النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية = سيرة صلاح الدين الأيوبي

بهاء الدين بن شداد

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي من علينا بالإسلام وهدانا بالإيمان الجاري على أحسن نظام، وأنعم علينا بشفاعة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وجعل سير الأولين عبرة لأولي الأفهام، وتقلبات الأحوال قاضية على كل أمر حادث بالإنصرام، كيلا يغتر ذو جمال حسن ولا ييأس من لعبت بأحواله أكف السقام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشفي القلوب من لظى الأوام وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي فتح للهداية أبواباً يلج المستفتحون لها بمفاتيح الانقياد والاستسلام، صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة ببقاء الأيام وبعد فإني لما رأيت أيام مولانا السلطان، الملك الناصر جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، رافع علم العدل والإحسان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، منقذ بيت المقدس من أيدي المشركين خادم الحرمين الشريفين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي سقى الله ضريحه صوب الرضوان، وأذاقه في مقر رحمته حلاوة نتيجة الإيمان، قد صدقت من أخبار

الأولين ما كذبه الاستبعاد، وشهدت بالصحة لما روي من نوادر الكرام الأجواد، وحققت وقعات شجعان مماليكها ما قدحت فيه الشكوك من أخبار الشجعان، ورأيت بالعيان من الصبر على المكاره في ذات الله ما قوى به الإيمان، وعظمت عجائبها عن أن يحيط بها خاطر أو يجنها جنان، وجلت نوادرها أن تحد ببيان لسان، أو أن تسطر في طرس ببنان، وكانت مع ذلك من قبيل لا يمكن الخبير بها إخفاؤها، ولا يسع المطلع عليها إلا أن تروي عنه أخبارها وأنباؤها، ومسني من رق نعمتها، وحق محبتها وواجب خدمتها، ما يجب علي به إبداء ما حققت من حسناتها، ورواية ما علمت من محاسن صفاتها. رأيت أن أختصر من ذلك على ما أملاه علي العيان، أو الخبر الذي يقارب مظنونه درجة الإيقان، وذلك جزء من كل، وقل من جل، ليستدل بالقليل على الكثير، وبالشعاع على المستطيل بعد المستطير، وسميت هذا المختصر من تاريخها: النوادر السلطانية، والمحاسن اليوسفية.

وجعلته قسمين أحدهما في مولده رحمه الله ومنشئه وخصائصه وأوصافه وأخلاقه المرضية، وشمائله الراجحة في نظر الشرع الوفية، والقسم الثاني في تقلبات الأحوال به ووقائعه وفتوحه، وتواريخ ذلك أيام حياته قدس الله روحه، والله المستعان في الصيانة عن هفوات اللسان والقلم، وجريان الخاطر بما فيه مزلة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل.

القسم الأول في ذكر مولده وخصائصه وأوصافه وشمائله وخلاله

القسم الأول في ذكر مولده وخصائصه وأوصافه وشمائله وخلاله

كان مولده رحمه الله على ما بلغنا من ألسنة الثقات الذين تتبعوه حتى بنوا عليه تسيير مولده على ما تقتضيه صناعة التنجيم في شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة وذلك بقلعة تكريت، وكان والده أيوب بن شاذي رحمه الله تعالى والياً بها وكان كريماً أريحياً حليماً حسن الأخلاق مولده ببدوين ثم اتفق له الانتقال من تكريت إلى الموصل المحروسة وانتقل ولده المذكور معه وأقام بها إلى أن ترعرع وكان والده محترماً هو وأخوه أسد الدين شيركوه عند أتابك زنكي واتفق لوالده الانتقال إلى الشام وأعطي بعلبك وأقام بها مدة فنقل ولده المذكور إلى بعلبك المحروسة وأقام بها في خدمة والده يتربى تحت حجره ويرتضع ثدي

محاسن أخلاقه حتى بدت منه أمارات السعادة، ولاحت عليه لوائح التقدم والسيادة، فقدمه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى وعول عليه ونظر إليه وقربه وخصصه، ولم يزل كلما تقدم قدماً تبدو منه أسباب تقتضي تقديمه إلى ما هو أعلى منه حتى بدا لعمه أسد الدين رحمه الله الحركة إلى مصر المحروسة وذهابه إليها. وسيأتي بيان ذلك مفصلاً مبيناً إن شاء الله تعالى.

ذكر ما شاهدناه من مواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية

ذكر ما شاهدناه من مواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام. وكان رحمة الله عليه حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى قد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء وفهم من ذلك ما يحتاج إلى تفهمه بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولاً حسناً وإن لم يكن بعبارة الفقهاء فتحصل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التشبيه. غير مارق سهم النظر إلى التعطيل والتمويه جارية على نمط الاستقامة موافقة لقانون النظر الصحيح مرضية عند أكابر العلماء، وكان قد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب. وكان شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم في الصغر ورأيته وهو يأخذها عليهم وهم يلقونها من حفظهم بين يديه.

وأما الصلاة فإنه كان رحمه الله تعالى شديد المواظبة عليها بالجماعة حتى أنه ذكر يوماً أن له سنين ما صلي إلا جماعة. وكان إن مرض يستدعي الإمام وحده ويكلف نفسه القيام ويصلي جماعة. وكان يواظب على السنين الرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ في الليل وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح ولم يكن يترك الصلاة ما دام عقله عليه. ولقد رأيته قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائماً وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه. وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى. وأما الزكاة فإنه مات رحمه الله تعالى ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة وأما صدقة النفل فإنها استرقت جميع ما ملكه من الأموال فإنه ملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ناصرية وجرماً واحداً ذهباً ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئاً من أنواع الأملاك.

وأما صوم رمضان فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه في رمضانات متعددة وكان القاضي الفاضل قد تولى ثبت تلك الأيام وشرع رحمه الله في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي توفي فيها وقد واظب على الصوم مدة حتى بقيت عليه فوائت رمضانين شغلته الأمراض وملازمة الجهاد عن قضائها ومع كون الصوم لا يوافق مزاجه ألهمه الله تعالى الصوم وأقدره على ما قضاه من تلك الفوائت فكان يصوم وأنا أثبت الأيام التي يصومها لأن القاضي كان غائباً وكان الطبيب يلوم وهو لا يسمع ويقول لا أعلم ما يكون فكأنه كان ملهماً ما يراد به رحمه الله تعالى. وأما الحج فإنه كان لم يزل عازماً عليه وناوياً له سيما في العام الذي توفي فيه فإنه صمم العزم عليه وأمر بالتأهب وعملنا الرفادة ولم يبق إلا المسير فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت وخلو اليد عما يليق بأمثاله فأخر إلى العام المستقبل فقضى الله ما قضى وهذا شيء اشترك في العلم به الخاص والعام.

وكان رحمه الله تعالى يحب سماع القرآن العظيم ويستجيد إمامه ويشترط أن يكون عالماً بعلم القرآن العظيم متقناً لحفظه. وكان يستقرئ من يحرسه في الليل وهو في برجه الجزءين والثلاثة والأربعة وهو يسمع. وكان يستقرئ وهو في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الآية والعشرين والزائد على ذلك ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته فقربه وجعل له حظاً من خاص طعامه ووقف عليه وعلى أبيه جزأ من مزرعة. وكان رحمه الله تعالى خاشع القلب رقيقه غزير الدمعة إذا سمع القرآن يخشع قلبه وتدمع عينه في معظم أوقاته. وكان رحمه الله شديد الرغبة في سماع الحديث ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له. وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه. تردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية حرسها الله تعالى وروى عنه أحاديث كثيرة.

وكان رحمه الله تعالى يحب أن يقرأ الحديث بنفسه وكان يستحضرني في خلوته ويحضر شيئاً من كتب الحديث ويقرؤها هو فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه. وكان رحمة الله عليه كثير التعظيم لشعائر الدين يقول ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار مصدقاً بجميع ما وردت به الشرائع منشرحاً بذلك صدره مبغضاً للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر

أعز الله أنصاره بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي قيل عنه أنه كان معانداً للشرائع مبطلاً وكان قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمره بقتله فطلبه أياماً فقتله. كان قدس الله روحه حسن الظن بالله كثير الاعتماد عليه عظيم الإنابة إليه. ولقد شاهدت من آثار ذلك ما أحكيه. وذلك أن الفرنج خذلهم الله كانوا نازلين ببيت نوبة وهو موضع قريب من القدس الشريف حرسها الله تعالى بينهما بعض مرحلة وكان السلطان بالقدس وقد أقام يزكاً على العدو محيطاً به وقد سير إليهم الجواسيس والمخبرين فتواصلت الأخبار بقوة عزمهم على الصعود إلى القدس ومحاصرته وتركيب القنابل عليه واشتدت مخافة المسلمين بسبب ذلك فاستحضر الأمراء وعرفهم ما قد دهم المسلمين من الشدة وشاورهم في الإقامة بالقدس فأتوا بمجاملة باطنها غير ظاهرها وأصر الجميع على أن لا مصلحة في إقامته بنفسه فإنها مخاطرة بالإسلام وذكروا أنهم يقصدونهم ويخرج هو رحمه الله بطائفة من العسكر يكون حول العدو كما كان الحال بعكا ويكون هو ومن معه بصدر منع ميرتهم أو التضييق عليهم ويكونون هم بصدد حفظ البلد والدفع عنه وانفصل مجلس المشورة على ذلك وهو مصر على أن يقيم بنفسه علماً منه أنه إن لم يقم لم يقم أحد فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم جاء من عندهم خبر أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه

الملك العادل أو أحد أولاده حتى يكون هو الحاكم عليهم والذي يأتمرون بأمره فعلم أن هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة وضاق صدره وتقسم فكره واشتدت فكرته، ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة وكانت ليلة الجمعة من أول الليل إلى أن قارب الصبح وكان الزمان شتاءً وليس معنا ثالث إلا الله تعالى ونحن نقسم أقساماً ونرتب على كل قسم بمقتضاه حتى أخذني الإشفاق عليه والخوف على مزاحه فإنه كان يغلب عليه اليبس فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة فقال رحمه الله لعلك جاءك النوم ثم نهض فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني إلا وأذن المؤذن وطلع الصبح وكنت أصلي معه الصبح في معظم الأوقات فدخلت عليه وهو يمر الماء على أطرافه فقال ما أخذني النوم أصلاً فقلت قد علمت فقال من أين فقلت لأني ما نمت وما بقي وقت للنوم ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه فقلت له قد وقع لي واقع وأظنه مفيداً إن شاء الله تعالى فقال وما هو

فقلت له الإخلاد إلى الله تعالى والإنابة إليه. والاعتماد في كشف الغمة عليه. فقال: وكيف نصنع فقلت اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرواح ويصلي على العادة بالأقصى موضع مسرى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقدم المولى التصدق بشيء خفية على يد من يثق به ويصلي المولى ركعتين بين الآذان والإقامة ويدعو الله في سجوده فقد ورد فيه حديث صحيح وتقول في باطنك: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل. فإن الله أكرم من أن يخيب قصدك ففعل ذلك كله وصليت إلى جانبه على العادة وصلى الركعتين بين الآذان والإقامة ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته ثم على سجادته ولا أسمع ما يقول فلم ينقض ذلك اليوم حتى وصلت رقعة من عز الدين جرديك وكان على اليزك يخبر فيها أن الفرنج مختبطون وقد ركب اليوم عسكرهم بأسره إلى الصحراء ووقفوا إلى قائم الظهيرة ثم عادوا إلى خيامهم وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك. ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر أنهم اختلفوا فذهبت الفرنسيسية إلى أنهم لا بد لهم من محاصرة القدس وذهب الأنكتار وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النصرانية ويرميهم في الجبل مع عدم المياه فإن السلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه أنهم خرجوا للمشورة ومن عادتهم

ذكر عدله رحمه الله تعالى

أنهم يتشاورون للحرب على ظهور الخيل وأنهم قد نصوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم فأي شيء أشاروا به لا يخالفونهم ولما كانت بكرة الاثنين جاء المبشر يخبر أنهم رحلوا عائدين إلى جهة الرملة فهذا ما شهدته من آثار استنباطه وإخلاده إلى الله تعالى رحمه الله. ذكر عدله رحمه الله تعالى روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الوالي العادل ظل الله في أرضه فمن نصحه في نفسه أو في عباده أظله الله تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله ومن خانه في نفسه أو في عباده خذله الله يوم القيامة، يرفع للوالي العادل في كل يوم عمل ستين صديقاً كلهم عابد مجتهد لنفسه. ولقد كان رحمه الله عادلاً رؤوفاً رحيماً ناصراً للضعيف على القوي. وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً.

على أنه كان في جميع زمانه قابلاً لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ويفتح باب العدل ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات. وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ولم يرد قاصداً أبداً أو منتحلاً ولا طالب حاجة وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة رحمة الله عليه. ولقد كان رؤوفاً بالرعية ناصراً للدين مواظباً على تلاوة القرآن العزيز عالماً بما فيه عاملاً به لا يعدوه أبداً رحمة الله عليه. وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته. ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده ولكنه لم يحابه في الحق.

وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي وذلك أني كنت يوماً في مجلس الحكم بالقدس الشريف إذ دخل على شيخ حسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه فسألته من خصمك فقال خصمي السلطان وهذا بساط العدل وقد سمعنا أنك لا تحابي أحد قلت وفي أي قضية هو خصمك فقال إن سنقر الخلاطي كان مملوكي ولم يزل على ملكي إلى أن مات وكان في يده أموال عظيمة كلها لي ومات عنها واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها فقلت له يا شيخ وما أقعدك إلى هذه الغاية فقال الحقوق لا تبطل بالتأخر وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات

فأخذت الكتاب منه وتصفحت مضمونه فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما وتم الشرط إلى آخره فتعجبت من هذه القضية وقلت للرجل لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده فرضي الرجل بذلك واندفع فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية فاستبعد ذلك استبعاداً عظيماً وقال كنت نظرت في الكتاب فقلت نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق وقد كتب عليه كتاب حكمي من دمشق وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون فقال مبارك نحن نحضر الرجل ونحاكمه ونعمل في القضية ما يقضيه الشرع. ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة فقلت له

هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال أقم عني وكيلا يسمع الدعوى ثم يقيم الشهود شهادتهم وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا ففعلت ذلك ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال إن كان لك دعوى فاذكرها فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولاً فأجابه السلطان أن سنقر هذا كان مملوكي ولم يزل على ملكي حتى أعتقته وتوفي وخلف ما خلفه لورثته فقال الرجل لي بينة تشهد بما ادعيته ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه فلما سمع السلطان التاريخ قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر وأني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك وذكروا القصة كما ذكرها والتاريخ كما ادعاه فأبأس الرجل فقلت له يا مولاي هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلباً لمراحم السلطان وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائباً للقصد فقال

هذا باب آخر وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها. فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع والانقياد إلى الحق وإرغام النفس والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

ذكر طرف من كرمه رحمه الله

ذكر طرف من كرمه رحمه الله قال صلّى الله عليه وسلّم إذا عثر الكريم فإن الله آخذ بيده وفي الكرم أحاديث، وكرمه قدس الله روحه كان أظهر من أن يسطر، وأشهر من أن يذكر لكن نبهت عليه جملة، وذلك أنه ملك ما ملك ومات ولم يوجد في خزانته من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً ناصرية ومن الذهب إلا جرم واحد صوري ما علمت وزنه وكان رحمه الله يهب الأقاليم وفتح آمد وطلبها منه ابن قره أرسلان فأعطاه إياه. ورأيته قد اجتمع عنده جمع من الوفود بالقدس الشريف وكان قد

عزم على التوجه إلى دمشق ولم يكن في الخزانة ما يعطى للوفود فلم أزل أخاطبه في معناهم حتى باع أشياء من بيت المال وفضضنا ثمنها عليهم ولم يفضل منه درهم واحد. وكان رحمه الله يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة. وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئاً من المال حذراً أن يفاجئهم معهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه وسمعته يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كما ينظر إلى التراب فكأنه بذلك أراد نفسه رحمه الله تعالى. وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول أعطينا لفلان. وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئاً. وكان رحمه الله يعطي ويكرم أكثر مما يعطى وكان قد عرفه الناس فكانوا يستزيدونه في كل وقت وما سمعته قط يقول قد زدت مراراً فكم أزيد. وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي وكنت أخجل منه من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره.

وأما تعداد عطاياه وتعداد صنوفها فلا تطمع فيها حقيقة أصلاً وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي قد تجاربنا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة آلاف فرس. ومن شاهد مواهبه يستقل هذا القدر. اللهم إنك ألهمته الكرم وأنت أكرم منه فتكرم عليه برحمتك ورضوانك يا أرحم الراحمين.

ذكر شجاعته قدس الله روحه

ذكر شجاعته قدس الله روحه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية. ولقد كان رحمه الله تعالى من عظماء الشجعان قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات لا يهوله أمر ولقد رأيته يعطي دستوراً في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عددهم الكثير وقد سألت باليان بن بارزان وهو من كبار ملوك الساحل وهو جالس بين يديه رحمه الله يوم انعقاد الصلح عن عدتهم فقال الترجمال عنه أنه يقول كنت أنا وصاحب صيدا وكان أيضاً من ملوكهم وعقلائهم قاصدين عسكرنا من صور فلما أشرفنا عليه تحازرناه فحزرهم هو خمس مائة ألف

وحزرتهم أنا بستمائة ألف أو قال عكس ذلك قلت فكم هلك منهم فقال أما بالقتل فقريب من مائة ألف وأما بالموت والغرق فلا نعلم وما رجع من هذا العالم إلا الأقل. وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريباً منهم. ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيف وسبعون مركباً على عكا وأنا أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو لا يزداد إلا قوة نفس. وكان رحمه الله تعالى إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبي واحد على يده جنيب ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ويرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها. وكان يشارف العدو ويجاوره رحمه الله. ولقد قرئ عليه جزآن من الحديث بين الصفين وذلك أني قلت له قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة ولم ينقل أنه سمع بين الصفين فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسناً فأذن في ذلك فأحضر جزءه كما أحضر من له به سماع فقرأ عليه ونحن على ظهور الدواب بين الصفين نمشي تارة ونقف أخرى. وما رأيته استكثر العدو أصلاً ولا استعظم أمرهم قط وكان مع ذلك في حال التفكر والتدبير تذكر بين يديه الأقسام كلها ويرتب على كل قسم بمقتضاه من غبر حدة ولا غضب يعتريه. ولقد انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ووقع الكؤس والعلم وهو رضي الله عنه ثابت القدم في نفر

يسير حتى انحاز إلى الجبل بجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ولم يزل كذلك حتى نصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ولم يزل رحمه الله مصابراً لهم وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة ونحن لا نتوقعها وكانت المصلحة في الصلح وظهر ذلك لما أبدت الأقضية الإلهية والأقدار ما في مكنونها. وكان رحمه الله يمرض ويصح وتعتريه أحوال مهولة وهو مصابر مرابط وتتراءى الناران ونسمع منهم صوت الناقوس ويسمعون منا صوت الأذان إلى أن انقضت الوقعة على أحسن حال وأيسره قدس الله روحه ونور ضريحه.

ذكر اهتمامه بأمر الجهاد

ذكر اهتمامه بأمر الجهاد قال الله تعالى::والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " ونصوص الجهاد كثيرة. ولقد كان رحمه الله شديد المواظبة عليه عظيم الاهتمام به ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد أو في الأرفاد لصدق وبر في يمينه. ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه. ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة. ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا فلو لم يكن في البرج لقتلته ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً.

وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد وأنا ممن جمع له فيه كتاباً جمعت فيه آدابه وكل آية وردت فيه وكل حديث روي في فضله وشرحت غريبها. وكان رحمه الله كثيراً ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل عز نصره ولأحكينّ عنه ما سمعته منه وذلك أنه كان قد أخذ كوكب في ذي القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة وأعطى العسكر دستوراً وأخذ عسكر مصر في العود إلى مصر وكان مقدمها أخاه الملك العادل عز نصره فسار معه ليودعه ويحظى بصلاة العيد في القدس الشريف حرسه الله تعالى وسرنا في خدمته. ولما صلى العيد في القدس وقع له أن يمضي إلى عسقلان ويودعهم بعسقلان ثم يعود على طريق الساحل يتفقد البلاد الساحلية إلى عكا ويرتب أحوالها فأشاروا عليه أن يفعل فإن العساكر إذا فارقتنا نبقى في عدة يسيرة والفرنج كلهم بصور وهذه مخاطرة عظيمة فلم يلتفت رحمه الله وودع أخاه والعسكر بعسقلان ثم سرنا في خدمته إلى الساحل طالبي عكا. وكان الزمان شتاء والبحر هائجاً شديداً وموجه كالجبال كما قال تعالى وكنت حديث عهد برؤية البحر فعظم أمر البحر عندي حتى خيل لي أني

لو قال لي إن جزت في البحر ميلاً واحداً ملكتك الدنيا لما كنت أفعل واستسخفت رأي من ركب البحر رجاء دينار أو درهم واستحسنت رأي من لا يقبل شهادة راكب بحر هذا كله خطر لي لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر فبينا أنا في ذلك إذ التفت إلي رحمه الله. وقال أما أحكي لك شيئاً في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائره واتبعتهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت فعظم وقع هذا الكلام عندي حيث ناقض ما كان خطر لي وقلت له ليس في الأرض أشجع نفساً من المولى ولا أقوى منه نية في نصرة دين الله تعالى فقال فكيف فقلت أما الشجاعة فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر وهوله. وأما نصرة دين الله فهو أن المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتى تطهر جميع الأرض منهم

واستأذنت أن أحكي له ما كان خطر لي فحكيت له ثم قلت ما هذه إلا نية جميلة ولكن المولى يسير في البحر العساكر وهو سور الإسلام ومنعته فلا ينبغي له أن يخاطر بنفسه فقال أنا أستفتيك ما أشرف الميتتين فقلت الموت في سبيل الله فقال غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتتين فانظر إلى هذه الطوية ما أطهرها وإلى هذه النفس ما أشجعها وأجرأها رحمة الله عليه. اللهم إنك تعلم أنه بذل جهده في نصرة دينك وجاهد رجاء رحمتك فارحمه.

صبره واحتسابه رحمة الله عليه

صبره واحتسابه رحمة الله عليه قال الله سبحانه وتعالى: " ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ". ولقد رأيته رحمه الله بمرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس وإنما يكون منكباً على جانبه إن كان بالخيمة وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس وكان يأمر أن يفرق على الناس وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية القتال وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة المغرب يطوف على الأطلاب صابراً على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل وأنا أتعجب من ذلك فيقول إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل وهذه عناية ربانية.

ولقد مرض رحمه الله ونحن على الخرنوبة وكان قد تأخر عن تل الحجل بسبب مرضه فبلغ الإفرنج فخرجوا طمعاً في أن ينالوا شيئاً من المسلمين وهي نوبة النهر فخرجوا في مرحلة الآبار التي تحت التل فأمر رحمه الله بالثقل حتى يتجهز بالرحيل والتأخر عن جهة الناصرة. وكان عماد الدين صاحب سنجار متمرضاً أيضاً فأذن له أن يتأخر مع الثقل وأقام هو ثم رحل العدو في اليوم الثاني بطلبنا فركب على مضض ورتب العسكر للقاء القوم تعبية الحرب وجعل طرف الميمنة الملك العادل وطرف الميسرة تقي الدين وجعل ولده الملك الظاهر والملك الأفضل عز نصرهما في القلب ونزل هو وراء القوم يطلبهم وأول ما نزل من التل أحضر بين يديه أفرنجي قد أسر من القوم فأمر بضرب عنقه بين يديه بعد عرض الإسلام عليه وإبائه عنه وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار هو مستديراً إلى ورائهم حتى يقطع بينهم وبين خيامهم وهو يسير ساعة ثم ينزل يستريح ويتظلل بمنديل على رأسه من شدة وقع الشمس ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر ونزل هو قبالتهم على تل مطل عليهم إلى أن دخل الليل ثم أمر العساكر المنصورة إن عادت إلى محل المصابرة وأن يبيتوا تحت السلاح وتأخر هو ونحن في خدمته إلى قمة الجبل فضربت له خيمة لطيفة وبتنا تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نمرضه ونشاغله وهو ينام تارة ويستيقظ أخرى حتى لاح الصباح ثم ضرب البوق وركب هو وركبت العساكر وأحدقت بالعدو ورحل العدو عائداً إلى

خيامهم من الجانب الغربي من النهر وضايقهم المسلمون في ذلك اليوم مضايقة شنيعة وفي ذلك اليوم قدم أولاده بين يديه احتساباً وجميع من حضر منهم ولم يزل يبعث من عنده حتى لم يبق عنده إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير فيظن الرائي لها عن بعد أن تحتها خلقاً عظيماً ولم يزل العدو سائراً والقتل يعمل فيهم وكلما قتل منهم شخص دفنوه وكلما جرح منهم رجل حملوه حتى لا يبقى بعدهم من يعلم قتله وجرحه وهم سائرون ونحن نشاهدهم حتى اشتد بهم الأمر ونزلوا عند الجسر وكان الإفرنج متى نزلوا إلى الأرض آيس المسلمون من بلوغ غرض منهم لأنهم يجتمعون في حالة النزول جماعة عظيمة وبقي رحمه الله في موضعه العساكر على ظهور الخيل قبالة العدو إلى آخر النهار ثم أمرهم أن يبيتوا على مثل ما باتوا عليه بارحتهم وعدنا إلى منزلنا في الليلة الماضية وعاد العسكر في الصباح إلى ما كان عليه بالأمس من مضايقة العدو ورحل العدو وسار على ما مضى من القتل والقتال حتى دنا إلى خيامه وخرج إليه منها من أنجده حتى وصلوا إلى خيامهم. فانظر إلى هذا الصبر والاحتساب وإلى أي غاية بلغ هذا الرجل. اللهم إنك ألهمته الصبر والاحتساب ووفقته فلا تحرمه ثوابه يا أرحم الراحمين.

ولقد رأيته رحمه الله تعالى وقد جاءه خبر وفاة ولد له بالغ يسمى إسماعيل فوقف على الكتاب ولم يعرف أحداً ولم نعرف حتى سمعناه من غيره ولم يظهر عليه شيء من ذلك سوى أنه لما قرأ الكتاب دمعت عينه. ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمس مناجيق ورتب لكل منجنيق قوماً يتولون نصبه وكنا طول الليل في خدمته قدس الله روحه في ألذ مفاكهة وأرغد عيش والرسل تتواصل تخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا ومن المنجنيق الفلاني كذا حتى أتى الصباح وقد فرغ منها ولم يبق إلا تركيب خنازيرها عليها وكانت من أطول الليالي وأشدها برداً ومطراً.

ورأيته وقد وصل إليه خبر وفاة تقي الدين ابن أخيه ونحن في مقابلة الإفرنج جريدة على الرملة وبيننا وبينهم شوط فرس لا غير فأحضر الملك العادل وعلم الدين سليمان وسابق الدين وعز الدين وأمر بالناس فطردوا من قريب الخيمة بحيث لم يبق حولها أحد زيادة عن غلوة سهم ثم أظهر الكتاب ووقف عليه وبكى بكاءً شديداً حتى أبكانا من غير أن نعلم السبب ثم قال رحمه الله والعبرة تحنقه توفي تقي الدين فاشتد بكاؤه وبكاء الجماعة ثم عدت إلى نفسي فقلت استغفروا الله تعالى من هذه الحالة وانظروا أين وفيم أنتم وأعرضوا عما سواه فقال رحمه الله نعم أستغفر الله وأخذ يكررها ثم قال لا يعلم أحد واستدعى بشيء من الماورد فغسل عينيه ثم أشخص الطعام وحضر الناس ولم يعلم بذلك أحد حتى عاد العدو إلى يافا وعدنا نحن إلى النطرون وهو مقر ثقلنا. وكان رحمه الله شديد الشغف والشفقة بأولاده الصغار وهو صابر على مفارقتهم راض ببعدهم وكان صابراً على مر العيش وخشونته مع القدرة التامة على غير ذلك احتساباً لله تعالى. اللهم إن ترك ذلك ابتغاء مرضاتك فارض عنه وارحمه.

ذكر نبذ من حلمه وعفوه رحمه الله

ذكر نبذ من حلمه وعفوه رحمه الله قال الله سبحانه وتعالى: " والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ". لقد كان متجاوزاً قليل الغضب ولقد كنت في خدمته بمرج عيون قبل خروج الإفرنج إلى عكا يسر الله فتحها وكان من عادته أن يركب في وقت الركوب ثم ينزل فيمد الطعام ويأكل مع الناس ثم ينهض إلى خيمة خاصة له ينام فيها ثم يستيقظ من منامه ويصلي ويجلس خلوة وأنا في خدمته نقرأ شيئاً من الحديث أو شيئاً من الفقه، ولقد قرأ علي كتاباً مختصراً تصنيف الرازي يشتمل على الأرباع الأربعة من الفقه ونزل يوماً على عادته ومد الطعام بين يديه ثم عزم على النهوض فقيل له أن وقت الصلاة قد قرب فعاد إلى الجلوس وقال نصلي وننام ثم جلس يتحدث حديث متضجر وقد أخلا المكان إلا ممن لزم فتقدم إليه مملوك كبير محترم عنده وعرض عليه قصة لبعض المجاهدين فقال هل أنا الآن ضجران أخرها ساعة فلم يفعل وقدم القصة إلى قريب من وجهه الكريم بيده وفتحها بحيث يقرأها فوقف على الاسم المكتوب في رأسها فعرفه فقال رجل مستحق فقال يوقع المولى له فقال ليست الدواة حاضرة الآن

وكان رحمه الله جالساً في باب الخركاه بحيث لا يستطيع أحد الدخول إليها والدواة في صدرها والخركاه كبيرة فقال له المخاطب هذه الدواة في صدر الخركاه وليس لهذا معنى إلا أمره إياه بإحضار الدواة لا غير فالتفت رحمه الله فرأى الدواة فقال والله لقد صدق ثم امتد على يده اليسرى ومد يده اليمنى فأحضرها ووقع له فقلت قال الله تعالى في حق نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإنك لعلى خلق عظيم. وما أرى المولى إلا قد شاركه في هذا الخلق فقال ما ضرنا شيئاً قضينا حاجته وحصل الثواب ولو وقعت هذه المواقعة لآحاد الناس وأفرادهم لقام وقعد ومن الذي يقدر أن يخاطب أحداً هو تحت حكمه بمثل ذلك وهذا غاية الإحسان والحلم والله لا يضيع أجر المحسنين. ولقد كانت طراحته تداس عند التزاحم عليه لعرض القصص وهو لا يتأثر لذلك ولقد نفرت يوماً بلغتي من الجمال وأنا راكب في خدمته فزحمت وركه حتى آلمته وهو يتبسم رحمه الله. ولقد دخلت بين يديه في يوم ريح مطير إلى القدس الشريف وهو كثير الوحل فنضحت البغلة عليه من الطين حتى أتلفت جميع ما كان عليه وهو يتبسم وأردت التأخر عنه بسبب ذلك فما تركني.

ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ويلقى ذلك بالنشر والقبول. وهذه حكاية يندر أن يسطر وذلك أنه كان قد اتجه أخو ملك الإفرنج خذلهم الله إلى يافا فإن العسكر كان قد رحل عنهم وبعد وتراجع إلى النطرون وهو مكان بينه وبين يافا للعسكر مرحلتان للمجدّ وثلاث معتادة وجمع رحمه الله العسكر ومضى إلى قيسارية يلتقي نجدتهم عساه يبلغ منهم غرضاً وعلم الإفرنج الذين كانوا بيافا ذلك وكان بها الأنكتار ومعه جماعة فجهز معظم من كان عنده في المراكب إلى قيسارية خشية على النجدة أن يتم عليها أمر وبقى الأنكتار في نفر يسير لعلمهم ببعده رحمه الله عنهم وبعد العسكر، ولما وصل رحمه الله إلى قيسارية ورأى النجدة قد وصلت إلى البلد واحتمت به وعلم أنه لا ينال منهم غرضه سرى من ليلته في أول الليل إلى آخره حتى أتى يافا صباحاً والأنكتار في سبعة عشر فارساً وثلاثمائة راجل نازلاً خارج البلد في خيمة له فصبحه العسكر صباحاً فركب الملعون وكان شجاعاً باسلاً صاحب رأي في الحرب وثبت بين يدي العسكر ولم يدخل البلد فاستدار العسكر الإسلامي بهم إلا من جهة البحر وتعبى العسكر تعبية القتال وأمر السلطان العسكر بالحملة انتهازاً للفرصة فأجابه بعض الأكراد بكلام فيه خشونة تعتب لعدم التوفير في إقطاعه فعطف رحمه الله عنان فرسه كالمغضب لعلمه أنهم

لا يعملون في ذلك اليوم شيئاً وتركهم وانصرف راجعاً وأمر بخيمته التي كانت منصوبة أن قلعت وانفضوا متيقنين أن السلطان في ذلك اليوم ربما صلب جماعة، ولقد حكى لي ولده الملك الظاهر أعز الله أنصاره أنه خاف منه في ذلك اليوم حتى أنه لم يتجاسر أن يقع في عينيه مع أنه حمل في ذلك اليوم وأوغل ولم يزل سائراً حتى نزل بسازور وما من الأمراء إلا من يرعد خفية ومن يعتقد أنه مأخوذ مسخوط عليه قال ولم تحدثني نفسي بالدخول عليه خفية منه حتى استدعاني قال فدخلت عليه وقد وصله من دمشق المحروسة فاكهة كثيرة فقال اطلبوا الأمراء حتى يأكلوا شيئاً قال فسرى عني ما كنت أجده وطلبت الأمراء فحضروا وهم خائفون فوجدوا من بشره وانبساطه ما أحدث لهم الطمأنينة والأمن والسرور وانصرفوا على عزم الرحيل كأن لم يجر شيء أصلاً فانظر إلى هذا الحلم الذي لا يتأتى في مثل هذا الزمان ولا يحكى عمن تقدم من أمثاله رحمة الله عليه.

ذكر محافظته على أسباب المروءة

ذكر محافظته على أسباب المروءة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صافحه الرجل لا يترك يده حتى يكون الرجل هو التارك الذي يبدأ بذلك. ولقد كان السلطان كثير المروءة ندي اليد كثير الحياء مبسوط الوجه لمن يرد عليه من الضيوف حتى يطعم لا يرى أن يفارقه الضيف حتى يطعم عنده ولا يخاطبه بشيء إلا وينجزه وكان يكرم الوافد عليه وإن كان كافراً. ولقد وفد عليه البرنس صاحب إنطاكية فما أحس به إلا وهو واقف على باب خيمته بعد وقوع الصلح في شهر شوال سنة ثمان وثمانين وخمس مائة عند منصرفه من القدس إلى دمشق عرض له في الطريق وطلب منه شيئاً فأعطاه العمق وهي بلاد كان أخذها منه عام فتح الساحل وهو سنة أربع وثمانين. ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة فاحترمه وأكرمه وأكل معه الطعام ومع ذلك عرض عليه الإسلام فذكر له طرفاً من محاسنه وحثه عليه. وكان يكرم من يرد عليه من المشايخ وأرباب العلم والفضل وذوي الأقدار وكان يوصينا بأن لا نغفل عمن يجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين حتى يحضرهم عنده وينالهم من إحسانه.

ولقد مر بنا سنة أربع وثمانين وخمس مائة رجل جمع بين العلم والتصوف وكان من ذوي الأقدار وأبوه صاحب توريز فأعرض هو عن فن أبيه واشتغل بالعلم والعمل وحج ووصل زائراً لبيت الله المقدس ولما قضى لبانته منه ورأى آثار السلطان رحمه الله فيه وقع له زيارته فوصل إلينا إلى المعسكر المنصور فما أحسست به إلا وقد دخل علي في الخيمة فلقيته ورحبت به وسألته عن سبب ذلك ووصوله فأخبرني بذلك وأنه يؤثر زيارة السلطان لما رأى له من الآثار الحميدة الجميلة فعرفت السلطان بذلك في ليلة وصول هذا الرجل فاستحضره وروى عنه حديثاً ثم انصرفنا وبات عندي في الخيمة فلما صليت الصبح أخذ يودعني فقبحت له المسير بدون وداع السلطان فلم يلتفت ولم يلو على ذلك وقال قد قضيت حاجتي منه ولا عرض لي فيما عدا رؤيته وزيارته وانصرف من ساعته ومضى على ذلك ليال فسأل السلطان عنه فأخبرته بفعله فظهر عليه آثار الغضب كيف لم أخبره برواحه وقال كيف يطرقنا مثل هذا الرجل وينصرف عنا من غير إحسان يمسه منا وشدد النكير علي في ذلك فما وجدت بداً من أن أكتب كتاباً إلى محيي الدين قاضي دمشق كلفته فيه السؤال عن حال الرجل وإيصال رقعة كتبتها إليه طي كتابي أخبره فيها بإنكار السلطان رواحه من غير اجتماعه به وحسنت له فيها العود وكان بيني وبينه صداقة تقتضي مثل ذلك فما أحسست به إلا وقد عاد إلي فرحب به السلطان وانبسط معه وأمسكه

أياماً ثم خلع عليه خلعة حسنة وأعطاه مركباً لائقاً وثياباً كثيرة يحملها إلى بنيه وأتباعه وجيرانه وانصرف عنه وهو أشكر الناس وأخلصهم دعاءً لأيامه. ولقد رأيته وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه أمارات الخوف والجزع فقال للترجمان من أي شيء يخاف فأجرى الله على لسانه أن قال كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أنه ما أرى إلا الخير. فرق له ومن عليه وأطلقه ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء متواترة الدق على صدرها قال اليزكي إن هذه خرجت من عند الإفرنج فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قصتها فقالت اللصوص المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا ابنتي وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك السلطان هو أرحم ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك. فرق لها ودمعت عينه وحركته مروءته وأمر من ذهب إلى سوق

العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها ويدفع له ثمنها ويحضرها وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه فما كان إلا أن وقع نظرها عليها فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقول فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم. وكان لا يرى الإساءة إلى من صحبه وإن أفرط في الخيانة ولقد أبدل في خزائنه كيسان من الذهب المصري بكيسين من الفلوس فما عمل بالنواب شيئاً سوى أن صرفهم من عملهم لا غير. ولقد دخل البرنس أرناط صاحب الكرك مع ملك الإفرنج بالساحل لما أسرهما في وقعة حطين في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة والواقعة مشهورة تجيء مشروحة في موضعها إن شاء الله تعالى وكان قد أمر بإحضارهما وكان أرناط هذا اللعين كافراً عظيماً جباراً شديداً وكانت قد اجتازت به قافلة من مصر حين كان بين المسلمين وبينهم هدنة فغدرها وأخذها ونكل بهم وعذبهم وأسكنهم المطامير والحبوس الحرجة وذكروا له حديث الهدنة فقال قولوا لمحمدكم يخلصكم فلما بلغه رحمه الله ذلك عنه نذر أنه متى أظفره الله به قتله بنفسه فلما أمكنه الله منه في ذلك اليوم قوى عزمه على قتله وفاءً بنذره فأحضره مع الملك فشكا الملك العطش فأحضر له قدحاً من شراب فشرب منه ثم ناوله أرناط فقال السلطان للترجمان قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما أسقيه من شرابي ولا أطعمه من طعامي

فقصد رحمه الله أن من أكل من طعامي فالمروءة تقتضي أن لا أؤذيه ثم ضرب عنقه بيده وفاءً بنذره وأخذ عكا وأخرج الأسرى كلهم من ضيق الأسر وكانوا زهاء أربعة آلاف أسير وأعطى كل واحد منهم نفقة يصل بها إلى بلده وأهله. هكذا بلغني على ألسنة جماعة لأني لم أحضر هذه الواقعة. وكان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم عارفاً بسيرهم وأحوالهم حافظاً لأنساب خيلهم عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره. وكان حسن الخلق يسأل الواحد منا عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله. وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بخير السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير وطاهر اللسان فما رأيته ولع بشتم قط، وكان حسن العهد والوفاء فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحّم على مخلفيه وجبر قلبه وأعطاه وجبر مصابه وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إياه وإلا أبقى له من الخير ما يكف حاجته وسلمه إلى من يعتني بتربيته ويكفلها. وكان لا يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفاه الله إلى مقر رحمته ومكان رضوانه.

فهذه نبذ من محاسن أخلاقه ومكارم شيمه اقتصرت عليها خوف الإطالة والسآمة وما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني الثقة به وحققته وهذا بعض ما اطلعت عليه في زمان خدمتي له وهو يسير فيما اطلع عليه غيري ممن طالت صحبته وتقدمت خدمته ولكن هذا القدر يكفي الأديب في الاستدلال على طهارة تلك الأخلاق والخلال، وحيث نجز هذا القسم فنشرع الآن في القسم الثاني من الكتاب في بيان تقلبات أحواله ووقائعه وفتوحاته في تواريخها قدس الله روحه. ونور بنور رحمته ضريحه.

القسم الثاني في بيات تقلبات أحواله وفتوحاته في تواريخها

القسم الثاني في بيات تقلبات أحواله وفتوحاته في تواريخها

ذكر حركته إلى مصر في الدفعة الأولى صحبة عمه أسد الدين، سبب ذلك أن شاور وزير المصريين كان قد خرج عليه إنسان يقال له الضرغام وكان يروم منصبه ومكانه فجمع له جموعاً كثيرة لم يكن له بها قبل وغلب عليه وأخرجه من القاهرة وقتل ولده واستولى على المكان وولي الوزارة. وكانت عادة المصريين أنه إذا غلب شخص صاحب المنصب وعجز عن دفعه وعرفوا عجزه وقعوا للقاهر منهم ورتبوه ومكنوه فإن قوتهم إنما كانت بعسكر وزيرهم وهو ملقب عندهم بالسلطان وما كانوا يرون المكاشفة وقواعدهم مستقرة من أول زمانهم على هذا المثال فلما قهر شاور وأخرج من القاهرة اشتد في طلب الشام قاصداً خدمة نور الدين ابن زنكي مستصرخاً به مستنصراً على أعدائه بعسكره فتقدم نور الدين إلى أسد الدين شيركوه بالخروج إلى مصر المحروسة قضاءً لحق الوافد المستصرخ وحفظاً للبلاد وتطلعاً إلى أحوالها وذلك في شهور سنة ثمان

ذكر عودته إلى مصر في الوقعة الثانية وهي معروفة بوقعة البابين

وخمسين وخمسمائة فتأهب أسد الدين شيركوه وسار إلى مصر فاستصحبه معه رحمه الله عن كراهية منه لمكان افتقاره إليه وجعله مقدم عسكره وصاحب رأيه وساروا حتى وصلوا إلى مصر وشاور معهم في الثاني من جمادى الآخر سنة ثمان المذكورة. وكان لوصولهم إلى مصر وقع عظيم وخافه أهل مصر ونصر شاور على خصمه وأعاده إلى منصبه ومرتبته وقرر قواعده واستقر أمره وشاهد البلاد وعرف أحوالها وعاد منها وقد غرس في قلبه الطمع في البلاد وعرف أنها بلاد بغير رجال، تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال، وكان ابتداء رحلته عنها متوجهاً إلى الشام في السابع من ذي الحجة سنة ثمان المذكورة. وكان لا يفصل أمراً ولا يقرر رحالاً إلا بمشورته ورأيه لما لاح له من آثار الإقبال والسعادة والفكرة الصحيحة واقتران النصر بحركاته وسكناته فأقام بالشام مدبراً لأمره مفكراً في كيفية رجوعه إلى البلاد المصرية محدثاً بذلك نفسه مقرراً قواعد ذلك مع الملك العادل نور الدين زنكي إلى سنة اثنتين وستين وخمسمائة. ذكر عودته إلى مصر في الوقعة الثانية وهي معروفة بوقعة البابين ولم يزل أسد الدين يتحدث بذلك بين الناس حتى بلغ شاور فداخله الخوف على البلاد من الأتراك وعلم أن أسد الدين قد طمع في البلاد

وأنه لا بد له من قصدها فكاتب الإفرنج وقرر معهم أنهم يجيئون البلاد ويمكنهم تمكيناً كلياً ويعينوه على استئصال أعدائه بحيث يستقر قلبه فيها وبلغ ذلك أسد الدين والملك العادل نور الدين فاشتد خوفهم على مصر إن ملكها الكفار واستولوا على البلاد كلها فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر وألزم السلطان رحمه الله المسير معه على كراهية منه لذلك. وكان توجههم في اثني عشر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة وكان وصولهم إلى البلاد المصرية مقارناً لوصول الإفرنج إليها واتفق شاور مع الإفرنج على أسد الدين والمصريون بأسرهم وجرت بينهم حروب كثيرة ووقعات شديدة وانفصل الإفرنج عن الديار المصرية وانفصل أسد الدين وكان سبب عود الإفرنج أن نور الدين جرد العساكر إلى بلاد الإفرنج وأخذ المنيظرة وعلم الإفرنج بذلك فخافوا على بلادهم وعادوا. وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره بسبب مواقعة الإفرنج والمصريين وما عانوه من الشدائد وعاينوه من الأهوال. وما عاد حتى صالح الإفرنج على أن ينصرفوا كلهم من مصر وعاد إلى الشام في بقية السنة وقد انضم إلى قوة الطمع في البلاد شدة الخوف عليها من الإفرنج لعلمه أنهم قد كشفوها كما كشفها وعرفوها من الوجه الذي عرفها فأقام على مضض وقلبه مقلقل والقضاء يجره إلى شيء قد قدر لغيره وهو لا يشعر بذلك

ذكر دعوه إلى مصر في الدفعة الثالثة وهي التي ملكوها فيها وجرى ما جرى في شهور سنة أربع وستين وخمسمائة

وفي أثناء سنة اثنتين وستين ملك نور الدين قلعة المنيطرة بعد مسير أسد الدين في رجب، وخرب قلعة أكاف بالبرية. وفي رمضان منها اجتمع نور الدين وأخوه قطب الدين وزين الدين -رحمهم الله- بحماة للغزاة، وساروا إلى بلاد الفرنج، فخربوا هونين في شوال منها. وفي ذي القعدة منها كان عود أسد الدين من مصر، وفيه مات قرا أرسلان بديار بكر. ذكر دعوه إلى مصر في الدفعة الثالثة وهي التي ملكوها فيها وجرى ما جرى في شهور سنة أربع وستين وخمسمائة ملك نور الدين قلعة المنيظرة بعد سير أسد الدين في رجب وخرب قلعة أكاف بالبرية. وفي رمضان منها اجتمع نور الدين وأخواه قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة وساروا إلى بلاد الإفرنج فخربوا هونين في شوال منها وفي ذي القعدة كان عود أسد الدين من مصر. وكان سبب ذلك أن الإفرنج خذلهم الله جمعوا راجلهم وفارسهم وخرجوا يريدون الديار المصرية ناكثين لجميع ما استقر مع المصريين وأسد الدين من الصلح والقواعد طمعاً في البلاد فلما بلغ ذلك نور الدين وأسد الدين لم يسعهما الصبر دون أن يسارعا إلى قصد البلاد، أما نور الدين فبالمال والرجال ولم يسر بنفسه خوفاً على البلاد من الإفرنج ولأنه قد حدث نظره إلى جانب الموصل بسبب وفاة زين الدين ابن يكتكين فإنه توفي في ذي الحجة سنة ثلاث وستين وخمسمائة وتسلم ما كان في يده من الحصون إلى قطب الدين ما عدا إربل فإنها كلها كانت له من أتابك زنكي رحمه الله فحدث لنور الدين إلى ذلك الجانب الطمع بهذا السبب فسير العسكر.

وأما أسد الدين فبسيفه وملكه وأهله ورجاله ولقد قال لي السلطان قدس الله روحه كنت أكره الناس للخروج في هذه الواقعة وما خرجت مع عمي باختياري وهذا معنى قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر على تلك القاعدة أنفذ إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعاً. وكان وصولهم إلى مصر في أثناء ربيع الأول سنة أربع وستين وخمسمائة، ولما علم الإفرنج وصول أسد الدين إلى مصر عن اتفاق بينه وبين أهلها رحلوا راجعين وعلى أعقابهم ناكصين. وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان. وكان وعدهم بمال مقابلة ما خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئاً وعلقت مخاليب أسد الدين في البلاد وعلم أن الإفرنج متى وجدوا فرصة أخذوا البلاد وترددهم إليها في كل وقت لا يفيد وإن شاور يلعب بهم تارة وبالإفرنج تارة أخرى وعلموا أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمعوا أمرهم على قبضه إن خرج إليهم وكانوا هم يترددون إلى خدمته دون أسد الدين وهو يخرج في بعض الأحيان إلى أسد الدين يجتمع به.

ذكر وفاء أسد الدين ومصير الأمر إلى السلطان

وكان يركب على قاعدة وزرائهم بالطبل والبوق والعلم فلم يتجاسر على قبضه من الجماعة إلا السلطان بنفسه. وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً وسار إلى جانبه أخذ بتلابيبه وأمر العسكر أن أخذوا على أصحابه ففروا ونهبهم العسكر وقبض على شاور وأنزل إلى خيمة مفردة وفي الحال جاءه التوقيع من المصريين على يد خادم خاص لا بد من رأسه جرياً على عادتهم في وزرائهم في تقرير قاعدة فيمن قوي منهم على صاحبه فحزت رقبته وأنفذ رأسه إليهم وأنفذ إلى أسد الدين خلعة الوزارة فلبسها وسار ودخل القصر ورتب وزيراً وذلك في سابع عشر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمائة ودام آمراً ناهياً والسلطان رحمه الله مباشر الأمور مقرر لها وزمام الأمر والنهي مفوض إليه لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة ذكر وفاء أسد الدين ومصير الأمر إلى السلطان وذلك أن أسد الدين كان كثير الأكل شديد المواظبة على تناول اللحوم الغليظة وتتواتر عليه التخم والخوانيق وينجو منها بعد مقاساة شدة

ذكر قصد الإفرنج دمياط حرسها الله تعالى

عظيمة فأخذه مرض شديد واعتراه خانوق عظيم فقتله في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وفوض الأمر بعده إلى السلطان واستقرت القواعد واستتبت الأحوال على أحسن نظام وبذل المال وملك الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله عليه فتاب من الخمر وأعرض عن أسباب اللهو وتقمص بلباس الجد والاجتهاد وما عاد عنه ولا ازداد إلا جداً إلى أن توفاه الله إلى رحمته، ولقد سمعت منه يقول لما يسر الله لي الديار المصرية علمت أنه أراد فتح الساحل لأنه أوقع ذلك في نفسي، ومن حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الإفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادها وغشي الناس من سحائب الأفضال والنعم ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام هذا كله وهو وزير متابع للقوم ولكنه مقو لمذهب السنة غارس في أهل البلاد العلم والفقه والتصوف والدين والناس يهرعون إليه من كل صوب ويفدون عليه من كل جانب وهو لا يخيب قاصداً، ولا يعدم وافداً، ولما عرف نور الدين استقرار السلطان بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين وذلك في رجب من سنة أربع وستين. ذكر قصد الإفرنج دمياط حرسها الله تعالى ولما علم الإفرنج ما جرى من المسلمين وعساكرهم وما تم للسلطان من استقامة في الديار المصرية خافوا أن يملك بلادهم ويخرب ديارهم

ويقلع آثارهم لما حدث له من القوة والملك فاجتمع الإفرنج والروم جميعاً وحدثوا أنفسهم بقصد الديار المصرية والاستيلاء عليها وملكها ورأوا قصد دمياط لتمكن القاصد لها من البر والبحر ولعلمهم أنها إن حصلت لهم حصل لهم مغرس قدم فاستصحبوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الحصار وغير ذلك

ولما سمع إفرنج الشام بذلك اشتد أمرهم فسرقوا حصن عكا من المسلمين وأسروا صاحبها وكان مملوكاً لنور الدين يسمى خلطخ العلم دار وذلك في ربيع الآخر منها، ولما رأى نور الدين ظهور أمر الإفرنج وبلغه نزولهم على دمياط قصد شغل قلوبهم فنزل على الكرك محاصراً لها في شعبان من هذه السنة فقصده إفرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقف لهم على أثر ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية بحلب وكانت وفاته في شهر رمضان سنة خمس وستين فاشتغل قلبه لأنه كان صاحب أمره فعاد يطلب الشام فبلغه خبر الزلزلة بحلب التي أخربت كثيراً من البلاد المذكورة فسار يطلب حلب فبلغه موت قطب الدين أخيه بالموصل وكانت وفاته في الثاني والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة وبلغه الخبر وهو بتل باشر فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل

ولما علم السلطان شدة قصد العدو دمياط أنفذ إلى البلد وأودعه من الرجال وأبطال الفرسان والميرة وآلات السلاح ما أمن معه عليه ووعد المقيمين فيه بإمدادهم بالعساكر والآلات وإبعاد العدو عنهم إن نزل عليهم ثم نزل الإفرنج في التاريخ المذكور واشتد زحفهم عليها وقتالهم وهو يشن الغارات عليهم من خارج والعساكر تقاتلهم من داخل ونصر الله المسلمين وأيدهم وحسن قصدهم في نصر دين الله وأسعدهم وأنجدهم حتى بان للإفرنج الخسران وظهر على الكفر الإيمان. ورأوا أنهم ينجون برؤوسهم ويسلمون بنفوسهم. فرحلوا خائبين خاسرين فحرقت مناجيقهم ونهبت وقتل منهم خلق كثير وسلم البلد بحمد الله ومنّه عن قصدهم وظهر بتوفيق الله فل حدهم، واستقرت قواعد السلطان.

ذكر طلبه والده

ذكر طلبه والده ثم أنفذ في طلب والده ليكمل السرور به ويتم الحبور وتجري القصة مشاكلة لما جرى للنبي يوسف صلاة إلى الله وصلاة عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين، فوصل والده نجم الدين إليه في أثناء جمادى الآخرى من سنة خمس وستين ويملك معه من الأدب ما كان عادته وألبسه الأمر كله فأبى أن يلبسه وقال يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت كفؤ له، ولا ينبغي أن يغير موقع السعادة فحكمه في الخزائن بأسرها ولم يزل السلطان وزيراً محكماً حتى مات العاضد أبو محمد عبد الله وبه ختم أمر المصريين. وأما نور الدين فإنه أخذ الرقة في المحرم سنة ست وستين وسار منها إلى نصيبين فأخذها في بقية الشهر وأخذ سنجار في ربيع الآخر منها ثم قصد الموصل وقصد أن لا يقاتلها فعبر بعسكره من مخاضة بلد وسار حتى خيم قبالة الموصل على تل يقال له الحصن وراسل ابن أخيه عز الدين غازي صاحب الموصل وعرفه صحة قصده فصالحه ودخل الموصل في ثالث جمادى الأولى وقرر صاحبها فيها وزوجه ابنته وأعطى عماد الدين ابن أخيه سنجار وخرج من الموصل قاصداً نحو الشام فدخل حلب في شعبان من هذه السنة.

ذكر موت العاضد

ذكر موت العاضد وكان موته في يوم الاثنين العاشر من المحرم سنة سبع وستين واستقر الملك للسلطان وكان خطب لبني العباس في أواخر أمر العاضد وهو حي وكانت الخطبة ابتداؤها للمستضيء بأمر الله واستمرت القواعد على الاستقامة وهو كلما استولى على خزانة من المال وهبها وكلما فتح له خزائن ملك أنهبها ولا يبقي لنفسه شيئاً وشرع السلطان في التأهب للغزاة وقصد بلاد العدو وتعبية الأمر لذلك وتقرير قواعده، وأما نور الدين فإنه عزم على الغزاة واستدعى صاحب الموصل ابن أخيه فوصل بالعساكر إلى خدمته وكانت غزاته عرفاً وأخذها في المحرم سنة سبع وستين. ذكر أول غزوة غزاها من الديار المصرية ولم يزل على قدم بسط العدل ونشر الإحسان وإقامة الإحسان على الناس إلى سنة ثمان وستين فعند ذلك خرج بالعساكر يريد بلاد الكرك والشوبك، وإنما بدأ بها لأنها كانت أقرب إليه، وكانت في الطريق تمنع من يقصد الديار المصرية، وكان لا يمكن أن تصل قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها بلاد العدوّ، فأراد توسيع الطريق وتسهيله لتتصل البلاد بعضها ببعض وتسهل على السابلة، فخرج قاصدا لها،

ذكر وفاة والده نجم الدين

فحاصرها وجرى بينه وبين الإفرنج وقعات وعاد عنها ولم يظفر منها بشيء في تلك الواقعة، وحصل ثواب القصد. وإما نور الدين فإنه فتح مرعش في ذي القعدة من هذه السنة وأخذ بها في ذي الحجة. ذكر وفاة والده نجم الدين ولما عاد السلطان من غزاته بلغه قبل وصوله إلى مصر وفاة أبيه نجم الدين فشق عليه ذلك حيث لم يحضر وفاته. وكان سبب وفاته وقوعه عن الفرس، وكان رحمه الله شديد الركض ولعاً بلعب الكرة بحيث من رآه يلعب بها يقول ما يموت إلاّ من وقوعه عن ظهر الفرس، وكانت وفاته في شهور سنة تسع وستين، ورأى السلطان قوة عسكره وكثرة عدد أخوته وقوة بأسهم، وكان بلغه أنّ باليمن إنساناً استولى عليها وملك حصونها وهو يخطب لنفسه يسمى بعبد النبي بن مهدي، ويزعم أن ينتشر ملكه في

ذكر وفاة نور الدين محمود ابن زنكي رحمه الله

الأرض كلها ويستتب الأمر له، فرأى أن يسيّر إليه أخاه الأكبر شمس الدولة الملك المعظّم تورانشاه، وكان كريماً أريحيّا حسن الأخلاق، سمعت منه رحمه الله الثناء على كرمه وحسن أخلاقه وترجيحه على نفسه. وكان توجهه إليها في أثناء رجب سنة تسع وستين، فمضى إليها وفتح الله على يديه، وقتل الخارجي الذي كان بها، واستولى على معظمها وأعطى وأعنى خلقاً كثيرا. ذكر وفاة نور الدين محمود ابن زنكي رحمه الله وكانت وفاته بسبب حوانيق اعترته أيضا، عجز الأطبّاء عن علاجها، وتوفي يوم الأربعاء في الحادي والعشرين من شوّال سنة تسع وستين، وذلك في قلعة دمشق، وأقام مقامه ولده الملك الصالح إسماعيل. ولقد حكى لي السلطان قال: كان بلغنا عن نور الدين أنّه قصدنا بالدار المصرية، وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نكاشف ونخالف ونشق عصاه ونلقى عسكره بمصاف نرده إذا تحقق قصده، وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شيء من ذلك، ولم يزل النزاع بيننا حتى وصل الخبر بوفاته.

ذكر منافقة الكند بأسوان وذلك في شهور سنة تسع وستين

ذكر منافقة الكند بأسوان وذلك في شهور سنة تسع وستين والكند إنسان مقدم من المصريين، كان قد نزح إلى أسوان، فأقام بها ولم يزل يدبر أمره ويجمع السودان عليه، ويخيل إليهم أنه يملك البلاد ويعيد الدولة مصرية، وكان في قلوب القوم من مهاواة المصريين ما تستصغر هذه الأفعال عنده فاجتمع عليه خلق كثير وجمع وافر، وقصدوا قوس وأعمالها، وانتهى خبره إلى السلطان فجرّد له عسكرا عظيما شاكي السلاح من الذين ذاقوا حلاوة المصرية وخافوا على فوت ذلك

ذكر قصد الإفرنج ثغر الإسكندرية حرسها الله تعالى

منهم، وقدم عليهم أخاه الملك العادل سيف الدين، وسار بهم حتى أتى القوم فلقيهم بمصاف، فكسرهم وقتل منهم خلقاً عظيما، واستأصل شأفتهم وأخمد ثائرتهم، وذلك في السابع من صفر سنة سبعين، واستقرت قواعد الملك واستوت أموره ولله الحمد والمنّة. ذكر قصد الإفرنج ثغر الإسكندرية حرسها الله تعالى وذلك أن الإفرنج لمّا علموا تغيّرات الأحوال بالديار المصرية وتقلّبات الدول بها داخلهم الطمع في البلاد وجرّدوا عساكرهم في البحر وكانوا في ستمائة قطعة ما بين شاتي وطرادة وبطسة وغير

ذكر خروج السلطان إلى الشام وأخذه دمشق

ذلك. وكانوا في ثلاثين ألفاً على ما ذكر، ونازلوا الثغر وذلك في أثناء صفر في السابع منه من هذه السنة، وهي سنة سبعين، فأمدّه السلطان بالعساكر المنصورة وتحرك، وادخل الله في قلوبهم من الخوف والرعب ما لم يمكنهم الصبر معه، وعادوا خائبين خاسرين بعد أن ضايقوا الثغر وزحفوا عليه ثلاثة أيّام وقاتلوا قتالاً شديدا، وعصمه الله منهم. ولمّا أحسّوا بحركة السلطان نحوهم ما لبثوا أن خلّفوا مناجيقهم وراءهم وآلتهم، فخرج أهل البلد إلى نهبها وإحراقها، وكان أمراّ عظيماّ ومن أعظم النعم على المسلمين وأمارة كل سعادة. ذكر خروج السلطان إلى الشام وأخذه دمشق وأما نور الدين فإنّه خلف ولده الملك الصالح إسماعيل

وكان بدمشق. وكان بقلعة حلب ابن الداية شمس الدين علي وشاذ بخت. وكان قد حدّث نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب، فوصل ظاهرها ثاني المحرّم ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين للقائه، فقبض على سابق الدين. ولمّا دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين وأخيه حسن وأودع الثلاثة السجن. وفي ذلك اليوم قتل ابن الخشاب أبو الفضل لفتنة جرت بحلب، ذكروا أنه قتل قبل إمساك أولاد الداية بيوم لأنهم تولّوا ذلك. ولمّ تحقق السلطان وفاة نور الدين وكان ولده طفلاً لا ينهض بأعباء الملك ولا يستقل بدفع عدوّ الله عن البلاد، تجهز للخروج إلى الشام، إذ هو أصل بلاد الإسلام، فتجهّز بجمع كثير من العساكر، وخلف في الديار المصرية من يستقل بحفظها وحراستها ونظم أمورها وسياستها، وخرج هو سائراً مع جمع من أهله وأقاربه وهو يكاتب أهل البلاد وأمراءها، واختلفت كلمة أصحاب الملك الصالح واختلّت تدابيرها وخاف بعضهم من بعض، وقبض على جماعة منهم، وكان ذلك سبب خوف الباقين من فعل ذلك وسبباً لتغيير قلوب الناس عن الصبي، فافتقر الحال أن كاتب شمس الدين بن المقدم السلطان، ووصل البلاد مطالباً بالملك الصالح ليكون هو الذي يتولّى أمره ويرقب حاله فيقوّم له ما اعوجّ من أمره، فوصل

ذكر تسيير سيف الدين أخاه عز الدين إلى لقائه

دمشق ولم يشق عليه عصا، ودخلها بالتسليم في يوم الثلاثاء سلخ ربيع الآخر سنة سبعين، وتسلّم قلعتها. وكان أوّل دخوله إلى دار أبيه، واجتمع الناس إليه وفي جوابه، وأنفق في ذلك اليوم في الناس مالاً طويلاً، وأظهر الفرح والسرور بالدمشقيّين، وأظهروا الفرح به، وصعد القلعة، واستقرّ قدمه في ملكها، فلم يلبث أن طلب حلب، فنازل حمص فأخذ مدينتها في جمادى الأولى سنة سبعين، ولم يشتغل بقلعتها، وسار حتى أتى حلب، ونازلها في يوم الجمعة سلخ الشهر المذكور وهي الوقعة الأولى. ذكر تسيير سيف الدين أخاه عز الدين إلى لقائه ولمّا أحسّ سيف الدين صاحب الموصل بما جرى علم أنّ الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه وعلت كلمته، وخاف أنه إن غفل عنه استحوذ على البلاد واستقرّ قدمه في الملك وتعدّى الأمر إليه، فجهّز عسكراً وافراً وجيشاً عظيما، وقدّم عليه أخاه عز الدين مسعودا، وساروا يريدون لقاء السلطان، وضرب المصاف معه ووده عن البلاد. ولمّا بلغ السلطان ذلك رحل عن حلب مستهل رجب من السنة المذكورة عائداً إلى حماة، وسار إلى حمص فاشتغل بأخذ قلعتها، فأخذها، ثم وصل عز الدين إلى حلب، وانضمّ إليه من كان بها من العسكر وخرجوا بجمع عظيم.

ذكر مسير سيف الدين بنفسه

ولمّا عرف هو بسيرهم سار حتى وافاهم في قرون حماة، وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أنّ المصاف ربما نالوا به الغرض الأكبر، والمقصود الأوفر. والقضاء يجر إلى أمور هم بها لا يشعرون. وقام المصاف بين العسكرين بقضاء الله فانكسروا بين يديه وأسر جماعة منهم، ومنّ عليهم وأطلقهم، وذلك في تاسع عشر رمضان سنة سبعين أيضا. ثم سار عقيب انكسارهم ونزل على حلب، وهي الدفعة الثانية، وصالحوه على أن أخذ المعرّة وكفر طاب وأخذ بارين، وذلك في أواخر هذه السنة. ذكر مسير سيف الدين بنفسه ولمّا وقعت هذه الواقعة كان سيف الدين على سنجار يحاصر أخاه عماد الدين بقصد أخذها منه ودخوله في طاعته، وكان قد أظهر أخوه الانتماء إلى السلطان، واعتصم بذلك، واشتد سيف الدين في حصار المكان، وضربه بالمنجنيق حتى انهدم من سوره ثلم كثيرة، وأشرف على الأخذ، فبلغه وقوع هذه الوقعة فخاف أن يبلغ ذلك أخاه فيشتدّ أمره، فراسله إلى الصلح، فصالحه، ثم سار من وقته إلى نصيبين، واهتم بجمع العساكر والإنفاق فيها، وسار حتى أتى الفرات، وعبر بالبيرة، وخيّم على جانب الفرات الشامي، وراسل

كمشتكين والملك الصالح حتى تستقر قاعدة يصل عليها إليهم، ووصل كمشتكين إليه، وجرت مراجعات كثيرة، وعزم فيها إلى العود مراراً حتى استقرّ اجتماعه بالملك الصالح وسمحوا به، وسار ووصل حلب، وخرج الملك الصالح إلى لقائه بنفسه، فالتقاه قريب القلعة واعتنقه وضمه إليه وبكى، ثم أمره بالعود إلى القلعة، فعاد إليها وسار هو حتى نزل بعين المباركة، وأقام بها مدّة، وعسكر حلب يخرج إلى خدمته في كل يوم، وصعد القلعة جريدة وأكل فيها خبزاً، ونزل وسار راحلاً إلى تل السلطان ومعه الديار البكرية وجمع كثير، والسلطان قد أنفد في طلب العساكر من مصر وهو يترقب وصولها، وهؤلاء يتأخرون في أمورهم وتدبيرهم وهم لا يشعرون أنّ في التأخير تدبيرا، حتى وصل عسكر مصر، فسار رحمه الله حتى أتى قرون حماة، فبلغهم أنه قارب عسكره، فأخرجوا اليزك وجهزوا من يكشف الأخبار، فوجدوه قد وصل جريدة إلى جناب التركمان، وتفرق عسكره يسقي، فلو أراد الله نصرتهم لقصدوه في تلك الساعة، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا، فصبروا عليه حتى سقى خيله هو وعسكره، واجتمعوا وتعبّوا تعبية القتال، وأصبح القوم على مصاف، وذلك في بكرة الخميس العاشر من شوّال سنة إحدى وسبعين، فالتقى العسكران، وتصادما، وجرى قتال عظيم، وانكسرت ميسرة السلطان بابن زين الدين مظفّر الدين فإنه كان في ميمنة سيف الدين، وحمل السلطان عليه بنفسه، فانكسر القوم واسر منهم جمعاً عظيماً من كبار الأمراء منهم فخر الدين عبد المسيح، فمنّ عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب المحروسة، فأخذ منها خزانة، وسار حتى عبر الفرات، وعاد إلى بلاده،

وأمسك هو رحمه الله عن تتبّع العسكر، ونزل في بقيّة ذلك اليوم في خيام القوم، فإنهم كانوا قد أبقوا الثّقل على ما كان عليه والمطابخ قد عملت، ففرّق الإصطبلات ووهب الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين عز الدين فخر وشاه، وسار إلى منبج، وتسلّمها في بقيّة الشهر المذكور. وسار حتى نزل قلعة إعزاز يحاصرها، وذلك في رابع ذي القعدة سنة إحدى وسبعين، وعليها وثب الإسماعيلية عليه، فنجّاه الله من كيدهم، وظفر بهم، ولم يفل ذلك عزمه، وأقام عليها حتى أخذها، وذلك في رابع عشر ذي القعدة من السنة، وسار حتى نزل على حلب في سادس عشر منه، فأقام مدة ثم سار عنها، فأخرجوا إليه ابنة لنور الدين صغيرة، وسألت منه إعزاز، فوهبها إيّاها. وفي بقية الشهر أيضاً وصل شمس الدولة أخوه من اليمن إلى دمشق وأقام بها مدة ثم عاد إلى الديار المصرية، وتوفّي بإسكندرية مستهل صفر سنة ست وسبعون. ثم إنّ السلطان عاد إلى الديار المصرية ليتفقد أحوالها ويقرّر قواعدها، وكان مسيره إليها في ربيع الأوّل من شهور سنة اثنتين وسبعين، واستخلف أخاه شمس الدولة بدمشق، فأقام رحمه الله بها يقرّر قواعدها ويسدّ خللها، وأراح العسكر ثم تأهّب للغزاة، وخرج يطلب الساحل، حتى وافى الإفرنج على الرملة، وذلك في أوائل جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.

ذكر كسرة الرملة

ذكر كسرة الرملة وكان مقدم الإفرنج البرنس أرناط، وكان قد بيع بحلب، فإنّه كان أسيراً بها زمن نور الدين، وجرى خلل في ذلك اليوم على المسلمين. ولقد حكى السلطان صورة الكسرة في ذلك اليوم، وذلك أن المسلمين كانوا قد تعبّوا تعبية القتال، ولما قرب العدوّ رأى بعض الجماعة أن تعبر الميمنة إلى جهة الميسرة، والميسرة إلى جهة الميمنة ليكونوا حالة اللقاء وراء ظهورهم تل معروف بأرض الرملة، فبينما اشتغلوا بهذه التعبية هجم الإفرنج وقدّر الله كسرتهم فانكسروا كسرة عظيمة، ولم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه فطلبوا جهة الديار المصرية، وضلّوا في الطريق وتبدّدوا، وأسر منهم جماعة منهم الفقيه عيسى وكان موهنا عظيما جبره الله بوقعة حطين المشهورة ولله الحمد. وأما الملك الصالح فإنّه تخبّط أمره وقبض على كمشتكين صاحب دولته وطلب منه تسليم حارم إليه فلم يفعل فقتله. ولمّا سمع الإفرنج بقتله نزلوا على حارم طمعاً فيها، وذلك في جمادى الأخرى سنة ثلاث وسبعين، وقابل عسكر الملك الصالح العساكر الإفرنجية. ولما رأى أهل القلعة خطرها من جانب الإفرنج سلّموها إلى الملك الصالح في العشر الأواخر من شهر رمضان من السنة المذكورة. ولما علم الإفرنج ذلك رحلوا عن حارم طالبين بلادهم، ثم عاد الملك الصالح إلى حلب،

ذكر عود السلطان إلى الشام

ولم يزل أصحابه على اختلاف يميل بعضهم إلى جانب السلطان حتى بلغه عصيان عز الدين قليج بتل خالد، فأخرج إليه العسكر، وذلك في عاشر المحرّم سنة ست وسبعين، ثم بلغه وفاة ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل، وكانت وفاته في ثالث صفر من هذه السنة، وولّى مكانه أخوه عز الدين مسعود في الخامس منه، وكانت وفاة شمس الدولة بالإسكندرية. ذكر عود السلطان إلى الشام ولما عاد السلطان بعد الكسرة إلى الديار المصرية، وأقام بها ريثما لمّ الناس شعثهم، وعلم بتخبّط الشام، عزم على العود إليه، وكان عوده للغزاة، فوصله رسول قليج أرسلان يلتمس من السلطان الموافقة ويستغيث إليه من الأرمن، فاستقل نحو ابن لاون لنصرة قليج أرسلان ونزل يقرّه حصار وأخذ عسكر حلب في خدمته لأنه قد اشترط في الصلح فاجتمعوا على النهر الأزرق بين بهنسة وحصن منصور، وعبر منه إلى النهر الأسود وطرف بلاد ابن لاون وأخذ منهم حصناً وأخربه، وبذلوا له أسارى، والتمسوا منه الصلح، وعاد عنه،

ذكر وفاة الملك الصالح ووصول عز الدين إلى حلب

ثم راسله قليج أرسلان في صلح الشرقيين بأسرهم، واستقر الصلح وحلف السلطان في عاشر جمادى الأولى سنة ست وسبعين، ودخل في الصلح قليج أرسلان والمواصلة وديار بكر، وكان ذلك على نهر سبخة سنخة وهو نهر يرمي إلى الفرات، وسار السلطان نحو دمشق. ذكر وفاة الملك الصالح ووصول عز الدين إلى حلب وفي سنة سبع وسبعين مرض الملك الصالح بالقولنج، وكان أول مرضه في تاسع رجب، وثالث عشر منه غلق باب القلعة لشدّة مرضه، واستدعى الأمراء واحداً واحداً وحلفوا لعز الدين صاحب الموصل، وفي الخامس والعشرين منه توفّي رحمه الله، وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس. ولما توفّي سارعوا إلى إعلام عز الدين مسعود بن قطب الدين بذلك وإعلامه بما جرى له من الوصية إليه وتحليف الناس له، فسارع سائراً إلى حلب مبادراً خوفاً من السلطان،

ذكر مقايضة عز الدين أخاه عماد الدين بالبلاد

وكان أوّل قادم من أمرائه إلى حلب مظفّر الدين بن زين الدين وصاحب سروج ووصل معهما من حلف جميع الأمراء له، وكان وصولهم في ثالث شعبان من السنة المذكورة، وفي العشرين منه وصل عز الدين إلى حلب وصعد القلعة واستولى على خزائنها وذخائرها، وتزوّج أمّ الملك الصالح خامس شوّال من السنة المذكورة. ذكر مقايضة عز الدين أخاه عماد الدين بالبلاد ثم أقام عز الدين بقلعة حلب إلى سادس عشر شوّال، وعلم أنه لا يمكنه حفظ الشام مع الموصل لحاجته إلى ملازمة الشام لأجل السلطان، وألحّ عليه الأمراء في طلب الزيادات، ورأوا أنفسهم أنهم قد اختاروه، وضاق عطنه، وكان صاحب أمره مجاهد الدين قايماز وكان ضيق العطن لم يعتد بمقاساة أمراء الشام، فرحل من قلعة حلب طالباً للرقّة، وخلف ولده ومظفّر الدين بها، وسار حتى أتى الرقّة، ولقيه أخوه عماد الدين عن قرار بيتهم، واستقر مقايضة حلب بسنجار، وحلف عز الدين لأخيه على ذلك في الحادي والعشرين من شوّال، وسار من جانب عماد الدين من تسلم حلب ومن جانب عز الدين من تسلم سنجار، وفي ثالث عشر محرّم سنة ثمان وسبعين صعد عماد الدين إلى قلعة حلب.

ذكر عود السلطان من مصر

ذكر عود السلطان من مصر وأما السلطان فإنه لما وقع الصلح على قليج أرسلان صعد إلى الديار المصرية واستخلف ابن أخيه عز الدين فخروشاه واليا، ولما بلغه وفاة الملك الصالح عزم على العود إلى الشام خوفاً على البلاد من الإفرنج، وبلغه أيضاً وفاة فخروشاه فاشتد عزمه. وكان وصوله إلى دمشق في سابع عشر صفر سنة ثمان وسبعين، ثم أنشأ التأهب لغزاة بيروت، فإنه عبر على الإفرنج في عوده من مصر مكابرة من غير صلح، فقصد بيروت ونزلها ولم ينل منها غرضاً، واجتمع الإفرنج فرحّلوه عنها ودخل إلى دمشق، وبلغه أنّ رسل الموصل وصلوا إلى الإفرنج يحثّونهم على قتال المسلمين، فعلم أنهم نكثوا اليمين، وأنشأ العزم على قصدهم لجمع كلمة العساكر الإسلامية على عدوّ الله، فأخذ في التأهب لذلك، فلما بلغ ذلك عماد الدين سير إلى الموصل يشعره بالخبر ويستحث العساكر، وسار السلطان حتى نزل على حلب في ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وأقام ثلاثة أيّام، ورحل في الحادي والعشرين يطلب الغزاة، واستقر الحال بينه وبين مظفّر الدين وكان صاحب حرّان، وكان قد استوحش

ذكر نزوله على الموصل

من جانب الموصل، وخاف من مجاهد الدين فالتجأ إلى السلطان، وعبر إلى قاطع الفرات وقوّى عزمه على البلاد وسهّل أمرها عنده، ودخل الرّها والرقّة ونصيبين وسروج، ثم شحن على الخابور وأقطعه. ذكر نزوله على الموصل وكان نزوله عليه في هذه الوقعة في يوم الخميس حادي عشر شهر رجب، وكنت إذ ذاك في الموصل، فسيّرت رسولاً إلى بغداد قبيلا بأيام قلائل، فسرت مسرعاً في الدجلة، وأتيت بغداد في يومين وساعتين من اليوم الثالث مستنجداً بهم فلم يحصل منهم سوى الإنفاذ إلى شيخ الشيوخ وكان في صحبته رسول من جانبهم يأمرونه بالحديث معه ويتلطف الحال معه ويسير إلى بهلوان رسولاً من الموصل يستنجدونه، فلم يحصل من جانبه سوى شرط كان الدخول تحته أخطر من حرب السلطان، ثم أقام السلطان على الموصل أيّاماً، وعلم أنه بلد عظيم لا يتحصل منه شيء بالمحاصرة على هذا الوجه، ورأى أن طريق أخذه أخذ قلاعه وما حوله من البلاد، وإضعافه بطول الزمان، فرحل عنها ونزل على سنجار في سادس عشر شعبان،

ذكر قصة شاه أرمن صاحب خلاط

وأقام يحاصرها، وكان فيها شرف الدين بن قطب الدين وجماعة، ويشتد عليه الأمر حتى كان ثاني شهر رمضان فأخذها عنوة، وخرج شرف الدين وجماعته محترمين محفوظين إلى الموصل وأعطاها ابن أخيه تقي الدين ورحل عنها إلى نصيبين. ذكر قصة شاه أرمن صاحب خلاط وذلك أنّ أصحاب الموصل أنفذوا إليه واستنجدوا به وطرحوا أنفسهم عليه، فخرج من خلاط لنصرتهم، ونزل بحرزم، وسيّر إلى عز الدين صاحب الموصل أعلمه، فخرج إليه، وذلك في الخامس عشر من شوّال، فسار حتى اجتمع به صاحب ماردين، ووصل جماعة من عسكر حلب، كل ذلك للقاء السلطان، وأرسل شاه أرمن بكتمر إلى السلطان يخاطبه في الصلح بتوسط شيخ الشيوخ، فلم ينتظم بينهم حال، ورحل السلطان إلى عسكر شاه أرمن، فلما سمع شاه أرمن بوصول السلطان ولّى راجعاً إلى بلاده، وعاد عز الدين إلى بلاده، وتفرّقوا، وسار السلطان يطلب بلد آمد، فنزل عليها وقاتلها وأخذها في ثمانية أيّام، وذلك في أوّل محرّم سنة تسع وسبعين، وأعطاها نور الدين بن قره أرسلان.

ذكر عود السلطان إلى الشام

ومنّ على ابن نيسان بجميع ما كان فيها من الأموال وغيرها، ثم سار يطلب الشام لقصد حلب. وفي هذه المدّة خرج عماد الدين وخرب قلعة إعزاز وخرب حصن كفر لاثا وأخذها من بكمش، فإنّه كان قد صار مع السلطان في الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة، وقاتل باشر وكان صاحبها ولد رم الباروقي قد صار مع السلطان، فلم يقدر عليها، وجرت غارات من الإفرنج في البلاد بحكم اختلاف العساكر ودفعهم الله تعالى وتسلم الكرزين ثم عاد إلى حلب. ذكر عود السلطان إلى الشام ولمّا عاد إلى الشام بدأ بتل خالد، فنزل عليها وقاتلها، وأخذها في الثاني والعشرين من محرّم سنة تسع وسبعين، ثم سار طالباً حلب، فنزل عليها في السادس والعشرين. وكان أوّل نزوله بالميدان الأخضر،

واستدعى العساكر من الجوانب واجتمع خلق عظيم، وقاتلها قتالاً شديداً، وتحقق عماد الدين أنه ليس له قبل، وكان قد ضرس من اقتراح الأمراء وجبههم، فأشار إلى حسام الدين طمان أن يسفر له مع السلطان في إعادة بلاده وتسلم حلب إليه، واستقرت القاعدة ولم يشعر أحد من الرعية ولا من العسكر حتى تمّ الأمر واستحكمت القاعدة واستفاض ذلك، واستعلم العسكر منه ذلك، فأعلمهم، وأذن في تدبير أنفسهم وأنفذوا عنهم وعن الرعية عز الدين جرديك النوري وزين الدين، فقعدوا عنده إلى الليل، واستحلفوه على العسكر وعلى أهل البلد وذلك في السابع عشر من صفر، وخرجت العساكر إلى خدمته إلى الميدان الأخضر ومقدمو حلب، وخلع عليهم وطيب قلوبهم، وأقام عماد الدين بالقلعة يقضي أشغاله وينقل أقمشته وخزائنه والسلطان مقيم بالميدان الأخضر إلى الثالث والعشرين من صفر، وفيه توفّي تاج الملوك أخوه من جرح كان أصابه، وشقّ عليه أمر موته، وجلس للعزاء،

وفي ذلك اليوم نزل عماد الدين إلى خدمته وعزّاه، وتقرّرت بينهما قواعد، وأنزله السلطان في الخيمة وقدم له تقدمة سنية وخيلا جميلة وخلع على جماعة من أصحابه. وسار عماد الدين من يومه إلى قرار حصار سائراً إلى سنجاب وصعد السلطان قلعة حلب مسروراً منصورا. وعمل له حسام الدين طمان دعوة سنية، وكان قد تخلّف لأخذ ما تخلّف لعماد الدين من قماش وغيره، وكان قد أنفذ إلى حارم من يستلمها، ودافعهم الموالي، وانفذ الأجناد الذين بها يستحلفونه، فخلف لهم وسار من وقته إلى حارم فوصلها في التاسع والعشرين من صفر وتسلّمها وبات بها ليلتين، وقرّر قواعدها، وولّى فيها إبراهيم بن شرده، وعاد إلى حلب ودخلها في ثالث ربيع الأوّل، ثم أعطى العساكر دستوراً وسار كل منهم إلى بلاده، وأقام يقرّر قواعد حلب ويدبر أمورها.

ذكر غزات عين جالوت

ذكر غزات عين جالوت ولم يقم في حلب إلاّ إلى الثاني والعشرين من ربيع الآخر، وأنشأ عزما إلى الغزاة، فخرج في ذلك اليوم مبرزا نحو دمشق، واستنهض العساكر، فخرجوا يتبعونه، ولم يزل يواصل بين المنازل حتى دخل دمشق في ثالث جمادى الأولى، فأقام بها متأهباً إلى السابع والعشرين منه، ثم برز في ذلك اليوم ونزل على جسر الخشب وتبعته العساكر مبرزة فأقام به تسعة أيام، ثم رحل في ثامن جمادى الآخرة وسار حتى أتى الفؤاد وتعبّى فيه للحرب، وسار حتى نزل القصير، فبات به، وأصبح على المخاض، وعبر وسار حتى أتى بيسان، فوجد أهلها قد رحلوا عنها وتركوا ما كان من ثقيل الأقمشة والغلال والأمتعة بها، فنهبها العسكر وغنموا وحرقوا ما لم يمكن أخذه، وسار حتى أتى الجالوت، وهي قرية عامرة وعندها عين جارية، فخيّم بها، وكان قد عزم عز الدين جرديك وجماعة من المماليك النورية

وجاولي مملوك أسد الدين حتى يكشفوا خبر الإفرنج، فاتفق أنهم صادفوا عسكر الكرك والشوبك سائرين نجدة للإفرنج، فوقع أصحابنا عليهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم زهاء مائة نفر، وعادوا ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد يدعى بهرام الشاووش، فوصل إليه في بقية يوم الكسرة وهو العاشر من جمادى الآخرة، فاستبشر المسلمون بالنصر والظفر. ولما كان السبت حادي عشر وصل الخبر إليه أن الإفرنج قد اجتمعوا في صفورية، فرحلوا إلى الفولة وهي قرية معروفة وكان غرضه المصاف، فلمّا سمع بذلك تعبّى للّقاء ورتّب الأطلاب يمنة ويسرة وقلباً، وسار للقاء العدّة، وسار الإفرنج طالبين المسلمين ووقعت العين في العين، وأخرج السلطان الجاليش خمسمائة رجل معروفة فواقعوا الإفرنج، وجرى قتال عظيم، وقتل من العدة جماعة وهم ينضم بعضهم إلى بعض يحمي

راجلهم فارسهم، ولم يخرجوا للمصاف، ولم يزالوا سائرين حتى أتوا العين ونزلوا عليها، ونزل السلطان حولهم والقتل والجرح يعمل فيهم ليخرجوا إلى المصاف وهم لا يخرجون لخوفهم من المسلمين فإنهم في كسرة عظيمة، ولما رأى أنهم لم يخرجوا رأى الانتزاح عنهم لعلهم يرحلون فيضرب معهم مصاف فرجل نحو الطور وذلك في السابع عشر من هذا الشهر فنزل تحت الجبل مترقباً رحيلهم ليأخذ منهم فرصة وأصبح الإفرنج في الثامن عشر راحلين راجعين على أعقابهم ناكصين فرحل رحمه الله نحوهم وجرى من رمي النشاب واستنهاضهم للمصاف أمور عظيمة فلم يخرجوا ولم يزل المسلمون حولهم حتى نزلوا الفولة المقدم ذكرها راجعين إلى بلادهم فلما رأى المسلمون ذلك اجتمعوا على السلطان وأشاروا بالعود لفراغ زادهم وكان قد نال منهم بالقتل والأسر وخربت عفربلا وقلعة بيسان وزرعين وهي من حصونهم المذكورة وخربت عليهم قرى عديدة فعاد منصوراً مظفراً مسروراً حتى نزل الغوار وأعطى الناس دستوراً من أثير المسير ثم سار هو حتى أتى دمشق فدخلها فرحاً مسروراً في يوم الخميس الرابع والعشرين من هذا الشهر.

ذكر غزاة أنشأها إلى الكرك

فانظر إلى هذه الهمة التي لم يشغلها عن الغزاة أخذ حلب ولا الظفر بها بل كان غرضه الاستعانة بالبلاد على الجهاد فالله يحسن جزاءه في الآخرة كما وفقه الأعمال المرضية في الدنيا. ذكر غزاة أنشأها إلى الكرك ثم إنه أقام بدمشق إلى ثالث رجب سنة تسع وسبعين وخرج مراراً نحو الكرك وكان قد سير إلى الملك العادل وهو بمصر يتقدم إليه بالاجتماع به على الكرك فبلغه خبر حركته من مصر فخرج للقائه وسار حتى أتى الكرك ووافاه الملك العادل عليها وقد خرج معه خلق عظيم من تاجر وغير تاجر وذلك في رابع شعبان من هذه السنة وكان قد بلغ الإفرنج خبر خروجه فساروا براجلهم وفارسهم نحو الكرك للدفع عنه ولما انتهى ذلك إليه سير الملك المظفر تقي الدين إلى مصر وذلك في خامس عشر شعبان وفي السادس عشر منه نزلت الإفرنج على الكرك وتزحزح السلطان عنه بعد أن قاتله قتالاً عظيماً وعليه قتل شرف الدين برغش النور شهيداً.

ذكر إعطائه أخاه الملك العادل حلب

ذكر إعطائه أخاه الملك العادل حلب ثم رحل السلطان مستصحباً أخاه الملك العادل معه إلى دمشق لا يلسه عن الكرك بعد نزول الإفرنج عليها فدخل دمشق في الرابع والعشرين من شعبان وأعطى أخاه الملك العادل حلب بعد مقامه بدمشق إلى ثاني يوم من شهر رمضان وكان بها ولده الملك الظاهر ومعه سيف الدين يازكج يدبر أمره وابن العميد في البلد وكان الملك الظاهر من أحب الأولاد إلى قلبه لما خصه الله به من الشهامة والفطنة والعقل وحسن السمت والشغف بالملك وظهور ذلك كله وكان أبر الناس بوالده وأطوعهم له ولكن أخذ منه حلب لمصلحة رآها فخرج من حلب لما دخل الملك العادل هو ويازكج سائرين إلى خدمة السلطان فدفع دمشق الثامن عشر من شوال فأقام في خدمة أبيه لا يظهر له إلا الطاعة والانقياد مع انكسار في باطنه لا يخفى عن نظر والده وفي ذلك الشهر وردنا على السلطان رسلا من جانب الموصل وكنا قد توسلنا إلى الخليفة الناصر لدين الله في إنفاذ شيخ الشيوخ بدر الدين رسولاً وشعيعاً إلى السلطان فسيره معنا من بغداد وكان غزير المروءة

ذكر وصولنا إلى خدمة رسلا

عظيم الحرمة في دولة الخليفة وفي سائر البلاد وكانت مكانته عند السلطان بحيث يتردد إليه إذا كان عنده في معظم الأيام. ذكر وصولنا إلى خدمة رسلا وكان الشيخ قد وصل إلى الموصل وسار منها في صحبة القاضي محيي الدين بن كمال الدين وكان بينهم صحبة من الصبا وكنت مع القوم وسرنا حتى أتينا دمشق وخرج السلطان إلى لقاء الشيخ ونحن في خدمته فلقيه عن بعد وكان دخولنا إلى دمشق يوم السبت حادي عشر ذي القعدة من هذه السنة ولقينا من السلطان كل جميل فيما يرجع إلى الإكرام والاحترام وأقمنا أياماً نراجع في فصل حال فلم يتفق صلح في تلك الوقعة وخرجنا راجعين إلى الموصل وخرج السلطان إلى وداع الشيخ إلى القصر واجتهد في ذلك اليوم أن ينقضي شغل فلم يتفق وكان الوقوف من جانب محيي الدين فإن السلطان اشترط أن يكون صاحب إربل والجزيرة على خيرتهما في الانتماء إليه أو إلى الموصل فقال محيي الدين لا بد من ذكرهما في النسخة فوقف الحال وكان مسيرنا سابع ذي الحجة وفي تلك الدفعة ثبت في نفسه الشريفة مني أمر لم أعرفه إلا بعد خدمتي له

ذكر غزواة أخرى إلى الكرك

وأقام السلطان بدمشق ترد عليه الرسل من الجوانب فوصل رسول سنجر شاه صاحب الجزيرة فاستحتفه لنفسه في الانتماء إليه ورسول إربل وحلف لهما وسارا ووصل إليه أخوه الملك العادل رابع ذي الحجة فأقام عنده وعيد وتوجه إلى حلب المحروسة. ذكر غزواة أخرى إلى الكرك وصل ابن قره أرسلان نور الدين إلى حلب ثامن عشر صفر سنة ثمانين فأكرمه الملك العادل إكراماً عظيماً وأصعده إلى القلعة وباسطه ورحل معه طالباً دمشق في السادس والعشرين منه. وكان السلطان قد مرض أياماً ثم شفاه الله، ولما بلغه وصول قره أرسلان خرج إلى لقائه وكان السلطان يكارم الناس مكارمة عظيمة فالتقاه على عين الجسر بالبقاع وذلك في تاسع ربيع الأول ثم عاد إلى دمشق وخلف نور الدين واصلاً مع الملك العادل فتأهب للغزاة وخرج مبرزاً إلى جسر الخشب في منتصف ربيع الأول

وفي الرابع والعشرين منه وصل الملك العادل ومعه ابن قره أرسلان إلى دمشق فأقاما فيها أياماً ثم رحلا يلتحقان بالسلطان من رأس الماء طالباً للكرك فأقام قريباً منها أياماً ينتظر وصول الملك المظفر من مصر إلى تاسع عشر ربيع الآخر فوصل إلى خدمته ومعه بيت الملك العادل وخزانته فسيرهم إلى الملك العادل وتقدم إليه وإلى بقية العساكر بالوصول إليه إلى الكرك فتتابعت العساكر إلى خدمته حتى أحدقوا بالكرك وذلك في رابع جمادى الأولى وركب المناجيق على المكان وقد التقت العساكر المصرية والشامية والجزرية أيضاً مع قره أرسلان، ولما بلغ الإفرنج ذلك خرجوا براجلهم وفارسهم إلى الذب عن الكرك وكان على المسلمين منه ضرر عظيم فإنه كان يقطع عن قصد مصر بحيث كانت القوافل لا يمكنها الخروج إلا مع العساكر الجمة الغفيرة فاهتم السلطان بأمره ليكون الطريق سابلة إلى مصر. ولما بلغ السلطان خروج الإفرنج تعبأ للقاء وأمر العساكر أن خرجت ظاهر الكرك وسير الثقل نحو البلاد وبقي العسكر جريدة ثم سار السلطان ينصد للعدو. وكان الإفرنج قد نزلوا بموضع يقال له الواله وسار حتى نزل

على قرية يقال لها حسبان قبالة الإفرنج ورحل منها إلى موضع يقال له ماء عين والإفرنج مقيمون بالواله إلى السادس والعشرين من جمادى الأولى ثم رحلوا قاصدين الكرك فسار بعض العساكر وراءهم فقاتلهم إلى آخر النهار ولما رأى قدس الله روحه تصميم الإفرنج على الكرك أمر العساكر أن دخلوا الساحل لخلوه عن العساكر فهجموا نابلس ونهبوها وغنموا ما فيها ولم يبق فيها إلا حصناها وأخذوا جانين والتحقوا بالسلطان برأس الماء وقد نهبوا وأسروا وحرقوا وخربوا واتفق دخول السلطان دمشق يوم السبت سابع جمادى الآخرى ومعه الملك العادل ونور الدين ابن قره أرسلان فرحاً مسروراً وأكرمه واحترمه وأحسن إليه. وفي هذا الشهر وصل رسول الخليفة ومعه الخلع فلبسها السلطان وألبس أخاه الملك العادل وابن أسد الدين خلفاً جاءت لهم وفي الرابع عشر من هذا الشهر خلع السلطان خلعة الخليفة على ابن قره أرسلان وأعطاه دستوراً وأعطاه للعساكر وفي ذلك التاريخ وصلت رسل ابن زين الدين مستصرخاً إلى السلطان يخبر أن عسكر الموصل وعسكر قزل نزلوا مع مجاهد الدين قايماز وأنهم نهبوا وأحرقوا وأنه نصر عليهم وكسرهم.

ذكر خروج السلطان إلى جهة الموصل في الوقعة الثانية

ذكر خروج السلطان إلى جهة الموصل في الوقعة الثانية ولما سمع السلطان ذلك رحل من دمشق يطلب البلاد وتقدم إلى العساكر فتبعته وسار حتى أتى حران على طريق البيرة والتقى مع مظفر الدين بالبيرة في الثاني عشر من محرم سنة إحدى وثمانين وتقدم السلطان إلى سيف الدين المشطوب أن يسير في مقدمة العسكر إلى رأس العين ووصل السلطان حران الثاني والعشرين من صفر. وفي السادس والعشرين منه قبض على مظفر الدين بن زين الدين لشيء كان قد جرى منه وحديث كان بلغه رسول فلم يقف عليه وأنكره فأخذ منه قلعة حران والرها ثم أقام في الاعتقال تأديباً إلى مستهل ربيع الأول ثم خلع عليه وطيب قلبه وأعاد إليه قلعة حران وبلاده التي كانت بيده إلى قانونه في الإكرام والاحترام ولم يتخلف له سوى قلعة الرها ووعده بها ثم رحل السلطان ثاني ربيع الأول إلى رأس العين ووصله في ذلك رسول قليج أرسلان يخبره أن ملوك الشرق بأسرهم قد اتفقت كلمتهم على

ذكر موت شاه أرمن صاحب خلاط

قصد السلطان إن لم يعد عن الموصل وماردين وأنهم على عزم ضرب المصاف معه إن أصر على ذلك فرحل السلطان يطلب دنيسر فوصله ثامن ربيع الأول عماد الدين بن قره أرسلان ومعه عسكر نور الدين صاحب ماردين فالتقاهم واحترمهم ثم رحل من دنيسر حادي عشر نحو الموصل حتى نزل موضعاً يعرف بالإسماعيلان قريب الموصل يصل من العسكر كل يوم نوبة جديدة يحاصر الموصل فبلغ عماد الدين بن قره أرسلان موت أخيه نور الدين فطلب من السلطان دستوراً طمعاً في ملك أخيه فأعطاه دستوراً. ذكر موت شاه أرمن صاحب خلاط ولما كان ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين توفي شاه أرمن صاحب خلاط وولي بعده غلامه بكتمر وهو الذي وصل رسولاً إلى خدمة السلطان بسنجار فعدل وأحسن إلى أهل خلاط وكان متصوناً في طريقته فأطاعه الناس ومالوا إليه، ولما ملك خلاط امتدت نحوه الأطماع لموت شاه أرمن فسار نحوه بهلوان بن الدكز. فلما بلغه ذلك سير إلى خدمة السلطان من يقرر معه تسليم

خلاط إليه واندراجه في جملته وإعطائه ما يرضيه فطمع السلطان في خلاط وارتحل عن الموصل متوجهاً نحوها وسير إلى بكتمر الفقيه عيسى وغرس الدين قليج لتقرير القاعدة وتحريرها فوصلت الرسل وبهلوان قد قارب البلاد جداً فتخوف بهلوان من السلطان فطلب بهلوان إصلاحه وزوجه ابنة له وولاه وأعاد البلاد إليه واعتذر إلى رسل السلطان وعادوا من غير زبدة، وكان السلطان قد نزل على ميا فارقين فحاصرها وقاتلها قتالاً ونصب عليها مجانيق وكان بها رجل يقال له الأسد وما قصر في حفظها لكن الأقدار لا تغلب فملكها السلطان في التاسع والعشرين من جمادى، ولما أيس من أمر خلاط عاد إلى الموصل فنزل بعيداً عنها وهي الوقعة الثالثة بموضع يقال له كفر زمار وكان الحر شديداً فأقام مدة.

ذكر صلح المواصلة معه

وفي هذه المنزلة أتاه سنجر شاه من الجزيرة واجتمع به فأعاده إلى بلده ومرض رحمه الله بكفر زمار مرضاً شديداً خاف من غائلته فرحل طالباً حران وهو مريض وكان يتجلد ولا يركب محفة فوصل وهو شديد المرض وبلغ إلى غاية الضعف وأيس منه ورجف بموته فوصل إليه أخوه من حلب ومعه أطباؤه. ذكر صلح المواصلة معه وكان سبب ذلك أن عز الدين أتابك صاحب الموصل سيرني إلى الخليفة يستنجد فلم يحصل منه زبدة فلما وصلت من بغداد ورددت جواب الرسالة أيس من نجدة فلما بلغهم مرض السلطان رأوا بذلك فرصة وعلموا سرعة انقياده ورقة قلبه في ذلك الوقت فندبوني لهذا الأمر وبهاء الدين الربيب وفوض إلي أمر النسخة التي حلف بها وقالوا امضيا ما يصل إليه جهدكما وطاقتكما فسرنا حتى أتينا العسكر والناس كلهم آيسون من السلطان وكان وصولنا في أوائل ذي الحجة فاحترمنا

ذكر عود السلطان إلى الشام

احتراماً عظيماً وجلس لنا وكان أول جلوسه من مرضه وحلف في يوم عرفة وأخذنا منه بين النهرين وكان أخذها من سنجر شاه فأعطاها المواصلة وحلفته يميناً تامة وحلفت أخاه الملك العادل ومات قدس الله روحه وهو على ذلك الصلح لم يتغير عنه وسرنا معه وهو بحران وقد تماثل ووصله خبر موت ابن أسد الدين صاحب حمص وكانت وفاته يوم عرفة وجلس الملك العادل للعزاء، وفي تلك الأيام كانت وقعة التركمان مع الأكراد وقتل بينهم خلق عظيم، وفي هذا الشهر وصل خبر وفاة بهلوان ابن الدكز وكانت وفاته في سلخ ذي الحجة. ذكر عود السلطان إلى الشام ولما وجد السلطان نشاطاً من مرضه رحل يطلب جهة حلب وكان وصوله إليها رابع عشر محرم سنة اثنتين وثمانين وكان يوماً مشهود الشدة فرح الناس بعافيته ولقائه فأقام فيها أربعة أيام ثم رحل نحو دمشق ولقيه أسد الدين شيركوه بن محمد شيركوه بتل السلطان ومعه أخته وقد صحبه خدمة عظيمة فمن عليه بحمص وأقام أياماً يعتبر تركة أبيه ثم سار يطلب لجهة دمشق وكان دخوله إليها في ثاني ربيع الأول وكان يوماً لم ير مثله فرحاً وسروراً

ذكر مسير السلطان العادل إلى مصر ووصول الملك الظاهر إلى حلب

ووقعت في هذا الشهر وقعات كثيرة بين الترك والأكراد بأرض نصيبين وغيرها وقتل من الفئتين خلق عظيم وبلغ السلطان أن معين الدين قد عصا بالراوند فكتب إلى عسكر حلب أن حاصروه، وفي ثاني جمادى الأولى وصل معين الدين من الراوند وقد سلمها إلى علم الدين سليمان ثم مضى إلى خدمة السلطان، وفي سابع عشر وصل الملك الأفضل إلى دمشق ولم يكن قد رأى قبل ذلك الشام. ذكر مسير السلطان العادل إلى مصر ووصول الملك الظاهر إلى حلب وذلك أن السلطان رأى ذهاب الملك العادل إلى مصر فإنه كان آنس بأحوالها من الملك المظفر ليزيل تقاويضها بذلك وهو على حران مريض وقد حصل ذلك في نفس الملك العادل فإنه كان يحب الديار المصرية

فلما عاد السلطان إلى دمشق ومنّ الله بعافيته سير يطلب الملك العادل إلى دمشق فخرج من حلب جريدة في الرابع والعشرين من ربيع الأول وسار حتى أتى دمشق فأقام بها في خدمة السلطان فجرت بينهما أحاديث ومراجعات في قواعد تقرير إلى جمادى الآخرة واستقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر وتسليم حلب وسير الصنيعة لإحضار أهله من حلب وكان الملك الظاهر أيده الله والملك العزيز بدمشق في خرمة والدهما فلما استقرت القاعدة على عود الملك العادل إلى مصر استقرت على أن يكون أتابك الملك العزيز وسلمه والده إليه يربي أمره وسلم الملك العادل حلب إلى الملك الظاهر، ولقد قال لي الملك العادل أنه لما استقرت عليه هذه القاعدة واجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما قلت للملك العزيز

يا مولاي إن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر وأنا أعلم أن المفسدين كثير وغداً لا يخلون ممن يقول عني مالا يجوز ويخوفونك مني فإن كان لك أذن تسمع فقل لي حتى لا أجيء فقال لا أسمع وكيف يكون ذلك، ثم التفت وقلت للملك الظاهر أنا أعرف أن أخاك ربما يسمع في أقوال المفسدين وأنا فمالي إلا أنت متى ضاق صدري من جانبه فقال مبارك وذكر كل خير، ثم إن الملك الظاهر سيره والده إلى حلب ليعلمه أن حلب هي أصل الملك وجرثومته وقاعدته ولهذا دأبت في طلبها ذلك الدأب، ولما حصلت أعرض عما عداها من بلاد المشرق وقنع منهم بالطاعة والمعونة على الجهاد فسلمها إليه علماً منه بحذاقته وحزمه وثباته وعلو همته فسار إليها حتى العين المباركة وسير في خدمته الشحنة حسام الدين بشاره ووالياً عيسى بن بلاشوا فنزل بعين المباركة وخرج الناس إلى لقائه في بكرة تاسع جمادى الآخرى

وصعد القلعة ضحوة نهار وفرح الناس به فرحاً شديداً ومد على الناس من جناح عدله. وأفاض عليه وابل فضله، وأما الملك العزيز والملك العادل فإن السلطان قرر حالتهما وكتب إلى الملك المظفر يخبره بمسير الملك العزيز وهو صحبة عمه ويأمره بالوصول إلى الشام وشق ذلك عليه حتى أظهر للناس وعزم على المسير إلى ديار الغرب إلى برقا فقبح ذلك عليه جماعة من أكابر الدولة وعرفوه أن عمه السلطان يخرج من يده في الحال والله أعلم ما يكون بعد ذلك فرأى الحق بعين البصيرة وأجاب بالسمع والطاعة وسلم البلاد ورحل واصلاً إلى خدمة السلطان فسار السلطان إلى لقائه وفرح بوصوله فرحاً شديداً وذلك في الثالث والعشرين من شعبان وأعطاه حماة وسار إليها وكان قد عقد بين الملك الظاهر وبعض بنات الملك العادل عقد نكاح فتمم ذلك ودخل بها في السادس والعشرين من شهر رمضان ودخل الملك الأفضل على زوجته بنت ناصر الدين بن أسد في شوال من السنة المذكورة المباركة.

ذكر غزاة أنشأها إلى الكرك

ذكر غزاة أنشأها إلى الكرك ولما كان محرم سنة ثلاث وثمانين عزم على قصد الكرك فسير إلى حلب من يستحضر العسكر وبرز من دمشق في منتصف محرم فسار حتى نزل بأرض نيطرة منتظراً اجتماع العساكر المصرية والشامية وأمر العساكر المتواصلة إليه بشن الغارات على ما في طريقهم من البلاد الساحلية ففعلوا ذلك وأقام بأرض الكرك حتى وصل الحاج الشامي إلى الشام وأمنوا غائلة العدو ووصل قفل مصر الشتوي ووصل معه بيت الملك المظفر وما كان له بالديار المصرية وتأخرت عنه العساكر الحلبية بسبب اشتغالها بالإفرنج بأرض الأرمن من بلاد ابن لاون وذلك أنه قد مات ملك الإفرنج ووصى لابن أخيه بالملك وكان الملك المظفر بحماه وبلغ السلطان الخبر فأمرهم بالدخول إلى بلاد العدو وإخماد ثائرتهم وسار الملك المظفر بعسكر حلب إلى حارم فأقام بها ليعلم العدو أن هذا الجانب ليس بمهمل فعاد السلطان إلى الشام ونزل بعشترا في السابع عشر من ربيع الأول ولقيه ولده الملك الأفضل ومظفر الدين بن زين الدين وجميع العساكر.

ذكر واقعة حطين المباركة على المؤمنين

وكان قد تقدم إلى الملك المظفر بمصالحة الجانب الحلبي مع الإفرنج ليتفرغ البال من العدو في جانب واحد فصالحهم في العشر الأواخر من ربيع الأول وتوجه إلى حماة يطلب خدمة السلطان للغزاة التي عزم عليها فسار ومن اجتمع به من العساكر الشرقية في خدمته وهم عسكر الموصل مقدمتهم مسعود بن الزعفراني وعسكر ماردين فلقيهم السلطان في العشر الأوسط من ربيع الآخر فأقرهم وأكرمهم في منتصف هذا الشهر عرض السلطان العسكر لأمر قد عزم عليه على تل يعرف بتل تسيل تيسل وتقدم في أصحاب الميمنة بحفظ موضعهم وإلى أصحاب الميسرة بذلك وإلى القلب بمثله. ذكر واقعة حطين المباركة على المؤمنين وذلك أنّ السلطان رأى أن نعمة الله عليه باستقرار قدمه في الملك وتمكين الله إياه في البلاد وانقياد الناس لطاعته ولزومهم قانون خدمته ليس لها شكر سوى الاشتغال ببذل الجهد والاجتهاد إلى إقامة قانون الجهاد، فسير إلى سائر العساكر واستحضرها، واجتمعوا إليه بعشترا في التاريخ المذكور، وعرضهم ورتبهم، واندفع قاصداً نحو بلاد العدو المخذول في نهار الجمعة سابع عشر ربيع الآخر، وكان أبداً يقصد

بوقعاته الجمع سيّما أوقات صلاة الجمعة تبرّكاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربّما كانت أقرب إلى الإجابة، فسار في ذلك الوقت على تعبية الحركة، وكان بلغه أن العدو لما بلغهم أنه قد جمع العساكر اجتمعوا بأسرهم في مرج صفورية بأرض عكا وقصدوا نحو المصاف معهم، فسار ونزل من يومه على بحيرة طبرية عند قرية تسمى الصبيرة، ورحل من هناك ونزل غربي طبرية على سطح الجبل بتعبية الحرب منتظراً أن الإفرنج إذا بلغهم ذلك قصدوه، فلم يتحركوا من منزلهم، وكان نزوله في هذه المنزلة يوم الأربعاء الحادي والعشرين، فلما رآهم لا يتحركون نزل جريدة على طبرية وترك الأطلاب بحالها قبالة وجه العدو، ونازل طبرية وزحف عليها فهجمها وأخذها في ساعة من نهار، وامتدت الأيدي إليها بالنهب والأسر والحريق والقتل، واحتمت القلعة وحدها. ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية لم يأخذهم الصبر دون إجابة الحمية فرحلوا من وقتهم وساعتهم، وقصدوا طبرية للدفع عنها، فأخبرت الطلائع الإسلامية الأمراء بحركة الإفرنج، فسيروا إلى السلطان من عرّفه ذلك، فترك على طبرية من يحفظ قلعتها ولحق العسكر هو ومن معه، فالتقى العسكران على سطح جبل طبرية الغربي منها، وذلك في أواخر الخميس الثاني والعشرين، وحال الليل بين الفئتين، فتبايتا على مصاف شاكي السلاح إلى صبيحة الجمعة في الثالث والعشرين، فركب العسكران وتصادما، وعملت الجاليشية،

وتحركت الأطلاب، والتحم القتال، واشتد الأمر، وذلك بأرض قرية تسمى اللوبيا، وضاق الخناق بالقوم هذا وهم سائرون كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وقد أيقنوا بالويل والثبور. وأحست أنفسهم أنهم في غد زوّار القبور. ولم يزل الحرب يلتحم. والفارس مع قرنه يصطدم. حتى لم يبق إلاّ الظفر. ووقع الوبال على من كفر. فحال بينهما الليل وظلامه، وجرى في ذلك اليوم من الوقائع العظيمة، والأمور الجسيمة، ما لم يحك عمّن تقدم، وبات كل فريق في سلاحه ينتظر خصمه في كل ساعة وقد أقعده التعب عن النهوض. وشغله النصب عن الحبو فضلا عن الركوض. حتى كان صباح السبت الذي بورك فيه فطلب كل من الفريقين مقامه، وعلمت كل طائفة أن المكسورة بينهما مدحورة الجنس معدومة النفس. وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد القوم وأن لا ينجيهم إلاّ الله تعالى، وكان الله قدّر نصر المؤمنين ويسّره. وأجراه على وفق ما قدّره. فحملت الأطلاب الإسلامية من الجوانب وحمل القلب وصاحوا صيحة الرجل الواحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين. وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين. وكان القومص ذكي القوم وأطغاهم، فرأى أمارات الخذلان قد نزلت بأهل دينه ولم يشغله ظن محاسنة حبسه عن تعبية، فهرب في أوائل الأمر قبل اشتداده وأخذ طريقه نحو صور، وتبعه جماعة من المسلمين، فنجا وحده. وأمن الإسلام كيده واحتاط أهل الإسلام بأهل الكفر والطغيان

من كل جانب وأطلقوا عليهم السهام وعاملوهم بالصفاح، وانهزمت منهم طائفة فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها واحد، واعتصمت الطائفة الأخرى بتل يقال له تل حطين، وهي قرية عنده وعندها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء، فضايقهم المسلمون على التل، وأشعلوا حواليهم النيران، وقتلهم العطش، وضاق بهم الأمر، حتى كانوا يستسلمون للأسر خوفا من القتل، فأسر مقدموهم وقتل الباقون وأسروا، وكان فيمن سلم وأسر من مقدميهم: الملك جفري والبرنس أرناط وأخو الملك، والبرنس هو صاحب الشوبك، وابن الهنغري وابن صاحب طبرية ومقدم الداوية وصاحب حبيل ومقدم الأسبتار، وأما الباقون من المقدمين فإنهم قتلوا، وأما الأذوان فإنهم قسموا إلى قتيل وأسير ولم يسلم منهم إلاّ من أسر، وكان الواحد العظيم منهم يخلد إلى الأسر خوفاً على نفسه، ولقد حكى لي من أثق به أنه لقي بحوران شخصاً واحداً معه طنب خيمة فيه نيف وثلاثون أسيرا أخذهم وحده لخذلان وقع عليهم. فأما الذين بقوا من مقدميهم فنذكر حديثهم. أما القومص الذي هرب فإنه وصل إلى طرابلس وأصابته ذات الجنب فأهلكه الله بها. وأما مقدم الأسبتار والداوية فإن السلطان اختار قتلهم فقتلوا عن بكرة أبيهم. وأما البرنس أرناط فكان السلطان قد نذر أنه إذا ظفر به قتله، وذلك أنه كان عبر به بالشوبك قافلة من الديار المصرية في حالة الصلح فنزلوا عنده بالأمان، فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبلغ ذلك السلطان، فحمله الدين والحميّة على أنه نذر إن ظفر به قتله. ولما فتح الله بالنصر والظفر جلس السلطان في دهليز الخيمة فإنها لم تكن نصبت والناس يتقربون إليه بالأسرى ومن وجدوه من المقدمين، ونصبت الخيمة، وجلس فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه، ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من حلاب بثلج، فشرب منها وكان على أشدّ حال من العطش، ثم ناول بعضها البرنس أرناط، فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما سقيته، وكان على عادة جميل العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل وشرب من ماء لمن أسره أمن بذلك، جرياً على مكارم الأخلاق، ثم أمرهم بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم، فمضوا وأكلوا شيئا ثم عادوا، فاستحضرهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه على ما قال، وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، ثم حمل النمجاة وضربه بها فحل كتفه وتمم عليه من حضر، وعجّل الله بروحه إلى النار، فأخذ ورمي على باب الخيمة، فلما رآه الملك قد خرج به على تلك الصورة لم يشك أنه يشي به، فاستحضره وطيّب قلبه وقال: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حدّه فجرى ما جرى. وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور، وأكمل حبور، ترتفع أصواتهم بالحمد لله والشكر له والتكبير والتهليل حتى طلع الصبح في يوم الأحد، وتسلّم قدّس الله روحه في بقية ذلك اليوم قلعة طبرية وأقام بها إلى يوم الثلاثاء. ثم رحل طالباً عكا، وكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذ واستنقذ من كان فيها من الأسارى وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع والتجائر، فإنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة وأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوّها عن الرجل بالفتك والأسر، ولما استقرت قواعد عكا واقتسم الغانمون أموالها وأساراها سار يطلب تبتين فنزل عليها يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق عليها بالزحف الخناق، وكان بها رجال أبطال شديدون في دينهم فاحتاجوا إلى معاناة شديدة، ونصره الله عليهم، وتسلمها ثامن عشر عنوة، وأسر من بقي بها بعد القتل، ثم رحل منها إلى صيدا فنزل عليها، ومن الغد تسلمها وأقام عليها بحيث قرر قاعدتها. ثم سار حتى أتى بيروت، فنازلها في الثاني والعشرين، فركب عليها القتال والزحف وضيق عليهم الأمر، حتى أخذها في التاسع والعشرين، وتسلم أصحابه حبيلا وهو على بيروت. ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ومارسها لأن العسكر كان قد تفرق في الساحل وذهب كل إنسان يأخذ لنفسه شيئا وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب، وكان قد اجتمع في صور كل إفرنجي بقي في الساحل، فرأى قصد عسقلان لأن أمرها كان أيسر، ونازلها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وتسلم في طريقه مواضع كثيرة كالرملة وبينا والدارون، وأقام عليها المنجنيقات، وقاتلها قتالا شديداً، وتسلمها سلخ هذا الشهر وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبرين والنطرون بغير قتال، وحمان بين فتوح عسقلان، وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمسة وثلاثون سنة، فإنّ العدوّ ملكها في سبعة وعشرين من جمادى الأخرى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. خذلان وقع عليهم. فأما الذين بقوا من مقدميهم فنذكر حديثهم. أما القومص الذي هرب فإنه وصل إلى طرابلس وأصابته ذات الجنب فأهلكه الله بها. وأما مقدم الأسبتار والداوية فإن السلطان اختار قتلهم فقتلوا عن بكرة أبيهم.

وأما البرنس أرناط فكان السلطان قد نذر أنه إذا ظفر به قتله، وذلك أنه كان عبر به بالشوبك قافلة من الديار المصرية في حالة الصلح فنزلوا عنده بالأمان، فغدر بهم وقتلهم، فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبلغ ذلك السلطان، فحمله الدين والحميّة على أنه نذر إن ظفر به قتله. ولما فتح الله بالنصر والظفر جلس السلطان في دهليز الخيمة فإنها لم تكن نصبت والناس يتقربون إليه بالأسرى ومن وجدوه من المقدمين، ونصبت الخيمة، وجلس فرحاً مسروراً لما أنعم الله به عليه، ثم استحضر الملك جفري وأخاه والبرنس أرناط، وناول الملك جفري شربة من حلاب بثلج، فشرب منها وكان على أشدّ حال من العطش، ثم ناول بعضها البرنس أرناط، فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته وأما أنا فما سقيته، وكان على عادة جميل العرب وكريم أخلاقهم أن الأسير إذا أكل وشرب من ماء لمن أسره أمن بذلك، جرياً على مكارم الأخلاق، ثم أمرهم بمسيرهم إلى موضع عين لنزولهم، فمضوا وأكلوا شيئا ثم عادوا، فاستحضرهم ولم يبق عنده سوى بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، واستحضر البرنس أرناط وأوقفه على ما قال،

وقال له: ها أنا أنتصر لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم عرض عليه الإسلام، فلم يفعل، ثم حمل النمجاة وضربه بها فحل كتفه وتمم عليه من حضر، وعجّل الله بروحه إلى النار، فأخذ ورمي على باب الخيمة، فلما رآه الملك قد خرج به على تلك الصورة لم يشك أنه يشي به، فاستحضره وطيّب قلبه وقال: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حدّه فجرى ما جرى. وبات الناس في تلك الليلة على أتم سرور، وأكمل حبور، ترتفع أصواتهم بالحمد لله والشكر له والتكبير والتهليل حتى طلع الصبح في يوم الأحد، وتسلّم قدّس الله روحه في بقية ذلك اليوم قلعة طبرية وأقام بها إلى يوم الثلاثاء.

ثم رحل طالباً عكا، وكان نزوله عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، وقاتلها يوم الخميس مستهل جمادى الأولى، فأخذ واستنقذ من كان فيها من الأسارى وكانوا زهاء أربعة آلاف نفر، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع والتجائر، فإنها كانت مظنة التجار، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة وأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة وكان ذلك لخلوّها عن الرجل بالفتك والأسر، ولما استقرت قواعد عكا واقتسم الغانمون أموالها وأساراها سار يطلب تبتين فنزل عليها يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى وهي قلعة منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق عليها بالزحف الخناق، وكان بها رجال أبطال شديدون في دينهم فاحتاجوا إلى معاناة شديدة، ونصره الله عليهم، وتسلمها ثامن عشر عنوة، وأسر من بقي بها بعد القتل، ثم رحل منها إلى صيدا فنزل عليها، ومن الغد تسلمها

وأقام عليها بحيث قرر قاعدتها. ثم سار حتى أتى بيروت، فنازلها في الثاني والعشرين، فركب عليها القتال والزحف وضيق عليهم الأمر، حتى أخذها في التاسع والعشرين، وتسلم أصحابه حبيلا وهو على بيروت. ولما فرغ باله من هذا الجانب رأى قصد عسقلان ولم ير الاشتغال بصور بعد أن نزل عليها ومارسها لأن العسكر كان قد تفرق في الساحل وذهب كل إنسان يأخذ لنفسه شيئا وكانوا قد ضرسوا من القتال وملازمة الحرب، وكان قد اجتمع في صور كل إفرنجي بقي في الساحل، فرأى قصد عسقلان لأن أمرها كان أيسر، ونازلها في السادس والعشرين من جمادى الآخرة، وتسلم في طريقه مواضع كثيرة كالرملة وبينا والدارون، وأقام عليها المنجنيقات، وقاتلها قتالا شديداً، وتسلمها سلخ هذا الشهر وأقام عليها إلى أن تسلم أصحابه غزة وبيت جبرين والنطرون بغير قتال،

ذكر فتوح القدس الشريف حرسها الله تعالى

وحمان بين فتوح عسقلان، وأخذ الإفرنج لها من المسلمين خمسة وثلاثون سنة، فإنّ العدوّ ملكها في سبعة وعشرين من جمادى الأخرى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. ذكر فتوح القدس الشريف حرسها الله تعالى ولما تسلم عسقلان والأماكن المحيطة بالقدس شمّر عن ساق الجدّ والاجتهاد في قصده، واجتمعت عليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل بعد انقضاء لبانها من النهب والغارة فسار نحوه معتمداّ على الله معوضاً أمره إليه منتهزاً فرصة فتح باب الخير الذي حثّ عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله: من فتح باب خير فلينتهز بأنه لا يدري متى يغلق دونه، وكان نزوله عليها في الخامس عشر من رجب سنة ثلاثة وثمانين المباركة، فنزل في الجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة والخيانة والرجالة. ولقد تحازر أهل الخبرة عدة من كان فيه من المقاتلة بما يزيد على ستين ما عدا النساء والصبيان. ثم انتقل رحمه الله لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي ونصب عليه المناجيق، وضايقه بالزحف

والقتال وكثرة الرماة حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم في قرنة شمالية. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا يندفع عنهم وظهرت لهم أمارات نصرة الحق على الباطل وكان قد ألقى في قلوبهم الرعب مما جرى على أبطالهم ورجالهم من السبي والقتل والأسر، وما جرى على حصونهم من الاستيلاء والأخذ علموا أنهم إلى ما صاروا إليه صائرون. وبالسيف الذي قتل به إخوانهم مقتولون، فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، واستقرت القاعدة بالمراسلة بين الطائفتين، وكان تسلمه القدس قدس الله روحه في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب وليلة كانت المعراج المنصوص عليها في القرآن المجيد. فانظر إلى هذا الاتفاق العجيب كيف يسّر الله عوده إلى أيدي المسلمين في مثل زمان الإسراء بنبيهم صلّى الله عليه وسلّم وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى، وكان فتوحاً عظيماً شهده من أهل العلم خلق عظيم ومن أرباب الحرف والطرق، وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسّر الله على يده من فتوح الساحل، وشاع قصده القدس، قصده العلماء من مصر ومن الشام بحيث لم يتخلف معروف من الحضور، وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير، وخطب فيه، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه. وحطّ الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان شكلا عظيما، ونصر الله الإسلام نصر عزيز مقتدر. وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرة

ذكر قصده صور

دنانير وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر أو أنثى ديناراً واحداً فمن أحضر القطيعة سلم نفسه وإلا أخذ أسيراً أو فرج الله عمن كان أسيراً من المسلمين وكان خلقاً عظيماً زهاء ثلاثة آلاف أسير وأقام رحمه الله يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والعلماء وإيصال من دفع قطيعته منهم إلى مأمنه وهو صور. ولقد بلغني أنه رحل عن القدس ولم يبق له من ذلك الملك شيء وكان مائتي ألف دينار وكان رحيله يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان. ذكر قصده صور ولما ثبت قدم السلطان بملك القدس والساحل قويت نفسه على قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها ربما اشتد فرحل سائراً إليها حتى عكا فنزل عليها ونظر في أحوالها ثم رحل متوجهاً إلى صور يوم الجمعة خامس شهر رمضان وسار حتى أشرف عليها ونزل قريباً منها ينتظر وصول آلات القتال

ذكر كسرة الأسطول

وكان لما تحرر عزمه على قصد صور سير إلى ولده الملك الظاهر يستحضره وكان قد تركه بحلب ليسد ذلك الجانب لاشتغاله هو بأمر الساحل فقدم عليه في الثامن عشر على تلك المنزلة وسر بوصوله سروراً عظيماً، ولما تكاملت عنده آلات القتال من المناجيق والدبابات والسنائر وغير ذلك نزل عليها في الثامن والعشرين وضايقها وقاتلها قتالاً عظيماً واستدعى أسطول مصر وكان يحاصرها من البحر والعسكر من البر وكان قد خلف أخاه الملك العادل بالقدس يقرر قواعده فاستدعاه فوصل إليه في خامس شوال وسير من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال. ذكر كسرة الأسطول وذلك أنه قدم على الأسطول إنسان يقال له الفارس بدران وكان

ذكر نزوله على كوكب

ناهضاً جلداً في البحر وكان رئيس البحريين يقال له عبد المحسن وكان قد أكد عليهم الوصية وأخذ حذرهم وتيقظهم لئلا تنتهز منهم فرصة فخالفوه وغفلوا عن أنفسهم في الليل فخرج أسطول الكفار من صور وكبسوهم وأخذوا المقدمين مع خمسة قطع وقتلوا خلقاً عظيماً من الأسطول الإسلامي وذلك في السابع والعشرين من شوال فلما علم السلطان ما تم على المسلمين ضاق عطنه وكان قد هجم الشتاء وتراكمت الأمطار وامتنع الناس من القتال من شدة المطر فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل فأشاروا عليه بالرحيل ليأخذ العسكر جزأً من الراحة ويستعدوا لهذا الأمر استعداداً جديداً فرأى ذلك رأياً ورحل عنها بعد أن رمى المنجنيقات وسيرها وأحرق مالا يمكن ثقله وكان رحيله ثاني ذي القعدة من هذه السنة ففرق العساكر وأعطاها دستوراً وسار كل قوم إلى بلادهم وأقام هو مع جماعة من خواصه بعكا حتى دخلت سنة أربع وثمانين. ذكر نزوله على كوكب ولما دخلت عليه هذه السنة المباركة رأى الاشتغال بالحصون الباقية لهم مما يضعف قلوب من في صور وينهي أمرها به فاشتغل بذلك ونزل على كوكب في أوائل محرم وكان سبب بداءته بكوكب أنه قد جعل حولها جماعة يحفظونها من أن تدخل إليهم قوة فخرج الإفرنج ليلاً وأخذوا غرتهم وكبسوهم

بعفربلا وقتلوا مقدمهم وكان من الأمراء ويعرف بسيف الدين أخي الجاولي وأخذوا أسلحتهم فسار رحمه الله من عكا ونزل عليها بمن معه من خواصه فإنه كان قد أعطى العساكر دستوراً وعاد أخوه إلى مصر وولده إلى حلب ولقي في طريقه شدة من الثلج والبرد فحملته مع ذلك الحمية على النزول عليها وأقام يقاتلها مدة. وفي تلك المنزلة وصلت إلى خدمته فإني كنت قد حججت سنة ثلاث وثمانين وكانت وقعة ابن المقدم وجرح يوم عرفة على عرفة لخلف جرى بينه وبين أمير الحاج طستكين على ضرب الكؤوس والدبدبة فإن أمير الحاج نهاه عن ذلك فلم ينته ابن المقدم وكان من أكبر أمراء الشام وكان كثير الغزاة فقدر الله أن جرح بعرفة يوم عرفة ثم حمل إلى منى مجروحاً ومات بمنى يوم الخميس يوم عيد الله الأكبر وصلي عليه في مسجد الخيف في بقية ذلك اليوم ودفن بالمعلا وهذا من أتم السعادات وبلغ ذلك السلطان فشق عليه ثم اتفق لي العود من الحج إلى الشام لقصد القدس وزيارته والجمع بين زيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوصلت إلى دمشق ثم خرجت إلى القدس فبلغه خبر وصولي فظن أني وصلت من جانب الموصل في حديث فاستحضرني عنده وبالغ في الإكرام والاحترام. ولما ودعته ذاهباً إلى القدس خرج لي بعض خواصه وأبلغني تقدمه إلي بأن أعود أتمثل في خدمته عند العود من القدس فظننت أنه يوصيني بمهم إلى الموصل وانصرفت إلى القدس

ذكر دخوله الساحل الأعلى وأخذه اللاذقية وجبلة وغيرهما

يوم رحيله عن كوكب ورحل لأنه علم أن هذا الحصن لا يؤخذ إلا بجمع العساكر عليه وكان حصناً قوياً وفيه رجال شداد من بقايا السيف وميرة عظيمة فرحل إلى دمشق وكان دخوله إليها في سادس ربيع الأول. وفي ذلك اليوم اتفق دخولي إليها عائداً من القدس وأقام بها خمسة أيام فكان له عنها ستة عشر شهراً وفي اليوم الخامس بلغه خبر الإفرنج أنهم بحبيلا واغتالوها فخرج مسرعاً ساعة بلوغ الخبر وكان قد سير إلى العساكر يستدعيها من سائر الجوانب وسار يطلب حبيلا فلما عرف الإفرنج بخروجه كفوا عن ذلك. وكان بلغه وصول عماد الدين وعسكر الموصل ومظفر الدين إلى حلب قاصدين الخدمة للغزاة فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني. ذكر دخوله الساحل الأعلى وأخذهِ اللاذقية وجبلة وغيرهما ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ثم سير إلى الملك الظاهر والملك المظفر أن يجتمعا وينزلا بتبرين قبالة أنطاكية ليحفظ ذلك الجانب وسارت عساكر

الشرق حتى اجتمعت لخدمة السلطان في هذه المنزلة ووصلت إليه بها على عزم المسير إلى الموصل متجهزاً لذلك فلما حضرت عنده فرح بي وأكرمني وكنت قد جمعت له كتاباً في الجهاد بدمشق مدة مقامي فيها يجمع أحكامه وآدابه فقدمته بين يديه فأعجبه وكان يلازم مطالعته وما زلت أطلب دستوراً في كل وقت وهو يدافعني عن ذلك ويستدعيني للحضور في خدمته في كل وقت ويبلغني على ألسنة الحاضرين ثناءه علي وذكره إياي بالجميل فأقام في منزلته ربيعاً الآخر جميعه وصعد في أثناءه إلى حصن الأكراد وحاصرها يوم مجيئه بها فما رأى الوقت يحمل حصاره واجتمعت العساكر من الجوانب وأغار على بلد طرابلس في الشهر دفعتين ودخل البلاد مغيراً ومختبراً لمن بها من العساكر ويقويه العساكر بالغنائم ثم نادى في الناس في أواخر الشهر إنا داخلون الساحل وهو قليل الأزواد والعدو يحيط بنا في بلاده من سائر الجوانب فاحملوا زاد شهر ثم سير إلي مع الفقيه عيسى وكشف إلي أنه ليس في عزمه أن يمكنني من العود إلى بلادي وكان الله قد أوقع في قلبي محبته منذ رأيته وحبه الجهاد فأحببته لذلك وخدمته من تاريخ مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وهو يوم دخوله الساحل وجميع ما حكيته قبل إنما هو روايتي عمن أثق به ممن شاهده، ومن هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبراً يقارب العيان والله الموفق،

ولما كان يوم الجمعة رابع جمادى الأولى رحل السلطان على تعبية لقاء العدو ورتب الأطلاب وسارت الميمنة أولاً ومقدمها عماد الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الآخر ومقدمها مظفر الدين وسار الثقل في وسط العسكر حتى أتى المنزل فبتنا تلك الليلة في بلد العدو ثم رحل ونزل على العريمة فلم يقاتلها ولم يتعرض لها ووصل في السادس إلى أنطرسوس فوقف قبالتها ينظر إليها وكان في عزمه الاجتياز فإنه كان له عمل بجبلة فاستهان بأمرها فعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وأمرها بالنزول على جانب البحر ولها برجان كالقلعتين حصينان وركب هو وقارب البلد وأمر

الناس بالزحف والقتال فلبسوا لامة الحرب والقتال والزحف وضايقهم فما استتم نصب الخيم واشتغلوا بالنهب والكسب ووفى بقوله نتغدى بأنطرسوس إن شاء الله وعاد إلى خيمته فرحاً مسروراً. وحضرنا عنده للهناء بما جرى ومد الطعام وحضر الناس وأكلوا على عادتهم ورتب على البرجين الباقيين الحصار فسلم أحدهما مظفر الدين فما زال يحاصره حتى أخرجه وأخذ من كان فيه وأمر السلطان بإخراب سور البلد وقسمه على الأمراء وشرعوا في إخرابه وأخذوا يحاصرون الآخر. وكان حصناً منيعاً مبنياً بالحجر النحيت وقد اجتمع من كان فيها من الخيالة والبصارقة والمقاتلة وخندقه يدور فيه الماء وفيه فروج كثيرة يخرج الناس منها عن بعد وليس له قدر يخرج عليه مسلم فرأى السلطان تأخير أمره والاشتغال بما هو أهم منه فاشتد في إخراب السور حتى أتى عليه وخرب البيعة وهي بيعة عظيمة عندهم محجوج إليها من أقطار بلادهم وأمر بوضع النار في البلد فأحرق جميعه حتى كان

ذكر فتوحه جبلة واللاذقية

تتأجج النار في إرزه وبيوته والأصوات مرتفعة بالتهليل والتكبير فأقام عليها يخربها إلى الرابع عشر وسار يريد جبلة وكان عرض له ولده الملك الظاهر في أثناء طريق جبلة فإنه طلبه وأمره أن يحضر معه جميع العساكر التي كانت بتبرين. ذكر فتوحه جبلة واللاذقية ووصل إلى جبلة في الثامن عشر وما استتم نزول العساكر حتى أتى البلد وكان فيه مسلمون مقيمون فيه وفاض يحكم بينهم وكان قد عمل على البلد فلم يمتنع وبقيت القلعة ممتنعة فاشتغل بقتالها فقاتلت قتالاً يقيم عذراً لمن كان فيها وسلمت بالأمان في التاسع عشر وأقام عليها إلى الثالث والعشرين وسار عنها يطلب اللاذقية

وكان نزوله عليها في الرابع والعشرين وهي بلد مليح خفيف على القلب غير مستور. وله ميناء مشهورة وله قلعتان متصلتان على تل مشرف على البلد فنزل محدقاً بالبلد وأخذ العسكر منازلهم مستديرين على القلعتين من جميع نواحيها إلا من ناحية البلد واشتد القتال وعظم الزحف وارتفعت الأصوات وقوي الضجيج إلى آخر اليوم المذكور. وأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة فإنه كان بلد التجار ففرق بين الناس الليل وهجومه وأصبح يوم الجمعة مقاتلاً مجتهداً في أخذ النقوب وأخذت النقوب من شمالي القلاع وتمكن منها النقب حتى بلغ طوله على ما حكي لي من ذرعه ستين ذراعاً وعرضه أربعة أذرع واشتد الزحف عليهم حتى صعد الناس الجبل وقاربوا السور وتواصل القتال حتى صاروا يتحاذفون بالحجارة باليد فلما رأى عدو الله ما حل بهم من الصغار والبوار استغاثوا بطلب الأمان عشية الجمعة الخامس والعشرين من الشهر وطلبوا قاضي جبلة يدخل إليهم ليقرر لهم الأمان فأجيبوا إلى ذلك وكان رحمه الله متى طلب منه الأمان لا يبخل به رفقاً فعاد الناس عنهم إلى خيامهم واستقر الحال معهم على أنهم يطلقون بنفوسهم وذراريهم وأموالهم خلا الغلال والذخائر وآلات السلاح والدواب

ذكر فتوح صهيون

وأطلق لهم دواب يركبونها إلى مأمنهم ورقي عليها العلم الإسلامي المنصور في بقية ذلك اليوم وأقمنا عليها إلى السابع والعشرين. ذكر فتوح صهيون ورحل عن اللاذقية طالباً صهيون واستدارت العساكر بها من سائر نواحيها في التاسع والعشرين ونصب عليها ستة مناجيق وهي قلعة حصينة منيعة في طرف جبل خنادقها أودية هائلة واسعة عظيمة وليس لها خندق محفور إلا من جانب واحد مقدار طوله ستون ذراعاً أو أكثر وهو نقر في حجر ولها ثلاثة أسوار سور دون ربضها وسور دون القلعة وكان على قلعتها علم طويل منصوب فحين أقبل العسكر الإسلامي شاهدته قد وقع فاستبشر المسلمون بذلك وعلموا أنه النصر والفتح واشتد القتال عليها من سائر الجوانب فضربها بمنجنيق الملك الظاهر صاحب حلب وكان نصب منجنيقاً قريباً من سورها فقطع الوادي وكان صائب الحجر فلم يزل يضربها حتى هدم من السور قطعة عظيمة يمكن الصاعد في السور الترقي إليه منها

ذكر فتوح بكاس

ولما كان بكرة الجمعة ثاني جمادى الآخرة عزم السلطان وتقدم وأمر المنجنيقات أن تتوالى بالضرب وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج بالتكبير والتهليل وما كان إلا ساعة حتى رقي المسلمون على الأسوار التي للربض واشتد الزحف وعظم الأمر وهجم المسلمون الربض، ولقد كنت أشاهد الناس وهم يأخذون القدور وقد استوى فيها الطعام فيأكلونها وهم يقاتلون وانضم من كان في الربض إلى القلعة ويحملون ما أمكنهم أن يحملوا من أموالهم ونهب الباقي واستدارت المقاتلة حول أسوار القلعة ولما عاينوا الهلاك استغاثوا بطلب الأمان ووصل خبرهم إلى السلطان فبذل الأمان وأنعم عليهم على أن يسلموا بأنفسهم وأموالهم ويؤخذ من الرجل منهم عشرة دنانير ومن المرأة خمسة وعن الصغير ديناران وسلمت القلعة وأقام السلطان عليها حتى سلم عدة قلاع كالعبد وفيحه وبلاطنيس وغيرها من القلاع والحصون تسلمها النواب ذكر فتوح بكاس ثم رحل وسرنا حتى أتينا سادس جمادى الآخرى بكاس وهي قلعة حصينة على جانب العاصي ولها نهر يخرج من

ذكر فتوح برزية

تحتها وكان المنزل على شاطئ العاصي وصعد السلطان جريدة إلى القلعة وهي على جبل يطل على العاصي فأحدق بها من كل جانب وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات والزحف المضايق إلى تاسع الشهر ويسر الله فتحها عنوة وأسر من فيها بعد قتل من قتل منهم وغنم جميع ما كان فيها وكان لها قليعة تسمى الشفر قريبة منها يعبر إليها منها بجسر وهي في غاية المنعة ليس إليها طريق فسلطت عليها المنجنيقات من الجوانب ورأوا أنهم لا ناصر لهم فطلبوا الأمان في الثالث عشر وسألوا أن يؤخروا ثلاثة أيام لاستئذان من بإنطاكية فأذن في ذلك وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني عليها يوم الجمعة سادس عشر ثم عاد السلطان إلى الثقل وسير ولده الملك الظاهر إلى قلعة سرمانية فقاتلها قتالاً شديداً وضايقها مضايقة عظيمة وتسلمها يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر فاتفقت فتوحات الساحل من جبلة إلى سرمانية في أيام الجمع وهي علامة قبول دعاء الخطباء المسلمين وسعادة السلطان حيث يسر لنا الله الفتوح في اليوم الذي يضاعف فيه ثواب الحسنات وهذا من نوادر الفتوحات في الجمع المتوالية ولم يتفق مثلها في تاريخ. ذكر فتوح برزية ثم سير السلطان جريدة إلى قلعة برزية وهي قلعة حصينة في غاية القوة والمنعة على سن جبل شاهق يضرب بها المثل في جميع بلاد الإفرنج والمسلمين يحيط بها أودية من سائر جوانبها وذرع علوها كان خمسمائة ذراع

ونيفاً وسبعين ذراعاً ثم جدد عزمه على حصارها بعد رؤيتها واستدعى الثقل وكان نزول الثقل وبقية العسكر تحت جبلها في الرابع والعشرين من الشهر وفي بكرة الخامس والعشرين منه صعد السلطان جريدة مع المقاتلة والمنجنيقات وآلات الحصار إلى الجبل فأحدقت بالقلعة من سائر نواحيها وركب القتال من كل جانب وضرب أسوارها بالمنجنيقات المتواترة الضرب ليلاً ونهاراً وفي السابع والعشرين قسم العساكر ثلاثة أقسام ورتب كل قسم يقاتل شطراً من النهار ثم يستريح ويسلم القتال للقسم الآخر بحيث لا يفتر عنها القتال عنها أصلاً وكان صاحب النوبة الأولى عماد الدين صاحب سنجار فقاتلها قتالاً شديداً حتى استوفى نوبته وضرس الناس من القتال وتراجعوا واستلم النوبة الثانية السلطان بنفسه وركب وتحرك خطوات عدة وصاح في الناس فحملوا عليها حملة الرجل الواحد وقصدوا السور من كل جانب فلم يكن إلا بعض ساعة حتى رقي الناس على الأسوار وهجموا القلعة وأخذت القلعة عنوة فاستغاثوا بالأمان وقد تمكنت الأيدي منهم فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ونهب جميع ما فيها وأسر جميع من كان فيها وكان قد أوي إليها خلق عظيم وكانت من قلاعهم المذكورة وكان يوماً عظيماً وعاد الناس إلى خيامهم غانمين وعاد السلطان إلى الثقل فرحاً مسروراً وأحضر بين يديه صاحب القلعة وكان رجلاً كبيراً منهم وكان هو ومن أخذ من أهله سبعة عشر نفساً فمن عليهم ورق لهم وأنفذهم إلى صاحب أنطاكية استمالة له فإنهم كانوا يتعلقون به ومن أهله.

ذكر فتوحات دربساك

ذكر فتوحات دربساك ثم رحل حتى أتى جسر الحديد وأقام عليه أياماً وسار حتى نزل على دربساك يوم الجمعة ثامن عشر رجب وهي قلعة منيعة قريبة من أنطاكية فنزل عليها وقاتلها قتالاً شديداً بالمنجنيقات وضايقها مضايقة عظيمة وأخذ النقب تحت برج منها وتمكن النقب منه حتى وقع وحموه بالرجال والمقاتلة ووقف في الثغرة رجال يحمونها ممن يصعد فيها ولقد شاهدتهم وكلما قتل منهم رجل قام غيره مقامه وهم قيام في عرض الجدار مكشفون فاشتد بهم الأمر حتى طلبوا الأمان واشترطوا مراجعة أنطاكية وكانت القاعدة أن ينزلوا بأنفسهم وثياب أبدانهم لا غير ورقي العلم الإسلامي في الثاني والعشرين من رجب وأعطاها علم الدين سليمان بن جندر وسار عنها في الثالث والعشرين منه. ذكر فتوح بغراس وهي قلعة منيعة أقرب إلى أنطاكية من دربساك وكانت كثيرة العدة والرجال فنزل العسكر في مرج لها وأحدق العسكر بها جريدة مع أنّا احتجنا إلى يزك في تلك المنزلة يحفظ جانب أنطاكية لئلا يخرج منها من يهاجم العسكر فضرب يزك الإسلام على باب أنطاكية بحيث لا يشذ عنه من يخرج منها وأنا ممن كان في اليزك بعض الأيام لرؤية البلد وزيارة حبيب النجار

المدفون فيها ولم يزل يقاتل بغراس مقاتلة شديدة حتى طلبوا الأمان على استئذان أنطاكية ورقي العلم الإسلامي عليها في ثاني شعبان وفي بقية ذلك اليوم عاد رحمه الله إلى المخيم الأكبر وراسله أهل أنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر وقوة قلق عماد الدين صاحب سنجار في طلب الدستور وعقد الصلح بيننا وبين أنطاكية من بلاد الإفرنج لا غير على أن يطلقوا جميع أسارى المسلمين الذين عندهم وكان إلى سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد إلى السلطان. ورحل يطلب دمشق فسأله ولده الملك الظاهر أن يجتاز به فأجابه وسار حتى أتى حلب حادي عشر شعبان وأقام بقلعتها ثلاثة أيام وولده يقوم بالضيافة حق القيام ولم يبق من العسكر إلا من ناله من نعمته منال وأكثر ظني أنه أشفق عليه والده وسار من حلب يريد دمشق فاعترضه ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين وأصعده إلى قلعة حماة واصطنع له طعاماً حسناً وأحضر له سماع الصوفية وبات فيها ليلة واحدة وأعطاه جبلة واللاذقية وسار على طريق بعلبك حتى أتاها وأقام بمرجها يوماً ودخل إلى حمامها وسار منها حتى دخل رمضان وما كان يرى تخلية وقته عن الجهاد مهما أمكنه وكان قد بقي له القلاع القريبة من حوران التي يخاف عليها من جانبها كصفد وكوكب فرأى أن يشغل الوقت بفتح المكانين في الصوم.

ذكر فتح صفد

ذكر فتح صفد ثم سار في أوائل رمضان من دمشق يريد صفد ولم يلتفت إلى مفارقة الأهل والأولاد والوطن في هذا الشهر الذي يسافر الإنسان أين كان فيجتمع فيه بأهله. اللهم إنه احتمل ذلك ابتغاء مرضاتك فآته أجراً عظيماً. فسار حتى أتى صفد وهي قلعة منيعة قد تقاطعت حولها أودية من سائر جوانبها فأحدق العسكر بها ونصب عليها المناجيق في أثناء شهر رمضان المبارك وكانت الأمطار شديدة والوحول عظيمة ولم يمنعه ذلك عن جده، ولقد كنت عنده في خدمته ليلة وقد عين مواضع خمس مناجيق فقال ما ننام حتى تنصب الخمسة وسلم كل منجنيق إلى قوم ورسله تتواتر إليهم يعرفونهم كيف يصنعون حتى أظله الصبح وقد فرغت المنجنيقات ولم يبق إلا تركيب خنازيرها فيها فرويت له الحديث المشهور في الصحاح وبشرته بمقتضاه وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: " عينان لا تمسهما النار، عين باتت تحرس في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله "، وفي أثناء شهر رمضان سلمت الكرك من جانب نواب صاحبها وخلصوه بها من الأسر وكان قد أسر في وقعة حطين المباركة ثم لم يزل القتال على صفد متواصلاً بالبون مع الصوم حتى سلمت بالأمان في رابع عشر شوال.

ذكر فتح كوكب

ذكر فتح كوكب ثم سار يريد كوكب فنزل على الجبل وجرد العسكر وأحدق بالقلعة وضايقها بالكلية بحيث اتخذ له موضعاً يتجاوز نشاب العدو ونباله حائطاً من حجر وطين يستتر وراءه حتى لا يقدر أحد يقف على باب خيمة إلا إن كان ملبساً وكانت الأمطار متواترة والوحول عظيمة وعانى شدائد وأهوالاً من شدة الرياح وتراكم الأمطار وكون العدو مسلطاً عليهم بعلو مكانه وقتل وجرح جماعة ولم يزل راكباً مركب الجد حتى تمكن من النقب من سورها، ولما أحس العدو المخذول أنه مأخوذ طلب الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم وتسلمها في منتصف ذي القعدة ونزل على الفور إلى الثقل وكان قد أنزله من شدة الوحل والريح في سطح الجبل فأقام بقية الشهر يراجعه أخوه الملك العادل في أشغال شخصية حتى هل هلال ذي الحجة وأعطى الجماعة دستوراً وسار مع أخيه يريد القدس لزيارته ووداع أخيه فإنه عائداً إلى مصر فوصلا إليه يوم الجمعة ثامن ذي الحجة وصلينا الجمعة في قبة الصخرة الشريفة وصلينا صلاة العيد الأعظم بها أيضاً يوم الأحد وسار حادي عشر طالباً عسقلان لينظر في حالها فأقام بها أياماً يلم شعثها ويصلح أحوالها فودع أخاه وأعطاه الكرك وأخذ منه عسقلان وعاد يطلب عكا على طريق الساحل ويمر على البلاد يتفقد أحوالها ويودعها الرجال والعدد حتى أتى عكا فأقام بها معظم محرم سنة خمسة وثمانين ورتب بها بهاء الدين قراقوش والياً وأمره بعمارة السور والإطناب فيه ومعه حسام الدين

ذكر توجهه إلى شقيف أرنون وهي السفرة المتواصلة بواقعة عكا

بشارة وسار يريد دمشق مستهل صفر سنة خمسة وثمانين. ذكر توجهه إلى شقيف أرنون وهي السفرة المتواصلة بواقعة عكا وأقام بدمشق حتى دخل ربيع الأول ثلاثة أيام ووصله في أثناء ربيع الأول رسل الخليفة الناصر لدين الله يأمره بالخطبة لولده ولي العهد فخطب له وجدد عزمه على قصد شقيف أرنون وهو موضع حصين قريب من بانياس وكان تبريزه في الثالث فسار حتى نزل مرج برغوث وأقام به ينتظر العساكر إلى حادي عشرة ورحل حتى أتى بانياس ثم رحل منها حتى أتى مرج عيون في السابع عشر فخيم به وهو قريب من شقيف أرنون بحيث يركب كل يوم بشارفه والعساكر تجتمع وتطلبه من كل صوب وأوب فأقمنا أياماً نشرف كل يوم على الشقيف والعساكر الإسلامية في كل يوم تصبح متزايدة العدد والعدد وصاحب الشقيف يرى ما يتيقن معه عدم السلامية فرأى

ذكر اجتماع الإفرنج تقصد عكا

أن إصلاح حاله معه قد تعين طريقاً إلى سلامته فنزل بنفسه وما أحسسنا به إلا وهو قائم على باب خيمة السلطان فأذن له فدخل فاحترمه وأكرمه وكان من كبار الإفرنجية وعقلائها وكان يعرف بالعربية وعنده إطلاع على شيء من التواريخ وبلغني أنه كان عنده مسلم يقرأ له ويفهمه وكان عنده ثاني فحضر بين يدي السلطان وأكل معه الطعام ثم خلا به وذكر له أنه مملوك وأنه تحت طاعته وأنه يسلم المكان إليه من غير تعب واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق فإنه بعد ذلك لا يقدر على مساكنة الإفرنج وإقطاعاً بدمشق يقوم به وبأهله وأن يمكن من الإقامة بموضعه وهو يتردد إلى الخدمة ثلاثة أشهر من تاريخ اليوم الذي كان فيه حتى يتمكن من تخليص أهله وجماعته من صور فأجيب إلى ذلك كله وأقام يتردد إلى خدمة السلطان في كل وقت ويناظره في دينه ونناظره في بطلانه وكان حسن المحاورة ومتأدباً في كلامه وفي أثناء ربيع الأول وصل الخبر بتسليم الشوبك وكان قد أقام السلطان عليه جمعاً عظيماً يحاصرونه مدة سنة حتى فرغ زادهم وسلموه بالأمان. ذكر اجتماع الإفرنج تقصد عكا وكان السلطان اشترط على نفسه حين تسلم عسقلان أنه إن أمر الملك بتسليمها أطلقه فأمرهم بتسليمها وسلموها فطالبه الملك بإطلاقه فأطلقه

ذكر الواقعة التي استشهد فيها أيبك الأخرش

وفاءً بالشرط ونحن على حصن الأكراد من أنطرسوس واشترط عليه أن لا يشهر في وجهه سيفاً أبداً ويكون غلامه ومملوكه وطليقه أبداً فنكث لعنه الله فجمع جموعاً وأتى صور يطلب الدخول إليها فخيم على بابها يراجع المركيس الذي كان بها في ذلك الوقت وكان المركيس اللعين رجلاً عظيماً ذا رأي وبأس شديد في دينه وصرامة عظيمة فقال إني نائب للملوك الذين وراء البحر وما أذنوا لي في تسليمها إليك وطالت المراجعة واستقرت القاعدة بينهما على أن يتفقوا جميعاً على المسلمين وتجمع العساكر بصور وغيرها من الإفرنجية على المسلمين وعسكروا على باب صور. ذكر الواقعة التي استشهد فيها أيبك الأخرش وذلك أنه لما كان يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأول من السنة المذكورة بلغ السلطان من اليزك أن الإفرنج قد قطعوا الجسر الفاصل بين أرض صور وأرض صيدا وبقيت الأرض التي نحن عليها فركب السلطان وصاح الجاووش فركب العسكر يريدون نحو اليزك فوصل العسكر وقد انفصلت الوقعة وذلك أن الإفرنج عبر منهم جماعة الجسر فنهض لهم اليزك الإسلامي وكانوا في قوة وعدة فقاتلوهم قتالاً شديداً وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وجرحوا أضعاف ما قتلوا ورموا في النهر جماعة فغرقوا ونصر الله الإسلام وأهله ولم يقتل من المسلمين إلا مملوك للسلطان يعرف بأيبك الأخرش فإنه استشهد في ذلك اليوم وكان شجاعاً باسلاً مجرباً في الحرب فارساً تقنطر به فرسه فلجأ إلى صخرة فقاتل بالنشاب حتى فني ثم بالسيف

ذكر وقعة ثانية استشهد فيها جمع من رجاله المسلمين

حتى قتل جماعة ثم تكاثروا عليه فقتلوه ووَجِد السلطان عليه لمكان شجاعته وعاد السلطان إلى خيم كانت قد ضربت له قريب المكان جريدة. ذكر وقعة ثانية استشهد فيها جمع من رجاله المسلمين وأقام في تلك الخيم إلى التاسع عشر وركب يشرف على القوم على عادة فتبع العسكر خلق عظيم من الرجالة والغزاة والسوقة وحرص في ردهم فلم يفعلوا ولقد أمر من ضربهم فلم يفعلوا وخاف عليهم فإن المكان كان حرجاً ليس للراجل فيه ملجأ ثم هجم الرجالة إلى الجسر وناوشوا العدو وعبر منهم جماعة إليهم وجرى بينهم قتال شديد واجتمع بهم من الإفرنج خلق عظيم وهم لا يشعرون وكشفوهم بحيث علموا أن ليس وراءهم كمين فحملوا عليهم حملة واحدة على غرة من السلطان فإنه كان بعيداً عنهم ولم يكن معه عسكر فإنه لم يخرج بتعبية قتال وإنما ركب مستشرفاً عليهم على العادة من كل يوم ولما بان له الوقعة وظهر له غبارها بعث إليهم من كان معه ليردوهم فوجدوا الأمر قد فرط والإفرنج قد تكاثروا حتى خافت منهم السرية التي بعثها السلطان وظفروا بالرجالة ظفرة عظيمة وجرى بينهم وبين السرية قتال شديد وأسر جماعة من الرجالة وقتلوا جماعة وكان عدد الشهداء مائة وثمانين نفراً وقتل أيضاً من الإفرنج عدة عظيمة وغرق أيضاً منهم عدة وكان ممن قتل منهم مقدم الألمانية وكان عندهم عظيماً محترماً

ذكر مسيرة الجريدة إلى عكا وسبب ذلك

واستشهد من المعروفين من المسلمين ابن البصاروا وكان شاباً حسناً شجاعاً واحتسبه والده في سبيل الله ولم تقطر من عينه عليه دمعة على ما ذكر جماعة لازموه وهذه الوقعة لم يتفق للإفرنج مثلها في هذه الوقائع التي حضرتها وشاهدتها ولم ينالوا من المسلمين مثل هذه العدة في هذه المدة. ذكر مسيرة الجريدة إلى عكا وسبب ذلك ولما رأى السلطان ما حل بالمسلمين في تلك الوقعة النادرة جمع أصحابه وشاورهم وقدر معهم أنه يهجم على الإفرنج ويعبر الجسر ويقتلهم ويستأصل شأفتهم وكان الإفرنج قد رحلوا من صور ونزلوا قريب الجسر وبين الجسر وصور مقدار فرسخ وزائد على فرسخ فلما صمم العزم على ذلك أصبح يوم الخميس سابع عشر وركب وسار وتبعه الناس والمقاتلة والعساكر ولما وصل أواخر الناس إلى أوائلهم وجدوا اليزك عائداً وخيامهم قد قلعت فسئلوا عن سبب ذلك فذكروا أن الإفرنج رحلوا راجعين إلى صور ملتجئين إلى سورها معتصمين بقربها وأنهم لما بلغهم ذلك عادوا ولما رأى السلطان ذلك منهم رأى أن يسير إلى عكا ليلحظ ما بني من سورها ويحث على الباقي فمضى إلى عكا ورتب أحوالها وأمر بتتمة عمارة سورها وإتقانه وإحكامه وأمرهم بالاحتياط والاحتراز وعاد إلى العسكر المنصور إلى مرج عيون منتظراً مهلة صاحب الشقيف لعنه الله.

ذكر وقعة أخرى

ذكر وقعة أخرى ولما كان يوم السبت سادس جمادى الآخرى بلغه أن جماعة من رجالة العدو يسطون ويصلون إلى جبل تبنين يحتطبون وفي قلبه من رجالة المسلمين وما جرى عليهم أمر عظيم فرأى أن يقرر قاعدة وكميناً يرتبه لهم ويأخذهم فيه وبلغه أنه يخرج وراءهم أيضاً خيلاً تحفظهم فعمل كميناً يصلح للقاء الجميع ثم أنفذ إلى عسكر تبنين وتقدم إليهم أن يخرجوا في نفر يسير غائرين على تلك الرجالة وأن خيل العدو إذا تبعتهم ينهزمون إلى جهة عينها لهم وأن يكون ذلك صبيحة الاثنين ثامن جمادى الآخرى وأرسل إلى عسكر عكا أن يسير حتى يكون وراء عسكر العدو حتى إذا تحركوا في نصرة أصحابهم قصدوا خيمهم وركب هو وجحفله فجر يوم الاثنين شاكي السلاح متجردين ليس معهم خيمة إلى الجهة التي عينها لهزيمة عسكر تبنين ورتب العسكر ثمانية أطلاب واستخرج من كل طلب عشرين فارساً من الشجعان الجياد الخيل وأمرهم أن يتراأوا للعدو حتى يظهر واليهم ويناوشوهم وينهزموا بين أيديهم حتى يصلوا إلى الكمين ففعلوا ذلك وظهر لهم من الإفرنج معظم عسكرهم يقدمهم الملك وكان قد بلغهم الخبر وتعبوا تعبية القتال وجرى بينهم وبين هذه السرية اليسير قتال شديد والتزمت السرية القتال وأنفوا عن الانهزام بين أيديهم وحملتهم الحمية على مخالفة السلطان ولقائهم العدو الكثير بذلك الجمع اليسير واتصل الحرب بينهم إلى أواخر نهار الاثنين ولم يرجع منهم أحد إلى العسكر ليخبرهم بما جرى واتصل الخبر بالسلطان في أواخر الأمر وقد هجم الليل فبعث إليهم بعوثاً كثيرة حين علم ضيق الوقت عن المصاف وفوات الأمر

ذكر أخذ أصحاب الشقيف وسبب ذلك

ولما بصر الإفرنج بأوائل المدد قد لحق السرية عادوا منهزمين ناكصين على أعقابهم بعد أن جرت مقتلة عظيمة من الجانبين وكانت القتلى من الإفرنج على ما ذكر من حضر فإني لم أكن حاضرها زهاء عشرة أنفس ومن المسلمين ستة أنفار اثنان من اليزك وأربعة من العرب منهم الأمير رامل وكان شاباً تاماً حسن الشباب مقدم عشيرته. وكان سبب قتله أنه تقنطرت به فرسه ففداه ابن عمه بفرسه فتقنطرت به أيضاً وأسر هو وثلاثة من أهله. ولما بصر الإفرنج بالمدد للعسكر قتلوهم خشية الاستنقاذ وجرح خلق كثير من الطائفتين وخيل كثيرة. ومن نوادر هذه الوقعة أن مملوك السلطان أثخن بالجراح حتى وقع بين القتلى وجراحاته تشخب دماً وبات ليلته أجمع على تلك الحالة إلى صبيحة يوم الثلاثاء فتفقده أصحابه فلم يجدوه فعرفوا السلطان فقده فأنفذ من يكشف خبره فوجدوه بين القتلى على مثال هذه الحالة فحملوه ونقلوه إلى المخيم على تلك الحال وعافاه الله وعاد السلطان إلى المخيم يوم الأربعاء عاشر الشهر منصوراً، فرحاً مسروراً. ذكر أخذ أصحاب الشقيف وسبب ذلك ثم استفاض بين الناس أن صاحب الشقيف فعل ما فعله من المهلة غيلة لا أنه صادق في ذلك وإنما قصد فيه تدفع الزمان وظهر لذلك مخائل كثيرة من الحرص في تحصيل الميرة وإتقان الأبواب وغير ذلك فرأى السلطان أن يصعد إلى سطح الجبل ليقرب من المكان ويرسل سراً من يمنع من دخول النجدة والميرة إليه وأظهر أن سبب ذلك شدة حر الزمان والفرار من وخم المرج. وكان انتقاله إلى سطح الجبل ليلة الثاني عشر من الشهر وقد مضى من الليل ربعه فما أصبح صاحب الشقيف إلا والخيمة مضروبة وبقي بعض

العساكر بالمرج على حاله فلما رأى أصحاب الشقيف قرب العسكر منه وعلم أنه بقي من المدة بقية جمادى الآخرى حدثته نفسه أنه ينزل إلى خدمة السلطان ويستعطفه ويستزيده في المدة وتخيل له بما رأى من أخلاق السلطان ولطافته أن ذلك يتم فنزل إلى الخدمة وعرض المكان وقال المدة لم يبق منها إلا اليسير وأي فرق بين التسليم اليوم أو غداً وأظهر أنه بقي من أهله جماعة بصور وأنهم على الخروج منها في هذه الأيام وأقام في الخدمة ذلك اليوم إلى الليل وصعد القلعة ولم يظهر له السلطان شيئاً وأجراه على عادته وتقضى مدته ثم عاد ونزل أيام وقد قرب انتهاء المدة والفراغ منها وطلب الخلوة بالسلطان وسأل منه أن يمهله تمام السنة تسعة أشهر فأحس السلطان منه الغدر فماطله وما أيسه وقال نتفكر في ذلك ونجمع الجماعة ونأخذ رأيهم وما ينفصل الحال عليه نعرفك وضرب له خيمة قريبة من خيمته وأقام عليها حرساً لا يشعر بهم وهو على غاية من الإكرام والاحترام له والمراجعة والمراسلة بينهم في ذلك الفن مستمرة حتى انقضت الأيام وطولب بتسليم المكان فكشف له أنك أضمرت الغدر وجددت في المكان عمائر، وحملت إليه ذخائر فأنكر ذلك واستقرت القاعدة على أن ينفذ من عنده ثقته وينفذ السلطان ثقة يتسلم المكان وينظر هل تجدد فيه شيء من البناء أم لا فمضوا إليه فلم يلتفت أصحابه المقيمون إليهم ووجدوه قد جدد باباً للسور لم يكن فأقيم الحرس الشديد عليه وأظهر ذلك ومنع من الدخول إلى الخدمة وقيل له قد انقضت المدة ولا بد

من التسليم وهو يغالط عن ذلك ويدافع عن الجواب عنه، ولما كان الثامن عشر من جمادى الآخرة وفيه اعترف بانتهاء المدة قال أنا أمضي وأسلم المكان وسار معه جمع كثير من الأمراء والأجناد حتى أتى الشقيف وأمرهم بالتسليم فأبوا فخرج إليه قسيس وحدثه بلسانه ثم عاد واشتد امتناعهم بعد عود القسيس إليهم فظن أنه أكد الوصية على القسيس في الامتناع وأقام ذلك اليوم والحديث يتردد فلم يتلفتوا وأعيد إلى المخيم المنصور وسير من ليلته إلى بانياس وأحيط عليه بقلعتها فأحدق العسكر بالشقيف مقاتلين ومحاصرين وأقام صاحب الشقيف ببانياس إلى سادس رجب واشتد حنق السلطان على صاحب الشقيف بسبب تضييع ثلاثة أشهر عليه وعلى عسكره ولم يعملوا فيها شيئاً فأحضر إلى المخيم وهدد ليلة وصوله بأمور عظيمة فلم يفعل وأصبح السلطان ثامن رجب ورقي إلى سنام الجبل مخيمه وهو موضع مشرف على الشقيف من المكان الذي كان فيه أولى وأبعد من الوخم وكان قد تغير مزاجه، ثم بلغنا بعد ذلك أن الإفرنج بصور مع الملك قد ساروا نحو

ذكر وقعة عكا

النواقير يريدون جهة عكا وإن بعضهم نزل بالإسكندرية وجرى بينهم وبين رجالة المسلمين مناوشة وقتل منهم المسلمون نفراً يسيراً وأقاموا هناك. ذكر وقعة عكا وذلك أنه لما بلغ السلطان حركة الإفرنج إلى تلك الجهة عظم عليه ولم ير المسارعة خوفاً من أن يكون قصدهم ترحيله عن الشقيف لا قصد المكان فأقام مستكشفاً للحال إلى ثاني عشر رجب فوصل قاصداً آخر أن الإفرنج في بقية ذلك اليوم رحلوا ونزلوا عين بصة ووصل أوائلهم إلى الزيت فعظم ذلك عنده وكتب إلى سائر أرباب الأطراف يتقدمون بالعساكر الإسلامية بالمسير إلى المخيم المحروس وعاد فجدد الكتب والحث وتقدم إلى الثقل أن سار الليل وأصبح هو صبيحة الثالث عشر سائراً إلى عكا على طريق طبرية إذ لم يكن ثم طريق يسع العساكر إلا هو وسير جماعة على طريق تبنين يستطلعون العدو ويواصلون بإخباره وسرنا حتى أتينا الحولة منتصف النهار فنزل بها ساعة ثم رحل وسار طول الليل حتى أتينا موضعاً يقال له المنية صباح اليوم الرابع عشر وفيه بلغنا نزول الإفرنج على عكا يوم الاثنين الثالث عشر وسير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة على سوء صنيعه

وسار هو جريدة من المنية حتى اجتمع ببقية العسكر الذي كان أنفذه على طريق تبنين بمرج صفورية فإن كان واعدهم إليه وتقدم إلى الثقل أن يلحقه إلى مرج صفورية ولم يزل حتى شارف العدو من الخروبة وبعث بعض العسكر ودخل عكا على غرة من العدو تقوية لمن فيها ولم يزل يبعث إليها بعثاً بعد بعث حتى حصل فيها خلق كثير وعدد وافر ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً وسار من الخروبة وكان قد نزل عليها خامس عشر الشهر فسار منها حتى أتى تل كيسان في أوائل مرج عكا وأمر الناس أن ينزلوا به على تلك التعبية وكان آخر الميسرة على طرف النهر الحلو وآخر الميمنة مقارب تل العياضية فاحتاط العسكر الإسلامي المنصور بالعدو المخذول وأخذ عليهم الطرف من الجوانب وتلاحقت العساكر الإسلامية واجتمعت ورتب اليزك الدائم والجاليش في كل يوم مع العدو وحصر العدو في خيامه من كل جانب بحيث لا يقدر أن يخرج منها واحد إلا ويجرح أو يقتل وكان معسكر العدو على شطر من عكا وخيمة ملكهم على تل المصليين قريباً من باب البلد وكان عدد راكبهم ألفي فارس وعدد راجلهم ثلاثين ألفاً وما رأيت من أنقصهم عن ذلك ورأيت من حزرهم بزيادة على ذلك ومددهم من البحر لا ينقطع وجرى بينهم وبين اليزك مقاتلات عظيمة متواترة والمسلمون يتهافتون على قتالهم والسلطان يمنعهم من ذلك إلى وقته والبعوث من العساكر الإسلامية تتواصل والملوك والأمراء من الأقطار تتابع فأول من وصل الأمير الكبير مظفر الدين بن زين الدين، ثم قدم بعده الملك المظفر صاحب حماة

ذكر فتح الطريق إلى عكا

وفي أثناء هذا الحال توفي حسام الدين سنقر الأخلاطي وأسف المسلمون عليه أسفاً شديداً فإنه كان شجاعاً ديّناً، ثم إن الإفرنج لما تكاثروا واستفحل أمرهم استداروا بعكا حيث منعوا من الدخول والخروج وذلك في يوم الخميس سلخ رجب، ولما رأى السلطان ذلك عظم لديه وضاق صدره وثارت همته العلية وفتح الطريق إلى عكا لتستمر السابلة إليها بالميرة والنجدة وغير ذلك فأحضر أمراءه وأصحاب الرأي من دولته وشاورهم في مضايقة القوم وانفصل لحمال على أنه يضايقهم مضايقة شديدة بحيث ينفصل أمرهم بالكلية ويفتح وباب والطريق إلى عكا فباكرهم صبيحة الجمعة مستهل شعبان وسار مع العسكر القد رتبه للقتال ميمنة وميسرة وقلباً وضايقهم مضايقة شديدة وكانت الحملة بعد صلاة الجمعة اغتناماً لدعاء الخطباء على المنابر وجرت حملات عظيمة وقلبات كثيرة واتصل الحرب إلى أن حال بين الفئتين هجوم الليل وبات الناس على حالهم من الجانبين شاكي السلاح تحرس كل طائفة نفسها من الطائفة الأخرى. ذكر فتح الطريق إلى عكا

ولما كانت صبيحة السبت أصبح الناس على القتال وأنفذ السلطان طائفة من شجعان المسلمين إلى البحر من شمالي عكا ولم يكن هناك للعدو خيم لكن العسكر كان قد امتد جريدة إلى البحر فحملوا عليهم فانكسروا بين أيديهم كسرة عظيمة وقتلوا منهم جمعاً كثيراً وانكف السالمون منهم إلى خيامهم وهجم المسلمون خلفهم إلى أوائل خيامهم وانفتح الطريق إلى عكا من باب القلعة المسماة بقلعة الملك إلى باب قراقوش الذي جدده وصار الطريق مهيعاً يمر فيه السوقي ومعه الحوائج ويمر به الرجل الواحد والمرأة واليزك بين الطريق وبين العدو مانعاً من يخرج من عسكرهم أو يدخل ودخل السلطان في ذلك اليوم إلى عكا ورقي على السور ونظر إلى عسكر العدو تحت السور وفرح المسلمون بنصر الله وخرج العسكر الذي كان في خدمة السلطان واستدار العسكر الإسلامي حول المعسكر الإفرنجي وأحدقوا بهم من كل جانب، ولما استقر به ذلك تراجع الناس عن القتال وذلك بعد الظهر لسقي الدواب وأخذ الراحة وكان نزولهم على أنهم إذا أخذوا حظاً من الراحة عادوا إلى القتال لمناجزة القوم وضاق

ذكر تأخر الناس إلى تل العياضية

الوقت وأخذ الضجر والتعب من الناس فلم يرجعوا إلى القتال في ذلك اليوم وبات الناس على أنهم يصبحونهم بكرة الأحد إلى القتال رجاء المناجزة بالكلية واختفى العدو في خيامهم بحيث لم يظهر منهم أحد. ولما كانت بكرة الأحد ثالث شعبان تعبى الناس للقتال وأحدقوا بالعدو وعزموا على مهاجمة القوم وعلى أن يترجل الأمراء ومعظم العسكر ويقاتلوا العدو في خيامه فلما تهيئوا لذلك رأى بعض الأمراء تأخير ذلك إلى بكرة الاثنين رابع شعبان وأن يدخل الراجل كله إلى داخل عكا ويخرجوا مع العسكر المقيم بالبلد من أبواب البلد على العدو من ورائه وتركب العساكر الإسلامية من خارج من سائر الجوانب ويحملوا حملة الرجل الواحد والسلطان يوالي هذه الأمور بنفسه ويكافحها بذاته لا يتخلف عن مقام من هذه المقامات وهو من شدة حرصه ووفور همته كالوالدة الثكلى، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه وفعلوا ما كان عزم عليه واشتدت منعة العدو وحمى نفسه في خيامه ولم تزل سوق الحرب قائمة تباع فيها النفوس بالنفائس، وتمطر سماء حربها الرؤوس من كل رئيس ومترائس حتى كان يوم الجمعة ثامن شعبان. ذكر تأخر الناس إلى تل العياضية ولما كان الثامن عزم العدو على الخروج بجموعهم فخرج راجلهم وفارسهم وامتدوا على التلول وساروا الهوينا غير مفرطين في

أنفسهم ولا خارجين من راجلهم حيث كانت الرجالة حولهم كالسور المبني يتلو بعضه بعضاً حتى قاربوا خيام اليزك ولما رأى المسلمون ذلك وإقدام العدو عليهم شدوا وتنازعت الشجعان، وتنازلت الكماة إلى الأقران، وصاح السلطان بالعساكر الإسلامية يا للإسلام فركب الناس بأجمعهم ووافق فارسهم راجلهم وشابهم وشيخهم وحملوا حملة الرجل الواحد على العدو المخذول فعاد ناكصاً على عقبيه والسيف يعمل فيهم والسالم منهم جريح. والعاطب طريح مشتدون هزيمة يعبر جريحهم بقتيلهم ولا تلوي الجماعة منهم على قتيلهم حتى لقي الخيام من سلم منهم وانكفوا عن القتال أياماً وكان رأيهم أن يحفظوا نفوسهم، ويحرسوا رؤوسهم، واستقر فتح طريق عكا والمسلمون يترددون إليها وكنت ممن دخل ورقي على السور ورمى العدو بما يسر الله تعالى من فوق السور ودام القتال بين الفئتين متصلاً الليل والنهار حتى كان الحادي عشر من شعبان ورأى السلطان توسيع الدائرة عليهم لعلهم يخرجون إلى مصارعهم

ذكر وقعة جرت للعرب مع العدو

فنقل الثقل إلى تل العياضية وهو تل قبالة تل المصليين مشرف على عكا وخيام العدو، وفي هذه المنزلة توفي حسام الدين طمان وكان من الشجعان ودفن في سفح هذا التل وصليت عليه مع جماعة من الفقهاء ليلة نصف شعبان وقد مضى من الليل هزيع رحمه الله. ذكر وقعة جرت للعرب مع العدو وكان سبب ذلك أنه بلغنا أن جمعاً من العدو يخرجون للاحتشاش من طرف النهر مما ينبت عليه فأكمن السلطان لهم جماعة من العرب وقصد العرب لخفتهم على خيلهم وأمنه عليهم فخرجوا ولم يشعروا بهم فهجموا عليهم وقتلوا منهم خلقاً عظيماً وأسروا جماعة وأحضروا رؤوساً عديدة بين يديه فخلع عليهم وأحسن إليهم وكان ذلك في السادس عشر، وفي عشية ذلك اليوم وقع بين العدو وبين أهل البلد حرب عظيم قتل فيه جمع عظيم من الطائفتين فطال الأمر بين الفئتين وما يخلوا يوماً من قتل وجرح وسبي ونهب وأنس البعض بالبعض بحيث أن الطائفتين كانا يتحدثان ويتركان القتال وربما غنى البعض ورقص البعض لطول المعاشرة ثم يرجعون إلى القتال بعد ساعة،

ذكر المصاف الأعظم على عكا

وكان الرجال يوماً من الطائفتين قد سئموا من القتال فقالوا إلى كم نقاتل الكبار وليس للصغار حظ نريد أن يتصارع صبيان منا ومنكم فأخرج صبيّان من البلد إلى صبيين من الإفرنج واشتد الحرب بينهم فوثب أحد الصبيين المسلمين إلى أحد الكافرين فاختطفه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً فاشتراه بعض الإفرنج بدينارين وقالوا هو أسيرك حقاً فخذ الدينارين وأطلقه. وهذه نادرة غريبة ووصل للفرنج مركب فيه خيل فهرب منها فرس ووقع في البحر وما زال يسبح وهم حوله يردونه حتى دخل ميناء عكا وأخذه المسلمون. ذكر المصاف الأعظم على عكا وذلك أنه لما كان يوم الأربعاء الحادي والعشرون تحركت عساكر

الإفرنج حركة لم تكن لهم بمثلها عادة فارسهم وراجلهم وكبيرهم وصغيرهم فاصطفوا خارج خيمهم قلباً وميمنة وميسرة وفي القلب الملك وبين يديه الإنجيل محمولاً مستوراً بثوب أطلس مغطى يمسكه أربعة أنفس بأربعة أطراف وهم يسيرون بين يدي الملك وامتدت الميمنة في مقابلة الميسرة التي لعسكر الإسلام من أولها إلى آخرها وكذلك ميسرة العدو في مقابلة ميمنتنا إلى آخرها وملكوا رؤوس التلال وكان طرف ميمنتهم إلى النهر وطرف ميسرتهم إلى البحر. وأما العسكر الإسلامي المنصور فإن السلطان أمر الجاويش أن نادى في الناس يا للإسلام وعساكر الموحدين فركب الناس وقد باعوا أنفسهم بالجنة ووقفوا بين أيدي خيامهم وامتدت الميمنة إلى البحر والميسرة إلى النهر كذلك أيضاً وكان رحمه الله قد أنزل الناس في الخيم ميمنة وميسرة وقلباً تعبية الحرب حتى إذا وقعت صيحة لا يحتاجون إلى تجديد ترتيب وكان هو في القلب وفي ميمنة القلب ولده الملك الأفضل ثم عسكر المواصلة يقدمهم ظهر الدين بن البلنكري ثم

عسكر ديار بكر في خدمة قطب الدين بن نور الدين صاحب الحصن ثم حسام الدين بن لاجين صاحب نابلس ثم الطواشي قايماز النجمي وجموع عظيمة متصلين بطرف الميمنة وكان في طرفها الملك المظفر تقي الدين بجحفله وعسكره وهو مطل على البحر، وأما أوائل الميسرة فكان مما يلي القلب سيف الدين علي المشطوب وعلي بن أحمد من كبار ملوك الأكراد ومقدميهم والأمير علي وجماعة المهرانية والهكارية ومجاهد الدين برتقش مقدم عسكر سنجار وجماعة من المماليك ثم مظفر الدين بن زين الدين بجحفله وعسكره وأواخر الميسرة كبار المماليك الأسدية كسيف الدين يازكج ورسلان بغا وجماعة الأسدية الذين يضرب بهم المثل ومقدم القلب الفقيه عيسى وجمعه، هذا والسلطان يطوف على الأطلاب بنفسه يحثهم على القتال، ويدعوهم إلى النزال، ويرغبهم في نصر دين الله ولم يزل القوم يتقدمون، والمسلمون يقدمون حتى علا النهار ومضى فيه مقدار أربع ساعات وعند ذلك تحركت ميسرة العدو على ميمنة المسلمين فأخرج لهم الملك المظفر الجاليش وجرى بينهم قلبات كثيرة وتكاثروا على الملك المظفر وكان في طرف الميمنة على البحر فتراجع عنهم شيئاً إطماعاً لهم لعلهم يبعدون عن أصحابهم فينال منهم غرضاً فلما رأى السلطان ذلك ظن به ضعفاً وأمدّ بأطلاب عدة من القلب حتى قوي جانبه وتراجعت ميسرة العدو واجتمعت على تل مشرف على البحر

ولما رأى الذين في مقابلة القلب ضعف القلب ومن خرج منه من الأطلاب داخلهم الطمع وتحركوا نحو ميمنة القلب وحملوا حملة الرجل الواحد راجلهم وفارسهم ولقد رأيت الرجالة تسير سير الخيالة وهم يسبقون حيناً وجاءت الحملة على الديار البكرية كما شاء الله تعالى وكان بهم غرة عن الحرب فتحركوا بين العدو وانكسروا كسرة عظيمة وسرى الأمر حتى انكسر معظم الميمنة واتبع العدو المنهزمين إلى العياضية فإنهم استداروا حول التل وصعد طائفة من العدو إلى خيمة السلطان فقتلوا طشت دار كان هناك، وفي ذلك اليوم استشهد إسماعيل المكبس وابن رواحة رحمهما الله، وأما الميسرة فإنها ثبتت لأن الحملة لم تصادفها وأما السلطان فأخذ يطوف على الأطلاب فينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة ويحثهم على الجهاد وينادي فيهم يا للإسلام ولم يبق معه إلا خمسة أنفس وهو يطوف على الأطلاب ويخرق الصفوف ويأوي إلى تحت التل الذي كان عليه الخيام، وأما المنهزمون من العسكر فإنهم بلغتهم هزيمتهم إلى الفخوانة قاطع جسر

طبرية وأم منهم قوم محروسة دمشق فأما المتبعون لهم فإنهم اتبعوهم إلى العياضية فلما رأوهم قد صعدوا إلى الجبل رجعوا عنهم وجاءوا عائدين إلى عسكرهم فلقيهم جماعة من الغلمان والخزيندية والساسة منهزمين على بغال الحمل فقتلوا منهم جماعة ثم جاءوا على رأس السوق فقتلوا جماعة وقتل منهم جماعة فإن السوق كان عظيماً ولهم سلاح، وأما الذين صعدوا إلى الخيام السلطانية فإنهم لم يلتمسوا فيها شيئاً أصلاً سوى أنهم قتلوا من ذكرنا وهم ثلاثة نفر رأوا ميسرة الإسلام ثابتة فعلموا أن الكسرة لا تتم فعادوا منحدرين من التل يطلبون عسكرهم، وأما السلطان فإن كان واقفاً تحت التل ومعه نفر يسير وهو يجمع الناس ليعودوا إلى المحلة على العدو فلما رأوا الإفرنج نازلين من التل أرادوا لقاءهم فأمرهم بالصبر إلى أن ولوا ظهورهم واشتدوا يطلبون أصحابهم فصاح في الناس فحملوا عليهم فطرحوا منهم جماعة فاشتد الطمع فيهم وتكاثر الناس وراءهم حتى لقوا أصحابهم والطرد وراءهم فلما رأوهم منهزمين والمسلمون وراءهم في عدد كثير ظنوا أن من حمل منهم قد قتل وإنهم إنما نجا منهم هذا النفر فقط وأن الهزيمة قد عادت عليهم فاشتدوا في الهرب والهزيمة وتحركت الميسرة عليهم وعاد الملك المظفر بجمعه من الميمنة وتجمعت الرجال وتداعت وتراجع الناس من كل جانب وكذب الله الشيطان ونصر الإيمان وظل الناس في قتل وطرح وضرب وجرح إلى أن اتصل المنهزمون السالمون إلى عسكرهم فهجم عليهم في الخيام فخرج منهم أطلاب كانوا أعدوها خشية من

مثل هذا الأمر مستريحة فردوا المسلمين وكان التعب قد أخذ من الناس والعرق قد ألجمهم فرجع الناس عنهم بعد صلاة العصر يخوضون في القتلى ودمائهم إلى خيامهم فرحين مسرورين وجلسوا في خيمته يتداركون من فقد الغلمان وكان مقدار من فقد من الغلمان المجهولين مائة وخمسين نفراً ومن المعروفين استشهد ظهر الدين أخو الفقيه عيسى ولقد رأيته وهو جالس يضحك والناس يعزونه وهو ينكر عليهم ويقول هذا يوم الهناء لا يوم العزاء وكان هو قد وقع عن فرسه وركبه فرأيته وقتل عليه جماعة من أقاربه وقتل في ذلك اليوم الأمير مجلئ هذا الذي قتل من المسلمين وأما من العدو المخذول فحزر قتلاهم بسبعة آلاف نفر ورأيتهم وقد حملوهم إلى شاطئ النهر ليلقوا فيه فحزرتهم بدون سبعة آلاف، ولما تم على المسلمين من الهزيمة ما تم ورأى الغلمان خلو الخيام عمن يعترض عليهم فإن العسكر انقسم إلى قسمين منهزمين ومقاتلين فلم يبق في الخيام أحد وراءنا فظنوا أن الكسرة تتم وأن العدو ينهب جميع ما في الخيام فوضعوا أيديهم في الخيام ونهبوا جميع ما كان فيها وذهب من الناس أموال عظيمة وكان ذلك أعظم من الكسرة وقعاً. ولما عاد السلطان إلى الخيم ورأى ما قد تم على الناس من نهب الأموال والهزيمة سارع إلى الكتب والرسل في رد المنهزمين وتتبع من شذ من العسكر والرسل تتابع في هذا المعنى حتى بلغت عقبة فيتق وأخذوهم بالكرة إلى عسكر المسلمين فعادوا

وأمر بجمع الأقمشة من أكف الغلمان إلى خيمته جلالات الخيل والمخالي بين يديه في خيمته وهو جالس ونحن حوله وهو يتقدم إلى كل من عرف شيئاً وحلف عليه يسلم إليه وهو يلقى هذه الأحوال بقلب صلب. وصدر رحب. ووجه منبسط ورأى مستقيم غير مختبط. واحتساب لله تعالى وقوة عزم في نصرة دين الله، وأما العدو المخذول فإنه عاد إلى خيمة وقد قتل شجعانهم وطرحت مقدموهم وفقدت ملوكهم فأمر السلطان أن خرج من عكا عجل يسحبون عليه القتلى منهم إلى طرف النهر ليلقوا فيه، ولقد حكى لي بعض من ولي أمر العجل أنه أخذ خيطاً وكان كلما أخذ قتيلاً عقد عقدة فبلغ عدد قتلى الميسرة أربعة آلاف ومائة وكسور وبقي قتلى الميمنة وقتلى القلب لم يعدهم فإنه ولي أمرهم غيره وبقي من العدو بعد ذلك من حمى نفسه وأقاموا في مخيمهم لم يكترثوا بجحافل المسلمين وعساكرهم وتشتت من عساكر المسلمين خلق كثير بسبب الهزيمة فإنه ما رجع منها إلا رجل معروف يخاف على نفسه والباقون وهربوا في حال سبيلهم وأخذ السلطان في جمع الأموال المنهوبة وإعادتها إلى أصحابها وأقام المناداة في العساكر وقرن النداء بالوعيد والتهديد وهو يتولى تفرقتها بين يديه واجتمع من الأقمشة عدد كثير في خدمته حتى أن الجالس في أحد الطرفين لا يرى الجالس في الطرف الآخر وأقام من ينادي على من ضاع منه شيء فحضر الخلق وسار من عرف شيئاً وأعطى علامته حلف

وأخذه من الحبل والمخازة إلى الهميان والجوهر ولقي من ذلك مشقة عظيمة ولا يرى ذلك إلا نعمة من الله تعالى يشكر عليها. ويسابق بيد القبول إليها. ولقد حضرت يوم تفرقت الأقمشة على أربابها فرأيت سوقاً للعدل قائمة لم ير في الدنيا أعظم منها وكان ذلك في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان وعند انقضاء هذه الواقعة وسكون ثأرتها أمر السلطان بالثقل حتى تراجع إلى موضع يقال له الخروبة خشية على العسكر من روائح القتلى وآثار الوخم من الوقعة وهو موضع قريب من مكان الوقعة إلا أنه أبعد عنها من المكان الذي كان نازلاً فيه بقليل وضربت له خيمة عند الثقل وأمر اليزك أن يكون مقيماً في المكان الذي كان نازلاً فيه وذلك في التاسع والعشرين واستحضر الأمراء وأرباب المشورة في سلخ الشهر ثم أمرهم بالإصغاء إلى كلامه وكنت من جملة الحاضرين ثم قال بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله. اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد نزل في بلدنا وقد وطء أرض الإسلام. وقد لاحت لوائح النصر عليه وإن شاء الله تعالى وقد بقي في هذا الجمع اليسير ولا بد من الاهتمام بقلعه والله قد أوجب علينا ذلك وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل وهو واصل وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن يفتح البحر جاءه مدد عظيم والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم فلينجزنا كل منكم ما عنده في ذلك، وكان ذلك في ثالث عشر تشرين من الشهور الشمسية وامتخضت الآراء وجرى تجاذب في أطراف الكلام وانفصلت آراؤهم على أن المصلحة تأخير العسكر إلى الخروبة وأن يبقى العسكر أياماً حتى يستجم من حمل السلاح وترجع النفوس إليهم فقد أخذ التعب منهم واستولى على

ذكر وصول خبر الألمان

نفوسهم الضجر وتكليفهم أمراً على خلاف ما تحمله القوي لا تؤمن غائلته والناس لهم خمسون يوماً تحت السلاح وفوق الخيل والخيل قد ضجرت من عرك اللجم وسئمت نفوسها ذلك. وعند أخذ حظ من الراحة ترجع نفوسها إليها ويصل الملك العادل ويشاركنا في الرأي والعمل وسنعيد من شذ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا في مقابلة الرجالة وكان بالسلطان التياث مزاجي قد عراه من كثرة ما حمل على قلبه وما عاناه من التعب يحمل السلاح والفكر في تلك الأيام فوقع ما قالوه ورأوه مصلحة. وكان انتقال العسكر إلى الثقل ثالث رمضان وانتقال السلطان تلك الليلة وأقام يصلح مزاجه ويجمع العساكر وينتظر أخاه إلى عاشر رمضان. ين واستحضر الأمراء وأرباب المشورة في سلخ الشهر ثم أمرهم بالإصغاء إلى كلامه وكنت من جملة الحاضرين ثم قال بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله. اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد نزل في بلدنا وقد وطء أرض الإسلام. وقد لاحت لوائح النصر عليه وإن شاء الله تعالى وقد بقي في هذا الجمع اليسير ولا بد من الاهتمام بقلعه والله قد أوجب علينا ذلك وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل وهو واصل وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن يفتح البحر جاءه مدد عظيم والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم فلينجزنا كل منكم ما عنده في ذلك، وكان ذلك في ثالث عشر تشرين من الشهور الشمسية وامتخضت الآراء وجرى تجاذب في أطراف الكلام وانفصلت آراؤهم على أن المصلحة تأخير العسكر إلى الخروبة وأن يبقى العسكر أياماً حتى يستجم من حمل السلاح وترجع النفوس إليهم فقد أخذ التعب منهم واستولى على نفوسهم الضجر وتكليفهم أمراً على خلاف ما تحمله القوي لا تؤمن غائلته والناس لهم خمسون يوماً تحت السلاح وفوق الخيل والخيل قد ضجرت من عرك اللجم وسئمت نفوسها ذلك. وعند أخذ حظ من الراحة ترجع نفوسها إليها ويصل الملك العادل ويشاركنا في الرأي والعمل وسنعيد من شذ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا في مقابلة الرجالة وكان بالسلطان التياث مزاجي قد عراه من كثرة ما حمل على قلبه وما عاناه من التعب يحمل السلاح والفكر في تلك الأيام فوقع ما قالوه ورأوه مصلحة. وكان انتقال العسكر إلى الثقل ثالث رمضان وانتقال السلطان تلك الليلة وأقام يصلح مزاجه ويجمع العساكر وينتظر أخاه إلى عاشر رمضان. ذكر وصول خبر الألمان ولما دخل رمضان من شهور سنة خمس وثمانين وخمسمائة وصل من جانب حلب كتب من ولده الملك الظاهر عن نصرة يخبر فيها أنه قد صح أن ملك الألمان قد خرج إلى القسطنطينية في عدة عظيمة قبل مائتا ألف وقيل مائتان وستون ألفاً يريد البلاد الإسلامية فاشتد ذلك على السلطان وعظم عليه ورأى استشيار الناس للجهاد وإعلام خليفة الوقت بهذه الحادثة فاستدعاني لذلك وأمرني بالمسير إلى صاحب الجزيرة وصاحب الموصل وصاحب إربل واستدعاهم إلى الجهاد

ذكر وقعة الرمل التي على جانب نهر عكا

بأنفسهم وعساكرهم وأمرني بالمسير إلى بغداد لإعلام خليفة الزمان بذلك وتحريك عزمه على المعاونة وكان الخليفة إذ ذاك الناصر لدين الله أبا العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله وكان مسيري في ذلك المعنى في حادي عشر رمضان ويسر الله تعالى الوصول إلى الجماعة وإبلاغ الرسالة إليهم فأجابوا بنفوسهم وسار عماد الدين زنكي صاحب سنجار بعسكره وجمعه تلك السنة وسار ابن أخيه صاحب الجزيرة سنجر شاه بنفسه يجر عسكره وسير صاحب الموصل ابنه علاء الدين خرم شاه بمعظم عسكره وحضرت الديوان السعيد ببغداد وأنهيت الحال كما رسم ووعد بكل جميل وعدت إلى خدمته رحمة الله عليه وكان وصولي إليه في يوم الخميس خامس ربيع الأول من شهور سنة ست وثمانين وكنت قد سبقت العساكر وأخبرته بإجابتهم بالسمع والطاعة وباهتمامهم بالمسير فسر بذلك وفرح فرحاً شديداً. ذكر وقعة الرمل التي على جانب نهر عكا ولما كان صفر من تلك السنة خرج السلطان يتصيد مطمئن النفس ببعد المنزلة عن العدو فأوغل في الصيد وبلغ ذلك العدو فاخذوا غرة العسكر واجتمعوا وخرجوا يريدون الهجوم على العسكر الإسلامي فأحس بهم الملك العادل فصاح بالناس

ذكر وفاة الفقيه عيسى

وركبت العساكر من كل جانب وحمل على القوم وجرت مقتلة عظيمة قتل وجرح بينهما منهم خلق عظيم ولم يقتل من معروفي المسلمين إلا مملوك للسلطان يقال له أرغش وكان رجلاً صالحاً استشهد في ذلك اليوم وبلغ الخبر إلى السلطان فعاد منزعجاً فوجد الحرب قد انفصل وعاد كل فريق إلى حزبه وعاد العدو خائباً خاسراً ولله الحمد والمنة. وما مضى من الوقعات شاهدت منها ما يشاهده مثلي وعرفت الباقي معرفة خاصة في هذه الأمور، ومن نوادر هذه الواقعة أن مملوكاً كان للسلطان يدعى قره سنقر وكان شجاعاً قد قتل من أعداء الله خلقاً عظيماً وفتك فيهم فأخذوا في قلوبهم من نكايته فيهم وتجمعوا له وكمنوا له وخرج إليه بعضهم وتراأوا له فحمل عليهم حتى صار بينهم فوثبوا عليه من سائر جوانبه فأمسك واحداً منهم بشعره وضرب الآخر رقبته بسيفه فإنه كان قتل له أقرباء فوقعت الضربة في يد الممسك بشعره فقطعت يده وخلي سبيله فاشتد هارباً حتى عاد إلى أصحابه وأعداء الله يشتدون عدواً خلفه ولم يلحقه منهم أحد وعاد سالماً ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً. ذكر وفاة الفقيه عيسى وهي مما بلغني ولم أكن حاضرها وذلك أنه مرض مرضاً يتعاهده وهو ضعيف النفس وعرض له إسهال أضعفه فلم تقطع صلابته ولم يغب ذهنه عنه إلى أن مات وكان رحمه الله كريماً شجاعاً حسن المقصد كبير الغرام بقضاء حوائج المسلمين توفي رحمه الله طلوع فجر الثلاثاء تاسع ذي القعدة من شهور سنة خمسة وثمانين.

ذكر تسليم الشقيف سنة ستة وثمانين

ذكر تسليم الشقيف سنة ستة وثمانين ولما كان يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول علم الإفرنج المستحفظون بالشقيف أنهم لا عاصم لهم من أمر الله وأنهم إن أخذوا عنوة ضربت رقابهم فطلبوا الأمان وجرت مراجعات كثيرة في قاعدة الأوان وكانوا قد علموا من حال صاحبهم أنه قد عذب أشد العذاب فاستقرت القاعدة على أن الشقيف يسلم ويطلق صاحبه وجميع من فيه من الإفرنج ويترك ما فيه من أنواع الأموال والذخائر

ظريفة

وعاد صاحب صيدا والإفرنج الذين كانوا بالشقيف إلى صور ولما رأى السلطان من اهتما الإفرنج من أقطار بلادهم بالمكان وتصويب عزائمهم نحوه اغتنم الشتاء وانقطاع البحر وجعل في عكا من الميرة والذخائر والعدد والرجال ما أمن معه عليها مع تقدير الله تعالى وتقدم إلى النواب بمصر أن عمروا لها أسطولاً عظيماً يحمل خلقاً كثيراً وسار حتى دخل عكا مكابرة للعدو ومراغمة له وأعطى العساكر دستوراً طول الشتاء يستجمعون ويستريحون وأقام هو مع نفر يسير قبالة العدو وقد حال بين العسكرين شدة الوحول وتعذر بذلك وصول بعضهم إلى بعض. ظريفة كان لما بلغ خبر العدو وقصده عكا جمع الأمراء وأصحاب الرأي بمرج عيون وشاورهم فيما يصنع وكان رأيه أن قال المصلحة مناجزة القوم ومنعهم من النزول إلى البلد وإلا فإن نزلوا جعلوا الرجالة سوراً لهم وحفروا الخنادق وصعب علينا الوصول إليهم وخيف على البلد منهم وكانت إشارة الجماعة أنهم إذا نزلوا واجتمعت العساكر قلعناهم في يوم واحد وكان الأمر كما قال السلطان والله لقد سمعت هذا القول وشاهدت الفعل كما قال السلطان، وهو يوافق معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم

ذكر وصول رسول الخليفة

إن من أمتي لمحدثين ومكلمين وإن عمر لمنهم. ذكر وصول رسول الخليفة ولم يزل السلطان مجداً في الإنفاذ إلى عكا بالميرة والعدد والأسلحة والرجال حتى انقضى الشتاء وانفتح البحر وحان زمان القتال كتب إلى العسكر يستدعيها من الأطراف، ولما تواصل أوائل العساكر وقوي جيش الإسلام رحل السلطان نحو العدو ونزل على تل كيسان وذلك في ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين ورتب العسكر قلباً وميمنة وميسرة وأخذت العساكر في التواصل والنجدة في التواتر فوصل رسول الخليفة وهو شاب شريف ووصل معه حملان من النفط وجماعة من النفاطين والزراقين ووصل معه من الديوان العزيز النبوي مجده الله تعالى رقعة تتضمن الأذن للسلطان أن يقترض عشرين ألف دينار من التجار ينفقها في الجهاد ويحيل بها على الديوان العزيز فقبل جميع ما وصل مع الرسول واستغنى عن الرقعة والتثقيل بها، وفي ذلك اليوم بلغ السلطان أن

الإفرنج قد زحفوا على البلد وضايقوه فركب إليهم لشغلهم بالقتال عن البلد وقاتلهم قتالاً شديداً إلى أن فصل بين الطائفتين الليل وعاد كل فريق إلى أصحابه ورأى السلطان قوة العساكر الإسلامية وبعد المكان عن العدو فخاف أن لا يهجم البلد ويتم عليه أمر فرأى الانتقال إلى تل العجول بالكلية فانتقل بالعسكر والثقل في الخامس والعشرين وفي صبيحة هذا اليوم وصلت كتب أن قد طم العدو بعض الخندق وقوي عزمه على منازلة البلد ومضايقته فجدد الكتب إلى العساكر بالحث على الوصول وعبى العسكر تعبية القتال وزحف إلى العدو ليشغله عن ذلك، ولما كان سحر ليلة الجمعة السابع والعشرين وصل ولده الملك الظاهر غياث الدين غازي صاحب حلب جريدة إلى خدمته معاجلة البر وترك عسكره في المنزلة وخدم والده وبل شوقه منه وعاد إلى عسكره في الثامن والعشرين وسار حتى وصل في ذلك اليوم بجحفله وقد أظهروا الزينة ولبسوا لامة الحرب وكثرت الأعلام والبيارق وضربت الكؤوسات ونعقت البوقات وعرض بين يدي والده

لطيفة تدل على سعادة ولده الملك الظاهر عز نصره

وكان قد ركب إلى لقائه في المرج وسار بهم حتى وقف بهم على العدو وشاهدوا من جند الله ما أزعجهم وأقلقهم، وفي أواخر ذلك اليوم قدم مظفر الدين بن زين الدين جريدة أيضاً مسارعة للخدمة ثم عاد إلى عسكره في لامة الحرب فعرضهم السلطان حتى وقف بهم على العدو، وكان ما تقدم عسكر إلا يعرضهم ويسيرهم إلى العدو وينزل بهم في خيمته يمد لهم الطعام وينعم عليهم بما يطيب به قلوبهم إذا كانوا أجانب ثم تضرب خيامهم حيث يأمر وينزلون بها مكرمين. لطيفة تدل على سعادة ولده الملك الظاهر عز نصره وذلك أن العدو كان قد اصطنع ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها الجلود المسقاة بالخل على ما ذكر بحيث لا تنفذ فيها النيران وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال نشاهدها من مواضعنا عالية على سور البلد وهي مركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر على ما قيل ويتسع سطحها لأن ينصب عليه منجنيق وكان ذلك قد عمل في قلوب المسلمين وأودعها من الخوف ما لا يمكن شرحه وأيس الناس من البلد بالكلية وتقطعت قلوب المقاتلة فيه وكان فرغ من عملها ولم يبق إلا جرها إلى قريب السور وكان السلطان قد أعمل فكره في إحراقها وإهلاكها وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وحثهم على الاجتهاد في إحراقها

ووعدهم عليه بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة وضاقت حيلهم عن ذلك وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه أن له صناعة في إحراقها وأنه إن مكن من الدخول إلى عكا وحصلت له الأدوية التي يعرفها أحرقها فحصل له جميع ما طلبه ودخل إلى عكا وطبخ الأدوية مع النفط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ولما كان يوم وصول الملك الظاهر ضرب واحداً بقدر فلم يكن إلا أن وقعت فيه فاشتعل من ساعته ووقته وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستغاث المسلمون بالتهليل وعلاهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب وبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج بالقدر الثانية فما كان إلا أن وصلت إليه واشتعلت كالتي قبلها فاشتد ضجيج الفئتين وانعقدت الأصوات إلى السماء وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالتهب وغشي الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوي الأحلام والنهي منهم حركة الشباب الرعنا وركب السلطان وركبت العساكر ميمنة وميسرة وقلباً وكان أواخر النهار وسار حتى أتى عسكر القوم وانتظر أن يخرجوا فيناجزهم عملاً بقوله صلّى الله عليه وسلّم من فتح له باب من الخير فلينتهزه. فلم يظهر العدو من خيامهم وحال بين الطائفتين الليل وعاد كل فريق إلى حزبه ورأى الناس ذلك ببركة قدوم الملك الظاهر واستبشر والده بغرته وعلم أن ذلك بيمن صلاح سريرته واستمر ركوب السلطان إليهم في كل يوم وطلب نزالهم وقاتلهم وهم لا يخرجون من خيامهم لعلمهم ببشائر النصر والظفر بهم والعساكر الإسلامية تتواتر وتتواصل.

ذكر وصول عماد الدين زنكي صاحب سنجار وغيره

ذكر وصول عماد الدين زنكي صاحب سنجار وغيره ولما كان الثاني والعشرون من ربيع الآخر وصل عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار يجر عسكره ووصل بتجمل حسن وعسكر تام ولقيه السلطان بالاحترام والتعظيم ورتب له العسكر في لقائه وكان أول من لقيه من العسكر المنصور قضاته وكتابه ثم لقيه أولاده بعد ذلك ثم لقيه السلطان ثم سار به حتى أوقفه على العدو وعاد معه إلى خيمته وأنزله عنده وكان صنع له طعاماً لائقاً بذلك اليوم فحضر هو وجميع أصحابه وقدم له من التحف واللطائف ما لا يقدر غيره عليه وكان قد أكرمه بحيث طرح له طراحة مستقلة إلى جانبه وبسط له ثوب أطلس عند دخوله وضرب له خيمة على طرف الميسرة على جانب النهر. فلما كان سابع جمادى الأولى من هذه السنة وصل سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الجزيرة ووصل في عسكر حسن فلقيه السلطان واحترمه وأكرمه وأنزله في خيمته وأمر أن ضربت خيمته إلى جانب عماد الدين.

وفي تاسع الشهر وصل علاء الدين بن مسعود صاحب الموصل مقدماً على عسكره ففرح السلطان بقدومه فرحاً شديداً وتلقاه عن بعد هو وأهله واستحسن أدبه وأنزله عنده في الخيمة وكارمه مكارمة عظيمة وقدم له تحفاً حسنة وأمر بضرب خيمته بين ولديه الملك الأفضل والملك الظاهر. وما من أهله إلا من بسط له من ضيافته وجهاً مضيئاً، ولما كانت ظهيرة نهار ذلك اليوم ظهرت في البحر قلوع كثيرة وكان رحمه الله في نظرة وصول الأسطول من مصر فإنه كان قد أمر بتعميره ووصوله فعلما أنه هو فركب السلطان وركب الناس في خدمته وتعبى تعبية القتال وقصد مضايقة العدو لينسله عن قصد الأسطول، ولما علم العدو وصول الأسطول استعدوا له وعمروا أسطولاً لقتاله ومنعه من دخول عكا وخرج أسطول العدو واشتد السلطان في قتاله من خارج وسار الناس على جانب

البحر تقوية للأسطول وإيناساً لرجاله والتقى الأسطولان في البحر والعسكران في البر واضطرمت نيران الحرب واستعرت وباع كل فريق روحه براحته الأخروية، ورجح حياته الأبدية على حياته الدنيوية، وجرى بين الأسطولين قتال شديد تقشع عن نصرة الأسطول الإسلامي وأخذ من العدو الشوابي وقتل من به ونهب جميع ما فيه وظفر من العدو بمركب أيضاً كان واصلاً من قسطنطينية ودخل الأسطول المنصور إلى عكا وكان قد صحبه مراكب من الساحل فيها مير وذخائر وطابت قلوب أهل البلد وانشرحت صدورهم فإن الضائقة كانت قد أخذت منهم واتصل القتال بين العسكرين من خارج البلد إلى أن فصل بينهما الليل وعاد كل فريق إلى خيامه وقد قتل من عدو الله وجرح خلق كثير عظيم فإنهم قاتلوا في ثلاثة مواضع فإن أهل البلد اشتدوا في قتالهم ليشغلوهم عن الأسطول أيضاً والأسطولان يتقاتلان والعسكر يقاتلهم من البر وكان النصر للمسلمين في الأماكن كلها ثم كان وصول زين الدين صاحب إربل في العشر الأواخر من جمادى الأولى وهو زين الدين يوسف بن علي بن بكتكين قدم بعسكر حسن وتجمل جميل فاحترمه السلطان وأكرمه وأنزله في خيمته وأكرم ضيافته وأمر بضرب خيمته إلى جاني خيمة أخيه مظفر الدين.

ذكر خبر ملك الألمان

ذكر خبر ملك الألمان ثم تواترت الأخبار بوصول ملك الألمان إلى بلاد قليج أرسلان وأنه نهض للقائه جمع عظيم من التركمان وقصدوا منعه من عبور النهر وأنه أعجزهم لكثرة خلقه وعدم مقدم لهم يجمع كلمتهم وكان قليج أرسلان أظهر شقاقه وهو في الباطن قد أضمر وفاقه ثم لما عبر إلى البلاد أظهر ما كان أضمر ووافقه وأعطاه رهائن منه على أن ينفذ معه من يوصله إلى بلاد ابن لاون وأنفذ معه أدلاء. وعراهم في الطريق جوع عظيم حتى ألقوا بعض أقمشتهم، ولقد بلغنا والله أعلم أنهم جمعوا عدداً كثيرة من زرديات وخوذ وآلات سلاح عجزوا عن حملها وجعلوها سدراً واحداً وأضرموا فيها النار لتتلف ولا ينتفع بها أحد وأنها بقيت بعد ذلك تلاً من حديد وساروا على ذلك الحال حتى أتوا إلى بلد يقال لها طرسوس فأقاموا على نهر ليعبر. وأما ملكهم فعن له أن يسبح فيه وكان ماؤه شديد البرد وكان ذلك عقيب ما ناله من التعب والنصب والمشقة والخوف وأنه عرض له بسبب ذلك مرض عظيم اشتد به إلى أن قتله، ولما رأى ما حل به أوصى إلى ابنه الذي كان في صحبته ولما مات أجمعوا رأيهم إلى أن سلقوه في خل وجمعوا عظامه في كيس على أن يحملوه إلى القدس الشريف حرسه الله ويدفنوه في القدس وترتب ابنه مكانه على خلف من أصحابه فإن ولده الأكبر كان قد خلفه في بلاده وكان جماعة من أصحابه

صورة كتاب الكايفكوس الأرمني

يميلون إليه واستقر قدم ولده الحاضر في تقدمة العسكر، ولما أحس ابن لاون بما جرى عليهم من الخلل وما حل بهم من الجوع والموت والضعف بسبب موت ملكهم ما رأى أن يلقي بنفسه بينهم فإنه لا يعلم كيف يكون الأمر وهم إفرنج وهو أرمني فاعتصم هو عنهم في بعض قلاعه المنيعة. صورة كتاب الكايفكوس الأرمني ولقد وصل إلى السلطان كتاب من الكايفكوس وهو مقدم الأرمن وهو صاحب قلعة الروم التي على طرف الفرات نسخة هذه ترجمتها: كتاب الداعي المخلص الكايفكوس ما أطالع به علم مولانا ومالكنا السلطان الناصر جامع كلمة الإيمان. رافع علم العدل والإحسان صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين أدام الله إقباله، وضاعف جلاله. وصان مهجته وكمل نهاية آماله. بعظمته وجلاله. من أمر ملك الألمان وما جرى له عند ظهوره وذلك أنه أول ما خرج من دياره ودخل بلاد الهنكر غصباً غصب ملك الهنكر بالإذعان والدخول تحت طاعته وأخذ من ماله ورجاله ما اختار ثم إنه دخل أرض مقد الروم وفتح البلاد ونهبها وأقام بها وأخرج ملك الروم إلى أن أطاعه وأخذ رهائنه ولده وأخاه وأربعين نفراً من خلصائه وأخذ منه خمسين قنطاراً ذهباً وخمسين قنطاراً فضة وثياب

أطلس بمبلغ عظيم واغتصب المراكب وعاد بها إلى هذا الجنب وصحبته الرهائن إلى أن دخل حدود بلاد الملك قليج أرسلان ورد الرهائن وبقي سائراً ثلاثة أيام وتركمان الأوج يلقونه بالأغنام والبقر والخيل والبضائع فداخلهم الطمع وجمعوا جموعاً من جميع البلاد ووقع القتل بين التركمان وبينه وضايقوه ثلاثة وثلاثين يوماً وهو سائر ولما قرب من قونية جمع قطب الدين ولد قليج أرسلان العساكر وقصده وضرب منه مصافاً عظيماً فظفر به ملك الألمان وكسره كسرة عظيمة وسار حتى أشرف على قونية فخرج إليه جموع عظيمة من المسلمين فردهم مكسورين وهجم على قونية بالسيف وقتل منهم عالماً عظيماً من المسلمين والفرس وأقام بها خمسة أيام فطلب منه قليج أرسلان منه الأمان فأمنه الملك واستقر بينهم قاعدة أكيدة وأخذ الملك منه رهائن عشرين من أكابر دولته وأشار على الملك أن يجعل على طرسوس والمصيصة ففعل وقبل منه وقبل وصوله إلى هذه الديار اختياراً أو كرهاً اقتضى الحال إنفاذ المملوك حلتم وصحبته ما سأل ومعه من الخواص جماعة للقاء الملك وجواب كتابه وكانت الوصية أن يمروا به على بلاد قليج أرسلان إن أمكن فلما اجتمعوا بالملك الكبير وأمادوا عليه الجواب عرفوه الأحوال بالانحراف ثم كثرت عليه العساكر والجموع ونزل على شط بعض الأنهار وأكل خبزاً ونام وانتبه فتاقت نفسه إلى الاستحمام في الماء البارد ففعل ذلك وكان من أمر الله أن تحرك عليه مرض عظيم من الماء البارد فمكث أياماً قلائل ومات، وأما ابن لاون فإنه كان سائراً يلقى الملك فلما جرى هيرا المجرى هرب الرسل من العسكر وتقدموا إليه وأخبروه في الحال فدخل في بعض حصونه واحتمى هناك.

وأما ابن الملك فكان أبوه منذ توجه إلى قصد هذه الديار نصب ولده الذي معه عوضه واستقرت القاعدة وبلغه هرب رسل ابن لاون فأنفذ واستعطفهم وأحضرهم وقال إن أبي كان شيخاً كبيراً وما قصد هذه الديار إلا لأجل حج بيت المقدس وأنا الذي دبرت الملك وعاينت المشاق في هذه الطريق فمن أطاعني وإلا قصدت دياره واستعطب ابن لاون واقتضى الحال الاجتماع ضرورة، وبالجملة فهو في عدد كثير، ولقد عرض عسكره فكان اثنين وأربعين مجفجفاً وأما الرجالة فما يحصى عددهم وهم أجناس متفاوتة على قصد عظيم وحد في أمرهم وسياسة هائلة حتى أن من جنى منهم جناية فليس له جزاء إلا أن يذبح مثل الشاة، ولقد بلغهم عن بعض أكابرهم أنه جنى على غلام له وجاوز الحد في ضربه فاجتمعت القسوس للحكم فاقتضى الحال والحكم العام ذبحه وشفع إلى الملك منهم خلق عظيم فلم يلتفت إلى ذلك وذبحه وقد حرموا الملاذ على أنفسهم حتى أن من بلغه عنه بلوغ لذة هجروه وعزروه كل ذلك كان حزناً على البيت المقدس. ولقد صح عن جمع منهم أنهم هجروا الثياب مدة طويلة وحرموا ما حل ولم يلبسوا إلا الحديد حتى أنكر عليهم الأكابر ذلك وهم من الصبر على الشقاء والذل والتعب في حال عظيم. طالع المملوك بالحال وما يتجدد بعد ذلك يطالع به إن شاء الله تعالى، هذا كتاب الكايفكوس ومعنى هذا اللفظ الخليفة واسمه بر كرى كور بن باسيل.

ذكر مسير العساكر إلى أطراف البلاد في طريق ملك الألمان

ذكر مسير العساكر إلى أطراف البلاد في طريق ملك الألمان ولما تحقق السلطان وصول ملك الروم إلى بلاد ابن لاون وقربه إلى البلاد الإسلامية جمع أمراء دولته وأرباب الآراء وشاورهم فيما يصنع فاتفق الرأي على أن العسكر بعضه يسير إلى البلاد المتاخمة لطريق عسكر العدو الواصل وأن يقيم على منازلة العدو بباقي العسكر المنصور وكان أول من سار صاحب منبج وهو ناصر الدين بن تقي الدين ثم عز الدين بن المقدم صاحب كفر طاب وبارين وغيرهما ثم مجد الدين صاحب بعلبك ثم صاحب شيزر سابق الدين ثم الباروقية من جملة عسكر حلب ثم عسكر حماة. وسار ولده الملك الأفضل مع مرض عرض له ثم بدر الدين شحنة دمشق مع مرض عرض له أيضاً وسار بعد ذلك ولده الملك الظاهر إلى حلب لإبانة الطريق وكشفاً لأخباره وحفظاً لما يليه من البلاد وسار بعده الملك المظفر لحفظ ما يليه من البلاد وتدبير أمر العدو المجتاز، ولما سارت هذه العساكر خفت الميمنة فإن معظم من سار منها، فأمر رحمه الله الملك العادل أن ينتقل إلى منزلة تقي الدين في طرف الميمنة وكان عماد الدين زنكي في طرف الميسرة. ووقع في العسكر مرض عظيم فمرض مظفر الدين صاحب حران وشفي ومرض بعده الملك الظافر وشفي ومرض خلق كثير من الأكابر وغيرهم إلا أن المرض كان سليماً بحمد الله وكان المرض عند العدو أكثر وأعظم وكان مقروناً بموتان عظيم وأقام السلطان مصابراً على ذلك مرابطاً للعدو.

ذكر تمام خبر ملك الألمان

ذكر تمام خبر ملك الألمان وذلك أن ولده الذي قام مقامه مرض مرضاً عظيماً أقام بسببه بموضع من بلاد ابن لاون وأقام معه خمسة وعشرون فارساً وأربعون داوياً وجهز عسكره نحو أنطاكية حتى يقطعوا الطريق ورتبهم ثلاث فرق لكثرتهم ثم إن الفرقة الأولى اجتازت تحت قلعة بغراس بقدمها كند عظيم عندهم وأن عسكر بغراس مع قلته أخذ منهم مائتي رجل قهراً ونهباً وكبت جزء منهم بالضعف العظيم والمرض الشديد وقلة الخيل والظهر والعدد والآلات، ولما تصل هذا الخبر بالنوال في البلاد الشامية أنفذوا إليهم عسكراً يكشف أخبارهم فوقع العسكر على جمع عظيم قد خرجوا لطلب العلوفة فأغاروا عليهم غارة عظيمة وقتلوا وأسروا وكان مقدار ما أخذوه وقتلوه على ما ذكره المخبرون في الكتب زهاء خمسمائة نفس، ولقد حضرت رسالة رسول ثان من كبغا الفرس بين يدي السلطان وهو يذكر خبرهم ويقول عدد كثير لكنهم ضعاف قليلو الخيل والعدة وأكثر ثقلهم على حمر وخيل ضعيفة قال ولقد وقفت على جسر يعبرون عليه لأعتبرهم فعبر منهم جمع عظيم ما وجدت مع واحد منهم طارقة ولا رمحاً إلا النادر

ذكر الوقعة العادلية

فسألتهم عن ذلك فقالوا أقمنا بمرج وخم أياماً فقلّ زادنا وأحطابنا وأوفدنا معظم عدننا ومات منا خلق عظيم واحتجنا إلى الخيل فذبحناها وأكلناها وأوقدنا الرماح والعدد لإعواز الحطب. وأما الكند الذي وصل إلى أنطاكية في مقدمة العسكر فإنه مات وذكر أن ابن لاون لما أحس منهم بذلك الضعف طمع فيهم حتى أنه عزم على أخذ مال الملك لمرضه وضعفه وقلة جمعه الذي تخلف معه وأن البرنس صاحب أنطاكية لما أحس منهم بذلك أرسل إلى ملك الألمان التقطه إلى أنطاكية طمعاً في أن يموت عنده ويأخذ ماله ولم تزل أخبارهم تتواتر بالضعف والمرض إلى أن وقعت وقعة العادل على طرف البحر. ذكر الوقعة العادلية ولما كان يوم الأربعاء العشرون من جمادى الآخرة علم عدو الله أن العساكر قد تفرقت وأن الميمنة قد خفت لأن معظم من سافر كان منها يحكم قرب بلادهم من طريق العدو فأجمعوا رأيهم واتفقت كلمتهم على أنهم يخرجون بغتة ويهجمون على طرف الميمنة فجأة وتلاعبت بهم آمالهم فخرجوا ظهيرة النهار وامتدوا ميمنة وميسرة وقلباً وانبثوا في الأرض وكانوا عدداً عظيماً واستخفوا طرف الميمنة وكان فيها مخيم الملك العادل فلما بصر الناس بهم قد خرجوا في تعبية القتال صاح صائحهم وخرجوا من خيامهم كالأسود من آجامها وركب السلطان ونادى مناديه يا للإسلام وركبت الجيوش وطلبت الأطلاب ولقد رأيته رحمه الله قد ركب من خيمته وحوله

نفر يسير من خواصه والناس لم يستتم ركوبهم وهو كالفاقدة ولدها. الثاكلة واحدها. ثم ضرب الكؤس وأجابته كؤسات الأمراء من أماكنها وركب الناس، وأما الإفرنج فإنهم سارعوا في القصد إلى الميمنة حتى وصلوا إلى خيمة الملك العادل ودخلوا في راقة وامتدت أيديهم في السوق وأطراف الخيم بالنهب والغارة وقيل وصلوا إلى خيمة الخاص وأخذوا من شراب خاناتها شيئاً وأما الملك العادل فإنه لما علم بذلك ركب وخرج من خيمته واستركب من يليه بالميمنة كالطواشي قايماز النجمي ومن يجراه من أسود الإسلام ووقف وقوف مخادع حتى يوغل بهم طمعهم في الخيم ويشتغلوا في النهب وكان كما ظن فإنهم عاثت أيديهم في الخيام والأقمشة والفواكه والمطاعم فلما علم اشتغالهم بذلك صاح بالناس وحمل بنفسه وحمل حملته من كان يليه عن الميمنة واتصل الأمر بجميع الميمنة حتى وصل الصائح إلى عسكر الموصل وهجموا على العدو هجمة الأسود على فريستها وأمكنهم الله منهم ووقعت الكسرة فعادوا يشتدون نحو خيامهم هاربين. وعلى أعقابهم ناكصين. وسيف الله فيهم يلتقط الأرواح من الأشباح ويفصل بين الأجساد والرؤوس. ويفرق بين الأبدان والنفوس. ولما بصر السلطان باصطلاء الحرب قد ارتفع مما يلي خيام أخيه ثارت في قلبه نار الإشفاق وحركت الحمية أخوته. وأنهضت لرغبة في نصرة دين الله والخوف على أوليائه عزيمته، وصاح صائحه في الناس يا للإسلام وأبطال

الموحدين هذا عدو الله قد أمكن الله منه وقد داخله الطمع حتى غشي خيامكم بنفسه فكان من المبادرين إلى إجابة دعوته جماعة من مماليكه وخاصته وخلقته ثم طلب عسكر الموصل يقدمهم علاء الدين ثم عسكر مصر يقدمهم سنقر الحلبي وتتابعت العساكر وتجاوبت الأبطال ووقف رحمه الله في القلب خشية أن يستضعف العدو القلب بحكم ما أنفذ منه من العساكر فينال غرضاً فتواصلت العساكر واتصل الضرب وقامت سوق الحرب فلم يكن إلا ساعة حتى رأيت القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية وامتدوا مطروحين من خيام الملك العادل إلى خيامهم أولهم في الخيم الإسلامية وآخرهم في خيم العدو صرعى على التلول والوهاد وسرت السيوف من دمائهم حتى رويت، وأكلت أسد الوغى بأسنان الظفر منهم حتى شبعت. وأظهر الله كلمته. وحقق لعبد نصرته. وكان مقدار ما امتد فيه القتلى فيما بين الخيامين فرسخاً وربما زاد على ذلك ولم ينج من القوم إلا النادر. ولقد خضت في تلك الدماء بدابتي واجتهدت في أن أعدهم فما قدرت على ذلك لكثرتهم وتفرقهم وشاهدت فيهم امرأتين مقتولتين وحكى لي من شاهد أربعة نسوة يقاتلن وأسر منهن اثنتان وأسر من الرجال في ذلك اليوم نفر يسير فإن السلطان كان أمر الناس أن لا يستبقوا أحداً هذا كله في الميمنة وبعض القلب وأما الميسرة فما اتصل الصائح بهم إلا وقد تجز الأمر وقضى القضاء على العدو ما بين الظهر والعصر فإن العدو ظهر في قائم الظهيرة وانفصلت الحرب بعد صلاة العصر وانكسر القوم حتى دخلت طائفة من المسلمين وراءهم إلى مخيمهم على ما قيل ولم يفقد من

المسلمين أحد في ذلك اليوم سوى عشرة أنفس غير معروفين. ولما أحس جند الله بعكا بما جرى من الوقعة فإنهم كانوا يشاهدون الوقعة من أعالي السور خرجوا إلى مخيم العدو وجرت بينهم مقتلة عظيمة وكانت النصرة للمسلمين بحيث هجموا على خيام العدو ونهبوا منها جمعاُ من النسوان والأقمشة حتى القدور فيها الطعام ووصل كتاب من المدينة يخبر بذلك وكان يوماً على الكافرين عسيراً واختلف الناس في عدد القتلى منهم فذكر قوام أنهم ثمانية آلاف. ولق شاهدت منهم خمسة صفوف أولها في خيم العادل وآخرها في خيم العدو لقد لقيت إنساناً جندياً عاقلاً جندياً يسعى بين صفوف القتلى ويعدهم فقلت له كم عددت فقال لي ها هنا أربعة آلاف ونيف وستون قتيلاً وكان قد عد صفين وهو في الصف الثالث لكن ما مضى من الصفوف كان أكثر عدداً من الباقي وانجلى يوم الأربعاء المذكور بأحسن ما ينجلي عنه الإسلام ولما كان يوم الخميس الحادي والعشرون من جمادى المذكورة ورد في عصره نجاب من حلب له خمسة أيام يتضمن كتابه أن جماعة عظيمة من العدو الشمالي خرجوا لنهب أطراف البلاد الإسلامية ونهض العسكر الإسلامي من حلب إليهم وأخذ عليهم الطريق ولم ينج منهم إلا من شاء الله وكان وقع هذه الواقعة المباركة واقعاً عظيماً وضربت البشائر ولم ير صبيحة لتلك العروس أحسن من هذه الصبيحة. وجاءنا بقية ذلك اليوم من اليزك قايماز الحراني وذكر أن العدو قد سأل من جانب السلطان من يصل إليهم ليسمع منه حديثاً في سؤال الصلح لضعف حل بهم ولم يزل عدو الله من حينه مكسور الجناح من الجانبين حتى وصلهم كند يقال له كندهري. ندياً عاقلاً جندياً يسعى بين صفوف القتلى ويعدهم فقلت له كم عددت فقال لي ها هنا أربعة آلاف ونيف وستون قتيلاً وكان قد عد صفين وهو في الصف الثالث لكن ما مضى من الصفوف كان أكثر عدداً من الباقي وانجلى يوم الأربعاء المذكور بأحسن ما ينجلي عنه الإسلام ولما كان يوم الخميس الحادي والعشرون من جمادى المذكورة ورد في عصره نجاب من حلب له خمسة أيام يتضمن كتابه أن جماعة عظيمة من العدو الشمالي خرجوا لنهب أطراف البلاد الإسلامية ونهض العسكر الإسلامي من حلب إليهم وأخذ عليهم الطريق ولم ينج منهم إلا من شاء الله وكان وقع هذه الواقعة المباركة واقعاً عظيماً وضربت البشائر ولم ير صبيحة لتلك العروس أحسن من هذه الصبيحة. وجاءنا بقية ذلك اليوم من اليزك قايماز الحراني وذكر أن العدو قد سأل من جانب السلطان من يصل إليهم ليسمع منه حديثاً في سؤال الصلح لضعف حل بهم ولم يزل عدو الله من حينه مكسور الجناح من الجانبين حتى وصلهم كند يقال له كندهري.

ذكر وصول الكندهري

ذكر وصول الكندهري وهذا المذكور من ملوكهم وأعيانهم وصل في البحر في مراكب عدة ومعه من الأموال والذخائر والمسيرة والأسلحة والرجال عدد عظيم فقوي بوصوله عزمهم واشتد أزرهم وحدثتهم نفوسهم بطلب العسكر الإسلامي المنصور ليلاً وكثر ذلك الحديث على ألسنة المستأمنين والجواسيس فجمع السلطان الأمراء وأرباب الرأي واستشارهم فيما يفعل فكان آخر الرأي أنهم يوسعون الحلقة ويتأخرون عن العدو رجاء أن يخرج العدو ويبعد عن خيمه فيمكن الله منهم ووافقهم السلطان على ذلك وأوقعه الله في قلبه فرحل إلى جبل الخروبة بالعساكر بأسرها وذلك في السابع والعشرين من جمادى الآخرى وترك نقية من العسكر في تلك المنزلة كاليزك مقدار ألف فارس يتناوبون لحفظ النوبة. هذا والكتب متواصلة من عكا ومنا إليها على أجنحة الطيور وأيدي السياح والمراكب اللطاف تخرج ليلاً وتدخل سرقة من العدو. هذا وأخبار العدو الواصل من الشمال متواصلة بقلة خيله وعدده وما قد عراهم من الموت والمرض وأنهم قد اجتمعوا بأنطاكية وأنهم قد بقوا رجالة وأن أصحابنا عسكر حلب يتخطفون حشاشتهم وعلاقتهم ومن يخرج منهم.

ذكر كتاب وصل من قسطنطينية يسر الله فتحها

ذكر كتاب وصل من قسطنطينية يسر الله فتحها وكان بين السلطان وملك قسطنطينية مراسلة ومكاتبة وكان وصل منه رسول إلى باب السلطاني بمرج عيون هم رجب سنة خمس وثمانين وخمسمائة في جواب رسول كان أنفذه السلطان إليه بعد تقرير القواعد وإقامة قانون الخطبة في جامع قسطنطينية فمضى الرسول وأقام الخطبة ولقي احتراماً عظيماً وإكراماً زائداً وكان قد أنفذ معه في المراكب الخطيب والمنبر وجمعاً من المؤذنين والقراء وكان يوم دخولهم القسطنطينية يوماً عظيماً من أيام الإسلام شاهده جمع كثير من التجار ورقي الخطيب المنبر واجتمع إليه المسلمون المقيمون بها والتجار أقام الدعوة الإسلامية العباسية ثم عاد فعاد معه هذا الرسول يخبرنا بانتظار الحال في ذلك فأقام مدة. ولقد شاهدته يبلغ الرسالة ومعه ترجمان يترجم عنه وهو شيخ أحسن ما يفرض أن يكون من صور المشايخ وعليه زيهم الذي يختص بهم ومعه كتاب وتذكرة مختوم والكتاب بذهب ولما مات وصل إلى ملك قسطنطينية خبر وفاته فأنفذ هذا الرسول في تتمة ذلك ووصل معه الكتاب في جواب ذلك. وصورة ما فسر من الكتاب الواصل معه ووصفه أنه كان كتاباً مدرجاً عرضاً وهو دون عرض كتاب بغداد مترجماً ظاهره وبلطنه بسطرين بينهما فرجة وضع فيها الختم والختم من ذهب مطبوع كما يطبع الخاتم في الشمع على ختمه صورة ملك وزن الذهب خمسة عشر ديناراً مضمون السطرين المكتوبين ما هذا صورته: من إيساكيوس الملك المؤمن بالمسيح الإله المتوج من الله المنصور العالي أبداً أففقوس المدبر من الله

القاهر الذي لا يغلب ضابط الروم بذاته أنكلوس إلى النسيب سلطان مصر صلاح الدين والحمية والمودة. قد وصل خط نسبتك الذي أنفذت إلى ملكي وقرأناه وعلمناه من أن رسولنا توفي وحزنا عليه حيث أنه توفي في بلد وريب وما قدر أن يتم كل ما رسم له ملكي وأمره أن يتحدث به مع نسبتك ويقول في حضرتك ولا بد لنسبتك أن تهتم بإنفاذ رسول إلى ملكي مع رسول المتوفى والقماش الذي خلقه ويوجد بعد موته لنعطيه أولاده وأقاربه وما أظن أنه يسمع من نسبتك أخباراً ودية وأنه قد سافر في بلادي الألمان ولا عجب فإن الأعداء يرجفون بأشياء مكذوبة على قدر أغراضهم ولو تشتهي أن تسمع الحق فإنهم قد تأذوا وتعبوا كثيراً أكثر مما أوذي فلاحو بلادك وقد خسروا كثيراً من المال والدواب والرجال ومات منهم وقتلوا وبالشدة قد تخلصوا من أيدي أجناد بلادي وقد ضعفوا بحيث أنهم لا يصلون إلى بلادك فإن وصلوا كانوا ضعافاً بعد شدة كبيرة لا ينفعون جنسهم ولا يضرون نسبتك. وبعد ذلك كيف نسيت الذي بيني وبينك وكيف ما عرفت لملكي شيئاً من المقاصد والمهمات. ما ربح ملكي من محبتك إلا عداوة الإفرنج وجنسهم،

ذكر حريق المنجنيقات

فوقف رحمه الله على هذه الترجمة وأكرم الرسول وأحسن مثواه. وكان شيخاً حسن الخلق نبيهاً عارفاً بالعربية والرومية والإفرنجية، ثم إن الإفرنج شدوا في حصار البلد وضايقوه لما قد حدث لهم من القوة بوصول الكندهري فإنه وصل على ما ذكر والله أعلم في عشرة آلاف مقاتل ووصلتهم نجدة أخرى في البحر قويت بها قلوبهم ونازلوا البلد بالقتال. ذكر حريق المنجنيقات وذلك أن العدو لما أحس في نفسه بقوته بسبب توالي النجدات عليهم اشتد طمعهم في البلد وركبوا عليه المنجنيقات من كل جانب وتناوبوا عليها بحيث لا يتعطل رميها ليلاً ولا نهاراً وذلك في أثناء رجب. ولما رأى أهل البلد ما نزل بهم من مضايقة العدو وتعلق طمعهم بهم حركتهم النخوة الإسلامية وكان مقدموه حينئذ أما والي البلد وحارسه فالأمير الكبير بهاء الدين قراقوش، وأما مقدم العسكر فالأمير الكبير الاسفهسلان حسام الدين أبو الهيجاء وكان رجلاً ذا كرم وشجاعة وتقدم في عشيرته، ومضاء

في عزيمته فاجتمع رأيهم على أنهم يخرجون إلى العدو فارسهم وراجلهم على غرة وغفلة منهم ففعلوا ذلك وفتحت الأبواب وخرجوا دفعة واحدة من كل جانب ولم يشعر العدو إلا والسيف فيهم حاكم عادل، وسهم قدر الله وقضائه فيهم نافذ نازل، وهجم الإسلام على الكفر في منازله، وأخذ بناصية مناضله ورأس مقاتلة، ولما ولج المسلمون لخيام العدو ذهلوا عن المنجنيقات وحياطتها وحراستها. وحفظها وسياستها. فوصلت شهب الزراقين المقذوفة. وجاءت عوائد الله في نصرة دينه المألوفة. فلم تكن ساعة حتى اضطرمت فيها النيران. وتحرقت منها بيدها ما شيدها الأعداء في المدة الطويلة في أقرب آن. وقتل من العدو سبعون فارساً وأسر خلق عظيم وكان من جملة الأسرى رجل مذكور منهم ظفر به واحد من آحاد الناس ولم يعلم بمكانته. ولما انفصل الحرب سأل الإفرنج عنه هل هو حي أم لا فعرف الذي هو عنده عند سؤالهم أنه رجل كبير فيهم وخاف أن يغلب عليه ويرد بنوع مصانعة أو على وجه من الوجوه فسارع وقتله وبذل الإفرنج فيه أموالاً كثيرة ولم يزالوا يشتدون في طلبه ويحرصون عليه حتى ريئت لهم جثته فضربوا بنفوسهم الأرض وحثوا على رؤوسهم التراب ووقعت عليهم بسبب ذلك خمدة عظيمة وكتموا أمره ولم يظهروا من كان واستصغر المسلمون بعد ذلك أمرهم وهجم عليهم العرب من كل جانب يسرقون وينهبون ويقتلون ويأسرون إلى ليلة نصف شعبان وكان الكندهري قد أنفق على منجنيق كبير عظيم الشكل على ما نقل الجواسيس والمستأمنون ألفاً وخمسمائة دينار وأعده ليقدمه إلى البلد ومنع من حريقه في ذلك اليوم كونه بعيداً عن البلد لم يقدم بعد إليه. ولما كانت الليلة المباركة المذكورة خرج الزراقون والمقاتلة تحفظهم من كل جانب والله يكلأهم فساروا من تحت ستر الله حتى أتوا المنجنيق المذكور وأضرموا فيه النار فاحترق من ساعته ووقع الصياح من الطائفتين وذهل العدو فإنه كان بعيداً من البلد وخافوا أن يكونوا قد أحيط بهم من الجوانب وكان نصراً من عند الله وأحرق بلهيبه منجنيقاً لطيفاً إلى جانبه.

ذكر الحيلة وإدخال عكا بطسة عمرها وأودعها أربعمائة غرارة من القمح ووضع فيها الجبن والبصل والغنم وغير ذلك

ذكر الحيلة وإدخال عكا بطسة عمرها وأودعها أربعمائة غرارة من القمح ووضع فيها الجبن والبصل والغنم وغير ذلك من الميرة وكان الإفرنج خذلهم الله قد أداروا مراكبهم حول عكا حراسة لها من أن يدخلها مراكب المسلمين وكانت قد اشتدت حاجة من فيها إلى الطعام والميرة فركب في بطسة بيروت جماعة من المسلمين وتزيوا بزي الإفرنج حتى حلقوا لحاهم ووضعوا الخنازير على سطح البطسة بحيث ترى من بعد وعلقوا الصلبان وجاءوا قاصدين البلد من البعد حتى خالطوا مراكب العدو فخرجوا إليهم واعترضوهم في الحراقات والشواني وقالوا لهم نراكم قاصدين البلد واعتقدوا أنهم منهم فقالوا أولم تكونوا قد أخذتم البلد فقالوا لم نأخذ البلد بعد فقالوا نحن نرد القلوع إلى العسكر وقد أتي بطسة أخرى في هوائنا فأنذروهم حتى يدخلوا البلد وكان وراءهم بطسة إفرنجية قد اتفقت معهم في البحر قاصدة العسكر فنظروا فرأوها فقصدوها ينذرونها فاشتدت البطسة الإسلامية في السير واستقامت لها الريح حتى دخلت ميناء البلد وسلبت ولله الحمد. وكان فرحاً عظيماً فإن الحاجة كانت قد أخذت من أهل البلد وكان ذلك في العشر الأواخر من رجب. ذكر قصة العوام عيسى ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عواماً مسلماً يقال له عيسى وصل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من

ذكر حريق المنجنيقات

العدو وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار وكتب للعسكر وعام في البحر فجرى عليه أمر أهلكه وأبطأ خبره عنا. وكانت عادته إذا دخل البلد أطار طيراً عرفنا بوصوله فأبطأ الطير فاستشعرنا هلاكه. ولما كان بعد أيام بينا الناس على طرف البحر في البلد إذا هو قد قذف شيئاً غريقاً فتفقدوه فوجدوه عيسى العوام ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب وكان الذهب نفقة للمجاهدين فما رؤي من أدى الأمانة في حال حياته وقد ردها في مماته إلا هذا الرجل وكان ذلك في العشر الأواخر من رجب أيضاً. ذكر حريق المنجنيقات وذلك أن العدو كان نصب على البلد منجنيقات هائلة حاكمة على السور وإن حجارتها تواترت حتى أثرت في السور أثراً بيناً وخيف من غائلاتها فأخذ سهمان من سهام الجرخ العظيم فأحرق نصلاهما حتى بقيا كالشعلة من النار ثم رميا في المنجنيق الواحد فعلقا فيه واجتهد العدو في إطفائهما فلم يقدر على ذلك وهبت ريح شديدة فاشتعل اشتعالاً عظيماً واتصلت لهبته بالآخر فأحرقته واشتد ناراهما بحيث لم يقدر أحد أن يقرب من مكانهما ليحتال في إطفائهما وكان يوماً عظيماً اشتد فيه فرح المسلمين وساءت عاقبة الكافرين. ذكر تمام حديث ملك الألمان

والحيلة التي عملها المركيس

والحيلة التي عملها المركيس ولما استقر قدم ملك الألمان في أنطاكية أخذها من صاحبها وحكم فيها، وكان بين يديه فيها ينفذ أوامره، فأخذها منه غيلة وخديعة وأودعها خزائنه وسار عنها في الخامس والعشرين من رجب متوجها نحو عكا في جيوشه وجموعه على طريق اللاذقية حتى إلى طرابلس، وكان قد سار إليه من معسكر الإفرنج يلتقيه المركيس صاحب صور، وكان من أعظمهم حيلة وأشدهم بأساً، وهو الأصل في تهييج الجموع من وراء البحر. وذلك أنه صوّر القدس في ورقة، وصوّر فيه صورة القمامة التي يحجون إليها ويعظمون شأنها وفيه قبة قبر المسيح الذي دفن فيه بعد صلبه بزعمهم، وذلك القبر هو أصل حجهم، وهو الذي يعتقدون نزول النور عليه في كل سنة في كل عيد من أعيادهم، وصوّر على القبر فرساً عليه فارس مسلم راكب عليه وقد وطئ قبر المسيح وبال الفرس على القبر وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع والقسوس يحملونها ورؤوسهم مكشوفة وعليهم المسوح وينادون بالويل والثبور، وللصور عمل في قلوبهم، فإنها أصل دينهم، فهاج بذلك خلق لا يحصي عددهم إلا الله، وكان من جملتهم ملك الألمان وجنوده فلقيهم المركيس لكونه أصلا في استدعائهم إلى هذه الواقعة، فلما اتصل به قوى قلبه ونصره بالطرق وسلك به الساحل خوفاً من أنه إذا أتى على بلاد حلب وحماة ثار لهم المسلمون

ذكر وصول البطس من مصر

من كل جانب وقامت عليهم كلمة الحق من كل صوب. ومع ذلك لم يسلموا من شن الغارات عليهم فإن الملك المظفر قصدهم بعساكره وجمع لهم جموعاً وهجم عليهم هجوماً عظيماً أخذ فيه من أطراف عساكره، وكان قد لحقهم بأوائل عسكره، ولو لحقهم الملك الظاهر بعساكره لقضى عليهم، ولن لكل أجل كتاب، واختلف حزر الناس لهم. ولقد وقفت على كتب بعض المخبرين بالحرب فقد حرز فارسهم وراجلهم بخمسة آلاف بعد أن كانوا قد خرجوا على ما ذكر، فانظر إلى صنع الله مع أعدائه. ولقد وقفت على بعض الكتب فذكر فيه أنهم لما ساروا من اللاذقية يريدون جبلة وجدوا في أعقابهم نيفاً وستين فرساً قد عطبت وانتزع لحمها ولم يبق فيها إلا العظام من شدة الجوع، ولم يزالوا سائرين وأيدي المسلمين تخطفهم من حولهم نهباً وقتلاً وأسرا، حتى أتوا طرابلس، ووصل خبر وصوله بكرة الثلاثاء ثامن شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة. هذا والسلطان ثابت الجأش راسخ القدم لا يرده ذلك عن حراسة عكا والحماية لها ومراصدة العسكر النازل بها وشن الغارات عليها والهجوم عليهم في كل وقت، مفوضا أمره إلى الله معتمداً عليه منبسط الوجه لقضاء حوائج الناس مواصلاً يسره من يفد إليه من الفقراء والفقهاء والمشايخ والأدباء. ولقد كنت إذا بلغني هذا الخبر تأثرت حتى دخلت عليه وأجد منه من قوة الله وشدة البأس ما يشرح صدري وأتيقن معه نصرة الإسلام وأهله. ذكر وصول البطس من مصر ولما كان العشر الأوسط من شعبان

ذكر محاصرة برج الذباب

كتب بهاء الدين قراقواش وهو والي البلد والمقدم على الأسطول والحاجب لؤلؤ يذكران السلطان أنه لم يبق بالبلدة ميرة إلا قدر يكفي إلى ليلة النصف من شعبان لا غير، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لخاص ولا لعام خشية الشيوع والبلوغ إلى العدو فتضعف به قلوب المسلمين، وكان قد كتب إلى مصر بتجهيز ثلاث بطس مشحونة بالأقوات والأدم والمير وجميع ما يحتاج إليه في الحصار بحيث يكفيهم ذلك طول الشتاء، وأقلعت البطس الثلاث من الديار المصرية ولججت في البحر تتوقى النوتية بها الريح حتى ساروا بالريح التي تحملها إلى نحو عكا، ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى عكا ليلة النصف من شعبان المذكور وقد فني الزاد، ولم يبق عندهم ما يطعمون الناس في ذلك اليوم، وخرج عليها أسطول العدو يقاتلها، والعساكر الإسلامية تشهد ذلك من الساحل، والناس في تهليل وتكبير، وقد كشف المسلمون رؤوسهم يبتهلون إلى الله تعالى في القضاء بتسليمها إلى البلد والسلطان على الساحل كالوالدة الثكلى، يشاهد القتال ويدعو ربه بنصره، وقد علم من شدة القوم ما لم يعلمه غيره وفي قلبه ما في قلبه، والله يثبته، ولم يزل القتال يعمل حول البطس من كل جانب والله يدفع عنها والريح يشتد والأصوات قد ارتفعت من الطائفتين والدعاء يخرق الحجب حتى وصلوا سالمين إلى ميناء البلد وتلقاهم أهل عكا تلقي الأمطار عن جدب، وامتاروا ما فيها، وكانت ليلة بليال. ذكر محاصرة برج الذباب ولما كان الثاني والعشرون من شعبان جهز

العدو بطساً متعددة لمحاصرة برج الذباب، وهو برج في وسط البحر مبني على الصخر على باب ميناء يحرس به الميناء، ومتى عبره المراكب أمن غائلة العدو، فأراد العدو أخذه ليبقى الميناء بحكمه ويمنع الدخول إليه بشيء من البطس فتنقطع الميرة عن البلد، فجعلوا على صواري البطس برجاً وملأوه حطباً على أنهم يسيرون البطس، فإذا قاربت برج الذباب ولاصقته أحرقوا البرج الذي على الصاري وألصقوه ببرج الذباب ليلقوه على سطحه ويقتل من عليه من المقاتلة ويأخذوه، وجعلوا في البطسة وقوداً كثيراً حتى يلقى في البرج إذا اشتعلت النار فيه، وعبوا بطسة ثانية وملؤوها حطباً ووقوداً على أنهم يدفعون بها إلى أن تدخل بين البطس الإسلامية ثم يلهبونها فتحرق البطس الإسلامية ويهلك ما فيها من الميرة، وجعلوا في بطسة ثالثة مقاتلة تحت قبو بحيث لا يحصل لهم نشاب ولا شيء من آلات السلاح، حتى إذا أحرقوا ما أرادوا إحراقه دخلوا تحت ذلك القبو فأمنوا وقدموا البطسة نحو البرج المذكور، وكان طمعهم يشتد بحيث كان الهواء مصعدا لهم، فلما أحرقوا البطسة التي أرادوا أن يحرقوا بطس المسلمين بها والبرج الذي أرادوا أن يحرقوا به من على برج الذباب فأوقدوا النار وضربوا فيها النفط انعكس الهواء عليهم، كما شاء الله تعالى وأراد، واشتعلت البطسة التي كان فيها بأسرها، واجتهدوا في إطفائها فما قدروا، وهلك من كان فيها من المقاتلة إلا من شاء الله، واحترقت البطسة التي كانت معدّة لإحراق بطسنا، ووثبت أصحابنا عليها فأخذوها إليهم. وأما البطسة التي كانت فيها القبو فإنهم انزعجوا وخافوا وهموا بالرجوع، واختلفوا واضطربوا اضطراباً

ذكر وصول الألمان إلى عسكرهم المخول

عظيما، فانقلبت وهلك جميع من كان بها، لأنهم كانوا في قبو لم يستطيعوا الخروج منها، وكان ذلك من أعظم آيات الله وأندر العجائب في نصرة دين الله. وكان يوماً مشهودا. ذكر وصول الألمان إلى عسكرهم المخول عدنا إلى حديث ملك الألمان، وذلك أنه أقام بطرابلس حتى استجمّ عسكره، وأرسل إلى النازلين على عكا يخبرهم بقدومه إليهم، وقد حموا من ذلك لأن المركيس صاحب صور هو رب مشورته وصاحب دولته، وكان الملك جفري وهو ملك الساحل بالعسكر هو الذي يرجع إليه في الأمور، فعلم أنه مع قدوم الألماني لا يبقى له حكم. ولما كان العشر الأخير من شعبان أزمع رأيه على المسير في البحر لعلمه أنه إن لم يركب البحر نكب وأخذت عليه الطريق والمضايق، فأعدوا المراكب وأنفذت إليه من كل جانب، ونزل فيها هو وعسكره وخيلهم وعدتهم، وساروا يريدون العسكر، فلم تمض إلا ساعة من النهار حتى قامت عليهم ريح عاصف وثار عليهم الموج من كل مكان وأشرفوا على الهلاك، وهلك منهم ثلاثة مراكب حمالة، وعاد الباقون يرصدون هواءً طيّباً، فأقاموا أيّاماً حتى طابت لهم الريح، وساروا حتى أتوا صور، فأقام المركيس

والألماني بها، وأنفذوا بقية العساكر إلى المعسكر النازل عكا، وأقاما بصور إلى ليلة السادس من رمضان وسار الألماني وحده في البحر حتى وصل معسكرهم غروب الشمس من ذلك اليوم في نفر يسير. هكذا تخبر الجواسيس والمستأمنون عنهم. وقد كان لقدمه وقع عظيم من الطائفتين، وأقام أياما، وأراد أن يظهر لمجيئه أثر فرنج القوم على طول مقامهم، وحسن في رأيه أن تضرب مصاف مع المسلمين، فخوّفوه من الإقدام على هذا الأمر وعاقبته، فقال لابد من الخروج على اليزك ليذوق قتال القوم ويعرف مراسهم ويتبصر بأمرهم، فليس الخبر كالعيان، فخرج على اليزك الإسلامي واتبعه معظم الإفرنج راجلهم وفارسهم، وخرجوا حتى قطعوا الوهاد التي بين تلهم وتل العياضية، وعلى تل العياضية خيم اليزك، وهي نوبة الحلقة السلطانية المنصورة في ذلك اليوم، فوقفوا على وجوههم وقاتلوهم وأذاقوهم طعم الموت، وعرف السلطان ذلك، فركب من خيمته بحفلة وسار حتى أتى تل كيسان، فلما رأى العدو العساكر الإسلامية صوّبت نحوه سهام قصدها وأتته من كل جانب كقطع من الليل المظلم عاد ناكصاً على عقبه، وقتل منهم وجرح خلق كثير والسيف يعمل فيهم من أقفيتهم وهم هاربون حتى وصلوا المخيم غروب الشمس، وهو لا يعتقد سلامة نفسه من شدة خوفه، وفصل الليل بين الطائفتين، وقتل من المسلمين اثنان، وجرح جماعة كثيرة، وكانت الكثرة على أعداء الله. ولما عرف ملك الألمان ما جرى عليه وعلى أصحابه من اليزك الذي هو شرذمة من العسكر وهو جزء من كل، رأى أن يرجع إلى قتال البلد ويشتغل بمضايقته، فاتخذ من الآلات العجيبة والصنائع الغريبة ما هال الناظر إليه من شدة الخوف على البلد، واستشعر اخذ البلد من تلك الآلات وخيف منها عليه، فأحدثوا آلة عظيمة تسمى دبابة

ذكر حريق برج الكبش وغيره من الآلات

يدخل تحتها من المقاتلة خلق عظيم ملبسة بصفائح الحديد ولها من تحتها عجا تحرك به من داخل وفيها المقاتلة حتى ينطح بها الصور ولها رأس عظيم برقية شديدة من جديد وهي تسمى كبشاً ينطح بها الصور بشدة عظيمة، لأنه يجرها خلق عظيم فتهدمه بتكرار نطحها. وآلة أخرى وهي قبو فيه رجال السحب لذلك، إلاّ أن رأسها محدد على شكل السكة التي يحرث بها، ورأس البرج مدور، وهذا يهدم بثقله، وتلك تهدم بحدّتها وثقلها وهي تسمى سنورا، ومن الستائر والسلالم الكبار الهائلة. وأعدوا في البحر بطسة هائلة وضعوا فيها برجاً بخرطوم إذا أرادوا قلبه في السور انقلب بالحركات ويبقي طريقاً إلى المكان الذي ينقلب عليه تمشي عليه المقاتلة، وعزموا على تقريبه إلى برج الذباب ليأخذوه به. ذكر حريق برج الكبش وغيره من الآلات وذلك أن العدو لما رأى آلاته قد تمت واستكملت شرع في الزحف على البلد ومقاتلته من كل جانب، وأهل البلد كلما رأوا ذلك اشتدت عزائمهم في نصرة دين الله وقويت قلوبهم على المصابرة. ولما كان يوم الإثنين ثالث شهر رمضان من السنة المذكورة وهي التي قدمت به العساكر من الشام

في أحسن زي وأجمل ترتيب وأكمل عدّة مع ولده صاحب حلب وسابق الدين صاحب شيزر ومجد الدين صاحب بعلبك، وكان السلطان التاث مزاجه الكريم بحمى صفراوية، فركب في ذلك اليوم وكان عيداً من وجوه متعددة، وفي ذلك اليوم زحف العدو على البلد في خلق لا يحصي عددهم إلاّ الله، فأهملهم أهل البلد وشجعان المقاتلة الذين فيه وذوو الآراء المثقفة من مقدمي المسلمين حتى نشبت مخاليب أطماعهم في البلد وسحبوا آلاتهم المذكورة حتى قاربوا أن يلصقوها بالسور، وتحصن منهم في الخندق جماعة عظيمة، وأطلقوا عليهم سهام الجروح وأحجار المنجنيق وأقواس الرمي والنيران وصاحوا عليهم صيحة الرجل الواحد وفتحوا الأبواب وباعوا نفوسهم لخالقها وبارئها. ورضوا بالصفقة الموعود بها، وهجموا على العدو من كل جانب وكبسوهم في الخنادق، وأوقع الله الرعب في قلب العدو، وأعطه ظهره الهزيمة وأخذوا مشتدين هاربين. على أعقابهم ناكصين. يطلبون خيامهم والاحتماء بأسوارهم

لكثرة ما شاهدوا وذاقوا من الجرح والقتل، وبقي في الخندق خلق عظيم وقع فيهم السيف وعجل الله بأرواحهم إلى النار، ولما رأى المسلمون ما نزل بالعدو من الخذلان والهزيمة هجموا على كبشهم فألقوا فيه النار والنفط وتمكّنوا من حريقه فأحرقوه حريقاً شنيعاً، وظهرت له لهبة عظيمة نحو السماء، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل. والشكر للقوي الجليل. وسرت نار الكبش بقوّتها إلى السنور فاحترق، وعلق المسلمون في الكبش الكلاليب الحديدية المصنوعة في السلاسل فسحبوه وهو يشتعل حتى حصلوه عندهم في البلد وكان مركباً من آلات هائلة عظيمة ألقى الماء عليه حتى برد حديده بعد أيام. وبلغنا من اليزك أن وزن ما كان عليه من الحديد يبلغ مائة قنطار بالشامي، والقنطار مائة رطل، والرطل الشامي بالبغدادي أربعة أرطال وربع رطل. ولقد أنفذ رأسه إلى السلطان ومثل بين يديه، وشاهدته وقلبته، وشكله على مثل السفود الذي يكون بحجر المدار، قيل أنه ينطح به فيهدم ما يلاقيه. وكان ذلك من أحسن أيام الإسلام، ووقع على العدو خذلان عظيم، ورفعوا ما سلم من آلاتهم، وسكنت حركاتهم التي ضيعوا فيها نفقاتهم وتحيرت أبصار حيلهم، واستبشر السلطان بغرة ولده واستبارك بها حيث وجد النصر مقروناً بقدومه مرّة بعد أخرى، وثانية بعد أولى.

ولما كان يوم الأربعاء الخامس عشر رمضان خرج أصحابنا من الثغر المحروس في شوان على بغتة من العدو، وضربوا البطسة المعدة لأخذ برج الذباب بقوارير نفط فاحترقت وارتفع لهبها في البحر ارتفاعاً عظيماً، وحزن الألمان لذلك حزناً شديداً، وغشيته كآبة عظيمة ووقع عليهم خذلان عميم. ولما كان يوم الخميس السادس عشر الشهر وصل كتاب طائر في طي كتاب وصل من حماة قد طار به الطائر من حلب يذكر فيه أن البرنس صاحب أنطاكية خرج بعسكر نحو القرى الإسلامية التي تليه لشن الغارات عليها، فبصرت به العساكر ونواب الملك الظاهر، فكمنت له الكمينات، فلم يشعر بهم إلاّ والسيف قد وقع فيهم، فقتل منهم خمسة وسبعون نفرا، وأسر خلق عظيم، واستعصم لنفسه في موضع يسمى شيحا، حتى اندفعوا وسار إلى بلده.

وفي أثناء العشر الأوسط ألقت الريح بطستين فيهما رجال وصبيان ونساء وميرة عظيمة وغنم كثيرة قاصدين نحو العدو فغنمها المسلمون. وكان العدو قد ظفر منا بزورق فيه نفقة ورجال أرادوا الدخول إلى البلد فأخذوه، فوقع الظفر بهاتين الطستين ماحياً لذلك وجابراً له، ولم تزل الأخبار بعد ذلك تتواصل على ألسنة الجواسيس والمستأمنين أن العدو قد عزم على الخروج إلى العسكر الإسلامي خروج مصاف ومنافسه، والتاث مزاج السلطان بحمى صفراوية فاقتضى الحال تأخر العسكر إلى جبل سفرعم.

وكان انتقاله تاسع عشر رمضان، فنزل السلطان على أعلى الجبل، ونزل الناس على رؤوس التلال للاستعداد للشتاء والاستراحة من الوحل. وفي ذلك اليوم مرض زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل مرضاً شديداً بحميين مختلفي الأوقات، واستأذن في الرواح فلم يؤذن له، فاستأذن في الانتقال إلى الناصرة، فأذن له في ذلك اليوم وأقام الناصرة أياماً عديدة بمرض نفسه، فاشتد به المرض إلى ليلة الثلاثاء ثامن عشر رمضان، وتوفي رحمه الله وعنده أخوه مظفر الدين يشاهده، وحزن الناس عليه لمكان شبابه وغربته، وأنعم السلطان على أخيه مظفر الدين ببلده، واستنزله عن بلاده التي كانت في يده وهي حرّان والرّها وما يتبعهما من البلاد والأعمال، وضمّ إليه بلد

ذكر قصة معز الدين

شهر زور أيضاً، واستدعى الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه ليكون نازلاً مكانه جابراً لخلل غيبته، وأقام مظفر الدين في نظرة قدوم تقي الدين. ولما كان ضحاء نهار ثالث شوّال قدم وقد عاد صحبة معز الدين. في ذلك اليوم وأقام الناصرة أياماً عديدة بمرض نفسه، فاشتد به المرض إلى ليلة الثلاثاء ثامن عشر رمضان، وتوفي رحمه الله وعنده أخوه مظفر الدين يشاهده، وحزن الناس عليه لمكان شبابه وغربته، وأنعم السلطان على أخيه مظفر الدين ببلده، واستنزله عن بلاده التي كانت في يده وهي حرّان والرّها وما يتبعهما من البلاد والأعمال، وضمّ إليه بلد شهر زور أيضاً، واستدعى الملك المظفر تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه ليكون نازلاً مكانه جابراً لخلل غيبته، وأقام مظفر الدين في نظرة قدوم تقي الدين. ولما كان ضحاء نهار ثالث شوّال قدم وقد عاد صحبة معز الدين. ذكر قصة معز الدين وهذا معز الدين هو سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي، وهو صاحب الجزيرة إذ ذاك، وكان من قصته أنه حضر للجهاد وقد ذكرت تاريخ وصوله وأنه أخذ منه الضجر والسآمة والقلق بحيث ترددت رسله ورقاعه إلى السلطان في طلب الدستور، والسلطان يعتذر إليه بأن رسل العدو متكررة في معنى الصلح ولا يجوز أن تنفض العساكر حتى تتميز على ماذا ينفصل الحال من سلم أو حرب، وهو لا يألو جهداً في طلب الدستور، إلى أن كان يوم عيد الفطر من سنة ست وثمانين، وحضر سحر ذلك اليوم في باب الخيمة السلطانية فاستأذن في الدخول فاعتذر إليه بالتياث حتى قد عري مزاج السلطان فلم يقبل العذر، وكرر الاستئذان، فأذن له في الدخول، فلما مثل بالخدمة استأذن في الرواح شفاهاً، فذكر له السلطان العذر بذلك وقال: هذا وقت تقدم العساكر وتجمعها

لا وقت تفرّقها. فانكب على يده وقبلها كالمودّع له ونهض من ساعته وسار، وأمر أصحابه أن ألقوا القدور فيها الطعام وقلعوا الخيم وتبعوه، فلما بلغ السلطان صنيعه، أمر بإنشاء مكاتبة إليه يقول فيها: إنك أنت قصدت الانتماء إلى ابتداء وراجعتني في ذلك مراراً وأظهرت الخيفة على نفسك وقلبك وبلدك من أهلك، فقبلتك وآويتك ونصرتك وبسطت يدك في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم، فأنفدت إليك ونهيتك عن ذلك مراراً فلم تنته، واتفق وقوع هذه الواقعة للإسلام فدعوناك، فأتيت بعسكر قد عرفته وعرفه الناس وأقمت هذه المدة المديدة وقلقت هذا القلق وتحركت هذه الحركة وانصرفت عن غير طيب نفس وغير فصل حال مع العدو. فانظر لنفسك وأبصر من تنتمي إليه غيري، واحفظ نفسك ممن يقصدك فمالي إلى جانبك التفات. وسلّم الكتاب إلى نجاب فلحقه قريباً من طبرية، فقرأ الكتاب ولم يلتفت، وسار على وجهه. وكان الملك المظفر تقي الدين قد استدعى إلى الغزاة بسبب حركة مظفر الدين على ما سبق شرحه، فلقيه في الطريق في موضع يسمى عقبة ميق، فرآه محثاً ولم ير عليه أمارات حسنة، وسأله عن حاله، فأخبره بأمره وتعتب على السلطان كيف لم يخلع عليه ولم يأذن له، ففهم الملك المظفر انفصاله من غير دستور من السلطان وأنه على خلاف اختياره، فقال له المصلحة لك أن ترجع إلى الخدمة وتلازم إلى أن يأذن لك وأنت صبي ولم تعلم غائلة هذا الأمر، فقال ما يمكنني الرجوع، فقال: ترجع عن غير يد فليس في الرواح على هذا الوجه لك راحة أصلاً. فأصرّ على الرواح، فخشي عليه وقال: ترجع من غير اختيارك. وكان تقي الدين شديد البأس مقداماً على الأمور ليس في عينه من أحد شيْ، فلما علم أنه قابضه إن لم يرجع باختياره رجع معه حتى أتى العسكر، وخرج الملك العادل ونحن في خدمته إلى لقاء الملك المظفر، فوجدنا معه، فدخلا به على السلطان وسألاه الصفح

ذكر طلب عماد الدين الدستور

عنه، وطلب أن يقيم في جوار تقي الدين خشية على نفسه، فأذن له، فأقام في جواره إلى حين ذهابه. ذكر طلب عماد الدين الدستور وذلك أن عماد الدين زنكي عم المذكور ألحّ في طلب الدستور وشكا هجوم الشتاء عليه مع عدم الاستعداد له، والسلطان يعتذر إليه بأن الرسل متواترة بيننا وبين العدو في الصلح وربما انتظم فينبغي أن يكون انتظامه بحضوركم فالرأي مشترك، واستأذن في أن يحمل إليه خيام الشتاء، فلم يفعل، وأن يحمل إليه نفق فلم يفعل، وتكررت منه الرسل إلى السلطان في المعنى، والسلطان يكرر الاعتذار. ولقد كنت بينهم في شيء من ذلك، وكان عند عماد الدين من على العزم الرواح ما يجاوز كل وصف، وعند السلطان من إمساكه إلى أن يفصل أمر بيننا وبينهم ما لا يحد، وآل الأمر إلى أن يكتب عماد الدين بخطه ويطلب فيه الإذن في الرواح وتليّذن فيها وتخشّن، فأخذها السلطان وكتب في ظهرها بيده الكريمة: من ضيع مثلي من يده، فليت شعري ما استفاد. فوقف عماد الدين عليها وانقطعت مراجعة بالكلية. ذكر خروج العدو إلى رأس الماء وتواترت الأخبار بضعف العدو ووقوع الغلاء في بلادهم وعسكرهم حتى أن الغرارة من القمح بلغت في أنطاكية ستة وتسعين دياوا صورية، ولا يزيدهم ذلك إلاّ صبراً وإصراراً وعنادا.

ولما ضاق بهم الأمر وعظم الغلاء وخرج منهم خلق عظيم مستأمنين من شدة الجوع عزموا على الخروج إلينا، وكان طمعهم بسبب مرض السلطان، فظنوا أنه لا يستطيع النهوض، وكان خروجهم يوم الإثنين حادي عشر شوّال بخيلهم ورجلهم حاملين أزواداً وخياماً إلى الآبار التي استحدثها المسلمون تحت تل الحجل لما كانوا نزولا عليه وأخذوا عليق أربعة أيام، فأخبر رحمه الله بخروجهم على هذا الوجه، فأمر اليزك أن يتراجع من بين أيديهم إلى تل كيسان وكان اليزك على العياضية، وكان نزول العدو على الآبار بعد صلاة العصر من اليوم المذكور، وباتوا تلك الليلة واليزك حولهم جميع الليل، فلما طلع الصبح جاء من اليزك من أخبره بأنهم قد تحركوا للركوب، وكان قد أمر الثقل في أول الليل أن يسيروا إلى الناصرة والقيمون، فرحل الثقل وبقي الناس، وكنت في جملة من أقام في خدمته، وأمر العسكر أن يركب يمنة ويسرة وقلبا تعبية القتال، وركب هو، وصاح الجاويش بالناس، فركبوا وسار حتى وقف على تل من جبال الخروبة، وابتدأت الميمنة بالمسير، فسارت حتى بلغ آخرها الجبل، وسارت الميسرة حتى بلغ آخرها النهر بقرب البحر، فكان في الميمنة ولده الملك الأفضل صاحب دمشق وولده الملك الظاهر صاحب حلب وولده الملك الظافر صاحب بصرى وولد عز الدين صاحب الموصل علاء الدين خرم شاه، ثم أخوه في طرفها، ويليه

قريباُ منه حسام الدين لاجين والطواشي قايماز النجمي وعز الدين جرديك النوري وحسام الدين بشاره صاحب بانياس وبدر الدين دلدرم، وجمع كثير من الأمراء، وكان في الميسرة عماد الدين زنكي صاحب سنجار وابن أخيه معز الدين صاحب الجزيرة، وفي طرفها الملك المظفر تقي الدين ابن أخيه، وكان عماد الدين زنكي غائباً مع الثقل لمرض كان ألمّ به وبقي عسكره، وكان في الميسرة على المشطوب وجميع المهرانية والهكارية وخشترين وغيرهم من الأمراء الأكراد، وفي القلب الحلقة السلطانية. وتقدم السلطان أن يخرج من كل عسكر جمع من الجاليش وأن يدوروا حول العسكر واليزك معهم وأخفى بعض الأطلاب وراء التلال عساهم أن يجدوا عزة من العدو. ولم يزل عدو الله يسير والناس من جميع جوانبه وهو سائر على شاطئ النهر من الجانب الشرقي حتى رأس العين وداروا حوله حتى عبروا الجانب الغربي ونزلوا والقتال يتلقف منهم الأبطال. ويصرع منهم الرجال. وكان نزولهم على تل هناك، وضربوا خيامهم هناك ممتدة منه إلى النهر. وجرح منهم في ذلك اليوم خلق عظيم، وقتل منهم أيضاً جماعة وكانوا إذا جرح واحد منهم حملوه أو قتل دفنوه وهم سائرون حتى لا يبين قتيل ولا جريح، وكان نزولهم يوم الثلاثاء بعد الظهر وتراجعت العساكر إلى مواطن المصابرة ومواقف الحراسة، وتقدم السلطان إلى الميسرة أن تستدير بهم بحيث يقع آخرها على البحر والميمنة يستدير بالنهر من الجانب الشرقي والجاليش يقاتلهم بقربهم ويرميهم بالنشاب بحيث لا يقطع النشاب عنهم أصلا، وبات الناس تلك الليلة على هذا المثال، وسار هو رحمه الله ونحن في خدمته إلى رأس جبل الخروبة،

فنزل في خيمة لطيفة والناس حوله في خيم لطاف بمرأى من العدو واجتاز العدو يتواصل ساعة فساعة إلى الصبح. ولما كان يوم الأربعاء وصل من أخبر أنهم تحركوا للركوب، فركب هو ورتب الأطلاب وسار حتى أتى أقرب جبال الخروبة إليهم بحيث يشاهد أحوالهم. ملتاث المزاج ضعيف القوى قوي القلب ثم بعث إلى العساكر وأمرها بالمقاتلة والمضايقة والحملة عليهم من كل جانب وأمر الأطلاب أن تحيط بهم بحيث لا تكون قريبة ولا بعيدة لتكون وراء المقاتلة إلى أن تضاحي النهار وسار العدو إلى شاطئ النهر من الجانب الغربي يطلب جهة جهة والقتال يشتد عليهم من كل جانب إلا من جانب النهر والتحم القتال فصرع منهم خلق عظيم وهم يدفنون قتلاهم ويحملون جرحاهم وقد جعلوا رجالتهم سوراً لهم تضرب الناس بالزنبورك

والنشاب حتى لا يترك أحد يصل إليهم إلا بالنشاب فإنه كان يظهر إليهم كالجراد وخيالتهم يسيرون في وسطهم بحيث لم يظهر منهم أحد في ذلك اليوم أصلاً والكؤسات تخفق والبوقات تنعر والأصوات بالتهليل والتكبير تعلو، هذا والسلطان يمد الجاليش بالأطلاب والعساكر التي عنده حتى لم يبق معه إلا نفر يسير ونحن نشاهد الأحوال وعَلَم العدو مرتفع على عجلة هو مغروس فيها وهي تسحب بالبغال وهم يذبون عن العلم وهو عال جداً كالمنارة خرقته بياض ملمع بأحمر على شكل الصلبان ولم يزالوا سائرين على هذا الوجه حتى وصلوا وقت الظهر قبالة جسر دعوق وقد ألجمهم العطش وأخذ منهم التعب وأثخنهم الجراح واشتد الأمر بهم من شدة الحر. ولقد قاتل المسلمون في ذلك اليوم قتالاً شديداً وأعطوا الجهاد حقه وهجموا عليهم هجوماً عظيماً واستداروا بهم كالحلقة وهم لا يظهرون من رجالتهم ولا يحملون فكان الفعل معظمه للحلقة في ذلك اليوم فإنهم أذاقوهم طعم الموت وجرح منهم جماعة كأبار الطويل فإنه قام في تلك الحرب العظيمة أعظم مقام وجرح جراحات متعددة وهو مستمر على القتال وجراح سيف الدين يازكوج جراحات متعددة وهو من فرسان الإسلام وشجعانه وله مقامات متعددة وجرح خلق كثير ولم تزل الناس حولهم حتى نزلوا ظهر نهار ذلك اليوم عند جسر دعوق وقطعوا الجسر وأخربوه خوفاً من عبور الناس إليهم ورجع السلطان إلى تل الخروبة وأقام عليه يزكاً يحرسهم وأخبارهم تتواتر حتى الصباح وعزم في تلك الليلة على كبس بقيتهم وكتب إلى البلد يعرفهم ذلك حتى يخرجوهم من ذلك الجانب فلم يصل من أهل البلد كتاب فرجع عن ذلك العزم بسبب تأخر الكتاب، ولما كان صباح يوم الخميس رابع عشر الشهر وصل من أخبر أن العدو على حركة الرحيل فركب السلطان ورتب الأطلاب وكف الناس عن القتال خشية أن يغتالوا فإن العدو كان قد قرب من خيمه وأداروا الأطلاب في الجانب الشرقي من النهر تسير قبالة العدو حتى وصلوا إلى خيمه، وكان ممن خرج من مقدميهم في هذه السرية الكندهري والمركيس وتخلف ابن ملك الألمان في الخيم مع جمع كثير منهم، ولما دخل العدو إلى خيمهم كان لهم فيها أطلاب مستريحة فخرجت إلى اليزك الإسلامي وحملت عليه ونشب القتال بين اليزك وبينهم وجرى قتال عظيم قتل فيه من العدو وجرح خلق عظيم وقتل من المسلمين ثلاثة نفر وقتل من العدو شخص كبير فيهم مقدم عليهم وكان على حصان عظيم ملبس بالزرد إلى حافره وكان عليه لباس لم ير مثله وطلبوه من السلطان بعد انفصال الحرب فدفع إليهم جثته وطلب رأسه فلم يوجد وعاد السلطان إلى مخيمه وأعاد الثقل إلى مكانه وعاد كل قوم إلى منزلتهم وعاد عماد الدين وقد أقلعت حماة وبقي الثبات مزاج السلطان وقد كان سبب سلامة هذه الطائفة مع كونه لا يقدر على مباشرة الأمر بنفسه ولقد رأيته وهو يبكي في حال الحرب كيف لم يقدر على مخالطته ورأيته وهو يأمر أولاده واحد بعد واحد بمكافحة الأمر ومخالطة الحرب، ولقد سمعت منه وقائل يقول إن الوخم قد عظم في مرج عكا بحيث أن الموت قد كثر في الطائفتين ينشد متمثلاً: كر التي عنده حتى لم يبق معه إلا نفر يسير ونحن نشاهد الأحوال وعَلَم العدو مرتفع على عجلة هو مغروس فيها وهي تسحب بالبغال وهم يذبون عن العلم وهو عال جداً كالمنارة خرقته بياض ملمع بأحمر على شكل الصلبان ولم يزالوا سائرين على هذا الوجه حتى وصلوا وقت الظهر قبالة جسر دعوق وقد ألجمهم العطش وأخذ منهم التعب وأثخنهم الجراح واشتد الأمر بهم من شدة الحر. ولقد قاتل المسلمون في ذلك اليوم قتالاً شديداً وأعطوا الجهاد حقه وهجموا عليهم هجوماً عظيماً واستداروا بهم كالحلقة وهم لا يظهرون من رجالتهم ولا يحملون فكان الفعل معظمه للحلقة في ذلك اليوم فإنهم أذاقوهم طعم الموت وجرح منهم جماعة كأبار الطويل فإنه قام في تلك الحرب العظيمة أعظم مقام وجرح جراحات متعددة وهو مستمر على القتال وجراح سيف الدين يازكوج جراحات متعددة وهو من فرسان الإسلام وشجعانه وله مقامات متعددة وجرح خلق كثير ولم تزل الناس حولهم حتى نزلوا ظهر نهار ذلك اليوم عند جسر دعوق وقطعوا الجسر وأخربوه خوفاً من عبور الناس إليهم ورجع السلطان إلى تل الخروبة وأقام عليه يزكاً يحرسهم وأخبارهم تتواتر حتى الصباح وعزم في تلك الليلة على كبس بقيتهم

وكتب إلى البلد يعرفهم ذلك حتى يخرجوهم من ذلك الجانب فلم يصل من أهل البلد كتاب فرجع عن ذلك العزم بسبب تأخر الكتاب، ولما كان صباح يوم الخميس رابع عشر الشهر وصل من أخبر أن العدو على حركة الرحيل فركب السلطان ورتب الأطلاب وكف الناس عن القتال خشية أن يغتالوا فإن العدو كان قد قرب من خيمه وأداروا الأطلاب في الجانب الشرقي من النهر تسير قبالة العدو حتى وصلوا إلى خيمه، وكان ممن خرج من مقدميهم في هذه السرية الكندهري والمركيس وتخلف ابن ملك الألمان في الخيم مع جمع كثير منهم، ولما دخل العدو إلى خيمهم كان لهم فيها أطلاب مستريحة فخرجت إلى اليزك الإسلامي وحملت عليه ونشب القتال بين اليزك وبينهم وجرى قتال عظيم قتل فيه من العدو وجرح خلق عظيم وقتل من المسلمين ثلاثة نفر وقتل من العدو شخص كبير فيهم مقدم عليهم وكان على حصان عظيم ملبس بالزرد إلى حافره وكان عليه لباس لم ير مثله وطلبوه من السلطان بعد انفصال الحرب فدفع إليهم جثته وطلب رأسه فلم يوجد وعاد السلطان إلى مخيمه وأعاد الثقل إلى مكانه وعاد كل قوم إلى منزلتهم وعاد عماد الدين وقد أقلعت حماة وبقي الثبات مزاج السلطان وقد كان سبب سلامة هذه الطائفة مع كونه لا يقدر على مباشرة الأمر بنفسه ولقد رأيته وهو يبكي في حال الحرب كيف لم يقدر على مخالطته ورأيته وهو يأمر أولاده واحد بعد واحد بمكافحة الأمر ومخالطة الحرب، ولقد سمعت منه وقائل يقول إن الوخم قد عظم في مرج عكا بحيث أن الموت قد كثر في الطائفتين ينشد متمثلاً: قتلاني ومالكاً، واقتلا مالكاً معي

ذكر وقعة الكمين

يريد بذلك التي قد رضيت أن أتلف أنا إذا تلف أعداء الله وحدث بذلك قوة عظيمة في نفوس العسكر الإسلامي. ذكر وقعة الكمين وفي الثاني والعشرين من شوال رأى السلطان أن يضع للعدو كميناً وقوي عزمه على ذلك فأخرج جمعاً من كماة العسكر وشجعانه وأبطاله وفرسانه وانتخبهم من خلق كثير وأمرهم أن يسيروا في الليل ويكمنوا في سفح تل هو شمالي عكا يعيد من عسكر العدو عنده كانت منزلة الملك العادل حين وقعت الوقعة المنسوبة إليه وأن يظهر منهم للعدو نفر يسير وأن يقصدوه في خيامه ويحركوه حتى إذا خرج انهزموا بين يديه نحو المسلمين ففعلوا ذلك وساروا حتى أتوا التل المذكور ليلاً فكمنوا فيه. ولما تجلى نهار الثالث والعشرين خرج منهم يسير على جياد من الخيل وساروا حتى أتوا مخيم العدو ورموهم بالنشاب وحركوا حميتهم بالضرب المتواتر فانتخى لهم مقدار مائتي فارس وخرجوا إليهم شاكي السلاح على خيل جياد بعدة تامة وأسلحة كاملة وقصدوهم وليس معهم أحد راجل وداخلهم الطمع فيهم لقلة عدتهم فانهزموا بين أيديهم وهم يقاتلون ويقتلوا حتى أتوا الكمين فثارت عند وصولهم الأبطال وصاحوا

ذكر عود العسكر عن الجهاد

صيحة الرجل الواحد وهجموا عليه هجمة الأسود على فرائسها فثبتوا وصبروا وقاتلوا قتالاً شديداً ثم ولوا منهزمين فتمكن أولياء الله منهم وأوقعوا فيهم ضرباً بالسيف حتى أفنوا منهم جمعاً عظيماً واستسلم الباقون للأسر فأسروهم وأخذوا خيلهم وعددهم وجاء البشير إلى العسكر الإسلامي فارتفعت الأصوات بالتهليل وركب السلطان يتلقى المجاهدين وسار وكنت في خدمته حتى أتى تل كيسان فلقينا أوائل القوم فوقف هناك يتلقى العائدين من المجاهدين والناس يتبركون بهم ويشكونهم على حسن صنيعهم وهو يعتر الأسرى ويتصفح أحوالهم. وكان ممن أسر مقدم عسكر الإفرنسيس فإنه كان قد أنفذ نجدة قبل وصوله وأسر خازن الملك أيضاً وعاد السلطان بعد تكامل الجماعة إلى مخيمه فرحاً مسروراً وأحضر الأسرى عنده وأمر منادياً ينادي من أسر أسيراً فليحضر الناس أسراهم وكنت حاضراً ذلك المجلس. ولقد أكرم المقدمين منهم وخلع عليهم وعلى مقدم عسكر الإفرنسيس فروة خاصة وأمر لكل واحد من الباقين بفروة جرخية فإن البرد كان شديداً وكان قد أخذ منهم وأحضر لهم طعاماً فأكلوه وأمر لهم بخيمة تضرب قريباً من خيمته وكان يكارمهم في كل وقت ويحضر المقدم على الخوان في بعض الأوقات وأمن بتنفيذهم وحملهم إلى دمشق، حملوا مكرمين وأذن لهم في أن يراسلوا صاحبهم وأن يحضر لهم من عسكرهم ما يحتاجون إليه من الثياب وغيرها ففعلوا ذلك وساروا إلى دمشق. ذكر عود العسكر عن الجهاد ولما هجم الشتاء وهاج البحر وأمن العدو أن يضرب مصاف

وطلب البلد وحصاره من شدة الأمطار وتوترها أذن السلطان للعساكر في العود إلى بلادهم ليأخذوا نصيباً من الراحة وتجم خيولهم إلى وقت العمل. وكان أول من سار عماد الدين صاحب سنجار لما كان عنده من القلق في طلب الدستور. وكان مسيره خامس عشر شوال وسار عقيبه في ذلك اليوم ابن أخيه سنجر شاه صاحب الجزيرة هذا بعد أن أفيض عليه من التشريف والإنعام والتحف ما لم ينعم به على غيرهما. وسار علاء الدين ابن صاحب الموصل في مستهل ذي القعدة مشرفاً مكرماً معه التحف والطرائف وتأخر الملك المظفر إلى أن دخلت سنة سبع وثمانين وتأخر أيضاً الملك الظاهر وسار تاسع المحرم سنة سبع وثمانين وسار الملك المظفر في ثالث صفر ولم يبق عند السلطان إلا نفر يسير من الأمراء والحلقة الخاصة. وفي أثناء ذي القعدة سنة ست وثمانين وفد عليه زلفتدار فالتقاه وأكرم مثواه ووضع له طعاماً يوم قدومه وباسطه مباسطة عظيمة. وكانت حاجته أن يوقع له بإعادة أملاك كانت في يده ثم انتزعت من أعمال نصيبين والخابور فوقع بإعادتها إلى يده وإجراء الأمر فيها بعد ذلك على وفق الشريعة المطهرة وخلع عليه وشرفه وسار فرحاً مسروراً شاكراً لأياديه.

ذكر ارتحال السلطان لإدخال البدل إلى البلد

ذكر ارتحال السلطان لإدخال البدل إلى البلد ولما هاج البحر وأمنت غائلة مراكب العدو ورفع ما كان له من الشواني في البحر إلى البر اشتغل السلطان في إدخال البدل إلى عكا وحمل البر والذخائر والنفقات والعدو منها وإخراج من كان بها من الأمراء لعظم شكايتهم من طول المقام بها ومعاناة التعب والسهر وملازمة القتال ليلاً ونهاراً وكان مقدم البلد من البدل الداخل الأمير سيف الدين علي المشطوب دخل سادس عشر المحرم من شهور سنة سبع وثمانين وفي ذلك اليوم خرج المقدم الذي كان بها وهو الأمير حسام الدين أبو الهيجاء وأصحابه ومن كان بها من الأمراء وأعيان الخلق وتقدم إلى كل من دخل أن يصحب ميرة السنة وانتقل الملك العادل بعسكره إلى حيفا على شاطئ النهر وهو الموضع الذي تحمل منه المراكب فتدخل إلى البلد وإذا خرجت تخرج إليه فأقام يحث الناس على الدخول ويحرس المير والذخائر لئلا يتطرق إليها العدو من يعترضها وكان مما دخل إليها سبع بطس مملوءة ميرة وذخائر ونفقات كانت وصلت من مصر محملة وتقدم السلطان بتعبيتها من مدة مديدة وكان دخولها ثاني ذي الحجة من السنة الخالية فانكسر منها مركب على الصخر الذي هو قريب من الميناء فانقلب كل من في البلد من المقاتلة ليلقى البطس. ولما علم العدو ذلك أخذوا غرتهم وزحفوا إلى البلد في جانب البر زحفة عظيمة وقاربوا الأسوار

وصعدوا في سلم واحد فاندق بهم السلم كما شاء الله تعالى وتداركهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقاً عظيماً وعادوا خائبين خاسرين، وأما البطس فإن البحر هاج هياجاً عظيماً وضرب بعضها على الصخر فهلكت وهلك جميع من كان فيها، قيل كان عددهم ستين نفراً وكان فيها ميرة عظيمة لو سلمت كفت البلد سنة كاملة وذلك بتقدير العزيز العليم ودخل على المسلمين بذلك وهن عظيم وأحرج السلطان بذلك حرجاً عظيماً فاستخلف ذلك في سبيل الله تعالى وما عند الله خير وأبقى، وكان ذلك أول علامات أخذ البلد والظفر به، ولما كانت ليلة السبت سابع ذي الحجة من السنة الحالية قضى الله وقدر أن وقع من السور قطعة عظيمة ونقلها على الباشورة فهدمت أيضاً منها قطعة عظيمة وهي العلامة الثانية وقد أخذ العدو الطمع وهاج الزحف هياجاً عظيماً وجاءوا إلى البلد كقطع الليل المدلهم من كل جانب وثارت همم الناس في البلد وقاتلوا العدو قتالاً سديداً حتى ضرسوا وأيسوا من أن ينالوا خيراً فوقفوا على سد موضع القطعة الواقعة وجمعوا من في البلد من البنائين والصناع ووضعوهم في ذلك الموضع وحموهم بالنشاب والمناجيق فما مرت إلا ليال يسيرة حتى انتظمت وعاد بناؤها أحسن مما كان أقوى وأتقن.

ذكر الظفر بمراكب العدو

ذكر الظفر بمراكب العدو وكان قد استأمن من الفرنج خلق عظيم أخرجهم الجوع إلينا وقالوا للسلطان نحن نخوض البحر في براكيس وبطس إلى العدو ويكون الكسب بيننا وبين المسلمين فأذن لهم في ذلك وأعطاهم بركوساً وهو المركب الصغير فركبوا فيه وظفروا بمراكب للتجار من العدو وهي قاصدة إلى عسكرهم وبضائعهم معظمها فضة مصوغة وغير مصوغة فوقع عليها البركوس وقابلوهم حتى أخذوهم واكتسبوا منهم مالاً عظيماً وأسروهم وأحضروهم بين يدي السلطان وذلك في ثالث عشر ذي الحجة من السنة المذكورة ولقد كنت حاضراً ذلك المجلس وكان من جملة ما أحضروه مائدة فضة وعليها مكبة مخرمة من فضة فأعطاهم السلطان الجميع ولم يأخذ منهم شيئاً وفرح المسلمون بنصر الله عليهم بأيديهم. ذكر موت ابن ملك الألمان وذلك أن العدو لما دخل الشتاء عليهم وتواترت الأنداء واختلفت الأهواء وخم المرج وخماً عظيماً وقع معه موتاً عظيماً وانضم إلى ذلك الغلاء الزائد وانسد عليهم البحر الذي كان يجيئهم منه الميرة من كل جانب وكان يموت منهم كل يوم المائة والمائتان على ما قيل وقيل أكثر من ذلك، ومرض ابن ملك الألمان مرضاً عظيماً وعرض له مع ذلك مرض الجوف

ذكر غارة أسد الدين

فهلك به في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة ست وثمانين وحزن الإفرنج عليه حزناً عظيماً وأشعلت له نيران هائلة بحيث لم يبق له خيمة إلا وأشعلت فيها الناران والثلاثة بحيث بقي عسكرهم كله نار وفرح المسلمون بذلك بمثل ما حزن الكفار بفقده وهلك منهم كبير يقال له الكندبالياط ومرض الكندهري وأشرف على الهلاك، وفي الرابع والعشرين منه أخذ منهم بركوسان فيها نيف وخمسون نفراً وفي الخامس والعشرين منه أخذ منهم أيضاً بركوس وجميع ما فيه وكان من جملة ما فيه ملوطة مكللة باللؤلؤ وهي من تفاصيل الملك وقيل كلن في البركوس ابن أخيه وأخذ أيضاً. ذكر غارة أسد الدين وهذا أسد الدين هو شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير وهو صاحب حمص. وكان من حديثه أن السلطان كان قد رسم له أن يأخذ حذره من الإفرنج بطرابلس ويأخذ نفسه بحراسة المسلمين والفلاحين في تلك الناحية وأنه قيل له إن إفرنج طرابلس قد أخرجوا جشارهم وخيلهم إلى مرج هناك وأبقارهم ودوابهم وأنه قد قرر مع عسكره قصدهم فخرج على غرة منهم وهجم على جشارهم فأخذ منهم الخيل أربعمائة رأس ومائة من البقر فهلك من الخيل أربعون وسلم الباقي وعاد إلى البلد ولم يفقد من أصحابه أحد ووصل الكتاب

ذكر وقائع عدة في هذه السنة

بذلك في رابع صفر من سنة سبع وثمانين. ذكر وقائع عدة في هذه السنة وفي ثالث ربيع الأول كان اليزك للحقة السلطانية وخرج من العدو إليهم خلق عظيم وجرى بينهم وقعة شنيعة وقتل فيها من العدو جماعة وقتل منهم رجل كبير على ما قيل ولم يفقد من المسلمين إلا خادم للسلطان يسمى قراقوش وكان شجاعاً عظيماً له وقعات عظيمة كثيرة استشهد في ذلك اليوم، وفي تاسع الشهر بلغ السلطان أن العدو يخرج منه طائفة يتفسحون لبعدنا عنهم فاقتضى رأيه أن أنفذ أخاه الملك العادل وفي خدمته خلق عظيم من العساكر الإسلامية وأمره أن يكمن للعدو وراء التل الذي كانت فيه الواقعة المعروفة به فسار هو وجمع كان من كبراء أهله وأصحابه فكمن وراء تل العاضية وكان ممن كان معه من كبار أهله الملك المظفر تقي الدين وابنه ناصر الدين محمد والملك الأفضل ولده ومعه صغار أولاد الملك الأشرف محمد والملك المعظم طورانشاه والملك الصالح إسماعيل وكان من

ذكر وصول العساكر الإسلامية والملك افرنسيس

المعممين الفاضل والديون وكنت في الصحبة في ذلك اليوم وركب جماعة من الشجعان على الخيول الجياد وناوشوا العدو فلم يخرج في ذلك اليوم وكان قد وشي إليهم بحلية الأمراء إلا أن ذلك اليوم لم ينفك إلا بنوع نصر فإنه وصل في أثنائه خمسة وأربعون نفراً من الإفرنج كانوا قد أخذوا في بيروت وسيروا إلى السلطان ووصلوا في ذلك اليوم إلى ذلك المكان. ولقد شاهدت منه رقة قلب لم ير أعظم منها وذلك أنه كان فيهم شيخ كبير طاعن في السن لم يبق في فمه ضرس ولم تبق له قوة إلا مقدار تحرك لا غير فقال للترجمال قل له ما الذي حملك على المجيء وأنت في هذا السن وكم من ههنا إلى بلادك فقال بلادي بيني وبينها عدة أشهر. وأما مجيئي فإنما كان للحج إلى القمامة، فرقّ له السلطان ومنّ عليه وأطلقه وأعاده راكباً على فرس إلى عسكر العدو. ولقد طلب أولاده الصغار أن يأذن لهم في قتل أسير فلم يفعل فسألته عن سبب المنع وكنت حاجبهم بما طلبوه فقال لئلا يعتادوا من الصغر على سفك الدماء ويهون عليهم ذلك وهم الآن لا يفرقون بين المسلم والكافر. ولما أيس من خروج العدو عاد المخيم في عشية ذلك اليوم. ذكر وصول العساكر الإسلامية والملك افرنسيس ومن ذلك الوقت انفتح الباب وطال الزمان وجاء أوان عود

نادرة وبشارة

العساكر إلى الجهاد من الطائفتين فكان أول من قدم علم الدين سليمان بن جندر من أمراء الملك الظاهر وكان شيخاً كبيراً مذكوراً له وقائع ذا رأي حسن والسلطان يحترمه ويكرمه وله قدم صحبة، ثم قدم بعده مجد الدين بن عز الدين فخرشاه وهو صاحب بعلبك وتتابعت بعد ذلك العساكر الإسلامية من كل صوب، وأما عسكر العدو فإنهم كانوا يتواعدون اليزك ومن يقاربهم بقدوم الملك الفرنسيس وكان معظماً عندهم مقدماً محترماً من كبار ملوكهم تنقاد إليه العساكر بأسرها بحيث إذا حضر حكم على الجميع ولم يزالوا يتواعدون بقدومه حتى قدم في ست بطس تحمله وميرته وما يحتاج إليه من الخيل وخواص أصحابه وكان قدومه يوم السبت الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. نادرة وبشارة وكان قد صحبه من بلاده باز عظيم هائل الخلق أبيض اللون نادر الجنس ما رأيت بازياً أحسن منه وكان يعزه ويحبه حباً عظيماً فشذ الباز من يده وطار وهو يستجيئه ولا يجيئه حتى سقط على سور عكا فاصطاده أصحابنا وأنفذوه إلى السلطان وقد كان لقدومه روعة عظيمة واستشار عظيم بالظفر به فتفاءل المسلمون بذلك وبذل الإفرنج فيه ألف دينار فلم يجابوا، وقدم بعد ذلك كندفرند وكان مقدماً عظيماً عندهم مذكوراً فذكروا أنه حاضر حماة وحارم في عام الرملة،

ذكر ملك الأنكتار

ولما كان الثاني عشر من ربيع الآخر وصل كتاب من اللاذقية أن كان جماعة من المستأمنين قد أعطوا براكيس ليكبسوا عليها في البحر من العدو فأخذوها ونزلوا في جزيرة قبرص في عيد لهم وقد اجتمع جمع كثير من أهل الجزيرة في بيعة قريبة من البحر وأنهم صلوا معهم صلاة العيد وأنهم لما فرغوا من الصلاة ضربوا على كل من البيعة من الرجال والنساء وأخذوهم عن آخرهم حتى القس وحملوهم وألقوهم في مراكبهم وساروا بهم حتى أتوا اللاذقية وكان من جملة ما كان فيها سبعة وعشرون امرأة وأموال عظيمة فقسموها فوصل إلى كل واحد على ما قيل أربعة آلاف درهم من الفضة النقرة وقدم بعد ذلك بدر الدين شحنة دمشق في سابع عشر ربيع الآخر وهجم أصحابنا على غنم العدو فأخذوها وكان عددها مائة وعشرين رأساً فركب في طلبها الراجل والفارس فلم يظفروا منها بشيء. ذكر ملك الأنكتار وهذا ملك الأنكتار شديد البأس بينهم عظيم الشجاعة قوي الهمة له وقعات عظيمة وله جسارة على الحرب وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة لكنه أكثر مالاً منه وأشهر في الحرب والشجاعة، وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص ولم ير أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه، فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها وجمع له خلقاً عظيماً وقاتلهم

قتالاً شديداً فأنفذ الأنكتار إلى عكا يستنجد إليه الملك جفري أخاه ومعه مائة وستون فارساً ليعينوه على مقصوده وبقيت الإفرنج على عكا ينتظرون ما يكون من الطائفتين، وفي سلخ ربيع الآخر وصلت كتب من بيروت أنه قد أخذ من مراكب الأنكتار القاصدة نحو عسكر العدو خمس مراكب وطرادة فيها خلق عظيم رجال ونساء وميرة وأخشاب وآلات وغير ذلك وفيها أربعون فارساً وكان ذلك فتحاً عظيماً استبشر به المسلمون، وفي رابع جمادى الأولى زحف العدو إلى البلد ونصبوا عليه مناجيق سبعة ووصلت كتب عكا بالاستنفار العظيم والتماس شغل العدو عنهم فأعلم السلطان العساكر بالعزم على الرحيل إلى مضايقة العدو ومقاربته وأصبح على أهبة المسير إلى العدو ورتب العساكر ثم أنفذ من كشف حال العدو وحال خنادقهم هل فيها كمين أم لا فعادوا وأخبروا بخلوها عن الكمين فسار بنفسه في نفر يسير من ممالكيه إلى خنادقهم وصعد جبلاً كان يعرف بتل الفضول قريباً من العدو مشرفاً على خيمهم وشاهد المنجنيقات وما يعمل منها وما هو يطال ثم عاد إلى مخيمه وأنا في خدمته وفي صبيحة هذه الليلة أتاه اللصوص برضيع له ثلاثة أشهر قط أخذ من أمه سرقة.

ذكر قصة الرضيع

ذكر قصة الرضيع وذلك أنه كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام العدو فيسرقون منهم الرجال وكان من قصتهم أنهم أخذوا ذات ليلة طفلاً رضيعاً له ثلاثة أشهر وساروا به حتى أتوا إلى خيمة السلطان وعرضوه عليه وكان كل ما يأخذونه يعرضونه عليه ويعطيهم ما أخذوه، ولما فقدته أمه باتت مستغيثة بالويل والثبور طول الليل حتى وصل خبرها إلى ملوكهم فقالوا إنه رحيم القلب وقد أذنا لك بالخروج فاخرجي واطلبيه منه فإنه يرده عليك فخرجت تستغيث إلى اليزك فأخبرتهم بواقعتها فأطلقوها وأنفذوها إلى السلطان فلقيته وهو راكب وأنا في خدمته وفي خدمته خلق عظيم فبكت بكاءً شديداً ومرغت وجهها في التراب فسأل عن قصتها فأخبروه فرقّ لها ودمعت عينه وأمر بإحضار الرضيع فوجدوه قد بيع في السوق فارتده وأمر بدفع ثمنه إلى المشتري وأخذه منه ولم يزل واقفاً حتى أحضر الطفل وسلم إليها فأخذته وبكت بكاءً شديداً وضمته إلى صدرها والناس ينظرون إليها ويبكون وأنا واقف في جملتهم فأرضعته ساعة ثم أمر بها فحملت على فرس وألحقت بعسكرهم مع طفلها فانظر إلى هذه الرحمة الشاملة لجنس البشر، اللهم إنك خلقته رحيماً فارحمه رجمة واسعة من عندك يا ذا الجلال والإكرام وانظر إلى شهادة الأعداء له بالرأفة والكرم شعر: ومليحة شهدت لها ضراتها ... والحسين ليس لحقه من منكر وفي ذلك اليوم وصل ظهر الدين بن البلنكري وكان مقدماً عظيماً من

ذكر انتقال السلطان إلى تل العياضية

أمراء الموصل وصل مفارقاً لهم يطلب خدمة السلطان ولما عاد السلطان إلى مخيمه لم يلبث إلا ساعة حتى وصله الخبر بتجديد الزحف فعاد وركب من ساعته نحو البلد وقد انفصل الحرب بدخول الليل من الطائفتين. ذكر انتقال السلطان إلى تل العياضية ولما كانت صبيحة الثلاثاء تاسع جمادى الأولى بلغ السلطان أن الإفرنج قد ضايقوا البلد وركبوا المناجيق فأمر الجاويش أن صاح بالناس وركب لركوبه العسكر راجلهم وفارسهم حتى أتى الخروبة وقوي اليزك بتسيير جماعة من العسكر إليهم فلم يخرج العدو واشتد زحفهم على البلد فضايقهم رحمه الله مضايقة عظيمة وهجم عليهم في خنادقهم ولم يزل كذلك حتى عادوا من الزحف ظهر نهار وعاد العدو إلى خيمه وقد أيس من أمر البلد وعاد السلطان إلى خيمة لطيفة ضربت له هناك يستظل فيها من الشمس فنزل بها لصلاة الظهر والاستراحة ساعة وقوي اليزك وأمر الناس بالعود إلى المخيخ لأخذ جزء من الراحة وكنت في خدمته فبينما هو كذلك إذ وصل من اليزك من أخبر أن القوم عادوا إلى الزحف لما أحس بانصرافه عنهم أشد ما كانوا أولاً فأمر من نبه الناس وأمر بالعود فتراجعت العساكر إلى جهة العدو أطلاباً أطلاباً وأمر بالمبيت على أخذ لامة الحرب وأقام هو هناك على عزم المبيت وفارقت

ذكر الشروع في مضايقة البلد

خدمته أخر نهار الثلاثاء وعدت إلى الخيم وبات هو وجميع العسكر على تعبية القتال طول الليل وأصر طائفة منهم على مضايقة العدو ثم سار العسكر أواخر ليلة الأربعاء عاشر الشهر إلى تل العياضية قبالة العدو وضربت له عليه خيمة لطيفة ونازل العدو في ذلك اليوم جمع بالقتال الشديد والضرب المبرح المتواتر الذي لا يفتر شغلاً لهم عن الزحف وهو يدور بين الأطلاب ويحثهم على الجهاد ويرغبهم فيه. ولما رأى العدو تلك المنازلة الهائلة خافوا من الهجوم عليهم في خيمهم فرجعوا عن الزحف واشتغلوا بحفظ الخنادق وحراسة الخيم. ولما رأى فتورهم عن الزحف عاد إلى العياضة ورتب على خنادقهم من يخبره بحالهم ساعة فساعة إذا رجعوا إلى الزحف كل ذلك دفعاً للعدو عن مضايقة البلد والزحف عليه. ذكر الشروع في مضايقة البلد ولقد بلغ من مضايقتهم البلد ومبالغتهم في طم خندقه أنهم كانوا يلقون فيه موتى دوابهم بأسرها وآل الأمر إلى أن كانوا يلقون فيه موتاهم وكانوا إذا جرح منهم أحد جراحة مؤلمة مثخنة ألقوه فيه بهذا جميعه توالت كتب أصحابنا من البلد، وأما أهل البلد فإنهم انقسموا أقساماً: قسم ينزلون

ذكر وصول الأنكتار

في الخندق يقطعون الموتى والدواب التي يفوتها فيه قطعاً ليسهل نقلها. وقسم ينقلون ما يقطعه ذلك القسم ويلقونه في البحر، وقسم يذبون عنهم ويدافعون حتى يتمكنوا من ذلك وقسم في المنجنيقات وحراسة الأسوار وأخذ منهم التعب والنصب وتواترت شكايتهم من ذلك، وهذا ابتلاء لم يبل بمثله أحد ولا يصبر عليه جلد. وكانوا يصبرون والله مع الصابرين. هذا والسلطان لا يقطع الزحف على خنادقهم بنفسه وخواصه وأولاده ليلاً ونهاراً حتى أثرت فيه الأثر البين وكلما ازدادوا في قتال البلد ازداد هو في قتالهم وكبس خنادقهم والهجوم عليهم حتى خرج منهم شخص يطلب من يتحدث معه فلما أخبر السلطان بذلك قال إن كان لكم حاجة فليخرج منكم واحد فأما نحن فليس لنا إليكم حاجة ولا شغل ودام على ذلك متصلاً الليل مع النهار حتى وصل الأنكتار ذكر وصول الأنكتار ولما كان يوم السبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الأنكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها وكان قدومه روعة عظيمة ووصل في خمس وعشرين شانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد وأظهر الإفرنج سروراً عظيماً حتى أنهم أوقدوا تلك الليلة نيراناً عظيمة كبيرة وكان ملوكهم يتواعدوننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم متوقفون فيما يريدون فيما يفعلوه من مضايقة البلد حتى قدومه فإنه ذو رأي في الحرب مجرب وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة، هذا والسلطان يتلقى ذلك كله بالصبر والاحتساب والاتكال على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

ذكر غرق البطسة الإسلامية وهي العلامة الثالثة على أخذ البلد

ذكر غرق البطسة الإسلامية وهي العلامة الثالثة على أخذ البلد ولما كان السادس عشر وصلت بطسة من بيروت عظيمة هائلة مشحونة بالآلات والأسلحة والمسير والرجال والأبطال المقاتلة وكان السلطان قد أمر بتعبيتها وتسييرها من بيروت ووضع فيها من المقاتلة خلقاً عظيماً حتى تدخل البلد مراغمة للعدو وكان عدة رجالها المقاتلة ستمائة وخمسين رجلاً فأغرقها الأنكتار في عدة شوان، قيل كان فيها أربعون قلعاً فاحتاطوا بها من جميع جوانبها واشتدوا في قتالها وجرى القضاء بأن وقف الهواء فقاتلوها قتالاً عظيماً وقتل من العدو عليها خلق عظيم وأحرقوا للعدو شانياً كبيراً فيه خلق عظيم فهلكوا عن آخرهم وتكاثروا على أهل البطسة وكان مقدمهم رجلاً جيداً شجاعاً مجرباً في الحرب فلما رأى أمارات الغلبة عليهم وأنهم لا بد وأن يقتلوا قال والله لا نقتل إلا عن عزم ولا نسلم إليهم من هذه البطسة شيئاً فوقعوا في البطسة من جوانبها بالمعاول فهدموها ولم يزاولوا كذلك حتى فتحوها عن جانب أبواباً فامتلأت ماء فغرق جميع ما فيها وما فيها من الآلات والمير وغير ذلك ولم يظفر العدو منها بشيء وكان اسم المقدم المذكور يعقوب من رجال حلب وتلقف العدو بعض من كان فيها فأخذوه إلى الشواني من البحر وخلصوه من الغرق وأنفذوه إلى البلد ليخبرهم بالواقعة وحزن الناس لذلك حزناً شديداً والسلطان يتلقى ذلك بيد الاحتساب في سبيل الله والصبر على بلائه والله لا يضيع أجر المحسنين.

ذكر حريق الدبابة

ذكر حريق الدبابة وذلك أن العدو كان قد اصطنع دبابة عظيمة هائلة أربع طبقات، الطبقة الأولى من الخشب والثانية من الرصاص والثالثة من الحديد والرابعة من النحاس وكانت تعلو على السور وكان يركب فيها المقاتلة وخاف أهل البلد منها خوفاً عظيماً وحدثتهم نفوسهم بطلب الأمان من العدو وكانوا قد قربوها من السور بحيث لم يبق بينها وبين السور إلا مقدار خمسة أذرع على ما يشاهد برأي العين وأخذ أهل البلد في تولية ضربها بالنفط ليلاً ونهاراً حتى قدر الله تعالى حرقها واشتعال النار فيها وظهر له ذؤابة نار نحو السماء فاشتدت الأصوات بالتهليل والتكبير ورأوا الناس فيها لما ظهرت لها تلك النيران ولقوا جبراً من ذلك الوهن ومحواً لذلك الأثر ونعمة بعد نقمة وإيناساً بعد يأس وكان ذلك يوم غرق البطسة فوقع من المسلمين موقعاً عظيماً وكان مسلياً لحزنهم. ذكر وقعات عدة ولما كان يوم الجمعة تاسع عشر الشهر زحف العدو على البلد زحفاً عظيماً وضايقوه مضايقة شنيعة وكان قد استقر بيننا وبينهم أنهم متى زحف العدو عليهم ذقوا كؤوسهم فضربوا بكؤوسهم فأجابت كؤوس السلطان وركبت العساكر وضايقهم السلطان من خارج وزحف عليهم حتى هجم المسلمون عليهم في خيامهم فجازوا خنادقهم وأخذوا القدور وما فيها وحضر من الغنيمة المأخوذة من خيامهم شيء عند السلطان وأنا حاضر ولم يزل القتل يعمل حتى أيقن العدو أنه قد هجم عليه فأخذوا يتراجعون عن قتال البلد وشرعوا في قتال العساكر وانتشب الحرب بينهم ولم تزل ناشبة حتى قام قائم الظهيرة وغشي الناس من الحر أمر عظيم من الجانبين وتراجعت الطائفات إلى خيامهم وقد أخذ منهم التعب والحر.

ولما كان يوم الاثنين الثالث والعشرون دق كؤوس البد فجاوبه كؤوس السلطان وثار القتال بين الطائفتين ولج العدو في مضايقة البلد ثقة منهم أن الناس لا يهجمون على خيمهم وأنهم يهابونها فكذب العسكر ظنونهم وهجموا على الخيام أيضاً ونهبوا منها فتراجع العدو إلى قتالهم ووقع الصياح فيهم فلحقوا من المسلمين جماعة عظيمة داخل خنادقهم وأسوارهم وجرى بينهم وقعة عظيمة قتل فيها اثنان من المسلمين وجرح جماعة وقتل جماعة من العدو. وأعجب ما في هذه الوقعة أنه كان وصل في هذا اليوم رجل كبير مذكور من أهل مازندران يريد الغزاة فوصل والحرب قائمة فلقي السلطان فاستأذنه في الجهاد وحمل حملة شديدة واستشهد في تلك الساعة. ولما رأى العدو دخول المسلمين إلى خنادقهم وتوغلهم داخل أسوارهم داخلهم الحمية وبعثتهم النخوة فركب فارسهم وصحبه راجلهم وخرجوا إلى ظاهر أسوارهم وحملوا على المسلمين حملة الرجل الواحد فثبت المسلمون لهم ثبوتاً عظيماً لم يتحركوا من أماكنهم والتحم القتال من الجانبين واشتد الضرب من الطائفتين وصبر المسلمون صبر الكرام. ودخلوا في الحرب بالتحام، فلما رأى العدو ذلك الصبر المعجب والإقدام المزعج أنفذوا رسولاً في غضون ذلك يستأذنون بالرسول في الوصول، فأذن له فوصل الرسول أولاً إلى الملك العادل فاستصحبه ووصل به إلى الخدمة السلطانية ومعه أيضاً الملك الأفضل فأدى الرسالة وكان حاصلها أن ملك الأنكتار يطلب الاجتماع بالسلطان فلما سمع السلطان الرسالة أجاب عنها في الحال من غير تفكر ولا ترو بأن قال: إن الملوك لا يجتمعون إلا عن قاعدة ولا يحسن منهم الحرب بعد الاجتماع والمواكلة وإذا أراد ذلك

فلا بد من تقرير قاعدة قبل هذه الحالة ولا بد من ترجمان نثق به في الوسط يفهم كل واحد منا ما يقول الآخر فليكن بيننا ذلك الترجمان فإذا استقرت القاعدة وقع الاجتماع بعد ذلك إن شاء الله تعالى. ولما كان يوم السبت الثامن والعشرون خرج العدو راجلهم وفارسهم من جانب البحر شمالي البلد وعلم السلطان ذلك فركب وركب العسكر وانتشب القتال بين الطائفتين وقتل من المسلمين بدوي وكردي وقتل من العدو جماعة وأسروا واحداً بسلاحه وفرسه ومثل بين يد السلطان ولم يزل القتال يعمل حتى حال الليل بين الطائفتين، ولما كان الأحد التاسع والعشرون خرج العدو برجالة كثيرة على شاطئ النهر الحلو فلقيهم طائفة من اليزك وجرى بينهم قتال عظيم ووصلت رجالة من المسلمين إلى الحرب فأسروا مسلماً وقتلوه وأحرقوه وأسر المسلمون منهم واحداً فقتلوه وأحرقوه ولقد رأيت النارين تشتعلان في زمان واحد، ولم تزل الأخبار تتواصل من أهل البلد بالاحتفال بأمر العدو والشكوى من ملازمة قتالهم ليلاً ونهاراً وذكر ما ينالهم من التعب العظيم من تواتر

ذكر هرب المركيس إلى صور

الأعمال المختلفة عليهم من جريرة قدوم الأنكتار ثم مرض مرضاً شديداً أشفى فيه على الهلاك وخرج الفرنسيس ولم يزدهم ذلك إلا إصراراً وعتواً وكان لأخت ملك الأنكتار خادمان مسلمان في الباطن كانا في خدمتها في صقلية وكانت هي زوجة صاحب صقلية فلما مات ومر أخوها بالبلد أخذها وأصحابها معه إلى العسكر وهرب الخادمان إلى العسكر الإسلامي فقبلهما السلطان وأنعم عليهما إنعاماً عظيماً. ذكر هرب المركيس إلى صور ولما كان يوم الاثنين سلخ جمادى الأولى قوي استشعار المركيس أنه إن أقام قبضوا عليه وأعطوا صور للملك القديم الذي كان قد أسره السلطان لما عاناه من الأسر في نصرة دين المسح. ولما صح ذلك عنده هرب إلى صور فأنفذوا خلفه قسوساً ليردوه فلم يفعل وسار في البحر حتى أتى صور وشق ذلك عليهم وعظم لديهم فإنه كان ذا رأي وشجاعة وخبرة.

ذكر وصول بقية عساكر الإسلام

ذكر وصول بقية عساكر الإسلام وفي سلخ جمادى الأولى قدم عسكر سنجار يقدمه مجاهد الدين برتقش فلقيه السلطان واحترمه وكان ديناً عاقلاً محباً للغزو فأنزله السلطان في الميسرة بعد أن أكرمه وأنزله في خيمته وفرح بقدومه فرحاً شديداً في ذلك الوقت ثم قدم بعد ذلك قطعة عظيمة من عسكر مصر كعلم الدين كرجي وسيف الدين سنقر الداودار وجماعة عظيمة ثم قدم بعد ذلك علاء الدين صاحب الموصل وعسكرهم فلقيه السلطان بالخروبة ونزلوا هناك إلى بكرة اليوم الثاني من جمادى الآخرة وأصبح سائراً حتى أتى بجحفله قبالة العدو وعرض عسكره هناك وأنزله السلطان في خيمته وحمل له من التحف وقدم له من اللطائف ما يليق بكرمه وأنزله في الميمنة، وفي الثالث قدمت طائفة من عسكر مصر أيضاً، واشتد مرض الأنكتار بحيث شغل الإفرنج شدته عن الزحف وكان ذلك خيرة عظيمة من الله تعالى فإن البلد كان قد ضعف من فيه ضعفاً عظيماً وضاق بهم الخناق وهدمت المنجنيقات من السور مقدار قامة الرجل، هذا واللصوص يدخلون إلى خيامهم ويسرقون أقمشتهم ويأخذون الرجال في غفلة بأن يجيئوا إلى الواحد وهو نائم فيضعوا على حلقه السكين ويوقظوه ويقولوا له بالإشارة إن تكلمت ذبحناك ويحملوه ويخرجوا به إلى العسكر وجرى ذلك مراراً وعساكر المسلمين تجتمع وتتواتر من كل جانب حتى تكامل وصولها.

ذكر وصول رسولهم إلى السلطان

ذكر وصول رسولهم إلى السلطان كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمس من جانب الأنكتار أن يجتمع بالسلطان وذكرت عذر السلطان عن ذلك وانقطع الرسول وعاد معاوداً في المعنى وكان في حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياماً عنده بسبب مرضه واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه وأنكروا عليه ذلك وقالوا هذه مخاطرة بدين النصرانية ثم بعد ذلك وصل رسوله يقول لا تظن تأخري بسبب ما قيل فإن زمام قيادي مفوض إلي وأنا أحكم ولا يحكم علي غير أن في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني من الحركة فهذا كان العذر في التأخير لا غير وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا وعندي ما يصلح للسلطان وأنا أستخرج الأذن من إيصاله إليه، فقال له الملك العادل قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية، فرضي الرسول بذلك وقال: الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاج حتى نطعمها لتقوى ونحملها، فداعبه الملك العادل وكان فقيهاً فيما يحدثهم به فقال: الملك قد احتاج إلى فراريج ودجاج ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة. ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر على أن قال الرسول: ما الذي أردتم منا. إن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع. فقيل له عن ذلك: نحن ما طلبناكم، أنتم طلبتمونا فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع. وانقطع حديث الرسالة إلى سادس

ذكر قوة زحفهم على البلد ومضايقته

جمادى الأخرى فخرج رسول الأنكتار إلى السلطان ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه وأعاد مشرفاً مكرماً إلى صاحبه وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عنده من ذلك أيضاً. ذكر قوة زحفهم على البلد ومضايقته ولم يزالوا يوالون على الأسوار بالمناجيق المتواصلة والضرب وتنقلوا أحجارها حتى خلخلوا سور البلد وأضعفوا بنيانه وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلة عددهم وكثرة الأعمال حتى أن جماعة منهم بقوا ليالي لا ينامون أصلاً لا ليلاً ولا نهاراً، والخلق الذين عليهم عدد كثير يتناوبون على قتالهم وهم نفر يسير قد تقسموا على الأسوار والخنادق والمنجنيقات والسفن ولما أحس العدو بذلك وظهر لهم تخلخل السور وتقلقل بنيانه شرعوا في الزحف من كل جانب وانقسموا أقساماً وتناوبوا فرقاً كلما تعب قسم استراح وقام غيره مقامه وشرعوا في ذلك شروعاً عظيماً براجلهم وفارسهم سابع الشهر، هذا مع عمارتهم أسوارهم الدائرة على خنادقهم بالرجالة والمقاتلة ليلاً ونهاراً، ولما علم السلطان بذلك بإخبار من يشاهده وإظهار العلامة التي بيننا وبينهم وهي دق الكؤوس ركب وركب العسكر إليهم وجرى في ذلك اليوم

قتال عظيم من الجانبين وهو كالوالدة الثكلى يحول بفرسه من طلب إلى طلب ويحث الناس على الجهاد، ولقد بلغنا أن الملك العادل حمل بنفسه في ذلك اليوم مرتين والسلطان يطوف بين الأطلاب بنفسه وينادي يا للإسلام وعيناه تذرفان بالدموع وكلما نظر إلى عكا وما حل بها من البلاء وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم اشتد في الزحف والحث على القتال، ولم يطعم في ذلك اليوم طعاماً البتة وإنما شرب أقداح مشروب كان يشير بها الطبيب وتأخرت عن حضور هذا الزحف لإلمام مرض شوش مزاجي لما عراني فكنت في الخيمة في تل العياضية وأنا أشاهد الجميع، ولما هجم الليل عاد رحمه الله إلى الخيم بعد العشاء الآخرة وقد أخذ منه التعب والكآبة والحزن فنام لا عن عفو. ولما كان سحر تلك الليلة أمر الكؤوس أن دقت وركب العساكر من كل جانب وأصبحوا على ما أمسوا عليه وفي ذلك اليوم وصلت مطالعة عن البلد يقولون فيها أنا قد بلغ منا العجز إلى غاية ما بعدها إلا التسليم ونحن في الغد ثامن الشهر إن لم تعملوا شيئاً نطلب الأمان ونسلم البلد ونشتري مجرد رقابنا وكان هذا أعظم خبر ورد على المسلمين وأنكى في قلوبهم فإن عكا كانت قد احتوت على جميع سلاح الساحل والقدس ودمشق وحلب ومصر وجميع البلاد الإسلامية واحتوت على كبار من أمراء العسكر وشجعان الإسلام كسيف الدين المشطوب وبهاء الدين قراقوش وغيرهما وكان قراقوش ملتزماً بحراستها منذ نزل العدو عليها وأصاب السلطان ما لم يصبه شيء مثله وخيف على مزاجه التشويش وهو لا يقطع ذكر الله والرجوع إليه في جميع ذلك صابراً محتسباً ملازماً مجتهداً والله لا يضيع أجر المحسنين، فرأى الدخول على القوم ومهاجمتهم فصاح في العسكر الصائح وركبت الأبطال فاجتمع الراجل

ذكر ما آل إليه أمر البلد من الضعف ووقوع المراسلة بين أهل البلد والإفرنج

والفارس واشتد الزحف ولم يساعده العسكر في ذلك اليوم على الهجوم على العدو فإن رجالته وقفوا كالسور المحكم البناء بالسلاح والزنبورك والنشاب من وراء أسوارهم وهجم عليهم بعض الناس من بعض أطرافهم فثبتوا وذبوا غاية الذب، ولقد حكى بعض من دخل عليهم أسوارهم أنه كان هناك راجل واحد إفرنجي صعد سور خندقهم واستدبر المسلمين وإلى جانبه جماعة يناولونه الحجارة وهو يرميها على المسلمين الذين يلاصقون سور الخندق وقال إنه وقع فيه زهاء خمسين سهماً وحجراً ولا يمنعه ذلك عما هو بصدده من الذب والقتال حتى ضربه زراق مسلم بقارورة فارقه. ولقد حكى لي شيخ عاقل جندي أنه كان من جملة من دخل قال وكان داخل سورهم امرأة عظيمة عليها ملوطة خضراء فما زالت ترمينا بقوس من خشب حتى خرجت منا جماعة وتكاثرنا عليها وقتلناها وأخذنا قوسها وحملنا إلى السلطان فعجب من ذلك عجباً عظيماً ولم يزل الحرب يعمل بين الطائفتين بالقتل والجرح حتى فصل بينهم الليل. ذكر ما آل إليه أمر البلد من الضعف ووقوع المراسلة بين أهل البلد والإفرنج ولما اشتد زحفهم على البلد وتكاثروا عليها من كل جانب وتناوب ضعف أهل البلد لما رأوه من عين الهلاك واستشعروا العجز عن الدفع وتمكن العدو من الخنادق فملكوها وتمكنوا من سور الباشورة فنقبوه وأشعلوا فيه النار بعد حشو النقب ووقعت بدنة من الباشورة

ودخل العدو الباشورة وقتل منهم فيها مائة وخمسون نفراً وصاعداً وكان فيهم ستة من كبارهم فقال لهم واحد لا تقتلوني حتى أرحل الفرنج عنكم بالكلية فبادر رجل من الأكراد فقتله وقتل الخمسة الأخرى وفي الغد نادى الإفرنج احفظوا الستة فإنا نطلقكم كلكم بهم فقالوا قد قتلناهم فحزن الإفرنج لذلك حزناً عظيماً وطلبوا الزحف بعد ذلك أياماً ثلاثة. وبلغنا أن سيف الدين المشطوب خرج بنفسه إلى ملك الفرنسيس بالأمان وقال له قد أخذنا منكم بلاداً عدة وكنا نهجم البلد وندخل فيه ومع هذا إذا سألونا الأمان أعطيناهم وحملناهم إلى مأمنهم وإكرامهم ونحن نسلم البلد وتعطينا الأمان على أنفسنا فأجابه بأن هؤلاء الملوك الذين أخذتموهم منا وأنتم أيضاً مماليكي وعبيدي فأرى فيكم رأيي وبلغنا أن المشطوب بعد ذلك أغلظ له في القول وقال أقاويل كثيرة في ذلك المقام منها أنا لا نسلم البلد حتى نقتل بأجمعنا ولا يقتل منا واحد حتى يقتل خمسون نفساً من كباركم وانصرف عنه. ولما دخل المشطوب البلد بهذا الخبر خاف جماعة ممن كانوا في البلد فأخذوا بركوساً وركبوا فيه ليلاً خارجين إلى العسكر الإسلامي منهم أرسل ولبن الجاولي وسنقر الوشاقي فأما أرسل وسنقر فإنهما تغيبا في العسكر ولم يعلم لهما مكان خشية من نقمة السلطان. وأما ابن الجاولي فظفر به ورمي في الزردخانة. وفي سحر تلك الليلة ركب السلطان مشعراً أنه يواصل كبس القوم ومعه المساحي وآلات طم الخنادق فما ساعده العسكر على ذلك وتخاذلوا عن ذلك وقالوا نخاطر بالإسلام كله ولا مصلحة في ذلك. وفي ذلك اليوم خرج من الأنكتار رسل ثلاثة طلبوا فاكهة وثلجاً وذكروا أن مقدم الأسبتار يخرج في الغد

يتحدث في معنى الصلح غير أن السلطان أكرمهم سوق العسكر وتفرجوا فيه وعادوا تلك الليلة إلى عسكرهم. وفي ذلك اليوم تقدم إلى صارم الدين قايماز النجمي حتى يدخل هو وأصحابه إلى أسوارهم وترحل جماعة من أمراء الأكراد كالجناح وأصحابه وهو المشطوب وزحفوا حتى وصلوا أسوار الإفرنج ونصب قايماز بنفسه علمه على سورهم وقاتل عن العلم قطعة من النهار ووصل في ذلك اليوم عز الدين جرديك النوري وسوق الزحف قائم فترجل هو وجماعته وقاتل قتالاً شديداً واجتهد الناس اجتهاداً عظيماً. وفي العاشر أصبح القوم ساكتين عن الزحف والعساكر الإسلامية محدقة بهم وقد باتوا ليلتهم شاكي السلاح راكبي ظهور خيلهم منتظرين عسى أن تمكنهم مساعدة إخوانهم المقيمين بعكا ويهجموا على طرف من الإفرنج فيكسروهم ويخرجوا يحمي بعضهم بعضاً ويخرج العسكر يجاوبهم من هذا الجانب فيسلم من سلم ويؤخذ من أخذ فلم يقدروا على الخروج وكان قد ثبت ذلك معهم فلم يتهيأ لهم في تلك الليلة خروج بسبب أنه كان هرب منهم بعض الغلمان فأخبر العدو بذلك فاحتاطوا بهم وحرسوهم حراسة عظيمة. ولما كان يوم الجمعة العاشر خرج منهم رسل ثلاثة واجتمعوا بالملك العادل وتحادثوا معه ساعة زمانية وعادوا ولم ينفصل الحال وانقضى النهار على مقام المسلمين بالمرج في مقابلة العدو وباتوا على مثل ذلك. ولما كان السبت الحادي عشر لبست الفرنج بأسرها لباس الحرب وتحركوا حركة عظيمة بحيث أنهم اعتقدوا رجلكان صاف واصطفوا وخرج من الباب الذي تحته القبة زهاء أربعين نفساً واستدعوا

ذكر كتب وصلت من البلد

جماعة من المماليك وطلبوا منهم العدل الزيداني وذكروا أنه صاحب صيداً طليق السلطان فحضر العدل وجرى مبادلة أحاديث في معنى إطلاق العسكر الذي بعكا واشتطوا في ذلك اشتطاطاً عظيماً وتصرم نهار السبت ولم ينفصل حال. ذكر كتب وصلت من البلد ولما كان يوم الأحد ثاني عشر وصلت كتب يقولون فيها إنا قد تبايعنا على الموت ولا نزال نقاتل حتى نقتل ولا نسلم هذا البلد ونحن أحياء فانظروا أنتم كيف تعملون في شغل العدو عنا ودفعه عن قتالنا فهذه عزائمنا وإياكم أن تخضعوا لهذا العدو وتلينوا لهم فإنا نحن قد فات أمرنا وذكر العوام الواصل بهذه الكتب أنه لما وقع بالليل الصوت ظن الإفرنج أن عسكراً عظيماً عبر إلى عكا وسلم وسار فيها قال وجاء إنسان إفرنجي فوقف تحت السور وصاح إلى بعض من على السور وقال له بحق دينك إلا ما أخبرتني كم عدد العسكر الذي دخل إليكم البارحة يعني ليلة السبت وكان قد وقع بالليل صوت وانزعج الطائفتان ولم يكن له حقيقة فقال له ألف فارس فقال لا لكنه دون ذلك، أنا رأيتهم لابسين ثياباً خضراً. ثم تتابعت العساكر الإسلامية واندفع كيد العدو عن القوم في تلك الليلة بعد أن كان قد أشرف البلد على الأخذ، وفي يوم الخميس سادس عشر وصل أسد

ذكر مصالحة أهل البلد ومصانعتهم على نفوسهم

الدين شيركوه واشتد ضعف البلد وكثرت ثغور سوره وجاهد المقيمون فيه وبنوا عوض الثلم سوراً من داخلها حتى إذا تم بناؤه اقتتلوا عليه، واشتد ثبات الإفرنج على أنهم لا يصالحون ولا يعطون الذين في البلد أماناً حتى يطلق جميع الأسارى الذين في أيدي المسلمين وتعاد البلاد الساحلية إليهم وبذل لهم تسليم البلد وما فيه دون ما فيه فلم يفعلوا وبذل لهم أيضاً مع ذلك صليب الصلبوت فلم يفعلوا واشتد عتوهم واستفحل أمرهم وضاقت الحبل عنهم ومكروا والله خير الماكرين. ذكر مصالحة أهل البلد ومصانعتهم على نفوسهم ولما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة خرج العوام من الثغر ونطقت الكتب عنهم أن أهل البلد ضاق بهم الأمر وكثرت الثغر وعجزوا عن الحفظ والدفع ورأوا عين الهلاك وتيقنوا أنه متى أخذت البلد عنوة ضربت أعناقهم عن آخرهم وأخذ جميع ما فيه من العدد والأسلحة والمراكب وغير ذلك فصالحهم على أن يسلمون إليهم البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدد والمراكب ومائتي ألف دينار وألف وخمسمائة فارس أسير مجاهيل الأحوال ومائة فارس معينين من جانبهم يختارون وصليب الصلبوت ويخرجون بأنفسهم سالمين وما معهم من الأقمشة المختصة بهم وذراريهم ونساؤهم وضمنوا للمركيس عشرة آلاف دينار

ذكر استيلاء العدو على عكا

أنه كان واسطة ولأصحابه أربعة آلاف دينار واستقرت القاعدة على ذلك. ذكر استيلاء العدو على عكا ولما وقف السلطان على كتبهم وعلى مضمونها أنكر ذلك إنكاراً عظيماً وعظم عليه هذا الأمر وجمع أرباب المشورة وشاورهم فيما يصنع واضطرب الأمراء وتقسم فكره وتشوش وعزم على أن يكتب في الليلة مع العوام وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه وهو في مثل هذه الحال فما أحس المسلمون إلا وقد ارتفعت أعلام الكفر وصلبانه وشعاره وناره على أسوار البلد وذلك في ظهر نهار الجمعة سابع عشر جمادى الآخرى سنة سبع وثمانين وخمسمائة وصاح الإفرنج صيحة واحدة وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حزن الموحدين وانحصر كلام العقلاء من الناس في تلاوة إنّا لله وإنا إليه راجعون. وغشي الناس بغتة عظيمة وحيرة شديدة ووقع في العسكر الصياح والعويل والبكاء والنحيب وكان لكل قلب حظ في ذلك قدر إيمانه ولكل إنسان نصيب من هذا الخطب على مقدار ديانته ونخوته وانقشعت الحال على أنه قد استقرت القاعدة بين أهل البلد وبين الإفرنج على ذلك الحال المتقدم وأن المركيس دخل البلد ومعه أعلام الملوك فنصب علماً على القلعة وعلماً على مأذنة الجامع في يوم الجمعة وعلماً على برج

القتال عوضاً عن علم الإسلام وحيز المسلمون إلى بعض أطراف البلد وجرى على أهل الإسلام المشاهدين لذلك الحال ما كثر التعجب من الحياة معه ومثلت في خدمة السلطان وهو أشد حالة من الوالدة الثكلى، والمولهة الحراء فسليته بما تيسر لي من التسلية وأذكرته في الفكر فيما يستقبله من الأمر في معنى البلاد الساحلية والقدس الشريف وكيفية الحال في ذلك وإعمال الفكر في خلاص المسلمين المأسورين في البلد وذلك في ليلة السبت الثامن عشر وانفصل الحل على أن رأى التأخير عن تلك المنازلة مصلحة فإنه لم يبق في المضايقة معنى فتقدم بنقل الأثقال ليلاً إلى المنزلة التي كان عليها أولاً بشفرعم وأقام هو جريدة في مكانه لينظر ماذا يكون من أمر العدو وحال أهل البلد وأقام هو راضياً راجياً من الله تعالى أنه ربما حملهم غرورهم بالخروج إليه والهجوم عليه فينال منهم غرضاً ويلقي نفسه عليهم ويعطي الله النصر لمن شاء فلم يفعل العدو شيئاً من ذلك واشتغلوا بالاستيلاء على البلد والتمكن منه فأقام إلى بكرة التاسع عشر من الشهر وانتقل إلى الثقل وفي ذلك اليوم خرج منهم ثلاثة نفر مع الحاجب قوس بهاء الدين قراقوش وكان رجلاً عاقلاً مستخبرين ما وقع عقد الصلح عليه من المال والأسرى فأقاموا ليلة مكرمين وساروا إلى دمشق يبصرون الأسرى في الحادي والعشرين وأنفذ السلطان رسولاً إلى الفرنج يسألهم كيف جرت الحال ويستعلم كم مدة تحصيل ما وقعت عليه المصالحة واستقرت عليه المهادنة.

ذكر وقعة جرت في أثناء ذلك

ذكر وقعة جرت في أثناء ذلك ولما كان سلخ الشهر خرج الإفرنج من جانب البحر شمالي البلد وانتشروا انتشاراً عظيماً راجلهم وفارسهم وضربوا أطلاباً للقتال فأخبر اليزك بذلك السلطان فدق في الكؤوس وركب وأنفذ إلى اليزك وقواه برجال كثيرة وتوقف حتى ركبت العساكر الإسلامية واجتمعوا فوقع بين اليزك وبين العدو وقعة عظيمة وقتال شديد قبل اتصال العساكر باليزك وكان اليزك قد قوي بما أنفذ إليه فحملوا على العدو حملة عظيمة فانكسر العدو من بين أيديهم وانهزمت الخيالة وسلمت الرجالة وظنوا أن وراء اليزك كميناً فاشتدوا نحو خيامهم ووقع اليزك في الرجالة فقتل منهم زهاء خمسين نفراً ولم يزل السيف يعمل فيهم حتى دخلوا خنادقهم. وفي ذلك اليوم وصل رسل الإفرنج الذين ساروا إلى دمشق ليتفقدوا حال أسراهم ووصل معهم من مميزي أسراهم أربعة نفر ووصل في عيشته أيضاً رسل السلطان في تحرير أمر الأسارى المسلمين الذين كانوا بعكا ولم تزل الرسل تتردد بين الطرفين حتى كان تاسع رجب. خروج ابن باريك وفي ذلك اليوم خرج حسام الدين بن باريك المهراني ومعه اثنان من أصحاب الأنكتار فأخبرني أن الملك افرنسيس سار إلى صور وذكروا في تحرير أمر الأسارى وطلبوا أن يشاهدوا صليب الصلبوت وأنه في العسكر أو حمل إلى بغداد فأحضر صليب الصلبوت وشاهدوه وعظموه ورموا نفوسهم إلى الأرض ومرغوا وجوههم على التراب وخضعوا خضوعاً عظيماً لم ير مثله وذكروا أن الملوك قد أجابوا

السلطان أن يكون ما وقع عليه القرار تروم ثلاثة كل شهر ترم، ثم أرسل السلطان رسولاً إلى الفرنسيس سار إليه إلى صور بهدايا سنية وطيب كثير وثياب جميلة. وفي صبيحة العاشر من رجب انتقل السلطان بحلقته وخواصه إلى تل ملاصق لشفرعم ونزلت العساكر في منازلها على حالهم قريباً من منزلته أولى ليس بينهما إلا الوادي ولم تزل الرسل تتواتر في تحرير القاعدة وتنجيزها حتى حصل لهم ما كانوا التمسوه من الأسرى والمال المختص بذلك الترم وهو الصليت ومائة ألف دينار وستمائة أسير وأنفذوا ثقاتهم وشاهدوا الجميع ما عدا الأسارى المعينين من جانبهم فإنهم لم يكونوا فرغوا من تعيينهم ولم يكملوهم حتى يحصلوا ولم يزالوا يطاولون ويقصرون الزمان حتى انقضى الترم الأول في ثامن عشر رجب ثم أنفذوا في ذلك اليوم يطلبون ذلك فقال لهم السلطان إما أن تنفذوا إلينا أصحابنا وتستلموا الذي عين لكم من هذا الترم ونعطيكم رهائن على الباقي تصل إليكم في ترومكم الباقية وإما أن تعطونا رهائن على ما نسلم إليكم إلى أن يخرج إلينا أصحابنا فقالوا لا نفعل شيئاً من ذلك بل تسلمون إلينا ما يقضيه هذا الترم وتقنعون بإيماننا حتى نسلم إليكم أصحابكم فأبى السلطان ذلك لعلمه أنهم إن تسلموا المال والصليب والأسرى وأصحابنا عندهم لا يؤمن غدرهم ويكون وهن الإسلام عند ذلك وهناً عظيماً لا يكاد ينجبر.

ذكر قتل المسلمين الذين كانوا بعكا رحمهم الله

ذكر قتل المسلمين الذين كانوا بعكا رحمهم الله ولما رأى الأنكتار الملعون توقف السلطان ببذل المال والأسرى والصليب غدر بأسرى المسلمين وكان قد صالحهم وتسلم البلد منهم على أن يكونوا آمنين على نفوسهم على كل حال وأنه إن دفع السلطان إليهم ما استقر أطلقهم بأموالهم ونسائهم وإن امتنع من ذلك ضرب عليهم الرق وأخذهم أسرى فغدرهم الملعون وأظهر ما كان أبطن وفعل ما أراد أن يفعله بعد أخذ المال والأسرى على ما أخبر به عنه أهل ملته فيما بعد وركب هو وجميع العسكر الإفرنجية راجلهم وفارسهم والتراكيل في وقت العصر من يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب وساروا حتى أتوا الآبار التي تحت تل العياضية وقدموا خيامهم إليها وساروا حتى توسطوا المرج بين تل كيسان وبين العياضية ثم أحضروا من أسارى المسلمين من كتب الله شهادته في ذلك اليوم وكانوا زهاء ثلاثة آلاف في الحبال

ذكر مسير العدو إلى عسقلان وانتقاله إلى طرف البحر من جانب الغرب

وجملوا عليهم جملة الرجل الواحد فقتلوهم صبراً ضرباً وطعناً بالسيف واليزك الإسلامي يشاهدون ولا يعلمون ماذا يصنعون لبعدهم عنهم وكان اليزك قد أنفذ إلى السلطان وأعلموه بركوب القوم ووقوفهم فأنفذ إلى اليزك من قواه وبعد أن فرغوا منهم حمل المسلمون عليهم وجرت بينهم حرب قتل فيها وجرح من الجانبين ودام القتال إلى أن فصل الليل بين الفريقين وأصبح المسلمون يكشفون الحال فوجدوا الشهداء في مصارعهم وعرفوا من عرفوه منهم فغشي المسلمين من ذلك حزن عظيم وكآبة شديدة ولم يبقوا إلا رجلاً معروفاً مقداماً أو قوي يد لعمائرهم، وذكر لقتلهم أسباب منها أنهم قتلوهم في مقابلة من قتل منهم وقيل إن الأنكتار كان قد عزم على السير إلى عسقلان للاستيلاء عليها فما رأى أن يخلف تلك العدة في البلد وراءه والله أعلم. ذكر مسير العدو إلى عسقلان وانتقاله إلى طرف البحر من جانب الغرب ولما كان التاسع والعشرون من رجب الإفرنج بأسرهم وقلعوا خيامهم وحملوها على دوابهم وساروا حتى قطعوا النهر إلى الجانب الغربي وضربوا الخيام على طريق عسقلان وأظهروا العزم على المسير على شاطئ البحر وأمر الأنكتار باقي الناس أن يدخلوا إلى البلد وكانوا قد سدوا ثغره وثلمه أو أصلحوا ما انهدم منه وكان مقدم العسكر الخارج السائر الأنكتار وجمع عظيم من الرجالة والخيالة،

ولما كان مستهل شعبان اشتعلت نيران العدو في سحر ذلك اليوم وعادتهم أنهم إذا أرادوا الرحيل أشعلوا نيرانهم وأخبر اليزك بحركاتهم فأمر السلطان الثقل أن يرفع حتى يبقى الناس على ظهر ففعل الناس ذلك وهلك من الناس قماش كثير وحوائج كثيرة من السوقة لم تكن معهم خيل ولا ظهر يحمل جميع ما عندهم لأن كل إنسان كان يحصل ما يحتاج إليه في أشهر وكل واحد من السوقة عنده ما ينفذ من منزل إلى منزل في مرار متعددة لكن هذا المنزل لم يمكن أن يتخلف فيه أحد لقربه من الإفرنج الذين بعكا والخوف منهم، ولما أن علا النهار شرع العدو في السير على جانب البحر وتفرقوا قطعاً كثيرة كل قطعة تحمي عن نفسها وقوّى السلطان اليزك وأنفذ معظم العساكر قبالتهم فمضوا وقاتلوهم قتالاً شديداً وأنفذ ولده الملك الأفضل يخبر أنه قطع طائفة منهم عن الموافقة ولقد نازلناهم بالقتال ولو قوينا لأخذناهم فسير السلطان خلقاً عظيماً من العسكر وسار هو بنفسه وأنا في خدمته حتى أتى أوائل الرمل فلقينا الملك العادل فأخبر أخاه أن تلك الطائفة قد التجأت بالطائفة الأولى ومعظم القوم قد عبروا نهر حيفا وقد نزلوا والباقون قد لحقوا بهم وليس للمسير وراءهم حاصل إلا إتعاب العسكر وضياع النشاب لا غير فتراجع السلطان عن القوم لما تحقق ذلك وأمر طائفة من العسكر أن تسير وراء الثقل تلحق ضعيفهم بقويهم وتكف عنهم أن يلحق بهم من العدو والطماعة وسار هو حتى وصل إلى القيمون

عصر ذلك النهار فنزل وضرب له الدهليز وشق دائرة حوله لا غير واستحضر الجماعة فأكلوا شيئاً واستشارهم فيما يفعل. المنزل الثاني: اتفق رأي جماعة على أنهم يرحلون بكرة غد. هذا وقد رتب حول الإفرنج يزكاً يبيتون حوله يرقبون أمره. ولما كان صباح ثاني شعبان رحل السلطان الثقل وأقام هو يترصد أخبار العدو فلم يصل منهم شيء إلى أن علا النهار فسار في أثر الثقل حتى أتى قرية يقال لها الصباغين فجلس ساعة يترقب أخبار العدو وكان قد خلف جرديك قريب العدو وتعقب خلق عظيم باتوا قريب العدو فلم يصله خبر أصلاً فسار حتى أتى الثقل في منزلة يقال لها عيون الأساود ولما بلغنا المنزل رأينا خياماً فسأل عنها فقيل إنها خيام الملك العادل فعدل لينزل عنده فأقام عنده ساعة ثم أتى خيمته وفقد الخبز في هذه المنزلة بالكلية وغلا الشعير حتى بلغ درهماً وبلغ رطل البقسماط درهمين ثم أقام السلطان حتى عبر وقت الظهر وركب وسار إلى موضع يسمى الملاحة يكون منزلاً للعدو إذا رحلوا من حيفا وكان قد سبق ليفقد المكان هل يصلح للمصاف أم لا ويتفقد أراضي قيسارية بأسرها إلى الشعرا وعاد إلى المنزل بعد دخول وقت العشاء الآخرة وقد أخذ منه التعب وسألته عما بلغه من خبر العدو فقال وصل إلينا من أخبرنا أنه ما رحل من حيفا إلى عصر يومنا

هذا يعني ثاني شعبان وها نحن مقيمون مرتقبون أخبارهم ويكون العمل بمقتضاها وبات تلك الليلة وأصبح مقيماً بتل الزلزلة ينتظر العدو نادى الجاويش بالعسكر للعرض فركب الناس على ترتيب المصاف وأبهته. ولما علا النهار نزل السلطان في خيمته وأخذ نصيباً من الراحة بعد الغداء ومثول جماعة من الأمراء إلى خدمته وأخذ رأيهم فيما يصنعون ثم صلى الظهر وجلس يطلق أثمان الخيول المجروحة وغيرها إلى العشاء الآخرة من مائة دينار إلى مائة وخمسين ديناراً وزائد وناقص فما رأيت أسح صدراً منه ولا أبسط وجهاً في العطاء واتفق الرأي على رحيل الثقل في عصر ذلك اليوم إلى مجدل يافا. المنزل الثالث: وأقام هو جريدة بالمنزل إلى الصباح رابع الشهر وركب وسار في رأس النهر الجاري إلى قيسارية ونزل هناك وبلغ رطل البقسماط أربع دراهم وربع الشعير درهمين ونصفاً والخبز لم يوجد أصلاً ونزل في خيمة وأكل خبزاً وصلى الظهر وركب إلى طريق العدو لتجديد إرشاده في ضرب المصاف ولم يعد إلى أن دخل وقت

العصر فجلس ساعة وأخذ جزءاً من الراحة ثم عاد وركب وأمر الناس بالرحيل ورمى خيمته ورمى الناس خيامهم في أواخر النهار. المنزل الرابع: وكان الرحيل إلى رابية متأخراً عن تلك الرابية وفي ذلك المنزل أتي باثنين من الإفرنج قد تخطفهم اليزك فأمر بضرب رقابهما فقتلا وتكاثر الناس عليهما بالسيوف تشفياً ثم بات هناك وأصبح مقيماً بالمنزل لأنه لم يصح عن العدو رحيل وأنفذ إلى الثقل حتى يعود إليه في تلك الليلة مما طرأ على الناس من الضيق في المآكل والقضم وركب في وقت عادته إلى جهة العدو وأشرف على قيسارية وعاد إلى الثقل قريب الظهر وقد وصل الخبر أن العدو لم يرحل بعد من الملاحة وأحضر عنده اثنان أيضاً قد أخذ من أطراف العدو فقتلا شر قتلة وكان في حدة الضيقة لما جرى على أسرى عكا ثم أخذ جزء من الراحة وجلس بعد صلاة الظهر وحضرت عنده وقد أحضر بين يديه من العدو فارس مذكور، هيئته تخبر عن أنه متقدم فيهم فأحضر ترجماناً وبحث عن أحوال القوم وسأله كيف يسوى الطعام عندكم؟ فقال: أول يوم رحلنا من عكا كان الإنسان يشبع بستة قراطيس فلم يزل السعر يغلو حتى صار يشبع بثمانية قراطيس. وسأل عن سبب تأخرهم في المنازل. فقال: لانتظار وصول المراكب بالرجال والميرة. فسأل عن القتلى والجرحى في يوم رحيلهم فقال كثير. فسأل عن الخيل التي هلكت في ذلك اليوم، فقال مقدار

أربعمائة فرس فأمر بضرب عنقه ونهى عن التمثيل به فسأل الترجمان عما قال السلطان فأخبره بما قال فتغير تغيراً عظيماً وقال أنا أخلص لكم أسيراً من عكا. فقال رحمه الله: بل أميراً. فقال: لا أقدر على خلاص أمير فشفع الطمع فيه وحسن خلقه فإني ما رأيت أتم خلقاً منه مع ترف في الأطراف ورفاهية فأمر أن يترك الآن ويؤخر أمره فصفده وعاتبه على ما بدا منهم من الغدر وقتل الأسرى فاعترف بأنه قبيح ولم يجر إلا برضا الملك وحده وركب السلطان بعد صلاة العصر على عادته وبعد أن نزل أمر بقتل الفارس المذكور وأتي بعده باثنين فأمر بقتلهما وبات في ذلك المنزل المذكور، وذكر له في السحر أن العدو قد تحرك نحو قيسارية وقارب أوائلهم البلد فرأى أن يتأخر من طريق العدو منزلاً آخر. المنزل الخامس: فرحل ورحل الناس إلى قريب التل الذي كنا عليه فنزل الناس وضربت الخيام ومضى هو يرتاد الأراضي الكائنة في طريق العدو لينظر أيها أصلح للمصاف ونزل قريب الظهر واستدعى أخاه الملك العادل وعلم الدين سليمان وأخذ رأيهما فيما يصنع وأخذ جزءاً من الراحة وأذّن الظهر فصلى وركب ليشرف وليكشف عن العدو ويتنسم أخباره وأتاه اثنان من الإفرنج قد نهبا فأمر بقتلهما ثم أتي باثنين آخرين فقتلا أيضاً وجيء في أواخر النهار باثنين فقتلا أيضاً وعاد من الركوب وصلى صلاة المغرب وجلس على عادته واستدعى أخاه وصرف الناس وخلا به إلى هزيع من الليل ثم بات وأصبح ونادى الجاويش لعرض

الحلقة لا غير وركب إلى جهة العدو ووقف على تلول مشرفة على قيسارية وكان العدو قد وصل إليها نهار الجمعة سادس شعبان ولم يزل يعرض هناك إلى أن علا النهار ثم نزل وأكل الطعام وركب إلى أخيه وعاد بعد صلاة الظهر وأخذ جزءاً من الراحة وجلس وأتي بأربعة من الإفرنج وامرأة إفرنجية بينهم أسيرة وهي بنت الفارس المذكور ومعها أسيرة مسلمة قد أخذتها فأطلقت المسلمة ودفع الباقون إلى الزردخانة وهؤلاء أتي بهم من بيروت أخذوا في مراكب من جملة عدة كثيرة فقتلوا. كل ذلك في نهار السبت سابع الشهر وهو في المنزلة ينتظر رحيل العدو مجمعاً على لقائه إذا رحل. المنزل السادس: ولما كان صبيحة الثامن ركب السلطان على عادته ثم نزل ووصله من أخيه أن العدو على حركة وكانت الأطلاب قد باتت حول قيسارية في مواضعها فأمر بمد الطعام وأطعم الناس فوصل ثان وأخبر أن القوم قد ساروا فأمر بالكؤوس فدقت وركب وركب الناس وسار وسرت في خدمته حتى أتى عسكر العدو وصف الأطلاب حوله وأمرهم بقتالهم وأخرج الجاليش فكان النشاب بينهم كالمطر وكان عسكر العدو قد رتب فكانت الرجالة حوله كالسور وعليهم اللبود الثخينة والزرديات السابغة المحكمة بحيث يقع فيهم النشاب ولا يتأخرون وهم يرموننا بالزنبورك فيجرح خيل المسلمين وخيالتهم ولقد شاهدتهم ويتغرز في ظهر الواحد منهم الواحد والعشرة

وهو يسر على هيئته من غير انزعاج. وثم قسم آخر من الرجالة مستريح يمشون على جانب البحر ولا قتال عليهم فإذا تعبت هذه المقاتلة أو أثخنتهم الجراح قام مقامهم المستريح واستراح القسم المقاتل. هذا والخيالة في وسطهم لا يخرجون عن الرجالة إلا في وقت الحملة لا غير وقد انقسموا أيضاً ثلاثة أقسام. القسم الأول الملك العتيق جفري وجماعة الساحلية معه في المقدمة، والأنكتار والفرنسيس معه في الوسط. وأولاده الست أصحاب طبرية وطائفة أخرى في الساقة وفي وسط القوم برج على عجلة على ما وصفته من قبل أيضاً كالمنارة العظيمة هذا ترتيب القوم على ما شاهدته وأخبر به من خرج منهم من الأسرى والمستأمنين وساروا على هذا المثال وسوق الحرب قائمة والمسلمون يرمونهم بالنشاب من جوانبهم ويحركون عزائمهم حتى يخرجوا وهم يحفظون نفوسهم حفظاً شديداً ويقطعون الطريق على هذا الوضع ويسيرون سيراً رقيقاً ومراكبهم تسير في مقابلتهم في البحر إلى أن أتوا المنزل وكانت منازلهم قريبة لأجل الرجالة فإن المستريحين منهم كانوا يحملون أثقالهم وخيمهم لقلة الظهر عندهم فانظر إلى صبر هؤلاء القوم على الأعمال الشاقة عن غير دين ولا نفع، وكانت منزلتهم قاطع نهر قيسارية يسر الله فتحها. المنزل السابع: ولما كانت صبيحة التاسع وصل من أخبر أن العدو قد ركب سائراً فركب السلطان أول الصبح وطلب الأطلاب وأخرج من كل جانب جاليشاً فسار يطلب

القوم فأتاهم وهم سائرون على عادتهم ثلاثة أقسام وطاف الجاليش حولهم من كل جانب ورموهم بالنشاب وهم سائرون ثلاثة أقسام على المثال الذي حكيته وكلما ضعف قسم عاونه الذي يليه وهو يحفظ بعضهم بعضاً والمسلمون محدقون بهم من ثلاثة جوانب والقتال بينهم شديد والسلطان يقرب الأطلاب ورأيته وهو يسير بنفسه بين الجاليش ونشاب القوم يجاوزه وليس معه إلا صبيان بجنبيه لا غير وهو يسير من طلب إلى طلب يحثهم على التقدم ويأمرهم بمضايقة القوم ومقاتلتهم والكؤوس تخفق والبوقات تنعر والصياح بالتهليل والتكبير يعلو. هذا والقوم على أتم ثبات على ترتيبهم لا يتغيرون ولا ينزعجون وجرت حالات كثيرة ورجالتهم تجرح المسلمين وخيولهم بالزنبورك والنشاب ولم نزل حواليهم نقاتلهم ونحمل عليهم وهم يكرون بين أيدينا ويفرون إلى أن أتوا نهراً يقال له نهر القصب ونزلوا عليه وقد قامت الظهيرة وضربوا خيامهم وتراجع الناس عنهم فإنهم كانوا إذا نزلوا أيس الناس منهم ورجعوا عن قتالهم وفي ذلك اليوم قتل من فرسان الإسلام شجاع اسمه إياز الطويل بعض مماليك السلطان وكان قد فتك فيهم وقتل خلقاً من خيالتهم وشجاعتهم وكانت قد فاضت شجاعته بين العسكرين بحيث أنه جرت له وقعات كثيرة صدقت أخبار الأوائل وسار بحيث إذا عرفه الإفرنج في موضع يخافونه تقنطرت به فرسه واستشهد وحزن المسلمون عليه حزناُ عظيماً ودفن على تل مشرف على البركة ونزل السلطان بالثقل على البركة وهي موضع يجتمع فيه مياه كثيرة وأقام في تلك المنزلة إلى بعد صلاة العصر وأطعم الناس

ذكر وقعة جرت

خبزاً واستراحوا ساعة ثم رحل وأتى نهر القصب ونزل عليه أيضاً فشرب منه قليل من أعلاه والعدو يشرب من أسفله ليس بيننا إلا مسافة يسيرة وبلغ ربع الشعير أربعة دراهم والخبز موجود كثيراً وسعره الرطل بنصف درهم وأقام ينتظر رحيل الإفرنج حتى يرحل في مقابلتهم فباتوا وبتنا أيضاً. ذكر وقعة جرت وذلك أن جماعة من العسكر الإسلامي كانوا مشرفين على العدو فصادفوا جماعة منهم يشرفون على العسكر الإسلامي وظفروا بهم وهجموا عليهم وجرى بينهم قتال عظيم فقتل من العدو جماعة وأحس بهم عسكر العدو فثار إليهم منهم جماعة واتصل بالحرب وقتل أيضاً من المسلمين نفران وأسر من العدو ثلاثة ومثلوا بخدمة السلطان فسألهم عن الأحوال فأخبروه أن الملك الأنكتار قد حضر عنده بعكا اثنان بدويان وأنهما أخبراه بقلة العسكر الإسلامي وذلك الذي أطمعه حتى خرج وأنه لما كان بالأمس يعني يوم الاثنين رأى من المسلمين قتالاً عظيماً واستكثر الأطلاب وأنه جرح زهاء ألف نفر وقتل جماعة وأن ذلك هو الذي أوجب إقامته اليوم حتى يستريح عسكره وأنا لما رأى ما أصابهم من القتل العظيم وكثرة المسلمين أحضر البدويين عنده وأوقفهما وضرب أعناقهما. وأقمنا في ذلك اليوم في تلك المنزلة لإقامة العدو بها وهو الثلاثاء العاشر من شعبان. المنزل الثامن: ولما كان ظهر اليوم المذكور رأى السلطان

ذكر مراسلة جرت في ذلك اليوم

الرحيل والتقدم إلى قدام العدو فدق الكؤوس ورحل الناس ودخل في شعرا أرسوف حتى توسطها إلى تل عند قرية تسمى دير الراهب فنزل هناك ودهم الناس الليل فتقطعوا في الشعر وأصبح مقيماً ينتظر بقية العساكر إلى صباح الأربعاء الحادي عشر وتلاحقت العساكر وركب يرتاد موضعاً يصلح للقتال ولقاء العدو وأقام ذلك اليوم أجمع هناك. ومن أخبار العدو في تلك المنزلة أنه أقام على نهر القصب ذلك اليوم أيضاً وأنه لحقته نجدة من عكا في ثمان بطس كبار واليزك الإسلامي حوله يواصلون الأخبار المستجدة بهم وجرى بين اليزك وبين حشاشة العدو قتال وجرح من الطائفتين. ذكر مراسلة جرت في ذلك اليوم وذلك أن العدو طلب من اليزك من يتحدث معه وكان مقدم اليزك علم الدين سليمان فإنها كانت نوبته فلما مضى إليهم من سمع كلامهم كان كلامهم طلب الملك العادل حتى يتحدثوا معه فاستأذن ومضى وبات تلك الليلة في اليزك وتحدثوا معه وكان حاصل حديثهم أنا قد طال بيننا القتال وقد قتل من الجانبين الرجال الأبطال وأنا نحن جئنا في نصرة إفرنج الساحل فاصطلحوا أنتم وهم وكل منا يرجع إلى مكانه وكتب السلطان إلى أخيه في صبيحة يوم الخميس الثاني والعشرين رقعة يقول له فيها: إن قدرت أن تطاول الإفرنج فلعلهم يقيمون اليوم حتى يلحقنا التركمان فإنهم قد قربوا منا.

ذكر اجتماع الملك العادل والأنكتار

ذكر اجتماع الملك العادل والأنكتار ولما علم الأنكتار وصول الملك العادل إلى اليزك طلب الاجتماع به فأجابه إلى ذلك فاجتمعا بفرقة من أصحابهما وكان يترجم بينهما ابن الهنغري وهو من إفرنج الساحل من كبارهم ورأيته يوم الصلح وهو ساب حسن إلا أنه محلوق اللحية على ما هو شعارهم. وكان الحديث بينهما أن الأنكتار شرع في ذكر الصلح وأن الملك العادل قال له أنتم تطلبون الصلح ولا تذكرون مطلوبكم فيه حتى أتوسط أنا الحال مع السلطان. فقال له الأنكتار: القاعدة أن تعود البلاد كلها إلينا وتنصرفوا إلى بلادكم. فأخشن له الجواب وجرت منافرة اقتضت أنهم رحلوا بعد انفصالهم، ولما أحس السلطان برحيلهم أمر الثقل الرحيل ووقف هو وعبى الناس تعبية القتال وسار الثقل الصغير أيضاً حتى قارب الثقل الكبير ثم ورد أمر السلطان بعودهم إليه فعادوا ووصلوا وقد دخل الليل وتخبط الناس تلك الليلة تخبطاً عظيماً واستدعى أخاه ليعرفه ما جرى بينه وبين الملك وخلا به لذلك وذلك في ليلة الجمعة ليلة الثالث عشر، وأما العدو فإنه سار ونزل على موضع يسمى البركة أيضاً يشرف على البحر وأصبح السلطان في يوم الجمعة

ذكر وقعة أرمون وهي أنكت في قلوب المسلمين

متطلعاً إلى أخبار العدو فأحضر عنده اثنان من الإفرنج قد تخطفهما اليزك فأمر بضرب أعناقهما ووصل من أخبر أن العدو لم يرحل اليوم من منزلته تلك فنزل السلطان واجتمع بأخيه يتحدثان في هذا الأمر وما يصنع مع العدو وبات تلك الليلة في تلك المنزلة. ذكر وقعة أرمون وهي أنكت في قلوب المسلمين ولما كان يوم السبت الرابع عشر بلغ السلطان أن العدو حرك الرحيل نحو أرسوف، فركب ورتب الأطلاب للقتال وعزم على مضايقتهم في ذلك اليوم ومصادمتهم، وأخرج الجاليش من كل طلب، وسار العدو حتى قارب شعرا أرسوف وبساتينها، فأطلق عليهم الجاليش النشاب، ولزمتهم الأطلاب من كل جانب، والسلطان يقرب بعضها ويوقف بعضها ليكون ردأً ويضايق العدو مضايقة عظيمة، والتحم القتال واضطرمت ناره من الجاليش وقتل منهم وجرح، فاشتدوا في السير عساهم يبلغون المنزلة فينزلوا، واشتد بهم الأمر وضاق بهم الخناق، والسلطان يطوف من الميمنة إلى الميسرة يحث الناس على الجهاد، ولقيته مراراً ليس معه إلا صبيان بجنبيه لا غير، ولقيت أخاه وهو على مثل هذه الحال والنشاب يتجاوزهما، ولم يزل الأمر يشتد بالطمع للعدو، وطمع المسلمون فيهم طمعاً عظيماً حتى وصل أوائل راجلهم إلى بساتين أرسوف، ثم اجتمعت الخيالة وتواصلوا على الحملة خشية على القوم، ورأوا أنه لا ينجيهم إلا الحملة. ولقد رأيتهم وقد أجمعوا

في وسط الرجالة وأخذوا رماحهم وصاحوا صيحة الرجل الواحد، وفرج لهم رجالتهم وحملوا حملة واحدة من الجوانب كلها، فحملت طائفة على الميمنة وطائفة على الميسرة وطائفة على القلب، فاندفع الناس بين أيديهم، واتفق أني كنت في القلب ففر القلب فراراً عظيماً، فنويت التحيز إلى الميسرة وكانت أقرب إليّ، ووصلتها وقد انكسرت كسرة عظيمة وفرت أشدّ فرار من الكل، فنويت التحيز إلى طلب السلطان وكان ردأ الأطلاب كلها كما جرت العادة، ولم يبق للسلطان فيه إلاّ سبعة عشر مقاتلا لا غير، وأخذ الباقون إلى القتال لكن الأعلام كلها باقية ثابتة والكؤوس تدق لا تفتر، وأما السلطان لما رأى ما نزل بالمسلمين من هذه النازلة سار حتى أتى إلى طلبه، فوجد فيه هذا النفر القليل، فوقف فيه والناس ينفرون من الجوانب وهو يأمر أصحاب الكؤوس بالدق بحيث لا يفترون، وكلما رأى فارّاً يأمر من يحضره عنده، وفي الجملة ما قصر الناس بفرارهم فإن العدو حمل حملة ففروا ثم وقف خوفاً من الكمين، فوقفوا وقاتلوا، ثم حمل حملة ثانية ففروا وهم يقاتلون في فرارهم، ثم وقف فوقفوا، ثم حمل حملة ثالثة حتى بلغ إلى رؤوس روابٍ هناك وأعالي تلول ففرّوا إلى أن وقف العدو ووقفوا، وكان كل من رأى طلب السلطان واقفاً والكؤوس تدق يستحي أن يجاوزه ويخاف غائلة ذلك فيعود إلى الطلب، فاجتمع في القلب خلق عظيم، ووقف العدو قبالتهم على رؤوس التلول والروابي والسلطان واقف في طلبه، والناس يجتمعون عليه حتى أتت العساكر بأسرها، وخاف العدو أن يكون في الشعرا كمين، فتراجعوا يطلبون المنزلة، وعاد السلطان إلى تل في أوائل الشعرا ونزل عليه في خيمته. ولقد كنت في خدمته أسليه وهو لا يقبل

السلو وظل عليه بمنديل، وسألناه أن يطعم شيئا، فأحضر له شيء لطيف، فتناول شيئاً يسيراً، وبعث الناس للسقي، فإن المكان كان بعيدا، وجلس ينتظر الناس من العود من السقي، والجرحى يحضرون بين يديه وهو يتقدم بمداواتهم وحملهم، وقتل في ذلك اليوم رجالة كثيرة وجرح جماعة من الطائفتين. وكان ممن ثبت الملك العادل والطواشي قايماز النجمي والملك الأفضل ولده وصدم في ذلك اليوم وانفتح دمّل كان في وجهه وسال منه دم كثير على وجهه وهو صابر محتسب في ذلك كله، وثبت أيضاً طلب الموصل ومقدمة علاء الدين، وشكره السلطان على ذلك، وتفقد الناس بعضهم بعضاً فوجدوا أن قد استشهد جماعة من العسكر عرف منهم شخصان أمير كبير مملوك وكان شجاعاً معروفاً وقايماز العادلي وكان مذكوراً وليفوش وكان شجاعاً، وجرح خلق كثير وخيول كثيرة، وقتل من العدو جماعة وأسر واحد وأحضر فأمر بضرب عنقه، وأخذت منهم خيولُ أربعة، وكان قد تقدم رحمه الله إلى الثقل أن يسير إلى العوجاء، وذكر أن المنزل يكون على العوجاء، فاستأذنته وقدمت إلى المنزل، وجلس هو ينتظر اجتماع العساكر وما يرد من أخبار العدو، وكان العدو قد نزل على أرسوف قبيلها. المنزل التاسع: وسرت بعد صلاة الظهر حتى أتيت الثقل وقد نزل قاطع النهر المعروف بالعوجاء في منزلة خضراء طيبة على جانب النهر، ووصل السلطان إلى المنزلة أواخر النهار، وازدحم الناس على القنطرة، فنزل على تل مشرف

على النهر ولم يعد إلى الخيمة، وأمر الجاويش أن ينادي في العسكر بالعبور إليه، وكان في قلبه من الوقعة أمر لا يعلمه إلاّ الله تعالى، والناس بين جريح الجسد وجريح القلب، وأقام السلطان إلى سحر الخامس عشر ودقّ الكؤوس وركب، وركب الناس، وسار راجعاً إلى جهة العدو حتى وصل إلى قريب أرسوف وصفّ الأطلاب للقتال رجاء خروج العدو ومسيره حتى يصاف، فلم يرحل العدو في ذلك اليوم لما نالهم من التعب والجراح، وأقام قبالتهم إلى آخر النهار وعاد إلى منزلته التي بات فيها. ولما كانت صبيحة السادس عشر دقّ الكؤوس وركب، وركب الناس، وسار نحوهم، ووصل خبر العدو أنه قد رحل طلباً جهة يافا، فقاربهم مقاربة عظيمة، ورتب الأطلاب ترتيب القتال، وأخرج الجاليش، وأحدق العسكر الإسلامي بالقوم وألقوا عليهم من النشاب ما كان يسد الأفق، وقاتلت قلوبهم قتال الحنق، وقصد رحمه الله تحريك عزائمهم على الحملة، حتى إذا حملوا ألقى الناس عليهم وقصدوهم، ويعطي الله النصر لمن يشاء، فلم يحملوا وحفظوا نفوسهم وساروا مصطفين على عادتهم حتى أتوا نهر العوجاء، وهو النهر الذي منزلتنا أعلاه، فنزل في أسفله، وعبر بعضهم إلى غربي النهر، وأقام الباقون من الجانب الشرقي، فلما علم الناس بنزولهم تراجع الناس عنهم، وعاد السلطان إلى الثقل ونزل في خيمته وأطعم الطعام، وأتى بأربعة من الإفرنج قد أخذتهم العرب ومعهم امرأة فرفعوا إلى الزردخانات، وأقام بقية ذلك اليوم يكتب الكتب إلى الأطراف باستحضار بقية العساكر، وحضر من أخبر أنه قتل من العدو يوم أرسوف خيول كثيرة وأنه تتبعها العرب

وعدّوها فزادت على مائة، وأمر السلطان أن رحلت الجمال وتقدمت إلى الرملة، وبات هو بتلك المنزلة. المنزل العاشر: ولما كان سابع عشر صلّى الصبح ورحل، ورحل معه الثقل الصغير، وسار يريد الرملة، وأتى باثنين من الإفرنج فضرب أعناقهم، ووصل من اليزك من أخبر أن العدو رحل من يافا، وسار السلطان إلى أن أتى الرملة، وأتى باثنين من الإفرنج أيضاً فسألهم عن أحوالهم، فذكروا أنهم ربما أقاموا بيافا أيّاماً وفي أنفسهم عمارتها وشحنها بالرجال والعدد، فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلان وأنها هل تخرب أو تبقى، واتفق الرأي على أن يتخلف الملك العادل ومعه طائفة من العسكر مقارب العدو ليعرف أحوالهم واتصالها وأن يسير هو ويخرب عسقلان خشية أن يستولي عليها الإفرنج وهي عامرة فيقتلوا من بها من المسلمين ويأخذوا بها القدس الشريف ويقطعوا بها طريق مصر، وخشي السلطان من ذلك، وعلم عجز المسلمين عن حفظها لقرب عهدهم من عكا وما جرى على من كان مقيماً بها ويخيفوا الناس عن الدخول إلى عسقلان، فادخرت القوة في عسكر الإسلام لحفظ القدس المحروس فتعين لذلك خراب عسقلان، فسار الثقل والجمال من أوّل الليل، وتقدم إلى ولده الملك الأفضل أن سار عقيب الثقل نصف الليل، وسار هو وأنا في خدمته سحر الأربعاء.

المنزل الحادي عشر: وهو على عسقلان. ولما كان يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر وصل السلطان إلى يبنا، فنزل بها ضحى، وأخذ الناس راحة، ثم رحل وسار حتى أتى أرض عسقلان، وقد ضربت خيمته بعيدا منها، فبات هناك مهموماً بسبب الخراب، وما نام إلاّ قليلا. ولقد دعاني في خدمت سحرا، وكنت فارقت خدمته بعد مضي نصف الليل، فحضرت وبدأ الحديث في معنى خرابها، وأحضر ولده الملك الفضل وشاوره في ذلك، وطال الحديث في المعنى. ولقد قال لي: والله لأن أفقد أولادي بأسرهم أحب إليّ من أن أهدم منها حجراً واحداً، ولكن إذا قضى الله ذلك لحفظ مصلحة المسلمين كان، ثم استخار الله تعالى، فأوقع الله في نفسه أن المصلحة في خرابها لعجز المسلمين عن حفظها، فاستحضر الوالي قيصر بها وهو من كبار مماليكه وذوي الآراء منهم، فأمره بجمع العمال فيها، ولقد رأيته وقد اجتاز بالسوق والوطاق بنفسه مستقر الناس للخراب، وقسم السور على

الناس، وجعل لكل أمير وطائفة من الناس العسكر بدونه معلومة وبرجا معلوما يخربونه، ودخل الناس البلد ووقع الضجيج والبكاء، وكان بلداً نضراً خفيفاً على القلب محكم الأسوار عظيم البناء مرغوبا في سكناه، فلحق الناس عليه حزن عظيم، وعظم عويل أهله على مفارقة أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يمكن حمله، فبيع ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد، واختبط البلد، وخرج أهله إلى العسكر بذراريهم ونسائهم خشية أن يهجم الإفرنج، وبذلوا في الكراء أضعاف ما يساوي قوم إلى مصر وقوم إلى الشام وقوم يمشون إذا لم يقع لهم كراء، وجرت أمور عظيمة وفتنة هائلة لعلها لم تختص بالذين ظلموا، وكان هو بنفسه وولده الملك الأفضل يستعملان الناس في الخراب والحث عليه خشية أن يسمع العدو فيحضر ولا يمكن خرابها، وبات الناس في الخيام على أتم حال من التعب والنصب، وفي تلك الليلة وصل من جانب الملك العادل أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح، وأنه خرج إليه ابن الهنغري وتحدث معه وأنه طلب جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما رأى في أنفس الناس من الضجر والسآمة من القتال والمصابرة وكثرة ما علاهم من الديون، وكتب إليه يسمح في الحديث في ذلك وفوّض أمر ذلك إلى رأيه، وأصبح في العشرين على الإصرار على الخراب واستعمال الناس فيه، وحثهم عليه، وأباحهم الهري الذي كان ذخيرة في البلد للعجز عن نقله وضيق الوقت والخوف من هجوم الإفرنج، وأمر بحرق البلد، فأضرمت النار في بيوته ودوره، ورفض أهله بواقي الأقمشة للعجز عن نقلها، والأخبار تتواتر من جانب العدو بعمارة يافا، وكتب الملك

العادل يخبر أن القوم لم يعلموا بخراب البلد وأن سوّف القوم وطوّل الحديث لعلّنا نتمكن من الخراب، وأمر بحشو أبراج البلد بالأحطاب وأن تحرق، وأصبح الحادي والعشرون فركب يحث الناس، ودام يستعملهم على التخريب ويطوف عليهم بنفسه حتى التاث مزاجه التياثاً قويّاً امتنع بسببه من الركوب والغذاء يومين، وأخبار العدو تتواصل إليه في كل وقت ويجري بينهم وبين اليزك والعسكر وقعات وهو يواظب على الحث على الخراب، ونقل الثقل إلى قريب البلد ليعاونوا الغلمان والحمالين وغيرهم من ذلك، فخرب من السور معظمه، وكان عظيم البناء بحيث أنه كان عرضه في مواضع تسعة أذرع وفي مواضع عشرة أذرع، وذكر بعض الحجارين للسلطان وأنا حاضر أن عرض السور الذي ينقبون فيه مقدار رمح، ولم يزل التخريب والحريق يعمل في البلد وأسواره إلى سلخ شعبان، وعند ذلك وصل من جرديك كتاب يذكر فيه أن القوم يتفسحون وصاروا يخرجون من يافا يغيرون على البلاد القريبة منها، فتحرك السلطان لعله يبلغ منهم غرضاً في غرّتهم، فعزم على الرحيل على أن يخلف في عسقلان حجارين ومعهم خيل تحميهم ويستنهضونهم في الخراب، ثم رأى أن يتأخر بحيث يحرق البرج المعروف بالأسبتار، وكان برجاً عظيماً مشرفاً على البحر كالقلعة المنيعة، ولقد دخلته وطفته فرأيت بناءه أحكم بناه، يقرب من أن لا تعمل فيه المعاول، وإنما أراد أن يحرقه حتى يبقى بالحريق قابلا للخراب ويعمل الهدم فيه. وأصبح مستهل رمضان فأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه. ولقد رأيته يحمل الخشب ويحشونه في البرج حتى امتلأ، ثم أطلقت

ذكر رحيله إلى الرملة

فيه النار فاشتعل الخشب، وبقيت النار تشتعل فيه يومين بلياليهما، ولم يركب السلطان في ذلك اليوم تسكينا لمزاجه، وعرض لي أيضاً تشوش مزاج اقتضى انقطاعي عنه في ذلك اليوم، ولقد تردد إلى من سأل عن مزاجي من عنده ثلاث مرات مع اشتغال قلبه بذلك المهم. فالله تعالى يرحمه، لقد ماتت محاسن الأخلاق بموته. تشوش مزاج اقتضى انقطاعي عنه في ذلك اليوم، ولقد تردد إلى من سأل عن مزاجي من عنده ثلاث مرات مع اشتغال قلبه بذلك المهم. فالله تعالى يرحمه، لقد ماتت محاسن الأخلاق بموته. ذكر رحيله إلى الرملة ثم رحل السلطان ثاني رمضان نصف الليل خشية على مزاجه من الحر، ووصل بنا ضحوة النهار، ونزل في خيمة أخيه، وبات في تلك المنزلة، وأصبح ثالث الشهر راحلاً إلى جهة الرملة، فسار حتى أتاها ضحوة النهار، ونزل بالثقل الكبير نزول إقامة، ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً، وأطعم الناس الطعام، وأخذ جزءاً من الراحة، وركب بين صلاتي الظهر والعصر وسار إلى لد ورآها ورأى بيعتها وعظم بنائها، فأمر بخرابها وخراب قلعة الرملة، فوقع الخراب في الموضعين في ذلك اليوم وفرق الناس فرقا لتخريب المكانين وأرباح ما فيها

من التبن والشعير في الأهراء السلطانية، وأمر من كان فيها من المقيمين بالانتقال إلى المواضع العامرة، وما كان بقي في المكانين إلا نفر يسير، وظل الناس يخربون إلى أن أمسى المساء، ثم عاد إلى خيمته وأصبح رابع رمضان فأقام الحجارين في المكانين ورتب عليهم من يستنجزهم في ذلك، وهو يتردد عليهم في الأصائل، حتى جاء وقت المغرب فمد الطعام وأفطر الناس وانفصلوا إلى خيمهم، ووقع له أن يسير خفية في نفر يسير يشاهد أحوال القدس. فسار من أول الليل، حتى أتى بيت نوبة، فبات فيها حتى أتى الصباح وصلّى ثم سار حتى أتى القدس في خامس الشهر، وخلف أخاه في العسكر يحث الناس على الخراب، وأقام ذلك اليوم يتصفح أحوال القدس في عمارته وميرته وعدته ورجاله وغير ذلك، وظفر في ذلك غلمان الطواشي قايماظ بنفر من النصارى ومعهم كتب قد كتبها الوالي إلى السلطان قريبة التاريخ يذكر فيها أعواز البلد الغلة والعدة والرجال، فوقف على الكتب وضربت رقاب كل من كان معهم، وما زال يتصفح أحوال المكان ويأمر بسد خلله إلى الثامن وخرج سائراً إلى العسكر بعد صلاة الظهر فبات في بيت نوبة. وفي هذا اليوم وصل عز الدين قيصر شاه صاحب ملطية ابن قليج أرسلان وافداً عليه مستنصراً به على أخوته وأبيه، فإنهم كانوا يقصدون أخذ بلدة منه فلقيه الملك العادل قاطع لد فاحترمه وأكرمه، ثم لقيه الملك الأفضل وضربت خيمته قريباً من لد. وفي ذلك اليوم خرج من العدو الحشاشة فحمل عليهم اليزك، ووصل الخبر إلى عسكرهم فخرج إلى نصرتهم خيالة وجرى بينهم وبين اليزك قتال، وذكر بعض الأسرى أنه كان معهم الأنكتار وأن مسلما قصد طعنه فحال بينه وبينه إفرنجي فقتل الإفرنج وجرح هو هكذا ذكروا والله أعلم.

ذكر وصول رسول مركيس

ولما كان التاسع وصل رحمه الله إلى العسكر ولقيه الناس مستبشرين بقدومه، ولقيه ابن قليج أرسلان فنزل له واحترمه وأكرمه، ونزل في خيمته، وأقام يحث الناس على التخريب، وتتواصل أخبار العدو إليه، ويقع بينهم وبين اليزك وقعات، ويسرق العرب من خيولهم ويقاتلهم رجالهم. ذكر وصول رسول مركيس وفي غضون ذلك وصل رسول المركيس يذكر أنه يصالح الإسلام بشرط أن يعطى صيدا وبيروت، على أن يجاهر الإفرنج بالعداوة ويقصد عكا ويحاصرها ويأخذها منهم، واشترط أن يبذل للسلطان اليمين على ذلك ابتداء قسير العدل النجيب وحمله الإجابة إلى ملتمسه لقصد فصله عن الإفرنج فإنه كان خبيثاً ملعوناً، وكان قد استشعر منهم أخذ بلده وهي صور فانحاز عنهم واستعصم بصور وهي منيعة فقال ذلك القول لهذا السبب، وسار النجيب العدل مع رسوله في الثاني عشر واشترط عليه أن يبدأ بمجاهرة القوم وحصار عكا أخذها

وإطلاق من بها وبصور من الأسرى، وعند ذلك يسلم إليه الموضعان. وفي عشية ذلك اليوم خرج رسول ملك الأنكتار إلى الملك العادل في تحريك سلسلة الحديث في الصلح. ولما كان الثالث عشر من رمضان رأى السلطان أن يتأخر العسكر الجميل ليتمكن الناس من إنقاذ دوابهم إلى العلوفة، فإنّا كنّا على الرملة قريبين من العدو، ولا يمكن التفريط في الدواب خشية المهاجمة، فرحل ونزل على جبل متصل بجبل النطرون بالثقل الكبير وجمع العساكر ما عدا اليزك على العادة، وذلك بعد خراب الرملة ولد، ولما نزل هناك دار حول النطرون وأمر بخرابها، وكانت قلعة منيعة حصينة من القلاع المذكورة فشرع في خرابها. وترددت الرسل بين الملك العادل والأنكتار يذكرون أنه قد سلم أمر الصلح إلى الملك العادل، وأخلد إليه، وخرج في عشرة أنفس إلى اليزك، فأخبروه بأخبار طيّبة وكتب بها إلى السلطان في السابع عشر، وكان مما اخبره به أخوه أن الملك افرنسيس مات، وكان موته

ذكر مسير الملك العادل إلى القدس

بأنطاكية عن مرض عرض له، وأن الأنكتار عاد إلى عكا، وكان سبب عوده أنه صح عند مراسلة المركيس للسلطان وبلغه أن المركيس قد انتظم الحال بيننا وبينه وأنه قد استقرت القاعدة على عكا، فعاد هو إلى عكا لفسخ هذه المصالحة واسترجاع المركيس إليه، فركب السلطان إلى اليزك واجتمع بأخيه في لد، وسأله عن الأخبار، وعاد إلى المخيم وقت العصر، وأتى باثنين من الإفرنج قد تخطفهم اليزك فأخبروا بصحة موت الإفرنسيس وعود الأنكتار إلى عكا. ذكر مسير الملك العادل إلى القدس ولما كان التاسع عشر اقتضى الحال تفقد القدس والنظر في عمارته، وكان الملك العادل قد عاد من اليزك وعلم بعد مسير مقدمي الإفرنج عنا فرأى أن يكون هو الذي يسير، فسار في هذا اليوم لهذا الغرض. وفي تاريخ هذا اليوم وصل كتاب من تقي الدين يخبر فيه أن قزل صاحب ديار العجم ابن يلدكز قفز عليه أصحابه فقتلوه، وقيل أن ذلك كان من تحت يد زوجته تعصباً للسلطان طغريل، وجرى بسبب قتله خبط عظيم في بلاد العجم، وكان قتله في أوائل شعبان من هذه السنة.

ذكر أخبار يزك كان على عكا ولصوص دخلوا في خيام العدو

ولما كان الحادي والعشرون من رمضان قدم الملك العادل من القدس، وفي هذا التاريخ وصل كتاب من الديوان العزيز النبوي يذكر فيه قصد الملك المظفر تقي الدين خلاط ويذكر فيه العناية التامة ببكتمر ويشفع في حسن بن قفجاق والتقدم بإطلاقه، وكان قد قبض عليه مظفر الدين بن زين الدين بإربل ويتقدم بمسير القاضي الفاضل إلى الديوان لبث حال وفصل أمر وسير الكتاب إلى الفاضل ليقف عليه ويكتب إلى تقي الدين. ذكر أخبار يزك كان على عكا ولصوص دخلوا في خيام العدو ولما كان الثاني والعشرون أحضر لصوص فرساً وبغلة قد دخلوا إلى خيم العدوّ وسرقوهما، وكان قد رتب رحمه الله ثلاثمائة لص من شلوح العرب يدخلون ويسرقون منهم أموالهم وخيولهم ويسرقون الرجال أحيانا، وذلك أنه يكون الواحد منهم نائماً فيوضع على حلقه الخنجر ثم يوقظ فيرى الشلح وقد وضع الخنجر على نحره فيسكت ولا يتجاسر أن يتكلم فيحمل وهو على هذا الوضع إلى أن يخرج من الخيم ويؤخذ أسيرا، وتكلم منهم جماعة

فنحروا، فصار من أصابه ذلك لا يتكلم، واختاروا الأسر على القتل، وداموا على ذلك مدة طويلة إلى انتظام الصلح. وفي ذلك اليوم وصل من اليزك من أخبر أنهم خرجوا من عكا يتفسحون وأن اليزك حمل عليهم فأسر منهم أحداً وعشرين نفساً، وأن الأسرى أخبروهم بصحة عود الأنكتار إلى عكا وأنه مريض بها، وخبروا عن ضعف أهل عكا وفقرهم وقلة الميرة عندهم. وفي هذا التاريخ وصل للعدو مراكب عدة قيل أنها وصلت من عكا وأن فيها الأنكتار قد عاد بجماعة عظيمة ليقصد عسقلان ويعمرها، وقيل يقصد القدس، والله اعلم. ولما كان الرابع والعشرون وصل الأسرى المذكورون من الزيب وكان وصولهم فرحاً للمسلمين مبشراً بكل خير وفيه وصل رسول قزل وكان قد سيّره قبل وفاته، ورسول ابن أخيه إيناج، وفي عشيته وصل رسول من الأنكتار معه حصان إلى الملك العادل في مقابلة هدية كان أنفذها عليه، وفيه وصل خبر وفاة حسام الدين لاجين بدمشق لمرض كان اعتراه فصعب على السلطان موته وشق عليه، وفيه وصل كتاب من سامة يذكر فيه أن البرنس أغار على جبلة واللاذقية وانه كسر كسرة عظيمة وقتل منه جماعة وعاد إلى أنطاكية.

ذكر رسول الملك العادل إلى الأنكتار

ذكر رسول الملك العادل إلى الأنكتار ولما كان السادس والعشرون كان اليزك للعادل فطلب الأنكتار رسوله فأنفذ الصنيعة وهو كاتبه. وكان شاباً حسناً، فوصل إليه وهو في بازور قد خرج في جمع كثير من الرجالة وانبثوا في تلك الأرض فاجتمع به وسار معه زمناً طويلا وحادثه في معنى الصلح وقال لا ارجع عن كلام أتحدث به من أخي وصديقي، يعني العادل، وذكر له كلاماً وعاد وأخبره به، فكتبه الملك العادل في رقعة وأنفذها إلى السلطان وكان يتضمن أنك تسلم عليه وتقول له إن المسلمين والإفرنج قد هلكوا وخربت البلاد وخرجت من يد الفريقين بالكلية، وقد تلفت الأموال والأرواح من الطائفتين وقد أخذ هذا الأمر حقه وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا إلاّ واحدا. وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن. وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له وهو عندنا عظيم فيمنّ به السلطان علينا ونصطلح ونستريح من هذا التعب. ولما وقف السلطان على هذه الرسالة استدعى أرباب المشورة في دولته واستشارهم في الجواب والذي رآه السلطان أن قال القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنّه مسرى نبيّنا ومجتمع الملائكة، فلا تتصوّر أن ننزل عنه ولا نقدر على التفريط بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل واستيلاؤكم عليها كان طارئاً عليها لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت، وما يقدركم الله على عمارة حجر منها ما دام الحرب قائما، وما في أيدينا منها نأكل بحمد الله مغله وننتفع به. وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة لا يجوز لنا أن نفرّط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها، وسار هذا الجواب إليه مع الواصل منه.

ذكر هرب شيركوه بن باخل الكردي من عكا وكان أسيرا

ذكر هرب شيركوه بن باخل الكردي من عكا وكان أسيراً ولما كان آخر السادس والعشرين وصل شيركوه بن باخل وهو من جملة الأمراء المأسورين بعكا وكان من قصته أنه هرب ليلة الحادي والعشرين، وذلك أنه كان ادّخر له حبلاً في مخدّته وكان الأمير حسن بن باريك ادّخر له حبلاً في بيت الطهارة واتفقا على الهرب ونزلا من طاقة كانت في بيت الطّهارة، وانحدرا من السور الأوّل وعبر شيركوه من الباشورة وكان ابن باريك حالة نزوله انقطع به الحبل ونزل شيركوه سليماً، فرآه وقد تغير من الوقعة فكلّمه فلم يجبه، وحرّكه فلم يتحرّك، فهزّه لعلّه ينشط فيسير معه فلم يقدر، فعلم أنه إذا أقام عنده أخذا جميعا، فتركه وانصرف واشتد هرباً في قيوده حتى أتى تل العياضية وقد طلع الصبح، فأكمن في الجبل حتى علا النهار، وكسر قيده وسار وستر الله حتى أتى المعسكر ومثل بخدمة السلطان، وكان من أخباره أن سيف الدين المشطوب ضيّق عليه وأنه قطع على نفسه قطيعة عظيمة من خيل وبغال وأنواع الأموال وأن الملك الأنكتار أتى عكا وأخذ كل ما له بها من خدمه ومماليكه وأقمشته ولم يبق له منها شيئاً، وأن فلاحي الجبل يمدونه بالميرة مدداً عظيماً، وأن طغرل السلحدار أخذ خواص مماليك السلطان وهربوا قبل هروبه.

ذكر رسالة سيرني فيها الملك العادل إلى السلطان مع جماعة من الأمراء

ذكر رسالة سيّرني فيها الملك العادل إلى السلطان مع جماعة من الأمراء وذلك أنه لما كان التاسع والعشرون من رمضان استدعاني الملك العادل في صحبته، واحضر جماعة من الأمراء علم الدين سليمان وسابق الدين وعز الدين بن المقدم وحسام الدين بشارة، وشرح لنا ما عاد به رسوله من الأنكتار من الرسالة والكلام، وذلك أنه ذكر أنه قد أراد أن يتزوج الملك العادل بأخت الأنكتار وكان قد استصحبها معه من صقلية، فإنها كانت زوجة صاحبها وقد مات فأخذها أخوها لما اجتاز بصقلية، فاستقرت القاعدة على أن يكون مستقر ملكها بالقدس، وأن أخاها يعطيها بلاد الساحل التي بيده من عكا إلى يافا وعسقلان إلى غير ذلك ويجعلها ملكة الساحل ويجعله ملك الساحل ويكون ذلك مضافاً إلى ما في يده من البلاد والإقطاع وأنه يسلم إليه صليب الصلبوت وتكون القرى للداوية والأسبتار والحصون لهما وأسرانا تفك وكذلك أسراهم وأن الصلح يستقر على هذه القاعدة ويرحل الأنكتار طالباً بلاده في البحر وينفصل الأمر، هكذا ذكر رسول العادل عن الأنكتار. ولما عرف ذلك العادل بنى عليه أن استحضرنا عنده وحمّلنا هذه الرسالة إلى السلطان وجعلني المتكلم فيها ولجماعة يسمعون ونعرض عليه هذا الحديث فإن استصوبه ورآه مصلحة للمسلمين شهدنا عليه بالإذن في

ذكر عودة الرسول إلى الأنكتار بالجواب عن هذه الرسالة

ذلك والرضا به، وإن أباه شهدنا عليه أن الحال في الصلح قد انتهى إلى هذه الغاية وأنه هو الذي رأى إبطاله، فلما مثلنا بالخدمة السلطانية عرضت عليه الحديث وتلونا عليه الرسالة بمحضر من الجماعة المذكورين، فبادر إلى الرضا بهذه القاعدة معتقداً أن الأنكتار لا يوافق على ذلك أصلا، فإن هذه منه مكر وهزل، فكررت عليه الرضا بذلك ثلاث مرات وهو يقول نعم ويفرح ويشهد على نفسه به، فلما تحققنا منه ذلك عدنا إلى الملك العادل فعرّفناه بما قال، وعرّفه الجماعة أني كررت عليه الحديث في تقييد الشهادة عليه وأنه أصرّ على الإذن في ذلك واستقرّت القاعدة عليه. ذكر عودة الرسول إلى الأنكتار بالجواب عن هذه الرسالة ولما كان ثاني شوال سار ابن النحال رسولا من جانب السلطان ومن جانب الملك العادل، فلما وصل إلى مخيم العدو وأنفذ من عرف الملك بقدومه، أنفذ إليه من قال له أن الملكة عرض عليها أخوها النكاح فسقطت من ذلك وغضبت بسببه وأنكرت ذلك إنكاراً عظيماً وحلفت بدينها المغلظ من يمينها أنها لا تفعل ذلك وكيف تمكن مسلماً من غشيانها، ثم قال أخوها: إن الملك العادل يتنصر وأنا أتمم ذلك، وترك باب الكلام مفتوحا.

ولما كان خامس شوال وصل الخبر أن الأسطول الإسلامي استولى على مراكب الإفرنج وفيها مركب يعرف بالسطح، قيل أنه كان فيه أنفر وزائد على ذلك وأنه قتل منهم خلق عظيم واستبقى منهم أربعة مذكورون، وسرّ المسلمون بذلك، وضربت بشائر النصر، ونعق بوق الظفر، فلله الحمد والمنّة. ولما كان سادس شوّال جمع السلطان أكابر الأمراء وأرباب الآراء من دولته وشاورهم كيف يصنع إن خرج العدو، وكان قد تواصلت الأخبار عنهم أنهم قد اتفقوا على الخروج إلى العسكر الإسلامي، فانفصل الرأي بين ذوي الآراء على أنهم يقيمون بمنزلهم بعد تخفيف الأثقال، فإن خرج الإفرنج كانوا على لقائهم. وفي عشية ذلك اليوم استأمن من الإفرنج اثنان على فرسين وأخبرا أن العدو على عزم الخروج وأنهم زهاء عشرة آلاف فارس، وذكر أنهم لا يعرفون قصدهم، وهرب أسير مسلم من جانبهم وأخبر أنهم قد أظهر الخروج إلى الرملة ثم فيها يتعقون على موضع يقصدونه. ولما تحقق السلطان أمر الجاويش أن ينادي في العسكر حتى يتجهز جريدة وشدت الرايات واتفق على أنه يقف قبالة القوم إن خرجوا وسار في السابع مؤيداً منصوراً حتى أتى قبلي كنيسة الرملة ليلاً فخيّم هناك ليليه.

ذكر خروج الإفرنج من يافا

ذكر خروج الإفرنج من يافا ولما كانت صبيحة الثامن رتب الأبطال للقتال وسلم اليزك للملك العادل وتبعه من يريد من الغزاة وكان قد وصل وجماعة من الروم يريدون الغزاة فخرجوا في جملة من خرج فلما وصلوا إلى خيام الإفرنج هجم عليهم المماليك السلطانية لقوة جأشهم وأنسهم بقتالهم وثقتهم بمراكبهم ورموا عليهم النشاب فرآهم الغزاة والواصلون من الروم فاغتروا بإقدامهم ووافقوهم في فعلهم وقاربوا عسكر العدو فلما رأى الإفرنج تلك المضايقة والمنازلة ثارت هممهم وحركتهم نخوتهم فركبوا من داخل الخيام وصاحوا صيحة الرجل الواحد وحملوا في جمع كثير فنجا من سبق به جواده وقدر في القدم نجاته وظفروا بجماعة فقتل منهم ثلاثة نفر ونقلوا خيامهم إلى بازور وأقام السلطان في تلك الليلة بمنزلته إلى الصباح. ذكر وفاة تقي الدين الملك المظفر ولما كان الحادي عشر ركب السلطان إلى جهة العدو فأسرف عليهم ثم عاد وأمرني بالإشارة إلى أخيه بأن يحضر معه علم الدين سليمان وسابق الدين وعز الدين بن المقدم فلما مثل الجماعة بين يديه أمر خادماً أن يخلي المكان عن غير الحاضرين وكنت في جملتهم وأمر بإبعاد الناس عن الخيمة ثم أخرج

ذكر كتاب وصل من بغداد

كتاباً من قباه وفضّه ووقف عليه وبدت دموعه وغلبه البكاء والنحيب حتى وافقناه من غير أن نعلم السبب ما هو وفي أثناء ذلك ذكر أنه يتضمن وفاة الملك المظفر فأخذ الجماعة في البكاء حتى أتوا بوظيفته ثم ذكرته لله تعالى وانتهاء قضائه وقدره فقال أستغفر الله إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثم قال: المصلحة كتم ذلك وإخفاؤه لئلا يتصل بالعدو ونحن ننازله. ثم أحضر الطعام، فأكلوا الجماعة وانفصلوا، وكان الكتاب الواصل المتضمن نعيه هو غير الكتاب الواصل إلى حماة بنعيه في طي كتاب وصل من النائب بها، وكانت وفاته بطريق خلاط عائداً إلى ميافارقين فحمل ميتاً إلى ميافارقين ثم عملت له تربة عليها مدرسة مشهورة بأرض حماة وحمل إليها، وزرت ضريحه، وكانت وفاته تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانين. ذكر كتاب وصل من بغداد ولما كان الثاني عشر من شوال وصل من دمشق كتاب من النواب بها في طيه كتاب من بغداد من الديوان العزيز النبوي مجده الله يتضمن فصولاً ثلاثة: الأول الإنكار على الملك المظفر في مسيره إلى بكتمر وبولغ فيه حتى قيل إن الديوان العزيز لا يسلمه. والفصل الثاني يتضمن الإنكار على مظفر الدين في إمساك حسن بن قفجاق والأمر بإعادته إلى الكرخاني وبولغ فيه حتى قيل إن الديوان العزيز لم يأذن لغيره في سكناها. وكانت قصة حسن بن قفجاق أنه قصد أرمية إلى السلطان طغريل فإنه كان قد نزل به في معونته لما هرب من ديار العجم واستنصر

ذكر وصول صاحب صيدا رسولا

به وتزوج أخته ووقع في ذهنه أنه يكون أتابكه ويملك به البلاد فقصد أرمية فقتل أهلها على ما قيل وسبى نساءهم وذراريهم وتعرض للقوافل وكان معقله الكرخاني فلما وجد السلطان طغريل قوته تركه وانصرف عنه وعاد إلى بلاده وأظهر الفساد في الأرض والتعرض للقوافل على ما قيل فاستعطفه مظفر الدين صاحب إربل حتى عاد إليه وانخرط في سلك أصحابه وقبض عليه وأنفذ إلى الديوان العزيز ذلك وفي معناه استيلاء مظفر الدين على بلاده ولعله تشفع إلى الديوان فاقتضت عاطفته ذلك في حقه. وأما الفصل الثالث فكان يتقدم بإحضار القاضي الفاضل في الديوان رسولاً لتقرر عليه قواعد ويسر إليه أسباب. هكذا كان مضمون الكتاب، وأما الجواب عنه فإن السلطان أجاب عن الفصل الأول بأنا لم نأمره بشيء من ذلك وإنما عبر ليجمع العساكر ويعود إلى الجهاد فاتفقت أسباب اقتضت ذلك وقد أمرنا بالعود. وأما الفصل الثاني فأجاب عنه بأن عرفهم حال بأن قفجاق وما تصدى له من الفساد في الأرض وأنه تقدم إلى مظفر الدين حتى يحضره معه إلى الشام فيقطعه فيه ويكون ملازماً للجهاد. وأما الفصل الثالث فإنه اعتذر عن القاضي الفاضل بأنه كثير الأمراض وقوته تضعف عن الحركة إلى العراق. فهذا اكن حاصل الجواب. ذكر وصول صاحب صيدا رسولاً من جانب المركيس ولما كان ثالث عشر شوال وصل من

ذكر واقعة الكمين الذي استشهد فيه إياس المهراني

أخبر بوصول صاحب صيدا من جانب المركيس صاحب صور وكان قد جرى بيننا وبينه أحاديث مترددة حاصلها أنهم ينقطعون عن الإفرنج ونصرتهم ويصيرون معنا عليهم بناء على فتنة كانت جرت للمركيس مع الملوك بسبب امرأة تزوجها كانت زوجة لأخي الملك جفري وقبح نكاحها بأمر اقتضاه دينهم فاضطربت آراؤهم فيه فخاف المركيس على نفسه فأخذ زوجته وهرب تحت الليل إلى صور وأخلد إلى السلطان والاعتضاد به وكان في ذلك مصلحة للمسلمين لانقطاع المركيس عن الإفرنج فإنه كان أشدهم بأساً. وأعظمهم للحرب مراساً. وأثبتهم في التدبير أساساً. وحين اتصل خبر وصول هذا الرسول بالسلطان أمر بإجلاله واحترامه فضربت خيمة وضرب حولها شقة ووضع فيها من الطرح والفرش ما يليق بعظمائهم وملوكهم وأمر بإنزاله في الثقل يستريح ثم يجتمع به. ذكر واقعة الكمين الذي استشهد فيه إياس المهراني ولما كان سادس عشر شوال أمر السلطان الحلقة أن كمنت للعدو في بطون أودية هناك واستصحبوا جماعة من العرب فلما استقر الكمين في موضعه ظهرت العرب على جاري عادتها في مناوشتها العدو وكان العدو تخرج منه جماعة للاحتشاش والاحتطاب قريباً من مخيمة تضرب العرب وتضرب العرب عليهم فضربوا عليهم ووقع الحرب وثار الصياح وسمع العدو فركب منهم جمع من الخيالة وطلبوا جهة العرب

فانهزم العرب بين أيديهم إلى جهة الكمين والعدو يتبعهم طمعاً حتى قاربوا الكمين فخرج الكمين عليهم وصاحوا بهم صيحة الرجل الواحد فانهزموا بين أيديهم نحو خيامهم واتصل الخبر بالعدو فركب منهم خلق عظيم وقصدوا نحو الوقعة والتحم القتال واشتد الأمر وقتل جمع من الطائفتين وأسر وجرح من العدو وأخذ منهم خيل كثيرة وكان سبب انفصال الحرب أن السلطان أحس بهذه الوقعة فأنفذ أمراء أخر أسلم وسيف الدين يازكج ومن يجري مجراهما ردأً للمسلمين وقال: إذا رأيتم الغلبة على الكمين فاظهروا. فلما رأوا الكثرة من جانب العدو وخرجوا بخيلهم ورجلهم ولما رأى العدو الأطلاب الإسلامية قد صوبت نحوه أعنة خيلها ولوا الأدبار نحو خيامهم والسيف يعمل في أقفيتهم حتى دخلوا الخيام. وانفصل الحرب قبيل الظهر وكان السلطان قد ركب متشوّفاً أخبار الكمين وكنت في خدمته وكان أول من دخل من الوقعة ووصل جماعة من العرب ومعهم خمس رؤوس من الخيل قد أخذوها وانفصلوا قبل انفصال الحرب وما زالت الطلائع تتواتر والبشائر تتواصل، وقتل العدو زهاء ستين نفراً وجرح من المسلمين جماعة منهم إياس المهراني وكان شجاعاً معروفاً واستأمن اثنان بخيولهما وعدتهما وعاد السلطان إلى خيمته فرحاً مسروراً معرضاً من قتل فرسه، متلطفاً بالجريح، مترجماً على

ذكر ما جرى للملك العادل والأنكتار واجتماعهما

الشهيد. وفي بقية هذا اليوم وصل رسول الأنكتار إلى الملك العادل يعتبه على الكمين ويطلب الاجتماع به. ذكر ما جرى للملك العادل والأنكتار واجتماعهما ولما كان الثامن عشر سار الملك العادل إلى اليزك وضربت له قبة عظيمة وسار ومعه من الأطعمة والحلاوات والتجملات والتحف وما جرت العادة أن يحمل من ملك إلى ملك وهو إذا تجمل في ذلك لا يغلب، وسار الأنكتار إلى خيمته وحضر عنده فاحترمه احتراماً عظيماً ووصل مع الأنكتار إلى خيمته وأحضر من طعامهم الذي يختصون به ما أتحف به الملك العادل على وجه المطايبة فتناول منه الملك العادل وتناول هو وأصحابه الواصلون معه من طعام الملك العادل وتحادثا معظم ذلك النهار وتفاصلا على تواد ومحبة أكيدة. ذكر الرسالة التي أنفذها الأنكتار إلى السلطان وفي ذلك اليوم سأل الأنكتار الملك العادل أن يلتمس من السلطان الاجتماع به والمثول بين يديه. ولما وصلت هذه الرسالة شاور

السلطان الجماعة في الجواب فما منهم من وقع له ما وقع للسلطان. وذلك أنه قال: الملوك إذا اجتمعوا يقبح منهم المخاصمة بعد ذلك فإذا انقطع أمر حسن الاجتماع والاجتماع لا يكون إلا لمفاضة في مهم، وأنا لا أفهم بلسانك وأنت تفهم بلساني ولا بد من ترجمان بيننا نثق أنا وأنت به فليكن ذلك الترجمان رسولاً حتى يستقر أمر وتستتب قاعدة وعند ذلك يكون الاجتماع الذي يعقبه الوداد والمحبة. قال الرسول: ولما سمع الأنكتار هذا الجواب استعظمه وعلم أنه لا يقدر على بلوغ غرض إلا بالدخول تحت المراضي السلطانية ولما كان التاسع عشر جلس السلطان واستحضر صاحب صيدا لسماع رسالته وكلامه فحضر وحضر معه جماعة وصلوا معه وكنت حاضر المجلس فأكرمه إكراماً عظيماً وحادثهم وقدم بين أيديهم ما جرت به العادة. ولما فرغ الطعام خلا بهم وكان حديثهم في أن السلطان يصالح المركيس صاحب صور وكان قد انضم إليه جماعة من أكابر الإفرنجية منهم صاحب صيدا وغيره من المعروفين وقد سبقت قصته وكان من شروط الصلح معه إظهار عداوة الإفرنج البحرية وكان سبب ذلك شدة خوفه منهم وواقعة وقعت له معهم بسبب الزوجة وبذل له السلطان الموافقة على شروط قصد بها الإيقاع بينهم وأن يقتل بعضهم فلما سمع السلطان

ذكر وصول رسول الأنكتار وهو ابن الهنغري وهو من أكابرهم وملوكهم ومن أولاد ملوكهم

حديثه وعد أن يرد عليه الجواب فيما بعد وانصرف عنه في ذلك اليوم. ذكر وصول رسول الأنكتار وهو ابن الهنغري وهو من أكابرهم وملوكهم ومن أولاد ملوكهم وصل وفي صحبته شيخ كبير ذكروا أن عمره مائة وعشرون سنة فأحضره السلطان عنده وسمع كلامه. وكانت رسالته أن الملك يقول إني أحب صداقتك ومودتك وأنك ذكرت أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك فأريد أن تكون حكماً بيني وبينه ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس الشريف ومقصودي أن نقسم بحيث لا يكون عليه لوم من المسلمين ولا علي لوم من الإفرنجية فأجابه في الحال بوعد جميل ثم أذن له في العود في الحال وتأثر بذلك تأثراً عظيماً وأنفذ وراءهم من سألهم عن حديث الأسارى وكان منفصلاً عن حديث الصلح. فقال: إن كان صلح فعلى الجميع وإن لم يكن صلح فلا يكون من حديث الأسارى شيء وكان غرضه رحمه الله أن ينسخ قاعدة الصلح فإنه التفت إلي في آخر المجلس بعد انفصالهم وقال متى ما صالحناهم لا تؤمن غائلتهم فإنني لو حدث لي حادث الموت ما تكاد تجتمع هذه العساكر وتقوى الإفرنج فالمصلحة أن لا نزال على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت. هذا كان رأيه قدس الله روحه وإنما غلب على الصلح.

ذكر مشورة ضربها في التخيير بين الصلح بين الأنكتار والمركيس

ذكر مشورة ضربها في التخيير بين الصلح بين الأنكتار والمركيس ولما كان حادي عشر شوال جمع السلطان الأمراء والأكابر وأرباب المشورة وذكر لهم القاعدة التي التمسها المركيس واستقر الأمر من جانبه عليها وهي أخذ صيدا وأن يكون معنا على الإفرنج ويقاتلهم ويجاهرهم بالعدوان، وذكر ما التمسه الملك من تقرير قاعدة الصلح وهي أن تكون لنا من القرى الساحلية مواضع معينة وتكون لنا الجبليات بأسرها أو تكون القرى كلها مناصفة وعلى هذين القسمين يكون لهم قسوس فيبيع القدس الشريف وكنائسه. وكان الأنكتار قد خيرنا بين هذين القسمين فشرح قدس الله روحه الحال في القاعدتين للأمراء واستنبط آراءهم في ترجيح أحد الحالين فرأى أرباب الرأي أنه إن كان صلح فليكن مع الملك فإن مصافاة الإفرنج للمسلمين بحيث يخالطوهم بعيدة غير مأمونة الغائلة. وانفض الناس وبقي الحديث متردداً في الصلح والرسل تتواتر في تقرير قواعد الصلح. وأصل التقاعد أن الملك قد بذل أخته للملك العادل بطريق النرويج وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما، فأما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال: إن معاشر دين النصرانية قد أنكروا علي

ذكر رحيله رحمه الله إلى تل الجزر

وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمه وها أنا أسيّر رسولاً يعود في ستة أشهر فإن أذنت فيها ونعمت وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلى إذنه في ذلك. هذا كله وسوق الحرب قائم، والقتال عليهم ضربة لازم، وصاحب صيدا يركب مع الملك العادل في الأحيان ويشرف على الإفرنج وهم كلما رأوه تحركوا لطلب الصلح خوفاً من أن ينضاف المركيس إلى المسلمين وعند ذلك تنكسر شوكتهم ولم يزل الحال كذلك إلى خامس عشر شوال. ذكر رحيله رحمه الله إلى تل الجزر ولما كان ذلك اليوم أصبح الملك على عزم الرحيل وأحضر أرباب الرأي وشاورهم في جواب رسالة القوم وعرض عليهم حديثه وذكر ما عندهم في ذلك وأحضر الرسل وكان ابن الهنغري يترجم بينه وبين البحرين واستقرت القاعدة على أن ينفذ معهم رسولين: رسولاً من جانبه ومن جانب العادل الآخر لأن الحديث كان يتعلق به وكان من جملة من رسالتهم أن البابا إن أذن في هذا العقد تم، وإن لم يأذن زوجنا الملك العادل بابنة أخي الملك وهي بكر وذكروا أن من ينهم أن البابا إنما يحتاج إلى إذنه في تزويج الثيب من بنات

الملوك وأما الأبكار فيزوجها أهلها. وانفصل الحال على ذلك وسارت الرسل إلى خيم الملك العادل ليجهز رسول السلطان ويلحقه، ثم وصل بعد ذلك من اليزك من أخبر أن الفرنج قد انتشر منهم راجل كثير وخرجوا عن الأسوار التي لهم ولم يظهر لخروجهم غائلة، وسار رحمة الله عليه إلى تل الجزر لارتياد اليزك وتبعه الناس في الرحيل فما كان الظهر إلا ورحل الناس إلى السلطان ونزلنا بتل الجزر. ولما عرف الإفرنج بعود السلطان رحلوا عائدين وأقام السلطان بتل الجزر ثم رحل إلى جهة القدس الشريف ورحل الإفرنج إلى جهة بلادهم واشتد الشتاء واعظمت الأمطار وسار السلطان إلى القدس الشريف وأعطى العسكر دستوراً وأقمنا بالقدس في ذلك الشتاء أجمع. وعاد العدو إلى بلادهم ووصل الأنكتار عساكره إلى يافا وعاد إلى عكا ينظر في أحوالها فأقام مدة ثم وصل منه رسول يقول إني أوثر الاجتماع بالملك العادل ففيه مصلحة تعود على الطائفتين فقد بلغني أن السلطان فوض أمر الصلح إلى أخيه الملك العادل فاتفق الرأي في مضي الملك العادل على أنه يمضي بحيث يجتمع بعساكرنا التي في الغور وكوكب وتلك النواحي ويحدثه ويقول له أن الحديث جرى بيننا مراراً وما أسفر عن مصلحة فإن كانت هذه الدفعة كتلك الدفعات فلا حاجة إلى الحديث، وإن كان الغرض بت حال فقارب الحال وأنا لا أجتمع

ذكر مسير الملك العادل

بك إلا أن رأي ما يقارب فصل الحال وقرر مع الملك العادل أن رأى ما يمكن معه فصل الحال وإلا طاوله وماطله إلى أن تصل العساكر من الأطراف فالتمس الملك العادل تذكرة تتضمن إنهاء ما ينفصل الحال عليه فكتب تذكرة فيها المناصفات وذكر فيها من أمر بيروت أنه أصر على طلبها وأن نعطي صليب الصلبوت ويكون لهم في القمامة قس ويفتح لهم باب زيارتها بشرط أن لا يحملوا السلاح وكان الحامل على ذلك ما أخذ الناس من تعب مواظبة الغزاة وكثرة الديون والبعد عن الأوطان فإن من الناس من كان لا يفارق السلطان ولا يمكنه طلب دستور منه. ذكر مسير الملك العادل وكان مسيره من القدس الشريف عصر الجمعة رابع ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ثم وصل كتابه من كيسان يخبر أنه لقيه الهنغري مع الحاجب أبي بكر رسولاً من الأنكتار يقوا إنا قد وافقنا على قسمة البلاد وأن كل من في يده شيء فهو له، فإن كان ما في أيدينا زائداً أخذتم في مقابله ما يقابل الزيادة مما يخصنا، وإن كان ما في أيديكم أكثر فعلنا كذلك ويكون القدس لنا ولكم فيه الصخرة. هكذا كان مضمون الكتاب. فأوقف السلطان عليه الأمراء فاستصوب ذلك الأمير أبو الهيجاء ورأى من حال هذا المقال أن يوافق عليه الملك العادل وهو مصلحة. وسار الجواب إلى الملك العادل في ذلك. ولما كان

حادي عشر ربيع الأول وصل الحاجب أبو بكر صاحب الملك العادل يخبر أن الأنكتار سار إلى يافا من عكا وأن الملك العادل ما رأى أن يجتمع بخ إلا عن قاعدة منفصلة وأنه جرى بين هذا الحاجب وبين الأنكتار مفاوضات كثيرة حاصلها أنه نزل على أن تكون الصخرة لنا والقلعة في أيدينا والباقي مناصفة وأن لا يكون في البلد منهم مذكور وأن تكون قرى القدس وباطنه مناصفة ثم قدم الملك العادل في سادس عشر ربيع الأول من الغور ولقيه السلطان وحكى ما سبق من الخبر. وفي بقية ذلك اليوم وصل من أخبر أن الإفرنج أغاروا على حلة عرب قريبة من الدارون وأنهم أخذوا منهم جماعة وأنهم أخذوا منهم زهاء ألف رأس غنم فعظم ذلك على السلطان وشق عليه فسير جماعة فلم تلحقهم.

ذكر انفصال رسول المركيس

ذكر انفصال رسول المركيس وكان قد وصل يوسف غلام صاحب صيدا رسولاً من جانب المركيس يلتمس الصلح مع المسلمين فاشترط رحمه الله عليه شروطاً منها أن يقاتل جنسه ويباينهم. ومنها أن ما يأخذه من البلاد الإفرنجية بعد الصلح بانفراده يكون له وما نأخذه نحن بانفرادنا يكون لنا وما نتفق نحن وهو على أخذه تكون له نفس البلد ويكون لنا ما فيه من أسرى المسلمين وغير ذلك من الأموال. ومنها أن يطلق لنا كل أسير مسلم في مملكته. ومنها أن فوض الأنكتار إليه أمر البلاد أمر يجري بينهم كان الصلح بيننا وبينه على ما استقر بيننا وبين الأنكتار ما عدا عسقلان وما بعدها فلا يدخل في الصلح وتكون الساحليات له وما في أيدينا لنا وما في الوسط مناصفة وسار رسوله على هذه القاعدة. ولما كان يوم الاثنين الثامن والعشرون من ربيع الأول وصل أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه ووصل جريدة مقدماً على عسكره. ذكر خروج سيف الدين المشطوب من الأسر وكان وصوله إلى القدس الشريف يوم الخميس مستهل جمادى الآخرى. دخل على السلطان بغتة وعنده أخوه الملك العادل

ذكر عودة رسول صور

فنهض له وعانقه وسر به سروراً عظيماً وأخلى المكان وتحدث معه بطرف من أحاديث العدو وسأله عن حديث الصلح فذكر أن الأنكتار سكت عنه. وفي هذا اليوم كتب السلطان إلى ولده الملك الأفضل أن يسير إلى قاطع الغزاة ويستلم البلاد من الملك المنصور بن الملك المظفر وكان قد أظهر العصيان بسبب الخوف من السلطان على نفسه وأظهر ذلك ودخل في أمره الملك العادل وسير إلى الملك العادل حتى يتحدث في أمره. وكان ذلك قد شق على السلطان وأثار منه غيظاً عظيماً كيف يكون هذا الأمر من أهله ولم يكن أحد من أهله خاف منه ولا طلب يمينه وهذا كان السبب في توقف الأنكتار في الصلح فإنه ظن أن خلافه يكدر للسلطان شرب الغزاة ويحوجه إلى الموافقة على ما يرضاه فأنفذ إلى الملك الأفضل أن يسير إلى البلاد وكتب إلى الملك الظاهر بحلب المحروسة أن أخاه إن احتاج إلى معونة عاونه وجهزه بحملة كبيرة وسار باحترام عظيم حتى وصل إلى حلب وأكرمه أخوه الملك الظاهر إكراماً عظيماً وعمل له ضيافة تامة وقدم بين يديه تقدمة سنية. وعدنا إلى حديث العدو. ذكر عودة رسول صور ولما كان سادس ربيع الآخر من سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وصل يوسف من جانب المركيس يجدد حديث الصلح ويقول قد انفصل الحال على شيء بينه وبين الإفرنجية فإن نجز في هذه الأيام سارت الفرنسيسية في البجر وإن تأخر

ذكر قتل المركيس

بطل الحديث في الصلح بالكلية فرأى السلطان الصلح مع المركيس مصلحة لاشتغال قلبه من جانب الشرق وخاف أن يتصل ابن تقي الدين بكتمر فيحدث من ذلك ما يشتغل الخاطر من الجهاد فأجاب إلى ملتمس المركيس وكتب مع صاحبه مواضعة علة نعت ما تقدم، وسار يوسف الرسول بالجواب تاسع ربيع الآخر. ذكر قتل المركيس ولما كان السادس عشر من الشهر وصل من الرسول المنفذ إلى المركيس كتاب أن المركيس قتل وعجل الله بروحه إلى النار، وكانت صورة قتله أنه تقدم يوم الثلاثاء ثالث عشر عند الأسقف ثم خرج فقفز عليه اثنان من أصحابه بالسكاكين، وكان خفيفاً من الرجال، فما زالا يضربانه حتى عجل الله بروحه إلى النار، وأمسك الشخصان وسئلا عن هذا الأمر ومن حضهما عليه، فقالا: إن الأنكتار حملنا عليه، وقام بالأمر اثنان فحفظا القلعة إلى أن اتصل الخبر بالملوك وانعقد الأمر وتدبر المكان. ذكر تتمة خبر الملك المنصور وما جرى له وذلك أنه لما بلغه مؤاخذة السلطان أنفذ إلى الملك العادل رسولا يشفع به ليطيب قلب السلطان ويقترح عليه أحد

ذكر قدوم رسول ملك الروم

قسمين إما حرّان والرها وسميساط، وإما حماة ومنبج وسلمية والمعرة مع كفالة أخوته، فراجع الملك العادل السلطان مراراً فلم يجبه إلى شيء من ذلك، فكثرت الشفاعة إليه من جميع الأمراء، وهزت شجر رأفة منه، فرجع خلقه النبوي وحلف له على حران والرها وسميساط على أنه إذا عبر الفرات أعطي المواضع أفرجها وتكفل أخوته ويتخلى عن تلك المواضع التي في يده ودخلت تحت ضمان الملك العادل، ثم التمس الملك العادل خط السلطان ثانياً ولج عليه فمزق نسخة اليمين في التاسع والعشرين من ربيع الآخر، وانفصل الحال وانقطع الحديث، وكنت المتردد بينهما في ذلكن وأخذ الغيظ السلطان كيف يخاطب بمثل ذلك من جانب أولاد أولاده. ذكر قدوم رسول ملك الروم ولما كان مستهل جمادى الأولى وصل رسول من قسطنطينية الكبرى والتقى بالاحترام والإكرام ومثل بالخدمة السلطانية في ثالث الشهر، وكانت رسالته تشتمل على مطالب، منها صليب الصلبوت، ومنها أن تكون القمامة بيد قسوس من جانبه وكذا سائر كنائس القدس، ومنها أن يكون الاتفاق معه على أن يكون عدوّ من عاداه وصديق من صادقه، وأن يوافق على قصد جزيرة قبرص، فأقام عنده يومين، ثم سيّر معه رسولً يقال له ابن البزاز من الديار المصرية، وأجيب بالمنع عن جميع مقترحاته، وقيل إن الصليب قد بذل فيه ملك الكرج مائتي ألف دينار فلم يجب إلى ذلك.

ذكر ما جرى للملك العادل في البلاد التي هي قاطع الفرات

ذكر ما جرى للملك العادل في البلاد التي هي قاطع الفرات وذلك أنه لما سار الملك الأفضل رقق الملك العادل قلب السلطان على ابن تقي الدين، وقد كثر الحديث في معناه، وأنفذني السلطان لمشاورة الأمراء في خدمة الملك العادل في أمره، فجمعهم في خدمته، فذكرت لهم ما راسلني فيه إليهم، فانتدب الأمير حسام الدين أبو الهيجاء للجواب، وقال نحن عبيده ومماليكه وذلك صبي وربما حمله خوفه أن انضاف إلى جانب آخر ونحن لا نقدر على الجمع بين قتال المسلمين والكفار، فإن أراد أننا نقاتل المسلمين صالحنا الكفار وسرنا إلى ذلك الجانب وقاتلنا بين يديه، وإن أراد منا ملازمة الغزاة صالح المسلمين وسامحهم. وهذا كان جواب الجميع، فرق السلطان وجدد نسخة يمين لابن تقي الدين وحلف له بها وأعطاه خطه بما استقر من القاعدة. ثم إن الملك العادل التمس من السلطان البلاد التي كانت بيد ابن تقي الدين بعد استقلاله، وجرت مراجعات كثيرة في العوض عنها، وكنت الرسول بينهما، وكان آخر ما استقر أنه يسلم تلك البلاد وينزل عن كل ما هو شامي الفرات ما عدا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء، وحاصه بمصر بعد النزول عن الجيزة وعليه في كل سنة ستة آلاف غرارة غلة تحمل للسلطان من الصلت والبلقاء إلى المقدس والمغل في السنة المذكورة في مواضعه له ومغل قاطع الفرات في هذه السنة للسلطان أيضاً، وأخذ خط السلطان بذلك، وسار بنفسه يصلح أمر ابن تقي الدين ويطيب قلبه، وكان مسيره في ثامن جمادى الأولى.

ذكر استيلاء الفرنج على الدارون

ذكر استيلاء الفرنج على الدارون وكان الإفرنج خذلهم الله تعالى لما رأوا أن السلطان قد أعطى العساكر دستوراً وتفرقت العساكر عنه نزلوا على الدارون طمعاً فيه وكان بيد علم الدين قيصر وفيه نوابه. ولما كان يوم تاسع جمادى الأولى اشتد زحف العدو على المكان راجلاً وفارساً، وكان الأنكتار قد استنفذ من نوبة عكا نقابين جبليين فتمكنوا من نقب المكان وأحرقوا النقب وطلب أهل الحصن مهلة بحيث يشاورون السلطان فلم يمهلوهم، واشتدوا في القتال عليه فأخذوه عنوة، واستشهد فيه من قدر الله له ذلك، وأسر من قدر له ذلك، وكان ذلك قدراً مقدّراً. ذكر قصدهم لمجدل يابا ولما استولى الإفرنج على الدارون ساروا بعد أن قرروا أمره ووضعوا فيه من اختاروا حتى نزلوا على منزلة يقال لها الحسي، وهي قريب من جبل الخليل عليه السلام، وذلك رابع عشر جمادى الأولى، فأقاموا عليه ثم تأهبوا بقصد حصن يقال له مجدل يابا، فأتوه جريدة وخلفوا خيامهم في منزلتهم، وكان بها عسكر إسلامي فلقيهم وجرى بينهم قتال عظيم، وقتل من العدو كند مذكور واستشهد من المسلمين فارس واحد كان سبب قتله أنه وقع رمحه فنزل ليأخذه فمنعه فرسه الركوب فبادروه وقتلوه وعادوا إلى خيامهم بقية اليوم خائبين ولله الحمد.

ذكر وقعة جرت في صور

ذكر وقعة جرت في صور ولما كان سادس عشر جمادى وصل كتاب من حسام الدين بشارة يذكر أنه تخلف في صور مائة راكب وانضم إليهم من عكا خمسون وطمعوا فخرجوا لشن الغارات على البلاد الإسلامية، فوقع عليهم العسكر المرصد لحفظ البلاد من ذلك الطرف، وجرى بينهم قتال شديد، وقتل من العدو خمسة عشر نفراً ولم يقتل من المسلمين أحد، وعادوا خائبين ولله الحمد. ذكر قدوم العساكر الإسلامية للجهاد ولما رأى السلطان ما جرى من العدو من التنبط سير إلى العساكر من سائر الأطراف أن يسابقوا إلى الحضور، وكان أول قادم بدر الدين دلدرم مع خلق كثير من التركمان، فلقيه السلطان واحترمه، ووصل بعده عز الدين بن المقدم في سابع عشر جمادى الأولى بعسكر حسن وآلات جميلة ففرح بها السلطان. وأما العدو فإنه رحل من الحسي ونزل على مفرق طرق منها طريق

ذكر تعبية العدو لقصد القدس الشريف

عسقلان وطريق إلى بيت جبرين وإلى غير ذلك من الحصون الإسلامية، ولما بلغ السلطان ذلك أمر العساكر أن سارت نحوه، فخرج أبو الهيجاء السمين وبدر الدين دلدرم وابن المقدم، وتتابعت العسكر وتخلف هو في القدس لنوع التياث كان عرض له، فلما أحس العدو المخذول بظهور العساكر الإسلامية عاد خائباً خاسراً ناكصاً على عقبيه، ووصلت الكتب من الأمراء مخبرين برحيل العدو إلى عسقلان. ذكر تعبية العدو لقصد القدس الشريف ولما كان يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الأولى وصل قاصد من العسكر يخبر أن العدو قد خرج في راجله وفارسه وسواد عظيم وخيم على تل الصافية، فسير السلطان إلى العساكر الإسلامية ينذرها ويحذرها، واستدعى الأمراء جريدة إليه ليعقدوا رأياً فيما يقع العمل بمقتضاه، فوصل، ورحل العدو من تل الصافية إلى جانب النطرون فنزل شماليه، وذلك في السادس عشر من جمادى الأولى، وكانت قد سارت من عرب الإسلام جماعة للغزاة على يافا فوصلوا بليل من غير علم بحركة العدو، فنزلوا في بعض الطريق يقسمون، فوقعت عليهم عساكر العدو فأخذوهم وهرب منهم ستة نفر فوصلوا إلى السلطان وأخبروه الخبر، ووصلت الجواسيس وتواترت الأخبار من جانب العدو أنه مقيم بالنطرون لنقل الأزواد والآلات التي تدعو الحاجة إليها في الحرب فإذا حصل عندهم ما يحتاجون إليه قصدوا القدس الشريف حرسه الله تعالى. وفي يوم الأربعاء وصل منهم رسول صحبته غلام كان للمشطوب عندهم يحدث في معنى قراقوش ويتحدث في معنى الصلح.

ذكر نزولهم في بيت نوبة وهو موضع وطأة بين جبال يبنا بينه وبين القدس مرحلة

ذكر نزولهم في بيت نوبة وهو موضع وطأة بين جبال يبنا بينه وبين القدس مرحلة رحل العدو من النطرون يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الأولى ونزلوا بيت نوبة. ولما عرف السلطان ذلك استحضر الأمراء وضرب المشورة فيما يفعل، فكانت خلاصة الرأي أن يقسم الأسوار على الأمراء ويخرج ببقية العسكر جريدة إلى جهة العدو فإذا عرف كل قوم موضعهم من السور استعدوا، فإن دعت الحاجة إليهم خرجوا، وإن دعت الحاجة إلى ملازمة مواضعهم لازموها، فكتبت الرقاع وسيرت الأمراء. وكانت طريق يافا سابلة لمن ينقل الميرة إلى العدو، فأمر السلطان من في اليزك أن يعمل معهم ما يمكنه، وكان في اليزك بدر الدين دلدرم، فكمن حول الطريق جماعة جيدة فمرّ بهم جمع من خيالة العدو ويحمون قافلة تحمل ميرة، فاستضعفوهم، فحملوا عليهم، وجرى قتال عظيم كانت الدائرة فيه على العدو، وقتل منهم ثلاثون نفراً وأسر جماعة ووصل الأسارى في التاسع والعشرين من جمادى الأولى إلى القدس، وكان لدخولهم وقع عظيم، وجرى على العدو من ذلك وهن كبير، وقويت قلوب اليزكية، وانبعثت همومهم حتى حملوا على العسكر ونزلوا إلى أطراف الخيم ولله الحمد.

ذكر أخذ قافلة مصر حرسها الله تعالى

ولما علم المسلمون أن القوافل لا تنقطع خرج جماعة وأخذوا معهم عرباً كثيراً، وكمنوا كميناً واجتازت القافلة ومعها جماعة كثيرة فخرجت العرب على القافلة وتبعتهم الخيالة فدحروا بين أيديهم منهزمين نحو المسلمين، فخرجت الأتراك عليهم، فأخذوا وقتلوا، وجرح من الأتراك جماعة، وذلك في ثالث جمادى الآخرة. ذكر أخذ قافلة مصر حرسها الله تعالى وذلك أنه كان قد تقدم إلى عسكر مصر بالمسير وأوصاهم بالاحتراز والاحتياط عند مقاربة العدو فأقاموا ببلبيس أيّاماً حتى اجتمعت القوافل إليهم، واتصل خبرهم بالعدو، ثم ساروا طالبين البلاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إليها بالعرب المفسدين. ولما تحقق العدو خبر القوافل أمر عسكره بالاحتياط والتحفظ، وسار حتى أتى تل الصافية، فبات ثم سار حتى أتى الصافية، ثم علق على خيله فئة وسار حتى أتى ماء يقابل حسي، واتصل خبر نهضة العدو بالسلطان، فأنفذ بنذير للقافلة، وكان المندوب لذلك الأمير أخر أسلم والطنبا العادلي وجماعة من الفرسان المذكورين، وأمرهم أن يبعدوا بالقافلة في البرية ويتباعدوا عن العدو ما

أمكن، فاتفق أن العسكر وصل الحسي قبل وصول العدو عليه، فلم يقيموا عليه وساروا حتى وصلوا القفل والعسكر المصري فأتوا بالقفل على ذلك الطريق ثقة منهم بأنهم لم يجدوا فيه ذاعراً ولا أحسوا فيه بمخوف فرغبوا في قرب الطريق وسلكوا بالناس هذا الطريق حتى وصلوا إلى ماء الخويلفة، وتفرق الناس لأجل الماء، فأخبر العرب العدو بذلك وهو نازل برأس الحسي، فقام من وقته وسرى حتى أتاهم قبيل الصبح، وكان مقدم العسكر فلك الدين أخو الملك العادل لأمه، فأشار أسلم بالمسير ليلاً للطريق واستظهارا بالصعود إلى الجبل، فخاف فلك الدين أنه إن رحل بالليل جرى أمر على القافلة لتبددها فنادى في الناس أن لا يرحلوا إلى الصباح. وأما الأنكتار فبلغنا أنه لما بلغه الخبر لم يصدقه وركب مع العرب بجمع يسير، وسار حتى أتى القفل فطاف حوله في صورة عربي ورآهم ساكنين قد غشيهم النعاس فعاد واستركب عسكره، وكانت الكبسة قريب الصباح فبغت الناس ووقع عليهم بخيله ورجله، وكان الشجاع هو الذي ركب فرسه ونجا بنفسه، وانهزم الناس إلى جهة القفل والعدو يتلوهم، فلما رأوا القفل أعرضوا عن قتال العسكر وطلبوا القفل فانقسم القفل ثلاثة أقسام قسم قصدوا الكرك مع جماعة من العرب وعسكر الملك العادل وقسم أوغلوا في البرية مع جماعة من العرب أيضاً. وقسم استولى عليهم العدو فساقهم بجمالهم وأحمالهم وجميع ما كان معهم، وكانت وقعة شنعاء لم يصب الإسلام بمثلها من مدة مديدة. وكان في العسكر المصري جماعة من المذكورين كحسين الجراحي وفلك الدين وبني الجاولي وغيرهم من المذكورين. وقتل من العدو زهاء مائتي فارس على رواية، وعشرة انفس على رواية. ولم يقتل من المسلمين معروف سوى الحاجب يوسف وابن الجاولي الصغير فإنهما استشهدا إلى رحمة الله تعالى، وتبدد الناس في البرية ورموا

أموالهم، وكان السعيد منهم من نجا بنفسه، وجمع العدو ما أمكنهم جمعه من الخيل والبغال والجمال والأقمشة وسائر أنواع الأموال، وكلف الجمالين خدمة الجمال والخربندية خدمة البغال والساسة خدمة الخيل وسار في جحفل من الغنية يطلب عسكره، فنزل على الخويلفة فاستقى منها، ثم سار حتى أتى الحسي. ولقد حكى لي من كان أسيراً معهم في تلك الليلة وقع فيهم الصوت أن عسكر السلطان قد قصدهم فتركوا الغنيمة وانهزموا وبعدوا عنها زمانا ولما انكشف لهم أن العسكر لم يلحقهم عادوا إلى الرحل وهرب في تلك الغيبة جمع من أسارى المسلمين وكان الحاكي منهم فسألته بكم حزرتم الجمال والخيل؟ فاخبر أن الجمال تناهز ثلاثة آلاف والأسارى خمسمائة وتقرب من ذلك عدة الخيل. وكانت هذه الوقعة صبيحة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة، ووصل الخبر إلى السلطان في عشية ذلك اليوم بعد العشاء الآخرة، وكنت جالساً في خدمتهن وأوصل الخبر شاب من الإصطبلية، فما مرّ بالسلطان خبر أنكى منه في قلبه ولا أكثر تشويشاً لباطنه، وأخذت في تسكينه وتسليته وهو لا يكاد يقبل التسلية. وكان أصل هذه القضية أن الأمير أسلم أشار عليهم أن يصعدوا الجبل فلم يفعلوا، فصعد هو وأصحابه، فلما وقعت الكبسة كان هو على الجبل فلم يصل إليه أحد من العدو ولم يشعروا به. ولما انهزم المسلمون تبعتهم خيالة الإفرنج وأقام الرجالة منهم يستولون على ما تخلّف من المسلمين من الأقمشة، ولما تحقق الأمير أسلم أن الخيالة قد بعدت عن الرجالة نزل إليهم بمن معه من الخيالة وكبسهم من حيث لم يشعروا وقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم دواب من جملتها بغلة كانت تحت هذا القاصد. ثم سار العدو يطلب خيامه فكان وصوله إلى المخيم يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة، وكان يوماً عظيماً عندهم أظهروا فيه من السرور وأسبابه ما لا يمكن وصفه،

ذكر قدوم الملك الأفضل وأمره بالعود عن تلك البلاد وكان قد وصل إلى حلب المحروسة

وأعادوا خيمهم إلى الوطأة على بيت نوبة، وصح عزمهم على القدس، وقويت نفوسهم بما حصلوا عليه من الأموال والجمال التي كانت تحمل الميرة والزاد الواصلة من مصر مع عسكرها ورتبوا جماعة على لد يحفظون الطريق على من ينقلون الميرة، وأنفذوا الكند هري إلى صور وطرابلس وعكا يستحضر من فيها من المقاتلة ليصعدوا إلى القدس، ولما عرف السلطان ذلك منهم عاد إلى الأسوار فقسمها على الأمراء وتقدم إليهم بتهيئة أسباب الحصار، واخذ في إفساد المياه بظاهر القدس وتخريب الصهاريج والجباب بحيث لم يبق حول القدس ماء يشرب أصلا، وأطنب في ذلك إطناباً عظيماً، وأرض القدس لا يطمع في حفر بئر بها فيها ماء معين لأنها جبل عظيم وحجر صلب، وسيّر إلى العساكر يطلبها من النواحي والبلاد. ذكر قدوم الملك الأفضل وأمره بالعود عن تلك البلاد وكان قد وصل إلى حلب المحروسة ولما وصل أمر السلطان غليه بالعود عاد مع انكسار في قلبه وتشويش في باطنه، فوصل إلى دمشق مستعتباً، ولم يحضر إلى خدمة السلطان، فلما اشتد خبر الإفرنج سيّر غليه وطلبه، فما وسعه التأخر، فسار مع من كان قد وصل من العساكر الشرقية إلى دمشق، وكان وصله في يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة، ولقيه السلطان قريباً من العازرية، فترجل له جبراً لقلبه وتعظيماً لأمره، وسار وفي خدمته أخوه الملك الظافر وقطب الدين إلى ظاهر القدس.

ذكر عود العدو إلى بلادهم وسبب ذلك

ذكر عود العدو إلى بلادهم وسبب ذلك ولما كانت ليلة الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة استحضر السلطان الأمراء عنده، فحضر الأمير أبو الهيجاء السمين بمشقة عظيمة وجلس على كرسي في خيمة السلطان، وحضر المشطوب والأسدية بأسرهم وجماعة الأمراء ثم مرني أن أكلمهم وأحثهم على الجهاد، فذكرت ما يسّره الله من ذلك. وكان مما قلته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما اشتد به الأمر بايعه الصحابة رضي الله عنهم على الموت في لقاء العدو، ونحن أولى من تأسّى به صلّى الله عليه وسلّم، والمصلحة الاجتماع عند الصخرة والتحالف على الموت، ولعل ببركة هذه النية يندفع هذا العدو، فاستحسن الجماعة ذلك ووافقوا عليه، ثم شرع السلطان بعد أن سكت زماناً في صورة مفكر والناس سكوت كأن على رؤوسهم الطير فقال: الحمد لله والصلاة على رسول الله، اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم معلقة بذممكم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من تلقاه إلاّ أنتم، فإن وليتم بأنفسكم والعياذ بالله طوى البلاد طي السجل للكتاب وكان ذلك في ذمتكم فإنكم أنتم الذين تصدّيتم لهذا وأكلتم مال بيت المال، فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام. فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال: يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك، وأنت أنعمت علينا وكبرتنا وعظمتنا وأعطيتنا وليس لنا إلا رقابنا وهي بين يديك، والله لا يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن نموت. فقال الجماعة مثل ما قال. فانبسطت نفسه بذلك المجلس وطاب قلبه

وأطعمهم ثم انصرفوا وانقضى يوم الخميس على أشد حال التأهب والاهتمام حتى كانت العشاء الآخرة وجميعنا في خدمته على العادة، وسهرنا حتى مضى من الليل هزيع وهو غير منبسط على عادته ثم صلينا العشاء، وكانت العشاء هي الدستور العام، فصلينا وأخذنا في الانصراف فاستدعاني، فلما جلست في خدمته قال لي علمت ما الذي تجدد؟ قلت: لا. قال: إن أبا الهيجاء السمين أنفذ إليّ اليوم وقال أنه اجتمع عنده جماعة من المماليك وأنكروا علينا مواقفنا على الحصار وقالوا لا مصلحة في ذلك فإنا نخاف أن نحصر ويجري علينا مثل ما جرى على عكا وحينئذ تؤخذ بلاد الإسلام أجمع، والرأي أن نلقى مصاف فإن قدّر الله تعالى أن نهزمهم ملكنا بقية بلادهم. وإن تكن الأخرى يسلم العسكر ويمض القدس وقد حفظ الإسلام بعساكره مدة بغير القدس، وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال فشقت عليه هذه الرسالة. وأقمت تلك الليلة في خدمته وهي من الليالي التي أحييتها في سبيل الله. وكان مما قالوه في الرسالة إن أردت أن نقيم فتكون معنا أنت أو بعض أهلك وإلاّ فالأكراد لا يدينون للأتراك، والأتراك كذلك، فانفصل الحال على أن يقيم من أهله مجد الدين بن فخروشاه وصاحب بعلبك. وكان رحمه الله يحدث نفسه بالمقام ثم صرف رأيه عنه لما فيه من الخطر على الإسلام، فلما أن قارب الصبح وأشفقت عليه خاطبته في أن يستريح ساعة، وانصرفت عنه فما وصلت إلا والمؤذن قد أذّن، فأخذت في أسباب الوضوء فما فرغت إلا والصبح قد طلع، فعدت

إلى خدمته وهو يجدد الوضوء، فصلينا ثم قلت له قد وقع لي واقع أعرضه، قال وما هو؟ قلت: من كثر اهتمامه بما قد حمل على نفسه وقد عجزت أسبابه الأرضية ينبغي له أن يرجع إلى الله وهذا يوم الجمعة وهو أبرك أيام الأسبوع فيه دعوة مستجابة ونحن في أبر موضع فالسلطان يغتسل ويتصدق بصدقة خفية بحيث لا يشعر أحد أنها منه ويصلي بين الأذان والإقامة ركعتين يناجي فيهماربه ويفوض مقاليد أموره إليه ويعترف بالعجز عما تصدق له فلعل الله يرحمه ويستجيب دعاءه. وكان حسن العقيدة تام الإيمان يتلقى الأمور الشرعية بأكمل انقياد. ثم انفصلنا، فلما جاء وقت الجمعة صليت إلى جانبه في الأقصى، فصلى ركعتين ورأيته ساجداً وهو يذكر كلمات ودموعه تتقاطر على مصلاه، ثم انقضت الجمعة بخير، ولما كانت عشيتها ونحن في خدمته على العادة وصلت رقعة من جرديك وكان في اليزك وكان جملة ما فيها أن القوم ركبوا بأسرهم ووقفوا في التل وقت الظهيرة، ثم عادوا إلى خيامهم وقد سيّرنا جواسيس تكشف أخبارهم. ولما كانت صبيحة السبت وصلت رقعة أخرى يخبر فيها أن الجواسيس رجعوا وأخبروا أن القوم اختلفوا في الصعود إلى القدس، وقالوا نحن إنما جئنا من بلادنا بسبب القدس ولا نرجع دونه. وقال الأنكتار إن هذا الموقع قد أفسدت مياهه ولم يبق حوله ماء أصلا، فمن أين نشرب؟ فقالوا له نشرب من نهر نقوع بينه وبين القدس مقدار فرسخ، فقال كيف نذهب إلى السقي؟ فقالوا ننقسم قسمين قسم يركب إلى السقي وقسم يبقى على البلد في المنازلة ويكون الشرب في اليوم مرة، فقال الأنكتار: إذاً يؤخذ العسكر البراني الذي يذهب مع الدواب ويخرج عسكر البلد على الباقين ويذهب دين النصرانية، فانفصل الحال على أنهم حكموا ثلاثمائة من أعيانهم وحكم الثلاثمائة اثني عشر وحكم الإثنا عشر ثلاثة منهم، وقد بانوا على حكم الثلاثة، فما أمروا به فعلوه، فلما أصبحوا حكموا بالرحيل، فلم تمكنهم المخالفة وأصبحوا في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة راحلين نحو الرملة وعلى أعقابهم ناكصين ولله الحمد. ومضى عسكرهم شاكياً السلاح، ولم يبق في المنزلة إلا الآثار، ثم نزلوا الرملة وتواترت الأخبار بذلك، فركب السلطان وركب الناس وكان يوم سرور وفرح. أفسدت مياهه ولم يبق حوله ماء أصلا، فمن أين نشرب؟ فقالوا له نشرب من نهر نقوع بينه وبين القدس مقدار فرسخ، فقال كيف نذهب إلى السقي؟ فقالوا ننقسم قسمين قسم يركب إلى السقي وقسم يبقى على البلد في المنازلة ويكون الشرب في اليوم مرة،

ذكر رسالة الكندهري

فقال الأنكتار: إذاً يؤخذ العسكر البراني الذي يذهب مع الدواب ويخرج عسكر البلد على الباقين ويذهب دين النصرانية، فانفصل الحال على أنهم حكموا ثلاثمائة من أعيانهم وحكم الثلاثمائة اثني عشر وحكم الإثنا عشر ثلاثة منهم، وقد بانوا على حكم الثلاثة، فما أمروا به فعلوه، فلما أصبحوا حكموا بالرحيل، فلم تمكنهم المخالفة وأصبحوا في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة راحلين نحو الرملة وعلى أعقابهم ناكصين ولله الحمد. ومضى عسكرهم شاكياً السلاح، ولم يبق في المنزلة إلا الآثار، ثم نزلوا الرملة وتواترت الأخبار بذلك، فركب السلطان وركب الناس وكان يوم سرور وفرح. ذكر رسالة الكندهري ولما فرغ بال السلطان برحيل العدو حضر رسول الكندهري يقول أن الأنكتار قد أعطاني البلاد الساحلية وهي الآن لي فأعد علي بلادي حتى أصالحك وأكون أحد أولادك فغضب السلطان لذلك غضباً عظيماً بحيث أنه كاد يبطش به فأقيم بين يديه فسأل أن يمهل ليقول كلمة أخرى فأذن له في ذلك فقال يقول إن البلاد في يدك فما الذي تعطيني منها فانتهزه وأقامه. ولما كان اليوم الثالث والعشرين حضر الرسول وكان جوابه أن يكون الحديث بيننا في صور وعكا على ما كان مع المركيس، ثم وصل بعد ذلك الحاجب

ذكر عود رسولهم في معنى الصلح

يوسف صاحب المشطوب من عند الإفرنج وذكر أن الأنكتار أحضره وأحضر الكندهري وأخلى المجلس وقال له قيل لصاحبك أنّا قد هلكنا نحن وأنتم والأصلح حقن الدماء ولا ينبغي أن تعتقد أن ذلك لضعف مني بل للمصلحة ولا تغتر بتأخري عن منزلي فالكبش يتأخر لينطح وأن يكون هو الواسطة بينهم وبين السلطان وأنفذ مع الحاجب شخصين يسمعان الكلام من المشطوب وكان ظاهر الحال الكلام في إطلاق بهاء الدين قراقوش وباطنه في معنى آخر وأخبر الحاجب أنهم رحلوا عن الرملة قاصدين يافا وأنهم على غاية الضعف والعجز عن قصد مكان آخر فاستحضر المشطوب من نابلس لسماع الرسالة وكان الجواب إلى الكندهري أن نعطي عكا ونصالحه على مال ويتركنا والأنكتار على بقية البلاد. وكان رحمه الله قد جعل في مقابلة عكا عسكراً خشية خروج العدو إلى النواحي التي تليها فلما كان الثاني والعشرون خرج العدو من عكا غائرين على ما يليها من البلاد والرساتيق فثارت عليهم الكمينات من الجوانب وكان قد شعر العسكر الإسلامي بخروجهم فكمن لهم فأخذوا منهم جماعة وقتلوا جماعة ولله الحمد. ذكر عود رسولهم في معنى الصلح ولما كان يوم الجمعة السادس والعشرين من الشهر عاد رسولهم صحبة الحاجب يوسف وقد حمل رسالة يؤديها بحضور صاحبهم

وهي أن الملك الأنكتار يقول إني راغب في مودتك وصداقتك وأنه لا يريد أن يكون فرعون بملك الأرض ولا يطن ذلك فيك ولا يجوز لك أن تهلك المسلمين كلهم ولا يجوز لي أن أهلك الإفرنج كلهم وهذا ابن أختي الكندهري قد ملكته هذه الديار وسلمته إليك ليكون هو وعسكره تحت حكمك ولو استدعيتهم إلى الشنق سمعوا وأطاعوا ويقول إن جماعة من الرهبان المنقطعين قد طلبوا منك كنائس فما بخلت عليهم وأنا أطلب منك كنيسة وتلك الأمور التي كانت تضيق صدرك مما كان يجري في المراسلة مع الملك العادل تركتها وأعرضت عنها ولو أعطيتني مقرعة أو خربة قبلتها. فلما سمع السلطان هذه الرسالة جمع أرباب الرأي وأصحاب مشورته وسألهم عما يكون الجواب لهذه الرسالة فما منهم إلا من أشار بالمحاسنة وعقد الصلح لما كان قد أخذ المسلمين من الضجر والتعب وعلاهم من الديون. واستقر الحال على هذا الجواب. إذا دخلت معنا هذا الدخول فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، إن ابن أختك يكون عندي كبعض أولادي وسيبلغك ما فعل معه وأنا أعطيك أكبر الكنائس وهي القمامة وأما بقية البلاد فنقسمها فالساحلية التي بيدك تكون بيدك والذي بأيدينا من القلاع الجبلية يكون لنا وما بين العملين يكون مناصفة وعسقلان وما وراءها يكون خراباً لا لنا ولا لكم وإن أردتم قراها كانت لكم والذي كنت أكرهه حديث عسقلان. وانفصل الرسول طيب النفس وذلك في ثاني يوم قدومه وهو الثامن والعشرون واتصل الخبر بعد وصول الرسول إليهم أنهم راحلون إلى عسقلان طالبون جهة مصر ووصل رسول من جانب قطب الدين بن قليج أرسلان يقول إن البابا قد وصل إلى القسطنطينية في

ذكر عود رسول الإفرنج ثالثا

خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وقال الرسول إني قتلت في الطريق اثني عشر فارساً. ويقول تقدم إلى من يستلم بلادي مني فإني قد عجزت عن حفظها فلم يصدق السلطان هذا الخبر ولم يكترث به. ذكر عود رسول الإفرنج ثالثاً ولما كان التاسع والعشرون وصل الحاجب صاحب المشطوب ومعه جفري رسول الملك فقال إن الملك شكر إنعام السلطان وقال إن الذي أطلبه منك أن يكون لنا في قلعة القدس عشرون رجلاً وأن من سكن من النصارى والإفرنج لا يتعرض إليهم وأما بقية البلاد فلنا منها الساحليات والوطاة والبلاد الجبلية لكم. وأخبرنا الرسول من عند نفسه مناصحة أنه قد نزل عن حديث القدس ما عدا الزيارة ولكن يقول ذلك تصنعاً لضعفنا وأنهم راغبون في الصلح وأن الأنكتار لا بد له من الرواح إلى بلده وأقام يوم الاثنين سلخ الشهر وكان معه في هذه الدفعة بازيان هدية للسلطان فاستحضر الأمراء بأسرهم وشاورهم فيما يكون الجواب لهذه الرسالة وانفصل الحال على هذا الجواب وهو أن القدس ليس لكم فيه حديث سوى الزيارة فقال الرسول وليس على الزوار شيء يؤخذ منهم. فعلم من هذا القول الموافقة وأما البلاد كعسقلان وما وراءها فلا بد من خرابه فقال الرسول قد خسر الملك على سورها مالاً جزيلاً، فقال المشطوب للسلطان المصلحة أن نجعل مزارعها وقراها في مقابلة خسارتها فأجاب وأن الدارون وغيره تخرب وتكون بلادها مناصفة. وأما باقي البلاد فتكون لهم من يافا إلى صور بأعمالها. ومهما اختلفنا في قرية كانت مناصفة. هكذا كان جواب رسالته وسار في يوم الثلاثاء مستهل رجب ومعه الحاجب يوسف وكان قد طلب رسولاً مذكوراً يحلفه

ذكر عود الرسول

إن استقرت القاعدة فأخر السلطان تسيير الرسول إلى حين استقرار القاعدة وأنفذ لهم هدية حسنة في مقابل هديتهم وما كان يغلب في الهدايا. ذكر عود الرسول كان عوده وقد مضى هزيع من ليلة ثالث رجب فحضر الحاجب ليلاً وأخبر السلطان الخبر وحضر الرسول في بكرة الخميس الثالث من رجب وأدى الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة العامرة وأي قدر لها في ملكك وعظمتك وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها وقد ترك القدس بالكلية فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها فأنت تترك له هذه البلاد ويكون الصلح عاماً فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال ويروج وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح ولا يمكنه مخالفتهم. فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى. وكان لعنه الله مضطراً إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره والله الولي في أن يقي المسلمين شره فما بلونا أعظم حيلة ولا أشد إقداماً منه. ولما سمع السلطان هذه الرسالة أحضر الأمراء وأرباب الرأي من دولته وسألهم عن الجواب ما يكون فكا خلاصة الرأي هذا الجواب وهو: إن أهل أنطاكية لنا معهم حديث ورسلنا عندهم فإن عادوا بما نريد أدخلناهم في الصلح وإلا فلا. وأما البلاد التي سألها فلا يوافق المسلمون على دفعها إليه وإن كانت لا قدر لها. وأما سور عسقلان فيأخذ في مقابلة ما خسر عليه لدافي الوطأة وسير الرسول صبيحة الجمعة رابع رجب.

ذكر تبريزه رحمة الله عليه

ولما كان الخامس من رجب وصل ولده الملك الظاهر عز نصره وكان كثير المحبة له والإيثار لجانبه لما يراه فيه من أمارات السعادة وصفات الكفاءة وتوسم الملك فخرج السلطان إلى لقائه واحترمه وأكرمه وضمه إليه وقبله بين عينيه ونزل في دار الأسبتار. ولما كان السابع وصل الحاجب يوسف وحده وذكر أن الملك قال له لا يمكن أن نخرب من عسقلان حجراً واحداً ولا يسمع عنا في البلاد مثل ذلك. وأما البلاد فحدودها معروفة ولا مناكرة فيها وعند ذلك تأهب السلطان للخروج إلى جهة العدو وأظهر القوة وشدة العزم على اللقاء. ذكر تبريزه رحمة الله عليه ولما كان العاشر من رجب بلغ السلطان أن الإفرنج رحلوا طالبين نحو بيروت فبرز من القدس إلى منزلة يقال لها الجيب وكان قدوم الملك العادل من البلاد الفراتية في بكرة

ذكر حصار يافا

الحادي عشر فدخل الصخرة وصلى عندها ثم توجه يتبع السلطان. ثم إن السلطان رحل من الجيب إلى بيت نوبة وبعث إلى العسكر في القدس يحثهم على الخروج واللحاق به ولحقت السلطان في بيت نوبة فإني كنت تخلفت عنه ليلة الاستعداد ثم رحل في يوم الأحد الثالث عشر إلى الرملة ضحوة نهاره على تلال بين الرملة ولدّ فأقام بها بقية الأحد. ولما كانت صبيحة الاثنين ركب جريدة حتى أتى بازور وبيت جبرين فأشرف على يافا ثم عاد إلى منزلته وأقام بها بقية يومه وجمع أرباب مشورته وشاورهم في النزول على يافا واتفق الرأي على ذلك. ذكر حصار يافا ولما كان صباح الثلاثاء خامس عشرة رحل طالباً جهة يافا فخيم عليها ضحوة النهار ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً وكان طرف الميمنة على البحر وطرف الميسرة أيضاً على البحر والسلطان في الوسط وكان صاحب الميمنة الملك الظاهر أعز الله نصره وصاحب الميسرة أخاه الملك العادل والعساكر فيما بينهما. ولما كان السادس عشر من الشهر زحف الناس إليها واستحقروا أمرها استحقاراً عظيماً ثم رتب السلطان الناس للقتال وأحضر المنجنيقات وركبها على أضعف موضع في السور مما يلي الباب الشرقي وشرع النقابون في السور وارتفعت الأصوات وعظم الضجيج واشتد الحزم والزحف فأخذ النقابون النقب من شمالي الباب الشرقي إلى الزاوية بطول البدنة وكان قد هدم المسلمون ذلك المكان في الحصار الأول وبناه الإفرنج وتمكن النقابون من النقب ودخلوا

فلم يشك الناس في أخذ البلد في هذا اليوم، هذا وأمر العدو في ازدياد وكان الملك قد توجه من عكا إلى بيروت وهذا الذي حمل السلطان على نزوله على يافا ثم انفصل ذلك اليوم عن قتال شديد قد ضرس العدو منه وظهر من العدو من الشدة والحمية والذب والمنعة ما أضعف قلوب الناس، هذا والنقابون قد تمكنوا من النقب عليهم فما قارب الفراغ أخذ العدو في خسف النقب عليهم فخسفوه في مواضع عدة وخاف النقابون وخرج منهم جماعة وفتر الناس عن القتال وعلموا أن أمر البلد مشكل وأنه يحتاج إلى زيادة عمل في أخذه فعزم السلطان عزم مثله فأمر النقابين أن يأخذوا النقب في بقية البدنة من الرج إلى الباب وأمر المنجنيقات أن تضرب قبالة البدنة المنقوبة ففعلوا ذلك وأقام السلطان في تلك الليلة هناك إلى أن مضى من الليل ثلثه وعاد إلى الثقل وكان الثقل بعيداً عن البلد على تل قبالته وأصبحت المنجنيقات قد أقيم منها اثنان وأقيم الثالث في بقية النهار وأصبح السلطان على القتال والزحف فلم يجد من الناس إلا الفتور بسبب نصب المنجنيقات ظناً منهم أن المنجنيق لا يعمل إلا بعد أيام. ولما علم السلطان من الناس الفتور والتواكل حملهم على الزحف فالتحم القتال وتشتد الأمر وأذاقوا العدو مر الحرب فأشرف البلد على الأخذ واتفقت النفوس وطمعت في ذلك طمعاً شديداً وضعف العدو إلا أنه جرح من المسلمين جماعة من بالنشاب والزنبورك من البلد. ولما رأى العدو المخذول ما حل به أرسل رسولين نصرانياً وإفرنجياً يطلبان الصلح ويتحدثان فيه فطلب السلطان منهم قاعدة القدس وقطيعته

ذكر فتح يافا وما جرى فيه من الوقائع

فأجابوا إلى ذلك واشترطوا أن ينظر إلى يوم السبت الذي هو تاسع عشر رجب فإن جاءتهم النجدة وإلا تمت القاعدة على ما استقر فأبى السلطان الإنظار فعاد الرسول ثم رجعوا يسألونه الإنظار فأبى ذلك وفتر الناس عن القتال بسبب تواصل الرسل سكوناً إلى الدعة على جاري العادة فأمر السلطان النقابين بحشو النقب بعد انتهائه ففعلوا ذلك ووضعت النار فيه فوقع نصف البدنة وكان العدو قد عرف وقوع النار في النقب وعلم أن ذلك المكان يقع فعمد إلى أخشاب عظيمة وهيأها خلف ذلك المكان فلما وقع ذلك المكان التهبت النيران فمنعت من الدخول إلى الثلمة ثم أمر السلطان الناس فزحفوا وضايقوا القوم مضايقة عظيمة فلله درهم من رجال أقيال ما أشدهم وأعظم بأسهم فإنهم مع هذا كله لم يغلقوا لها باباً ولم يزالوا يقاتلون خارج الأبواب أعظم قتال حتى فصل الليل بين الطائفتين ولم نقدر على البلد في ذلك اليوم بعد حرق النقوب في باقي البدنة وضاق صدر السلطان لهذا الأمر وتقسم فكره وندم طيق لم يجبهم إلى الصلح وبات تلك الليلة في المخيم وقد عزم على أن يقيم تمام خمسة مناجيق تضرب بعضها البدنة الضعيفة بسبب النقوب والنيران والخسف من جانبهم. ذكر فتح يافا وما جرى فيه من الوقائع ولما كان يوم الجمعة ثامن عشر رجب أصبحت المنجنيقات وقد نصبت وحجارتها قد جمعت من الأودية والأماكن البعيدة لعدم الحجر في ذلك المكان وظلت ترمي البدنة المنقوبة وزحف السلطان وزحف ولده الملك الظاهر عز نصره زحفاً شديداً وزحف عسكر الملك

العادل من الميسرة فإنه كان مريضاً وارتفعت الأصوات وضربت الكؤوسات وخفقت البوقات ورمت المنجنيقات وأحاط بهم الويل واشتد عزم النقابين في إيقاد النار فما مضى من النهار ساعتان إلا ووقعت البدنة وكان وقعها كوقع الواقعة ونادى الناس إلا أن البدنة قد وقعت فلم يبق من له أدنى إيمان إلا وزحف. ولا قلب من العدو إلا أرعد ورجف، هذا الزحف وهم على القتال أشد وأحزم. وعلى الموت أعزم وأكرم. وذلك أنها لما وقعت علا لها دخان وغبار. وأظلم الأفق وعميت عين النهار. وما تجاسر أحد على الولوج خوفاً من اقتحام النار. فلما انكشفت الظلمة ظهرت أسنة قد نابت مناب الأسوار. ورماح قد سدت الثلمة حتى غيبت نفوز الأبصار. ولقد رأيت رجلين على ممشى السور يمنعان المتسلق عليه من جهة الثلمة وقد أتى أحدهما حجر المنجنيق فأخذه ونزل إلى داخل وقام رفيقه مقامه متصدياً لمثل ما لحق صاحبه في ساعة أسرع من لمح العيون بحيث لم يفرق بينهما فارق. ولما رأى العدو ما آل الأمر إليه سيروا رسولين إلى السلطان يلتمسون الأمان فقال رحمه الله الفارس بالفارس والتركبيلي بمثله والراجل بالراجل والعاجز على قطيعة القدس فنظر الرسول فرأى القتال على الثلمة أشد من إضرام النار فسأل السلطان أن يبطل القتال إلى أن يعود فقال لا أقدر على منع المسلمين من هذا الأمر ولكن ادخل إلى أصحابك فقل لهم يتجاوزون إلى القلعة ويتركون الناس يشتغلون بالبلد فما بقي دونه مانع فعاد الرسول بهذه الرسالة فانحاز العدو إلى قلعة يافا بعد أن قتل منهم جماعة عظيمة ودخل الناس البلد عنوة ونهبوا منه أقمشة عظيمة وغلالاً كثيرة وأثاثاً وبقايا قماش مما نهب من القافلة المصرية واستقرت القاعدة

على الوجه الذي قرره السلطان. ولما كان عصر الجمعة المباركة وصل السلطان كتاب من قايماز النجمي وكان في طرف العدو لحمايته من عسكر العدو الذي كان في عكا يخبر فيه أن الأنكتار لما سمع خبر يافا أعرض عن قصد بيروت وعاد إلى قصد يافا فاشتد عزم السلطان على تتمة الأمر وتسلم القلعة ممن لا ير الأمان لأنه قد لاح أخذهم وكان الناس لهم مدة لم يظفروا من العدو بمغنم ونوبتهم عليه فكان أخذهم عنوة مما بعث همم العسكر غير أن الأمان وقع واتفق الصلح فكنت بعد ذلك ممن يحث على إخراج العدو من القلعة وتسلمها خوفاً من لحوق النجدة وكان السلطان يشتهي خروجه غير أن الناس قد أقعدهم التعب عن إتمام الأمر وأخذ منهم الحديد وشدة الحر ودخان النار بحيث لم تبق لهم استطاعة على الحركة وأقام السلطان يحثهم إلى أن هوى الليل فلما رأى ما قد نزل بالناس من التعب ركب وسار إلى خيمتي وعندي من الخوف ما أقلقني عن النوم. ولما كان سحر تلك الليلة سمعنا بوق الإفرنج قد نعق فعلمنا بوصول النجدة قد وصلت من البحر فاستدعاني السلطان من وقته وقال لا شك أن النجدة قد وصلت في البحر، وعلى الساحل من عساكر الإسلام من يمنعهم من النزول والمصلحة أن تسير إلى الملك الظاهر وتقول له أن يقف بظاهر الباب القبلي وتدخل أنت ومن تراه إلى القلعة وتخرجون القوم وتستولون على ما فيها من الأموال والأسلحة وتكتبها بخطك إلى الملك الظاهر خارج البلد وهو يسيرها إلي ويسير معي لتقوية البلد مع ذلك عز الدين جرديك وعلم الدين قيصر ودرباس المهراني فسرت من ساعتي ومعي

ذكر كيفية بقاء القلعة في يد العدو

شمس الدين عدل الخزانة حتى أتيت الملك الظاهر وهو نائم على شليته على تل قريب البحر في اليزك وعليه كراغنده وهو بلأمة حربه فلا ضيع الله صنعهم في نصرة الإسلام فأيقظته فقام والنوم في عينيه وسرت في خدمته وهو يستفهم مني رسالة السلطان حتى وقف حيث أمره ودخلنا نحن إلى يافا وأتينا القلعة وأمر الإفرنج بالخروج فأجابوا إلى ذلك وتهيئوا للخروج. ذكر كيفية بقاء القلعة في يد العدو ولما أجابوا إلى الخروج قال عز الدين جرديك لا ينبغي أن يخرج منهم أحد حتى يخرج الناس من البلد خشية أن يتخطفهم الناس وكان الناس قد داخلهم الطمع في البلد وأخذ عز الدين يشتد في ضرب الناس وإخراجهم وهم غير مضبوطين بعد ولا محصورين في مكان فكيف يمكن إخراجهم وطال الأمر إلى أن علا النهار وأنا ألومه وهو لا يرجع عن ذلك والزمان مضى ولما رأيت الوقت كاد يفوت قلت إن النجدة قد وصلت والمصلحة المسارعة في إخراجهم والسلطان قد أوصاني بذلك فلما عرف السبب في حرصي أجاب إلى إخراجهم ومضينا إلى باب القلعة القريب من الباب الذي الملك العادل قائم عنده فأخرجنا تسعة وأربعين نفراً بخيولهم ونسائهم وسيرناهم ولما خرج هؤلاء اشتد الباقون وحدثتهم نفوسهم بالعصيان وكان سبب خروج من خرجوا أنهم استقلوا المراكب التي جاءتهم وظنوا أن لا نجدة لهم فيها ولم يعلموا أن الأنكتار مع القوم ورأوهم قد تأخروا عن النزول إلى علو النهار

فخافوا أن يمتنعوا فيؤخذوا ويقتلوا فخرج من خرج ثم بعد ذلك قربت النجدة حتى صاروا خمسة وثلاثين مركباً فقويت نفوس الباقين في الحصن وظهرت عليهم أمارات العصيان ودلائله وخرج منهم من أجبرني بتشويش عزمهم وأخذا الطارقيات والجنوبيات وعلوا على الأسوار وكانت القلعة جديدة لم تشرف بعد فلما رأيت الأمر قد آل إلى ذلك نزلت من التل الذي كنت واقفاً عليه وهو ملاصق لباب القلعة وقلت لعز الدين جرديك وهو مع عسكره في الأسفل مع جمع من الأجناد خذوا حذركم فقد تغيرت عزائم القوم فما كانت إلا ساعة بحيث صرت خارج البلد في خدمة الملك الظاهر إلا وقد ركب القوم خيلهم وحملوا من القلعة حملة الرجل الواحد وأخرجوا من كان في البلد من الأجناد ولقد ازدحم الناس في الباب حتى كاد يتلف منهم جماعة وبقي في بعض الكنائس جماعة من أتباع العساكر مشتغلين بما لا يجوز فهجموا عليهم وقتلوا منهم وأسوا وسيرني الملك الظاهر إلى والده السلطان أعرفه بالحال فأمر الجاويش أن ينادي في العسكر وضرب الكؤوس للقتال ونفر الناس من كل جانب للغزاة وهجموا البلد وحشر العدو في القلعة فأيقنوا بالبوار واستبطأوا نزول النجدة إليهم وخافوا خوفاً عظيماً فأرسلوا بطركهم والقسطلان رسولان إلى السلطان يعتذران إليه مما جرى ويسألان القاعدة الأولى فخرجا إلى السلطان والقتال يشتد عليهم وكان سبب انقطاع النجدة أنهم رأوا البلد مشحوناً ببيارق المسلمين ورجالهم فخافوا أن تكون القلعة قد أخذت وكان البحر يمنع من سماع الصوت من كل جانب لكثرة الضجيج والتهليل. فلما رأى من في القلعة شدة الزحف عليهم وامتناع النجدة من النزول مع كثرتها فإنها بلغت نيفاً وخمسين

ذكر حديث الصلح

مركباً منها خمسة عشر شانياً فيها شاني الملك علموا أن النجدة ظنت أن البلد قد أخذ، ورهب واحد نفسه للمسيح وقفز من القلعة إلى الميناء وكانت رملاً فلم يصبه شيء واشتد عدواً حتى أتى البحر فخرج له شاني وأخذه إلى شاني الملك فحدثه بالحديث فلما شعر الأنكتار أن القلعة مع أصحابه اندفع يطلب الساحل وكان أول شاني ألقى من فيه بالبرشانية وكان أحمر ورقبته حمراء وبيرقه أحمر فما كانت إلا ساعة حتى نزل كل من في الشواني إلى الميناء، هذا كله وأنا أشاهد ذلك ثم حملوا على المسلمين فاندفعوا بين أيديهم وأخرجوهم من الميناء وكان تحتي فرس فسقته إلى السلطان وأخبرته الخبر وبين يديه الرسولان وقد أخذ القلم بيده ليكتب لهم الأمان فعرفته في أذنه ما جرى فامتنع من الكتابة وشغلهم بالحديث فما كان إلا ساعة حتى فر المسلمون نحو السلطان فصاح في الناس فركبوا وقبض على الرسولين وأمر بترحيل الثقل والأسواق إلى بازور فرحل الناس وتخلف لهم ثقل عظيم مما كانوا نهبوه من يافا لم يقدروا على نقله ورحل الثقل وبقي السلطان جريدة في الليل وبات ليلته هناك وخرج الأنكتار إلى موضع السلطان الذي كان فيه لضيق البلد وأمر من في القلعة أن يخرجوا إليه معظم سواده فاجتمع به جماعة من المماليك وجرت بينهم أحاديث ومجاوبات كثيرة. ذكر حديث الصلح ثم طلب الحاجب أبا بكر العادلي وحضر عندهم أيبك العزيزي وسنقر المشطوبي وغيرهم وكان قد صادق جماعة من خواص المماليك ودخل معهم دخولاً عظيماً بحيث كانوا يجتمعون به في أوقات

متعددة وكان قد صادق من الأمراء جماعة كبدر الدين دلدرم وغيره فلما حضر هذا الجمع عنده جد وهزل ومن جملة ما قاله هذا السلطان عظيم وما في هذه الأرض للإسلام أكبر ولا أعظم منه كيف رحل عن المكان بمجرد وصولي والله ما لابست لأمة الحرب ولا تأهبت لأمر وليس في رجلي إلا رذول البحر فكيف تأخر، ثم قال والله العظيم الكريم ما ظننت أنه يأخذ يافا في شهرين فكيف أخذها في يومين. ثم قال لأبي بكر سلم على السلطان وقل له بالله عليك أجب سؤالي في الصلح فهذا الأمر لا بد له من آخر وقد هلكت بلادي وراء البحر وما في دوام هذا مصلحة لا لنا ولا لكم ثم انفصلوا عنه وحضر أبو بكر عند السلطان وعرفه ما قال وكان ذلك في أواخر يوم السبت تاسع عشر شهر رجب فلما سمع السلطان ذلك أحضر أرباب المشورة وانفصل الحال على أن الجواب هو: أنك كنت طلبت الصلح أولاً على قاعدة وكان الحديث في يافا وعسقلان والآن قد خربت يافا فيكون لك من صور إلى قيسارية. فمضى إليه وعرفه ما قال فرده إليه ومعه رسول إفرنجي وقال يقول الملك: إن قاعدة الإفرنج أنه إذا أعطى واحد لواحد بلداً صار تبعه وغلامه وأنا أطلب منك هذين البلدين يافا وعسقلان وتكون عساكرهما في خدمتك دائماً وإذا احتجت إلي وصلت إليك في أسرع وقت وخدمتك كما تعلم خدمتي. فكان جواب السلطان: حيث دخلت هذا المدخل فأنا أجيبك بأن نجعل هذين البلدين قسمين أحدهما لك وهو يافا وما وراءها والثاني لي وهو عسقلان وما وراءها. ثم سار الرسولان ورحل السلطان إلى الثقل وكان المخيم ببازور ورتب النقابين لذلك واليزك عندهم وسار حتى أتى الرملة فخيم بها يوم الأحد العشرين من رجب ووصل إليه الرسول مع الحاجب أبي بكر فأمر بإكرامه والإحسان إليه وكانت رسالته الشكر من الملك على إعطائه يافا وتجديد السؤال في عسقلان ويقول إنه إن وقع الصلح في هذه الأيام سار إلى بلاده ولا يحتاج أن يشتي هاهنا فأجابه السلطان في الحال بقوله: أما النزول عن عسقلان

فلا سبيل إليه وأما تشتيته هاهنا فلا بد منه لأنه قد استولى على هذه البلاد ويعلم أنه متى غاب عنها أخذت بالضرورة كما تؤخذ أيضاً إذا أقام إن شاء الله تعالى. وإذا سهل عليه أن يشتي هاهنا ويبعد عن أهله ووطنه مسيرة شهرين وهو شاب في عنفوان شبابه ووقت اقتناص لذاته أفلا يسهل علي أن أشتي وأصيف وأنا في وسط بلادي وعندي أولادي وأهلي ويأتي إلى ما أريد وأنا رجل شيخ قد كرهت لذات الدنيا وشبعت منها ورفضتها عني والعسكر الذي يكون عندي في الشتاء غير العساكر الذي يكون عندي في الصيف وأنا أعتقد أني في أعظم العبادات ولا أزال كذلك حتى يعطي الله النصر لمن يشاء. فلما سمع الرسول ذلك طلب أن يجتمع بالملك العادل فأذن له في ذلك فسار إلى خيمته وكان قد تأخر بسبب مرض اعتراه إلى موضع يقال له صمويل فسار الرسول إليه مع جماعة ثم بلغ السلطان أن عسكر العدو قد رحل من عكا قاصداً يافا للإنجاد فجمع أرباب الرأي وعقد مشورة في قصدهم فاتفق الرأي على أنهم يقصدونهم ويرحل بالثقل إلى الجبل ويقصدونهم جريدة فإن لاحت فرصة انتهزوها وإلا رجعوا عنهم وهذا أولى من أن نصبر حتى تجتمع عساكر العدو ونرحل إلى الجبل في صورة منهزمين وأما إذا وصلنا الآن ففي صورة طالبين فأمر السلطان الثقل أن يسير إلى الجبل عشية الاثنين الحادي والعشرين من رجب وسار هو جريدة في صبيحة يوم الثلاثاء حتى نزل على العوجاء ووصل إليه من أخبره أن عسكر العدو قد وصل قيسارية ودخل عليها ولم يبق فيه طمع وبلغه أن الأنكتار قد نزل خارج يافا في نفر يسير بخيم قليلة فوقع له أن ينتهز فيه الفرصة ويكبس خيمه وينال منهم غرضاً وعزم على ذلك وسار من أول الليل والأدلة من العرب تتقدمه وهو يقطع الطريق إلى أن أتى في الصباح إلى خيام العدو فوجدها تقريباً عشر خيم فداخله الطمع وحملوا

حملة الرجل الواحد فثبتوا في أمكنتهم وكشروا عن أنياب الحرب فوجموا من ثباتهم وسار العسكر حلقة واحدة. ولقد حكى لي بعض الحاضرين فإني كنت تأخرت من الثقل ولم أحضر هذه الواقعة لالتياث مزاجي أن عدة الخيل كان يحزرها المكثر سبعة عشر والمقل تسعة والرجال دون الألف فمن قائل ثلاثمائة ومن قائل أكثر من ذلك فوجد السلطان من ذلك مغيظة عظيمة ودار على الأطلاب يحثها فلم يجب دعاءه سوى ولده الملك الظاهر وقال له الجناح أخو المشطوب قل لغلمانك الذين ضربوا الناس يوم فتح يافا وأخذوا منهم الغنيمة وكان في قلوب العسكر من صلح يافا حيث فوتوهم الغنيمة ما كان وجرى ما جرى ما أثر هذا الأثر. فلما رأى السلطان ذلك رأى أن وقوفه في مقابلة هذه الشرذمة اليسيرة من غير عمل خسة في حقه وقد بلغني أن الأنكتار أخذ رمحه ذلك اليوم وحمل من طرف الميمنة إلى طرف الميسرة فلم يتعرض له أحد فغضب السلطان ثم أعرض عن القتال وسار حتى أتى بازور كالمغضب ونزل بها وذلك في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من رجب وبات العسكر باليزك ثم أصبح يوم الخميس وساروا إلى النطرون ونزل به وأنفذ إلى العسكر فأحضر عنده فوصلنا إليه آخر نهار الخميس الرابع والعشرين فبات به فأصبح يوم

ذكر قدوم العساكر

الجمعة فسار إلى أخيه العادل يفتقده ودخل القدس وصلى الجمعة ونظر العمائر ورتبها ثم عاد من يومه إلى الثقل وبات فيه على النطرون. ذكر قدوم العساكر كان أول ما وصل علاء الدين بن أتابك صاحب الموصل وكان وصوله ضحاء نهار السبت السادس والعشرين من رجب فلقيه السلطان على بعد واحترمه وأكرمه وأنزله عنده في الخيمة وعمل همة حسنة وقدم له تقدمة جميلة ثم سار إلى خيمته. وأما رسول الملك فإنه عاد في ذلك اليوم فإن الملك العادل قد حمله رسالة مشافهة إلى الملك وعاد مع الحاجب أبي بكر إلى يافا فعاد أبو بكر وحضر عند السلطان في ذلك اليوم وأخبره أن الملك لم يتركني أدخل يافا وخرج إلي وكلمني في ظاهرها وكان كلامه إلي كم أطرح نفسي على السلطان وهو لا يقبلني وأنا كنت أحرص أن أعود إلى بلادي والآن قد هجم الشتاء وتغير الأنواء وقد عزمت على الإقامة وما بقي بيننا حديث. هكذا كان جوابه خذله الله تعالى. ولما كان يوم الخميس تاسع شعبان قدم عسكر مصر فخرج السلطان إلى لقائهم وكان فيهم مجد الدين هلدري وسيف الدين يازكج وجماعة الأسدية وكان في خدمته الملك المؤيد مسعود وقد أظهروا الزينة ونشروا الأعلام والبيارق فكان يوماً مشهوداً ثم أنزلهم عنده ومد الخوان ثم ساروا إلى منازلهم.

ذكر قدوم الملك المنصور ابن تقي الدين رحمه الله

ذكر قدوم الملك المنصور ابن تقي الدين رحمه الله وكان قد تسلم البلاد التي وعد بها وكان وصوله إلى خدمة الملك العادل في يوم السبت حادي عشر شعبان فنزل عنده بماء صمويل وافتقده وكتب الملك العادل في ذلك اليوم إلى السلطان يخبره بوصوله وسأله في احترامه وإكرامه وإطلاق الرحمة له. ولما تحقق الملك الظاهر وصول الملك المنصور مخيماً يبيت نوبة فنزل عنده وخرج إلى لقائه وأقام عنده إلى العصر وذلك في يوم الأحد ثم أخذه وسار به جريدة حتى أتى خيمة السلطان ونحن في خدمته فدخل عليه فاحترمه ونهض إليه واعتنقه وضمه إلى صدره ثم غشيه البكاء فصبر نفسه حتى غلبه الأمر وغشيه من البكاء ما لم ير مثله فبكى الناس لبكائه ساعة زمانية ثم باسطه وسأله عن الطريق ثم انفصل وبات في خيمة الملك الظاهر إلى صبيحة الاثنين ثم ركب وعاد إلى عسكره ونشروا الأعلام والبيارق وكان معه عسكر جليل فقرت عين السلطان ونزل في مقدمة العسكر مما يلي الرملة. ذكر رحيله رحمه الله إلى الرملة وذلك أنه لما رأى العساكر قد اجتمعت جمع أرباب الرأي وقال إن الأنكتار قد مرض مرضاً شديداً والافرنسيسية قد ساروا راجعين ليعبروا من البحر

من غير شك ونفقاتهم قد قلت وهذا العدو قد أمكن الله منه وأرى أن نسير إلى يافا فإن وجدنا فيها مطمعاً بلغناه وإلا عدنا تحت الليل إلى عسقلان فما تلحقنا النجدة إلا وقد نلنا منها غرضاً فرأوا ذلك رأياً. وتقدم إلى جماعة من الأمراء كعز الدين جرديك وجمال الدين فرج وغيرهما بالمسير في ليلة الخميس سادس عشر شعبان حتى يكونوا قريباً من يافا في صورة يزك يستطلعون كم فيها من الخيالة والرجالة بالجواسيس ثم يعرفونه ذلك فساروا، هذا ورسل الأنكتار لا تنقطع في طلب الفاكهة والثلج ووقع عليه في مرضه شهوة الكمثرى والخوخ فكان السلطان يمده بذلك ويقصد كشف الأخبار بتواتر الرسل والذي انكشف من الأخبار أن فيها ثلاثمائة فارس على قول المكثر ومائتي فارس على قول المقل وإن الكندهري يتردد بينه وبين الفرنسية في مقامهم وهم عازمون على عبور البحر قولاً واحداً وأنهم لا عناية بسور البلد وإنما عنايتهم بعمارة سور القلعة وكان الأنكتار قد طلب الحاجب أبا بكر العادلي وكان له معه انبساط عظيم فلما تحقق السلطان الأخبار أصبح يوم الخميس راحلاً إلى جهة الرملة فنزل بها ضاحي نهار ووصل الخبر من المغيرين يقولون إنا أغرنا على يافا فلم يخرج إلا نحو ثلاثمائة فارس معظمهم على بغال فأمرهم السلطان بمقامهم هناك ثم وصل الحاجب أبو بكر ومعه رسول من عند الملك يشكر السلطان على إنعامه بالفواكه والثلج وذكر أبو بكر أنه تفرد به وقال له قل لأخي الملك العادل يبصر كيف يتوصل إلى السلطان في معنى الصلح ويستوهب لي منه عسقلان وأمضي أنا ويبقى هو في هذه الشرذمة اليسيرة يأخذ البلاد منهم

ذكر الإجابة إلى النزول عن عسقلان

فليس لي غرض إلا إقامة جاهي بين الإفرنج وإن لم ينزل السلطان عن عسقلان فيأخذ لي منه عوضاً عن خسارتي على عمارة سورها. فلما سمع السلطان سيرهم إلى الملك العادل وأسرّ إلى ثقة عنده أن يمضي إلى الملك العادل ويقول له إن نزلوا عن عسقلان فصالحهم فإن العسكر قد ضجروا من ملازمة البيكار والنفقات قد نفدت فسار ضحى الجمعة سابع عشر شعبان. ذكر الإجابة إلى النزول عن عسقلان ولما كان غروب الشمس من اليوم المذكور أنفذ بدر الدين دلدرم من اليزك يقول أنه قد خرج إلينا خمسة أنفس منهم شخص مقدم عند الملك يسمى هوات، وذكروا أن لهم معنا حديثاً فهل أسمع حديثهم أو لا؟ فأذن له السلطان في ذلك، ولما كانت العشاء الآخرة حضر بدر الدين بنفسه وأخبر أن حديثهم كان أن الملك قد نزل عن عسقلان وعن طلب العوض عنها وقد صح مقصوده في الصلح، فأعاده السلطان ثانية لينفذ إليه ثقة يأخذ يده على ذلك ويقول أن السلطان قد جمع العساكر وما يمكنني أن أحدثه هذا الحديث إلا بأن أثق أنك لا ترجع وبعد ذلك أحدثه، وسار بدر الدين على هذه القاعدة وكتب إلى الملك العادل يخبره بما جرى. ولما كان يوم السبت ثامن عشر شعبان أنفذ بدر الدين وذكر أنه أخذ يده على هذه القاعدة بمن يثق به وأن حدود البلاد على ما استقر في الدفعة الأولى مع الملك العادل فأحضر السلطان الديوان فذكروا يافا وأعمالها وأخرج الرملة ويبنا ومجدل يابا، ثم ذكر قيسارية وأعمالها وأرسوف وأعمالها

وحيفا وأعمالها وعكا وأعمالها، وأخرج منها الناصرة وصفورية وأثبت الجميع في ورقة وكتب جواب الكتاب وأنفذه على يد طرنطاي مع الرسول، وكان قد وصل الرسول لتحرير القاعدة مع بدر الدين في عصر السبت وقال للرسول هذه حدود البلاد التي تبقى في أيديكم فإن صالحتم على ذلك فمبارك قد أعطيتم يدي ولينفذ الملك من يحلف ويكون ذلك في غداة غد، وإلاّ فيعلم أن هذا تدفيع ومماطلة ويكون الأمر قد انفصل من بيننا، وساروا في بكرة الأحد على هذه القاعدة. ولما كان العشاء الآخرة يوم الأحد وصل من أخبر بوصول طرنطاي ومعه الرسول واستأذن في حضورهما، فأذن رحمه الله في حضور طرنطاي وحده، فذكره أن الملك قد وقف على تلك الرقعة وأنكر أنه نزل عن ذلك فقال: إذن أنا قتلته فلا أرجع عنه. قولوا للسلطان مبارك رضيت بهذه القاعدة وقد رجعت إلى مروءتك، فإن زدتني شيئاً فمن فضلك وإنعامك. ثم سار واحضر الرسل ليلاً، وأقاموا إلى بكرة وحضروا عند السلطان بكرة الإثنين فذكروا ما استقر عن صاحبهم ثم انفصلوا إلى خيمهم، وحضر عند السلطان أرباب المشورة واستقر الأمر وانفصلت القاعدة وسار الأمير بدر الدين دلدرم إلى الملك العادل وأخذ الرسل معه في صورة من يسأل في زيادة الرملة وعاد في عشاء الآخرة ليلة الإثنين وكتبت المواضعة وذكر فيها شروط الصلح ثلاث سنين من تاريخها وهو الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمانية وثمانين

وخمسمائة ويراد فيها الرملة لهم ولدّ أيضاً، وسيّر العدل وقال له إن قدرت أن ترضيهم بأحد الموضعين أو مناصفتها فافعل ولا يكون لهم حديث في الجبليات، ورأى السلطان ذلك مصلحة لما عرا الناس من الضعف وقلة النفقات والشوق إلى الأوطان ولما شاهده من تقاعدهم عن يافا يوم أمرهم بالحملة فلم يحملوا فخاف أن يحتاج إليهم فلم يجدهم، فرأى أن يحييهم مدة حتى يستريحوا ويتبعوا غير هذه الحالة التي صاروا غليها ويعمر البلاد ويشحن القدس بما يقدر عليه من الآلة ويتفرغ لعمارتها. وكان من القاعدة أن عسقلان تكون خراباً وأن يتفق أصحابنا وأصحابهم على خرابها خشية أن نأخذها عامرة فلا نخربها فمضى العدل على هذه القاعدة واشترط دخول البلاد الإسلامية واشترطوا هم دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في الصلح على قاعدة آخر صلح صالحناهم عليه، واستقر الحال على ذلك، وسارت الرسل وحكم عليهم أن لابد من فصل الحال إما الصلح وإما الخصومة خشية أن يكون هذا الحديث من قبيل أحاديثه السابقة ومدافعاته المعروفة. وفي ذلك اليوم وصل رسول سيف الدين بكتمر صاحب خلاط يبذل

ذكر تمام الصلح

الطاعة والموافقة وسير العساكر وحضر رسول الكرج وذكر فصلاً في معنى الزيادات التي لهم في القدس وعمارتها وشكوا أنها أخذت من أيديهم ويسأل عواطف السلطان أن يردها إلى نوابهم ورسول صاحب أرزن الروم يبذل الطاعة والعبودية. ذكر تمام الصلح ولما وصل العدل إلى هناك أنزل خارج البلد في خيمة حتى أعلم الملك به، فلما علم به استحضره عنده مع بقية الجماعة وعرض العدل عليه النسخة وهو مريض الجسم، فقال: لا طاقة لي بالوقوف عليها وأنا قد صالحت وهذه يدي فاجتمعوا بالكندهري والجماعة وأوقفوهم على النسخة ورضوا بلد والرملة مناصفة وبجميع ما في النسخة واستقرت القاعدة أنهم يحلفون بكرة يوم الأربعاء بأنهم كانوا قد أكلوا شيئاً وليس من عادتهم الحلف بعد الأكل وأنفذ العدل إلى السلطان من عرفه ذلك. ولما كان يوم الأربعاء الثاني والعشرون من شعبان حضر الجماعة عند الملك وأخذوا يده وعاهدوه، واعتذر أن الملوك لا يحلفون، وقنع السلطان بذلك ثم حلف الجماعة والمستحلف الكندهري ابن أخته المستخلف عنه في الساحل وباليان بن بارزان صاحب طبرية، ورضي الأسبتار والداوية وسائر مقدمي الإفرنجية بذلك وساروا بقية يومهم عائدين إلى المخيم السلطاني فوصلوا العشاء الآخرة وكان الواصلون من جانبهم ابن الهنغري وابن بارزان وجماعة من مقدميهم فاحترموا وأكرموا وضربت لهم خيمة

تليق بهم، وحضر العدل وحكى ما جرى. ولما كانت صبيحة الثالث والعشرين حضر الرسل في خدمة السلطان وأخذوا بيده الكريمة وعاهدوه على الصلح على القاعدة المستقرة، واقترحوا حلف جماعة وهم الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر عن نصرهم والمشطوب وبدر الدين دلدرم والملك المنصور ومن كان مجاوراً لبلادهم كابن المقدم وصاحب شيزر وغيرهم، فوعدهم السلطان أن يسير معهم رسلاً إلى الجماعة المجاورين ليحلفوهم لهم، وحلف لصاحب أنطاكية وطرابلس، وعلّق اليمين بشرط حلفهم للمسلمين فإن لم يحلفوا فلا يدخل في الصلح. ثم أمر المنادي أن ينادي في الوطاقات والأسواق ألا أن الصلح قد انتظم في سائر بلادهم فمن شاء من بلادهم أن يدخل إلى بلادنا فليفعل، ومن شاء من بلادنا أن يدخل إلى بلادهم فيفعل، وأشار رحمة الله عليه أن طريق الحج قد فتح من الشام ووقع له عزم على الحج في ذلك المجلس وكنت حاضراً ذلك جميعه، وأمر السلطان أن تسير مائة نقاب لتخريب سور عسقلان معهم أمير كبير ولإخراج الإفرنج منها ويكون معهم جماعة من الإفرنج إلى حين وقوع الخراب في السور خشية استبقائه عامراً. وكان يوماً مشهوداً غشي الناس من الطائفتين فيه من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى، والله العظيم إن الصلح لم يكن من إيثاره، فإنه قال لي في بعض محاوراته في الصلح أخاف أن أصالح وما أدري أيّ شيء يكون مني فيقوى هذا العدو وقد بقيت لهم هذه البلاد فيخرجوا لاسترداد بقية بلا دهم ونرى كل واحد من هؤلاء الجماعة قد قعد في رأس قلعته يعني حصنه وقال لا أنزل فيهلك المسلمون. هذا كلامه وكان كما قال، لكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر وتظاهرهم بالمخالفة وكانت مصلحة

ذكر خراب عسقلان

في علم الله تعالى، فإنه اتفقت وفاته بعيد الصلح، ولو كان اتفق ذلك في أثناء الوقعات لكان الإسلام على خطر، فما كان الصلح إلاّ توفيقاً وسعادة له. ذكر خراب عسقلان ولما كان الخامس والعشرون من شعبان ندب السلطان علم الدين قيصر إلى خراب عسقلان، وسيّر معه جماعة من النقابين والحجارين واستقر أن الملك ينفذ من يافا من يسير معه ليقف على التخريب ويخرج الإفرنج منها فوصلوا إليها من الغد فلما أرادوا التخريب اعتذر الأجناد الذين بها بأن لنا على الملك جانكية لمدة فإما أن يدفعها إلينا ونخرج أو ادفعوها أنتم إلينا، فوصل بعد ذلك رسول الملك يأمرهم بالخروج فخرجوا ووقع التخريب فيها في السابع والعشرين من شعبان واستمر يخربها وكتب على الجماعة رقاعاً بالمعاونة على التخريب وأعطى كل واحد قطعة معلومة في السور وقيل له دستورك في تجريبها. ولما كان التاسع والعشرون رحل السلطان إلى النطرون واختلط العسكران وذهب جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة ووصل خلق عظيم من العدو إلى القدس للحج وفتح لهم السلطان

ذكر عود العساكر الإسلامية إلى أوطانهم

الباب وأنفذ معهم الخفراء يحفظونهم حتى يردهم إلى يافا، وكثر ذلك من الإفرنج، وكان غرض السلطان بذلك أن يقضوا غرضهم من الزيارة ويرجعوا إلى بلا دهم فيأمن المسلمون من شرهم. ولما علم الملك كثرة من يزور منهم صعب عليه ذلك وسير إلى السلطان يسأله منع الزوار واقترح أن لا يؤذن لهم إلا بعد حضور علامة من جانبه أو كتابة، وعلمت الإفرنج ذلك فعظم عليهم واهتموا في الحج فكان يرد منهم في كل يوم جموع كثيرة مقدمون وأسباط وملوك متنكرون، وشرع السلطان في إكرام من يرد ومد الطعام ومباسطتهم ومحادثتهم وعرفهم إنكار الملك ذلك، واعتذر إلى الملك بأن قوماً قد وصلوا من بعد ذلك لزيارة المكان الشريف فلا أستحل منعهم، ثم اشتد المرض بالملك فرحل في ليلة التاسع والعشرين وسار هو والكندهري وسائر العدو إلى جانب عكا ولم يبق في يافا إلا مريض أو عاجز ونفر يسير. ذكر عود العساكر الإسلامية إلى أوطانهم ولما انقضى هذا الأمر واستقرت القواعد أعطى السلطان الناس دستوراً وكان أول من سار عسكر إربل، فإنه سار في مستهل شهر رمضان المبارك، ثم سار بعده في ثانية عسكر الموصل وسنجار والحصن، أشاع أمر الحج وقوى عزمه على براءة الذمة، وكان هذا مما وقع لي وبدأت

ذكر وصول رسول من بغداد

بالإشارة به، فوقع منه موقعاً عظيماً، وأمر الديوان وكل من عزم على الحج من العسكر أن يثبت اسمه حتى يحصر عدة من يدخل معنا في الطريق وكتب جرائد بما يحتاج إليه في الطريق من الخلع والأزواد وغيرها وسيرها إلى البلاد ليعدوها. ولما أعطى الناس دستوراً وعلم عود العدو رجع إلى ورائه رأى الدخول إلى القدس الشريف لتهيئة أسباب عمارته والنظر في مصالحه والتأهب في المسير إلى الحج، فرحل من النطرون يوم الأحد رابع يوم شهر رمضان وسار حتى أتى ماء صمويل يفتقد الملك العادل فوجده قد سار إلى القدس، وقد كنت عنده رسولاً من جانب السلطان أنا والأمير بدر الدين دلدرم والعدل، وكان قد انقطع عن أخيه بسبب مرضه، وكان قد تماثل فعرفناه مجيء السلطان إلى ماء صمويل لعيادته فحمل على نفسه وسار معنا حتى لقيه في ذلك المكان وهو أول وصوله إلى ماء صمويل ولم ينزل بعد فلقيه ونزل وقبّل الأرض وعاد فركب فاستدناه وسأله عن مزاجه وسار جميعاً حتى أتيا القدس الشريف في بقية ذلك اليوم. ذكر وصول رسول من بغداد ولما كان يوم الجمعة الثالث والعشرون من شهر رمضان صلّى الملك العادل الجمعة وانصرف إلى الكرك عن دستور من السلطان لينظر في أحواله ويعود إلى البلاد الشرقية يدبّرها، فإنه كان قد

ذكر توجه ولده الملك الظاهر إلى بلاده ووحشة السلطان له

أخذها من السلطان وكان قد ودّع السلطان، فلما وصل العازرية نزل بها مخيماً فوصله من أخبر أن رسولاً من بغداد واصل إليك فأنفذ إلى السلطان وعرفه فذكر له أن يجتمع ويطالع ما وصل فيه فلما كان السبت الرابع والعشرون دخل إلى الخدمة السلطانية وذكر أن الرسول قد وصل إليه من جانب ابن النافذ بعد أن ولي نيابة الوزارة ببغداد ومقصود الكتاب أنه يحثه على استعطاف قلب السلطان إلي لخدمة الشريفة والدخول بينه وبين الديوان العزيز والإنكار عليه بتأخر رسله عن العتبة الشريفة واقتراح تسيير القاضي الفاضل ليحضر الديوان العزيز في تقرير قاعدة تتحرر بينه وبين السلطان لا بد منها وقد وعد الملك العادل من الديوان بوعود عظيمة إذا قرر ذلك ويكون له يد عند الديوان يستثمرها فيما بعد وما يشبه هذا الفن فحدثت عند السلطان فكرة في إنفاذ رسول يسمع كلام الديوان ويستعلم سبب دخول الملك العادل في البين وزاد الحديث ونقص وطال وقصر وقوي العزم السلطاني على إنفاذ الضياء الشهرزوري وعاد الملك العادل إلى مخيمه بالعازرية بعد تقرير هذه القاعدة وعرفه إجابة السلطان إلى إنفاذ رسول إلى خدمة الديوان العزيز وسار يوم الاثنين طالباً جهة الكرك وسار الضياء متوجهاً إلى بغداد يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان. ذكر توجه ولده الملك الظاهر إلى بلاده ووحشة السلطان له ولما كانت بكرة التاسع والعشرين

توجه الملك الظاهر عز نصره بعد أن ودعه ونزل إلى الصخرة فصلى عندها وسأل الله تعالى ما شاء ثم ركب وركبت في خدمته فقال لي قد تذكرت أمراً أحتاج فيه إلى مراجعة السلطان مشافية فأنفذ من استأذن له العود إلى خدمته فأذن له في ذلك فحضر واستحضرني وأخلى المكان ثم قال له: أوصيك بتقوى الله تعالى فإنها رأس كل خير وآمرك بما أمر الله به فإنه سبب نجاتك وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد بها فإن الدم لا ينام وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يبقي على أحد واحذر ما بينك وبين الناس فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه فإنه كريم. وكان ذلك بعد انصرفنا من خدمته ومضى من الليل ما شاء الله إن يمضي وهذا ما أمكنني حكايته وضبطه ولم يزل بين يديه إلى قريب السحر ثم أذن له في الانصراف ونهض ليودعه فقبل وجهه ومسح رأسه وانصرف في دعة الله ونام في برج الخشب الذي للسلطان وكنا نجلس عنده في الأحياء إلى بكرة وانصرفت في خدمته إلى بعض الطريق وودعته وسار في حفظ الله. ثم سير الملك الأفضل ثقله وأقام يراجع السلطان على لساني في أشغال كانت له حتى دخل في شوال أربعة أيام وسار في ليلة الخامس منه نصف الليل عن تعتب عليه جريدة على طريق الغور.

ذكر مسيره رحمه الله من القدس الشريف

ذكر مسيره رحمه الله من القدس الشريف وأقام السلطان يقطع الناس ويعطيهم دستوراً ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية وانقطع شوقه عن الحج وكان من أكبر المصالح التي فاتته ولم يزل كذلك حتى صح عنده إقلاع مركب الأنكتار متوجهاً إلى بلاده مستهل شوال فعند ذلك حرر السلطان عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويفتقد القلاع البحرية إلى بانياس ويدخل دمشق المحروسة يقيم بها أياماً قلائل ويعود إلى القدس الشريف سائراً إلى الديار المصرية يتفقد أحوالها ويقرر قواعدها وينظر في مصالحها وأمرني بالمقام في القدس الشريف لعمارة بيمارستان أنشأه فيه وإدارة المدرسة التي أنشأها فيه إلى حين عوده وسار من القدس الشريف ضحوة نهار الخميس سادس شوال وودعته إلى البيرة ونزل بها وأكل فيها طعاماً ثم أتى بعض طريق نابلس فبات فيه ثم أتى نابلس ضحوة نهار الجمعة سابع شوال فلقيه خلق عظيم يستغيثون من المشطوب ويتضورون من سوء رعايته لهم فأقام يكشف عن أحوالهم إلى عصر يوم السبت ثم رحل ونزل بسبصطية يتفقد أحوالها ثم أتى في طريقه إلى كوكب ونظر في أحوالها وسد خللها وذلك في يوم الاثنين عاشره. وكان فكاك بهاء الدين قراقوش من ربقة الأسر يوم الثلاثاء حادي عشر شوال ومثل في الخدمة

السلطانية ففرح به فرحاً شديداً وكانت له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام واستأذن السلطان في المسير إلى تحصيل القطيعة فأذن له في ذلك وكانت القطيعة على ما بلغني ثمانين ألفاً والله أعلم. ولما وصل السلطان إلى بيروت وصل إلى خدمته البرنس صاحب أنطاكية مسترفداً فبالغ في احترامه وإكرامه ومباسطته وأنعم عليه بالعمق وزرعان ومزارع تبلغ خمسة عشر ألف دينار. وكان قد خلف المشطوب في القدس من جملة العسكر المقيمين به ولم يكن واليه وإنما كان واليه عز الدين جرديك وكان ولاه بعد الصلح حالة عوده إلى القدس بعد أن شاور فيه الملك العادل والملك الأفضل والملك الظاهر على لساني وأشار به أهل الدين والصلاح لأنه كان كثير الجد والخدمة والحفظ لأهل الخير فأمرني السلطان أن أوليه ذلك في يوم الجمعة عند الصخرة ووليته إياه بعد صلاة الجمعة واشترطت عليه الأمانة وعرفته موضع حسن اعتقاد السلطان فيه وانعقد الأمر وقام به القيام المرضي. وأما المشطوب فإنه كان مقيماً بالقدس من جملة من كان مقيماً بها وتوفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شوال ودفن في داره بعد أن صلى عليه في المسجد الأقصى رحمه الله.

ذكر عود السلطان إلى دمشق المحروسة

ذكر عود السلطان إلى دمشق المحروسة وكان عوده إليها بعد الفراغ من تصفح أحوال القلاع الساحلية بأسرها والتقدم بسد خللها وإصلاح أمور أجنادها وشحنها بالأجناد والرجال ودخل دمشق بكرة الأربعاء السادس والعشرين من شوال وفيها أولاد الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر وأولاده الصغار وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة الخميس السابع والعشرين منه وحضر الناس عنده وبلوا شوقهم من رؤيته وأنشده الشعراء وعم ذلك المجلس الخاص والعام وأقام ينشر جناح عدله. ويهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا في الأوقات المعتادة حتى كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة اتخذ الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر فإنه لما وصل إلى دمشق بلغه حركة السلطان إليها فأقام حتى يتملى بالنظر إليه ثانياً وكأن نفسه الشريفة كانت قد أحست بدنو أجل السلطان فودعه في تلك الليلة مراراً متعددة وهو يعود إليه. ولما اتخذ الملك الأفضل له دعوة أظهر فيها من بديع التجمل وغريهه ما يليق بهمته وكأنه أراد مجازاته عما خدمه به حين وصوله إلى حلب وحضرها أرباب الدنيا وأبناء الآخرة وسأل السلطان الحضور فحضر جبراً لقلبه. ذكر قدوم الملك العادل أخيه ولما تصفح الملك العادل أخبار الكرك وأمر بإصلاح ما قصد إصلاحه منه عاد طالباً البلاد الفراتية فوصل أرض دمشق يوم الأربعاء سابع عشر ذي

ذكر لقائه للحجاج

القعدة وكان السلطان قد خرج إلى لقائه وأقام يتصيد حوالي عباب إلى الكسوة حتى لقيه وسارا جميعاً وكان دخولهما دمشق آخر نهار الأحد الحادي والعشرين وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده ويتفرجون في أرض الشام وموطن الظباء وكأنه وجد راحة مما كان فيه من ملازمة التعب وسهر الليل ونصب النهار وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع تنزهه وهو لا يشعر ونسي عزمه المصري وعرضت له أمور أخرى وعزمات غير ذلك ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني إلى خدمته وكان شتاءً شديداً ووحل عظيم فخرجت من القدس الشريف في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر سنة تسع وكان وصل أوائل الحج على طريق دمشق واتفق حضوري والملك الأفضل حاضر في الإيوان الشمالي وفي خدمته خلق من الأمراء وأرباب المناصب ينتظرون جلوس السلطان لخدمته فلما شعر بحضوري استحضرني وهو وحده قبل أن يدخل إليه أحد فدخلت عليه فقام ولقيني لقاءً ما رأيت أشد من بشره بي فيه ولقد ضمني إليه ودمعت عينه. ذكر لقائه للحجاج ولما كان يوم الأربعاء ثالث عشر صفر طلبني فحضرت عنده فسألني عمن في الإيوان فأخبرته أن الملك الأفضل جالس في الخدمة والأمراء والناس

في خدمته فاعتذر إليهم على لسان جمال الدولة إقبال. ولما كانت بكرة الخميس استحضرني فحضرت عنده في صفة البستان وعنده أولاده الصغار فسأل عن الحاضرين فقيل له رسل الإفرنج وجماعة الأمراء والأكابر فاستحضر رسل الإفرنج إلى ذلك المكان فحضروا وكان له ولد صغير وكان كثيراً ما يميل إليه يسمى الأمير وكان حاضراً وهو يداعبه فلما وقع بصره على الإفرنج ورأى أشكالهم وحلق لحاهم وقص شعورهم وما عليهم من الثياب غير المألوفة خاف منهم وبكى فاعتذر إليهم وصرفهم بعد أن حضروا ولم يسمع كلامهم وقال إن لي اليوم شغلاً وكان عادته المباسطة ثم قال أحضروا لنا ما تيسر فأحضروا أرزاً بلبن وما شابه ذلك من الأطعمة الخفيفة فأكل وكنت أظن أنه ما عنده شهوة وكان في هذه الأيام يعتذر إلى الناس لثقل الحركة عليه وكان بدنه ملتاثاً ممتلئاً وعنده كسل فلما فرغنا من الطعام قال ما الذي عندك من خبر الحاج فقلت اجتمعت بجماعة منهم في الطريق ولولا كثرة الوحل لدخلوا اليوم ولكنهم غداً يدخلون. فقال نخرج إن شاء الله إلى لقائهم وتقدم بتنظيف طرقاتهم من المياه فإنها سنة كثيرة الأنداء وقد سالت المياه في الطرق والأنهار. وانفصلت من خدمته ولم أجد عنده من النشاط ما كنت أعرفه ثم ركب في بكرة الجمعة وتأخرت عنه قليلاً ثم لقيته وقد لقي الحاج وكان فيهم سابق الدين وقرالاً الياروقي وكان كثير الاحترام للمشايخ فلقيهم ثم لحقه الملك الأفضل وأخذ يحدثني فنظرت إلى السلطان فلم أجد عليه كزاغنده وما كان له عادة بركب بدونه وكان يوماً عظيماً قد اجتمع فيه للقاء

مرضه رحمة الله عليه

السلطان والتفرج عليه معظم من في البلد فلم أجد الصبر دون أن سرت إلى جانبه وحدثته في إهمال هذا فكأنه استيقظ فطلب الكزاغند فلم يوجد الزرد كماش فوجدت لذلك أمراً عظيماً وقلت في نفسي السلطان يطلب ما لا بد منه في عادته ولا يجده ووقع في قلبي تطير بذلك فقلت له أليس ثم طريق نسلكه ليس فيه خلق كثير فقال بلى ثم سار بين البساتين فطلب جهة المنيع وسرنا في خدمته وقلبي يرعد لما قد وقع فيه من الخوف عليه فسار حتى أتى القلعة فعبرا على الجسر إلى القلعة وهو طريقه المعتاد وكانت آخر ركوبه. مرضه رحمة الله عليه ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً فما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية كانت في باطنه أكثر من ظاهره وأصبح في يوم السبت سادس عشر صفر سنة تسع وثمانين متكسلاً عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت أنا والقاضي الفاضل ودخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو من قلقه في الليل وطال به الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا والقلوب عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة الملك الأفضل ولم يكن القاضي عادته ذلك فانصرف ودخلت أنا إلى الإيوان وقد مد الطعام والملك الأفضل قد جلس في موضعه فانصرفت وما كان لي قوة على الجلوس استيحاشاً وبكى جماعة تفاؤلاً بجلوس ولده في موضعه، ثم أخذ المرض في تزايد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً

ويعطي الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفة وكان مرضه في رأسه وكان من أمارات انتهاء العمر إذ كان قد ألف مزاجه سفراً وحضراً ورأى الأطباء قصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلّت رطوبات بدنه وكان يغلب عليه اليبس غلبة عظيمة ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف. ولقد جلسنا في سادس مرضه وأسندنا ظهره إلى مخدة وأحضر ماءً فاتراً ليشرب عقيب شرب دواء لتليين الطبيعة فشربه فوجده شديد الحرارة فشكا من شدة حرارته وعرض عليه ماء ثان فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله ألا يمكن أحداً تعديل الماء. فخرجت أنا والقاضي الفاضل من عنده وقد اشتد بنا البكاء والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو أن هذا بعض الناس لضرب بالقدح رأس من أحضره. واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه. ولما كان التاسع حدثت عليه غشية وامتنع من تناول المشروب فاشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا الأقمشة من الأسواق وغشي الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولقد كنت أنا والقاضي الفاضل نقعد في كل ليلة إلى أن يمضي من الليل ثلثه أو قريب منه ثم نحضر في باب الدار فإن وجدنا طريقاً دخلنا وشاهدناه وانصرفنا وإلا عرفونا أحواله من وكنا نجد الناس يترقبون خروجنا إلى أن يلاقونا حتى يعرفوا أحواله من صفحات وجوهنا. ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقن راحة وحصل بعض خفة وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً وفرح الناس فرحاً شديداً فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع ثم أتينا إلى الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالاً فالتمسنا منه تعريف الحال المستجد

ذكر تحليف الأفضل

فدخل وأنفذ إلينا مع الملك المعظم تورانشاه جبره الله تعالى أن العرق قد أخذ في ساقيه فشكرنا الله تعالى على ذلك والتمسنا منه أن يمس بقية قدمه ويخبرنا بحاله في العرق فتفقده ثم خرج إلينا وذكر أن العرق سابغ وانصرفنا طيبة قلوبنا ثم أصبحنا في الحادي عشر من مرضه وهو السادس والعشرين من صفر فحضرنا بالباب وسألنا عن الأحوال فاخبرنا بأن العرق أفرط حتى نفذ في الفراش ثم في الحصر وتأثرت به الأرض وأن اليبس قد تزايد تزيداً عظيماً وحارت في القوة الأطباء. ذكر تحليف الأفضل ولما رأى الملك الأفضل ما حل بوالده وتحقق الناس من موته تسرع في تحنف الناس في دار رضوان المعرفة بسكناه واستحضر القضاة وعمل له نسخة يمين مختصرة محصلة للمقاصد تتضمن الحلف للسلطان مدة حياته وله بعد وفاته واعتذر إلى الناس بأن المرض قد اشتد وما يعلم ما يكون، وما يفعل هذا إلا احتياطاً على جاري عادة الملوك فأول من استحضر للحلف سعد الدين أخو بدر الدين مودود الشحنة فبادر إلى اليمن من غير شرط ثم حضر ناصر الدين صاحب صهيون وزاد

أن الحصن الذي في يده له وسابق الدين صاحب شيزر فحلف ولم يذكر الطلاق واعتذر بأنه ما حلف به. ثم حضر خشتر بن حسين الهكاوي وحلف. وحضر أنوشروان الزرزاري وحلف واشترط أن يكون له خبز يرضيه. وحضر علكان وملكان وحلفا ثم مد الخوان وحضر الجماعة وأكلوا. ولما كان العصر أعيد المجلس للتحلف وحضر ميمون القصري رحمه الله وشمس الدين الكبير وقالا نحلف بشرط أن لا نسل في وجه أحد من أخوتك سيفاً لكن رأسي دون بلادك. هذا قول ميمون القصري. وأما سنقر فإنه امتنع ساعة ثم قال: كنت خلفتني على النطرون وأنا عليها وحضر سامه وقال ليس لي خبز فقل لي على أي شيء أحلف. فرجع وحلف وعلق يمينه بشرط أن يعطى خبزاً يرضيه. وحضر سنقر المشطوب وحلف واشترط أن يرضى. وحضر أيبك الأفطس رحمه الله واشترط رضاه. وحضر حسام الدين بشارة وحلف وكان مقدماً على هؤلاء ولم يحضر أحد من الأمراء المصريين ولم يتعرض لهم بل حلف هؤلاء للتقرير. ونسخة اليمين المحلوف بها مضمونها أني من وقتي هذا صفيت نيتي. وأخلصت طويتي. للملك الناصر مدة حياته وأني لا أزال باذلاً جهدي في الذب عن دولته بنفسي ومالي وسيفي ورجالي ممتثلاً أمره واقفاً عند مراضيه. ثم من بعده

ذكر وفاته رحمه الله وقدس روحه

لولده الأفضل علي ووريثه. ووالله إنني في طاعته وأذب عن دولته وبلاده بنفسي ومالي وسيفي ورجالي وأمتثل أمره ونهيه وباطني وظاهري في ذلك سواء والله على ما أقول وكيل. ذكر وفاته رحمه الله وقدس روحه ولما كانت ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من صفر وهي الثانية عشرة من مرضه اشتد مرضه وضعفت قوته ووقع من الأمر في أوله وحال بيننا وبينه النساء واستحضرت أنا والقاضي الفاضل تلك الليلة وابن الزكي ولم يكن عادته الحضور في ذلك الوقت وحضر بيننا الملك الأفضل وأمر أن نبيت عنده فلم ير القاضي الفاضل ذلك رأياً فإن الناس كانوا ينتظرون نزولنا من القلعة فخاف إن لم ننزل أن يقع الصوت في البلد وربما نهب الناس بعضهم بعضاً فرأى المصلحة في نزولنا واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاسة وهو رجل صالح ليبيت بالقلعة حتى إذا أحضر رحمه الله بالليل حضر عنده وحال بينه وبين النساء وذكره الشهادة وذكر الله تعالى ففعل ذلك ونزلنا وكل منا يود فداءه بنفسه وبات في تلك الليلة على حال المنتقلين إلى الله تعالى والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القرآن ويذكر الله تعالى وكان ذهنه غائباً من ليلة التاسع لا يكاد يفيق إلا في أحيان. وذكر

الشيخ أبو جعفر أنه لما انتهى إلى قوله تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة. سمعه وهو يقول رحمة الله عليه: صحيح. وهذه يقظة في وقت الحاجة وعناية من الله تعالى به فلله الحمد على ذلك. وكانت وفاته بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسعة وثمانين وخمسمائة وبادر القاضي الفاضل بعد طلوع الصبح في وقت وفاته ووصلت وقد مات وانتقل إلى رضوان الله ومحل كرمه وجزيل ثوابه، ولقد حكي لي أنه لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى: لا إله إلا هو عليه توكلت. تبسم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه، وكان يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله منذ فقدوا الخلفاء الراشدين وغشي القلعة والبلد والدنيا من الوحشة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص إلا في ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس. ثم جلس ولده الملك الأفضل للعزاء في الإيوان الشمالي وحفظ باب القلعة إلا عن الخواص من الأمراء والمعممين وكان يوماً عظيماً وقد شغل كل إنسان ما عنده من الحزن والأسف والبكاء والاستغاثة من أن ينظر إلى غيره وحفظ المجلس عن أن ينشد فيه شاعر أو يتكلم فيه فاضل وواعظ. وكان أولاده يخرجون مستغيثين إلى الناس فتكاد النفوس تزهق لهول منظرهم. ودام الحال على هذا إلى ما بعد صلاة الظهر. ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه فما أمكننا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي بلت الطين وغسله الدولعي الفقيه ونهضت إلى الوقوف على غسله فلم تكن لي قوة تحمل ذلك المنظر وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجى بثوب فوط. وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل من وجه حل عرفه

وارتفعت الأصوات عند مشاهدته وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة فصلى عليه الناس أرسالاً وكان أول من أم بالناس القاضي محيي الدين ابن الزكي ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وكان متمرضاً بها ودفن في الصفة الغربية منها. وكان نزوله في حفرته قدس الله روحه ونوّر ضريحه قريباً من صلاة العصر ثم نزل في أثناء النهار ولده الملك الظافر وعزى الناس فيه وسكن قلوب الناس وكان الناس قد شغلهم البكاء عن الإشغال بالنهب والفساد فما وجد قلب إلا حزين ولا عين إلا باكية إلا من شاء الله. ثم رجع الناس إلى بيوتهم أقبح رجوع ولم يعد أحد منهم في تلك الليلة إلا نحن حضرنا وقرأنا وجددنا حالاً من الحزن. واشتغل في ذلك اليوم الملك الأفضل بكتابة الكتب إلى عمه وأخواته يخبرهم بهذا الحادث. وفي اليوم الثاني جلس للعزاء جلوساً عاماً وأطلق باب القلعة للفقهاء والعلماء وتكلم المتكلمون ولم ينشد شاعر ثم انفض المجلس في ظهر ذلك اليوم واستمر الحال في حضور الناس بكرة وعشية وقراءة القرآن والدعاء له رحمة الله عليه واشتغل الملك الأفضل بتدبير أمر ومراسلة أخوته وعمه. ثم انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنها وكأنهم أحلام تم بعون الله والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

§1/1