنهم -، فهم في مقدمة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، واستخلفهم بعد رسوله واحد تلو الآخر، ووعد الله الذين آمنوا بالمغفرة ¬

(¬1) الترمذي حديث (2891). (¬2) أخرجه البخاري حديث (2633) .. (¬3) الآية (55) من سورة النور.

موقف الصحابة من الخلافة الراشدة

والأجر العظيم قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬1)، وهذه تحققت في جميع الصحابة - رضي الله عنهم - وأبو بكر - رضي الله عنه - هو أكمل الناس إيمانا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بشهادة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم» (¬2)، وكفى والله بها شهادة من عدل خبير بأبي بكر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونعود إلى الحديث السابق فنجد فيه إلماحة قوية تؤكد أن خلافة عمر - رضي الله عنه - بعد أبي بكر - رضي الله عنه -، وتشير إلى ما يكون في عهده من خير للإسلام والمسلمين، فطابق الخُبْرُ الخَبَر في هذا الأمر العظيم المعتبر، فُتحت الأمصار شرقا وغربا، ودوَّى صوت المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح في تلك الأمصار، ومن هنا اشتدت عداوة الحاقدين على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كأبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله، وأتباعه الذين لا زالت نار حقدهم تضطرم إلى اليوم. أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشى فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة» (¬3)، ففيه إشارة إلى ما سيحدث من خلاف وفتن يشعلها أهل الكيد للإسلام، وأن ذلك سيحدث لا محالة، ولا يكون إلا بالإحداث فيما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، وحذر من المحدثات في الدين لأنها أبواب الضلال. موقف الصحابة من الخلافة الراشدة لم يشك الصحابة - رضي الله عنهم - في أن مراتب الخلافة الراشدة، بعد النبوة على الولاء، روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نُخَيِّر بين الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فيبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره (¬4). ¬

(¬1) الآية (9) من سورة المائدة .. (¬2) الإبانة الكبرى لابن بطة (3/ 183). (¬3) الترمذي حديث (2891). (¬4) السنة لابن أبي عاصم حديث (1193).

وبالطبع علي - رضي الله عنه - رابع الخلفاء، وهو القائل - رضي الله عنه -: "خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، وبعد أبي بكر: عمر، ولو شئت أن أسمي لكم الثالث لفعلت" (¬1)، ولا ريب أن الثالث عثمان، وقد روى محمد بن علي بن أبي طالب: المعروف بابن الحنفية قال: قلت لأبي: "يا أبت، من أفضل هذه الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: سبحان الله يا بني: أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: سبحان الله يا بني: عمر. قال: قلت: ثم أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لست هناك، ثم أنا بعد ذلك رجل من المسلمين، لي ما لهم، وعليّ ما عليهم" (¬2). يفهم من قول علي - رضي الله عنه -: "لست هناك" أنه - رضي الله عنه - يعلم موقعه في الخلافة، وأنه ليس بعد عمر - رضي الله عنه -، ولذلك بايع عمر ولم ينازعه، ولما كان موقعه بعد عثمان بايعه الصحابة فقام لذلك، ولم ينازعه معاوية - رضي الله عنه - في الخلافة بل في المطالبة بقتل قتلة عثمان - رضي الله عنه -، وقد كان أمر مراتب الخلافة عندهم من البدهيات، ولذلك كان الحادي يحدو بعثمان وهو يقول: إن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف رضي. قال كعب: ولكنه صاحب البغلة الشهباء، يعني معاوية, فقيل لمعاوية: إن كعبا يسخر بك ويزعم أنك تلي هذا الأمر, قال: فأتاه فقال: يا أبا إسحاق, وكيف وهاهنا علي والزبير وأصحاب محمد, قال: «أنت صاحبها» (¬3). وفي قول معاوية هذا دلالة على أنه يعلم رتبة عليّ - رضي الله عنه - في الخلافة وأنها بعد عثمان، ويعلم أن الزبير أحق منه بها بعد علي - رضي الله عنهم -، ولعل كعب الأحبار رحمه الله قال ما قال لمعاوية - رضي الله عنه - إما لعلم عنده من الكتاب؛ "التوراة" أو من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» وهو الأولى عندي، قال سفينة للراوي عنه وهو سعيد بن جمهان: "أمسك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان، ثم أمسك خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أجمعين" (¬4)، وقال رسول ¬

(¬1) السنة لابن أبي عاصم حديث (1201). (¬2) السنة لابن أبي عاصم حديث (1207). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة حديث (37093). (¬4) الإبانة عن أصول الديانة 1/ 257.

الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء» (¬1)، حيث تنتهي الخلافة الراشدة بقتل علي - رضي الله عنه -، ولعن الله قاتله عبد الرحمن بن ملجم، وقد تجاوز خبر الخلفاء حدود الخلافة الراشدة، روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكون اثنا عشر خليفة» - فذكر أبا بكر - رضي الله عنه -، وعمر - رضي الله عنه -، وعثمان - رضي الله عنه - - فقال له رجل من قومه: إنما جلسنا إليك لتذكرنا، ما لنا وما لهذا؟ فقال: والذي نفسي بيده، لو تركتني لأخبرتكم بما قال فيهم واحدا واحدا (¬2)، روى جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمعته يقول: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» قال: ثم تكلم بكلام خفي عَليّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلهم من قريش» (¬3). قلت: بيَّن الحافظ ابن حجر رحمه الله المراد من هذا الحديث بناء على تأييد القاضي عياض رحمه الله بقوله: في بعض طرق الحديث الصحيحة «كلهم يجتمع عليه الناس» وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم عمر - رضي الله عنه -، ثم عثمان - رضي الله عنه -، ثم علي - رضي الله عنه -، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمي معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية - رضي الله عنه - عند صلح الحسن - رضي الله عنه -، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين - رضي الله عنه - أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم ¬

(¬1) أبو داود حديث (4646). (¬2) السنة لابن أبي عاصم حديث (1182). (¬3) مسلم حديث (1821).

مكانة أبي بكر - رضي الله عنه -

تطل مدته، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس إلى أن قتل، ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض، فلم يبق من الخلافة إلا الاسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض، شرقا وغربا وشمالا ويمينا مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة، ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك، فعلى هذا يكون المراد بقوله ثم يكون الهرج يعني القتل الناشئ عن الفتن، وقوعا فاشيا يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام، وكذا كان والله المستعان (¬1). مكانة أبي بكر - رضي الله عنه -: هو رجل الإسلام الأول بعد رسول الله - رضي الله عنه -، أسلم بإسلامه ستة نفر، خمسة من العشرة المبشرين بالجنة: وهم عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، والسادس خباب بن الأرت - رضي الله عنهم -، ولقد أعز الله الإسلام بخلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقد كان الرجل الأول من رجال الإسلام العظام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رفيق درب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول وهلة، عرفه وآمن به وصدقه ولازمه ملازمة الظل للجسد، ولم يفضِّل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا من أصحابه بل كان سيدهم والمقدم عليهم في كل شأن، وقد أَم الناس ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي، عن عائشة رضي الله عمها قالت: "لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر أن يصلى بالناس» فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى ما يقم ¬

(¬1) فتح الباري 13/ 214.

مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «مروا أبا بكر يصلى بالناس» فقلت: لحفصة قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى ما يقم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر، قال: «إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلى بالناس» فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه يخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عن يسار أبى بكر، فكان أبو بكر يصلى قائما، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى قاعدا، يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس مقتدون بصلاة أبي بكر - رضي الله عنه - " (¬1)، ولو كان عمر - رضي الله عنه - أفضل من أبي بكر أو حتى مساويا له في الفضل لم يُغلظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلام لحفصة مع وجاهة العذر، ولكنه فضل أبي بكر - رضي الله عنه -، وأول من يعترف به عمر - رضي الله عنه -، ولم يكن خافيا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن يُقِّدم أبا بكر ليصلي بالناس صلاة العصر، في اليوم الذي ذهب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للإصلاح بين بني عمرو بن عوف (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذت، أبا بكر ولكن أخي وصاحبي» (¬3)، فلم يفضل أحدا من أهل الأرض على أبي بكر - رضي الله عنه -، إشارة واضحة في استحقاق أبي بكر - رضي الله عنه -، لو جازت الخلة لأحد من الناس لكانت لأبي بكر كلام من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا عرف الصحابة فضل أبي بكر، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم» (¬4)، وهذا الأمر أغاظ كثيرا أتباع أبي لؤلؤة المجوسي على أبي بكر وعمر وعامة الصحابة، وعلى كل من رضي بذلك. ¬

(¬1) البخاري حديث (713) ومسلم حديث (968) .. (¬2) المعرفة والتاريخ 1/ 455. (¬3) البخاري حديث (3656) ومسلم (6323). (¬4) الإبانة الكبرى لابن بطة (3/ 183).

نسبه

أبو بكر - رضي الله عنه - نسبه: سمي عتيقا لرقة حسنه وجماله، وهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، فصخر عم أبي قحافة عثمان، وسلمى ابنة عمه. ولد بمكة، بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، ونشأ سيداً من سادات قريش، وغنياً من كبار موسريهم، وعالماً بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقبه بعالم قريش، حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، فلم يشربها. وهو أول من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرجال، وأحد أعاظم العرب، وأول الخلفاء الراشدين (¬1). صفته - رضي الله عنه -: كان رجلا نحيفا خفيف اللحم أبيض، وكان يخضب بالحناء والكتم (¬2). إسلامه - رضي الله عنه -: أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق، قالت: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أسلم أبي أول المسلمين؛ ولا والله ما عقلت أبي إلا وهو يدين الدين، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما عقلت أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، وما مر علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرة وعشية. فأبو بكر - رضي الله عنه - صحب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، وسبق إلى الإيمان به، واستمرّ معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار، وفي المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحجّ في الناس في حياة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع، واستقرّ خليفة في الأرض بعده، ولقّبه المسلمون خليفة رسول اللَّه. أسلم أبوه - رضي الله عنه -، وروى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

(¬1) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري 10/ 52، والإصابة في تمييز الصحابة 4/ 145 والأعلام للزركلي 4/ 102. (¬2) الطبقات الكبرى ط العلمية 3/ 140. (¬3) بتصرف انظر: الطبقات الكبرى 3/ 128، وأنساب الأشراف للبلاذري 10/ 52، والإصابة في تمييز الصحابة 4/ 145 والأعلام للزركلي 4/ 102.

خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -

خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول، من السنة الحادية عشرة من هجرته - صلى الله عليه وسلم -، ودفن في بيت عائشة رضي الله عنها، وكانت قد رأت سابقا ثلاثة أقمار سقطن في حجرتها, قالت رضي الله عنها: "فقصصت رؤياي على أبي بكر الصديق، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودفن في بيتها، قال لها أبو بكر: هذا أحد أقمارك, وهو خيرها" (¬1)، دفن خير الأقمار وكان أمر الأمة المحمدية بيده - صلى الله عليه وسلم -، وكانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - أمرا مذهلا لأصحابه لشدة حبهم له - صلى الله عليه وسلم -، وملازمتهم مجالسه - صلى الله عليه وسلم -، وكم كان يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وقال في قصة كلام البقرة، والذئب، وقد استغرب أناس كلامهما: ... «آمنت به أنا وأبو بكر، وعمر» (¬2)، وغيرهما كثير من أصحابه، أحبوه حبا جما، وفدوه بأموالهم وأنفسهم، فعظمت وفاته عليهم حتى قام عمر - رضي الله عنه - يخطب في الناس، فقال المغيرة - رضي الله عنه -: "يا عمر، مات والله رسول الله، فقال عمر: كذبت ما مات رسول الله، ولكنك رجل تحوشك فتنة، ولن يموت رسول الله حتى يُفني المنافقين"، ما أراد عمر إلا هلاك أعداء الإسلام، وهو يعلم وجود الكثيرين منهم في ذلك الوقت، فلما جاء أبو بكر - رضي الله عنه - وعمر يخطب قال له: اجلس، فأبى عمر - رضي الله عنه -، وهو يعلم فضل أبي بكر - رضي الله عنه -، ولكن حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أكبر بكثير من طاعة أبي بكر - رضي الله عنه - فتشهد أبو بكر - رضي الله عنه -، فمال الناس إليه، وتركوا عمر - رضي الله عنه -، لمعرفتهم بفضل أبي بكر - رضي الله عنه - على عمر - رضي الله عنه -، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أما بعد: من كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬3)، وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل ¬

(¬1) موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري حديث (974). (¬2) البخاري حديث (2324) .. (¬3) الآية (144) من سورة آل عمران.

هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمعُ بشرا من الناس إلا يتلوها، فأخبر سعيد بن المسيب أن عمر قال: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعَقِرت حتى ما تُقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات" (¬1)، حصل للناس إفاقة من هول ما سمعوا من موت رسول الله - رضي الله عنه - كان قول أبي بكر - رضي الله عنه - بلسما شافيا لتلك الصدمة، بعد هذا انصرف الصحابة إلى التفكير في مصير الأمة المحمدية بعد نبيها، ولا يلزم أن يحضر جميع الصحابة سقيفة بني ساعدة، بل يكفي منهم النخبة ولم يكن ذلك إلا برعاية ربانية، فقد وعد بحفظ الذكر؛ والشريعة الإسلامية برمتها من الذكر، فكان اجتماع الأعيان في سقيفة بني ساعدة أمرا اجتهاديا ليس في أمر الأمة المحمدية بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص صريح لشخص معين لا من الكتاب العزيز، ولا من السنة النبوية، سوى بعض الإضاءات، السالف ذكرها، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يأبا الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (¬2)، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر يؤمهم غيره» (¬3)، وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهو الخليفة الرابع ذكر أبا بكر وشرفه وفضله وقال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر فصلى بالناس, وقد رأى مكاني, وما كنت غائبا ولا مريضا, ولو أراد أن يقدمني لقدمني, فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا" (¬4)، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إنه كان من شأن الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي فأتينا فقيل لنا: إن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة مع سعد بن عبادة يبايعونه، فقمت وقام أبو بكر، وأبو عبيدة بن الجراح، نحوهم فزعين أن يحدثوا في الإسلام فتقا، فلقيَنا رجلان من الأنصار، رجل صدق: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، فقالا: أين تريدون؟ فقلنا: قومَكم، لِما بلغنا من أمرهم، فقالا: ارجعوا فإنكم لن تُخالَفوا، ولن يؤت شيء تكرهونه، فأبينا إلا أن نمضي، وأنا أزوي كلاما أريد أن أتكلم به، حتى انتهينا إلى القوم، ¬

(¬1) البخاري حديث (4454) .. (¬2) فضائل الصحابة لأحمد حديث (589). (¬3) الشريعة للآجري حديث (1300). (¬4) الشريعة للآجري حديث (1300) ..

وإذا هم عكوف هنالك على سعد بن عبادة، وهو على سرير له مريض، فلما غشيناهم تكلموا فقالوا: يا معشر قريش، منا أمير ومنكم أمير، فقام الحباب بن المنذر فقال: أنا جُذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب، إن شئتم والله رددناها جذعة، فقال أبو بكر: على رسلكم، فذهبت لأتكلم فقال: أنصت يا عمر (¬1)، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار، إنا والله ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب، ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم (¬2)، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الاسلام، ألا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. قال عمر: لي، ولأبي عبيدة بن الجراح - فأيهما بايعتم فهو لكم ثقة، قال: فو الله ما بقي شيء كنت أحب أن أقوله إلا وقد قاله يومئذ، غير هذه الكلمة - يعني ترشيحه - فو الله لأن أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا في غير معصية، أحب إلي من أن أكون أميرا على قوم فيهم أبو بكر، قال: ثم قلت: يا معشر الأنصار، يا معشر المسلمين، إن أولى الناس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده ثاني اثنين إذ هما في الغار: أبو بكر السباق المبين، ثم أخذت بيده وبادرني رجل من الأنصار، فضرب ¬

(¬1) أمر من أخ كريم لأخ كريم فقد آخى بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهما سيدا كهول أهل الجنة سوى الأنبياء والمرسلين (الغيلانيات حديث 19) .. (¬2) سئل بعض العلماء لم كانت قريش أفضل العرب وهي قبيلة من مضر؟ فقال: لأن دارها لم يزل منسكا لحج الناس، وموسما لهم وموردا لقضاء نسكهم، وكانوا لا يزالون يتأملون أحوال الواردين ويراعونها، يختارون أحسن ما يشاهدونه، ويتكلمون بأحسن ما يسمعونه من لغتهم، ويتخلقون بأحسن ما يرون من شمائلهم، فبذلك - وهو حسن الاختيار الذي هو ثمرة العقل - صاروا أفضل العرب، ثم قال: لما بعث الله نبيه - رضي الله عنه - منهم تمت لهم به الفضيلة، وكملت به السيادة، وإنما صار دارهم حرما لأن الله تعالى لما قال للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} من الآية (11) من سورة فصلت، كان المجيب له بذلك من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما قابله فلذلك جعل فيه البيت المعمور (السلوك في طبقات العلماء والملوك 1/ 70).

على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتتابع الناس" (¬1)، هذا هو الحق المبين، الذي أعمى الله عنه خلائق زعموا عدم أحقية أبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة، مع علمهم بوجود العباس - رضي الله عنه - عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجله كثيرا، حتى قال: «عم الرجل صنو أبيه» (¬2) ولم ينظر الناس في استخلافه، ولم يكن المقدم عندهم، ولا الإمام الأعظم، وإنما كان المقدم والإمام الأعظم أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه. وإن للأنصار فضلهم ومكانتهم في نصرة الله ورسوله، والتضحية في سبيل الله بالنفس والنفيس، فلهم الحق كل الحق أن يتطلعوا إلى شيء من الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما تطلعوا إلى أن يعطيهم رسول الله من غنائم يوم حنين، وعتبوا على ذلك، فلما أبان لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحق قبلوا وطابت أنفسهم؛ لأن الإسلام مقدم عندهم على كل شيء، وهنا كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أبعد نظرا من سعد بن عبادة وقومه - رضي الله عنهم -، خافوا من الانشقاق، فيكون ذلك بابا من الشر على وحدة الأمة المحمدية، ولاسيما والأمر لا زال في صُبحه، وأمام من يلي أمر الأمة من الأعمال ما يستدعي وحدة الصف على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا من جانب ومن جانب آخر الأنصار أنفسهم يعرفون مكانة قريش بين القبائل في الجاهلية، وما لهم من تأثير على سير الأحداث، فذكَّرهم أبو بكر - رضي الله عنه - الأمر الخطير، مع الاعتراف بفضل الأنصار، وبمكانتهم في الأمة المحمدية، فالناس دثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشعاره الأنصار، ولم يسعَ أبو بكر - رضي الله عنه - لترشيح نفسه، ولكنه رشح أحد اثنين وهما من يعرف الأنصار والمهاجرون فضلهم، الأمر الذي لا يختلف عليه اثنان منهم، أبا حفص عمر - رضي الله عنه -، وأبا عبيدة عامر بن الجراح - رضي الله عنه -، فالأول الفاروق، والثاني أمين الأمة، ولا غرابة في مبادرة عمر - رضي الله عنه - إلى ترشيح أبي بكر، فالصحابة مجمعون على فضل أبي بكر - رضي الله عنه -، المهاجرون منهم والأنصار، وأنه الخيار منهم، والسابق الأول إلى كل فضيلة، وهو من يدعى من أبواب الجنة الثمانية، لطرْقه أبواب الخير المتعلقة بها، ولذلك لم يُنازَع عمر - رضي الله عنه - في ترشيحه ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، المصنف (8/ 571). (¬2) مسلم حديث (983).

الوحدة الإسلامية في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -

لأبي بكر، بل أول من سبق لمبايعة أبي بكر رجل من الأنصار، تلاه عمر، وتتابع الناس رضا بأبي بكر، لم تكن البيعة بسيف أبي بكر، ولا بمال تألفهم به، ولا بقهر عشيرة، بل بالسابقة والفضل المستحق، وصدق فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «معَاذ الله أَن يختَلف المؤمِنونَ فِي أبي بكر» (¬1)، وما جنوا من ذلك إلا العدل والإحسان فكانت خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - قَدَراً فيه الخير الذي أراده الله - عز وجل - للأمة المحمدية، ولو لم يرد الله ذلك لأبي بكرـ وربنا الفعال لما يريد - ما كان لأبي بكر ولا غيره أن يَمْكُن من ذلك، ولكن الله قدر، فله الحمد والمنة، وكل من لم يرض بخلافة أبي بكر فقد سخط قدر الله - عز وجل - ورحمته لعباده المؤمنين، فإن خلافته نواة الوحدة الإسلامية، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعجب أن أبا بكر - رضي الله عنه - بعد أن رضيه المهاجرون والأنصار، خلفا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليا لأمر الأمة المحمدية طلب الإقالة، روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "قام أبو بكر بعدما استخلف بثلاث، فقال: من يَستَقيلُني بيعتي فأقيله؟ ، فقلت: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2)، هذا كلام علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - الحكم العدل في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -. الوحدة الإسلامية في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -: حرصُ أبي بكر على وحدة الأمة المحمدية كان شغله الشاغل لا غيره، وقد نتج عن ذلك الحرص نجاح عظيم في صمود الحق أمام الباطل، فكان موقفه من الخلافة لبنة قوية في بناء الوحدة المحمدية، بناء أقامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، وبعد ذلك سائر المؤمنين، وكان موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من تسيير جيش أسامة - رضي الله عنه - فتحا عظيما، وسعة في رقعه البلاد ووحدة الأمة المحمدية، وكان موقفه من الردة ضربة للباطل ونصرا مؤزرا للإسلام وأهله، وقوة لوحدة الأمة المحمدية، فالمسلمون أسس وحدتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أربع ركائز، والخامسة حمايتها، إذ لا تقوم وحدتهم إلا بها محقَّقَة في حياتهم حتى لقاء الله - عز وجل -، وهذا الذي جعل أبا بكر - رضي الله عنه - يتحمل الأمانة، من غير طمع في الدنيا وزخارفها، ¬

(¬1) مسند الطيالسي حديث (1611). (¬2) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).

موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من استخلافه

اقتدى بصاحبه - صلى الله عليه وسلم - في الهدى، والعدل، والأمانة، والزهد في الدنيا، والإخلاص لله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحماية الوحدة الإسلامية. موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من استخلافه: تقدم بيان أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يحرص على شيء حرصه على وحدة الأمة المحمدية، وقد بين للناس ما رآه الأسلم لبقاء الأمر على ما كان عليه في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اعترف بفضل الأنصار - رضي الله عنهم -، وذكر لهم مكانة قريش بين قبائل العرب، ورشح للخلافة أحد رجلين: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولم يفضُله أحد، ويعلمون جميعا من هو عمر، إنه الرجل الذي أعز الله به الإسلام، - رضي الله عنه -، والآخر أبو عبيدة أمين الأمة - رضي الله عنه -، مكانته معروفة عند المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -، ولم يدعُ أبو بكر إلى نفسه لا من قريب ولا من بعيد، بل لمَّا حصل له ما حصل من البيعة، قال بعد ثلاث: «من يَستَقيلُني بيعتي فأقيله؟ » (¬1)، فلما أيقن ألا مفر له من إرادة الله - عز وجل -، ثم بيعة الصحابة له، علم أنه كُلِّف أمر الأمة المحمدية، ولما تقرر أن يحمل الأمانة صعد المنبر، فجلس دون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمرقاة، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت فقوموني! ، لا أقول: إني أفضلكم فضلا، ولكني أفضلكم حملاً، وأثنى على الأنصار خيراً وقال: إنا وإياكم، معشر الأنصار كما قال القائل: جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبو أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت" (¬2). وأعرف الناس بالرجل أهل بيته، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "تُوِّفي رسولُ الله، فو الله لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضَها، إشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العربُ، فو الله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وغَنَائها في الإسلام" (¬3)، لقوة حجته، واستناده إلى علمه بالكتاب والسنة، وثقته بربه، فما طلب سوى وحدة الأمة المحمدية على الكتاب والسنة، وعزة الإسلام المطلقة، ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291). (¬2) تاريخ اليعقوبي (1/ 155). (¬3) عيون الأخبار (1/ 253).

أبرز الأحداث في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -

فكسر الله أعداءه في جزيرة العرب وخارجها، لم يسعَ أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الخلافة، بل الخلافة سعت إليه، لأنه - رضي الله عنه - كان أزْهَدَ الناس، وأكثرهم تواضعاً: في أخلاقه، ولباسه، ومطعمه، ومشربه، وتأكد ذلك بعد توليه الخلافة، إذ كان لبسه في خلافته الشملة، قدمَ إليه زعماء العرب وأشرافهم، وملوك اليمن وعليهم الْحُلَل، وبرود الْوَشْي المثقل بالذهب، والتيجان، فلما شاهدوا ما عليه من اللباس والزهد والتواضع والنسك، وما هو عليه من الوقار والهيبة ذهبوا مَذهبه، ونزعوا ما كان عليهم، وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذو الكلاع ملك حمير، ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته، وعليه التاج والحُلَل، فلما شاهد من أبي بكر - رضي الله عنه - ذلك الزهد والتواضع ألقى ما كان عليه وَتَزَيَّا بِزِيِّ أبي بكر، حتى إنه رؤي يوماً في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك وقالوا له: "قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار، قال: أفأردتم مني أن أكون ملكاً جباراً في الجاهلية، جباراً في الإسلام، لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع لله والزهد في هذه الدنيا" (¬1)، وتواضعت الملوك ومَنْ ورد عليه من الوفود بعد التكبر، وتذللوا بعد التجبر. أبرز الأحداث في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -: لم تنطفئ العداوة للإسلام، من اليهود والذين أشركوا، حتى في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الله - عز وجل - مكن للإسلام في جزيرة العرب، وأذاع صيته في أنحاء من الأرض، فما سمع أناس بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا واشرأبت أعناقهم، وجاشت صدورهم بما فيها من الرغبات، وكان أول من برز مظهرا رغبة شخصية أبداها: الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - في طلب الخلافة، حين قال في سقيفة بني ساعده: "أنا جُذيلها المحكك، وعُذيقها المرجَّب، إن شئتم والله رددناها جذعة" (¬2)، ولكن الله - عز وجل - أراد خلاف ذلك، فكان أفضل الأمة بعد نبيها الأَولَى والأحق عند الله ورسوله والمؤمنين، وما كاد يستقر الأمر في يد أبي بكر - رضي الله عنه - حتى أطلَّت الفتنة برأسها من خلال من زعم أن الزكاة لا تؤدى إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستحق جمعها أحد بعده، وكانت مهمة الفتح ¬

(¬1) مروج الذهب 1/ 289. (¬2) مصنف ابن أبي شيبة 8/ 571.

الإسلامي معقودة من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجيش يقوده أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام، فلما وصل إلى مكان يسمى ذي خشب (¬1)، توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وفي الوقت نفسه ارتد بعض العرب، فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأوا ضرورة إلغاء جيش أسامة، فلما عزم أبو بكر - رضي الله عنه - على إنفاذ جيش أسامة - رضي الله عنه -، والحال ما ذكرنا، لم يرض هذا الإجراء كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأشاروا على خليفة رسول الله أن لا ينفذ جيش أسامة؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم، في الأحداث القائمة، لرد خطرها عن الإسلام والمسلمين، والاستقواء بجيش أسامة على قمع المرتدين، وإعادتهم إلى حضيرة الإسلام، وإلا اتسع الخرق على الراقع، وربما تكون فتنة كبرى، يصطلي بنارها المسلمون، وتقوى شوكة الأعداء، ولا ريب أنها مشورة ذات أهمية بالغة، ولها وزنها وقدرها العظيم، وهم مأجورون على ذلك - رضي الله عنهم -، غير أن شجاعة الصديق وبعد نظره، وتعظيمه لله ورسوله جعله يأبى أشد الإباء، ويقول لمحبيه والناصحين له: «والذي لا إله إلا هو لو جرَّت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رددت جيشاً وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا حللت لواءً عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬3)، لأجهزن جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدينة، فحاوره يزيد الضخم فقال: ما أراك تنحاش لِما قد بلغ من الناس، ولِما يتوقع من إغارة العدو؟ ، فقال: ما دخلني إشفاق من شيءٍ، ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأى إشفاقي عليه وعلى الدين، قال لي: «هون عليك، فإن الله قد قضى لهذا الأمر بالنصر والتمام» (¬4)، فسمع الصحابة وأطاعوا، وخرج أبو بكر - رضي الله عنه - ¬

(¬1) هو بضمتين: وادٍ قريب من جبل البيضاء من جهة بواط، على مَسِيرةِ لَيْلة من المَدينة، قال الطرماح: أو كالفتى حاتم إذ قال ما ملكت ** كفاي للناس نهبى يوم ذي خشب (لسان العرب 1/ 351، والجبال والأمكنة والمياه 1/ 207). (¬2) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291). (¬3) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291). (¬4) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291) ..

شاهراً سيفه، راكباً على راحلته إلى ذي القَصَّة (¬1)، فجاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! ، أقول لك ما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: «أشمر سيفك، ولا تفجعنا بنفسك» فو الله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً، فرجع وأمضى الجيش (¬2)، وأمر أسامة بن زيد أن يَنفذ في جيشه، وسأله أن يترك له عمر - رضي الله عنه - يستعين به على أمره، فقال: فما تقول في نفسك؟ (¬3)، فقال: يا ابن أخي! فعل الناس ما ترى فدع لي عمر، وأنفذ لوجهك، فخرج أسامة - رضي الله عنه - بالناس وشيّعه أبو بكر - رضي الله عنه - فقال له: ما أنا بموصيك بشيء، ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله. نفَّذ أسامة - رضي الله عنه -، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - حكيما موفقا في هذا القرار الصارم، وكان فيه من الخير: تقديس عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ عقد اللواء لأسامة - رضي الله عنه - ووجهه بجيش إلى الروم، ومن يجسر على حل أمر أبرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان هذا من فقه أبي بكر - رضي الله عنه -، فقد عظَّم الله ورسوله في هذا الإجراء، ولم يشك في نصر الله للمؤمنين، قال الزهري رحمه الله: من فضل أبي بكر أنه لم يشك في الله ساعة (¬4)، ومن شدة وثوقه بالله تعالى كان المنقوش على خاتمه «نِعْمَ اللهُ القادر» وقد حصل بهذا الاستقواءُ الذي أراده الصحابة - رضي الله عنهم - خير كثير، فإنه لما أنفذ أسامة - رضي الله عنه - بجيشه، جعل لا يمر بقبيلٍ يريدون الارتداد إلاّ قالوا: لولا أن لهؤلاء قوةً ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم، وقتلوهم ورجعوا ¬

(¬1) بقعاء ذي القصة على بعد أربعة وعشرين ميلا عن المدينة (تاج العروس 1/ 5111) ولعله بين ذي خشب والمدينة، من جهة طريق تبوك الآن. (¬2) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291). (¬3) تأمل هذه العبارة من أسامة - رضي الله عنه - فإن فيها إجلال لأبي بكر، فكأنه يقول لأبي بكر - رضي الله عنه -، كيف تطلب مني إبقاء عمر - رضي الله عنه -، وأنت المقدم عليه عند الله ورسوله والمؤمنين، فما زاد ذلك أبا بكر إلا تواضعا، وحلما في مخاطبة أسامة - رضي الله عنه -، مع بيان سبب استبقاء عمر - رضي الله عنه -، وفي ذلك تكريم لعمر - رضي الله عنه -، وهو والله لذلك أهل، رضي الله عنهم أجمعين. (¬4) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291).

حروب الردة

سالمين فثبت من كان يفكر في الردة على الإسلام (¬1)، أقام أسامة - رضي الله عنه - بجيشة منذ خرج إلى أن قدم المدينة منصرفا كما قيل: سبعين يوما، أو ستين يوماً، أو أربعين يوماً، ثم دخل المدينة ولواؤه معقود، حتى دخل المسجد، فصلى، ثم دخل إلى بيته ولواؤه الذي عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه (¬2)، وكان من بركة عمل أبي بكر هذا الوفاء بما عزم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أحست به أحياء العرب من منعة الإسلام وأهله، وعلم المسلمون بُعد نظر خليفة رسول الله، وصدق عمر بن الخطاب إذ قال: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم» (¬3). حروب الردة لقد كان موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من ردة العرب إلهاما عظيما من الله تعالى، وهو من حفظه تعالى لدين الإسلام، وكان فتحا عظيما، فقد ارتدت العرب إلا أهل المسجدين وَمَنْ بينهما، وأُناساً من العرب؛ منهم: عدي بن حاتم - رضي الله عنه -، قدم بإبل الصدقة إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، ففي ذلك يقول الحارث بن مالك الطائي: وَفَيْنَا وفاء لم يَرَ النَّاس مثله ... وَسَرْبَلَنَا مجداً عديُّ بن حاتم (¬4). قال زياد بن سبرة اليعمري - رضي الله عنه -: أقبلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وقف على ناس من أشجع وجهينة، فمازحهم وضحك معهم، فوجدت في نفسي، فقلت: يا رسول الله، تضاحك أشجع وجهينة؟ فغضب ورفع يديه فضرب بهما منكبي، ثم قال: «أما إنهم خير من بني فزارة، وخير من بني الشريد، وخير من قومك، أولاء استغفروا الله» (¬5)، فلما كان الردة لم يبق من أولئك الذين خَيَّر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد إلا ارتد، وجعلت أتوقع ردة قومي، فأتيت عمر - رضي الله عنه -، فأخبرته، فقال: لا تخافن، ¬

(¬1) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291) بتصرف. (¬2) تاريخ اليعقوبي (1/ 155). (¬3) الإبانة الكبرى لابن بطة (3/ 183). (¬4) مروج الذهب 1/ 290. (¬5) الآحاد والمثاني حديث (2713).

أما سمعته يقول: «أولاء استغفروا الله تعالى» (¬1)، وهذا يوقفنا على علامة أخرى من علامات نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فقد حدث ما أشار إليه في ذلك التخيير، وعلامة أخرى رواها الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الحنفية (¬2) في بيت فاطمة، فأخبر عليا أنها ستصير له، وأنه يولد له منها ولد اسمه محمد، قال الحافظ: وهذا يؤكد أن عليا - رضي الله عنه - قد شارك في حروب الردة (¬3)، كيف لا وهو القائل - رضي الله عنه -: "فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث - حروب الردة - حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً" (¬4)، ولولا الله ثم وقفة أبي بكر والصحابة - رضي الله عنهم - في القضاء على الفتنة لولا ذلك لما قام للإسلام قائمة، ولما جُيِّشت الجيوش لفتح الأمصار شرقا وغربا تستقبل الأذان والعدل والمساواة، إن أبا بكر - رضي الله عنه -، بموقفه من المرتدين ومؤازرة الصحابة - رضي الله عنهم - له استعاد هيبة الإسلام، وحمى أركانه، وقد لقي الصحابة في ذلك شدة، ولاسيما في وقعة اليمامة التي قاتل فيها الْمسلمون مسيلمة الكذاب ومن معه، واستشهد فيها من الصحابة أكثر من ستمائة رجل، وكان جملة القتلى من الْمسلمين نحو (960) رجلاً، منهم سبعون من الحفاظ (¬5)، وقتل من الْمرتدين أكثر من عشرين ألف رجل (¬6)، ولسنا في صدد تفصيلات حروب الردة، فذلك القول فيه طويل، وإنما أردنا التذكير بشيء من ذلك. ¬

(¬1) أسد الغابة (1/ 388). (¬2) أم محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية؛ وهي من سبي بني حنيفة، في حروب الردة، التي كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - من المشاركين فيها. (¬3) تلخيص الحبير 4/ 50. (¬4) نهج البلاغة 61 .. (¬5) فتح الباري 8/ 668. (¬6) تاريخ الطبري 2/ 283.

بعد حروب الردة

وقد عرف الناس ضلال من ارتد، فأخذ بعضهم يعير بعضا بذلك الضلال، قال عليّ بن هوذة بن عليّ الحنفي - من بني حنيفة - بعد قتل مسيلمة الكذاب، وسمع الناس يعيّرون بني حنيفة بالردّة فقال يذكر من ارتدّ من العرب غير بني حنيفة: رمتنا القبائل بالمنكرات ... وما نحن إلاّ كمن قد جحد ولسنا بأكفر من عامر ... ولا غطفان ولا من أسد ولا من سليم وألفافها ... ولا من تميم وأهل الجند ولا ذي الخمار ولا قومه ... ولا أشعث العرب لولا النّكد ولا من عرانين من وائل ... بسوق النّجير (¬1) وسوق النّقد (¬2) وكنّا أناسا على غرّة ... نرى الغيّ من أمرنا كالرّشد ندين كما دان كذّابنا ... فيا ليت والده لم يلد! (¬3). بعد حروب الردة: لما عاود العرب الإسلام بعد الردة، ندبهم أبو بكر، ومستشاره عمر، رضي الله عنهما، إلى الجهاد، فسارت العرب إلى الشام والعراق، والذين ساروا إلى الشام توجهوا بعد فتحه إلى مصر، ففتحوها، فكان فيهم من له صحبة، وفيهم من لا صحبة له، وإن أدركوا الجاهلية، فإن كل من شهد الفتوح أيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أدركوا الجاهلية، فإن آخر أيام عمر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث عشرة سنة تقريباً، كل من قاتل في أيام أبي بكر وعمر كان كبيراً في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، وكان عهد أبي بكر قوة للحضارة الإسلامية، ففي عهده اتسعت رقعة البلاد الإسلامية زيادة على ما كانت عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان عزَم على إكمال ما بدأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أعمال الفتح الإسلامي، عملا بقول الله - عز وجل -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ ¬

(¬1) حصن باليمن لجأ إلية الأشعث وقومه في حروب الردة (معجم البلدان 2/ 271). (¬2) النقد صغار الشاة (معجم البلدان 4/ 319) ولعله سوق باليمن. (¬3) معجم البلدان 2/ 169. (¬4) أسد الغابة 1/ 143.

صَاغِرُونَ} (¬1)، وبقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2)، واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن خروجه - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك بالناس، وفي وقت شديد الحر، كثير الجَهد والمشقة، ثم عقد لواء الجهاد بعد ذلك لأسامة - رضي الله عنه -، ليسير بمن معه لفتح تخوم الشام، تنفيذا لأمر ربه تعالى، وإعلاما لأمته بأهمية الفتح الإسلامي، وتبليغ الناس دعوة الحق، وقد أدرك هذا أبو بكر - رضي الله عنه -، فكان أول عمل قام به إنفاذ أسامة بن زيد - رضي الله عنه - في جيش إلى البلقاء من الشام، إذ لم يتم ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان انتقاله إلى الرفيق الأعلى مصابا جللا دهى المسلمين، فلم يكن فراقه هينا على أصحابه - رضي الله عنهم -، فاشتد الحال، ونجمت أمور خطيرة بموته - صلى الله عليه وسلم -، لم تهدد أمن المسلمين فحسب، بل هددت بقاء الإسلام كما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد فهم أبو بكرأن تجهيز جيش أسامة كان بداية الفتح الإسلامي، ونشر دين الله في الأرض، ولم يقف أبو بكر - رضي الله عنه - عند هذا الحد، بل شرع في جمع الأمراء والجيوش من أماكن متفرقة من جزيرة العرب، ليبعث بها لفتح الشام والعراق، وفاء لما نوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عقد اللواء لأسامة - رضي الله عنه -، فلما اجتمع عنده ما أراد من الجيوش قام في الناس خطيبا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد، فقال: "ألا إن لكل أمر جوامع فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد فإن الجد والقصد أبلغ، ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا خشية له، ولا عمل لمن لا نية له، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله، لَما ينبغي للمسلم أن يختص به، هذه هي النجاة التي دل الله عليها، فنجّى بها من الخزي، وألحق بها من الكرامة"، ثم شرع - رضي الله عنه - في تولية الأمراء، وعقد الألوية والرايات، وبعثهم في أول سنة (13 هـ) وتم فيما لا يجاوز ستة أشهر فتح أمصار كثيرة من الشام أرض الروم، وكانت مقولة عظيمة لأبي بكر - رضي الله عنه - حينما بلغه أن جيوش الروم تتحزب على المسلمين فكان مما قال - رضي الله عنه -: "أَلْقَوا جنود المشركين، وأنتم أنصار الله، ¬

(¬1) الآية (29) من سورة التوبة. (¬2) الآية (123) من سورة التوبة ..

والله ينصر من ينصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصل كل رجل منكم بأصحابه"، وقد تابع الصديق هذا الجانب الهام، في بناء الحضارة الإسلامية، والارتقاء بالشعوب من ظلمات الجاهلية، إلى نور الإسلام، فجهز لفتح العراق جيشا بقيادة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، وأمره أن يأتي الأبلة، ليدخل العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس، ويدعوهم إلى الله - عز وجل -، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، وإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم، وأمره ألا يكره أحدا على المسير معه، لأنه لا يأمن غدره، ولا يستعين بمن ارتد عن الإسلام، ولو عاد عن ردته، فهو غير مأمون ولاسيما وهو قريب عهد بردة، وهذه فطنة عظيمة من أبي بكر - رضي الله عنه -، وأخذ أبو بكر يتابع أخبار خالد في سيره في الفتح، ويمده بالسرايا والبعوث والجيوش عند حاجته إلى ذلك، وسار خالد - رضي الله عنه - في فتح أمصار العراق، يبث سراياه لحصار الحصون، ويستنزلون أهلها قسرا وقهرا، وصلحا ويسرا، وكان في جملة ما نزل بالصلح قوم من نصارى العرب، فيهم عمرو بن عبد المسيح بن نُفيلة، وجد خالد معه كيسا فقال: ما في هذا الكيس؟ وفتحه خالد فوجد فيه شيئا، فقال ابن نُفيلة: هو سم ساعة، فقال: ولم استصحبته معك؟ ! فقال: حتى إذا رأيت مكروها في قومي أكلته فالموت أحب إلي من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم، قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه، فبادرهم فابتلعه، فلما رأى ذلك ابن نُفيلة قال: والله يا معشر العرب، لتملكن ما أردتم مادام منكم أحد - يعني بهذه الصفة - ثم التفت إلى قومه أهل الحيرة، فقال: لم أر كاليوم أمراء أوضح إقبالا من هذا، ثم دعاهم وسألوا خالدا الصلح، فصالحهم وكتب لهم، وقدم خالد - رضي الله عنه - برهانا جديدا على كمال الإيمان، وقوة التوكل، وبعد نظر من خالد ليعلم القوم وكبيرهم أن هذه هي صفة أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وليست الحالة الوحيدة، فمثل هذا كثير (¬1)، وهو ما ¬

(¬1) من ذلك قصة العلاء بن الحضرمي، في غزو دارين، دعا بثلاث دعوات استجاب الله له فيها: نزل منزلا فطلب الماء فلم يجد، فقام وصلى ركعتين وقال: اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم اسقنا غيثا نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لأحد فيه نصيب غيرنا، فساروا =

فهمه ابن نفيلة وقومه، وبرز الوفاء من خالد لموعود وعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو ¬

= قليلا، فإذا هم بماء حين أقلعت السماء عنه، فتوضؤا منه وتزودوا، وقد لا حظ أحد أصحابه اشتراطه في الدعاء، وهو أمر استغربه، فلما رأى أن الله استجاب له وأنز ل المطر، أراد أن يتحقق الإجابة في الشرط، فملأ إداوته وتركها عمدا، فلما ساروا مسافة قال لأصحابه: إني نسيت إداوتي فرجع إلى ذلك المكان فلم يجد أثرا للماء، وكأنه لم يصبه ماء قط، وليس في اشتراط العلاء غرابة، لأن الأرض أرض عدو، وفي ذلك وهَن لهم، وفيه كرامة للمجاهدين لإعلاء كلمة الله، وعلم العدو بمثل هذا الحدث تسهيل لمهمة المجاهدين، هاتان اثنتان، أما الدعوة الثالثة: فلما أشرفوا على دارين حال البحر بينهم وبينها، فقال العلاء: يا علي يا حكيم، إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلوا البحر ولم يبلغ الماء لبودهم، ومشوا على متن الماء ولم يبتل لهم شيء، وأخرى وقعت لأحد الصحابة، عندا ما حال نهر دجلة وهو ماد بينهم وبين العدو، فقال رجل من المسلمين: بسم الله ثم اقتحم بفرسه، فارتفع على الماء، فقال الناس: بسم الله فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم العدو وقالوا: " ديوات، ديوات" أي مجانين، يقولون ذلك وهم فارون على وجوههم، وكان أول من اقتحم دجلة في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أبو عبيدة النفيعي أمير الجيوش، وأنه نظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} آل عمران من الآية (145) ثم سمى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراء، ومن ذلك، قصة أبي مسلم الخولاني، جاء إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدها، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله تعالى؟ ! "ثقة بالله - عز وجل - لا حدود لها، فكافأهم الله - عز وجل - بفورية الإجابة وشد الأزر، ولم تكن هذه الصفة قاصرة على الرجال، بل كان للنساء المؤمنات حظا، وذلك "أن امرأة أتت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجرة ومعها ابنها قد بلغ، فأضافها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النساء، وابنها إلى الرجال مع أهل الصفة، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أياما ثم قبض، فغمضه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بجهازه، فلما أرادوا أن يغسلوه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أنس ائت أمه فأعلمها)، فأعلمها أنس قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا، وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله"، قال: "فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحتى هلكت أمه"، إن هذا وما شابهه حدث بسبب إيمانهم بالله ورسوله، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله، فنالوا ما نالوا من الفضل والتميز، نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويستجيب دعاءنا، ولا يحرمنا فضله ونصرته وكرمه. انظر (البداية والنهاية 6/ 3118، 319، 320).

صحابي يقال له: شويل (¬1)، وذلك أنه لما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قصور الحيرة، وكأن شُرُفها أنياب الكلاب، فقال له يا رسول الله، هب لي ابنة نفيلة، واسمها كرامة، فقال: هي لك، فلما كان يوم خالد هذا ادعاها شويل - رضي الله عنه -، وشهد له اثنان، فلم يصالحهم خالد حتى يسلموها، فامتنع قومها من تسليمها وقالوا: ما تريد من امرأة ابنة ثمانين سنة؟ ! ، فقالت لقومها: ادفعوني إليه، فإني سأفتدي منه، وإنه قد رآني وأنا شابة، وسلمت إليه، فلما خلا بها قالت: ما تريد امرأة بنت ثمانين سنة؟ ! ، وأنا أفتدي منك فاحكم بما تريد، وقال: والله لا أفديك بأقل من عشر مائة، فاستكثرتها خديعة منها، ثم أتت قومها وأحضروا له ألف درهم، ولامه الناس وقالوا: لو طلبت أكثر من مائة ألف لدفعوها إليك، فقال: وهل عدد أكثر من عشر مائة؟ ! ، وذهب إلى خالد وقال: إنما أردت أكثر العدد، فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، وإنا نحكم بظاهر قولك، ونيتك عند الله، كاذبا كنت أم صادقا، وفي هذه القصة جانبان هامان: الأول: الوفاء بما وعد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شويلا - رضي الله عنه -، كما وفّى عمر - رضي الله عنه - لسراقة بسواري كسرى. الثاني: العدل: بعدم قبول دعوى شويل - رضي الله عنه - أنه ما أراد إلا أكثر العدد، وقد صلى خالد لما فتح الحيرة ثمان ركعات بتسليمة واحدة، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يوم فتح مكة فقد صلى ثمان ركعات شكرا لله - عز وجل - على ذلك الفتح العظيم، وما أشبه الليلة بالبارحة في حياة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، يعظمه أبو بكر فيقول: والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد، وبعث إليه وهو في العراق ليقدم إلى الشام، فيكون الأمير على من بها، وقد حفظ الصديق - رضي الله عنه - للأمة أمر دينها بجمع القرآن الكريم من صدور الرجال، واللخاف والعُسُب، وكلف بذلك زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، وقد لفت نظره إلى هذا العمل العظيم ما وقع للقراء من القتل في يوم ¬

(¬1) لعل هذا لقبه وهو خريم بن كعب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود " فقلت: يا رسول الله، فإن نحن دخلنا الحيرة ووجدتها على هذه الصفة هل لي؟ قال: " هي لك " وذكر الحديث (أسد الغابة 1/ 332).

أبو بكر عند احتضاره - رضي الله عنه -

اليمامة، فتنبه إلى خطورة عدم جمع القرآن وكتابته في مصحف يحفظ للأمة أمر دينها، وقد كانت هذه الإنجازات الإسلامية في مدة قصيرة لم تتجاوز أربعة وعشرين شهرا (¬1). أبو بكر عند احتضاره - رضي الله عنه -: إن أبا بكر - رضي الله عنه - كغيره يصيب ويخطئ، لأنه غير معصوم، ونبينا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - هو الوحيد من البشر المعصوم الذي لا يرد له قول، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - كغيره من الناس يجتهد فيصيب وله أجران، ويجتهد فيخطئ وله أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور، لأنه لم يرد سوى الحق، وإقامة العدل، ولم يُخْف أبو بكر - رضي الله عنه -، ما فكر فيه وتمنى الإقدام عليه أو الإحجام عنه، وهذا من الحرص على الخير، والتحرز من الشر، وكفى المرءَ نبلا أن تعد معايبه، ولا عيب والله نشهد به على أبي بكر - رضي الله عنه -، أكرم الأصحاب، وأحب الأحباب إلى رسول رب الأرباب، فخسئ والله من ثلبه وخاب. قال - رضي الله عنه -: "ما آسَى على شيء إلا على ثلاث فعلتها، ووددت أني تركتها، وثلاث تركتها ووددت أني فعلتها، وثلاث وددت إني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها: فأما الثلاث التي فعلتها، ووددت أني تركتها: فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة، ووددت أني لم أكن حرّقت الفُجَاءة وأطلقته نجيحاً، أو قتلته صريحاً، وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قَذَفْتُ الأمر في عنق أحد الرجلين، فكان أميراً وكنت وزيراً. والثلاث التي تركتها وددت أني فعلتها: وددت أني يوم أُتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه، فإنه قد خُيل لي أنه لا يرى شَرّاً إلا أعانه، وددت أني كنت قد قذفت المشرق بعمر بن الخطاب، فكنت قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله، وددت أني يوم جهَزْت جيش الردة ورجعت أقمت مكاني فإن سلم المسلمون سلموا، وإن كان غير ذلك كنت صدر اللقاء أو مَدَداً. وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد بلغ مع الجيش إلى مرحلة من المدينة، وهو الموضع المعروف بذي القصة (¬2). ¬

(¬1) انظر (البداية والنهاية 6/ 371، 372، 419، 424 - 425). (¬2) بقعاء ذي القصة على بعد أربعة وعشرين ميلا عن المدينة (تاج العروس 1/ 5111).

والثلاث التي وددت أني سألت رسول اللهّ - صلى الله عليه وسلم - عنها: وددت أني كنت سألته في مَنْ هذا الأمر، فلا يُنازَع الأمر أهله، وددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ فإن بنفسي منهما حاجة، ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب فنعطيهم إياه (¬1). هذا ما دار في ذهن أبي بكر - رضي الله عنه - وهو في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة، ذكر أمورا لا حرج عليه فيها، فقد وفّى في أمانته، فنقول يا أبا بكر رضي الله عنك إن كنت تحرجت مما ذكرت، فنقول لا تثريب عليك، فقد بذلت ما برأت والله به ذمتك، ولن يخزيك الله - عز وجل -، هذا ظننا بربنا - رضي الله عنهم -. نقول هذا لأنك رويت وأنت الصادق المصدّق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال» (¬2) - يعني مال الله - وقلت: "ليس لهم أن يزيدوا على المأكل، وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كانت عليها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فتشهد عليٌّ ثم قال: "إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك، وذكر قرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحقهم"، فتكلم أبو بكر فقال: "والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي" (¬3). فكنتُ خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتزمتُ بما التزم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأي خطأ في هذا، ولِمَ لَمْ يوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أمر الله بذلك في كتابه العزيز، فقال - عز وجل -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬4) وأمر بها - صلى الله عليه وسلم - سعد بن مالك - رضي الله عنه -، قال سعد: قال: دعاني رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض فقالَ: «أوصيت؟ » قلت: نعم. قال: «بِكَمْ؟ » قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: «فما أبقيت لولدك؟ » قلت: هم أغنياء بخير، قال: «أَوصِ ¬

(¬1) مروج الذهب (1/ 290). (¬2) أخرجه البخاري حديث (3712) وانظر أطرافه: (3093، 4036، 4241، 6726). (¬3) أخرجه البخاري حديث (3712) وانظر أطرافه: (3093، 4036، 4241، 6726). (¬4) الآية (180) من سورة البقرة.

بالعُشر» فما زلت أنا قصه حتى قال: «أوص بالثلث، والثلث كثير» (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث» (¬2)، فالوصية للوارث منتفية، والوصية لغير الوارث ثابتة، وهي في سبيل الله على العموم، ولكنها ثابتة في حق الأمة دون النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الأنبياء لا يورثون، وكل ما تركوا فهو صدقة في سبيل الله قلّ أو كثير، إلا ما هو مستثنى للنفقة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يأكل آل محمد من هذا المال» (¬3)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركت بعد مؤنة عاملي، ونفقة نسائي صدقة» (¬4)، فكون فاطمة رضي الله عنها لم تعلم بهذا الحكم الشرعي لا يقلل من شرفها على نساء العالمين، ولا على مكانتها عند الصحابة ومنهم أبو بكر - رضي الله عنهم -، ولا عند الأمة المحمدية، وكونها تطالب أبا بكر - رضي الله عنه - فذاك من حقها حسب فهمها، ولذلك عللت مطالبتها رضي الله عنها بسؤال أبي بكر فقالت له: «من يرثك؟ ، قال: أهلي وولدي، قالت: فمالي لا أرث النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ! قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنا لا نورث» ولكني أعول من كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوله، وأنفق على من كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفق عليه (¬5)، وفي رواية أنها قالت: "أفي الله أن ترث أباك، ولا أرث أبي؟ ، أما قال رسول الله: المرء يحفظ ولده؟ " فبكى أبو بكر بكاء شديدا (¬6). نعم بكى أبو بكر - رضي الله عنه - فبين يديه بنت رسول الله رضي الله عنها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني» (¬7)، وحاشا أبا بكر - رضي الله عنه - أن يسيء ¬

(¬1) أخرجه الترمذي حديث (991) وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني. (¬2) أخرجه الترمذي حديث (2299) طرفا من حديث طويل في حجة الوداع، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني. (¬3) أخرجه البخاري حديث (4036) وانظر أطرافه: (3093، 3712، 4241، 6726). (¬4) أخرجه أحمد المسند حديث (10232) .. (¬5) أخرجه البيهقي السنن الكبير حديث (13119). (¬6) تاريخ اليعقوبي (1/ 155). (¬7) أخرجه البخاري حديث (3714) وانظر أطرافه: (926، 3110، 3729، 3767، 5230، 5278).

إلى بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يفعل ما فعل ظلما وعدوانا، بل فعله اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتنفيذا لأمره - صلى الله عليه وسلم -، لكنه بكى لأنه وقع بين نارين: عدم رضا فاطمة رضي الله عنها، والعمل بما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان بلاءً لأبي بكر - رضي الله عنه - أيهما يقدم، ولكن قد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1)، وقد أخبره - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يورث، فاختار ما هو حق، وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر - رضي الله عنه - ولكنه آلمه ما سمع من فاطمة رضي الله عنها لعظم مكانتها في نفسه. أما كون فاطمة رضي الله عنها وجدت على أبي بكر - رضي الله عنه -، فهجرته ولم تكلمه حتى ماتت (¬2)، فهذا يحتمل أحد أمرين: الأول: أنها هجرته ولم تكلمه، لعدم قناعتها بما روى عن أبيها، وهذا فيه بعد ولا يليق ببنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ترد رواية عن أبيها، من رجل تعرف قدره ومكانته عند أبيها، ثم لا ترضى بما قضى به والدها - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬3)، ولا ريب أن أبابكر - رضي الله عنه - لو ساير فاطمة رضي الله عنها لخالف نص القرآن، وقد سمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يورث، والمحصلة حكم النص القرآني، وحاشا أبابكر أن يعص الله ورسوله، ولو كانت فاطمة رضي الله عنها كبيرة القدر عنده، ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (¬4)، فلو أنها سرقت وقطع رسول الله يدها، هل يعني هذا أنه لا يحبها، بلى والله إنها لحبيبته، ولكن حكم الله لا يستثني شريفا ولا وضيعا. والثاني: تفسير الهجر بعدم زيارته، فليست من المحارم اللاتي يجب التواصل معهن، فلزمت بيتها، ولو كانت محرما فإن اشتغال الخليفة بأمور المسلمين، قد ¬

(¬1) من الآية (63) من سورة النور. (¬2) انظر: البخاري حديث (4240، 4241). (¬3) الآية (36) من سورة الأحزاب. (¬4) البخاري حديث (3475).

يقلل التواصل إلى حد كبير، دون القطيعة، فإنها غير واردة البتة، ولم تكلمه في أمر الميراث مرة ثانية قناعة منها بما ذكر لها من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والالتزام بالنفقة، وهذا والله هو اللائق ببنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنها، ولو كان أبوبكر - رضي الله عنه - أخطأ فعلا في حقها، فكيف وهو لم يخطئ، وكلما في الأمر أنه أنفذ ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمل بكتاب الله، وثبت على ذلك، لكن أصحاب الأهواء لا يروق لهم إلا متابعة منهجهم في ثلب الإسلام ورجاله الذين اصطفاهم الله لنقله إلى الناس كافة، كابرا عن كابر، فكان ما ذهبوا إليه طعنا في فاطمة رضي الله عنها قبل أن يكون ثلبا في أبي بكر - رضي الله عنه -، وصاحب الهوى لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها وحيدة في أمر المطالبة في الميراث، أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا طالبن أبابكر - رضي الله عنه - بذلك، تقول أم المؤمنين عائشة: أَرسل أَزواج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عثْمان إلى أَبِى بكرٍ يسألنه ثُمُنهن مما أَفاء اللَّه على رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكنت أَنا أَردهن، فقلتُ لهن ألا تتَقِينَ الله، أَلم تعلَمن أَن النبِي - صلى الله عليه وسلم - كَان يقول: «لاَ نورث، ما تركنا صدقة - يرِيد بِذلِك نفسه - إِنما يأكل آل محمدٍ فِي هذا الْمالِ» فانتهى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما أخبرتهن (¬1). فكانت هذه الصدقة بيد علي - رضي الله عنه - منعها علي عباسا فغلبه عليها، ثم كانت بيد حسن بن علي - رضي الله عنه -، ثم بيد حسين بن علي - رضي الله عنه -، ثم بيد علي بن حسين رحمه الله، وحسن ابن حسن رحمه الله، وكلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد بن حسن، وهي صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقا (¬2)، فهذا أبو بكر - رضي الله عنه -، وضع صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد علي - رضي الله عنه -، ولم يرصدها في صدقات بيت مال المسلمين، فأي صدق وإخلاص بعد هذا، وتتوالى الرقابة والتصريف في علي وأبنائه. أما قوله: «ووددت أني لم أكن حرّقت الفُجَاءة» هو بحير بن إياس، على وزن بعير (¬3)، وكان من أمره أنه ارتد، وكوَّن حربة على المسلمين، وقدم إلى قومه بني ¬

(¬1) أخرجه البخاري حديث (5353) وانظر طرفاه: (6727، 6730). (¬2) أخرجه البخاري حديث (5353) وانظر طرفاه: (6727، 6730). (¬3) تبصير المنتبه بتحرير المشتبه (1/ 16).

سليم يدعوهم إلى الردة (¬1)، وكان من أمره التلبيس على أبي بكر - رضي الله عنه - قال له: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر، على ظهر (¬2) وأعطاه سلاحا، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشريد يقال له: نُجبة بن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: أن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الاسلام، فحملته وسلّحته، ثم انتهى إليَّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله، أو تأخذه فتأتيني به، فسار إليه طريفة بن حاجز فلما التقى الناس كانت بينهم الرمي بالنبل، فقتل نُجبة بن أبي الميثاء بسهم رمي به، فلما رأى الفجاءة من المسلمين الجد قال لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر مني، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره، فقال له طريفة: إن كنت صادقا فضع السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر، فخرج معه فلما قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز فقال: أخرج به إلى هذا البقيع فحرقه فيه بالنار، فخرج به طريفة إلى المصلى فأوقد له نارا فقذفه فيها، فقال خفاف بن ندبة يذكر الفجاءة فيما صنع: لِمَ يأخذون سلاحه لقتاله ... ولذاكم عند الإله أثام لا دينهم ديني ولا أنا فاتن ... حتى يسير إلى الطراة شمام (¬3). وفي رواية: جاءت بنو سليم إلى أبي بكر فقالوا: إن العرب قد كفرت فأمدنا بالسلاح، فأمر لهم بسلاح فأقبلوا يقاتلون أبا بكر، فقال لهم عباس بن مرداس: لِمَ تأخذون سلاحه لقتاله ... ولكم به عند الإله آثام (¬4). تأثم أبو بكر - رضي الله عنه - من التحريق بالنار، لأن العذاب بها توعد الله به العصاة في الآخرة، وقد فعل ذلك علي - رضي الله عنه - حين حرق أناسا من الشيعة قالوا: يا أمير المؤمنين ¬

(¬1) الإصابة (1/ 258). (¬2) أعطاه إبلا يحمل عليها. (¬3) تاريخ الطبري (2/ 492). (¬4) تاريخ دمشق (16/ 255).

أنت هو، قال: من أنا؟ قالوا: أنت هو، قال: ويلكم من أنا؟ قالوا: أنت ربنا، أنت ربنا، قال ارجعوا فأبوا، فضرب أعناقهم، ثم خد لهم في الأرض ثم قال: يا قنبر ائتني بحزم الحطب، فأحرقهم بالنار ثم قال: لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا (¬1). قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» (¬2)، ولقتلتهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬3)، فبلغ ذلك علياً فقال: ويح ابن أم الفضل، إنه لغواص على الهنات (¬4)، ولذلك ندم أبو بكر - رضي الله عنه -، ولا ضير عليهما فالزنادقة مصيرهم النار، إن عاجلا أو آجلا، ولكن لشدة تمسكهما بالكتاب والسنة حصل منهما التأثم، وجزاهما الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء. أما قول أبي بكر: "وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قَذَفْتُ الأمر". فقد حاول أن يلقي بالأمر على كاهل أحد الرجلين: عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، رضي الله عنهما، وهما أهل لذلك، ولكن أراد أبو بكر أمرا، وأراد الله غيره، ولا راد لإرادته تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬5) وإنما حكى أبو بكر ما يتمناه في ذلك الحين، وهذه أمنية مَن تجرد عن الهوى والشهوات، فزكا وجلَّ عن الشبهات. وقوله: "وددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه". كان الأشعث بن قيس ممن ارتد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسير أبو بكر الجنود إلى اليمن، فأخذوا الأشعث أسيراً، فأحضر بين يديه، فقال له: استبقني لحربك وزوجني أختك، فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته، وهي أم محمد بن الأشعث، ولما تزوجها اخترط سيفه، ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلا عرقه، وصاح الناس: ¬

(¬1) تاريخ دمشق (42/ 475). (¬2) أخرجه البخاري حديث (3017، وطرفه: 6922). (¬3) أخرجه البخاري حديث (3017، وطرفه: 6922). (¬4) تاريخ الإسلام (2/ 94). (¬5) الآية (16) من سورة البروج.

كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه، وقال: إني والله ما كفرت، ولكن زوجني هذا الرجل أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه، يا أهل المدينة، انحروا وكلوا، ويا أصحاب الإبل، تعالوا خذوا أثمانها فما رئي وليمة مثلها (¬1)، وقد عمل أبو بكر - رضي الله عنه - بالأصل أن من تاب يتوب الله عليه، ولعله تأمل الأمر فوجد ما ذكر علة لما قال، قال - رضي الله عنه -: فإنه قد خُيل لي أنه لا يرى شَرّاً إلا أعانه، ولكن الله أراد لهما خيرا مما أراد أبو بكر - رضي الله عنه -، فقد صنع خيرا بقبول توبة الأشعث، وأحسن بتزويجه أخته، وكان الخير في حسن إسلام الأشعث بعد ردته، وشارك في الفتح الإسلامي، شهد الأشعث اليرموك بالشام، ففقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن، وجلولاء، ونهاوند، وسكن الكوفة وابتنى بها داراً، وشهد صفين مع علي - رضي الله عنه -، وكان ممن ألزم علياً بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان - رضي الله عنه -، قد استعمله على أذربيجان، وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما تزوج ابنته (¬2)، وكل هذا حدث بعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه -، ولو شاهد هذا لسر - رضي الله عنه -، بعدم قتله: فقد تحقق لأبي بكر بعد موته ما نوى من الخير. وقوله: "وددت أني يوم جهَزْت جيش الردة". هذا من حرصه - رضي الله عنه - على إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، يريد مشاركة الأمة في كل صغيرة وكبيرة من أمور الإسلام، كيف لا وهو السابق لكل خير وفضيلة، شهد بذلك أصحاب رسول الله دون استثناء، وكان في بقائه خير كثير للأمة المحمدية، وقد أصاب والله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين قال له وهو يثنيه عن الخروج: «أشمر سيفك، ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدا» (¬3)، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد بلغ مع الجيش إلى مرحلة من المدينة، وهو الموضع المعروف بذي القصة (¬4). وقوله: "وددت أني كنت سألته في مَنْ هذا الأمر". ¬

(¬1) أسد الغابة (1/ 16). (¬2) أسد الغابة (1/ 16). (¬3) مختصر تاريخ دمشق (4/ 291). (¬4) بقعاء ذي القصة على بعد أربعة وعشرين ميلا عن المدينة (تاج العروس 1/ 5111).

هذه الأمنية أراد بها التوكيد على عدم رغبته في ولاية الناس، لكن الله أراد ذلك لأبي بكر - رضي الله عنه - ليناله من أجر الصبر على بلائها، وأجر الاجتهاد في مصالح المسلمين، وأجر مقارعة أعداء الدين، والحفظ على وحدة الأمة المحمدية، يناله أجر ذلك كله، فضلا من الله ورحمة، وهداية منه تعالى إلى سبل الخير والرشاد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1). وقد ورد ما يشير إلى أن أبا بكر هو المقدم لحمل هذه المهمة العظمى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: «أدعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتابا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبا الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (¬2)، وفي رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن أبي بكر: «إئتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا؛ لا يختلف عليه» فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: «أبا الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (¬3)، صدق من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نزاهة أبي بكر وحرصه على نفع الناس، واستقرار الوضع بحسم الموقف بأمر من الله ورسوله، لعبد من عباده كائنا من كان، فلا يُنازَع الأمر أهله، وكانت هذه الأمنية من أبي بكر - رضي الله عنه - حرصا على وحدة الأمة المحمدية، ومستقبل الإسلام، وكان ذلك بفضل الله في ولايته، التي أبا الله والمؤمنون أن يُختلف عليها. وقوله: "وددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ". هذا من اجتهاده في مصالح المسلمين، فالعمة وبنت الأخ، لا إرث لهما، مع إخوتهما، ولا ترثان منفردتين (¬4)، فأراد أن ينظر في أمرهما بما لا يعارض الشرع، وقد كان عمر يقول: عجبا للعمة تورث ولا ترث (¬5)، وهذا ما كان في نفس أبي بكر - رضي الله عنه -. وقوله: "ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب". ¬

(¬1) الآية (69) من سورة العنكبوت. (¬2) أخرجه مسلم حديث (6332). (¬3) أخرجه أحمد المسند (24931). (¬4) الشرح الكبير (7/ 100). (¬5) السنن الكبير للبيهقي (6/ 213).

وفاة أبي بكر - رضي الله عنه -

لأنه لم يرق له - رضي الله عنه - أن يجد الأنصار في أنفسهم، ولاسيما أن لهم عند رسول الله من الفضل والمكانة ما ليس لغيرهم - رضي الله عنهم -، وقد أخذ بعضهم موقفا من بيعته، فتمنى مقولة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستند إليها في هذا الأمر، وذلك من تقواه وورعه - رضي الله عنه -. وفاة أبي بكر - رضي الله عنه -: لم يرض رب العزة والجلال لعبده وخليفة رسوله إلا أن تختم حياته بسبب يجعله عند الله من الشهداء الأبرار، وإن كان قد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فقد سمّته اليهود في شيء من الطعام، وأكل معه الحارث بن كَلدَة فعمي، وكان السم لسنة، ومرض أبو بكر - رضي الله عنه - قبل وفاته بخمسة عشر يوماً، فقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآني، قالوا: فماذا قال لك؟ قال: قال: إني أفعل ما أشاء، قالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدأ أبو بكر - رضي الله عنه - أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً فحُم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة، وكان يأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلي بالناس (¬1)، فتكون وفاته في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، من سنة ثلاث عشرة من الهجرة، على رأس ثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما من مهاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسقط القمر الثاني في حجرة عائشة كما رأت وهو أبوبكر (¬2)، ولما توفي - رضي الله عنه - ارتجت المدينة بالبكاء، ودهش الناس كيوم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باكيا مسرعا، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر - رضي الله عنه -، فقال: "رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله، وأنسه ومستراحه، وموضعا لسره ومشاورته، وأول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غنى في دين الله، وأحوطهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقبا، وأكثرهم سوابقا، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأقربهم من رسول الله - رضي الله عنه - مجلسا، وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام خيرا، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مروج الذهب 1/ 290 والدرة الثمينة في أخبار المدينة 1/ 140. (¬2) موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري حديث (974) ..

خيرا، صدَّقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس، فسماك الله في تنزيله صديقا وشهد لك بالتقوى فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬1)، واسيتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تخلوا، وقمتَ معه عند المكاره حين عنه قعدوا، وصحبتَه في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، ومواطن الكره، خلفته في أمته بأحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، قويت حين ضعف أصحابك، ونهضت حين وهنوا، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ هَمّوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، فاتبعوك فهدوا، كنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وأكبرهم رأيا، وأشجعهم نفسا، وأشدهم يقينا، وأحسنهم عقلا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين يعسوبا أولاً حين نفر عنه الناس، وأخيرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا لعلمك بما جهلوا، شمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت آثار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابا صبا، وللمسلمين غيثا وخصبا، فطرت والله بغنائها، وفزت بجبائها، وذهبت بفضائلها، وأدركت سوابقها، لم تُفَل حجتك، ولم تضعف نصرتك، ولم تختر نفسك، ولم يزغ قلبك، كنت كالجبل، فلا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَنَّ الناس عليه في صحبتك وذات يدك» وكنت ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في أعين المؤمنين، كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد في ذلك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له، ¬

(¬1) الآية (33) من سورة الزمر ..

شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حق وحتم، وأمرك حكم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، وقوي الإيمان، واعتدل بك الدين، وثبت الإسلام والمسلمون، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالخير، فجللت عن البكا، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وحرزا وكهفا، وللمؤمنين فيئا وحصنا وغيثا، فألحقك الله بميتة نبيك، ولا أحرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون"، فسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا عليه حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوما (¬2). وأخيرا من مثل أبي بكر - رضي الله عنه - قال الله عنه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬3)، فالذي جاء بالصدق هو رسول الله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدق به هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، مناصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منذ الوهلة الأولى، من كرّمه بقول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬4)، قال أبو بكر: قلت: للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما» (¬5)، لله درك يا أبا بكر نلت شهادات عليا لم ينهلها أحد بعدك، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وخلفك الفاروق - رضي الله عنه - فلم يفته أمر الفتح الإسلامي، وهو ما سنذكره فيما يلي في عهده - رضي الله عنه -، وهو ما أحزن الفرس اليوم. ¬

(¬1) بتصرف انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال 1/ 284، وانظر: الشريعة للآجري 4/ 1725. (¬2) مروج الذهب 1/ 288. (¬3) الآية (33) من سورة الزمر. (¬4) من الآية (40) من سورة التوبة. (¬5) البخاري حديث (3653).

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نسبه: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن قرط بن رياح بن عبد الله بن رزاح بن عدىّ بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة. وإذا قيل: العدوىّ، فهو نسبة إلى عدي بن كعب (¬1). وأمه حنتمة بنت هاشم ذي الرمحين بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة, وهي ابنة عم خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، ومن قال فيها: حنتمة بنت هشام بن المغيرة فقد وهم لأن هشام بن المغيرة هو أخو هاشم والدها، وهشام هو والد أبي جهل، وهو ابن عم خالد بن الوليد، فالثلاثة أبناء العم: خالد بن الوليد بن المغيرة، وحنتمة بنت هاشم ذي الرمحين بن المغيرة، وأبو جهل الحارث بن هشام بن المغيرة, كنيته أبو الحكم، وكنّاه الصحابة أبا جهل لعدم قبوله الإيمان بنبوة ... محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). صفته - رضي الله عنه -: كان، - رضي الله عنه - رجلا طوالا أصلع، أعسر أيسر، أحور العينين، آدم اللون، وقيل: كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة، أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء (¬3). إسلامه: أسلم بعد أبي بكر والسابقين في العهد المكي - رضي الله عنهم -، بعد خمسة وأربعين رجلا، وإحدى وعشرين امرأة. وقد دُونت قصة إسلامه في كتب السير، يعرفها المبتدئون من أبناء المسلمين، لقّبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاروق، وذلك لاستقامته على الحق، وشجاعته في إظهاره، وقد ¬

(¬1) المعارف 1/ 179. (¬2) بتصرف المؤتلف والمختلف للدارقطني 2/ 914. (¬3) البداية والنهاية 10/ 192.

أعز الله به الإسلام، وقد كان قويا أمينا، لا تأخذه في الحق لومة لائم، كما قال عثمان وعلي رضي الله عنهما (¬1). فكان من فضل الله على هذه الأمة أن استُخلف عليها بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأمة أبو بكر - رضي الله عنه -، وكان من أبرز أعماله - رضي الله عنه - أربع ركائز قام عليها الإسلام بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الركيزة الأولى: قمعُ المرتدين من العرب، وإعادتهم إلى حضيرة الإسلام، وكانت للردة أسباب من أبرزها منع الزكاة الركن الرابع من أركان الإسلام، فالأركان الخمسة عند أبي بكر - رضي الله عنه - كل لا يتجزأ وهي كذلك عند المسلمين كافة، ولذلك قال أبوبكر - رضي الله عنه -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فكان القضاء على المرتدين نصرا مؤزرا للإسلام والمسلمين. الركيزة الثانية: جمع القرآن فقد كان لحروب الردة أثر كبير على القراء من الصحابة، فقد استشهد في وقعة اليمامة عدد كبير منهم، وبذلك تنبه أبو بكر - رضي الله عنه - إلى خطورة ذهاب القرآن الذي لم يدون، وإنما كان محفوظا في صدور القراء، إلا ما كان في بعض اللِّخاف والعُسُب، فأمر - رضي الله عنه - بكتابة القرآن، وبدأ بعد معركة اليمامة التي وقعت في أواخر السنة الحادية عشرة، أو أوائل الثانية عشرة، وانتهى قبل وفاته - رضي الله عنه -، مستغرقا خمسة عشر شهرا، وتم ذلك جمعاً وكتابة قبل وفاته - رضي الله عنه - (¬2). الركيزة الثالثة: تسيير جيش أسامة، وعدم حل لواء عقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت خطوة مباركة في بدء الفتح الإسلامي. الركيزة الرابعة: عهدُ أبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثاني الخلفاء الراشدين، وأول من لقّب بأمير المؤمنين، صحابي جليل، وشجاع حازم، صاحب ¬

(¬1) تاريخ الطبري وصلته 4/ 195، 200، 201. (¬2) انظر: جمع القرآن الكريم حفظا وكتابة 1/ 39.

الفتوحات، يضرب بعدله المثل، كان في الجاهلية من أبطال قريش وأشرافهم، وله السفارة فيهم، ينافر عنهم وينذر من أرادوا إنذاره، وقد أعز الله بإسلامه المسلمين، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين، وأعلن لقريش هجرته إلى المدينة، وشهد الوقائع كلها، وكان عمر - رضي الله عنه - يقضي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن بموافقته. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه وقال فيه ابن الخطاب، أو قال: عمر، إلا نزل القرآن على نحو مما قال عمر" (¬1). وقال عمر - رضي الله عنه - (¬2): "وافقت ربي في أربع، قلت: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬3)، وقلت: يا رسول الله لو اتخذت على نسائك حجابا: فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (¬4)، وفي رواية أنه قال: وقوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل نساءه ووجد عليهن: يا رسول الله، إن كنت طلقتهن، فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكائيل، وأنا، وأبو بكر، والمؤمنون معك". قال عمر - رضي الله عنه -: "وقَلَّ ما تكلمتُ - وأحمدُ الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت آية التخيير (¬5)، وقلت لأزواج النبي: لتنتهن أو ليبدله الله سبحانه أزواجا خيرا منكن، فأنزل الله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} (¬6)، ونزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ ¬

(¬1) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 1/ 251. (¬2) أسباب النزول ت الحميدان 1/ 313. (¬3) من الآية (125) من سورة البقرة. (¬4) من الآية (53) من سورة الأحزاب. (¬5) فتح الباري لابن رجب 3/ 98. (¬6) من الآية (5) من سورة التحريم.

خلافة عمر بن الخطاب

أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1)، فقلت: فتبارك الله أحسن الخالقين" فنزلت: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬2). وليست موافقاته - رضي الله عنه - محصورة في هذه الخصال، فقد وافق في أكثر من الأربع المذكورة. ومما وافق فيه القرآن قبل نزوله: في النهي عن الصلاة على المنافقين، قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬3)، وفي قوله لليهود: من كان عدوا لجبريل، فنزلت الآية {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، وهي أكثر فقد عد الحافظ أبو موسى المديني من ذلك اثنتي عشرة خصلة (¬5). خلافة عمر بن الخطاب بويع عمر بن الخطاب بالخلافة يوم وفاة أبي بكر في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وثبتت خلافته بالعهد من أبي بكر - رضي الله عنه -، فبايعه الناس، وثبتت له البيعة باتفاق الأمة عليه، من عهِد أبي بكر - رضي الله عنه - واستخلفه أبو بكر - رضي الله عنه - لما يعلم من فضله على سائر من بقي من الصحابة - رضي الله عنهم -، وصلابته في الحق، ولم ينازعه في ذلك أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، فلما بايعه الصحابة - رضي الله عنهم - تواضع لهم، وواسى نفسه بهم، فلم يكن عليه باب ولا حجاب، يصلي الصلاة ثم يقعد فيكلمه من شاء (¬6). ¬

(¬1) الآيات (12 - 14) من سورة المؤمنون. (¬2) تمام الآية (14) من سورة المؤمنون. (¬3) الآية (84) من سورة التوبة. (¬4) من الآية (97) من سورة البقرة. (¬5) فتح الباري لابن رجب 3/ 97، 98. (¬6) المعارف 1/ 182، 183.

وتوجهت إرادته إلى السير فيما سار فيه خليفة رسول الله أبو بكر - رضي الله عنه -، حيث عزم على ما عزم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تسيير الجيوش لفتح الأمصار وإعلاء كلمة الله - عز وجل - التي أُرسل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لنشرها، وشُرع من أجلها الجهاد في سبيل الله، فكان ذلك الاقتداء من الخليفتين أبي بكر وعمر أمرا شرعيا، وعملا مرضيا، ففتح الله على يدي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سني خلافته أمصارا كثيرة من أرض فارس والعراق والشام، في معارك ضارية منها: الأهواز، ودستميسان، واليرموك، وبيت المقدس، ودمشق، وميسان، والجابية، وجلولاء، وقيساريّة، وبابل، ونهاوند، أرّجان، وإصطخر الأولى، وهمذان (¬1)، وأجنادين، وقد سار عمر - رضي الله عنه - في خلافته سيرة عظيمة، لم يكن لمن تلاه مثلها إلى يومنا هذا، ولربما إلى يوم الدين، سوى ما ذكر من أمر المهدي عند أهل السنة، فقد ورد أنه يملأ الأرض عدلا (¬2). إن فضائل عمر كثيرة، والأدلة في هذا كثيرة، فهو أول من وضع للعرب التاريخ الهجري، واتخذ بيت المال، وأمر ببناء البصرة والكوفة، وهو أول من دوّن الدواوين في الإسلام، لقَّبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفاروق، وسراج الجنة، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، قال أبو بكر - رضي الله عنه - حين عهد له بالخلافة: ولّيت عليهم خيرهم، وصدق أبو بكر - رضي الله عنه - فإن عمر بن الخطاب أفضل الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وقد كان عمر - رضي الله عنه - دوّخ الفرس، والروم وأذلهم، وأزال ملكهم، وألجأهم الى الهرب، حتى وصلت خيوله افريقية، وأوائل خراسان، وأوائل الهند، فذلّ الشرك كله بذلك، وعَزّ الإسلام بمكانه وسلطانه، وبه عز من أسلم منهم، وبذلك ظهر الإسلام ظهورا كبيرا بالفتوحات، شرقا وغربا، وصارت كلمة الله هي العليا بما جرى في تلك الأمصار. ¬

(¬1) المعارف 1/ 182. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 202.

عمر بين الحياة والموت

عمر بين الحياة والموت: حج عمر - رضي الله عنه - بالناس عشر سنين متوالية، ثم صدر إلى المدينة، ليتلقى طعنة من يد آثمة ملعونة، لقد كان الحدث فاجعة كبرى، خاف المسلمون أن يسترد ملوك الفرس والروم قوتهم بفقد المؤمنين أميرهم، فاجتمعوا في خلوة عن عمر - رضي الله عنه -، وفكروا في الأمر، وحداهم الأمل أن يستخلف عليهم. فعادوا وقالوا له: "أوصنا يا أمير المؤمنين، قال: أوصيكم بالقرآن فتمسكوا به، فبه هدى اللهُ نبيّكم وهداكم من بعده، وفيه نجاتكم. قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بالمهاجرين والانصار وذكر فضلهم. قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بالعرب فإنهم مادة الاسلام. قالوا: أوصنا، قال: اوصيكم بذمتكم فإنهم ذمة نبيكم وقوت عيالكم (¬1). قالوا: أوصنا، قال: قوموا عني وإلا قمت عنكم. فلما رآه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يذكر أحدا للخلافة، ابتدأ ابن عباس - رضي الله عنه - يسأله الاستخلاف، وافتتح الكلام، فقال عمر - رضي الله عنه -: "قد توليتها حياتي، واجتهدت لكم رأيي، ونصحت لكم جهدي، ومنعت نفسي وأهلي، وأرجو أن أنجو منها كَفافا لا عليّ ولا لي"، فأَثْنَوا، وابتدأ علي - رضي الله عنه - يبشره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وقال له: وأشار الى ابن عباس يشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما شهدتُ، وسأله غيرهما الاستخلاف، فقال: "ما أحب أن أتحملها حيا وميتا"، قالوا: بل تفعل، ولك في ذلك الأجر، انظر يا أمير المؤمنين لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: دلوني على من أستخلف، فقال له المغيرة: أنا أدلك عليه: عبد الله بن عمر، فقال له عمر: والله ما أردت بذلك الله، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، وما يمنعك من إخوانك، وأشار إلى عليّ، وعثمان، وعبد الرحمن، وتلك الجماعة - رضي الله عنهم -، فقال عمر: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبابكر - رضي الله عنه - - وإن أترك فقد ترك من هو خير مني - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ثم قال: هي في واحد من هؤلاء الستة: الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وقبض وهو عنهم راض: علي، وعثمان ابنا عبد مناف، وسعد وعبد الرحمن خالا رسول ¬

(¬1) يريد أهل الذمة من اليهود والنصارى، الذين آثروا دفع الجزية على الدخول في الإسلام، والمراد بقوت العيال ما يؤخذ من الجزية مقابل الرعاية والحماية.

الله - صلى الله عليه وسلم -، والزبير حواريّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلحة وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ثم حذر كل واحد منهم من خلق كرهه له. وقال لعلي: "إن وُليتَ هذا فاعدل، ولا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، وقال لعثمان: إن وليتَ هذا فاعدل، ولا تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ثم أقبل على عمار، ومقداد رضي الله عنهما: في أن يكونا في ثلاثين من المهاجرين، وقال لأبي طلحة الانصاري - رضي الله عنه -: إن الله لم يزل يعزّ هذا الاسلام بقومك، فكن في خمسين منهم، فإذا متُّ فليصلّ عليّ صهيب، وليصلّ بالناس إلى أن يقيموا خليفة، وكونوا عليهم رقباء، لئلا يستبدّ مستبد، وقال: لا يأتي اليوم الثالث إلا وقد أقمتم أحدا من هؤلاء الستة خليفة، وجدّوا في أمركم، وجاهدوا عدوكم"، فلما قبض أنفذوا وصيته كما رسم - رضي الله عنهم - (¬1)، رحل عمر بعد ما أدى الأمانة ونصح للأمة، وقد ورد في وصية عمر - رضي الله عنه - ما يبطل دعوى الرافضة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى لعلي، والعجب أن عمر - رضي الله عنه - قال هذا في جمع غفير من الصحابة - رضي الله عنهم - ومنهم علي - رضي الله عنه -، فلا علي - رضي الله عنه - أنكر وادعى الوصية، ولا الصحابة - رضي الله عنهم - أنكروا ذلك من عمر - رضي الله عنه -، ولم ينكروا على علي - رضي الله عنه - عدم اعتراضه على قول عمر في عدم استخلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاسيما وقد قال له: "إن وُليتَ هذا فاعدل، ولا تحمل بني هاشم على رقاب الناس" وفي رواية أنه بعد أن سمى الستة - رضي الله عنهم -، وهم من المبشرين بالجنة قال: "يشهدكم عبد الله ابن عمر، وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي، بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا، أن يقبل من محسنهم، وأن يُعفَى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وجباية المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويُرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله، ¬

(¬1) دلائل النبوة 1/ 276 - 279 ..

وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم" (¬1). مات مقتولا يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجّة قتله أبو لؤلؤة فيروز المجوسي في صلاة الصّبح، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وقد كتب الله له الشهادة على يد ذلك المجوسي الخاسر في الدنيا والآخرة، وصلّى عليه صهيب - رضي الله عنه -، وقبر في حجرة عائشة رضي الله عنها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر - رضي الله عنه -، القمر الثالث حسب رؤيا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (¬2)، وكان قاتله فيروز، أبو لؤلؤة، لعنه الله: غلام المغيرة بن شعبة، المُمجد عند الرافضة، أعداء الإسلام والمسلمين. وكانت ولايته - رضي الله عنه - عشر سنين وستة أشهر وخمس ليال. ولا ريب أنه حصل للأمة خير كثير باستخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "وُضِعت جنازة عمر، فقام الناس يدعون وأنا فيهم، فوضع رجل يده على منكبي. فالتفت، فإذا عليٌّ، فأوسعت له، فزاحم عليه وقال: ما خلفتَ بعدك أحدا أحب إليَّ من أن ألقى الله بمثل عمله منك، وإن كنت أظن أن الله سيجعلك مع صاحبيك، وأكثر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر» قد كنت أظن أن الله سيجعلك معهما (¬3)، نعم المقدر علي - رضي الله عنه -. ¬

(¬1) البخاري حديث (3700). (¬2) موطأ مالك رواية أبي مصعب الزهري حديث (974). (¬3) السنة لابن أبي عاصم حديث (1210) وانظر (البخاري حديث 3685).

عثمان بن عفان - رضي الله عنه -

عثمان بن عفان - رضي الله عنه - نسبه: هو: عثمان بن عفّان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة، يكنى: أبا عمرو، وأبا عبد الله، وأبا ليلى، اجتمع في النسب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف، ومع معاوية في أمية، وأم عثمان - رضي الله عنه - أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أمها: البيضاء بنت عبد المطلب، وهي بنت عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). صفته - رضي الله عنه -: كان رجلا ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشرة، كث اللّحية عظيمها، أسمر اللون، كثير شعر الرأس، وكان يشدّ أسنانه بالذهب (¬2). إسلامه - رضي الله عنه -: قالت له خالته وكانت كاهنة: محمد بن عبد الله رسول الله، من عند الله جاء بتنزيل الله، يدعو إلى الله، ثم قالت: مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، دانت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح، ومدت الرماح، قال عثمان - رضي الله عنه - ثم انصرفت، ووقع كلامها في قلبي، فجعلت أفكر فيه، وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه فرآني منكسرا فسألني عن أمري، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: يا عثمان ويحك إنك رجل حازم لا يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا أليست من حجارة لا تضر ولا تنفع، صم لا تبصر ولا تسمع؟ ! ، قلت: بلى والله إنها كذلك، فقال: والله صدقتك خالتك، هذا محمد بن عبدالله قد بعثه الله برسالته إلى خلقه، فهل لك أن تأتيه فتسمع منه؟ ، قلت: نعم، فو الله ما كان بأسرع من أن مر رسول الله، ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوبا، فلما رآه ¬

(¬1) المعارف 1/ 191. (¬2) المعارف 1/ 191.

زواجه وهجرته - رضي الله عنه -

أبوبكر قام فساره في أذنه بشيء، فجاء رسول الله فقعد ثم أقبل عَليَّ فقال: يا عثمان أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك والي خلقه، قال: فو الله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله (¬1). زواجه وهجرته - رضي الله عنه -: زوّجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته: رقية، وهو بمكة، فهاجر بها إلى أرض الحبشة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنهما لأوّل من هاجر إلى الله، بعد: إبراهيم، ولوط، ثم هاجر إلى المدينة، فهو من المهاجرين الأوّلين - رضي الله عنهم -، له هجرتان: الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم بالمدينة، بعد وفاة رقية رضي الله عنهما، ولما ماتت أم كلثوم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت عندي ثالثة لزوجت عُثْمَان» (¬2)، ولقب لذلك ذا النورين، وشهد له بالجنة، لما روى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أنه حرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في بئر أريس، فجاء أبو بكر وعمر وعثمان على الولا، وبعد الاستئذان لكل واحد منهم، أمر رسول الله أبا موسى أن يأذن له ويبشره بالجنة، وزاد في بشارة عثمان على بلوى تصيبه (¬3)، وأخبر أنه شهيد، فقد صعد أحدا، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، فرجف بهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أثبت أحد فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان» (¬4)، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوته إلى غطفان (¬5)، وقد ورد ما يفيد أن الله - عز وجل - غفر لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار، حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين» (¬6)، وهو أحد ¬

(¬1) سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 2/ 516، 517. (¬2) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/ 335. (¬3) البخاري حديث (3674). (¬4) البخاري حديث (3675). (¬5) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 4/ 335. (¬6) الترمذي حديث (3701) ..

نفقته في سبيل الله

الستة الذين جعل عمر - رضي الله عنه - فيهم الشورى، وأخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو عنهم راض، وأنعم بها شهادة من عمر رجل الأمانة والعدل. نفقته في سبيل الله: كان عثمان - رضي الله عنه - ممن اعتز بهم الإسلام في عهد ظهوره، وبعد ذلك «فبئر رومة» (¬1)، كانت ركيّة ليهوديّ يبيع ماءها للمسلمين، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من يشتري رومة؟ » فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم، وله بها مشرب في الجنة؟ فأتى عثمان - رضي الله عنه - اليهودىّ فساومه بها، فأبى أن يبيعها كلّها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهما، فجعله للمسلمين. فقال عثمان - رضي الله عنه -: إن شئت فلي يوم، ولك يوم، وإن شئت جعلت على نصيبي قرنين؟ ، قال اليهودىّ: لي يوم ولك يوم. فإذا كان يوم عثمان - رضي الله عنه - استقى المسلمون ما يكفيهم يومين. فلما رأى ذلك اليهودىّ قال لعثمان - رضي الله عنه -: أفسدت عليّ ركيّتى، فاشتر النصف الآخر بثمانية آلاف درهم (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يزيد في مسجدنا؟ » فاشترى عثمان - رضي الله عنه - موضع خمس سواري، فزاده في المسجد. وجهّز عثمان - رضي الله عنه - جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرا، وأتمها ألفا بخمسين فرسا، وهذا في الجهاد في سبيل الله - عز وجل -، فكم يكون الأجر فيه لعثمان - رضي الله عنه -، ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد لعثمان - رضي الله عنه - فإنه لما أراد فتح إفريقية استشار كبار الصحابة وأصحاب الرأي، وأخذ يدعو الناس إلى الجهاد، ويحثهم على التطوع، فتقاطروا من مختلف القبائل للاشتراك في هذه الغزوة، وأعان الجيش بألف بعير من ماله. واشترى أرضا يقال لها: «حشّ كوكب» فزادها توسعة في البقيع، وهي التي دفن فيها (¬3)، ومعلوم تجهيزه لجيش العسرة، في غزوة تبوك حين حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فقام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال: "يا رسول الله علي بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال: "يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"، ثم حض على الجيش ¬

(¬1) هو المعروف اليوم في المدينة ببئر عثمان، لم ينضب ماؤه. (¬2) شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية 2/ 360. (¬3) انظر: المعارف 1/ 191 - 197، موجز عن الفتوحات الإسلامية 1/ 53.

لماذا لم يشهد بدرا - رضي الله عنه -

فقام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال: "يا رسول الله علي ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المنبر وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه» (¬1)، وجهز الجيش بألف دينار نثرها في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخذ يقلبها في حجره ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين» (¬2). لماذا لم يشهد بدرا - رضي الله عنه -: ولم يشهد بدرا، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلّفه لتمريض رقية رضي الله عنها، وكانت ثقيلة، فماتت ودفنها، ولذلك اعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمن حضر، وضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره. لماذا لم يشهد بيعة الرضوان - رضي الله عنه -: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسله إلى قريش، ليخبرهم أنه لم يجئ لقتال، ولذلك اعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمن حضر، فبايع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشماله، وهي منقبة عظيمة لعثمان - رضي الله عنه -، وفيها إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان - رضي الله عنه - صادق الإيمان بالله ورسوله، وأنه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنشط والمكره. خلافة عثمان - رضي الله عنه - بويع عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة غرة المحرّم سنة أربع وعشرين، وهو يومئذ ابن تسع وستين سنة. وكان الرَّيُّ من خراسان أوّل الفتح الإسلامي في خلافة عثمان - رضي الله عنه -، وأمير الجيوش: أبو موسى الأشعريّ - رضي الله عنه -، ثم الإسكندرية، ثم سابور، ثم إفريقية، ثم قبرس، من سواحل بحر الرّوم الأبيض المتوسط، وفارس الأولى، ثم جور، وفارس الآخرة، سَنَة تسع وعشرين، ثم طبرستان، وكرمان، وسجستان، ثم ¬

(¬1) الترمذي حديث (3699). (¬2) الترمذي حديث (3701).

بروز البلوى التي وعد بها عثمان: - رضي الله عنه -

الأساورة في البحر، ثم إفريقية، ثم حصون قبرس، ثم ساحل الأردن (¬1)، ثم كانت مرو، على يد: عبد الله بن عامر، سنة أربع وثلاثين. بروز البلوى التي وُعد بها عثمان: - رضي الله عنه - نقم بعض الصحابة - رضي الله عنهم - على عثمان - رضي الله عنه - أمورا لم يرها عثمان - رضي الله عنه - مما ينكر، وكذلك بعض الصحابة - رضي الله عنهم -، ولما اشتد الخلاف كتب نفر من الصحابة بعضهم إِلى بعض، أن أقدموا فالجهاد عندنا، ونال الناس من عثمان، وليس أحد من الصحابة ينهى عن ذلك، ولا يذب إِلا نفر، منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وأبو هريرة، وآخرون هم من ستمائة رجل منعهم عثمان من الدفاع عنه، وحُصر عثمان - رضي الله عنه - في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، بسبب ما أخذ عليه، وقد اعتذر لعثمان - رضي الله عنه - أبو بكر بن العربي رحمه الله في كتابه العواصم من القواصم، وقد أجاد وأفاد، ورد باعتذاره الحق إلى نصابه، وكان من أسباب الفتنة على عثمان - رضي الله عنه - أنه اجتهد في أمور سُبق إلى مثلها من الشيخين رضي الله عنهما، ولم يرضها أناس، فعاملهم بلطف، ورقة وتواضع، ولم يستعمل الحزم كما فعل عمر مع المخالفين، ولذلك قال له علي - رضي الله عنه -: "إنّ عمر كان يطأ على صماخ من ولّى، وأنت ترفق بهم وكانوا أخوف لعمر من غلامه يرفأ، ومعاوية يستبدّ عليك، ويقول هذا أمر عثمان فلا تُغيِّر عليه" (¬2). وطلب المحاصرون من عثمان - رضي الله عنه - أن يعتزل، فأبى أن يعتزل، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» (¬3). وأبا أن يقاتلهم، ونهى عن ذلك، وأغلق بابه، وفاءً لما سمع من رسول الله، أن له الجنة على بلوى تصيبه، فحوصر أكثر من عشرين يوما، وهو في الدار في ستمائة رجل لم يسمح لهم بالدفاع عنه، فاقتحم المحاصرون عليه الدار، فضربه الملعون نيار بن عياض الأسلميّ بمشقص، في وجهه، فسال الدم على ¬

(¬1) المعارف 1/ 194. (¬2) تاريخ ابن خلدون 2/ 593. (¬3) الترمذي حديث (3705).

لماذا يسميه الرافضة نعثلا؟ !

المصحف في حجره، عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، فأي مصيبة أعظم من مصيبة عثمان، ولكنها برد وسلام على عثمان عاقبتها الجنة، والمصيبة الماحقة على من حاصره وسعى في قتله. وكان قتله يوم الجمعة لثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة، بعد أن حجّ بالناس عشر سنين متوالية، والسنة التي قتل فيها أقام لهم الحج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وصلّى بالناس في بالمدينة وخطبهم على بن أبى طالب - رضي الله عنه -. ودفن ليلا في البقيع، بأرض اشتراها فزادها توسعة في البقيع، وكانت ولايته اثنتي عشرة سنة، إلا اثنتي عشرة ليلة (¬2). لماذا يسميه الرافضة نعثلا؟ ! لكثرة شعر رأسه ولحيته سماه الرافضة بذلك، تعاموا عن فضائله، وأبصروا كثرة شعر رأسه ولحيته فأطلقوا عليه ما يروقهم قاتلهم الله، فهم للشر أنزع، وعن الخير أبعد (¬3)، وربما أرادوا ثلب عثمان بأسوأ معاني هذه الكلمة، وهم بوصف السوء أولى، ويكفي عثمان أنه شيخ تستحي منه الملائكة، واستحى منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). تنبيه: إن خلافة الثلاثة؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - تضمنها وعد الله - عز وجل - المؤمنين بالاستخلاف في الأرض، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬5) ولم يخلف الله - عز وجل - وعده فقد خاطبهم به فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ¬

(¬1) من الآية (137) من سورة البقرة. (¬2) انظر: المعارف 191 - 198 بتصرف. (¬3) انظر: المعارف 1/ 192. (¬4) مسلم حديث (2401). (¬5) الآية (55) من سورة النور.

مِنْكُمْ} يعني الذين آمنوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتحقق ذلك للمؤمنين بتمكين أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - واستخلافهم، والتمكين لهم في الأرض، وجعلهم آمنين يَغزون ولا يُغزون، ويخيفون الأعداء ولا يخيفهم عدو، ولم يشق بهم جليسهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الخليفة الراشد الرابع، فقد كان على الحق، وما حدث له ولعثمان قبله هو من البلاء، ولم يُمكَّن لعلي - رضي الله عنه - ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -

علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نسبه - رضي الله عنه -: عليّ بن أبى طالب: عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يكنى: أبا الحسن رضي الله عنهما. أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، أسلمت وهي أوّل هاشمية ولدت لهاشمىّ (¬1). صفته - رضي الله عنه -: كان عريض اللحية وقد أخذت ما بين منكبيه، أصلع على رأسه زغيبات (¬2). خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ثبتت إمامة عثمان - رضي الله عنه - بعد عمر - رضي الله عنه - بعقد مَن عقد له الإمامة من أصحاب الشورى، الذين نص عليهم عمر - رضي الله عنه -، وهم خيار عدول، شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وتوفي وهو راض عنهم، فاختاروه ورضوا بإمامته، وأجمعوا على فضله وعدله. وثبتت إمامة علي - رضي الله عنه - بعد عثمان - رضي الله عنه - بعقد مَن عقدها له من الصحابة - رضي الله عنهم -، من أهل الحل والعقد، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كنا نقول على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: النبي، ثم أبو بكر، ثم عمر، ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم: تزوج فاطمة، وولدت له، وغلَّق الأبواب غير بابه (¬3)، ودفع الراية إليه يوم خيبر» (¬4)، ولأنه لم يدَّعِها أحد من أهل الشورى غيره في وقته، وقد أجمعوا على فضله وعدله، وأحقيته بالخلافة، وقد حان وقتها له - رضي الله عنه -، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقا، لعلمه أن ذلك ليس وقت قيامه، لم يحتجّ علي على أحقيته بنص من الكتاب ¬

(¬1) انظر: المعارف 1/ 203. (¬2) الطبقات الكبرى 3/ 18. (¬3) المراد الأبواب التي تفتح على السجد، ومنها بيت علي - رضي الله عنه -، وكذلك بيت أبي بكر - رضي الله عنه - لم ... يغلق. (¬4) السنة لابن أبي عاصم حديث (5601) ..

ولا من السنة، لا بحديث الغدير ولا بغيره، وإنما ظن أنه الأحق لقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبا وصهرا، ولو علم إشارة واحدة في كتاب الله - عز وجل - أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا تحتمل التأويل على أحقيته بالخلافة لبادر إلى ذكرها والاستشهاد بها، ولكان أبو بكر وعمر وبقية الصحابة من أطوع الناس لعلي تنفيذا لما أورد، وقد كان علي الخليفة الراشد - رضي الله عنه - ذكيا، فقد استدل على خطأ الزبير، قال علي للزبير رضي الله عنهما: "تذكر يوم مررت مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه"، فقال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له» قال الزبير: "اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً"، فانصرف علي إلى أصحابه فقال: "أما الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم"، ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: "ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا، قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب" (¬1)، فكيف يستدل على خطأ الزبير، ولا يستدل على الإمامة الكبرى، لم يكن ذلك من الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - إلا لعدم مجرد الإشارة فضلا عن النص، وأنه قلما كان لنفسه في وقت الخلفاء قبله، ثم لما صار الأمر أظهر وأعلن، ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد - رضي الله عنه -، كما مضى من قبله من الخلفاء، وأئمة العدل على السداد والرشاد، متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، هؤلاء هم الأئمة الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم أجمعين، هم أصحاب الخلافة الراشدة، المأمور باتباع ما سنوا، قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور» (¬2)، وهم خلفاء النبوة، قال سفينة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» ثم قال سفينة للراوي عنه وهو سعيد بن جمهان: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، ثم أمسك خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - أجمعين (¬3)، ¬

(¬1) الكامل 2/ 44 .. (¬2) أبو داود حديث (4607). (¬3) الإبانة عن أصول الديانة 1/ 257 ..

ثلاثون سنة أقام الخلفاء الراشدون العدل على نهج النبوة، وابتدأ الملك بأمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ولم يكن في عداد خلفاء النبوة، وإن قيل خلافة معاوية، فذاك ملك وليس خلافة نبوة، وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه المراحل، قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ ، قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ ، قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ ، قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ ، قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ ، قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ ، قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (¬1). نفهم من حوار حذيفة هذا أن الخير الذي عاشه هو عهد النبوة وخلافة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والشر بعد ذلك ما وقع في خلافة عثمان - رضي الله عنه - من خروج عليه وقتله ظلما وعدوانا، وهم أول نابتة الخوارج، والخير بعد هذا خلافة علي - رضي الله عنه -، وكان فيها الدخن بالخلاف بينه وبين معاوية لأن كلا الفريقين أتباع علي - رضي الله عنه -، وأتباع معاوية - رضي الله عنه - هم من المسلمين، يؤيد هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن - رضي الله عنه -: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» (¬2)، وقد وقع بينهما خلاف بسبب الشر الذي وقع لعثمان - رضي الله عنه -، لم يكن معاوية - رضي الله عنه - معترضا على خلافة علي - رضي الله عنه -، بل طالب عليا بقتلة عثمان لأنه من أبناء عمومته يجتمع معه في أمية بن عبد شمس جد أبي سفيان - رضي الله عنه -، وتحققت سيادة الحسن - رضي الله عنه - بحقن دماء المسلمين، إذ تنازل لمعاوية - رضي الله عنه -، والدعاة على أبواب جهنم هم الفرق ¬

(¬1) البخاري حديث (3606). (¬2) البخاري حديث (3629) ..

الضالة كالخوارج، والروافض، وما تولد منهما بعد ذلك، فقد أحدثوا في الدين أمورا عظيمة، تنسف أصول الإسلام، فالخوارج انشقوا عن الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه -، في سنة (37) وكفروه ومن معه، وزعموا أنهم هم المؤمنون، وحملوا السلاح لقتال من خالفهم، واستباحة ماله ودمه وعرضه، وقد تبرؤوا من خلافة عثمان بعد الفتنة، وهم رأسها، وتبرؤوا من خلافة علي بعد التحكيم، بدعوى لا حكم إلا لله - عز وجل -، وهي مقولة حق أريد بها باطل، كما قال علي - رضي الله عنه -، ولم تكن الرافضة أقل شرا وفسادا في الأرض من الخوارج: فإن من اعتقادهم القول بتحريف القرآن، وأن لهم قرآنا يأتي به المهدي المنتظر، من أبرز الأحكام فيه قتل العرب عن بكرة أبيهم، انتقاما لدولة الفرس، لأن عقيدتهم تكفير الصحابة جميعا عدا ما لا يزيد عن عدد أصابع اليدين، ورمي عائشة بالفاحشة، والقول بعصمة الأئمة من أبناء علي - رضي الله عنه -، ولاسيما ذرية الحسين - رضي الله عنه -، وعلمهم الغيب والتصرف في الكون، وكلام كثير لا يصدقه المجانين فضلا عن العقلاء، يدعون الناس إلى الإيمان بها، ومن لم يؤمن بها فهو عندهم كافر مباح الدم والعرض والمال، ينالون بقتله وتعذيبه أعلى الدرجات في الجنة بزعمهم، فهم لا شك دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم كفر، والكافر مصيره النار، نعوذ بالله من الضلال، ولذلك قال علي - رضي الله عنه -: في هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم إنا قوم أصابتنا فتنة هذه الدنيا (¬1)، ولا ريب أن الناس أصابتهم فتنة الدنيا خلال الست السنوات الأخيرة من خلافة عثمان - رضي الله عنه -، وما بعدها، ولذلك قال علي - رضي الله عنه - هذا القول، فمن الناس من فتن في دينه، ومنهم من فتن في ماله وولده، ومنهم من فتن بطلب الجاه والسيادة، وكثرة الثراء والأتباع، وهكذا تستمر الفتنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد كره علي - رضي الله عنه - ازدحام الناس عليه، فمنهم المحب الصادق، ومنهم المحب الغالي، ومنهم الكاره له كالخوارج ومن شايعهم، فلما ضجر منهم قال: «اللهم إني قد كرهتهم وكرهوني، فأرحني منهم وأرحهم مني» (¬2). ¬

(¬1) السنة لابن أبي عاصم حديث (1208). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة حديث (37096) وانظر: أنستب الأشراف حديث (521).

قتل علي - رضي الله عنه -

قتل علي - رضي الله عنه -: لم يكن علي - رضي الله عنه - جاهلا بمجرايات الأمور، فلديه من خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها ما جعله يقول: «يا للدماء, لتُخضبن هذه من هذا» (¬1) - يعني لحيته من دم رأسه - وقد علم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما علم عثمان أنه شهيد، وأنه يلج الجنة بسبب بلوى تصيبه، وفي رواية أن عليا - رضي الله عنه - قال: «لتُخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بالأشقى» قالوا: فأخبرنا به نبير عترته, قال: إذاً تالله تقتلون غير قاتلي, قالوا: أفلا تستخلف, قال: لا, ولكني أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , قالوا: فما تقول لربك إذا لقيته؟ قال: أقول: «اللهم إنك تركتني فيهم، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم; فإن شئت أصلحتهم, وإن شئت أفسدتهم» (¬2). فكان القدر المحتوم على يد عبد الرحمن بن ملجم وشبيب الأشجعي اكتنفا عليا حين خرج إلى الفجر, فأما شبيب فضربه فأخطأه وثبت سيفه في الحائط, ثم أحصر نحو أبواب كندة, وقال الناس: عليكم صاحب السيف; فلما خشي أن يؤخذ رمى بالسيف ودخل في عرض الناس, وأما عبد الرحمن فضربه بالسيف على قرنه, ثم أحصر نحو باب الفيل; فأدركه عُريض أو عُويض الحضرمي; فأخذه فأدخله على علي, فقال علي: "إن أنا مت فاقتلوه إن شئتم أو دعوه، وإن أنا نجوت كان القصاص" (¬3). برز انقسام المسلمين في خلافة عثمان، واستقر في خلافة علي رضي الله عنهما، وهو من علامات نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أمرا لا مفر منه، ولكن للمحق دلائل كونه على الحق، وللباغي دلائل تدل على بغيه. قال شيخ الإسلام رحمه الله (¬4): الخوارج تكفر عثمان وعليا وسائر أهل الجماعة. وأما "شيعة علي الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم فكان بينهما من التقابل، وتلاعن بعضهم، وتكافر بعضهم ما كان، ولم تكن الشيعة ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة حديث (37099). (¬2) مسند أحمد حديث (1078) وهو حسن لغيره. (¬3) مصنف ابن أبي شيبة حديث (37097). (¬4) مجموع الفتاوى 4/ 437.

التي كانت مع علي يظهر منها تنقص لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يقدم عليا على أبي بكر وعمر، ولا كان سب عثمان شائعا فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر، وكذلك تفضيل علي عليه لم يكن مشهورا فيها، بخلاف سب علي فإنه كان شائعا في أتباع معاوية، ولهذا كان علي وأصحابه أولى بالحق، وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، كما في الصحيح (¬1) عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق». وكان سب علي ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها: الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه (¬2) عن خالد الحذاء، عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه علي: " انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى به ثم أنشأ يحدثنا حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن" (¬3) ورواه مسلم عن أبي سعيد أيضا قال: "أخبرني من هو خير مني أبو قتادة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار - حين جعل يحفر الخندق - جعل يمسح رأسه ويقول: «بؤس ابن سمية تقتله فئة باغية» ورواه مسلم (¬4) أيضا عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تقتل عمارا الفئة الباغية». وهذا أيضا يدل على صحة إمامة علي، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار - وإن كان متأولا - أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ، وإن كان متأولا، أو باغ بلا تأويل، ¬

(¬1) مسلم حديث (1064). (¬2) البخاري حديث (447) ومسلم حديث (2916). (¬3) البخاري حديث (447). (¬4) مسلم حديث (2915).

وهو أصح القولين، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليا، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين. وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين، قال: أيجعل طلحة والزبير بغاة؟ ! ، رد عليه الإمام أحمد فقال ويحك وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام: يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة. والقول الثاني: أن كلاً منهما مصيب، وهذا بناء على قول من يقول: كل مجتهد مصيب. وهو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية. وفيها قول ثالث: أن المصيب واحد لا بعينه، ذكر الأقوال الثلاثة ابن حامد والقاضي وغيرهما. وهذا القول يشبه قول المتوقفين في خلافة علي من أهل البصرة، وأهل الحديث، وأهل الكلام: كالكرامية الذين يقولون: كلاهما كان إماما، ويجوزون عقد الخلافة لاثنين. لكن المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وأمر بهجرانه ونهى عن مناكحته ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك. فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير علي أولى منه بالحق وهذا لا يقوله إلا مبتدع ضال، فيه نوع من النصب، وإن كان متأولا، لكن قد يسكت بعضهم عن تخطئة أحد، كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه، إمساكا عما شجر بينهم، وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين. ولم يسترب أئمة السنة وعلماء الحديث: أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي - لما جاء من حديث عمار - جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل. يبقى أن يقال: فالله تعالى قد أمر بقتال الطائفة الباغية، فيكون قتالها كان واجبا مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان الصحابة: كسعد، وزيد، وابن عمر،

وأسامة، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وهم يروون النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير. . .» الحديث (¬1) وقوله: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن» (¬2) وأمره لصاحب السيف عند الفتنة أن يتخذ سيفا من خشب، جاء علي بن أبي طالب إلى أُبي فدعاه إلى الخروج معه، فقال له أُبي: "إن خليلي وابن عمك عهد إلي إذا اختلف الناس أن أتخذ سيفا من خشب، فقد اتخذته، فإن شئت خرجت به معك" (¬3) وبحديث أبي بكرة للأحنف بن قيس لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي، وهو قوله: - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» (¬4) الحديث. والاحتجاج على ذلك بقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (¬5) وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له لو قعد، وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال، وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ ، وقوله: لله در مقامٍ قامه سعد بن مالك، وعبدالله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير. وهذا يعارض وجوب طاعته، وبهذا احتجوا على الإمام أحمد في ترك التربيع بخلافته، فإنه لما أظهر ذلك قال له بعضهم: إذا قلت كان إماما واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير، حيث لم يطيعاه بل قاتلاه، فقال لهم: أحمد: إني لست من حربهم في شيء - يعني أن ما تنازع فيه علي وإخوانه - لا أدخل بينهم فيه، لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلم به مني، وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني، حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم، وأنا مأمور بالاستغفار ¬

(¬1) البخاري حديث (3601) ومسلم حديث (2886). (¬2) البخاري حديث (19) وفي مواضع عدة. (¬3) الترمذي حديث (2203) حديث حسن. (¬4) البخاري حديث (31) ومسلم حديث (2888). (¬5) البخاري حديث (121) وفي مواضع عدة، ومسلم حديث (66) كذلك.

لهم، وأن يكون قلبي لهم سليما، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم، ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر، ولكن اعتقاد خلافته وإمامته ثابت بالنص، وما ثبت بالنص وجب اتباعه، وإن كان بعض الأكابر تركه، كما أن إمامة عثمان وخلافته ثابتة إلى حين انقراض أيامه، وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته، وفي مخالفة بعضهم له من التأويل ما فيه، إذ كان أهون مما جرى في خلافة علي. وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف: فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي كما فعله من قاتل معه، وكما يقول كثير من أهل الكلام والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي، حيث أوجبوا القتال معه، لوجوب طاعته ووجوب قتال البغاة، ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون. ومن قوم يقولون: بل المشروع ترك القتال في الفتنة، كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة، كما فعله من فعله من القاعدين عن القتال، لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترك القتال في الفتنة خير وأن الفرار من الفتن باتخاذ غنم في رؤوس الجبال خير من القتال فيها، وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها، وأمره باتخاذ سيف من خشب، ولكون علي لم يذم القاعدين عن القتال معه، بل ربما غبطهم في آخر الأمر. ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك علي القتال كان أفضل، لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها، قالوا: ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال، فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما ووقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان، حتى سمي منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال، ولم يحصل به مصلحة راجحة. وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها، والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال، فإنه قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا

موقف علي - رضي الله عنه - من الخلفاء قبله - رضي الله عنهم -

الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1)، فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين، لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية، وإن قيل: " الباغية يعم الابتداء والبغي بعد الاقتتال، قيل: فليس في الآية أمر لأحدهما بأن تقاتل الأخرى، وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية، والكلام هنا: إنما هو في أن فعل القتال من علي لم يكن مأمورا به، بل كان تركه أفضل، وأما إذا قاتل لكون القتال جائزا وإن كان تركه أفضل، أو لكونه مجتهدا فيه وليس بجائز في الباطن: فهنا الكلام في وجوب القتال معه للطائفة الباغية، أو الإمساك عن القتال في الفتنة، وهو موضع تعارض الأدلة، واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين بعد الجزم بأنه وشيعته أولى الطائفتين بالحق، فيمكن وجهان: أحدهما: أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان، إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانا هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح (¬2). موقف علي - رضي الله عنه - من الخلفاء قبله - رضي الله عنهم - موقفه من أبي بكر: روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قام أبو بكر بعدما استخلف بثلاث، فقال: من يَستَقيلُني بيعتي فأقيله؟ ، فقلت: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، هذا كلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الحكم العدل في خلافة أبي بكر، ولذلك مما قال: ... فمشيتُ عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضتُ في تلك الأحداث - حروب الردة - حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا ¬

(¬1) الآية (9) من سورة الحجرات. (¬2) مجموع الفتاوى 4/ 436 - 442، نقلناه لنفاسته في الموضوع. (¬3) السنة لأبي بكر الخلال حديث (372) وفضائل أبي بكر للعشاري حديث (20).

ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً (¬1)، وقال لما توفي أبوبكر - رضي الله عنه -: "رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله، وأنسه ومستراحه، وموضعا لسره ومشاورته، وأول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غنى في دين الله، وأحوطهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقبا، وأكثرهم سوابقا، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأقربهم من رسول الله - رضي الله عنه - مجلسا، وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده، فجزاك الله عن الإسلام خيرا، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا، صدَّقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس، فسماك الله في تنزيله صديقا فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬2)، واسيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين، وصاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، ومواطن الكره، خلفته في أمته بأحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، قويت حين ضعُف أصحابك، ونهضت حين وهنوا، وبرزت حين استكانوا، ولزمت منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ هَمُّوا، وقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، مضيت بنور إذ وقفوا، فاتبعوك فهُدوا، كنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وأكبرهم رأيا، وأشجعهم نفسا، وأشدهم يقينا، وأحسنهم عقلا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين نفر عنه الناس، وأخيرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وحفظت ما أضاعوا لعلمك بما جهلوا، شمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت آثار ما طلبوا، وراجعوا رشدهم برأيك، فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا، ¬

(¬1) نهج البلاغة 61. (¬2) الآية (33) من سورة الزمر ..

كنت على الكافرين عذابا صبا، وللمسلمين غيثا وخصبا، فطرت والله بغنائها، وفزت بجبائها، وذهبت بفضائلها، وأدركت سوابقها، لم تُفَل حجتك، ولم تضعُف نصرتك، ولم تختر نفسَك، ولم يزغ قلبك، كنت كالجبل، فلا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمَنَّ الناس عليه في صحبتك وذات يدك» وكنت ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في أعين المؤمنين، كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد في ذلك سواء، أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له، شأنك الحق والصدق والرفق، قولك حق وحتم، وأمرك حكم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأُطْفئت النيران، وقوي الإيمان، واعتدل بك الدين، وثبت الإسلام والمسلمون، وقوي الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالخير، فجللت عن البكا، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا له أمره، فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وحرزا وكهفا، وللمؤمنين فيئا وحصنا وغيثا، فألحقك الله بميتة نبيك، ولا أحرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون"، فسكت الناس حتى انقضى كلامه، ثم بكوا عليه حتى علت أصواتهم، وقالوا: صدقت يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وقال - رضي الله عنه -: لله بلاء أبي بكر لقد قوم الأود، وداوى العلل، واقام السنة، وخلف البدعة، وذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها، أدى لله طاعة واتقاه بحقه. . . . الخ (¬2)، هذا كلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، نطق بالحق في تأبين أبي بكر - رضي الله عنه -، وشهد بما علم، وأنعم بشهادة من عرف لله حقه ولرسول الله حقه، ولأبي بكر حقه، وقال محمد بن ¬

(¬1) نهج البلاغة نقلا عن العواصم من القواصم 1/ 275. (¬2) انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال 1/ 284 - بتصرف - وانظر: الشريعة للآجري 4/ 1725.

الحنفية رحمه الله: قلت لأبي: "يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: يا بني، أو ما تعرف؟ ! فقلت؟ لا، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان! فقلت: ثم أنت؟ فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" (¬1)، ولما توفي أبو بكر - رضي الله عنه - تزوج علي - رضي الله عنه - أسماء بنت عميس بعده وربا ابنه محمد صغيرا، وولاه كبيرا على مصر ونشبت بينه وبين عمرو بن العاص حرب سنة (38) (¬2)، كان عمرو - رضي الله عنه - في صف معاوية - رضي الله عنه -، وكان الحكم مع أبي موسى - رضي الله عنه - فمكر بأبي موسى، وقد اتفقا على أن يخلع كل منهما صاحبه ويختار الناس، فلم يفعل عمرو - رضي الله عنه -، اجتهد فأخطأ، وقد ندم عند فاته - رضي الله عنه - فقال: "اللهم إنك أمرت عمرو بن العاص بأشياء فتركها، ونهيته عن أشياء فارتكبها، فلا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت. قالها ثلاثا جامعا يديه معتصما بهما حتى قبض (¬3). قال ابن شماسة المهري: "حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، يبكي طويلا، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ ، أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ ، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه، فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: «ما لك يا عمرو؟ » قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ... «تشترط بماذا؟ » قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ » وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ¬

(¬1) شرح الطحاوية ت الأرناؤوط 2/ 710، انظر: السنة لأبي بكر بن الخلال 1/ 291 .. (¬2) أنظر: سمط النجوم العوالي 2/ 463، والرياض النظرة في مناقب العشرة 1/ 267. (¬3) الطبقات الكبرى ط العلمية 7/ 342.

ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة، ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي" (¬1). ونقول تبا لأولئك الناقمين على أبي بكر - رضي الله عنه - انتصارا لإخوانهم المرتدين، مستدلين بروايات مصنوعة مزورة، معرضين عن حقائق الكتاب والسنة، موغلين في عداوة الإسلام وأهله، ومن التزوير ما جاء في كتاب التحفة الاثني عشرية: إذ حذف الشريف الرضى صاحب نهج البلاغة حفظا لمذهبه الفاسد، حذف لفظ أبي بكر وأثبت بدله: فلان، وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر، ولهذا الإيهام اختلف الشراح، فقال البعض هو أبو بكر، وقال آخرون: هو عمر، ورجح الأكثرون الأول، وهو الحق، والعجب أن الناقمين على الصحابة وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، يفعلون ذلك بزعمهم حب آل البيت، وهم والله برآء من حب آل البيت، لأنه حب عار عن الصدق اتخذوه لغايات يسعون لتحقيقها، بدعوى الحب الكاذب، حتى صار ذلك عارا على آل البيت، قال عليّ بن الحسين رحمه الله وكان أفضل هاشمي في زمانه: "أيها الناس أحبونا بحب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارًا" (¬2). قلت ليس حب آل البيت عارا، ولكن لكثرة ما وضع له من الزور والكذب عليهم فردا فردا روايات لا يصدقها مجنون فضلا عن عاقل أصبح حب آل البيت عارا بسببها، ونِعْم حب آل البيت عند أهل السنة، إنه حب الإسلام الذي نشده علي بن الحسين رحمه الله. أما الرافضة فقد أخبر بهلاكهم وضلالهم عليٌّ نفسه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فيك مَثَلٌ من عيسى بن مريم أبغضته يهود، حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليس به». ¬

(¬1) مسلم حديث (192). (¬2) آل رسول الله وأولياؤه (1/ 188).

موقف علي من عمر رضي الله عنهما

قال: ثم قال علي - رضي الله عنه -: "يهلك فيَّ رجلان: محب مطْرٍ يفرط لي بما ليس فيَّ، ومبغض مفترٍ يحمله شنآني على أن يبهتني" (¬1). هذا النص طابق الواقع فاليهود أبغضوا عيسى - عليه السلام -، ورموا أمه عليها السلام بالزنا، والخوارج أبغضوا عليا - رضي الله عنه - حتى بهتوه، والنصارى أحبو عيسى - عليه السلام - حتى جعلوه ابن الله، والرافضة زعموا حب علي - رضي الله عنه - حتى مدحوه بما ليس فيه، وألقوا عليه من صفات الإله ما شاؤوا، بل جعله النصيرية - وهم من الرافضة - إلها وعبدوه، ولذلك قال - رضي الله عنه -: يهلك فيَّ رجلان: محب مطْرٍ يفرط لي بما ليس فيَّ، ومبغض مفترٍ يحمله شنآني على أن يبهتني. ومراده هاتان الفرقتان الضالتان، وهما من أهل النار، قال علي - رضي الله عنه -: «لَيَحبني قوم حتى يدخلوا النار في حبي، ولَيَبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي» (¬2)، وقال - رضي الله عنه -: «اللهم العن كل مبغضٍ لنا، وكل محبٍ لنا غال» (¬3). موقف علي من عمر رضي الله عنهما: دخل علي - رضي الله عنه - في بيعة عمر - رضي الله عنه -، وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، قال - رضي الله عنه -: إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر، ما كنا نعدُّ أن السكينة لا تنزل إلا على لسان عمر (¬4)، ورفض علي - رضي الله عنه - ذهاب الخليفة عمر - رضي الله عنه - للاشتراك في فتح فارس خوفا على حياته، وقال له: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع، ونحن على وعد من الله تعالى حيث قال عز اسمه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ¬

(¬1) المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي حديث (1319). (¬2) فضائل الصحابة لأحمد حديث (952). (¬3) فضائل الصحابة لأحمد حديث (1136). (¬4) الطبراني في الكبير حديث (8807).

موقف علي من عثمان رضي الله عنهما

يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1)، والله تعالى منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيم بالأمر في الإسلام مكان النظام من الخرز، فإن انقع النظام تفرق الخرز، ورب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم، وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب واصْلَهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها. إن العجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استحرتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك (¬2). وقلت: نعم المشير والمستشار علي - رضي الله عنه -، لقد نصح لله ولرسوله ولعمر أمير المؤمنين، وللأمة كلها، سبحان الله كأنه يسمع ويرى موقف الرافضة اليوم من عمر - رضي الله عنه -. عمر - رضي الله عنه - ابن بنت عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمة علي أيضا، سمَّى عليٌّ بعمر رضي الله عنهما، والمسمى هو عمر بن علي بن أبي طالب ولعلي منه حفيد اسمه محمد، ولمحمد حفيد اسمه عبدالله، روى عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه محمد، عن أبيه عمر، عن جده علي عدة أحاديث (¬3). موقف علي من عثمان رضي الله عنهما: إن العاقل ليعجب أشد العجب من ادعاء الرافضة أنهم شيعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهم يتجاهلون حبه للخلفاء الثلاثة قبله: أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، وأقواله الصحيحة الصريحة برهان يدق أنوف الرافضة، فقد قال في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، ولو شئت أخبرتكم بالثالث» (¬4)، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كنا نتحدث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ¬

(¬1) الآية (55) من سورة النور. (¬2) العواصم من القواصم 1/ 274، 275. (¬3) انظر المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث (688) وما بعده. (¬4) أحمد في فضائل الصحابة حديث (408).

ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره» (¬1)، وقال علي - رضي الله عنهم -: «لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري» (¬2)، وزوج عمر بنته ... أم كلثوم الكبرى ولدت لعمر زيدا ورقية، وقد قدمنا نص الخطبة العصماء التي أبَّنَ بها علي أبا بكر رضي الله عنهما، لأن أبا بكر كان صديق علي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صار بعد ذلك خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإماما لخيار الأمة ومنهم علي - رضي الله عنه -، وكذلك تمنى أن يلقى الله بمثل عمل عمر - رضي الله عنهم -، هذه أخوة الإسلام. ومن حب علي للثلاثة سمى بهم أولاده، ومن أحب إنسانا أبدى تكريمه، ومن تكريم علي لأبي بكر رضي الله عنهما أنه سمى أحد أبنائه أبا بكر، فأبو بكر بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قتل مع أخيه الحسين بن علي - رضي الله عنه - في يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وأمه ليلى ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم (¬3). وعمر بن علي بن أبي طالب، من نسله عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب سمى أحد بنيه أبا بكر، والآخر باسم عمر وعثمان بن علي بن أبي طالب، له رواية (¬4)، وتتوالى التسمية بالثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان من أبناء علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، فالحسن بن علي - رضي الله عنه - يسمي ولده أبا بكر وهو أبو بكر بن الحسن بن علي، وأمه أم ولد (¬5)، وسمى عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب (¬6)، وله منه حفيد اسمه: محمد له رواية، ولم يتخلف الحسين - رضي الله عنه - عن التبرك بأسماء الثلاثة فقد سمى أبا بكر بن الحسين بن علي بن أبي طالب (¬7)، وسمى عمر بن ¬

(¬1) أحمد في فضائل الصحابة حديث (857). (¬2) أحمد في فضائل الصحابة حديث (49). (¬3) تاريخ الطبري 5/ 468. وانظر: الشريعة للآجري 4/ 1725. (¬4) المنتخب من كتاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/ 61. (¬5) ترتيب الأمالي الخميسية للشجري 1/ 225. (¬6) وانظر: المجالسة وجواهر العلم 8/ 119، . (¬7) مقاتل الطالبيين 1/ 593.

الحسين بن علي (¬1)، وله منه حفيد اسمه: علي ومن نسله: أبو عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يروي بسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2)، وكذلك علي زين العابدين سمى، عمر بن علي زين العابدين بن الحسين (¬3) , وسمى عثمان بن علي بن الحسين، له رواية عن أبيه (¬4)، وكذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم أبي بكر وسمى ابنا آخر له باسم معاوية، ومعاوية هذا سمى أحد بنيه يزيد (¬5)، فأصبح من آل هاشم معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وحفيده يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. ولهذا كان الشيعة المتقدمون متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني من كتاب: تثبيت النبوة أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في كتاب النقض على ابن الراوندي: سأل شريك بن عبد الله فقال له: "أيهما أفضل: أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ ! فقال له: نعم: من لم يقل هذا فليس شيعيا! ! والله لقد رقى هذه الأعواد علي فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابا" (¬6)، وهكذا حال الناس حتى في الكوفة، ولم ينتقض الأمر إلا بظهور دعاة الضلال، قال أبو إسحاق السبيعي رحمه الله: "خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن الكوفة وهم يقولون ويقولون، ولا والله ما أدري ما يقولون" (¬7)، فأبو اسحاق أنكر تلك ¬

(¬1) الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 1/ 77. (¬2) حديث أبي القاسم عافية وغيره لأبي بكر بن المهندس 1/ 41. (¬3) العواصم من القواصم 1/ 274. (¬4) تفسير ابن كثير ت سلامة 6/ 403. (¬5) العواصم من القواصم 1/ 274. (¬6) العواصم من القواصم 1/ 274. (¬7) المنتقى من منهاج الاعتدال 1/ 360.

ختم الخلافة ووحدة الأمة

الأقاويل، ونفى علمه بها في السابقين، وهذا ما كان عليه جميع الصحابة - رضي الله عنهم -، ومنهم علي - رضي الله عنه - قد تواتر عنه من طرق كثيرة قيل: إنها تبلغ ثمانين طريقا أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم وعمر» (¬1)، ومن بعد الصحابة التابعون، قال ليث بن أبي سليم رحمه الله: "أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا"، وقال مسروق وطاووس - وهما من أجل التابعين رحمهما الله: "حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة" (¬2). قلت: هذا موقف العالمين بقدر وفضل آل البيت، بعيدا عن الغلو والزندقة، هم شيعة الحق والهدى، ليسوا كمن رفض الحق وانتحل الكذب والزور والبهتان، وصنع من آل البيت آلهة يعبدون من دون الله - عز وجل -، كل ذلك من أجل الكيد لخير القرون ومن تبعهم بإحسان، أهل السنة والجماعة السائرين على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، فهم الطائفة المنصورة لا يضرهم من خالفهم حتي يأتي وعد الله - عز وجل -. ختم الخلافة ووحدة الأمة: بقتل علي - رضي الله عنه - وتنازل الحسن - رضي الله عنه - ختمت خلافة النبوة، وختمت وحدة الأمة على المنهج النبوي، وصار للسنة مدلولان: الأول: يطلق على المنهج المخصوص بالسلوك والاتباع لأمر الكتاب والسنة فعلا وتركا، وهو ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، فلما قُتل علي - رضي الله عنه - وظهرت البدعة في الدين وصار لها شيع وأنصار، وجُعل لكل شيعة منها اسم، وأُطلق على الملتزمين بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، والذين اتبعوهم لقب: أهل السنة والجماعة، فالمراد بالسنة هنا معناها اللغوي، والتعريف فيها للعهد. الثاني: إطلاق السنة على أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته وشمائله، ويطلق عند الفقهاء على ما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - غالباً لا على سبيل الوجوب، وبالمدلول الأول اللغوي يأخذ كل من ابتدع في الدين ولهم في ذلك اصطلاحات وقواعد في إثبات ¬

(¬1) المنتقى من منهاج الاعتدال 1/ 361. (¬2) المنتقى من منهاج الاعتدال 1/ 361.

السنة ونفيها وتأويلها وتعارضها، كما أن للفقهاء والمتكلمين المنسوبين إلى السنة والجماعة بالمعنى الأصلي قواعد في ذلك. ومن هنا يتبين أن ما كان عليه السلف في الصدر الأول لم يسمَّ مذهباً في الإسلام، لأنه هو الإسلام كله، وهو كلٌ لا يتجزأ، ولا يجوز أن تفترق فيه الأمة، وقد أمرنا الله - عز وجل - بإقامة ذلك المنهج، وهو الدين: وصيته تعالى إلى الأنبياء، ومنهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬1)، لكن من غفلة البعض سمّى ذلك مذهبا ليقابل به مذاهب المبتدعين، وكذلك مسمى السلف أو السلفية أُطلق على غير الواقع، فاعتبار مسمى "السلف" أو "السلفية" مذهبا غيرُ صحيح، الصحيح أنه دليل على التزام المنهج المخصوص بالسلوك والاتباع، المجافي للابتداع في الدين، والغلو فيه، لأن القرآن إمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام لأصحابه - رضي الله عنهم -، وأصحابه أئمة لمن بعدهم، وهم التابعون رحمهم الله، هكذا أهل السنة والجماعة، كانوا متفقين هم ومن بعدهم في الرد على أصحاب الأهواء، وقد تسكع أصحاب الأهواء بآرائهم فأحدثوا بدعا مختلفة؛ جائرة عن القصد ومفارقة عن الصراط المستقيم. فالمراد "بالسلف" أو "السلفية" الذين آثروا منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يحيدوا عنه ولاسيما في الاعتقاد، ولذلك كبُر على المبتدعين ما دعا إليه السلفيون، أعني أهل السنة والجماعة، فسماهم الروافض النواصب بالنظر لغلو الرافضة في آل البيت، واعتدال أهل السنة والجماعة العارفين بفضل آل البيت، ووجوب محبتهم على السَّنن الصحيح، ويستمر السجال العقدي بين أهل السنة والغلاة بكل فرقهم وبدعهم المتنوعة، والتي لا تقف عند حد، حتى قام مجدد الاعتقاد في جزيرة العرب الإمام ¬

(¬1) الآية (159) من سورة الأنعام.

محمد بن عبد الوهاب رحمة الله علينا وعليه، معتمدا براهين الكتاب والسنة، لم يجاوز ما قال الله في كتابه العزيز، وما صح من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقسامها الثلاثة، ولاقت دعوة الإمام التصحيحية قبولا ولاسيما في جزيرة العرب، وقامت على نهج تلك الدعوة المباركة دولة التوحيد المباركة، فلم يرُقْ ذلك لأهل الأهواء ناشري الضلال، من الأئمة المضلين وأتباعهم الغوغائيين، فلقبوهم وقالوا: "وهابيون" نسبة إلى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله علينا وعليه، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب في الفقه على مذهب الإمام أحمد إمام أهل السنة، وفي العقيدة على اعتماد السلف منهج الكتاب والسنة الصحيحة والعمل بذلك، وكذلك الإمام محمد بن سعود على ذلك. وبالمناسبة ما يزعم الناس من تسمية أهل السنة "بالوهابية" غلط كبير وقع فيه الأعداء، والجهال بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فالأعداء أخذوا عيوب الفرقة الوهابية أتباع إمام الإباضية بالمغرب عبد الوهاب بن رستم، وهم من الخوارج، وقد انشقت عنهم فرقة النكارية؛ لأنهم أنكروا على عبد الوهاب بن رستم، وأتباعه أمورا لم يوافقوهم فيها (¬1)، فأخذ أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يلصقون عيوب تلك الفرقة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، واتبعهم الجهال من المسلمين، لأمور: منها العنصرية العمياء، أو السياسة الضالة، أو التدين بالبدع والخرافات، أو الجهل بكل ذلك واتباع كل ناعق. ومن هنا تعلم عداوة المبتدعين لمنهج السلف، لأن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله علينا وعليه، أحيا منهج السلف في الاعتقاد والسلوك، فكل من يرمي متبعي هذا المنهج بلقب "الوهابية" فهو مبتدع ولا ريب، وقد فارق المنهج السوي، فالسلفيون هم الذين لا يقعون في الإفراط، ولا يقبلون التفريط، أمة وسط بين الغلاة والمفرطين. ¬

(¬1) وللمزيد أنظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة 1/ 59.

الحقد على الإسلام

الحقد على الإسلام في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يرسل الله - عز وجل - نبيا من الأنبياء إلا عاداه قومه، وكذبه الكثيرون منهم، إلا ما كان من أمر قوم يونس فإنهم آمنوا به ولم يكذبوه فمتعهم الله إلى حين، قال تعالى: ... {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (¬1)، وكذلك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن به فئام من الناس، وإن كان المؤمنون به هم أكثر الأمم يوم القيامة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «عرضت علي الأمم فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم قلت: ما هذا؟ أمتي هذه؟ ، قيل: هذا موسى وقومه، قيل: انظر إلى الأفق فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب» (¬2). ومع هذه الكثرة من المؤمنين به - صلى الله عليه وسلم - فإن أعداءً بقوا على مر العصور وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك قال ورقة بن نوفل لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما أخبره بما كان يرى: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، أكون حيا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أو مخرجي هم؟ ! » فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا (¬3)، وفعلا كاد له كفار قريش وأخرجوه ومن آمن معه، واستقبله الأنصار في المدينة فأعزه الله ومن هاجر معه بنصرتهم - رضي الله عنهم -، ومع ذلك كاد له اليهود، حاولوا اغتياله حين خرج إلى بني النضير يستعينهم في عقل الكلابيين، وكانوا قد دسوا إلى قريش حين نزلوا بأحد في قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحضّوهم على القتال، ودلّوهم على العورة، فلما كلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقل الكلابيين قالوا: اجلس أبا القاسم ¬

(¬1) الآية (98) من سورة يونس. (¬2) البخاري حديث (5705). (¬3) البخاري حديث (6581) ..

حتى تطعم وترجع بحاجتك، ونقوم فنتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا له، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه من أصحابه في ظل جدار، ينتظر أن يصلحوا أمرهم فلما جلسوا والشيطان معهم لا يفارقهم ائتمروا بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: لن تجدوه أقرب منه الآن، فاستريحوا منه تأمنوا في دياركم، ويرفع عنكم البلاء فقال: رجل إن شئتم ظهرت فوق البيت ودليت عليه حجرا فقتلته، فأوحى الله إليه - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما ائتمروا من شأنه، فعصمه الله - عز وجل -، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه يريد يقضي حاجة، وترك أصحابه في مجلسهم، وانتظر أعداء الله فراث عليهم، وأقبل رجل من أهل المدينة فسألوه عنه فقال: لقيته قد دخل أزقة المدينة، فقالوا لأصحابه: عجل أبو القاسم أن يقيم أمرنا في حاجته التي جاء بها، ثم قام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجعوا، ونزل القرآن قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1)، فلما أظهر الله رسوله على ما أرادوا به، وعلى خيانتهم لله ولرسوله، أمر بإجلائهم وإخراجهم من ديارهم، وأمرهم أن يسيروا حيث شاؤوا (¬2)، ولم تكن محاولة اغتيال رسول الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الأخيرة فقد دُس له السم في الطعام، أهدت له يهودية بخيبر شاةً مصلية سمتها فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وأكل القوم فقال: «ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة» فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية فقال: «ما حملك على الذي صنعت؟ » قالت: "إن كنت نبيا لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكا أرحت الناس منك"، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلت، ثم قال في وجعه الذي مات فيه: «ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان قطعت أبهري» (¬3)، وهذه مكرمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينال أجر الشهيد، ولم تكن المواجهة في غزواته - صلى الله عليه وسلم - إلا مع الأعداء، وأطلعه الله على من أظهر له الإيمان وأبطن الكفر، ونهاه أن يصلي على أحد مات ¬

(¬1) الآية (11) من سورة المائدة .. (¬2) السنن الكبير للبيهقي حديث (18491). (¬3) أبو داود حديث (4512).

منهم، ولا يقم على قبره، فقال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1) وأخبر بهم حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - ليقي أصحابه من بعده شرهم، فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخشى على نفسه من ذلك، مات رجل من المنافقين فلم يصل عليه حذيفة - رضي الله عنه -، فقال له عمر - رضي الله عنه -: أمن القوم هو؟ ، قال: نعم، فقال له عمر: بالله منهم أنا؟ ، قال: لا، ولن أخبر به أحدا بعدك (¬2)، وقال حذيفة - رضي الله عنه -: ما بقي من المنافقين إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير، لا يجد برد الماء من الكبر (¬3)، والمنافقون فضحهم الله - عز وجل - في كتابه العزيز، تارة بأقوالهم، وأخرى بأفعالهم، وثالثة بصفاتهم: ومثال الأقوال: قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4)، ومثال الأفعال: الشنيعة أن وقف على الثنية جماعة منهم تمالأؤا على أن يرجموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلع الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أسرارهم، فانحدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الثنية، وقال لصاحبيه: حذيفة وعمار: «هل تدرون ما أراد القوم؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرادوا أن يرجموني في الثنية، فيطرحوني منها» فقالا: "أفلا تأمرنا يا رسول الله فنضرب أعناقهم إذا اجتمع إليك الناس؟ "، فقال: «أكره أن يتحدث الناس أن محمدا قد وضع يده في أصحابه (¬5) يقتلهم» ثم ذكر الحديث في دعائه إياهم، وأخباره إياهم بسرائرهم، واعتراف بعضهم وتوبتهم، وقبوله - صلى الله عليه وسلم - منهم، قال ابن إسحاق: وأمره أن يدعو حصين بن نمير، فقال له: «ويحك ما حملك على هذا؟ » قال: "حملني عليه أني ظننت أن الله لم يطلعك عليه، فأما إذا أطلعك الله عليه وعلمته، فإني أشهد اليوم أنك رسول الله، وأني لم أؤمن بك قط ¬

(¬1) الآية (84) من سورة التوبة. (¬2) مصنف ابن أبي شيبة 8/ 637 .. (¬3) عده من أصحابه بحسب الظاهر، ومعلوم أن المنافقين ليسوا من أصحابه على الحقيقة. (¬4) الآية (8) من سورة المنافقون. (¬5) السنن الكبير للبيهقي 8/ 198.

قبل الساعة يقينا" (¬1)، ولم يأمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمر يتعلق به شخصيا، وما كان ينتقم لنفسه - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه في حماية الله وعصمته، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬2). ومثال الصفات قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (¬3)، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (¬4)، وخداع المنافقين لله وللمؤمنين إظهارهم بألسنتهم من القول والتصديق خلاف الذي في قلوبهم من الشك والتكذيب، ليتقي بذلك ما يخاف من المؤمنين، فقلوبهم مريضة بما أبطنوا من الكفر، ويرون ما يقومون به من فساد إصلاحاً، وهم قليلوا الذكر لله تعالى، ومن قلة ذلك عدم شهود صلاة العشاء والفجر، إلا نزرا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لاتوهما ولو حبوا، ولقد هممت ان آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم الحطب، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فاحرق عليهم بيوتهم بالنار» (¬5)، وكذلك من صفاتهم مداومة تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس فكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله - عز وجل - فيها إلا قليلا» (¬6). ¬

(¬1) السنن الكبير للبيهقي 8/ 198. (¬2) الآية (67) من سورة المائدة. (¬3) الآيات (9 - 11) من سورة البقرة، وكذلك الآية (12) منها. (¬4) الآيتان (142، 143) من سورة النساء. (¬5) أخرجه البخاري ومسلم. (¬6) السنن الكبير للبيهقي 1/ 444.

وقد يرد السؤال، لِمَ لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم وقد علم أنهم منافقون، والجواب: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه أن يساره فأذن له، فساره في قتل رجل من المنافقين يستأذنه فيه، فجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه فقال: «أليس يشهد أن لا اله الا الله؟ » قال: بلى، ولا شهادة له «قال أليس يشهد أن محمدا رسول الله؟ » قال بلى، ولا شهادة له «قال أليس يصلي؟ » قال: بلى، ولا صلاة له «قال أولئك الذين نهيت عن قتلهم» (¬1)، فعاملهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظاهر الحال، حتى لا تقع الأمة في ضلال وحرج، فالله - عز وجل - أخبره بالمنافقين، ولكن الأمة لن يكون لها إلا ما ظهر من حال الشخص من إقامة أركان الإسلام والإيمان ولو ظاهرا، وإلا وقعت الأمة في ضلال باتهام البريء، وعدم القدرة على تمييز المنافق من غيره، وليس للأمة إلا ما قام عليه الدليل الشرعي من الكتاب والسنة. وما أشبه الليلة بالبارحة فقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شديدا على المنافقين، لا يمنعهم منه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك ذهل حينما سمع الناس يقولون: مات رسول الله، فقال - رضي الله عنه - من فرط حبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغضه للمنافقين، وقابله المغيرة فقال: "مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عمر قال: "كذبت والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يموت حتى يأمر بقتل المنافقين، بل أنت تحوشك فتنة" (¬2)، وهو اليوم شديد على الرافضة فلا يطيقون ذكره بخير، تضامنا مع إخوانهم الأقدمين، وتبقى العداوة من الأشرار لله ولرسوله وعباده الصالحين، ومن أشد العداوة للإسلام اليوم الرافضة فالله - عز وجل - يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬3)، والرافضة من الذين أشركوا، وشرك الأئمة المضلين منهم وأتباعهم الغلاة شرك أكبر، وكتبهم مليئة بذلك وأقوالهم الشنيعة على الله - عز وجل - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى علي بن أبي طالب وذريته - رضي الله عنهم -، وأفعالهم تقضي بأنهم مشركون. ¬

(¬1) السنن الكبير للبيهقي 3/ 367. (¬2) مسند إسحاق بن راهويه 3/ 726، وأصله في البخاري حديث (3467) بلفظ: «وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم». (¬3) من الآية (82) من سورة المائدة.

ادعاء النبوة

ادعاء النبوة: لإدعاء النبوة سببان في نظري: الأول: زعمهم أن من ادعى النبوة إنما سلك ذلك تبعا لمن سبق، أو أنه تعلم ذلك من الكهان، أو أنه شعرٌ تلفظ به ليأخذ بألباب السامعين، فجرى المدعي على هذا الزعم. الثاني: الرغبة في الشهرة والملك والثراء والسيادة على الناس، ولو بالدجل والكذب، وكان أول من ادعى النبوة الأسود العنسي الكاهن؛ ادعى النبوّة في اليمن واستولى على بلادها، تبعه بنو مذجح، وقاموا معه، وقائدهم سهلة بن كعب، وأخرج عمال رسول الله، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - وسادات اليمن، فأهلكه الله - عز وجل - على يد فيروز الديلمي بيَّته فقتله، وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل، فسر المسلمون، وقبض رسول الله من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول (¬1)، فإيمان العنسي بنبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يجاوز السببين المذكورين آنفا، وهو باطل وعكسه تماما إيمان أبي مسلم الخولاني، طلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ ، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ ، قال: نعم! ، فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائماً يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر رضي الله عنهما وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله (¬2). ولم يكن العنسي آخر من يدعي النبوة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسيلمة الكذاب ادعى النبوة أيضا، وتبعه بنوا حنيفة وقاموا بأمر مسيلمة، وكتب إلى رسول الله كتابا يتضمن السبب الذي دفعه إلى ادعاء النبوة، فقال: من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإن الأرض نصفها لك ونصفها لي، فأجاب - صلى الله عليه وسلم - «من محمد إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ¬

(¬1) تفسير الرازي 6/ 80. (¬2) نظم الدرر للبقاعي 5/ 313، وإمتاع الأسماع 14/ 224.

في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -

وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1)، وكان مسيلمة يقول: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة، فأنزل الله - عز وجل - فيه وفي العنسي قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (¬2)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران من ذهب، فكبرا علي فأوحي الي أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة» (¬3)، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسيلمة لا زال يدعي لنفسه النبوة، وتبعه فئام من قومه، وكذلك طليحة بن خويلد الأسدي أصابه الطمع فزعم أنه نبي، وآمن به قومه، بنو أسد، هذه الأحداث الثلاث كانت رأس الفتنة والحقد على الإسلام، أهلك الله العنسي ومن تبعه في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبقيت فتنة مسيلمة، وطليحة قائمة إلى أن ولي أبو بكر - رضي الله عنه - الخلافة (¬4). في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وإذا كان عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم من محاولات الكيد للإسلام، وإثارة الفتنة ضد ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا غرو أن يُدلي الأشرار بأفكارهم، وهم أعداء الإسلام وقد تنفسوا الصعداء بانتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، وقد جرحوا الجسد الإسلامي، وربما آلموه أحيانا كثيرة، وأنَّى لهم القضاء عليه، تدور عليهم الدوائر، وكل عمل أتوه فهو خاسر بائر، فالمرتدون بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن الإيمان رسخ في قلوبهم، فكان الشك في صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا زال يراودهم، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرجت الأفعى من حجرها، جاهدة تبث سمومها لتقتل الجسد ¬

(¬1) الآية (128) من سورة الأعراف، وانظر تفسير اللباب لابن عادل 6/ 121. (¬2) الآية (93) من سورة الأنعام. (¬3) البخاري حديث (4375) .. (¬4) بتصرف انظر: تاريخ خليفة بن خياط 1/ 103 والإصابة في تمييز الصحابة 3/ 440.

الإسلامي، وقد أدرك ذلك أبو بكر، وأعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -، قام مالك بن التيهان الأنصاري حتى وقف على قومه، فقال: "يا معشر الأنصار، أنصتوا واسمعوا مقالتي، وتفهموا ما ألقيه إليكم، اعلموا أنه قد شمتت اليهود والنصارى بموت نبينا محمد - عليه السلام -، وقد ظهرت حسيكة أهل الردة، وعُظْم المصائب علينا أن مسيلمة الكذاب خرج بأرض اليمامة يرعد ويبرق، وقد تعلمون أنه كان يدعي النبوة في حياة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والآن قد بلغني أن طليحة بن خويلد الأسدي أيضا قد ادعى النبوة ببلاد نجد، وأنا والله خائف على قبائل العرب أن ترتد عن دين الإسلام، فإن لم يقم بهذا الأمر رجل من بني هاشم، أو رجل من قريش فهو والله الهلاك والبوار"، وقد همت أكثر القبائل بالردة، بل أعلن بعضها عدم دفع الزكاة: الركن الثالث من أركان الإسلام، واجتمعت بنو حنيفة إلى مسيلمة الكذاب بأرض اليمامة، فقلدوه أمرهم وادعى أنه نبيهم، فارتدت بنو أسد ورأسوا على أنفسهم طليحة بن خويلد الأسدي، وهو الذي ادعى النبوة في أرض بني أسد، وارتدت فزارة ورأسوا عليهم عيينة بن حصن الفزاري، وارتدت بنو عامر وغطفان، ورأسوا على أنفسهم قرة بن سلمة القشيري، وارتدت بنو سليم ورأسوا على أنفسهم الفجاءة بن عبد ياليل السلمي، وارتدت طائفة من بني تميم ورأسوا عليهم امرأة يقال لها سجاح. وبلغ ذلك أبا بكر - رضي الله عنه - فاغتم، بادر إلى المسجد فنادى في العرب، فقام في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إنما أنا رجل منكم أغني ما تغنون، وأحامي كما تحامون، وأنتم شركائي في هذا الأمر"، دارت الشورى بين موافق على القتال ومخالف، ولكن الله سلم وجعل الناس يجتمعون إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، من كل ناحية، ويتقربون إليه، وإلى الله تعالى بقتال أهل الردة، فقد برئ الله منهم لرجوعهم عن دين الإسلام، ومنعهم الزكاة، وعزم أبو بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يوجه إليهم بخالد بن الوليد في المهاجرين والأنصار، فكانوا سيفه القاطع، ورمحه النافذ، وسهمه الصائب - رضي الله عنهم -. ضج المسلمون إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، وقالوا: "يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا تسمع إلى ما قد انتشر من ذكر هذا الملعون الكذاب بأرض اليمامة؟ ! ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: لا

تعجلوا، فإني أرجو أن يكون الله تبارك وتعالى قد أذن بهلاكه، ثم كتب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى خالد بن الوليد، وهو يومئذ مقيم في البطاح: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عثمان، خليفة رسول الله - رضي الله عنه - إلى خالد بن الوليد ومن معه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، أما بعد: يا خالد، فإني قد أمرتك بالجد في أمر الله، والمجاهدة لمن تولى عنه إلى غيره، ورجع عن دين الإسلام والهدى، إلى الضلالة والردى، وعهدي إليك يا خالد أن تتقي الله وحده لا شريك له، وعليك بالرفق والتأني". هذا في شأن مسيلمة الكذاب مدعي النبوة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتم القضاء عليه، نعق الغراب فتبعه كل غراب، إلا من تاب بعد ذلك وأناب، لما قام لهم السيف والكتاب، والسنة وفصل الخطاب، جيَّشَ لهم أبو بكر خليفة رسول الله، من خيرة الأصحاب من أذلهم فقُتل من قُتل، وعاد منهم من عاد إلى الحق والصواب. بعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فقتل مسيلمة الكذاب، وقاتل بني حنيفة وأهل الردة وأطاعوه، وكان عامر بن الطفيل الدوسي (¬1)، من أصحاب الرايات ممن شهد اليمامة مع خالد بن الوليد (¬2). دعا أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فعقد له عقدا، وضم إليه الجيش، ثم قال: "يا خالد، سر نحو طليحة بن خويلد الأسدي ومن معه من بني أسد وغطفان وفزارة، وانظر إذا وصلت إلى القوم ونزلت بديارهم وسمعت أذانا، فلا تقاتلن أحدا حتى تعذر إليهم وتنذرهم، ثم دسس إلى أمرائهم وأشرافهم فأعطهم من المال على أقدارهم، وانظر إذا وافيتهم، فلا تنزلن بهم نهارا فيروا عسكرك، ويعلموا ما فيه من الناس، ولكن انزل بهم ليلا عند وقت نومهم، ثم ارعوا إبلكم وحركوا أسلحتكم، وهولوا عليهم ما قدرتم، وإن أظفركم الله بطليحة بن خويلد وأصحابه، فسر نحو البطاح من أرض تميم، إلى مالك بن نويرة، وأصحابه ولعلي آتيك من ناحية أخرى إن قدرنا على ذلك، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". ¬

(¬1) بتصرف، انظر: فتوح الشام 1/ 5، 199. (¬2) هذا في نظري خطأ، إنما هو الطفيل بن عمرو، وقد بينت ذلك في كتابي الجوس في من نسب إلى دوس.

فقال خالد: "يا خليفة رسول الله، فإذا أنا وافيت القوم، فإلى ما أدعوهم؟ ، قال: ادعهم إلى عشر خصال، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والطاعة، والجماعة"، ثم كتب إليهم أبو بكر - رضي الله عنه - (¬1). ولقي خالد - رضي الله عنه - القوم ومنهم طليحة وقومه، فانهزم طليحة إلى الشام، ثم أسلم وحسن إسلامه، أحرم بالحج، فرآه عمر، فقال: "إني لا أحبك بعد قتل الرّجلين الصّالحين: عكّاشة بن محصن، وثابت بن أقرم"، وكانا طليقين لخالد، فلقيهم طليحة وسلمة فقتلاهما، فقال طليحة: "هما رجلان أكرمهما اللَّه بيدي ولم يهني بأيديهما" (¬2). فالردة كانت من أعظم ما حدث بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أمرها عظيما، ووقتها عصيبا، فالمرتدون على أحوال: منهم من كان حديث عهد بإسلام فكان من السهل أن تجتاحه الفتنة، ويُلم به هاجس الشيطان، فوقعت منه الردة. ومنهم من منع الزكاة ولم يرتد عن الشهادتين وبقية فرائض الإسلام، وتأول قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3)، فقال: كنا ندفعها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله أمره أن يأخذ من أموالنا صدقة يطهرنا بها، ويصلي علينا - يدعو لهم - فصلاته سكن لنا، وليس ذلك لأبي بكر. ومنهم من ارتد طمعا في السيادة والملك. وعلى هذا أكثر قبائل العرب إلا من ادعى فيهم النبوة وصدقوه ولو ظاهرا، كقوم سجاح بنت المنذر، وقيل بنت الحارث التميمي (¬4): الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة، في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها. ¬

(¬1) بتصرف، انظر: كتاب الردة للواقدي 1/ 49، 50، 65، 70، 71، 112. (¬2) بتصرف انظر: تاريخ خليفة بن خياط 1/ 103 والإصابة في تمييز الصحابة 3/ 440. (¬3) الآية (103) من سورة التوبة. (¬4) وقيل: سجاح بنت الحارث التغلبية، كانت من نصارى العرب، وقد ادعت النبوة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالتف حولها أناس كثير من قومها ومن غيرهم، وغزت بهم القبائل المجاورة، حتى وصلت إلى بني تميم، فاصطلحوا معها، وسارت حتى وصلت اليمامة، والتقت بمسيلمة وصدقته وتزوجها، ولما قتل مسيلمة رجعت إلى بلادها وأقامت في قومها بني تغلب، ثم أسلمت وحسن إسلامها، ثم انتقلت بعد ذلك إلى البصرة وماتت بها، أشراط الساعة 1/ 66.

في عهد عمر - رضي الله عنه -

فكان الكتاب والسنة لهم بالمرصاد، أنفذ أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشا لمحاربتهم، مع أنه لم يعلم عنهم الامتناع عما سوى الزكاة من فرائض الإسلام، لكن الإخلال بركن واحد من أركان الإسلام إخلال بالكل، ولذلك قال أبو بكر - رضي الله عنه -: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه" فقال عمر: "فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق" وفي رواية "عناقا" وهو أصح (¬1). فبفضل الله ثم بجهود أبي بكر، والصحابة من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان عاد الأمر إلى نصابه، ومع ذلك بقيت لعمر ومن بعده بقية فتن، والله المستعان. في عهد عمر - رضي الله عنه - لم تكن الردة قاصرة على ما سبق بل لعهد أمير المؤمنين عمر الفاروق نصيب من ذلك وإن قلَّ، فقد ارتد في عهده - رضي الله عنه - بنوا غسان قوم جبلة بن الأيهم، قاتل عامر بن الطفيل الدوسي، وابنه جندب (¬2) في معركة اليرموك، وكان تنصر ولحق بالشام هو وقومه، ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتاباً فيه: إن جبلة ورد إليَّ في سراة قومه، فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة، فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ ! ، فقلت: شملك ¬

(¬1) البخاري حديث (7284) ومسلم حديث (22). (¬2) هكذا ورد ذكرهما في فتوح الشام، ولعل اشتباها وقع بالطفيل بن عمرو، وابنه عمرو، أوضحت ذلك في كتاب الجوس في من إلى دوس.

وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتداً، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد (¬1): تنصرت بعد الحق عارا للطمة ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر فأدركني منها لجاج حمية ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمي لم تلدني وليتني ... صبرت على القول الذي قاله عمر لم نسمع بمدع للنبوة في عهد الفاروق عمر - رضي الله عنه - والذي يظهر أن الإسلام بعد حروب الردة وقر في قلوب الناس، ولسطوة عمر وقوته دور في تثبيت الحق، فقد كان سيفا للحق مصلتا على رقاب الزنادقة، وكم كان يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعني اضرب عنقه فإنه منافق" وهو الرجل الذي استجاب الله دعوة نبيه فيه حين قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام» (¬2)، فكان عمر - رضي الله عنه - هو عز الإسلام، وكان أبو جهل عدو الإسلام، وهو ابن عم أم عمر بن الخطاب، وكذلك خالد بن الوليد رضي الله عنهما. لم يكن عمر جبارا بل باحثا عن العدل، مناصرا للحق، وقافا عنده لا يعدوه إلى غيره، ولما كثر المسلمون في عهد عمر - رضي الله عنه - ضاق بهم المسجد، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور، إلا دار العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، وحجر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فقال عمر للعباس: "يا أبا الفضل إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم، وقد ابتعت ما حوله من المنازل، نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم، فقال العباس: ما كنت لأفعل، قال فقال له عمر: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين، وإما أن أخططك حيث شئت من المدينة وابنيها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فنوسع بها في مسجدهم، فقال: لا ولا واحدة منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت، فقال: أبي بن كعب"، فانطلقا إلى أبي فقصا عليه القصة فقال أبي: "إن شئتما حدثتكما ¬

(¬1) تفسير الألوسي 5/ 21. (¬2) الطبقات لابن سعد 3/ 242.

الحقد المجوسي

بحديث سمعته من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: حدثنا، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخط له هذه الخطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياه فأبي، فحدث داود نفسه أن يأخذ منه، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا اذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك أن لا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي؟ ، قال: من ولدك"، قال فأخذ عمر بمجامع ثياب أبي بن كعب وقال: "جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه، لتخرجن مما قلت، فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيهم أبو ذر فقال: إني نشدت الله رجلا سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره". فقال أبو ذر: "أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال آخر: أنا سمعته، وقال آخر أنا سمعته، يعني من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأرسل عمر أبيا، قال: وأقبل أبي على عمر فقال: يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: يا أبا المنذر، لا والله ما أتهمتك عليه، ولكني كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا، قال: وقال: عمر للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس: أما إذ فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين، أوسع بها عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، قال: فخط عمر لهم دارهم التي وبناها من بيت مال المسلمين" (¬1)، الله أكبر أي عدل هذا، وأي بحث عن الحق، والتزام به عند ظهوره، إن هذا نتاج مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم -. لكن يبقى الحاقدون على الإسلام يمارسون ما تهوى أنفسهم من الضلال، والانتقام للجاهلية الجهلاء، فيظهر الحقد المجوسي منتقما. الحقد المجوسي: علمنا من تأويل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤياه، ورؤى الأنبياء حق، قال - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت الناس مجتمعين في صعيد فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي بعض نزعه ضعف ¬

(¬1) الطبقات الكبرى لابن سعد 4/ 22.

والله يغفر له ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غربا فلم أر عبقريا في الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن» (¬1)، قال العلماء: هذا المنام مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بركته وآثار صحبته، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب الأمر فقام به أكبر قيام، وقرر قواعد الإسلام، ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2)، ثم توفي - صلى الله عليه وسلم - فخلفه أبو بكر - رضي الله عنه - سنتين وأشهرا، وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - ذنوبا أو ذنوبين - وهذا شك من الراوي - والمراد ذنوبان، كما صرح به في الرواية الأخرى، وحصل في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم، واتساع ملك الإسلام، ثم توفي فخلفه عمر - رضي الله عنه -، فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله، فعبَّر بالقليب عن أمر المسلمين، لما فيها من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبَّه أميرهم بالمستقى لهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم، وتدبير أمورهم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر - رضي الله عنه -: وفي نزعه ضعف، فليس فيه حطّ من فضيلة أبي بكر، ولا إثبات فضيلة لعمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر لطولها، ولاتساع الإسلام وبلاده، والأموال وغيرها، والفتوحات، ومصَّرَ الأمصار، ودوَّنَ الدواوين. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: والله يغفر له، فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذنب، وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم، ونعمت الدعامة، وقد سبق في صحيح مسلم أنها كلمة كان المسلمون يقولونها: افعل كذا والله يغفر لك. قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر، وصحة ولايتهما، وبيان صفتها، وانتفاع المسلمين بها (¬3). ¬

(¬1) البخاري حديث (3633). (¬2) من الآية (3) من سورة المائدة. (¬3) مسلم حديث (2392) تعليق محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله.

هذا ما أثار الحقد المجوسي، ولاسيما فتح بلاد فارس، وتطهيرها من عبادة غير الله - عز وجل -، فحرك المجوس أصابعهم، واستطاعوا بقدر من الله - عز وجل - أن يصلوا إلى رمز الإسلام عمر بن الخطاب بتحريك ذلك العلج المجوسي ليقضي الله أمرا كان مفعولا، كان أبو لؤلؤة المجوسي أشقى الخلق بما أقدم عليه من قتل عمر بن الخطاب، وكان أبو لؤلؤة المجوسي مملوكا للمغيرة، وكان قتلُه عمر مؤامرة منه مع غيره من المجوس الأسرى، الذين جيء بهم أسرى إلى المدينة (¬1)، فقال: إن المغيرة قد جعل عليَّ من الخراج ما لا أطيق، قال: كم جعل عليك؟ قال: كذا وكذا، قال: وما عملك؟ قال: أجوب الأرجاء (¬2)، قال: وما ذاك عليك بكثير، ليس بأرضنا أحد يعملها غيرك، ألا تصنع لي رحى؟ ، قال: "بلى والله، لأجعلن لك رحى يسمع بها أهل الآفاق"، فخرج عمر إلى الحج، فلما صدر اضطجع بالمحصب، وجعل رداءه تحت رأسه، فنظر إلى القمر فأعجبه استواؤه وحسنه، فقال: "بدأ ضعيفا ثم لم يزل الله يزيده وينميه حتى استوى، فكان أحسن ما كان، ثم هو ينقص حتى يرجع كما كان، وكذلك الخلق كله"، ثم رفع يديه فقال: "اللهم إن رعيتي قد كثرت وانتشرت فاقبضني إليك غير عاجز ولا مضيع" فصدر إلى المدينة فذُكر له أن امرأة من المسلمين ماتت بالبيداء، مطروحة على الارض يمر بها الناس لا يكفنها أحد، ولا يواريها أحد حتى مر بها كليب بن البكير الليثي، فأقام عليها حتى كفنها وواراها، فذكر ذلك لعمر فقال: "من مر عليها من المسلمين؟ "، فقالوا: لقد مر عليها عبد الله بن عمر فيمن مر عليها من المسلمين، فدعاه وقال: "ويحك! مررت على امرأة من المسلمين مطروحة على ظهر الطريق، فلم توارها ولم تكفنها؟ ، قال: ما شعرت بها ولا ذكرها لي أحد، فقال: لقد خشيت أن لا يكون فيك خير، فقال: من واراها وكفنها؟ قالوا: كليب بن بكير الليثي، قال: والله لحري أن يصيب كليب خيرا"، فخرج عمر يوقظ الناس بدرته لصلاة الصبح، فلقيه الكافر أبو لؤلؤة فطعنه ثلاث طعنات بين الثنة والسرة، وطعن كليب بن بكير فأجهز عليه، وتصايح الناس، فرمى رجل على رأسه ببرنس ثم اضطبعه إليه، وحمل عمر إلى الدار ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة 8/ 576. (¬2) جمع رحى، فهو يقطعها من الحجارة، ويصنعها ..

فصلى عبد الرحمن بن عوف بالناس، وقيل لعمر: الصلاة فصلى وجرحه يثعب، وقال: "لا حظ في الاسلام لمن لا صلاة له" فصلى ودمه يثعب، ثم انصرف الناس عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ليس بك بأس، وإنا لنرجو أن ينسئ الله في أثرك ويؤخرك إلى حين، أو إلى خير، فدخل عليه ابن عباس وكان يعجب به، فقال: "اخرج فانظر من صاحبي؟ " ثم خرج فجاء فقال: أبشر يا أمير المؤمنين، صاحبك أبو لؤلؤة المجوسي: عبد المغيرة بن شعبة، فكبر حتى خرج صوته من الباب، ثم قال: "الحمد لله الذي لم يجعله رجلا من المسلمين، يحاجني بسجدة سجدها لله يوم القيامة" ثم أقبل على القوم فقال: "أكان هذا عن ملإ منكم؟ " فقالوا: معاذ الله، والله لوددنا أنا فديناك بآبائنا، وزدنا في عمرك من أعمارنا، إنه ليس بك بأس، قال: "أي يرفأ، ويحك، اسقني" فجاءه بقدح فيه نبيذ حلو فشربه، فألصق رداءه ببطنه، قال: فلما وقع الشراب في بطنه خرج من الطعنات، قالوا: الحمد لله، هذا دم استكن في جوفك، فأخرجه الله من جوفك، قال: أي يرفأ، ويحك، اسقني لبنا، فجاء بلبن فشربه، فلما وقع في جوفه خرج من الطعنات، فلما رأوا ذلك علموا أنه هالك، قالوا: جزاك الله خيرا، قد كنت تعمل فينا بكتاب الله، وتتبع سنة صاحبيك، لا تعدل عنها إلى غيرها، جزاك الله أحسن الجزاء، قال: "بالإمارة تغبطونني، فو الله لوددت أني أنجو منها كفافا لا علي ولا لي، قوموا فتشاوروا في أمركم، أمروا عليكم رجلا منكم، فمن خالفه فاضربوا رأسه" قال: فقاموا وعبدالله بن عمر مسنده إلى صدره، فقال عبدالله: "أتؤمرون وأمير المؤمنين حي؟ "، فقال عمر: "لا، وليصل صهيب ثلاثا، وانتظروا طلحة، وتشاوروا في أمركم، " قال: "اذهب إلى عائشة فاقرأ عليها مني السلام، وقل: إن عمر يقول: إن كان ذلك لا يضر بك ولا يضيق عليك، فإني أحب أن أدفن مع صاحبي، وإن كان يضربك ويضيق عليك، فلعمري لقد دفن في هذا البقيع من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمهات المؤمنين من هو خير من عمر" فجاءها الرسول فقالت: "إن ذلك لا يضر ولا يضيق عليّ" قال: "فادفنوني معهما" قال عبدالله بن عمر: "فجعل الموت يغشاه وأنا أمسكه إلى صدري" قال: "ويحك ضع رأسي بالأرض" قال: "فأخذته غشية فوجدت من ذلك"

في عهد عثمان - رضي الله عنه -

فأفاق فقال: "ضع رأسي بالأرض" فوضعت رأسه بالأرض فعفره بالتراب فقال: "ويل عمر وويل أمه إن لم يغفر الله له". قال محمد بن عمرو: وأهل الشورى: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (¬1). وأخيرا تحققت الشهادة لعمر - رضي الله عنه - أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقدم بيان ذلك. في عهد عثمان - رضي الله عنه -: كانت المؤشرات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عهد عثمان - رضي الله عنه - منذر بخطر، كما تقدم وقد نبتت في عهده - رضي الله عنه - الفتنة التي طار شررها شيئا فشيئا حتى عم الأمصار الإسلامية، وافترقت الأمة بسبب ذلك فرقا أصولها ثلاث وسبعون فرقة، وهي اليوم أكثر من ذلك، فأول ما ظهر وميض الفتنة في مجلس سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة، وذلك على أثر كلام دار في مجلسه، كان من الحاضرين فيه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وابن الكواء، وغيرهم، وعدتهم بضعة عشر رجلا، تألبوا على عصبية أثاروا بذلك أقوالا على سعيد بن العاص، فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان في إخراجهم فكتب: "إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية" (¬2). وكتب عثمان إلى معاوية: "إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا للفتنة، فارعهم وقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل منهم، وإن أعيوك فارددهم عليهم" (¬3). فلما قدموا على معاوية - رضي الله عنه - رحب بهم واحتفى بهم، وذكَّرهم فضل قريش في العرب، وقد بلغه أنهم ينقمون من قريش، فذكّرهم بالإسلام ووعظهم، فلم يرق لهم ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة 8/ 581 - 582. (¬2) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 36. (¬3) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 37.

ما قال معاوية - رضي الله عنه - في مدح قريش، وقال أحدهم: "أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا" (¬1). فقال معاوية: "عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أُعظِّم عليك أمر الإسلام، وأذكّرك به، وتذكّرني الجاهلية، وقد وعظتك" (¬2). ثم قال - رضي الله عنه -: "إن قريشا لم تُعَز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله - عز وجل -، لم تكن بأكثر العرب، ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله الذي لا يُستذل من أعز، ولا يوضع من رفع، فبوأهم حرما آمنا يتخطف الناس من حولهم، هل تعرفون عربا، أو عجما، أو سودا، أو حمرا، إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة، إلا ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا، وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا، فكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله، أَفَتراه لا يحطوهم وهم على دينه، وقد حاطهم في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم! أفٍ لك ولأصحابك! " (¬3). أذن لهم معاوية - رضي الله عنه - بعد كلام طويل اقتبسنا منه ما تقدم، وقال - رضي الله عنه -: "اذهبوا حيث شئتم، فإني كاتب إلى أمير المؤمنين فيكم" (¬4)، وهؤلاء هم أول الخوارج. كتب معاوية - رضي الله عنه - إلى عثمان - رضي الله عنه -، مبينا ضلالهم وفساد معتقدهم، وأن الله سيفضحهم، ويكشف أسرارهم، وتمادى القوم في طلب الفتنة، فلم يفجأ الناس في يوم جمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول: "أيها الناس إني قد جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيدا يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، وردّ أولى البلاء ¬

(¬1) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 37. (¬2) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 37. (¬3) نهاية الأرب في فنون الأدب (19/ 463، والفتنة ووقعة الجمل 1/ 38. (¬4) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 39.

منكم إلى ألفين، ويزعم أنّ فيكم بستان قريش" فاستخف النّاس، وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمعون منهم (¬1). وهكذا تدرج طلب الفتنة، ومن طلابها الأشتر ومن سايره، ولاسيما بعد وقوفه على باب المسجد معلنا ذلك الخبر المكذوب، وأخذ شرر الفتنة يتناثر، حتى أسعرها عدو الله ورسوله عبدالله بن سبأ لعنه الله، ولعن من والاه، فإنه يهودي من أهل صنعاء، أمه سوداء أظهر الإسلام زمان عثمان - رضي الله عنه -، وأبطن الكفر والحقد على الإسلام، وتنقل في بلدان المسلمين ينشر الضلال، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: "لَعجبٌ ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويُكذِّب بأن محمدا يرجع وقد قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬2)، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى" فقُبل ذلك عنه، رغم أنه استدلال باطل، ووضع لهم عقيدة الرجعة فتكلموا فيها، ثم قال لهم بعد ذلك: "إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصى محمد، ثم قال: محمد خاتم الانبياء، وعلي خاتم الأوصياء" ثم قال بعد ذلك: "من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووثب على وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وتناول أمر الأمة، ثم قال لهم بعد ذلك: "إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، واظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر" (¬3). هكذا سمى ضلاله أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وما هو إلا أمر بالمنكر، وهو الحقد على الإسلام، وتفكيك جماعة المسلمين، وشرذمتهم لتضعف شوكتهم، ويسهل القضاء عليهم، ونهي عن المعروف، والمنكر عنده الإسلام برمته، واجتماع المسلمين على الكتاب والسنة، نشر ابن السوداء الفتنة بين المسلمين، ¬

(¬1) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 45. (¬2) من الآية (85) من سورة القصص. (¬3) الفتنة ووقعة الجمل 1/ 49.

فتنة الخلاف

فتجول في الأمصار، ولم يسلم من شره بادئ ذي بدء إلا المدينة، كان نشاطه في مصر، والبصرة والكوفة، وتجول في الأعراب، وكان الكذب والتزوير مطيته للوصول إلى قلوب الناس، والتأثير عليهم بحب آل البيت، ونصرة علي بن أبي طالب الخليفة الراشد - رضي الله عنه -، وزعم أن عثمان - رضي الله عنه - لا حق له في الخلافة، فاجتمع له عدد من الناس، أشعل بهم الفتنة، فاتّهم ولاة عثمان على الأمصار بكتب مزورة يرسلها من مصرٍ إلى مصرٍ، استفسد بها الكثيرين من الناس، وتعاونوا على الإثم والعدوان، حتى استمالوا بعض من بعثه عثمان لمعرفة حقيقة الأمر، ونتج عن جهود ابن السوداء المعروف بعبدالله بن سبأ انشقاق فرقتين من المسلمين، فرقة أخذت برأيه في عثمان - رضي الله عنه - وهم الخوارج، والفرقة الثانية أخذت برأيه في الرجعة والوصية وهم الرافضة. فتنة الخلاف لا نشك في أن أتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - على درجات متفاوتة في فهم الإسلام وتطبيقه، منذ عهد الصحابة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ونعلم أن الأفهام تختلف، ويقبل منها في أحيان، لكنها مقيدة بعدم مصادمة الإسلام، ونريد بالإسلام ما قام البرهان عليه من الكتاب العزيز، وصحيح السنة النبوية، وما أجمع عليه علماء الأمة، وقد تعددت الأفهام من أصحاب رسول الله، فالإنفاق في سبيل الله مثلا: فهم منه أبو بكر - رضي الله عنه - أنه دفع المال كاملا، وفهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه نصف المال، وفهم أبو ذر - رضي الله عنه - أن ما يزيد عن القوت اليومي يجب إنفاقه، هذا اجتهاد من كل منهم - رضي الله عنهم -، والدافع إليه حب الخير والتنافس في نصرة الإسلام، والمستند في هذا عموم قول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1)، فالمسارعة في العبادات البدنية والمالية، وما هو مشترك بينهما كالحج والعمرة مطلوب بعموم هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬2)، وهذا حث على إنفاق ما هو نفيس في طاعة الله، لأن الردي لا ينبغي التقرب به إلى الله مع ¬

(¬1) الآية (133) من سورة آل عمران. (¬2) الآية (92) من سورة آل عمران.

وجود الطيب النفيس، وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1)، كل هذا من أجل التنافس في الخير، وإن اختلفت الآراء في نوع المنافسة والتفاوت فيها، فهذا التفاوت لا يشقي أصحابه، ما داموا يدورون في فلك الإسلام، ولم تفرقهم الأفهام في أصول الدين وقواعده الكلية، كالأئمة الأربعة رحمهم الله، ومن نهج نهجهم، في البناء على الأدلة والبراهين، والاستنباط منها، فلا يبعدهم عن الإسلام ما وقع بينهم من الخلاف في الفروع، هذا ما درجت عليه الأمة في القرون المفضلة، مجتمعة على الإسلام، قامعة لكل من يثير الخلافات الهدامة، والتي يقصد منها إثارة الشبه، ولذلك وصفت هذه القرون بأنها خير القرون، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». قال عمران - رضي الله عنه -: لا أدري، أذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... «إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن) (¬2)، وهذه الخيرية أساسها دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار، وأبناء الأنصار (¬3)، فإن الخير فيهم وفي عقبهم موجود بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير معدوم في المهاجرين وأبنائهم وأبناء أبنائهم، ولا في غيرهم من الذين أتوا من بعدهم وهم يقولون: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬4)، وعلى هذا تأسست قوة الإسلام، وتماسك بنيانه، وتوحدت أفكار المسلمين. وعلى هذا الأساس فإن كل خلاف يقع بين المؤمنين لا يعدو البحث عن الحق؛ فإذا ظهر الحق إلتأم الشمل وزال الخلاف، وعلى هذا ما جرى بين المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - في سقيفة بني ساعدة حسم الأمر لما ظهر الحق، وكذلك خلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في قتال أهل الردة لما ظهر الحق إلتأم الشمل وتوحدت الكلمة، في وصية أبي بكر بالخلافة لعمر لما بان الحق رجع من تخوف من شدة عمر، وعلم أن أبا بكر ما أراد إلا العدل، والخير للأمة؛ فإنه عليم بفضل عمر، ولم تكن شدته ¬

(¬1) الآية (261) من سورة البقرة .. (¬2) أخرجه البخاري، حديث (2651) ومسلم حديث (2535). (¬3) أنظر: المعجم الكبير للطبراني حديث (49، 72). (¬4) من الآية (10) من سورة الحشر.

إلا في إحقاق الحق، وقمع الباطل، وإذا كان بعض الصحابة شارك في الخلاف على عثمان، فإنه لِما وقع من استغلال من غير الصحابة، قال أبو جعفر القارئ مولى ابن عباس: "كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة, رأسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي, وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي, وعمرو بن الحمق الخزاعي، والذين قدموا من الكوفة مائتين, رأسهم مالك الأشتر النخعي, والذين قدموا من البصرة مائة رجل رأسهم حكيم بن جبلة العبدي، وكانوا يدا واحدة في الشر، وكان حثالة من الناس قد ضووا إليهم، قد مزجت عهودهم وأماناتهم, مفتونون, وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين خذلوا عثمان كرهوا الفتنة، وظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فندموا على ما صنعوا في أمره، ولعمري لو قاموا أو قام بعضهم فحثا في وجوههم التراب لانصرفوا خاسرين" (¬1)، على أن الذين كرهو الفتنة ووقفوا على الحياد هم عدد غير قليل؛ قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرات الألوف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين" (¬2). قلت: هذه شهادة موثقة بكبار الأئمة، تكتب بماء الذهب لصحتها، لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقته (¬3)، ولكن تقدم أن من حضر للدفاع عن عثمان - رضي الله عنه - كانوا ستمائة، فلعل الغالب من غير الصحابة، فنلاحظ أن الذين وقفوا مع عثمان - رضي الله عنهم - وكانوا على استعداد للدفاع عنه؛ لأنهم عرفوا أن من قدم من مصر والكوفة والبصرة ما هم إلا خوارج الفتنة من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة، فهم يريدون قتل عثمان أو تسفك دماء دونه، لذلك عزم عثمان عليهم بعدم القتال دفاعا عنه، جاء زيد بن ثابت إلى عثمان فقال له: "إن الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصارا لله مرتين" فقال عثمان: "أما القتل فلا" وقال: "أنا ¬

(¬1) الطبقات الكبرى 3/ 71. (¬2) الوجيز المفيد في تبيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان 1/ 7. (¬3) الوجيز المفيد في تبيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان 1/ 7.

فتنة الخروج

أكلهم إلى الله ولا أقاتلهم؛ فإن ذلك أعظم لحجتي عليهم" وقال - رضي الله عنه -: "أعظمكم عني غناءً رجل كف يده وسلاحه" وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "كنت في الدار يوم قتل عثمان فسمعته يقول: عزمت على من رأى لنا عليه سمعا وطاعة أن يلقي سلاحه، فألقى القوم أسلحتهم إلا مروان فإنه قال: وأنا أعزم على نفسي ألا ألقي سلاحي، قال: وكان شجاعا، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فألقيت سيفي فلا أدري من أخذه" (¬1). وبعض الصحابة الذين لم يقفوا مع عثمان كان هاجسهم الخوف من الفتنة، فكان القادمون من مصر والكوفة والبصرة بغاة لهم مآرب أفسدت ذات البين، وشرذمة الأمة، وتجلى خطر الخوارج بعد التحكيم فيما بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ولو طلبوا الحق ولم يكن لهم مآرب غير مشروعة لما قتل عثمان - رضي الله عنه -. فتنة الخروج: لم تكن هذه الفتنة غائبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أُطلع على وقوعها وحذر منها - صلى الله عليه وسلم -، قال مُرة البهزي: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم في طريق من طرق المدينة فقال: «كيف تصنعون في فتنة تثور في أقطار الارض كأنها صياصي (¬2) بقر؟ » قالوا: فنصنع ماذا يا نبي الله؟ قال: «عليكم بهذا وأصحابه» قال: فأسرعت حتى عطفت على الرجل، فقلت: هذا يا نبي الله؟ ، قال: «هذا» فإذا هو عثمان (¬3)، هذه الرواية تشير إلى أن عثمان على الحق، وأنه شهيد بسببها، فقد صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -، فرجف بهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أثبت أحد فإنما عليك نبي، وصديق، وشهيدان» (¬4)، وكما استشهد عمر - رضي الله عنه - بطعنة من الحقد المجوسي، فسيكون ذلك لعثمان - رضي الله عنه -، فإن الخوارج له بالمرصاد وقدر الله نافذ، كما في حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: «كان الناس يسألون ¬

(¬1) أنساب الأشراف للبلاذري 5/ 563. (¬2) يعني قرونها وإنما سميت صياصي لأنها حصونها التي تحصن بها من عدوها. غريب الحديث للقاسم بن سلام 2/ 84. (¬3) مصنف ابن أبي شيبة 8/ 583. (¬4) البخاري حديث (3675).

مزاعم الرافضة ضد عثمان

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ ، قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ ، قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ ، قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ ، قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ ، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ ، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (¬1)، صحيح أن حديث حذيفة هذا عام في الفتن التي تظهر في كل زمان، لكن تضمن النبأ عن أصول الفتن فتنة الخوارج قتلة عثمان - رضي الله عنه - وفتنة الروافض الغالين في علي وذريته - رضي الله عنهم -، وقد تقدم الكلام عن الخوارج في خلافة عثمان - رضي الله عنه - واستشهاده على أيديهم، وسيأتي مزيد بيان عنهم في خلافة علي - رضي الله عنه -، ولم يكن الرافضة أحسن حالا من الخوارج في محاربة عثمان - رضي الله عنه -، بل جدوا في ذلك، وأرعدوا وأبرقوا، ولهم مزاعم. مزاعم الرافضة ضد عثمان زعم طاغية الشيعة ومدلسهم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه منهاج الكرامة أن عثمان ولَّى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية (¬2)، فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، بأن عليا - رضي الله عنه - ولى زياد بن أبي سفيان، وولى الأشتر النخعي، وولى محمد بن أبي بكر، وأمثال هؤلاء، ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان كان خيرا من هؤلاء كلهم. ¬

(¬1) البخاري حديث (6673) .. (¬2) العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية 1/ 87. (¬3) منهاج السنة 3: 173 - 176.

قال رحمة الله علينا وعليه: "ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان أنه ولَّى أقاربه من بني أمية، ومعلوم أن عليا ولَّى أقاربه من قبل أبيه وأمه، فولَّى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولَّى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل: إنه ولَّى عليها سهل بن حنيف وقيل: ثمامة بن العباس، وأما البصرة فولَّى عليها عبد الله بن عباس، وولَّى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره؛ لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر، وكان محمد صغيرا". ثم إن الإمامية تدَّعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة - أو على ولده، وولده على ولده الآخر وهلم جرا - ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكرا، فتولية الخلافة العظمى أولى من إمارة بعض الأعمال. . .، وإذا قال قائل: لعليّ حجة فيما فعله، قيل له: وحجة عثمان فيما فعله أعظم. وإذا ادَّعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه أَلْسِنة الطاعنين، كان ما يُدَّعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع أَلْسِنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول. . .، ثم قال رحمة الله علينا وعليه: إن بني أمية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم: أبو بكر وعمر، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج، وعلى صنعاء واليمن حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عُرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء الحضرمي - حليف بني أمية - حتى توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول عثمان: أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده. . .، فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل، وذلك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل، والذي

يستعرض حياة عمال عثمان وجهادهم وفضائلهم يراهم في الذروة العليا من رجال الدولة، ولا يتردد في أنهم من بناة الأساس الأقوم من مجد الإسلام الإداري والعسكري، ولهم ثواب نتائجه في الفتوح وانتشار دعوة الإسلام بما يعده التاريخ من معجزاته الخارقة للعادات - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

(¬1) بتصرف، انظر منهاج السنة 3/ 236 - 237.

القسم الثاني افتراق الأمة الإسلامية

القسم الثاني افتراق الأمة الإسلامية كانت الأمة في حياة نبيها الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، كانت أمة واحدة على البيضاء لم يزغ أحد من المسلمين عنها، فلما انتقل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، تحركت القلوب المريضة، والتي كانت قريبة عهد بالجاهلية فأوجدت ثلما في ذلك المنهج القويم، فكانت سيوف الصحابة بقيادة أبي بكر خليفة رسول الله - رضي الله عنه - لهم بالمرصاد، ضربت المرتدين بيد من حديد، فقتل منهم من قتل، وتاب من تاب، واستقام أمر الأمة في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -، وصار في عهد أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - على أحسن ما يرام، وكان بابا مؤصدا في وجوه الزنادقة، فلما قتل كسر الباب ولن يغلق أبدا (¬1)، فتولى عثمان - رضي الله عنه - أمر المسلمين، ولكنه موعود بالبلاء، ولاسيما وقد كسر الباب، فاتسع الخرق على الراقع حتى قتل عثمان، وفي عهده - رضي الله عنه - نبتت فرقة الخوارج: أول فرقة خرجت عن نهج الأمة الصحيح؛ وذلك أول ما ظهر وميض الفتنة في مجلس سعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة، وذلك على أثر كلام دار في مجلسه، كان من الحاضرين فيه الأشتر، وابن ذي الحبكة، وابن الكواء، وغيرهم، وعدتهم بضعة عشر رجلا، تألبوا على عصبية أثاروا بذلك أقوالا على سعيد بن العاص، وقد تقدم ذكر هذا تحت عنوان الحقد على الإسلام في عهد عثمان، ولكن استشرى في عهد علي، وانتشر بتوسع بعد قتله - رضي الله عنه -. فُرقة المسلمين في العهد الأول قتل عثمان بضربة من نابتة الخوارج، وبايع الصحابة عليا - رضي الله عنه - ولكن جد البغاة في خلق الفتنة، وشرذمة الأمة فبرزت المطالبة بقتلة عثمان من قبل معاوية - رضي الله عنه - ومن شايعه من أهل الشام، وهو حق ولكن لم يعط علي - رضي الله عنه - فرصة الاستقرار ليتم النظر في قتل عثمان - رضي الله عنه -، ولقد ظُلم علي كما ظُلم عثمان رضي الله عنهما، ولا ريب في أن للأشرار دور في ظلمهما؛ ظهر ذلك جليا في أمر الحكيم، إذ برز الخوارج ¬

(¬1) البخاري حديث (525) وفي مواضع عدة.

الموقف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما

منكرين على علي - رضي الله عنه - قبول التحكيم، فكفروه ومن معه زاعمين أنه حكّم الرجال في كتاب الله، فقوي بهذا ما بدأه أهل مصر والبصرة والكوفة من الخروج من صف الأمة. الموقف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما المهم أن نعلم أن القتال الذي حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفين لم يقاتلوا على تنصيب إمام غير علي - رضي الله عنه -، ولا كان معاوية - رضي الله عنه - يقول: إنه الإمام دون علي رضي الله عنهما، ولا قال ذلك طلحة والزبير رضي الله عنهما، وإنما كان القتال فتنة عند كثير من العلماء، بسبب اجتهادهم في كيفية القصاص من قاتلي عثمان - رضي الله عنه -، وهو من باب قتال أهل البغي والعدل، وإن أبا مسلم الخولاني وأناساً معه قالوا لمعاوية: "أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ "، فقال: "لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمته؟ ، والطالب بدمه، فأتوه فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له". فأتوا عليا فكلموه، فلم يدفعهم إليه (¬1)، ولم يكن علي - رضي الله عنه - بمنعه تسليم قتلة عثمان حماية لهم، فقد كان هو وأولاده في جانب عثمان، ولكنه لم يسلم القتلة لأنه ولي الأمر، ولم يستقر له ذلك حتى يتسنى له ملاحقة القتلة ومحاكمتهم، وهم الغوغاء من الناس ونزاع القبائل قادتهم من الخوارج، ولهم شوكة في الأمصار، ولا أشك في أن إصرار معاوية على طلبه نشأ عن حمية ونصرة لعثمان، ولا أستبعد استغلال الموقف من آخرين لمآرب أخرى. ومنشأ الخلاف أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: القسم الأول: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه، فيما اعتقدوا أنه على الحق، ففعلوا ذلك، ¬

(¬1) الوجيز المفيد في تبيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان 1/ 7.

ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده. القسم الثاني: عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق مع الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه. القسم الثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك (¬1). وبناءً على ما تقدم يحسن أن نظهر موقف أهل السنة فيما جرى من الأحداث من عهد عثمان إلى مقتل علي رضي الله عنهما، فإن أهل السنة والجماعة لا يعتقدون أن الصحابي معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، ثم إذا كان صدر من أحدهم ذنب فيكون إما قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بسابقته، أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي هم مجتهدون فيها إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور، إذن فاعتقادنا بعدالة الصحابة لا يستلزم العصمة، فالعدالة استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه (¬2)، فالأحداث حصل في أمرها اجتهاد من الأخيار، واستغلال من الأشرار، ولذلك قال الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أولئك قوم طهّر الله أيدينا من دمائهم، فيجب أن نطهر ألسنتنا من أعراضهم" (¬3). ¬

(¬1) الوجيز المفيد في تبيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان 1/ 6، ومسلم بشرح النووي 15/ 149، 18/ 11، والإصابة 2/ 501، فتح الباري 13/ 34. (¬2) الوجيز المفيد في تبيان أسباب ونتائج قتل عثمان بن عفان 1/ 8. (¬3) التعليقات المختصرة على متن العقيدة الطحاوية 1/ 230.

كل خير لابد أن يقابله شر

كل خير لابد أن يقابله شر استطاعت تلك المحاولات الشريرة في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - أن تبث سمومها في الجسد الإسلامي، الشيء الذي جعل تلك السموم تنغر وتتفجر حينا بعد حين، ولم تكن أحداث الردة في عهد أبي بكر، إلا ومن مسبباتها الحقد على الإسلام، ولم يكن قتل عمر - رضي الله عنه -، وقتل عثمان - رضي الله عنه -، والخلاف بين علي - رضي الله عنه -، ومعاوية - رضي الله عنه -، وقتل علي - رضي الله عنه -، إلا من أسبابه الحقد على الإسلام، وبداية معاناة الجسد الإسلامي من تلك السموم، برزت بوضوح تام في عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وما نتج عن الخلاف بينه وبين معاوية - رضي الله عنه -، من ظهور أول الفرق الخوارج، والشيعة؛ فإنه بظهور هاتين الفرقتين برز في الأمة الإسلامية، التفاوت في الفكر، فأخذت كل فرقة من الفرقتين تصنع فلسفتها للإسلام وفق متطلبات وجودها، دون سواها، وأصبح في ذلك الوقت تجزئة ثلاثية للجسد الإسلامي، مَن نهج نهج الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -، المهتدين بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل السنة والجماعة، والفرقتان الناشئتان: الخوارج، والشيعة، وفرقة الصوفية وليدة التشيع، هذه الفرق توجهت كل واحدة منها لوضع فلسفة للإسلام تجعلها قادرة على الصدّ والهيمنة على ما سواها ولو فكريا، بغض النظر في كثير من المواقف عن واقعية تلك الفلسفة، وقربها أو بعدها مما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأفلحت في ضرب وحدة الاعتقاد التي ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليها، وتمسك بها الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم -، ومن سوء هذا المسلك ظهرت الانقسامات، داخل كل فرقة، لأن المنطلق لم يكن شرعيا، وإن كان التشيع في بداية أمره لم يكن أكثر من مناصرة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، لكنه نحى به المغرضون بعد ذلك إلى الرفض، والتزوير والغلو في علي وذريته - رضي الله عنهم -، وكانت محبة آل البيت - رضي الله عنهم - سلاحا فتاكا اقتحم به المزورون قلوب العامة البسطاء، والأمر مجرد رغبة في إيجاد فكر جديد، يناوئ ما كان عليه الخلفاء الراشدون ومنهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ومن هنا اسحقوا مقولة أبي عبدالله جعفر الصادق رحمه الله لما زعموا أن أهل السنّة سموهم الرافضة، ليستحلوا دماءهم، فشكوا ذلك إلى أبي عبدالله جعفر الصادق فقال: "الرافضة؟ ! " قالوا: نعم، فقال: "لا والله ما هم

سموكم .. ولكن الله سماكم به" (¬1)، لأنهم رفضوا ما كان عليه الخلفاء الراشدون من الهدي النبوي، ورغبوا في فكر يناوئ ذلك فجاؤوا بفكر سقيم يؤصّل لتلك الرغبة، ويرسم لها مستقبل الإسلام الذي يريدون، ولم تكن فرقة الخوارج أحسن حالا من سابقتها، شذت عن لواء أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، زاعمة أنه حكّم غير كتاب الله، فقالوا: لا حكم إلا لله، وقد فطن علي - رضي الله عنه - للأمر فقال: "كلمة حق أريد بها باطل" فكما اتخذ الرافضة الغلو في حب آل البيت ذريعة لنشر الزور في العامة، ونقض وحدة الاعتقاد، اتخذ الخوارج قضية التحكيم لمعاداة علي والخروج عليه وتكفيره، تحت شعار لا حكم إلا لله، فاستحلوا بعد ذلك دماء المسلمين، وأموالهم وأعراضهم، وجاءت الصوفية بفرية الكشف، وتعيين الأقطاب، وزعم التصرف في الكون، وجلب المنافع، ودفع المضار، بعد أن كانت بدايتها مجرد الزهد في الدنيا وشهواتها، فتغاير المسلمون في مجالات فكرية وسياسية مزّقتهم، حتى أصبحوا شيعا وأحزابا، وتحقق ما أخبر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، من افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة في الجنة، هذا معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - يقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة» (¬2)، وفي نظري والله أعلم أنه لا مفهوم للعدد هنا، وذلك كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬3)، وإنما أريد به تكثير عدد الفرق في الأمة الإسلامية، وهو كذلك، فلو أجرينا إحصاءً للفرق الإسلامية اليوم لوجدناها بالمئات، إذا راعينا فلسفة كل فرقة، أو جماعة وممارساتها لتلك الفلسفة، وليس الحق إلا مع واحدة، وهي المتمسكة بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد أن تلك الفرق في النار قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ¬

(¬1) الكافي (5/ 34) وهذا من مصادر الشيعة الموثوقة عندهم .. (¬2) رجاله ثقات، الدرامي حديث (2582). (¬3) الآية (80) من سورة التوبة ..

يحكيه عن الله - عز وجل -: «يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ ، قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ قال: «أبشروا، فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا، ثم قال: والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» فكبرنا، فقال: «أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» فكبرنا، فقال: «ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» (¬1)، وهذا معني أتباعه - صلى الله عليه وسلم - بحق من الصحابة وغيرهم، ومعلوم أن الأمر كان مستقيما طيلة تلك الفترة، فلما ظهرت الفرقتان: الخوارج، والرافضة، بدأ الخروج عن النهج الصحيح، عند بعض المسلمين، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك أعفر، ثم ملك وجبروت، يُستحل فيها الخمر، والحرير» (¬2)، ولست في هذا البحث معنيا بالحكم على الفرق الإسلامية، أو الجماعات الإسلامية، ولا مسئولا عن بيان قرب أو بعد كل فرقة أو جماعة، من الإسلام الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد حسم الأمر - صلى الله عليه وسلم -، ولا أعتقد أن الحق يخفى على طالبه، إلا من طبع الله على قلبه فأنى لك أن تهديه، لكن سأعمل قدر المستطاع على بيان الفرقة التي هديت إلى العمل بالإسلام، الذي جاء به نبي الهدى والرحمة محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -، الإسلام المبني على الكتاب والسنة، وليس الإسلام المفلسف، أو المنتقى، أو الإسلام الذي بني لتحقيق مطالب لا تجوز هذه الحياة، أو إسلام المنتقم لأسلافه من اليهود والنصارى والمجوس، إسلام منقطع عن الآخرة تماما، وقد سميناه إسلاما مجاراة لأصحابه، ومن المعلوم ¬

(¬1) أخرجه البخاري، حديث (3348). (¬2) فيه انقطاع بين مكحول الشامي، وأبي ثعلبة، واختلاف على ذكر أبي وهب، وأخرجه أبو داود الطيالسي (المسند رقم 228) وأبو يعلى (المسند 1/ 177، رقم 873، 874) والبزار (كشف الأستار 2/ 232، رقم 1589) والطبراني (المعجم الكبير 20/ 53، رقم 91، 92) ومعناه صحيح ..

بدهيا، أن كل ما جانب الكتاب والسنّة الصحيحة، فهو هراء والإسلام منه براء، نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن تلك الفرق أنها في النار، إلا واحدة، وبين - صلى الله عليه وسلم - أن الفرقة الناجية هم الباقون على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -، ومما يؤيد هذا حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: "كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ ، قال: «نعم، وفيه دخن» قلت: وما دخنه؟ ، قال: «قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ ، قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ ، قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ ، قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (¬1)، وعجبا لمن يُخرج الخلفاء الراشدين وعموم الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان من جماعة المسلمين، بل هم جماعة المسلمين، وهم الفرقة الناجية، فمن مثل أبي بكر - رضي الله عنه - من عموم الفرق التي تدعي أنها الناجية، ومن مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أحب العمرين إلى الله، إذ تحقق فيه دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أيد هذا الدين بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب، أو أبي جهل بن هشام» (¬2). فكان أحب الرجلين إليه عمر - رضي الله عنه -، روى هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة، منهم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وعائشة، وأبو سعيد الخدري، وابن مسعود، وخباب، وأنس - رضي الله عنهم -، فضيلة تفرد بها عمر، لم يشركه فيها أحد - رضي الله عنه -. والمراد بأحب العمرين أفضلهما عند الله، فإن الله لا يحب من كفر به، ولو كان لكل منهما مكانته في الجاهلية، فإن من أسلم أزكى وأفضل من الباقي عليها، قال ¬

(¬1) البخاري حديث (6673). (¬2) شرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين 1/ 139.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (¬1)، فقِه عمر بإسلامه فكان الخيار. عمر فرّق الله به بين الحق والباطل، في مكة والمدينة وغيرهما، وإذا سلك فجا سلك الشيطان فجا آخر، ثم عثمان ذو النورين - رضي الله عنه -، من تستحي منه الملائكة، وهو مجهز جيش العسرة في سبيل الله، وهو جامع القرآن في مصحف واحد، وحاقن دماء المسلمين في الفتنة الكبرى، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزوج بنته سيدة نساء العالمين في الجنة، ومن أحبه الله ورسوله، هؤلاء مبشرون بالجنة، من ضمن العشرة - رضي الله عنهم -، وهم صفوة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - هم صفوة الناس، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأمة المحمدية هي صفوة الأمم، وقد أيد الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالسابقين الأولين، في مكة وفي بيعة العقبة الأولى، والثانية، وقام معه المهاجرون والأنصار، بأمر هذا الدين، فأعزه الله بهم ونصره، فنفذ أمر الله تعالى، وبلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، فما ترك خيرا إلا دل الأمة عليه، ولا شرا إلا حذرها منه، وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي عضوا عليها بالنواجذ» (¬2)، وقال: ... «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. . .» الحديث (¬4). إنه المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، صفوة الخلق أجمعين من الأولين والآخرين، تعلّم منه أصحابه أحب الناس إليه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «دعوا لي أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا، ما بلغتم أعمالهم» (¬5) فلا أحد أحق منهم ¬

(¬1) البخاري حديث (3493) مسلم حديث (2526). (¬2) السنة للمروزي حديث (72). (¬3) المسند حديث (17142). (¬4) المسند حديث (17174). (¬5) المسند حديث (14812).

بوصف، الإيمان والصدق والإخلاص، ولا أولى منهم بوصف النصرة والجهاد في سبيل الله، فهم أهل السمع والطاعة لله ورسوله، وهم أهل الالتزام بكل ما جاء في الكتاب والسنة، وإن جالت الأفكار، وتبارت المهارات في البلاغة والأسلوب والبيان، فللهداية والإرشاد، في إطار لا يجوز الخروج عنه بحال، إطار التوجيه الإلهي، والهدي النبوي، جعلوا قلوبهم أوعية لكتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من قال عنهم رب العزة والجلال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬1) وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (¬2)، من وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (¬3)، فقد حملوا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل صغيرة وكبيرة، وهم العدول الأمناء بشهادة الله، ورسوله، وإجماع المسلمين، بهذا الوصف، وبهذه الشهادة لم ينلها أحد بعدهم، إلا من نهج نهجهم، ونهل من مشربهم العذب النقي، كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حملوا ميراث النبوة، أمانة في أعناقهم يؤدونها، كما أخذوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلف من بعدهم المهتدون بهديهم، المقتفون أثرهم في اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رغم ما بُلي به الإسلام من ظهور فرق شذّت عن منهج النبوة، وعابت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتنوعت لديهم المشارب، وبرزت منهم ضد الإسلام الأنياب والمخالب، فكان المتمسكون بالكتاب والسنة لهم بالمرصاد، فكما بلّغهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن رسول الله أمر هذا الدين، امتثلوا أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه لمن بعدهم، وأنفذوا في ذلك أعمارهم، واستفرغوا جهدهم وبادروا إلى ما رغّب فيه من ذلك الأمر الجسيم، حيث دعا لهم بالنُّضْرة والنعيم، وكفاهم هذا الدعاء شرفا، بوأهم الله من الجنة غرفا، ولقّاهم الفوز العظيم، وقد تخير الله تعالى من كل خلف عدوله لفهم كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه ¬

(¬1) الآية (18) من سورة الفتح. (¬2) من الآية (29) من سورة الفتح. (¬3) الإبانة لابن بطة حديث (33) ..

الصحيح، واصطفاهم لنقده ونقله، فحفظوه من التبديل والتحريف، وعرّفوا ما يتعلق بشأنه أوضح تعريف، وتصرفوا في أنواع بيانه أحسن تصريف، حتى استبان منه الصحيح والحسن، والمنكر والضعيف، فهم كما وصفهم - صلى الله عليه وسلم -، خير القرون، أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعون لهم بإحسان، وأتباع التابعين، ولا ريب في أن يلحق بهم من نهج نهجهم، وتمسك بما تمسكوا به من هدي الكتاب والسنة، وهم الطائفة المنصورة، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق، منصورة حتى يأتي أمر الله» (¬1)، ولا تعارض بين هذا وقول الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟ ، لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم نقلة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن عمل عملهم ونهج نهجهم، من التابعين، وأتباعهم، والسائرين على نهجهم إلى يوم الدين هم كذلك منهم، سواء اشتهروا برواية الحديث أو بغير ذلك، مادامت سيرتهم لا تخرج عن نهج الصحابة القويم سيما في أمور الاعتقاد، فلو كانوا فقهاء، أو أدباء، أو أطباء، أو منهدسين، أو تجارا، أو أصحاب حرف مما لا يمكن حصره من أنواع المهن، هم من الطائفة المنصورة، وهم من الفرقة الناجية، إذا كانوا على مثل الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وإنما خص الإمام أحمد وغيره أصحاب الحديث، لظهورهم في هذه الصفة، صفة التمسك بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا يمنع دخول غيرهم ممن اعتقد اعتقادهم وعمل عملهم إلى يوم الدين، وهذه الطائفة هي الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة، لثباتها على ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أجاب بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سأله عنها (¬2). ¬

(¬1) مسلم حديث (170). (¬2) المعجم الأوسط حديث (4886).

التحالف الثلاثي

التحالف الثلاثي إن اليهود والنصارى والذين أشركوا بكل طوائفهم، ضد الإسلام، ومرادنا بالإسلام ما جاء به رسول الله نبينا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما قام الدليل على أنه من عند لله - عز وجل - إما بالكتاب العزيز، أو بالسنة النبوية الصحيحة، أو بهما معا، ولم يكن مرادنا الإسلام الصوري الذي يعيشه أكثر أفراد الأمة اليوم، إسلام فارق أهله الكتاب والسنة في كثير من أمور الاعتقاد، واشتغلوا بالبدع والإحداث في الدين، وصدق الإمام مالك بن أنس قال: "لو أن العبد ارتكب الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء والبدع والتناول لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرجو أن يكون في أعلا درجة الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وذلك أن كل كبيرة فيما بين العبد وبين الله - عز وجل - فهو منه على رجاء وكل هوى ليس منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم من مات على السنة فليبشر من مات على السنة فليبشر من مات على السنة فليبشر" (¬1)، معرضين عن قول الله - عز وجل -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، وعن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو رد» (¬3)، وهم يجهلون أو يتجاهلون أنهم بهذا السلوك شايعوا التحالف الثلاثي، باتخاذهم علم الكلام منارا يسيرون عليه في تقرير كل ما يتعلق بالاعتقاد، وبنوا عليه أمورا ذات خطر عظيم في التوحيد، وجعلوا من طرق التصوف منهجا في السلوك يسيرون عليه في كثير من ممارساتهم التعبدية، فأحدثوا في الدين ما ليس منه، وأبدعوا في الابتداع، حتى خرج بعضهم من دين الله - عز وجل -، وأصبح زنديقا ملحدا، وقال بألوهية نفسه (¬4)، وكم يَسعد التحالف الثلاثي بوجود مثل هؤلاء، ينتسبون إلى الإسلام، ويعبثون به، لأنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أهله. ¬

(¬1) ذم الكلام وأهله 5/ 76. (¬2) من الآية (7) من سورة الحشر. (¬3) البخاري حديث (20) .. (¬4) خذ مثلا: ابن عربي، وابن الفارض، والعفيف، وأمثالهم كثير.

عهد عمر - رضي الله عنه -

عهد عمر - رضي الله عنه - لم يكن عهد عمر بن الخطاب أقل خيرا وبركة على الإسلام والمسلمين من عهد أبي بكر الصديق، فهما رضي الله عنهما وزيرا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكثيرا ما كان يقول: أنا وأبو بكر وعمر، قال علي - رضي الله عنه - مخاطبا عمر حين دفنه في بيت عائشة: "كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه لأنى أسمع رسول الله يقول ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ورجعت أنا وأبو بكر وعمر" (¬1)، نالا من تربيته وتعليمه ما لم ينله غيرهما رضي الله عنهما. إن ما ورد في حديث حذيفة - رضي الله عنه -، أمر عام لا يخص زمان دون زمان، إنه عام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يجوز تطبيق ما ورد من أخبار الفتن على فتنة معينة، ولا تحديدها بزمن، إنها إخبار عن كثرة الفتن والعداء لهذا الدين، فإذا ما وقع شيء منها علم أهل السنة والجماعة، أنها مما حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتعاملوا معها وفق ما وجه به - صلى الله عليه وسلم -، فهي عندهم من صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ونعلم يقينا مما تقدم أن الفرقة الناجية هي من تقدم وصفهم بالتزام منهج الكتاب والسنة، في كل زمان ومكان، وإن حصل لهم ما حصل من البلاء، وأن من عداهم أهل زيغ وضلال، وإن كانوا من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، كل من خرج عن منهج الكتاب والسنة، وتنكب ما جاء به رسول الله، وجانب نهج الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم بإحسان، لا شك أنه من أهل الزيغ والضلال، ولا ينضوي تحت مسمى الفرقة الناجية، وإن زعم أنه من المسلمين، وإن زعم أن الحق معه والباطل عند غيره، وإن أكثر من الفلسفة والتحوير والتطور، فذلك كله منه لا يعدو أن يكون إيغالا منه في الضلال، ولا نجاة لأحد منهم إلا بتوبة صادقة، وعمل دؤوب بكتاب الله - عز وجل - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفق المنهج الذي لزمه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلفاؤه الراشدون - رضي الله عنهم -، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إن المعارضين لدين الله لم يسلم منهم عهد النبوة، وكانوا ينشطون من حين لآخر، ويتحينون الفرص للانقضاض على الإسلام، لكنهم مخذولون من الله ورسوله ¬

(¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع 1/ 159.

والمؤمنين، كم خسئوا وانقلبوا صاغرين، ومع ذلك لم يسلم عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من محاولاتهم وكانوا في ضعف، فقد مكن الله أمر الإسلام بخلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، وكسر شوكة أهل الشك والعناد، وكان عهد عمر - رضي الله عنه - قوة أخرى أعز الله بها الإسلام، إنه الفاروق يهرب منه كل شيطان من الجن والإنس، وكان حريصا كل الحرص على حماية الإسلام، ولاسيما جانب التوحيد، فقد أمر بقطع الشجرة التي بايع الأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحتها، وسميت البيعة فيما بعد بيعة الرضوان، وكذلك لما رأى كثرة الذكر لخالد بن الوليد سيف الله، وما يحكى من مهاراته في الجهاد، وحسن قيادته، ودقة تدبيره وتخطيطه لأمور الجيش المعارك، خشي أن يفتن الناس به، فيظنون به ما ليس فيه، فالتوحيد شأنه أعظم من قيادة خالد - رضي الله عنه -، وقد تقبل خالد ذلك الإجراء بصدر رحب، فهو من مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يظن بعمر إلا الخير، قال أحد القساوسة لخالد - رضي الله عنه -: "أيها السيد إني قد تفرست فيك الشجاعة فبالله من أنت من أصحاب محمد" فقال: أنا خالد بن الوليد المخزومي فقال: "أنت وحق ديني الذي فتحت بلاد الشام، وأذللت ملوكها وبطارقها، وإن صفتك عندي" ثم إنه دخل الدير وأتى ومعه سفط ففتحه، وإذا فيه بين أوراقه ورقة وفيها صفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وزيه وصورته، وصورة أبي عبيدة - رضي الله عنه -، وصورة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - والسيف في يده مشهور. قال: "ما زلت أسمع أخبارك كلها، فلم عزلك عمر بن الخطاب وولى غيرك؟ ! ". فقال خالد: "اعلم أن عمر هو الإمام وهو الخليفة، ومهما أمرنا فلا نخالفه، فإن الله أمرنا بذلك في كتابه فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1)، فطاعته فرض علينا، لأنه يحكم بالعدل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإنا قد وجهنا إليه خمس الغنائم من الفتوح كلها من الأموال، فما ازداد في الدنيا إلا زهدا، ولا آثر الدنيا على الآخرة، بل مجلسه على التراب، ولباسه المرقعة، ويمشي في سوق المدينة متواضعا راجلا، فالتواضع لباسه، والتقوى أساسه، والذكر شعاره، والعدل في الرعية دثاره، وما زال يعطف على اليتيم، ¬

(¬1) من الآية (59) من سورة النساء.

ويرفق بالأرملة والمسكين، ويرفد أبناء السبيل، فظ في دين الله، غليظ على أعداء الله، قائم بشعائر الله، لا يستحي من الحق، ولا يداهن الخلق". فقال القس: أكانت له الهيبة على عهد نبيكم؟ . قال خالد - رضي الله عنه -: نعم سمعت سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يقول: استأذن يوما عمر - رضي الله عنه - فأُذن له، فدخل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، فقال عمر - رضي الله عنه -: أضحك الله سنك يا رسول الله (¬1). قال: «عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» فقال عمر أنت أحق أن يهبنك، وقال لهن: يا عدوات أنفسكن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ! ؛ فقلن: نعم، أنت فظ غليظ دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غيره» (¬2). قال: فلما سمع القس ذلك قال: "بركة نبيكم عادت على إمامكم وعليكم". فقال خالد - رضي الله عنه -: وما يمنعك من الدخول في ديننا؟ ! فقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء (¬3). قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: كان عمر رجلا جسيما أصلع وكان يشبه خالد بن الوليد، وأنه خرج سحرا فلقيه شيخ فقال مرحبا بك يا أبا الوليد يعني خالد فرد عليه عمر فقال عزلك ابن الخطاب قال له عمر: نعم، قال لا يشبع لا أشبع الله بطنه فماذا عندك؟ ، قال ما عندي إلا سمع وطاعة قال فلما أصبح بعث إلى خالد بن الوليد فقال أي شيء قال لك الرجل قال ما قال لي شيئا، قال فقال الرجل قد كان بعض ذلك فاعف عفا الله عنك فضحك عمر وأخبرهم الخبر، وقال لأن يكون من ورائي على مثل رأيك أحب إلي من كذا وكذا (¬4). وفي رواية: قدم علقمة بن علاثة على عمر من الشام فسأله أن ينقل ديوان ابن أخيه إليه، وسأله راعيا لإبله فلم يجبه إلى شيء من ذلك، فلما كان الليل التقى هو وعمر فظن علقمة أن عمر خالد بن الوليد؛ وكان يُشبّه به فقال: ما حمل أمير ¬

(¬1) فتوح الشام 2/ 59. (¬2) البخاري حديث (3294) وفي مواضع عدة. (¬3) فتوح الشام 1/ 91. (¬4) تاريخ دمشق لابن عساكر 41/ 152.

الخوارج

المؤمنين على عزلك بعد عنائك وبلائك؟ ! ، فقال عمر: زعم أني جواد أنفق المال في غير حقه، قال علقمة: والله لقد جئت من الشام أسأله أن ينقل ديوان ابن أخي إلي، وراعيا لإبلي، فآيسني من كل خير هو عنده، قال عمر: قد كان ذلك منه في أمري فماذا عندك؟ ، فقال علقمة وماذا يكون عندي، هم قوم ولاهم الله أمرا ولهم علينا حق؛ فأما حقهم فيؤدى، وأما حقنا فنطلبه إلى الله، فافترقا فلما كان من الغد اجتمع علقمة وخالد عند عمر، فقال عمر: هيه يا خالد لقيت علقمة البارحة فقلت كيت وكيت، فقال خالد والله ما فعلت، فجعل علقمة يعجب من جحده، ثم قال عمر يا علقمة قلت هم قوم ولّاهم الله أمرا، ثم أقتص كلام علقمة الذي كلمه، وخالد ينكر ما سمع، وعلقمة يقول: خل أبا سليمان قد كان ذلك، ثم قال عمر: نعم يا علقمة أنا الذي لقيتك وكلمتك؛ ولأن يكون ما قلت وتكلمت به في قلب كل أسود وأحمر من هذه الأمة أحب إلي من حمر النعم (¬1). هذا حال المخلصين لولي الأمر، وليت عثمان - رضي الله عنه - وجد من أهل مصر والكوفة والبصرة مثل قول علقمة، كذلك علي - رضي الله عنه - لم يلق من الخوارج والرافضة إلا التكفير والغلو الخذلان، فنشأت ثلاث فرق هي أمهات الفرق الضالة، فجميع الفرق الضالة على كثرتها ترجع إلى ثلاث: الخوارج، والرافضة، والصوفية الغالية. الخوارج بدأ انشطار الوحدة الإسلامية بفتنة عثمان - رضي الله عنه -، وتحقق بالفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وذلك بخروج المطالبين بدم عثمان، الأمر الذي نتج عنه تعميق الخلاف بين المسلمين باستحداث أمورا لم تكن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عهد الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا أقرها الخليفتان عثمان وعلي رضي الله عنهما، ولاسيما عليا وآل بيته - رضي الله عنهم -، وظهر الابتداع في الدين في صور شتى منها القريب والبعيد والموغل في البعد والمارق، وتطور ذلك باستخدام الفلسفة من علم الكلام، وتحكيم العقل فيما جاء به الكتاب والسنة، إما بالتأويل، ¬

(¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر 41/ 153.

وصرف الأمور عن ظواهرها، وإما بالقدح في نقلة السنة العدول، ونبزهم بالكذب على رسول الله واختلاق ما يناقض الكتاب والسنة الصحيحة، كما سيأتي عن الرافضة، فكان أول من شذ عن الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين الخوارج؛ فهم نابتة سوء برزت في عهد عثمان - رضي الله عنه -، واشتهر أمرهم في الخروج على علي الخليفة الراشد - رضي الله عنه -، وشهدوا بالضلال على من هو خير منهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل بالكفر فكفروا عليا من معه من الأصحاب - رضي الله عنهم -، بل أبطلوا شهادة الله لهم بالإيمان، فإذا فعلو هذا مع زكاهم الله، وشهد لهم بالخيرية والإيمان، فهم مع عامة المؤمنين أشد عداوة فلا يرون لهم حقًا لمن عداهم ليس لهم إلا السيف واستباحة المال والعرض، ولم تجتمع كلمة المسلمين على الخوارج، بل هم أنفسهم على كثرة فرقهم لم يجتمعوا، وكفّر بعضهم بعضا والتاريخ شاهد بذلك، وذلك رحمة من الله بالمسلمين فلو اجتمعت كلمتهم لعادت الجاهلية على أشدها، وانتشر الفساد في الأرض، وتعطلت شعائر الإسلام من صوم وصلاة وحج وزكاة وغير ذلك، فالحمد لله الذي لم يظهر الخوارج على كثرة فرقهم على عباده الصالحين، فكا هذا نصرا منه تعالى لعباده المؤمنين قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬1)، وهذا من أوضح الأدلة على فساد منهج الخوارج؛ لأن الله لم يجمع كلمتهم بل كان يقتل بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضا، وقد جمع الله كلمة أهل السنة والجماعة، وأقام لهم من الحكام من حكم فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، وإن وقعت من بعضهم هنات، ولكنهم إلى الخير أنزع، ولإقامة العدل والحدود أقرب، أما الخوارج فقد وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وبين الحكم عليهم، حين أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل» فقال عمر: " يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ " فقال: «دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر ¬

(¬1) الآية (51) من سورة غافر.

إلى نصله (¬1) فلا يوجد فيه شيء (¬2)، ثم ينظر إلى رصافه (¬3) فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه (¬4)، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه (¬5) فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر (¬6)، ويخرجون على حين فرقة من الناس» (¬7). قال أبو سعيد: "فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علي ابن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته " (¬8) هذا وصفهم والحكم عليهم، فسماهم الناس خوارج لخروجهم على عثمان الخليفة الراشد، واستباحتهم دمه، في الأشهر الحرم، في ذي الحجة، واقتحام داره وقتله وهو يتلوا كتاب الله - عز وجل - لتقع أول قطرة من دمه على قول الله تعالى: {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬9). وبقتله وقعت الفتنة العظيمة التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس في بقايا من شرها إلى اليوم، فظهرت أول فرقة شقّت الوحدة الإسلامية، مع الاحتراز عن التعميم فما كل فرد منهم كان يريد قتل عثمان - رضي الله عنه -، ولا كل فرد رضي بقتله - رضي الله عنه -، ومنهم من قصد وترصد وانتهز الفرصة فتولى كبر تلك الفتنة، ولا أستبعد أنهم نواة الخوارج المنشقين على علي - رضي الله عنه -، فارقوا معاوية إلى صف علي رضي الله عنهما، ثم واصلوا كسر الوحدة الإسلامية بإعلانهم تكفير علي - رضي الله عنه -، وكذلك ليس كل من خرج على علي كان مكفرا له، بدليل رجوع عدد كبير منهم لما ناظرهم ¬

(¬1) نصل السهم حدية مسننة تركب في رأسه. (¬2) لا يوجد أثر للدم من سرعة الاختراق والمرور، شبه به سرعة مروق الخوارج من الدين. (¬3) عقبة السهم "مشارق الأنوار على صحاح الآثار 1/ 293". (¬4) نضي الرمح ما فوق المقبض من صدره "العين 7/ 59". (¬5) ريش السهم؛ واحدتها قذة " مشارق الأنوار على صحاح الآثار 2/ 175". (¬6) تضطرب وتتحرك "غريب الحديث للخطابي 1/ 379". (¬7) البخاري حديث (3610) وفي مواضع عدة، ومسلم حديث (1064). (¬8) البخاري حديث (3610). (¬9) من اللآية (137) من سورة البقرة.

ابن عباس رضي الله عنهما، قدروا بأربعة آلاف (¬1)، وبقي من كتبت عليهم الشقوة على ضلالهم. ولو كانوا طلاب حق لما خفي عليهم الأمر سواء في عهد عثمان - رضي الله عنه - أو عهد علي - رضي الله عنه -، فالصحابة كثر وكتاب الله محكَّم، وسنة رسول الله ناطقة بالحق، ولكن لهم غاية أبعد من الحق وهو الباطل، الذي اتخذوه شرعة ومنهاجا لتكفير عثمان ثم علي رضي الله عنهما، وتكفير من كان معهما على الحق، ولم يخف أمرهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك عُدّ قتلهم من قبل علي - رضي الله عنه - فتحا من أجل الفتوح، لأنهم كانوا لا يرون طاعة خليفة، ولا يرونها في قرشي، وكان ضررهم معلوما (¬2)، وكانت علامتهم ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم قسما (¬3)، فأتاه رجل من بني تميم يقال له: ذو الخويصرة فقال: يا رسول الله! اعدل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هاك لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني يا رسول الله أقتله، فقال: «لا، إن لهذا أصحابا يخرجون عند اختلاف من الناس. . . .» الحديث تقدم ذكره (¬4). وذو الثُّدية هو: حرقوس بن زهير، أحد الخوارج يوم النهروان، قاتلهم علي - رضي الله عنه -، وتفقد قتلاهم، فاستخرج من بينهم ذا الثُّدية، فرآه ناقص اليد، ليس فيها عظم، طرفها حلمة مثل الثدي، عليها خمس شعرات أو سبع، رؤوسها معقفة، ثم نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة (¬5)، حينها سجد علي شكرا لله - عز وجل - لما رأى ذا الثُّدية في القتلى، لأن ذلك كان علامة على أنه - رضي الله عنه - على الحق (¬6). يتلخص من هذا أن نابتة الخوارج أولهم ذو الخويصرة التميمي، وأن شوكتهم تقوى عند اختلاف الناس، وحصل الاختلاف على عثمان - رضي الله عنه - فبرز ناب الخوارج ليكسر الوحدة الإسلامية، وتبلور في عهد علي - رضي الله عنه -، وامتد شرهم بعد ذلك. ¬

(¬1) البداية والنهاية 7/ 312. (¬2) جوامع السيرة 1/ 340. (¬3) قيل: يوم خيبر، وقيل يزم حنين. (¬4) أخرجه البخاري ومسلم. (¬5) مروج الذهب 4/ 416. (¬6) انظر: زاد المعاد 3/ 511.

الرافضة

الرافضة إن أخطر ما دخل على الإسلام الطعن في الصحابة، والقول بردتهم، ليتمكن أصحاب هذا النهج الفاحش من هدم الإسلام من أصله، وتجفيف منبعه الأصيل الصافي، وإحلال الزور والهتان محله، وقد تقبل أمة من الناس هذا المبدأ لإقناعهم بظلم آل البيت وردة الصحابة، فمن أين يأتيهم الهدى وقد أبعدوا عن منبعه؛ نهج النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ونهج صحابته الصادقين الأمناء، شهد الله لهم بأنهم السابقون الأولون، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم - رضي الله عنهم -، ثم يأتي الزنادقة لتدمير الإسلام بدعوى ردة الصحابة وتكفيرهم بذلك، والزنادقة يرون المتمسكين بنهج النبوة والخلافة الراشدة كفارا كذلك، وكفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، لأن كفر هؤلاء بعد إيمان، وكفر أولئك بادئ ذي بدء، كبرت كلمة تخرج من أفوههم إن يقولون إلا كذبا، والرافضة عبارة عن جماعات متفرقة في العالم الإسلامي وغيره، ولاء بعضها لولاية الفقيه دولة الرافضة في إيران التي لا تملك غير الكيد والدس للعالم الإسلامي، ولا تعيش إلا على الكذب والنفاق، منهجها العقائدي تكفير من لا يكفر الصحابة، ولا يقول بولاية علي وذريته وبعصمتهم وعلمهم الغيب، والسياسة عندها ترمي إلى استعادة المجد الفارسي، وإحياء الحقد الصفوي الذي يستبيح دماء العرب وأعراضهم وأموالهم، ولو كانوا على مذهبهم في التشيع، وزعمهم حب آل البيت إنما هو استقواء لاسترداد الملك الفارسي، والفكرة في أصلها يهودية أسسها عبدالله بن سبأ بدعوى حب آل البيت، وتقبلها الأتباع وهم قسمان: الأول: من كان مؤمنا بدعوة ابن سبأ على أصلها والهدف منها الانتقام من الإسلام وأهله. والثاني: من تقبلها على ظاهرها ولم يعلم أنها دعوة باطنية، غلفت بدعوى حب آل البيت، على طريقة دس السم في العسل، وهؤلاء نقول لهم: إن الشيعة هم ممن شايعوا عليا - رضي الله عنه -، على أن الحق في جانبه دون معاوية - رضي الله عنه -، وهذا حق، ولم يكفروا

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن نازعوا في ولاية أبي بكر - رضي الله عنه -، ولم يزعموا أن أحدا من هذه الأمة معصوما سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يزعموا أن بقعة على وجه الأرض أشرف من مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ومكة أشرف من المدينة بوجود بيت الله فيها، والمدينة أشرف من مكة بجسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبينهما عموم وخصوص من وجه، ثم المسجد الأقصى لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشَدُّ الرّحال إلاّ إِلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصَى» (¬1)، والمراد عدم جواز شد الرحال للعبادة والتقرب إلى الله تعالى، إلى أي مسجد، على وجه الأرض بهذا القصد إلا للثلاثة المذكورة، وهذا تشريع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، لعموم الأمة المحمدية، وقد تضمن هذا التشريع هدفا عظيما وهو وحدة الأمة المحمدية في شد الرحال للعبادة، وعلى هذا الأساس فكلنا شيعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلي - رضي الله عنه - وآل البيت عموما؛ لأن هذا منهجهم، ومن زعم أنه من شيعة علي - رضي الله عنه -، وكان على غير هذه المقاصد، فهو إما تابع لابن سبأ، وإما جاهل بهذه المقاصد مُغرّر به، فإن كان تابعا لابن سبأ فلا شك في مجوسيته ويهوديته، وأنه حرب على الإسلام والمسلمين، وإن لبس عباءة حب آل البيت، فإنما هي شكل لا مضمون، وإن كان جاهلا مُغرّرا به، فندعوه إلى نبع الإسلام الصافي: الكتاب والسنة، ونحذره من البقاء في وحل الباطنية، والتبعية لأئمتها المضلين، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، ولن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي المشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، وسيخرج في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي، ولكن لا تزال في أمتي طائفة يقاتلون على الحق، ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» (¬2)، فمن عرف الحق واهتدى فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن اختار مزاعم ابن سبأ فتلك مجوسية معلومة، ومن بقي جامدا على جهله فلا يصح أن يكون من شيعة علي بل هو من الرافضة وهم الذين ناصبوا أصحاب رسول الله ¬

(¬1) أخرجه مسلم، حديث (2295) .. (¬2) الحاكم، حديث (8390) ..

العداء الشديد، ولم يستثنوا من تكفيرهم، إلا عليا وآل البيت - رضي الله عنهم -، ونفرا قليلا: خمسة أو سبعة أو تسعة، ولم يصل إلى العشرين من توغل في الاستثناء، وزعموا أن الصحابة ارتدوا وحبط عملهم، وأعجبهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لكم فرط على الحوض. فإياي! لا يأتينّ أحدكم فيُذب عني كما يُذب البعير الضال، فأقول فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا» (¬1)، ليستشهدوا به على ردة الصحابة صدق الله العظيم، لقول: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا» واستدلالهم باطل؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - وردت تزكيتهم في الكتاب والسنة، وبإجماع المسلمين أن الصحابة ومنهم الخلفاء لم يرتدوا، ولم يكن فيها إلا نفر قليل، منهم بعض الأعراب الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ارتدوا ومنعوا الزكاة، فقاتلهم على ذلك أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعاد أكثرهم إلى الإسلام، وأبلوا في الفتوح بلاء حسنا. أما الحديث فهو عند عامة المسلمين من العام الذي يراد به الخاص، وما أكثر ذلك في الشريعة الإسلامية، وليس المراد به كل فرد من الناس: الصحابة أو غيرهم، وهم يستدلون بحديث حذيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: «فإني مسر إليك سرا لا تحدثن به أحدا أبدا، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان»، رهطٌ ذوي عدد من المنافقين، قال: فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف عمر - رضي الله عنه -، كان إذا مات الرجل من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يظن عمر أنه من أولئك الرهط أخذ بيد حذيفة فقاده، فإن مشى معه صلى عليه، وإن انتزع من يده لم يصل عليه، وأمر من يصلي عليه (¬2)، واستدلال الرافضة بهذا على تكفير الصحابة باطل لأمرين: أولا: أن الله - عز وجل - أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في كتابه العزيز بصفات المنافقين، فهو يعرفهم بصفاتهم، وإن كانوا يصحبونه في ظاهر الحال، لكنه يعلم مآلهم فمنهم من تدركه رحمة الله ويتوب ويحسن إسلامه، ومنهم يبقى على نفاقه حتى يدركه الموت على الكفر بالله كما أخبره الله - عز وجل - بذلك: فقال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ ¬

(¬1) البخاري، ومسلم، وهذا لفظ مسلم حديث (3450). (¬2) أخرجه البيهقي وغير مرسلا وموصولا.

عَظِيمٍ} (¬1)، ثم إن المنافقين الذين عدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر قليل بالنسبة لمجموع الصحابة - رضي الله عنهم -، وفي نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عليهم، وأخباره - صلى الله عليه وسلم - حذيفة - رضي الله عنه - بذلك إشارة إلى أنهم يموتون على الكفر. ثانيا: إن المنافقين الذين أخبر بهم حذيفة عرفهم بأعيانهم، فقد ورد من طريق جبير بن مطعم أنهم اثنى عشر رجلا، لم يبق منه غير رجل واحد (¬2)، وقد قال حذيفة - رضي الله عنه -: ما بقي من المنافقين إلا أربعة، أحدهم شيخ كبير لا يجد برد الماء من الكبر، فقال له رجل: فمن هؤلاء الذين ينقبون بيوتنا ويسرقون علائقنا، قال: ويحك! أولئك الفساق (¬3)، وهو كذلك فما كل فاسق منافق، فقد يقع المؤمن في المعصية وهو بريء من النفاق، ألم تسمع أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بابن النعيمان وقد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به فجلده، أتي به مرارا أربعا أو خمسا، فقال رجل: "اللهم العنه ما أكثر ما يشرب، وما أكثر ما يجلد"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» (¬4)، فتعميم الرافضة ذلك على جمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقعهم في مصائب كبيرة وعظيمة وهي: 1 - إن قولهم هذا طعن في الشريعة الإسلامية كلها، لأن الصحابة هم نقلتها عن رسول الله، ولا تقوم للرافضة الحجة بما يروون عن آل لبيت؛ لأن ما هو صحيح من الرواية عن آل البيت هو مروي عن صحابة غيرهم، وثابت عند أهل السنة، ولم ينفرد الرافضة إلا برواية الكذب والزور على آل البيت، ووضع الكثير منها تدعيما لعقيدتهم الباطلة في الصحابة وغيرهم، وقد طهر الله قلوب وألسنة وكتب أهل السنة من ذلك الدنس العظيم الذي وقع فيه الرافضة. 2 - إنه طعن في رسول الله؛ لأننا نقول: إن الصحابة اختارهم الله لرسوله أعوانا، قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون ¬

(¬1) الآية (101) من سورة التوبة. (¬2) فتح الباري (8/ 337). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة المصنف (8/ 37). (¬4) أخرجه عبد الرزاق المصنف (9/ 246).

على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيّء" (¬1)، والمراد بالمسلمين هنا الصحابة - رضي الله عنهم -، فالشريعة الإسلامية أفضل الشرائع وأكملها، ومحمد خير البشر، وأصحابه خير الناس، فهم المقارنون له - صلى الله عليه وسلم -، والقرين بالقرين يقتدي، والرافضة لا يرون هذا في الصحابة، ويلزمهم الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا غرابة فيمن كان قرينه عبدالله بن سبأ، وابو لؤلؤة المجوسي. 3 - الطعن في الرب سبحانه وتعالى، وذلك على مراد الرافضة: لأن الله - عز وجل - أختار من الناس محمدا نبيا ورسولا، واختار من الناس أصحابا له وقرناء، وقد رماهم الرافضة بالردة، وجعلهم الله نقلة الشريعة، فكيف يسوغ هذا مع ما تعتقد الرافضة؟ ! ! ، هل يرضى الله لنبيه عبده ورسوله وخليله - صلى الله عليه وسلم - يرضى له أصحابا أشقيا، ويزيغ قلوبهم بعد جهادهم مع رسوله، وشهادته لهم في كتابه العزيز، وشهادة رسوله لهم فيما صح وثبت عنه، اللهم لا، وسبحانك هذا بهتان عظيم، تبوء به الرافضة بين يديك، أنت تحكم بين عبادك، وأنت أحكم الحاكمين. 4 - إنه طعن في القرآن الموصوف من رب العزة والجلال بقوله: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2)، امتدح أصحاب رسول الله، وأنالهم من الفضل في الدنيا ولآخرة ما لم يحصل لأحد سواهم بعد الأنبياء والرسل، ولا ينكر هذا ويتأوله بالباطل والزور والبهتان على الله ورسوله إلا الرافضة. 5 - إنه طعن في آل البيت جميعا؛ لأنهم أتباع رسول الله وصحابته دون استثناء، وبناء عليه إما أن يكونوا على خير كما يعتقد أهل السنة، وهو الموافق لما جاء في الكتاب والسنة، وإما على شر كما هو لازم اعتقاد الرافضة، وهو مذهب ابن سبأ وأتباعه. ¬

(¬1) (هو من الموقوف الذي له حكم الرفع، وسنده حسن كما في المقاصد الحسنة: 367. (¬2) (الآية (42) من سورة فصلت.

ما الحكم في قوم هذا شأنهم؟

ما الحكم في قوم هذا شأنهم؟ الرافضة أحدثوا في الإسلام ما لم يأذن به الله، تبعوا عدو الله ابن السوداء اليهودي في عقيدة الرجعة، وبذلك فسروا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬1) فهم زنادقة، الصواب في أمرهم إعلان الجهاد عليهم من قبل أهل السنة والجماعة، ومحوهم من الأرض، فإن نفرا من أهل الشام شربوا الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان، فقالوا: هي لنا حلال، وتأولوا هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2)، فكتب يزيد فيهم إلى عمر، فكتب عمر إليه: أن ابعث بهم إليَّ قبل أن يفسدوا مَن قِبَلك، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين! نرى أنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم، وعلي - رضي الله عنه - ساكت، قال: فما تقول يا أبا الحسن؟ ، فقال: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم، فإنهم قد كذبوا على الله، وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به. صدق أبو الحسن - رضي الله عنه - ولكن الرافضة الزنادقة لا يستتابون، لأخذهم بالتقية، فتسقط عنهم الاستتابة، ويقع عليهم ضرب الأعناق. فإذا كان هذا حكم علي - رضي الله عنه - في نفر استحلوا بالتأويل ما حرم الله، فكيف بمن كذب على الله، وزور دينا للقضاء على دين الله (¬3)، وتبعوا ابن السوداء في القول بالوصية، وكما أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، فعلي - رضي الله عنه - خاتم الأوصياء، وهذا افتراء على الله - عز وجل - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبنوا على ذلك أن موالاة علي - رضي الله عنه - ركن من أركان الإسلام، ومن لم يقل بها فهو كافر، حلال الدم والمال والعرض، وقالوا بحل المتعة، رغم رواية علي - رضي الله عنه - تحريمها، ورد على ابن عباس فقال: «إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم المتعة يوم خيبر، ولحوم الحمر الإنسية» (¬4)، ولم ¬

(¬1) من الآية (85) من سورة القصص. (¬2) الآية (93) من سورة المائدة. (¬3) بتصرف، انظر: الاعتصام للشاطبي 1/ 527. (¬4) مستخرج أبي عوانة حديث (7648).

مسلمون ولكن

يكتفوا باستحلال ما حرم رسول الله، بل وضعوا الأحاديث في ثواب المتمتع، من الرجال والنساء، وقد طفحت كتبهم بذلك، وهي ظاهرة الكذب والتزوير، لا يقبلها إلا زنديق، ومعلوم أن أول من نشر الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرافضة، لأنهم كفَّروا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزعموا أن الطريق الصحيح لأخذ الرواية هو ما كان عن آل البيت فقط، فاندفعوا لتأييد زعمهم إلى خلق أحاديث منسوبة إلى آل البيت - رضي الله عنهم -، مستغلين حب الناس لآل البيت - رضي الله عنهم -، مصرحين بردة الصحابة وكفرهم، حتى يتم لهم ما يريدون من هدم الإسلام الصحيح، وقد زعموا العصمة لعلي والأئمة من ذريته - رضي الله عنهم -، بل زعموا لهم القدرة على تسيير الكون نيابة عن الله - عز وجل -، وزعموا أن حساب الخلق في الآخرة موكّل به علي، وغير ذلك كثير دوِّن في كتبهم، وعلى رأي أبي الحسن علي رضي الله عنهما، فقد شرَّعوا في دين الله ما لم يأذن به، والحكم فيهم القتل. مسلمون ولكن المسلمون اليوم زادوا على مليار مسلم، ومع هذا العدد الهائل، فإنهم متخاذلون، أذلاء، فرطوا في أسباب العزة والمنعة، وسلبتهم ملذات الدنيا وشهواتها، فنسوا الله - عز وجل - في عظائم الأمور من دينهم، فأنساهم الله - عز وجل - أنفسهم، فتحقق فيهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (¬1) وقوله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها» قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ ، قال: «أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن» قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: «حب الحياة وكراهية الموت» (¬2) والمشكلة في أن الكثيرين من المسلمين اليوم ما عرفوا الإسلام الصحيح، وانتشر فيهم العمل بالبدع والمحدثات في الدين، وما لم يكن في عهد النبوة، والخلافة الراشدة، فلم يتمسكوا ¬

(¬1) أبو داود حديث (3462). (¬2) أحمد حديث (22397) ..

بالنهج ذاته بل حادوا عنه، وتأثروا بأحداث الفتنة بين عثمان وظالميه، وبين علي وظالميه، ويزنوا الأمور بما كان نهجا نبويا، فعدم فهم الكثيرين من المسلين اليوم لهذا الجانب بدقة وعمق وتجرد، جعلهم يقعون فيما نسب إلى الإسلام وليس منه، ومن ذلك التعصب المذهبي مع وجود الدليل الشرعي، والتعصب العقدي، مع قيام أدلة الحق وقرائنه، والتعصب السلوكي، وتربية النفس على بدع ما أنزل الله بها من سلطان، وكل يدعي وصلا ليلى وليلى لا تقر له بذاكا، كل يقول: إنه مسلم وأن الحق معه، وهم في طامة عظمى يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وما كان هذا والله بين المسلمين في عهد النبوة ولا الخلافة الراشدة، لكن الحاقدين على الإسلام دبروا المكائد للإسلام وأهله، ورسموا خطط التدمير فأجادوا وتقبل السذج من المسلمين الفكرة، حتى أو صلتهم إلى الدمار في الدنيا، والهلاك في الآخرة، والأمثلة حية ملموسة اليوم: دعوى تحرير المرأة، والأمر أن حرية المرأة معلومة في الإسلام، لا مطعن فيها ولا اعتراض عليها من المسلمين، فخالقها العالم بما يصلحها وما يفسدها حدد واجباتها، وبين حقوقها، في إطار يكرمها ويجعلها عزيزة مصونة إلى أن تلقى الله - عز وجل -، والذين يعترضون على حقوق المرأة وغيرها من الأمور المشروعة في الإسلام واحد من ثلاثة: 1 - إما كافر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبما نزل عليه من الحق، كاليهود والنصارى والذين أشركوا، فهذا لا غرابة في طعنه على حقوق المرأة وغيرها من القرارات الشرعية في الإسلام، لأنه عدو للإسلام ونبيه جملة وتفصيلا، فمن الطبيعي جدا أن يمكر ويدبر ويخطط لكسر ما عند عدوه من قيم وفضائل، ترتقي بها عن مرابض الدواب وسلوكياتها كما هو الحال في بلاد الغرب ومن شايعها، ومن تدبير عدو الإسلام اصطياد المغرورين بما لديه من تفوق علمي واقتصادي، وانفلات في القيم والفضائل، باسم الحرية، وقد نجح الأعداء في هذا الجانب من خطط تدمير الإسلام وأهله إلى حد كبير، فكان لهم قطعان من البشر يسومونها في أوطان المسلمين لتنفيذ مشروع التدمير، بألفاظ معسولة، وأفكار مغسولة من القيم والفضائل، تذليلا لإنشاء مراتع الشهوات والقضاء على الإسلام وأهله؛ لأن الإسلام قيم وفضائل، وللأسف نجحت تلك القطعان في القيام بخدمة العدو، بسبب ما هيئ

لهم من التلميع الإعلامي، والوصول بهم إلى مراكز مؤثرة في الفكر والسلوك الاجتماعي، فاستجالوا الكثيرين من البسطاء من أبناء المسلمين، لانبهارهم بما حصل عليه دعاتهم من شهرة، وتسويق واسع لأفكارهم المسمومة، ولبعدهم عن نهج العهد النبوي والخلافة الراشدة، وما تلا ذلك من الخير، ولذلك وقعوا في حبائل الأعداء وأذنابهم. 2 - ثلة من أبناء المسلمين أوفدوا إلى بلاد الأعداء وهم غير محصنين بالقيم والفضائل الدينية، نعم أخذوا جرعات محدودة، سرعان ما تبددت من أذهانهم إما لأنهم أخذوا لغرض دنيوي، فانتهى استذكارها والعمل بها بعد الحصول على الشهادة ومنحة السفر إلى بلاد الأعداء، أو أنها لضعف التحصيل فيها تبددت أمام ما رأى من حضارة في بلاد الغرب، وأمام ما قدم له من أفكار أسهمت في القضاء إلى حد كبير على ما لديه من قيم وفضائل إسلامية، بعد أن أقنعوه بأن السبب في عدم وجود تلك الحضارة في بلاد الإسلام بالصورة ذاتها في بلاد الغرب إنما هو الإسلام الذي يحرم كل شيء في نظرهم، هذه الثلة من أبناء المسلمين عادت إلى الوطن الإسلامي سهاما مسمومة وموجهة إلى الجسد الإسلامي بحقد شديد، وهم من القطعان الذين تقدمت الإشارة إليهم، لكنهم دونهم في اتخاذ القرار، جندوا لهدم الإسلام بدعاوى التحرير، والتقدم والتحضر، ورموا الإسلام زورا وبهتانا بأنه سبب في التخلف والتحجر، وكبت الحريات، وهذه الثلة مهمتها تهيئة الناس للمشروع المعادي للإسلام، ليتم اتخاذ القرار من مالكيه في الوقت المناسب، ولا يخلو حال هذه الثلة من إحدى ثلاث: أـ إما أن تكون لهم بقية من قيم ومرجعية دينية، لكنهم يرون حصرها في العبادة، ولا علاقة لها بشؤون الحياة على مبدأ فصل الدين عن الدولة، وهؤلاء خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، والعمل السيئ كبير جدا وأثره على الإسلام وأهله كبير، وهو ما أوصل المسلمين اليوم إلى الذل والإذعان للغرب في كل المجالات، وتحجيم الدور الإسلامي في حياة المسلمين إلى حد بدأ الأعداء يفكرون في تنفيذ أسباب اقتلاعه من جذوره، ليعود المسلمون في جاهلية جديدة تفوق الجاهلية الأولى، فلا هم بالمسلمين، حقا ولا هم كفار من الدرجة الأولى عند الغرب، وإن

رضي الغرب بالنتيجة فسوف يكونون كفارا من الدرجة الثالثة وربما أبعد، على غرار معاملة إسرائيل لليهود فليسوا كلهم في طبقة واحدة عندهم. ب - وإما أن تكون مرجعية القيم لديهم غربية بحته ولا علاقة لها بالإسلام ففي هذه الحال أصبحوا أعداء خلّص للإسلام وأهله شأنهم شأن الغرب تماما، والواقع أن العالم الإسلامي لا يخلوا من أصحاب الأمرين وهم كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» (¬1)، وكم من أبناء المسلمين من خرج ضالا مضلا يدعي النبوة، وكم منهم من ينادي باستبعاد العمل بالسنة النبوية الصحيحة، والعجب العجاب أن زعيما كان لشعب مسلم يصلي بالناس العصر ثلاث ركعات، ويسلم عامدا لا ساهيا فيذكّر، فيقول: هات دليلا من القرآن على تحديد الركعات في الصلاة، فيقال: إنه مبين بالسنة النبوية، فيقول محمد رجل وأنا رجل، ويمزق صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ويضع كتابا يضاهي به القرآن، ويلقب نفسه رسول الصحراء، وزعيم آخر لشعب مسلم يمنع تعدد الزوجات، ويبيح للعمال الفطر في رمضان، حتى لا يتدنى إنتاج المصانع في بلده، وأي مصانع يا ترى! ! ، ويقول للعمال: افطروا ولن أدخل الجنة إلا وأنتم معي، وله طامات لقي ربه بها، وزعيم آخر يغزو بلدا آمنا مجاورا مد له يد العون في الرخاء والشدة، يتخذ قرار الغزو تحت تأثير تعاطي المخدرات كما قيل، وزعيم شعب مسلم يعلن كفانا مساجد، ويصدر أمرا بمنع بناء المساجد في بلاده التي يدين أهلها بالإسلام، هؤلاء يخشون الإسلام، ويخافون من الملتزمين به على الوجه الصحيح، فإذا ما سنحت لهم فرصة لضربه تذرعوا بأي خطأ يقع من شاذ، أو جاهل مراهق غُرّر به، أو جماعة لم تسلك المنهج النبوي الصحيح، وعمموا ذلك على المسلمين، وأجروا التنكيل بكل أحد، دون وازع ولا ضمير، وما أكثر ما تغيب حقوق الإنسان في السجون والمعتقلات، ولا يطالبون بها إلا في حاله مناقضة الإسلام، وتدمير ما جاء به من الحق، فماذا يقول أبناء جلدتنا، والذين يتكلمون بألسنتنا؟ ! ، إذا ما لقوا ربهم، أم أنهم لا يؤمنون بالبعث؟ ولا مفر لهم من ¬

(¬1) البخاري حديث (7084) ومسلم حديث (1647) ..

لقاء الله تعالى، إنهم صنائع الغرب لضرب الإسلام في عقر داره، وبأيدي أبنائه العاقين المارقين من القيم، هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وهذا غيض من فيض، والأمثلة كثيرة ولا حصر لها، وتُبارك القطعان الموجهة من أعداء الإسلام هذه التصرفات، ويطبل لها الإعلام الخائن المأجور، وتتقبّل الشعوب الإمعة الساذجة هذه الترهات، ويكمم دعاة الحق والفضيلة، ويقتل منهم من يقتل، ويوضع في غياهب السجون الآلاف المؤلفة منهم يسامون سوء العذاب، كل هذا يتم بواسطة صنائع الغرب من أبناء المسلين، هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وتمر بهم الأحداث إلى أن يكشف التاريخ للشعوب، ما أخفاه الغرب وقطعانه المسرّحة لهدم الإسلام وأهله، وحينئذ يقولون: هؤلاء الذين أضلونا. ج - وإما أن يكونوا رعاعا، يتبعون كل ناعق بحق وباطل، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا إمعة تقُولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا» (¬1)، وقد قابلنا الكثيرين منهم وناقشونا فيما يخص بلادنا مهد الإسلام ومنبع الفضيلة، زادها الله شرفا وحماية وحرسها من كل عدو ولاسيّما الأعداء اللذين هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ناقشنا السذج فلما أوضحنا لهم الحق مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة، والبيان وفق الواقع والشواهد من الأحداث، قالوا: ما عرفنا هذا، ظنناهم يريدون الخير لنا ولبلادنا، فكأني بهم لسذاجتهم إمعات إن أحسن الناس أحسنوا، وإن ظلموا ظلموا، وكأني بهم عند ظهور الحق يقولون: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} (¬2) هذا واقع المسلمين اليوم، بعدٌ عن نهج النبوة والخلافة الراشدة، وشتاتٌ وفرقةٌ، وهوى متبعٌ، وشهواتٌ لا حصر لها، تدميرٌ للقيم والفضيلة، وظلم واستبداد، واتباع لفكر الغرب ومخرجاته المنتنة، فتحقق في الأمة الإسلامية أنها غثاء كغثاء السيل. أما النساء المستغربات فلسن صنائع مباشرة للغرب، بل صنائع الصنائع، فأولياؤهن من الصنائع، دعَوهن إلى الفكر الغربي، وسمحوا لهن بالتبرج، وتلقي الفكر الغربي، ومنهم من أوفد موليته إلى الغرب لتتلقى ما تلَقى هو من السموم، ¬

(¬1) الترمذي حديث (2075). (¬2) من الآية (167) من سورة البقرة.

من منابعها الدنسة، ومنهم من ساير الآخرين من الأتباع السذج، فخرج على الإسلام نساء يطعنن على ما جاء به في شأن المرأة: فالحجاب يطلبن بدلا عنه تبرج الجاهلية الأولى، وإلعدّة في الطلاق أو الوفاة ينادين بإلغائها والاكتفاء بالكشف المخبري، والأجانب عندهن لا فرق بينهم وبين المحارم، تكلم من تريد، وتجلس مع من تريد، وتسافر مع من تريد، في وقت نسيت أو تناست المرأة المغرورة، أن ربها وخالقها تعبّدها بهذه الأمور فالحكمة منها قبل كل شيء التعبد لله لأنه تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1)، ولا تخرج المرأة من التكليف بأنواع العبادة إلا إذا لم تكن من الجن والإنس، فالعبادة ليست قاصرة على الصلاة والصيام، ولا على الزكاة والحج، هي كذلك قائمة في الاعتقاد وفي الأقوال والأفعال، ومن ثمار التعبد ظهور القيم والفضائل والعزة والكرامة في أكمل صورها، فالله تعالى خلق الإنسان وجعله يعيش حياة دنيوية قصيرة، لابتلائه بما جاءت به الرسل، فيظهر المحسن والمسيء، وينال كل منهما جزاءه في الحياة الآخرة الأبدية، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2)، ومقتضى ما أقدم عليه المستغربون رجالا ونساء من هذا السلوك وتلك الدعوة القذرة، أن الله وهو خالق المرأة جاهل بما يصلحها، وأن ما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة لم يعد صالحا لحال المرأة اليوم، ولا عادلا في شأنها، وأصبحت قوانين الغرب وسلوكياته هي ما يصلح به شأن المرأة، فالمستغربون اليوم أحسن منهم الجاهليون الأولون حين قالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (¬3)، وقد كان آباؤهم على الضلال، فلم يبغوا بما كان عليه آباؤهم بديلا، والمستغربون اليوم وجدوا آباءهم على الحق والهدى، نهج لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فبرزوا لهدم ما عليه آباؤهم من الهدى، وتباروا لإرساء الزندقة والكفر على أنقاض الفضيلة والقيم الإسلامية، كل هذا من أجل مشاركة الغرب حياتهم البهيمية، {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ ¬

(¬1) الآية (56) من سورة الذاريات. (¬2) الآية (1) من سورة الملك .. (¬3) من الآية (170) من سورة البقرة.

أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (¬1)، حتى تداعت الأمم اليوم على المسلمين من كل حدب وصوب، بعد أن دمروا الأخلاق والقيم، ينهبون الثروات، ويسومون المسلمين سوء العذاب، والمسلمون يصدق عليهم أنهم غثاء، وليسوا في نظري أحسن حالا من قبيلة إياد في الجاهلية التي استعدى عليها أعداؤها من كل مكان، ولم يسمعوا نداء المصلح من عقلائها أحد شعرائها وهو لقيط بن يعمر الإيادي إذ قال لهم: بل أيها الركب المزجى على عجل ... نحو الجزيرة مرتادا ومنتجعا أبلغ إيادا وخلل في سراتهم ... إني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا يا لهف نفسي أن كانت أموركم ... وأحكم أمر الناس فاجتمعا ألا تخافون قوما لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكا وآخر يجني الصاب والسلعا لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غامل هجعا خرزا عيونهم كأن لحظهم ... حريق نار ترى من السنا قطعا لا الحرث يشغلهم بل لايرون لهم ... من دون بيضتكم ريا ولا شيعا وأنتم تحرثون الأرض عن سفه ... في كل معتمل تبغون مزدرعا وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ... لا تجمعوم وهذا الليث قد جمعا وقد أظلم من شطر ثغركم ... هول له ظلم تغشاكم قطعا ما أراكم نياما في بلهنية ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا فاشفوا غليلي برأي منكم حسن ... يضحي فؤادي له ريان قد نقعا قومو قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا يا قوم إني لكم من عز أولكم ... إرثا أحاذر أن يودي فينقطعا يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فشمروا واستعدوا للحروب معا ¬

(¬1) الآية (44) من سورة الفرقان.

الطريق إلى وحدة المسلمين

هذا كتابي إليكم والنذير معا ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقضوا إن خير العلم ما نفعا هذا والله حال المسلمين اليوم مع العالم الآخر، ولا يأس من روح الله، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وتبقى طائفة من المسلمين المؤمنين قائمة بالإسلام الصحيح، أتباع عهد النبوة والخلافة الراشدة، وينتصر الإسلام، ويقوى المسلمون، ويختم لهم بخير، خبر من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم - «لا يزال ناس من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» (¬1). الطريق إلى وحدة المسلمين يحسن بنا في هذا العصر الذي تفجرت فيه المعلومات، وكثر فيه القُرَّاء والعلماء والباحثون، وتحررت فيه عقول من قيود التبعية لغير الله ورسوله، وبما أن الأساس الذي لا يختلف عليه المسلمون هو الإيمان بالله ربا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا وبالإسلام دينا، ولم تخدش وحدة المسلمين إلا بموت رسول الله وما تلا ذلك من أمر الخلافة، خلاف حدث بين أصحاب رسول الله في الاستحقاق وليس في الجواز، فإننا ندعو العقلاء اليوم على اختلاف مذاهبهم، ندعوهم إلى التجرد، ودراسة الحال بينهم بتجرد كامل، ونية صادقة للوصول إلى الحق وقبوله والعمل به، طاعة لله ورسوله، وعودة بالمسلمين إلى وحدة الاعتقاد والإتباع والمنهج، متخذين قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2)، شعارا للتجرد والإنصاف، وإذا كان الإصلاح بين المؤمنين مطلوباً في الحقوق الخاصة والعامة، فإنه في العقيدة أوجب الوجبات، إن رسول الله يقول: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة» (¬3)، وما دام الأمر كذلك نتساءل ما أسباب هذا الافتراق؟ ، والجواب لم نقف ¬

(¬1) البخاري حديث (3640) وفي مواضع عدة، ومسلم حديث (156) وفي مواضع عدة. (¬2) الآية (10) من سورة الحجرات. (¬3) رجاله ثقات، الدرامي حديث (2582).

على سبب فرَّق الأمم السابقة سوى الاعتقاد، وما بعث الله رسولا إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ} (¬1)، قالها نوح، وإبراهيم، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وعيسى، عليهم السلام، كانت دعوتهم متفقة على عبادة الله وحده لا شريك له؛ لأنها محور الوحدة بين العباد، وهي سبيل الله الذي لا يضيع سالكه أبدا؛ قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (¬2)، ونهى تعالى عن سلوك أي سبيل آخر لأنها طرق ضلال نهايتها إبعاد سالكها عن الصواب؛ قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3)، أكد تعالى هذا الشأن بأن جعله وصيته لعباده، لأن الوصية زيادة حرص على الموصى به، والعمل بها مضمون العاقبة؛ قال تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4)، وأكثر مما ذكرت أن الله تعالى طالب كل أمة بعبادته وحده لا شريك له، وأمرهم باجتناب كل معبود سواه، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬5)، ومع ذلك لم يُرزق بعضهم الهداية إلى عبادة الله - عز وجل -، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬6). ويكفي دليلا على كثرة الفرق الضالة استعراض فرق الخوارج، والرافضة، ومن تسموا بالشيعة، وفرق الصوفية فإنه يُرى العجب العجاب من كثرة الفرق واختلافها في العقيدة والمنهج، وما بينها من العداوة والبغضاء؛ يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، ومن كان له عقل نظيف يجزم بأنهم ليسوا من الناجين، ¬

(¬1) أنظر الآيات (72) من سورة المائدة، والآيات (59، 65، 73) من سورة الأعراف، والآية (50، 61، 84، 138) من سورة هود، والآية (16) من سورة العنكبوت، والآية (15) من سورة الشورى، والآية (64) من سورة الزخرف، والآيات في هذا الصدد كثيرة في كتاب الله - عز وجل - .. (¬2) من الآية (153) من سورة الأنعام. (¬3) من الآية (153) من سورة الأنعام. (¬4) من الآية (153) من سورة الأنعام. (¬5) من الآية (36) من سورة النحل. (¬6) من الآية (36) من سورة النحل.

السنة والشيعة

فالنجاة لا تكون إلا بالعمل بالكتاب والسنة، والتركيز على وحدة المعبود والمتبوع والمنهج. إذًا من هي الفرقة الناجية؟ دعونا نحصر الأمر بين الفرقتين: السنة والشيعة، فيا ترى أهي السنة، أم هي الشيعة بفرقها، وبزعم أن الرافضة من فرق الشيعة، إن الحُكم الفصل لا يكون إلا بدراسة ما كان عليه الناس في عهد النبوة، وعهد الخلافة الراشدة، لكن يجب أن تكون الدراسة بصدق وأمانة وتجرد، فلا غش ولا كذب، ولا تأويل ولا تحريف، بل دراسة خالصة بغية الوصول إلى الحق، واعتماده بوضوح وجلاء، بغير هذا المنهج، ستكون محاولات التقريب المتناثرة هنا وهناك إضافة لآلاف الكتب المؤلفة في الخلاف بين السنة والشيعة، فلن تغير من الأمر شيئا لأنها لم تُرزق الإخلاص والتجرد، بل تزيد الطين بلة، فهلموا إلى كلمة سواء، نبحث عن الحق وحتما سنجده، ولنجعل الحَكَم بيننا عهد النبوة، والخلافة الراشدة، ونستوعب النصوص من الكتاب والسنة، بما تدل عليه بشفافية، وروح إسلامية، من غير غلو ولا تأويل ولا تحريف، فإذا لم يتم هذا فإن بقاء الصراع بين الفرقتين سيبقى حتى يحكم الله بين عباده، وهو أحكم الحاكمين. السنة والشيعة لم يعرف المسلمون هذه التسمية في عهد النبوة ولا عهد الخلافة الراشدة، وإن كان وجد شيء من الميل لعلي - رضي الله عنه - عند بعض المسلمين بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ميل فطري وله ما يبرره، فإن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي معلومة أسبابها فهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت لأبي طالب مناصرة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وعلي - رضي الله عنه - هو ¬

(¬1) يكفي دليلا عليها قول أبي طالب في لاميته: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم ** ... فهم في نعمة وفواضل كذبتم وبيت الله يبزى محمد ** ... ولما نقاتل دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ** ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل "الاستذكار 2/ 433".

ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأول من آمن به من الصبيان، وهو البائت في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما أمر بالهجرة، ولهذا العمل العظيم أثره في مقام علي - رضي الله عنه - ليس عند رسول الله وحده، بل عند الأمة بأسرها، فقد عرّض نفسه للهلاك فداء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو زوج ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء أهل الجنة؛ أو نساء المؤمنين (¬1)، رضي الله عنها، وهو أبو الحسنين رضي الله عنهما سيدي شباب الجنة (¬2)، وهو المشهود له بمحبة الله ورسوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» (¬3)، وهو المشهود له بالجنة، فكان من الطبعي أن يتطلع لولاية أمر المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأسباب ذاتها، ولغيرها من الفضائل، ولم يدر بخلده سوى أن المسلمين لن يختلفوا عليه لما يُرى من مكانته من رسول الله، ولمحبة المسلمين له - رضي الله عنه -، مع اعترافه بفضل أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -؛ وكان أمر تجهيز النبي - صلى الله عليه وسلم - أهم من ذلك فبدأ به ولم يحضر إلى سقيفة بني ساعدة، هذا كل ما عُرف من أمر علي - رضي الله عنه - في شأن الخلافة، لكن لفراغ موقع القيادة النبوية للمسلمين ولأهمية ملء ذلك الفراغ، بادر بعض الصحابة - رضي الله عنهم - وهم عدد قليل من خيار الصحابة وفضلائهم، وعلي نفسه - رضي الله عنه - لا يشك في ذلك، بل أكده فيما بعد، وكان سعد بن عبادة - رضي الله عنه - ممن بادر في جمع من الأنصار إلى السقيفة دون علم المهاجرين متطلعا إلى ولاية أمر المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر طبعي أيضا وله مبرراته، فإنه شيخ الخزرج، وهو أحد السبعين الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الثانية، وأحد النقباء الاثني عشر (¬4)، وكان سيداً في الأنصار، مقدماً وجيهاً له رياسة وسيادة، يعترف قومه له بها (¬5)، وكان من مستشاري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وسعد بن معاذ، دون سائر الأنصار - رضي الله عنهم -، لأنهما سيدي قومهما، أشار عليه في غزوة بدر، ويوم الخندق، وكانت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح بيد سعد بن عبادة - رضي الله عنه - (¬6)، فرأى أن من حقه وحق قومه أن يلي أمر ¬

(¬1) البخاري حديث (3624) وفي مواضع عدة، ومسلم حديث (2450). (¬2) ابن حبان حديث (6960). (¬3) البخاري حديث (3009) وفي مواضع عدة، مسلم حديث (2404) وفي مواضع .. (¬4) الإكمال 1/ 253. (¬5) الاستيعاب 1/ 178. (¬6) الاستيعاب 1/ 179 ..

المسلمين، وحضر من المهاجرين أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - رضي الله عنهم - لما علموا باجتماع الأنصار على رأس سيدهم، فتكلم أبو بكر - رضي الله عنه -؛ حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "يا معشر الأنصار، إنا والله ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكنكم قد عرفتم أن هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب، ليس بها غيرهم، وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدعوا الإسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الإسلام، ألا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - قال عمر: لي، ولأبي عبيدة بن الجراح - فأيهما بايعتم فهو لكم ثقة"، قال: عمر - رضي الله عنه - "فو الله ما بقي شيء كنت أحب أن أقوله إلا وقد قاله يومئذ، غير هذه الكلمة - يعني ترشيحه - فو الله لأن أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا في غير معصية، أحب إلي من أن أكون أميرا على قوم فيهم أبو بكر، قال: ثم قلت: يا معشر الأنصار، يا معشر المسلمين، إن أولى الناس بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده ثاني اثنين إذ هما في الغار: أبو بكر السبّاق المبين، ثم أخذت بيده وبادرني رجل من الأنصار، فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتتابع الناس" (¬1)، فصدق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: «ادعي لي أباك وأخاك، حتى اكتب لأبي بكر كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (¬2)، ولم يكتب - صلى الله عليه وسلم - شيئا، وأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر - رضي الله عنه -، واجتمعت عليه الكلمة، ولم ينازع في ذلك بقول ولا فعل، لا من الأنصار وسيدهم سعد بن عبادة - رضي الله عنهم -، ولا من علي وبني هاشم - رضي الله عنهم -، وعلموا أن ذلك اختيار من الله - عز وجل - لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد تخلف سعد بن عبادة - رضي الله عنه - عن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه -، وخرج من المدينة ولم ينصرف إليها إلى أن مات بحوران من أرض الشام (¬3) قد يكون في نفسه شيء، لكنه - رضي الله عنه - لم ينازع في الأمر، ولم يغمز أبا بكر ولا أحدا من المهاجرين؛ فهو يعلم مكانة أبي بكر في الإسلام وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكي يحمي نفسه من حب السيادة على الأمة خرج من ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة، المصنف (8/ 571). (¬2) أخرجه مسلم حديث (2387) .. (¬3) الاستيعاب 1/ 179.

المدينة إلى الشام، وطابت نفس علي - رضي الله عنه - وبايع أبا بكر، وسارت الأمور على خير ما يرام، حتى وفاة عثمان - رضي الله عنه - والوحدة الإسلامية في أوج كمالها بحماية الله ثم حماية أبي بكر والمسلمين لها، لم يسع الناس إلا بمسمى واحدا للمسلمين: فيرددون: فتح المسلمون، خرج المسلمون، انتصر المسلمون، عاد المسلمون، لا خوارج ولا شيعة ولا صوفية، ولا أي بلية أخرى. فكانت البلوى بعد البلية الأولى قتل عثمان - رضي الله عنه - المشهود له بالجنة عليها، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما استأذن عثمان بعد استئذان أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم -: «ائذن له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه» (¬1)، صدق رسول الله - رضي الله عنه - إنها بلوى ليست على عثمان المأجور عليها، بل على الأمة التي أصابها الصدع الأول في الوحدة الإسلامية، فكان قتل عثمان من قبل قوم تعدوا وظلموا ثلما مؤثرا في جسد الأمة، وهو الباب الذي كسر على قولٍ، وقيل الباب عمر، وهو ما أخبر به حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أمين سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين قال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيكم سمع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ "، فقال حذيفة: أنا سمعته يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، يكفر ذلك الصوم والصلاة والصدقة» فقال عمر: "ليس هذا أريد ولكن قوله في الفتنة التي تموج كموج البحر، يتبع بعضها بعضا" قال: "فلا تخفها يا أمير المؤمنين فإن بينك وبينها بابا مغلقا" فقال: "كيف بالباب أيفتح، أو يكسر؟ "، قال: "بل يكسر، ثم لا يغلق إلى يوم القيامة" (¬2)، والمراد بكسر الباب قتل عثمان - رضي الله عنه -، أو قتل عمر، وفعلا هو الباب الذي كسر بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعبر بالكسر إشارة إلى عدم إمكان إصلاحه ليغلق مرة أخرى أمام الفتن، فلا غلق إلى قيام الساعة، وتتوالى الفتن من ذلك الحدث إلى أن تقوم الساعة، ولذلك كثر التحذير من الفتن؛ لأنها ابتلاء واختبار من الله - عز وجل - لهذه الأمة، وقل من يجوز ذلك بنجاح، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (¬3)، وهي تمحيص للإيمان، ولكن المبعوث رحمة ¬

(¬1) البخاري حديث (3674). (¬2) الفتن لنعيم بن حماد 1/ 23 .. (¬3) الآية (155) من سورة البقرة.

للعالمين - صلى الله عليه وسلم -، أشار لما هو واقع منها لا محالة، نصحا بلزوم منهج الكتاب والسنة للنجاة منها؛ لأن الفتنة محنة شديدة في الدين، ولذلك عمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخصص، وكل ما جاء عن الصحابة في أمر الفتن فهو منقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ذلك من علم الغيب الذي أطلع الله عليه نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليعلم حال أمته من بعد، ويحذرها من أهوال الفتن لينجو منها من كتب الله له النجاة، ومن ذلك قول أنس بن أبي مرثد الأنصاري - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون فتنة بكماء صماء عمياء، المضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن أبى فليمدد عنقه» (¬1)، ولا أظنها والله إلا فتنة قتل عثمان - رضي الله عنه -، ومن بعد ذلك ما حدث بين علي ومعاوية رضي الله عنهما. فالفتن كثيرة وردت فيها أحاديث كثيرة مذكورة في مظانها من كتب السنة، وفيها كتب خاصة، فليكن المؤمن العاقل محتاطا لدينه، فإن الفتن على وجوه كثيرة، قد مضى منها فتن عظيمة نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام، باتباعهم الهوى وإيثارهم للدنيا، فمن أراد الله تعالى به خيرا فتح له باب الدعاء والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه وعرف زمانه، ولزم الحجة الواضحة والسواد الأعظم، ولم يتلوَّن في دينه، وعبد ربه - عز وجل - فترك الخوض في الفتنة، فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحذر أمته الفتن؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا» (¬2)، ومن أعظم الفتن في هذا الزمان فتنة المال والنساء، وفتنة الأفكار الهدامة، لأنها تنشر بدعوى التحرير والتجديد والتطوير، بل هناك من تجرأ وقال: سبب تأخر المسلمين الإسلام، بل منهم من قال: القرآن كان وراء تخلف المسلمين، فصدق على المتمسكين بمنهج الكتاب والسنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر» (¬3). ¬

(¬1) الشريعة 1/ 50. (¬2) انظر: الشريعة 1/ 50. (¬3) الترمذي حديث (2260).

حدث أول خلاف في الإسلام لم يجبر، كان عثمان - رضي الله عنه - الباب الذي كسر لتندلع الفتن في الأمة، الفتنة تلو الفتنة لأسباب وأغراض شتى، فلعن الصحابة من قتل عثمان - رضي الله عنه -، ولعنت عائشة، وأمَّن الناس، فسمع ذلك على - رضي الله عنه - فقال: "اللهم العن قتله عثمان، اللهم العن قتله عثمان (¬1)، وقام خطيباً فحمد الله، وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث، الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، وحسدوا من أفاءها الله عليه وعلى الفضيلة، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره" (¬2)، وصدق علي - رضي الله عنه - فيما قال، ولكن الضلال أخذ من قتلة عثمان مأخذه، وطالب الناس عليا بقتل قتلة عثمان، حتى إن الزبير ابن عمة على - رضي الله عنهم - خرج لقتال علي ومعه طلحة وأم المؤمنين عائشة، فالتقى عليا رضي الله عنهما، وتحاورا حول ذلك الأمر إلى أن قال علي للزبير رضي الله عنهما: "تذكر يوم مررت مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له» قال الزبير: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً"، فانصرف علي إلى أصحابه فقال: "أما الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم"، ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: "ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا"، قالت: "فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب" (¬3)، لكنها فتنة هاج الناس فيها وماجوا، وصاروا مختلفين في الرأي والغاية، منهم المنتصر لعثمان - رضي الله عنه -، ومنهم المنتصر لعلي - رضي الله عنه -، ومنهم الطامع فيما وراء ذلك من حظ الدنيا. ¬

(¬1) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 4/ 390. (¬2) الكامل 2/ 41. (¬3) الكامل 2/ 44 ..

الفرق بين الشيعة والتشيع

الفرق بين الشيعة والتشيع المراد بالشيعة الأنصار والأعوان، قال تعالى حكاية عن موسى - عليه السلام -: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (¬1) وقال حكاية عن نوح - عليه السلام -: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} (¬2) أي من أنصاره في الدين والتوحيد إبراهيم - عليه السلام -، فاتضح أن للفظ "الشيعة" مسارين: ما يراد به القوم والعشيرة؛ فالذي من شيعة موسى هو من قومه بني إسرائيل، وما يراد به النصرة في الدين والاعتقاد كما حكى الله عن نوح وإبراهيم عليهما السلام. فالشيعة قد يكونون أنصارا للحق، وقد يكونون أنصارا للباطل. وكذلك التشيع: له مساران: الأول: في الحق: وهو حب آل البيت على منهج الكتاب والسنة، وأن لهم الفضل والمكانة العالية لقربهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا ينكره مؤمن بالله ورسوله، وعليه أهل السنة والجماعة، من غير إفراط ولا تفريط، وهو ما كان عليه المؤمنون في عهد النبوة، وعهد الخلفاء الراشدين الثلاثة، لم يزد فيه عند البعض على أن عليا - رضي الله عنه - كان أحق بالخلافة لما قدمنا من الأوصاف. الثاني: في الباطل؛ فإنه لما حدث قتل عثمان - رضي الله عنه - استغل أصحاب الفتنة الموقف، في توسعة الفتنة بما حدث بين على ومعاوية رضي الله عنهما، ونحن لا نشك في أن الحق مع على - رضي الله عنه -، فانقسم الناس إلى موالين لعلي - رضي الله عنه -، وموالين لمعاوية - رضي الله عنه -، ثم انقسم الموالون لعلي بعد التحكيم، إلى موالين لعلي - رضي الله عنه -، ومفارقين له مكفرين للطرفين: علي وأصحابه، معاوية وأصحابه، فتحصل ثلاث فرق: علي ومن شايعه، ومعاوية ومن معه، والخوارج ضدهما. فسمي من شايع عليا - رضي الله عنه - شيعة علي - رضي الله عنه -، لأنهم يرون أحقية علي بالخلافة، لما تقدم ذكره في شأن علي - رضي الله عنه - ولم يجاوز الخلاف بينهم وبين من يرى أحقية الخلفاء الثلاثة بالخلافة حسب ترتيب الفضل، فأهل السنة يرون الخلافة صحيحة على ¬

(¬1) من الآية (15) القصص. (¬2) من الآية (83) من سورة الصافات.

الولاء: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم -، والشيعة يرون عليا - رضي الله عنه - الأحق أولاً، من غير سب للثلاثة - رضي الله عنهم -؛ هكذا كان الخلاف بين السنة والشيعة، ولكن التشيع لم يقف عند هذا الحد، ولو وقف عند هذا لهان الخطب كثيرا، لأنه خلاف لا يفقد للود قضية، ولم يخرج معتقدوه عن المعتقد العام لأهل السنة والجماعة، لكن تطور التشيع حتى خرج عن هذا تماما، وابتدع منهجا للتشيع بعيدا كل البعد عن المعتقد العام للرعيل الأول، وكان التطور مبنيا على خطة متدرجة في البعد عن منهج الكتاب والسنة، أحكم نسجها عبد الله بن سبأ اليهودي الأصل، المتستر بالإسلام ظاهرا. إن الله - عز وجل - أنزل كتابه العزيز على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بلغة العرب، فالقرآن عربي، والرسول عربي، وقد امتدح الله - عز وجل - لغة العرب فقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (¬1)، ولذلك لم يعسر على العرب فهم دلالاته، من أول ما سمعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى قول: "لا إله إلا الله"، فهموا معناها مباشرة دون تفكير ولا عناء، فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (¬2)، ولم يقل أحد من العرب: إن لهذا الكلام باطنا لا نعلمه، بل فهموه بدلالة الظاهر من غير تأويل ولا تحريف، ولم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لهذا القرآن باطنا لا يعلمه إلا الخواص، نعم ورد في التأويل قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬3)، والمراد أن القرآن الكريم فيه المحكم؛ وهو بين واضح لا لبس فيه، وفيه المتشابه؛ الذي يحتاج إلى الفهم الدقيق، ويحتمل التأويل وهو قليل، ولا يختلف عليه الراسخون في العلم، بل يؤمنون بالمتشابه؛ كإيمانهم بالمحكم؛ لأن كلاً من عند الله - عز وجل -، وعلى هذا درج العهد النبوي والخلافة الراشدة، فلما ظهرت الرافضة باسم الشيعة رفضت ذلك المنهج السوي، وشرعت في مناقضته جملة وتفصيلا، وجعلت للقرآن ظاهرا يعلمه ¬

(¬1) الآية (195) من سورة الشعراء. (¬2) الآية (5) من سورة: ص. (¬3) الآية (5) من سورة آل عمران ..

العامة، وباطنا لا يعلمه إلا الأئمة والأولياء، ليتم لهم التحريف والتشويه، ومنه صنعوا أفكارهم في العبادة والاعتقاد، وأوغلوا في الاعتقاد في آل البيت، كل حسب رغبته وميوله، وما يريد الوصول إليه، فتحصل من ذلك زيغ في شأن علي - رضي الله عنه -، وآخر في شأن الحسين - رضي الله عنه -، وآخر في شأن فاطمة رضي الله عنها، وأفرغوا عليهم من أوصاف الألوهية ما لا يقره المجانين فضلا عن العقلاء، وجعلوا لمسمى الشيعة ظاهرا وباطنا؛ فظاهره ما يظن العامة أن المراد الانتصار لعلي بن أبي طالب: الخليفة الراشد - رضي الله عنه - وذريته، والباطن وهو الحق أنهم شيعة عبد الله بن سبأ، وقد اجتمع في هذا التشيع الحقد المجوسي، والحقد اليهودي، لأن ابن السوداء المعروف بعبد الله بن سبأ، من يهود اليمن، دخل في الإسلام ظاهرا، وهو يهودي حاقد منتقم، كانت فكرة حب آل البيت مجالا لدعوته الناس إلى الكفر والزندقة؛ لأن ذلك يحقق له أنصارا لهم ثأثير على الإسلام والمسلمين، وأتباعا من الرعاع، الذين يتبعون كل ناعق، ولحصرهم في مجال الفكر السبئي، جرى استخدام حب آل البيت مظلة، لذلك الفكر الذي لم يأل جهدا في تصوير كل ما جاء في الكتاب والسنة بطريقة مغايرة تماما لما كان عليه المسلمون قبل الفتنة، فكان منهج التشيع جملة الأفكار التي نشرها عبد الله بن سبأ، بناء على الدلائل التالية: أولا: قام بتحريف مفهوم التشيع من مجرد المفاضلة بين علي بن أبي طالب الخليفة الراشد، والخلاف على أحقيته بالخلافة دون من سبقه، إلى أن القول بإمامته أمرا واجبا، وأن من لم يعتقد ذلك فليس بمسلم. ثانيا: أوجد القول بالوصية لعلي بن أبي طالب الخليفة الراشد - رضي الله عنه -، فهو أول من قال بالنص في الإمامة (¬1)، ولم يسبق إلى ذلك البتة، فأظهر الغلو في إمامة علي وذريته، مبتدعا النص عليها (¬2)، ومن هنا دوَّن أفكاره الأئمة المضلون من شيعته، يقول الكليني: "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً ¬

(¬1) رجال الشيعة للكشي: ص 71، وفرق الشيعة للنوبختي: ص 22، وأنظر: الفصل في الملل والنحل 2/ 91، 4/ 138، 142. (¬2) انظر: الفتاوى لابن تيمية 4/ 435.

إلا بنبوة محمد، ووصية علي عليه السلام" (¬1)، وزعم أنه كان ألف نبي لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، ومحمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، فاستوعب القوم التشيع السبئ. ثالثا: ادَّعى العصمة لعلي بن أبي طالب الخليفة الراشد - رضي الله عنه -، وللأئمة من أبنائه وأحفاده. وهذا تشيع سبئي (¬2). رابعا: ابن سبأ أول من قال بالرجعة، فزعم أن علي بن أبي طالب الخليفة الراشد - رضي الله عنه - سيرجع، وأنه يملأ الأرض عدلا، وقد قصد من هذا التغرير بالتابع، فزعم أيضاً أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيرجع إلى الدنيا، مستدلا بالإقرار برجعة عيسى - عليه السلام -، وبقول الله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (¬3)، فابن سبأ اليهودي نقل معتقد الرجعة من قومه إلى الرافضة الذين ألَّفوا الكتب الكثيرة لإثبات هذا المعتقد الدخيل (¬4)، ولما بلغه نعي علي بالمدائن، قال للذي نعاه: "كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً، لعلمنا أنه لم يمت، ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض" (¬5)، لماذا هذا الإصرار، إذا لم يكن لتثبيت التشيع السبئي. خامسا: شرع البراءة من مخالفة الشيعة في أي من هذه الدعاوى، لتكون دينا ومعتقدا لا يسع أحدا إلا الالتزام به، فيقضى على منهج الكتاب والسنة. سادسا: شرع الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم (¬6)، ليبطل الأساس الذي قام عليه الإسلام. سابعا: حرَّف القرآن عن دلالته الظاهر، فكل عمل لدى الرعيل الأول، فمنهج التشيع السبئي خلافه تماما، حتى دلالة القرآن. ¬

(¬1) مذكور في الكافي في الأصول، والحجة من الكافي. (¬2) انظر: مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل 1/ 60. (¬3) من الآية (85) من سورة القصص. (¬4) انظر: أثر الملل والنحل القديمة في بعض الفرق 1/ 68. (¬5) ابن سبأ حقيقة لا خيال 1/ 158. (¬6) ابن سبأ حقيقة لا خيال 1/ 150.

ثامنا: أبطل العمل بالسنة النبوية، وقرر سب الخلفاء والصحابة - رضي الله عنهم -. تاسعا: سن التزوير والكذب فيما يخدم التشيع السبئي، ووضع النصوص لذلك كذبا من طريق آل البيت. بعد أن تمكن ابن السوداء من تحديد مسار التشيع السبئي، جاء دور الأتباع من الأئمة المضلين، وأتباعهم الغلاة، كل ذلك باسم التشيع الظاهر منه أنه لعلي وذريته، والباطن منه مناوأة الإسلام جملة وتفصيلا؛ فقد تفرقت بهم الأهواء، واستطار بهم الضلال، وعظم فيهم الفساد، واجتهدوا في نشره بين العباد، فصاروا شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم من هدم الإسلام فرحون، ولنبدأ بأخطر الفرق على المسلمين، الفرقة الإمامية. فرقة الرافضة الإمامية المِعْول الأكثر هدما للوحدة، التي بني عليها الإسلام، فهي تخالف أهل البيت في عامة أصولهم، فليس أحد من أئمة أهل البيت: مثل علي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وابنه جعفر بن محمد، ينكر الرؤية، ويقول بخلق القرآن، وينكر القدر، ويقول بالنص على علي، وبعصمة الأئمة الاثني عشر، ويسب أبا بكر وعمر وعثمان، والمنقولات الثابتة المتواترة معروفة موجودة عن هؤلاء رحمهم الله؛ وهي خلاف معتقد الإمامية، المنكرين للرؤية، والقائلين بخلق القرآن، وبسب أبي بكر وعمر وعثما، وتكفير الصحابة (¬1)، وهذا خلاف منهج أهل السنة، فلم يوافقوا أهل البيت في العقيدة، كما وافقهم أهل السنة، وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الاعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب، ولا سنة، ولا عن أئمة أهل البيت، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه، كما يقول ذلك المعتزلة، وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع، ولذلك يتفقون مع أهل السنة في غالب الأحكام الشرعية، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة، قد قال بها غيرهم من السلف، وأهل الظاهر، وفقهاء المعتزلة، وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يعرف أنه لا أصل له، لا في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ¬

(¬1) جامع الرسائل 1/ 209، بتصرف.

ولا سبقهم إليه أحد (¬1)، ومن أسباب زيغهم في الاعتقاد زعمهم أن التنصيص على الولاية واجب، وزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على ولاية علي - رضي الله عنه -، وليس الأمر كما زعموا، فلو كان ذلك صحيحا لما خفي على عامة الصحابة، ولما جاز لهم مبايعة أبي بكر ومن بعده عمر، ومن بعده عثمان، ومن بعده علي - رضي الله عنهم -، كل واحد منهم تمت له البيعة بالتفويض، ولم يحصل الخلاف على بيعة أحد منهم، حتى معاوية - رضي الله عنه - لم يحصل منه خلاف على بيعة علي - رضي الله عنه -، وإنما كان الخلاف على قتلة عثمان - رضي الله عنه -. وزعم الرافضة عصمة الإمام، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم، وجب عندهم أن يكون خليفته معصوما، فقالوا: علي أولى بالخلافة لأمور، ومنها كما زعموا أنه معصوم، وزعموا انسحاب العصمة فيه وفي أبنائه إلى اثني عشر إماما كلهم معصومون، آخرهم صاحب السرداب كما يزعمون، وهم يرجون خروجه رغم مرور أكثر من (1200) سنة، واجتهدوا بكل فكر يخدم هذا المشروع، حتى أعدوا خطة محكمة قبلها الرعاع منهم، وتم بها نشر المذهب البعيد كل البعد عن وحدة المنهج، فبدؤوا بتجريح الخلفاء الراشدين الثلاثة، حتى وصفوهم بالكفر والزندقة، وحشدوا من السب والشتم واللعن ما يستحي منه الفجار فضلا عن الأبرار، وطفحت كتبهم بذلك بدون خوف من الله ولا حياء من الناس، وهكذا حولت الرافضة الإمامية مسار التشيع بادئ ذي بدء، واتخذوا الخلفاء الراشدين الثلاثة غرضا لكل قول قبيح، وغلو في ذلك أشد الغلو حتى جرحوا من حيث لا يشعرون عليا - رضي الله عنه - فزعموا أنه معصوم وأحق بالولاية، كل ذلك الخلط من أجل الإثبات للرعاع أتباعهم أن الولاية بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -، ومن بعده أبناؤه وأحفاده إلى اثني عشر منهم، وحاولوا تقديم بعض النصوص تدعيما للموقف، أبرزها قصة غدير خم التي لم تصح البتة، وزعموا أن البيعة عقدت لعلي بهذا القول: " من كنت مولاه فعلي مولاه " بتأويل باطل، وقطعوا النظر في سبب هذا القول، والسبب أن عليا - رضي الله عنه - شكاه قوم فقالوا: يا رسول الله، إن عليا فعل كذا وكذا، كانوا أربعة كلهم ¬

(¬1) جامع الرسائل 1/ 209 ..

قال ذلك، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرابع وقد تغير وجهه فقال: «دعوا عليا، دعوا عليا، إن عليا مني، وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (¬1). كان ذلك لما عاد من اليمن وكان بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميرا على سرية نقم بعض الجيش أشياء تعاطاها هناك من أخذه جارية من الخمس، ومن نزعه الحلل من اللباس، فتكلموا فيه وهم قادمون إلى حجة الوداع، فلم يفرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام الحج لإزاحة ذلك من أذهانهم، فلما قفل راجعاً إلى المدينة ومر بهذا الموضع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ورآه مناسباً لذلك خطب الناس هنالك، وبرأ ساحة علي مما نسبوه إليه، ونحن نبرؤه من ذلك - رضي الله عنه -، فلو وافقنا الرافضة على أن المراد الولاية العامة نكون خالفنا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، لأنه لم يفهم ما فهمه الرافضة زورا وبهتانا، فهم منه الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه - المعنى اللغوي الصحيح وهو: النصرة والمحبة وهذا حاصل له عند أهل السنة قاطبة، فلو لم يكن الخلاف بين علي والصحابة الذين ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شكوا عليا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تغير وجه رسول الله لذلك، ولا قام خطيبا ينبه على فضل علي - رضي الله عنه -، وكان تغير وجهه - صلى الله عليه وسلم - كرها أن يذكر علي - رضي الله عنه - بسوء، ومحبة لعلي - رضي الله عنه - ونصرة، فأراد أن يؤكد تلك المحبة وذلك الولاء على ملأ من الناس ليحفظوا رسول الله في قرابته، وهذا القول في علي - رضي الله عنه -، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في شأن أبي بكر - رضي الله عنه - لما شكا إليه عمر - رضي الله عنه - قال أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك" فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثا» ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليه، فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: "يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها» (¬2)، فهل يترك الرافضة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه؟ هذا ما لن يحدث. ¬

(¬1) فضائل الصحابة لأحمد حديث (1035). (¬2) البخاري حديث (3661).

وبعد حديث الغدير ثبت عند الجميع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر يصلي بالناس (¬1) فلماذا لم يأمر عليا بإمامة الناس ليكون تعضيدا على الأقل لما ورد في حديث الغدير؟ ! ، ولِمَ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر» (¬2)، ولِمَ قال عمر - رضي الله عنه -: "إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وألا أستخلف، فلم يستخلف من هو خير مني - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - قال عبد الله بن عمر: " فعرفت أنه حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مستخلف. وما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا لو استخلف؟ . والظاهر أن المراد أنه لم يستخلف بعهدٍ مكتوب، ولو كتب عهدا لكتبه لأبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (¬3)، فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، ولِمَ لم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على غير أبي بكر، لا علي، ولا العباس، ولا غيرهما، ولِمَ يجيب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بما يوافق أهل السنة والجماعة لما سئل: "ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه»؟ قال: بلى، ولكن والله لم يعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك الإمارة والسلطان، ولو أراد ذلك لأفصح به، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أنصح للمسلمين، ولو كان الأمر كما قيل لقال: يا أيهنا الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. والله لئن كان الله ورسوله اختار عليا لهذا الأمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله، لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله" (¬4)، أجاب الحسن رحمه الله بهذا لأنه من أهل السنة، وهذا قولهم. وكذلك علي نفسه - رضي الله عنه - لم يستخلف وقد قيل له: ألا تستخلف علينا؟ قال: "ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستخلِفْ، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على ¬

(¬1) البخاري حديث (679) وسلم حديث (418). (¬2) جامع بيان العلم وفضله حديث (2302). (¬3) المستدرك حديث (6016). (¬4) رواه البيهقي من طرق متعددة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان والمعنى واحد.

خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم" (¬1)، فما هو خيرهم الذي جمعهم الله عليه بعد نبيهم، أليس هو أبو بكر - رضي الله عنه -. ونحن أهل السنة نقول: إن الولاية بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد فيها نص صريح، لا من كتاب الله - عز وجل - ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونتحدى الرافضة أن يحضروا نصا صحيحا في ذلك، بل ونباهلهم على عدم وجود النص، علما بأن من علمائهم من اعترف أنهم بحثوا في جميع المصادر السنية والشيعية ليجدوا نصا واحدا من الكتاب أو السنة صحيحا صريحا في الولاية وخرجوا من بحثهم بخفي حنين، وأبقوا على كتمان الأمر لمصالح شخصية، وخوفا من طغيان الغلاة. ولو أخذنا بقول الرافضة: إن حديث الغدير نص في الولاية للزمنا أمران: الأول: تفسير "المولى بالوالي" وهو هنا المراد به النصير والمحب الموالي، وإلا يناقض ما ورد في كتاب الله تعالى في شأن الولاية، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (¬2)، هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية، ويقولون: إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا فصل هو على بن أبى طالب، لأن لفظة "إنما" تفيد الحصر و"وليكم" تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته، ويزعمون أن الآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف عندما تصدق بخاتمه وهو راكع. وهذا باطل؛ لأن الروايات التي تشير إلى هذا، لا يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها، وهذا معلوم عند أهل العلم بالأسانيد والجرح والتعديل، والصحيح الذي لا شك فيه أن معنى قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي بعد الشهادتين أكبر أركان الإسلام، وهى له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين. ¬

(¬1) البداية والنهاية 8/ 95، وسنده قوي (¬2) الآية (55) من سورة المائدة.

وقوله تعالى: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} فقد توهم البعض أن هذه الجملة في موضع الحال في قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي في حال ركوعهم، وهذا فهم باطل؛ لأنه لو صح لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء، وما ذكر في شأن علي - رضي الله عنه - أسانيده واهية فلا يصح. والثاني: القول بمخالفة علي - رضي الله عنه - للنص الوارد في ولايته، وقد يكون كافرا على رأي الرافضة أن الولاية وهي الإمامة عندهم شرط في الدين، وهذا لا يقول به عاقل فضلا عن مؤمن يحب الله ورسوله وآل البيت. من أدلة عدم تخصيص الولاية لعلي: حديث العرباض - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ " فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» سبحان الله لِمَ لم يذكر الوصية لعلي بالخلافة، ويؤكد عليها لأهميتها في حياة الأمة ومعادها، بل جعلها عامة وأشار وذكر وجوب طاعة من يتولى أمر المسلمين كائنا من كان ولو عبدا حبشيا، ولِمَ أقر علي - رضي الله عنه - بأن أمر الخلافة شورى؛ لأن هذا نهج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم علي - رضي الله عنهم -، وسار عليه الثلاثة قبله. أما الإشارة إلى الولاية بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يوجد منها شيء أقوى مما كان في جانب أبي بكر - رضي الله عنه -، وهو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، ولكن الغلاة من الشيعة أظهروا الانتصار لعلي - رضي الله عنه - بالباطل لا حبا في علي ولكن لأنه الوسيلة التي تجر الرعاع من الشيعة إلى ذلك الانتصار ظاهرا، والباطن تحقيق مرام الغالين بمفارقة أهل السنة، وإبطال نصوص السنة النبوية الصحيحة، ليحل محلها اجتهادات الغلاة في وضع الأحاديث زورا على آل البيت، ومنها يكون بناء عقيدة يختص بها الرافضة دون سواهم من المسلمين، وأعدوا من أساليب إقناع العامة

بذلك أشدها تأثيرا في العاطفة، مستغلين مكانة آل البيت في قلوب الناس، فغلوا في تقديس علي وذريته ولاسيما ذريته من فاطمة رضي الله عنها، وأوجدوا من صفات الخزي والعار زورا وبهتانا ألصقوها بالخليفتين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وانتحلوا كل مسلك خبيث حتى أنهم جعلوا أبا لؤلؤة المجوسي من خيار الصحابة، لأنه قتل الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وزيادة في الزور وتضليل أتباعهم أقاموا له ضريحا في بلاد فارس يزار ويقدس غاية التقديس، والمعروف تاريخيا أن أبا لؤلؤة المجوسي قتل في المدينة، فمن نقله إلى بلاد فارس ليقيم عليه ضريحا يعبد من دون الله؟ ! ، وقد اعترف بعض الشيعة بذلك وقال: "ليس لأبي لؤلؤة المجوسي جثة في ضريحه المقام في إيران، ولكن لا نستطيع أن نصرح بذلك للأتباع، لأمرين: الأول: أن لنا عليهم رياسة وزعامة، فلو صرحنا بذلك انفضوا عنا ولم يعد لنا عليهم سلطة. الثاني: أن من يصرح بذلك قد يقتل من قبل الغلاة أنفسهم لأنه سيكون منه عملا على هدم ما قام التشيع من أجله". قلت: ومثل هذا ضريح علي، وضريح ابنه الحسين ليسا حقيقيين، وإنما أنشئا لهدفين: الأول: التلبيس على الأتباع، وخداعهم بالزيارة والتقديس، وتقديس كربلاء مضاهاة للحرمين الشريفين في مكة والمدينة، مع أن الحسين - رضي الله عنه - تشاءم من كربلاء حين قدمها وسأل ما اسم هذا المكان؟ ! قالوا كربلاء، قال: " صدق الله ورسوله: كرب وبلاء ". وفي رواية: " صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرض كرب وبلاء " (¬1). ومناواة لفقه الأئمة الأربعة اجتهد الشيعة في تأسيس المذهب الشيعي في الفقه، حصروه في فقه آل البيت، وجعلوا مرتكز ذلك ما نقلوا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق رحمه الله، وسموه المدرسة الفقهية الجعفرية. ¬

(¬1) المعجم الكبير حديث (637).

إنك حينما تتعرف على تلك الفرق الهدامة، التي نشأت كأشد ما تكون مِعْول الهدم، والتي تنوعت مناهجها في الإضلال والزندقة تعرف تماما أن الأمر لا يتعلق بحب آل البيت، ولا بعبادة تقربهم من الله، ولكنها لمقاصد وغايات تجتمع كلها على قلب الإسلام رأسا على عقب، إما لمطلب رياسي، وإما لانتقام قومي، أو انتصار لوثنيات وأديان محاها الإسلام. فتجد دعاوى يستميت أصحابها لنشرها وهي كما يلي: أولاً: دعوى أن الله - عز وجل - على صورة الإنسان، وأنه يهلك كله إلا وجهه، وصاحب هذه الفرية العظيمة: هو بيان بن سمعان التميمي، ولكي يقرر هذه الفرية في أذهان الأتباع زعم أنه بالاسم الأعظم يدعو الزهرة فتجيبه، فاغتر به السذج من الأتباع فأثبتوا لهذا الكذاب النبوة (¬1). وهذا فيه من الضلال: 1 - تشبيه الله - عز وجل - بالمخلوق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فهو القائل سبحانه: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). 2 - حكمه بفناء الله - عز وجل -، واستثنى الوجه حتى لا يرد قوله الباطل، والله - عز وجل - هو الحي القيوم، الذي لا يفنى. 3 - دعواه النبوة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده. 4 - صرف الناس عن منهج الكتاب والسنة إلى مزاعم وأباطيل تنافست الفرق الضالة في ابتداعها. ولكن هذا الكذاب قيض الله له خالد القسري فقتله، لقاء ما أحدث من ضلال، وخالد القسري من قبيلة بجيلة من بني مالك، ولاه هشام بن عبد الملك على العراق سنة (105 هـ) له مواقف مع الزنادقة، فقد ضحى بالجعد بن درهم القائل بخلق القرآن. ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين 1/ 2. (¬2) الآية (11) من سورة الشورى.

ثانيا: دعوى تناسخ الأرواح، فحلت روح الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - في آدم، ثم تناسخت حتى حلت في عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فصار ربا عند بعضهم فعبدوه من دون الله، وعند بعضهم صار نبيا، وشيعة هذا الرجل لا يؤمنون بالقيامة، ويزعمون أن الدنيا لا تفنى، واستحلوا ما حرم الله كالميتة، والخمر وغير ذلك (¬1). وهذا فيه من الضلال: 1 - القول بالحلول والاتحاد، عقيدة باطلة، مقتضاها أن الخالق سبحانه يحل في المخلوق، فيصير المخلوق إلاها، تعالى الله عن ذلك علو كبيرا. 2 - مناقضة معنى لا إله إلا الله، ومعناها لا معبود بحق إلا الله. 3 - دعوى النبوة بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده. 4 - مناقضة قول الله تعالى في تحريم الميتة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬2) وقوله تعالى في تحريم الخمر: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3) ومن استحل شيئا حرمه الله فإنه يكفر، ولا يصح التذرع بتأول قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} (¬4) لأنه تأول باطل في مقابل نصوص قرآنية حرمت الخمر وغيرها، علما بأن الآية هنا نصت على تحريم الميتة. 5 - صرف الناس عن منهج الكتاب والسنة إلى مزاعم وأباطيل تنافست الفرق الضالة في ابتداعها. ثالثا: خرج من الفرقة السابقة فرقة تبنت القول بالحلولية، فزعموا أن عبد الله بن عمرو بن حرب تحولت فيه روح حفيد علي: عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، وزعموا أن عبد الله بن محمد بن علي المعروف بابن الحنفية نص على إمامة عبد الله بن عمرو بن حرب، فسمى أتباعه أنفسهم الحربية. ¬

(¬1) مصدر المعلومات في هذا البحث مقالات الإسلاميين 1/ 26 - 60، بتصرف. (¬2) من الآية (3) من سورة المائدة. (¬3) الآية (90) من سورة المائدة. (¬4) من الآية (145) من سورة الأنعام.

وهذا فيه من الضلال: 1 - القول بالتناسخ عقيدة الحلول والاتحاد، لكن الذي حل هنا ليس الخالق بل المخلوق حل في المخلوق. 2 - طلب الدنيا بفساد الاعتقاد، فصاحبُ هذه الفرية ما أراد بها سوى حظ نفسه من الشهرة، وسيادة الأتباع، ولو على ضلال وفساد في الاعتقاد. رابعا: القول بألوهية غير الله، قال بذلك فرقة تسمى المغيرية نسبة إلى المغيرة بن سعيد، زعموا أنه كان يزعم أنه نبي، وأنه يعلم اسم الله الأعظم، وأنه يحيي الموتى بهذا الاسم، وأنهم يعبدون رجلا من نور له تاج، خلْقه كالرجل وله مثل أعضاء الرجل، تنبع الحكمة من قلبه، وأن عدد أعضائه على عدد حروف أبجد، فالألف قدمه لاعوجاجها، وقال عن حرف الهاء معرضا بالعورة: لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمرا عظيما، وزعم أنه رأى ذلك المعبود، وجاء بأباطيل في حق الله وخلْق الكفار والمؤمنين، وزعم أنه عرض على السماوات والأرض منع علي - رضي الله عنه - فأبين، فعرض على الناس فقام عمر بن الخطاب إلى أبي بكر فأمره أن يتحمل منعه والغدر به، ففعل أبو بكر، واستدل هذا الكذاب، بقول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (¬1) وزعم أن عمر قال لأبي بكر: أنا أعينك على علي لتجعل لي الخلافة بعدك، ويستدل هذا الكذاب بقول الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، يعني بذلك عمر وأبا بكر، لأن عمر قاده إلى الكفر بإمامة علي، وقال هذا الكذاب بالرجعة، فزعم أن الناس كلهم يرجعون إلى الدنيا، وأن القبور تنشق عنهم، ولذلك كان هذا الكذاب يأمر أتباعه بانتظار محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وذكر لهم أن جبريل وميكائيل عليهما السلام يبايعانه بين الركن والمقام، ويحيي له سبعة عشر رجلاً يعطى كل رجل منهم كذا وكذا حرفاً من الاسم الأعظم، ¬

(¬1) الآية (72) من سورة الأحزاب. (¬2) الآية (16) من سورة الحشر ..

فيهزمون الجيوش ويملكون الأرض، فلما خرج محمد وقتل قال بعض أصحاب المغيرة: لم يكن الخارج محمد بن عبد الله، وإنما كان شيطاناً تمثل في صورته، وأن محمداً سيخرج ويملك، وبرئ بعضهم من المغيرة. وكانت نهاية هذا الكذاب على يد مبيد الزنادقة خالد القسري البجلي رحمه الله. وهذا فيه من الضلال: 1 - القول بألوهية غير الله تعالى. 2 - الافتراء على الله في ذاته وصفاته، وفي تصرفه فيما خلق. 3 - الاستدلال بالقرآن على ما يروج من كذب وبهتان. 4 - الكذب على الله في أمر علي، وأبي بكر، وعمر - رضي الله عنهم -. 5 - صرف الناس عن منهج الكتاب والسنة إلى مزاعم وأباطيل تنافست الفرق الضالة في ابتداعها. خامسا: القول بحل ما حرم الله - عز وجل -، وأن الله لم يحرم شيئا تقوى به النفوس، قال بهذا المنصورية فرقة تنتسب إلى أبي منصور الكذاب: رجل من بني عجل، زعم أن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - السماء، وهو الأرض، وزعم أنه عرج به إلى السماء، فمسح معبوده رأسه بيده، ثم قال له: أي بني اذهب فبلغ عني، ثم نزل به إلى الأرض، وزعم أنه الكِسَف الساقط من بني هاشم، وكان أتباعه إذا حلفوا أن يقولوا: ألا والكلمة، وزعم أن عيسى أول من خلق الله من خلقه، ثم علي، وأن رسل الله سبحانه لا تنقطع أبداً، وكفر بالجنة والنار، وزعم أن الجنة رجل، وأن النار رجل، واستحل النساء والمحارم، وأحل ذلك لأصحابه، وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر وغير ذلك من المحرمات حلال، وقال: لم يحرم الله ذلك علينا ولا حرم شيئاً تقوى به أنفسنا وإنما هذه الأشياء أسماء رجال حرم الله سبحانه ولايتهم، وأسقط الفرائض، وقال: هي أسماء رجال أوجب الله ولايتهم، وكانت نهاية هذا الكذاب على يد يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في أيام بني أمية أخذه فقتله. وهذا فيه الضلال كله: وهو محو الإسلام جملة وتفصيلا.

سادسا: القول بأن الأئمة أنبياء محدَّثون، ورسل الله وحججه على خلقه، لا يزال منهم رسولان واحد ناطق والآخر صامت، فالناطق محمد - صلى الله عليه وسلم -، والصامت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق، يعلمون ما كان وما هو كائن. وهذه الفرقة تسمى الخطابية نسبة إلى أبي الخطاب بن أبي زينب، زعم أتباعه أنه نبي، وأن ألرسل فرضوا عليهم طاعته، بل زعموا أنه إلهٌ، وعبدوه، وزعموا أن الأئمة آلهة، وزعموا أن أولاد الحسين - رضي الله عنه - أبناء الله وأحباؤه، ثم زعموا ذلك لأنفسهم، واستدلوا على كذبهم بتأول قول الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (¬1) فقالوا: المراد نحن، ونحن ولد الحسين، وزعموا أن جعفر بن محمد إلههم، ولكن أبا الخطاب أعظم منه، وأعظم من علي - رضي الله عنه -، ومن الدين عند هؤلاء شهادة الزور لموافقيهم. قُتل أبو الخطاب الكذاب حينما خرج على أبي جعفر المنصور، قتله عيسى بن موسى، فواعجبا لإله لا يمنع نفسه من الناس. وهذا فيه من الضلال: 1 - القول بعدم ختم النبوة والرسالة. 2 - القول بألوهية غير الله. 3 - القول بتعدد الآلهة، خلافا لقول الله - عز وجل -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬2). سابعا: تولدت من هذه الفرقة الضالة فرق هي: 1 - أتباع معمر من الخطابية، ويسمون المعمرية، أو العمومية، قالوا بعدم الموت، ولكن يرفعون بأبدانهم، وقالوا بأن الدنيا لا تفنى، وافقوا أتباع عبد الله بن معاوية ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، في هذا القول وفي التناسخ، وزعموا أن ¬

(¬1) من الأية (29) من سورة الحجر، ومن الآية (72) من سورة: ص. (¬2) الآية (22) من سورة الأنبياء.

الجنة ما يصيب الناس من الخير والنعمة والعافية، وأن النار ما يصيب الناس من الشر، واستحلوا المحرمات، من خمر وزنا وغير ذلك. وفي هذا من الضلال ما تقدم ذكره. ثامنا: الفرقة الثالثة من الخطابية: زعموا أن كل ما يحدث في قلوبهم وحي وأن كل مؤمن يوحى إليه، مستدلين على باطلهم بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} (¬1) ولم يعتبر الاستثناء في الآية، وهم الفرقة البزيغية من الخطابية، أتباع بزيغ بن موسى، زعموا أن الله هو جعفر بن محمد، وأنه ليس الذي يرون، وزعموا أن منهم من هو خير من جبريل - عليه السلام -، وخير من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وزعموا أنهم يرون أمواتهم بكرة وعشية، وأنهم لا يموتون بل يرفعون إلى الملأ الأعلى. تاسعا: الفرقة الرابعة من الخطابية: القول بعبادة جعفر بزعم أنه ربهم، والقائلون بهذا هم الفرقة العُميرية، نسبة إلى عمير بن بيان العجلي، أقروا بالموت، ولكن زعموا أنه لا يزال خلف منهم في الأرض أئمة وأنبياء، عبدوا جعفر في خيمة بنوها فوق كناسة بالكوفة، فأخذهم يزيد بن عمر بن هبيرة الوالي على العراق، فقتل عمر بن بيان الكذاب، وحبس بعض الأتباع. وهذا فيه من الضلال: بعض ما تقدم بيانه. عاشرا: الفرقة الخامسة من الخطابية، القول بألوهية جعفر بن محمد كما قالت به الفرق الثلاث، السابقة في سابعا، وثامنا، وتاسعا، وخالفوا في أنهم تبرؤا من أبي الخطاب، لأن جعفر بن محمد تبرأ منه، خلط عجيب إله تبرأ من إله. تحصل مما تقدم أن ستة من الإمامية أخرجوا الأمر من بني هاشم، وادعوه لأنفسهم، مع أنهم يقولون بالنص على ولاية علي - رضي الله عنه -، والستة هم: عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي، وبيان بن سمعان التميمي، والمغيرة بن سعيد، وأبو منصور، والحسن بن أبي منصور، وأبو الخطاب الأسدي، وزعم أبو الخطاب أنه أفضل من بني هاشم. ¬

(¬1) من الآية (145) من سورة آل عمران، ومن الآية (100) من سورة يونس.

فتبين أن هذه المزاعم كلها مناوأة للإسلام جملة وتفصيلا، وسواء كان الدافع إليها حب الشهرة والسيادة على الناس، وما يتبع ذلك من شهوات الدنيا ومتاعها، أو التكذيب لما جاء به نبينا محمد جملة وتفصيلا، فالنتيجة واحدة ضرب لوحدة الأمة المحمدية التي نسجها العمل بالكتاب والسنة. الحادي عشر: القول أن روح القدس هو الله - عز وجل -، فكانت هذه الروح في النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم في علي، ثم في الحسن، ثم في الحسين، ثم في علي بن الحسين، ثم في محمد بن علي، ثم في جعفر بن محمد بن علي، ثم في موسى بن جعفر، ثم في علي بن موسى بن جعفر، ثم في محمد بن علي بن موسى، ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى، ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى، ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي، وهؤلاء آلهة عندهم، كل واحد منهم إله على التناسخ، والإله عندهم يدخل في الهياكل. الثاني عشر: القول بأن عليا - رضي الله عنه - هو الله - عز وجل -، ويُكذّبون نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ويشتمونه، ويقولون ادعى الأمر لنفسه، وإنما هو لعلي - رضي الله عنه -. الثالث عشر: القول بأن الله حل في خمسة أشخاص: في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي علي، وفي الحسن، وفي الحسين، وفي فاطمة - رضي الله عنهم -، فهؤلاء آلهة عندهم، والقائلون بهذا هم أتباع الشريعي، وقد حكي أن الشريعي كان يزعم أن البارئ - جل جلاله - يحل فيه، وخالفوا القائلين بتكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وسموا هؤلاء الأشخاص الخمسة، الذين حل فيها الإله حسب زعمهم، خمسة أضداد، فالأضداد أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ومن هنا افترقوا في الأضداد على مقالتين: زعم بعضهم أن الأضداد محمودة؛ لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها، فهي محمودة من هذا الوجه. وزعم آخرون أن الأضداد مذمومة، وأنها لا تحمد بحال من الأحوال. وحكي أن فرقة من الرافضة يقال لهم: النُّميرية أصحاب النميري، يقولون: إن البارئ - عز وجل - كان حالاً في النميري.

الرابع عشر: القول بألوهية علي - رضي الله عنه -، وبرجعته إلى الدنيا، قبل يوم القيامة، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، والقائلون بهذا هم أتباع عبد الله بن سبأ، وذكروا عنه أنه قال لعلي - رضي الله عنه -: أنت أنت، يعني الإله. الخامس عشر: القول بأن الله - عز وجل - وَكَلَ الأمور إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها، وأن الله سبحانه لم يخلق من ذلك شيئاً، وزعم ذلك كثير منهم في علي - رضي الله عنه -، ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع، وتهبط عليهم الملائكة، وتظهر عليهم المعجزات ويوحى إليهم. ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة به: إن علياً - رضي الله عنه - بها. وفيهم يقول بعض الشعراء: برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال منهم وابن باب ومن قوم إذا ذكروا علياً ... يردون السلام على السحاب وفي النُّساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص، وأصحاب هذه المقالة إذا أرادوا شيئاً يستحسنونه قالوا: لا ندري لعل الله حال فيه، ومالوا إلى اطراح الشرائع، وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده. الصنف الثاني من الأصناف الثلاثة التي ذكرنا بأن الشيعة يجمعها ثلاثة أصناف؛ هم الرافضة وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر وهم مجمعون على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف، وأنها قرابة، وأنه جائز للإمام في حال التقية أن يقول: إنه ليس بإمام، وأبطلوا جميعاً الاجتهاد في الأحكام، وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس، وزعموا أن علياً رضوان الله عليه كان مصيباً في جميع أحواله، وأنه لم يخطئ في شيء من أمور الدين، إلا الكاملية أصحاب أبي كامل فإنهم كفروا الناس بترك الاقتداء به، وكفروا علياً بترك الطلب، وأنكروا الخروج على أئمة الجور، وقالوا: ليس يجوز ذلك دون الإمام المنصوص على إمامته، وهم

سوى الكاملية أربع وعشرون فرقة يُدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي بن أبي طالب. فالفرقة الأولى: القطعية وإنما سموا قطعية لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر بن محمد بن علي وهم جمهور الشيعة يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على إمامة علي بن أبي طالب واستخلفه بعده بعينه واسمه، وأن علياً نص على إمامة ابنه الحسن بن علي، وأن الحسن بن علي نص على إمامة أخيه الحسين بن علي، وأن الحسين بن علي نص على إمامة ابنه علي بن الحسين، وأن علي بن الحسين نص على إمامة ابنه محمد بن علي، وأن محمد بن علي نص على إمامة ابنه جعفر بن محمد، وأن جعفر بن محمد نص على إمامة ابنه موسى بن جعفر، وأن موسى بن جعفر نص على إمامة ابنه علي بن موسى، وأن علي بن موسى نص على إمامة ابنه محمد بن علي بن موسى، وأن محمد بن علي نص على إمامة ابنه علي بن محمد بن علي بن موسى، وأن علي بن محمد بن علي بن موسى نص على إمامة ابنه الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى؛ وهو الذي كان بسامرا، وأن الحسن بن علي نص على إمامة ابنه محمد بن الحسن بن علي؛ وهو الغائب المنتظر عندهم الذي يدَّعون أنه يظهر فيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وهم يتعلقون به وهو أوهى من خيط العنكبوت، قال ياقوت رحمه الله: قرأت في كتاب ألفه أبو العباس أحمد بن علي بن بابة القاشي (¬1)، وكان رجلا أديبا، قدم مرو وأقام بها إلى أن مات بعد الخمسمائة، ذكر في كتاب ألّفه في فرق الشيعة إلى أن انتهى إلى ذكر المنتظر فقال: ومن عجائب ما يذكر مما شاهدته في بلادنا قوم من العلوية، من أصحاب التنايات (¬2) يعتقدون هذا المذهب، فينتظرون صباح كلّ يوم طلوع القائم عليهم، ولا يرضون بالانتظار، حتى إن جلّهم يركبون متوشّحين بالسيوف شاكّين في السلاح، فيبرزون من قراهم مستقبلين لإمامهم، ¬

(¬1) نسبة إلى قاشان؛ مدينة قرب أصبهان، تذكر مع قم. (¬2) لم أقف على معناها.

ويرجعون متأسفين لما يفوتهم، قال: هذا وأشباهه منامات من فسد دماغه، واحترقت أخلاطه (¬1). والفرقة الثانية منهم وهم الكيسانية: وهي إحدى عشرة فرقة؛ وإنما سموا كيسانية لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي، ودعا إلى محمد بن الحنفية، كان يقال له: كيسان، ويقال: إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه. الفرقة الأولى من الكيسانية: هي الثانية من الرافضة يزعمون أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نص على إمامة ابنه محمد بن الحنفية، لأنه دفع إليه الراية بالبصرة. الفرقة الثالثة من الرافضة: هي الثانية من الكيسانية يزعمون أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نص على إمامة ابنه الحسن بن علي - رضي الله عنه -، وأن الحسن بن علي - رضي الله عنه - نص على إمامة أخيه الحسين بن علي - رضي الله عنه -، وأن الحسين بن علي - رضي الله عنه - نص على إمامة أخيه محمد بن علي - رضي الله عنه - وهو محمد بن الحنفية. الفرقة الرابعة من الرافضة: هي الثالثة من الكيسانية، وهي الكربية: أصحاب أبي كرب الضرير، يزعمون أن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى، أسد عن يمينه، ونمر عن شماله يحفظانه، يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه، وزعموا أن السبب الذي من أجله صبر على هذا الحال أن يكون مغيباً عن الخلق أن لله تعالى فيه تدبيراً لا يعلمه غيره، ومن القائلين بهذا القول كُثير الشاعر وفي ذلك يقول: ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يرى فيهم زماناً ... برضوى عنده عسل وماء الفرقة الخامسة من الرافضة: هي الرابعة من الكيسانية يزعمون أن محمد بن الحنفية إنما جعل بجبال رضوى عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مران، وبيعته إياه، ولك أن تتعجب من هذه السخافة، ومن حقد الرافضة على الأمويين. ¬

(¬1) معجم البلدان 4/ 296.

الفرقة السادسة من الرافضة: هي الخامسة من الكيسانية يزعمون أن محمد بن الحنفية مات، وأن الإمام بعده ابنه أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية. الفرقة السابعة من الرافضة: هي السادسة من الكيسانية يزعمون أن الإمام بعد أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ابن أخيه الحسن بن محمد بن الحنفية، وأن أبا هاشم أوصى إليه، ثم أوصى الحسن إلى ابنه علي بن الحسن، وهلك علي ولم يعقب، فهم ينتظرون رجعة محمد بن الحنفية، ويقولون: إنه يرجع ويملك، فهم اليوم في التيه لا إمام لهم، إلى أن يرجع إليهم محمد بن الحنفية في زعمهم. الفرقة الثامنة من الرافضة: هي السابعة من الكيسانية يزعمون أن الإمام بعد أبي هاشم هو محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قالوا: وذلك أن أبا هاشم مات بأرض الشراة منصرفه من الشام، فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد، ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس، ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض، ثم رجع بعض هؤلاء عن هذا القول وزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - ونصبه إماماً، ثم نص العباس على إمامة ابنه عبد الله، ونص عبد الله على إمامة ابنه علي بن عبد الله، ثم ساقوا الإمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور، وهؤلاء هم الراوندية، وافترقت هذه الفرقة في أمر أبي مسلم الخراساني على مقالتين: فزعمت فرقة منهم تدعى الرزامية أصحاب رجل يقال له: رزام، زعمت أن أبا مسلم قتل، وقالت فرقة أخرى يقال لها: أبو مسلمية إن أبا مسلم حي لم يمت، ويحكى عنهم استحلال لما لم يحلِل لهم أسلافهم. الفرقة التاسعة من الرافضة: هي الحربية أصحاب عبد الله بن عمرو بن حرب، وهي الثامنة من الكيسانية يزعمون أن أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية نصب عبد الله بن عمرو بن حرب إماماً، وتحولت روح أبي هاشم فيه، ثم وقفوا على كذب عبد الله بن عمرو بن حرب فصاروا إلى المدينة يلتمسون إماماً، فلقوا عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فدعاهم إلى أن يأتموا به، فاستجابوا له ودانوا بإمامته، وادعوا له الوصية، وافترقوا في أمر عبد الله بن معاوية ثلاث فرق:

زعمت فرقة منهم أنه قد مات، وزعمت فرقة أخرى أنه بجبال أصبهان وأنه لم يمت، ولا يموت حتى يقود بنواصي الخيل إلى رجال من بني هاشم، وزعمت فرقة ثالثة أنه حي بجبال أصبهان لم يمت ولا يموت حتى يلي أمور الناس وهو المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. الفرقة العاشرة من الرافضة: هم البيانية أصحاب بيان بن سمعان التميمي، وهي الفرقة التاسعة من الكيسانية: يزعمون أن أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان التميمي، وأنه لم يكن له أن يوصي بها إلى عقبه. الفرقة الحادية عشرة من الرافضة: هي العاشرة من الكيسانية يزعمون أن الإمام بعد أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. الفرقة الثانية عشرة من الرافضة: هم الذين يسوقون النص من النبي - صلى الله عليه وسلم - على إمامة علي وينتهون بها إلى علي بن الحسين، وهم المغيرية: أصحاب المغيرة بن سعيد، يزعمون أن الإمام بعد علي بن الحسين ابنه محمد بن علي بن الحسين أبو جعفر، وأن أبا جعفر أوصى إلى المغيرة بن سعيد، فهم يأتمون به إلى أن يخرج المهدي، والمهدي فيما زعموا هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، وزعموا أنه حي مقيم بجبال ناحية الحاجر، وأنه لا يزال مقيماً هناك إلى أوان خروجه، وإذا قلنا عن صنف أنهم يسوقون الإمامة إلى علي بن الحسين فإنما نعني الذين يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على إمامة علي، وأن علياً نص على إمامة الحسن، وأن الحسن نص على إمامة الحسين، وأن الحسين نص على إمامة علي بن الحسين. الفرقة الثاثة عشرة من الرافضة: يسوقون الإمامة من علي بن أبي طالب وينتهون بها إلى علي بن الحسين ثم يزعمون أن الإمام بعد علي بن الحسين أبو جعفر محمد بن علي، وأن الإمام بعد أبي جعفر محمد بن عبد الله بن الحسن الخارج بالمدينة، وزعموا أنه المهدي وأنكروا إمامة المغيرة بن سعيد. الفرقة الرابعة عشرة من الرافضة: يسوقون الإمامة من علي وينتهون بها إلى علي بن الحسين، ويزعمون أن علي بن الحسين نص على إمامة أبي جعفر محمد

بن علي، وأن أبا جعفر محمد بن علي أوصى إلى أبي منصور، ثم اختلفوا فرقتين: فرقة يقال لها: الحسينية يزعمون أن أبا منصور أوصى إلى ابنه الحسين بن أبي منصور وهو الإمام بعده. وفرقة أخرى يقال لها: المحمدية مالت إلى تثبيت أمر محمد بن عبد الله بن الحسن، وإلى القول بإمامته وقالوا: إنما أوصى أبو جعفر إلى أبي منصور دون بني هاشم، كما أوصى موسى - عليه السلام - إلى يوشع بن نون، دون ولده ودون ولد هارون، ثم إن الأمر بعد أبي منصور راجع إلى ولد علي، كما رجع الأمر بعد يوشع بن نون إلى ولد هارون، قالوا: وإنما أوصى موسى - عليه السلام - إلى يوشع بن نون دون ولده، ودون ولد هارون لئلا يكون بين البطنين اختلاف، فيكون يوشع هو الذي يدل على صاحب الأمر، فكذلك أبو جعفر أوصى إلى أبي منصور وزعموا أن أبا منصور قال: إنما أنا مستودع وليس لي أن أضعها في غيري، ولكن القائم هو محمد بن عبد الله. الفرقة الخامسة عشرة من الرافضة: يسوقون الإمامة إلى أبي جعفر محمد بن علي، وأن أبا جعفر نص على إمامة جعفر بن محمد، وأن جعفر بن محمد حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره، وهو القائم المهدي، وهذه الفرقة تسمى الناوسية: لقبوا برئيس لهم يقال له عجلان بن ناوس من أهل البصرة. الفرقة السادسة عشرة من الرافضة: يزعمون أن جعفر بن محمد مات وأن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وأنكروا أن يكون إسماعيل مات في حياة أبيه وقالوا: لا يموت حتى يملك لأن أباه قد كان يخبر أنه وصيه والإمام بعده. الفرقة السابعة عشرة من الرافضة: هم القرامطة يزعمون أن النبي - عليه السلام - نص على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وأن علياً نص على إمامة ابنه الحسن - رضي الله عنه -، وأن الحسن بن علي نص على إمامة أخيه الحسين بن علي - رضي الله عنه -، وأن الحسين بن علي نص على إمامة ابنه علي بن الحسين، وأن علي بن الحسين نص على إمامة ابنه محمد بن علي، ونص محمد بن علي على إمامة ابنه جعفر، ونص جعفر على إمامة ابن ابنه محمد بن إسماعيل، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي إلى اليوم لم

يمت، ولا يموت حتى يملك الأرض، وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أن سابع الأئمة قائمهم. الفرقة الثامنة عشرة من الرافضة: يسوقون الإمامة من علي بن أبي طالب على سبيل ما حكينا عن القرامطة وينتهون بها إلى جعفر بن محمد، ويزعمون أن جعفر بن محمد جعلها لإسماعيل ابنه دون سائر ولده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه صارت في ابنه محمد بن إسماعيل، وهذا الصنف يدعون المباركية: نسبوا إلى رئيس لهم يقال له المبارك، وزعموا أن محمد بن إسماعيل قد مات، وأنها في ولده من بعده. الفرقة العشرون من الرافضة: يسوقون الإمامة من علي على ما حكينا عمن تقدمهم وينتهون بها إلى جعفر بن محمد، ويزعمون أن الإمام بعد جعفر محمد بن جعفر، ثم هي في ولده من بعده، وهم السميطية نسبوا إلى رئيس لهم يقال له: يحيى بن أبي سميط. الفرقة الحادية والعشرون من الرافضة: يسوقون الإمامة من علي إلى جعفر بن محمد على ما حكينا عمن تقدم، ويزعمون أن الإمام بعد جعفر ابنه عبد الله بن جعفر، وكان أكبر من خلف من ولده، وهي في ولده، وأصحاب هذه المقالة يدعون العمارية: نسبوا إلى رئيس لهم يعرف بعمار، ويدعون الفطحية: لأن عبد الله بن جعفر كان أفطح الرجلين، وأهل هذه المقالة يرجعون إلى عدد كثير. فأما زرارة فإن جماعة من العمارية تدعي أنه كان على مقالتها وأنه لم يرجع عنها، وزعم بعضهم أنه رجع عن ذلك حين سأل عبد الله بن جعفر عن مسائل لم يجد عنده جوابها، وصار إلى الائتمام بموسى بن جعفر بن محمد، وأصحاب زرارة يدعون الزرارية ويدعون التميمية. الفرقة الثانية والعشرون من الرافضة: يسوقون الإمامة وينتهون بها إلى جعفر بن محمد ويزعمون أن جعفر بن محمد نص على إمامة ابنه موسى بن جعفر وأن موسى بن جعفر حي لم يمت ولا يموت حتى يملك شرق الأرض وغربها ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذا الصنف يدعون الواقفة لأنهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه إلى غيره، وبعض مخالفي هذه الفرقة

يدعونهم الممطورة وذلك أن رجلاً منهم ناظر يونس بن عبد الرحمن ويونس من القطعية الذين قطعوا على موت موسى بن جعفر فقال له يونس: أنتم أهون عليّ من الكلاب الممطورة فلزمهم هذا النبز. والقائلون بإمامة موسى بن جعفر يدعون الموسوية لقولهم بإمامة موسى بن جعفر ويدعون المفضلية لأنهم نسبوا إلى رئيس لهم يقال له المفضل بن عمر وكان ذا قدر فيهم، وفرقة من الموسوية وقفوا في أمر موسى بن جعفر فقالوا: لا ندري أمات أم لم يمت إلا أنا مقيمون على إمامته حتى يتضح لنا أمر غيره وإن وضحت لنا إمامة غيره كما وضحت لنا إمامته قلنا بذلك وأنقدنا له. الفرقة الثالثة والعشرون من الرافضة: يسوقون الإمامة من علي إلى موسى بن جعفر كما حكينا من قول المتقدمين غير أنهم يقولون أن موسى بن جعفر نص على إمامة ابنه أحمد بن موسى بن جعفر. الفرقة الرابعة والعشرون من الرافضة: يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي وأن علياً نص على الحسن بن علي ثم انتهت الإمامة إلى محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر كما حكينا عن أول فرقة من الرافضة، ويزعمون أن محمد بن الحسن بعده إمام هو القائم الذي يظهر فيملأ الدنيا عدلاً ويقمع الظلم والأولون قالوا: إن محمد بن الحسن هو القائم الذي يظهر فيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. واختلفت الروافض القائلون بإمامة محمد بن علي بن موسى بن جعفر لتقارب سنه؛ وذلك أن أباه توفي وهو ابن ثماني سنين - وقال بعضهم: بل توفي وله أربع سنين - هل كان في تلك الحال إماماً واجب الطاعة على مقالتين: زعم بعضهم أنه كان في تلك الحال إماماً واجب الطاعة عالماً بما يعلمه الأئمة من الأحكام وجميع أمور الدنيا يجب الائتمام والاقتداء به كما وجب الائتمام والاقتداء بسائر الأئمة من قبله. وزعم بعضهم أنه كان في تلك الحال إماماً على معنى أن الأمر كان فيه وله دون الناس وعلى أنه لا يصلح لذلك الموضع في ذلك الوقت أحد غيره وأما أن يكون اجتمع فيه في تلك الحال ما اجتمع في غيره من الأئمة المتقدمين فلا، وزعموا أنه

لم يكن يجوز في تلك الحال أن يؤمهم، ولكن الذي يتولى الصلاة لهم وينفذ أحكامهم في ذلك الوقت غيره من أهل الفقه والدين والصلاح إلى أن يبلغ المبلغ الذي يصلح هذا فيه. تم الكلام في الغلاة والإمامية. واختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم فرق: منها الهشامية: أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طويل عريض عميق طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه لا يوفي بعضه على بعض ولم يعينوا طولاً غير الطويل، وإنما قالوا: طوله مثل عرضه على المجاز دون التحقيق، وزعموا أنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وطعمه هو رائحته ورائحته هي مجسته وهو نفسه لون ولم يعينوا لوناً ولا طعماً هو غيره وزعموا أنه هو اللون وهو الطعم وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث المكان بأن تحرك البارئ فحدث المكان بحركته فكان فيه وزعم أن المكان هو العرش، وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له: إن ربه جسم ذاهب جاءٍ فيتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال فقلت له: فأيما أعظم إلهك أم هذا الجبل وأومأت إلى أبي قبيس قال: فقال: هذا الجبل يوفي عليه أي هو أعظم منه، وذكر أيضاً ابن الراوندي أن هشام بن الحكم كان يقول: إن بين إلهه وبين الأجسام المشاهدة تشابهاً من جهة من الجهات لولا ذلك ما دلت عليه، وحكي عنه خلاف هذا أنه كان يقول: إنه جسم ذو أبعاض لا يشبهها ولا تشبهه، وحكى الجاحظ عن هشام بن الحكم في بعض كتبه أنه كان يزعم أن الله - عز وجل - إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض ولولا ملابسته لما وراء ما هناك لما درى ما هناك، وزعم أن بعضه يشوب وهو شعاعه وأن الشوب محال على بعضه، ولو زعم هشام أن الله تعالى يعلم ما تحت الثرى بغير اتصال ولا خبر ولا قياس كان قد ترك تعلقه بالمشاهدة وقال بالحق.

وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل: زعم مرة أنه كالبلورة، وزعم مرة أنه كالسبيكة، وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار، ثم رجع عن ذلك وقال: هو جسم لا كالأجسام، وزعم الوراق أن بعض أصحاب هشام أجابه مرة إلى أن الله - عز وجل - على العرش مماس له وأنه لا ينفصل عن العرش ولا ينفصل العرش عنه. الفرقة الثانية: يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم أنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون البارئ ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله - عز وجل - على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف. والفرقة الثالثة: من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي - وهو غير هشام بن الحكم - يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً ويقولون: هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان، له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم، وأنه يسمع بغير ما يبصر به، وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم، وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود. الفرقة الخامسة: يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان. والفرقة السادسة: يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس، وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه. واختلفت الروافض في القرآن وهم فرقتان: الفرقة الأولى: هشام بن الحكم وأصحابه يزعمون أن القرآن لا خالق ولا مخلوق، وزاد بعض من يخبر على المقالات في الحكاية عن هشام فزعم أنه كان يقول: لا خالق ولا مخلوق، ولا يقال أيضاً غير مخلوق؛ لأنه صفة والصفة لا توصف، وحكى زرقان عن هشام بن الحكم أنه قال: القرآن على ضربين:

إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله - عز وجل - الصوت المقطع وهو رسم القرآن. فأما القرآن فهو فعل الله مثل العلم والحركة لا هو هو ولا غيره. الفرقة الثانية: يزعمون أنه مخلوق محْدث لم يكن ثم كان كما، تزعم المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم. ومنهم أهل الغلو: ينكرون القيامة والآخرة ويقولون: ليس قيامة ولا آخرة، وإنما هي أرواح تتناسخ في الصور، فمن كان محسناً جوزي بأن ينقل روحه إلى جسد لا يلحقه فيه ضرر ولا ألم، ومن كان مسيئاً جوزي بأن ينقل روحه إلى أجساد يلحق الروح في كونه فيها الضرر والألم، وليس شيء غير ذلك، وأن الدنيا لا تزال أبداً هكذا. واختلفت الروافض في القرآن هل زيد فيه أو نقص منه: وهم فرق: منها من يزعم: أن القرآن قد نقص منه، وأما الزيادة فذلك غير جائز أن يكون قد كان، وكذلك لا يجوز أن يكون قد غير منه شيء عما كان عليه، فأما ذهاب كثير منه فقد ذهب كثير منه، والإمام يحيط علماً به، وهذا يخالف قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). ومنهم القائلون بالاعتزال والإمامة: يزعمون أن القرآن ما نقص منه ولا زيد فيه وأنه على ما أنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يغير ولم يبدل ولا زال عما كان عليه. واختلفت الروافض في الأئمة هل يجوز أن يكونوا أفضل من الأنبياء: منهم من يزعم أن الأئمة لا يكونون أفضل من الأنبياء، بل الأنبياء أفضل منهم، غير أن بعض هؤلاء جوزوا أن يكون الأئمة أفضل من الملائكة. ومنهم من يزعم: أن الأئمة أفضل من الأنبياء والملائكة وأنه لا يكون أحد أفضل من الأئمة، وهذا قول طوائف منهم. واختلفت الروافض في الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل يجوز عليه أن يعصي: ¬

(¬1) الآية (9) من سورة الحجر.

فمنهم من يزعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جائز عليه أن يعصي الله وأن النبي قد عصى الله في أخذ الفداء يوم بدر، فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم؛ لأن الرسول إذا عصى فالوحي يأتيه من قبل الله، والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم، وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا، ولا يغلطوا، وإن جاز على الرسول العصيان، والقائل بهذا القول هشام بن الحكم. ومنهم من يزعم: أنه لا يجوز على الرسول - عليه السلام - أن يعصي الله - عز وجل -، ولا يجوز ذلك على الأئمة؛ لأنهم جميعاً حجج الله وهم معصومون من الزلل، ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم، كما جاز على المأمومين، ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزاً عليهم جميعاً. واختلفت الروافض في الإمام هل يعلم كل شيء: فمنهم يزعم أن الإمام يعلم كل ما كان وكل ما يكون، ولا يخرج شيء عن علمه من أمر الدين ولا من أمر الدنيا، وزعم هؤلاء أن الرسول كان كاتباً ويعرف الكتابة وسائر اللغات، وهذا مخالف لقوله تعالى: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (¬1) فقد بين الله - عز وجل - أنه أمي، والأمي هو من لا يقرأ ولا يكتب. واختلفت الروافض في الأئمة هل يجوز أن تظهر عليهم المعجزات: فمنهم من يزعم: أن الأعلام تظهر عليهم، وتهبط الملائكة بالوحي عليهم، ولا يجوز أن ينسخوا الشرائع، ولا يبدلوها ولا يغيروها. ومنهم من قال: ويجوز أن ينسخوا الشرائع ويبدلوها ويغيروها. واختلفت الروافض في الإيمان: فالجمهور منهم يزعمون: أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسوله وبالإمام، وبجميع ما جاء من عندهم، فأما المعرفة بذلك فضرورة عندهم؛ فإذا أقر وعرف فهو مؤمن مسلم، وإذا أقر ولم يعرف فهو مسلم وليس بمؤمن. ¬

(¬1) من الآيتين (157، 158) من سورة الأعراف.

هذه بعض طامات الرافضة، وبعض ضلالات فرقها، وهو غيض من فيض، لم نتوسع في ذلك؛ لأن المقصود التحذير منهم إجمالا، فضلالهم بين لكل ذي عقل. والحمد لله أن ثبتنا على منهج الكتاب والسنة وأبعدنا عن الزيغ والضلال. تم العمل في هذا الكتاب في يوم الاثنين 17/ 6/ 1436 هـ بالمدينة النبوية، سائلا الله - عز وجل - أن يُعْظم الثواب لمن كتب، ومن نشر، ومن قرأ، والحمد لله المنعم المتفضل، اللهم صلِ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، والتابعين له، وعلينا معهم عدد خلقك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، ورضى نفسك.

§1/1