النكت في إعجاز القرآن

أبو الحسن الرماني

(2) النكت في إعجاز القرآن لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني (296هـ - 386هـ)

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم قال الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن عيسى الرماني سألت وفقك الله عن ذكر النكت في إعجاز القرآن دون تطويل بالحجاج , وأنا أجتهد في بلوغ محبتك , والله الموفق للصواب بمنه ورحمته , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة , والتحدي للكافة , والصرفة , والبلاغة: والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة , ونقض العادة , وقياسه بكل معجزة. فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة , ومنها ما هو في أدنى طبقة , ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان في أعلاها طبقة فهو معجز , وهو بلاغة القرآن. وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس. وليست البلاغة إفهام المعنى , لأنه قد يفهم المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عيي؛ ولا البلاغة أيضاً بتحقيق اللفظ على المعنى , لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلف , وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى

باب الإيجاز

القلب في أحسن صورة من اللفظ. فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن , وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة , وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم كإعجاز الشعر المغحم , فهذا معجز للمفحم خاصة كما أن ذلك معجز للكافة. والبلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز , والتشبيه , والاستعارة , والتلاؤم والفواصل , والتجانس , والتصريف , والتضمين , والمبالغة , وحسن البيان ونحن نفسرها بابا بابا إن شاء الله تعالى. باب الإيجاز الإيجاز تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى , وإذا كان المعنى يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة ويمكن أن يعبر عنه بألفاظ قليلة , فالألفاظ القليلة إيجاز. والإيجاز على وجهين: حذف , وقصر , فالحذف إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام , والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف. فمن الحذف {واسئل القرية} ومنه {ولكن البر من اتقى} , ومنه {براءة من الله} , ومنه {طاعة وقول معروف}. ومنه حذف الأجوبة , وهو أبلغ من الذكر , وماجاء منه في القرآن كثير كقوله جل ثناؤه: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} كأنه قيل: لكان هذا القرآن. ومنه {وسيق الذين اتقول ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها} كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه

التنغيص والتكدير , وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب , ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان , فحذف الجواب في قولك: لو رأيت عليًا بين الصفين , أبلغ من الذكر لما بيناه. وأما الإيجاز بالقصر دون الحذف فهو أغمض من الحذف وإن كان الحذف غامضًا , للحاجة إلى العلم بالمواضع التي يصلح فيها من المواضع التي لا يصلح , فمن ذلك: {ولكم في القصاص حياة} , ومنه {يحسبون كل صيحة عليهم} , ومنه {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها} ومنه {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} , ومنه {إنما بغيكم على أنفسكم} ومنه: {ولا يحيق المكر السيئُ إلا بأهله} وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير , وقد استحسن الناس من الإيجاز قولهم: القتل أنفى للقتل , وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة والإيجاز , وذلك يظهر من أربعة أوجه: إنه أكثر في الفائدة , وأوجز في العبارة وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة , وأحسن تأليفًا بالحروف المتلائمة. أما الكثرة في الفائدة فيه ففيه كل ما في قولهم: القتل أنفى للقتل , وزيادة معان حسنة , منها إبانة العدل لذكره القصاص , ومنها

إبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة؛ ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به. وأما الإيجاز في العبارة فإن الذي هو نظير - القتل أنفى للقتل - قوله {القصاص حياة} , والأول أربعة عشر حرفا , والثاني عشرة أحرف وأما بعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة فإن قولهم: القتل أنفى للقتل تكريرا غيره أبلغ منه , ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر في باب البلاغة عن أعلى طبقة , وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس وموجود في اللفظ. فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام , وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام , فباجتماع هذه الأمور التي ذكرناها صار أبلغ منه وأحسن , وإن كان الأول بليغًا حسنا. وظهور الإعجاز في الوجوه التي نبينها يكون باجتماع أمور يظهر بها للنفس أن الكلام من البلاغة في أعلى طبقة , وإن كان قد يتلبس فيما قل بما حسن جدا لإيجازه , وحسن رونقه , وعذوبة لفظه , وصحة معناه. كقول علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن. فهذا كلام عجيب يغني ظهور حسنه عن وصفه , فمثل هذه الشذرات لا يظهر بها حكم , فإذا انتظم الكلام حتى يكون كأقصر سورة أو أطول آية ظهر حكم الإعجاز , كما وقع التحدي في قوله تعالى: {فأتوا بسورة من مثله} , فبان الإعجاز عن ظهور مقدار السورة من القرآن والإيجاز بلاغة , والتقصير عيي , كما أن الإطناب بلاغة والتطويل عيي , والإيجاز لا إخلال فيه بالمعنى المدلول عليه , وليس كذلك التقصير , لأنه لا بد فيه من الإخلال. فأما الإطناب فإنما يكون في تفصيل المعنى وما يتعلق

به في المواضع التي يحسن فيها ذكر التفصيل , فإن لكل واحد من الإيجاز والإطناب موضعا يكون به أولى من الآخر , لأن الحاجة إليه أشد , والاهتمام به أعظم , فأما التطويل فعيب وعي , لأنه تكلف فيه الكثير فيما يكفي منه القليل , فكان كالسالك طريقا بعيدا جهلا منه بالطريق القريب. وأما الإطناب فليس كذلك لأنه كمن سلك طريقًا بعيدا لما فيه من النزهة الكثيرة والفوائد العظيمة , فيحمل في الطريق إلى غرضه من الفائدة على نحو ما يحصل له بالغرض المطلوب. والإيجاز على وجهين: أحدهما إظهار النكتة بعد الفهم لشرح الجملة , والآخر إحضار المعنى بأقل ما يمكن من العبارة , والوجه الأول يكون كثيرا في العلوم القياسية , وذلك أنه إذا فهم شرح الجملة كفى بعد ذلك حفظ النكتة لأنها تكون حينئذ دالة ومغنية عن التعلق بها في نفسها , لتعلق النكتة بها , فهذا الضرب من الإيجاز لا يكون إلا بعد أحوال متقررة من الفهم لشرح الجملة فحينئذ تكون النكتة مغنية , وأما الوجه الآخر فمستأنف لم يقرر له حال خاصة يكون جارا لها من حيث تعلق بها من فهم كيف وجه التعلق فيهما. والإيجاز على ثلاثة أوجه: الإيجاز بسلوك الطريق الأقرب دون الأبعد , وإيجاز باعتماد الغرض دون ما تشعب , وإيجاز بإظهار الفائدة بما يستحسن دون ما يستقبل , لأن المستقبل ثقيل على النفس؛ فقد يكون للمعنى طريقان أحدهما أقرب من الآخر كقولك: تحرك حركة سريعة - في موضع أسرع وقد يكتنف الغرض شعب كثيرة كالتشبيب قبل المديح , وكالصفات

باب التشبيه

لما يعترض الكلام مما ليس عليه الاعتماد , وإذا ظهرت الفائدة بما يستحسن فهو إيجاز لخفته على النفس. وإذا عرفت الإيجاز ومراتبه. وتأملت ما جاء في القرآن منه , عرفت فضيلته على سائر الكلام , وهو علوه على غيره من سائر الكلام , وعلوه على غيره من أنواع البيان , والإيجاز تهذيب الكلام بما يحسن به البيان , والإيجاز تصفية الألفاظ من الكدر وتخليصها من الدرن , والإيجاز البيان عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ , والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير , والإيجاز والإكثار إنما هما في المعنى الواحد , وذلك ظاهر في جملة العدد وتفصيله كقول القائل لي عنده خمسة وثلاثة واثنان في موضع عشرة وقد يطول الكلام في البيان عن المعاني المختلفة وهو مع ذلك في نهاية الإيجاز. وإذا كان الإطناب لا منزلة إلا ويحسن أكثر منها فالإطناب حينئذ إيجاز كصفة ما يستحقه الله تعالى من الشكر على نعمه , فإطناب فيه إيجاز. باب التشبيه التشبيه هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل ولا يخلو التشبيه من أن يكون في القول أو في النفس. فأما القول فنحو قولك: زيد شديد كالأسد. فالكاف عقدت المشبه به بالمشبه , وأما العقد في النفس فالاعتقاد لمعنى هذا القول. وأما التشبيه الحسي فكماءين وذهبين يوم أحدهما مقام الآخر ونحوه , وأما التشبيه النفسي فتحو تشبيه قوة

زيد بقوة عمرو , فالقوة لا تشاهد ولكنها تعلم سادة مسد أخرى فتشبه. والتشبيه على وجهين: تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما , وتشبيه شيئين مختلفين لمعنى يجمعهما مشترك بينهما , فالأول كتشبيه الجوهر بالجوهر وتشبيه السواد بالسواد والثاني كتشبيه الشدة بالموت والبيان بالسحر الحلال. والتشبيه البليغ إخراج الأغمض إلى الأظهر بأداة التشبيه مع حسن التأليف. وهذا الباب يتفاضل فيه الشعراء وتظهر فيه بلاغة البغاء , وذلك أنه يكسب الكلام بيانا عجيبا. وهو على طبقات في الحسن كما بينا. فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما يكسب بيانا فيهما. والأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه به على وجوه: منها إخراج ما لا نفع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة. ومنها إخراج ما لم تجربه عادة إلى ما جرت به العادة , ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة , ومنها إخراج مالا قوة له في الصفة إلى ماله قوة في الصفة. فالأول نحو تشبيه المعدوم بالغائب , والثاني تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم , والثالث تشبيه إعادة الأجسام بإعادة الكتاب , والرابع تشبيه ضياء السراج بضياء النهار. التشبيه على وجهين: تشبيه بلاغة وتشبيه حقيقة. فتشبيه البلاغة كتشبيه أعمال الكفار بالسراب. وتشبيه الحقيقة نحو: هذا دينار كهذا الدينار فخذ أيهما شئت. ونحن نذكر بعض ما جاء في القرآن من التشبيه , وننبه على مافيه من البيان بحسب الإمكان. فمن ذلك قوله تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه

لم يجده شيئا} فهذا بيان قد أخرج مالا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه , وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة , ولو قيل يحسبه الرائي ماء ثم يظهر أنه على خلاف ما قدر لكان بليغا , وأبلغ منه لفظ القرآن , لأن الظمآن أشد حرصا عليه وتعلق قلب به. ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد في االنار - نعوذ بالله من هذه الحال - وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه , فكيف إذا تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة , وصحة الدلالة. ومن ذلك قوله عز وجل: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه , فقد اجتمع المشبه والمشبه به في الهلاك وعدم الانتفاع والعجز عن الاستدراك لما فات , وفي ذلك الحسرة العظيمة والموعظة البليغة , ومن ذلك قوله عز وجل: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} ثم قال: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه , وقد اجتمعا في ترك الطاعة على وجه من وجوه التدبير وفي التخسيس؛ فالكلب لا يطيعك في ترك اللهث حملت عليه أو تركته , وكذلك الكافر لا يطيع بالإيمان على رفق ولا على عنف , وهذا يدل على حكمة الله سبحانه وتعالى في أنه لا يمنع اللطف. وقال تعالى: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو

ببالغه} فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه , وقد اجتمعا في الحاجة إلى نيل المنفعة , والحسرة بما يفوت من درك الطلبة , وفي ذلك الزجر عن الدعاء إلا لله عز وجل الذي يملك النفع والضر , ولا يضيع عنده مثقال الذر. وقال عز وجل {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إل ما قد جرت به العادة , وقد اجتمعا في معنى الارتفاع في الصورة , وفيه أعظم الآية لمن فكر في مقدورات الله تعالى عند مشاهدته لذلك أو عمله به ليطلب الفوز من قبله , ونيل المنافع بطاعته. وقال عز وجل: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} الآية , وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به العادة إلى ماقد جرت به وقد اجتمع والمشبه به في الزينة والبهجة ثم الهلاك بعده. وفي ذلك العبرة لمن اعتبر, والموعظة لمن تفكر في أن كل فان حقير وإن طالت مدته , وصغير وإن كبر قدره , وقال عز وجل: {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر , تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر} وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به , وقد اجتمعا في قلع الريح لهما , وإهلاكها إياهما , وفي ذلك الآية الدالة على عظيم القدرة والتخويف من تعجيل العقوبة , وقال عز وجل: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} فهذا تشبيه قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قدر جرت به , وقد اجتمعا في الحمرة , وفي لين الجواهر السيالة وفي ذلك الدلالة على عظيم الشأن ونفوذ السلطان , لتنصرف الهمم بالأمل إلى ما هناك , وقال عز وجل: {اعلموا

أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والأولاد كمث غيث أعجب الكفار نباته} الآية , فهذا تشبيه قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به , وقد اجتمعا في شدة الإعجاب ثم في التغيير بالانقلاب , وفي ذلك الاحتقار للدنيا والتحذير من الاغترار بها والسكون إليها. وقال عز وجل: {وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} فهذا تشبيه قد أخرج ما لم يعلم بالبديهة إلى ما يعلم , وفي ذلك البيان العجيب بما قد تقرر في النفس من الأمور , والتشويق إلى الجنة بحسن الصفة مع مالها من السعة , وقد اجتمعا في العظم , وقال عز وجل: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} , وهذا تشبيه قد أخرج ما لم يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة , وقد اجتمعا في الجهل بما حملا , وفي ذلك العيب لطريقة من ضيع العلم بالاتكال على حفظ الرواية من غير دراية. وقال عز وجل: {كأنهم أعجاز نخل خاوية} وهذا تشبيه قد أخرج مالا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم , وقد اجتمعا في خلو الأجساد من الأرواح , وفي ذلك الاحتقار لكل شيء يؤول به الأمر إلى ذلك المآل. وقال عز وجل: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت} الآية. فهذا تشبيه قد أخرج مالا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة وقد اجتمعا في ضعف المعتمد , ووهاء المستند , وفي ذلك التحذير من حمل النفس على الغرور بالعمل على غير يقين , مع الشعور بما فيه التوهين. وقال عز وجل: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} فهذا

باب الاستعارة

تشبيه قد أخرج مالا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها , وقد اجتمعا في العظم , إلا أن الجبال أعظم. وفي ذلك العبرة من جهة القدرة فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها , وما في ذلك من الانتفاع بها , وقطع الأقطار البعيدة فيها , وقال عز وجل: {خلق الإنسان من صلصال كالفخار}. وهذا تشبيه قد أخرج مالا قوة له في الصفة إلى ماله القوة وقد اجتمعا في الرخاوة والجفاف , وإن كان أحدهما بالنار والآخر بالريح. وقال عز وجل: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله}. (وفي هذ إنكار لأن تعجل حرمة السقاية والعمارة كحرمة من آمن وكحرمة الجهاد) وهو بيان عجيب وقد كشفه التشبيه بالإيمان الباطل والقياس الفاسد, وفي ذلك دلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان , وأنه لا يساوى به مخلوق على صفته في القياس ومثله {أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات}. باب الاستعارة الاستعارة تليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة. والفرق بين الاستعارة والتشبيه أن - ما كان من التشبيه - بأداة التشبيه في الكلام فهو على أصله , لم يغير عنه في الاستعمال , وليس كذلك

الاستعارة , لأن مخرج الاستعارة مخرج ما العبارة [ليست] له في أصل اللغة. وكل استعارة فلابد فيها من أشياء: مستعار ومستعار له , ومستعار منه. فاللفظ المستعار قد نقل عن أصل إلى فرع للبيان. وكل استعارة بليغة فهي جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما بالآخر كالتشبيه , إلا أنه بنقل الكلمة والتشبيه بأداته الدالة عليه في اللغة. وكل استعارة حسنة فهي توجب بيان لا تنوب منابه الحقيقة , وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة , كانت أولى به , ولم تجز الاستعارة. وكل استعارة فلا بد لها من حقيقة , وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة كقول امرئ القيس في صفة الفرس: " قيد الأوابد " والحقيقة فيه: مانع الأوابد , وقيد الأوابد أبلغ وأحسن. كقولك: ميزان القياس , حقيقة تعديل القياس , والاستعارة فيه أبلغ وأحسن. فكل استعارة لا بد لها من حقيقة. ولا بد من بيان لا يفهم بالحقيقة. ونحن نذكر ما جاء في القرآن من الاستعارة على جهة البلاغة , قال الله عز وجل: {وقدمنا إلى ماعملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا} حقيقة قدمنا هنا عمدنا وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من السفر , لأنه [عاملهم] من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم , ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم. وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال , وبالمعنى الذي يجمعهما العدل , لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل , والقدوم أبلغ لما بينا. وأما هباء منثورا فبيان قد أخرج مالا تقع عليه الحاسة

إلى ما تقع عليه حاسة. وقال عز وجل: {فاصدع بما تؤمر}. حقيقته فبلغ ما تؤمر به , والاستعارة أبلغ من الحقيقة , لأن الصدع بالأمر لابد له من تأثير كتأثير صدع الزجاجة , والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير فيصير بمنزله ما لم يقع. والمعنى الذي يجمعهما الإيصال , إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ. وقال عز وجل: {إنما لما طغى الماء حملناكم في الجارية}. حقيقته علا والاستعارة أبلغ لأن طغى علا قاهرا , وهو مبالغة في عظم الحال. وقال عز وجل: {بريح صرصر عاتية} حقيقته شديدة , والعتو أبلغ منه لأن العتو شدة فيها تمرد. وقال تعالى: {سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ} , شهيقا حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكي , والاستعارة أبلغ منه وأوجز , والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت. {تميز من الغييظ} حقيقته: من شدة الغليان بالاتقاد , والاستعارة أبلغ منه , لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس , مدرك [مدى] ما يدعو إليه من شدة الانتقام , فقد اجتمع شدة في النفس تدعو إلى شدة انتقام في الفعل , وفي ذلك أعظم الزجر وأكبر الوعظ , وأدل دليل على سعة القدرة وموقع الحكمة. ومنه: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا} أي تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم. وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا}. وحقيقته أصل الكتاب , وهو أبلغ لأن الأم أجمع وأظهر فيما يرد إليه مما ينشأ عنه , وقال تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب}. وحقيقته انتفاء الغضب ووالاستعارة أبلغ لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة , فهو كالسكوت على مراصدة

الكلام بما توجبه الحكمة في الحال , فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره , والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره. وقال تعالى: {ذرني ومن خلقت وحيدا} ذرني ها هنا مستعار , وحقيقته: ذر عقابي ومن خلقت وحيدا بترك مسألتي فيه , إلا أنه أخرج لتفخيم الوعيد مخرج ذرني وإياه لأنه أبلغ , وإن كان الله تعالى لا يجوز عليه المنع , وإنما صار أبلغ لأنه لا منزلة من العقاب إلا وما يقدر الله تعالى عليه منها أعظم. وهذا أعظم ما يكون من الزجر. وقال تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن , ولكن هذا أبلغ في الوعيد , وحقيقته سنعمد , إلا أنه لما كان الذي يعمد إلى شيء قد يقصر فيه لشغله بغيره معه , وكان الفارغ له هو البالغ في الغالب مما يجري به التعارف , دلنا بذلك على المبالغة من الجهة التي هي أعرف عندنا لما كانت بهذه المنزلة , ليقع الزجر بالمبالغة التي هي أعرف عند العامة والخاصة موقع الحكمة. وقال تعالى: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} , فمبصرة ها هنا استعارة , وحقيقتها مضيئة , وهي أبلغ من مضيئة , لأنه أدل على موقع النعمة , لأنه يكشف عن وجه المنفعة. قيل: هو بمعنى ذات إبصار وعلى هذا يكون حقيقة. وقال تعالى: {واشتعل الرأس شيبا}. أصل الاشتعال للنار وهو في هذا الموضع أبلغ. وحقيقته كثرة شيب الرأس , إلا أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدا سريعا صارت في الانتشار والإسراع كاشتعال النار .. وله موقع في البلاغة عجيب , وذلك أنه انتشر في الرأس انتشارا لا يتلافى كاشتعال النار. وقال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}. فالقذف

والدمغ هنا مستعار وهو أبلغ , وحقيقته: بل نورد الحق على الباطل فيذهبه , وإنما كانت الاستعارة أبلغ لأن القذف دليلا على القهر , لأنك إذا قلت: قذف به إليه فإنما معناه ألقاه إليه على جهة الإكراه والقهر , فالحق يلقى على الباطل فيزيله على جهة القهر والاضطرار لا على جهة الشك والارتياب , ويدمغه أبلغ من يذهبه لما في يدمغه من التأثير فيه فهو أظهر في الكناية وأعلى في تأثير القوة. وقال تعالى: {عذاب يوم عقيم} وعقيم هاهنا مستعار وحقيقته ها هنا مبير , والاستعارة أبلغ لأنه قد دل على أن ذلك اليوم لا خير بعده للمعذبين , فقيل: يوم عقيم , أي لا ينتج خيرا , ومعنى الهلاك فيهما إلا أن أحد الهلاكين أعظم. وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} نسلخ مستعار , وحقيقته: يخرج منه النهار والاستعارة أبلغ لأن السلخ إخراج الشيء مما لابسه وعسر انتزاعه منه لالتحامه به , فكذلك قياس الليل. وقال تعالى {فأنشرنا به بلدة ميتا} النشر ها هنا مستعار , وحقيقته: أظهرنا به النبات والأشجار والثمار فكانت كمن أحييناه بعد إماتته , فكأنه قيل: أحيينا به بلدة ميتا من قولك: أنشر الله الموتى فنشروا. وهذه الاستعارة أبلغ من الحقيقة لتضمنها من المبالغة ماليس في أظهرنا , والإظهار في الإحياء والإنبات إلا أنه في الإحياء أبلغ. وقال تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} اللفظ ها هنا بالشوكة مستعار , وهو أبلغ , وحقيقته السلاح , فذكر الحد الذي به تقع المخافة واعتمد على الإيماء إلى النكتة , وإذا كان السلاح يشتمل على

ما له حد وما ليس له حد , فشوكة السلاح هي التي تبقى. وقال تعالى {وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} عريض ها هنا مستعار , وحقيقته كبير , والاستعارة فيه أبلغ لأنه أظهر بوقوع الحاسة عليه , وليس كذلك كل كثرة. وقيل: عريض لأن العرض أدل على الطول. وقال تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} وهذا مستعار , وحقيقته حتى يضع أهل الحرب أثقالها , فجعل وضع أهلها الأثقال وضعا لها على جهة التفخيم لشأنها وقال تعالى: {والصبح إذا تنفس} وتنفس ها هنا مستعار , وحقيقته إذا بدأ انتشاره , وتنفس أبلغ منه , ومعنى الابتداء فيهما , إلا أنه في التنفس أبلغ لما فيه من الترويح عن النفس , وقال تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} وهذا مستعار , وحقيقته أجاعها الله وأخافها والاستعارة أبلغ , لدلالتها على استمرار ذلك بهم كاستمرار لباس الجلد وما أشبهه. وإنما قيل ذاقوه لأنه كما يجد الذائق مرارة الشيء فهم في الاستمرار كتلك الشدة في المذاقة , وقال تعالى: {مستهم البأساء والضراء وزلزلوا} وهذا مستعار , وزلزلوا أبلغ من كل لفظ كان يعبر به عن غلظ ما نالهم. ومعنى حركة الإزعاج فيهما , إلا أن الزلزلة أبلغ وأشد. وقال تعالى: {ربنا أفرغ علينا صبرا} أفرغ مستعار وحقيقته افعل بنا صبرا , وأفرغ أبلغ منه لأن في الإفراغ اتساعا مع بيان , وقال الله عز وجل: {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس} حقيقته حصلت عليهم الذلة. والاستعارة أبلغ لما فيه من الدلالة على تثبيت ما حصل

عليهم من الذلة كما يثبت الشيء بالضرب لأن التمكين به محسوس , والضرب مع ذلك ينبئ عن الإذلال والنقص , وفي ذلك شدة الزجر لهم والتنفير من حالهم , وقال تعالى: {فنبذوه وراء ظهورهم} حقيقته تعرضوا للغفلة عنه , والاستعارة أبلغ لما فيه من الإحالة على ما يتصور وقال تعالى: {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا} حقيقته تكون لنا ذات سرور , والاستعارة أبلغ لما للإحالة فيه على ماقد جرت العادة بمقدار السرور به. وقال تعالى {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} كل خوض ذمه الله تعالى في القرآن فلفظه مستعار من خوض الماء , وحقيقته: يذكرون آياتنا , والاستعارة أبلغ لإخراجه إلى ما تقع عليه المشاهدة من الملابسة لأنه لا تظهر ملابسة المعاني لهم كما تظهر ملابسة الماء لهم. وقال تعالى: {فدلاهما بغرور} وحقيقته صيرهما إلى الخطيئة بغرور , والاستعارة أبلغ لإخراجه إلى ما يحس من التدلي من علو إلى سفل. وقال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} وقال تعالى: {أفمن أسس بنيانه على تقووى من الله ورضوان} الآية. كل هذا مستعار , وأصل البنيان إنما هو للحيطان وما أشبهها , وحقيقته اعتقادهم الذي عملوا عليه , والاستعارة أبلغ لما فيها من البيان بما يحس ويتصور , وجعل البنيان ريبة وإنما هو ذو ريبة , والاستعارة أبلغ , كما تقول: هو خبث كله , وذلك

أبلغ من أن يجعله ممتزجا , لأن قوة الذم للريبة , فجاء على البلاغة لا على الحذف الذي إنما يراد به الإيجاز في العبارة فقط. وقال تعالى: {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} العوج ها هنا مستعار , وحقيقته خطأ والاستعارة أبلغ لما فيه من البيان بالإحاطة على ما يقع عليه الإحساس من العدول عن الاستقامة بالاعوجاج. وقال عز وجل: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} أصل الأركان للبنيان , ثم كثر واستعير حتى صار الأعوان أركانا للمعان , والحجج أركانا للإسلام , وحقيقته إلى معين شديد. والاستعارة أبلغ لأن الركن يحس. والمعين لا يحس من حيث هو معين. قال تعالى: {أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} أصل الحصيد للنبات , حقيقته مهلكة , والاستعارة أبلغ لما فيه من الإحالة على إدراك البصر. وقال عز وجل {الر , كتبا أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} كل ما جاء في القرآن من ذكر من الظلمات إلى النور فهو مستعار, وحقيقته من الجهل إلى العلم , والاستعارة أبلغ لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار. وقال تعالى {حصيدا خامدين} أصل الخمود للنار وحقيقته هادئين , والاستعارة أبلغ لأن خمود النار أقوى في الدلالة على الهلاك , على حد قولهم: طفئ فلان كما يطفأ السراج. وقال عز وجل: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} واد هنا مستعار , وكذلك الهيمان , وهو من أحسن البيان , وحقيقته يخلطون فيما يقولون , لأنهم ليسوا على قصد لطريق الحق , والاستعارة أبلغ

لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يقع عليه الإدراك من تخليط الإنسان بالهيمان في كل واد يعن له فيه الذهاب. وقال تعالى: {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} السراج ها هنا مستعار وحقيقته مبينا , والاستعارة أبلغ للإحالة على ما يظهر بالحاسة. وقال عز وجل: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} أصل الرقاد النوم وحقيقته من مهلكنا , والاستعارة أبلغ لأن النوم أظهر من الموت , والاستيقاظ أظهر من الإحياء بعد الموت , لأن الإنسان الواحد يتكرر عليه النوم واليقظة , وليس كذلك الموت والحياة. وقال تعالى: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} أصل الموج للماء وحقيقته تخليط بعضهم ببعض , والاستعارة أبلغ , لأن قوة الماء في الاختلاط أعظم. وقال تعالى: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} العقيم مستعار للريح , وحقيقته ريح لا يأتي بها سحاب غيث , والاستعارة أبلغ لأن حال العقيم أظهر من حال الريح التي لا تأتي بمطر , لأن مالا يقع من أجل حال منافية أوكد مما يقع من غير حال منافية وأظهر. وقال عز وجل: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} , حقيقته لا تمنع نائلك كل المنع والاستعارة أبلغ لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليد إلى العنق , وذلك مما يحس حال التشبيه فيه بالمنع فيهما إلا أن حال المغلول اليد أظهر وأقوى فيما يكره. وقال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} حقيقته لنعذبنهم , والاستعارة أبلغ , لأن إحساس الذائق أقوى لأنه طالب لإدراك ما يذوقه , ولأنه جعل بدل إحساس

باب التلاؤم

الطعام المستلذ إحساس الآلام , لأن الأسبق في الذوق ذوق الطعام. وقال تعالى: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا} حقيقته منعناهم الإحساس بآذانهم من غير صمم , والاستعارة أبلغ لأنه كالضرب على الكتاب فلا يقرأ , كذلك المنع من الإحساس فلا يحس , وإنما دل على عدم الإحساس بالضرب على الآذان دون الضرب على الأبصار , لأنه أدل على المراد من حيث كان قد يضرب على الأبصار من غير عمى فلا يبطل الإدراك رأسا , وذلك بتغيمض الأجفان , وليس كذلك منع الإسماع من غير صمم في الآذان لأنه إذا ضرب عليها من غير صمم دل على عدم الإحساس من كل جارحة يصح بها الإدراك , ولأن الأذن لما كانت طريقا إلى الانتباه ثم ضربوا عليها لم يكن سبيل إليه. وقال عز وجل: {ثم نكسوا على رؤوسهم} هذا استعارة , حقيقته أطرقوا للمذلة عند لزوم الحجة , إلا أنه يولغ في العبارة بجعلهم كالواقع على رأسه للحيرة بما نزل به من الآبدة. وقال تعالى: {ولما سقط في أيديهم} هذا مستعار وحقيقته: ندموا لما رأوا من أسباب الندم , إلا أن الاستعارة أبلغ للإحالة فيه على الإحساس. لما يوجب الندم بما سقط في اليد , فكانت حاله أكشف في سوء الاختيار لما يوجب من الوبال. باب التلاؤم التلاؤم نقيض التنافر , والتلاؤم تعديل الحروف في التأليف , والتأليف على ثلاثة أوجه:

متنافر , ومتلائم في الطبقة الوسطى , متلائم في الطبقة العليا. فالتأليف المتنافر كقول الشاعر: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر وذكروا أن هذا من أشعار الجن لأنه لا يتهيأ لأحد أن ينشده ثلاث مرات فلا يتتعتع , وإنما السبب في ذلك ما ذكرنا من تنافر الحروف. وأما التأليف المتلائم في الطبقة الوسطى - وهو من أحسنها - فكقول الشاعر: رمتني وستر الله بيني وبينها ... عشية آرام الكناس رميم (رميم التي قالت لجيران بيتها ... ضمنت لكم ألا يزال يهيم) ألا رب يوم لو رمتني رميتها ... ولكن عهدي بالنضال قديم والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله , وذلك بين لمن تأمله. والفرق بينه وبين غيره من الكلام في تلاؤم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم في الطبقة الوسطى. وبعض الناس أشد إحساسا بذلك وفطنة من بعض , كما أن بعضهم أشد إحساسا بتمييز الموزون في الشعر من المكسور , واختلاف

الناس في ذلك من جهة الطباع كاختلافهم في الصور والأخلاق. والسبب في التلاؤم تعديل الحروف في التأليف , فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤما. وأما التنافر فالسبب فيه ما ذكره الخليل من البعد الشديد أو القرب الشديد وذلك أنه إذا بعد البعد الشديد كان بمنزلة الطفر , وإذا قرب القرب الشديد كان بمنزلة مشي المقيد , لأنه بمنزلة رفع اللسان ورده إلى مكانه , وكلاهما صعب على اللسان , والسهولة من ذلك في الاعتدال , ولذلك وقع في الكلام الإدغام والإبدال. والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع , وسهولته في اللفظ , وتقبل المعنى له في النفس لما يرد عليها من حسن الصورة وطريق الدلالة. ومثل ذلك مثل قراءة الكتاب في أحسن ما يكون من الخط والحروف , وقراءته في أقبح ما يكون من الحرف والخط , فذلك متفاوت في الصورة وإن كانت المعاني واحدة. ومخارج الحروف مختلفة , فمنها ما هو من أقصى الحلق , ومنها ما هو من أدنى الفم , ومنها ما هو في الوسائط بين ذلك. والتلاؤم في التعديل من غير بعد شديد أو قرب شديد. وذلك يظهر بسهولته على اللسان , وحسنه في الأسماع , وتقبله في الطباع , فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان في صحة البرهان في أعلى الطبقات ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام , كما يظهر له أعلى طبقات الشعر من أدناها إذا تفاوت ما بينهما. وقد عم التحدي به للجميع لرفع الإشكال , وجاء على

باب الفواصل

جهة الإخبار بأنه لا تقع المعارضة لأجل الإعجاز , فقال عز وجل: {وإن كنتم على ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادهوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين} ثم قال: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} فقطع بأنهم لن يفعلوا. وقال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} , وقال: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادفين}. ولما تعلموا بالعلم والمعاني التي فيه قال: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}. فقد قامت الحجة على العربي: والعجمي بعجز الجميع على المعارضة إذ بذلك تبين المعجزة. باب الفواصل الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني. والفواصل بلاغة , والأسجاع عيب , وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني , وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها. وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة , إذ كان الغرض الذي هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليها ماسة , فإذا كانت المشاكلة وصلة إليه فهو بلاغة , وإذا كانت المشاكلة في خلاف ذلك فهو عيب ولكنة , لأنه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة , ومثله مثل من رصع تاجا ثم ألبسه زنجيا ساقطا , أو نظم قلادة در ثم ألبسها كلبا وقببح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم , فمن ذلك ما يحكى عن بعض الكهان: " والأرض والسماء , والغراب الواقعة بنقعاء , لقد نفر المجد إلى العشراء ".

ومنه ما يحكى عن مسيلمة الكذاب: " يا ضفدع نقي كم تنقين , لا الماء تكدرين ولا النهر تفارقين ". فعذا أغث كلام يكون وأسخفه , وقد بينا علته , وهو تكلف المعاني من أجله , وجعلها تابعة له من غير أن يبالي المتكلم بها ما كانت. وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة , لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها , وإنما أخذ السجع في الكلام من سجع الحمامة. وذلك أنه ليس فيه إلا الأصوات المتشاكلة , كما ليس في سجع الحمامة إلا الأصوات المتشاكلة , فإذا كان المعنى لما ستكلف من غير وجه الحاجة إليه والفائدة فيه لم يعتد به , فصار بمنزلة ما ليس فيه إلا الأصوات المشاكلة. والفواصل على وجهين: أحدهما على الحروف المتجانسة والآخر على الحروف المتقاربة , فالحروف المتجانسة كقوله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى}. الآيات. وكقوله: {والطور وكتاب مسطور} الآيات , وأما الحروف المتقاربة فكالميم من النون , كقوله تعالى: {الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} , وكالدال مع الباء نحو: {ف والقرآن المجيد} ثم فال: {هذا شيء عجيب} وإنما حسن في الفواصل الحروف المتقاربة لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع , لما فيه من البلاغة وحسن العبارة. وأما القوافي فلا تحتمل ذلك لأنها ليست في الطبقة العليا من البلاغة وإنما حسن الكلام فيها إقامة

باب التجانس

الوزن ومجانسة القوافي , فلو بطل أحد الشيئين خرج من ذلك المنهاج وبطل ذلك الحسن الذي له في الأسماع , ونقصت رتبته في الأفهام. والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع , وتحسينها الكلام بالتشاكل وإبداؤها في الآي بالنظائر. باب التجانس تجانس البلاغة هو بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد في اللغة والتجانس على وجهين , مزاوجة ومناسبة , فالمزاوجة تقع في الجزاء كقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} أي جازوه بما يستحق على طريق العدل , إلا أنه استعير للثاني لفظ الاعتداء لتأكيد الدلالة على المساواة في المقدار , فجاء على مزاوجة الكلام لحسن البيان. ومن ذلك: {مستهزئون , الله يستهزئ بهم} , أي يجازيهم على استهزائهم. ومنه: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) أي جازاهم على مكرهم. فاستعير للجزاء على المكر اسم المكر لتحقيق الدلالة على أن وبال المكر راجع عليهم ومختص بهم. ومنه {يخادعون الله وهو خادعهم} أي مجازيهم على خديعتهم , ووبال الخديعة راجع عليهم. والعرب تقول: الجزاء بالجزاء , والأول ليس بجزاء , وإنما هو على مزاوجة الكلام.

قال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فهذا حسن في البلاغة , ولكنه دون بلاغة القرآن لأنه لا يؤذن بالعدل كما آذنت بلاغة القرآن , وإنما فيه الإيذان براجع الوبال فقط , والاستعارة للثاني أولى من الاستعارة للأول لأن الثاني يحتذى فيه على مثال الأول في الاستحقاق , فالأول بمنزلة الأصل والثاني بمنزلة الفرع الذي يحتذى فيه على الأصل , فلذلك نقصت منزلة قولهم: الجزاء بالجزاء , عن الاستعارة بمزاوجة كلام القرآن. الثاني من المجانس وهو المناسبة , وهي تدور في فنون المعاني التي ترجع إلى أصل واحد , فمن ذلك قوله تعالى: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم} فجونس بالانصراف عن الذكر صرف القلب عن الخير , والأصل فيه واحد وهو الذهاب عن الشيء , أما هم فذهبوا عن الذكر , وأما قلوبهم فذهب عنها الخير. ومنه: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} فجونس بالقلوب التقلب , والأصل واحد , فالقلوب تتقلب بالخواطر , والأبصار تتقلب في المناظر , والأصل التصرف. ومنه: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} فجونس بإرباء الصدقة ربا الجاهلية , والأصل واحد وهو الزيادة إلا أنه جعل بدل تلك الزيادة المذمومة زيادة محمودة.

باب التصريف

باب التصريف التصريف تصريف المعنى في المعاني المختلفة , كتصريفه في الدلالات المختلفة , وهو عقدها به على جهة التعاقب , فتصريف المعنى في المعانى كتصريف الأصل في الاشتقاق في المعاني المختلفة , وهو عقدها به على جهة العاقبة , كتصريف الملك في معاني الصفات , فصرف في معنى مالك , وملك , ذي الملكوت , والمليك , وفي معنى التمليك , والتمالك , والإملاك , والتملك , والمملوك , كذلك تصريف معنى العرض في الأعراض , والاعتراض , والاستعراض , وبالتعرض , والتعريض , والمعارضة والعرض والعروض. وكله منعقد بمعنى الظهور. ومنه: أعرضت اليمامة أي ظهرت وهو الأصل , ومنه أيضا الإعراض عن الإنسان لأنه انزواء عن الظهور له , ومنه الاعتراض وهو ظهور ما يصد عن الذهاب , ومنه الاستعراض للجارية لأنه طلب لظهورها للحاسة , ومنه التعريض للأمر لأنه طلب لظهوره بالفعل , ومنه التعريض للنفع لأنه يصير على السبب الذي به بقع ظهور النفع , منه المعارضة لأنها مقابلة يقع منها ظهور المساواة , أو المخالفة , ومنه المعرض لأن ظهور الشيء به أبين , ومنه العرض لأنه على ظهور شيء لا يلبث , ومنه العروض لأنه ميزان الشعر , يظهر به المنكسر من المتزن. وهذا الضرب من التصريف فيه بيان عجيب يظهر فيه المعنى بما يكتنفه من المعاني التي تظهره وتدل عليه. أما تصريف المعنى في الدلالات المختلفة فقد جاء في القرآن في غير قصة , منها قصة موسى

باب التضمين

عليه السلام , ذكرت في سورة الأعراف وفي طه والشعراء .. وغيرها لوجوه من الحكمة. منها التصرف في البلاغة من غير نقصان عن أعلى مرتبة , ومنها تمكين العبرة والموعظة , ومنها حل الشبهة في المعجزة , وذلك أن الأشياء على وجهين: منها مالا يدخل تحت الممكن فيه معارضة , ومنها ما يدخل تحت الممكن , فالأول كالتحدي بعدد يضرب في عدد فيكون منه خمسة وعشرون غير خمسة في خمسة وكذلك في قسمة المقادير أنه لا يخلو مقداران من أن يكون أحدهما أزيد من الآخر أو أنقص أو مساويا. فإذا قال قائل: هاتوا مثل هذه القسمة في غير المقادير قلنا لا يلزم ذلك لأنه لا يدخل تحت الممكن. وكذلك سبيل الجذور , ولو قال جذر مائة عشرة فهاتوا لها جذرا غير العشرة. وليس كذلك سبيل أعلى الطبقات في البلاغة لأن الذي قدر على أن يأتي بسورة آل عمران والذي قدر على المائدة هو الذي قدر على الإنعام , وهو الله عز وجل الذي يقدر أن يأتي بما شاء من مثل القرآن فظهور الحجاج على الكفار بأن أتى في المعنى الواحد بالدلالات المختلفة فيما هو من البلاغة في أعلى طبقة. باب التضمين تضمين الكلام هو حصول المعنى فيه من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه. والتضمين على وجهين: أحدهما ما كان يدل عليه الكلام دلالة الإخبار , والآخر ما يدل عليه دلالة القياس. فالأول كذكرك الشيء بأنه محدث , فهذا يدل على المحدث دلالة الإخبار , والتضمين في الصفتين جميعا , إلا أنه على الوجه الذي بينا.

وكذلك سبيل المكسور ومنكسر , وساقط ومسقط والتضمين على وجهين , تضمين توجيه البنية , وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به , ومن حيث جرت العادة بأن يعقد به. فأما الذي توجبه نفس البنية , وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به , ومن حيث جرت العادة بأن يعقد به. فأما الذي توجبه نفس البنية , فالصفة بمعلوم يوجب أنه لابد من عالم , وكذلك مكرم , وأما الذي يوجبه معنى العبارة من حيث لا تصح إلا به , فكالصفة بقاتل يدل على مقتول من حيث لا يصح معه معنى قاتل , ولا مقتول , فهو على دلالة التضمين. وأما التضمين الذي يوجبه معنى العبارة من جهة جريان العادة فكقولهم: " الكر بستين " المعنى فيه بستين دينارا , فهذا مما حذف وضمن الكلام معناه لجريان العادة به. والتضمين كله إيجاز استغنى به عن التفصيل إذ كان مما يدل دلالة الإخبار في كلام الناس , فأما التضمين الذي يدل عليه دلالة القياس فهو إيجاز في كلام الله عز وجل خاصة , لأنه تعالى لا يذهب عليه من وجوه الدلالة , فنصبه لها يوجب أن يكون قد دل عليها من كل وجه يصح أن يدل عليه. وليس كذلك سبيل غيره من المتكلمين بتلك العبارة , لأنه قد تذهب إليه دلالتها من جهة القياس ولا يخرجه ذلك عن أن يكون قد قصد بها الإبانة عما وضعت له في اللغة من غير أن يلحقه فساد في العبارة. وكل آية فلا تخلو من تضمين لم يذكر باسم أو صفة , فمن ذلك: " بسم الله الرحمن الرحيم " قد تضمن التعليم لاستفتاح الأمور على التبرك به والتعظيم لله بذكره , وأنه أدب من آداب الدين وشعار للمسلمين , وأنه إقرار بالعبودية واعتراف بالنعمة التي هي من أجل نعمة , وأنه ملجأ الخائف:

باب المبالغة

ومعتمد للمستنجع. وقد بينا ذلك بعد انقضاء كل آية في كتاب " الجامع لعلم القرآن ". باب المبالغة المبالغة هي الدلالة على كبر المعنى على جهة التغيير عن أصل اللغة لتلك الإبانة. والمبالغة على وجوه منها المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة , وذلك على أبنية كثيرة منها: فعلان , ومنها فعال , وفعول , ومفعل , ومفعال. ففعلان كرحمان عدل عن راحم للمبالغة , ولا يجوز أن يوصف به إلا الله عز وجل لأنه يدل على معنى لا يكون له , وهو معنى وسعت رحمته كل شيء. ومن ذلك فعال كقوله عز وجل: {وإني لغفار لمن تاب} معدول عن غافر للمبالغة , وكذلك توَّاب , وعلام. ومنه فعول كغفور وشكور , وودود , ومنه فعيل كقدير , ورحيم , وعليم. ومنه مفعل كمدعس , ومطعن , ومفعال كمنحار , ومطعام. الضرب الثاني المبالغة بالصيغة العامة في موضع الخاصة , كقوله تعالى: {خالف كل شيء} وكقول القائل: أتاني الناس , ولعله لا يكون أتاه (إلا) خمسة فاستكثرهم , وبالغ في العبارة عنهم. الضرب الثالث: إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة كقول القائل: جاء الملك إذا جاء جيش عظيم له , ومنه قوله

عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} فجعل مجيء دلائل الآيات مجيئا له على المبالغة في الكلام , ومنه: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي أتاهم بعظيم بأسه فجعل ذلك إتيانا له على المبالغة. منه قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا}. الضرب الرابع: إخراج الممكن إلى الممتنع للمبالغة , نحو قوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}. الضرب الخامس: إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل والمظاهرة في الحجاج , فمن ذلك: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}. ومنه: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} وعلى هذا النحو خرج مخرج قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا} جاء على التسليم أن لهم مستقرا خيرا من جهة السلامة من الآلام , لأنهم ينكرون إعادة الأرواح إلى الأجسام فقيل على هذا أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا. ومنه {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} على التسليم أن أحدهما أهون من الآخر فيما يسبق إلى نفوس العقلاء. الضرب السادس: حذف الأجوبة للمبالغة كقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} و {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب} ومنه: {ص , والقرآن ذي الذكر} كأنه قيل: لجاء الحق أو لعظم

باب البيان

الأمر أو لجاء بالصدق. كل ذلك يذهب إليه الوهم لما فيه من التفخيم والحذف أبلغ من الذكر , لأن الذكر يقتصر على وجه والحذف يذهب فيه الوهم إلى كل وجه من وجوه التعظيم لما قد تضمنه من التفخيم. باب البيان البيان هو الإحضار لما يظهر به تميز الشيء من غيره في الإدراك. والبيان على أربعة أقسام: كلام , وحال , وإشارة , وعلامة. والكلام على وجهين: كلام يظهر به تميز الشيء من غيره فهو بيان , وكلام لا يظهر به تميز الشيء فليس ببيان كالكلام المخلط والمحال الذي لا يفهم به معنى. وليس كل بيان يفهم به المراد فهو حسن من قبل أنه قد يكون على عي وفساد , كقول السوادي وقد سئل عن أتان معه فقيل له: ما تصنع بها؟ , فقال: أحبلها وتولد لي , فهذا كلام قبيح فاسد , وإن قد فهم به المراد وأبان عن معنى الجواب , وكذلك ما يحكى عن باقل , والعرب تضرب به المثل في العي فتقول: أعى من باقل , وأبين من سحبان وائل , فبلغ من عيه أنه سئل عن ظبية كانت معه بكم اشتراها , فأراد أن يقول بأحد عشر , فأخرج لسانه وفرج عشر أصابعه فأفلتت الظبية من يده. فهذا وإن كان قد أكد للإفهام , فهو أبعد الناس من حسن البيان. وليس بحسن أن يطلق اسم بيان على ما قبح من الكلام , لأن الله قد مدح البيان واعتد به في أياديه الجسام , فقال: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} ولكن إذا قيد بما يدل على أنه يعنى به إفهام المراد جاز.

وحسن البيان في الكلام على مراتب: فأعلاها مرتبة ما جمع أسباب الحسن في العبارة من تعديل النظم حتى يحسن في السمع ويسهل على اللسان وتتقبله النفس تقبل البرد , وحتى يأتي على مقدار الحاجة فيما هو حقه من المرتبة. والبيان في الكلام لا يخلو من أن يكون باسم أو صفة أو تأليف من غير اسم للمعنى أو صفة , كقولك: غلام زيد , فهذا التأليف يدل على الملك من غير ذكر له باسم أو صفة , ودلالة الاشتقاق كدلالة التأليف في أنه من غير ذكر اسم أو صفة , كقولك: قاتل تدل على مقتول وقتل من غير ذكر اسم أو صفة لواحد منها , ولكن المعنى مضمن بالصفة المشتقة وإن لم تكن له. ودلالة الأسماء والصفات متناهية , فأما دلالة التأليف فليس لها نهاية , ولهذا صار التحدي فيها بالمعارضة لتظهر المعجزة , ولو قال قائل , قد انتهى تأليف الشعر حتى لا يمكن أحدا أن يأتي بقصيدة إلا وقد قيلت فيما قيل لكان ذلك باطلا , لأن دلالة التأليف ليس لها نهاية كما أن الممكن من العدد ليس له نهاية يوقف عندها لا يمكن أن يزاد عليها. والقرآن كله في نهاية حسن البيان , فمن ذلك قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم} , فهذا بيان عجيب يوجب التحذير من الاغترار بالإمهال. وقال سبحانه: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} , وقال: {إن المتقين في مقام أمين} فهذا من أحسن الوعد والوعيد. وقال: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} فهذا أبلغ ما يكون من

الحجاج وقال: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} , فهذا أشد ما يكون من التقريع وقال تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} فهذا أعظم ما يكون من التحسير. وقال: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} , وهذا أدل دليل على العدل من حيث لم يقتطعوا عما يتخلصون به من ضرر الجرم , ولا كانت قبائحهم على طريق الجبر. وقال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} وهذا أشد ما يكون من التنفير على الخلة إلا على التقوى. وقال تعالى: {أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله} فهذا أشد ما يكون من التحذير من التفريط. وقال تعالى: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة}. وهذا أشد ما يكون في التبعيد. وقال عز وجل: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} وهذا أعظم ما يكون من الوعيد. وقال عز وجل: {وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل} , وهذا أشد ما يكون من التحسير. وقال عز وجل: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} وهذا أشد ما يكون في التقريع من أجل التمادي في الأباطيل وقال عز وجل: {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام} وهذا أشد ما يكون من الإذلال. وقال عز وجل {هذه جهنم التي يكذب

بها المجرمون} وهذا أشد ما يكون من التقريع. وقال تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} وهذا أشد ما يكون من التحذير. وقال عز وجل: {فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} وهذا أشد ما يكون من الترغيب. وقال عز وجل: {مااتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} وقال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} وهذا أبلغ ما يكون من الحجاج. وهو الأصل الذي عليه الاعتماد في صحة التوحيد , لأنه لو كان إله آخر لبطل الخلق بالتمانع بوجودهما دون أفعالهما. باب البيان عن الوجوه التي ذكرنا في أول الكتاب وهي: ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة , والتحدي للكافة. والصرفة , والبلاغة , والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة , ونقض العادة , وقياسه بكل معجزة. أما توفر الدواعي فيوجب الفعل مع الإمكان لا محالة , في واحد كان أو جماعة. والدليل على ذلك أن إنسانا لو توفرت دواعيه إلى شرب ماء بحضرته من جهة عطشه واستحسانه لشربه. وكل داع يدعو إلى مثله , وهو مع ذلك ممكن له فلا يجوز ألا تقع شربه من حتى يموت عطشا لتوفر الدواعي على ما بينا , فإن لم يشربه مع توفر الدواعي له دل ذلك على عجزه عنه. فذلك توفر الدواعي إلى معارضة على القرآن لما لم تقع المعارضة دل ذلك على العجز عنها.

وأما التحدي للكافة فهو أظهر في أنهم لا يجوز أن يتركوا المعارضة مع توفر الدواعي إلا للعجز عنها. وأما الصرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة , وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة؛ وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة , وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول. وأما الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة فإنه لما كان لا يجوز أن تقع على الاتفاق دل على أنها من عند علام الغيوب , فمن ذلك قوله عز وجل: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} فكان الأمر كما وعد من الظفر بإحدى الطائفتين: العير التي كان فيها أبو سفيان , أو الجيش الذين خرجوا يحملونها من قريش , فأظفرهم الله عز وجل بقريش يوم بدر على ما تقدم به الوعد. ومنه قوله تعالى: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون}. ومنه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} ومنه: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين , ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم}. ومنه: {فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين , فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} , ومنه: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} , ومنه: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن

المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون} ومنه: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم} ثم قال: {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها}. وأما نقض العادة فإن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل , ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث , فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن تفوق به كل طريقة. ولولا أن الوزن يحسن الشعر لنقصت منزلته في الحسن نقصانا عظيما. ولو عمل عامل من الكتان باليد من غير آلة ولا حف ما يفوق الدبيقي في اللين والحسن حتى لا يشك من رآه أنه أرفع الثياب الدبيقية التي بلغت في الحسن النهاية لكان معجزا. وذلك من جاء بغير الوزن المعروف في الطباع , الذي من شأنه أن يحسن الكلام بما يفوق الموزون فهو معجز. وأما قياسه بكل معجزة فإنه يظهر إعجازه من هذه الجهة , إذ كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية وما جرى هذا المجرى في ذلك سبيلا واحدا في الإعجاز , إذا خرج عن العادة وقعد الخلق فيه عن المعارضة. فإن قال قائل: فلعل السور القصار ممكن للناس , قيل له: لا يجوز ذلك؛ من قبل أن التحدي قد وقع بها فظهر العجز عنها في قوله تعالى: {قل فأتوا بسورة من مثله} فلم يخص بذلك الطوال دون القصار , فإن قال قائل فإنه يمكن في القصار أن تغير الفواصل فيجعل بدل كل كلمة ما يقوم مقامها. فهل

يكون ذلك معارضة؟! فقيل له: لا , من قبل أن المفحم يمكنه في قوافي الشعر مثل ذلك , وإن كان لا يمكنه أن ينشئ بيتا واحدا , ولا يفصل بطبعه بين مكسور وموزون , فلو أن مفحما رام أن يجعل بدل القوافي قصيدة رؤبة وقاتم الأعماق خاري المخترق مشتبه الأعلام لماع الخفق يكل وفد الريح من حيث انخرق فجعل بدل المخترق الممتزق , وبدل الخفق الشفق , وبدل انخرق انطلق لأمكنه ذلك ولم يجب به قول الشعر ولا معارضة رؤبة في هذه القصيدة عند أحد له معرفة. فكذلك سبيل من غير الفواصل وزعم أنه قد عارض. وهذا واضح بين لا يخفى على متأمل والحمد لله. فإن قال: فما ينكر أن يكونوا عدلوا عن معارضة الطوال للعجز وعدلوا عن معارضة القصار لخفاء المساواة في الحكم!. قيل له: لا يجوز ذلك , لأن الحجة لهم به قائمة لو كان الأمر على تلك الصفة , إذ كانت المعارضة فيما جرت به العادة على ذلك وقعت من عصبة قوم لأحد الفريقين , وعصبة فريق للآخر على نحو نقائض جرير والفرزدق؟ وقبلهما عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة , فلو كان مما يجوز أن يقع فيه الاختلاف بين الجيدي الطباع لخفاء الأمر فيه لم يتركوا المعارضة له والاحتجاج به.

فإن قال قائل: فلم اعتمدتم على الاحتجاج بعجز العرب دون الموالدين , وهو عندكم معجز للجميع , مع أنه يوجد للمولدين من الكلام البليغ شيء كثير؟ قيل: لأن العرب كانت تقيم الأوزان والإعراب بالطباع , وليس في المولدين من يقيم الإعراب بالطباع كما يقيم الأوزان والعرب على البلاغة أقدر لما بينا من فطنتهم لما لا يفطن له المولدون من إقامة الإعراب بالطباع , فإذا عجزوا عن ذلك فالمولدون عنه أعجز.

§1/1