النكت العلمية على الروضة الندية

عبد الله العبيلان

جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة لـ دَار غراس - الكويت الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م الناشر غراس للنشر والتوزيع والدعاية والإعلان مؤسسة غراس للنشر والتوزيع الكويت - شَارِع الصحافة - مقابل مطابع الرَّأْي الْعَام التجارية هَاتِف: 4819027 - فاكس: 4838495 - هَاتِف وفاكس: 4578868 الجهراء: ص. ب: 2888 - الرَّمْز البريدي: 1030. website: www.gheras.com E-mail: [email protected]

النّكَتُ العلمِيَّة عَلى الرَّوضَةِ النَّدِيَّةِ

المقدمة

المقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أمَّا بعد: فقد كنت أتساءل عن الأسباب التي جعلت بعض العلماء يكونون محلّ ثقة وقبول عند كافة أهل العلم على اختلاف مذاهبهم؛ وأتعجّب من قلّتهم وكثرة الفقهاء والّذين لا يكادون يعرفون إلا من خلال كتب التراجم مع صلاحهم واستقامتهم وربما جهادهم فتبينّت لي الأسباب التالية: أولًا: التجرّد لله -تبارك وتعالى- وهذا أخص من الإخلاص في العبادة. الثاني: التجرد في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: تعظيم آثار الصحابة -رضي الله عنهم- قولًا وعملًا في فهم الكتاب والسنة. الرابع: الاطلاع الواسع على السنن النبوية والقدرة على معرفة صحيحها من سقيمها. الخامس: المعرفة التامة بآثار الصحابة وفتاواهم وقرنها بالحديث النبوي لمعرفة المراد منه.

السادس: العلم بقواعد الشريعة ومقاصدها. السابع: الإلمام بأقوال أهل العلم على اختلاف مذاهبهم. الثامن: القدرة على التوفيق بين ما يظن فيه التعارض عند غيرهم. التاسع: معرفة الناس على اختلاف طبائعهم. وإليك بعض الأسباب التفصيلية التي ذكرها شيخ الإسلام وكانت سببًا في الإعراض عن النصوص والآثار: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "قلت: لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمّة -كالشافعي، وأحمد وأبي عبيد، وإسحاق وغيرهم- سواء؛ لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك. بل المجمل ما لا يكفي -وحده- في العمل به، وإن كان ظاهره حقًّا، كما في قوله -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست ممّا لا يفهم المراد به؛ بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل، فإنّ المأمور به صدقة تكون مطهّرة مزكية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا قال أحمد: "يحذر المتكلّم في الفقه هذين الأصلين: -المجمل والقياس-"، وقال: "أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل، والقياس" يريد بذلك أن لا يحكم بما يدلّ عليه العام والمطلق، قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص؛ هل تدفعه؟ فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثًا يطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك وهذا هو واقع المتمسكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه طريق أهل البدع؛ وله في ذلك مصنف كبير وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن

النصوص والآثار، طريق أهل البدع؛ ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولًا فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان" (¬1). ثمَّ إن ابن القيم -رحمه الله- بيّن في "أعلام الموقعين" أخطاء أهل الظاهر: فيقول: "فنفاة القياس لما سدُّوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح -وهو من الميزان والقسط الّذي أنزله الله- احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحملوها فوق الحاجة ووسّعوهما أكثر ممّا يسعانه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس، أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه، ولكن أخطأوا من أربعة أوجه: أحدهما: رد القياس الصحيح، ولا سيّما المنصوص على علّته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أنّ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لعن عبد الله حمارًا على كثرة شربه للخمر: "لا تلعنه؛ فإنّه يحب الله ورسوله" بمنزلة قوله: "لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله"، وفي أن قوله: "إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنَّها رجس" بمنزلة قوله: "ينهيانكم عن كل رجس"، وفي أن قوله -تعالى-: {إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} نهى عن كل رجس، وفي أنّ قوله في الهر: "ليست بنجس؛ إنّها من الطوّافين عليكم والطوافات" بمنزلة قوله: "كل ما هو من الطوّافين عليكم والطوافات؛ فإنَه ليس بنجس، ولا يستريب أحد في أنّ من قال لغيره: "لا ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (7/ 391، 392).

تأكل من هذا الطعام؛ فإنّه مسموم" نهى له عن كل طعام كذلك، وإذ قال: "لا تشرب هذا الشراب فإنّه مسكر"، نهى له عن كل مسكر، و"لا تتزوّج هذه المرأة؛ فإنها فاجرة" وأمثال ذلك. الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دلّ عليه النّص ولم يفهموا دلالته عليه وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرّد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ضربًا ولا سبًّا ولا إهانة غير لفظة أف، فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان. الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه؛ لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علمًا بالعدم. الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحّة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحّة شرط أو عقدٍ أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأنَّ الأصل في العقود والشروط الصحة إلَّا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنَّه لا حرام إلَّا ما حرّمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلَّا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنَّه لا واجب إلَّا ما أوجبه الله، ولا حرام إلَّا ما حرّمه الله، ولا دين إلَّا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم وبين أخطاء أصحاب الرأي والقياس فقال: "وأمَّا أصحاب الرأي والقياس: فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها؛ وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشبه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أنّ الشارع علّقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن

عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا: فتارة يقدّمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس، فكان خطأهم من خمسة أوجه: أحدها ظنّهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث. الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان هو العدل فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام. الرابع: اعتبارهم عللًا وأوصافًا لم يعلم اعتبار الشَّارع لها وإلغاؤهم عللًا وأوصافًا اعتبرها الشَّارع -كما تقدَّم بيانه-. الخامس: تناقضهم في نفس القياس -كما تقدَّم أيضًا-" (¬1). ثمَّ قال في بيان فضل الصحابة في العلم على من بعدهم: "هذا فيما انفردوا به عنّا، أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها -من دلالات الألفاظ والأقيسة-؛ فلا ريب أنهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلفًا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفّق له نحن، لما خصهم الله -تعالى- به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلّة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرّب -تعالى-، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصولين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلّا أمران: أحدهما: قال الله -تعالى- كذا، وقال رسوله كذا .. ¬

_ (¬1) "أعلام الموقعين" (1/ 349).

والثاني: معناه كذا وكذا وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمّة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما وأما المتأخرون فقواهم تفرقة، وهممهم متشعّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص، وإن كان لهم همم تسافر إليها وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلّت من السير في غيرها، وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها. والمقصود أنّ الصحابة أغناهم الله -تعالى- عن ذلك كلّه، فاجتمعت قواهم على تينك المقدّمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفاتها، وصحتها وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون وقلّة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب فمنهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فيعزلها من الدين والعلم والله المستعان (¬1). ولعلّ انتساب كثير من أهل العلم إلى المذاهب الأربعة ومذهب أهل الظّاهر ساعد في ضعف الأخذ بآثار الصحابة والعناية بها كالعناية بالحديث النبوي رواية ودراية وقد أشار إلى هذا ابن القيم -رحمه الله- (¬2). ولا يعني هذا أن أتباع الأئمة جانبوا الصواب في معرفة الأحكام فأصول مذاهبهم معتمدة على الحديث والأثر، وبهذا كان ينادي الأئمة فما كان من تقريراتهم على منهاج الأئمة فهو الحق وبهذا حصل اتفاق الأتباع؛ لأنَّ المشكاة واحدة وما كان سوى ذلك فهو مكمن الخلاف بين الأتباع وبهذا يتبين أن أعلم الناس بالحديث والأثر سندًا ومتنًا أسعد بالصواب في كافة أبواب العلم. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (4/ 148، 149، 150). (¬2) "انظر الإعلام" (2/ 226).

وقد رغبت وحرصت على إحياء هذا المنهاج من خلال مذاكرة أهل العلم الكبار أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ المحدّث ناصر الدين الألباني -رحمهما الله- وغيرهما من أهل العلم ومن خلال الدروس والدورات العلمية فحصل -بفضل الله تبارك وتعالى- اهتمام من طلبة العلم وعودة إلى فقه السلف الصالح، ثم إني رأيت من المناسب تطبيق هذا المنهاج عن طريق التعليق على أحد الكتب الفقهيّة فاخترت "الروضة الندية" للعلامة صديق حسن خان -رحمه الله- لأمور منها: 1 - لعنايته بالحديث. 2 - ولأنّه يتدارس كثيرًا في عدد من أقطار العالم الإسلامي. 3 - ولأنه أيضًا لا يعني كثيرًا بآثار الصحابة ولا يرى أنّها حجّة في الأحكام سيرًا على أصول الظاهريّة ولعلّ هذا التأصيل تسبب في ظهور بعض الآراء الفقية الغريبة والتي لا سند لها من فقه السلف الصالح. ومنهجي في الاستدراك على "الروضة" هو في ما يلي: 1 - دراسة وتحقيق الأحاديث والآثار دراسة علمية. 2 - العناية بفقه الصحابة ونقل ما أجده ثابتًا عنهم في كل مسألة. 3 - نقل أجود ما أجد من كلام أهل العلم الذين عرفوا بالعناية بالأحاديث والآثار في تعقب المصنف. 4 - دراسة تقريرات أهل العلم ومن ثم مناقشتها. 5 - لا تخرج التقريرات التي أسوقها مرجحًا لها عمّا في المذاهب المعروفة أو قال بها أحد الأئمّة وله سلف من الصحابة. وقد رأيت أن أقتصر على العبادات على أن يكون التعليق الواسع على مورد المؤلّف في كتابه وهو "نيل الأوطار" للعلامة الشوكاني -يسّر الله البدء به وإتمامه- وسمّيت هذا الكتاب "النكت العليّة على الروضة الندية"، ولا

يفوتني في الختام أن أشكر تلميذىِ الوفي خلف بن سعود الدهيم، والَّذي قام بتوثيق العزو من مصادره جزاه الله خيرًا، والله أسأل أن يجعله كتابًا مباركًا على من كتبه وقرأه وسمعه وأن يجعله حجة لي لا علي إنّه نعم المولى ونعم النصير. وصلَّى الله وبارك على نبينا محمَّد وآله وصحبه. وكتبه الفقير إلى عفو ربه أبو عبد الرحمن عبد الله بن صالح بن عبد العزيز العُبيلان المدينة النبوية 22 محرم / 1422 هـ

الطهارة

الطهارة أَوّلًا: بابُ الْمِياه 1 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "الأُولى: الماءُ طاهرٌ ومطهرٌ ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسُّنة، وكما دلَّ الدّليل على كونه طاهرًا مطهرًا، وقام على ذلك الإجماعُ، كذلك يدلُّ على ذلك الأَصل، والظّاهر، والبراءَةُ؛ فإنَ أَصل عنصر الماء طاهر مُطَهّر بلا نزاع، وكذلك الطهور يفيد ذلك، والبراءَةُ عن مخالَطَةِ النجاسةِ له مُسْتَصحَبةٌ". قال الفقير إلى عفو ربه: وأَصلُه في كتاب الله -عزَّ وجلَّ-: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغْسلْني مِنْ خَطايايَ؛ بالْماء، والثلْجِ، والْبَرَد" (¬3). 2 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "هذه المسأَلةُ الثالثة من مسائل الباب: ¬

_ (¬1) (1/ 87). (¬2) [الفرقان: 48]. (¬3) متفق عليه (خ / 744)، (م / 598). (¬4) (1/ 90).

ووجه ذلك: أَنّ الماء الّذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يُضف إلى شيء من الأُمور التي تخالطُه، فإنْ خالطه شيءٌ أَوجب إضافتَه إليه -كما يقال: ماء ورد، ونحوُه-؛ فليس هذا الماء المقيدُ بنسبَتِه إلى الورود -مثلًا- هو الماءَ المطلقَ الموصوفَ بأَنه طَهور في الكتاب العزيز؛ بقوله -سبحانه-: {مَاءً طَهُورًا (48)} (¬1)، وفي السُّنةِ المُطهَّرة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طَهور"؛ فخرجِ بذلك عن كونه مطهرًا، ولم يخرج به عن كونه طاهرًا؛ لأَن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماعُ الطاهِرَيْن؛ لا يوجِبُ خُروجَهما عن الوصفِ الذي كان مستحَقا لكلّ واحدٍ منهُما قبل الاجتِماع". قال الفقير إلى عفو ربه: ثبت في "الصَّحيح" من حديثِ ابن عبّاسِ -رضي الله عنهما- في الرَّجل الذي وقَصَتْهُ راحِلَتُه: "أَنَّ الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهم بغَسْله بماءٍ وسِدْرِ" (¬2). ولا ريبَ أَن السِّدْرَ سوفَ يُغَيِّرُ لونَ الماء. وثبت -أَيضًا- في "الصَّحيح": "أَن الرّسولَ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ اللاتي يَغْسِلْنَ ابْنَتَه؛ أَن يَغْسِلْنَها بماءٍ وسِدر، ويجْعَلْنَ في آخِرِهنَّ كافورًا -أَو شيئًا من الكافور-" (¬3). وثبتَ عند النَّسائِي (¬4) وغيرِه: أَن النبِي - صلى الله عليه وسلم - اغْتَسَل هو وبعضُ أَزواجِه من قَصعةٍ فيها أَثرُ عَجِينٍ. وثبتَ عندَ الترمذي (¬5) وغيرِه؛ مِنْ حديث قَيْسِ بْنِ عاصِمٍ: "أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَه أَنْ يغْتَسِلَ بماءٍ وسِدر". ¬

_ (¬1) [الفرقان: 48]. (¬2) البخاري: (1267)، ومسلم: (1206). (¬3) البخاري: (1255)، ومسلم: (939). (¬4) في "المجتبى" بِرَقمِ (240). (¬5) بِرَقم (605).

قال الفقير إلى عفو ربه: وكل هذِه الأَحاديثِ؛ فيها ماءٌ مُتغيرٌ بطاهرٍ؛ قد صحَّتِ الطهارةُ به. فالماءُ الْمُتَغَيّرُ لا يخلُو من إحدى صورَتَيْنِ: الأُولى: أَنّه يمكِنُ أَنْ يُطلَقَ عليه اسمُ (الماءِ المُطْلَقِ)؛ بحيثُ يكونُ هو الغالبَ على ما خالَطه؛ كما دلت عليه الأَحاديثُ السابقةُ؛ فهذا تجوزُ الطهارةُ به. الثانية: ألّا يُمْكِنَ أَنْ يُطْلَقَ عليه اسمُ (الماءِ الْمُطلَقِ): كالنبيذ -مثلًا-، و (الشاي)، و (القَهوَة)، ونحوِها؛ فهذا لا تصحُّ الطهارَةُ بهِ -قطعًا-. 3 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وقد أَطالَ القومُ في فروع موتِ الحيَوان في البئر، والعشر في العشر، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألْبَتَّةَ! ". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الْكَلامُ لا يَتعلَّقُ بمسأَلَةِ الباب، فتنبَّهْ -حَفِظَكَ الله-! 4 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "واحتجَّ أَهلُ هذا الْمَذَهب بمِثْل قوله -تعالى-: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} وبخبرِ الاستيقاظ، وخبرِ الولوغ، وأَحاديثِ النهي عن البول في الماء الدّائم، وهي جميعُها في "الصححيح"؛ ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أَنَّ لشيء منها دلالةً بوجه ما؛ كان ما أَفادته تلك الدلالةُ مقيدًا بما تقدَّم؛ لأن التّعبد إنما هو بالظُّنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أَنه لا يَبْعُدُ أَن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النّجاسة باستعمال الماء إلا ¬

_ (¬1) (1/ 92). (¬2) (1/ 95 - 97).

إذا خالطتِ الماء -بجرمِها، أَو بريحها، أَو بلونها، أَو بطعمها- مخالطةً ظاهرة توجب ذلك الظّنَّ. ولا شك ولا ريب أَنّ ما كان من الماء على هذه الصفة يَنْجُس؛ لأَن المخالطة إن كانت بالجِرم؛ فالمتوضئ مُستَعمِل لِعَيْنِ النّجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح، أَو اللّون، أَو الطعم؛ فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجّحناه. والحاصلُ: أنّهم إدن أَرادوا -بقولهم: إنْ ظُنَّ استعمالُ النّجاسة باستعماله؛ فهو القليل، وإدن لم يُظَن؛ فهو الكثير -ما هو أَعمُّ من عين النّجاسة، وريحها، ولونها، وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجّحناه؛ إلَّا من جهة أَنّ هؤلاء اعتبروا الْمَظِنّة، وأَهلَ المذهب الأَوّل اعتبروا المَئِنّة؛ ولكن لا يخفى أَن المظَنَّة إذا كانت هي الصادرةَ من غير أَهل الوسوسة والشكوك؛ فهي لا تكاد تخالف المَئِنَّة في مثل هذا الموضع، وإن أَرادوا استعمال العين فقط، أَو عدمَ استعمال العين فقط؛ فهو مذهب مستقلّ غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أَنهم أرادوا المعنى الأَوّل، ويدلُّ على ذلك: أنَّه قد وقع الإجماع على أنّ ما غيرَ لون الماءِ، أَو ريحَه، أَو طعمَه من النّجاسات؛ أَوجب تنجيسه. -كما تقدَّم تقريرُه-، فأَهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك؛ لدخولهم في الإجماع، بل هو مصرح لحكاية الإجماع في "البحر". فتقرر بهذا؛ أَنهم يريدودن المعنى الأوّل -أعني: الأَعمَّ من العين، والريحِ، واللّون، والطعم-؛ ثبوتًا وانتفاءً، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبَيْن؛ لأَن أهل المذهب الأَوّل لا يخالفون في أَنّ استعمال المطهّر لعين النجاسة مع الماء؛ موجب لخروج الماء عن الطهوريّة؛ خروجًا زائدًا على خروجه عند استعمال ما فيه مجرّد الريح، أَوِ اللون، أوِ الطعم؛ فتأَملْ هذا؛ فهو مفيد. بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأَدلة الدالّة عليها على هذه الصورة التي لخصتها ممّا لم أَقف عليه لأَحد من أَهل العلم، وهذِه المسأَلةُ هي من المضايِقِ التي

يتعَثَّرُ في ساحَتِها كلُّ مُحَقق، ويَتَبَلَّدُ عِندَ تشعّب طرائِقِها كلُّ مُدَقِّق". قال الفقير إلى عفو ربه: لكنْ ينبغِي أن يقالَ: إن الماءَ إذا كانَ قليلًا؛ ووقَعَتْ فيه نجاسة؛ فإنَّه لا يُتَوَضئُ به؛ لأن الذي يغلِبُ على الظنِّ في مثْلِ هذهِ الصُّورةِ تأَثُرُه بهذه النّجاسة؛ وإن لم يَظْهَر ذلك؛ وعليه يَدُل حَديثُ ولوغِ الْكَلْبِ في الإناءِ. 5 - قال الْمصَنِّف (¬1): (وما فوق القلتين وما دونهما): قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قرب، وفسرها أصحابه بخمس مئة رطل. . . ثمَّ قال: ويدفع ذلك ما مرَّ من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه. قال الفقير إلى عفو ربِّه: فقد ضَعَّفَه [أي حديث القلتين، ابنُ القَيِّم -رحمه الله- منْ خَمسَةَ عَشَرَ وجهًا (¬2). والْحق: أنَّه حدِيثٌ حَسَنٌ مِنْ حيثُ الصِّناعَةُ؛ كما قرَّر ذلك شيخُ الإِسلامِ، والحافِظُ ابنُ حجَرِ، وغيرُهُما (¬3). 6 - قال الْمصَنِّف (¬4): "ومُتَحركٌ وساكِنٌ؛ وجْهُ ذلكَ: أَن سكُونَه -وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به حالة-؛ فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طَهورًا؛ لأَنه يعود إلى وصف كونه طهورًا بمجرّد تحرّكه. وقد دلَّتِ الأَحاديث على أنَّه لا يجوز التطهير بالماء السّاكن ما دام ساكنًا؛ كحديث أَبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وغيره: أَنّ ¬

_ (¬1) (1/ 98). (¬2) انظر "تهذيب السُّنَن" (1/ 56). (¬3) انظر "التلخيص الحبير" (1/ 18) و"إرواء الغليل" (1/ 60). (¬4) (1/ 98 - 99).

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغتسلَن أَحدُكم في الماء الدّائم وهو جنب"، فقالوا: يا أَبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوَلُه تناوُلًا. وفي لفظ لأَحمدَ وأَبي داودَ: "لا يبولنَّ أَحدُكم في الماء الدائم، ولا يغْتَسِلْ فيه من جنابة". وفي لفظ للبخاري: "لا يبولَن أَحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثمّ يغتسل فيه". وفي لفظ الترمذي: "ثمّ يتوضأ منه". وغير هذه الروايات الّتي يفيد مجموعُها: النّهيَ عن البول في الماء الدائم على انفراده، والنّهيَ عن الاغتسال فيه على انفراده، والنّهيَ عن مجموع الأَمرَيْن. ولا يصحُّ أَنْ يقالَ: إن رِوايتَي الانفراد مقيدَتان بالاجتماع؛ لأَنّ البولَ في الماء على انفراده لا يجوز، فأَفاد هذا: أَن الاغتسال والوضوءَ في الماء الدّائم من دون بول فيه غير جائز، فمن لم يجد إلَّا ماءً ساكنًا، وأراد أَنْ يتطهَّر منه؛ فعليه أَنْ يحتال قبل ذلك بأْن يحرِّكَه، حتى يَخْرُجَ عن وصفِ كونِه ساكِنًا، ثمَّ يُتَوَضأُ مِنْهُ. وأَمّا أَبو هريرة؛ فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم؛ ولهذا لما سُئل: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولًا". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الفَهمُ الَّذي ذَهبَ إليه -رحمَه الله-؛ إنما دفَعَه إليهِ حِرصهُ عَلَى الأَخْذِ بظاهرِ النَّص؛ كما هي عادَتُه -رحمه الله-! والْحَق أَنَّه أَخطأ من عدَّةِ وجوه: الأوَّلُ: عدَمُ دِلالَةِ ظاهر النصوصِ على تحريم الوُضوءِ -أَوِ الاغْتِسالِ- بالماءِ السّاكِن؛ فإن النَّهي لم يأتِ إلَّا مقرونًا: إمّا بغُسلِ -الْجنابة، أَوِ البَولِ. الثاني: أَن النصوصَ يَجِبُ أَنْ تُفْهَمَ على ضَوْءِ فَهْمِ الصحابَةِ

-رَضِيَ الله عنهم-، وَلم يُنقَلْ عن واحدٍ منهُمْ أَنه أَمَرَ بِتحرِيك الماءِ السّاكِن قَبْلَ الْوُضوءِ!! الثالث: أَن هذا الوَصفَ -وَهُوَ كونُه ساكِنًا- لَيْسَ هُو مَناطَ الحُكْم؛ بدليلِ أَن الشارعَ لمْ يَنْهَ كل أَحدٍ عَنِ استِعمالِه؛ وإنما خَصَّهُ بالْجُنُب ومَنْ يبُولُ، فدَل على أَن العِلَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ (سَدُّ ذَرِيعَةِ فَسادِ الْماء)، وهذا هوَ الذي فهِمَه أَبو هريرةَ -رَضِيَ الله عنه-. 7 - قال المصَنِّف (¬1): "وَمُسْتَعْمَلٍ وغيرِ مُسْتَعملٍ: هذِه المسأَلةُ السادسةُ من مسائِل الْباب، وقد وقع الاختلاف بين أَهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات؛ وهل يخرج بذلك عن كونه مطَهِّرًا أَمْ لا؟ فحكي عن أَحمد بن حنبل، والليث، والأَوزاعي، والشافعيُّ ومالك -في إحدى الرّوايتين عنهما-، وأَبي حنيفة- في رواية عنه -: أَنّ الماء المستعمل غير مطهر، واستدلّوا بما تقدَّم من حديث النّهي عن الاغتسال في الماء الدّائم. ولا دلالة له على ذلك؛ لأَنّ علَّة الثهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء مستعملًا؛ بل كونه ساكنًا، وعلةُ السُّكونِ؛ لا مُلازَمَةَ بيْنَها وبَيْنَ الاستِعمال". قال الفقير إلى عفو ربه: نَهْيُه - صلى الله عليه وسلم - عنِ اغْتِسالِ الْجُنُب فِيه: لا يدلُّ على أَنّه نَجسٌ بِمُجَرَّدِ الاغْتِسالِ؛ إذْ ليس في اللفْظِ ما يدُل على ذلك؛ بل نَهْيُه - صلى الله عليه وسلم - سَدٌّ للذرِيعَةِ، أَوْ يقال: إنَّه مكروهٌ بمجَرَدِ الطبعِ؛ لا لأَجلِ أنَّه ينجسُهُ. 8 - قال الْمصَنِّف (¬2): "فالحَق: أَن الْمُستَعْمَلَ طاهِرٌ وَمُطهرٌ؛ عملًا بالأَصل وبالأَدِلَّةِ الدّالةِ على أنّ الماءَ طَهُورٌ". ¬

_ (¬1) (1/ 100 - 101). (¬2) (1/ 102).

ثانيا: باب النجاسات

قال الفقير إلى عفو ربه: لم يقُم دَليلٌ من الْكِتاب والسُّنَّة والأَثَر على أَن المياهَ تَنْقَسِمُ إلى ثلاثَةِ أَقسامٍ -طَهُورٍ، وطاهِر، وَنَجس- كما يُقَررُه كثِيرٌ من الفقهاء-! بَلِ الْحَق -كما هُو الدليلُ- أَن الْمياهَ قِسمانِ: طَهورٌ، وَنَجِسٌ. والماءُ المستعمل؛ لا ريبَ أنه ليس بِنَجِسٍ؛ لأَن غايةَ ما فِيه: أنَّه ماءٌ طاهِرٌ؛ لاقَى أَعضاءً طاهِرَةً؛ فما الذي يُخْرِجُه عن كوْنِه طَهُورًا؟! قال الله -تعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1)؛ فلا يَحلُّ الْعُدُولُ عَنه إلى التَّيَمُم؛ لأنه داخل في عُمومِ الآية -قطعًا-. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ" (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماءَ لا يَجْنُبُ" (¬3). * * * ثانِيًا: بابُ النَّجاسات 9 - قال الْمصَنِّف (¬4): "فالحق الْحَقِيقُ بالْقَبُولِ: الْحُكم بنجاسة ما ثبَتت نجاستُه بالضرورة الدينِية -وهُو بولُ الآدَمِي وغائِطُه، وأمَّا ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته -كالروثة-؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأَصلية كافيةٌ في نفي التعبّد يكون الشيء نجسًا من دون دليل؛ ¬

_ (¬1) [المائِدَة: 6]. (¬2) مُتفق عليه (خ / 283)، (م / 598). (¬3) أَخرجَه أَبو داودَ (68)، والترمِذِيُّ (65)، وغيْرُهما. (¬4) (1/ 107).

فإن الأَصل في جميع الأَشياء الطهارةُ، والحكم بنجاستها حكمٌ تكليفيّ؛ تعمُّ بها البلوى، ولا يَحلُّ إلا بعد قيام الحُجة. قال الماتن -رحمه الله تعالى-: ولا يخفى عليك أَن الأَصل في كل شيء أنَّه طاهر؛ لأَنّ القول بنجاسته يستلزم تعبُّدَ العباد بحكم من الأَحكام، والأَصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأَنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبتَ ثبوتًا يَنْقِلُ عن ذلك، وليس مَنْ أَثبَتَ الأَحكام المنسوبة إلى الشّرع بدون دليل بأَقَلَ إثمًا ممَّن أَبطل ما قد ثبت دليله من الأَحكام، فالكلُّ إمّا من التقوّل على الله -تعالى- بما لم يقل، أَو مِنْ إبطال ما قدْ شَرَعَه لِعبادِه بلا حُجة". قال الفقير إلى عفو ربه: غاية ما اعتمَدُوا عليه -رحمهمُ الله تعالى-: هو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "عامَّةُ عَذاب الْقَبْرِ مِنَ البَوْلِ؛ فَتَنَزهُوا مِنَ الْبَوْلِ" (¬1)؛ فَظَنُّوا أَن هذا عامٌّ في جَمِيعِ الأَبوالَ! والْحَق أنَّه ليسَ كذَلِكَ؛ فإن اللام لِتَعْريف الْعَهد، والبَولُ المعْهود: هو بولُ الآدَمي؛ فَفي حدِيثِ ابنِ عبّاسِ - رضي الله عنهما -: "كانَ أَحَدُهما لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ" (¬2)، وهذا صَريحٌ في أَن الْمُرادَ: بولُ الآدَمِي. 10 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "إلَّا الذكر الرَّضِيع؛ لحديث: "يُغسَلُ من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام": أخرجه أبو داود -رحمه الله تعالى-، والنسائيُّ -رحمه الله تعالى-، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح -خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصححه الحاكم. وأَخرج أَحمد والترمذي- وحسّنه-، من حديث عليّ - رضي الله عنه -، أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) أَخرَجَه الدارَقُطنِي (1/ 218)، والحاكِمُ (1/ 183)، وغَيرُهما من حديث ابنِ عباس، وإسنادُه صحيح. (¬2) متفق عليه (ح / 218)، (م / 678)، واللفظ للبخاري. (¬3) (1/ 109).

"بولُ الغلام الرَّضيعِ ينضحُ، وبولُ الجارية يُغْسَلُ". وأَخرج -أَيضا- ابْنُ ماجه، وَأَبو داود بإسنادِ صحيح عن عليّ؛ موقوفًا. وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والطبراني، من حديث أُمّ الفضل -لُبابة بنت الحارث-، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال: "إنما يُنْضَحُ من بول الذكَر، ويُغْسَل من بول الأُنثى". وثبت في "الصحيحين"، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنّها أتت بابنِ لها صغير -لم يأكل الطعام- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله. وفي "صحيح البخاريّ" من حديث عائشةَ، قالت: أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَصَبى يُحَنكُه، فَبال عليه، فأَتبَعَه الماء. وفي "صحيح مسلم" عنها، قالت: كان يؤْتَى بالصبيان، فَيُبرك عليهم، ويحنكُهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماءٍ، فأَتبَعه بولَه ولم يغْسِله. فهذا تصريح بأَنه لم يغسِلْه، فيكون إتباعُه الماءَ مجرّد النّضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أَو مجرّد صبّ الماء عليه من دون غسل. وبالجُملة: فالتَّصرِيح منه - صلى الله عليه وسلم - بالقولِ بما هو الواجِبُ في ذلك؛ هو الأَولَى بالاتباع؛ لكَونِه كلامًا مَعَ أُمَّتِه، فلا يُعارِضُه ما وقع من فِعْلِه؛ على فَرَضِ أنّه مُخالِفٌ للقَوْل". قال الفقير إلى عفو ربه: وَهنا لا يَظْهَرُ -مُطْلَقًا- أَدنَى تعارُض بينَ قولِه - صلى الله عليه وسلم - وَفعلِهِ؛ فإنّه يجِبُ حَمْلُ الْمُجمَلِ -في قولِها: "فأَتبَعَهُ الْماءَ" -علَى الْمُبَينِ- في رِوايَةِ: "وَلَمْ يَغْسِلْهُ"-؛ والْفِقه إنما يُؤخَذُ من مَجْمُوع النُّصوصِ والطُّرُقِ.

11 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وهذا فيه مخالَفة لِما وقع في هذه الأَحاديث الصحيحة من التَّفرقة بين الغلام والجارية". قال الفقير إلى عفو ربه: وسبب هذه المُخالَفةِ؛ عدمُ النظرِ إلى النّصوصِ الواردة في هذه الْمسأَلة، وَمِنْ ثَمَّ جَمْعُها؛ لِيَتَبَيَّنَ فِقْهُها. وهذِه إحدَى المآخِذِ الكَبيرَةِ على بعضِ الفُقهاءِ؛ الَّذين يأْخُذون الفِقْهَ مِن نصّ واحد ويدَعُون باقِيها؛ فإن الفقه الْمُحَقَّقَ هو قدرَةُ العالِم على التَّوفِيق بين الأَدلَّة؛ كما قال -تعالى- بعد أَنْ ذَمّ أَهلَ الكتابِ بأَخذِهِمْ بعضَ العِلمِ، وَتركِهِم بعضَهُ-: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} (¬2). 12 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وليتَ أَنّ المَشْغُوفِينَ بِمَحَبة مذاهب الأَسلافِ جَعَلُوهُ كَأَسلافِهم، فسلكوا فيما بين كلامِهِ وكلامهم طريقةَ الَإنصاف؛ ولكنَّهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأَسلافهم، فيردُّون كلامه - صلى الله عليه وسلم - إلى كلامِهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإنْ لم يوافقهم؛ فالقول ما قالت حَذامِ. فإنْ أَنكرتَ هذا؛ فهاتِ؛ أَبِنْ ليَ ما الَّذي اقتَضى هذه التّأوِيلاتِ المتعسفَةَ، وردّ أَحاديثَ التخصِيصِ الصَحِيحَةَ؟! مع تسليمهم أَن الخاصَّ مقدَّمٌ على العام، وأنّه يُبْنَى الْعامُّ على الخاص! وهذا مُشْتَهِرٌ في الأُصولِ اشْتِهار النهار". قال الفقير إلى عفو ربه: وسَبَب هذا -والله أَعلم-؛ هُو التقليد المَذْمومُ في الكِتاب والسُّنة، ودافِعُه الأَكْبَرُ هو تعظِيمُ الرِّجال؛ فمُجَرّد التَقليد لأَحدِ القائِلين بغير حجةٍ؛ لا يَسُوغُ في عَقْل ولا دِين. ¬

_ (¬1) (1/ 109). (¬2) [النساءُ: 78]. (¬3) (1/ 111 - 112).

13 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ولُعابُ الْكلْب: قد ثبَت في "الصَّحِيحَين" وغيرهما من حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه -: أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شرب الكلب في إناءِ أَحدِكُمْ؛ فليَغْمِسه سبعًا". وثبت -أَيضًا- عندهما وغيرِهما مثلُه من حديث عبد الله بن مُغَفلِ؛ فدَلَّ ذلك على نَجاسَةِ لُعابِ الْكلْب -وهُو الْمُطْلوبُ هُنا-". قال الفقير إلى عفو ربه: وَلِلعُلماءِ في حُكْم بَدَن الْكلْب وَعَرَقِهِ؛ ثَلاثةُ أَقوالٍ. الأَوّل: أَن الكلبَ طاهِرٌ، وليس بِنَجِسٍ، حتى ريقُه، وقَرَّروا ذلك؛ بأَن الأَمر في تطهير الإناء الذي ولَغَ فيه الكَلبُ: تَعَبدِيٌّ. الثاني: أَنّ الكلب -كُلَّهُ- نَجِسٌ؛ وإنما نُصَّ على وجوب تطهير ما وَلغَ فِيه الْكَلبُ؛ لأَنّه هو الغالب، والْبَلْوَى بِه أَعَمُّ. الثالث: أَنَّ الرّيقَ نَجِسٌ، والبَدَنَ طاهِرٌ؛ وهذا أَسْعدُ الأَقوال بالدَّليلِ العال؛ وذلك أَن الشَّرعَ الْمُطَهَّرَ قد أَباحَ الصَّيْدَ بالْكَلْب، ومِنَ المَعلوم أنَّه لا بُد مِنْ مخالَطَتِه لصاحِبِه، فَلو كانَ بدَنُه وَعَرَقُه مِما يجِبُ اتقاؤُهُ لَبَينَه الشَّرعُ. قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬2). فإن قِيل: فما حُكْمُ بوله؟ قِيل: قام الإجماعُ على نجاسَتِه. 14 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "والحاصل: أَن الحق ما قَضَى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ التسبيع ¬

_ (¬1) (1/ 112). (¬2) [التَّوبة: 115]. (¬3) (1/ 112 - 113).

والترتيب، وليس من شرط التعبدِ الاطلاعُ على علل الأَحكام التي تعَبَدَنا اللهُ بها -على ما هو الرَّاجح-، وقد صحّ لنا الأَمر منه - صلى الله عليه وسلم - بالغُسْل على الصّفة المذكورة بالأَحاديث "الصحيحة" ولم نجد عنه ما يدلُّنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحلُّ تحويلُ الشرع المتقرّر بأَقوال علماء الأُمّة، سواءٌ كان القول المخالف منسوبًا إلى جميعهم، أَو إلى بعضهم، وقد حَفِظَ اللهُ هذه السُّنّة بأَقوالِ جماعةٍ من عُلماءِ الأُمّةِ؛ كما هو معروفٌ في كتب الخلاف؛ والفقه، وشروح السنَّة". قال الفقير إلى عفو ربّه: فالفَضْلُ في هذا يعودُ -أوّلًا- إلى الله -تبارك وتعالى-، ثمَّ إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ إلى أَصحابِه -رضي الله عنهم-، ثمّ إلى حمَلَة السُّنة والآثارِ مِنَ أَهل العلم -رحمهمُ الله-. 15 - قال المصَنِّف (¬1): "وقد قدَّمْنا كلامَ التَّيمِي في تخصيص ذلك بِرَوثِ الخَيل، والبغِال، والحَمِير". قال الفقير إلى عفو ربه: قِياسُ الخَيلِ علَى الحَمير والبِغالِ ليسَ صوابًا؛ فإن الله -تعالى- قد أَحل أَكْلَ لُحوم الخيل -كما هُو ثابِتٌ في السُّنَّة-، وحَرَّمَ أَكْلَ لحوم الحَمِيرِ، والْبِغال؛ فَتَفَطَّنْ! 16 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وأَما سائِرُ الدّماءِ؛ فالأَدلَةُ فيها مختلفةٌ مضْطربةٌ، والبراءَة الأَصلية مُسْتصحَبَةٌ، حتى يأتيَ الدليل الخالص عن المعارضة الرّاجحة، أَوِ المساوِيَة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: دَمُ الإنسانِ؛ ينقَسمُ إلى ثلاثةِ أَقسامٍ: ¬

_ (¬1) (1/ 113). (¬2) (1/ 115).

الأولُ: دمُ الْحَيض؛ وهذا نجِسٌ باتفاق الصحابَة، إلا اليَسِيرَ؛ فقد روَى ابنُ أَبي شَيْبَةَ (¬1): ثَنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن أَبي هاشم، عن سعيد بنِ جُبير، قال: "إنْ كانَ بعضُ أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لَتَقْرُصُ الدَّمَ عن ثوبِها بِرِيقِها". الثاني: دَمُ العِرقِ الكَثيرُ؛ ولا نِزاعَ بينَ الصحابة في نجاسته؛ وإليك ذلك: 1 - ابن عُمر: أ- روى ابن أَبي شَيْبة (¬2)، قال: حدَثنا ابن نُمَير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنَّه رأى في ثوبه دمًا؛ فَغَسَله، فبقي أَثرُه أَسودَ، ودَعَى بِمِقَصّ فَقصَّه فقَرَضَه". 2 - ابن عباسِ: روَى ابنُ المُنذر (¬3)، قال: حدَثنا يحيى بن محمد: نا أَحمد بن حنبلٍ: نا أَبو عبد الصَّمد العميّ: نا سليمان عن التيْمي، عن عمَّار، عن ابنِ عباس - رضي الله عنه -، قال: إذا كانَ الدَّم فاحشًا؛ فعليه الإعادة، ولو كان قليلًا فلا إعادة عليه". ب- رَوَى ابنُ الْمُنذر (¬4)، قال: حدَّثنا سليمانُ بن شعيب الكَيساني: نا بشر بن بكر: نا الأوَزاعي: أَخبرني ابن شهاب: أَخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، عن أَبيه: "أَنه كان إذا رأى في ثوبه دمًا؛ وهُو في الصّلاة؛ انْصَرف حتّى يغْسِلَه، ثمّ يُصلّي ما بقي من صلاتِه". ¬

_ (¬1) (1/ 197) بإسناد صحيح. (¬2) (1/ 198) بإسناد صحيح. (¬3) في الأوسط (2/ 152). (¬4) في الأوسط (2/ 163) بإسناد صحيح.

جـ- روى ابن أَبي شَيْبَة (¬1)، قال: ثنا ابن نُمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: "أَنّه كان إذا احتَجَم غسَّل أَثر مَحاجِمِه". الثالث: الدَّمُ اليسير؛ وهذا طاهرٌ، والآثار عن الصحابة متواترة في ذلك: 1 - ابن عمر: روى ابن أَبي شيبة (¬2)، قال: حدَّثنا عبد الوهاب، عن التَّيْمِي، عن بكر، قال: "رأَيتُ ابن عمر عَصَر بَثْرَةً في وجْهِه، فخرج منها شيء مِنْ دَمٍ؛ فحكَّه بينَ أصبَعَيْه، ثمّ صلى ولم يتوضأ". 2 - أَبو هريرة: روى عبد الرَّزاق (¬3) عن معمر، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال: "رأَيتُ أَبا هريرة أَدخل أُصبَعه في أَنفه، فخرَج فيها دمٌ ففته بأَصابعه، ثمّ صلى ولم يتوضأ". 3 - عبدُ الله بن أَبي أَوفَى: روى عبد الرَّزاق (¬4)، عن الثوري وابنِ عُيينَة، عن عطاءِ بن السائب، قال: "رأَيت عبد الله بن أَبي أَوفى بصَقَ دمًا، ثمّ صلّى ولم يتوضأْ". 4 - جابر بن عبد الله: روى ابنُ أَبي شَيبة (¬5)، قال: حدَّثنا وكيع، قال: حدَّثنا عُبيد الله بن حبيب بنِ أَبي ثابت، عن أَبي الزُبير، عن جابر: "أنَّه أَدخل أُصبَعَه في أَنفه فَخَرجَ عليها دَمٌ؛ فمسحه بالأَرض -أَو بالتُّراب- ثمّ صلى". ¬

_ (¬1) (1/ 47) والبيهقيُّ في "السنن الكبرى" (1/ 280) من طريق ابن نُمير به. وإسناده صحيح. (¬2) (1/ 138). (¬3) (1/ 145). (¬4) (1/ 148). (¬5) "المصنف" (1/ 128).

ولم يعارضْ ما تقدَّم -مِنْ أَن دمَ الإنسان الكثِيرَ نَجِسٌ- إلَّا أَحدُ دَليلَين؛ وهما في حالةٍ خاصة: الأَوّل: ما ورد عن عمر - رضي الله عنه -، "أنَّه صلى وجُرحُه يَثْعَب دمًا" (¬1). أما أَثرُ عمر: فمن المعلوم أنَّه لا يمكِنُه الصلاةُ بغير هذه الحال؛ فهذه حالة ضرورة، ونظيرُها خروجُ الدّم من المستحاضة. الثاني: قول الحسن البصريّ: "ما زال المسلمون يصلُّون في جِراحاتِهم" (¬2). وأَما أَثر الحسن؛ فإنَّه في الجهاد، ومن المعلوم أَن الله خفف أَحكام هذه العبادة بمثل هذه الحال: فقال -تعالى-: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬3). وقال -تعالى-: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ (239)} (¬4). ثمّ إنه قال -سبحانَه- في آيةٍ أُخرى -مِنْ سورة النساء-: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬5)؛ فهذا يعني: أَن الله -تبارك وتعالى- رخص للمجاهِدين تركَ بعض أَركان الصلاة في حالة الضرورة، ثمَّ أَمرهم عند زوالِها بإقامة الصلاة بجميع أَركانها وشروطها. وهكذا الحال فِيمن صلى بجراحاتِه؛ فإنّه يجب أَن يحمل على ما تقدَّم، ثمَّ إن الماءَ لا يكون متوفرًا -غالبًا- في تلك الأَحوال؛ فهو مأْمور -والحالة هذه- أَن يصلّيَ بجراحاتِه. الثالث: حديث عباد بن بشر الذي علقه البخاري -ويذكر عن جابر-: ¬

_ (¬1) أَخرجه الدَّارقطني (1/ 224)، وأَصلُه في "البُخاريّ" (3700). (¬2) رواه ابن أَبي شيبة (1/ 392). (¬3) [البقرة: 239]. (¬4) [البقرة: 239]. (¬5) [النساء: 103].

"أَن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ذات الرّقاع، فَرُمِي رجلٌ بسهم فنزَفَه الدّم، فركع وسجد، ومضى في صلاته". قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا قد ذكره البخاري معلّقًا بصيغة التمريض (¬1)، ووصلَه غيره بسندٍ ضعيف (¬2). ثمّ على فرض أنّه صحيح، فليس فيه حجّة؛ لأُمور: الأوَّل: أنها قضية عَيْن لا عموم لها. الثاني: أَن آثار الصحابة متَّفقة على خلافه. "ومِمّن يرى نقضَ الوضوء بالدّم الخارج من غيِر السبيلين: -الخلفاءُ الأَربعة. - وقيل: باقِي العشرة المبشرين بالجنة. - وابن مسعود، وابن عباس، وثوبان، وأَبو الدرداءِ، وزيدُ بن ثابت، وأَبو موسى الأَشعري، وابن عُمر" (¬3). الثالث: أَن يقال: إن ذلك كان على الأَصل، وآثار الصحابة ناقلة عنه. وقد اتفق أَهل العلم على نجاسة الدّم؛ منهم: ¬

_ (¬1) (34 - باب من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين من القبل والدبر). (¬2) "وصله ابن إسحاق في "المغازي"، قال: حدّثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن أَبيه؛ مطوّلًا. وأَخرجه أَحمد، وأَبو داودَ، والدارقطني (1/ 223 - 224). وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم؛ كلّهم من طريق ابن إسحاق؛ وشيخُه صدقة ثقة، وعَقيل -بفتح العَين- لا أَعرف راويًا عنه غير صدقة؛ ولهذا لم يجزم به المُصَنِّف؛ أَو لكونه اختصرَه؛ أَو للخلاف في ابن إسحاق" "فتح الباري" (1/ 85). وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (1/ 357 - 359 / رقم: 193 - غراس)، والله أعلم. (¬3) انظر: "المَنهل العذب المَورود" (2/ 234).

1 - قال الإمام أَحمد "الدّم لم يختلِفِ الناس فيه، والقيح قدِ اختلف النَّاس فيه" (¬1). 2 - قال ابن المُنذر: "فغَسل دم الحيض يجب؛ لأَمر النّبي - صلى الله عليه وسلم - بغَسله، وحكمُ سائر الدماءِ كَحكْم دم الحيض، لا فرق بين قليل ذلك وكثيره" (¬2). 3 - قال ابن حزم: "واتفقوا على أَن الكثير من أَيّ دمٍ كان -حاشا دمَ السّمك وما لا يسيل دمُه- نَجِس" (¬3). 4 - قال ابن عبد البَر: "وهذا إجماع من المسلمين؛ أنّ الدّم المسفوحَ رِجس نَجِس؛ إلَّا أَن المسفوح وإن كان في أَصله الجاري في اللغة؛ فإنّ المعنى فيه -في الشريعة-: الكثيرُ؛ إذِ القَليلُ لا يكون مسفوحًا، فإذا سقطت من الدّم الجاري نقطة في ثوب أَو بدن: لم يكن حكمُها حكمَ المسفوح الكثيرِ، وكان حكمُها القليلَ، ولم يُلتَفت إلى أَصلها في اللغة" (¬4). 5 - قال الإمام ابن العَرَبي: "اتفق العلماء على أَنّ الدّم حرام نجس لا يؤْكل، ولا ينتفع به، وقد عيّنه الله -تعالى- ها هنا - مطلَقًا، وعينه في سورة الأَنعام مُقيدًا بالمسفوح، وحمَلَ العلماء -ها هنا - المطلقَ على المقيد؛ إجماعًا" (¬5). 6 - قال ابن قُدامة: " ... يعني: ما خرج من السبِيلَين؛ كالبول، والغائط، والمذي، والوَدي، والدّم، وغيره؛ فهذا لا نعلم في نجاسته خلافًا" (¬6). ¬

_ (¬1) شرح العمدة" (1/ 105) لشيخ الإِسلام ابن تيمية. (¬2) "الأَوسط" (2/ 153). (¬3) "الإجماع" (19). (¬4) "الإجماع" (34). (¬5) "أَحكام القرآن" (1/ 53). (¬6) "المغني" (1/ 490).

7 - قال النووي: "والحديث فيه دِلالة على أَن الدّم نجس؛ وهو بإجماع لمسلمين " (¬1). 8 - قال ابن الملقن: "الدّم نجس بالإجماع إلا من شذ" (¬2). 9 - قال ابن حجر: " .. لأَن جميع النّجاساتِ بمثابة الدَّم لا فرق بينه وبينها إجماعًا" (¬3). أما دم الحيوان؛ فللصحابة فيه قوْلان: الأوّل: طهارته؛ وهو ما ذَهب إليه ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما روى يحيى بن الجزار، قال: "صلى ابن مسعود- وعلى بطنه فَرث، ودم من جزور نحرها -ولم يتوضأْ" (¬4). الثاني: نجاستُه؛ وهو ما ذهب إليه أَبو موسى الأَشعريُّ - رضي الله عنه - عن ابن علية، عن حُميْد؛ فيما جاءَ عن أَبي العالية: "أَن أَبا موسى نحر جزورًا، فأَطعم أَصحابه، ثمّ قاموا يصلُّون بغير طهور، فنهاهم عن ذلك، وقال: ما أُبالي؛ مشيْتُ في فَرثِها ودَمها، ولم أَتوضأْ- أَو أَكلت من لحمها ولم أَتوضأْ؟! " (¬5)؛ هذا كلُّه إذا كان كثيرًا، أما القليل؛ فطاهر بالإجماع. 17 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وفيما عدا ذلك خلاف، وأَما المني؛ فاحتجّوا على نجاسته بأُمور: الأوّلُ: حديث عمَّار، وقد سلف عدمُ صلاحيته للاحتجاج. ¬

_ (¬1) "شرح مسلم" (3/ 200). (¬2) "شرح العمدة" (2/ 183). (¬3) "الفتح" (1/ 495). (¬4) أخرجه ابن أَبي شَيبة (1/ 344)، وعبدُ الرَّزاق (1/ 125) من طريق ابن سيرين، عن يحيى بن الجزّار؛ به. (¬5) أَخرجه ابن أَبي شيبة (1/ 515)، وإسناده صحيح. (¬6) (1/ 116).

والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة؛ وذلك لا تقوم به الحجة؛ لأنّه لم يكن إجماعًا ولا مرفوعًا. والثالث: بما ورد في المَذْيِ مِنَ الأَمر بغَسْل الفرج والأُنْثَيَيْنِ. ويجابُ عنه: أنَّه إثباتٌ لنجاسة المنى بقياس؛ لأنهما متغايران، على أَنه يمكِن أَنْ يكون التغليظُ في المذْي؛ إمّا لكونه يخرج غالبًا مختلطًا بالبول؛ أَو لأَنه ليس بأَصلٍ للنّسل". قال الفقير إلى عفو ربّه: لا يعرف عن أَحد من الصحابة أنَّه قال بنجاسة المني؛ بلِ الثابت عنِ ابن عبّاس، وسعدِ، وعائشةَ - رضي الله عنهم - القولُ بطهارة المنى؛ ولعلّه اختلط على الشارح -رحمه الله- ما ورد عنهم من آثارِ بنجاسة المَذْي، وما ورد من أَحاديثَ مرفوعة في نجاسته؛ فهي لا تخلوا: 1 - إمّا أَنْ تكونَ صريحة وليست صحيحة؛ كحديث عمّار: "يا عمّارُ! إنما يُغْسَل الثوب من خمس: من الغائط، والبول، والقيئ، والدّم، والمني ... "، أَخرجه الدَّارقطني (¬1)، وأَبو يعلى (¬2)، والبيهقيُّ (¬3)، وقال: "هذا حديث باطل لا أَصل له". 2 - وإمّا أَن تكون صحيحة؛ ولكنّها ليست بصريحة؛ كحديث عائشة في غَسْلِها المني من ثوبه - صلى الله عليه وسلم -؛ الّذي رواه البخاري ومسلم (¬4)؛ فإن هذا على الاختيار؛ جمعًا بين الأَدلة، واقتفاءً لفَهم الصحابة -رضي الله عنهم-. 18 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وبيْن الفريقين -القائلِين بالنجاسة والقائلين بالطّهارة -مجادلاتٌ، ¬

_ (¬1) "السنن" (1/ 127). (¬2) "المسند" (3/ 185). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 14). (¬4) البخاري (229)، ومسلم (289). (¬5) (1/ 118).

ومناظراتٌ، واستدلالاتٌ طويلة؛ استوفيناها في حواشي "شرح العمدة". انتهى.". قال الفقير إلى عفو ربه: انظز "بدائع الفوائد" (¬1)، لابن القيم -رحمه الله-. 19 - قال الْمُصَنّف (¬2): "وهذا الزّعم من أَبطل الباطلات؛ فالتحريم للشيء لا يدلّ على نجاسته بمطابقة؛ ولا تضمُّن، ولا التزام، فتحريم الخمر، والميتة، والدّم؛ لا يدلّ على نجاسة ذلك، وكأَن الشَّارع قد علِم وقوع مثلِ هذا الغلط لبعض أُمَّته؛ فأَرشدهم إلى ما يدفعه قائلًا: "إنما حرّم من الميتة أَكلُّها، ولو كان مجردُ تحريم شيء مستلزمًا لنجاسته؛ لكان مثلُ قوله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} -إلى آخره- دليلًا على نجاسة النّساء المذكورات في الآية!! ". قال الفقير إلى عفو ربه: للعلماء في حُكم الميْتة أَقوال ثلاثة: الأوّل: ما ذَكَره المؤلف؛ وهو طهارتها؛ تمسكًا بالأَصل. الثاني: نجاستها؛ وعدمُ جواز الانتفاع بشيء من أَجزائها؛ حتّى الجِلدُ لا يطهر بعد الدَّبغ. الثالث -وهُو الحق-: نجاسة ما دلّ الدّليل على نجاسته منها؛ كاللحم، والجلد: أما اللّحم؛ فأَمر مُجْمَع عليه، وأَما الجلد؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يطهرها الماء والقَرظ" (¬3)؛ فدلّ على نجاسته قبل الدّبغ. وأَمّا سائر أَجزائها -كالعظم-؛ فالأَصل فيه الطهارة. ¬

_ (¬1) (3/ 119 - 126). (¬2) (1/ 118). (¬3) رواه أبو داود (4126) وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (رقم: 3474 - المكتب الإِسلامي).

20 - قال الْمصَنِّف (¬1): "والمسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا؛ كما ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح"، وهكذا يلزم نجاسة أَعيانِ وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق؛ كالأَنصاب، والأَزلام، وما يُسكر من النّبات والثمرات بأَصل الخِلقة. فإن قلتَ: إذا كان التصريح بنجاسة شيءِ -أَو رِجْسِيتِه، أَوْ رِكْسِيتِه- يدلُّ على أنَّه نجِسٌ -كما قلتَ في نجاسة الرّوثة ولحم الخنزير -فكيف لم تحكمْ بنجاسة الخمر لقوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ}؟! قلتُ: لمّا وقع الخمر -ها هنا- مقترنًا بالأَنصاب والأَزلام؛ كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرّجسية إلى غير النجاسة الشرعيّة". قال الفقير إلى عفو ربه: وآخر الآيةِ - وهي قولُه -تبارك وتعالى-: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} -يدلُّ على صحة وصدق ما ذهب إليه -رحمه الله-، فالنجاسة -هنا- عملية معنوية، وليس حسّية؛ ومثله قوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬2)، وقوله -تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (¬3). وقد ذهب الجمهور إلى نجاسة الخمر، وبالغ بعضهم ونقل الإجماع! وهو اختيار شيخِ الإِسلام وتلميذِه ابنِ القيم -رحمهما الله تعالى- (¬4). 21 - قال الْمصَنِّف (¬5): "ثمّ ترى أَحدَهم يلعب به الشيطانُ، حتى يصيرَ ما هو فيه نوعًا من ¬

_ (¬1) (1/ 119). (¬2) [التوبة: 28]. (¬3) [التوبة: 125]. (¬4) واختار العلامة الفقيه الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين طهارته انظر "الشرح الممتع". (¬5) (1/ 122 - 123).

الجنون! فيغْسِل يده أَوْ وجهه مرّةً بعد مرة -حتّى يبلغَ العددُ إلى حدّ يَضِيقُ عنه الحصر- مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأنّ ذلك العُضوَ لم تُصبْه نجاسة مُغَلظَةٌ، ولا مخفَّفة، فلا يزال في تعب، ونصب، ومزاولة؛ لا يشك من رآه أَنّه لم يَبْق عنده من العقل بقيَّة، ثمَّ إذا فرغ من العضو الأَوّل بعد جهد جهيد؛ شرع في العُضو الثّاني، ثمّ كذلك، وكثير منهم من يَدخُلُ مَحَلَّ الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يَخرُجُ إلا بعد طلوع الشمس فما بلغ الشيطان هذا المبلغَ من أحدِ من العصاة؛ لأَنه عذب نفسه في معصية لا لَذةَ فيها للنّفس، ولا رِفعةَ للقَدر، وصار بمجرّد مجاوزة الثلاث الغُسْلات -كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن تجاوزها-: " ... فقد أَساءَ، وتعدّى، وظَلَم"، فجمع له - صلى الله عليه وسلم - بين هذه الثلاثة أَنواع، ثمّ لم يقنع منه بهذا، حتّى صيرَه تاركًا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلَّا تركُها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابرٍ بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بين الرجل وبين الكفر تركُ الصلاة"، أخرجه مسلم، وأَحمدُ، وأَبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه. وأَخرج أَهل "السُّنَن" وأَحمدُ من حديث بُريدةَ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "العهدُ الذي بينَنا وبينَهمُ الصلاة، فمن تركَها؛ فقد كفر". وأَخرج الترمذيُّ عن عبد الله بن شَقِيقِ الْعُقَيلِيِّ قال: "كان أَصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يَرَوْنَ شيئًا من الأَعمال تركُه كفر؛ غيرَ الصلاة". فانظر كيف صار هذا الموَسْوِسُ -بنصّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -: مُسيئًا، متعديًا، ظالمًا، كافرًا؛ إنْ بلغ إلى الحدّ الذي ذكَرناه، فهذا باعتبار ما لَه عند ربه". قال الفقير إلى عفو ربه: تارك الصلاة كسلًا فيه نِزاعٌ بينَ السَّلف والخَلَف؛ أَدناه: أَن عمله كُفرٌ.

وأَما المُوَسوِسُ؛ فلا يصحُّ أَنْ يوصفَ بالكفر، وإن تركَ الصلاةَ حتى خرجَ وقتُها؛ لأَجل التأويل والشُّبهة. 22 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وأمَّا باعتبار ما لَه عند الخلق؛ فأَقلُّ الأَحوال أَنْ يقالَ: مجنونٌ يلعب به الشيطان؛ في مخالفة شريعة الرحمَن فـ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرًا ما يُفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببًا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلًا لنفسه في معصية، فلا يَراحُ رائحة الجنة، كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فيمن قتل نفسه، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل. فمن كان جاهلًا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو! وهو قد غسل ذلك العضو مئات!! ومنهم من يقول: أريد أن اغسل غسلًا مشروعًا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلَّا وقد شملها الغسل والدّلك! فتراه يقلّب يديه ورجليه ويدلُكُ كل موضع منه في مقدار الجُثَة دلكًا فظيعًا، فيشرع بالأنملة، ثمَّ يدلك جزءًا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثمَّ يأخذ في الأخرى، ثمَّ كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلَّا بعد مدّة طويلة، ثمَّ يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنَّه لم يغسله، فيعود إليه، ثمَّ كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلَّا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حدّ يرحمه من رآه. ومن كان عالِمًا؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنّه ممن أضلَّه الله على علم، ونادى على نفسه بأنّه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعباده عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يَسْتَحيِ من الله؛ فيحمله ¬

_ (¬1) (1/ 125).

الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يَستَحي من النّاس؛ فيردعه حياؤه عن التحدّث لعباد الله بأنّه قد اشتغل عن ربه بَطاعته للشيطان! وفي مثل هذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لم تَسْتَحيِ فاصنع ما شئت". والحاصل: أن هذه المحنة قد عمّت وطمَّت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل! والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والنّاجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعَنْقاءُ مُغرِبة، والغراب الأبقع. ومن أنكر هذا فليُجَرِّب نفسه، ويعمل بمثل هذا النّص الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - في مسح الأذى الذي يعلق بالنّعل في الأرض ثمَّ يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟! مع أن ذلك هو المهيَعُ الذِي لا يُرجحُ المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليُصَدق فعلُه قولَه، وإن كان مقلدًا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإنّ الشكوك والخيالاتِ قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قومًا لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه. اللَّهمّ أَعِذنا من نزعات الشَّيطان، وأَجرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة". قال الفقير إلى عفو ربه: ومحصّل كلامه -رحمه الله- أَن للوسواس سبَبين: أَحدُهما: ضعف العلم. ثانِيهما: ضعف العقل. 23 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "والاستحالة مطهّرة؛ أَي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى ¬

_ (¬1) (1/ 126).

كان ذلك الشيء الآخر مخالفًا للشيء الأوّؤل -لونًا، وطَعمًا، وريحًا- كاستحالة العَذِرَةِ رمادًا. وقد أوضحت ذلك في كتابي "دليل الطالب" فليراجع، وحققه الماتن في "ويل الغمام"، و"السيل الجرار"، وغيرهما. (لعدم وجود الوصف المحكوم عليه)؛ يعني: فَقَدْ فَقَدَ الوصفَ الذي وقع الحكم من الشَّارع بالنّجاسة عليه، وهذا هو الحق. والخلاف في ذلك معروف". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن القيم -رحمه الله-: "طهارة الخمر بالاستحالة على وَفْق القياس؛ فإنها نجسة؛ لوصف الخبث، فإذا زال الْمُوجِب زال الْمُوجَب، وهذا أَصل الشريعة في مصادرها ومواردها؛ بل وأَصل الثواب والعقاب. وعلى هذا؛ فالقياس الصحيح تعديةُ ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت، وقد نبش النبي - صلى الله عليه وسلم - قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقُلِ التراب، وقد أَخبر الله -سبحانه- عن اللَّبَن أَنّه يخرج من بين فرَث ودم، وقد أَجمع المسلمون على أنّ الدّابة إذا عُلِفت بالنّجاسة ثمَّ حُبست، وعلِفَت بالطاهرات؛ حلَّ لبنُها ولحمُها، وكذلك الزرعُ والثمار إذا سُقِيَتْ بالماءِ النّجس، ثمّ سُقِيَتْ بالطاهر؛ حلّت؛ لاستحالة وصف الخبث وتبدّلِه بالطيّب، وعكس هذا؛ أَن الطّيب إذا استحال خبيثًا، صار نجسًا؛ كالماء والطعام إذا استحال بولًا وعَذِرَةَ، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبِيثًا، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبا؟! والله -تعالى- يخرج الطيِب من الخبيث، والخبيثَ من الطَّيِّب، ولا عبرة بالأَصل؛ بل بوصف الشَّيءِ في نفْسِه، ومن الممتنع بقاءُ حكم الْخَبَث، وقد زال اسمُه ووصفْه، والحكم تابع للاسم، والوصف دائر معه وجودًا وعدمًا، فالنّصوص المتناولةُ لتحريم المَيْتَة، والدّم، ولحم الخِنزير والخمر؛ لا تتناول: الزروع والثمار، والرَّماد والملح، والتراب والخلّ؛ لا لفظًا ولا معنى، ولا نصًّا ولا قياسًا.

والمُفرّقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا: الخمر نَجِست بالاستحالة؛ فطهُرت بالاستحالة. فيقال لهم: وهكذا الدّم، والبول، والعَذِرَةُ؛ إنّما نجست بالاستحالة؛ فتطهر بالاستحالة؛ فظهر أَن القياس معَ النصوص، وإنّما مخالفةُ القياس في الأَقوال التي تخالف النصوص" (¬1). 24 - قال المصَنِّف (¬2): في "الْمُسَوَّى": "قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: إذا أَصاب الأَرضَ بولٌ -أَو غيرُه من النجاسة المائعة، فصبّ عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت، والغُسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغيّر، ولكنّها لا تُطَهر". قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا من فقهِ الإمام الشّافعيّ -رحمه الله-. قال ابن القيم -رحمه الله-: "قاعدة: في المسائل التّي يتعلق بها الاحتياط الواجب، وترك ما لا بأْس به؛ حذَرًا ممّا به بأْس. ومدارُها على ثلاثِ قواعدَ: الأُولى: في اختلاط المباح بالمحذور حسًّا. الثانية: اشتباهُ أَحدِهما بالآخَر والتباسُه به على المكلَّف. الثالثة: في الشكّ في الْعَيْن الواحدة؛ هل هي من قسم المباح، أَمْ من قسم المحذور؟ فأَمّا القاعدةُ الأُولى: في اختلاط المباح بالمحذور حِسًّا؛ فهي قِسمان: أَحدُهما: أَن يكونَ المحذورُ محرَّما لِعَينِه؛ كالدّم، والبول، والخمر، والْمَيتَة. الثانية: أَنْ يكونَ محرَّمًا لِكَسبِه" (¬3). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين (1/ 486 - 487) ". (¬2) (1/ 126 - 127). (¬3) "بدائع الفوائد" (3/ 257 - 259).

قال الفقير إلى عفو ربه: وعند قولِ ابن القيم: "أَحدهما: أَن يكون المحذورُ محرَّما لعينه؛ كالدّم، والبول، والخمر، والمَيتَة" يندرج تحتها كلامُ الشافعي -رحمه الله-، وليس من هذا استعمالُ الماء الطاهر في الطهارة. 25 - قال الْمُصَنف (¬1): "قال الشافعي -رحمه الله-: "وفرقٌ بين ورود النّجاسة على الماءِ، وورود الماءِ على النّجاسة". قال الفقير إلى عفو ربه: قَالَ الصَّنعانِي -رحمه الله-: "فَدَفَعَتهُ الشافعيةُ بالفرق بين ورود الماء على النّجاسة، وورودِها عليه، فقالوا: إذا وردت على الماء نجّسَتْه -كما في حديث الاستيقاظ-، وإذا ورد عليها الماء لم تضرَّه -كما في خبر بول الأَعرابي-. وفيه بحثٌ حققناه في حواشي "شرح العمدة"، وحواشي "ضَوْء النّهار"، وحاصلُه: أَنهم حكَموا أنَّه إذا وردتِ النجاسة على الماء القليل؛ نجَّسَته، وإذا ورد عليها الماء القليل لم ينجُسْ، فجعلوا علَّة عدم تنجِيس الماءِ: الورودَ على النّجاسة، وليس كذلك؛ بلِ التَّحقيقُ: أنّه حين يرد الماءُ على النّجاسة؛ يرِدُ عليها شيئًا فشيئًا؛ حتى يفنى عينها، وتذهبَ قبل فنائه؛ فلا يأْتي آخِرُ جزءٍ من الماء الوارد على النّجاسة؛ إلا وقد طَهُر المحلّ الذي اتَّصلت به، أو بقي فيه جزءٌ منها يفنى ويتلاشى عند ملاقاة آخر جزءٍ منها يَرِدُ عليها من الماء؛ كما تَفْنَى النّجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالإجماع. فلا فرق بين هذا وبين الماء الكثير في إفناء الكُل للنّجاسة؛ فإن الجزء الأَخير من الوارد على النّجاسة يُحِيلُ عينَها لكثرته؛ بالنسبة إلى ما بقي من النّجاسة، فالعلّة في عدم تنجِيسه بوروده عليها؛ هي كثرتُه بالنّسبة إليها لا الورودُ؛ فإنّه لا يُعقل التفرقة بين الورودين: بأَنَ أَحدَهما يُنَجّسُه دونَ الآخر" (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 126 - 127). (¬2) "سبل السلام" (1/ 132).

26 - قال الْمُصَنف (¬1): "وعند الحنفية -رحمَهُمُ الله تعالى- الغُسالةُ نَجِسة، والأَرضُ لا تطهُرُ بصبّ الماء حتي تزولَ عنها الْغُسالة. انتهى". قال الفقير إلى عفو ربه: استدلّوا على ذلك بقولِه - صلى الله عليه وسلم - لبني هاشم: "إن الله كره لكم غسالة أَيدي الناس"، رواه ابنُ سعد (¬2)، والجواب على هذا من وجوه: الأَوّل: أَنّ الحديث وارد في تحريم الصَدقة، وخاصٌّ ببني هاشم. الثاني: أَن قياس الماءِ المستعمل على الصدقة لا وجه له؛ فلا يصحُّ القياسُ في هذا الباب بالإجماع. الثالث: أنّ قياس الماء المستعمل على الثوب المستعمل في عبادة أَولى من قياس على الصّدقة؛ إن كان العلم ضَربًا من الرّأي!؟ 27 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "والماء هو الأَصل في التطهير، فلا يقُوم غيرُه مقامَه إلا بإذنِ مِنَ الشَّارع: لأنَّ كون الأصل في التطهير هو الماء، وقد وُصف بذلك في الكتاب والسنّة وصفًا مطلقًا غير مقيد، بل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الماء طهور" يرشد إلى ما ذكرنا إرشادًا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشَّارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء -كمسح النّعل بالأرض ونحو ذلك-؛ كان الماء غير متعيّن في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق. وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات، ¬

_ (¬1) (1/ 127). (¬2) في "الطبقات" (1/ 297). (¬3) (1/ 127).

وذهب أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وأبو يوسف -رحمه الله تعالى- إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر. وَيُرَدُّ على الجمهور بما ثبت عن الشَّارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إنّ الماء يتعين في مثل ذلك". قال الفقير إلى عفو ربه: ولكن عند أبي حنيفة -رحمه الله-: يصلّي عليها ولا يتيمّم بها، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والصّحيح أنَّه يصلّي عليها، ويتيمم بها، وهذا هو الصواب" (¬1). 28 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وَيُرَدُّ على أَبي حنيفة -رحمه الله تعالى- ومن معه: بأَن إثبات مطَهر لم يَرِدْ عنِ الشَّارع، أَو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع". قال الفقير إلى عفو ربه: والأَظهر هو ما ذهب إليه أَبو حنيفة واختاره شيخُ الإِسلام؛ لوجهين: الأول: ما ثبت في "صحيح البخاري" (¬3)، عن ابن عمر: "كانتِ الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد؛ في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكونوا يرُشّون شيئًا من ذلك". ومن المعلوم: أَن النّجاسة لو كانت باقيةً لوجب غَسلُها، وهذا لا ينافي ما ثبت من: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أَمرهم أَن يصبّوا على بول الأَعرابي -الذي بال في المسجد -ذَنوبًا من ماء -كما في "الصحيحين" - (¬4)؛ فإن المقصود به تعجيلُ تطهير الأَرض، ويدلّ عليه -أيضًا- ما ورد عند أَبي داود (¬5)، ¬

_ (¬1) "المسائل الماردينية" (ص 24). (¬2) (1/ 127). (¬3) (174). (¬4) البخاري (324)، ومسلم (284). (¬5) "السنن" (353).

ثالثا: باب قضاء الحاجة

وأَحمد (¬1) من دلك النّعلين، وذيل المرأَة؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "يطهرُه ما بعدَه" (¬2). الثاني: أَن إزالة النّجاسة من باب التُروك؛ أَي: أَنّ الشَّارع يريد من المُكَلَّف التخلُّص منها، ولا غرض له في كيفيّة ذلك؛ فالنّبي - صلى الله عليه وسلم - جعل التراب يطَهِّر أَسفل النَّعل وأَسفل الذيل، وسماه طَهورًا، فلأن يطهر نفسَه بطريق الأَولى والأَحرى، فالنّجاسة إذا استحالت في التُّراب فصارت ترابًا لن تبقى نجاسة. ثمّ إن أهل العلم متفقون على أنَّه لو عُلق ثوبٌ متنجس على حبل، فنزل مطر؛ فطهَّره؛ أنَّه يطْهُر، وهذا يدلّ على عدم اشتراط النية في تطهير النجاسات، ومن ثَمَّ عدمُ اشتراط كيفية تطهِيرِها. * * * ثالثًا: باب قضاء الحاجة 29 - قال الْمُصَنف (¬3): "ولا يرفع ثوبَه حتى يدنُوَ من الأَرض عند قضاء الحاجة، ويستتر بمثل حائش نخل ممّا يواري أَسفلَ بدنه"، ... فمَن لم يجد إلا أَن يَجْمَعَ كَثِيبًا من رمل؛ فليستدبره؛ فإنّ الشيطانَ يلعب بمقاعد بني آدم". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الحديث- "ولا يرفع ثوبَه حتى يدنوَ من الأَرض"-: رواه أَبو داود (¬4)، والتّرمذي (¬5)، من طريق: الأعَمش عن أَنس، ¬

_ (¬1) "المسند" (3/ 20). (¬2) أخرجه أبو داود (383)، والتّرمذي (143)، وابن ماجه (531). (¬3) (1/ 128). (¬4) "السنن" (14). (¬5) "السنن" (14).

ولم يَسمع منه، ولا من أَحد من الصّحابة؛ ولكن رواه البيهقيّ (¬1) من طريق الأَعمش، عن قاسم بن محمد، عن ابن عُمَر؛ فصحّ بذلك. 30 - قال الْمَصنِّف (¬2): " ... فَلِحديث: "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشِفَيْن عورتَهما يتحدثان؛ فإن الله يَمْقت على ذلك". قال الفقير إلى عفو ربه: هو ضعيف؛ وفيه ثلاثُ عِلل: الأُولى: أنّه من رواية عكرمة بن عمّار عن يحيى بن كثير؛ وهي مضطربة. الثانية: أَنّ في سنده هلالَ بنَ عياض -ويقال: عياض بن هلال-؛ وهو مجهول. الثالثة: الاضطراب؛ حيث إنه مرّة: يرويه عن أبي سعيد، ومرّة: يرويه عن جابر (¬3). 31 - قال الْمصَنِّف (¬4): "ولم يأْت مَن ضعّفَه بما تقوم به الحجّة في التضعيف". قال الفقير إلى عفو ربه: بل هو معلول، فقد قال أَبو داود: "هذا حديث منكر، وإنما يعرف: عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهريّ، عن أَنس: "أَنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتَمًا من وَرِق ثمّ أَلقاه"، والوهم فيه من همّام، ولم يروِه إلَّا همام" (¬5). ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 96). (¬2) (1/ 129). (¬3) ثمَّ إن الشيخ ناصرًا صحَّح الحديث في "الصحيحة" (رقم: 3120) لشاهد وجده، فلينظر. (¬4) (1/ 130). (¬5) "السنن" (19).

قال ابن القيمِ: "قيل: هذه الرّوايات -كلُّها- تدل على غلط همام؛ فإنّها مُجمِعة على أن الحديث إنما هو في اتخاذ الخاتَم ولُبسِه، وليس في شيء منها: نزَعه إذا دخل الخلاء؛ فهذا هو الذي حَكَم لأَجلِه هؤلاءِ الحفّاظُ بنكارة الحديث وشذوذه، والمصحّح له لمّا لم يُمكنْهُ دفعُ هذه العلةِ؛ حكَم بغرابته لأَجلها، فلو لم يكن مخالفًا لرواية من ذكر فما وجه غرابته؟ ولعلّ الترمذيَ موافق للجماعة؛ فإنّه صحّحه من جهة السند لثقة الرّواة، واستغربه لهذه العلَّة، وهي التي منعت أَبا داوادَ من تصحيح متنه، فلا يكون بينهما اختلاف؛ لكنه معلول، والله أَعلم" (¬1). 32 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وقد أُعل بأَنه من رواية أَبي سعيد الحِميَريّ عن معاذ -ولم يسمع منه-". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ: "وصحَّحه ابن السكن والحاكم، وفيه نظر؛ لأَنّ أَبا سعيد لم يسمع من معاذ، ولا يعرف هذا الحديثُ بغير هذا الإسناد؛ قاله ابن القطان" (¬3). وقال -أَيضًا-: "مجهول، من الثالثة، وروايتُه عن معاذ بن جبل مرسلة" (¬4). 33 - قال المصَنِّف (¬5): "وقد أُعلّ بأَنه من رواية قَتادَةَ عنه -ولم يسمع منه-؛ ولكنّه قد صحّح سماعه منه عليّ بن المديني، وصحح الحديث ابن خزيمة وابن السّكن". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الحديث أُعلَّ بعلْتين: ¬

_ (¬1) "تهذيب السنن" (1/ 26 - 31). (¬2) (1/ 131). (¬3) "التلخيص" (1/ 184). (¬4) "تقريب التهذيب" (رقم: 8128). (¬5) (1/ 131).

الأُولى: أنَّه من رواية قتادةَ عن عبد الله بن سرجس، ولم يسمع منه؛ كما قال الإمام أَحمد وغيره. الثانية: على فرَض سماعه؛ فإنّ قتادة مدلّس وقد رواه بالعنعنة. وفي نظري؛ أَن كلا العلتين مردودة: أمّا الأُولى: فقد أَثبت عدد من الحفّاظ المتقنين سماعَ قتادة من ابن سرجس -ومنهم ابن المديني-. وأَمّا الثانية: فطريقتنا؛ أَنّنا لا نُعل الحديث بعنعنة مدلّس، إلَّا إذا كان في المتن نكارة، أَو كان التّدليس -عنده- شديدًا، أَو مضعّفًا من جهة أُخرى، ولو تأَملنا "الصحيحين" لوجدنا أَن فيها أَحاديثَ كثيرة؛ رواها قتادةُ بالعنعنة؛ ولذا فإنّ الأَظهرَ اتصالُ سنده، والله أَعلم. 34 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ومنها: ما أَخرجه أَحمد -رحمه الله تعالى-، وأَهل السنن من حديث عبد الله بن مُغفل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبولَن أَحدُكم في مستحَمِّه، ثمّ يتوضأْ فيه؛ فإنّ عامّة الوسواس منه". قال الفقير إلى عفو ربه: ورواه ابن الجارود (¬2): حدثنا محمد بن يحيى، وأَحمد بن يوسف، قالا: ثنا عبد الرَّزاق، قال: ثنا معمر، عن أَشعث، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل؛ الحديث؛ وهذا الحديث إسناده صحيح، وله شاهد عند أَبي داود (¬3): حدَّثنا أَحمد بن يونس: ثنا زُهير، عن داود بن عبد الله، عن حميدِ الحميريّ -وهو ابن عبد الرحمن-، قال: لقيت رجلًا صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صحبه أبو هريرة، قال: ¬

_ (¬1) (1/ 131). (¬2) في "المنتقى" (35). (¬3) "السنن" (28).

"نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَن يمتشط أَحدُنا كلَّ يوم، أَو يبول في مغتسله. وأُعلّ حديثُ ابن مغفل؛ بأَنه من رواية الحسن عن عبد الله بن مغفّل، والحسن مدلّس، وقد رواه بالعنعنة، وَرُدّت هذه العلّةُ: بأَنّه قد ثبت سماع الحسن من عبد الله من مغفل، وما نخشاه من تدليس الحسن قد أَمنّاه في ذلك الشّاهد؛ الذي رواه أَبو داود عن بعض أَصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسنده صحيح. 35 - قال الْمصَنِّف (¬1): "ومن جملة ما استدلّوا به: حديث جابر - رضي الله تعالى عنه - عند أَحمد -رحمه الله تعالى-، وأَبي داودَ -رحمه الله تعالى-، والترمذي -رحمه الله تعالى؛ وحسنه-، وابن ماجه -رحمه الله تعالى-، والبزار- رحمه الله تعالى-، وابن الجارود -رحمه الله تعالى-، وابن خزيمة- رحمه الله تعالى-، وابن حِبان -رحمه الله تعالى-، والحاكم -رحمه الله تعالى-، والدّارقطني -رحمه الله تعالى-، قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن نستقبلَ القِبلة ببول، فرأَيتُه قبل أَن يُقبَض بعام يستقبلها"، قد نقَل الترمذي عن البخاري -رحمه الله- تصحيحَه، وصحَّحه -أَيضًا- ابنُ السكن، وحسّنه- أَيضًا - البزار". قال الفقير إلى عفو ربه: وقد قيل: بأَنه لا يصحُّ، وأُجيب عنه بأَجوبة: الأَوّل: ما قاله ابن عبد البَر وابن حزم؛ أَنّ في سنده أبان بن صالح؛ وهو مجهول، وأُجيب عن هذا: بأَنه ليس مجهولًا؛ بل هو معروف. الثّاني: أَن في سنده محمَّد بن إسحاق؛ وهو مدلّس، وقد عنعن في هذا الحديث. ¬

_ (¬1) (1/ 133).

وأُجيب عن هذا: بأَنّه صرّح بالتّحديث في رواية أَحمد (¬1)، وأَبي داود (¬2)، وابن الجارود (¬3). الثالث: أَن محمد بن إسحاق قد خالف في هذا الحديث مَن هو أَوثقُ منه؛ فالحديث شاذ، والشاذ من أَقسام الضعيف، ومن تأَمّل ترجمة ابن إسحاق وجَدَ الذهبي يقول عنه: "له شذوذات"، وهذا من شذوذاته، ومنها: أنّ النَّاس يقولون: "إن يد السّارق تقطع في ثلاثة دراهمَ"، وهذا ثابت في "الصحيحين" من حديث ابن عمر، وعائشة، وغيرهما، ثم جاء ابن إسحاق وقال: "تقطع في عشرة دراهمَ". ومن شذوذاتِه: "أَن المحرِم إذا لم يَطُف قبل مغيب الشّمس عاد كهيئته حرمًا". فهذا الحديث ضعيف -وإن صحّحه البخاري-؛ لمخالفتِه أَحاديثَ الثقات الأَعلام. 36 - قال الْمُصَنّف (¬4): "ولا يخفى أنَّه قد تقرّر في الأُصول: أَن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض القول الخاصّ بالأُمّة، فما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - لا يعارض النهي عن الاستقبال والاستدبار للقِبلة". قال الفقير إلى عفو ربه: والحق أَنْ لا تعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وقد أُمرنا بالأَخذ بكلّ منهما، وما ظُنّ فيه التعارض؛ فيجب أَن يحمل على العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد؛ هذا إذا أَمكن الجمع، أما إذا لم يُمْكِنِ الجمع بأيّ وجه من وجوه التوفيق؛ فإن القول يُقدَّم على الفعل؛ لأَنه مُحكَم، والفعل محتمل؛ ولأَنه ناقل عن الأَصل، والفعلُ على الأَصل، ¬

_ (¬1) "المسند" (3/ 360). (¬2) "السنن" (13). (¬3) "المنتقى" (31). (¬4) (1/ 133).

وإنما يؤخذ بالأَحدث من الأَحكام، وهذا ما يُعرف بالنّسخ، وإنما يمكِنُ للباحث معرفة ذلك من خلال النظر في آثار الصحابة؛ فهمًا وعملًا. 37 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "فإن قلتَ: حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - عند أحمد- رحمه الله تعالى-، وابن ماجه -رحمه الله تعالى- قالت: ذُكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القِبلة بفروجهم؟ فقال: "أَوَ قد فعلوها؟! حولوا مِقعدتي قِبَل القبلة" قلتُ: لو صحَّ هذا لكان صالحًا للنسخ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله لقصد التشريع للأُمّة؛ ولمخالفة من كان يكره الاستقبال. ولكنه لم يصح؛ فإنّ في إسناده خالدَ بنَ أَبي الصّلت، قال ابن حزم: "هو مجهول"، وقال الذهبي في "الميزان"- في ترجمة خالد بن أَبي الصّلت-: "إن هذا الحديث منكر". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذا حديث لا يصحُّ، وإنما هو موقوف على عائشة؛ حكاه التّرمذي في كتاب "العلل" عن البخاري، وقال بعض الحفاظ: هذا حديث لا يصح، وله علّة لا يدركها إلا المعتنون بالصّناعة، المعانون عليها؛ وذلك أَن خالد بن أَبي الصلت، لم يَحفظ متْنَه، ولا أَقام إسناده؛ خالف فيه الثقةَ المثبت صاحبَ عراك بن مالك -المختصّ به الضّابط لحديثه -جعفر بن ربيعة الفقيه، فرواه عن عراك، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تنكر ذلك. فبين أَن الحديث لعراك عن عروة ولم يرفعه، ولا يجاوز به عائشة، وجعفر بن ربيعة هو الحجة في عراك بن مالك؛ مع صحة الأَحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهرتِها بخلاف ذلك. ¬

_ (¬1) (1/ 134).

وقال عبد الرحمن بن أَبي حاتم في كتاب "المراسيل" عن الأَثرم، قال: سمعت أَبا عبد الله -وذكر حديث خالد بن أَبي الصّلت-، عن عراك بن مالك، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث؛ فقال: مرسل، فقلت له: عراك بن مالك قال: سمعت عائشة؟! فأَنكره، وقال: عراك بن مالك من أَين سمع من عائشة؟! ما لَهُ ولعائشة؟!! إنما يرويه عن عروة؛ هذا خطأٌ، قال لي: من روى هذا؟ قلت: حمّاد بن سلمة، عن خالد الحذاء؟ قال: رواه غير واحد عن خالد الحذاء، وليس فيه: سمعتُ، وقال غير واحد -أَيضا عن حماد بن سلمة-: ليس فيه: سمعتُ. فإن قيل: قد روى مسلم في "صحيحه" حديثًا عن عراك عن عائشة؟ قيل: الجواب: إن أَحمد وغيرَه خالفه في ذلك، وبَينوا أنّه لم يسمع منها" (¬1). 38 - قال الْمُصَنِّف (¬2): وقد استَدلّ من خصّص المنع من الاستقبال والاستدبار للقبلة بالفضاء بما أَخرجه أبو داود -رحمه الله تعالى-، والحاكم -رحمه الله تعالى-، عن مروانَ الأَصفر - رضي الله عنه -، قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته؛ مستقبلَ القبلة يبول إليها، فقلت: يا أَبا عبد الرحمن! أليس قد نُهي عن ذلك؟! فقال: بلى، إنما نُهي عن هذا في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يستبرك؛ فلا بأُس. "وقد حسّن الحافظ في "الفتح" إسنادَه". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الأَثر ضعيف (¬3)، ولا يصحُّ؛ فإن في ¬

_ (¬1) "تهذيب السُّنن" (1/ 21 - 23). (¬2) (1/ 134). (¬3) الأثر أخرجه: أبو داود (11) والدارقطني في "السنن" (1/ 58) وابن خزيمة (1/ 35 / 60) والبيهقيُّ (1/ 92) والحاكم (1/ 154) والحازمي في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 40 - ط حمص) أو (رقم: 17 - ط ابن حزم).

إسناده الحسنَ بنَ ذكوان، وهو مطعون في عدالته، ويدلس تدليسًا شديدًا، ضعَّفه أَحمد، وابنُ المديني، والنَّسائيّ، وابنُ عدي. قال الذَّهبيُّ: "قال ابن عديّ: يروي أَحاديثَ لا يروِيها غيرُه، وقال ابن معين: كان صاحبَ أَوابد" (¬1). فهو - إذن- ضعيفٌ، وإن أَخرج له البخاريّ في "صحيحه"؛ لأنّ البُخاريّ ينتقي من أَحاديث الرجل، ولا يأْخذُ إلَّا الصَّحيح. والمقصود: أَنّ الحديث إسنادُه ضعيف؛ لِعِلَّتين: الأُولى: ضعف الحسن بن ذكوان. الثَّانية: تدليسه الشَّديد وقد عنعنه، وما رأَيتُ أَحدًا مِنَ المُتقدِّمين وثَّقه. 39 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وروي عن عمر عند التِّرمذيُّ: "أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاه أَنْ يبولَ قائمًا". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال أَبو عيسى التِّرمذيُّ: "وإنَّما رَفع هذا الحديثَ عبد الكريم بن أَبي المخارق، وهو ضعيف عند أَهل الحديث، ضعَّفه أَيّوب السختياني، وتكلّم فيه، وروى عبيد الله، عن نافِع، عن ابن عمر، قال: قال عمر - رضي الله عنه -: ما بُلْتُ قائمًا منذ أسلمت" (*)، وهذا أَصحُّ من حديث عبد الكريم" (¬3). ¬

_ (¬1) "الميزان" (1/ 489). (¬2) (1/ 135). (*) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 124) والنجاد في "مسند عمر" (23) والبزار (1/ 244 - كشف). بإسناد صحيح -كما قال الشَّيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2/ 338). (¬3) "السُّنن" (12)، وانظر "الضعيفة" رقم (934).

40 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وروى الحاكم: أَنّ بوله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا كان لمرض"؛ لكن ضعَّفه الدّارقطنيُّ والبيهقيّ، فلم يكن صالحًا لحمل بوله على حال الضّرورة". قال الفقير إلى عفو ربّه: بل الزِّيادةُ الأَخيرةُ هي الّتي لا تصحُّ؛ لأَنّ في سندها حمّادَ بنَ غسان؛ فقد ضعَّفه البيهقيُّ والدَّارقطنيُّ، وأَقرّهما الحافظ ابن حجرٍ (¬2). 41 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ولا ريب أَن البول من قيام: مِنَ الجفاء، والغِلظة، والمخالفة للهيئة المستَحسَنة، مع كونه مَظِنَّةً لانتضاح البول وترشرشه على البائل وثيابه، فأَقلُّ أَحواله النّهيُ مع هذه الأُمور: أَنْ يكون البول من قيام مكروهًا. وهذا على فرَضِ أَن فعلَه - صلى الله عليه وسلم - لِقصد التّشريع حتَّى يكون لبيان الجواز، ويكون صارفًا للنّهي، فإنَّ لم يكن كذلك؛ فالنَّهي باقٍ على حقيقته، والبول من قيام مِن خصائصه، ولكن بعد ثبوت النَّهي من طريق صحيحة أَو حسنة!! ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأَظهر في هذا أَن يقال: إنَّ السُّنَّة البولُ قاعدًا؛ لحديث عائشةَ - رضي الله عنها -. وأَمَّا البولُ قائمًا؛ فجائزٌ؛ لحديث حذيفة - رضي الله عنه -؛ ولكن بشرطَين: الأَوّل: أَنْ يأْمَنَ مِنْ أَن يرى أَحدٌ عورتَه. ¬

_ (¬1) (1/ 136). (¬2) في "الفتح" (1/ 394). (¬3) (1/ 136).

الثَّاني: أَنْ يأمَنَ من عود رشاش البول إليه (*). 42 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وعليه: الاستجمار بثلاثة أَحجار طاهرة؛ أَي: مَسَحَات؛ لأَنَّها لا تُنَقي- غالبًا- بأَقَلَّ من ثلاثة أَحجار؛ لما في "صحيح مسلم" وغيره من حديث سلمانَ: أَن النّبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنِ الاستجمار بأَقَلَّ من ثلاثة أَحجار، وعن الاستنجاء برجيع أَو عظم. قال الفقير إلى عفو ربِّه: وقدِ استدل مَن رأَى جواز الاقتصار على حجرَين بحديث ابن مسعود: أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمرَه أَن يَأتيَ بأحجارٍ، قال: فأَتيته بحجرين ورَوثَة، فأَلقى الرّوثةَ وقال: "إنّها رِكس". ووجه الدِّلالة في الحديث: أَنه اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بحجرين، ولم يأْمرْه أَنْ يأْتيَ بثالثٍ. والجواب: أَنّه أَمرَه - صلى الله عليه وسلم -؛ كما عند أَحمدَ (¬2)، والدَّارقطنيُّ (¬3) قال: "ائتني بغيرها". وصحّحَ الزيادةَ الحافظُ وغيرُه. واستدلّوا -أَيضًا- بحديث أَبي هريرة - رضي الله عنه -: "مَنِ استجْمَر؛ فليوترْ، ومن فعل؛ فقد أَحْسنَ، ومَن لا؛ فلا حرَجَ". والجواب عنه من وَجهينِ: الأَوَّل: أَن في إسنادِه الحصين الحبراني، يرويه عن أَبي سعيد الحمراني؛ وهما مجهولان، والحديث ضعيف، لا يصلح للاحتجاج به. الثَّاني: أَنّه على فرض تحسينه -كما ذهب إلى ذلك الحافظ-؛ فإنَّه محمول على ما فوق الثلاث؛ جمعًا بين النّصوص. ¬

_ (*) وانظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 283). (¬1) (1/ 136 - 137). (¬2) "المسند" (6/ 146). (¬3) "السنن" (1/ 55).

43 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وورد كيفية استعمال الثلاث في حديث ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "حجران للصّفحتين، وحجر للمسرَبَة"- بسين مُهملة، وراءٍ مضمومة -أَو مفتوحة-: مجرى للحدث من الدُّبر". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الحديث أَخرجه الدّارقطنيُّ (¬2)، والبيهقِيُّ (¬3) من طريق: أُبيِّ بن العبَّاس بن سهلِ السّاعدِيّ، عن أَبيه، عن سهل بن سعدِ السّاعديّ. وفيه: أُبَيُّ بن العباس، قال الحافظ: "قال الحازميُّ: لا يُروى إلَّا من هذا الوجه. وقال العُقَيلِيُّ: لا يُتابَعُ على شيءٍ من أَحاديثِه -يعني: أُبَيًّا-، وقد ضعَّفه ابنُ معين، وأحمدُ، وغيرُهما، وأُخرج له البخاريُّ حديثًا واحدًا في غير حُكم" (¬4). فالحديث من رواية سهل بن سعدِ السّاعدِيّ، وليس من حديث ابن عبَّاس كما قال الْمُصَنِّف؛ وهو وهم؛ فتُصحِّف عليه (أُبي بن العباس) إلى (ابن عبَّاس). 44 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "والحاصل: أنه لا نزاع في كون الماء أَفضلَ؛ إنَّما النزاع في أَنَّه يتعين ولا يجزيء غيرهُ، وهذا كلّه على فرض ثبوت قوله في حديث أَهل قُبَا: "ذَلِكُمُوه؛ فَعَلَيكُمُوه"، ولكنَّه لم يثبت في شيء من كتب الحديث؛ بل الَّذي في "الجامع" عن أَنسٍ: أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأَهل قُبَا: "إن اللهَ قد أَحسنَ الثّناء عليكم؛ فما ذاك؟ "، قالوا: نجمع في الاستجمار بين الأَحجار ¬

_ (¬1) (1/ 138). (¬2) "السنن" (1/ 56). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 114). (¬4) "التلخيص" (1/ 41). (¬5) (1/ 140).

والماء". قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذا الحديث في سندِه: عتبة بن أَبي حكيم، وهو مختلف في توثيقه؛ إلَّا أَن الحديث له شواهدُ: منها: ما أخرجه أَحمدُ (¬1) وغيرُه من حديث عويم بن ساعدة الأَنصاريِّ: أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتاهم في مسجد قُباء، فقال: "إن الله -تعالى- قد أَحسنَ الثّناء عليكم في الطهور في قصَّة مسجدكم؛ فما هذا الطهورُ الّذي تَطَهَّرونَ به؟ "، قالوا: والله - يا رسول الله! - ما نعلمُ شيئًا؛ إلَّا أَنَّه كان لنا جيرانٌ من اليهود، فكانوا يَغْسلون أَدبارَهم من الغائط، فغَسَلنا كما غَسَلوا. ومنها: ما أخرجه أَبو داود (¬2)، والتِّرمذيُّ (¬3)، وابن ماجه (¬4) من حديث أَبي هريرة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "نزلت هذه الآية في أَهل قُباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} .. -قال-: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم هذه الآية"، وفي إسناده إبراهيم بن أَبي ميمونة وهو مجهول. فهذه الأَحاديث الثلاثة: يقوي بعضَها بعضًا، وفي الباب غيرُها، إلَّا أَن البزّار (¬5) انفرد برواية عن ابن عبَّاس: "إنّا نُتبعُ الحجارةَ الماء"، وهذه الرّواية نصَّ أَكثرُ أَهل العلم على ضعفِها. 45 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "إذا تقرّر هذا: علمت أَنّه شرع الاستجمار لمن بال، كما شرع لمن ¬

_ (¬1) "المسند" (3/ 422). (¬2) "السنن" (44). (¬3) "السنن" (3100). (¬4) "السنن" (357). (¬5) "زوائد البزار" (1/ 55). (¬6) (1/ 142).

تغوّط، وأَن يكون بثلاثة أَحجار، ولم يرد ما يخالف هذا من شرع، ولا لغة، ولا اشتقاق". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وما رأَيت أَحدًا فرَّق بين البول والغائط، فجوّز الاكتفاء بأَقل من ثلاثة أَحجار بالبول دونَ الغائط إلَّا الصّنعانيَّ (¬1). 46 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وتندبُ الاستعاذة عند الشُّروع؛ أَي: الدّخول؛ لأَن الحشوش محتضرة؛ يحضُرها الشياطين؛ لأَنهم يحبّون النّجاسة، ووجهه: ما أخرجه لجماعة من حديث أَنس - رضي الله عنه -، قال: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء قال: "اللَّهمَّ! إنّي أَعوذ بك من الخبث والخبائث". وقد روى سعيد بنُ منصور في "سُننه": أَنّه كان - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "اللهمّ! إنِّي أَعوذ بك من الخبث والخبائث"، وإسنادُه على شرط مسلم". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الحافظ: "وقد روى العمريّ هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار، عن عبد العزيز بن صهيب، بلفظ الأَمر، قال: "إذا دخلتمُ الخلاء؛ فقولوا: بسم الله، أَعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وإسناده على شرط مسلم" (¬3). وكذا زاد سعيد بن منصورٍ البسملةَ، لكنْ مِن فعلِه -عليه الصَّلاة والسَّلام-. وروى التّرمذيُّ (¬4) - بسندٍ؛ لعلَّه يتقوّى بشواهدِه (¬5) -من حديث عليٍّ- ¬

_ (¬1) كما في "سبل السَّلام" (1/ 403). (¬2) (1/ 144). (¬3) "الفتح" (1/ 294). (¬4) "السنن" (606). (¬5) نعم؛ وانظر "إرواء الغليل" (1/ 87 - 90).

رابعا: باب الوضوء

رضي الله عنه -، أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستر ما بين الجِنّ وعورات بني آدم -إذا دخل الخلاءَ- أَنْ يقولَ: بسم الله". وهذا من المواضع الّتي تتقدّم فيها البسملة على الاستعاذة. 47 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأَخرج نحوَه النَّسائِيّ، وابن السَّني من حديث أَبي ذرّ، ورمز السُّيوطِيُّ لصحّته". قال الفقير إلى عفو ربّه: والصَّحيح أَنَّه موقوفٌ على أَبي ذرّ - رضي الله عنه - من قوله: أَفادَه الحافظُ (¬2). 48 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وصحّحه ابن حبَّان، وابن خُزيمةَ، والحاكم -رحمه الله تعالى-". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وكذلك أَبو حاتم في "العلل" (1/ 43). * * * رابعًا: باب الوضوء 49 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "يجب على كلِّ مكلّف لمن أَراد الصَّلاة وهو مُحدِثٌ أَوْ جُنُبٌ (أَنْ يُسَمِّيَ)؛ وجه وجوب التسمية: ما ورد من حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه-، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنّه قال: ¬

_ (¬1) (1/ 145). (¬2) "نتائج الأَفكار" (1/ 216). (¬3) (1/ 145). (¬4) (1/ 146 - 147).

"لا صلاةَ لمَنْ لا وضوءَ له، ولا وضوء لِمَن لم يذْكُرِ اسمَ الله عليه"؛ أَخرجه أَحمد -رحمه الله تعالى-، وأَبو داود -رحمه الله تعالى-، وابن ماجه -رحمه الله تعالى-، والترمذيُّ -رحمه الله تعالى- في "العلل"، والدَّارقطنيُّ -رحمه الله تعالى-، وابنُ السَّكن -رحمه الله تعالى-، والحاكم -رحمه الله تعالى-، والبيهقي -رحمه الله تعالى-، وليس في إسناده ما يُسقطُه عن درجة الاعتبار. وله طرق أخرى من حديثه عند الدَّارقطنيّ -رحمه الله تعالى- والبيهقي -رحمه الله-. وأَخرج نحوَه أَحمد -رحمه الله تعالى-، وابن ماجه -رحمه الله تعالى - من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، ومن حديث أَبي سعيد. وأَخرج آخرون نحوَه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وسهل بن سعد - رضي الله عنه -، وأبي سبرة - رضي الله عنه -، وأم سبْرة - رضي الله عنها -، وعلي - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -. ولا شك ولا ريب أَنَّها جميعًا تنتهض للاحتجاج بها، بل مجرّد الحديث الأَوّل ينتهض للاحتجاج لأَنَّه حسن، فكيف إذا اعتضد بهذه الأَحاديث الواردة في معناه؟! ولا حاجة للتَّطويل في تخريجها؛ فالكلام عليها معروف، وقد صرّح الحديثُ بنفي وضوءِ مَن لم يذْكُرِ اسمَ الله، وذلك يفيد الشّرطيّة التي يستلزم عدَمُها العدَمَ، فضلًا عن الوجوب؛ فإنَّه أَقلُّ ما يستفاد منه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قد تقرَّر عند أَهل العلم بصناعة الحديث: أَن كثرة طرق الحديث وشواهدِه؛ لا يلزم منها تحسينُه؛ فضلًا عن صحّته. فحديث: "يس قلبُ القرآن" له أَكثرُ من اثني عشَر طريقًا، ولا ينهض للاحتجاج. وحديث: "من حج فلم يزُرْني؛ فقد جفاني" له أَكثرُ من أَربعةَ عشَرَ طريقًا، وهو حديث موضوع.

فإذا تُفُطِّن لهذا؛ عُلم أَنّ كثرةَ طرق حديث: "لا وضوء لمَن لم يَذْكُرِ اسمَ الله عليه" لم تخْفَ على الأَئمّة الكِبَار: كأَحمد، والبخاريُّ، وغيرِهما، حتَّى قال أَحمدُ: "لا أَعلم في هذا الباب حديثًا له إسناد جيد". فإنَّ قيل: أَهل العلم يختلفون في اجتهادهم في تحسين الأَحاديث؛ فإنّه باب واسع. قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذا حقٌّ؛ ولكنْ مثلُ هذا يحتاج لاعتضادِه والحكم بظاهره إلى عمل الأَولين من الصحابة وفَهْمِهِم؛ فإنَّ وُجد أَنَّهم أَمروا بذلك على سبيل الاشتراط أَوِ الوجوب؛ قيل به، وإلَّا فإنَّ تركَهم له مِمَّا يدلُّنا على ضعفْه. ومع ذلك؛ فإنَّ عامة مَنْ ذَهبوا إلى الحديث لم يأْخُذوا بظاهرِه؛ بل فرَّقوا بين المتعمِّد والنّاسي -إلَّا ما نقل عن إسحاق بن راهويه-، وهذا يدلُّ على عدم وجود المتمَسّك به من عمل الصحابة وفَهمِهم؛ إلَّا ما ثبت عند ابن أَبي شَيْبَة عن عمَر - رضي الله عنه - أَنَّه سمّى قبل اغتِسالِه، وهذا يدلُّ على الاستحباب. 50 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "إذا ذَكَر تقييدَ الوجوب بالذكْرِ؛ للجمع بين هذه الأَحاديث وبين حديث: "مَن توضأَ وذَكَر اسم الله عليه؛ كان طهورًا لجميع بدنه، ومن توضأَ ولم يذكُرِ اسم الله عليه؛ كان طهورًا لأَعضاء وضوئه"؛ أَخرجه الدّارقطنيّ -رحمه الله تعالى-، والبيهقيّ -رحمه الله تعالى- من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -، وفي إسناده متروك". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وفيه عبد الله بن حكيمِ أَبو بكر الدّاهريُّ، كذابٌ؛ يروي الموضوعات. ¬

_ (¬1) (1/ 148).

51 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ورواه الدّارقطنيّ والبيهقيّ من حديث ابن مسعود، وفي إسناده -أيضًا- متروك". قال الفقير إلى عفو ربِّه: فيه يَحْيَى بن هاشم السّمسار وهو كذاب. 52 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ورواه أَيضًا الدّارقطنيّ البيهقيّ من حديث أَبي هريرة، وفيه ضعيفان". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أَمَّا الدّارقطنيُّ؛ ففي إسناده: مرداس بن محمّد بن عبد الله بن أَبي بردة، قال الذهبي: "لا أَعرفه، وخبره منكر في التّسمية على الوضوء" (¬3). وأمَّا البيهقيُّ؛ ففي إسناده: سلمة الليثيُّ، قال البُخاريّ: "لا يعرف لسلمة سماع عن أبي هريرة، ولا ليعقوب عن أَبيه" (¬4). 53 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وهذه الأَحاديث لا تنتهض للاستدلال بها، وليس فيها أيضًا دلالة على المطلوب من أنّ الوجوب ليس إلَّا على الذكر، ولكنَّه دل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السّهو والنسيان، وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز، فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلّة الكلية، ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعيّة، وبعد هذا كلّه: ففي التّقييد بالذِّكْر إشكال". ¬

_ (¬1) (1/ 148). (¬2) (1/ 148). (¬3) "الميزان" (6/ 394). (¬4) "السنن الكبرى" (1/ 44). (¬5) (1/ 148).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: لو كان الحديث ثابتًا وعليه عمل الصّحابة؛ لقيل ببطلان وضوء مَن لم يسمِّ ناسيًا؛ كما قيل ببطلان صلاة من صَلَّى بلا وضوء ناسيًا؛ فتنبَّه!! 54 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "نعمْ؛ التّسمية أَدَبٌ كسائر الآداب العامَّة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ أَمر ذي بال لم يبدأ باسمِ الله؛ فهو أَبتر". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهو حديث ضعيف: أَخرجه أَحمد (¬2)، وأَبو داود (¬3)، وابن ماجه (¬4)، والنَّسائيُّ (¬5)، والدَّارقطنيُّ (¬6)، والبيهقيّ (¬7) من طرق: عن الأَوزاعيّ، عن قرّة، عن الزُّهْريّ، عن أَبي سلمة، عن أَبي هريرة. قال الدّارقطنيّ: "وأَرسله غيره عن الزُّهريّ، عن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقرّة ليس بقويِّ في الحديث" (*). 55 - قال الْمُصَنِّف (¬8): "وأَقوله: قد تقرّر: أَن النَّفي في مثل قوله: "لا وضوء ... " يتوجّه إلى الذّات إن أمكن فإن لم يمكن؛ توجّه إلى الأقرب إليها -وهو نفي الصِّحة-؟ فإنَّه أقرب المجَازينِ، لا إلى الأبعد-وهو نفي الكمال-، وإذا توجّه إلى الذات -أي: لا ذات وضوء شرعية أو إلى الصِّحة-: دلّ على ¬

_ (¬1) (1/ 149). (¬2) "المسند" (2/ 359). (¬3) "السنن" (4840). (¬4) "السنن" (610). (¬5) في "السنن الكبرى" (10328). (¬6) "السنن" (1/ 229). (¬7) "السنن الكبرى" (3/ 209). (*) وانظر "الإرواء" (1/ 29) و "الضعيفة" (رقم: 902). (¬8) (1/ 149).

وجوب التّسمية؛ لأنَّ انتفاء التّسمية قد استلزم انتفاء الذّات الشرعيّة، أو انتفاء صحّتها؛ فكان تحصيل ما يُحَصِّل الذّات الشرعيّة، أو صحتها واجبًا، لا يتوجه إلى نفي الكمال إلَّا لقرينة؛ لأنّ الواجب الحمل على الحقيقة، ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذّات، ثمّ لا يحمل على أَبعد المجازات إلَّا لقرينة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا حقٌّ لو كان الحديث ثابتًا. 56 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وَرُدَّ بأنَّه لم يرو بلفظ: "عشر من السنن"، بل بلفظ: "عشر من الفطرة ... "، وعلي فرض وروده بذلك اللّفظ: فالمراد بالسُّنَّةِ الطريقةُ، وهي تعمُّ الواجب، لا ما وقع في اصطلاحِ أهل الأُصول؛ فإنَّ ذلك اصطلاحٌ حادث، وعُرف متجدِّد؛ لا تحملُ عليه أقوال الشارع". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وما أكثرَ المُخْطِئِينَ في فَهْم الكتَاب والسُنّة؛ بسبب المصطلحاتِ الحادثةِ في (علم أُصول الفقه)؛ المبَنيِّ-جُلُّه- على علم الكلام والمنطق؛ الّذي بسببه هجِرت آثار الصّحابة وعلومهم -رضي الله عنهم- والله المستعان!! 57 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وهذه هي الهيئة الّتي استمرّ عليها - صلى الله عليه وسلم -، فاقتضى هذا أَفضليةَ الهيئة التي كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليها؛ وهي: مسح الرّأس مُقبلًا ومدبرًا، وإجزاء غيرها في بعض الأَحوال". قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأَمر كما قال -رحمه الله-؛ فقد ثبت عن عدد من الصّحابة الاقتصارُ على مسح بعض الرأْس؛ منهم: ¬

_ (¬1) (1/ 152). (¬2) (1/ 155).

1 - ابن عمر - رضي الله عنهما -، فقد روى ابن أَبي شيبة (¬1)، وعبد الرّزاق (¬2) من طرق عن أَيّوب، عن نافعٌ، قال: "كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يمسح رأْسه مرَّةً واحدة، ويضع يده على وسط رأسه، ثمّ يمسح إلى مقدَّم رأْسه". 2 - سلمة بن الأكَوع - رضي الله عنه -، فقد روى ابن أَبي شيبة (¬3): ثنا حمّاد بن مسعدة، عن يزيد، قال: "كان سلمة يمسح مقدَّم رأسه". 58 - قال المُصَنِّف (¬4): "مع أُذُنَيْهِ: وجهُهُ ما ثَبت في الأَحاديث الصَّحيحة؛ أَنَّه - صَلَّى الله عليه وسلم - مسحَهُما مع مسح رأسه، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "الأُذُنان من الرأس"؛ من طرق يقوّي بعضُها بعضًا". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الحديث له أَكثر من ثَمانِيَةِ طرُقٍ؛ يغلب على ظَنّ مَنْ وقف عليها صحّتُه، وعملُ الصّحابة دليل عليه: الأَوّل: عن أَبي أُمامة، أَخرج حديثه: أَبو داود (¬5)، والتّرمذيُّ (¬6)، وابن ماجه (¬7) من طريق سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أَبي أُمامة. قال ابن دقيقِ العيدُ في "الإمام": "وهذا الحديث معلول بوجهين: (أَحدهما): الكلام في شهر بن حوشب، و (الثَّاني): الشَّكّ في رفعه". الثَّاني: عبد الله بن زيد، أَخرج حديثه ابن ماجه (¬8) مرفوعًا؛ وهو أَقوى حديث في الباب؛ لاتصاله وثقة رِواته. ¬

_ (¬1) (1/ 16). (¬2) (1/ 6). (¬3) (1/ 34). (¬4) (1/ 156). (¬5) "السنن" (134). (¬6) "السنن" (37). (¬7) "السنن" (444). (¬8) "السنن" (443).

قال الحافظ: "حديث عبد الله بن زيد قوّاه المُنذريّ، وابن دقيق العيد، وقد بينتُ أَنّه مدرج" (¬1). الثالث: ابن عبَّاس، أَخرج حديثه: الدّارقطنيّ (¬2)، وابن عديّ (¬3) عن أَبي كاملِ الجحدريّ، وأَعلَّه بالاضطراب في إسناده، وقال: إنّ إسناده وهم، وإنّما هو مرسل عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. الرَّابع: أَبو هريرة، أَخرج حديثه: ابن ماجه (¬4) بسند فيه عمرُو بن الحصين، ومحمّد بن عبد الله بن علاثة، وأَخرجه الدّارقطنيّ (¬5) من هذا الطريق مرفوعًا، ثمّ قال: "عمرو بن الحصين وابن علاثة ضعيفان"، وأَخرجه (¬6) عن البختري بن عبيد، عن أَبيه، عن أَبي هريرة مرفوعًا، ثمّ قال: "والبختريّ ضعيف، وأَبوه مجهول"، وأَخرجه (¬7) عن عليّ بن هاشم، عن إسماعيل بن مسلم المكيِّ، عن عطاء، عن أَبي هريرة، وقال: "وإسماعيل بن مسلم ضعيف". الخامس: أَبو موسى الأشَعريّ، روى حديثه الدّارقطنيّ (¬8) من طريق أَشعث بن سوار، عن الحسن، عن أَبي موسى مرفوعًا، وقال: "والصواب موقوف، والحسن لم يسمع من أَبي موسى"، ثمّ أَخرجه موقوفًا. السّادس: عائشة، أَخرج حديثها: الدَّارقطنيّ (¬9) عن محمد بن الأَزهر الجوزجاني: نا الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج عن سليمان بن موسى، عن الزُّهريّ، عن عروة عنها، وقال "كذا قال، والمرسل أَصحّ". ¬

_ (¬1) "التلخيص الحبير" (1/ 160). (¬2) "السنن" (1/ 11 - 12). (¬3) "الكامل في ضعفاء الرجال" (4/ 1513). (¬4) "السنن" (445). (¬5) "السنن" (1/ 32). (¬6) "السنن" (1/ 34). (¬7) "السنن" (1/ 27). (¬8) في "السنن" (1/ 35). (¬9) "السنن" (1/ 20).

وقال الحافظ عن محمّد بن الأَزهر: "كذَّبه أَحمد" (¬1). السّابع: أَنس، أَخرج حديثه: الدّارقطنيّ (¬2)، وابن عديّ (¬3)، من طرق، عن عبد الحكم، عنه. قال الحافظ: "حديث أَنس أَخرجه الدّارقطنيّ من طريق عبد الحكم، عن أَنس؛ وهو ضعيف" (¬4). الثامن: ابن عمر، أَخرج حديثه: الدّارقطنيّ (¬5) من طريق الجراح بن مخلد: نا يَحْيَى بن العريان الهروي: "نا" حاتم بن إسماعيل، عن أُسامة بن زيد، عنه، وقال: "كذا قال، وهو وهم، والصّواب عن أُسامة بن زيد عن هلال بن أُسامة الفهري عن ابن عمر موقوفًا" (*). 59 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وقالت الإمامية: الواجب مسحُهُما". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الإمامية: "همُ القائلون بإمامة عليٍّ -رضي الله عنه- بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نصًّا ظاهرًا، وتعيينًا صادقًا، من غير تعريض بالوصف؛ بل إشارةٍ إليه بالعين، قالوا: وما كان في الذين والإسلام أَمر أَهمّ من تعيين الإمام، حتَّى تكون مفارقتُه الدُّنيا على فراغ القلب من أَمر الأُمّة؛ فإنَّه إنَّما بعث لرفع الخلاف وتقرير الوفاق ... ، ثمّ إن الإماميّةَ تخطَت عن هذه الدّرجة إلى الوقيعة في كبار الصّحابة؛ طعنًا وتكفيرًا، وأَقله: ظُلمًا وعُدوانًا" (¬7). ¬

_ (¬1) "التلخيص" (1/ 92). (¬2) "السنن" (1/ 45). (¬3) "الكامل في ضعفاء الرجال" (2/ 450). (¬4) "التلخيص" (1/ 92). (¬5) "السنن" (1/ 97). (*) وروي من حديث سمرة بن جندب: أخرجه البيهقي في "الخلافيات" (رقم: 240) وفيه الحجاج بن يوسُف الثقفي! لا يحتج بحديثه كما قال البيهقي. وروي من حديث عبد الله بن أبي أوفى، أخرجه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2284) وقال: "حديث باطل بهذا الإسناد". وانظر باقي طرقه ومروياته في "الخلافيات" للبيهقي بتحقيق الشَّيخ مشهور بن حسن وفقه الله. (¬6) (1/ 159). (¬7) "الملل والنّحل" للشهرستاني (1/ 162).

60 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "والحاصل: أَنّ الحقَّ ما ذهب إليه الجمهور، من وجوب الغُسْل، وعدم إجزاء المسح". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الإمام البخاريّ -رحمه الله- في "الصَّحيح": "30 - باب غَسْل الرِّجلين في النّعلين، ولا يمسح على النّعلين". قال الحافظ: "أَي: لا يكتفي بالمسح عليهما كما في الخفّين، وأَشار بذلك إلى ما روي عن على وغيره من الصّحابة: أَنّهم مسحوا على نعالَهم في الوضوء، ثمّ صلُّوا، وروي في ذلك حديثٌ مرفوع أَخرجه أَبو داود وغيرُه من حديث المغيرة بن شعبة، لكن ضعَّفه عبد الرَّحمن بن مهديّ وغيرُه من الأَئِمّة، واستدل الطحَاويّ على عدم الإجزاء بالإجماع على أَنّ الخُفّين إذا تخرَّقا حتّى تبدُوَ القدمان، أَن المسح لا يجزئُ عليهما، قال: فكذلك النّعلان؛ لأَنَّهما لا يُفيدان القدَمَين" (¬2). قال ابن القيِّمْ "هذا الحديث من الأَحاديث المُشكِلَة جدًّا، وقد اختلف مسالك النَّاس في دفع إشكاله: 1 - فطائفة ضعّفته؛ منهم: البُخاريّ والشّافعيّ، قال: والذي خالفه أَكثر وأَثبت منه. المسلك الثَّاني: أَن هذا كان في أَوَّل الإسلام، ثمّ نُسخ بأَحاديث الغُسْل، وكان ابن عبَّاس يذهب إليه أَوّلًا، ففي الدّارقطنيّ: عن عبيد الله بن عقيل، "أَنّ عليَّ بن الحسن أَرسله إلى الرّبيع بنت معّوذ؛ يسأَلها عن وضوء النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فذكرتِ الحديثَ وقالت: ثمّ غَسل رجليه، قالت: وقد أَتاني ابن عمِّ لك -تعني: ابن عباس- فأَخبرته، فقال: ما أجد في الكتاب إلَّا غُسلين ومسحين"، ثمّ رجع ابن عباس عن هذا، لمَّا بلغه غَسْلُ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - رجليْه، ¬

_ (¬1) (1/ 161). (¬2) "الفتح" (1/ 267).

وأَوجب الغُسْل، فلعلَّ حديث على وابن عباس كان في أَوَّل الأَمر ثمّ نُسخ. المسلك الثالث: أَن الرّواية عن عليٍّ وابن عبَّاس مختلفة؛ فرُويَ عنهما هذا، وروي عنهما الغُسل؛ كما رواه البخاريّ في "الصَّحيح" عن عطاءِ بن يسار، عن ابن عبَّاس؛ فذكر الحديث، وقال في آخره: " ... أَخذ غَرْفَةَ من ماء فرشَّ بها على رجله اليمنى، حتَّى غَسَلها، ثمّ أَخذ غَرْفَة أُخرى فَغَسَل بها رجلَه اليسرى"، فهذا صريح في الغُسل، ثمّ ذَكَر أَحاديثَ كثيرَةً صريحةً في غَسل الرِّجلين، ثمّ قال: قالوا: والّذي رَوى أَنَّه رشَّ عليهما في النَّعل هو هشام بن سعدٍ، وليس بالحافظ، فرواية الجماعة أَولَى من روايته، على أَن الثوريّ وهشامًا روَيا ما يوافق الجماعةَ: عن عطاء بن يسارٍ، عن ابن عبَّاس، قال: "أَلا أُريك وُضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فتوضأَ مرَّة مرَّة، ثمّ غَسل رجليه وعليه نعليه". وأَمَّا حديث عليٍّ؛ فقال البيهقي: "رَوَينا من أَوجهٍ كثيرةٍ عن عليٍّ أَنَّه غَسَل رجليه في الوضوء"، ثمّ ساق منها حديثَ عبد خير، وحديث زِرّ بن حُبيش، وحديث أَبي حيّة -إلى أَن قال:- قالوا: وإذا اختلفتِ الرِّوايات عن عليٍّ وابن عبَّاس وكان مع أَحدِهما رواية الجماعة؛ فهي أَولى. المسلك الرَّابع: أَن أَحاديث الرّشّ والمسح إنَّما هي وضوء تجديد للطّاهر، لا طهارةٍ رفع حدث، بدليل ما رواه شعبة: حدَّثنا عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة يحدّث عن عليٍّ: "أَنَّه صَلَّى الظّهر، ثمّ قعد في حوائج النَّاس في رحبة الكوفة، حتَّى حضَرَت صلاة العصر، ثمْ أَتى بكوزٍ من ماء، فأَخذ منه بحفنة واحدة؛ فمسح بها وجهه، ويديه، ورأْسَه، ورِجليه، ثمّ قام فشرب فَضْلَه وهو قائم، ثمّ قال: وإنّ ناسًا يكرهون الشُّرب قائمًا، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنعت، وقال: "هذا وضوء مَنْ لم يُحْدِث"، رواه البُخاريّ بمعناه. قال البيهقي: "في هذا الحديث الثابت دلالة على أَن الحديث الَّذي رُوي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المسح على الرِّجلين -إنْ صحَّ- " فإنّما عنى به وهو طاهر غير محدث.

وعن عبدِ خيرٍ، عن عليٍّ، "أَنَّه دعا بكوز من ماء، ثمّ توضأ وضوءًا خفيفًا، ومسح على نعليه، ثمّ قال: هكذا فعل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ ما لم يحْدث" وفي رواية: "للطّاهر ما لم يُحْدث"، وفي هذا دلالة على أَن ما روى عن عليّ في المسح على النّعلين؛ إنّما هو في وضوءٍ مُتَطَوَّعٍ به، لا في وضوءٍ واجبٍ عليه حق حدث يوجب الوضوء. المسلك الخامس: أَن مَسْحَه رِجْلَيه وَرَشَّه عليهما؛ لأنَّهما كانا مستورَين بالجَورَبَين في النّعلين. المسلك السّادس: أَن الرجل لها ثلاثة أَحوال: حالةٌ: تكون في الخُفّ؛ فيجب مسحُ ساترها. وحالةٌ: تكون حافيةً؛ فيجب غَسلُها. وحالةٌ: تكون في النّعل، وهي حالة متوسِّطة بين كشفها، وبين سَترها بالخُفِّ، فأُعطيت حالةً متوسِّطة من الطّهارة -وهي الرّشّ-؛ فإنَّه بيَّن الغُسْل والمسح، وحيث أُطلق لفظ المسح عليها في هذه الحالة؛ فالمراد به الرّشّ؛ لأَنه جاء مفسّرًا في الرّواية الأُخرى. المسلك السّابع: أَنّه دليل على أَنّ فرض الرَّجلين المسحُ، وحكي عن داود الجوارى وابن عباس، وحكي عن ابن جرير أَنَّه مخير بين الأَمرين، فأَمَّا حكايتُه عن ابن عبَّاس؛ فقد تقدَّمت، وأَمَّا حكايته عن ابن جرير؛ فغلط بيِّن، وهذه كتُبُه، وهذا وتفسيرُه؛ كلُّها تكذِّب هذا النّقلَ عنه، وإنَّما دخلتِ الشُّبهة؛ لأَن ابن جرير -القائل بهذه المقالة- رجل آخرُ من الشِّيعة؛ يوافقُه في اسمه واسم أَبيه. وبالجملة؛ فالّذين رَوَوا وضوءَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ مثلُ عثمانَ، وأَبي هريرة، وعبد الله بن زيد، وكثيرين؛ لم يذكر أَحدٌ منهم ما ذُكر في حديث عليٍّ، وابن عبَّاس، مع الاختلاف المذكور عليهما" (¬1). ¬

_ (¬1) "المنهل العذب المورود" (2/ 38 - 39).

61 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ومَسْحُ أَعلى الخُفِّ فرض، ومسح أَسفله سنةٌ؛ عند الشَّافعيّ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: لعلّه اعتمد في هذا على حديث المُغيرة: "أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسح أَعلى الخفِّ وأَسفلَه"؛ إلَّا أنَّه حديث معلول بأَربع علل: "الأوُلىْ أَنّ ثور بن يزيد لم يسمعه من رجاء بن حيوة؛ بل قال: حُدِّثت عن رجاء، قال عبد الله بن أَحمد في كتاب "العلل": حدَّثنا أَبي، قال: وقال عبد الرَّحمن بن مهديّ، عن عبد الله بن المبارك، عن ثور بن يزيد، قال: حُدِّثت عن رجاء بن حيوة. الثَّانية: أَنه مرسل، قال التِّرمذيُّ: سأَلت أَبا زُرعة ومحمَّدًا عن هذا الحديث؟ فقالا: ليس بصحيح؛ لأنّ ابن المبارك روى هذا عن ثور عن رجاء، قال: حُدِّثت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. الثالثة: أَن الوليد بن مسلم لم يصرِّح فيه بالسّماع من ثور بن يزيد، بل قال فيه: عن ثور، والوليد مدلس، فلا يحتجُّ بعنعنته ما لم يصرِّح بالسّماع. الرّابعة: أَن كاتب المغيرة لم يُسَمَّ فيه، فهو مجهول، ذكر أَبو محمّدٍ ابن حزم هذه العلّة" (¬2). والثّابت عن المغيرة وعليٍّ - رضي الله عنهما -؛ مرفوعًا: "مسح أَعلى الخفّ". 62 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وبالجملة: فمشروعيّة المسح على الخُفّين أَظهرُ من أَنْ يطولَ الكلامُ عليها؛ ولكنَّه لمّا أكثر الخلاف فيها وطال النّزاع؛ اشتغل النَّاس بها، حتَّى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد". ¬

_ (¬1) (1/ 162). (¬2) "تهذيب السنن" (1/ 124). (¬3) (1/ 164).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وذلك حقٌّ؛ لأنَّ مسح القدمين العاريتين صار من شعار الرّافضة، فوجب على أَهل السُّنة تحذيرُ الأمّة -في كتب عقائدهم- من هذه الطائفة؛ التي من شعارها: "مسح القدمين دون الغَسْل". 63 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "في غير الرأس؛ لأنّ الأَحاديثَ الواردةَ بتثليث سائر الأَعضاء؛ وقع التصريح فيها بإفراد مسح الرأس، ولا تقوم الحجّةُ بما ورد في تثليثه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وَرَد عن أَبي داود (¬2) في إحدى طرق حديث عثمانَ؛ في صفة وضوئِه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومسح رأْسه ثلاثًا"؛ ولكنّها شاذةٌ؛ لتفرُّد عبد الرَّحمن بن وردانَ بها، ومخالفته لمن هو أَوثق منه. 64 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وأَمَّا التَّرتيب؛ فمن جملة ما استدل به القائل بوجوب التَّرتيب: أَنَّ الآية مجملة باعتبار أنّ (الواو) أطلق الجمع على أيّ صفة كان؛ فبيّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للأمّة أنّ الواجد من ذلك هيئة مخصوصة هي المروية عنه، وهي مرتّبة. وأيضًا؛ الوضوء الَّذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يقبل الله الصَّلاة إلّا به" كان مرتبًا؛ والحديث المذكور -وإن كان في جميع طرقه مقال-؛ لكنّها يقوي بعضها بعضًا؛ ويؤيّده ما أخرجه أحمد، وأبو دواد، وابن ماجه، وغيرهم مرفوعًا عن أبي هريرة: "إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم": قال ابن دقيق العيد: هو خليقٌ بأنَّ يصح. وقد حقق الكلامَ على هذا شيخُنا العلامة الشوكانيُّ في "شرح المُنتقى". ¬

_ (¬1) (1/ 167). (¬2) "السنن" (107). (¬3) (1/ 167).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: واستدل بعضُ مَن يرى عدمَ وجوب التَّرتيب بحديث المقدام بن معدي كرب، وفيه: "أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تمضمض واستنشق بعد غَسل يديه"، رواه أَحمد (¬1)، وأَبو داود (¬2). والحقُّ: أَن هذا الحديثَ لا دليل فيه على عدم وجوب التَّرتيب بين فروض الوضوء؛ وذلك أَنّ المضمضة والاستنشاق تابعان للوجه، وليسا عضوا مستقلًا، نعمْ؛ يصحُّ الاستدلال لو جاء في الحديث أَنَّه: "غَسل وجهه بعد يديه" إلَّا أَن ذلك لم ينقلْ في حديثٌ صحيحٌ ولا ضعيف. ولو أَنّه اسْتُدلَّ به على جواز تأْخير المضمضة والاستنشاق بعد غَسْل اليدين؛ لكان مقبولًا. (تنبيه): ثبت عن الصّحابة -رضي الله عنهم- القولُ بعدم وجوب التَّرتيب بين عضويِ الفرض الواحد؛ منهم: أَوّلًا: فعن عليٍّ - رضي الله عنه -، أَنَّه قال: "ما أُبالي لو بدأْتُ بالشِّمال قبل اليمين في الوضوء": أَخرجه ابن أَبي شَيبة (¬3): ثنا حفصٌ، عن إسماعيل بن أَبي خالد، عن زياد، عن عليٍّ به. ثانيًا: وعنِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -، أَنه سُئل عن رجلٍ توضأَ فبدأَ بمياسرِه؟ فقال: "لا بأس": أَخرجه الدَّارقطنيّ (¬4): ثنا هُشيم، قال: أَخبرنا المسعوديُّ، عن سلمة بن كهيل، عن أَبي العبيدين، عن ابن مسعود؛ مثلُه، وقال: "صحيح"، ولعلّه يقصر إلى الحسن؛ للكلام المعروف في المسعودي. ¬

_ (¬1) "المسند" (4/ 132). (¬2) "السنن" (121). (¬3) "المصنف" (1/ 421). (¬4) "السنن" (1/ 89).

65 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وإطالة الغُرّة والتحجيل: لثبوته في الأحاديث الصَّحيحة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ أمَّتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء"، فمَنِ استطاع منكم أَن يطيل غرّته؛ فليفعل". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته؛ فليفعل"؛ هذا من كلام أَبي هريرة - رضي الله عنه -، والوهم فيه: من نعيم بن حمَّاد، انظر "الفتح" عند شرحه للحديث رقم (136). 66 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وتقديم السّواك استحبابًا: وجهه الأحاديث المتواترة من قوله - صَلَّى الله عليه وسلم - وفعله، وليس في ذلك خلاف. قال في "الحجّة": قوله - صلى الله عليه وسلم - "لولا أَنْ أَشقَّ على أُمَّتي لأَمرتُهم بالسّواك عند كلِّ صلاة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: رواية: "مع كلِّ وضوء" معلولة، قال البيهقي: "رواه أَبو عبد الله الصفار عن إسماعيل موقوفًا، وهو المحفوظ عن القعنّبي؛ موقوف ... ، ورواه محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن عليّ بن معبد عن روح بن عبادة، عن مالك كذلك مرفوعًا، ثمّ قال: هذا الخبر في "الموطأ غير مرفوع" ... وقال محمد بن إسحاق في غير هذه الرّواية: يشبه أَن يكون مالك قد كان يحدث به مرفوعًا، ثمّ يشكّ في رفعه؛ يعني: فيقِفُه؛ كما قال الشَّافعيّ: كان مالك إذا شكّ في شيء انخفض، والنّاس إذا شَكُّوا في الشّيء ارتفعوا" (¬3). ¬

_ (¬1) (1/ 167). (¬2) (1/ 168). (¬3) "معرفة السنن والآثار" (1/ 258).

67 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ونوم المضطجع؛ وجهه: أَن الأَحاديث الواردةَ بانتقاض الوضوء بالنَّوم -كحديث: "مَن نام؛ فليتوضأْ"- مقيّدة بما ورد أَن النّوم الَّذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع. وقد روي من طرق متعدّدة، والمقال الَّذي فيها ينجبر بكثرة طرقها، وبذلك يكون الجمع بين الأَدلّة المختلفة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال أَبو عبد الرَّحمن (*) -محقّق الزّمان-: "هذه الدّعوى باطلة؛ فإنَّ شرط انجبار الحديث بكثرة الطّرق: أَنْ لا يكون فيها متَّهم، أَو متروك؛ كما بينه النّووي وغيره في مصطلح الحديث. ويدلّك على ذلك: أَنَّه كم من حديث له من الطّرق أَكثرُ من هذا بكثير، ومع ذلك؛ فقد ظَلُّوا يحكمون عليها بالضّعف؟!! وهذا الحديث لا يوجد فيه هذا الشّرطُ، على قلّتها -أَعني: طرقَه-؛ وهي ثلاثة: الأوّل: حديث ابن عبَّاس، وله أَربع -بل خمس- علل؛ بيّنّاها في "الأحَاديث الضَّعيفة" التي جرّدناها من "سنن أَبي داود" رقم (26). الثَّاني: حديث عمرو بن شعيب، عن أَبيه، عن جدّه، قال الشوكاني في "النيل" (1/ 170): "وفيه مهدي بن هلال، وهو متّهم بوضع الحديث، ومن رواية عمر بن هارون البلخي، وهو متروك، ومن رواية مقاتل بن سليمان، وهو متّهم". الثالث: حديث حذيفة: أَخرجه البيهقي (1/ 120)، وقال: "ينفرد به بحر بن كنيزٍ السقاء، وهو ضعيف لا يحتجّ بروايته". فمثل هذه الطرق لا ينجبر بها الحديث؛ بل تزيده وهنًا على وهن" (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 170). (*) الشَّيخ الألباني. (¬2) "التعليقات الرّضيّة على الرّوضة النّدية" (1/ 170).

68 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وفي ذلك ثمانية مذاهبَ استوفيناها في "مِسك الختام شرح بلوغ المرام"، واستوفاها الماتن في "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها، وترجيح ما هو الرّاجح. قال الشَّافعي -رحمه الله-: النّوم يَنقض الوضوءَ إلَّا نومُ مُمَكِّنٍ مَقْعَدَتَهُ. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: لو نام قائمًا أو قاعدًا أو ساجدًا؛ لا وضوء عليه حتَّى ينام مضطجعًا أو متكئًا. كذا في "المُسَوّى"". قال الفقير إلى عفو ربِّه: والقول الصَّحيح؛ الَّذي تجتمع عليه النُّصوص: هو الفرق بين النَّوم العميق، والنّوم الخفيف. فتحمل الأَحاديث الّتي دلّت على النَّقض -كحديث صفوانَ بن عسّال- على النّوم العميق. وحديث أَنس: "أَنَّهم كانوا ينامون حتَّى يُسمعَ لأَحدهم غطيط، ثمّ يقومون فيصلُّون ولا يتوضّأون"؛ على النّوم الخفيف؛ فإنَّ الإنسان قد يسمع له غطيط حالَ إغفائه؛ وهو يشعر بنفسْه إذا أحدث، وبمن حولَه إذا تحدّثوا. وحديث عليٍّ ومعاوية -مرفوعًا-: "العَيْنُ وكاءُ السَّهِ؛ فإذا نامَتِ العَيْنان اسْتَطلَقَ الوكاءُ"، حسنَّه ابن المُنذر؛ فهذا يدلُّ على أَن النّوم مِظَنَّةٌ للنَّقض، وليس ناقضًا بنفسِه، وأَمَّا التّفريقُ في الحكم بناءً على هيئة النَّائم -مضطجعًا، أَو راكعًا، أَو ساجدًا، أَو قائمًا، أَو قاعدًا؛ فلا يوجد له مستند صحيح في السنّة، ومما يدل على أَن النّوم يكون خفيفًا وثقيلً؛ قول الله -تبارك وتعالى-: {لا تأخذه سنة ولا نومٌ}. ¬

_ (¬1) (1/ 170).

69 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأَكل لحم الإبل: وجهه قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ - قال: "نعم"، وهو في "الصحيح" من حديث جابر بن سَمُرة -رضي الله عنه-. وقد رُوي -أيضًا- من طريق غيره. وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء، واستدلّوا بالأحاديث الّتي نَسَخت الأحاديث الواردة في الوضوء ممّا مسّت النَّار. ولا يخفى أنّه لم يصرَّح في شيء منها بلحوم الإبل حتَّى يكون الوضوء منها منسوخًا. وقد ذهب إلى انتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل -رحمه الله-، وإسحاق ابن راهويه -رحمه الله-، ويحيى بن يَحْيَى -رحمه الله-، وابن المنذر -رحمه الله-، وابن خزيمة -رحمه الله-، والبيهقيّ -رحمه الله-، وحُكي عن أصحاب الحديث -رحمهم الله -، وحُكي عن جماعة من الصّحابة -رضي الله عنهم- كما قال النووي -رحمه الله-. قال البيهقي -رحمه الله-: حُكي عن بعض أصحابنا، عن الشَّافعي -رحمه الله-، أنّه قال: إن صحّ الحديث في لحوم الإبل قلت به، قال البيهقي -رحمه الله-: قد صحّ فيه حديثان: حديث جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه -، وحديث البراء - رضي الله عنه -. قال في "الحجَّة": "وأمّا لحم الإبل فالأمر فيه أشدُّ، لم يقل به أحد من فقهاء الصّحابة - رضي الله عنهم - والتابعين - رضي الله عنهم - ولا سبيل إلى الحكم بنسخه، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج، وقال به أحمد -رحمه الله-، وإسحاق -رحمه الله-؛ وعندي أنَّه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان والله أَعلم". ¬

_ (¬1) (1/ 171).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وقدِ اشتهر في كثير من كتب الفقه بما يتعلَّق بهذه المسأَلة: أَمران؛ هما من قبيل الخطأ: الأَوّل: قولهُم: بأَن حديث جابر -"كان آخر الأمَرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركُ الوضوء ممَّا مسّتِ النَّار"، رواه أَبو داود (¬1) وغيرُه- ناسخٌ لحديث جابر بن سمرة: أَنَتوضأُ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم"؛ وهذا خطأ؛ لأنّ جابرًا سأَله عن أَمرين: "أَنتوضأُ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت"، قال: أَنتوضأُ من لحوم الإبل؟ قال: "نعمْ"، أَخرجه مسلم (¬2). فهذا تفريق منه - صلى الله عليه وسلم - بين لحوم الإبل وغيرهما، وظاهر هذا أَنَّه كان بعد النّسخ، يدل على ذلك حديث البراء: "توضّؤا من لحوم الإبل، ولا توضّؤا من لحوم الغنم"، أَخرجه أَبو داود (¬3)، وغيره. الثَّاني: قولهم: إنه ثبت عن الخلفاء الأَربعة ترك الوضوء من لحوم الإبل. وهذا لا أَساس له من الصّحّة، بل لا يعرف أَنّ أَحدًا من الصّحابة صرّح بترك الوضوء من لحوم الإبل. ثمّ إنِّي وقفت على أَثر رواه ابن أَبي شيبة (¬4) من طريق ابن عليّة، عن حميد، عن أَبي العالية: "أَنَّ أَبا موسى نحر جَزورًا، فأَطعم أَصحابَه، ثمّ قاموا يصلّون بغير طُهور، فنهاهم عن ذلك، وقال: ما أُبالي مشيت في فرثها ودمها ولم أَتوضّأ، أَو أَكلت من لحمها ولم أَتوضّأْ"، وإسناده صحيح. فهذا يدلّ على أنّ الصّحابة كانوا يفتون بمقتضى الحديث. ¬

_ (¬1) "السنن" (1/ 192). (¬2) (1/ 275). (¬3) "السنن" (1/ 184). (¬4) "المصنف" (1/ 515).

70 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "منها: حديث عائشة - رضي الله عنها -، عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من أَصابه قيءٌ، أَو رعافٌ، أَو قلس، أَو مذيٌ؛ فلينصرِف فليتوضّأ"، وفي إسناده: إسماعيل بن عياش، وفيه مقال". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وفيه علّة أُخرى: وهي الإرسال: بين عبد العزيز بن جريج وعائشة. 71 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وفي الباب عن جماعة من الصّحابة - رضي الله عنهم -، والمجموع ينتهض للاستدلال به". قال الفقير إلى عفو ربِّه: عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إذا رعف الرَّجل أَو ذرَعه القيءُ أَو وجد مَذيًا؛ فإنّه ينصرف فيتوضّأ، ثمّ يرجع فيبني على ما مضى؛ إن لم يتكلم" (¬3)، قال: حدَّثنا إسحاق عن عبد الرّزاق عن معمر، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن ابن عمر به، وإسناده صحيح. 72 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "في "المسوّى": قال الشَّافعي -رحمه الله-: الرّعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء. وقال أَبو حنيفة -رحمه الله- ينقضان إذا كان الدم سائلًا. ¬

_ (¬1) (1/ 173). (¬2) (1/ 173). (¬3) "الأَوسط" لابن المنذر (1/ 184). (¬4) (1/ 176).

وقال مالك -رحمه الله-: الأَمر عندنا أَنّه لا يتوضّأ من رعاف، ولا دمِ، ولا من قيح يسيل من الجسد، ولا يتوضّأ إلَّا من حدث يخرج من ذَكَر، أو دبر، أَو نوم". قال الفقير إلى عفو ربِّه: تقدَّم أَن الدّم الكثير الّذي يفحش في النّفس؛ ينقض الوضوء، على ما جاءت به الآثار، وهكذا الرّعاف ينقض بالشّرط المتقدِّم، وبهذا جاءت الآثار. 73 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ومع هذا؛ فقد كان الصّحابة - رضي الله عنهم - يباشرون مع معارك القتال ومُجَاوَلة الأبطال في كثير من الأحوال ما هو من الشّهرة بمكانِ أوضحَ من الشّمس، فلو كان خروج الدّم ناقضًا: لما ترك - صلى الله عليه وسلم - بيانَ ذلك مع شدّة الاحتياج إليه، وكثرة الحامل عليه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: انظر ما تقدَّم آنفًا في الفقرة (16). 74 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وفي الباب أَحاديث عن جماعة من الصّحابة - رضي الله عنهم -؛ منهم: جابر - رضي الله عنه -، وأبو هريرة - رضي الله عنه -، وأم حبيبة - رضي الله عنها -، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، يزيد بن خالد - رضي الله عنه -، وسعْد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وعائشة - رضي الله عنها -، وابن عباس - رضي الله عنهما -، وابن عمرو - رضي الله عنهما -، والنعمان بن بشير - رضي الله عنه -، وأنس - رضي الله عنه -، وأُبَيّ بن كعب، ومعاوية بن حيدة - رضي الله عنه -، وقبِيصة - رضي الله عنه-، وأَروى بنت أَنيس". ¬

_ (¬1) (1/ 176). (¬2) (1/ 177).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: جل هذه الأَحاديث لا تخلوا من ضعف وعلّة، ولا يكاد يثبت منها، إلَّا حديث بسرة، وأَبي هريرة، وعمرو بن شعيب، عن أَبيه، عن جدّه. وحديث طلق في نفي الوجوب صحيح لا غبار عليه، وهو أَقوى سندًا من حديث بسرة، وأَبي هريرة، وعمرو بن شعيب، بالنَّظر إلى كل حديث بمفرده. 75 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "قد ذهب إلى انتقاض الوضوء بمسّ الذّكر جماعةٌ من الصّحابة والتّابعين - رضي الله عنهم -، والأئمّة -رحمهم الله-، ومالوا إلى العمل بحديث بُسرة لتأخر إسلامها. وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك. والحقُّ الانتقاض". قال الفقير إلى عفو ربِّه: لا يصار إلى التّرجيح إلَّا عند تعذر الجمع بين النّصوص، والجمع ممكن؛ بأنْ يقال: إنّ الأمر بالوضوء من مسّه محمول على الاستحباب، وأَن النفي في حديث طلق محمول على الوجوب، وأَمَّا الصّحابة؛ فنقل عنهم هذا وذاك. قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: "ما أُبالي مسَسْتُ ذَكَري، أَوْ أُذُني، أَو أَنفي "، رواه ابن أَبي شَيبة (¬2): حدَّثنا ابن فضيل، عن الأَعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس به. وعن سعد: ما رواه مالك (¬3)، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن مصعب، بن سعد بن أَبي وقاص، قال: "كنت أَمسك المصحف على أَبي ¬

_ (¬1) (1/ 178). (¬2) "المصنف" (1/ 163). (¬3) "الموطأ" (1/ 50).

فاحتككت، فقال: "لعلّك مسَسْت ذَكَرك، قلت: نعمْ، قال: قم فتوضأْ، فقمت فتوضأت، ثمّ رجعت". وأَمَّا مسُّه بيده من غير قصد؛ فلا يظهر لي فيه استحباب. 76 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ولمس المرأَة، قال به عمر، وابن مسعود". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أَمَّا أَثر عمر؛ فقد أَخرجه: الدّارقطنيّ (¬2)، والبيهقي (¬3)، من طريق عبد العزيز بن محمد الدّارورديّ، عن محمد بن عمرو بن وقّاصٍ اللَيثيّ، عن الزُّهريّ، عن سالم، عن أَبيه، عن ابن عمر. وهو لا يصحُّ عنه لوجهين: الأوّل: الاضطراب في إسناده، قال ابن عبد البَرّ: "هو عندهم خطأٌ؛ لأَن الحفَّاظ -أَصحاب ابن شهاب- يجعلونه عن ابن عمر؛ لا عن عمر" (¬4). الثَّاني: ما صحّ عنه في عدم النَّقض، رواه عبد الرّزاق (¬5) عن ابن عُيَينة، عن يَحْيَى بن سعيد، عن أبي بكر بن محمّد بن عمرِو بن حزم، عن عبد الله بن عمر: "أَن عاتكة بنتَ زيدِ قَبّلت عمر بن الخطاب وهو صائم؛ فلم يَنْهَها، قال: وهو يريد الصَّلاة، ثمّ مضى فصلَّى ولم يتوضّأْ". وكذا صحّ عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -، قال: "لا وضوءَ في القُبلَة"، أَخرجه الدّارقطنيّ (¬6)، من طريق حبيب بن أَبي ثابت، عن ابن جبير، عن ابن عباس به. ¬

_ (¬1) (1/ 181). (¬2) "السنن" (1/ 14). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 124). (¬4) "الاستذكار" (1/ 319). (¬5) "المصنف" (1/ 135). (¬6) "السنن" (1/ 143).

نعمْ؛ ثبت عن ابن عمر أَنّه قال: "قُبلَةُ الرجل امرأَتَه وجَسُّها بيده ملامسةَ، فمَنْ قَبَّل امرأَتَه أَو جَسّها بيده؛ فعليه الوضوء". أَخرجه مالك (¬1) عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أَبيه به. وأَيضًا صحَّ عن ابن مسعود أَنّه قال: "المُلامسة ما دون الجمَاع، إنْ مسَّ الرَّجلُ جسدَ امرأَتِه بشهوة؛ ففيه الوضوء"، أَخرجه الطبرانيّ (¬2): حدَّثنا عليّ بن عبد العزيز: حدَّثنا حجّاج بن منهال: حدَّثنا حمَّاد بن سلمة، عن حمّاد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود به. ولكن خالفهما -كما علمتَ- عمر وابنُ عبَّاس - رضي الله عنهم -، والحجّة معَهما؛ لأَوجهٍ ثلاثة: الوجه الأوّل: ما ثبت في "الصَّحيحين" عن عائشة، قالت: "كان إذا سجد غمَزَني فقَبَضْتُ رِجْلِي"، ولمسلم: " ... وضعتُ يدي على بطن قدميه وهما منصوبتان"، وهذان الحديثان يدلَّان على أَن اللّمس غير موجب للنّقض. الوجه الثَّاني: قاعدة بقاء الأصل: "لا خلاف أَنَّه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أَنّه توضأَ من الْمسّ، ولا أَمر بذلك، مع أَن النَّاس لا يزال أحدُهم يَلْمِس امرأَتَه بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم أَنَّه، - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع، وهو مقتضى أُسلوب الآية، وبه فسّرها النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ حبر الأُمّة؛ لكن الاستحباب متوجّهٌ ظاهر، فيستحبّ أَن يتوضأَ من مسّ النِّساء بشهوة" (¬3). الوجه الثالث: ما روته أُمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "أَن ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 50). (¬2) في "المعجم الكبير" (9/ 9229). (¬3) "الإحكام" (1/ 76) للعلّامة عبد الرَّحمن بن قاسم. نقلًا عن الشَّيخ.

النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقَبِّلها ويخرج إلى الصَّلاة ولا يتوضّأُ"، وكان حقُّ هذا الحديث أَنْ يجعلَ في الوجه الأَوّل؛ لولا الخلاف في ثبوته؛ مع أَن الرّاجح: تحسينُه -كما سيأْتي-. 77 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "بل يشهد حديث عائشة بخلافه: لكن فيه نظر؛ لأَن في إسناده انقطاعًا". قال الفقير لعفو ربِّه: لكن الحديث له شواهدُ؛ منها: الأوَّلُ: ما أخرجه مسلم (¬2)، والتّرمذيُّ (¬3) -وصحّحه-، عن عائشة، قالت: فقدتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً من الفراش، فالتَمسْتُه، فوضعت يدي على باطن قدميه -وهو في المسجد- وهما منصوبتان؛ وهو يقول: "اللَّهمّ إنّي أَعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأَعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أَنت كما أثنيت على نفْسِك". الثاني: ما أخرجه الشيخان (¬4) من حديث أَبي سلمة، عن عائشة، قالت: "كنت أَنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورِجلاي في قِبْلَتِه، فإذا سجد غَمَزَني؛ فقبضت رِجلِي، فإذا قام بسطتُهما؛ والبيوت -يومئذٍ- ليس فيها مصابيح"، وفي لفظ: "فإذا أراد أَن يسجد غَمَزَ رِجْلِي فَضَمَمْتُها إليَّ ثمّ سجد". الثّالثُ: ما أخرجه النسائيّ (¬5) عن عائشة، قالت: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيُصلِّي، هاني لَمُغتَرِضَةٌ بين يدَيه اعتِراضَ الجِنازة، حتَّى إذا أَراد أَنْ يُوتِر مَسَّني برِجله"، وهو من طريق محمّد بن عبد الله بن الحكم، ¬

_ (¬1) (1/ 181). (¬2) (1090). (¬3) "السنن" (3493). (¬4) البُخاريّ (382)، ومسلم (1145). (¬5) "السنن" (166).

عن شعيب، عن اللّيث، قال: أَنبأَنا ابن الهاد، عن عبد الرَّحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة، به. قال الحافظ: "إسناده صحيح" (¬1). 1 - ما أخرجه ابن ماجه (¬2)، عن زينبَ السّهميّة، عن عائشة: "أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضّأُ، ثُمَّ يُقَبِّل ويصلّي ولا يتوضّأ، وربَّما فعله بي"، وهو من طريق: أَبو بكر بن أَبي شَيبة: حدَّثنا محمد بن فضيل، عن حجّاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السّهميّة، عن عائشة، به، قال الزّيلعي: "وهذا سند جيد" (¬3). 2 - ما أخرجه أَبو داود (¬4)، عن عائشة: "أَن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قَبَّلَ امرأَةَ من نسائه، ثمّ خرج إلى الصَّلاة، ولم يتوضّأْ، قال عروة: فقلت لها: مَنْ هي إلَّا أَنْتِ فضحِكَتْ! "، وهو من طريق: عثمان بن أَبي شيبة: ثنا وكيع: ثنا الأَعمش، عن حبيب، عن عروة، عن عائشة به. 3 - "ما أخرجه البزّار في "مسنده" عن عائشة - رضي الله عنها -: "أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يُقَبِّل بعضَ نسائه ولا يتوضّأُ"، "قال: حدَّثنا إسماعيل بن يعقوب بن صبيح: حدَّثنا محمّد بن موسى بن أَعين: حدَّثنا أَبي، عن عبد الكريم الجزريّ، عن عطاءٍ، عن عائشة، به: قال عبد الحق بعد ذكر هذا الحديث: "لا أَعلم له علَّة توجبُ تركَه" (¬5). 4 - ما أخرجه الدّارقطنيّ (¬6) عن عائشة، قالت: "لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلني إذا خرج إلى الصَّلاة ولا يتوضّأُ"، وهو من طريق: ¬

_ (¬1) "التلخيص الحبير" (1/ 133). (¬2) "السنن" (503). (¬3) "نصب الراية" (1/ 70). (¬4) بِرَقمِ (179). (¬5) "المنهل العذب" "المورود" (2/ 190). (¬6) "السنن" (1/ 135).

سعيد بن بشير، قال: حدّثني منصور بن زاذان، عن الزُّهْري، عن أَبي سلمة، عن عائشة، به. وقال -أَي: الدّارقطنيّ-: تفرّد به سعيد بن بشير، عن منصور، ولم يتابع عليه، وليس بقويّ. 5 - ما أخرجه الدّارقطنيّ (¬1)، عن عائشة قالت: "لا تُعادُ الصلاةُ مِنَ القُبلَة، كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّل بعض نسائه، ويصلِّي ولا يتوضأُ"، وهو من طريق: ابن أَخي الزُّهريّ، عن عروة، عن عائشة، به. 6 - ما أخرجه الدّارقطنيّ (¬2)، عن عائشة، قالت: "قَبَّلَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بعضَ نسائه، ثمّ صَلَّى ولم يتوضّأ -ثمّ ضحكَتْ-"، وهو من طريق: أَبي بكرٍ النّيسابوريّ، عن حاجب بن سليمان، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أَبيه، عن عائشة، به. وقال تفرّد به حاجبٌ، عن وكيعٍ ووهم فيه. 7 - ما أخرجه الدّارقطنيّ (¬3)، عن عائشة: "أَنّه بَلَغَها قوله ابن عمر في القُبْلَة الوضوءُ، فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّل وهو صائم، ثمّ لا يتوضأُ"، وهو من طريق: عليّ بن عبد العزيز الورَّاق، عن عاصم بن عليّ عن أَبي أُويس: حدّثني هشام بن عروة، عن أَبيه، عن عائشة، به. وقال: لا أَعلم حدّثَ به عن عاصم بن عليّ هكذا؛ غيرَ عليّ بن عبد العزيز. 8 - ما أخرجه إسحاق بن راهُويه (¬4) عن عائشة: أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلها وهو صائم، وقال: "إنّ القُبلة لا تُنْقِضُ الوضوءَ، ولا تُفَطِّر الصَّائم -وقال-: يا حُمَيْراءُ! إنَّ في دِينِنا لَسَعَةً"، وهو من طريق: بقيّة بن الوليد: ¬

_ (¬1) "السنن" (1/ 135). (¬2) "السنن" (1/ 136). (¬3) "السنن" (1/ 136). (¬4) في "مسنده" (2/ 130).

خامسا: باب الغسل

حدّثني عبد الملك بن محمّد، عن هشام بن عروة، عن أَبيه، عن عائشة، به. والّذي يظهَر بعد سَوْقِ هذه الطرق وتصحيح مَن صحّحها؛ أَن حديث القبلة لا ينزل عن رتبة الحديث الحسن؛ لتعدّد طرقه، ولا يوجد فيها كذّاب، أَو متّهم، أَو متروك، وممَّن صحّحه -أَيضًا- ابن عبد البَرّ والأَلباني. * * * * خامسًا: بابُ الغُسْل 78 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "يجب بخروج المَنِيِّ بشهوة، ولو بتفكُّر وقد دلّت على ذلك الأدلّة الصّحيحة كأحاديث: "الماء من الماء"، وأحاديث: "في المني الغُسل"، وصدْق اسم الجنابة على من كان كذلك؛ وقد قال الله -تعالى-: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، والاطِّهار استيعاب جميع البدن بالغُسلِ، كذا في "المُسوّى". ولا أَعلم في ذلك خلافًا، وإنَّما وقع الخلاف المشهور بين الصّحابة -رضي الله تعالى عنهم-، وكذلك بين من بعدهم: هل يجب الغُسل بالتقاء الْخِتَانَيْن من دون خروج مَنيٍّ، أَمْ لا يجِبُ إلَّا بخروج الْمَنِيّ؟ ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: استقرّ الإجماع على وجوب الغُسل مِنِ التقاء الخِتَانَين؛ في زمَن الصّحابة، ومن نُقل عنه عدمُ الوجوب رجع إلى القول بالوجوب. ¬

_ (¬1) (1/ 183).

79 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وجلستُ عند محتضر، فرأَيتُ أَن الملائكَةَ الْمُوكَلَة بالقبض؛ لها نِكَايَةٌ عجيبةٌ في المحتضرين، ففهمت أَنَّه لا بدّ من تغيير الحالة لِتَنَبُّه النَّفْس لمخالفِها". قال الفقير إلى عفو ربِّه: ما كان ينبغي للمؤَلف -رحمه الله- نقلُ مثلِ هذا الكلام أَوْ ذِكْرُه؛ فإنَّ طريقتَه أَخذُ العلم بدليله، وهذا الكلام ضَرْبٌ من الدّعاوى بالظَّن والْخَرْص!! 80 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وبالإسلام" وجهه: ما أخرجه أَحمدُ، والتِّرمذيُّ، والنّسائيُّ، وأَبو داود، وابنُ حِبّانَ، وابنُ خُزَيمةَ -رحمهُمُ الله-، عن قَيس بن عاصم -رضي الله عنه -: أَنَّه أَسْلَمَ؛ فأَمّرَه النّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أَنْ يغتَسل بماءٍ وَسِدْر. وصحّحه ابن السكن -رحمه الله-. وأخرج أحمد، وعبد الرَّزاق، والبيهقيّ، وابن خزيمة، وابن حبّان -رحمهم الله- من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ ثمامة - رضي الله تعالى عنه - أسلم، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اذهبوا به إلى حائط بني فلانٍ، فَمُرُوهُ أن يغتسل". وأصله في "الصحيحين"، وليس فيهما الأمر بالاغتسال، بل فيهما أنّه اغتسل. قال في "الحجَّة": قال لآخر: "ألق عنك شعر الكفر"؛ وسرّه أن يتمثل عنده الخروج من شيء، أصرح ما يكون، والله تعالى أعلم. انتهى. وقد ذهب إلى الوجوب أحمد بن حنبل وأتباعه -رحمهم الله -. ¬

_ (¬1) (1/ 188). (¬2) (1/ 188).

وذهب الشَّافعي -رحمه الله- إلى عدم الوجوب. والحقُّ الأَوَّلُ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: والّذي يَظهر لي -مع عدم وجود آثار عن الصّحابة فيما أعلم- ترجيح القولِ الثَّاني؛ لأَوجهٍ: الأوّل: أَن أَمرَه - صلى الله عليه وسلم - لقيس بن عاصم للاستحباب، لا للوجوب، بدليل أَنه - صلى الله عليه وسلم - قَرَنَ السِّدر معَ الماء، وهو لا يجب بالاتفاق، ولا يقال: إنّ هذه دلالة اقتران، فلا تصرَّف عن الوجوب؛ لأَنّ دلالة الاقتران إنَّما تكون في أَمرين منفصلين؛ قد عُطف أَحدُهما على الآخر، وأَمّا في مسأَلتنا هذه؛ فلا يُتَصوّر أَن يغتسل بالسّدر وحده، بل لا بدّ من أَن يَخلطَه بالماء. الثَّاني: أَمَّا حديث ثُمامَة الحنفيِّ؛ فاللفظ الثابت في "الصَّحيحين": "أَنّه ذهب بنفْسه واغتسل"، ثمّ أَشهر إسلامَه، وليس فيه: "أنّه أُمرَ بالغُسْل"، فزيادة أَمرِه بالغُسْل شاذّة. الثالث: إنّ الّذين أَسلموا في عهده - صلى الله عليه وسلم - أَفواج، ولو أَنّ كلّ واحد منهم أُمر بأَنْ يغْتَسِل لَنُقِل إلَينا نقلًا بَيّنًا يرفع الخلاف. فإنَّ قيل: فما الجواب على حديث: الْمُحرِمُ الّذي وَقَصَتْه راحلتُه، فأَمَره - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُغَسل بماء وسِدر، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للاتي يَغْسِلنَ ابْنَتَه: "اغْسِلْنَها بماء وسدر"؟ قيل: الجواب من وجهين: أَمَّا الوجْه الأوَّل: أَن أَمرَه - صلى الله عليه وسلم - بِغُسل المَيّت؛ واجب بالإجماع. وأَمَّا الوجه الثَّاني: فإنَّه لا يُعرف أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - -أَو واحدًا من الصّحابة- اغتسل بماء وسدر -لا في غُسل واجب، ولا مستحبّ-؛ فدلّ هذا على أَنّ أَمرَه قيسَ بنَ عاصم: "أَن يغْتَسل بماء وسدر" للنّظافة على وجه الاستحباب، والله أَعلم.

81 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "مع المضمضة والاستنشاق: فقد ثبتا في الغُسل من فعله - صلى الله عليه وسلم -. قال الفقير إلى عفو ربِّه: وذلك بما أخرجه البُخاريّ (¬2)، ومسلم (¬3) من حديث ميمونة قالت: "صبَبت للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غسلًا، فأَفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثمّ غَسَل فرجَه، ثمّ قال بيده الأرَضَ فمسَحها بالتراب، ثُمَّ غَسّلها، ثمّ تمضمض واستنشق، ثمّ غسَل وجه، وأَفاض على رأسه، ثمّ تنحّى، فغَسَل قدميه، ثمّ أَتى بمنديل فلم ينفض بها". 82 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "ووجه الوجوب: ما قدّمْناه في الوضوء". قال الفقير إلى عفو ربِّه: لا يوجد دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغُسْل؛ لأَنّ فرضَه المجزئ هو إفاضةُ الماء على الرأْس والبَدَن، والوضوء قَبله لا يجب، وهما جزء منه. 83 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وقد روى ابن أَبي شَيبة -رحمه الله- عن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا وموقوفًا أَنَّه قال -لما سُئل عن الوضوء بعد الغُسْل-: "وأَيّ وُضوء أَعمُ من الغُسْل؟! ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وأَيضًا رواه عبد الرّزاق (¬6): أَخبرنا معمر عن الزُّهْري عن سالم به، وإسناده صحيح. ¬

_ (¬1) (1/ 189). (¬2) (259). (¬3) (317). (¬4) (1/ 189). (¬5) (1/ 191). (¬6) "المصنف" (1/ 270).

84 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وروى عن حذيفة - رضي الله عنه - أَنّه قال: "أَمَا يكفي أَحدُكم أَن يغتسل من قرْنِه إلى قدمِه حتَّى يتوضأَ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أَخرجه ابن أَبي شيبة (¬2): حدَّثنا عباد بن العوام، عن حجّاج، عن طلحةَ، عن إبراهيم، عن حذيفة، وهذا إسنادٌ ضعيف، فيه علّتان: الأُولى: الانقطاع بين إبراهيم النّخعي وحذيفة، فإبراهيم لم يسمَعْ شيئًا من الصّحابة. الثَّانية: ضعف حجّاج بن أَرطأَةَ. 85 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ويُشْرَعُ -أَي: الغُسْلُ- لصلاة الجُمُعَة لحديث: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل"، وهو في "الصَّحيحين"، وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -. وقد تلقت الأمّة هذا الحديث بالقبول، ورواه عن نافعٌ -رحمه الله- نحو ثلاث مئة نفس. ورواه من الصّحابة غير ابن عمر؛ - رضي الله عنه - نحو أربعة وعشرين صحابيًّا. وقد ذهب إلى وجوبه جماعة. قال النووي -رحمه الله-: حُكي وجوبُه عن طائفة من السّلف -رحمهم الله-، حَكُوه عن بعض الصّحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال ¬

_ (¬1) (1/ 191). (¬2) "المصنف" (1/ 135). (¬3) (1/ 192).

أهل الظّاهر، وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمّار - رضي الله عنه، ومالك، وحكاه الخطابي، عن الحسن البصري، وحكاه ابن حزم عن جمع من الصّحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم. وذهب الجمهور إلى أنّه مستحب، واستدلُّوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم بلفظ: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيَّامٍ" وبحديث سَمُرة - رضي الله عنه -، أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ للجمعة؛ فيها ونِعمت، ومن اغتسل فذلك أفضل": أخرجه أحمد، وأبو داود، والنَّسائيُّ، والترمذي -رحمهم الله-. وفيه مقال مشهور، وهو عدم سماع الحسن -رحمه الله- من سمرة -رحمه الله-؛ وغير ذلك من الأحاديث، قالوا: وهي صارفة للأمر إلى الندب. ولكنّه إذا كان ما ذكره صالحًا لصرف الأمر؛ فهو لا يصلح لِصرفِ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقّ على كلّ مسلم أن يغتسل في كلّ سبعة أيامٍ يومًا؛ يغسل فيه رأسه وجسده"؛ وهو في "الصَّحيحين" وغيرهما من حديث أَبي هريرة - رضي الله عنه - ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: المتأَمّل للنُّصوص يرَى أَن سبب أَمره - صلى الله عليه وسلم - بالغُسل ليوم الجُمُعة: ما رواه البُخاريّ (¬1) عن عائشة، قالت: "كان النّاس ينتابون الجُمُعةَ من منازلِهم والعَوَالي، فيأْتُون في الغُبَار، فيصيبُهُمُ الغُبَارُ والعَرَق، فيخرجُ منْهُمُ العَرق، فأَتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أَنّكم تَطَهَّرتم ليومِكم هذا"، وفي رواية: "لَوِ اغْتَسَلْتُم". ¬

_ (¬1) (902).

ثمّ إنَّه - صلى الله عليه وسلم - عَزَمَ عليهم، فقال -فيما رواه الشيخان- (¬1): "غُسْل الجُمُعَةِ واجب على كلِّ مُحتَلِم". فكان لأَهل العلم -نحوَ هذه النُّصوص- ثلاثة مسالك: المسلك الأَوّل: الوجوب مطلَقًا؛ أَخذًا بظاهر حديث أَبي سعيد وابن عبَّاس. المسلك الثَّاني: الاستحباب مطلَقًا؛ أَخذًا بظاهر حديث عائشة، وحديث الحسن، عن سمُرة. المسلك الثالث: التفصيلُ في ذلك، وهذا الّذي أَفتى به ابنُ عبَّاس، فقد روى أَبو داود (¬2) عنه -بسند حسن-، عن عكرمة: "أَن أُناسًا من أَهل العراق جاؤوا، فقالوا: يا ابن عبَّاس! أَترى الغُسلَ يومَ الجُمُعةِ واجبًا؟ قال: لا؛ ولكنّه أَطهرُ وخيرٌ لِمَنِ اغْتَسل، ومَن لم يغتسل؛ فليس عليه بواجب، وسأَخبرُكُم كيف بَدْءُ الغُسْل: كان النَّاس مجهودين؛ يلبسون الصّوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضَيِّقًا مقارب السّقف، إنّما هو عِرّيش، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم حارٍّ، وعرِق النّاسُ في ذلك الصوف حتَّى ثارت منهم رياحٌ؛ آذى بذلك بعضهم بعضًا، فلمَّا وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الرِّيحَ؛ قال: "أَيها النَّاس! إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، ولْيَمَسَّ أَحدُكم أَفضلَ ما يجد من دُهنه وطيبِه"، قال ابن عبَّاس، ثمّ جاء الله بالخير، ولبسوا غيرَ الصّوف، وَكُفُوا العَملَ، ووسِّع مسجدُهم، وذهب بعضُ الّذي كان يؤذي بعضهم بعضًا من العَرَق". وروى مسلم (¬3) من قصَّة معاتبة عُمَرَ لِعُثمانَ - رضي الله عنهما - وقولِه ¬

_ (¬1) البخاري (879)، مسلم (846). (¬2) (353). (¬3) (845).

له: "والوضوء أَيضًا، وقد علمت أَن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يأمُر بالغُسل". قال الإمام الشَّافعي -فيما نقله عنه الترمذيّ: "ومِمّا يدل على أَن أَمرَ النّبي - صلى الله عليه وسلم - بالغُسل يوم الجُمُعَة؛ أَنه على الاختيار لا على الوجوب: حديث عمر؛ حيث قال لعثمان: "والوضوء أَيضًا وقد علمت أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بالغُسل يومَ الجُمُعة"، فلو علما أَنَّ أَمرَه على الوجوب، لا على الاختيار؛ لم يتْرُك عمر عُثمانَ حتَّى يردَّه ويقول له: ارجعْ فاغتَسل، ولمَّا خفي على عثمان ذلك مع علمه، ولكن دل في هذا الحديث أَن الغُسل يوم الجمُعُة فيه فضل من غير وجوب يجب على المرء في ذلك" (¬1). وفيه نُكتة عزيزة: وهو أَنَّ غُسلَ يومِ الجُمُعة مستحبٌّ بإجماع الصّحابة -بقَيْدِه-، وهذا هو اختيار أَبي العباس؛ حيث أَفتى بالاستحباب ما لم يكن به عَرَق، أَو ريحٌ تؤذي غيرَه فيجب، وفي هذا جمع بين النُّصوص، وأَخذٌ بفقه السَّلف. وأَمَّا ما رواه مسلم (¬2) عن أَبي هريرة مرفوعًا: "حقٌّ لله على كلِّ مسلم أَن يغتسل في كل سبعة أَيّام، يَغسل رأسَه وجسده". فقد قال أَبو العبّاس: "وهذا في أَحدِ قولَي العُلماء هو غُسلٌ راتب مسنون، للنّظافة في كل أُسبوع، وإنْ لم يشهدِ الجُمُعةَ؛ بحيث يفعَلُه مَن لا جمُعَة عليه" (¬3). 86 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وللعيدَين: فقد روى من فعله - صلى الله عليه وسلم - من حديث الفاكه بن سعد - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النّحر؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والبزّار، والبغوي -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) "السنن" (497). (¬2) (1963). (¬3) "الفتاوى" (21/ 307). (¬4) (1/ 194).

وأخرج نحوه ابن ماجه -رحمه الله- من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. وأخرجه البزّار -رحمه الله- من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -. وفي أسانيدها ضعف، ولكنّه يقوّي بعضها بعضًا، ويقوي ذلك آثار عنْ الصّحابة - رضي الله عنهم - جيدة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: صحّ عن ابن عمر أَنَّه: "كان يغتسل يوم الفطر قبل أَنْ يغدوَ إلى المُصلّى"، رواه مالك (¬1) عن نافع، عن ابن عمر. وكذا صحّ عن عليّ: أَنّه سأَلَه رجل عن الغُسل؟ فقال: اغتسل كلِّ يوم إنْ شئت، فقال: لا؛ الغُسل الّذي هو الغُسل؟ قال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النّحر، ويوم الفطر" (¬2). 87 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ولِمَنْ غَسّل ميتًا؛ وجهه: ما أخرجه أحمد، وأهل "السنن" -رحمهم الله- من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، وقد روي من طرف، وأُعِلَّ بالوقف، وبأن في إسناده صالحًا -مولى التوأمة -رحمه الله-. ولكنه قد حسّنه التِّرمذيُّ -رحمه الله-، وصحّحه ابن القطان -رحمه الله-، وابن حزم. وقد رُوي من غير طريق. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: هو -لكثرة طرقه- أسوأ أحواله أن يكون حسنًا فإنكار النووي -رحمه الله- على التِّرمذيِّ -رحمه الله- تحسينَهُ مُعْتَرضٌ. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 177). (¬2) "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 278)، والشّافعيّ في "المسند" (1/ 118) وفي "الأم" (1/ 385) وابن المنذر في "الأوسط" (4/ 256 / 2112). من طريق: شعبة، عن عمرو بن مرَّة، سمعتُ زاذان يقول: عن عليّ .. فذكره. وإسناده حسن. (¬3) (1/ 196).

وقال الذهبي -رحمه الله-: هو أقوى من عدّة أحاديث احتجّ بها الفقهاء -رحمهم الله-. وذكر الماوردي -رحمه الله- أن بعض أصحاب الحديث -رحمهم الله- خرَّج لهذا الحديث مئة وعشرين طريقًا. وقد روي نحوه عن عليّ - رضي الله عنه - عند أحمد، وأبي داود، والنَّسائي، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، والبزَّار، والبيهقيّ -رحمهم الله-، وعن حذيفة - رضي الله عنه - عند البيهقي -رحمه الله-. قال ابن أبي حاتم -والدَّارقطنيُّ، رحمهما الله-: لا يثبت. وعن عائشة - رضي الله عنها - من فعله - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد، وأبي داود، -رحمهما الله-. وقد ذهب إلى الوجوب: عليّ، وأَبو هريرة - رضي الله عنهما - والإمامية". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أَمَّا أَثر عليّ؛ فقد رواه البيهقي (¬1): أَخبرنا أَبو عبد الله الحافظُ، وأَبو بكرٍ بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أَبو العبّاس محمد بن يعقوب: ثنا محمّد بن إسحاق: ثنا عليّ بن معبد: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد، عن جابر، عن الشعبي، عن الحارث، عن عليّ أَنه قال: "مَن غَسّل ميتًا؛ فليغتَسلْ"، قال البيهقيّ: وروي عن عليّ من قوله وليس بالقوي. وأَمَّا أَثر أَبو هريرة؛ فقد رواه البيهقي (¬2)، وفي "المعرفة" (¬3) من طرق، عن إسحاقَ مولى زائدَةَ، عن أَبي هريرة: "مَنْ غَسّل ميتًا؛ فليغتسل، ومن حَمَلَه فليتوضأْ". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 305). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 301). (¬3) "معرفة السنن والآثار" (2/ 134).

قال البيهقي: "وقال في غير هذه الرّواية: وإنَّما لم يَقْوَ عندي أن يرويَ عن سهيل، عن أَبي صالح، عن أَبي هريرة، ويُدخل بعضُ الحفَّاظ بين أَبي صالح وبين أَبي هريرة إسحاقَ مولى زائدة، فدل أَن أَبا صالح لم يسْمَعْه من أَبي هريرة، وليست معرفتي بإسحاق مولى زائدة مثل معرفتي بأبي صالح، ولعلّه أَنْ يكون ثقة ... ، قال أَبو داود: سمعت أَحمد بن حنبل وسئل عن الغُسل مِن غَسْل المَيت؟ فقال: يجزئُه الوضوء، أَدخل أَبو صالح بينه وبين أَبي هريرة في هذا -يعني: إسحاق مولى زائدة-، قال: وحديث مصعب ضعيف، وهو مع جهالته مختلف في إسناده، فقيل عنه هكذا، وقيل: عنه، عن أَبي سعيد. وقيل: عن يَحْيَى بن أَبي كثير، عن إسحاق، عن أبي هريرة. وقيل: عن يَحْيَى بن أَبي إسحاق، عن أَبي هريرة. وقيل: عن يَحْيَى، عن رجل من بني ليث، عن أَبي إسحاق، عن أَبي هريرة. وقيل: عن معمر عن أَبي إسحاق، عن أَبيه، عن حذيفة. وكل ذلك ضعيف. وروي عن محمد بن عمر، وعن أَبي سلمة، عن أَبي هريرة مرفوعًا، وروي عنه بإسناده موقوفًا، والموقوف أصحُّ. ورواه زُهير بن محمد، وليس بالقوي عن العلاء، عن أَبي هريرة مرفوعًا. ورواه عمرو بن عمير، عن أَبي هريرة مرفوعًا، وعمرو بن عمير غير مشهور. ورواه صالح مولى التوأَمة، عن أَبي هريرة مرفوعًا، وصالح مولى التوأَمة اختلط في آخر عمُرِه، وسقط عن حدّ الاحتجاج بروايته، وإنَّما يصحُّ هذا الحديث عن أَبي هريرة موقوفًا" (¬1). ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (2/ 133 - 135).

وقد روي عن ابن عباس في غَسْل الميت، قال: "يكفي منه الوضوء"، أَخرجه مُسدد (¬1): حدَّثنا يَحْيَى عن ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاس به. وكذلك عن ابن عمر، قال: "كنَّا نَغسل الميت، فمنّا مَن يغتسلُ، ومنّا من لا يغتسل" (¬2)، قال: حدَّثنا ابن صاعد: ثنا محمّد بن عبد الله المخرميّ: ثنا أَبو هشام المغيرة بن سلمة المخزومي: ثنا وهيب: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به. - قال الحافظ: "إسناده صحيح" (¬3). أَمَّا استحباب الوضوء من غَسْل الميت؛ فمتوَجِّه؛ لثُبوت الأَثر عن ابن عبَّاس. 88 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وللإحرام؛ لحديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنّه رأى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تجرَّد لإهلاله واغتسل؛ أخرجه التِّرمذيُّ، والدَّارقطنيُّ، والبيهقيّ، والطبرانيّ، -وحسّنه التِّرمذيُّ-، وضعَّفه العُقيلي -رحمهم الله-. ولعل وجه التضعيف كونُ عبد الله بن يعقوب المدني في إسناده. قال ابن الملقن في "شرح المنهاج": لعلّ التِّرمذيَّ -رحمه الله- حسَّنه لأنَّه عرف عبد الله بن يعقوب؛ أي: عرف حاله. وفي الباب عن عائشة - رضي الله عنها - عند أحمد -رحمه الله-، وعن أسماء - رضي الله عنها -، عند مسلم -رحمه الله-. وقد ذهب إلى استحباب غُسل الإحرام الجمهور". ¬

_ (¬1) "المطالب العالية" لابن حجر (1/ 319). [وإسناده ضعيف]. (¬2) أَخرجه الدّارقطنيّ في (2/ 72). (¬3) "التلخيص" (1/ 239). (¬4) (1/ 197).

سادسا: باب التيمم

قال الفقير إلى عفو ربِّه: ثبت عند الدّارقطنيّ (¬1) والحاكم (¬2) عن ابن عمر، قال: "إن مِنَ السُّنة أَن يغتسل إذا أراد أَن يحرم، وإذا أراد أَن يدخل مكّة"، قال الدّارقطنيّ: حدَّثنا إبراهيم بن حمّاد: ثنا أَبو موسى: ثنا سهل بن يوسف: ثنا حميد عن بكر، عن ابن عمر به. وقد أَمَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَسماء بنتَ عُميس حينما ولدت محمّدًا بذي الحليفة، قال: "اغتسلي واستثفرِي بثوب وأَحرمي" (¬3). ومِنَ المعلوم أَن هذا الغُسل إنَّما هو للإحرام؛ لأَنَّها ممنوعة من الصَّلاة والطّواف حتَّى تطهُرَ، دل على ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وأحرمي". * * * سادسًا: باب التّيمُّم 89 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "والواجب حملُ كلام الله على ذلك مع عدم وجود عُرف شرعيّ، وقد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ما يشعر بما ذكرناه؛ فإنَّه تيمّم في المدينة من جدار؛ كما ثبت ذلك في "الصَّحيحين" من دون أن يسأل ويطلب، ولم يصحَّ عنه في الطّلب شيء تقوم به الحجَّة، فهذا -كما يدل على عدم وجوب الطّلب- يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت. ويدلّ على ذلك حديث الرِّجلين اللّذين تيمَّما في سفر، ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يُعد الآخر، فقال - صلى الله عليه وسلم - للذي لم يُعِدْ: "أصبت ¬

_ (¬1) "السنن" (2/ 220). (¬2) (1/ 616). (¬3) رواه مسلم (2950). (¬4) (1/ 200).

السُّنة"؛ أخرجه أبو داود والحاكم، وغيرهما من حديث أبي سعيد، فإنَّه يَرُدُّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمّم، سواء كان مسافرًا أو مقيمًا. إذا تقرّر لك هذا: استرحت عن الاشتغال بكثير من التفاريع المحرَّرة في كتب الفقه؛ فإنَّ هذه هي ثمرة الاجتهاد. فأيّ فرق بين مَنْ لا يُفَرِّق بين الغثِّ والسَّمين من المجتهدين، وبين مَن هو في عِداد الْمُقَلِّدِين؟! ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الآثار الواردة في هذه المسأَلة كما يلي: الأَوّل: عن عمر؛ فقد روى عبد الرّزاق (¬1)، وغيرُه من طريق عبد الرحمن بن حاطب: "أَنَّه اعتمر مع عمر، وأَن عمر عرّس في بعض الطريق قريبًا من بعض المياه، فاحتلم فاستيقظ، فقال: ما تَرَوْن؛ نُدرك الماء قبل طلوع الشّمس؟ قالوا: نعمْ، فأَسرَع السّير حتَّى أَدرك الماء، فاغتسل وصلّى". وإسناده صحيح. الثَّاني: عن ابن عمر، فقد روى البيهقي (¬2) من طريق محمّد بن عجلان، عن نافع: أَن ابن عمر تيمّم بِمَرْبَد النعم، وصلّى وهو على ثلاثة أَميال من المدينة، ثمّ دخل المدينة والشّمس مرتفعة؛ فَلَمْ يُعِدْ. وساق من طريق الأَوزاعي، قال: حدَّثني موسى بن يسار، عن نافع، عن ابن عمر: أَنَّه كان يكون في السفر فتحضره الصَّلاة، والماء منه على غلوة، أَو غَلوتين، ونحو ذلك، ثمّ لا يعدل إليه. الثّالث: عن عليّ، فقد روى البيهقي (¬3) من طريق الحارث، عن عليّ - رضي الله عنه -، قال: اطْلُبِ الماء حتَّى يكون آخر الوقت، فإن لم تجد ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 244). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 234). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 235).

ماء؛ تيمّم ثمّ صلّي، وفي طريق آخر، قال: "إذا أجنب الرجل في السّفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإنَّ لم تجدِ الماء تيمّمْ وصلّي". ثمّ قال البيهقي: "وهذا لم يصحَّ عن عليٍّ، وبالثابت عن ابن عمر نقول، ومعه ظاهر القرآن" (¬1). فهذه الآثار تدل على أَن المرءَ مخَيّر بين أَنْ يصلِّي في أَوَّل الوقت بالتيمّم، إذا لم يكنِ الماءُ قريبًا منه، وبين أَن ينتظرَ إلى أَن يجد الماء فيصلّي قبل خروج الوقت. 90 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "قال في "القاموس": "والصّعيد: التراب، أَو وجهْ الأَرض" انتهى. والثاني هو الظّاهر من لفظ الصَّعيد؛ لأنّه ما صَعِدَ؛ أي: علا وارتفع على وجه الأرض، وهذه الصّفة لا تختص بالتراب، ويؤيّد ذلك حديث: "جُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"؛ وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره. وما ثَبَتَ في روايةٍ بلفظ: "وتربتها طهورًا"؛ كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة؛ فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء؛ لأنَّ غاية ذلك أن لفظ التراب دلَّ بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطُّهوريّة. وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسُّنّة، ولهذا لم يعمل به من يُعْتَدُّ به من أئمّة الأصول، فيكون ذكر التراب في تلك الرّواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام. وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث، ووجه ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 235). (¬2) (1/ 201 - 204).

ذكره: أنه الَّذي يغلب استعماله في هذه الطهارة، ويويّد هذا ما تقدَّم من تيمّمه - صلى الله عليه وسلم - من جدار. وأمَّا الاستدلال بوصف الصَّعيد بالطَّيِّب، ودعوى أن الطَّيِّب لا يكون إلَّا ترابًا طاهرًا مُنبِتًا لقوله -تعالى-: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلا نَكِدًا}: فغير مفيد للمطلوب إلَّا بعد بيان اختصاص الطَّيِّب بما ذُكر، والضرورةُ تدفعه؛ فإنّ التُّراب المختلط بالأزبال أجود إخراجًا للنبات. قال الماتن في "شرح المنتقى": ومن الأدلة الدّالة على أن المراد خصوص التُّراب ما ورد في القرآن والسُّنّة من ذكر الصَّعيد، فالأمر بالتيّمم منه وهو التُّراب، لكنَّه قال في "القاموس": والصَّعيد: التُّراب أو وجه الأرض. وفي "المصباح": الصَّعيد وجه الأض؛ ترابًا كان أو غيره، قال الزّجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة في ذلك، قال الأزهري: ومذهب أكثر العلماء أنّ الصَّعيد في قوله -تعالى-: {صَعِيدًا طَيِّبًا} هو التُّراب، وفي كتاب "فقه اللغة" للثعالبي: الصَّعيد تراب وجه الأرض، ولم يذكر غيره. وفي "المصباح" -أيضًا-: ويقال: الصَّعيد في كلام العرب يطلق على وجوه: على التُّراب الّذي وجه الأرض وعلي وجه الأرض، وعلي الطريق. ويؤيّد حملَ الصعيد على العموم تَيمُّمه - صلى الله عليه وسلم - من الحائط؛ فلا يتمُّ الاستدلال. وقد ذهب إلى تخصيص التَّيمم بالتُّراب الشَّافعي، وأحمدُ، وداودُ. وذهب مالك، وأبو حنيفة، وعطاء، والأوزاعي، والثوري إلى أنّه يجزئ بالأرض وما عليها. قال: واستدل القائل بتخصيص التُّراب بما عند مسلم من حديث حذيفة مرفوعًا بلفظ: "وجُعلت تربتها لنا طهورًا"، وهذا خاص؛ فينبغي أن يُحمَلَ عليه العامُّ.

وأُجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، فلا يتم الاستدلال. ورُدَّ بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ: "التراب"؛ أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: "جُعِل التراب لي طهورًا"؛ أخرجه أحمد والبيهقي، بإسناد حسن. وأُجيب أيضًا عن ذلك الاستدلال بأن تعليق الحكم بالتربة مفهوم لقب، ومفهوم اللقب ضعيف عند أرباب الأصول، ولم يقل به إلا الدقاق، فلا ينتهض لتخصيص المنطوق. ورُدَّ بأن الحديث سِيق لإظهار التشريف، فلو كان جائزًا بغير التراب لما اقتصر عليه؛ وأنت خبيرٌ بأنه لم يقتصر على التراب إلا في هذه الرواية. نعم؛ الافتراقُ في اللفظ حيث حصل التأكيد في جعلها مسجدًا دون الآخر -كما سيأتي في حديث مسلم- يدلُّ على الافتراق في الحكم. وأحسن من هذا أن قوله -تعالى- في آية المائدة: {مِنْهُ} يدل على أن المراد التراب، وذلك لأن كلمة "مِن" للتبعيض كما قال في "الكشاف": أنه لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت برأسه من الدّهن والتراب؛ إلا معنى التبعيض، انتهى. فإن قلت: سلّمنا التبعيض، فما الدّليل على أَن ذلك البعضَ هو التراب؟ قلت: التنصيص عليه في الحديث المذكور "انتهى. قال الفقير إلى عفو ربه: والأَظهر هو عدم اشتراط التراب؛ لأَدلة؛ منها: الأَوَّل: قوله -تعالى-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (¬1). فكلمة {حَرَجٍ} في هذا السّياق تدلُّ على العموم، فهي نكرة وقعت ¬

_ (¬1) [المائدة: 6].

في سياق النفي، فاشتراط التراب منفي من هذه الآية، واشتراطه يوقع في الحرج. الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأَيما رجل من أُمتي أَدركته الصلاة؛ فعنده مسجده وطهوره"، فقد تدركه الصلاة في أَرض سبخة، أَو أَرض رملية، وهو مأْمور بالتيمم عليها، مع عدم وجود الماء والحالة هذه. الثالث: روى البخاري (¬1) وعلقه مسلم (¬2) عن عمير مولى ابن عبّاس: "أَنّه - صلى الله عليه وسلم - تيمم على جدار". الرابع: لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة -رضي الله عنهم- أَنَّهم كانوا ينقلون التّراب معهم، مع أَنهم كانوا يقطعون المفاوزَ التي لا يوجد بها إلا الرمال؛ ولذا عد غيرُ واحد من أَهل العلم نقل التراب للتيمم بدعة. وأَما أَثر ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير الآية (¬3)؛ فلا يصح؛ في إسناده: قابوس بن أَبي ظَبيان، قال الذهبي: "قلت: قابوس لين" (¬4). 91 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "يستباح به ما يستباح بالوضوء والغُسل لِمَن لا يجد الماء؛ لأَن حكم التيمم مع العذر المسوغ له حكم الوضوء لمن لم يكن جنبًا، وحكم الغسل لمن كان جنبًا، يصلي به ما يصلي المتوضئ بوضوئه، ويستبيح به ما يستبيحه المغتسل بغسله، فيصلي به الصلوات المتعددة، ولا ينتقض بفراغ من صلاة، ولا بالاشتغال بغيره، ولا بخروج وقت على ما هو الحق". قال الفقير إلى عفو ربه: الصحيح؛ أَن التيمم رافع للحدث؛ ولكن ¬

_ (¬1) (337). (¬2) (822). (¬3) "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 214). (¬4) "المهذب في اختصار السنن الكبرى للبيهقي" (1/ 222). (¬5) (1/ 204).

إلى أَنْ يجد الماء، فإذا وجده بطلت طهارته، ووجب عليه التّطهر بالماء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد وضوء المسلم، وإن لم يجدِ الماءَ عشر سنين، فإذا وجد الماء؛ فليتق الله، ولْيَمَسه بشرتَه"، رواه أبو داود (¬1)، الترمذي (¬2)، والنسائي (¬3)، وأَحمد (¬4)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وكذا صححه الحافظ. 92 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وكذلك حديث المسح على الجبائر؛ المروي عن علي -رضي الله عنه-". قال الفقير إلى عفو ربه: وهو حديث ضعيف، والعمدة في جواز المسح على الجبيرة: ما رواه ابن أَبي شيبة (¬6) عن ابن عمر، قال: "مَن كان به جرح معصوب، فخشي عليه العَنت؛ فليمسح ما حوله ولا يغْسِلْه"، ولا يعلم له مخالف من الصحابة؛ فهو حجة يجب المصير إليها، باتفاق الجماهير خلافًا للظاهرية. 93 - قال الْمُصَنِّف (¬7): "وأَمّا ما ورد فيه لفظ اليدين -كما وقع في بعض روايات من حديث عمار: فالمطلق يحمل على المقَيد بالكفّين". قال الفقير إلى عفو ربه: السّنة والآثار الثّابتة عن الصحابة - رضي الله ¬

_ (¬1) "السنن" (332). (¬2) "السنن" (124). (¬3) "السنن" (322). (¬4) "المسند" (5/ 146). (¬5) (1/ 207). (¬6) (1/ 135). (¬7) (209).

عنهم -: أَن المسح للكفين والوجه، وقد روى ابن أَبي شيبة (¬1) بسند صحيح، عن ابن عمر: "أَنه كان يمسح إلى المرفقين". 94 - قال المصنف (¬2): "وقد ذهب إلى كون التيمم ضربةً واحدةً للوجه والكفين الجمهور، وذهب جماعة من الأَئقة والفقهاء إلى أَن الواجب ضربتان: ضربةٌ للوجه، وضربة لليدين". قال الفقير إلى عفو ربه: الثابت عن السّلف صورتان في كيفية التيمم: الأُولى: ما جاء في الحديث؛ وهي ضربة للوجه والكقين. الثانية: ما رواه عبد الرزاق (¬3)، والبيهقي (¬4) عن ابن عمر أنه قال: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المِرفقين"، وسنده صحيح على شرط الشيخين. وأَما القول بالمسح إلى الآباط؛ فقد قال الخطابي: "ووجه الاحتجاج له من صنيع عمّار وأَصحابه: أَنَّهم رأَوْا إجراءَ الاسم على العموم، فبلغوا بالتيمم إلى الآباط. وقام دليل الإجماع في إسقاط ما وراء المِرفقين فسقط، وبقي ما دونهما على الأَصل؛ لاقتضاء الاسم إياه" (¬5). ولا نعلم أَحدًا من الصحابة أَفتى أَو عمل بأَحاديث التيمم إلى الآباط (¬6). ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 304). (¬2) (1/ 209). (¬3) "المصنف" (1/ 122). (¬4) "السنن الكبرى" (1/ 207). (¬5) "معالم السنن" (1/ 201). (¬6) وانظر "السننن الكبرى" للبيهقي (1/ 208).

قال أَبو داود -في حديث ابن عبَّاس عن عمار في قصّة التيمم-: "زاد ابن يحيى في حديثه، قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس" (¬1) يشير -رحمه الله- إلى قوله في الحديث: "ثم رفعوا أَيديهم، ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فمسحوا بها وجوههم وأَيديهم إلى المناكب، ومن بطون أَيديهم إلى الآباط". 95 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ناويًا مسمّيًا: لما تقدم في الوضوء؛ لأَنه بدل عنه؛ وأَدلة النية شاملة لكلّ عمل". قال الفقير إلى عفو ربه: أَما النية؛ فالأَمر فيها بَينٌ؛ لثبوت الحجة ووضوحها، وهي قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات". وأَما التسمية؛ فلم أَقفْ على شيءٍ فيها. 96 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وأَما ما قيل من أَنَّ فوات الصلاة باستعمال الماء وإدراكها بالتيمم سبب من أسباب التيمم! فليس على ذلك دليل، بل الواجب استعمال الماء، وهو إن كان تراخيه عن تأدية الصلاة إلى ذلك الوقت لعذر مُسَوغ للتأخير -كالنوم والسهو ونحوهما -؛ فلم يوجب الله -تعالى- عليه إلا تأدية الصلاة في ذلك الوقت بالطهور الذي أوجبه الله -تعالى-، وإن كان التراخي لا لعذر إلى وقت لو استعمل الوضوء فيه لخرج الوقت: فعليه الوضوء، وقد باء بإثم المعصية". ¬

_ (¬1) "السنن" (320). (¬2) (1/ 210). (¬3) (1/ 211).

سابعا: باب الحيض والنفاس

قال الفقير إلى عفو ربه، وصورتها: أَنْ يستيقظَ قبل طلوع الشمس بقليل وهو جنب، فإنِ اغتسلَ خرج الوقت، وإنْ تيمم أَدركه، فعلى قول المصنف يغتسل وإن فات الوقت، وهو الصواب؛ لأَن وقت الصلاة بالنسبة إليه وقت استيقاظِه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أَو نسيها؛ فليصلها إذا ذَكَرَها؛ لا كفارة لها إلا ذلك"، وفي رواية: "وإنه لَوَقْتها"، وفيها نظر، وإذا كان الأَمر كذلك؛ فإنه مأْمُور بالقيام إلى الصلاة بشروطهما. * * * سابعًا: باب الحيْض والنفاس 97 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "لم يأْت في تقدير أَقله وأَكثره ما تقوم به الحجة، وكذلك الطهر؛ لأَن ما ورد في تقدير أقل الحيض والطهر وأكثرهما، فهو إما موقوف ولا تقوم به الحجة، أو مرفوع ولا يصح، فلا تعويل على ذلك ولا رجوع إليه، بل المعتبر لذات العادةِ المتقررةِ هو العادةُ، وغير المعتادة تعمل بالقرائن المستفادة من الدم". قال الفقير إلى عفو ربه: "فالأَصل في ذلك عدمُ التقدير من الشارع؛ فإنه لم يقدر ذلك بقدر، بل وَكَلَه إلى ما تعرفُه من عادَتها، ومذهب مالك: ولو دفعة فقط". وقال أَبو العباس: "ولو ساعة، ولا حدَّ لأَكثره ما لم تصر مستحاضة، وهو مذهب جمهور السلف". قال: "والمرجع في ذلك إلى العادة، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن ¬

_ (¬1) (1/ 212).

أَصحابه في ذلك شيء، وما أَطلَقه الشارع عمل بمقتضى مسماه ووجوده، ولم يجز تقديره وتحديده" (¬1). وبما قرره الشّيخُ أَبو العباس أَفتى به ابن عباس، فقد روى الدارمي (¬2)، قال: أَخبرنا محمد بن عيسى: حدثنا ابن علية: أَنبأَنا خالد، عن أنس بن سيرين، قال: "اسْتُحِيضَتِ امرأَةٌ من آل أَنس، فأَمروني، فسأَلت ابن عباس، فقال: أما ما رأَتِ الدم البحراني؛ فلا تصلي، فإذا رأَتِ الطّهر ولو ساعةَ من نهار؛ فلتَغتَسل ولتصل"، وهذا إسناد صحيح. 98 - قال الْمُصنِّف (¬3): "ولا يعارض هذا ما أَخرجه في "الموطأ" -وعلّقه البخاري-: "أَن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الصفرةُ والكُدرة من دم الحيض لِيسألْنها عن الصلاة؟ فتقول لهن: لا تعجلْن حتى ترين القصَّة البيضاء؛ فإن هذا -مع كونه رأيًا منها- ليس بمخالف لما تقدم؛ لأنها لم تخبرهن بأن الصفرة والكُدرة حيض، إنما أمرَتهن بالانتظار إلى حصول دليل يَدُلُّ على أنه قد انقضى الحيض، وهو خروج القَصة، فمتى خرجت لم يخرج بعدها دم حيض، ولم تأْمُرْهن بالانتظار ما دامتِ الصفرة والكدرة". قال الفقير إلى عفو ربه: قال العلامة الألَباني -رحمه الله-: "لكن يشهد له مفهوم حديث أم عطية، قالت: "كتا لا نَعذ الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا"، أخرجه أَبو داود وغيره بسند صحيح -كما بينتُه في "صحيح أَبي داود" رقم (325) -، فهو يدل بمفهومه على أنهن كن يَعْدُدن ذلك قبل الطهر -أَي: في الحيض- حيضًا. وتأْويل المصنف حديث عائشة بعيد جدًّا عن الحقيقة، بل هو صريح ¬

_ (¬1) "الإحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 118). (¬2) "السنن" (1/ 827). (¬3) (1/ 215).

على أَنها كانت ترى أَن الحائض لا تطهُر بانقطاع الدم الأَسودِ عنها، بل لا بد منِ انقطاع الصفرة والكُدرة، وإلا لَما جاز أَن تأمر بالانتظار الذي يقضي بتضييع بعض الصلوات، لو كان الحيض هو الدمَ الأَسود فقط، فتأَمل" (¬1). 99 - قال الْمصَنِّف (¬2): "ومستحاضة: وهي التي يستمر خروج الدم منها. إذا رأت غيره: تعمل على العادة المتقررة، فتكون فيها حائضًا تَثبت لها فيه أحكام الحائض، وفي غير أيّام العادة تكون طاهرًا لها حكم الطاهر. تُعامَل المستحاضة كالطاهرة: وهي كالطاهرة كما أفادت ذلك الأحاديث الصحيحة الواردة من غير وجه؛ فإذا لم تكن لها عادة متقررة كالمُبْتَدأة والمُلْتَبِسة عليها عادتُها؛ فإنها ترجع إلى التمييز، فإن دم الحيض أسود يُعرَف -كما قال- صلى الله عليه وسلم -، فتكون إذا رأت دمًا كذلك: حائضًا، وإذا رأت دمًا ليس كذلك: طاهرًا. وقد أَطال الناس الكلام في هذا الباب في غير طائل، وكثرت فيه التفريعات، والتدقيقات، والأمر أَيسر من ذلك". قال الفقير إلى عقو ربه: "الدَّمُ باعتبار حكْمِه لا يخرج عن خمسة أَحكام: أولًا: مقطوع بأَنه حيض؛ كالدم المعتاد الذي لا استحاضة معَه. ثانيًا: دمٌ مقطوع بأَنه استحاضةٌ كدَمِ صفرة. ثالثًا: دَمٌ يحتمل الأَمرَين؛ لكِنِ الأَظهرُ أَنه حيض، وهو دَمُ المعتادة، والْمُمَيزة، ونحوهما من المستحاضات؛ الذي يحكم بأَنه حيض. ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 215). (¬2) (1/ 215 - 216).

رابعًا: ودَم يحتمل الأمَرَين، والأَظهر أنه دَم فساد، وهو الدم الّذي يحكم بأَنه استحاضة من دماء هؤلاء. خامسًا: ودَمٌ مشكوك فيه، لا يترجح فيه أَحدُ الأَمرين، ويقول به طائفة من أَصحاب الشافعي، وأَحمد، وغيرهما؛ فيوجبون عليها: أَن تصوم وتصلي، ثم تقضي الضوم. والصواب: أَن هذا القول باطل؛ لوجوه: منها: أَن الله بيّن لنا ما نتقيه، فكيف يقال: إن الشريعة فيها شك؟! ولا يقولون -أَي: الموجبون-: نحن شكَكْنا؛ فإن الشاك لا علم عنده؛ فلا يجزم، وهؤلاء يجزمون بوجوب الصيام وإعادَته لشَكهم. ومنها: أَن الشريعة ليس فيها إيجاب الصلاة، ولا الصيام مرتين، إلا بتفريط، والصواب: ما عليه جمهور المسلمين: أَن من فعل عبادة كما أَمر بحسب وَسِعَه؛ فلا إعادة عليه" (¬1). والحاصل: أَن المعتادة ترد إلى عادتها؛ لحديث فاطمة بنت أَبي حُبَيشٍ، والمميزة تعمل بالتمييز، على حديث فاطمة عند أَبي داود (¬2)، والفاقدة لهما تحيض ستًّا أَو سبعًا، على حديث حِمنة، ثم إنه تبين لي أَن حديث فاطمة عند أَبي داود، وهي قوله: "إن دَمَ الحيض أَسودُ يعرف" لا يصح. قال ابن أَبي حاتم: "سأَلت أَبي عن حديث رواه محمّد بن أَبي عدي، عن محمد بن عمرِو، عن ابن شهاب الزُّهْرِي، عن عروة، عن فاطمة: أَن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إذا رأَيتِ الدّمَ الأَسودَ؛ فأَمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر؛ فتوضئي وصلي؛ فإنما هو عرق"، قال أَبي: لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية وهو منكر". (¬3) ¬

_ (¬1) "الإحكام" للعلّامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 121). (¬2) "السنن" (286). (¬3) "العلل" (1/ 549).

قال عبد الله ابنُ الإمام أَحمدَ: سمعت أَبي يقول: "كان ابن أَبي عدي حدثنا به عن عائشة، ثم تركَه (¬1) ". ساقه البيهقي بعد حديث فاطمة، والذي يظهر لي أَن الخطأَ فيه إنّما هو من ابن أبي عدي. قال أَبو داود: "وقال ابن المثتى: حدثنا به ابن أَبي عدي من كتِابِه هكذا، ثم حدثنا به -بَعْدُ- حِفظًا، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن الزهْري، عن عروة، عن عائشة: أَن فاطمة كانت تستحاض؛ فذكَر معناه (¬2) ". وجملة القول في هذا الحديث: أنه معلول كما قال أَبو حاتم وأَحمد؛ لعدة أَوجه: الأوَّل: أَن الحديث رواه البخاري (¬3)، ومسلم (¬4) من طرق: عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: إن فاطمة بنتَ أبي حُبَيْش جاءت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إني امرأَةٌ أُستحاض فلا أَطهر؛ أَفأَدع الصلاة؟ قال: "إنما ذلك عرق، وليس بحيض، فإذا أَقبلت حيضتُك؛ فدَعي الصّلاة، وإذا أَدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي"، فأَنت ترى أَن رواية "الصحيحين" ليس فيها ذِكْرٌ لهذا الحرف. الثاني: أَن ابن أَبي عدي راويه عن محمد بن عمرو: مرة يجعلُه من مسند فاطمة، ومرة يجعلُه من مسند عائشة، فهو كما أنه اضطرب في متْنِه؛ فكذلك في سنده. الثالث: أَن ابن القطان أَعله بالانقطاع. رابعًا: لم نر أَحدًا مِنَ المتقدمين أَثبت الحديث، أَو صححه بهذا اللفظ؛ بَلِ اسْتَنْكَروه. ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 325). (¬2) "السنن" (1/ 55). (¬3) (228). (¬4) (755).

فالعمدة في رَد المستحاضة إلى التّمييز: إنما هو حديث فاطمة بنتِ أَبي حُبيش؛ الذي رواه البخاري ومسلم؛ فإن قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عرق، وليس بالحيض، فإذا أَقبلَت حيضتك؛ فدَعِي الصلاة"؛ رد لها إلى التمييز. (فائدة): في قوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش: "فتحيضي ستة أَيام، أَو سبعةَ أَيام -في علم الله-، ثم اغتسلي، حتى إذا رأَيتِ أَنكِ قد طَهُرت واستنقأْت؛ فصلي ثلاثًا وعشرين ليلة، أَو أَربعًا وعشرين ليلةَ وأَيامَها، وصومي؛ فإن ذلك يجزيك، وكذلك فافعلي في كل شهبر كما تحيض النساء"، أَخرجه أَبو داود (¬1) وغيره، فيه دليل: على أَن أَكثر الحيض سبعة أَيام، فإذا كانت المرأَةُ تحيض خمسة أَو ستة أَو سبعةَ أَيام، ثمّ طرأَ عليها ما جعل أَيام حيضها تزيد على السبعة، مثل: أَنْ تتناوَلَ عَقارًا يكون سببًا في زيادة تدفق دَمِها؛ فإنها تؤمر بأَنْ تغتسل بعد السابع، وتصلي وتصوم، ولا يقال لها: انتظري إلى أَنْ يبلغ خمسةَ عشَر يومًا، فهذا مع أنه مخالف لهذا الحديث؛ فإنّ معناه أَنْ لا فرقَ بين الحائض والنفَسَاء، وهذا أَمْر يصادم الواقع ولا يتفق مَعَه، على أَن الطب الحديثَ يقررُ أَن أَكثر زَمَنٍ تحيضُ فيه المرأَةُ هو سبعَة أَيام، فإذا زاد: فإما أَنْ يكون بسبب اظطرابِ ما يُعرفُ بـ (الهُرمونات) عند المرأَة، ومعنى هذا: أنه مَرَضٌ. وإما أَن تكون نُفَساءَ غاب عنها الدَّمُ تسْعة شُهور، وبهذا نكون قد ضَبَطْنا الفتوى في هذا، وأَرَحنا النساءَ من إشكالاتٍ كثيرةِ؛ تُسَبِّب لهُن الحَيْرَةَ والقَلَق. 100 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "والنفَاسُ أَكثرُه أَربعونَ يومًا؛ لحديث أُم سلمة، قالت: "كانتِ النفساءُ ¬

_ (¬1) "السنن" (287). (¬2) (1/ 219).

تجلس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَربعين يومًا". أَخرجه أَحمد، وأَبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، وللحديث طرق يقوي بعضها بعضًا، وإلى ذلك ذهب الجمهور". قال الفقير إلى عفو ربه: وبهذا جاءَتِ الآثار عن الصحابة: 1 - فَعنِ ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: "تَنْتَظِرُ النفَسَاءُ أَربعِينَ يومًا أَوْ نَحْوها"، أَخرجه الدارميُّ (¬1): أَخبرنا أَبو الوليد الطيالِسي: حدثنا أَبو عَوانَة، عن أَبي بشرٍ، عن يوسُفَ بن مبارك، عن ابن عبّاس به. 2 - وعن عثمان بنِ أَبي العاص الثَّقفِي، فقد روى عبدُ الرزاق (¬2)، عن الثوري، عن يونس، عن الحسن، عن عثمان بن أَبي العاص: "أَنه كان لا يَقْرَبُ نساءَه -إذا تنَفسَتْ إحدَاهُن- أَربعين ليلة". ¬

_ (¬1) "السنن" (1/ 994). (¬2) "المصنف" (1 / رقم: 313).

الصلاة

الصلاة 1 - بابُ مواقِيتِ الصّلاة 101 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "الزَّوال: أَي: زَوال الشمس، ويبيّن ذلك باخضرار الجدار إلى جهة الشّرق، يعرفه كلُّ ذي عيْنَيْن". قال الفقير إلى عفو ربّه: ويعرف زوال الشّمس بزيادة الظّلَ بعد تناهي قصره، وتحول الشمس عن خط الْمُسامَتَه، بحدوث الظل بعد عدمِه، فتضبط ما زالت عليه الشمس من الظل، ثم تنظر الزيادة عليه، فإذا بلغت قدر الشاخص؛ فقدِ انْتَهى وقتُ الطهر. 102 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وهو أَوّل وقت العصر؛ أَي: صَيْرورة ظِله مثْلَه. قال ابن القيّم: وأنهم كانوا يصلونها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قَدْرَ أربعة أميال والشمسُ مرتفعة. ¬

_ (¬1) (1/ 224). (¬2) (1/ 225 - 227).

وقال أنس: صلى بنا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - العصر، فأتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! إنا نريد أن ننحر جزورًا، وإنا نحبّ أن تحضرها، قال: "نعم"، فانطلق وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس، ومحال أن يكون هذا بعْدَ المِثْلَين. وفي "صحيح مسلم" عنه: "وقت صلاة الطهر ما لم يحضر العصر"، ولا معارض لهذه السنن في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فردَّتْ بالمجمل من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومَثَلُ أهل الكتاب قبلكم بهمثل رجل استأجر أجيرًا، فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ... "إلخ. وياللهِ العَجَبُ! أيُ دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة؟! وإنّما يدل على أن من صلاة العصر إلى غروب الشّمس أقصر من نصف النّهار إلى وقت العصر، وهذا لا ريب فيه، انتهى. (وآخره) أي: آخر وقت العصر؛ صيرورة ظله مثيله. قال الشافعي: "آخر الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثيله. وقيل: إلى أن تصفَرَّ الشمسُ، وآخر وقت الضرورة مغيبُ الشّمس" كذا في "المُسوى". وفي "الحُجة البالغة": وكثير من الأحاديث يدلُّ على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس، وهو الذي أطبق عليه الفقهاء، فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي يستحب فيه، أو نقول: لعل الشرع نظر -أولًا- إلى المقصود من اشتقاق العصر، أن يكون الفصلُ بين كل صلاتين نحوًا من ربع النهار، فجعل الأمَدَ الآخِرَ بلوغ الظل إلى المثلين، ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد. وأيضًا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ الفيء الأصلي ورصده.

وإنما ينبغي أَنْ يخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر، فنفث الله -تعالى- في رَوْعِه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يجْعَل الأَمد تغير قرص الشمس، أَو ضوئها، والله تعالى أَعلم". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن عبد البر: "وقد أَجمع العلماء على أَنّ مَن صلى العصر والشمس بيضاءُ نقية لمْ تدخُلْها صفرة؛ فقد صلاها في وقتها المختار" (¬1). "وأَصرح حديث في تحديد وقتِها؛ حديث جبرائيل: "أنه صلاها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأَول، وظِل الرجُل مثْلَه، وفي اليوم الثاني: وظِل الرجُل مِثْلَيه"، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة ما بَيْنَ هذيْن الوقتين"، وهذا مذهب جماهير العلماء، ومن صلاها في ذلك الوقت فقد صلاها في وقتِها، ثم يدخل وقت الضرورة. قال أبو العباس: وهو الصحيح الذي تدل عليه الأَحاديث المدَنية. وقال: نقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أَن الوقت للصلوات الخمس وقتُ اختيار وهو خمسة، ووقت ضرورة وهو ثلاثة" (¬2). ويعني -رحمه الله- بالثلاثة: الفجر -وقتَ الإسفِرار جدًّا-، والعصر -وقت الإصفرار إلى الغروب-، والعِشاءَ -منتصف الليل إلى طلوع الفجر-. 103 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ما دامتِ الشمس بيضاءَ نقيّةً؛ فإذا اصفرت؛ خرج وقت العصر؛ لِمَا ورد في ذلك من الأَحاديث؛ منها: حديث ابن عمرٍو، قال: قال ¬

_ (¬1) "التمهيد" (8/ 76). (¬2) "الإحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 152). (¬3) (1/ 227).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وقت صلاة الطهر ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس". أَخرجه مسلم، وأَحمد، والنسائي، وأَبو داود. قال الفقير إلى عفو ربه: قال أَبو العباس: "وليس في المواقيت حديث أَصح منه" (¬1). 104 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وآخره ذَهابُ الشفق الأَحمر: جميع كتب اللغة مصرحة بهذا، وجميع أَشعار العرب ومَنَ بعْدَهم، فمن زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة -أو لسان أهل الشرع- يُطْلَق على البياض فعليه الدليلُ، ولا دليلَ. ولو فُرض وجُود ما يدل على ذلك فلا يُنكر نُدورُه، كما لا يُنْكر أن الشائع في "لسان العرب" وأهل الشرع إطلاقُهُ على الحُمرة، والحمل على الأعم الأغلب هو الواجب، ولا يُحمل على النّادر، فليس ها هنا ما يُسَوِّغ اختلافَ المذاهب". قال الفقير إلى عفو ربه: ثبت عن ابن عمر أنه قال: "الشَّفق: الْحُمْرَة". أَخرجه البيهقي (¬3)، وابن المنذر (¬4) من طريق أَبي مصعب الزهْرِي، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به. وقد جاء مرفوعًا ولا يصحُّ. ¬

_ (¬1) "الإحكام" للعلَّامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 155). (¬2) (1/ 228 - 229). (¬3) "السنن الكبرى" (1/ 373). (¬4) "الأوسط" (2/ 339).

105 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وآخرُه طلُوعُ الشمس، ومما ينبغي أَن يعلم: أن الله -عزَّ وجلَّ- لم يُكَلِّف عباده في تعريف أوقات الصلوات بما يَشُق عليهم ويتعسر، فالدين يُسر والشريعة سمحة سهلة، بل جعل - صلى الله عليه وسلم - للأوقات علاماتٍ حِسيةً يعرفها كل أحد، فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من أوائل أجزاء التهار يعرفه كل أحد، وقال في الطهر: "إذا دحضت الشمس"، إذا زالت الشمس، وقال في العصر: "والشمس بيضاء نقية"، وقال في المغرب: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا"، وقال في العشاء: مَنْ قَدَّرَ وَقْتَ صَلاته بأنّه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث الشهر، وورد التقدير بالشفق، وورد التقدير بثلث الليل وبنصفه، فهذه العلامات لا تلتبس إلا على أَكْمَه". قال الفقير إلى عفو ربه: (فائدة): ما بَين العِشاءَيْن ثُمُنُ الليل، وما بين طلوعِ الفجر وطلوع الشمس سبْعُه، ووقت الفجر يتابع الليل، فيكون في الشتاء أطوَلَ، والعشاء بالعكس. 106 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "والنَّظر في النجوم -وإن كنت لا أظن ثبوت ذلك- هو النظرُ الذي يكون في الشمس والقمَرِ والظلة المُقْتَرِنة بالنجوم، والمراد أنه يستدلّ على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا، ما يكون مثل ذلك في الشمس والقمر، لا أنه النَّظرُ المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم -المؤدي إلى الوقوع في مضايقَ عن الشريعة بمعزلٍ-؛ فإن هذا علم نهى عنه الشارع، وحَذرَ عن إتيان صاحبه، حتى جعل ذلك كفرًا، فكيف يجعل طريقًا إلى أمر من أمور الشريعة ومُهِم من مُهِماتها؟! فمن ظن أن شيئًا من علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح ¬

_ (¬1) (1/ 231). (¬2) (1/ 232).

عليه؛ فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة، أو مغالط قد مالت نفسه إلى ما نهى عنه الشارع، وأراد أن يدفع عن نفسه القالَةَ، فاعتل بأنّه لم يتعلق بمعرفة ذلك إلا لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات الصلوات، وكثيرًا ما نسمعه -من المشتغلين بذلك- يُدلي بهذه الحجة الباطلة، فيُصَدْقُه من لم يَثْبتْ قدَمُه في علم الشريعة المطهرة. ومن أعظم المروجات بهذه البلية ما وقع من جماعة من المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير المنازل، والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته، إلا تأنيس النجمين، فإنا لله وأنا إليه راجعون! وحال الكلام: أن هذه تكاليف موجهة، كلف الله -تعالى- بها عباده، وعين أوقاتها تعيينًا يعرفه العالم والجاهل، والقروي والبدوي، والحُرُّ والعبد، والذكر والأنثى على حدّ سواء، اشترك فيه كل هؤلاء، لا يحتاج معه إلى شيء آخر. أمع الصُّبْح للنُّجوم تجَل ... أم مَعَ الشَّمْس للظلام بَقاءُ قال صاحب "سُبُل السلام": التوقيت في الأيام والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة، فلا يُمكن عالمٌ من علماء الدّنيا أنْ يدَّعي أن ذلك كان في عصره - صلى الله عليه وسلم -، حين أخرج كتب الفلاسفة وعرَّبها، ومنها المنطق والنجوم؛ فإنه علم أولئك اتذين قال الله -تعالى- فيهم: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ}، فأقل أحوال المُقرّين على حساب المنازل القمرية أنهم مبتدعون، وكل بدعة ضلالة. ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين، فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل "الربعُ المجيب" ونحوه؛ يدرسونه يقرءونه ويعتمدونه، وهو من العلم الّذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "علم لا ينفع وجهل لا يضر". وهو في علم أهل الكتاب، فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب سَيْر الشمس، ولعله دخل على المسلمين من علم اليونان وأهل الكتاب،

ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أنزل الله -تعالى- عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وكان أهل بيته وأصحابه - رضي الله عنهم - على ذلك؛ لا يعرفون منازل الزيادة والنقصان، ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان، ولا شيئًا من هذه الأُمور التي صار ذلك التكليف الموقت يدور عليها". قال الفقير إلى عفو ربه: قال العلامّة المحققُ أَحمد شاكر -رحمه الله-: "يَظْهَرُ أَن صاحبَ "سبُل السلام" -وِمِنْ بَعْدِه الشارِحُ- لم يعرفا الفرْقَ بين علم النجوم المنهيّ عنه -وهو دعوى معرفةِ الغيب بحسابها وما إلى ذلك-، وبين علم الفَلك، والميقاتِ، وتقديرِ منازلِ الشمسَ، والقمرِ، والنجوم، وهي من العلَوم الصّحيحةِ الثابتةِ ببراهينَ قطعيّةٍ؛ مبنيةٍ على الحساب الصحيح، وبه يُعلمُ الكسوفُ، والخسوفُ، ومواقيتُ الصلاة، والشهورُ، وغيرُ ذلك. حقيقةً؛ لم يكن في عصره - صلى الله عليه وسلم - ولا في عصر الخلفاء الراشدين؛ ولكنَّا لا نسمِّيه بدعةً؛ لأَن كلَّ عِلْم مُسْتَحْدَث ينفع النَّاس؛ يجب تعلُمه على بعض أفراد المسلمين؛ ليكون قوةً لهم تَرْقَى بها الأُمة الإسلامية، وإنما البدعةُ ما يستحْدِثُه النّاس في أَنواع العبادات فقط، وما كان في غير العبادات ولم يخالف قواعد الشريعة؛ فليس بدعةً -أَصلًا- والله المُوَفق" (¬1). 107 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ومَن نام عن صلاته أَوْ سها عنها؛ فوقتُها حين يذكُرُها؛ أَي: وقتُ القضاء إذا ذكر، وقد دلت على ذلك الأَحاديث الصّحيحة؛ كحديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره. وقد ورد هذا المعنى من غير وجه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله -عزَّ وجلَّ- يقول في كتابه العزيز: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ". ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 234). (¬2) (1/ 235).

قلت: وعلى هذا أَهل العلم، وقاسوا الْمُفَوِّت قصدًا على النائم، كذا في "الْمُسَوى". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وحجتُهم في إلحاق الْمُفَوتِ قصدًا على النائم: ما رواه مسلم (¬1) عن أَبى ذَرٍّ، قال: قال لي رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أَنت إذا كانت عليك أُمراء؛ يؤَخرون الصلاة عن وقتِها -أَوْ يُمِيتون الصّلاة عن وقتِها-؟! "، قال: قلت: فما تأْمُرُني؟ قال: "صل الصلاة لِوَقْتِها، فإنْ أَدْرَكتَها مَعَهم؛ فصلِّ؛ فإنها لك نافلة". 108 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وأَدركَ مِنَ الصلاة رَكْعَةً؛ فقد أَدركَها -أَي: الصلاة-؛ لِمَا وردَ في ذلك من الأَحاديث الضحيحة، كحديث أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أدرَكَ منَ الصبحِ ركعةً قبلَ أن تطلعَ الشمسُ؛ فقد أدرَكَ الصبحَ، ومن أدركَ منَ العصر ركعة قبل أن تغرُبَ الشّمسُ؛ فقد أدركَ العصرَ"؛ وهو في "الصّحيحين" وغيرهما. ونحو ذلك حديث عائشة عند "مسلم" وغيره، وقد ثبت من حديث أبي هريرة في "الصحيحين" وغيرهما بلفظ: "من أدركَ ركعةً من الصلاةِ فقد أدركَ الصلاةَ"، وهذا يشمل جميع الصَّلوات لا يَخُصُّ شيئًا منها. قلت: هذا الحديث يحتمل وجوهًا: أحَدُها من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت؛ فالجميع أداء وإلا فقضاء، وهو الأصح عند الشافعية. وقال أَبو حنيفة بذلك في العصر خاصة. قال الفقير إلى عفو ربه: هذه من المسائل الدقيقة التي قد تَخْفَى حتى على بعض أَهل العلم؛ وجه ذلك: ¬

_ (¬1) في "الصحيح" (1465). (¬2) (1/ 236).

ما رواه ابن أَبي شيبة (¬1): حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أَيّوب، عن محمد بن سيرين، عن بعض بني أَبي بكرة: "أَن أبا بكرة نام في دالية لهم، فظَنَنا أنه قد صلى العصر، فاستيقظ عند غروب الشمس، قال: فانتظر حتى غابتِ الشمس، ثم صلى". وبما رواه أَيضًا (¬2): حدثنا أَبو خالدِ الأَحمرُ، عن سعد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن كعب، عن أَبيه، قال: "نمت عند الفجر حتّى طَلَع قَرن الشمس؛ ونحن حارفون في مال لنَا، فملت إلى شربة من النخل أتوضّأُ، قال: فَبَصَر بي أَبي فقال: ما شأْنُك؟ قلت. أُصلي؛ قد توضأت، فدعَاني، فأَجلسني إلى جنبه، فلمَّا أَن تعلت الشمس وابيضت وأَتيت المسجد؛ فضربني قبل أَن أَقوم إلى الصلاة، قال: تنْسَى؟! صل الآن". فهذا الأَثران يدلان على أَنّه إذا استيقظ وهُو يرى الشمس غَرُبت -أَو كادت تغْرُب-؛ فإنه يُمْسِكُ ولا يُصلّي ولو كان فرضًا، وبهذا يُخَصُّ عمومُ قولِه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَدرك مِنَ العصر رَكْعَةً قبل أَن تَغْرُب الشّمسُ؛ فقد أَدرك العصر"؛ أَي: فيما عدا هذه الضورةِ الواردةِ في هذين الأَثرَيْن الثابتين. 109 - قال الْمصَنِّف (¬3): "وثانيها: مَن أَدرك من الْمَعذُورِين من الوقت ما يَسَعُ ركعة من الصلاة؛ فقد وجبت عليه تلك الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي. وثالثها: أن الجماعة تدرك بركعة، وهو وجه للشافعية. ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 413). (¬2) "المصنف" (1/ 413). (¬3) (1/ 237).

وقال أَبو حنيفة: لو أَدرك التشهد كان مُدرِكًا للجماعة، كذا في "الْمُسَوى". قال الفقير إلى عفو ربه: الآثارُ الثابتةُ مِنْ عَمَل الصحابة؛ تدل على أَنهم يَرَوْنَ أَن الصلاة لا تُدركُ إلا بِرَكْعَة فما زاد، فقد ثبت عن غير واحد مِنهم ذلك؛ منهم: 1 - ابن عمر، قال: "إذا أَدركَ الرجلُ يوم الجُمُعَة رَكعَةً؛ صلى إليها أُخرى، وإن وجدَهم جلوسًا صلى أَربعًا": أَخرجه عبد الرزاق (¬1)، عن معمر، عن أَيوب، عن نافع، عن ابن عمر به. 2 - عن أَنس، قال. "إنْ أَدركَهم جلوسًا؛ صلَّى أَربعًا". أَخرجه ابن أَبي شيبة (¬2)، قال. حدَّثنا عبدة، عن سعيد، عن قَتادَة، عن أَنس به. 3 - ابن مسعود، قال: "مَن أَدرك الركعة؛ فقد أَدرك الجُمُعة، ومَن لم يدركِ الْجُمُعَةَ؛ فَلْيُصل أَربعًا": أَخرجه عبد الرزاق (¬3)، وابن أَبي شيبة (¬4)، وابن الْمُنذر (¬5) من طريق أَبي إسحاق عن أَبي الأَحوص، عن ابن مسعود به. وأَخرجه ابن أَبي شيبة (¬6): حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أَبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال: "مَن لم يدركِ الركوع يومَ الْجُمُعة؛ فليصل أَربعًا". 4 - عمران بن حُصين، قال: "جاء رجل إلى عمران بن الحصين، فقال: رجلٌ قد فاتَتْه الجُمعة كم يُصلي؟ قال عمران: ولِمَ تَفُوتُه الْجُمُعَةُ؟! فلمّا ولى الرجلُ، قال عمران: أَمَا إنه لو فاتَتْنِي الْجُمُعَةُ صليت ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 235). (¬2) "المصنف" (2/ 130). (¬3) "المصنف" (3/ 235). (¬4) "المصنف" (2/ 128). (¬5) "الأوسط" (4/ 101). (¬6) "المصنف" (2/ 129).

أَربعًا": أَخرجه عبد الرزاق (¬1) أَخبرنا معمر عن يحيى بن أَبي كَثير، عن أَبي نضرة به. 110 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وقد رد ابن القيم على من قال بكونها خلاف الأُصول، وردَّه بالمتشابه من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس أَتَمَّ ردٍّ -في "إعلام الْمُوَقعين"-؛ فليرجِعْ إليه". قال الفقير إلى عفو ربه؛ قال ابن القيم: "رَدَّ السنة الصحيحةَ الصريحةَ الْمُحْكَمَةَ: في أَن مَنْ أَدركَ رَكْعَةً مِنَ الصبح قبل أَنْ تطلُع الشمس؛ فقد أَدرك الصُّبح، بكونها خلاف الأُصول، وبالمُتشابِه من نَهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس. قالوا: والعام -عندنا- يعارضُ الخاصَّ، فقد تعارض حاظِر ومُبيح، فقدمنا الحاظر احتياطًا؛ فإنه يوجب عليه إعادةَ الصلاة، وحديث الإتمام يجوز له الْمُضِيُّ فيها، وإذا تعارضا صِرنا إلى النصّ الذي يوجب الإعادةَ لتتيقن براءَة الذمة. فيقال: لا ريب أَن قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَدرك رَكعة من العصر قبل أَن تغرب الشمس؛ فلْيُتِم صلاتَه، ومَن أَدرك رَكعة من الصبح قبل أَنْ تطلع الشمس؛ فلْيُتِم صلاتَه" هو حديث واحد، قاله - صلى الله عليه وسلم - في وقت واحد، وقد وجبت طاعته في شطره، فتجب طاعته في الشطر الآخر، وهو مُحكم خاص لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، لا يحتمل غيره البتة، وحديث النهي عن الصلاة في أَوقات النهي عامٌّ مُجمل، قد خص منه عصر يومه بالإجماع، وخص منه قضاء الفائتة والْمَنسية بالنص، وخص منه ذوات الأَسباب بالسنة كما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - سُنة الظهر بعد العصر، وأَقر من قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر، وقد أَعلمه أَنها سنة الفجر، وأَمر من صلى في رَحلِه ثم جاء مسجدَ ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 236). (¬2) (1/ 237).

جماعة؛ أَن يصلِّيَ مَعَهم، وتكون له نافلة، وقاله في صلاة الفجر وهي سبب الحديث. وأَمر الداخل -والإمامُ يخطب- أَن يصليَ (تحية المسجد) قبل أَن يجلس، وأَيضًا؛ فإن الأَمر بإتمام الصلاة وقد طَلَعَتِ الشمسُ؛ فيها أَمرٌ بإتمامِ لا بابتداء، والنهيَ عن الصلاة في ذلك الوقت نهي عنِ ابتدائها لا عنِ استِدامتها؛ فإنه لم يقل: لا تُتِموا الصلاة في ذلك الوقت، وإنما يقال: لا تصلوا، وأَين أحكام الابتداء من الدوام، وقد فرق النصُّ والإجماع والقِياس بينَهما" (¬1). 111 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "يُصلون كغيرهم من غير تأْخير؛ وجهه: أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أوّلها وآخرها، ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها، وأن صلاتهم لا تجزئ إلا في آخر الوقت". قال الفقير إلى عفو ربه: انظر النكتة (89). 112 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وروي استثناءُ نصف النهار يوم الجمعة". قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا ما دلت عليه آثار الصحابة؛ منهم: 1 - أَبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما -، قال عبد الله بن سيدان السلمي: "شهدت الجُمُعة مع أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ؛ فكانت خطبتُه وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدنا مع عمر؛ فكانت خطبتُه وصلاتُه إلى أَن أَقول: انتصَف النهار، ثم شهدنا مَعَ عثمان فكانت خطبتُه وصلاته إلى أَنْ أَقول: ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 362). (¬2) (1/ 239). (¬3) (1/ 241).

زال النهار، فما رأَيت أَحدًا عاب ذلك ولا أَنكرَه". أَخرجه بن أَبي شَيبة (¬1): حدثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي، عن عبد الله بن سيدان السلمي به. وهذا إسنادٌ رجالُه ثقات سوى عبدِ الله بن سيدان السلمي، قال الحافظ: "تابعي كبير؛ إلا أنه غير معروف العدالة" (¬2). 2 - ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال عبد الله بن سلمة: "صلى بنا عبد الله الجمعة ضحًى، وقال: خشيت عليكم الحَر". أَخرجه ابن أَبي شيبة (¬3): حدثنا غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة به. وهذا إسناذ رجالُه ثقات، سوى عبدِ الله بن سلمة، قال الحافظ: "صدوق تغير حِفظُه" (*). 3 - علي بن أَبي طالب - رضي الله عنه -، فقد روى ابن أَبي شيبة (¬4): حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل بن سميع، عن أَبي رزين، قال: "كنّا نصلي مع على الجُمُعَةَ، فأَحيانًا نجد فيئًا، وأَحيانًا لا نجِدُه"، وهذا إسنادٌ صحيح. 4 - عمَّار بن ياسر - رضي الله عنهما -، فقد روى ابن أَبي شيبة (¬5): حدثنا عبد الرحمن بن محمدٍ المحاربي، عن إسماعيل بن سميع، عن بلال العبسي: "أَن عمارًا صلى بالناس الْجُمُعَةَ والنّاس فريقان؛ بعضُهم يقول: زالتِ الشمس، وبعضُهم يقول: لم تَزُل"، وهذا سند صحيح. ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 444). (¬2) "الفتح" (2/ 321). (¬3) "المصنف" (1/ 445). (*) الأقرب أنه ضعيف يعتبر به إذا لم ينفرد. والله أعلم. (¬4) "المصنف" (1/ 445). (¬5) (1/ 445).

113 - قال الْمُصَنف (¬1): "واستنبط جوازها في الأَوقات الثلاثة في المسجد الحرام؛ من حديث: "يا بني عبدِ مَناف! مَن وَلي منكم من أَمر الناس شيئًا؛ فلا يَمْنَعَن أَحدًا طاف بهذا البيت وصلى أَيةَ ساعة شاء؛ من ليل أَو نهار". قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا خاص بالركعتين بعد الطواف، لا مطلَق النفل، وبهذا جاءت الآثار عن الصحابة: 1 - فقد روى مالك (¬2) عن أَبي الزبير المَكي، قال: رأَيت عبد الله ابن عباس يطوف بعد صلاة العصر، ثم يدخل حجرتَه؛ فلا أَدري ما يصنَع. 2 - وروى البخاري (¬3) عن عروة، عن، عائشة: "أَنّ ناسًا طافوا بالبيت بعد صلاة الصبح، ثم قعدوا إلى المذكر حتى إذا طلعت الشمس قاموا يصلون، فقالت عائشة: قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي تكره فيها الصلاة قاموا يصلّون". 3 - وروى ابن أبي شيبة (¬4) حدثنا ابن فضيل عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة، أنها قالت: "إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو بعد العصر فطف، وأخر الصلاة حتى تغيب الشمس وحتّى تطلع، فصل لكل أسبوع ركعتين". 4 - وروى عبد الرزاق (¬5) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "قدم أبو سعيد الخدري حاجًّا أو معتمرًا، فطاف بالبيت بعد الصبح، فقلت: انظروا كيف يضع، فلما فرغ من سبعة قعد، فلما طلعت الشمس صلى ركعتين". ¬

_ (¬1) (1/ 241). (¬2) (1/ 369). (¬3) في "صحيحه" (1628). (¬4) "المصنف" (3/ 182). (¬5) "المصنف" (5/ 36).

114 - قال المصنف (¬1): وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب، وهي عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقًا، لا بما هو أعمّ منها من وجه، وأخص منها من وجه، كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد؛ فإنه من باب تعارض العمومَين، والواجب المصير إلى الترجيح، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به، وإن لم يمكن؛ وجب المصير إلى الترجيح بأمور خارجة؛ فإنْ تعذر من جميع الوجوه؛ فالتخيير أو الاطراح في مادة". قال الفقير إلى عفو ربّه: قال شيخ الإسلام: "فإن قيل: أحاديث النّهي عامة فنحن نحملها على عمومها إلا ما خصه الدليل، فما علمنا أنه مخصوص المجيء نص خاص فيه خصصناها به، وإلا أبقيناها على العموم. قيل: هذا إنّما يستقيم أن لو كان هذا العلم المخصوص لم يعارضه عمومات محفوظة أقوى منه، وأنه لما خصّ منه صور علم اختصاصها بما يوجب الفرق، فلو ثبت أنه عام خص منه صور لمعنى منتف من غيرها بقى ما سوى ذلك على العموم، فكيف وعمومه منتف! وقد عارضه أحاديث خاصة وعامة عمومًا محفوظًا، وما خص منه لم يختص بوصف يوجب استثناءه دون غيره، بل غيره مشارك له في الوصف الموجب لتخصيصه، أو أولى منه بالتخصيص، وحاجة المسلمين العامة إلى تحية المسجد أعظم منها إلى ركعتي الطواف، فإنّه يمكن تأخير الطواف، بخلاف تحية المسجد، فإنَّها لا تمكن، ثم الرجل إذا دخل وقت نهي، إن جلس ولم يصل، كان مخالفًا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مفوتًا هذه المصلحة، إن لم يكن آثمًا بالمعصية، وإن بقي قائمًا أو امتنع من دخول المسجد، فهذا شر عظيم، ومن الناس من يصلي سنة الفجر في ¬

_ (¬1) (1/ 241).

2 - باب: الأذان

بيته، ثم يأتي إلى المسجد، فالذين يكرهون التحيّة: منهم من يقف على باب المسجد حتّى يقيم، فيدخل يصلي معهم، ويحرم نفسه دخول بيت الله في ذلك الوقت الشريف، وذكر الله فيه، ومنهم من يدخل ويجلس ولا يصلي فيخالف الأمر، وهذا ونحوه مما يبين -قطعًا- أن المسلمين مأمورون بالتحية في كل وقت، وما زال المسلمون يدخلون المسجد طرفي النهار، ولو كانوا منهيين عن تحية المسجد حينئذٍ لكان هذا مما يظهر نهي الرسول عنه، فكيف وهو قد أمرهم إذا دخل أحدهم المسجد والخطيب على المنبر فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؟ أليس في أمرهم بها في هذا الوقت تنبيهًا على غيره منَ الأوقات" (¬1). * * * 2 - باب: الأذان 115 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وأما أذان المرأة لنفسها، أو لمن يحضر عندها من النساء، مع عدم رفع الصوت رفعًا بالغًا فلا مانع من ذلك، بل الطاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالأذان". قال الفقير إلى عفو ربه: ولم يسمع في أيام النبوة ولا في الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع -الذي هو إعلام بدخول الوقت ودعاء إلى الصلاة- من امرأة قط، هذا ما قرره -رحمه الله- قبل أسطر، فإذا كان الأذان عبادة شرعية، مبناها على التوقيف فكيف يقال إنه يشرع للمرأة أن تؤذن بين النساء؟ ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (23/ 195 - 196). (¬2) (1/ 244).

ومما ورد في هذا الباب من آثار: 1 - ابن عمر، قال: "ليس على النساء أذان ولا إقامة" أخرجه البيهقي (¬1): أخبرنا أبو زكريا المزكى، وأبو بكر بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا بحر بن نصر قال: قرئ على ابن وهب، أخبرك عبد الله بن عمير عن نافع عن ابن عمر به، وهذا سند صحيح. وأما ما رواه البيهقي (¬2) عن عائشة: "أنّها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء وتقوم وسطهن" ففي إسناده: الليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. فإن صح فإنه يحمل على أنها كانت تأمر من يؤذن من الرجال على ما جاء في أبي داود (¬3) عن أم ورقة -وهو حسن إن شاء الله-. 116 - قال الْمُصَنف (¬4): "لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح، وما هو موقوف على صحابي أو تابعي لا تقوم به الحجة". قلت: - تقدم التنبيه على خطأ المؤلف في هذا. 117 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وقد ورد حديث يدل على اشتراط كون المؤذن متوضئًا أخرجه الترمذي بلفظ: "لا يؤذن إلا متوضئ" وقد أعل بالانقطاع والإرسال". قال الفقير إلى عفو ربه: فقد أخرجه الترمذي (¬6): حدثنا علي بن ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 408). (¬2) "السنن الكبرى" (1/ 408). (¬3) "السنن" (591). (¬4) (1/ 245). (¬5) (1/ 245). (¬6) "السنن" (200).

حجر: حدثنا الوليد بن مسلم عن معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن أبي هريرة مرفوعًا. أما وجه الانقطاع: فبين الزهري وبين أبي هريرة، قال الترمذي: "والزهري لم يسمع من أبي هريرة"، أما وجه إرساله: فقد رواه البيهقي (¬1) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. ثم قال: "هكذا رواه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف، والصحيح رواية يونس بن يزيد الأيلي وغيره عن الزهري قال: قال أبو هريرة: "لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ". ثم رواه من طريق: الحارث بن عتبة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: "حق وسُنة مسنونة: أن لا يؤذن إلّا وهو طاهر، ولا يؤذن إلا وهو قائم". ثم قال "عبد الجبار بن وائل عن أبيه مرسل". 118 - قال الْمصَنِّف (¬2): "ويشهد له حديث: "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طُهر" أخرجه أبو داود وصحَّحه ابن خزيمة وابن حبان". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا على طريقة الاستدلال بالمجمل. 119 - قال الْمصَنِّف (¬3): "وألفاظ الأذان قد ثبتت في أحاديث كثيرة، وفي بعضها اختلاف بزيادة ونقص، وقد تقرر أن العمل على الزيادة التي لا تنافي المزيد، فما ثبت من ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (1/ 397). (¬2) (1/ 245). (¬3) (1/ 246).

وجه صحيح مما فيه زيادة تعين قَبُوله، كتربيع الأذان وترجيع الشهادتين، ولا تطرح الزيادة إذا كانت أدلة الأصل أقوى منها؛ لأته لا تَعارُض حتى يصار إلى الترجيح، كما وقع لكثير من أهل العلم في هذا الباب وغيره من الأبواب، بل الجمع ممكن بضم الزيادة إلى الأصل، وهو مقدّم على الترجيح، وقد وقع الإجماع على قبول الزيادة التي لم تكن منافية كما تقرر في الأصول، وأدلة إفراد الإقامة أقوى من أدلة تشفيعها، ولكن التشفيع مشتمل على زيادة خارجة من مخرج صالح للاعتبار، فكان العمل على أدلة التشفيع متعينًا". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "واختلاف التنوع على وجوه: منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حق مشروع، كما في القراءات اثتي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاف وقال: "كلاكما محسن". ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك ممّا قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل" (¬1). 120 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وقد اختار بعض العلماء الجمع عند الحيعلتين بين المتابعة للمؤذن والحوقلة وهو جمع حسن وإن لم يكن متعيّنًا". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الصنعاني -رحمه الله-: "وقيل: يجمع السامع بين الحيعلة والحوقلة عملًا بالحديثين، والأول أولى؛ لأنه تخصيص للحديث العام أو تقييد لمطلقه، ولأن المعنى مناسب لإجابة الحيعلة من السامع بالحوقلة، فإنه لما دعي إلى ما فيه الفوز والفلاح والنجاة وإصابة ¬

_ (¬1) "اقتضاء الصراط" (1/ 128). (¬2) (1/ 248).

الخير، ناسب أن يقول هذا أمر عظيم لا أستطيع مع ضعفي القيام به، إلا إذا وفقني الله بحوله وقوته، ولأن ألفاظ الأذان ذكر الله، فناسب أن يجيب بها، إذ هو ذكر له -تعالى-، وأما الحيعلة فإنما هي دعاء إلى الصلاة، والذي يدعو إليها هو المؤذن، وأما السامع فإنما عليه الامتثال والإقبال على ما دعي إليه، وإجابته في ذكر الله لا فيما عداه، والعمل بالحديثين كما ذكرنا هو الطريقة المعروفة في حمل المطلق على المقيّد، أو تقديم الخاص على العام، فهو أولى بالاتباع" (¬1). مسألة: وهل تشرع المتابعة في الإقامة؟ من نظر إلى مطلق الأذان استحب ذلك ومن التزم فهم السلف للنصوص وما جرى عليه عملهم وقف على إجابة الأذان دون الإقامة. وممن قال بمشروعية متابعته في الإقامة الإمامان: ابن باز والألباني، انظر "الثمر المستطاب" (¬2). 121 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ثم الظاهر أن النساء كالرجال؛ لأنهن شقائقهم، والأمر لهم أمر لهن، ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن، فإنّ الوارد في ذلك في أسانيده متروكون، لا يحل الاحتجاج بهم، فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال". قال الفقير إلى عفو ربه: هذه العبادة خاصة بالرجال كما عرفت. ¬

_ (¬1) "سبل السلام" (2/ 65). (¬2) (1/ 216). (¬3) (1/ 251).

3 - باب: شروط الصلاة

3 - باب: شروط الصّلاة 122 - قال الْمُصَنف (¬1): "ويجب على المصلي تطهير ثوبة: 1 - طهارة الثوب: لنصّ القرآن: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله: هل يصلي في الثّوب الذي يأتي فيه أهله؟ فقال: "نعم؛ إلا أن يرى فيه شيئًا، فيغسلَه"، أخرجه أحمد، وابن ماجه، ورجال إسناده ثقات. ومثله عن معاوية، قال: قلت لأم حبيبة: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم؛ إذا لم يكن فيه أذى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه؛ بإسناد رجاله ثقات. ومنها حديث خلعه - صلى الله عليه وسلم - النعل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم، وابن خزمة، وابن حِبان، وله طُرُق عن جماعة من الصحابة يقوي بعضها بعضًا. ومنها الأدلة في تعيين النجاسات. 2 - طهارة البدن: وبدنه: لأنه أولى من تطهير الثوب، ولما ورد من وجوب تطهيره. 3 - طهارة المكان: ومكانه من النجاسة: لما ثبت عنه، - صلى الله عليه وسلم - من رش الذنوب على بول الأعرابي، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) (1/ 251 - 253).

وقد ذهب الجمهور إلى وجوب تطهير الثلاثة للصلاة، وذهب جمع إلى أن ذلك شرط لصحة الصلاة، وذهب آخرون إلى أنه سنة، والحق الوجوب؛ فمن صلى ملابسًا لنجاسة عامدًا؛ فقد أخل بواجب، وصلاته صحيحة، والشرطية التي يؤثر عدمها في عدم المشروط -كما قزره أهل الأصول-؛ لا يصلح للدلالة عليها إلا ما كان يفيد ذلك، مثل نفي القبول، أو نحو: لا صلاة لمن صلّى في مكان متنجس، أو النّهي عن الصلاة في المكان المتنجس؛ لدلالة النهي على الفساد. وأما مجرّد الأمر فلا يصلح لإثبات الشروط؛ اللهم إلا على قول من قال: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فليكن هذا منك على ذَكْرٍ، فإنك إن تفطنت له رأيت العجب في كتب الفقه، فإنهم كثيرًا ما يجعلون الشيء شرطًا، ولا يستفاد من دليله غير الوجوب، وكثيرًا ما يجعلون الشيء واجبًا، ودليله يدل على الشرطية، والسبب الحامل على ذلك: عدمُ مراعاة القواعد الأُصولية والذهول عنها. والحاصل: أن ما دلّ على الشرطية دل على الوجوب وزيادة، وهو تأثير بطلان المشروط، وما دل على الوجوب لا يدلُّ على الشرطية؛ لأن غاية الواجب أنَّ تاركه يُذَمُّ، وأمَّا أنَّه يستلزم بطلانَ الشيء الّذي ذلك الواجبُ جزءٌ من أجزائه، أو عارض من عوارضه: فلا. فمن حكم على الشيء بالوجوب وجعل عدمه موجبًا للبطلان أو حكم على الشيء بالشرطية، ولم يجعل عدمه موجبًا للبطلانْ فقد غفل عن هذين المفهومين". قال الفقير إلى عفو ربه: إنَّما سمي الشرط شرطًا لتقدمه على الصلاة، ووجوبه من حين الدخول فيها كأشراط الساعة، وشروط الطلاق، وشروط الحمل، والشروط في العقود ونحو ذلك، وفي الجملة فالخلاف في عبارة لا في معنى. وصورة المسألة -التي يتبين بها كون إزالة النجاسة شرطًا هي-: فيما لو دخل الصلاة عالمًا بها متعقدًا، فهل تصح صلاته؟

المتأمّل في الأدلة الواردة في السنة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تنرهوا من البول، فإنّ عامّة عذاب القبر منه". أخرجه: أحمد (¬1) وابن ماجة (¬2)، والدارقطني (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتيه، ثم اقرصيه، ثم انضحيه، ثم صلي فيه" متفق عليه، البخاري (¬4) ومسلم (¬5). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر" متفق عليه البخاري (¬6) ومسلم (¬7). "وأمر جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بخلع نعليه" رواه أبو داود (¬8)، وأحمد (¬9)، والبيهقي (¬10). -مع كونه غير عالم بها لا متعمدًا- كل ذلك يدل على أنّ الشّارع لم يأذن للعبد أن يصلي بالنجاسة أو أن يستمر بالصلاة بها إذا لم يعلم إلا بعد الشروع فيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" متفق عليه، البخاري (¬11) ومسلم (¬12). بهذا يتبين بطلان صلاة من صلّى بالنجاسة عالمًا بها قادرًا على ¬

_ (¬1) "المسند" (2/ 326). (¬2) "السنن" (348). (¬3) "السنن" (1/ 47). (¬4) (307). (¬5) (675). (¬6) (220). (¬7) (661). (¬8) (650). (¬9) (3/ 20 - 92). (¬10) (2/ 431). (¬11) (2697). (¬12) (4493).

إزالتها، وهو داخل في قوله -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬1)، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬2). 123 - قال الْمصَنِّف (¬3): "وحديث الخمار إذا انتهض للاستدلال به على الشرطية: فهو خاص بالمرأة وقد عرفت مما سلف أن الذي يَسْتَلْزِمُ عدمُه عدمَ الصلاة -أي: بطلانها- هو الشرط أو الركن، لا الواجب، فمن زعم أن من ظهر شيء من عورته في الصلاة، أو صلى بثياب متنجسة؛ كانت صلاته باطلة: فهو مطالب بالدليل، ولا ينفعه مجرد الأوامر بالسَّتر أو التطهير؛ فإن غاية ما يستفاد منها الوجوب". قال الفقير إلى عفو ربه: تقدم الجواب عليه. 124 - قال الْمصَنِّف (¬4): "ولا يسدل: الحديث النّهي عن السدل في الصلاة؛ وهو عند أحمد وأبي داود، والترمذي، والحاكم في "المستدرك" وفي الباب عن جماعة من الصحابة. والسدل: هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، بل يلتحف به، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك". قال الفقير إلى عفو ربه: أي: طرح ثوبه على كتفيه ولا يرد طرفه على الآخر، فإن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، أو ضم طرفيه لم ¬

_ (¬1) [النساء: 115]. (¬2) [النور: 63]. (¬3) (1/ 254). (¬4) (1/ 255).

يكره، وإن طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في الكفين فلا بأس بذلك باتفاق الفقهاء وليس من السدل المكروه، أفاده شيخ الإسلام (¬1). 125 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ولا يصلي في ثوب حرير: والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها يَدلُّ على المنع من لبس ثوب الحرير الخالص. وأما المشوب: فالمذاهب في ذلك معروفة، فبعض الأحاديث يدلُّ على أنّه إنما يحرم الخالص لا المَشوب، كحديث ابن عباس عند أحمد، وأبي داود، قال: إنّما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب المُصْمَت من القزّ. قال ابن عباس: أما السديُّ والعَلَم؛ فلا نرى به بأسًا. وبعضها يدل على المنع، كما وردت في حُلة السيراء؛ فإنه غضب لَما رأى عليًّا قد لبسها، وقال: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، إنما بعثت بها إليك لتُشَقِّقَها خُمُرًا بين النساء"، وهو في "الصحيح". والسِّيَراء -قد قيل-: إنَّها المخلوطة بالحرير لا الحرير الخالص، وقيل: إنها الحرير الخالص المخطط، وقيل غير ذلك. ولكنه قد ورد في طريق من طرق هذا الحديث ما يفيد أنها غير خالصة، فأخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجة، والدورقي، هذا الحديث بلفظ: قال علي: "أهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة مسيرة، إما سداها، وإما لحمتها" فذكر الحديث". قال الفقير إلى عفو ربه: وينبغي أن يقيد ذلك بما رواه مسلم (¬3) عن عمر: "نهى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع" كالطراز ويحرم الزائد. ¬

_ (¬1) "الإحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 166). (¬2) (1/ 256). (¬3) (5147).

4 - باب: كيفية الصلاة

126 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ولا ثوب شهرة: لحديث: "من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلّة يوم القيامة" أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والنّسائي، بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر". قال الفقير إلى عفو ربه: ولباس الشهرة هو ما قصد به العلو أو إظهار التواضع. 4 - باب: كيفية الصلاة 127 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وهي -على ما تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - وتوارثته الأمّة-: أن يتطهر ويستر عورته، ويقوم ويستقبل القبلة بوجهه، ويتوجه إلى الله -تعالى- بقلبه، ويخلص له العمل، ويقول: "الله أكبر"؛ بلسانه، ويقرأ فاتحة الكتاب، ويَضُمَّ معها -إلّا في ثالثة الفرض ورابعته- سورة من القرآن، ثم يركع وينحني بحيث يقتدر على أن يمسح ركبتيه برؤوس أصابعه". قال الفقير إلى عفو ربه: لعلها: يمس. 128 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وأركانها كلها مفترضة: لكونها ماهية الصلاة التي لا يسقط التكليف إلا بفعلها، وتُعْدَمُ الصورةُ المطلوبة بعدمها، وتكون ناقصة بنقصان بعضها، وهي: القيام، فالركوع، فالاعتدال، فالسجود، فالاعتدال، فالسجود فالقعود للتشهد. ¬

_ (¬1) (1/ 257). (¬2) (1/ 260). (¬3) (1/ 263).

وقد بين الشارع صفاتها وهيئاتها، وكان يجعلها قريبًا من السواء، -كما ثبت في "الصحيح" عنه-. أقول: وجملة القول في هذا الباب: إنه ينبغي لمن كان يقتدر على تطبيق الفروع على الأصول، وإرجاع فرع الشيء إلى أصله، أن يجعل هذه الفروض المذكورة في هذا الباب منقسمة إلى ثلاثة أقسام. - واجباب: كالتكبير، والتسليم، والتشهد. - وأركان: كالقيام، والركوع، والاعتدال، والسّجود، والاعتدال، والسجود، والقعود للتشهد. - وشروط: كالنيّة، والقراءة. أما النية: فلما قدَّمنا. وأما القراءة: فلورود ما يدل على شرطيتها؛ كحديث: "لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب"، وحديث: "لا تجزئ صلاةٌ إلا بفاتحة الكتاب"، ونحوها، فإن النفي إذا توجه إلى الذَّات أو إلى صحتها؛ أفاد الشرطية؛ إذ هي تأثير عدم الشرط في عدم المشروط، وأصرح من مطلق النفي: النفي المتوجّه إلى الأجزاء. والحاصل: أن شروط الشيء يقتضي عدمُها عدمَه، وأركانه كذلك؛ لأن عدم الركن يوجب عدم وجود الصورة المأمور بها على الصفة التي اعتبرها الشارع، وما كان كذلك لا يجزء؛ إلا أن يقوم دليل على أن مثل ذلك الركن لا يخرج الصورة المأمور بها عن كونها مجزئة، كما يقول بعض أهل العلم في الاعتدال وقعود التشهد، وإن كان الحق خلاف ما قال. وأما الواجباب: فغاية ما يستفاد من دليلها -وهو مطلق الأمر-: أنّ تركها معصية، لا أن عدمها يستلزم عدم الصورة المأمور بها. إذا تقرر هذا: لاح لك أن هذه الفروض المعدودة في هذا الباب

متوافقة في ذات بينها، والفرضُ والواجبُ مترادفان على ما ذهب إليه الجمهور، وهو الحق. وحقيقة الواجب: ما يمدح فاعله ويذم تاركه، والمدح على الفعل، والذم على الترك: لا يستلزمان البطلان؛ بخلاف الشرط، فإن حقيقة ما يستلزم عدمه عدم المشروط كما عرفت. فاحفظ هذا التحقيق؛ تنتفع به في مواطن وقع التفريع فيها مخالفًا للتأصيل، وهو كثير الوجود في مؤلفات الفقهاء من جميع المذاهب، وكثيرًا ما تجد العارف بالأصول، إذا تكلم في الفروع؛ ضاقت عليه المسالك، وطاحت عنه المعارف، وصار كأحد الجامدين على علم الفروع؛ إلا جماعة منهم، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ". قال الفقير إلى عفو ربه: الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "صلّوا كما رأيتموني أصلي". (¬1) ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح ولا ضعيف أنه قال -في شيء من أفعال الصّلاة أو أقوالها-: أن هذا ركن وذاك شرط أو واجب، وإنما حدث ذلك بعد زمن الصحابة -رضوان الله عليهم-. وليس لمؤمن أن يترك من أفعال الصلاة أو أقوالها شيئًا بحجة أنه واجب لا ركن، كما تقدم في مسألة إزالة النجاسة، أما كون بعض أفعالها أو أقوالها يسقط سهوًا، وبعضها لا بد من الإتيان به، فهذا إنَّما يؤخذ من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة. "فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سلم من اثنتين وكانت الصلاة ظهرًا أو عصرًا عاد وأتى بالركعتين الآخريين" متفق عليه. البخاري (¬2)، مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (631). (¬2) (1227). (¬3) (1288).

"ولما أنه قام للتشهد الأول سجد للسهو قبل السلام، ولم يعده". متفق عليه. البخاري (¬1)، مسلم (¬2). وهكذا فما دلت الأدلة على أنّها تصح بغير الإتيان به كالزائد على قراءة الفاتحة، كما روى مسلم (¬3) عن أبي هريرة: "إن زدت عليها فهو خير، وإن انتهيت إليها أجزأت عنك". 129 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "إلا قعود التشهد الأوسط: لكونه لم يأت في الأدلة ما يدل على وجوبه بخصوصه، كما ورد في قعود التشهد الأخير؛ فإنّ الأحاديث التي فيها الأوامر بالتشهد قد اقترنت بما يفيد أن المراد التشهد الأخير. فإن قلت: قد ذكر التشهد الأوسط في حديث المسيء، كما في رواية لأبي داود من حديث رفاعة، ولم يذكر فيه التشهد الأخير. لا تقوم الحجة بمثل ذلك، ولا يثبت به التّكليف العام، والتشهد الأخير وإن لم يثبت ذكره في حديث المسيء؛ فقد وردت به الأوامر، وصرح الصحابة بافتراضه، وقد أوضح ذلك شيخنا العلَّامة الشوكاني في "حاشية الشفاء" إيضاحًا حسنًا؛ فلتراجع". قال الفقير إلى عفو ربه: يحتاج العالم في تقرير أي مسألة يريد إثباتها إلى أمور أربعة: الأول: أن يعرف الحكم ويتصوره تصورًا صحيحًا. الثاني: أن يعرف دليل الحكم. الثالث: أن يعرف وجه الدلالة من هذا الدليل. ¬

_ (¬1) (1224). (¬2) (1269). (¬3) (883). (¬4) (1/ 264).

الرابع: أن يعرف المعارض إن وجد وكيفية الرد عليه. وتقريرات الشارح -رحمه الله- لا تخلوا من نقص من أحد هذه الوجوه، فإذا تقرر هذا فينبغي لمن ذهب إلى أن التشهد الأول سنة يجوز تركها: أن يجيب على دليل المعارض، وهو سجوده - صلى الله عليه وسلم - للسّهو جبرًا لنقص الصلاة عن التشهد. فإن قيل: إن السجود للسهو يشرع لترك ما يستحب وما يجب؟ قيل: هذه دعوى لا دليل عليها، وإن قال بها كثير من الفقهاء، فأين مستندها من الحديث والأثر؟ ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث قال: "نهينا عن التكلف" رواه البخاري (¬1). قال أبو بكر بن المنذر: "كل ما سها عنه المرء في صلاته سهوان: أحدهما: قول، والآخر: فعل؟ فالقول: فيما يجهر فيها يخافت فيه أو يخافت فيما يجهر فيه، أو يقول مكان سمع الله لمن حمده: الله أكبر، أو يتشهد وهو قائم، أو يقرأ في موضع التشهد ساهيًا فكل ما كان من هذا النوع فإنه يرجع إلى ما يجب عليه فيقوله، وليس عليه سجود سهو" (¬2). 130 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ولاستراحة: لكونه لم يأت دليل يفيد وجوبها، وذكرها في حديث المسيء وَهْمٌ، كما صرح بذلك البخاري". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ -رحمه الله-: "أشار البخاري ¬

_ (¬1) (7293). (¬2) "الإقناع" (1/ 98). (¬3) (1/ 264).

إلى أن هذه اللفظة وهم، فإنه عقبه بأن قال: "قال أبو أسامة في الأخير: حتّى تستوي قائمًا" ويمكن أن يحمل إن كان محفوظًا على الجلوس للتشهد، ويقويه رواية إسحاق المذكور قريبًا، وكلام البخاري ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق ابن راهويه في "مسنده" عن أبي أسامة كما قال ابن نمير" (¬1). 131 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ولا يجب من أذكارها -أي الصلاة- إلا التكبير: لقوله -تعالى-: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث المسيء: "إذا قمت إلى الصلاة فكبّر"، ولما ورد من أن تحريم الصلاة التكبير. أقول: تعيين التكبير للدخول في الصلاة؛ مُحْكَمٌ صَريحٌ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم، حتى يضع الوضوء مواضعه , ثم يستقبل القبلة ويقول: الله أكبر"، وبما تقدم من النصوص، وهي نصوصٌ في غاية الصحة، فردت بالمتشابه من قوله -تعالى-: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} ". قال الفقير إلى عفو ربه: انظر "تهذيب السنن". 132 - قال المصنف (¬3): "ولو كان مؤتمًا: فوجوب الفاتحة في كل ركعة على المؤتم، لما ورد من الأدلة الدّالة على أن المؤتم يقرأها خلف الإمام، كحديث: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب "ونحوه". قال الفقير إلى عفو ربه: الحديث رواه أهل "السنن" عن عبادة بن ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (2/ 326). (¬2) (1/ 265). (¬3) (1/ 267).

الصامت، وأبو يعلى الموصلي (¬1)، وابن حبان (¬2)، عن أنس، ولو كان صحيحًا لم يبق خلاف معتبر، ويكون الدليلان على استثناء الفاتحة في مثل هذه الصورة من عموم قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إلا أن كِلا الحديثين لا يخلوان من علة قادحة. وإليك تفصيل ذلك: 1 - أما حديث عبادة: فقد رواه الشيخان البخاري (¬3)، مسلم (¬4) -من طريق: الزهري عن محمود بن الربيع، عن عبادة مرفوعًا: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكِتاب". ورواه عن الزهري جمعٌ من الأثبات منهم: السفيانان، ومعمر، بهذا اللفظ، وخالفهم محمد بن إسحاق، فرواه عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة، قال: "كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم"، قلنا: نعم، هذا يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" وهذا لفظ أبي داود (¬5). وعلله على وجه التفصيل: أ - مخالفة ابن إسحاق لمن هو أوثق منه وأعلم منه بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا يعد من قبيل الشاذ، وقيل: بل هو منكر. ب- أن مكحول رواه عن الزهري بالعنعنة وهو مدلس. ج- أن مخرج الحديث واحد، فما الذي جعل ابن إسحاق يتفرد بهذا المتن؟ وإلى هذا أشار الترمذي فإنه ذكر رواية ابن إسحاق، ثم ¬

_ (¬1) في "مسنده" (5/ 188). (¬2) في "الصحيحة" (1835). (¬3) (756). (¬4) (874). (¬5) "السنن" (823).

الرواية الصحيحة، وقال: "وهذا أصح" (¬1)، يشير إلى تعليل رواية ابن إسحاق. 2 - أمّا حديث أنس: فقد رواه عبيد الله بن عمرو الرقي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس. وظاهر هذا الإسناد الصحة، ولكنه معلول: أ- بالإرسال، فقد رواه ابن عليّة، وغيره، عن أيوب، عن أَبي قلابة مرسلًا، أخرجه الدارقطني (¬2)، والبيهقي (¬3). ب- وبالاضطراب، فقد: 1 - رواه سلام أبو المنذر، عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي هريرة. 2 - ورواه الرّبيع بن بدر، عن أيوب، عن الأعرج، عن أبي هريرة. 3 - ورواه إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 4 - ورواه خالدٌ الحذاءُ، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ج- قال البيهقي: "وقد قيل عن أبي قلابة عن أنس بن مالك، وليس بمحفوظ" (¬4). 133 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وقال في "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء": روى البيهقي عن يزيد ¬

_ (¬1) "السنن" (311). (¬2) "السنن" (1/ 340). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 166). (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 166). (¬5) (1/ 269).

بن شريك: أنه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام. فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب: فقلت: وإن كُنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت". قال الفقير إلى عفو ربه: رواه البيهقي (¬1)، والدارقطني (¬2)، وقال: "هذا إسناد صحيح". وفي قوله -رحمه الله-: "إسناد صحيح"؛ نظر لعدة أوجه؛ منها: الأول: ضعف إسناده، فقد رواه الدّارقطني (1/ 317) فقال: حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا: ثنا أبو كريب: ثنا حفص بن غياث، عن الشيباني، عن جواب، عن يزيد بن شريط، قال: "سألت عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فأمرني أن أقرأ، قال: قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت". وهذا إسناد رجاله ثقات سوى شيخ الدارقطني: محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي السوداني. فقد ترجم له الحافظ الذهبي في "الميزان" فقال: "محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي الكوفي، عن علي بن المنذر الطريقي وجماعة تكلم فيه، وقيل: كان يؤمن بالرجعة، قاله أبو الحسن بن حماد الكوفي الحافظ وزاد فقال: ما روي له أصل، وقد حدث بكتاب "النهي" عن حسين بن نصر بن مزاحم ولم يكن له فيه سماع، قال: ومات سنة ست وعشرين وثلاثمائة، قلت: روى أيضًا عن أبي كريب، حدّث عنه الدارقطني ومحمد بن عبد الله القاضي الجحفي" (¬3). وقال حمزة بن يوسف السهمي: "سألت أبا الحسن بن حماد الحافظ القرشي بالكوفة عن محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي؟ فقال: ليس ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (2/ 167). (¬2) "السنن" (1/ 317). (¬3) (6/ 305).

بشيء، وهو يعرف بالسوداني، وكان ابن عقدة يدخل عليه الحديث، وكان غاليا، وذكر أنه كان له ابن غالٍ، ما كان يخرج يده من كمه، ويقول: قد صافحت به الإمام، حتى نهاه عنه ابن عمر العلوي أمير الكوفة"، سؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدارقطني وغيره من المشايخ (3 / - 69). وترجم له الحافظ الذهبي في كتابه "المغني في الضعفاء" فقال: "محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي، مشهور ضُغف، يقال: كان يؤمن بالرجعة، كذاب". (2/ 362). ولا يعارض هذا التضعيف بما ترجم له الذهبي في "السير" بقوله: "الشيخ المحدث المعمر أبو عبد الله محمد بن القاسم بن زكريا المحاربي الكوفي السوداني" (15/ 73)؛ لأن هذا لا يعد توثيقًا كما في سلم الجرح والتعديل، ثم إن الحافظ الذهبي قد ترجم لكثير من الضعفاء في "السير" ويصفهم بالشيخ والمحدث المعمر؛ مثل: أحمد بن عبد الجبار العطاردي، وهو ضعيف، بل اتُّهم بالكذب كما قال عنه مُطين، ومع هذا فقد ترجمه بقوله: "الشيخ المعمر المحدث أبو عمر أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عمير بن عطارد التميمي العطاردي الكوفي" "السير" (13/ 55). وأيضًا فإن الجرح المفسر مقدّم على التوثيق المجمل، كما تقرّر في علوم الحديث. وقال العلّامة المعلمي اليماني: "ليس بثقة" "الفوائد" (503). وأيضًا؛ فإن حفص بن غياث أخطأ فيه وقد يكون دلسه كما عرف عنه، فقد رواه عن الشيباني عن جواب، عن يزيد، عن عمر. -كما أخرجه الدارقطني هنا-، بينما في الطريق الآخر: رواه عن الشيباني عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر وجواب التيمي، عن الحارث بن سويد، عن يزيد، عن عمر، كما تراه في الوجه الثاني. الثاني: شذوذ لفظة: "وإن جهرت" فقد رواها الدارقطني من طريق واهٍ كما سبق، ورواه -أيضًا- بإسناد أصلح من السابق فقال: "حدثنا أبو سعيد

الإصطخري الحسن بن أحمد من كتابه: ثنا محمد بن عبد الله بن نوفل: ثنا أبي: ثنا حفص بن غياث، عن أبي إسحاق الشيباني عن جواب التيمي وإبراهيم بن محمد بن المنتشر عن الحارث بن سويد عن يزيد بن شريك: "أنّه سأل عمر عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب، قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت". رواته كلّهم ثقات". (1/ 316). قلت: محمد بن عبد الله بن نوفل وأبيه، لم أجد لهما ترجمة، اللهم إلا قول الدارقطني: "رواته كلهم ثقات". ورواه البيهقي (2/ 167)، والحاكم (1/ 365) قال: أنبأ أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا أحمد بن عبد الجبار: ثنا حفص بن غياث بمثله. قلت: وأحمد بن عبد الجبار هو العطاردي، ضعيف كما في "التقريب". وأفضل هذه الطرق: ما رواه البيهقي (2/ 167) من طريق الحاكم (1/ 365) قال: أنبأ أبو بكر بن إسحاق: أنبأ إبراهيم بن أبي طالب: ثنا أبو كريب: ثنا حفص بمثله. وهذا الإسناد كما قال العلامة الألباني -رحمه الله-: "سنده صحيح" "الضعيفة" (2/ 419)، لكنه شاذ: فقد رواه البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام" (16)، و"التاريخ الكبير" (8/ 340) قال: "وقال لنا محمد بن يوسف: حدثنا سفيان، عن سليمان، عن جواب التيمي، عن يزيد بن شريك، قال: "سألت عمر بن الخطاب: أقرأ خلف الإمام؟ قال: نعم، قلت: وإن قرأت يا أمير المؤمنين؟ قال: وإن قرأت". وقد تابع محمد بن يوسف عبد الرزاق في "مصنفه" (2/ 131) والحسين بن حفص عند البيهقي في "المعرفة" (3/ 85) و"القراءة خلف الإمام" (1/ 90).

ورواه ابن الجعد في "مسنده" (1/ 358) فقال: حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا علي قال: أخبرنا هشيم عن الشيباني بمثله. وهشيم هو ابن بشير المسلمي أبو معاوية، ثقة ثبت لكنّه كثير التدليس والإرسال الخفي، كما في "التقريب" لكنه قد صرح بالسماع من طريق سعيد بن منصور قال: ثنا هشيم قال: أنا أبو إسحاق الشيباني، أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 218)، وأيضًا من طريق ابن أبي شيبة (1/ 327) قال: نا هشيم قال: أخبرنا الشيباني. فهذان إمامان حافظان، أوثق وأثبت من حفص بن غياث، قد خالفاه فلم يذكرا قوله: "وإن جهرت". أحدهما: سفيان الثوري. والآخر: هشيم بن بشير السلمي ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفي. أما حفص بن غياث النخعي، فثقة فقيه، تغير حفظه قليلًا في الآخر، كما في "التقريب" وعليه فهذه اللفظة شاذة، والصواب قوله: "وإن قرأت". وليس الأمر كما قال الدارقطني: "رواه الشيباني عن جواب التيمي عن يزيد بن شريك، عن عمر، حدث به عن الشيباني جماعة منهم: سفيان الثوري، وخالد الواسطي، وهشيم، وشريك، وحفص بن غياث، فأما شريك وحفص؛ فزادا فيه زيادة حسنة، أغربا بها على أصحاب الشيباني وهي قوله: "وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت" ولم يذكر الجهر غيرهما، وزيادتهما مقبولة لأنهما ثقتان" "العلل" (2/ 225). قلت: أمّا شريك: فهو أبو عبد الله القاضي؛ صدوق يخطئ كثيرًا تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، كما في "التقريب" فهذه الزيادة في حال شريك تعد منكرة، لأن الراجح في حاله أنه: ضعيف. أما في حال حفص فتعدُّ شاذة؛ لأنه قد خالف من هو أوثق منه -كما سبق-، ومما يدل على أن ذكرها وهم منه، ما ذكره البيهقي في "القراءة

خلف الإمام" (1/ 90) أن: "أبو بكر محمد بن إسحادق بن خزيمة رواه عن عبد الله بن سعيد الأشج عن حفص بإسناده: "أن عمر قال: اقرأ خلف الإمام وإن الرجعة، واقرأ فاتحة الكتاب وشيئًا، قلت: وإن كنت خلفك؟ قال: وإن كنت خلفي "، وهذا إسناد صحيح وفيه فائدتان: الأولى: وهم حفص بن غياث في قوله: "وإن جهرت" -كما سبق بيانه-. الثانية: أنّها في السرية دون الجهرية، بدليل قوله: "واقرأ فاتحة الكتاب وشيئًا"؛ وأيضًا؛ ما رواه ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 109) قال: حدثنا يحيى بن محمد قال: ثنا الحجبي قال: ثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه، عن عباية بن رداد، قال: "كنّا نسير مع عمر بن الخطاب قال: لا تجوز صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها، قال: فقال رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت إن كنت خلف إمام أو كان بين يدي إمام؟ قال. اقرأ في نفسك"؟ ورواه ابن سعد (6/ 147)، والبيهقي في القراءة خلف الإمام (1/ 91) من طريق شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، ورواه ابن المنذر (3/ 101)، وابن أبي شيبة (1/ 317) من طريق: الأعمش، عن خيثمة عن عباية بن ربعي بمثله ولفظ ابن أبي شيبة: "وآيتين فصاعدًا". وهذا إسناد رجاله ثقات سوى عباية بن ربعي وعباية بن رداد، وهما شخص واحد. قال الإمام أحمد، عن عباية بن رداد: "هو عباية بن ربعي"، "العلل ومعرفة الرجال" (2/ 170). وقال البيهقي: "وعباية بن رداد وعباية بن ربعي واحد، إلّا أن محمد بن المنتشر يقول له: عباية بن رداد، وخيثمة بن عبد الرحمن وسلمة بن كهيل يقولان: عباية بن ربعي، قاله البخاري في "التاريخ" (¬1). ¬

_ (¬1) "القراءة خلف الإمام" (1/ 92).

وعباية بن ربعي، قال أبو حاتم عنه: "شيخ" وهي عبارة تعديل لا جرح، قال أبو حاتم: "ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى: وإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن ثبت فهو ممن يحتج بحديثه، وإذا قيل له: أنه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية، وإذا قيل: شيخ فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية" "الجرح والتعديل" (2/ 37). وهذا القول من عمر: "لا تجوز صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها". وفي لفظ ابن أبي شيبة: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعدًا". نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا" مسلم (394). فهذا يدل على أنّ المراد بالقراءة: هي قراءة الإمام والمنفرد والمأموم في السرية كما تقرر في كلام شيخ الإسلام؛ والله أعلم. الثالث: ما ثبت عن عمر في النهي عن القراءة خلف الإمام. وذلك بما رواه ابن أبي شيبة (1/ 330) قال: حدَّثنا ابن علية عن أيوب، عن نافع، وأنس بن سيرين. قال: قال عمر بن الخطاب: "تكفيك قراءة الإمام". وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، فكلًا من نافع وأنس لم يدركا عمر - رضي الله عنه -. ولكن بمتابعة أحدهما للآخر ما يدل على اشتهاره عنه - رضي الله عنه - ويشهد له: ما رواه عبد الرزاق (2/ 138): عن داود بن قيس، عن محمد بن عجلان قال: "قال علي: من قرأ مع الإمام فليس على الفطرة؛ قال: وقال ابن مسعود: ملئ فوه ترابًا؛ قال: وقال عمر بن الخطاب: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر".

قال ابن عبد البر: وقال مالك: الأمر عندنا، أنّه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة، فهذا يدلك على أن هذا عمل موروث بالمدينة "التمهيد" (11/ 34). وأما ما رواه البيهقي في "القراءة خلف الإمام" (1/ 91) من طريق عبد الرزاق (2/ 131): عن ابن التيمي، عن ليث، عن أشعث، عن أبي يزيد، عن الحارث بن سويد، ويزيد التيمي قالا: "أمرنا عمر بن الخطاب أن نقرأ خلف الإمام"؛ فضعيف جدًّا، في إسناده: أشعث بن سوار والليث بن أبي سليم، وكلاهما ضعيفان، هذا والله -سبحانه وتعالى أعلم-. 134 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وأما حديث جابر في هذا الباب: فهو من قوله، ولم يرفعه إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم -كما في "الترمذي"، و"الموطأ" وغيرهما-، وقول الصحابي لا تقوم به حجّة، فلم يبق هاهنا ما يدل غلى منع قراءة المؤتمّ خلف الإمام حال قراءته؛ إلا الآية الكريمة، وحديث: "إذا قرأ فأنصتوا"، وهما عامان كما عرفت". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وأيضًا فهذا عموم قد خص منه المسبوق، بحديث أبي بكرة، وخص منه الصلاة بإمامين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا صلى بالناس وقد سبقه أبو بكر ببعض الصلاة؛ قرأ من حيث انتهى أبو بكر، ولم يستأنف قراءة الفاتحة؛ لأنه بنى على صلاة أبي بكر، فإذا سقطت عنه الفاتحة في هذا الموضع؛ فعن المأموم أولى وخص منه حال العذر، وحال استماع الإمام حال عذر، فهو مخصوص، وأمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام لم يخص معه شيء -لا بنص خاص، ولا إجماع- وإذا تعارض عمومان: أحدهما محفوظ، والآخر مخصوص، وجب تقديم المحفوظ" (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 270). (¬2) "مجموع الفتاوى" (23/ 290).

135 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يفعلها المصلي في التشهد: فقد وردت بألفاظ، وكل ما صخ منه أجزأ، ومن أصح ما ورد؛ ما ثبت في "الصحيح" بلفظ: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد"؛ وزاد في "الحجة": "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". قال الفقير إلى عفو ربه: رواه الىشيخان، البخاري (6357)، مسلم (908). 136 - قال الْمصَنِّف (¬2): "قلت: عامة أهل العلم على أن الصلاة على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مستحبة في التشهد الأخير غير واجبة، وإلى هذا يشير لفظ ابن عمرو وعائشة في باب التشهّد، وأن التشهد الأول ليس محلًا لها، وذهب الشافعي -وحده- إلى وجوبها في التشهد الأخير، فإن لم يصل لم تصح صلاته، وإلى استحبابها في التشهد الأول". قال الفقير إلى عفو ربه: في مشروعية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول نظر لعدد من الأدلة: الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني عن تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وسط الصلاة وفي آخرها، عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي، عن أبيه، عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) (1/ 271). (¬2) (1/ 272).

مسعود، قال: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها، فكنا نحفظ عن عبد الله حين أخبرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إياه. قال: "فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة، وفي آخرها على وركه اليسرى: "التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيّها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". قال: "ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها، دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلّم" (¬1). وهذا إسناد حسن كما ترى، ومما يدل على أنّ ابن إسحاق جوده: ما يأتي من آثار من عمل الصحابة. الثاني: ما رواه ابن أبي شيبة (¬2)، حدثنا جرير، عن منصور، عن تميم بن سلمة، قال: "كان أبو بكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف، يعني حتى يقوم" وهذا إسناد صحيح، وقد رواه الترمذي (¬3) وغيره مرفوعًا من حديث ابن مسعود، ولكنّه منقطع بين أبي عبيدة، وابن مسعود. الثالث: ما رواه ابن أبي شيبة (¬4): حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عياض بن مسلم، عن ابن عمر أنّه كان يقول: "ما جعلت الراحة في الركعتين إلا للتشهد". وأما ما استدلّ به أبو عبد الرحمن -الألباني رحمه الله- (¬5)، من حديث عبد الله بن مسعود قال: "كّنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، غير أن نسبح، ونكبر، ونحمد ربنا، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - علم فواتح الخير وخواتمه، فقال: ¬

_ (¬1) "المسند" (1/ 459). (¬2) "الترمذي" (1/ 263). (¬3) (366). (¬4) "المصنف" (1/ 330). (¬5) في "السلسلة الصحيحة" (2/ 878).

"إذا قعدْتُم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيُّها النبي ورحمه الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ووسوله، ثم ليتخيّر من الدعاء أعجبه إليه". فقال -رحمه الله-: "وفي الحديث فائدة هامة: وهي مشروعية الدعاء في التشهد الأول، ولم أر من الأئمة من قال به غير ابن حزم، والصواب معه" (¬1). ولا يخفى أن هذا الحديث فيه إجمال، فإن قوله: "ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه" يحتمل أن يعود على كلا التشهدين أو على التشهد الأخير. وإذا كان الأمر كذلك فإن البيان والتّفصيل يطلب من أدلّة أخرى، وقد ثبت في مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجّال". ثم إن الرواية السابقة من حديث ابن مسعود المفضلة وهكذا عمل الصحابة: يدل على أن السنة هي الاقتصار على التشهد في الجلوس الأول، وقد قال بمشروعية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول: أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن باز الإمام، فهو مما اتفق عليه الإمامان. قال الفقير إلى عفو ربه: ومما يرجح ما ذكرته ويوضحه ما رواه أبو داود (¬3)، وأحمد (¬4) بإسناد جيد، عن معاذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) (1326). (¬3) "السنن" (1522). (¬4) "المسند" (5/ 245).

"أوصيك يا معاذ، لا تدعن دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك". فهذا صريح في أن موطن الدعاء بعد التشهد الأخير. قال أهل العلم: "دبر الشيء، آخره". وأما ما رواه مسلم (¬1) من حديث عائشة في وصفها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقولها: "ويصلى تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلى التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا". وجه الدلالة: أن المستدل جعل جلوسه في الثامنة بمنزلة التشهد الأول، وأنه كان يدعو فيه. والجواب على هذا من وجهين: الأول: أن هذا الحديث وارد في صلاة الليل، بل في صفة من صفاتها، ومن المجزوم به أنه ليس كل ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل يفعله في الفريضة أو في نافلة النهار، مما يدل على اختصاصه بصلاة الليل، وذلك مثل: طول القيام، والركوع، والسجود، والوصل بين الركعات أحيانًا، والفصل بينها، وقوله بعد الوتر: سبحان الملك القدّوس، ثلاثًا. الثاني: أنا لا نسلم أن جلوسه في الثامنة بمنزلة التشهد الأول، فإن هذا من باب القياس، ولا قياس في العبادات. 137 - قال المصنف (¬2): "وهي الرفع في المواضع الأربعة: أي: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الاعتدال من الركوع، هذه الثلاثة المواضع في كل ركعة، ¬

_ (¬1) (1739). (¬2) (1/ 277).

والموضع الرابع عند القيام إلى الركعة الثالثة، فقد دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة. أما عند التكبير فقد روى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوُ خمسين رجلًا من الصحابة، منهم العشرة المبشرة بالجنة، ورواه كثير من الأئمة عن جميع الصحابة من غير استثناء. وقال الشافعي: روى الرفعَ جمعٌ من الصحابة، لعلّه لم يرد قط حديث بعدد أكثر منهم. وقال ابن المنذر: لم يختلف أهل العلم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه. وقال البخاري في "جزء رفع اليدين": روى الرفعَ تسعةَ عشرَ نفسًا من الصَحابة. وسرد البيهقي في "السنن" وفي "الخلافيات" أسماء من روى الرّفع؛ نحوًا من ثلاثين صحابيًّا. وقال الحسن، وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أيديهم، ولم يستثن أحدًا منهم، كذا في "التلخيص". وقال النووي في "شرح مسلم": إنها أجمعت على ذلك عند تكبيرة الإحرام، وإنما اختلفوا فيما عدا ذلك، وقد ذهب إلى وجوبه داود الظاهري، وأبو الحسن أحمد بن سيار، والنيسابوري، والأوزاعي، والحميدي، وابن خزيمة. وأما الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه: فقد رواه زيادةٌ على عشرين رجلًا من الصّحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال محمد بن نصر المروزي: إنه أجمع علماء الأمصار على ذلك إلا أهل الكوفة.

وأما الرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة: فهو ثابت في "الصحيح" من حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي -وصححه-، وصححه أيضًا أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي "حجّة الله البالغة": فإذا أراد أن يركع رفع يديه حذو منكبيه وكذلك إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، وهو من الهيئات التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة وتركها أخرى، والكل سُنة، وأخذ بكل واحد جماعة من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم. وهذا أحد المواضع التي اختلف فيها الفريقان: أهل المدينة، وأهل الكوفة، ولكل واحد أصل أصيل، والحق عندي في مثل ذلك أن الكل سُنة، ونظيره الوتر بركعة واحدة، أو بثلاث، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع؛ فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت، غير أنه لا ينبغي لإنسان في مثل هذه الصور، أن يثير على نفسه فتنة عوام بلده، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا حِدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة"؛ ولا يبعد أن يكون ابن مسعود - رضي الله عنه - ظن أنّ السنة المتقرّرة آخرًا هو تركه لما تلقن من أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، ولم يظهر له أن الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتُدئ به في الصلاة، أو لما تلقن من أنه فِعْل ينبئ عن الترك، فلا يناسِبُ كونه في أثناء الصلاة، ولم يظهر له أن تجديد التنبيه لترك ما سوى الله -تعالى- عند كل فعل أصْلِي من الصلاة مطلوب، والله -تعالى- أعلم. قوله: لا يفعل ذلك في السجود، أقول: القَومَةُ شُرِعت فارقةَ بين الركوع والسجود، فالرفع معها رفع للسجود، فلا معنى للتكرار، انتهى بحروفه". قال الفقير إلى عفو ربه: أما رفع اليدين مع الركوع والرفع منه والقيام من التشهد الأول فهي سنة دائمة. رواه جمع من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما رفع اليدين في السجود

فقد نفاه ابن عمر كما في البخاري (¬1)، وورد في ثلاثة أحاديث عند أهل "السنن": عن أبي هريرة، ووائل بن حجر، وأنس. والجمع بينها وبين نفي ابن عمر: أن يقال: إنها من السنن التي تفعل تارة وتترك تارة. وأما كون ابن مسعود لا يرفع إلا مع تكبيرة الإحرام فلا يستغرب أن يخفى عليه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفع يديه في المواضع الثلاثة الأخرى، كما خفي عليه سنة وضع اليدين على الركب، فإنه كان يطبق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله -سبحانه وتعالى- ردنا عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 138 - قال الْمصَنِّف (¬2): "أقول: قد وقع الخلاف في البسملة من جهات: الأولى: في كونها قرآنًا في كل سورة أم لا؟ الثانية: في قراءتها في الصلاة، أو سرًّا في السرية وجهرًا في الجهريّة؟ ولأهل العلم في كل طرف من هذه الأطراف خلاف طويل ومنازعات كثيرة والقراء منهم من يقرؤها في أول سورة، ومنهم من لا يقرأها". قال الفقير إلى عفو ربه: قال أبو العباس: "المداومة على الجهر بها بدعة مخالفة للسُّنة الصحيحة الصريحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف. والأحاديث الصريحة في الجهر بها كلها موضوعة، وذكر الطحاوي أن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وذكر الشيخ أنه يستحب الجهر بها للتأليف، وأنه يستحب الجهر بها وبالتعوذ، والفاتحة في الجنازة ونحوها تعليمًا للسنة" (¬3). ¬

_ (¬1) (735). (¬2) (1/ 292). (¬3) "الأحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 211).

"وقال أيضًا: البسملة آية من كتاب الله في أول كل سورة سوى براءة وليست من السور علي المنصوص وهو أوسط الأقوال وأعدلها وبه تجتمع الأدلة" (¬1). ولم ينفرد الشيخ بالحكم على المداومة بها بالبدعة، بل سبقه إلى ذلك الصحابي الجليل عبد الله بن مغفل فقد روى الترمذي (¬2)، من طريق قيس بن عباية، عن ابن عبد الله بن مغفل، قال: "سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال لي: أي بني محدَث، إيّاك والحدث، قال: ولم أر أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر، ومع عثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل: الحمد لله رب العالمين". قال الزيلعي: "وبالجملة فهذا حديث صريح -أيضًا- في عدم الجهر بالتسمية، وهو إن لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عن درجة الحسن" (¬3). وأما إعلاله بابن عبد الله بن مغفل، فليس بشيء، قال الحافظ: "وقع في رواية للطبراني عن يزيد بن عبد الله بن مغفل وهو كذلك في "مسند أبي حنيفة" (¬4) وهو أيضًا في "مسند الإمام أحمد" (¬5). 139 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "أما التأمين: فقد ورد به نحو سبعة عشر حديثًا، وربما تفيد أحاديث الوجوب على المؤتم إذا أمن إمامه، كما في حديث أبي هريرة في ¬

_ (¬1) "الأحكام" للعلَّامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 212). (¬2) "السنن" (244). (¬3) "نصب الراية" (1/ 333). (¬4) "الدراية" (1/ 132). (¬5) (4/ 85). (¬6) (1/ 295).

"الصحيحين" وغيرهما بلفظ: "إذا أمن الإمام فأمنوا"؛ فيكون ما في المتن مقيدًا بغير المؤتم إذا أمن إمامه. وقد ذهب إلى مشروعيته جمهور أهل العلم. ومما يؤكد مشروعيته: أن فيه إغاظة لليهود؛ لما أخرجه أحمد وابن ماجه، والطبراني من حديث عائشة مرفوعًا: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: "آمين". قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "السنة المحكمة الصحيحة؛ الجهر بآمين في الصلاة؛ كقوله في "الصحيحين": "إذا أمَّن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له"، ولولا جهره بالتأمين؛ لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في الأصل بالتأمين. وأصرح من هذا؛ حديث سفيان الثوري، عن سَلَمة بن كُهَيل، عن حُجر بن عَنْبَس، عن وائل بن حُجْر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: " {وَلَا الضَّالِّينَ} "؛ قال: "آمين"، ورفع بها صوته. وفي لفظ: وطول بها؛ رواه الترمذي وغيره وإسناده صحيح. وقد خالف شعبةُ سفيانَ في هذا الحديث، فقال: وخفض بها صوته. وحكم أئمة الحديثِ، وحُفظُه في هذا لسفيان؛ فقال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيل في هذا الباب؛ أصح من حديث شعبة، وأخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال: عن حجر أبي العنبس! وإنما كنيته: أبو السكن، وزاد فيه: عن علقمة بن وائل! وإنما هو: حجر بن عنْبس، عن وائل بن حجْر؛ ليس فيه: علقمة، وقال: وخفض بها صوته، والصحيح: أنه جهر بها. قال الترمذي: سألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة، إذا اختلفا؟ فقال: القول قول سفيان ... ، إلى قوله: "فَرُدَّ هذا كله بقوله -تعالى-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، والذي نزلت عليه هذه الآية؛ هو الذي رفع صوته بالتأمين،

والذين أمروا بها؛ رفعوا به أصواتهم، ولا معارضة بين هذه الآية والسنة بوجه ما". اهـ. ثم أطال ابن القيم في بيان أدلة ترجيح هذه السنة وتقريرها، تركنا ذكرها مخافة الإطالة. وفي "تنوير العينين" يظهر -بعد التعمق في الروايات والتّحقيق- أن الجهر بالتأمين أولى من خفضه، لأن رواية جهره أكثر وأوضح من خفضه". قال الفقير إلى عفو ربه: وأصرح من هذا ما ثبت عن ابن الزبير، فقد روى عبد الرزاق (¬1)، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: "كان ابن الزبير يقول: آمين، ومن خلفه حتى إن للمسجد للجة؟ قال: نعم". 140 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وقراءة غير الفاتحة معها: لما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي قتادة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر؛ في الأوّليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الآخريين بفاتحة الكتاب. وورد ما يُشعر بوجوب قرآن مع الفاتحة من غير تعيين، كحديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يخرج، فينادي: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد"، أخرجه أحمد، وأبو داود؛ وفي إسناده مقال! ولكنه قد أخرج مسلم في "صحيحه" وغيره من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا"؛ وقد أعلها البخاري في "جزء القراءة". وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد بلفظ: أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. ¬

_ (¬1) (2/ 96). (¬2) (1/ 296).

- قال ابن سيد النّاس: وإسناده صحيح ورجاله ثقات. - وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بـ {الحمد} وسورة "وهو حديث ضعيف". قال الفقير إلى عفو ربه: وإعلال البخاري إنما هو لأجل تفرد معمر قال شيخ الإسلام: "قال البخاري: وقال معمر عن الزهري: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا" وعامة الثقات لم يتابع معمرًا في قوله: "فصاعدًا" مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب .... ولكن هب أنها ليست في حديث عبادة فهي في حديث أبي هريرة" (¬1). قال الفقير إلى عفو ربه: قد فات هذين الإمامين متابعة سفيان بن عيينة لمعمر، قال أبو داود (¬2): حدثنا قتيبة بن سعيد، وابن السرح قالا: حدثنا سفيان، عن الزهري عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا". قال سفيان: لمن يصلي وحده". وثمرة هذه الزيادة الثابتة ما قرره أبو العباس حيث قال: "وهذا يدل على أنه ليس المراد به قراءة المأموم حال سماعه لجهر الإمام، فإن أحدًا لا يقول أن زيادته على الفاتحة، وترك إنصاته لقراءة الإمام في هذه الحال خير ولا أن المأموم مأمور حال الجهر بقراءة زائدة على الفاتحة، وكذلك عللها البخاري في حديث عبادة، فإنها تدل على أن المأموم مستمع لم يدخل في الحديث" (¬3). 141 - قال الْمصنِّف (¬4): "وهذه الأحاديث لا تقصر عن إفادة إيجاب قرآن مع الفاتحة من غير ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (23/ 288). (¬2) "السنن" (822). (¬3) "الفتاوى" (23/ 289). (¬4) (1/ 296).

تقييد، بل مجرد الآية الواحدة يكفي وأمَّا زيادة على ذلك -كقراءة سورة مع الفاتحة في كل ركعة من الأولتينِ-؛ فليس بواجب، فيكون ما في المتن مقيدًا بما فوق الآية". قال الفقير إلى عفو ربِّه: "قال مسدد: حدثنا يحيى عن عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال: "من قرأ في المكتوبة بفاتحة الكتاب أجزأ عنه، وإن زاد معها شيئًا فهو أحب إلي" (¬1) وتقدمت الإشارة إلى رواية البخاري. 142 - قال الْمُصَنف (¬2): "ويشكل على ذلك قول ابن مسعود: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد، الحديث فإن هذه العبارة تدل على أن التشهد من المفترضات ويمكن أن يقال: إن فهم ابن مسعود للفرضية لا يستلزم أن يكون الأمر كذلك؛ لأنه من مجالات الاجتهادات، واجتهاده ليس بحجة على أحد". قال الفقير إلى عفو ربه: في هذا الكلام نظر من وجهين: الأول: أن قوله: "قبل أن يفرض علينا التشهد" صريح في رفعه إلى النبيَ - صلى الله عليه وسلم - فإن قول الراوي: "أمرنا، أو نهينا، أو كنا نفعل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فرض علينا". كله له حكم الرفع كما هو مقرّر في علوم الحديث وأُصول الفقه. الثاني: هب أنَّ قوله: "قبل أن يفرض علينا التشهد" من فهم ابن ¬

_ (¬1) "المطالب العالية" (1/ 108). (¬2) (1/ 298).

مسعود، فهل خالفه أحد من الصحابة في هذا الفهم؟ ثم إن كان العلم كله مبنيًّا على الفهم؛ فأيهما أولى به ابن مسعود وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم من جاء بعدهم؟ وقد قال -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فمن جاء بعدهم فهو تابع لهم في فهم هذا الدين. نعم قد يستفاد من أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - عدم وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير. 143 - قال الْمُصَنف (¬1): "قال ابن عباس: "كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير". قال الفقير إلى عفو ربه: في حديث ابن عباس لطيفة ينبغي الوقوف عندها، وهي: أن راويَه عن ابن عباس -مولاه أبا معبدٍ- أنكر روايته له بهذا اللفظ، فقد روى مسلم (¬2): حدثنا ابن أبي عمر: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد -مولى ابن عباس- أنه سمعه يخبر عن ابن عباس قال: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير". قال عمرو: فذكرت ذلك لأبي معبد فأنكره، وقال: لم أحدثك بهذا، قال عمرو: وقد أخبرنيه قبل ذلك". وهكذا رواه الإمام أحمد في "المسند" (¬3). ¬

_ (¬1) (1/ 303). (¬2) (1317). (¬3) (3/ 193).

وممّا يدل على أن رفع الصوت بالتكبير أدبار الصلوات ليس بمشروع إلا في مواطن معلومه في الحج: حديث أبي هريرة الذي أخرجه الشيخان (¬1): "أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: "تسبحون وتكبرون وتحمدون في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". فإنَّ فيه فائدتين: الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع صوته بالتكبير لأنه لو كان يرفع صوته به لأخذه الأغنياء منه مباشرة لا من الفقراء. الثانية: أنهم لو كانوا يجهرون به ما احتاجوا أن يخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأغنياء علموا. وإلى هذا ذهب الأئمة الأربعة، وحمل بعضهم ما وود في حديث ابن عباس على التعليم. ثم إن الأصل في الذكر والدعاء خفض الصّوت والإسرار، كما دل على ذلك بضعة عشر دليلًا ذكر جملة منها شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري (843)، مسلم (1347). (¬2) (15/ 16).

144 - قال المصنف (¬1): "ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلّم عامدًا عالمًا فسدت صلاته، وإنما الخلاف في كلام الساهي ومن لم يعلم بأنه ممنوع. فأما من لم يعلم؛ فظاهر حديث معاوية بن الحكم السلَمي الثّابت في "الصحيح" أنه لا يعيد، وقد كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يُحَرج على الجاهل، ولا يأمره بالقضاء في غالب الأحوال، بل يقتصر على تعليمه وعلى إخباره بعدم جواز ما وقع منه، وقد يأمره بالإعادة كما في حديث المسيء. وأما كلام الساهي والناسي، فالظاهر أنه لا فرق بينه وبين العامد العالم في إبطال الصلاة. قال أبو حنيفة: كلام الناسي يبطل الصلاة، وحديث أبي هريرة كان قبل تحريم الكلام ثم نسخ. وفيه بحث؛ لأن تحريم الكلام كان بمكّة، وهذه القصة بالمدينة. وقال الشافعي: كلام الناسي لا يبطل الصلاة، وكلام العامد يبطلها ولو قل، وتأويل الحديث عنده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ناسيًا، بانيًا كلامه على أن الصلاة تمت وهو نَسيان، وكلام ذي اليدين على توهم قَصْرِ الصلاةِ؛ فكان حكمه حكم النَّاسي، وكلام القوم كان جوابًا للرسول، وإجابة الرسول لا تُبْطل الصلاة. وقال مالك: إن كان كلام العمدم يسيرًا لإصلاح الصلاة لا يبطل، مثل أن يقال: لم تكمل، فيقول: قد أكملت، وحديث: نُهينا عن الكلام، و: "لا تكلموا": خُصَّ منه هذا النوع من الكلام، كذا في "المسوى". أقول: أما فساد صلاة من تكلَّم ساهيًا؛ فلا أعرف دليلًا يدل عليه؛ إلا عموم حديث النهي عن الكلام، وهو مخصص بمثل حديث تكلمه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سلم على ركعتين، كما في حديث ذي اليدين، فإنه تكلم في تلك ¬

_ (¬1) (1/ 305).

الحال ساهيًا عن كونه مصليًا، وهو المراد بكلام الساهي؛ لأن المراد إصدار الكلام من غير قصد. فإن قيل: إن ثم فرقًا بين من تكلم وهو داخل الصلاة لم يخرج منها، وبين من تكلم وقد خرج منها ساهيًا؛ فإن الأول أوقع الكلام حال الصلاة، والآخر أوقعه خارجها، واعتداده بما قد فعله قبل الخروج ساهيًا؛ لا يوجب كونه بعد الخروج قبل الرجوع في صلاة؛ وأدل دليل على ذلك: تكبيره للدخول بعد الخروج سهوًا. فيقال: الأدلّة الواردة في رفع الخطاب عن الساهي مخصصة لذلك العموم، فاقتضى ذلك أن المُفْسِد هو كلام العامد لا كلام السّاهي. أما عدم أمره لمعاوية بن الحكم بالإعادة -كما في الحديث-: فيمكن أن يكون لتنزيل كلام الجاهل بالتحريم منزلة كلام الساهي، ويمكن أن يكون الجهل عذرًا بمجرده". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: "والمقصود هنا: أنه إذا ثبت أن حديث ذي اليدين محكم: ثبت به أن مثل ذلك الكلام والفعال لا يبطل الصلاة، وهنا أقوال في مذهب أحمد وغيره، فعنه أن كلام الناسي والمخطئ لا يبطل، وهذا قول مالك والشافعي، وهو أقوى الأقوال، وممّا يؤيده حديث معاوية بن الحكم السلمي لما شمت العاطس في الصلاة، فلما سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين" ولم يأمره بالإعادة، وهذا كان جاهلًا بتحريم الكلام، وفي الجاهل لأصحاب أحمد طريقان: أحدهما: أنه كالناسي. والثاني: أنه لا تبطل صلاته وإن بطلت صلاة الناسي، لأن النسخ لا يثبت حكمه إلا بعد العلم بالناسخ. وهذا الفرق ضعيف هنا، لأن هذا إنما يكون فيمن تمسك بالمنسوخ

ولم يبلغه الناسخ كما كان أهل قباء، وأما هنا فلم يكن بلغه المنسوخ بحال. فالنهي في حقه حكم مبتدأ، لكن هل يثبت الحكم في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب؟ فيه ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد وغيرهم: أحدها: أنه يثبت مطلقًا. والثاني: لا يثبت مطلقًا. والثالث: الفرق بين الحكم الناسخ والحكم المبتدأ. وعلى هذا يقال: الجاهل لم يبلغه حكم الخطاب، وقد يفرق بين الناسي والجاهل: ألا ترى من نام عن صلاة أو نسيها؛ فإنه يعيدها باتّفاق المسلمين؟ وكذلك من ترك شيئًا من فروضها نسيانًا ثم ذكر قبل أن يذكر أنه صلى بلا وضوء، أو ترك القراءة أو الركوع ونحو ذلك فإنّه يعيد، وأما من نسي واجبًا كالتشهّد الأوّل فإنه يسجد قبل السلام، فإن تعمد تركه ففي بطلان صلاته، وجهان: أشهرهما تبطل، ولو نسيه مطلقًا لم تبطل صلاته، فهنا قد أثر النسيان في سقوط الواجب مطلقًا. وأما الجاهل فلو صلى غير عالم بوجوب الوضوء من لحم الإبل أو صلى في مباركها غير عالم بالنهي ثم بلغه ففي الإعادة روايتان، لكن الأظهر في الحجّة أنه لا يعيد، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع" (¬1). 145 - قال الْمصَنف (¬2): "وتسقط عمن عجز عن الإشارة: لأن إيجابها على المريض مع بلوغه إلى ذلك الحد؛ هو من تكليف ما لا يطاق، ولم يكلّف الله -تعالى- أحدًا فوق طاقته". ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (21/ 160). (¬2) (1/ 311).

قال الفقير إلى عفو ربه: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر "الاختيارات" (72). 146 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وإن أراد هذه الصفة هي إحدى صفات الوتر: فنحن نقول بموجب ذلك، فقد روى: الإيتار بثلاث كما أوضح ذلك الماتن -رحمه الله- في "شرح المنتقى"، فتعارضت رواية الثلاث ورواية النهي". قال الفقير إلى عفو ربه: روى ابن أبي شيبة (¬2): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سليمان بن حيان، عن أبي غالب قال: "كان أبو أمامة يوتر بثلاث ركعات". وروى أيضًا (¬3) من طريق: سعيد بن عبيد السباق عن المسور بن مخرمة قال: "دفنا أبا بكر ليلًا، فقال عمر: إني لم أوتر، فقام وصففنا وراءه فصلى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن". وروى ابن المنذر (¬4): حدَّثنا علي بن عبد العزيز: ثنا عارم: ثنا حماد بن زيد: ثنا أبو هارون الغنوي، سمعت حطان بن عبد الله الرقاشي، سمعت عليًّا قال: "الوتر ثلاثة" (¬5). 147 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وتحية المسجد: لحديث: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"؛ أخرجه الجماعة من حديث أبي قتادة، وفي ذلك أحاديث كثيرة. ¬

_ (¬1) (1/ 321). (¬2) "المصنف" (2/ 293). (¬3) "المصنف" (2/ 293). (¬4) "الأوسط" (5/ 181). (¬5) وانظر لمزيد فائدة "مختصر قيام الليل" للمروزي (ص 294). (¬6) (1/ 321).

وقد وقع الاتفاق على مشروعية تحية المسجد، وذهب أهل الظاهر إلى أنهما واجبتان، وذلك غير بعيد". قال الفقير إلى عفو ربه: وهو الصواب انظر "النكتة" (180). 148 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "لا يزيد على ذلك ولا ينقص: "أفلح -وأبيه- إن صدق". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "قوله: "وأبيه" شاذ -عندي- في هذا الحديث وغيره؛ كما حققته في "الأحاديث الضعيفة" (4992) فإن صح؛ فهو محمول على أنه كان قبل النهي عن الحلف بغير الله -عزَّ وجلَّ-" (¬2). 149 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "فمن أنواع الحرج: ليلة ذات برد ومطر، ويستحب عند ذلك قول المؤذن: ألا صلوا في الرحال". قال الفقير إلى عفو ربه: ولي في هذا ورقات جمعت فيها أحاديث الأذان بالصّلاة في الرحال سمّيتها "الصلاة في الرحال عند تغير الأحوال". 150 - قال الْمُصَنِّف (¬4): وحديث: "لا تؤخّر الصلاة لطعام ولا غيره". قال الفقير إلى عفو ربه: قال المنذري: "في إسناده: محمد بن ميمون أبو النصر الكوفي الزعفراني المفلوج، قال أبو حاتم الرازي: لا بأس به، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال الدارقطني: ليس به بأس، وقال البخاري: ¬

_ (¬1) (1/ 325). (¬2) "مختصر صحيح مسلم" (21). (¬3) (1/ 326). (¬4) (1/ 326).

منكر الحديث، وقال أبو زرعة الرازي: كوفي لين، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًّا، لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات بالأشياء المستقيمة، فكيف إذا انفرد بأوابده" (¬1). 151 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وبين ما حكم به جمهور الصحابة من منعهن". قال الفقير إلى عفو ربه: هذه دعوى لا دليل عليها، فلم ينقل عن صحابي واحد منع النساء من الصلاة في المسجد، وإنما نقل ذلك عن بلال بن عبد الله بن عمر، وأنكره عليه أبوه بشدة (¬3). 152 - قال الْمصَنِّف (¬4): "والأولى أن يكون الإمام من الخيار: لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم"، رواه الدارقطني". قال الفقير إلى عفو ربه: والبيهقي (¬5) من طريق: حسين بن نصر، ثنا: سلام بن سليمان: ثنا عمر بن عبد الرحمن بن يزيد، عن محمد بن واسع، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر به، وقال: "إسناده ضعيف". وقال ابن القطان: "وحسين بن نصر لا يعرف" (¬6)، وقال ابن عدي عن عمر بن عبد الرحمن المدائني: "منكر الحديث" (¬7)، وقال الحافظ: "ضعيف". ¬

_ (¬1) "مختصر السنن" (5/ 296). (¬2) (1/ 327). (¬3) "مسلم" (989). (¬4) (1/ 329). (¬5) "السنن الكبرى" (3/ 90). (¬6) "التعليق المغني على الدارقطني" لأبي الطيب العظيم آبادي (2/ 88). (¬7) "الكامل في ضعفاء الرجال" (5/ 1687).

تنبيه: وهم المؤلف في جعله هذا الحديث من "مسند ابن عباس" -عند الدارقطني-، والصواب: أنه من "مسند ابن عمر". 153 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "صلوا خلف كل بر وفاجر". قال الفقير إلى عفو ربه: رواه الدارقطني (¬2) من طريق: معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول عن أبي هريرة به. وقال: "مكحول لم يسمع من أبي هريرة ومن دونه ثقات". ويغني عنه: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن اخطأوا فلكم وعليهم" (¬3). 154 - قال الْمُصَنف (¬4): "مثل حديث: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فعلى أنفسهم" أو كما قال -وهو حديث صحيح". قال الفقير إلى عفو ربه: رواه البخاري (694). 155 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "فإنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بعد أبي بكر، وعتاب بن أسيد، وهما بالنسبة إليه لا يعدّان شيئًا". ¬

_ (¬1) (1/ 330). (¬2) "السنن" (2/ 57). (¬3) رواه البخاري (694). (¬4) (1/ 330). (¬5) (1/ 331).

قال الفقير إلى عفو ربه: ينبغي التأدب مع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالألفاظ التي تليق بهم. 156 - قال الْمُصَنف (¬1): "وقد أخرج الإسماعيلي، عن عائشة، أنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رجع من المسجد صلى بنا". قال الفقير إلى عفو ربه: قال: "حدثنا محمد بن إسحاق العامري، حدثنا عبيد الله عن أبي الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة به (¬2) ". فيه: المغيرة بن مقسم الضبي، قال الحافظ: "ثقة متقن، إلا أنه كان يدلس، ولا سيما عن إبراهيم" (¬3). قال ابن فضيل: "كان يدلس، وكنا لا نكتب عنه إلا ما قال، حدثنا إبراهيم" (¬4). قلت: أخرج له البخاري ومسلم روايته عن إبراهيم من غير تصريح بالسماع في عدة مواضع من صحيحيهما. وقد رد القول بأنه مدلس كل من ابن المديني وأبي داود. وقد انفرد ابن الفضيل -فيما رأيت- بوصفه بالتدليس، والله أعلم. 157 - قال الْمُصَنف (¬5): "وإنما الخلاف في صلاة الرجل بالنساء فقط، ومن زعم أن ذلك لا يصح فعليه الدليل". قال الفقير إلى عفو ربه: ثبت عن عمر أنه: "أمر سليمان بن أبي حثمة أن يصلي بالنساء" رواه عبد الرزاق (¬6)، من طريق سفيان الثوري، عن ¬

_ (¬1) (1/ 332). (¬2) (2/ 555). (¬3) "التقريب" (6851). (¬4) "التهذيب" (10/ 269). (¬5) (1/ 332). (¬6) "المصنف" (3/ 151).

هشام بن عروة، أن عمر بن الخطاب به، وهذا منقطع. ولكن رواه ابن أبي شيبة (¬1) قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا هشام، عن أبيه قال: "جعل عمر بن الخطاب للناس قارئين في رمضان، فكان أبي يصلي بالناس، وابن أبي حثمة يصلي بالنساء". وهذا إسناد صحيح. 158 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وأما الجواب بأن فعل آحاد الصحابة لا يكون حجة، فكلام صحيح، ولكن الحجة ليست فعل معاذ، بل تقريره، - صلى الله عليه وسلم - كما عرفت". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الاعتقاد حرم المصنف -رحمه الله- من علم كثير مبارك يفهم من خلاله الكتاب والسنة. 159 - قال الْمُصنِّف (¬3): "وقوله: "إذا صلى جالسًا، فصلوا جلوسًا" "منسوخ". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: "وقيل: بل ذلك محكم، وقد فعله غير واحد من الصّحابة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأسيد بن حضير وغيره، وهذا مذهب حماد بن زيد، وأحمد بن حنبل وغيرهما" (¬4). 160 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وقد كان هذا فعله وفعل أصحابه في الجماعة، يقف الواحد عن يمين الإمام، والإثنان فيما زاد خلفه، وقد ذهب الجمهور إلى وجوب ذلك، وقال سعيد بن السيب: إنه مندوب فقط". ¬

_ (¬1) "المصنف" (2/ 126). (¬2) (1/ 333). (¬3) (1/ 334). (¬4) "الفتاوى الكبرى" (2/ 332). (¬5) (1/ 341).

قال الفقير إلى عفو ربه: واستدل له بما ثبت في "صحيح مسلم" (¬1) من فعل ابن مسعود، من طريق: الأسود وعلقمة قالا: "وذهبنا لنقوم خلفه، فأخذ بأيدينا، فجعل أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله". 161 - قال المصنف (¬2): "وإمامة النساء وسط الصف: لما روي من فعل عائشة: أنّها أمّت النساء فقامت وسط الصف؛ أخرجه عبد الرزاق، والدّارقطني، والبيهقي، وابن أبي شيبة، والحاكم. وروي مثل ذلك عن أم سلمة؛ أخرجه الشّافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "وابن سعد (8/ 355)، عن سفيان عن ميسرة عن ريطة الحنفية قالت: "أمتنا عائشة في الصّلاة فقامت وسطنا" ثم روى (8/ 356)، نحوه عن عمار الدهني، عن حجيرة، عن أم سلمة" (¬3). 162 - قال الْمصَنِّف (¬4): "وأما الاعتداد بالرّكعة التي لحق الإمام فيها راكعًا: ففيه خلاف لجماعة من الأئمة، والحق عدم الاعتداد بها بمجرد إدراك ركوعها من دون قراءة الفاتحة، ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليرجع إلى: "شرح المنتقى"، و"طيب النشر"، و"السيل الجرار"، و"حاشية الشفاء"، و"الفتح الرباني"، و"دليل الطالب"، فالمسألة من المعارك". ¬

_ (¬1) (1191). (¬2) (1/ 341). (¬3) "التعليقات الرضيّة" (1/ 341). (¬4) (1/ 345).

قال الفقير إلى عفو ربه: السنة الصحيحة وعمل السلف يدل على صحة صلاة من أدرك الإمام وهو راكع وركع معه قبل الدخول في الصف: 1 - فقد روى البخاري (¬1) عن أبي بكرة: "أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "زادك الله حرصًا ولا تعد". 2 - وروى عبد الرزاق (¬2)، عن ابن جريج: أخبرني نافع، عن ابن عمر، قال: "إذا أدركت الإمام راكعًا، فركعت قبل أن يرفع فقد أدركت، وإن رفع قبل أن تركع فقد فاتتك". 3 - وروى ابن المنذر (¬3): حدثنا يحيى بن محمد: ثنا مسدد: حدثني بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن علي بن الأقمر، قال أبو الأحوص؛ يحدّث عن ابن مسعود؛ قال: "من أدرك الركوع؛ فقد أدرك الركعة". 4 - وروى مالك (¬4)، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال: "دخل زيد بن ثابت المسجد، فوجد الناس ركوعًا فركع ثم دب حتى وصل الصف". 5 - وروى ابن أبي شيبة (¬5)، قال: نا أبو الأحوص، عن منصور، عن زيد بن وهب، قال: "خرجت مع عبد الله من داره إلى المسجد، فلمّا توسطنا المسجد ركع الإمام، فكبر عبد الله ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف، حتى رفع القوم رؤوسهم، قال: فلما قضى الإمام الصلاة، قمت أنا -وأنا أرى لم أدرك- فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: إنك قد أدركت". ¬

_ (¬1) (783). (¬2) "المصنف" (2/ 279). (¬3) "الأوسط" (4/ 196). (¬4) "الموطأ" (1/ 165). (¬5) "المصنف" (1/ 229).

6 - وروى البيهقي (¬1)، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرني أبو الحسين -عبيد الله بن محمد البلخي التاجر ببغداد-: ثنا محمد بن إسماعيل السلمي: ثنا سعيد بن الحكم بن أبي صريم: أخبرني عبد الله بن وهب: أخبرني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد الله بن الزبير على المنبر يقول للناس: "إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع، فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعًا حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السُّنة". قال عطاء: وقد رأيته هو يفعل ذلك". فإن قيل: قد روى ابن أبي شيبة (¬2) قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: "إذا ركعت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مقامك من الصف"؟ قيل: الجواب عليه من وجوه: الأول: محمد بن عجلان المدني، قال الحافظ: "صدوق إلا أنَّه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة". الثاني: الاضطراب في متنه، فقد رواه ابن أبي شيبة (¬3) من طريق: ابن عجلان بلفظ: "لا تكبر حتى تأخذ مقامك من الصف"، ورواه أيضًا (¬4) من طريق ابن عجلان بلفظ: "فلا تركع حتى تأخذ مقامك من الصف". والفرق بين اللفظين واضح. الثالث: أنه قد خالفه ابن إسحاق، فقد أخرج البخاري في كتاب "القراءة" (¬5) من طريق ابن إسحاق: أخبرني الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول: "لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائمًا قبل أن تركع". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (3/ 106). (¬2) "المصنف" (1/ 230). (¬3) "المصنف" (1/ 230) (¬4) "المصنف" (1/ 230). (¬5) (57).

الرابع: أنَّ أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يعلم بهذه السنة، يدل على ذلك ويوضحه ما رواه علي بن حجر السعدي (¬1)، قال حدثنا حميد عن القاسم بن ربيعة، عن أبي بكرة: "أنه كان يخرج من بيته فيجد الناس قد ركعوا، فيركع معهم، ثم يدرج راكعًا حتى يدخل في الصف ثم يعتد بها". فهذا صريح في أنه فهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا تعد"، ليس الركوع دون الصف، وإنما هو الاستعجال وإحداث الجلبة. 163 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وقد أمكن الجمع، بحمل معنى القضاء على التمام؛ لانه أحد معانيه". قال الفقير إلى عفو ربه: القضاء يأتي بمعنى الإتمام كما في قوله -تبارك وتعالى-: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} (¬3). وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬4). 164 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وإذ ذاك يقول: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني"، وقال: "إنما أنْسَى -أو أنسَّى- لأَسُن". قال الفقير إلى عفو ربه: قال العراقي: "ذكره مالك في "الموطأ" بلاغًا بغير إسناد، وقال ابن عبد البر: "لا يوجد في "الموطأ" إلا مرسلًا لا إسناد له"، وكذا قال حمزة الكناني إنه لم يرد من غير طريق مالك، وقال أبو طاهر الأنماطي: "وقد طال بحثي عنه وسؤالي عنه للأئمة والحفاظ فلم أظفر ¬

_ (¬1) في "حديثه" (123). (¬2) (1/ 346). (¬3) [فصلت:12]. (¬4) [الجمعة: 10]. (¬5) (1/ 347).

به ولا سمعت عن أحد أنه ظفر به، قال: "وادعى بعض طلبة الحديث أنه وقع له مسندًا" (¬1). 165 - قال الْمُصنِّف (¬2): "وأما التشهد: فلحديث عمران بن حصين: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم، فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم"، أخرجه أبو داود، والترمذي -وحسنه-، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين". قال الفقير إلى عفو ربه: بل هو حديث شاذ، وذلك لمخالفة أشعث بن عبد الملك لغيره من الحفاظ، عن ابن سيرين ليس فيه ذكر التشهد. قال البيهقي: "تفرد به أشعث الحمراني، وقد رواه شعبة، ووهيب، وابن علية، والثقفي، وهشيم، وحماد بن زيد ويزيد بن زريع، وغيرهم، عن خالد الحذاء، لم يذكر أحد منهم ما ذكر أشعث، عن محمد عنه، ورواه أيوب عن محمد، قال: أخبرت عن عمران، فذكر؛ السلام دون التشهد، وفي رواية هشيم ذكر التشهد قبل السجدتين، وذلك يدل على خطأ أشعث فيما رواه" (¬3). وقال الحافظ: "فقد رواه أبو داود والترمذي، وابن حبان، والحاكم، من طريق أشعث بن عبد الملك، عن محمد بن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم"، قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشّيخين، وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، انتهى، وهو من رواية الأكابر، ¬

_ (¬1) "المغني عن حمل الأسفار" (2/ 3639). (¬2) (1/ 351). (¬3) "السنن الكبرى" (2/ 355).

عن الأصاغر، وضعفه البيهقي، وابن عبد البر وغيرهما، ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحقاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ، عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضًا في هذه القصة "قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئًا" وقد تقدم في "باب: تشبيك الأصابع" من طريق ابن عون، عن ابن سيرين، قال: "نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم"، وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت" (¬1). أما ما ذكر من قول ابن مسعود: "يتشهد فيهما"، رواه ابن أبي شيبة (¬2). حدثنا عباد بن العوام عن حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله، به، فمنقطع. قال أبو حاتم: "لم يلق أحدًا من الصحابة إلا عائشة، ولم يسمع منها وأدرك أنسًا، ولم يسمع منه" (¬3). 166 - قال الْمصَنِّف (¬4): ولحديث: "لكل سهو سجدتان". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن ثوبان، قال البيهقي في "المعرفة": انفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بقوي". وقال الذهبي: "قال الأثرم: "هذا منسوخ". وقال ابن عبد الهادي -كابن الجوزي- بعد ما عزياه لأحمد: ¬

_ (¬1) "الفتح" (3/ 119). (¬2) "المصنف" (1/ 388). (¬3) " التهذيب" (1/ 161). (¬4) (1/ 351).

"إسماعيل بن عيّاش مقدوح فيه، فلا حجة فيه"، وقال ابن حجر: "في سنده اختلاف". كذا في الفيض، ثم قالط: "فرمز المؤلف لحسنه غير حسن" (¬1). 167 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وغاية ما هناك: أن المسنون هو المندوب المؤكد، وصدق اسم السهو على ترك المندوب، كصدقة على ترك المسنون، فيندرج تحت حديث: "لكل سهو سجدتان" وتحقق هذه الزيادة، والنقص حاصل لكل واحد منهما، فمدعي التفرقة بينهما مطالب بالدليل". قال الفقير إلى عفو ربه: بل المطالب بالدليل هو الذي يرى مشروعية سجود السهو لترك المسنون، فإنّ الأصل في العبادات النقل، ولا قياس فيها، بإجماع أهل التحقيق. 168 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وعند الشافعية: في أية حالة ذكر أنها خامسة، قعد وألغى الزائد، وراعى ترتيب الصلاة مما قبل الزائد، ثم سجد للسهو، وفي معنى الركعة عنده الركوع والسجود". قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا الموافق لهديه - صلى الله عليه وسلم -. 169 - قال الْمصَنِّف (¬4): "وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام الإمام من الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائمًا فليجلس، وإن استوى قائمًا، فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو". ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 351). (¬2) (1/ 352). (¬3) (1/ 353). (¬4) (1/ 354).

قال الفقير إلى عفو ربه: رواه أبو داود (¬1)، وابن ماجه (¬2)، والدارقطني (¬3)، وأحمد (¬4)، والبيهقي (¬5). قال الحافظ: "ومداره على جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًّا" (¬6)، كذا قال، ثم إن محقق العصر استدرك على الحافظ فقال: "وقد وجدت لجابر الجعفي متابعين، لم أر من نبه عليهما ممن خرج الحديث من المتأخرين، بل أعلوه جميعًا به ... ولذلك رأيت لزامًا علي ذكرهما حتى لا يظن ظان أن الحديث ضعيف لرواية جابر له: الأول: قيس بن الرّبيع عن المغيرة بن شبيل عن قيس .... والآخر: إبراهيم بن طهمان عن المغيرة بن شبيل به نحوه ..... أخرجه عنهما الطّحاوي (1/ 355) " (¬7). وقد وافق الشيخَ ناصرًا شيخُنا عبدُ الله الدويش -رحم الله الجميع-. وفي الحديث فائدة: وهي أنه لا يوجد في السنة ما يسمى بسجود السهو "عن التحري" فهذه اللفظة وردت في حديث ابن مسعود حين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر خمسًا فقال - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم ثم يسلم ثم يسجد". ومعناه: فإن تبين له أنه زاد ركعة فما فوقهما كما حدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يتم صلاته ويسجد للسهو بعد السلام، ويدل على ذلك أمران: الأول: حديث المغيرة حيث قال: "إذا قام الإمام من الركعتين، فإن ¬

_ (¬1) "السنن" (1036). (¬2) "السنن" (1208). (¬3) "السنن" (1/ 387). (¬4) "المسند" (4/ 253). (¬5) "السنن الكبرى" (2/ 343). (¬6) "التلخيص" (2/ 8). (¬7) "السلسلة الصحيحة" (1/ 321).

ذكر قبل أن يستوي قائمًا فليجلس، وإن استوى قائمًا فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو ... ولا سهو عليه". ففي الحديت زيادة: وهي نهوضه ثم عوده، ومع ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولا سهو عليه". الثاني: أن هذا الفهم للفظة: "التحري" في حديث ابن مسعود، لم يعرف عن أحد من الصّحابة. فيكون سجود السّهو الوارد في السنة على أنحاء ثلاثة: 1 - إما أن يكون عن زيادة. 2 - أو يكون عن نقص. 3 - أو شك. 170 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وقال أحمد: يطرح الشك، إما بأخذ الأقل، وإما بالتحري، فإن اختار الأول سجد قبل السلام، وإن اختار الثاني سجد بعده". قال الفقير إلى عفو ربه: وبيان هذا على ما تقدم في النكتة السابقة. 171 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وذهب داود الظاهري وابن حزم وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا قضاء على العامد غير المعذور، بل قد باء بإثم ما تركه من الصلاة، وإليه ذهب شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية". قال الفقير إلى عفو ربه: انظر النكتة (102) في المواقيت. ¬

_ (¬1) (1/ 355). (¬2) (1/ 356).

10 - باب صلاة الجمعة

172 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأقول: حكمه ما في الأحاديث الصحيحة: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فمن فعل ذلك؛ فقد عصم دمه وماله إلّا بحقه"، ومن لم يفعل فلا عصمة لدمه وماله؛ بل نحن مأمورون بقتاله، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , والمقاتلة تستلزم القتل، ثم التوبة مقبولة، فتارك الصلاة إن تاب وأناب؛ وجب علينا أن نُخَلّي سبيله: {نْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، فمن علمنا أنه ترك صلاة من الصلوات الخمس؛ وجب علينا أن نُؤْذِنَهُ بالتوبة، فإن فعل فذاك، وإن لم يفعل قتلناه؛ حُكْمَ الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا} ". قال الفقير إلى عفو ربه: والأظهر أنه إن امتنع وقتل فإنه يموت كافرًا. * * * 10 - باب صلاة الجمعة 173 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "قال في المسوى: "اتفقت الأمة على فرضية الجمعة، وأكثرهم على أنها من فروض الأعيان، واتفقوا على أنه لا جمعة في العوالي، وأنه يشترط لها الجماعة، وأن الوالي إن حضر فهو الإمام، ثم اختلفوا في الوالي، وشرط الموضع، والجماعة. قال الشّافعي: كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلًا أحرارًا مقيمين؛ تجب ¬

_ (¬1) (1/ 357). (¬2) (1/ 361).

عليهم الجمعة، ولا تنعقد إلا بأربعين رجلًا كذلك، والوالي ليس بشرط. وقال أبو حنيفة: لا جمع إلا في مصر جامع أو في فنائه، وتنعقد بأربعة، والوالي شرط. وقال مالك: إذا كان جماعةٌ في قرية، بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يُجَمع فيه؛ وجبت عليهم الجمعة. وفي "مختصر ابن الحاجب": لا تجزئ الأربعة ونحوها، ولا بدّ من قوم تتقرى بهم القرية، ولا يشترط السلطان على الأصح. قال في "العالمكيرية": القروي إذا دخل المصر، ونوى أن يخرج في يومه ذلك قبل دخول الوقت، أو بعد دخوله؛ لا جمعة عليه انتهى". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلامِ: "كل قوم كانوا مستوطنين، ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاءً ولا صيفًا، تقام فيه الجمعة، إذا كان مبنيًّا بما جرت به عادتهم: من مدر، أو خشب، أو قصب، أو جريد، أو سعف، أو غير ذلك؛ فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا وهذا مذهب جمهور العلماء، والإمام أحمد علّل سقوطها عن البادية لأنّهم ينتقلون" (¬1). وما قرره -رحمه الله- هو الذي أفتى به الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون: 1 - فقد روى عبد الرزاق (¬2) عن الثوري، عن زبيد، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن على، قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع". ¬

_ (¬1) "الأحكام" للعلَّامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 445). (¬2) "المصنف" (3/ 168).

2 - وروى ابن أبي شيبة (¬1) عن عباد بن العوام، عن عمر بن عامر، عن حماد، عن إبراهيم، عن حذيفة، قال: "ليس على أهل القرى جمعة، إنما الجمع على أهل الأمصار مثل المدائن". 3 - وروى أيضًا (¬2)، عن وكيع، عن جعفر بن برقان، قال: "كتب عمر بن عبد العزيز، إلى عدي بن عدي: أيّما أهل قرية ليسوا بأهل عمود ينتقلون، فأمر عليهم أميرًا يجمع بهم". 4 - وروى عبد الرزاق (¬3) عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: "أنه أمر أهل قبا، وأهل ذي الحليفة، وأهل القرى الصغار حوله أن لا تجمعوا وأن تشهدوا الجمعة بالمدينة". 174 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا الخطبة فهي سُنةٌ فقط". قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا خلاف ما جرى عليه عمل السلف وما أجمع عليه التابعون من أصحاب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1 - فقد روى ابن أبي شيبة (¬5): حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن محمد: "أن أميرًا بالبحرين اشتكى، فأمر رجلًا فصلى بالناس فلم يخطب فصلى أربعًا، قال محمد: فأصاب السنة". 2 - وروى أيضًا (¬6): حدثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، قال: "إذا لم يخطب الإمام صلى أربعًا". ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 439). (¬2) "المصنف" (1/ 440). (¬3) "المصنف" (3/ 169). (¬4) (1/ 363). (¬5) "المصنف" (1/ 455). (¬6) "المصنف" (1/ 455).

3 - وروى أيضًا (¬1): حدثنا عبد الأعلى عن يونس، عن الحسن قال: "الإمام إذا لم يخطب صلى أربعًا". 4 - وروى أيضًا (¬2): حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: أخبرنا إبراهيم بن نافع، قال: سمعت ابن طاوس يذكر ذلك عن أبي قال: "من خطب فليصل ركعتين، ومن لم يخطب فليصل أربعًا". 5 - وروى أيضًا (¬3): حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، قال: "كان يصلي أربعًا". 6 - وروى أيضًا (¬4): حدثنا وكيع عن سفيان عن الزبير بن عدي عن الضحاك قال: "يصلي أربعًا". 7 - وروى أيضًا (¬5): حدثنا عبد الأعلى عن برد، عن مكحول: "أنه انطلق حاجًّا فقدم تبوك في يوم الجمعة، فصلى إمامهم ركعتين ولم يخطب، فقال مكحول: قاتل الله هذا الذي نقص صلاة القوم ولم يخطب، وإنما قصرت صلاة الجمعة من أجل الخطبة". 8 - وروى عبد الرزاق (¬6) عن ابن جريج عن عطاء: "أنه كره لإمام قرية غير جامعة أن يخطب ثم يصلي أربعًا، قال: كان عطاء إذا لم يخطب الإمام يوم الجمعة صلى أربعًا". 9 - وروى البيهقي (¬7): حدثنا أبو حازم الحافظ: أنبأ أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أنبأ أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن الضبي: ثنا القاسم وهو ابن عبد الله بن مهدي أبو الطاهر بمصر: ثنا عمي -يعني: ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 456). (¬2) "المصنف" (1/ 456). (¬3) "المصنف" (1/ 456). (¬4) "المصنف" (1/ 456). (¬5) "المصنف" (1/ 456). (¬6) "المصنف" (3/ 171). (¬7) "السنن الكبرى" (3/ 196).

محمد بن مهدي-: ثنا يزيد -يعني ابن يونس بن يزيد الأيلي-، عن أبيه يونس، عن الزهري، قال: "بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمع بالمسلمين مصعب بن عمير، قال: وبلغنا أنه لا جمعة إلَّا بخطبة فمن لم يخطب صلى أربعًا". 175 - قال الْمُصَنف (¬1): "ولولا حديث طارق بن شهاب -المذكور قريبًا- من تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه في جماعة، ومن عدم إقامتها في زمنه - صلى الله عليه وسلم - في غير جماعة: لكان فعلها فرادى مجزئًا كغيرها من الصلوات. وأما ما يروى من: "أربعة إلى الولاة ... ": فهذا قد صرح أئمة الشأن بأنه ليس من كلام النبوة، ولا من كلام من كان في عصرها من الصحابة، حتى يحتاج إلى بيان معناه أو تأويله، وإنما هو من كلام الحسن البصري. ومن تأمل فيما وقع في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله -تعالى- عليهم في الأسبوع، وجَعَلَها شعارًا من شعائر الإسلام، وهي صلاة الجمعة؛ من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائغة، والاجتهادات الداحضة: قضى من ذلك العجب. فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وإن من فاتته لم تصح جمعته؛ وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرق متعددة يقوي بعضها بعضًا، ويشدّ بعضها من عضد بعض، أن: "من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة؛ فليضف إليها أُخرى، وقد تمت صلاته"، ولا يبلغه غير هذا الحديث من الأدلة. وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاث مع الإمام! وقائل يقول: بأربعة! وقائل يقول: بسبعة! ¬

_ (¬1) (1/ 363).

وقائل يقول: بتسعة! وقائل يقول: باثني عشر! وقائل يقول: بعشرين! وقائل يقول: بثلاثين! وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين! وقائل يقول: بخمسين! وقائل يقول: لا تنعقد إلا بسبعين! وقائل يقول: فيما بين ذلك! وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد! وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع! وحده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه كذا وكذا من آلاف! وآخر قال: أن يكون فيه جامع وحمّام! وآخر قال: أن يكون فيه كذا وكذا! وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم، فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه؛ لم تجب الجمعة ولم تشرع. ونحو هذه الأقوال، التي ليس عليها آثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله -تعالى- ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد يدل على ما ادَّعَوْه من كون هذه الأمور المذكورة شروطًا لصحة الجمعة أنْ فرضًا من فرائضها، أو ركنًا من أركانها". قال الفقير إلى عفو ربه: قال حافظ عصره الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله-: "هو حديث ساقط لا يحتج به لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن وهو ضعيف، قال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به ثم لو صح فليس حجة، ويقال:

اشتراط الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار تحكم بالرأي بلا دليل وإسقاط للجمعة عمن دون الأربعين، وقد ثبت وجوب الجمعة بعموم الآية والأحاديث والإجماع على كل أحد فمن أراد إخراج أحد عن وجوبها فعليه الدليل، واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها. واختلفوا في العدد المشترط لها، وذكر الأقوال، ثم قال: "ونص أحمد على أنها تنعقد بثلاثة، اثنان يستمعان وواحد يخطب، اختاره شيخ الإسلام"، وقال الشيخ سليمان: "وهذا القول أقوى وهو كما قال شرعًا ولغة وعرفًا لقوله: {فَاسْعَوْا} وهذا صيغة جمع، أقل الجمع ثلاثة، وفي الحديث: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم" فأمرهم بالإمامة وهو عام في إمامة الصلوات كلها الجمعة والجماعة، ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين، فالثلاثة جماعة تجب عليهم الجمعة، ولا دليل على إسقاطها عنهم، وإسقاطها عنهم تحكم بالرأي الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح" (¬1). 176 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "إلا في مشروعيّة الخطبتين قبلَها: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن في الجمعة خطبتين يجلس بينهما، وما صلى بأصحابه جمعة من الجمع إلا وخطب فيها. إنّما دعوى الوجوب إن كانت بمجرد فعله المستمر: فهذا لا يناسب ما تقرر في الأصول، ولا يوافق تصرفات الفحول، وسائر أهل المذهب المنقول، وأمّا الأمر بالسعي إلى ذكر الله: فغايته أن السعي واجب، وإذا كان هذا الأمر مجملًا فبيانه واجب، فما كان متضمنًا لبيان نفس السعي إلى الذكر: يكون واجبًا، فأين وجوب الخطبة؟ فإن قيل: إنّه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى؛ فيقال: ¬

_ (¬1) "الإحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 443). (¬2) (1/ 367).

ليس السعي لمجرد الخطبة، بل وإليها وإلى الصلاة، ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة فلا تتم هذه الأولوية". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "قلت: في هذا الكلام شيء من التناقض، والبعد عن الصواب لا بد من بيانة فأقول: ذكر في أول البحث: "أن الله أمر بالسعي إلى ذكر الله والخطبة هي من ذكر الله"، إذا لم تكن هي المرادة بالذكر. قلت: فإذا كان كذلك، فقد ثبت الأمر بها في كتاب الله، فأغنى ذلك عن وروده في السنّة، وثبوت الأمر بالسعي إليها يتضمن الأمر بها من باب أولى؛ لأن السعي وسيلة إليها فإذا وجبت الوسيلة، وجب المتوسل إليه بالأحرى. وهذا الدليل مما استدل به المصنف نفسه على وجوب صلاة العيدين، فقد صح أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالخروج إلى صلاة العيد، فقال المؤلف (): "والأمر بالخروج يستلزم الأمر بالصلاة لمن لا عذر له بفحوى الخطاب، لأن الخروج وسيلة إليها، ووجوب الوسيلة يستلزم وجوب المتوسل إليه". قلت: فلماذا لا يقال مثل هذا في الأمر بالسعي على ما بينا؛ وكأن المؤلف -رحمه الله- تنبه لهذا المعنى الذي أوردنا في كتابه "الروضة" ولذلك أورد هو على نفسه سؤالًا يشعر بذلك فقال (): "فإن قيل: إنه لما وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى، فيقال: ليس السّعي لمجرد الخطبة، بل إليها وإلى الصلاة، ومعظم ما وجب السعي لأجله هو الصلاة، فلا تتم هذه الأولوية". قلت: وهذا مع كونه مخالفًا لما مال إليه في أول المسألة من أن الخطبة هي المرادة بذكر الله، فإنه لا ينفي أنها مرادة به، ولو بدرجة دون درجة الصلاة، وعليه فالأمر بالسعي إلى الذكر لا يزال شاملًا للخطبة، وإذا كان الأمر كذلك فيرد ما ذكره أنه إذا وجب السعي إليها كانت واجبة بالأولى، ويضعف الجواب الذي ذكره -إن شاء الله تعالى- على أن هناك طريقة أخرى لإثبات وجوب الخطبة: وهي استحضار أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا

سيما الذي استمر عليه إذا كان صدر بيانًا لأمر قرآني أو نبوي، فهو دليل على وجوب هذا الفعل، وهذا النوع من الاستدلال مقرر في علم الأصول معروف عند العلماء الفحول، ومنهم المؤلف نفسه -رحمه الله تعالى-، فقد استدل بهذا الدليل ذاته على وجوب مسألة أُخرى تتعلق ببعض صفات الخطبة لا الخطبة نفسها! فقال بعد أن ذكر أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام ... إلخ ما يأتي في آخر المسألة التالية (57): "وظاهر محافظته على ما ذكر في الخطبة وجوب ذلك، لأن فعله - صلى الله عليه وسلم - بيان لما أجمل في آية الجمعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي". قلت: أفلا يدل هذا الدليل بعينه على وجوب الخطبة نفسها؟ بلى، بل هو به أولى وأحرى، كما لا يخفى على أولي النهي" (¬1). 177 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وهذا النزاع في نفس الوجوب، وأما في كون الخطبة شرطًا للصلاة؛ فعدم وجود دليل يدل عليه لا يخفى على عارف؛ فإن شأن الشرطية أن يؤثر عدمها في عدم المشروط، فهل من دليل يدل على أن عدم الخطبة يؤثر في عدم الصلاة؟ ". قال الفقير إلى عفو ربه: هذه أحد أكبر عيوب مذهب أهل الظّاهر، فإنّهم أرادوا نبذ التقليد فوقعوا في أمر أعظم منه: وهو إهدار أقوال الصحابة وفهمهم لهذا الدين الذين تلقوه من نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ولذلك تجد أئمة الإسلام الذين عنوا بتحقيق العلم كابن المنذر، وابن عبد البر، وابن تيمية، وابن القيم، وأمثالهم، قد وفقوا لما لم يوفق له أهل الرأي وأهل الطاهر، والله المستعان. ¬

_ (¬1) "الأجوبة النافعة" (52). (¬2) (1/ 368).

178 - قال المصنف (¬1): "وأما اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسول الله، أو قراءة شيء من القرآن: فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتّفقا مثل ذلك في خطبته - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم". قال الفقير إلى عفو ربه: دلت السنة الصحيحة على بطلان الخطبة التي ليس فيها حمد وثناء على الله وتشهد، وذلك فيما رواه الإمام أحمد (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، وقال: "حديث حسن صحيح غريب" -من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الخطبة التي ليس فيها شهادة- وفي رواية: تشهد- كاليد الجذماء". ومن المقطوع به في خطبه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يسبق الشهادة بالحمد والثناء على الله، ولذا أوجب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "حمد الله والثناء عليه والشهادتين والموعظة في الخطبة" (¬5). ودليل الموعظة ما رواه مسلم (¬6) من حديث جابر بن سمرة قال: "كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس" وفيه دليل أيضًا: أنهما خطبتان يفصل بينهما بجلوس. 179 - قال الْمصَنِّف (¬7): "ووقتها وقت الطهر: لكونها بدلًا عنه، وقد ورد ما يدلّ على أنها تجزئ قبل الزوال كما في حديث أنس: أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة، ثم يرجعون إلى القائلة يقيلون، وهو في "الصحيح". ¬

_ (¬1) "المسند" (1/ 368). (¬2) (2/ 302). (¬3) "السنن" (4841). (¬4) "السنن" (1106). (¬5) "الإحكام" (1/ 448). (¬6) (862). (¬7) (1/ 369).

ومثله من حديث سهل بن سعد في "الصحيحين". وثبت في "الصحيح" من حديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة، ثم يذهبون إلى جمالهم، فيُريحونها حين تزول الشمس. وهذا فيه التصريح بأنهم صفوها قبل زوال الشمس، وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل وهو الحق". قال الفقير إلى عفو ربه: وبه جاءت الآثار الثابتة عن الصحابة: 1 - عن عبد الله بن سيدان السلمي قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدنا مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدنا مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: زال النهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكره" رواه ابن أبي شيبة (¬1) وإسناده صحيح. 2 - عن عبد الله بن سلمة قال: "صلى بنا عبد الله الجمعة ضحى، وقال: "خشيت عليكم الحر" رواه ابن أبي شيبة (¬2) بإسناد صحيح. 3 - عن سعيد بن سويد قال: "صلى بنا معاوية الجمعة ضحى" رواه ابن أبي شيبة (¬3) بإسناد حسن. 4 - عن بلال العبسي: "أن عمار بن ياسر صلى بالناس الجمعة، والناس فريقان: بعضهم يقول: زالت الشمس، وبعضهم يقول: لم تزل"، ابن أبي شيبة (¬4) بإسناد صحيح. 180 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "أقول: وحاصل ما يستفاد من الأدلة: أنَّ الكلام منهي عنه حال ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 206). (¬2) "المصنف" (1/ 207). (¬3) "المصنف" (1/ 207). (¬4) (2/ 206). (¬5) (1/ 371).

الخطبة نهيًا عامًّا، وقد خصص هذا النهي بما يقع من الكلام في صلاة التحية، من قراءة وتسبيح وتشهد ودعاء، والأحاديث المخصصة لمثل ما ذكر صحيحة، فلا محيص لمن دخل المسجد حال الخطبة من صلاة ركعتي التحية، وإن أراد القيام بهذه السنة المؤكدة". قال الفقير إلى عفو ربه: بل هو لازم له، لا خيار له في ذلك لحديث سليك الغطفاني. 181 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "قال في "المسوى شرح الموطأ": "الأصح أن هذه الساعات ساعات لطيفة بعد الزوال، لا الساعات التي يدور عليها حساب الليل والنهار". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا خلاف الظاهر من الحديث. 182 - قال الْمصَنِّف (¬2): "ومن أدرك ركعة منها فقد أدركها: لحديث: "من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة؛ فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته". فهذا -وإن كان فيه مقال- غايته الإعلال بالإرسال، فقد ثبت رفعه من طريق جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة، فإنه روي عنه من ثلاث عشرة طريقًا، ومن ثلاث طرق، عن ابن عمر، وبعضها يؤيد بعضًا، فهي لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد أخرجه الحاكم من ثلاث طرق عن أبي هريرة، وقال فيها: "على شرط الشيخين" (¬3). قال الفقير إلى عفو ربه: وبه أفتى عدد من الصحابة: ¬

_ (¬1) (1/ 374). (¬2) (1/ 376). (¬3) (1/ 376).

1 - فقد روى عبد الرزاق (¬1)، عن معمر عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "إذا أدرك الرجل يوم الجمعة ركعة، صلَّى إليها أخرى، وإن وجدهم جلوسًا صلى أربعًا". 2 - وروى ابن أَبي شيبة (¬2)، قال: حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن أَنس، قال: "إن أَدركهم جلوسًا صلى أَربعًا". 3 - وروى عبد الرزاق (¬3)، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، قال: "من أدرك الركعة فقد أدرك الجمعة، ومن لم يدرك الركعة فليصل أربعًا". 183 - قال الْمصنف (¬4): "فالعجب من أن يؤثر على هذا كله قول عمر بن الخطاب". قال الفقير إلى عفو ربِّه: يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة (¬5) من طريق هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثت عن عمر بن الخطاب أنه قال: "إنما جعلت الخطبة مكان الركعتين، فإن لم يدرك الخطبة فليصل أربعًا". ورواه من طريق آخر (¬6) فقال: حدثنا وكيع، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن عمر بن الخطاب، قال: "كانت الجمعة أربعًا، فجعلت ركعتين من أجل الخطبة، فمن فاتته الخطبة فليصل أربعًا"، رواه أيضًا من هذا الطريق عبد الرزاق (¬7). ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 235). (¬2) "المصنف" (2/ 130). (¬3) "المصنف" (3/ 235). (¬4) "المصنف" (1/ 376). (¬5) "المصنف" (2/ 128). (¬6) "المصنف" (2/ 128). (¬7) (3/ 37).

وكلا الطريقين منقطع لا يثبت عن عمر - رضي الله عنه -، فالعجب من حَمْل المصنف على عمر - رضي الله عنه - ومن يعظمون أقوال الصحابة -رضوان الله عليهم-، فهو -رحمه الله- جانب الصواب من وجهين: الأول: وقوعه في التقليد المذموم حيث قلد غيره في نسبة هذا القول إلى عمر - رضي الله عنه -، وأنت كما ترى؛ فإنه لم يصح عنه. الثاني: أن الشوكاني -شيخَه- أخطأ في مسائل عديدة ولم نر شدّته عليه، كما هو حاله مع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله يغفر له. 184 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وهي في يوم العيد رخصة: لحديث زيد بن أرقم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العيد في يوم جمعة، ثم رخص في الجمعة، فقال: "من شاء أن يجمع فليجمع"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وصححه علي بن المديني. وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة؛ وإنا مجمعون"؛ وقد أُعل بالإرسال، وفي إسناده أيضًا بقية بن الوليد. وفي الباب أحاديث عن ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما. وظاهر أحاديث الترخيص يشمل من صلى العيد ومن لم يصل". قال الفقير إلى عفو ربه: لكن لا بدّ من صلاة الظهر إن لم يصل الجمعة عملًا بالأصل. ¬

_ (¬1) (1/ 378).

11 - باب: صلاة العيدين

185 - قال الْمصَنف (¬1): "وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ونحن مجمعون": فغاية ما فيه أنّه أخبرهم بأنه سيأخذ بالعزيمة، وأخْذه بها لا يدل على أن لا رخصة في حقه، وحق من تقوم بهم الجمعة؛ وقد تركها ابن الزبير في أيام خلافته -كما تقدم- ولم ينكر عليه الصحابة ذلك". قال الفقير إلى عفو ربه: تبين من قوله -رحمه الله-: "ولم ينكر عليه الصحابة ذلك أن هذا المنهج في تقرير المسائل والأحكام لا غنى للعالم المحقق عنه، خلافًا لما تقدم عن المصنف -رحمه الله- قبل أسطر!! * * * 11 - باب: صلاة العيدين 186 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ووقتها بعد ارتفاع الشمس قد رمح إلى الزوال: لما أخرجه أحمد بن الحسن البناء في كتاب "الأضاحي" من حديث جندب قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر، والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح"". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ: "وفي كتاب "الأضاحي" للحسن بن أحمد البنا من طريق: وكيع، عن المعلى بن هلال، عن الأسود بن قيس، عن جندب" (¬3). قال الحافظ في ترجمة المعلى بن هلال: "اتفق النقاد على تكذيبه" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) (1/ 378). (¬2) (1/ 386). (¬3) "التلخيص" (2/ 167). (¬4) "التقريب" (رقم: 6807).

12 - باب: صلاة الخوف

12 - باب: صلاة الخوف 187 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وقد روى أن عليًّا - رضي الله عنه - صلاها ليلة الهرير". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ: "قال البيهقي: ويذكر عن جعفر بن محمد عن أبيه: "أن عليًّا صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير"، وقال الشافعي: "وحفظ عن علي أنّه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، كما روى صالح بن خوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). والهرير: "هي حرب جرت بينه وبين الخوارج، وكان بعضهم يهرّ على بعض؛ فسميت بذلك، وقيل: هي ليلة صِفِّين بين علي، ومعاوية - رضي الله عنهما - (¬3) ". 188 - قال الْمصَنِّف (¬4): "واختلفت الرواية في حكاية فعله كما اختلفت الأقوال؛ والظَّاهر أن الكل جائز، وإن صلى لكلّ طائفة ثلاث ركعات فيكون له ست ركعات، وللقوم ثلاث ركعات، فهو: صواب، قياسًا على فعله في غيرها، وقد تقرر صحة إمامة المتنقل بالمفترض -كما سبق". قال الفقير إلى عفو ربه: لكن يشكل على هذا: ما أخرجه مالك (¬5)، عن نافع: "أنّ عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف؟ قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس، فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينه ¬

_ (¬1) (1/ 394). (¬2) "التلخيص" (2/ 157). (¬3) "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 181). (¬4) (1/ 394). (¬5) في "الموطأ" (1/ 126).

13 - باب صلاة السفر

وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة، استأخروا مكان الذين لم يصلوا، ولا يسلموا، ويتقدم الذين لم يصلوا، فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين فتقوم كل واحدة من الطائفتين فيصلون معه ركعة ركعة، بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين، فإن كان هو خوفًا أشدّ من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، أو ركبانًا مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها"، قال مالك: قال نافع: "لا أرى عبد الله بن عمر حدّثه إلا عن رسول الله". * * * 13 - باب صلاة السفر 189 - قال الْمُصنِّف (¬1): "أقول: الحق وجوب القصر". قال الفقير إلى عفو ربه: ظاهر عمل الصحابة -رضي الله عنهم- وصلاتهم خلف عثمان - رضي الله عنه - في عرفة أربعًا يدل على أنهم لم يفهموا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوجوب؛ وإنما الاستحباب المؤكد. قال ابن مسعود -لما قيل له في إتمام عثمان-: "يا ليت حظي منهما ركعتان متقبلتان؛ الخلاف شر" (¬2). فلو كان عثمان فعل أمرًا منكرًا لما أقره عليه الصحابة، قد قال - تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬3)، وإنما كانوا أشد الناس كراهة لمخالفة سنّة النّبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) (1/ 397). (¬2) متفق عليه (خ / 1084 - م / 695). (¬3) [آل عمران: 110].

190 - قال الْمُصنِّف (¬1): "وأما ما يروى عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في الصلاة ويتم، ويفطر ويصوم"، فلم يثبت كما صرّح به جماعة من الحفاظ". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن القيم -رحمه الله-: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "هو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم" (¬2). وقال الهيثمي: "رواه البزار، وفيه المغيرة بن زياد، واختلف في الاحتجاج به" (¬3). قال الذهبي: "قال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو أحمد الحاكمُ: ليس بالمتين عندهم، وقال أحمد: ضعيف الحديث، له مناكير" (¬4). وقال الحافظ: "رواه الدارقطني ورواته ثقات، إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها" (¬5). 191 - قال الْمُصَنف (¬6): "وكذلك ما روي عنها: أنها فعلت ذلك ولم ينكر عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة بما تسقط به حجيته". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلّي بخلاف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسائر أصحابه، وهي تشاهدهم يقصرون، ثم تتم هي وحدها بلا موجب كيف؟! وهي القائلة: "فُرضت الصلاة ركعتين ¬

_ (¬1) (1/ 397). (¬2) "زاد المعاد" (1/ 447). (¬3) "مجمع الزوائد" (2/ 157). (¬4) "الميزان" (4/ 160). (¬5) "البلوغ" (398). (¬6) (1/ 397).

ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر"؛ فكيف يُظَن أنها تزيد على ما فرض الله وتُخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟! " (¬1). 192 - قال الْمصَنِّف (¬2): "فالحاصل: أن الواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعًا أو لغة أو عرفًا لأهل الشرع، فما كان ضربًا في الأرض يصدق عليه أنه سفر، وجب فيه القصر". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: "وتحديد السفر بالمسافة لا أصل له؛ في شرع، ولا لغة، ولا عُرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، والاعتبار بما هو سفر، فمن سافر ما يسمى سفرًا قصر وإلا فلا، وأدنى ما يُسمى سفرًا في كلام الشارع البريد، وكان يأتي قباء راكبًا وفي رواية أخرى ماشيًا، ويأتي إليه أصحابه، ولم يقصر هو ولا هم، ويأتون إلى الجمعة من نحو ميل وفرسخ، والنداء يسمع من نحو فرسخ، واختار جواز القصر للحشاش والحطاب، ونحوهما فيما يطلق عليه اسم السفر" (¬3). وقال أيضًا: "الّذين جعلوا المسافة الواحدة حدًّا يشترك فيه جميع الناس؛ مخالفون كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالرجل يخرج من القرية إلى صحراء الحطب؛ يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة، فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه؛ فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا؛ فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني، فالمسافة قريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا، فالسفر يكون بالعمل الذي يسمى سفرًا لأجله، والعمل لا يكون إلا في ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (1/ 453). (¬2) (1/ 402). (¬3) "الإحكام شرح أصول الأحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 409).

زمان، فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر، سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة" (¬1). 193 - قال الْمُصَنِّف: "وأما ما رواه سعيد بن منصور: "أنه كان - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة"" (¬2). قال الفقير إلى عفو ربه: في إسناده أبو هارون العبدي، واسمه: عمارة بن جوين؛ قال الذهبي: "كذبه حماد بن زيد، وقال شعبة: لئن أقدم فتضرب عنقي أحب إليَّ من أن أحدث عن أبي هارون، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال ابن معين: ضعيف؛ لا يصدق في حديثه، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: متلون خارجي وشيعي؛ فيعتبر بما روى عنه الثوري، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه" (¬3) وهذا الحديث من "مسند" أبي سعيد الخدري. 194 - قال الْمصَنِّف (¬4): "وإذا عزم على إقامة أربع أتم بعدها: وجهه ما عرَّفناك من أن المقيم لا يعامل معاملة المسافر؛ إلا على الحد الذي ثبت عن الشارع، ويجب الاقتصار عليه، وقد ثبت عنه مع التردد ما قدّمنا ذكره. وأما مع عدم التردد، بل العزم على إقامة أيام معينة: فالواجب الاقتصار على ما اقتصر عليه - صلى الله عليه وسلم - مع عزمه على الإقامة في أيام الحج؛ فإنه ثبت في "الصحيحين": أنه قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 410). (¬2) (1/ 402). (¬3) "الميزان" (3/ 173). (¬4) (1/ 405 - 406).

إلى منى، فلما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة مع كونه لا يفعل ذلك إلا عازمًا على الإقامة إلى أن يعمل أعمال الحج: كان ذلك دليلًا على أنّ العازم على إقامة مدة معينة؛ يقصر إلى تمام أربعة أيام، ثم يتم، وليس ذلك لأجل كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أقام زيادة على الأربع لأتم؛ فإنا لا نعلم ذلك ولكن وجهه ما قدمنا من أن المقيم العازم على إقامة مدة معينة لا يقصر إلا بإذن، كما ان المتردد كذلك، ولم يأت الإذن بزيادة على ذلك، ولا ثبت عن الشارع غيره. فال الشافعي: لو نوى إقامة أربعة أيام بموضع؛ انقطع سفره بوصوله. قال في "المنهاج": ولا يُحْسَبُ منها يومًا دخوله وخروجه على الصحيح. وقال أبو حنيفة: لا يزال على حكم السفر، حتى ينوي الإقامة في بلدة أو قرية خمسة عشر يومًا. وقول أكثر أهل العلم: إنه يقصر أبدًا ما لم يُجمع إقامة. واختلف أصحاب الشافعي في حكاية مذهبه. وحكاية البغوي: أنه إذا لم يجمع الإقامة، فزاد مُكثه على أربعة أيام وهو عازم على الخروج أتم؛ إلا أن يكون في خوف أو حرب فيقْصُر. وقد قصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بحرب هُوازِن تسعة عشر أو ثمانية عشر يومًا. وله قول آخر موافق للجمهور. قال الماتن: "واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب؛ هي من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان، وقد اضطربت فيها المذاهب اضطرابًا شديدًا، وتباينت فيها الأنظار تباينًا زائدًا". قال الفقير إلى عفو ربه: هذه المسألة كالمسألة السابقة؛ في أنه لم يرد من الشارع تحديد لمدة الإقامة التي تخرج عن حد السفر.

14 - باب: صلاة الكسوفين

فالصحابة أقوالهم فيها مختلفة، فالعجب من المصنف -رحمه الله-: كيف فطن لهذا في تلك، ولم يفطن في هذه! وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ فالباب عنده واحد في كلا المسألتين. وملخص القول في هذه المسألة: أن المسافر لا يخلو من أحوال: الأولى: أن يكون سائرًا في الطريق؛ فهذا يقصر بالاتفاق. الثانية: أن يصل إلى المدينة؛ وهو لا يجمع الإقامة التي تخرجه عن حد السفر، كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا يقصر من غير تحديد. الثالثة: أن يصل إلى بلد غير بلده، ويعزم على البقاء فترة تخرجه عن حدّ السفر -عرفًا- فهذا يتم ولا يقصر، والله أعلم. 14 - باب: صلاة الكسوفين 195 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وهي صلاة الآيات وهي سنَّة. قال الماتن في "شرحه": أي: لعدم ورود ما يفيد الوجوب، ومجرد الفعل لا يفيد زيادة على كون المفعول مسنونًا، انتهى. وزاد في "السيل الجرار": "اعلم أنه قد اجتمع هاهنا في صلاة الكُسوف الفعل والقول، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آياتِ اللهِ، وإنهما لا يكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموهما كذلك؛ فافزعوا إلى المساجد"، وفي رواية: "فصلوا وادعوا"، والظاهر الوجوب؛ فإن صح ما قيل من وقوع الإجماع على عدم الوجوب؛ كان صارفًا وإلا فلا "انتهى". ¬

_ (¬1) (1/ 410).

قال الفقير إلى عفو ربه: والأظهر: هو القول بالوجوب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيتم ذلك "فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة". متفق عليه (¬1). وفي رواية لمسلم (¬2): "فصلوا وادعوا الله، حتى يكشف ما بكم". ولما كسفت الشمس خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مسرعًا فزعًا يجرّ رداءَه، وأخبر أنّ كسوفها سبب لنزول عذاب للناس، وأمر بما يزيل الخوف، فأمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق. وثبت في "الصحيح" (¬3): "أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مناديًا ينادي: "الصلاة جامعة". وروى ابن أبي شيبة (¬4)، قال: حدثنا وكيع: ثنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله، قال: "رأيت ابن عمر يهرول إلى المسجد في كسوف الشّمس، ومعه نعلاه". 196 - قال الْمصَنِّف (¬5): "يقرأ بين كل ركوعين وورد في كل كل ركعة ركوع: فقط في "صحيح مسلم" من حديث سموة". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "ليس لسمرة حديث في مسلم، وكأَن الشوكاني سها فتبعه عليه المؤلف، فإن هذا الخطأ وقع في "الدراري المضية" للشوكاني (¬6)، وكأَنه أراد أن يقول: ابن سمرة -وهو عبد الرحمن-، فسها وقال: "سمرة". ¬

_ (¬1) البخاري (1047)، مسلم (901). (¬2) (911). (¬3) البخاري (1045)، مسلم (901). (¬4) "المصنف" (2/ 470). (¬5) (1/ 412). (¬6) (1/ 214).

وحديث عبد الرحمن هذا في "مسلم" (¬1) بلفظ: "فقرأ سورتين، وركع ركعتين"، وهذا اللّفظ ليس صريحًا فيما ذكره المؤلف، فقد تأوّله البيهقي وغيره بأن مراده بذلك في كل ركعة (¬2) وبعد كتابة ما تقدم، رأيت الشوكاني قد وقع في هذا الخطأ في كتابه، "نيل الأوطار" (¬3) -أيضًا-، وصرح فيه (¬4) بأن في الحديث الجملة التي نقلتها عن مسلم آنفًا" (¬5). 197 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وقد أورد على هذه الروايات المنسوبة إلى فعله - صلى الله عليه وسلم - إشكال هو: أنّه لم يصلها - صلى الله عليه وسلم - غير مرة واحدة فكيف تشعبت الروايات إلى هذه الصفات؟ وقد أُجيب عن ذلك بأجوبة ذكرها الماتن -رحمه الله-". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: قد ورد في صلاة الكسوف أنواع؛ ولكن الذي استفاض عن أهل العلم بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ما رواه البخاري ومسلم من غير وجه -وهو الّذي استحبه أكثر أهل العلم- كمالك، والشافعي، وأحمد-: "أنه صلى بهم ركعتين، في كل ركعة ركوعان"، وقال البخاري وغيره من أهل العلم بالحديث: لا مساغ لحمل هذه الأحاديث -يعني: "في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس- على بيان الجواز إلا إذا تعددت الواقعة، وهي لم تتعدد، لأن مرجعها كلها إلى صلاته - صلى الله عليه وسلم - في كسوف الشمس يوم مات ابنه إبراهيم، وحينئذٍ يجب ترجيح أخبار الركوعين فقط؛ لأنّها أصح وأشهر" (¬7). ¬

_ (¬1) (910). (¬2) انظر (25) من رسالتنا في "الكسوف". (¬3) (3/ 281). (¬4) (3/ 281). (¬5) "التعليقات الرضية" (1/ 412). (¬6) (1/ 414). (¬7) "الإحكام" للعلَّامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 499).

15 - باب: صلاة الاستسقاء

وقال أيضًا: "ما زاد عن ركوعين في ركعة غلط، وإنما صلى - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة" (¬1). 198 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "والقيام بهذه السُّنّة جماعة أفضل، وليست الجماعة شرطًا فيها؛ لما في الأحاديث الصحيحة بلفظ: "فصلوا"، ولما في حديث قَبيصة الهلالي يرفعه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوها كأحدت صلاة صليتموها من المكتوبة"؛ أخرجه أحمد، والنسائي". قال الفقير إلى عفو ربه: نقل -رحمه الله- قبل ورقتين عن "الحجة البالغة" قوله: "قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها جماعة، وأمر أن ينادي بها: "أن الصّلاة جامعة" وجهر بالقراءة"؛ فتنتبه. * * * 15 - باب: صلاة الاستسقاء 199 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وروى سعيد بن منصور في "سننه": "أن عمر استسقى، فلم يزد على الاستغفار". قال الفقير إلى عفو ربه: لم أجده. 200 - قال الْمُصنف (¬4): "وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب قبل الصلاة وخطب بعدها - فالكل سنة". ¬

_ (¬1) "الأحكام" (1/ 500). (¬2) (1/ 414). (¬3) (1/ 416). (¬4) (1/ 417).

قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ: "يمكن الجمع بين الروايات في ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - بدء بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء، وعبّر بعضهم عن الدعاء بالخطبة؛ فلذلك وقع الاختلاف" (¬1). والأظهر: أنها خطبة واحدة؛ لما رواه أهل السنن -وصححه الترمذي- عن ابن عباس، قال: "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد؛ لم يخطب خطبتكم هذه". * * * ¬

_ (¬1) "الفتح" (2/ 580).

الجنائز

الجنائز 1 - أحكام المحتضر 201 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وتوجيهه: إلى القبلة لحديث عبيد بن عمير عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال -وقد سأَله رجل عن الكبائر؟ - فقال: "هُن تِسع: الشرك، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام: قبلتكم أحياءً وأمواتًا"؛ أخرجه أبو داود، والنسائي، والحاكم". قال الفقير إلى عفو ربه: وهو حديث حسن. 202 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وقد استدل بهذا على مشروعية توجيه المريض إلى القبلة ليموت إليها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قبلتكم أحياءَ وأمواتًا"، وفيه نظر؛ لأن المراد بقوله: "أحياءً" عند الصلاة، وبقوله: "أمواتًا" في اللّحد، والمحتضر حيٌّ غير ¬

_ (¬1) (1/ 422). (¬2) (1/ 423).

مصل، فلا يتناوله الحديث، وإلا لزم وجوب التوجه إلى القبلة على كل حي، وعدم اختصاصه بحال الصلاة! وهذا خلاف الإجماع". قال الفقير إلى عفو ربه: روى ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا وكيع، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: "كانوا يستحبون أنه يوجه الميت إلى القِبلة إذا حضر". وقال: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن أشعث، عن الحسن، قال: "كان يُحَبُّ أن يستقبل بالميت القبلة إذا كان في الموت". وقال: حدثنا عمرو بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: "كان يستحب أن يوجه الميت عند نزعه إلى القبلة؛ قال: نعم". 203 - قال الْمصَنِّف (¬2): "والأولى الاستدلال بما رواه الحاكم والبيهقي، عن أبي قتادة: أن البراء بن معزوز أوصى أن يوجَّه إلى القبلة إذا احتضر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصاب الفطرة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهو حديث ضعيف؛ ففي إسناده نعيم بن حماد، وهو ضعيف، وأما قول الحاكم (¬3): "هذا حديث صحيح؛ فقد احتج البخاري بنعيم بن حماد"؛ فقول غير صحيح، وإنما أخرج البخاري له مقرونًا بغيره؛ كما قال الذهبي (¬4). وقد أخرج هذا الحديث -أيضًا- ابن سعد (¬5) وفيه الواقدي، وهو متروك. ¬

_ (¬1) "المصنف" (2/ 447). (¬2) (1/ 423). (¬3) (1/ 505). (¬4) في "الميزان" (7/ 41). (¬5) في "الطبقات" (3/ 147).

204 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ومن ذلك فعل البتول - رضي الله عنها - ". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح، في إسناده ابن إسحاق، وعلي بن عاصم، وقد سبق جرحهما. وقد رواه نوح بن يزيد، عن إبراهيم بن سعد بهذا الإسناد، ورواه الحكم بن أسلم، عن إبراهيم أيضًا، ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أن فاطمة اغتسلت؛ هكذا ذكره مرسلًا، ونوح والحكم كلاهما مجروح، وابن عقيل ضعيف وحديثه مرسل، والتخليط فيه من بعض الرواة، وكيف يكون صحيحًا والغسل إنّما شرع لحدث الموت وكيف يقع قبله؟ وحاشى علي وفاطمة أن يخفى عليهما مثل هذا" (¬2). قال ابن عبد الهادي: "هذا الحديث منكر جدًّا؛ أنكره الإمام أحمد وغيره، وإن كان قد رواه في "مسنده" عن أبي النضر، عن إبراهيم بن سعد، قال حنبل: وسمعت أبا عبد الله أنكر حديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق أن فاطمة غسلت نفسها وكفّنتها" (¬3). 205 - قال الْمصَنِّف (¬4): "وقراءة يس عليه: لحديث: "اقرأوا على موتاكم {يس (1)} "؛ أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان -وصححه- من حديث معقل بن يسار مرفوعًا؛ وقد أعل". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ: "وأعله ابن القطان بالاضطراب وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبو بكر بن العربي عن ¬

_ (¬1) (1/ 424). (¬2) "التحقيق" (2/ 6). (¬3) "تنقيح التحقيق" (2/ 126). [وانظر -إن شئت- للاستزادة "قصص لا تثبت" (ج 3 / ص 43 - وما بعدها)]. (¬4) (1/ 425).

الدارقطني أنه قال: "هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصح في الباب حديث" (¬1). وقال: "هذا حديث غريب" (¬2). وقال النووي: "إسناده ضعيف، فيه مجهولان، لكن لم يضغفه أبو داود" (¬3). 206 - قال الْمُصَنف (¬4): "والمبادرة بتجهيزه إلا لتجويز حياته: لما أخرجه أبو داود من حديث الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقال: "إني لا أرى طلحة إلا قد حدث به الموت، فآذنوني به وأعجلوا؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" (¬5) ". قال الفقير إلى عفو ربه: وهو ضعيف؛ لجهالة عروة -ويقال: عزرة بن سعيد-؛ كما قال ابن حجر في "التقريب". 207 - قال الْمُصَنف (¬6): "وأخرج أحمد والترمذي من حديث علي مرفوعًا بلفظ: "ثلاث لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفأ". قال الفقير إلى عفو ربه: في إسناده سعيد بن عبد الله الجهني، وثقه العجلي وابن حبَّان، وقال الحافظ في "التقريب": "مقبول" ولم يعرف بجرح؛ لذا قال الترمذي: "حديث غريب"، ولم أجد أحدًا من الأئفة المتقدّمين غير الترمذي نص على تضعيف الحديث. ¬

_ (¬1) "التلخيص" (2/ 212). (¬2) "الفتوحات الربانية" (4/ 118). (¬3) "الأذكار" (132). (¬4) (1/ 425). (¬5) (1/ 425). (¬6) (1/ 426).

208 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وعن ابن عباس، عن أبي داود،، وابن ماجه قال: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أُحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم؛ وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي، وقد تكلم فيه جماعة، وفيه أيضًا عطاء بن السَّائب؛ وفيه مقال" (¬2). قال الفقير إلى عفو ربه: ففي إسناده عطاء بن السائب؛ قال الحافظ: "صدوق اختلط" (¬3). وعلي بن عاصم بن صهيب الواسطي؛ قال الحافظ: "صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع" (¬4). 209 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "ولا بأس بالزيادة مع التمكن من غير مغالاة: لما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في كفن ابنته فإنه كان يناول النساء ثوبًا ثوبًا؛ وهو عند الباب، فناولهن الحَقْو، ثم الدرع، ثم الخمار ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر؛ أخرجه أحمد، وأبو داود من حديث ليلى بنت قائف الثقفية". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهو لا يصح. 210 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وأخرج أبو داود من حديث علي: "لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سريعًا". ¬

_ (¬1) (1/ 433). (¬2) "التقريب" (4592). (¬3) "التقريب" (4758). (¬4) بل هو ضعيف؛ ضعفه البخاري وابن معين وأبو زرعة والنسائي وغيرهم. وقال ابن المديني: كان كثير الغلط، وكان إذا غلط فرُد عليه لم يرجع. (¬5) (1/ 435). (¬6) (1/ 435).

قال الفقير إلى عفو ربه: إسناده ضعيف، فيه عمرو بن هشام -أبو مالك الجنبي-، قال الحافظ: "لين الحديث؛ أفرط فيه ابن حبان". 211 - قال الْمصَنِّف (¬1): "والحاصل: أنه لا ريب في مشروعية الكفن للميت، ولا شكّ في عدم وجوب زيادة على الواحد ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - كون الكفن على صفة من الصفات، أو عدد من الأعداد؛ إلا ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - في تكفين ابنته أم كلثوم. وهذا الحديث- "لا تُغالوا في الكفن" -وإن كان فيه مقال- لكنه لا يَخْرُجُ به عن حد الاعتبار. فغاية ما يقال: إنّه يستحب أن يكون كفن المرأة على هذه الصفة". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "فيه: أن الاستحباب حكم شرعي، وهو لا يثبت بمثل هذا الحديث الضعيف؛ فتأمّل؛ لا سيما وهو بظاهره أقرب إلى المغالاة منه إلى العدل" (¬2). 212 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ورحم الله أبا بكر الصّديق حيث قال: "إنّ الحي أحق بالجديد". لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: "إن هذا خلق". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني: "أخرجه البيهقي (¬4)، عن عائشة: "لما اشتد مرض أبي بكر بكيت ... فأفاق .... ثم قال: أي يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: ¬

_ (¬1) (1/ 436). (¬2) "التعليقات الرضية" (1/ 436). (¬3) (1/ 436). (¬4) (3/ 399).

فقلت: يوم الاثنين، فقال: فأي يوم هذا؟ قلت: يوم الاثنين .... قالت: وقال: في كم كفنتم رسول الله؟ قال -كذا-: كنا كفناه في ثلاثة أثواب سحولية بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وبه درع زعفران أو مشق، واجعلوا معه ثوبين جديدين، فقالت عائشة: فقلت: إنه خَلَق! فقال لها: الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو للمهلة". وإسناده صحيح" (¬1). 213 - قال الْمصنف (¬2): "إلا أن يصح ما رواه ابن عبد البر في "الاستذكار" من طريق أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر على الجنائز أربعًا وخمسًا وسبعًا، وثمانيًا، حتى جاء موت النجاشي، فخرج فكبر أربعًا، ثم ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أربع حتى توفاه الله". قال الفقير إلى عفو ربه: وهو مرسل ضعيف، قال ابن عبد البر: "وقد قال الحافظ: لا يثبت حديث في هذا الباب -أعني: نسخ الزيادة على الأربع- (¬3) ". 214 - قال الْمصَنِّف (¬4): "ولا يصلي على الغال: لامتناعه - صلى الله عليه وسلم - في غزاة خيبر من الصلاة على الغال، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "في "المسند" (¬5)، وهو في "السنن" في الجهاد، إلا "النسائي"؛ ففي الجنائز (¬6)، ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 436). (¬2) (1/ 442). (¬3) "الاستذكار" (8/ 239). (¬4) (1/ 447). (¬5) (4/ 114) و (5/ 192). (¬6) (1/ 278).

ومالك أيضًا في الجهاد (¬1) بإسناد صحيح: "أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلوا علي صاحبكم"، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله"، فَفَتَشنا متاعه، فوجدنا خرزًا من خرز اليهود لا يساوي درهمين"، قلت: وإذا كان هذا لفظ الحديث، وفيه أمره - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالصلاة على الغال , فالاستدلال به حينئذٍ على ترك الصلاة ليس بالصواب، بل الحديث يدل على عكس ما ذهب إليه المصنف -رحمه الله- فالحق: قوله في "نيل الأوطار" (¬2) تحت هذا الحديث: "فيه جواز الصلاة على العصاة، وأما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه؛ فلعلّه للزجر عن الغلول، كما امتنع من الصلاة على المديون، وأمرهم بالصلاة عليه" (¬3) ". 215 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وقاتل نفسه: لحديث جابر بن سمرة عند مسلم، وأهل السنن: "أن رجلًا قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -". قال الفقير إلى عفو ربه: روى عبد الرزاق (¬5)، عن الثوري، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: "لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة". وروى ابن جريج، عن عطاء: "قال سألت عطاء -وفيه قال-: "لا أدع الصلاة على من قال: لا إله إلا الله"، قال: قلت: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}؟ قال: فمن يعلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم؟! "قال ابن جريج: وسألت عمرو بن دينار؟ فقال مثل قول عطاء". ¬

_ (¬1) (2/ 14). (¬2) (4/ 40). (¬3) "التعليقات الرضية" (1/ 447). (¬4) (1/ 448). (¬5) "المصنف" (3/ 534).

قلت: والمعروف عند أهل التحقيق: إن ترك أئمة الدين الصّلاة عليه زجرًا فهو أولى؛ جمعًا بين النص وآثار السلف وإلا فيصلى عليه. 216 - قال الْمُصَنف (¬1): "والشهيد: وقد اختلفت الروايات في ذلك، وقد ثبت في "صحيح البخاري" من حديث جابر: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على شهداء أحد. وأخرجه أيضًا أهل "السنن". وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم من حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل عليهم. أقول: لا يشُك من له أدنى إلمام بفن الحديث؛ أن أحاديث التَّرْك أصح إسنادًا وأقوى متنًا، حتى قال بعض الأئمة: إنه كان ينبغي لمن عارض أحاديث النَّفي بأحاديث الإثبات أن يستحي على نفسه، لكن الجهة الّتي جعلها المجوِّزون وجه ترجيح وهي الإثبات؛ لا يريب أنَّها من المرجحات الأصولية؛ إنما الشأن في صلاحية أحاديث الإثبات لمعارضة أحاديث النفي؛ لأن الترجيح فرع المعارضة. والحاصل: أن أحاديث الإثبات مروية من طرقٍ متعددة؛ لكنها جميعًا متكلم عليها. وقد أطال الماتن الكلام على هذا في "شرح المنتقى"، وسرد الروايات المختلفة واختلاف أهل العلم في ذلك؛ فليرجع إليه؛ فإن هذا المقام من المعارك". قال الفقير إلى عفو ربه: جاء في الإثبات أحاديث منها: 1 - حديث أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة"، رواه أبو داود (¬2). ¬

_ (¬1) (1/ 448). (¬2) "السنن" (3137).

2 - وحديث أبي مالك الغفاري قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد". 3 - وحديث ابن عباس عند ابن ماجه (¬1)، والبيهقي (¬2): "أنه صلى عليهم". 4 - وروى عبد الرزاق (¬3)، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: "كان عمر خير الشهداء، فغسل وصلي عليه وكُفِّن؛ لأنه عاش بعد طعنه". 5 - وروى عبد الرزاق (¬4)، عن ابن جريج، قال: سألنا سليمان بن موسى: كيف الصلاة على الشهيد عندهم؛ فقال: كهيئتها على غيره، قال: وسألناه عن دفن الشهيد؟ فقال: أما إذا كان في المعركة؛ فإنا ندفنه كما هو ولا نغسله، ولا نكفنه، ولا نحنطه، وأما إذا انقلبنا به وبه رمق؛ فإنا نغسله، ونكفنه، ونحنطه، وجدنا الناس على ذلك وكان عليه من مضى قبلنا من الناس". 6 - وروى عبد الرزاق (¬5)، عن الثوري، عن الزبير بن عدي، عن عطاء بن أبي رباح، قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى بدر". قال ابن القيم: "والذي يظهر من أمر شهداء أُحد: أنه لم يصل عليهم عند الدفن، وقد قتل معه بأُحد سبعون نفسًا، فلا يجوز أن تخفى الصلاة عليهم" (¬6). ¬

_ (¬1) "السنن" (1513). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 13). (¬3) "المصنف" (3/ 544). (¬4) "المصنف" (3/ 544). (¬5) "المصنف" (3/ 542). (¬6) "تهذيب السنن" (4/ 295).

أما الأحاديث المرفوعة: 1 - فحديث أنس؛ قال الترمذي عنه: "حديث أنس حديث حسن غريب؛ لا نعرفه من حديث أنس إلا من هذا الوجه، وقد خولف أسامة بن زيد في رواية هذا الحديث؛ فرى الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله بن زيد، وروى معمر عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة، عن جابر، ولا نعلم أحدًا ذكره عن الزهري عن أنس إلا أسامة بن زيد، وسألت محمدًا عن هذا الحديث؛ فقال: حديث الليث عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر أصح" (¬1). وهكذا قال الدارقطني: "تفرد به أسامة بن زيد عن الزهري، عن أنس بهذه الألفاظ، ورواه عثمان بن عمر، عن أسامة عن الزهري، عن أنس، وزاد فيه حرفًا فلم يأت به غيره فقال: "ولم يصل على أحد من الشهداء غيره" (¬2). 2 - وأما حديث أبي مالك؛ فهو مرسل، قال البيهقي: "هو أَصح ما في الباب". 3 - وأما حديث ابن عباس؛ ففي إسناده أبو بكر بن عياش ويزيد بن أبي زياد، وهما ضعيفان. وأما متابعة ابن إسحاق لهما فلا يعتضد بها؛ فإن في الإسناد رجلًا مجهولًا وقد رواه ابن إسحاق بالعنعنة. وممن ذهب من السلف إلى أنه يصلي عليهم: الحسن البصري وسعيد بن المسيب. قال ابن القيم: "والصواب في المسألة: أنه مخير بين الصلاة عليهم ¬

_ (¬1) "السنن" (1016). (¬2) (4/ 116).

وتركها، لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد؛ وهي الأليق بأصوله ومذهبه" (¬1). 217 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ويصلي على القبر وعلى الغائب". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: "الصواب: أن الغائب إذا مات ببلد لم يصل عليه فيه؛ صُلي عليه صلاة الغائب، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي؛ لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه، وإن صلى عليه حيث مات، ولم يصل عليه صلاة الغائب، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب وتركه، وفعله وتركه سُنة، وهذا له موضع، وهذا له موضع، والله أعلم" (¬3). وعمدة الذين ذهبوا إلى جواز الصلاة عليه: قول الإمام أحمد: "إذا مات رجل صالح صلى عليه، واحتج بقصة النجاشي" (¬4). فالإمام أحمد -رحمه الله- لحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي لصلاحه؛ لا لأنه لم يصل عليه، وهذه إحدى الروايات عنه. قال ابن حزم: "لم يأت عن أحد من الصحابة منعه" (¬5). قلت: ولم يأت عنهم ما يدل على الفعل مما يرجح أن ذلك كان خاصًّا بالنجاشي. قال ابن رشد: "والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي -وحده-" (¬6). ¬

_ (¬1) "تهذيب السنن" (4/ 295). (¬2) (1/ 449). (¬3) "زاد المعاد" (1/ 519). (¬4) "الاختيارات الفقهية" لابن تيمية (87). (¬5) "الفتح" (3/ 224). (¬6) "بداية المجتهد" (1/ 176).

218 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وأما المانعون من الصلاة على القبر مطلقًا: فأشفُّ ما استدلوا به؛ ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث السواد المذكور، أنه قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم". قالوا: فهذا يدل على اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وتُعُقِّبَ بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على من صلى معه على القبور، ولو كان خاصًّا به لأنكر عليهم. وأجيب عن هذا التعقب، بأن الذي يقع بالتبعية لا يصلح للاستدلال به على الفعل أصالة". قال الفقير إلى عفو ربه: وعمل الصحابة -رضوان الله عليهم- يدل على أنهم لم يفهموا أن ذلك خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإنّما له ولأمته: 1 - قال عبد الرزاق (¬2): عن معمر، عن أيوب، عن نافع: "أن ابن عمر قدم بعدما توفي عاصم أخوه فسأل عنه؛ فقال: أين قبر أخي؟ فدلوه عليه، فأتاه فدعا له"، وفي رواية: "بعد ثلاثة أيّام". 2 - قال عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة، قال: "توفي عبد الرحمن بن أبي بكر على ستة أميال من مكة، فحملناه حتى جئنا به إلى مكة فدفنّاه، فقدمت علينا عائشة بعد ذلك؛ فعابت ذلك علينا، ثم قالت: أين قبر أخي؟ فدللتها عليه فوضعت في هودجها عند قبره، فصلت عليه". 3 - قال ابن عبد البر (¬4): "قال الأثرم: حدثنا أحمد: ثنا ابن مهدي، عن حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك: "أنه أتى جنازة وقد صلي عليها، فصلى عليها". ¬

_ (¬1) (1/ 450). (¬2) (3/ 519). (¬3) (3/ 518). (¬4) (6/ 274).

219 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وأحسن ما يجاب به عن هذه الزيادة، بأنها مدرجة في هذا الحديث، كما بين ذلك جماعة من أصحاب حماد بن زيد". على أنه يمكن الجواب بأنَّ كون الله ينور القبور بصلاة رسوله (عليها لا ينفي مشروعيّة الصلاة من غيره تأسيًا به، لا سيما بعد قوله: ("صلّوا كما رأيتموني أصلي". قال الفقير إلى عفو ربه: والأمر كما قال (¬2). 220 - قال الْمصَنِّف (¬3): "وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ المستحبَ التوسط لحديث أبي موسى قال: "مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالقصد" أخرجه أحمد وابن ماجه، والبيهقي؛ وفي إسناده ضعف". قال الفقير إلى عفو ربه: قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف، رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة به، وعن زائدة عن ليث وزاد: "تمخّض تمخض الزق " الحديث وليث بن أبي سليم: تركه يحيى القطان، وابن معين، وابن مهدي، وغيرهم، ومع ضعفه فقد ورد في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة ما يخالفه: "أسرعوا بالجنازة" الحديث. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق ابن ماجه (¬4)، على هذا يكون الحديث منكرًا. ¬

_ (¬1) (1/ 451). (¬2) انظر "الفتح" (1/ 553). (¬3) (1/ 453 - 454). (¬4) "مصباح الزجاجة" (1/ 1479).

221 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "والحمل لها سنة: لحديث ابن مسعود قال: "من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السُّنّة، ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع". أخرجه ابن ماجه، وأبو داود، والطيالسي، والبيهقي، من رواية أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عنه". قال الفقير إلى عفو ربه: قال البوصيري: "هذا إسناد موقوف؛ رجاله ثقات، وحكمه الرفع؛ إلا أنه منقطع، فإن أبا عبيدة -واسمه عامر، وقيل: اسمه كنيته- لم يسمع من أبيه شيئًا، قاله أبو حاتم، وأبو زرعة، وعمرو بن مرّة، وغيرهم، رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، عن شعبة، عن منصور، بإسناده ومتنه" (¬2). 222 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وفي الباب عن جماعة من الصحابة". قال الفقير إلى عفو ربه: منهم ابن عمر، فقد روى عبد الرزاق (¬4)، عن هشيم، قال: حدثني يعلى بن عطاء، عن الأزدي، قال: "رأيت ابن عمر في جنازة حمل بجوانب السرير الأربع؛ قال: بدأ بميامنها، ثم تنحى عنها، فكان منها بمنزلة مزجر الكلب". 223 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "أقول: فإذا لم يكن المشي أمام الجنازة أفضل: فأقل الأحوال أن يكون مساويًا للمشي خلفها في الفضيلة، ولم يأت حديث صحيح ولا ¬

_ (¬1) (1/ 455). (¬2) "مصباح الزجاجة" (1/ 1478). (¬3) (1/ 456). (¬4) "المصنف" (3/ 513). (¬5) (1/ 457).

حسن؛ أن المشي خلف الجنازة أفضل، وأقوال الصحابة مختلفة، فالحق أن ذلك سواء". قال الفقير إلى عفو ربه: انظر "طرح التثريب" (¬1). 224 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ويكره الركوب: لحديث ثوبان قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى ناسًا ركبانًا، فقال: ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب"، أخرجه ابن ماجه، والترمذي". قال الفقير إلى عفو ربه: والصواب وقْفه، قال البيهقي: "ورواه ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد؛ موقوفًا، عن ثوبان، وفي ذلك دلالة على أن الموقوف أصح، وكذا قاله البخاري" (¬3). 225 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "ويحرم النعي: لحديث حذيفة عن أحمد، وابن ماجه، والترمذي، -وصححه-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النعي. وحديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والنعي؛ فإن النعي عمل الجاهلية"؛ أخرجه الترمذي؛ وفي إسناده أبو حمزة ميمون الأعور، وليس بالقوي. وفي الباب أحاديث. والذي في "الصحاح"، و"القاموس"، و"النهاية" وغيرها من كتب اللغة: ¬

_ (¬1) "طرح التثريب" للعراقي (3/ 281 - 287). (¬2) (1/ 457). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 23). (¬4) (1/ 459).

أن النعي: الإخبار بموت الميت، فظاهره تحريم ذلك، وإن لم يصحبه ما يُستَنْكرُ كما كانت تفعله الجاهلية من إرسال من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. ولكئه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي للناس في اليوم الَّذي مات فيه؛ أي: أخبرهم، وأخبر بقتلى مؤتة، وقال في السوداء التي كانت تقم المسجد: "ألا أخبرتموني بموتها؟! "؛ فدلت هذه الأحاديث على جواز الإعلام بمجرّد الموت؛ لمن يحضر الغسل والتكفين والصلاة، والمنع منه لغير ذلك". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذه الطريقة التي سلكها -رحمه الله- في التوفيق بين ما يظن من التعارض بين النصوص متينة ولا غبار عليها، ففيها الجمع بين الأمرين: تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. بقي أن أقول: إن الإعلان في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة إذا لم يكن القصد منه هذا الذي ذكره المصنف، وإلا فهو من النعي الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 226 - قال الْمُصَنف (¬1): "والنياحة: لحديث: "من نيح عليه يعذب بما نيح عليه"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما من حديث المغيرة". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "أي: يتألم ويتوجّع، قال شيخ الإسلام في تفسير حديث أبي ذر -بعد أن قرر أن ليس على أحد من وزر غيره شيء، وأنه لا يستحق إلا ما سعاه- قال (¬2): "وإن ظن بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول؛ فليس كذلك! إذ ذلك النائح يعذب بنوحه، لا يحمل الميت وزره، ولكن الميت ¬

_ (¬1) (1/ 460). (¬2) (2/ 209) من "المجموعة المنيرية".

يناله ألم من فعل هذا كما يتألم الإنسان من أُمور خارجة عن كسبه، وإن لم يكن جزاء الكسب والعذاب أَعم من العقاب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "السفر قطعة من العذاب". وانظر تفصيل هذا البحث في "تهذيب السنن" لابن القيم (¬1) وقد صرح فيه بخطأ تفسير هذا الحديث على هذا الوجه. فراجعه؛ فإنه مفيد (¬2). 227 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "واتباعها بنار، وشق الجيب، والدعاء بالويل والثبور: لحديث أبي بريدة قال: "أوصى أبو موسى حين حضره الموت، فقال: لا تتبعوني بمجمر، قالوا: أوسمعت فيه شيئًا؟ قال: نعم، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، أخرجه ابن ماجه، وفي إسناده مجهول". قال الفقير إلى عفو ربه: قال البوصيري: "هذا إسناد حسن، أبو حريز: اسمه عيد الله بن حسين مختلَف فيه، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه مالك في "الموطأ"، وأبو داود في "سننه" (¬4). 228 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "أن القيام لها إذا مرت منسوخ: أما قيام الماشي خلفها حتى توضع على الأرض: فمحكم لم ينسخ". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "قلت: بل هو منسوخ أيضًا، بما أخرجه الطحاوي من طريق إسماعيل بن ¬

_ (¬1) (4/ 290). (¬2) "التعليقات الرضية" (1/ 460). (¬3) (1/ 461). (¬4) "مصباح الزجاجة" (1/ 1487). (¬5) (1/ 463).

مسعود بن الحكم الزرقي، عن أبيه قال: "شهدت جنازة بالعراق، فرأيت رجالًا قيامًا ينتظرون أن توضع، ورأيت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يشير إليهم، أن اجلسوا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالجلوس بعد القيام" وسنده حسن (¬1). وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه، كما ذكره النووي، ونقلت كلامه هناك فراجعه" (¬2). 229 - قال الْمصنِّف (¬3): "أقول: وهذا الحديث بلفظ: "ثم قعد" لا يصلح لنسخ الأحاديث الصحيحة المصرحة بأمره - صلى الله عليه وسلم - لنا بالقيام، وعلل ذلك بأن الموت فَزَعٌ، وقام لجنازة، فقيل: إنها جنازة يهودي! فقال: "أليست نفسًا؟ "؛ فغاية ما يدلّ عليه قعوده -من بعد- هو أن القيام ليس بواجب عليه، وقد تقرر في الأصول أنه إذا فعل فعلًا -لم يظهر منه التأسي به فيه، وكان ذلك مخالفًا لما قد أمَر به الأُمة أو نهاها عنه-؛ فإنه يكون مختصًّا به، ويبقى حكم الأمر أو النهي للأمة على حاله". قال الفقير إلى عفو ربه: يراجع ما سبق. 230 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وأما أولوية اللَّحد: فلحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللحد لنا والشَّق لغيرنا"؛ أخرجه أحمد، وأهل "السنن"، وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن السكن؛ مع أن في إسناده عبد الأعلى بن عامر؛ وهو ضعيف". قال الفقير إلى عفو ربه: وقد حسنه شيخنا عبد الله الدويش -رحمه الله-. ¬

_ (¬1) كما ذكرت في "التعليقات الجياد" (3/ 30 - 31). (¬2) "التعليقات الرضية" (1/ 463). (¬3) (1/ 463). (¬4) (1/ 466).

231 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وقد روى الشافعي من حديث ابن عباس، وأبو بكر النجار من حديث ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سل من قبل رأسه سلًا". قال الفقير إلى عفو ربه: في "مسنده" (1/ 597): عن الثقة، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، وهذا فيه إبهام، لكن قال الحافظ: "وقيل: إن الثقة هنا هو مسلم بن خالد (¬2) "، ومسلم بن خالد الزنجي، ضعيف وقد وثق. 232 - قال الْمصَنِّف (¬3): "ولا يعارض السُّنَّة ما وقع من بعض الصحابة عند دفنه - صلى الله عليه وسلم -". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا في حال ثبوتها، أما وقد ضعفت أسانيدها؛ فلا تعارض، أما ما رواه البيهقي (¬4)، عن الشافعي، قال: "أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمر: ثنا أبو العباس: أنبأ الربيع: أنبأ الشافعي: أنبأ بعض أصحابنا عن أبي الزناد، وربيعة، وأبي النضر لا اختلاف بينهم في ذلك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" سل من قبل رأسه وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - "، قال البيهقي: "هذا هو المشهور فيما بين أهل الحجاز". وهذا غريب، وهذا النقل عن الشافعي فيه غرابة؛ وذلك أنَّه قال (¬5): "أخبرني الثقات من أصحابنا أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يمين الداخل من البيت لاصق بالجدار، والجدار الّذي للحد لجنبه قبلة البيت، وأن لحده تحت الجدار، فكيف يدخل معترضًا واللحد لاصق بالجدار لا يقف عليه شيء، ولا يمكن إلا أن يسل سلًا أو يُدخل من خلاف القبلة؟! "، فتفطن. ¬

_ (¬1) (1/ 467). (¬2) "التلخيص" (2/ 258). (¬3) (1/ 467). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 54). (¬5) في "الأم" (1/ 273).

233 - قال الْمصَنِّف (¬1): "ويستحب حثو التراب من كل من حضر ثلاث حثيات: لحديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازه، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه من قِبلِ رأسه ثلاثًا؛ أخرجه ابن ماجه، وأبو داود؛ وإسناده صحيح، لا كما قال أبو حاتم". قال الفقير إلى عفو ربه: وحسنة شيخنا عبد الله الدويش -رحمه الله-، وعليه جرى عمل الصحابة. 234 - قال الْمُصَنف (¬2): "وأخرج البزار والدارقطني من حديث عامر بن ربيعة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثى على قبر عثمان بن مظعون ثلاثًا". قال الفقير إلى عفو ربه: إسناده ضعيف، فيه عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي، قال الحافظ: "ضعيف" (¬3). 235 - قال الْمُصَنف (¬4): "ولا يرفع القبر زيادة على شبر: لحديث علي عند مسلم، وأحمد، وأهل "السنن": أنه بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يدع تمثالًا إلا طمسه، ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّاه. وفي مسلم -أيضًا- وغيره من حديث جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبنى على القبر". قال الفقير إلى عفو ربه: وفي مسلم (¬5) عن ثمامة: "كنا مع فضالة في ¬

_ (¬1) (1/ 468). (¬2) (1/ 468). (¬3) "التقريب". (¬4) (1/ 468). (¬5) (4079).

أرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها". 236 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء، ورفعه شبرًا". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن القيم: "عن أبي الهياج الأسدي، قال: بعثني علي قال: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:ألا أدع قبرًا مشرقًا إلا سؤيته ولا تمثالًا إلا طمسته"، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي". وهذه الآثار لا تضاد بينها، والأمر بتسوية القبور إنّما هو تسويتها بالأرض، وألّا ترفع مشرفة عالية، وهذا لا يناقض تسنيمها شيئًا يسيرًا عن الأرض" (¬2). 237 - قال المصنف (¬3): "ومثل هذا التسويغ: الكتب على القبور بعد ورود صريح النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أما قول الحاكم: "وليس العمل عليه؛ فإن أئمّة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوب على قبورهم، وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف" (¬4). فقد رده الذهبي بقوله: "ما قلت طائلًا! ولا نعلم صحابيًّا فعل ذلك، ¬

_ (¬1) (1/ 468 - 469). (¬2) "تهذيب السنن" (4/ 338). (¬3) (1/ 470). (¬4) (1/ 370).

إنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم ولم يبلغهم النهي" (¬1). 238 - قال الْمصَنِّف (¬2): "والزيارة للموتى مشروعة: أي: زيارة القبور؛ لحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمدٍ في زيارة قبر أمه؛ فزوروها فإنها تذكر الآخرة"، أخرجه الترمذي -وصححه-؛ وهو في "صحيح مسلم". وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بنحو ذلك. وفي الباب أحاديث. وقد قيل باختصاص ذلك بالرجال؛ لحديث أبي هريرة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي -وصححه-، وابن حبان في "صحيحه". وفي الباب عن حسَّان بن ثابت عند أحمد، وابن ماجه، والحاكم. وعن ابن عباس عند أحمد، وأهل "السنن"، والحاكم، والبزار؛ بإسناد فيه صالح -مولى التوأمة-؛ وهو ضعيف. وقد وردت أحاديث في نهي النساء عن اتباع الجنائز، وهي تقوي المنع من الزيارة. وروى الأثرم في "سننه"، والحاكم من حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لهن في زيارة القبور. وأخرج ابن ماجه عنها مختصرًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في زيارة القبور. فيمكن أنها أرادت الترخيص الواقع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فزوروها"؛ كما سبق، فلا يكون في ذلك حجة؛ لأنّ الترخيص العام لا يعارض النهي الخاص. ¬

_ (¬1) "تلخيص المستدرك" (1/ 370). (¬2) (1/ 471).

لكنه يؤيد ما روته عائشة: ما في "صحيح مسلم" عنها، أنها قالت: يا رسول الله! كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: "قولي: السلام على أهل الدّيار من المؤمنين ... " الحديث. وروى الحاكم: أن فاطمة - رضي الله عنها - كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة. ويُجمع بين الأدلة: بأن المنع لمن كانت تفعل في الزّيارة ما لا يجوز من نَوْحٍ ونحوه، والإذن لمن لم تفعل ذلك. أقول: استدلوا للجواز بأحاديث الإذن العام بالزيارة، وغيرُ خافٍ على عارف بالأصول؛ أن الأحاديث الواردة في النهي للنساء عن الزيارة، والتشديد في ذلك، حتى - صلى الله عليه وسلم - من فعلت ذلك؛ بل وردت أحاديث صحيحة في نهيهن عن اتباع الجنائز، فزيارة القبور ممنوعة منهن بالأَوْلى، وشدد في ذلك حتى قال لِلبَتول - رضي الله عنها -: "لو بَلَغْتِ معهم -يعني: أهل الميّت- الكُدى؛ ما رأيت الجنّة حتّى يراها جدّ أبيك"؛ فهذه الأحاديث مخصّصة لأحاديث الإذن العام بالزيارة" (¬1). قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذه إحدى المسائل الشائكة لعدم توفر الآثار الثابتة عن الصحابة الّتي تقضي وتفصل بين أقوال المختلفين فيها من أهل العلم، وسبب اختلافهم: ما يظن من تعارض الأحاديث المرفوعة. فمنهم: من ذهب إلى المنع مطلقًا؛ مستدلًا بما رواه أحمد (¬2)، والترمذي (¬3)، وابن ماجه (¬4)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور". ¬

_ (¬1) (1/ 471). (¬2) "المسند" (1/ 229). (¬3) "السنن" (1056). (¬4) "السنن" (1576).

وبما رواه أحمد (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وابن ماجه (¬5)، عن ابن عباس: "أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور". قال شيخ الإسلام: "فإن قيل: الحديث الأول رواه عمر بن أبي سلمة، وقد قال فيه علي بن المديني: "تركه شعبة، وليس بذاك"، وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه"، وقال السعدي والنسائي: "ليس بقوي الحديث". والثاني: فيه أبو صالح باذام مولى أم هانئ، وقد ضعفوه، قال أحمد: "كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح"، وكان أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له في المسند، ولم أعلم أحدًا من المتقدمين رضيه". قلت: الجواب على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال: كل من الرجلين قد عدله طائفة من العلماء كما جرحه آخرون. أما عمر؛ فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: "ليس به بأس"، وكذلك قال يحيى بن معين: "ليس به بأس"، وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية. وأمّا قول من قال: "تركه شعبة" فمعناه: أنه لم يرو عنه، كما قال أحمد بن حنبل: "لم يسمع شعبة من عمر بن أبي سلمة شيئًا"، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، ونحوهم، قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم، لا توجب رد أخبارهم، فهم ¬

_ (¬1) "المسند" (2/ 337). (¬2) "السنن" (3236). (¬3) "السنن" (320). (¬4) "السنن" (2043). (¬5) "السنن" (1575).

إذا رووا عن شخص كانت روايتهم تعديلًا له، وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح، وهذا معروف في غير واحد قد خرج له في الصحيح. وكذلك قول من قال: "ليس بقوي في الحديث"، عبارة لينة؛ تقتضي أنه ربما كان في حفظه بعض التغير، ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعقد الكذب، ولا مبالغة في الغلط. أما أبو صالح: فقد قال يحيى بن سعيد القطان: "لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة"، فهذه رواية شعبة عنه تعديل له -كما عرف من عادة شعبة-، وترك ابن مهدي له لا يعارض ذلك، فإن يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدي وأمثاله. أما قول أبي حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به"؛ فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال "الصحيحين" وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم. وهذا كقول من قال: "لا أعلم أنّهم رضوه"، وهذا يقتضي أنه ليس عندهم من الطبقة العليا، ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له ولأمثاله، لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه، وإذا كان كذلك فيقال: "إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة لم يقبل الجرح إلا مفسرًا، فيكون التعديل مقدمًا على الجرح المطلق". الوجه الثاني: أن حديث مثل هؤلاء يدخل في الحسن الذي يحتج به جمهور العلماء، فإذا صححه من صححه -كالترمذي وغيره- ولم يكن فيه من الجرح إلا ما ذكر؛ كان أقل أحواله أن يكون من الحسن. الوجه الثالث: أن يقال: قد روي من وجهين مختلفين: أحدهما: عن ابن عباس. والآخر: عن أبي هريرة.

ورجال هذا ليس رجال هذا فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، وإنما التضعيف من جهة سوء الحفظ. ومثل هذا حجة بلا ريب، وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيها متهم، ولا خالفه أحد من الثقات، وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمد الكذب، وإما خطأ الراوي. فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما عن الآخر وليس مما جرت العادة بأن يتّفق تساوي الكذب فيه: علم أنه ليس بكذب، ولا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب، وأما الخطأ فإنه مع التّعدد يضعف" (¬1). وهذا كلام علمي رصين لا يصدر إلا عن إمام. وفاته -رحمه الله- الإشارة إلى حديث حوإن بن ثابت، أخرجه ابن أبي شيبة (¬2)، وابن ماجه (¬3)، والحاكم (¬4)، وأحمد (¬5)؛ كلهم من طريق عبد الرحمن بن بهمان عن عبد الرحمن بن ثابت، عن أبيه به. وابن بهمان وثقه ابن حبان والعجلي، وقال الحافظ: "مقبول" (¬6). ولم أجد من جرحه، لذا قال البوصيري في "الزوائد": "إسناده صحيح رجاله ثقات"، فهو شاهد جيد لحديث أبي هريرة وابن عباس، في كلام أبي العباس المتقدم. قال ابن القيم: "قالوا: وأما حديث عائشة؛ فالمحفوظ فيه حديث الترمذي -مع ما فيه-، وعائشة إنما قدمت مكة للحج، فمرت على قبر أخيها في طريقها فوقفت عليه، وهذا لا بأس به، إنما الكلام في قصدهن الخروج لزيارة القبور". ¬

_ (¬1) "الفتاوى الكبرى" (3/ 52 - 54). (¬2) "المصنف" (4/ 41). (¬3) "السنن" (1/ 478). (¬4) (1/ 374). (¬5) "المسند" (3/ 248). (¬6) "التقريب".

ولو قدر أنها عدلت إليه وقصدت زيارته؛ فهي قد قالت: "لو شهدتك لما زرتك"، وهذا يدل على أنه من المستقر المعلوم عندها: أن النساء لا يشرع لهن زيارة القبور، وإلا لم يكن في قولها ذلك معنى. وأما رواية البيهقي وقولها: "نهى عنها، ثم أمر بزيارتها"؛ فهي من رواية: بسطام بن مسلم. ولو صح فهي تأولت ما تأول غيرها من دخول النساء، والحجة في قول المعصوم، لا في تأويل الراوي، وتأويله إنّما يكون مقبولًا حيث لا يعارضه ما هو أقوى منه، وهذا قد عارضه أحاديث المنع" (¬1). قال الألباني -رحمه الله-: "قلت: وقد أعله ابن القيم بشيء عجيب والأحرى بلا شيء، فقال: "وأما رواية البيهقي فهي من رواية بسطام بن مسلم، ولو صح فعائشة تأوّلت ما تأول غيرها من دخول النساء" (¬2). قلت: وبسطام ثقة بدون خلاف أعلمه، فلا وجه لغمز ابن القيم له، والإسناد صحيح لا شبهة فيه، وقد احتج به أحمد فيما رواه ابن عبد البر (¬3)، عن أبي بكر الأثرم، قال: "سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المرأة تزور القبر؟ فقال: أرجو -إن شاء الله- أن لا يكون به بأس، عائشة زارت قبر أخيها". وقد تابعه عبد الجبار بن الورد، قال: "سمعت ابن أبي مليكة يقول: ركبت عائشة، فخرج إلينا غلامها، فقلت: أين ذهبت أم المؤمنين؟ قال: ذهبت إلى قبر أخيها عبد الرحمن تسقم عليه"، أخرجه ابن عبد البر، وسنده حسن، ولا يعله ما أخرجه الترمذي (¬4) من طريق ابن جريج عن عبد الله ابن أبي مليكة، قال: "توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بحبشي" مكان بينه وبين ¬

_ (¬1) "تهذيب السنن" (4/ 347). (¬2) "تهذيب السنن" (4/ 350). (¬3) في "التمهيد" (3/ 234). (¬4) (2/ 157).

مكة اثنا عشر ميلًا فحمل إلى مكة فدفن فيها، فلمّا قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر، فقالت: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا فلما تفرَّقنا كأني ومالكًا لطولِ ... اجتماع لم نبت ليلة معا ثم قالت: "والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك". أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، واستدركه الهيثمي فأورده في "المجمع" (¬2)، وقال: "ورواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح"، فوهم في الاستدارك لإخراج الترمذي له، ورجاله رجال الشيخين، لكن ابن جريج مدلس وقد عنعنه، فهو علة الحديث. ومع ذلك فقد ادعى ابن القيم (¬3) أنه: "المحفوظ مع ما فيه"، كذا قال؛ بل هو منكر لما ذكرنا؛ ولأنه مخالف لرواية يزيد بن حميد -وهو ثقة ثبت- عن أبي مليكة، ووجه المخالفة ظاهرة من قولها: "ولو شهدتك ما زرتك"؛ فإنه صريح في أن سبب الزيارة إنما هو عدم شهودها وفاته، فلو شهدت ما زارت، بينما حديث ابن حميد صريح في أنها زارت؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بزيارة القبور، فحديثه هو المحفوظ، خلاف ما ذهب إليه ابن القيم -رحمه الله-، وأما ما ذكره من تأول عائشة فهو محتمل، ولكن الاحتمال الآخر وهو أنها زارت بتوقيف منه - صلى الله عليه وسلم - أقوى بشهادة حديثها الثاني (¬4) ". ثم قال -رحمه الله-: "فقد تبين من تخريج الحديث أن المحفوظ فيه إنما هو بلفظ: "زوارات"؛ لاتفاق حديث أبي هريرة وحسان عليه، وكذا ¬

_ (¬1) في "المصنّف" (4/ 410). (¬2) (3/ 60). (¬3) "التهذيب" (4/ 349). (¬4) "أحكام الجنائز" (233).

حديث ابن عباس في رواية الأكثرين على ما فيه من ضعف، فهي إن لم تصلح للشهادة فلا تضر، كما لا يضر في الاتفاق المذكور الرواية الأخرى من حديث ابن عباس؛ كما هو ظاهر، وإذا كان الأمر كذلك فهذا اللفظ: "زوارات" إنما يدل على لعن النساء اللاتي يكثرن الزيارة بخلاف غيرهن، فلا يشملهن اللعن، فلا يجوز حينئذٍ أن يعارض بهذا الحديث ما سبق من الأحاديث الدالة على استحباب الزيارة للنساء؛ لأنه خاص وتلك عامة، يعمل بكل منهما في محله، فهذا الجمع أولى من دعوى النسخ، وإلى نحو ما ذكرنا ذهب جماعة من العلماء، فقال القرطبي: "اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة؛ لما تقتضيه الصيغة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك؛ من تضييع حق الزوج، والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك، وقد يقال: إذا أمن جميع ذلك؛ فلا مانع من الإذن لهن؛ لأن تذكّر الموت يحتاج إليه الرّجال والنساء. قال الشوكاني (¬1): "وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الطاهر" (¬2). قال شيخ الإسلام: "فإن قيل: فهب أنه صحيح؛ لكنه منسوخ؛ فإن الأول ينسخه، ويدلّ على ذلك ما رواه الأثرم -واحتج به أحمد في روايته- ورواه إبراهيم بن الحارث، عن عبد الله بن أبي مليكة: "أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين! أليس كذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن زيارة القبور؟ قالت: نعم كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها". قيل: الجواب عن هذا من عدة وجوه: أحدها: أنه قد تقدم الخطاب؛ بأن الإذن لم يتناول النّساء؛ فلا يدخلن في الحكم الناسخ. ¬

_ (¬1) في "نيل الأوطار" (4/ 95). (¬2) "أحكام الجنائز" (236).

الثاني: خاص في النساء، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله زوارات القبور -أو زائرات القبور-"، وقوله: "فزوروها" بطريق التّبع، فيدخلن بعموم ضعيف، إما أن يكون مختصًّا بالرجال، وإما أن يكون متناولًا للنساء، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخًا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أنّ هذا العام بعد الخاص؟! إذ قد يكون قوله: "لعن الله زوارات القبور" بعد إذنه للرجال في الزيارة، ويدل على ذلك: أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، وذكر هذا بصيغة التذكير التي تتناول الرجال، ولعن الزائرات جعله مختصًا بالنساء، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسروج باق محكم، كما دلت عليها الأحاديث الصحيحة، فكذلك الآخر. وأما ما ذكر عن عائشة - رضي الله عنها -، فأحمد احتج به في إحدى الروايتين عنه لما أداه اجتهاده إلى ذلك، والرواية الأخرى عنه تناقض ذلك، وهي اختيار الخرقي وغيره من قدماء أصحابه. ولا حجة في حديث عائشة، فإنّ المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ وهو كما قالت - رضي الله عنها -، ولم يذكر لها المحتج النهي المختص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة؛ يبين ذلك قولها: "قد أمر بزيارتها"، فهذا يبين أنه أمر يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنّما هو ثابت للرجال خاضة، ولكن عائشة بيّنت أن أمره الثاني نسخ نهيه الأول، فلم يصلح أن يحتج به وهو: النساء على أصل الإباحة، ولو كانت عائشة تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها: "لما زرتك". الجواب الثالث: جواب من يقول بالكراهة من أصحاب أحمد والشافعي؛ وهو أنهم قالوا: حديث اللعن يدل على التحريم، وحديث الإذن يرفع التحريم، وبقي أصل الكراهة؛ يؤيد هذا قول أم عطية: "نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا"، والزيارة من جنس الاتّباع فيكون كلاهما مكروهًا غير محرم.

الجواب الرابع: جواب طائفة منهم -كإسحاق بن راهويه-؛ فإنهم يقولون: اللعن قد جاء بلفظ: "الزوارات"، وهن المكثرات للزيارة، فالمرة الواحدة في الدّهر لا تتناول ذلك، ولا تكن المرأة زائرة، ويقولون: عائشة زارت مرة واحدة ولم تكن زوارة. وأما القائلون بالتحريم؛ فيقولون: قد جاء بلفظ: "الزوارات"، ولفظ: "الزوارات" قد يكون لتعددهن، كما يقال: فتحت الأبواب؛ إذ لكل باب فتح يخصه، ومنه قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ومعلوم أن لكل باب فتحًا واحدًا، قالوا: ولأنه لا ضابط في ذلك بين ما يحرم وما لا يحرم، واللعن صريح في التّحريم. ومن هؤلاء من يقول: "التشييع كذلك"، ويحتج بما روى في التّشييع من التغليظ؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنّكن تفتن الحي وتؤذين الميت"، وقوله لفاطمة - رضي الله عنها - "أما إنّك لو بلغت معهم الكُدَى لم تدخلي الجنة حتى يكون كذا وكذا"، وهذان يؤيدهما ما ثبت في "الصحيحين" من أنه: "نهى النساء عن اتباع الجنائز". وأما قول أم عطية: "ولم يعزم علينا"؛ فقد يكون مرادها لم يؤكد النهي، وهذا لا ينفي التحريم، وقد تكون هي ظنت أنه ليس بنهي تحريم، والحجة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في ظن غيره (¬1). الجواب الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الإذن بالرجال بأن يذكر بالموت ويرقق القلب ويدمع العين؛ هكذا في "مسند أحمد"، ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب، والنياحة، لما فيها من الضعف وكثرة الجزع وقلّة الصبر. وأيضًا: فإن ذلك سبب لتأذي الميت ببكائها، ولافتتان الرِّجال بصوتهما وصورتها، كما جاء في حديث آخر: "فإنكنّ تفتن الحي وتؤذين الميت"، وإذا كانت زيارة النساء مظنّة وسببًا للأمور المحرمة في حقّهن وحق الرجال. ¬

_ (¬1) في هذا الكلام نظر فهي أولى بفهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يأت ما يخالف هذا الفهم عن الصحابة -رضي الله عنهم-.

والحكمة هنا غير مضبوطة؛ فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع. ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية -أو غير منتشرة- علق الحكم بمظنتها، فيحرم هذا الباب سدًّا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة، وكما حزم الخلوة الأجنبية وغير ذلك من النظر، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة؛ فإنّه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميّت وذلك ممكن في بيتها. ولهذا قال الفقهاء: إذا علمت المرأة من نفسها أنّها زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز، من قول أو عمل، لم تجز الزيارة بلا نزاع" (¬1). قال الفقير إلى عفو ربه: والذي يظهر لي؛ أن الواجب علينا في مثل هذه المسألة أمران: الأول: الأخذ بكل ما ثبت عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما يعرف "بالجمع بين النصوص"، وعدم إهمال أي منها. فيحتج لمن ذهب إلى جواز زيارة المرأة للقبور بما ثبت في مسلم (¬2) من حديث عائشة -مختصرًا- أنَّها قالت: "يا رسول الله! كيف أقول إذا زرت القبور؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين ... "؛ الحديث. ولمن منع بحديث: "لعن الله زوّارات القبور" بمجموع طرقه. الثاني: لزوم فهم الصحابة -رضي الله عنهم- لهذه النصوص. فبعد البحث لم نجد إلا أثر لعائشة بروايتين: الأولى: قالت فيه: "لو شهدتك لما زرتك". الثانية: قالت فيه لَمّا سُئِلت: "نعم؛ كان نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها". وعند التأمل والنظر في المرفوع والموقوف: يتبين لنا أنه لا يوجد ¬

_ (¬1) "الفتاوى الكبرى" (3/ 54 - 57). (¬2) (974).

حديث يمنع المرأة من زيارة القبور مطلقًا، كما لا يوجد ما يدل على الإذن لها مطلقًا؛ ولهذا اختلفت الرواية عن الإمام أحمد حيث أذن، ومنع. وعليه: فإنه يعمل بالمنع في حال، وبالإذن في حال؛ وذلك بشرطين: الأول: أن لا تكون زيارة المرأة للقبور عادة، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله زوارت القبور"؛ نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا قبر عيدًا". الثاني: ألا يصاحب زيارة المرأة للقبور ما يخالف السُّنة، والله أعلم. 239 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ويقف الزائر مستقبلًا للقبلة: لحديث: "أنه جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة، لما خرج إلى المقبرة" أخرجه أبو داود من حديث البراء". قال الفقير إلى عفو ربه: وإسناده صحيح. قال ابن القيم: "أخرجه الإمام أحمد والحاكم وصحّحه، وقد أعلّه أبو حاتم ابن حبان بأن قال: "زاذان لم يسمع من البراء"، قال: "ولذلك لم أخرجه"، وهذه العلة فاسدة؛ فإن زاذان قال: سمعت البراء بن عازب يقول؛ فذكره، ذكره أبو عوانه الإسفرايني في "صحيحه"، وأعله ابن حزم -أيضًا -بضعف المنهال بن عمرو، وهي علّة فاسدة؛ فإن المنهال ثقة صدوق، وقد صححه أبو نعيم وغيره" (¬2). 240 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وقال في الحجة: وفي رواية: "السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر لنا ولكم، وأنتم سلفنا ونحن بالأثر". ¬

_ (¬1) (1/ 474). (¬2) "تهذيب السنن" (4/ 337). (¬3) (1/ 474).

قال الفقير إلى عفو ربه: أخرجها الترمذي (¬1)، وفي إسنادها: قابوس بن أبي ظبيان، قال الحافظ: "فيه لين" (¬2). 241 - قال الْمُصنِّف (¬3): "وفي مسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني -رحمه الله-: "هذه الزيادة (ولا عليها) ليست في "صحيح مسلم" (3/ 62)، ولا عند غيره -كأصحاب السنن الثلاثة وغيرهم- وقد خرجت الحديث في "السترة" من كتاب "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وقد تبين لي سبب وهم المؤلف، وبيان ذلك لا يتسع له المقام" (¬4). 242 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وقد أخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن ابن عباس: "لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائراتِ القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال الفقير إلى عفو ربه: انظر النكتة رقم (238). 243 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وزخرفتها: لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُمرت بتشييد المساجد"، أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان". قال الفقير إلى عفو ربه: وإسناده صحيح. ¬

_ (¬1) "السنن" (1053). (¬2) "التقريب" (5445). (¬3) (1/ 475). (¬4) "التعليقات الرضية" (1/ 475). (¬5) (1/ 476). (¬6) (1/ 476).

244 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "قال ابن عباس: "لتزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى". قال الفقير إلى عفو ربه: في "سنن أبي داود" (¬2) بسند صحيح. 245 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "طوبى لمن شغلته عيوبه عن عيوب الناس". قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن الجوزي: "هذا ليس من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن حبان: "سمعه أبان من الحسن فجعله عن أنس وهو يعلم، قال يحيى: أبان ليس بشيء، وقال شعبة: "يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أزني أحب إلي من أن أحدث عنه" (¬4). 246 - قال الْمُصنِّف (¬5): "والتعزية مشروعة: لحديث: "من عزّى مصابًا فله مثل أجره"، أخرجه ابن ماجه، والترمذي، والحاكم، من حديث ابن مسعود، وقد أنكر هذا الحديث على علي بن عاصم". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الحافظ: "ويحكى عن أبي داود أنه قال: عاتب يحيى بن سعيد القطان، علي بن عاصم في وصل هذا الحديث، وإنما هو عندهم منقطع، وقال له: إن أصحابك الذين سمعوه معك لا يسندونه، فأبى أن يرجع، قلت: ورواية ¬

_ (¬1) (1/ 476). (¬2) (448). (¬3) (1/ 480). (¬4) "العلل المتناهية" (2/ 1385). (¬5) (1/ 480).

الثوري مدارها على حماد بن الوليد وهو ضعيف جدًّا، وكل المتابعين لعلي بن عاصم أضعف منه بكثير، وليس فيها رواية يمكن التعلق بها إلا طريق إسرائيل، فقد ذكرها صاحب "الكمال" من طريق وكيع عنه، ولم أقف على إسنادها بعد، وله شاهد أضعف منه طريق محمد بن عبيد الله العزرمي، عن أبي الزبير، عن جابر؛ ساقها ابن الجوزي أيضًا في "الموضوعات" (¬1) ". 247 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو بن حزم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله -عزَّ وجلَّ- من حلل الكرامة يوم القيامة "ورجال إسناده ثقات". قال الفقير إلى عفو ربه: قال البوصيري: "هذا إسناد فيه مقال، قيس بن عمارة: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبي في "الكاشف": ثقة، وقال البخاري: فيه نظر. قلت: وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم، رواه ابن أبي شيبة في "مسنده" هكذا، ورواه البيهقي في "سننه الكبرى" من طريق: إسماعيل ابن أبي أويس، عن قيس بن أبي عمارة، ورواه عبد بن حميد، حدثنا خالد بن مخلد؛ فذكره بالإسناد والمتن، وله شاهد من حديث ابن مسعود: رواه الترمذي، وابن ماجه، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي برزة" (¬3). 248 - قال الْمصَنِّف: "فينبغي التعزية بهذه الألفاظ الثابتة في "الصحيح"، ولا يعدل عنها إلى غيرها" (¬4). ¬

_ (¬1) "التلخيص الحبير" (2/ 275). (¬2) (1/ 481). (¬3) "مصباح الزجاجة" (1/ 1601). (¬4) (1/ 481 - 482).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال أحمد شاكر: "لماذا لا يعدل عنها إلى غيرها؟! هل ورد الأمر بها والنهي عما عداها؟! نعم؛ إن اتباع الوارد أفضل ولكن هذا لا يمنع إباحة التعزية بكل ما يراه الإنسان نافعًا لتخفيف المصاب، على أن لا يقول ما يغضب الرب، ولا يخالف المشروع" (¬1). ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 482).

الزكاة

الزكاة 249 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأما ما روي عن بعض الصحابة: فلا حجة فيه أيضًا، وقد عُورِض بمثله؛ كما روى البيهقي، عن ابن مسعود قال: من ولي مال يتيم، فليُحْصِ عليه السنين، فإذا رفع إليه ماله؛ أخبره بما فيه من الزكاة؛ فإن شاء زكى، وإن شاء ترك". قال الفقير إلى عفو ربِّه: بل هم متفقون، ولم يثبت عن واحد منهم التصريح بأن "الزكاة لا تجب في مال غير المكلف". 1 - فقد روى الدارقطني (¬2) من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن ابن المسيب، عن عمر، قال: "ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة"، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (¬3) من طريق الزهري ومكحول عن عمر. قال البيهقي: "هذا إسناد صحيح، وله شواهد عن عمر" (¬4)، وهو كما قال؛ فإن الأئمة المحققين يحملون رواية سعيد عن عمر على الوصل وإن لم يسمع منه (¬5)؛ فتنبه. ¬

_ (¬1) (1/ 487). (¬2) "السنن" (2/ 110). (¬3) "المصنف" (4/ 25). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 107). (¬5) صحَّ سماعه منه لبعض الأحاديث والخطب كما صرَّح هو بذلك، وانظر "تهذيب الهذيب".

2 - وما رواه مالك (¬1) عن عبد الرحمن بن قاسم، عن أبيه، أنه قال: "كانت عائشة تليني أنا وأخًا لي يتيمين حجرها فكانت تخرج من أموالنا الزكاة". 3 - وبما رواه البيهقي (¬2) من طريق: أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يكون عنده مال ليتيم فيزكّيه". 4 - وما رواه عبد الرزاق (¬3)، وابن حزم (¬4) من طريق: حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: "باع لنا علي بن أبي طالب أرضًا بثمانين ألفٍ فأعطاناها، فإذا هي تنقص؛ فقال: إني كنت أزكيها" (¬5). 5 - وما رواه ابن أبي شيبة (¬6)، وأبو عبيد (¬7) من طريقين عن جابر: "في الرجل يلي مال اليتيم؟ قال: يعطي زكاته". وأما ما أشار إليه الشارح -رحمه الله- عن ابن مسعود عند البيهقي (¬8) من طريق الليث بن أبي سليم عن مجاهد، عن ابن مسعود. فإن فيه علتين: الأولى: ضعف الليث بن أبي سليم. الثانية: الانقطاع بين مجاهد وابن مسعود. ولذا قال البيهقي: "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: أنبأ الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي في مناظرة جرت بينه وبين من خالفه: وجوابه عن هذا الأثر -مع أنك تزعم ان هذا الأثر ليس بثابت عن ابن مسعود- من وجهين: ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 251). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 108). (¬3) "المصنف" (4/ 67). (¬4) "المحلى" (5/ 208). (¬5) حبيب بن أبي ثابت مدلس، وقد عنعن. (¬6) "المصنف" (4/ 26). (¬7) "الأموال" (549). (¬8) "السنن الكبرى" (4/ 108).

أحدهما: أنه منقطع، وأن الذي رواه ليس بحافظ"، ثم قال: "وجهة انقطاعه: أن مجاهدًا لم يدرك ابن مسعود، وراويه الذي ليس بحافظ هو ليث بن أبي سليم وقد ضعفه أهل العلم بالحديث" (¬1). قال الشافعي: "ولو كان ابن مسعود لا يرى زكاة؛ لم يأمره بالإحصاء؛ لأن من لم تجب عليه زكاة لا يؤمر بإحصاء السنين كما لم يأمر الصّبي بإحصاء سنه في صغره للصلاة، ولكن ابن مسعود كان يرى عليه الزّكاة، وكان لا يرى أن يزكيها الولي، وهم يقولون: "ليس في مال الصّبي زكاة" (¬2). ولو صح أثر ابن مسعود، وابن عباس -الآتي بعد هذا- لقلنا أن للصحابة قولين في وجوب الزّكاة على غير المكلف؛ ولكن كما ترى لم يختلف قولهم في وجوب الزّكاة عليه، فالخلاف حدث فيمن بعدهم: قال شيخ الإسلام: "وتجب الزّكاة في مال اليتامى؛ عند مالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، وهو مروي عن عمر، وعائشة، وعلي، وابن عمر، وجابر -رضي الله عنهم-. قال عمر: "اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزّكاة"، وقالته عائشة أيضًا، وروى ذلك عن الحسن بن علي، وهو قول عطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، وابن سيرين" (¬3). 250 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وروي نحو ذلك عن ابن عباس". قال الفقير إلى عفو ربه: قال البيهقي: "وروي عن ابن عباس؛ إلا أنه يتفرّد بإسناده ابن لهيعة، وابن لهيعة لا يُحتج به، والله أعلم" (¬5). ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 108). (¬2) "المعرفة" (6/ 70). (¬3) "مجموع الفتاوى" (25/ 17). (¬4) (1/ 487). (¬5) "السنن الكبرى" (4/ 108).

251 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وإن قال قائل: إن الخطاب في الزكاة عام كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، ونحوه: فذلك ممنوعٌ، وليس الخطاب في ذلك إلا لمن يصلح له الخطاب، وهم المكلفون، وأيضًا؛ بقية الأركان -بل وسائر التكاليف التي وقع الاتفاق على عدم وجوبها على من ليس بمكلف-: الخطابات بها عامّة للناس، والصبي من جملة الناس، لو كان عموم الخطاب في الزكاة مُسَوغًا لإيجابها على غير المكلفين؛ لكان العموم في غيرها كذلك، وأنه باطل بالإجماع، وما استلزم الباطل باطل". قال الفقير إلى عفو ربه: لا ريب أنّ الاستدلال بالعموم من غير نظر إلى المخصصات من الكتاب والسنة والآثار؛ ليس منهجًا علميًّا سليمًا. 252 - قال الْمصَنِّف (¬2): "ولم يوجب الله -تعالى- على ولي اليتيم والمجنون أن يخرج الزّكاة من مالهما، ولا أمره بذلك، ولا سوغه له، بل وردت في أموال اليتامى تلك القوارع التي تتصدع لها القلوب، وترجف لها الأفئدة". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا لو لم يرد عن الخليفة الرّاشد عمر وغيره من الصحابة؛ القول بوجوب الزكاة في أموال اليتامى، أمَّا وقد ثبت عنهم -كما عرفت-؛ فإن الواجب على من بعدهم من أهل العلم لزوم سبيلهم كما أمر الله -عزَّ وجلَّ- بذلك، حيث قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬3)، وقد عصمهم الله من الاتفاق على الخطأ فضلًا عن الضلال. ¬

_ (¬1) (1/ 487). (¬2) (1/ 488). (¬3) [النساء:115].

253 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأما اشتراط الحرية: فلا ريب أن هذا الاشتراط، إنما يتم على قول من قال: إن العبد لا يملك، وهي مسألة قد تعارضت فيها الأدلة بما لا يتسع المقام لبسطه". قال الفقير إلى عفو ربه: ثبت في "الصحيحين" ما يدل على أن العبد ليس ملكه تامًّا، فقد روى البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من ابتاع عبدًا فماله للّذي باعه، إلَّا أن يشترط المبتاع". وبعين المسألة أفتى ابن عمر وجابر -رضي الله عنهم-، أما أثر ابن عمر؛ فقد رواه البيهقي (¬4) من طريق ابن نمير وأبي معاوية كلاهما عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق". وأمّا أثر جابر، فرواه عبد الرّزاق (¬5) عن ابن جريج، قال: أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "لا صدقة في مال العبد ولا المكاتب حتى يُعتقا"، وكلا الأثرين إسنادهما صحيح. وأما ما رواه البيهقي (¬6) من طريق ابن سيرين، عن جابر الحذّاء، قال: سألت ابن عمر: هل في مال المملوك زكاة؟ قال: "في مال كل مسلم زكاة في مائتين خمسة فما زاد فبالحساب". فجابر الحذاء لم أجد من ترجم له، غير أنّ ابن حبان ذكره في "الثقات" (¬7)، وقال: "لم يَرْوِ عنه سوى ابن سيرين"، ومن كانت هذه حاله؛ ¬

_ (¬1) (1/ 488). (¬2) (2379). (¬3) (3905). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 108). (¬5) "المصنف" (4/ 71). (¬6) "السنن الكبرى" (4/ 109). (¬7) (4/ 103).

فلا ينبغي أن تعارض روايته رواية الثقات المتفق على عدالتهم -كما عرفت من رواية عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر-، فهي المحفوظة الموافقة للحديث والأثر. تنبيه: وقع عند عبد الرّزاق (¬1) في أثر ابن عمر -الذي يرويه عنه جابر الحذاء- تصحيف جابر إلى خالد؛ وذلك أن خالدًا الحذاء روايته عن ابن عمر منقطعة؛ فلا يصح أن يقول: "سألت ابن عمر". 254 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وبالجملة: فالأصل في أموال العباد الحُرمة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، "لا يحلّ مال امريء مسلم إلا بطِيبةٍ من نفسه"، ولا سيّما أموال اليتامى؛ فإن القوارع القرآنية، والزواجر الحديثيّة -فيها- أظهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، فلا يأمن ولي اليتيم -إذا أخذ الزكاة من ماله- من التَّبِعَة؛ لأنّه أخذ شيئًا لم يوجبه الله على المالك، ولا على الولي، ولا على المال". قال الفقير لعفو ربه: يبدو أن الشارح -رحمه الله- صاحب قلم سيّال؛ لذا خرج عن التحقيق العلمي واسترسل في الوعظ، وقد تقدم الجواب على ما ذكره. 255 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "فصل: نصاب البقر، ويجب في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي أربعين مسنة ثم كذلك". ¬

_ (¬1) "المصنف" (4/ 72). (¬2) (1/ 489). (¬3) (1/ 494).

قال الفقير إلى عفو ربه: قال الشيخ الألباني -رحمه الله- معلّقًا: "وهذا الحكم في البقر، وكذا الإبل إذا كانت سائمة تتخذ للنسل والنماء، وأما إذا كانت للتجارة؛ فالحكم فيها كسائر أموال التّجارة، وأما إذا كانت عوامل، فلا صدقة فيها، كما فضله أبو عبيد، ونقلناه في "التعليقات" (3/ 93) " (¬1). فكلامه -رحمه الله- يحتمل أمورًا ثلاثة: الأول: أنّه رجع عن قوله بعدم وجوب الزكاة في عروض التّجارة. الثاني: أنّه يستثني بهيمة الأنعام في وجوب الزكاة إذا اتخذت للتجارة. الثالث: أنّه نسي أن الراجح لديه عدم وجوب الزّكاة في عروض التّجارة؛ كما قرر ذلك في "تمام المئة" (363). 256 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ولا شيء فيما دون ذلك: قال في الحجّة: "وهل في الحلي زكاة؟ الأحاديث فيه متعارضة، وإطلاق الكنز عليه بعيد، ومعنى الكنز حاصل، والخروج من الاختلاف أحول". وفي "الموطأ": كانت عائشة تلي بنات أخيها، يتامى في حِجرها، لهن الحُلِي؛ فلا تخرج من حُلِيهن الزكاة. قال مالك: من كان عنده تِبْرٌ أو حُلِي -من ذهبٍ أو فضة- لا ينتفع به لِلبْسٍ؛ فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، يوزن فيؤخذ ربع عُشْرِهِ؛ إلَّا أن ينقص من وزن عشرين دينارًا عينًا، أو مئتي درهم، فإن نقص من ذلك؛ فليس فيه زكاة. وإنما تكون الزكاة إذا كان إنما يُمسِكُه لغير اللبس، فأما التبر والحلي ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 494). (¬2) (1/ 501).

المكسور، الذي يريد أهله صلاحه ولبسه؛ فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة. قال مالك: ليس في اللؤلؤ، ولا في المسك، ولا في العنبر زكاة. قلت: قال به الشافعي في أظهر قوليه، وخصه بالمباح. وأما المحظور -كالأواني وكالسوار والخلخال للرِّجْل-: فتجب فيه الزكاة بكل حال. وعند الحنفية: تجب في الحلي إذا كان من ذهب أو فضة، دون اللؤلؤ ونحوه". قال الفقير إلى عفو ربه: هذه إحدى المسائل الكبار في كتاب الزكاة، ولا بد من أن أسوق الأدلة المرفوعة والموقوفة، لكل فريق من أهل العلم قبل ترجيح الراجح من القولين. أ- الأحاديث المرفوعة: قال الدارقطني (¬1): 1 - "حدَّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز: ثنا محمد بن هارون أبو نشيط: ثنا عمرو بن الربيع بن طارق: ثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن جعفر، أن محمد بن عطاء أخبره عن عبيد الله بن شداد بن الهاد، أنّه قال: "دخلنا على عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من وَرِق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك فيهن يا رسول الله! فقال: "أتؤدين زكاتهن؟ "، فقلت: لا -أو ما شاء الله- من ذلك، فقال: "هن حسْبُكِ من النار"، محمد بن عطاء هذا مجهول" (¬2). قال البيهقي -معقبًا على الدارقطني-: "قال أحمد: هو محمد بن ¬

_ (¬1) في "السنن" (2/ 105 - 107). (¬2) (2/ 105).

عمرو بن عطاء فيما رواه أبو حاتم، ومحمد بن عمرو بن عطاء معروف" (¬1). قال الذهبي: "محمد بن عطاء، عن عبد الله بن شداد، قال الدارقطني: مجهول، قلت: إئما هو محمد بن عمرو بن عطاء أحد الأثبات، روى عنه عبيد الله بن أبي جعفر، فجاء في حديث عائشة في زكاة الحلي في رواية الدارقطني منسوبًا إلى جدّه، فما عرفه، فقال فيه: مجهول" (¬2). والأمر كما قال البيهقي والذهبي؛ لكن الحديث فيه علّة أُخرى، وهي يحيى بن أيوب الغافقي المصري: "قال أحمد: سيئ الحفظ، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال النسائي. ليس بالقوي" (¬3)، وقال ابن معين: "يكتب حديثه ولا يحتج به". قال الدارقطني: 2 - "حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد: ثنا يعقوب بن يوسف بن زياد: ثنا نصر بن مزاحم: ثنا أبو بكر الهذلي. ح. وحدثنا أحمد بن محمد بن يوسف بن مسعدة الفراري: ثنا أسيد بن عاصم: ثنا محمد بن المغيرة: ثنا النعمان بن عبد السلام عن أبي بكر: ثنا شعيب بن الحبحاب، عن الشعبي، قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بطوق فيه سبعون مثقالًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله! خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالًا وثلاثة أرباع مثقال"، أبو بكر الهذلي متروك، ولم يأت به غيره" (¬4). 3 - "حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد: ثنا يعقوب بن يوسف بن زياد: ثنا نصر بن مزاحم: ثنا أبو بكر الهذلي، عن شعيب الحبحاب بهذا ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (6/ 144). (¬2) "الميزان" (3/ 648). (¬3) "الميزان" (4/ 362). (¬4) "السنن" للدارقطني (2/ 106).

مثله، وزاد: "قلت: يا رسول الله! في المال حق سوى الزكاة؟ قال: "نعم؛ ثم قرأ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} " (¬1). 4 - "حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد الختلي: ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن غالب الزعفراني: ثنا أبي، عن صالح بن عمرو، عن أبي حمزة ميمون، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الحلي زكاة"، وعن أبي حمزة عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: "ليس في الحلي زكاة". أبو حمزة هذا ميمون، ضعيف الحديث" (¬2). 5 - "حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد: ثنا أحمد بن محمد بن مقاتل الرازي: ثنا محمد بن الأزهر: ثنا قبيصة عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: "أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن لي حليّا وإن زوجي خفيف ذات يد، وإن لي بني أخ، أفيجزئ عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؛ قال: "نعم"؛ هذا وهم، والصواب: عن إبراهيم، عن عبد الله؛ مرسل موقوف" (¬3). 6 - وروى أحمد (¬4): حدثنا علي بن عاصم، عن عبيد الله بن عثمان بن خيثم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: "دخلت أنا وخالتي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلينا أسورة من ذهب، فقال: "أتعطيان زكاته؟ " فقلنا: لا، قال: "أما تخافان أن يسؤركما الله أسورة من نار؟! أديا زكاته". قال الزيلعي: "وقال ابن الجوزي: وعلي بن عاصم رماه يزيد بن هارون بالكذب، وعبد الله بن خيثم، قال ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية، وشهر بن حوشب قال ابن عدي: لا يحتج بحديثه، وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات المعضلات" (¬5). ¬

_ (¬1) "السنن" للدارقطني (2/ 106). (¬2) "السنن" للدارقطني (2/ 107). (¬3) "السنن" للدارقطني (2/ 108). (¬4) "المسند" (6/ 461). (¬5) "نصب الراية" (3/ 372).

7 - وروى أبو داود (¬1)، عن عتاب بن بشير، عن ثابت بن عجلان، عن عطاء، عن أم سلمة، قالت: "كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله! أكنز هو؟ فقال: "ما بلغ أن تؤدّي زكاته فزكي؛ فليس بكنز"، قال البيهقي: "وهذا يتفرد به ثابت بن عجلان، والله أعلم" (¬2). يشير إلى تضعيفه وهو كما قال. 8 - روى أبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه: "أن امرأة أتت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: "أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا، قال: "أيسرك أن يسؤرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟! "، قال: "فخلعتهما فألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت: هما لله -عز وجل- ولرسوله"، قال البيهقي: "وهذا يتفرّد به عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده" (¬5). 9 - وروى أحمد (¬6): حدثنا إبراهيم بن أبي الليث: حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن عمرو بن يعلى بن مرة الثقفي، عن أبيه، عن جده، قال: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل عليه خاتم من الذهب عظيم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتزكي هذا؟ "، فقال: يا رسول الله! فما زكاة هذا؟ فلما أدبر الرجل؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جمرة عظيمة عليه! ". ب- الآثار الموقوفة: 1 - عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: "أن عائشة زوج النبي، - صلى الله عليه وسلم - كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن ¬

_ (¬1) "السنن" (1564). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 140). (¬3) "السنن" (1563). (¬4) "السنن" (2479). (¬5) "السنن الكبرى" (4/ 140). (¬6) "المسند" (4/ 171).

الزكاة" (¬1)، وعن عبد الرزاق (¬2): "بالذهب واللؤلؤ؛ فلا تزكيه، وكان حليهم يومئذ! يسيرًا". 2 - عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة" (¬3). 3 - عن الثوري ومعمر، عن عمرو بن دينار، قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الحلي: هل فيه زكاة؟ قال: لا؛ قلت: إن كان ألف دينار؟ قال: الألف كثير" عبد الرزاق (¬4). 4 - عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "ليس في الحلي زكاة"، عبد الرزاق (¬5). 5 - عن ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن: "أنها سألت عائشة عن حلى لها: هل عليها فيه صدقة؟ قالت: لا". عبد الرزاق (¬6). 6 - عن الثوري، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: "قالت امرأة عبد الله: إن لي حليًّا فأزكيه؟ قال: إذا بلغ مئتي درهم فزكيه، قالت: في حجري بني أخ لي يتامى أفأضعه فيهم؟ قال: نعم". عبد الرزاق (¬7). 7 - عن الثوري، عن أبي موسى، عن عمرو بن شعيب، عن عبد الله بن عمرو: "أنه كان يحلي بناته بالذهب -ذكر أكثر من مئتي درهم- أراه ذكر الألف أو أكثر- كان يزكيه". عبد الرزاق (¬8). ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 250). (¬2) "المصنف" (4/ 83 / 7052). (¬3) "الموطأ" (1/ 250). (¬4) "المصنف" (4 / رقم:7046). (¬5) "المصنف" (4 / رقم:7047). (¬6) "المصنف" (4 / رقم:7051). (¬7) "المصنف" (4 / رقم:7056). (¬8) "المصنف" (4 / رقم:7057).

8 - حدثنا ابن أبي عدي، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته". أبو عبيد (¬1). 9 - حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يزوج المرأة من بناته على عشرة آلاف، فيجعل حليها من ذلك أربعة آلاف، قال: فكانوا لا يعطونه عنه -يعني: الزكاة- "أبو عبيد (¬2). 10 - حدثنا خالد بن عمر القرشي الكوفي، عن شريك، عن علي بن سليم، قال: "سألت أنس بن مالك عن سيف عليه الفضة الكثيرة، أعليه الزكاة؟ قال: لا". أبو عبيد (¬3). 11 - حدثنا عبد الرحيم ووكيع، عن مساور الوراق، عن شعيب، قال: "كتب عمر إلى أبي موسى أن آمر من قبلك من نساء المسلمين أن يتصدقن من حليهن، ولا يجعلن الهدية والزيادة تعارضًا بينهن". ابن أبي شيبة (¬4). قال البيهقي: "وهذا مرسل، شعيب بن يسار لم يدرك عمر" (¬5). 12 - حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: "يزكي مرة". ابن أبي شيبة (¬6). 13 - حدثنا وكيع، عن جرير بن حازم، عن عمرو بن شعيب، عن عبد الله بن عمرو: "أنه كان يأمر نساءه أن يزكين حليهن". ابن أبي شيبة (¬7). ¬

_ (¬1) في "الأموال" (1265). (¬2) في "الأموال" (1286). (¬3) في "الأموال" (1277). (¬4) "المصنف" (10160). (¬5) "السنن الكبرى" (4/ 139). (¬6) "المصنف" (10161). (¬7) "المصنف" (10165).

14 - حدثنا عبده بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء: "أنها كانت لا تزكي الحلي" ابن أبي شيبة (¬1). 15 - حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء: "أنها كانت تحلي ثيابها الذهب ولا تزكيه" ابن أبي شيبة (¬2). 16 - حدثنا إسماعيل بن عياش، عن محمد بن زياد الألهاني، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: "حلية السيف من الكنوز". ابن أبي شيبة (¬3). 17 - ثنا النضر قال: أخبرنا صخر بن جويرية، عن نافع، قال: قال ابن عمر في الحلي إذا وضع كنزًا، قال: "كل مال يوضع كنزًا ففيه الزكاة حتى تلبسه المرأة، فليس فيه زكاة". ابن زنجويه (¬4). 18 - حدثنا يزيد بن هارون: أخبرنا يحيى بن سعيد: أنا إبراهيم بن أبي المغيرة: أخبره أنه سأل القاسم بن محمد عن صدقة الحلي؟ فقال القاسم: "ما رأيت عائشة أمرت به نساءها ولا بنات أخيها". ابن زنجويه (¬5). 19 - أنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل عن علي بن سليم: "أنه سأل أنس بن مالك عن سيف كثير الفضة" أفيه زكاة؟ قال: لا". ابن زنجويه (¬6). 20 - أنا محاضر، عن هشام بن عروة، عن فاطمة -ابنة المنذر-، عن أسماء: "أنها كانت لا تزكي الحلي، وقد كان حلي بناتها قدر خمسين ألفًا". ابن زنجويه (¬7). ¬

_ (¬1) "المصنف" (1078). (¬2) "المصنف" (10179). (¬3) "المصنف" (10545). (¬4) في "الأموال" (1780). (¬5) في "الأموال" (1783). (¬6) في "الأموال" (1786). (¬7) في "الأموال" (1788).

21 - أنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن المثنى بن الصباح، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، قال: "زكاة الحلي لبوسِه أو عاريته، إذا زكاه مرة"، ابن زنجويه (¬1). 22 - أنا علي بن الحسن، عن ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: "إذا كان حلي يعار ويلبس زكي مزة واحدة"، ابن زنجويه (¬2). 23 - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس الأصم: ثنا يحيى بن أبي طالب: أنبأ عبد الوهاب: أنبأ أسامة بن زيد، عن نافع قال: "كان ابن عمر يحلي بناته بأربع مئة دينار؛ فلا يخرج زكاته". البيهقي (¬3). يتبين بعد سوق الأحاديث والآثار على اختلافها ما يلي: أولا: أن الوارد في المسألة تسعة أحاديث؛ لم يثبت منها سوى حديث عبد الله بن عمرو. ثانيا: أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على عدم وجوب الزكاة في الحلي -مطلقًا-. ثالثًا: أنه ثبت عن ثلاثة من الصحابة القول بوجوب الزكاة في الحلي؛ وهم: ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو -راوي الحديث-، وعائشة -رضي الله عنهم-، وهذا مما يزيد الحديث قوة إلى قوته. رابعا: أنه ثبت عن خمسة من الصحابة القول بعدم وجوب الزكاه في الحلي. ¬

_ (¬1) في "الأموال" (1795). (¬2) في "الأموال" (1796). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 138).

"قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: خمسة من الصحابة؛ كانوا لا يرون في الحلي زكاة: أنس بن مالك، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء" (¬1). خامسًا: أن من القائلين بعدم الوجوب، ثبت عنه القول بالوجوب -وهي عائشة-، ومن المعلوم أن الأصل براءة الذمة؛ فتفطن. سادسًا: أن من القائلين بعدم الوجوب من تردد ولم يجزم؛ إذا كان الحلي كثيرًا -وهو جابر بن عبد الله؛ كما تقدم- برقم (3). سابعًا: أن من القائلين بالوجوب -وهو ابن مسعود- بين أن نصاب زكاة الحلي هو نفسه نصاب زكاة الذهب، وهذا إنّما يقال؛ إذا كان عنده توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بالرأي؛ لأن هناك فارقًا بين الذهب -وهو النقد- وبين الحلي كما لا يخفى. ثامنا: أن من القواعد المتفق عليها بين أهل السنة وجوب رد النزاع إلى الكتاب والسنة؛ كما قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2). وبما أن للصحابة -رضوان الله عليهم- قولين: أحدهما: يوافق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والآخر: لا يوافقه؛ فإن الواجب حينئذٍ الأخذ بما وافق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك ما سوى ذلك. وعليه؛ فإن الواجب على المرأة إذا بلغ حليها قدر النصاب -وهو تسعون غرامًا تقريبًا بوزن الوقت-؛ وجب عليها إخراج زكاته وهو ربع العشر في كل حول. ¬

_ (¬1) "نصب الراية" (3/ 375). (¬2) [النساء:59].

257 - قال الْمُصنِّف (¬1): "وأما ما أخرجه أبو داود، والدارقطني، والبزار من حديث جابر بن سمرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بأن نخرج الزكاة فيما نعد"؛ فقال ابن حجر في "التلخيص": "إن في إسناده جهالة". قال الفقير إلى عفو ربه: رواه أبو داود (¬2)، والدارقطني (¬3)، والبيهقي (¬4)، والطبراني (¬5)؛ كلهم من طريق جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، عن خبيب بن سليمان بن جندب، عن أبيه، عن سمرة بن جندب به. "قال ابن حزم: رواته -يعني: من جعفر بن سعد إلى سمرة- مجهولون، وتبعه ابن القطان، فقال: ما من هؤلاء من يعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى به جملة أحاديث، قد ذكر البزار منها نحو المائة، وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف، وليس جعفر ممن يعتمد عليه. وقال الذهبي في "الميزان": "وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم"، وقال الشيخ عبد الغني الزبيدي: وجعفر بن سعيد وخبيب ووالده سليمان، ذكرهم ابن حبان "في"ثقاته" (¬6). قال ابن عبد البر: "رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن" (¬7). وقال عبد الغني المقدسي: "وهو إسناد حسن غريب" (¬8). ¬

_ (¬1) (1/ 504). (¬2) "السنن" (1562). (¬3) "السنن" (2/ 127). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 146). (¬5) "المعجم الكبير" (7/ 7029). (¬6) "التعليق المغني" (1/ 128). (¬7) "نصب الراية" (1/ 260). (¬8) "السنن" (2/ 133).

وقال الحافظ: "أخرجه أبو داود والدارقطني، والطبراني، وفيه ضعف" (¬1)؛ وهو الأظهر. 258 - قال الْمصَنِّف (¬2): "وأما ما رواه الحاكم، والدارقطني، عن عمران -مرفوعًا- بلفظ: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البزّ صدقتها -بالزاي المعجمة-، فقد ضعف الحافظ في "الفتح" جميع طرقه، وقال في واحدة منها: هذا إسناد لا بأس به". قال الفقير إلى عفو ربه: أخرجه أحمد (¬3)، والترمذي (¬4)، والدارقطني (¬5)، والحاكم (¬6)، والبيهقي (¬7) من طريق محمد بن بكر: أخبرنا ابن جريج، عن عمران بن أبي أنس، بلغه عنه عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري، عن أبي ذربة. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع؛ فإن ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس. قال البخاري: "ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس؛ يقول: حدثت عن عمران بن أبي أنس" (¬8). وقال الحافظ: "وهذا إسناد حسن" (¬9). ¬

_ (¬1) "الدراية" (1/ 260). (¬2) (1/ 504). (¬3) "المسند" (3/ 257). (¬4) في "العلل" (1/ 307). (¬5) "السنن" (2/ 102). (¬6) (1/ 388). (¬7) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬8) "العلل" للترمذي (1/ 307). (¬9) "الدراية" (1/ 260).

وأخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، والدارقطني (¬2)، والبيهقي (¬3)، والبزار (¬4) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن الحدثان، عن أبي ذر به، وهذا إسناد رجاله ثقات سوى موسى بن عبيدة الربذي، فهو ضعيف. قال الحافظ: "قال أحمد: لا تحل الرواية عنه، وقال أبو زرعة: ليس بقوي الأحاديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن عدي: والضعف على رواياته بيّن (¬5) ". قال الحافظ: "ومدار الحديث عليه" (¬6). وقد اختلف في متنه؛ فقيل: "وفي البر" -بالراء المهملة-، وجاء بلفظ: "البز"؛ كما عند أحمد (¬7)، والدارقطني (¬8)، والبيهقي (¬9)؛ وهي الأرجح -كما سيتبين لك-. والذي يظهر لي مما تقدم: أن الحديث يرتقي إلى درجة الحسن بمتابعة موسى بن عبيدة لابن جريج -كما قال الحافظ-، ويقوي هذا: أن فتوى الصحابة والتابعين على مقتضى هذا الحديث. أ- آثار الصَّحابة: 1 - عن ابن عمر قال: "ليس في العروض زكاة إلا في عرض في ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 213). (¬2) "السنن" (2/ 100). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬4) "المسند" (3895 - 3896). (¬5) "التهذيب" (10/ 320). (¬6) "إتحاف المهرة" (14/ 182). (¬7) "المسند" (3/ 257). (¬8) "السنن" (2/ 102). (¬9) "السنن الكبرى" (4/ 147).

تجارة؛ فإن فيه زكاة"، رواه ابن أبي شيبة (¬1): حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر به. ورواه الشافعي (¬2)، وعبد الرزاق (¬3)، وأبو عبيد (¬4)، وابن زنجويه (¬5) بلفظ: "ما كان من مال في رقيق، أو في دواب، أو في بز للتجارة؛ فإن فيه الزكاة في كل عام". قال ابن عبد البر: "ما كان ابن عمر ليقول مثل هذا من رأيه؛ لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي، والله أعلم، ولولا أن ذلك عنده سُنة مسنونة ما قاله، وبالله التوفيق" (¬6). 2 - عن عمر، رواه ابن أبي شيبة (¬7): حدثنا ابن نمير، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن أبي سلمة، أن أبا عمرو بن حماس أخبره: "أن أباه حماس كان يبيع الآدم والجعاب، وأن عمر قال له: يا حماس! أدّ زكاة مالك، فقال: والله مالي مال، إنما أبيع الآدم والجعاب، فقال: قوّمه وأد زكاته"، ومن هذا الطريق: أخرجه الدارقطني (¬8)، والبيهقي (¬9)، وأبو عبيد (¬10). وهذا إسناد رجاله ثقات سوى أبي عمرو بن حماس، قال الذهبي: "مجهول" (¬11). ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 10459). (¬2) "المسند" (97). (¬3) "المصنف" (4/ 7103). (¬4) في "الأموال" (1181). (¬5) في "الأموال" (1690). (¬6) "الاستذكار" (9/ 118). (¬7) "المصنف" (3/ 10456). (¬8) "السنن" (2/ 213). (¬9) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬10) في "الأموال" (425). (¬11) "الميزان" (4/ 557).

وجهالة مثله لا تضر حيث لا يوجد من جرحه، أو طعن فيما ساقه من متن؛ على أن ابن حبان قد ذكره في "الثقات"، والله أعلم. وأمّا أبوه حماس؛ فقد قال الحافظ: "هو مخضرم، كان رجلًا كبيرًا في عهد عمر وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1) ". قال ابن تيمية: "واشتهرت القصة بلا منكر؛ فهي إجماع" (¬2). قال ابن كثير: "رواه الشافعي وسعيد بن منصور بإسناد جيد" (¬3). وقد أخرجه ابن أبي شيبة (¬4): حدثنا عبد الأعلى، عن أبي إسحاق، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ -وكان على بيت المال في زمن عمر- مع عبيد الله بن الأرقم-: "فإذا خرج العطاء؛ جمع عمر أموال التجارة، فحسب عاجلها وآجلها، ثم يأخذ الزكاة من الشاهد والغائب". وأخرجه -أيضًا- أبو عبيد (¬5)، وابن زنجويه (¬6)، وهذا إسناد رجاله ثقات سوى ابن إسحاق، فإنه مدلس؛ وهي علة عليلة لا يلجأ إليها إلا حينما يكون هناك مغمز في المتن، ولا يوجد، وهو شاهد قوي لما تقدم في قصة حماس. 3 - عن ابن عباس، قال: "لا زكاة في العرض"، فهو ضعيف لوجهين: 1 - قال البيهقي: "وهذا قول عامّة أهل العلم، فائذي روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، أنه قال: "لا زكاة في العرض"، فقد قال ¬

_ (¬1) "تعجيل المنفعة" (1/ 466). (¬2) "الفتاوى" (25/ 15). (¬3) "إرشاد الفقيه" (1/ 259). (¬4) "المصنف" (3/ 10466). (¬5) في "الأموال" (1178). (¬6) في "الأموال" (1686).

الشافعي في كتاب "الأُم" في القديم: إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان اتباع حديث ابن عمر لصحته، والاحتياط في الزكاة أحب إلي والله أعلم" (¬1). 2 - وقد ورد عنه خلاف ذلك؛ قال البيهقي: "وقد حكى ابن المنذر عن عائشة، وابن عباس مثل ما رويناه عن ابن عمر، ولم يحك خلافهم عن أحد، فيحتمل أن يكون معنى قوله -إن صح-: "لا زكاة في العرض"؛ أي: إذا لم يرد به التجارة" (¬2). وقال ابن عبد البر: "ولهذا ومثله قلنا: إن الذي روى عن عائشة، وابن عباس في أن لا زكاة في العروض، إنما ذلك إذا لم يرد بها التجارة" (¬3). هذا لو كان لها أسانيد معتبرة أو مقاربه؛ فكيف وحالها كما عرفت؟! ب- آثار التّابعين: 1 - عمر بن عبد العزيز، قال مالك (¬4)، عن يحيى بن سعيد، عن زريق بن حيان -وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد وعمر بن عبد العزيز- فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: "أن انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات، من كل أربعين دينارٍ دينارًا، فما نقص؛ فبحساب ذلك، حتى يبلغ عشرين دينارًا، فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا". 2 - عطاء، قال عبد الرزاق (¬5)، عن ابن جريج، قال: قال عطاء في البز: "إن كان يدار كهيئة الرقيق زكى ثمنه". ¬

_ (¬1) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬3) "التمهيد" (17/ 29). (¬4) في "الموطأ" (1/ 230). (¬5) "المصنف" (4/ 7100).

ومن هذا الطريق قال: "كان عطاء يقول: "لا زكاة في عرض لا يدار إلا الذهب والفضة؛ فإنه إذا كان تبرًا موضوعًا، وإن كان لا يدار زكى". وقال أبو عبيد (¬1): حدثنا هشيم، عن حجاج، عن عطاء، أنّه قال: "ليس في الجواهر، واللؤلؤ، وأشباه ذلك زكاة، إلا أن يكون اشتري للتجارة". 3 - عروة بن الزبير، قال عبد الرزاق (¬2)، عن ابن جريج، قال: حدثت عن عمرو بن مسلم، وأبي النضر، عن ابن المسيب؛ وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه؛ وعن أبي الزناد عن عروة بن الزبير؛ أنهم قالوا في العروض: "تُدار الزكاة كل عام، لا يؤخذ منها الزكاة حتى يأتي ذلك الشهر من عام قابل". 4 - جابر بن زيد، قال أبو عبيد (¬3): وحدثنا يزيد عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، أنه قال في مثل ذلك: "قومه بنحو من ثمنه يوم حلّت فيه الزكاة، ثم أخرج زكاته". 5 - ميمون بن مهران، قال أبو عبيد (¬4): حدثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال: "إذا حلّت عليك الزكاة؛ فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض للبيع، فقومه قيمة النقد، وما كان من دين في ملاءة فاحبسه، ثم اطرح منه ما كان عليك من الدّين ثم زك ما بقي". 6 - الحسن البصري، قال أبو عبيد (¬5): حدثنا يزيد عن هشام، عن الحسن، قال: "إذا حضر الشهر الذي وقت الرجل أن يؤدي فيه زكاته أدى كل مال له، وكل ما ابتاع من التجارة، وكل دين إلَّا ما كان منه ضمارًا لا يرجوه". ¬

_ (¬1) في "الأموال" (1187). (¬2) "المصنف" (4/ 7104). (¬3) في "الأموال" (1183). (¬4) في "الأموال" (1184). (¬5) في "الأموال" (1185).

7 - إبراهيم النخعي، قال أبو عبيد (¬1): وحدثنا هشيم، قال: أخبرنا المغيرة عن إبراهيم، قال: "يقوم الرجل متاعه إذا كان للتجارة إذا حلت عليه الزكاة فيزكيه مع ماله". وعن ابن أبي شيبة (¬2): "كل شيء أريد به التجارة ففيه الزكاة، وإن كان لبنًا أو طينًا". 8 - مجاهد، قال أبو عبيد (¬3): وحدثنا مروان الشجاع، عن خصيف، عن مجاهد، قال: "ليس في الجوهر واللؤلؤ وأشباه ذلك زكاة إلّا أن يكون اشتري للتجارة". 9 - سالم وسعيد بن جبير، قال أبو عبيد (¬4): وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم وسالم، عن سعيد بن جبير، أنهما قالا مثل ذلك. 10 - محمد بن سيرين، قال ابن أبي شيبة (¬5): حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي هلال، عن ابن سيرين، قال في المتاع: "يقوم ثم تؤدى زكاته". 11 - طاووس بن كيسان، قال ابن زنجويه (¬6): حدثنا محمد بن يوسف: أنا سفيان عن عبد الكريم، عن طاووس، قال: "كل دين يرجى أو عرض أو نقد ففيه الزكاة". 12 - عكرمة، قال ابن زنجويه (¬7): ثنا يحيى بن عبد الحميد: انا شريك عن خصيف عن عكرمة: "ليس في الجوهر زكاة إلّا أن يكون للتجارة". ¬

_ (¬1) في "الأموال" (1186). (¬2) "المصنف" (3/ 215). (¬3) في "الأموال" (1187). (¬4) في "الأموال" (1188). (¬5) "المصنف" (3/ 215). (¬6) في "الأموال" (1691). (¬7) في "الأموال" (1696).

13 - سعيد بن المسبب، قال ابن زنجويه (¬1): ثنا يحيى بن عبد الحميد: ثنا شريك عن سالم عن سعيد قال: "ليس في الخرز واللؤلؤ زكاة إلّا أن يكون للتجارة". ج- الإجماع: فقد حكى الإجماع على وجوب زكاة عروض التجارة غير واحد من أهل العلم؛ منهم: 1 - ابن المنذر، قال البيهقي: "وقد حكى ابن المنذر عن عائشة، وابن عباس مثل ما رويناه، عن ابن عمر، ولم يحك خلافهم عن أحد" (¬2). 2 - الطحاوي، قال: "قد ثبت عن عمر وابن عمر زكاة عروض التجارة، ولا مخالف لهما من الصحابة- رضوان الله عليهم-" (¬3). 3 - البيهقي، قال: "وهو قول عامة أهل العلم" (¬4). 4 - أبو عبيد القاسم بن سلام، قال: "فعلى هذا أموال التجارة عندنا -وعليه أجمع المسلمون-: أن الزكاة فرض واجب فيها، وأما القول الآخر؛ فليس من مذاهب أهل العلم عندنا" (¬5). 5 - ابن عبد البر، قال: "فإن أريد بشيء من ذلك التجارة؛ فالزّكاة واجبة فيه عند أكثر العلماء، وممن رأى الزكاة في الخيل والرقيق وسائر العروض كلها إذا أريد بها التجارة: عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصّحابة، وهو قول جمهور التابعين بالمدينة والبصرة والكوفة، وعلى ذلك فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، وهو قول جماعة أهل الحديث" (¬6). ¬

_ (¬1) في "الأموال" (1695). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬3) "الاستذكار" (9/ 117). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 147). (¬5) "الأموال" (1192). (¬6) "التمهيد" (17/ 25).

6 - ابن تيمية، قال: "وأما العروض التي للتجارة ففيها الزكاة، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة؛ إذا حال عليها الحول؛ روى ذلك عن عمر، وابنه، وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة، والحسن، وجابر بن زيد، وميمون بن مهران، وطاووس، والنخعي، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. وحكى عن مالك وداود: لا زكاة فيها. وفي "سنن أبي داود" عن سمرة قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع"، وروى عن حماس قال: "مر بي عمر فقال: أد زكاة مالك، فقلت: ما لي إلا جعاب وآدم، فقال: قومها ثم أد زكاتها"، واشتهرت القصة بلا منكر؛ فهي إجماع" (¬1). قال الألباني -رحمه الله-: "ومثل هذه القاعدة ليس من السهل نقضها أو على الأقل تخصيصها ببعض الآثار ولو صحت؛ كقول عبد الله بن عمر: "ليس في العروض زكاة إلَّا ما كان للتجارة"؛ أخرجه الإمام الشافعي في "الأم" بسند صحيح، ومع كونه موقوفًا غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه ليس فيه بيان نصاب زكاتها، ولا ما يجب إخراجه منها، فيمكن حمله على زكاة مطلقة غير مقيده بزمن أو كمية، وإنما بما تطيب به نفس صاحبها فيدخل حينئذ في عموم النصوص الآمرة بالإتفاق؛ كقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ}، وقوله -جل وعلا-: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكًا تلفًا" (¬2). قال الفقير إلى عفو ربه: ليس الأمر كما قال أبو عبد الرحمن -رحمه الله-؛ فإن ابن عمر - رضي الله عنه - بين -كما عرفت- أن الزكاة ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (25/ 15). (¬2) "تمام المنّة" (364).

فيها كل عام، وهذا يدل على أنه جعلها مثل النقدين، ولا يعرف في الشرع زكاة لم يحدد الشارع نصابها، حتى زكاة الفطر. أما قوله -رحمه الله-: "ومع كونه موقوفًا غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فالجواب عليه أنه اجتمع فيه أمران: الأول: اشتهاره، حتى إن من بعد الصّحابة لم يعرفوا سواه. الثاني: عدم وجود المخالف من الصحابة. فهو بهذين القيدين حجة حتى على طريقة الشيخ -رحمه الله- كما حدثني بذلك، حيث إنه جعل ضابط كون الموقوف حجة: هو اشتهاره وعدم وجود المخالف. قال الألباني -رحمه الله-: "وقد صح شيء مما ذكرته عن بعض السلف، فقال ابن جريج: قال لي عطاء: "لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض، ولا شيء يدار -أي: لا يتاجر به-، وإن كان شيئًا من ذلك؛ ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع"، أخرجه عبد الرزاق (¬1)، وابن أبي شيبة (¬2) وسنده صحيح جدًّا. والشاهد من قوله: "ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع"؛ فإنه لم يذكر تقويمًا ولا نصابًا ولا حولًا، ففيه إبطال لادعاء البغوي (¬3)، الإجماع على وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة؛ إذا كانت نصابًا عند تمام الحول؛ كما زعم أنه لم يخالف في ذلك إلا داود الظاهري". قال الفقير إلى عفو ربه: فقوله -رحمه الله-: "ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع"، لا يخلو إما أنه أراد الصدقة الواجبة -والتي بين الشارع نصابها- أو أراد الصدقة المستحبة -غير واجبة-، والظّاهر هو الأول؛ لأنه اشترط التجارة، ومن المتفق عليه أن الشارع لا يمكن أن يوجب أمرًا غير معلوم ¬

_ (¬1) "المصنف" (4/ 84). (¬2) "المصنف" (3/ 144). (¬3) في "شرح السنة" (6/ 53).

الصفة والمقدار، وقد كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - يقدر المقدرات بأوعيتها؛ كما قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". والوسق: حمل الجمل، فعلم بهذا أنه لا بد أن يقال: إن في العروض زكاة معلومة النصاب، وقد جاءت السنة والآثار عن عمر وغيره أنها تقوم ويخرج منها ربع العشر كحال النقدين. 259 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأخرج الطبراني عن عمر قال: "إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الأربعة ... فذكرها". قال الفقير إلى عفو ربه: قال أبو زرعة: "موسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمر؛ مرسلًا" (¬2). 260 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وأخرج البيهقي من طريق مجاهد قال: "لم تكن الصدقة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في خمسة ... فذكرها". قال الفقير إلى عفو ربه: قال أبو عبد الرَّحمن -رحمه الله-: "قلت: هو مع إرساله لا يصح؛ لأنه من رواية عتاب الجزري -صدوق يخطئ- عن خصيف-وهو سيء الحفظ خلط بآخره؛ كما في "التقريب" (¬4). 261 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وأخرج أيضًا من طريق الحسن، فقال: "لم يفرض الصدقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) (1/ 508). (¬2) "المراسيل" لابن أبي حاتم (379). (¬3) (1/ 509). (¬4) "التعليقات الرضية" (1/ 509). (¬5) (1/ 509).

إلا في عشرة .... فذكر الخمسة المذكورة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة". قال الفقير إلى عفو ربه: قال الألباني -رحمه الله-: "وفي الطريق التي بعدها عن الحسن: عمرو بن عبيد؛ وهو متروك، على أن رواية عنه -وهو ابن عيينة- شك، فقال: أراه قال: "والذرة"؛ لكنه في رواية أخرى عنه قال: "السلت"، ولم يذكر الذرة، والسلت: ضرب من الشعير، كما في "النهاية"، فذكر "الذرة" منكر لضعف أسانيدها ومخالفتها لحديث أبي موسى الصريح في أنها أربع وبالذرة تصير خمسًا" (¬1). قال الحافظ: "أما الذرة؛ فقد تقدم أن إسنادها ضعيف جدًّا، وأما غيرها فوقع في رواية الحسن المرسلة وهي من طريق عمرو بن عبيد وهو ضعيف جدًّا؛ فكيف يؤخذ بهذه الزيادة الواهية" (¬2). ومما يدل على ضعف ونكارة رواية: "الذرة": ما أخرجه يحيى بن آدم في الخراج (¬3): حدثنا وكيع، قال: حدثنا عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة: "أن معاذًا أتى اليمن، فلم يأخذ الصدقة؛ إلّا من الحنطة، والشّعير، والتمر، والزبيب" وإسناده صحيح. وبما رواه أيضًا (¬4) قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري: "أنه لما أتى اليمن لم يأخذ الصدقة؛ إلا من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب"، وإسناده صحيح. وبما رواه أيضًا (¬5)، قال: قال شريك: "وكان موسى بن طلحة يذكر أن في الكتاب إلى عمرو بن حزم: أن الصدقة في هذه الأربعة الأشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب"، قال يحيى: قال شريك: فصدّقه ¬

_ (¬1) "التعليقات الرضية" (1/ 509). (¬2) "التلخيص" (2/ 323). (¬3) (509). (¬4) (538). (¬5) (501).

الحجاج وعامل الناس بذلك"، وإسناده صحيح. وبما رواه أيضًا (¬1) قال: حدثنا زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول -في صدقة الثمار والزرع-: "ما كان من نخل، أو كرم، أو زرع، أو حنطة، أو شعير، أو سلت؛ ففيه العشر، أو نصف العشر"، وإسناده صحيح. 262 - قال الْمصَنِّف (¬2): "ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية؛ فإنّ لهم في مال الله نصيبًا، سواء كانوا أغنياء أو فقراء؛ بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين؛ وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه من زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم، والأمر في ذلك مشهور، ومنهم من كان يأخذ زيادة على مئة ألف درهم". قال الفقير إلى عفو ربه: مراده -والله أعلم- أن يوكل العلماء بصرف الزكاة على أهلها؛ وذلك لأمانتهم، وعلمهم بالمستحق، لا أنهم يأخذون لحظ أنفسهم وهذا لا دليل عليه؛ لا من الكتاب، ولا السنة، ولا الأثر. 263 - قال الْمصَنِّف (¬3): "قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة. وكذا حكى الإجماعَ [أبو طالب -من أهلِ البيت-؛ كما حكى ذلك عنه في "البحر، وكذا حكاه] " ابنُ رسلان". ¬

_ (¬1) (535). (¬2) (1/ 533). (¬3) (1/ 539).

قال الفقير إلى عفو ربه: "وحكي الاتفاق على أنهم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وهم: آل علي، آل عباس، آل جعفر، آل عقيل، آل الحارث" (¬1). 264 - قال المصَنِّف (¬2): "قال في الحجة البالغة: "وجاء في تقدير الغُنْية المانعة من السؤال، أنها أوقية أو خمسون درهمًا، وجاء أيضًا أنها ما يغذّيه أو يعيشه، وهذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا؛ لأن الناس على منازل شتى، ولكل واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه، فمن كان كاسبًا بالحرفة؛ فهو معذور؛ حتى يجد آلات الحرفة، ومن كان زارعًا حتى يجد آلات الزرع، ومن كان تاجرًا حتى يجد البضاعة، ومن كان على جهاد مسترزقًا بما يروح ويغدو من الغنائم، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالضابط فيه، أوقية، أو خمسون درهمًا، ومن كان كاسبًا بحمل الأثقال في الأسواق، أو احتطاب الحطب وبيعه وأمثال ذلك؛ فالضابط فيه: ما يغذيه ويعشيه". قال الفقير إلى عفو ربّه: قال شيخ الإسلام: والضابط في ذلك -والله أعلم- هو العرف "ومن ملك ولو أثمانًا لا تقوم بكفايتة أعطي تمام كفايته؛ فإن الغني الذي لا يجوز إعطاؤه منها؛ هو ما يعده الناس غنيًّا، ويحصل به الكفاية على الدوام إما من إجارة أرض أو عقار، أو غير ذلك، فمن كان محتاجًا حلت له وإن ملك نصابًا، قال الشافعي وغيره؛ قد يكون الرجل بالدرهم غنيًّا مع كسبه ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله، وقال أحمد وغيره: إذا كان له عقار وضيعة يستغلها عشرة آلاف -مثلًا- أو أكثر ولا تكفيه يأخذ من الزّكاة، ويكون له الزرع القائم وليس له ما يحصده يأخذ منها. وقال الشيخ: وفي معناه ما يحتاج إليه لإقامة مؤنة، وإن لم ينفقه بعينه فيها، وكذا من له كتب يحتاج للحفظ والمطالعة، أو لها حلي للبس، أو ¬

_ (¬1) "الإحكام" للعلَّامة عبد الرحمن بن قاسم (2/ 222). (¬2) (1/ 540).

كراء تحتاج إليه؛ لا يمنع ذلك الأخذ من الزكاة" (¬1). 265 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ثم اعلم أنّ الأدلة طافحة بأن الصرف في ذوي الأرحام أفضل؛ من غير فرق بين الصدقة الواجبة والمندوبة، كما يدل على ذلك ترك الاستفصال في مقام الاحتمال، فإنّه ينزل منزلة العموم. على أنه قد ورد التصريح في حديث أبي سعيد عند البخاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم". وثبت عند البخاري، وأحمد عن مَعْن بن يزيد، قال: أخرج أبي دنانير يتصدّق بها عند رجل في المسجد، فجئت فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لك ما نويت يا يزيد! ولك ما أخذت يا معن! ". وهذه الأدلة إنّما هي تبرع من القائل بالجواز والإجزاء، وإلّا فهو قائم مقام المنع من كون القرابة أو وجوب النفقة مانِعينِ، ولم يأت القائل بذلك بدليل يَنْفُقُ في محل النزاع، على فرض أنه لم يكن بيد القائل بالجواز إلا التمسك بالأصل، فكيف والأدلة عمومًا وخصوصًا ناطقة بما ذهبوا إليه". قال الفقير إلى عفو ربه: "قال شيخ الإسلام في دفع الزكاة إلى الوالدين إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن الإنفاق عليهم يجوز دفعها إليهم؛ وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ويشهد له العمومات، وقال: الأقوى دفعها إليهم في هذه الحال؛ لأن المقتضي موجود، والمانع مفقود؛ فوجب العمل بالمقتضى السالم من المعارض المقاوم. ¬

_ (¬1) "الإحكام" (2/ 182). (¬2) (1/ 542).

وقال: إذا كان محتاجًا إلى النَّفقة وليس لأبيه ما يُنفق عليه؛ ففيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه. وأمّا إذا كان مستغنيًا بنفقة أبيه، فلا حاجة به إلى زكاته، وفي "الصحيح" في الذي وضع صدقته عند رجل فجاء ولد المصدق فأخذها ممّن هي عنده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتصذق: "لك ما نويت"، وقال للآخذ: "لك ما أخذت". قال ابن رجب: إنما يمنع من دفع زكاته إلى ولده خشية أن تكون محاباة، وإذا وصلت إليه من حيث لا يشعر كانت المحاباة منحفية؛ وهو من أهل الاستحقاق". وقال الشيخ: وإذا كانت الأم فقيرة ولها أولاد صغار لهم مال، ونفقتها تضرّ بهم، أعطيت من زكاتهم. وإذا كان على الولد دين لا وفاء له جاز أن يأخذ النفقة من زكاة أبيه في أظهر القولين في مذهب أحمد وغيره" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "الإحكام" (2/ 199).

الصيام

الصيام 1 - باب: أحكام الصّيام 266 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "في "المسوى" اختلفوا في هلال رمضان: فقيل: يثبت بشهادة الواحد، وعليه أبو حنيفة، وقيل: لا بدّ من عدلين، وعليه مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين؛ أظهرُهما الأول، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مُصْحِيَةً أو مُغيمةً. وقال أبو حنيفة في الصَّحو: لا بدّ من جمع كثير". قال الفقير إلى عفو ربّه: أما رؤية هلال رمضان؛ فقد ثبت اعتداد الشارع برؤية الواحد والاثنين العدول على ما جاء في حديث ابن عمر: أخرجه أبو داود (¬2)، والدارقطني (¬3)، والبيهقي (¬4)، والحاكم (¬5)، وحديث ابن عباس: أخرجه أبو داود (¬6)، والترمذي (¬7)، والنسائي (¬8)، وابن ماجه (¬9). ¬

_ (¬1) (2/ 9). (¬2) "السنن" (2342). (¬3) "السنن" (2/ 156). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 212). (¬5) (1/ 423). (¬6) "السنن" (2340). (¬7) "السنن" (691). (¬8) "السنن" (2112). (¬9) "السنن" (1652).

وعن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخرجه أبو داود (¬1)، والبيهقي (¬2)، والدرقطني (¬3) -. والاثنين: على حديث عبد الرحمن بن زيد؛ أخرجه أحمد (¬4)، والنسائي (¬5) -، وأمير مكة الحارث بن حاطب-. وقد جاءت آثار الصَّحابة -رضي الله عنهم- موافقة للأحاديث المرفوعة. أمّا رؤية هلال شوال؛ فلم يثبت في المرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء؛ إلا مجرّد القياس على رؤية هلال شعبان، وقد جاءت الآثار الصّحيحة عن الصَّحابة -رضي الله عنهم- بخلاف هذا القياس. فقد روى ابن أبي شيبة (¬6): حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: "كنّا بخانقين فأهللنا هلال رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فأتانا كتاب عمر أن الأهلّة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا؛ فلا تفطروا؛ إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنَّهما أَهلَّاه بالأمس". فإن قيل: فما الجواب على ما أخرجه الشافعي (¬7)، وعبد الله (¬8) من طريق سليمان الشيباني، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: "شهدت المدينة في عيد فلم يشهد على الهلال إلَّا رجل واحد، فأمرهم عبد الله بن عمر فقبلوا شهادته"؟ -ذكره صاحب "ما صحّ من آثار الصَّحابة" (2/ 627) -. ¬

_ (¬1) "السنن" (2341). (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 212). (¬3) "السنن" (2/ 159). (¬4) "المسند" (4/ 321). (¬5) "السنن" (2116). (¬6) (3/ 69). (¬7) في "الغيلانيات" (1/ 215). (¬8) في "مسائله" (179).

فالجواب: أن هذه الرواية شاذّة، فقد رواه ابن أبي شيبة (3/ 68) قال: حدَّثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن عبد الملك بن ميسرة قال: "شهدت المدينة في هلال صوم أو إفطار فلم يشهد على الهلال إلا رجل فأمرهم ابن عمر فقبلوا شهادته". ورواه أحمد عن حفص بن غياث عن الشيباني، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: "كنت بالمدينة فشهد رجل أنه رأى الهلال ... " (¬1). ورواه الشافعي في "الغيلانيات" (1/ 232) من طريق أحمد بن حنبل بمثله. ورواه ابن جرير الطبري (¬2): حدثنا أبو كريب: حدَّثنا أبو أدريس: حدثني الشيباني عن عبد الملك، قال: "قدمت المدينة فرئي الهلال ... ". ورواه أيضًا (2/ 1129)، حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي: حدَّثنا حفص بن غياث: حدثنا الشيباني، عن عبد الملك، قال: "كنت بالمدينة فجاء رجل يشهد على رؤية الهلال ... ". وانفرد محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدَّثنا عبد الواحد: حدَّثنا سليمان: حدَّثنا عبد الملك بن ميسرة، قال: "شهدت المدينة في عيد ... " (¬3)؛ بهذا اللفظ. ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال الحافظ عنه: "صدوق"، وهو إن كان صدوقًا فقد خالف من هو أوثق منه في قوله: "شهدت المدينة في عيد"، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يعارض به أثر عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) "مسائل الإمام أحمد" رواية ابنه عبد الله (179). (¬2) في "تهذيب الآثار" (2/ 1127). (¬3) "تهذيب الآثار" (2/ 1127).

267 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وفي "الأنوار": وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة". قال الفقير إلى عفو ربّه: انظر أثر عمر في الفقرة السابقة (266). 268 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "أو إكمال عدّة شعبان: لحديث أبي هريرة في "الصّحيحين" وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم؛ فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين". قال الفقير إلى عفو ربّه: وهذه اللفظة وهي قوله في آخر الحديث: "عدة شعبان" وإن أخرجها البخاري؛ فقد أعلّت بعلَّتين: قال ابن القيم: "إحداهما: أنه من رواية محمد بن زياد عنه، وقد خالفه فيه سعيد بن المسيب؛ فقال فيه: "فصوموا ثلاثين" قالوا: روايته أولى؛ لإمامته، واشتهار عدالته، وثقته، واختصاصه بأبي هريرة، ولموافقة روايته لرأي أبي هريرة ومذهبه؛ فإن مذهب أبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس، ومعاوية، وعائشة، وأسماء: صيام يوم الغيم. قالوا: فكيف يكون عند أبي هريرة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فأكملوا عدّة شعبان"؛ ثم يخالفه؟! والعلة الثانية: ما ذكر الإسماعيلي، قال: "وقد روينا هذا الحديث عن غندر، وابن مهدي، وابن علية، وعيسى بن يونس، وشبابة، وعاصم بن علي، والنضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وأبي داود؛ كلُّهم عن شعبة؛ ¬

_ (¬1) (2/ 10). (¬2) (2/ 10).

لم يذكر أحد منهم: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، فيجوز أن يكون آدم قال ذلك من عنده على وجه التفسير للخبر، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين ما رواه عنه وجه، "هذا آخر كلامه (¬1). قال الدارقطني: حدثنا محمد بن مخلد: ثنا علي بن داود: ثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبّي عليكم الشهر، فعدوا ثلاثين"؛ يعني: عدوا شعبان ثلاثين"، صحيح عن شعبة، كذا رواه آدم عن شعبة. وأخرجه البخاري عن آدم، عن شعبة وقال فيه: "فعدوا شعبان ثلاثين"، ولم يقل: يعني" (¬2). قال الحافظ: "وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضًا، فرواها البخاري -كما ترى- بلفظ: "فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين"، وهذا أصرح ما ورد في ذلك، وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك، فإن أكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه: "فعدوا ثلاثين"، أشار إلى ذلك الإسماعيلي وهو عند مسلم وغيره، قال: فيجوز أن يكون آدم أورده على ما وقع عنده من تفسير الخبر؛ قلت: الذي ظنه الإسماعيلي صحيح، فقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن يزيد، عن آدم بلفظ: "فإن غَم عليكم فعُدّوا ثلاثين يومًا"، يعني: عدّوا شعبان ثلاثين، فوقع للبخاري إدراج التفسير في نفس الخبر" (¬3). قال الفقير إلى عفو ربه: فهذا التحقيق العلمي في هذه الرواية هو المعتمد، وإن كانت من حيث المعنى صحيحة؛ فقد روى الدارقطني (¬4) - ¬

_ (¬1) "تهذيب السنن" (3/ 216). (¬2) "السنن" (2/ 162). (¬3) في "الفتح" (4/ 145). (¬4) (2/ 156).

وصححه ابن خزيمة (¬1) - من حديث عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عدّ ثلاثين يومًا ثم صام". وله شاهد من حديث ابن عباس؛ رواه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) وقال: "حسن صحيح"، وابن خزيمة (¬4)، وابن حبان (¬5). 269 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "أقول: يمكن أن يقال: إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصّص بالشهرين المذكورين، وما ورد في خصوص شهر رمضان، ممّا يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين؛ فيمكن أن يقال فيه: إن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يومًا". قال الفقير إلى عفو ربّه: هذا الفهم لهذا النّص يفتقر إلى مستند من كلام الأولين، وإلا فلا يخلو من تكلّف. 270 - قال الْمُصَنِّف (¬7): "قال بعض المحققين: التكليف الشهري عُلِّقَ معرفة وقته برؤية الهلال دخولًا وخروجًا، أو إكمال العدّة ثلاثين يومًا، فهل في الأكوان أوضح من ¬

_ (¬1) في "صحيحه" (3/ 203). (¬2) "السنن" (2/ 298). (¬3) "السنن" (3/ 72). (¬4) في "صحيحه" (3/ 204). (¬5) في "صحيحه" (8/ 228). (¬6) (2/ 11). (¬7) (2/ 11).

هذا البيان؟! والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمّة". قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أنه ثبت بالسُّنة الصحيحة واتفاق الصَّحابة؛ أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في "الصَّحيحين" أنه قال: "إنا أُمّة أُمِّية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته". والمعتمد على الحساب في الهلال؛ كما أنه ضالٌ في الشريعة، مبتدع في الدّين، فهو مخطئ في العقل، وعلم الحساب؛ فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم: إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلًا، لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدوده؛ فإنها تختلف باختلاف حدَّةِ النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشر درجة، ولهذا تنازع أهل الحساب، في قوس الرؤية تنازعًا مضطربًا. وأئمّتهم -كبطليموس- لم يتكلموا في ذلك بحرف؛ لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي. وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم -مثل كوشيار الديلمي، وأمثاله؛ لَمَّا رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقًا تنضبط فيه الرؤية. وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة؛ بل خطؤها كثير، وقد جزب، وهم يختلفون كثيرًا: هل يرى؟ أم لا يرى؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصَّواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشرع الصَّحيح؛ هو الذي يوافقه العقل الصَّريح" (¬1). ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (25/ 207 - 208).

271 - قال المصنِّف (¬1): "وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة: وجهه الأحاديث المصرّحة بالصّيام لرؤيته والإفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمّة، فمن رآه منهم في أيّ مكان؛ كان ذلك رؤية لجميعهم. وأمّا الاستدلال من استدل بحديث كُرَيب عند مسلم وغيره: أنّه استهلَّ عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة، فأخبر بذلك ابن عباس، فقال: لكنا رأيناه ليلة السّبت، فلا نزال نصوم حتى نكمِل ثلاثين أو نراه، ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وله ألفاظ-: فغير صحيح؛ لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه، ظنًّا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل؛ وهذا خطأ في الاستدلال، أوقع الناس في الخَبط والخَلط، حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا ما قرره شيخ الإسلام -رحمه الله- حيث قال: "فإن قيل: قد روى كريب مولى ابن عباس: "أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتي، واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال يوم الجمعة، ثم قدمت بالمدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلنا: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم؛ ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتّى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولًا تكتفي برؤية معاوية؛ فقال: لا؛ هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه. قيل: ابن عباس أخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن لا يفطروا في مثل هذه الواقعة، ولم يذكر لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون ذلك؛ لأن كريبًا ¬

_ (¬1) (2/ 12).

هو الّذي أخبرهم بالرؤية المتقدمة وحده، وقد أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا بشهادة اثنين؛ لائهم لو علموا بخبره لأفطروا، وليس فيه تعرض لقضاء ذلك اليوم. وشهادة الواحد إنما تقبل في الهلال إذا اقتضت الصوم أداء أو قضاء، فأما إذا اقتضت الفطر فلا. ويجوز أن يكون ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يصوموا لرؤيته ويفطروا لرؤيته، ولا يفطروا حتى يروه أو يكملوا العدّة، كما قد رواه ابن عباس وغيره مفسرًا. فاعتقد ابن عباس أن أهل كل بلد يصومون حتى يروه أو يكملوا العدّة، وقد تقدم عنه - صلى الله عليه وسلم - ما يبين أنه قصد رؤية بعض الأمّة في الجملة؛ لأنّ الخطاب لهم، وهذا عمل برؤية قوم في غير مصرهم". "شرح العمدة- الصيام" (¬1). وإلى ما قرّره شيخُ الإسلام ذهب محدث العصر الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- فقال -معلقًا على قول صاحب "فقه السُّنة": "الثالث لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها. واختار المؤلف هذا المذهب الأخير معققا عليه بقوله: "هذا هو المشاهد ويتفق مع الواقع". قلت: وهذا كلام عجيب غريب؛ لأنه إن صحّ أنه مشاهد موافق للواقع، فليس فيه أنه موافق للشرع أولًا، ولأن الجهات -كالمطالع- أمور نسبية ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها ويقفوا عندها. ثانيًا: وأنا -والله- لا أدري ما الذي حمل المؤلف على اختيار هذا الرأي الشاذ، وأن يُعْرض عن الأخذ بعموم الحديث الصّحيح، وبخاصّة أنه ¬

_ (¬1) (1/ 173).

مذهب الجمهور؛ كما ذكره هو نفسه، وقد اختاره كثير من العلماء المحققين: مثل شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، والشوكاني (¬2)، وصديق حسن خان (¬3) وغيره، فهو الحق الذي لا يصح سواه، ولا يعارضه حديث ابن عباس؛ لأمور ذكرها الشوكاني. ولعلّ الأقوى أن يقال: إن حديث ابن عباس ورد فيمن صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتّى يكملوا ثلاثين أو يروا هلالهم، وبذلك يزول الإشكال، ويبقى حديث أبي هريرة، وغيره على عمومه، يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو أقليم من غير تحديد مسافة أصلًا، كما قال ابن تيمية (¬4)، وهذا أمر متيسر اليوم للغاية -كما هو معلوم-، ولكنه يتطلّب شيئًا من اهتمام الدول الإسلامية حتى تجعله حقيقة واقعيّة -إن شاء الله تبارك وتعالى-" (¬5). قال الفقير إلى عفو ربّه: ومع تقديري التام لهذين العالمين الجليلين وللمصنّف -رحمهم الله-؛ فإن فهم الأولين مع انتفاء الخلاف بينهم أحب إلينا في هذه المسألة وغيرها. قال ابن عبد البر: "ثم إن النظر يدل عليه عندي؛ لأن الناس لا يكلّفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم، ولو كلّفوا ذلك لضاق عليهم، أرأيت لو رُؤي بمكة، أو بخراسان هلال رمضان أعوامًا، بغير ما كان بالأندلس، ثم ثبت ذلك بزمان عند أهل الأندلس أو عند بعضهم، أو عند رجل واحد منهم، أكان يجب عليهم قضاء ذلك اليوم وقد صام برؤية وأفطر برؤية؟ أو بكمال ثلاثين يومًا كما أمر؟ ومن عمل بما يجب عليه مما أمر به ¬

_ (¬1) في "الفتاوى"، (225). (¬2) في "نيل الأوطار". (¬3) في "الروضة الندية" (1/ 224 - 225). (¬4) في "الفتاوى" (25/ 107). (¬5) "تمام المنّة" (397).

فقد قضى الله عنه، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب، والله الموفق للصّواب" (¬1). ثم: 1 - إن الله -تعالى- قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال: إنهم شاهدوه لا حقيقة ولا حكمًا، والله -تعالى- أوجب الصّوم على من شاهده. 2 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، فعلل الأمر في الصّوم بالرؤية ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال: إنه رآه لا حقيقة ولا حكمًا. 3 - أن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق؛ فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا لقوله -تعالى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر فكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي؛ فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة" انتهى (¬2). وبه قال عكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وإسحاق بن راهويه، وابن عبد البر، ثم إني وجدت شيخ الإسلام يقرّر هذا (¬3) حيث قال: "تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا؛ فإن اتفقت لزم الصوم وإلا فلا، وهو الأصح للشافعية، وقول في مذهب أحمد"، فهذا تصريح برجوعه عمّا قرره موافقًا لمذهبه في "شرح العمدة" وغيره. ¬

_ (¬1) "التمهيد" (14/ 358). (¬2) من "الشرح الممتع" (6/ 321) لفقيه عصرنا الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-. (¬3) في "الاختيارات" (158).

272 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وعلى الصائم النية قبل الفجر: لحديث حفصة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "من لم يُجمعِ الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له"؛ أخرجه أحمد، وأهل "السُّنن"، وابن خزيمة، وابن حبان -وصحّحاه-، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفًا، فالرَّفع زيادة يتعين قبولها، على ما ذهب إليه أهل الأُصول، وبعض أهل الحديث". قال الفقير إلى عفو ربه: والأصح رواية من رواه موقوفًا على حفصة -رضي الله عنها- قال الدّارقطني: "رفعه عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، وهو من الثقات الرفعاء -لعل المراد الرفاعين- واختلف على الزهري في إسناده: فرواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة من قولها، وتابعه الزبيدي، وعبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري. وقال ابن المبارك، عن معمر، وابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة، وكذلك قال بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، وكذلك قال إسحاق بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد، عن الزهري، وغير ابن المبارك يرويه عن ابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة. واختلف عن ابن عيينة في إسناده، وكذلك قال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وقال ابن وهب -أيضًا- عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قوله، وتابعه عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، وقال الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، أن عبد الله وحفصة قالا ذلك، ورواه عبيد الله بن عمر عن الزهري، واختلف عليه" (¬2). ¬

_ (¬1) (2 - 13/ 14). (¬2) "السنن" (2/ 172).

273 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "أمَّا حديث أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن أصبح صائمًا أن يتم صومه في يوم عاشوراء، فغاية ما فيه: أنَّ من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار؛ كان ذلك عذرًا له عن التبييت". قال الفقير إلى عفو ربه: وإلى هذا ذهب أبو العباس: "ومن تجدد له صوم بسبب، كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء التهار، فإنَّه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء، وإن كان قد أكل" (¬2)، وإلى ساعتي هذه لم أجد عن الصَّحابة شيئا في ذلك. قال ابن القيم: "وطريقة ثالثة: وهي أن الواجب تابع للعلم، ووجوب عاشوراء، إنما علم من النهار، وحينئذٍ فلم يكن التبييت ممكنًا، فالثية وجبت وقت تجدد الوجوب والعلم به، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق وهو ممتنع. قالوا: وعلى هذا إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النّهار، أجزأ صومه بنية مقارنة للعلم بالوجوب، وأصله صوم يوم عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا؛ وهي -كما تراها- أصح الطرق، وأقربها إلى موافقة أصول الشرع وقواعده، وعليها تدل الأحاديث، ويجتمع شملها الذي يظن تفرقه، ويتخلّص من دعوى النسخ بغير ضرورة، وغير هذه الطريقة لا بدّ فيه من مخالفة قاعدة من قواعد الشرع، أو مخالفة بعض الآثار. وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أهل قباء بإعادة الصّلاة التي صلوا بعضها إلى القبلة المنسوخة، إذ لم يبلغهم وجوب التحول، فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم، أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه؛ لم يؤمر ¬

_ (¬1) (2/ 14). (¬2) "الاختيارات" (159) وانظر مزيد بحث وتفصيل في "الفتاوى" (22/ 251).

بالقضاء، ولا يقال: إنه ترك التبييت الواجب، إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيت وهذا في غاية الطهور" (¬1). 274 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "أقول: وأمّا أنه يجب تجديد النية لكل يوم؛ فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشيء، أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر، ولا ريب أن من قام في وقت السّحر، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به، في غير أيام الصوم؛ فقد حصل له القصد المعتبر؛ لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضّرورة، إذا لم يكن ثَمَّ عذرٌ مانع عن الأكل والشرب غير الصوم، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد؛ إلّا إذا كان مجنونا أو ساهيا أو نائما، كمن ينام يومًا كاملًا". قال الفقير إلى عفو ربِّه: ولعل ثمرة الخلاف في هذه الصورة: هي من نام يومًا كاملًا؛ فهل يصحّ صيامه للغد أم لا؟ فمن اعتبر تجديد النية أمره بالقضاء، ومن قال تكفيه نية صيام الشّهر؛ صحح صومه؛ وهو الأظهر (¬3). ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (2/ 66 - 77). (¬2) (2/ 14). (¬3) أخرج مالك في "الموطأ" (1/ 288 / 5) عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: "لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر". وأخرج النسائي في "السنن الكبرى" (2/ 118 / 2652 - العلمية) من طريق محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله: "إذا لم يجمع الرجل الصيام من الليل؛ لا يصوم". وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1 / رقم 9112) والدارقطني في "السنن" (2/ 283) من طريق: سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن حفصة رضي الله عنها، قالت: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر". وإسناده صحيح. قلت: وهذه الآثار تكون في صورة من تردَّد في النية؛ كأن يقول: "هل الغد من رمضان أو ليس من رمضان؟ "، أو أنه لم ينوِ أصلًا؛ كأن يكون على سفر في الغد =

275 - قال الْمصَنِّف (¬1): "وقد ذهب إلى العمل بهذا الجمهور، وهو الحق، ومن قابل هذه السّنة بالرأي الفاسد فرأيه رد عليه، مضروب في وجهه". قال الفقير إلى عفو ربّه: أمّا قوله: "فرأيه رد عليه" فهذا حق، وأمّا قوله: "مضروب في وجهه"؛ فلا أجد ما يشهد لها من أدب الكتاب والسُّنّة. 276 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وهكذا الجماع: لا خلاف في أنه يُبطل القسِام إذا وقع من عامد، وأمّا إذا وقع مع النّسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيًا، وتمسّك بقوله في الرواية الأُخرى: "من أفطر يومًا من رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة"، وبعضهم منع من الإلحاف أقول: إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف، وقد ثبت في "الصَّحيحين" وغيرهما: أن المجامع في رمضان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هلكت يا رسول الله! قال: "وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأمَرَه بالكفارة. وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له: "وصم يومًا مكانه"؛ وهذه الزيادة مروية من أربع طرق ويقوي بعضها بعضًا. ¬

_ = فيقول: أنا مسافر في الغد، ولا أحتاج إلى نية الصوم لأني مسافر، ثم يبدو له بعد الفجر عدم السفر، فيقول أنا صائم، فهذا نقول له: لا يصح منك الصيام لأنك لم تبيت النية من الليل. أما من نوى أن يصوم فإنه لا يحتاج إلى تجديد النية كل ليلة لأنها لازمة -إلا أن يطرأ عليه طارئ سفر، أو مرض، ثم أراد استئناف الصيام فإنه لا بد له أن يبيت نية جديدة قبل فجر اليوم الذي يريد فيه استئناف الصيام. (¬1) (2/ 16). (¬2) (2/ 16 / 17).

ويدل على تحريم الوطء للصائم واجبًا: مفهومُ قوله -سبحانه-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ". قال الفقير إلى عفو ربه: يظهر من كلامه -رحمه الله- عدم إلحاق المجامع النّاسي بالأكل، وهذا تفريق بين متماثلين يندرجان تحت قاعدة واحدة؛ وهي: قوله -تبارك وتعالى-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] (¬1). وقوله -تعالى-: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬2)، وجاء في "الصحيح" من حديث ابن عباس -مرفوعًا-: "يرويه عن ربّه: "قد فعلت" (¬3)، وثبت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه". وهذه قاعدة في كافة المحظورات؛ في الصّلاة، والصّيام، والحج، وغيرها، من فعل منها شيئًا ناسيًا أو جاهلًا؛ فلا إثم عليه ولا كفارة. 277 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له: "وصم يومًا مكانه"، وهذه الزيادة مروية من أربع طرق، ويقوي بعضها بعضًا {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}. قال الفقير إلى عفو ربه: الطريق الأولى: أخرجها أبو داود (¬5)، وابن ماجه (¬6)، والدارقطني (¬7)، ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 5]. (¬2) [البقرة: 286]. (¬3) "مسلم" (126). (¬4) (2/ 17). (¬5) "السنن" (2393). (¬6) "السنن" (1954). (¬7) "السنن الكبرى" (2/ 243 - 252).

والبيهقي (¬1)، من طريق هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. الطريق الثانية: أخرجها البيهقي (¬2)، من طريق إبراهيم بن سعد، قال: وأخبرني الليث بن سعد عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة به. الطريق الثالثة: أخرجها الدارقطني (¬3) من طريق إسماعيل بن أبي أويس؛ حدثني أبي، أن محمد بن مسلم بن شهاب، أخبره عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدّثه. الطريق الرابعة: أخرجها البيهقي (¬4) من طريق عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. ويتبين أن الطريق الثالثة والرابعة متابعتان للثانية. 278 - قال الْمصَنِّف (¬5): "والقيء عمدًا: لحديث أبي هريرة: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ذَرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا؛ فليقضِ"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم -وصححه-. وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمّد القيء يفسد الصّيام وفيه نظر؛ فإن ابن مسعود، وعكرمة، وربيعة قالوا: إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالبًا أو مستخرجًا، ما لم يرجع منه شيء باختياره". قال الفقير إلى عفو ربّه: أما أثر ابن مسعود: فقد أخرجه عبد ¬

_ (¬1) "السنن" (4/ 226). (¬2) (4/ 226). (¬3) (2/ 251). (¬4) (4/ 226). (¬5) "السنن الكبرى" (4/ 226).

الرزاق (¬1) عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود، قال: "إنما الوضوء مما خرج، والصوم مما دخل وليس مما خرج"؛ وهو -كما ترى- منقطع؛ فهو ضعيف؛ فإنّ إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود. فإن قيل: ما الجواب على أثر ابن عباس الذي علقه البخاري (32 - باب: المجامعة والقيء للصائم): "وقال ابن عباس وعكرمة: "الصوم مما دخل وليس مما خرج"؟ قيل: هو مجمل ويشكل عليه: أن الحائض تفطر بخروج الدّم، قال الحافظ: "أمّا قول ابن عباس، فوصله ابن أبي شيبة عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في المجامعة للصائم؛ قال: "الفطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل" (¬2). أمّا ما ورد عن أبي هريرة؛ فهو ضعيف، قال الحافظ: "كأنّه يشير بذلك إلى ما رواه هو -في "التاريخ الكبير"-؛ قال: قال لي مسدد، عن عيسى بن يونس: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة -رفعه-، قال: "من ذرعه القيء وهو صائم؛ فليس عليه القضاء، وإذا استقاء فليقض"، قال البخاري: لم يصحّ، وإنما يروى عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، وعبد الله ضعيف جدًّا" (¬3). والذي يصحّ هو أثر ابن عمر، الذي أخرجه مالك (¬4): عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول: "من استقاء وهو صائم؛ فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه"، وهو بهذا التفصيل لا مخالف له من الصحابة. ¬

_ (¬1) "المصنف" (1/ 170). (¬2) "الفتح" (4/ 207). (¬3) "الفتح" (4/ 206). (¬4) في "موطئه" (1/ 304).

279 - قال الْمُصَنف (¬1): "وعلى من أفطر عمدًا كفارة ككفارة الظهار: لحديث المجامع في رمضان؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "هل تجد ما تُعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال: "فهل تجد ما تُطعم ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، ثم أُتِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بَعَرْقٍ فيه تمر، فقال: "تصدّق بهذا"، قال: فهل على أفقَرَ منّا؟! فما بين لابَتَيْهَا أهل بيت أحوج منّا، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، وقال: "اذهب فأطعمه أهلك "ولم يذكر الجماع". قال الفقير إلى عفو ربه: هذا التقرير نقيض طريقة المصنف -رحمه الله- من حيث الأخذ بالظّاهر، وترك التوسع في الرأي، وكان الصواب الوقوف مع النصوص وعدم التكلف في إلحاق بعضها ببعض؛ من غير حجّة ولا برهان، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه -رحمه الله- لبينه الشارع، قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬2). وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬3). وأمّا رواية: "أن رجلًا أفطر"؛ فهي مجملة، والطريقة العلميّة تقضي بحملها على المبينة، وهي الفطر بالجماع. 280 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "وروي عن بعض الظاهريّة -وهو محكي عن أبي هريرة-: أن الفطر في السّفر واجب، وأن الصوم لا يجزئ". ¬

_ (¬1) (2/ 19). (¬2) [التوبة: 115]. (¬3) [مريم: 64]. (¬4) (2/ 23).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: أخرجه ابن أبي شيبة (¬1): حدَّثنا الفضل بن دكين، عن زهير، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرر، عن أبي هريرة، قال: "صمت في السّفر فأمرني أبو هريرة أن أعيد الصّيام في أهلي". وهذا إسناد رجاله ثقات، سوى المحرر بن أبي هريرة، قال الحافظ عنه: "مقبول" (¬2)، وقال الذهبي: "وثق" (¬3). وعلى فرضه حسنه؛ فهو معارض بما أخرجه مسدد (¬4): ثنا يحيى، عن ابن عجلان: ثني أبو سعيد -مولى المهري-، قال: "أقبلت مع صاحب لي من العمرة، فوافينا هلال رمضان، فنزل في أرض أبي هريرة في يوم شديد الحر، فأصبحنا مفطرين إلّا رجلّا منَّا واحدًا، فدخل صاحبنا يتلمّس برد النّخيل، فقال: ما بال صاحبكم؟ قالوا: صائم، قال: ما حمله على ألّا يفطر، قد رخّص الله له، لو مات ما صلّيت عليه". وهذا إسناد صحيح، والشاهد من الأثر؛ قوله: "قد رخّص الله له". 281 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "والمراد بـ (نحو المسافر): الحبلى والمرضع؛ لما أخرجه أحمد، وأهل "السُّنن" -وحسّنه الترمذي- من حديث أنس بن مالك الكعبي، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله - عزّ وجلّ - وضع عن المسافر الصوم وشطر الصّلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وقد صح عن اثنين الصّحابة: ¬

_ (¬1) (2/ 8996). (¬2) "التقريب". (¬3) "الكاشف" (¬4) "المطالب العالية" (1/ 405). (¬5) (2/ 23).

1 - عن ابن عمر: أ- فقد روى عبد الرزاق (¬1): عن معمر عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: "الحامل إذا خشيت على نفسها في رمضان تفطر وتطعم ولا قضاء عليها". صحيح. ب- وروى الشّافعي (¬2): عن مالك عن نافع: "أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها؟ فقال: "تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينًا مُدًّا من حنطة". صحيح. ج- وروى الدارقطني (¬3): حدَّثنا أبو صالح الأصبهاني: ثنا أبو مسعود: ثنا الحجّاج: ثنا حماد عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر: "أن امرأة سألت وهي حبلى؟ فقال: "أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا ولا تقضي". صحيح. د- وأمّا ما يروى عن ابن عمر: "أنّه أمرها أن تفطر وتُطعم كل يوم مسكينًا مدًّا، ثم لا يجزئها ذلك، فإذا صحّت قضته". فهو ضعيف الإسناد؛ فقد أخرجها أبو عبيد (¬4)، من طريق محمد بن جعفر، عن ابن أبي لبيبة، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن ابن عمر به. فيه: ابن أبي لبيبة - واسمه: محمد بن عبد الرّحمن -؛ قال الحافظ: "ضعيف كثير الإرسال". 2 - عن ابن عباس: أ- روى أبو داود (¬5)، عن أبّان عن قتادة، عن عكرمة: "أنّ ابن عباس قال: "أثبت للحبلى والمرضع -يعني: قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} "- صحيح. ¬

_ (¬1) (4/ 218). (¬2) "مسنده" (1/ 278). (¬3) (2/ 207). (¬4) في "الناسخ والمنسوخ" (63/ 106). (¬5) (708).

ب- روى الدّارقطني (¬1)، عن ابن عباس: "أنّه رأى أم ولد له حاملًا -أو مرضعًا- فقال: أنت بمنزلة الّذي لا يطيقه عليك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليك"، وقال: "إسناد صحيح". وقد روى البيهقي عنه قوله: "تقضي ولا تطعم" وإسنادها حسن. قال الترمذي: "وقال بعضهم: يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما، وإن شاءتا قضتا ولا إطعام عليهما، وبه يقول إسحاق" (¬2). وبهذا يتفق كلام الصّحابة - رضوان الله عليهم -. 282 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ومن مات وعليه صوم صام عنه وليّه: لحديث عائشة في "الصّحيحين" وغيرهما، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وعليه صيام؛ صام عنْه وليّه"؛ وقد زاد البزّار لفظ: "إن شاء"، قال في "مجمع الزوائد" "وإسناده حسن". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الشيخ الألباني -رحمه الله-: "قلت: وليس كذلك؛ لأنّه تفرّد بها ابن لهيعة (¬4) وقد صرّح بضعفها (¬5) فقال: "وهي ضعيفة؛ لأنّها من طريق ابن لهيعة". وقوله: "صام": خبر بمعنى الأمر؛ تقديره: فليصم، وهو للوجوب عند بعض أهل الظّاهر - خلافًا للجمهور - وإلى ذلك ذهب الشارح - رحمه الله -" (¬6). ¬

_ (¬1) (2/ 206). (¬2) (1/ 218). (¬3) (2/ 23). (¬4) كما في "الفتح" (4/ 157). (¬5) في "التلخيص" (6/ 457). (¬6) "التعليقات الرضية" (2/ 23).

283 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "أقول: الظّاهر - والله أعلم - أنّه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميّت إذا كان عليه صوم، سواء أوصى أو لم يوص، كما هو مدلول الحديث، ومن زعم خلاف ذلك، فليأت بحجّة تدفعه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أما من التزم فهم الدّين عقيدة وشريعة على منهج صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه لا يعدل عنهم، ولا يخرج عن أقوالهم وفهمهم لكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه؛ فإنّ الحقّ الّذي لا مريّة فيه في هذه المسألة: أن الميت إذا كان عليه صيام، فلا يخلو من حالين: الأول: أن يكون فرضًا، فهذا يطعم عنه؛ كما أفتى بذلك ابن عباس وعائشة: أ- فقد روى عبد الرزاق (¬2) عن معمّر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان الأنصاري، عن ابن عباس: "عن رجل مات وعليه رمضان، ونذر صيام شهر آخر؟ قال: يطعم عنه ستّون مسكينًا". وإسناده حسن. ب - وروى النسائي (¬3): أنبأ محمد بن عبد الأعلى، قال: حدَّثنا يزيد وهو ابن زريع، قال: حدَّثنا حجّاج الأحول، قال: حدَّثنا أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: "لا يصلّي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدًّا من حنطة" وهذا إسناده حسن. ¬

_ (¬1) (1/ 25). (¬2) "المصنف" (4/ 240). (¬3) في "الكبرى" (2/ 175).

ج - روى أبو داود (¬1): حدَّثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان، عن أبىِ حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. أ- فقد روى الطّحاوي (¬2): حدَّثنا روح بن الفرج: حدَّثنا يوسف بن عدي: حدَّثنا عبيدة بن حميد عن عبد العزيز بن رضيع. عن عروة عن عمرة ابنة عبد الرحمن، قالت: "سألت عائشة - رضي الله عنها -: فقلت لها: إنّ أُمي توفيت وعليها رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: لا، ولكن تصدّقي عنها مكان كل يوم مسكين، خير من صيامك عنها"، وإسناده صحيح. الثاني: أن يكون نذرًا، فهذا يصام عنه على فتوى ابن عباس وعائشة وابن عمر. أ- فقد روى البيهقي (¬3): أخبرنا أبو بكر بن الحسن القاضي، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس الأصم: ثنا محمد بن إسحاق: أنبأ عبد الوهاب ابن عطاء: أنبأ سعيد عن روح بن القاسم، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: "في امرأة توفيت -أو رجل- وعليه رمضان ونذر شهر؟ فقال ابن عباس: يطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا، أو يصوم عنه وليّه لنذره"، وإسناده حسن. ب- وذكر شيخ الإسلام (¬4) لفظًا آخر لأثر ابن عباس، فقال: "وعن ميمون بن مهران: "أنّ ابن عباس سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان؟ فقال: "أمّا رمضان" فيطعم ¬

_ (¬1) "السنن" (2401). (¬2) في "مشكل الآثار" (6/ 178). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 254). (¬4) في "شرح العمدة" - الصيام - (1/ 364).

عنه، وأمّا النّذر؛ فيُصام عنه". رواه أبو بكر". ج- وروى ابن أبي شيبة (¬1): حدَّثنا ابن علية عن علي بن الحكم البناني، عن ميمون، عن ابن عباس: "سئل عن رجل مات وعليه نذر؟ فقال: يصام عنه النذر". وإسناده صحيح. د - وروى أبو داود (¬2): حدَّثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليّه"، وإسناده صحيح. أ- فقد روى الطّحاوي (¬3) -كما سبق- عن عمرة ابنة عبد الرحمن، قالت: "سألت عائشة فقلت لها: إنّ أمّي توفيت وعليها رمضان؛ أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: لا، ولكن تصدّقي عنها مكان كل يوم مسكين، خير من صيامك عنها". وإسناده صحيح. أ- فقد روى البيهقي (¬4): أخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي: أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب: ثنا محمد بن عبد الوهاب: أنبأ جعفر بن عون: أنبأ يحيى بن سعيد عن القاسم ونافع: "أنّ ابن عمر كان إذا سئل عن الرجل يموت وعليه صوم من رمضان أو نذر؟ يقول: لا يصوم أحد عن أحد، ولكن تصدّقوا عنه من ماله للصوم؛ لكل يوم مسكينًا". وسئل الإمام أحمد: عن قول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليّه؟ قال: هذا في النذر خاصّة؛ كما قال ابن عباس وعائشة"، "مسائل ابن هانئ". ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 112). (¬2) "السنن" (2401). (¬3) في "مشكل الآثار" (6/ 178). (¬4) "السنن الكبرى" (4/ 254).

284 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "والكبير والعاجز عن الأداء والقضاء يكفّر عن كل يوم بإطعام مسكين؛ لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في "الصحيحين" وغيرهما، قال: لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتّى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وأخرج هذا الحديث أحمدُ، وأبو داود، عن معاذ بنحو ما تقدّم؛ وزاد: ثم أنزل الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , فأثبت الله صيامه على المقيم الصّحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام. وأخرج البخاري، عن ابن عباس، أنَّه قال: ليست هذه الآية منسوخه: هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا. وأخرج أبو داود، عن ابن عباس، أنَّه قال: أُثبتت للحبلى والمرضع أن يُفطرا؛ ويطعما كل يوم مسكينًا. وأخرج الدّارقطني، والحاكم -وصحّحاه- عن ابن عباس، أنَّه قال: رُخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه. وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن، مع ما فيه في الإشعار بالرّفع؛ فكان ذلك دليلًا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم. أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصّوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث، وليس في الكتاب العزيز ما يدلّ ¬

_ (¬1) (2/ 25 - 27).

على ذلك؛ لأنّ قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}؛ إن كانت منسوخة -كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمّهات كلهم: أنَّها كانت في أول الإسلام، فكان من أراد أن يفطر يفتدي؛ حتّى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} , ومثل ذلك روي عن معاذ بن جبل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، ومثله عن ابن عمر؛ أخرجه البخاري -: فالمنسوخ ليس بحجّة بلا خوف. وإن كانت محكمة -كما رواه أبو داود عن ابن عباس-: فظاهرها جواز ترك الصّوم لمن كان مطيقًا غير معذور، ووجوب الفدية عليه، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون. وأمّا قول ابن عباس المتقدّم: فكلام غير مناسب لمعنى الآية؛ لأنّها في المطيقين، لا فيمن لا يستطيع أن يصويم كما قال، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنّها أُثبتت للحبلى والمرضع، فإنه يدل على أنّها منسوخه فيما عداهما". قال الفقير إلى عفو ربِّه: يرحمك الله ما كان أغناك عن هذا! فلقد أخطأت في حكمك على ابن عباس من وجوه عدّة: الأول: فهمك -أن الآية منسوخة؛ وأنّه لا وجه لما قاله ابن عباس في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة - فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - متفقون على المعنى الذي ذهب إليه ابن عباس: 1 - فقد روى أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (¬1) عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد في الشيخ إذا كبر ولم يطق الصيام: افتدى بطعام مسكين كل يوم مدًّا من حنطة"، قال ذلك أبو بكر بن حزم عن أشياخ الأنصار". ¬

_ (¬1) (59).

2 - ولما رواه أبو داود (¬1)، وأحمد (¬2)، والحاكم (¬3): عن شعبة عن الأعمش، قال: حدَّثنا عمرو بن مرّة: ثنا ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: "أنزل الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} -إلى هذه الآية-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، قال: فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطْعَم مسكينًا وأجزأ ذلك عنه. قال: ثم إن الله - عزّ وجلّ - أنزل الآية الأُخرى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}؛ قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصّحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الّذي لا يستطيع الصّيام". وأُعلَّ بالإرسال. 3 - ما أخرجه الدارقطني (¬4): حدَّثنا أبو صالحٍ الأصبهانيُّ: ثنا أبو مسعود: ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح أنَّ أبا حمزة حدّثهم عن سليمان بن موسى عن عطاء، عن أبي هريرة قال: "من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم رمضان؛ فعليه لكل يوم مد من قمح"، وفي إسناده: عبد الله بن صالح؛ فيه ضعف. (فهذا قول ثلاثة من الصّحابة ولم يعرف لهم مخالف) (¬5). الثاني: (وأيضًا؛ فإن الصّحابة والتابعين أخبروا أنّ الله رخّص في هذه الآية للعاجز عن الصّوم أن يفطر ويُطعم، وأنّ حكم الآية باقٍ في حقّه، وهم أعلم بالتّنزيل والتأويل، وأيضًا؛ فإن ذلك تبيّن من وجهين: أحدهما: أَنّ ابن عباس وأصحابه قرؤوا (يُطوَّقونه) و (يُطيقونه)، وهي ¬

_ (¬1) "السنن" (1/ 193). (¬2) "المسند" (5/ 246). (¬3) (2/ 301). (¬4) "السنن" (2/ 208). (¬5) "شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 262).

قراءة صحيحة عنه، والقراءة إذا صحّت عن الصحابة كان أدنى أحوالها أن تجري مجرى خبر الواحد في اتّباعها والعمل بها؛ لأنّ قارئها يخبر أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قرأها كذلك: فإمّا أن يكون حرفًا من الحروف السّبعة الّتي نزل القرآن بها، ويكون بعد النّسخ يقرأ الآية على حرفين (يُطوَّقونه) و (يُطيقونه)، أو يكون سمعها على جهة التفسير وبيان الحكم، فاعتقد أنّها من التلاوة، وعلى التّقديرين فيجب العمل بها. وإن لم يقطع بأنّها قرآن، ولهذا موضع - يستوفى فيه - غير هذا الموضع. ومعنى (يُطوَّقونه)؛ أي: يكلّفونه فلا يستطيعونه، فمن كلّف الصوم فلم يطقه؛ فعليه فدية طعام مسكين، وإن صام مع الجهد والمشقّة، فهو خير له، وهذا معنى كلام ابن عباس في رواية عطاء عنه. الثاني: أنّ العامة تقرأ (يطيقونه)، فكان في صدر الإسلام لَمّا فرض الله الصوم خيّر الرّجل بين أن يصوم وبين أن يُطعم مكان كل يوم مسكينًا، فإن صام ولم يُطعم، كان خيرًا له، ثم نسخ الله هذا التّخيير في حق القادر بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، فأوجب الصّوم ومنع من الفطر والإطعام، وبقي الفطر والإطعام للعاجز عن الصّوم؛ لأنّه لما أوجب على المطيق للصوم أحد هذين الأمرين -وهو الصيام أو الإطعام؛ لقدرته على كل منهما- كان القادر على أحدهما مأمورًا بما قدر عليه، فمن كان إذ ذاك يقدر على الصّيام دون الإطعام لزمه، ومن يقدر على الإطعام دون الصيام لزمه، ومن قدر عليهما؛ خُيِّر بينهما، فإنّ هذا شأن جميع ما خُير النَّاس بينه، مثل خصال كفّارة اليمين، وخصال فدية الأذى وغير ذلك، ثم نسخ الله جواز الفطر عن القادر عليه، فبقي الفطر والفدية المستفاد من معنى الآية للعاجز. ويُبيّن ذلك: أن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصّوم؛ فإنهما يكونان مخيّرين بين الصّيام والإطعام، فإذا عجز بعد ذلك عن الصّوم، تعيّن عليهما الإطعام، ثم نسخ ذلك التّخيير، وبقي هذا المعين، وهذا ما تقدّم عن معاذ

وابن عباس من رواية سعيد بن جبير وغيره من التّابعين" (¬1). الثالث: فإن (قيل: هي منسوخه في حق الّذي كان قد خير بين الأمرين؛ وهو القادر على الصّيام؛ كما دلّ عليه نطق الآية، وكما بينوه، فأمّا من كان فرضه الطعام فقط -كما دلّ عليه معنى الآية-؛ فلم يُنسخ في حقّه شيء، وعلى هذا يحمل كلام من أطلق القول بأنّها ليست منسوخة؛ لأنّه قد روى عن ابن عباس التصريح بذلك) (¬2). قلت: 1 - فقد روى عبد الرزاق (¬3): عن معمر، عن أيوب، قال: سمعت عكرمة يحدّث عن ابن عباس: "أنّها ليست بمنسوخه، فكانوا يقرؤنها "يطوقونه"؛ هي في الشّيخ الّذي كلف الصيام ولا يطيقه؛ فيفطر ويُطعم". 2 - وروى عبد الرزاق (¬4): عن معمر، عن ثابت البناني، قال: "كبر أنس بن مالك حتّى كان لا يطيق الصيام، فكان يفطر ويُطعم". 285 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان - وعليه رمضان أو بعضه، ولم يقضه -؛ لأنّه لم يثبت في ذلك شيء صحّ رفعه، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصّحابة من أقوالهم، وليس بحجّة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدًا من عباده، والبراءة الأصلية مُستصحَبة، فلا ينقل عنها إلّا ناقل صحيح، وقد ذهب إلى هذا النخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: بل هي حجّة بالشرط المذكور آنفًا، وعلى ¬

_ (¬1) "شرح العمدة" لابن تيميّة (1/ 262 - 264). (¬2) "شرح العمدة" لابن تيميّة (1/ 266). (¬3) "المصنف" (4/ 221). (¬4) "المصنف" (4/ 220). (¬5) (2/ 27).

ذلك جرى أئمّة الإسلام - ومنهم: الأربعة -، ولم يخالف إلّا شرذمة من المتكلّمين ومن قلّدهم من أهل الظّاهر (¬1)، وفي عين هذه المسألة جاءت الآثار عن الصّحابة متّفقة: 1 - روى البيهقي (¬2): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا الحسن بن مكرم: ثنا يزيد بن هارون: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: "في رجل أدركه رمضان وعليه رمضان آخر؛ قال: يصوم هذا ويُطعم عن ذاك كل يوم مسكينًا ويقضيه". 2 - وبما رواه أيضًا (¬3): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا يحيى بن أبي طالب، قال: قال عبد الوهاب بن عطاء: "سئل سعيد وهو ابن أبي عروبة عن رجل تتابع عليه رمضانان وفرط فيما بينهما؟ فأخبرنا عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن مجاهد، عن أبي هريرة أنه قال: "يصوم الّذي حضر ويقضي الآخر ويُطعم لكل يوم مسكينًا". قال الدّارقطني: "إسناد صحيح موقوف" (¬4). 3 - ولما رواه الدارقطني (¬5): حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار: ثنا عباس بن محمد: ثنا يحيى بن أبي بكير: نا زهير: نا الحسن بن الحر، عن نافع، أنّ عبد الله كان يقول: "من أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء؛ فليطعم مكان كل يوم مسكينًا مدًّا من حنطة". ¬

_ (¬1) انظر "أعلام الموقعين". (¬2) "السنن الكبرى" (4/ 253). (¬3) "السنن الكبرى" (4/ 253). (¬4) "السنن" (2/ 421). (¬5) "السنن" (2/ 196).

"وقال حرب: سألت أحمد قلت: رجل أفطر في رمضان من مرض أو علّة ثم صحّ لم يقض حتى جاء رمضان آخر؟ قال: يصوم هذا اليوم الّذي جاء ويقضي الّذي ترك ويطعم لكل يوم مسكينًا، قلت: مدَّا؟ قال: نعم" (¬1). "وقد ذكر يحيى بن أكثم: أنَّه وجد في هذه المسألة الإطعام عن ستة من الصحابة؛ لم يعلم لهم منهم مخالفًا" (¬2). وهذا الحكم -وهو وجوب الإطعام مع القضاء- خاص بالمتساهل المفرط لا المعذور. لأنّه "ليس له أن يؤخّره إلى رمضان إلا لعذر، مثل أن يمتد به المرض أو السّفر إلى أن يدخل الرمضان الثّاني: أ- فإن أخّره إليه لعذر، صام رمضان الّذي أدركه وقضى الرمضان الّذي فاته بعده ولا شيء عليه. "فعلى كل حال، ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصّوم وهو لا يطيقه، وهو محل النّزاع، وغذا لم يوجد دليل في كتاب الله، ولا في سُنَّة رسوله: فليس في غيرهما أيضًا ما يدلّ على ذلك، فالحق عدم وجوب الإطعام، وقد ذهب إليه جماعة من السَّلف؛ منهم: مالك، وأبو ثور، وداود. 286 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وأمّا التفريق في قضاء رمضان: فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن قضاء رمضان؟ فقال: "إن شاء فرَّقه، وإن شاء تابعه"؛ وفي إسناده سفيان بن بشر، وقد ضعّفه بعضهم. ¬

_ (¬1) "شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 348). (¬2) "شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 351). (¬3) (2/ 27 - 28).

وقال ابن الجوزي: ما علمنا أحدًا طعن فيه، ثم صحّح الحديث". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وعلى هذا أجمع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1 - فقد روى ابن أبي شيبة (¬1): حدّثني معاوية بن صالح: حدَّثنا أزهر بن سعيد، عن أبي عامر الهوزني، قال: سمعت أبا عبيدة بن الجراح: "وسئل عن قضاء رمضان متفرّقًا؟ قال: احص العدّة وصم كيف شئت". 2 - وروى (¬2) أيضًا: حدَّثنا زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن موسى بن يزيد بن موهب، عن أبيه، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل: "أنّه سئل عن قضاء رمضان؟ قال: احص العدّة وصم كيف شئت". 3 - وروى (¬3) أيضًا: حدَّثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن عبد الحميد بن رافع بن خديج، عن جدّته: "أن رافعًا كان يقول: احص العدّة وصم كيف شئت". (4) وروى (¬4) أيضًا: حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عباس وأبي هريرة، قالا: "لا بأس بقضاء رمضان متفرّقًا". (5) وروى (¬5) أيضًا: حدَّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: أنبأني أبو بكر عن أنس، قال: "إن شئت فاقض رمضان متتابعًا وإن شئت متفرّقًا". 6 - وروى (¬6) أيضًا: حدَّثنا ابن علية، عن معمر، عن الزهري، عن ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 34). (¬2) "المصنف" (3/ 32). (¬3) "المصنف" (3/ 32). (¬4) (3/ 32). (¬5) (3/ 32). (¬6) (3/ 33).

عبيد الله، عن عبد الله، عن ابن عباس، في قضاء رمضان -: "صمه كيف شئت". تنبيه: لم يذكر المؤلّف بعض المفطرات الّتي دلّ عليها الدّليل من السُّنّة الصّحيحة والأثر؛ كالحجامة، وسيأتي في تعليقي على "نيل الأوطار" - إن شاء الله تعالى - بسط هذا وغيره ممّا لم يتعرّض له المؤلف. 287 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "واستقبال رمضان بيوم أو يومين: لحديث أبي هريرة في "الصّحيحين" وغيرهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلّا أن يكون رجل كان يصوم صومًا؛ فليصمه". ويؤيّده حديث أبي هريرة أيضًا عند أصحاب "السُّنن" - وصحّحه ابن حبان وغيره - مرفوعًا - بلفظ: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا". وفي الباب أحاديث. والخلاف طويل مبسوط في المطوّلات. أقول: وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصّحابة إلى الآن، وقد صارت مركزًا من المراكز الّتي يتغالى النّاس في أمرها إثباتًا ونفيًا، ولم يحتجّ أحد منهم بأن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه. وأمّا ما احتجّوا به من العمومات الدّالة على مشروعية مطلق الصّوم واستحبابه: فنحن نقول بموجبها، ونقول: هي مخصَّصة بأحاديث أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصوم لرؤية الهلال، والإفطار لرؤيته، أو إكمال العدّة كما صحّ في جميع دواوين الإسلام، وبأحاديث نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وهو في "الصّحيح"؛ بل ورد النّهي عن صوم النّصف الأخير من شعبان. ¬

_ (¬1) (2/ 38 - 39).

وقال عمّار: من صام يوم الشّك؛ فقد عصى أبا القاسم؛ وهو صحيح. بل قال ابن عبد البر: لا يختلفون في رفعه. ولعلّ مراده أن له حكم الرّفع، لا أن القائل له هو النّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصّص قط. ومن نظر إلى ما يقع من عوامّ المسلمين -بل ومن بعض خواصِّهم في هذه الأعصار من التّجاري على الصوم والإفطار بمجرّد الشكوك والخيالات الّتي هي عن الشّريعة بمعزل-: قضى العجب، وبكى على الدين، وانتظر القيامة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأصل في هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبّي عليكم؛ فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين" متفق عليه. وفي رواية: "فإن أغمي عليكم فأكملوا العدّة"، أخرجها مسلم (¬1). وفي رواية: "فإن حال دونه غمامة فأتمّوا العدّة": أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4)، وغيرهم، وعن عمار بن ياسر، قال: "من صام اليوم الّذي يشكّ فيه؛ فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - "؛ أخرجه: أبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي (¬7)، وغيرهم. فها هنا صورتان في المسألة: الأولى: أن تكون ليلة الثلاثين من شعبان صحوًا ولم يُرَ؛ فالصحابة ¬

_ (¬1) "السنن" (3/ 127). (¬2) "السنن" (2327). (¬3) "السنن" (1/ 133). (¬4) "السنن" (1/ 302). (¬5) "السنن" (2334). (¬6) "السنن" (1338). (¬7) "السنن" (1/ 306).

مجمعون على تحريم الصّيام في هذه الحالة. الثانية: أن يحول دون رؤيته ليلة الثلاثين من شعبان سحاب أو قتر؛ فللصحابة في هذه الحالة قولان: أ- يصام احتياطًا؛ صحّ ذلك عن ابن عمر، وعائشة، ومعاوية، وأسماء. ب- أنّه لا يجوز صيامه، وعليه يحمل قول عمار: "من صام الّذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - "، وإليه ذهب: ابن عباس، وابن مسعود (¬1)؛ مستدلين بقول النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإن غمّ عليكم فاقدروا له"، ومن قال بهذا؛ فهو أسعد بالدّليل. قال - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. وذهب إلى أثر ابن عمر أحمد في أحدى روايتيه، واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم، وهذا غريب (¬2)!! فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن حال دونه غمام أو غياية فأكملوا العدّة ثلاثين يومًا"؛! فكيف يقال: إن عمّارًا فهم من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - ما لم يرده؟ وقد وافقه على ذلك ابن مسعود؟! وكان الأولى الاعتذار لمن قالوا بخلاف هذا القول من الصّحابة؛ كابن عمر وعائشة، ومن وافقهما من الأئمّة والأخذ بقول من وافق النّص الصّريح من الصّحابة والله ولي التوفيق. 288 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "قال في "الحجّة البالغة": "إن ليلة القدر ليلتان: إحداهما: ليلة يُفْرَقُ فيها كلُّ أمر حكيم، وفيها نزل القرآن جملة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 322) والبيهقي (4/ 209). قال: "لأن أفطر يومًا من رمضان ثم أقضيه أحب إليّ من أزيد فيه ما ليس منه". (¬2) انظر "شرح العمدة" (1/ 124 - 126)، وردَّ شيخ الإسلام على أثر عمّر ولعلّه لم يعلمه بأثر ابن عباس وابن مسعود. (¬3) (2/ 46).

واحدة، ثم نزل بعد ذلك نُجُمًا نُجُمًا، وهي ليلة في السَّنة، ولا يجب أن تكون في رمضان، نعم؛ رمضان مظِنَّة غالبة لها، واتّفق أنَّها كانت في رمضان عند نزول القرآن. والثانية: يكون فيها نوع من انتشار الروحاينة، ومجيء الملائكة إلى الأرض، فيتّفق المسلمون فيها على الطاعات، فتتعاكس أنوارهم فيما بينهم ويتقرّب منهم الملائكة، ويتباعد منهم الشياطين، ويُستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر، تتقدّم وتتأخّر فيها، ولا تخرج منها، فمن قصد الأولى قال: هي في كل سنة، ومن قصد الثانية قال: هي في العشر الأواخر من رمضان". قال الفقير إلى عفو ربّه: قال أحمد شاكر - في تعليقه على "الروضة": "هذا خيال غريب من صحاب "الحجّة البالغة"، لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، وما أظن أحدًا قاله قبله، والعبرة في هذه الأمور بالنّقل، لا بالتخيّل والأوهام". 289 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وفي المسوى": "اختلفوا في أي ليلة هي أرجى؟ والأقوى أنّها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدّم وتتأخّر. وقول أبي سعيد: أنَّها ليلة إحدى وعشرين. وقال المزني، وابن خزيمة: إنَّها تنتقل كل سنّة ليلة؛ جمعًا بين الأخبار. قال في "الروضة": وهو قوي. ومذهب الشافعي أنَّها لا تلزم ليلة بعينها. وفي "المنهاج": وميل الشافعي إلى أنَّها ليلة الحادي والثالث والعشرين. وعن أبي حنيفة: أنَّها في رمضان، لا يُدرَى أيّة ليلة هي؟ وقد تتقدّم وتتأخّر. ¬

_ (¬1) (2/ 46 - 47).

وعندهما كذلك؛ إلّا أنَّها متعيّنة لا تتقدّم ولا تتأخّر" (¬1). قال الفقير إلى عفو ربِّه: النصوص الثابتة عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تدلّ على أنّها في الوتر العشر الأواخر في رمضان؛ من غير تحديد ليلة بعينها، بل تارة تكون ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين هكذا؛ كما نقل ذلك المصنّف عن ابن خزيمة والمزني. 290 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "قال في "المسوى": اتّفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول، ولا يفسد به اعتكافه، ولا يخرج للأكل والشرب، ويجوز غسل الرأس، وترجيل الشّعر, وما في معناه. وأكثرهم على أنَّه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض، وصلاة الجنازة؛ إلّا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارًّا. وإن شرط في اعتكافه الخروج لشيء من هذا؛ جاز له أن يخرج عند الشّافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة كذا في "شرح السنّة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذا الاشتراط لا أصل له في المنقول، والقياس في العبادات فاسد. * * * ¬

_ (¬1) (2/ 46 - 47). (¬2) (2/ 48).

الحج

الحج 291 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}: قصد البيت، والقصد لا إجمال فيه، وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذوا عنِّي مناسكَكُم"؛ فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله، والأمر يفيد الوجوب، فتكون المناسك الّتي بيَّنها - صلى الله عليه وسلم - واجبة، لا يخرج عن الوجوب منها، إلّا ما خصّه دليل". قال الفقير إلى عفو ربِّه: تقدّم أنّ النّصوص العامّة من القرآن والسُّنّة يجب أن تفهم على ضوء السُّنّة التفصيليّة؛ من أقوال وأفعال النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم -. 292 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وكذلك العمرة وما زاد فهو نافلة، وفي حديث أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العمرة إلى العُمرة كفَّارة لما بينَهُما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنَّة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الحجّ المبرور: هو الَّذي لا يخالطه شيء من المأثم. ¬

_ (¬1) (2/ 51). (¬2) (2/ 57).

قال السيوطي: "وأخرج عبد بن حميد وابن جرير (¬1) عن علي أنّه قرأ: {وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت}، ثم قال: هي واجبة مثل الحج". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في "سننه" والأصبهاني في "الترغيب" عن ابن مسعود، قال: "أمرتم بإقامة أربع: أقيموا الصّلاة، وآتوا الزّكاة، وأقيموا الحجّ، والعمرة إلى البيت، والحج: الحجّ الأكبر، والعمرة: الحجّ الأصغر". وأخرج سفيان بن عيينة، والشافعي، والبيهقي - في "سننه" - عن طاوس، قال: قيل لابن عباس: "أتأمر بالعمرة قبل الحج، والله - تعالى - يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؟ فقال ابن عباس: كيف تقرؤون: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فبأَيِّهما تبدؤون؟ قالوا: بالدَّين، قال: فهو ذاك". وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، عن ابن عباس، قال: "العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلًا" (¬2). وأخرج الشافعي -في "الأم"- والبيهقي، عن ابن عباس، قال: "والله إنّها لقرينتها في كتاب الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} " (¬3). وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: "العمرة الحجّة الصغرى" (¬4). وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي داود -في "المصاحف"-، عن ابن مسعود: "أنَّه قرأ {وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت}، ثم قال: والله! لولا التحرّج ¬

_ (¬1) في "تفسيره" (2/ 251) بإسناد ضعيف. (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 285) والحاكم (1/ 470) والبيهقي (5/ 351) بإسناد ضعيف كما قال الحافظ في "الفتح" (4/ 598). (¬3) علقه البخاري في "صحيحه" (1/ 537 / 26) ووصله الشافعي في "الأم" (1/ 327 / 980). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 334 / 1762)، وابن أبي شيبة (3 / رقم: 13657). وإسناده صحيح.

أني لم أسمع فيها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لقلنا: إنّ العمرة واجبة مثل الحجّ" (¬1). وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والحاكم -وصححه-، عن ابن عمر، قال: "العمرة واجبة؛ ليس على أحد من خلق الله إلا عليه حخة وعمرة، واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلًا" (¬2). وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم، عن ابن سيرين: "أنّ زيد بن ثابت سئل عن العمرة قبل الحجّ؟ قال: صلاتان"، وفي لفظ: "نسكان لله عليك لا يضرّك بأيهما بدأت" (¬3) انتهى (¬4). 293 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وقد وقع الخلاف في المحل الّذي أهلّ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حسب اختلاف الرّواة؛ فمنهم من روى أنَّه أهل من المسجد، ومنهم من روى أنَّه أهلَّ حين استقلّت به راحلته، ومنهم من روى أنَّه أهلَّ لما علا شَرَف البيداء، وقد جمع بين ذلك ابن عباس، فقال: إنَّه أهل في جميع هذه المواضع، فنقل كل راوٍ ما سمع". قال الفقير إلى عفو ربِّه: لو ثبت عن ابن عباس لكان جمعًا موفقًا؛ ولكن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن، ولا يحتجّ بحديثه إذا انفرد. 294 - قال الْمُصَنِّف (¬6): "وأمّا قول أبي ذر، فليس بحجّة على أحد، لأنّه رأي صحابي فيما ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (2/ 122) وابن أبي داود في "المصاحف" (رقم: 176) والبيهقي في "السنن الكبير" (4/ 351). وإسناده ضعيف. (¬2) أخرجه ابن خزيمة (3066) والحاكم (1/ 470) والدارقطني (2/ 285) والبيهقي (5/ 351) وجزم به البخاري معلقًا (3/ 597 - فتح). (¬3) أخرجه الحاكم (1/ 470) والبيهقي (5/ 351). (¬4) "الدُّرُّ المنثور" (1/ 502 - 504). (¬5) (2/ 60). (¬6) (2/ 62).

للاجتهاد فيه مسرح" في أن المتعة خاصة بحجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الفقير إلى عفو ربِّه: وذلك أنَّه قد خالفه جمع من الصحابة. 295 - قال الْمُصَنِّف (¬1): قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": " ... وأمّا ما فعله هو: فإنّه صحّ عنه أنَّه قرن بين الحجّ والعمرة من بضع وعشرين رواية عن ستّة وعشرين نفسًا من أصحابه، ففعل القرآن وأمر بفعله مَن ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التّمتع مَن لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله؛ كأنّه رأي عين؛ وبالله التوفيق". قال الفقير إلى عفو ربِّه: لكن أبا بكر وعمر وعثمان حجّوا مفردين لعشرين عامًا، وهم أعلم بمراده - صلى الله عليه وسلم -، فلو فهموا منه أنّ التمتع واجب على من حجّ معه - صلى الله عليه وسلم - ومن جاء بعدهم؛ لما تركوا سنّته - صلى الله عليه وسلم -. فقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا حفص، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: "أفرد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحج بعده أربعين سنة، وهم كانوا لسنته أشدّ اتباعًا، وأبو بكر وعمر عثمان". (المصنف: رقم: 14301). وقال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، قال: "أفرد الحج أبو بكر عمر وعثمان وعلقمة والأسود". وقال حدثنا وكيع: عن مسعر وسفيان، عن أبي حصين، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن أبا بكر وعمر جرَّدا. زاد سفيان: وعثمان. وقال: حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر: "أنه حجَّ خلافته كلها يفرد الحج". 296 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "قال في المسوى": والتحقيق في هذه المسألة: أنّ الصحابة لم ¬

_ (¬1) (2/ 62). (¬2) (2/ 65).

يختلفوا في حكاية ما شاهدوه من أفعال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أنّه أحرم من ذي الحليفة، وطاف أول ما قدم، وسعى بين الصفا والمروة، ثم خرج يوم التروية إلى منى، ثم وقف بعرفات، ثم بات بمزدلفة، ووقف بالمشعر الحرام، ثم رجع إلى منى، ورمى، ونحر، وحلق ثم طاف طواف الزيارة، ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة، وإئما اختلفوا في التّعبير عمّا فعل باجتهادهم وآرائهم. فقال بعضهم: كان ذلك حجًّا مفردًا، وكان الطواف الأوّل للقدوم، والسّعي لأجل الحجّ، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنّه قصد الحج. وقال بعضهم: كان ذلك تمتّعًا بسوق الهدي، وكان الطواف الأوّل للعمرة، كأنّهم سمَّوا طواف القدوم والسّعي بعده عمرة، وإن كان للحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنّه كان متمتعًا بسوق الهدي. وقال بعضهم: كان ذلك قرانًا، والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين. وهذا الاختلاف سَبيله سبيل الاختلاف في الاجتهاديات. أمّا أنَّه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة -سواء قيل بالتّمتع أو القرآن-؛ فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة، بل ثبت عن جابر أنّه لم يسْعَ بعده انتهى". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا هو الأرجح؛ سواء كان قارنًا، أو مفْرِدًا، أو متمتّعًا؛ وذلك لوجوه: الأول: أنّ الله - تبارك وتعالى - لم يذكر - بعد الوقوف بعرفة وقضاء التَّفث - إلّا الطّواف بالبيت؛ قال - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} (¬1)، ولم يذكر السّعي بين الصفا والمروة. ¬

_ (¬1) [الحج: 29].

الثاني: أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة والتّحقيق لم يسعَ إلّا سعيه الأوّل، وقد قال: "خذوا عنّي مناسككم". ولو كان السّعي بعد الوقوف بعرفة واجبًا على المتمتع دون غيره لأمر به وبينه للأمّة، ولم يفعل - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: أنّه قد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث جابر - حينما أمرهم النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالتحلّل-: "فأتينا النساء ومسسنا الطيب فلمّا كان اليوم الثامن وأحرمنا بالحج، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمرة". الرابع: أنّه قد ثبت عن ابن عباس أنّه قال: "يكفي المتمتع المفرد سعي واحد" (¬1). الخامس: أن طاووس - تلميذ ابن عباس -: "أقسم أنَّه لم يطف أحد من أصحاب النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة" (¬2). قال الحافظ: "وهذا إسناد صحيح" (¬3). فإن قيل: فما الجواب على حديث عائشة، وفيه: "وأمّا الّذين أحلّوا فطافوا طوافًا آخر"؟ فالجواب: أنّ هذه الزيادة في هذا الحديث قد أعلّها كبار أهل العلم كالإمام أحمد وابن تيميّة، بأنّها مدرجة وليست من الحديث وعلى فرض ثبوتها؛ فقد اختلف العلماء على أقوال ثلاثة في مرادها من قولها: "فطافوا طوافًا آخر". وعلى فرض أنّ مرادها: السعي الآخر؛ فقد تعارض قولها وقول جابر، وابن عباس، ولابد من تقديم أحدهما على الآخر. فجابر يتحدّث عن نفسه حيث كان متمتعًا ومن كان مثله فينفي السّعي الآخر، وأمّا هي فهي تتحدّث عن غيرها؛ لأنّها كانت قارنة، ولا ريب أنّ صاحب النسك أعلم به من غيره. ¬

_ (¬1) صحَّ عن ابن عمر أنه طاف لهما طوافًا واحدًا. ابن أبي شيبة (14325). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (14320). (¬3) "الفتح" (4/ 579).

فإن قيل: فما الجواب على أثر ابن عباس الّذي علّقه البخاري (¬1)؛ وفيه: "أنّهم لمّا رجعوا من عرفة طافوا بين الصّفا والمروة"؟ فالجواب عليه من وجوه: الأول: ضعف إسناده (¬2). الثاني: على فرض ثبوته؛ فإن غاية ما فيه إقرار النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لهم على ذلك، وهذا يدلّ على الاستحباب؛ لا على الوجوب، وعليه يحمل قول الله - تبارك وتعالى -: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} (¬3)، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد حيث قال: "أعجب إلى أن يسعى المتمتّع سعيًا آخر"، وبهذا أخذ شيخ الإسلام ابن تيميّة. وقد راجعت محقّق العصر الألبانيّ -رحمه الله- في هذه المسألة حيث قرّر في "حجّة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - " وجوب السّعي الآخر على المتمتع، فرجع عن القول بالوجوب إلى الاستحباب - وهذا مِن إنصافه رحمه الله -. 297 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "ويكون الإحرام: وهو في الحجّ والعمرة بمنزلة التّكبير في الصّلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم، وضبط عزيمة الحجّ بفعل ظاهر، وفيه جعل النَّفس متذلّلة خاشعة لله بترك الملاذّ والعادات المألوفة، وأنواع التجمُّل، وفيه تحقيق معاناة التّعب والتشعُّث والتغير لله. أقول: وليس في إيجاب الإحرام - على غير من دخل لأحد النسكين - دليل. أمّا الآية - أعني: قوله - تعالى -: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} -، فإنَّها بيان لما حرَّمهُ عليهم من الصّيد حال الإحرام، في قوله - تعالى -: {إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقد عُلم أنَّه لا إحرام إلّا لأحد النسكين -، ثم أخبرهم بإباحة الصّيد لهم إذا حلّوا. ¬

_ (¬1) كتاب الحج / رقم: (1572). (¬2) انظر "الفتح" (3/ 507). (¬3) [البقرة: 158]. (¬4) (2/ 66 - 67).

وأمّا قول ابن عباس؛ فاجتهاد منه، وليس ذلك من الحجّة في شيء والمقام مقام اجتهاد، ولهذا خالفه ابن عمر، فجاوز الميقات غير محرم، كا روى ذلك عنه مالك في "الموطأ". وقد كان المسلمون في عصره - صلى الله عليه وسلم - يختلفون إلى مكّة لحوائجهم، ولم ينقل أنَّه أمر أحدًا منهم بإحرام، كقصّة الحَجَّاج بن عِلاطٍ، وكذلك قصّة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل الحجّ، فجاوز المقيات غير مريد للحجّ ولا للعمرة، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ فلا ينقل عنها إلّا ناقل صحيح يجب العمل به. وقد ذهب إلى جواز المجاوزة من غير إحرام -لغير الحاج والمعتمر- ابن عمر والشّافعي في أخير قوليه. وأمّا إيجاب الذم على من جاوز -معلّلًا ذلك بأنّه ترك نسكًا-: ففاسد؛ فإنّ الإحرام ليس بنسك لغير من أراد الحج أو العمرة، على أنَّه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "من ترك نسكًا فعليه دم"؛ وإنّما روي ذلك عن ابن عباس؛ كما في "الموطأ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: خلط المصنّف -رحمه الله- في هذه المسألة أمرين: الأول: أنّه قرّر أنّ من مرّ على الميقات ليس مريدًا للحج والعمرة؛ فإنّه لا يلزمه الإحرام، وهذا حق. ولكن ينبغي تقييده بأن لا يكون قاصدًا مكّة ولم يعتمر أو يحجّ. الثاني: من مرّ على الميقات مريدًا النّسك ولم يحرم منه؛ فهذا الّذي أفتى ابن عباس أنّ عليه دمًا، ولم يخالفه أحد من الصّحابة. 298 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "أقول: قال قوم: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت لأهل العراق ذات ¬

_ (¬1) (2/ 68).

عرق، وإنّما وقّته عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قلت: قد ذهب إلى هذا طاوس، ورواه أحمد بن حنبل، عن ابن عباس، وإليه ذهب جماعة من الشّافعيّة - كالغزالي، والرّافعي، والنووي وغير هؤلاء -، ووجه ذلك؛ ما قاله ابن خزيمة وابن المنذر من أنَّه لم يصح أنّه - صلى الله عليه وسلم - وقت ذات عرق لأهل العراق في حديث صحيح. قال الحافظ في "الفتح": "لعلّ من قال: إنّه غير منصوص؛ لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أنّ كل طريق من طرقه لا تخلوا من مقال، لكن الحديث بمجموع طرقه يقوى". انتهى. وقد ذكر الماتن -رحمه الله- في "شرح المنتقى" من روى حديث توقيت ذات عرق لأهل العراق من الصّحابة، ومجموع ما رووه لا يخرج عن حدّ الحسن لغيره، وهو ممّا تقوم به الحجّة". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الأظهر من حيثُ الروايةُ: أنّ الحديث لا يثبت مرفوعًا، وإنّما يثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنّه حدّ لأهل العراق ذات عرق، وقد أقرّه على ذلك كافّة الصحابة فهو دين يدان الله به كما يدان بسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. 299 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ولم يثبت أنّه - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدًا من النّاس أن يغتسل للإحرام؛ إلّا ما وقع منه الأمر للحائض والنفساء دون غيرهما، فدلّ ذلك على أنّ اغتسالهما للقذر، ولو كان للإحرام؛ لكان غيرهما أولى بذلك منهما، فمع الاحتمال في فعله -وعدم صدور الأمر منه-؛ لا تثبت المشروعية أصلًا". قال الفقير إلى عفو ربِّه: الحق: أنّه غسل مسنون، فقد روى ابن أبي شيبة (¬2): نا حفص، عن ¬

_ (¬1) (2/ 70). (¬2) "المصنف" (3/ 1560).

ابن جريج، قال: سألت نافعًا: أكان ابن عمر يغتسل عند الإحرام؟ فقال: كان ربّما يغتسل وربما يتوضأ". 300 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وقد كان ابن عمر إذا أفطر من رمضان وهو عازم على الحجّ في ذلك العام؛ لم يأخذ من رأسه، ولا من لحيته شيئًا؛ حتى يحج كما في الموطأ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وروى أبو داود (¬2) وغيره بسند حسن عن مروان بن سالم المقفّع، قال: "رأيت ابن عمر يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف". (وفيه فائدة): وهو مشروعية أخذ ما زاد على القبضة من اللحية في غير الحج أو العمرة. 301 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ولا يلبس المحرم القميص: الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك: أنَّ الأوّل ارتفاق وتجمل وزينة، والثّاني ستر عورة، وترك الأوّل تواضع لله، وترك الثّاني سوء أدب؛ كذا في "الحجّة". (ولا العمامة، ولا البُرْنُس، ولا السَّراويل، ولا ثوبًا مسّه وَرْس، ولا زعفران، ولا الخفّين إلّا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكون أسفل من الكعبين، ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفّازين ... ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال ابن القيم: "وأمّا نهيه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن ¬

_ (¬1) (2/ 70). (¬2) "السنن" (2041). (¬3) (2/ 71).

عمر المرأة أن تنتقب، وأن تلبس القفّازين؛ فهو دليل على أنّ وجه المرأة كبدن الرجل، لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه -كالنقاب والبرقع-، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين؛ فإنّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنّه لا يحرم ستر يديها، وأنّهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصل على قدرهما، وهما القفّازان، فهكذا الوجه إنّما يحرم ستره بالنّقاب ونحوه، وليس عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام، إلّا النَّهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين؛ فنسبة النقاب إلى الوجه كنسجة القفازين إلى اليد سواء؛ وهذا واضح - بحمد الله -. وقد ثبت عن أسماء أنّها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، وقالت عائشة: "كان الركبان يمرّون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا"، ذكره أبو داود. واشتراط المجافاة عن الوجه -كما ذكره القاضي وغيره- ضعيف لا أصل له دليلًا ولا مذهبًا. قال صاحب "المغني": "ولم أر هذا الشرط -يعني: المجافاة- عن أحمد ولا هو في الخبر، مع أنّ الظّاهر خلافه؛ فإنّ الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبيّن، وإنّما منعت المرأة من البرقع والنّقاب ونحوهما، ممّا يعدّ لستر الوجه، قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثّوب من أسفل، كأنه يقول: إنّ النقاب من أسفل على وجهها" تم كلامه" (¬1). 302 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة: فإن كان الدّليل على ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 267). (¬2) (2/ 74 - 75).

هذا الفساد أقوال الصّحابة؛ فمع كون الروايات عنهم إنّما هي بطريق البلاغ -كما ذكره مالك في "الموطأ"، وليس ذلك بحجّة لو كان في المرفوع فضلًا عن الموقوف-: فقد عرفت غير مرّة أن قول الصّحابي ليس بحجّة؛ إنّما الحجّة في إجماعهم عند من يقول بحجيّة الإجماع". قال الفقير إلى عفو ربِّه: روى ابن أبي شيبة (¬1): حدَّثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء قال: "سئل ابن عباس عن رجل وقع على امرأته قبل أن يزور البيت؟ قال: إذا واقع قبل أن يزور فعليه الحج من قابل". وعن ابن عباس قال: "من غشي قبل أن يطوف بالبيت يوم النحر عليه بدنة"، أخرجه يعقوب بن سفيان (¬2): ثنا أبو يوسف: ثني عقبة بن مكرم: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن عمرو بن دينار: سمعت طاوسًا عن ابن عباس به. وعن ابن عمر: قال: "عليه الحج ويهدي"، أخرجه ابن أبي شيبة (¬3): حدَّثنا أبو خالد الأحمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر به. قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ من جامع عامدًا في حجه قبل وقوفه بعرفة، أنّ عليه حج قابل، والهدي" (¬4). 303 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل: لما ورد بذلك القرآن الكريم: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) "المصنف" (3/ 14938). (¬2) (2/ 273). (¬3) "المصنف" (3/ 14939). (¬4) "الإجماع" (144) وانظر "فتح الباري" لابن حجر (4/ 42) و"مراتب الإجماع" لابن حجر (42). وانظر "الفتح" (4/ 42)، و"مراتب الإجماع" (42). (¬5) (2/ 77 - 79).

صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ". قال الفقير إلى عفو ربِّه: بل حكم الصّحابة - رضوان الله عليهم - لازم لنا وهم أولى النّاس دخولًا في قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1)، وذلك بتعديل الله لهم، وأمرنا بأن نأخذ مآخذهم وحذرنا من مخالفتهم، قال - تعالى -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (¬2)، وقال - تعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬3)؛ فهم أئمّتنا - رضي الله عنهم وأرضاهم - ولكن ينبغي تقييد هذا بقيدين: الأول: أن يثبت عنهم النّقل فيما حكموا به. الثاني: أن يتّفقوا عليه، أو حكم به أحدهم ولم يخالف. ثم إذا لم ينقل عنهم أنّهم حكموا فيه؛ فيجتهد فيه اثنان من أهل العدل والعلم من أهل العصر. 304 - قال الْمُصَنِّف (¬4): "ويدلّ على ذلك أيضًا حديث جابر عند أحمد، وأهل "السُّنن"، وابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم"؛ وهذا الحديث وإن كان فيه مقال؛ فهو لا يقدح في انتهاضه للاستدلال، وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه". ¬

_ (¬1) [المائدة: 95]. (¬2) [النساء: 115]. (¬3) [التوبة: 100]. (¬4) (2/ 80).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الحافظ: "أخرجه أصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي؛ من حديث عمرو بن أبي عمرو -مولى المطلّب بن عبد الله بن حنطب-؛ عن مولاه -المطلب-، عن جابر .... وعمرو مختلف فيه وإن كان من رجال "الصحيحين"، ومولاه قال الترمذي: "لا يعرف له سماع من جابر"، وقال في موضع آخر: قال محمد: "لا أعرف له سماعًا من أحد من الصحابة إلّا قوله: "حدّثني من شهد خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: "لا نعرف له سماعًا من أحد من الصّحابة، وقد رواه الشافعي عن الداروردي، عن عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر، قال الشافعي: "إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى أحفظ من الداروردي ومعه سليمان بن بلال"؛ يعني: أنّهما قالا فيه عن المطلب، قال الشّافعي: "وهذا الحديث أحسن شيء في هذا الباب" (¬1) ". 305 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه، قد ذهب إلى كلٍّ منها طائفة: أحدها: أن يكون متقدّمًا على أحاديث تحريم المدينة؛ فيكون منسوخًا. الثاني: أن يكون متأخّرًا عنها معارضًا لها؛ فيكون ناسخًا. الثالث: أن يكون النغير ممّا صيد خارج المدينة ثم أُدخِل المدينة كما هو الغالب من الصيود. الرّابع: أن يكون رخّصه لذلك الصّغير دون غيره، كما رخَّص لأبي بُرْدة في التضحية بالعَنَاق دون غيره. فهو متشابه كما ترى، فكيف يجعل أصلًا يقدم على تلك النّصوص ¬

_ (¬1) "التلخيص" (2/ 526). (¬2) (2/ 83).

الكثيرة المحكمة الصّريحة الّتي لا تحتمل إلّا وجهًا واحدًا". قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأظهر هو الوجه الثالث. 306 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "أقول: عندي أنّه لا يجب على من قتل صيدًا -أو قطع شجرًا من حرم المدينة- لا جزاء ولا قيمة بل يأثم فقط". قال الفقير إلى عفو ربِّه: روى الطحاوي (¬2): حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور. ح. وحدّثنا يوسف بن يزيد: حدثنا الحجّاج بن إبراهيم، قالا: حدثنا هشيم: أخبرنا حجّاج وعبد الملك، عن عطاء، عن عبيد بن عمير: "أنّ عمر بن الخطاب رأى رجلًا يقطع من شجر الحرم ويعلفه بعيرًا له، قال: فقال: علي بالرجل، فأتي به، فقال: يا عبد الله! أما علمت أنّ مكة حرام لا يعضد عضاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلّا لمعرف؟! فقال: يا أمير المؤمنين! والله ما حملني على ذلك إلّا أنّ معي نضوًا لي، فخشيت أن لا يبلغني أهلي، وما معي زاد ولا نفقة؛ فرقَّ عليه بعدما هوَّبه، وأمر له ببعير من إبل الصدقة فأعطاه إيّاه، وقال: لا تَعَوَّدَن أن تقطع من شجرة الحرم شيئًا". 307 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وقد ذهب الجمهور إلى فرضيّة الطواف للقدوم. وقال أبو حنيفة: سنة. وروي عن الشّافعي أنّه كتحيّة المسجد. والحقّ الأول؛ لقوله - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ". ¬

_ (¬1) (2/ 84). (¬2) "مشكل الآثار" (8/ 177). (¬3) (2/ 87 - 88).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأظهر: أنّه سنّة؛ لحديث عروة بن مضرس. 308 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ويقبل الحجر الأسود: لما في "الصحيحين" من حديث عمر: أنّه كان يقبل الحجر ويقول: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك". قال الفقير إلى عفو ربِّه: (وفي هذا من الفوائد): أنّه ينبغي للعالم أن يُسلِّم للنّص وإن لم تظهر له حكمته؛ وأنّ فتح باب التّعليل في العبادات ليس منهجًا علميًّا سليمًا عند أهل الاتّباع، بل هو يُضعف من الأخذ بالسنّة. 309 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "ويستلم الركن اليماني: لما أخرج أحمد والنسائي، عن ابن عمر: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطًّا"، وفي إسناده: عطاء بن السائب". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني -رحمه الله-: "قلت: ولا يضر هنا؛ لأنّ من رواة الحديث عنه -عند أحمد (¬3) - الثوري، وهو قد روى عن عطاء قبل اختلاطه، فالحديث صحيح" (¬4). 310 - قال الْمُصَنِّف (¬5): "وإنّما اشترط له شروط الصّلاة كما ذكره ابن عباس؛ لأنّ الطواف ¬

_ (¬1) (2/ 88). (¬2) (2/ 90). (¬3) (رقم:561). (¬4) "التعليقات الرضيّة" (2/ 90). (¬5) (2/ 91).

يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره، فحمل عليها". قال الفقير إلى عفو ربِّه: أخرجه النسائي (¬1)، والشافعي (¬2) من طريق حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عباس؛ موقوفًا. وإذا تبيّن أنّ الأصح هو الوقف، فلا يلزم من تشبيه الطواف بالصلاة أنّه يجب فيه ما وجب في الصلاة، وذلك في الطهارة على وجه الخصوص؛ لأنّ من استدلّ به أراد إثبات وجوب أو اشتراط الطهارة للطواف؛ وهو استدلال ضعيف لأوجه: الأول: أنَّه قد ثبت في المرفوع: "إذا خرج أحدكم عامدًا إلى الصّلاة؛ فلا يشبكنّ بين أصابعه فإنّه في صلاة". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنّ أحدكم في صلاة ما انتظر الصّلاة"، وبإجماع أهل العلم: أنَّه لا يلزم العامد إلى الصّلاة أو منتظر الصّلاة ما يلزم المصلّي من شروط وواجبات. الثاني: أنَّه لم يثبت عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه أمر بالوضوء قبل الطواف ولا أحد من أصحابه، ولو كان الطواف لا يصحّ إلّا بوضوء لبيّنه، - صلى الله عليه وسلم - للأمّة؛ كما بين لهم أنّه لا يصح طواف العريان بالبيت. الثالث: وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألّا تطوفي بالبيت حتّى تطهري"، فلا يصح الاستدلال به أيضًا؛ وذلك أن طهارة الحائض تكون بأمرين: أ- انقطاع الدم. ب- الاغتسال. وكلا الأمرين لا يصدقان على المُحدث حدثًا أصغر، فقياسه على الحائض من باب التكلف الّذي نهينا عنه. ¬

_ (¬1) (2/ 36). (¬2) (75).

وقد تقدّم غير مرّة: أنّ القياس في العبادات لا يصح. وما قرّرناه لا يعني عدم مشروعيّة الوضوء قبل الطواف؛ فقد فعله - صلى الله عليه وسلم - وتوضأ قبله، كما تيمّم - صلى الله عليه وسلم - لرد السّلام، وقال: "إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة"، ثم إنّه سوف يصلّي ركعتين بعد الطواف. 311 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وأمّا حديث: "الطواف بالبيت صلاة": فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب" وهو ضعيف، فليس التّشبيه بمقتضٍ لمساواة المشبَّه للمشبَّه به في جميع الأوصاف، بل الاعتبار التشابه في أخص الأوصاف؛ وليس هو الوضوء". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وما قرّره -رحمه الله- من أن الوضوء ليس فرضًا هو الحق -إن شاء الله-؛ وذلك أنّا لم نجد في سنّة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -أو آثار الصّحابة - رضوان الله عليهم - مع كثرة الأحاديث والآثار الواردة في المناسك، وحاجة النّاس لمعرفة هذا الحكم أنّهم أمروا به أو جعلوه شرطًا لصحّة الطواف، وأمّا وضوء النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل الطواف؛ فغاية ما يدلّ عليه الاستحباب، وقد كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الوضوء لما يستحبّ وما يجب؛ فتفطّنْ! 312 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وعن أبي هريرة عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "وكل به -يعني: الركن اليماني- سبعون ملكًا، فمن قال: اللهم! إني أسألك العفر والعافية في الدّنيا والآخرة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}؛ قالوا: آمين"، أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهشام بن عمّار وهما ضعيفان". ¬

_ (¬1) (2/ 96). (¬2) (2/ 97).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: إطلاق القول على هشام بن عمار بالضعف، خطأ بيّن؛ لأنّ الرجل في نفسه ثقة، روى له البخاري؛ لكنّه كان قد تغيّر في آخر عمره، فالأحسن ما قاله الشوكاني فيه عند هذا الحديث (¬1): "وهو ثقة تغير بآخره"، وكأن الشارح -رحمه الله- اختصر كلامه هذا؛ فأخلّ! وأحسن من ذلك قول الحافظ في "التقريب": "صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح" (¬2). 313 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصحّحه - من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنّما جعل الطواف بالبيت وبالصّفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني -رحمه الله - (2/ 105): "بقوله: "هذا حديث حسن صحيح"، (2/ 105)؛ وفيه نظر؛ لأنّ في سنده - عنده وعند أبي داود (¬4)، عبيد الله بن أبي زياد -وهو القدّاح- وفيه كلام واختلاف، وفي "التقريب" أنّه: "ليس بالقوي"، ثم قد خالفه من هو أوثق منه: فرواه عن شيخه القاسم عن عائشة فلم يرفعه، وكذلك رواه حسين المعلم عن عطاء عن عائشة موقوفًا. انظر "سنن البيهقي" (5/ 145)، والحديث رواه أحمد - أيضًا - (6/ 64 - 75 - 39) وراجع "تاريخ بغداد" (11/ 331 - 332) (¬5). ¬

_ (¬1) (5/ 40). (¬2) "التعليقات الرضيّة" (2/ 97). (¬3) (2/ 98). (¬4) (1/ 296). (¬5) "التعليقات الرضية" (2/ 98).

314 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "قلت: وجهر فيهما بقراءته نهارًا، فالجهر فيهما السُّنّة؛ ليلًا ونهارًا، فلمّا فرغ منهما؛ أتى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم خرج إلى الصّفا من الباب الّذي يقابله". قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذا يحتاج إلى دليل؛ وإلّا فالأصل هو المخافتة في القراءة. 315 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "والحاصل: أنّ المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته؛ إنّما هو لأجل الرّمي المشروع؛ لأنّه فعل، والزّمان والمكان. من ضروريّاته، فالحق ما قاله الحنفيّة وبعض الشّافعية؛ من عدم وجوبه في نفسه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال أبو عبد الرحمن -رحمه الله-: "قلت: هذا خلاف ما سبق تقريره من المصنف؛ أنّ الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في مناسك الحج الوجوب، وما ذكره هنا من الدليل على أن المبيت غير واجب، إنما هو رأي لا دليل عليه من السُّنّة، بل السُّنة تخالفه وتشهد لهذا الأصل، وهو ما صحّحه الترمذي وغيره عن عاصم بن عدي: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى .... ؛ الحديث، وقد خرّجته وصحّحته في "التعليقات" (¬3)، وفي "البخاري": "أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رخص للعباس أن يبيت بمكّة أيام منى من أجل سقايته". قال الحافظ: "وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنّه من مناسك الحج؛ لأنّ التيسير بالرّخصة يقتضي أنّ مقابلها عزيمة، وأنّ الإذن وقع للعلّة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها، لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور". ¬

_ (¬1) (2/ 98). (¬2) (2/ 105). (¬3) (2/ 105).

ونقله الشوكاني (¬1): لكنّه لم يعزه إليه، فدلّ على أنَّه يرى الوجوب خلافًا للشارح وهو الحق" (¬2). 216 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "وفي حديث جابر عند مسلم وغيره: "أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة، فصلّى بها المغرب، والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع، حتّى طلع الفجر، فصلّى الفجر حين تبيّن له الصّبح بأذانٍ وإقامةٍ، ثم ركب القصواء، حتّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده، فلم يزل واقفًا حتّى أسفر جدَّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس حتّى أتى بطن محسر فحرك قليلًا". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني -رحمه الله-: يعني: وأسرع السير؛ كما جاء مصرّحًا به في بعض الأحاديث -كما أشرت إلى ذلك في "التعليقات" (¬4). قال ابن القيم (¬5): "وهذه كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه؛ فإنّ هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قصّ الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر؛ لأنّ الفيل حسر فيه -أي: أعيى- وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر، وديار ثمود؛ فإنّه تقنّع بثوب، وأسرع السير" (¬6). 317 - قال الْمُصَنِّف (¬7): "وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث ابن ¬

_ (¬1) في "النيل" (5/ 68). (¬2) "التعليقات الرضية" (2/ 106). (¬3) (2/ 107). (¬4) (4/ 150). (¬5) في "الزاد" (1/ 315). (¬6) "التعليقات الرضية" (2/ 107). (¬7) (2/ 109).

عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رميتم الجمرة، فقد حلّ لكم كل شيء إلّا النساء". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني: قلت: تبع الشارح - في عزوه لأبي داود - الشوكاني (¬1)، وأنا فتّشت عنه في "سننه"، فلم أجده من حديث ابن عباس، وإنّما (1/ 310) من حديث عائشة، وأعلّه بالانقطاع، ويبدو لي أنَّه ليس عنده من حديث ابن عباس، فإن الزيلعي (¬2) لم يعزه إلّا للنسائي، وابن ماجه (¬3)، وهو منقطع أيضًا، لكن أحدهما يقوي الآخر، سيّما وقد جاء من حديث أم سلمة بسند حسن - إن شاء الله تعالى - (¬4). قال الحافظ: "وروى أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه من حديث الحسن العرني عن ابن عباس: "إذا رميتم الجمرة؛ فقد حل لكم كل شيء إلّا النّساء، فقال رجل: يا ابن عباس! والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُضمّخ رأسه بالطيب"، وللنَّسائي من طريق سالم عن ابن عمر، قال: "إذا رمى وحلق حلّ له كل شيء إلّا النساء والطيب"، قال سالم: وكانت عائشة تقول: حل له كل شيء إلّا النساء" أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وروى الحاكم من حديث ابن الزّبير أنَّه قال: "من سنّة الحج أن يصلّي الإمام الظّهر، والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، والصّبح بمنى، ثمّ يغدو له، حتّى إذا زالت الشمس خطب النّاس، ثمّ صلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثم وقف بعرفات حتّى تغيب الشمس، ثم يفيض فيصلّي بالمزدلفة، أو حيث قضى الله له، ثم يقف بجمع، حتى إذا استفثر دفع قبل طلوع الشمس، فإذا رمى الجمرة الكبرى حلّ له كل شيء حرّم عليه إلّا النساء والطيب حتّى يزور البيت" (¬5). ¬

_ (¬1) في "النيل" (5/ 60). (¬2) في "نصب الراية" (3/ 81). (¬3) وهو في "المسند" (2090). (¬4) فراجع "نصب الراية"، "التعليقات الرضية" (2/ 109). (¬5) "التلخيص" (2/ 497).

قال شيخ الإسلام: "فإذا رمى جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدي ... ثم يحلق رأسه أو يقصّره، والحلق أفضل من التّقصير، وإذا قصّره جمع الشعر وقصّ منه بقدر الأُنملة -أو أقل أو أكثر-، والمرأة لا تقص أكثر من ذلك، وأمّا الرجل؛ فله أن يقصّر ما شاء، وإذا فعل ذلك فقد تحلّل باتّفاق المسلمين التحلّل الأول، فيلبس الثياب، ويقلّم أظفاره، وكذلك له - على الصحيح - أن يتطيّب ويتزوّج، وأن يصطاد، ولا يبقى عليه من المحظورات إلّا النساء" (¬1). 318 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وفي "الصّحيحين" وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل يوم النّحر، وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج"، وأَتاه آخرُ، فقال: يا رسولَ الله! ذبحت قبل أن أَرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج"، وأَتاه آخر، فقال: إنّي أَفضت إلى البيت قبل أَن أَرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج". وفي رواية فيهما: فما سئل عن شيء؛ إلّا قال: "افعل ولا حرج". وأخرج أحمد من حديث علي، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن أنحر؟ قال: "انحر ولا حرج"، ثم أتاه آخر فقال: إنّي أفضت قبل أن أحلق؟ قال: "احلق -أو قصّر- ولا حرج". وفي لفظ للترمذي - وصحّحه -، قال: إنّي أفضت قبل أن أحلق؟ وفي "الصّحيحين" وغيرهما عن ابن عباس: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قيل له في الذّبح والحلق والرمي، والتّقديم والتأخير؟ فقال: "لا حرج". وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن حبّان، والحاكم من حديث عائشة، قالت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يوم حين صلّى الظّهر، ثم رجع إلى ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (26/ 137 - 138). (¬2) (2/ 109 - 111).

منى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كل جمرة بسبع حصيّات؛ يكبّر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرّع، ويرمي الثالثة لا يقف عندها. وعن ابن عباس، قال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمار حين زالت الشّمس؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - حسّنه -. وفي "البخاري" عن ابن عمر، قال: كنّا نتحيّن؛ فإذا زالت الشمس رمينا. وأخرج التّرمذي - وصحّحه - من حديث ابن عمر: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمار مشى إليها، ذاهبًا وراجعًا. وفي لفظ عنه: أنّه كان يرمي الجمرة يوم النّحر راكبًا، وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك؛ أخرجه أحمد، وأبو داود. وفي "الصّحيحين" من حديث ابن عباس، وابن عمر: أن العباس استأذن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكّة ليالي منى؛ من أجل سقايته؟ فأذن له. وفي "البخاري"، و"أحمد" من حديث ابن عمر: أنَّه كان يرمي الجمرة الدّنيا بسبع حصيّات؛ يكبّر مع كل حصاة، ثم يتقدّم فيسهِّل، فيقوم مستقبل القبلة طويلًا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشّمال، فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلًا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. وأخرج أحمد، وأهل "السنن" -وصحّحه الترمذي- من حديث عاصم بن عدي: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخّص لرِعاءِ الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النّحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النّفر. وأخرج أحمد، والنّسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجّة مع النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيّات، وبعضنا يقول: رميت بست حصيّات، ولم يعِبْ بعضهم على بعض؛ ورجاله رجال الصّحيح".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: الراجح عندي في هذه المسألة هو: جواز الرمي قبل الزّوال في اليوم الثاني عشر -عند وجود ما يدعو إلى ذلك-؛ لوجوه منها: الأول: دلّت الأدلّة من السُّنّة على جواز الرّمي قبل وقته -عند الحاجة إلى ذلك-: فقد روى الشيخان (¬1) من حديث ابن عباس قال: "كنت فيمن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضعفة أهله من المزدلفة إلى منى"، وفي رواية لمسلم (¬2): "بعث للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - في الثقل من جمع بليل". وروى الشيخان (¬3) من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "وددت كنت استأذنت رسمول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنته سودة فأصلي الصّبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي النّاس". وروى الشيخان (¬4) -أيضًا- عن أسماء - رضي الله عنها -: "أنّها نزلت ليلة الجمع عند المزدلفة، فقامت تصلّي، فصلّت ساعة، ثم قالت لمولاها: يا بني! هل غاب القمر؟ قال: لا، فصلّت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؛ قال: نعم؛ قالت: فارتحلوا، قال: فارتحلنا ومضينا حتّى رمينا الجمرة، ثم رجعت فصلّت الصّبح في منزلها، قال: فقلت لها: أي هنتاه! ما أرانا إلّا قد غلسنا، قالت: أي بني! إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن". وروى الشيخان عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر: "كان يقدم ضعفة أهله عند المشعر الحرام بمزدلفة بالليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع؛ فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا، رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ¬

_ (¬1) البخاري (1678)، ومسلم (1293). (¬2) (1293). (¬3) البخاري (1681)، ومسلم (1290) واللفظ له. (¬4) البخاري (1679)، ومسلم (1291).

وروى مسلم عن ابن شوال: "أنّه دخل على أمّ حبيبة فأخبرته: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث بها من جمع بليل". وروى أبو داود بسند حسن عن عائشة قالت: "أرسل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت". ودلّت الأدلّة على جواز الرمي بعد وقته عند الحاجة إلى ذلك، وقد روى مالك في "الموطأ"، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، بسند صحيح عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: "أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل بالبيتوتة عند منى يوم النّحر، ثم يرمون الغد وبعد الغد ليومين. قال البغوي في "شرح السُّنّة" (¬1): "معنى قوله": "يرمون الغد وبعد غد"؛ أي: يرمون الغد إن شاؤا ليومين أو لا يرمون الغد، ويرمون بعد الغد للغد وما بعده". وروى البخاري عن ابن عباس: "أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل له يوم النحر: رميت بعد أن أمسيت؟ قال: "افعل ولا حرج". فتبيّن ممّا تقدّم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوّز للمسلمين الرّمي قبل دخول وقت العبادة المشروع عند الحاجة؛ كما في يوم النّحر على أنّه قال في حديث ابن عباس: "أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشّمس". قال الحافظ: "وهو حديث حسن" (¬2). وأنّه جوّز الرمي بعد وقته عند الحاجة؛ كإذنه لرعاء الإبل بتأخير الرمي. قال الحافظ: "وفيه دليل على أنّ السُّنّة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور وخالف فيه عطاء وطاوس، وقالا: ¬

_ (¬1) (7/ 229). (¬2) "الفتح" (3/ 617).

يجوز قبل الزوال - مطلقًا -، ورّخص الحنفيّة في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن رمي قبل الزوال أعاد؛ إلّا في اليوم الثالث فيجزئه" (¬1). قال صاحب "الإنصاف": "وعنه يجوز رمي متعجّل قبل الزّوال وينفر بعده" (¬2). الثاني: إنّ من أهم المهمّات الدّين، وأعظم مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على حرمة المسلم، وروى الشيخان (¬3) من حديث أبي بكرة أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، والسُّنة اثني عشرة شهرًا، منها أربعة حُرم ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر؛ الّذي بين جمادي وشعبان، أي شهر هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس ذو الحجة؟ "، قلنا: بلى، قال: "فأي بلد هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس البلدة؟ "، قلنأ بلى، قال: "فأي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننا أنَّه سيسمّيه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟ "، قلنا: بلى، قال: "فإنّ دماءَكم، وأموالكم، وأعراضكم؛ عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"؛ الحديث. وروى الترمذي (¬4) تحت (باب: ما جاء في تعظيم المؤمن)، حديث ابن عمر قال: "صعد النَّبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر فنادى بصوت رفيع" -الحديث-، وفي آخره قال: "ونظر ابن عمر إلى البيت -أو إلى الكعبة- وقال: ما أعظمَكَ وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك". فتبيّن من هذا: أنّ حرمة دم المسلم أعظم عند الله - عزّ وجلّ - من ¬

_ (¬1) "الفتح" (3/ 678). (¬2) (4/ 45). (¬3) البخاري (1741)، ومسلم (1679). (¬4) "السنن" (2032).

إقامة عبادة من العبادات يهلك فيها المسلم؛ ولذا أوجب العلماء على المضطر أكل لحم الميتة؛ كما أوجبوا على من يخاف تلف عضو من أعضائه أن يتيمّم ولا يغتسل. وقد روى البخاري (¬1) عن ابن عمر: "أنّه جاءه رجل فقال: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارْمه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنّا نتحيّن حتى إذا زالت الشّمس رمينا". قال الحافظ: "يعني: الأمير الّذي على الحج" وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف فيحصل منه ضرر عليه، فلمّا أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). 319 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ويستحبّ لمن يحج بالنّاس أن يخطبهم: بعد الزّوال خطبتين خفيفتين قائمًا، والأخيرة أخف، ويجلس بينهما كالجمعة؛ يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثّاني، وإذا زالت الشّمس اغتسل، إن أحب. يوم النّحر: لحديث الهِرمَاس بن زياد، قال: رأيت النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب النّاس على ناقته العضباء يوم الأضحى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود. وأخرج نحوه أبو داود أيضًا من حديث أبي أمامة. وأخرج نحوه هو والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التّيمي. وأخرجه البخاري، وأحمد من حديث أبي بكرة، وفيه أنّه قال: "فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومِكُم هذا، في شهرِكُم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربّكم، ألا هل بلّغت؟! "، قالوا: نعم، قال: ¬

_ (¬1) (1746). (¬2) "الفتح" (3/ 678). (¬3) (2/ 111 - 112).

"اللهمّ! اشهد، فليبلّغ الشاهد الغائب؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض". قال الفقير إلى عفو ربِّه: ليس في الأحاديث الّتي ساقها المؤلّف شيء صريح يدلّ على ما ذهب إليه؛ من أنَّه يخطب خطبتين يجلس بينهما إلّا القياس على الجمعة، وفيه نظر. 320 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "ويستحبّ الخطبة وسط أيام التّشريق: لحديث سراء بنت نبهان، قالت: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الرؤوس، فقال: "أي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيّام التشريق؟! "؛ أخرجه أبو داود، ورجاله رجال الصحيح". قال الفقير إلى عفو ربِّه: حسّنه الحافظ (¬2) ووافقه الشيخ الألباني - رحمه الله - في "التعليقات الرضية" (2/ 113). 321 - قال الْمُصَنِّف (¬3): "ويطوف الحاجّ طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النّحر: لحديث ابن عمر في "الصّحيحين" وغيرهما: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النّحر، ثم رجع فصلّى الظّهر بمنى. وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر نحوه". قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال ابن القيم: "في"الصحيحين" عن ابن عمر: أنّه - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النّحر، ثم رجع فصلّى الظّهر بمنى"، وفي "صحيح مسلم" عن جابر: "أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر بمكّة"، وكذلك قالت عائشة. ¬

_ (¬1) (2/ 112 - 113). (¬2) في "البلوغ" (724). (¬3) (2/ 113 - 114).

واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر، فقال أبو محمد بن حزم: قول عائشة وجابر أولى، وتبعه على هذا جماعة؛ ورجّحوا هذا القول لوجوه: أحدهما: أنّه رواية اثنين؛ وهما أولى من الواحد. الثاني: أن عائشة أخص النّاس به - صلى الله عليه وسلم - ولها من القرب والاختصاص به والمزية ما ليس لغيرها. الثالث: أنّ سياق جابر لحجّة النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أوّلها إلى آخرها، أتم سياق، وقد حفظ القصّة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها. حتى ضبط منها أمرًا لا يتعلّق بالمناسك، وهو نزول النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة جمع في الطريق، فقضى حاجته عند الشعب، ثم توضأ وضوءً خفيفًا، فمن ضبط هذا القدر فهو بضبط مكان صلاته يوم النّحر أولى. الرابع: أنّ حجّة الوداع كانت في آذار، وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشّمس إلى منى، وخطب بها النّاس، ونحر بدنًا عظيمة، وقسّمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه، وتطيّب، ثم أفاض، فطاف وشرب من ماء زمزم، ومن نبيذ السقاية، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرّجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظّهر في فصل آذار. الخامس: أنّ هذين الحديثين، جاريان مجرى الناقل والمبقى، فقد كانت عادته - صلى الله عليه وسلم - في حجّته الصّلاة في منزله الّذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة - رضي الله عنهما - الأمر الّذي هو خارج عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ. ورجّحت طائفة أخرى قول ابن عمر؛ لوجوه: أحدهما: أنّه لو صلّى الظّهر بمكة، لم تصلي الصحابة بمنى وحدانًا وزرافات، بل لم يكن لهم بد من الصّلاة خلف إمام يكون نائبًا عنه ولم

ينقل هذا أحد قط، ولا يقول أحد: إنّه استناب من يصلّي بهم، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم؛ لقال: إن حضرت الصّلاة ولست عندكم؛ فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلّى الصحابة هناك وحدانًا - قطعًا -، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلّوا عزين، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم. الثاني: أنّه لو صلّى بمكة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهم مقيمون، وكان يأمرم أن يتمّوا صلاتهم، ولم ينقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء - قطعًا -، علم أنَّه لم يصل حينئذٍ بمكة، وما ينقله بعض من لا علم عنده، أنّه قال: "يا أهل مكّة! أتمّوا صلاتكم؛ فإنّا قوم سفر"؛ فإنّما قاله عام الفتح، لا في حجته. الثالث: أنه من المعلوم؛ أنَّه لما طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أنّ كثيرًا من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلّه لمّا ركع ركعتي الطواف، والنّاس خلفه يقتدون به، ظنّ الظّان أنّها صلاة الظّهر، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظّهر، وهذا الوهم لا يمكن رفع احتماله، بخلاف صلاته بمنى؛ فإنّها لا تحتمل غير الفرض. الرابع: أنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنه صلّى الفرض بجوف مكّة، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالأبطح بالمسلمين مدّة مقامه، كان يصلّي بهم أين نزلوا لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام. الخامس: أنّ حديث ابن عمر متّفق عليه، وحديث جابر من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، وكذلك هو في إسناده؛ فإنّ رواته أحفظ وأشهر وأتقن: فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله بن عمر العمري، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع؟ السادس: أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه؛ فروى عنها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه طاف نهارًا.

الثاني: أنَّه أخّر الطواف إلى اللّيل. الثالث: أنَّه أفاض من آخر يومه. فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصّلاة؛ بخلاف حديث ابن السابع: أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ فإنّ حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها. وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يصرّح بالسّماع؛ بل عنعنه، فكيف يقدم على قول عبيد الله: حدّثني نافع عن ابن عمر؟ الثامن: أنّ حديث عائشة: ليس بالبيّن أنّه - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر بمكّه؛ فإنّ لفظه هكذا: "أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلّى الظّهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كل جمرة بسبع حصيّات"؛ فأين دلالة هذا الحديث الصّريحة؛ على أنَّه صلّى الظّهر يومئذٍ بمكّة؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قوله ابن عمر: "أفاض يوم النّحر، ثم صلّى الظهر بمنى"، يعني: راجعًا؟ وأين حديث اتّفق أصحاب الصّحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به، والله أعلم (¬1) ". 322 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "وهذا يدلّ على أنّ الواجب ليس إلّا طواف واحد، لا ثلاثة: طواف القدوم، والزيارة، والوداع، ويدلّ عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: "أنَّه حجّ فطاف بالبيت، ولم يطف طوافًا غير ذلك". ¬

_ (¬1) "زاد المعاد" (2/ 280 - 283). (¬2) (2/ 115).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني -رحمه الله-: "لقد تتبّعت ألفاظ هذا الحديث في "البخاري" (¬1)، ومسلم (¬2)، فلم أر فيهما هذا اللّفظ الّذي أورده الشّارح، وكأنّه نقله بالمعنى! وهو تساهل منه، ولا سيما وقد زاد فيه -بناءً على فهمه-: "ولم يطف طوافًا غير ذلك"، ولا أصل لهذه الزيادة عندهما، والنّاظر في ألفاظهما -بتأمّل- يتبيّن له خلاف ما قاله الشّارح؛ ذلك لأنّ ابن عمر كان قارنًا، كما قال في رواية لهما: "إنّي قد أوجبت حجّة مع عمرة، فانطلق حتّى ابتاع بقديد هديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتّى حلّ منها بحجّة يوم النّحر -زاد مسلم-: وكان يقول: "من جمع بين الحج والعمرة، كفاه طواف واحد ولم يحل حتّى يحل منهما جميعًا". فأنت ترى أنّه ليس فيه نفي طواف الإفاضة والوداع، بل قصده بيان أنّ القارن يكتفي أن يطوف لقدومه طوافًا واحدًا لحجّه وعمرته، نعم؛ في بعض الروايات عنه ما يدلّ - بظاهره - على ما ذهب إليه الشّارح، وهو قوله - بعد قول نافع -: فطاف بالبيت، وبالصّفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم، حتى كان يوم النّحر، فنحر، وحلق، ورأى أن قضى طواف الحج والعمرة، بطوافه الأول. وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال الحافظ (¬3): "وهذا ظاهره أنَّه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل". لكن هذا الظّاهر غير مراد هذا الحديث، والدّليل قوله فيه: "كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ فإنّه من المعلوم أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان في حجّه قارنًا، وأنّه ¬

_ (¬1) (3/ 389 - 433، 4 - 905 - 10). (¬2) (4/ 51 - 52). (¬3) (4/ 5).

طاف لذلك طوافًا واحدًا، ثم طاف طواف الإفاضة، ثم طواف الوداع، كما ورد عن جمع من الصّحابة - منهم ابن عمر نفسه في "البخاري" (¬1) وغيره -، فإذا حمل قوله في الحديث: "كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " على اكتفائه بطوافه الأوّل عن ما بعده من الإفاضة والوداع -كما فهم الشارح واستشكله الحافظ - تناقض حديثاه، وذا لا يجوز، فوجب حمله على معنى لا يختلف مع حديثه الآخر، وليس هو إلّا ما ذكرناه من اكتفائه لقدومه بطواف لحجه وعمرته، لا الاكتفاء به عمّا بعده من الطّواف. وبعد؛ فإنّ البحث يحتمل الزيادة ولكن المجال ضيّق، فنكتفي بهذا. ولا بدّ من التنبيه على أمرين آخرين: الأول: أنّ احتجاج المؤلّف بحديث عائشة، هو مثل احتجاجه بحديث ابن عمر؛ أعني: أن عائشة كانت قارنة، وأيضًا فإنّها كانت حائضًا حين قدمت مكّة، فلم تستطع أن تطوف حتى قضت مناسكها كلها؛ كما في "البخاري" وغيره، فلا يقاس بها الرجال، والنساء طاهرات -كما لا يخفى-. والأمر الآخر: أنّه قد فاته الدّليل على وجوب طواف الزيارة؛ وهو قوله - تعالى -: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} وهو طواف الإفاضة؛ كما جزم به الشوكاني في "النيل" (5/ 61)، وكذا ابن كثير وغيره" (¬2). قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا التحقيق من الشيخ -رحمه الله- يدل على جلالة قدره في العلم، وأنّه إنّما ينبل العالم بقدر إحاطته بالسُّنّة والآثار: سندًا ومتنًا. ¬

_ (¬1) (3/ 424 - 426). (¬2) "التعليقات الرضية" (2/ 115 - 116).

والعجب من المؤلف -رحمه الله- حيث احتجّ بفعل ابن عمر، مع أنّه في ظاهره خلاف ما ثبت عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثم إنّه في مواضع أخرى رد من أقوال وأفعال الصّحابة ما لم يتعارض مع قوله أو فعله - صلى الله عليه وسلم -. 323 - قال الْمُصَنِّف (¬1): "وقد ورد الدّليل في أمور؛ منها: الصّوم؛ لحديث: "من مات وعليه صوم، صام عنه وليّه"، ولكن ليس في هذا الحديث وجوب على الميّت بل الإيجاب على الولي، وغاية ما يستفاد من قوله: "صام عنه"؛ أنَّه يجزئ ذلك الصّوم عن الميّت". قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا أيضًا في النذر خاصّة؛ كما قال ابن عباس وعائشة. 324 - قال الْمُصَنِّف (¬2): "فالحق ما قاله من ذهب إلى عدم الوجوب". قال الفقير إلى عفو ربِّه: انظر آثار الصّحابة في وجوب العمرة عند النكتة (292). * * * ¬

_ (¬1) (2/ 123). (¬2) (2/ 128).

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع الرقم ... الكتاب ... المؤلف 1 - صحيح البخاري ... البخاري 2 - صحيح مسلم ... مسلم 3 - سنن أبو داود ... أبو داود 4 - سنن الترمذي ... الترمذي 5 - سنن النسائي ... النّسائي 6 - السنن الكبرى ... للنسائي 7 - المسند ... للإمام أحمد 8 - تهذيب السنن ... لابن القيّم 9 - التلخيص الحبير ... لابن حجر 10 - سنن الدارقطني 11 - المستدرك ... للحاكم 12 - المصنف ... لابن أبي شيبة 13 - المصنف ... لعبد الرزاق 14 - الأوسط ... لابن المنذر 15 - فتح الباري ... لابن حجر 16 - المنهل العذب المورد ... للسبكي 17 - شرح العمدة ... لابن تيميّة 18 - مشكل الآثار ... للطحاوي 19 - أحكام الجنائز ... للألباني

الرقم ... الكتاب ... المؤلف 20 - الكامل في الضعفاء ... لابن عدي 21 - معرفة السنن والآثار ... للإمام مالك 22 - الموطأ ... للإمام مالك 23 - الإحكام شرح أصول الأحكام ... للعلّامة عبد الرحمن بن قاسم 24 - المسند ... لإسحاق بن راهوية 25 - المهذب في اختصار السنن الكبير للبيهقي ... للذهبي 26 - التمهيد ... لابن عبد البر 27 - الإقناع ... لابن المنذر 28 - القراءة خلف الإمام ... للبخاري 29 - المغني عن حمل الإسفار ... للعراقي 30 - زاد المعاد ... لابن القيم 31 - مسند الإمام الشافعي 32 - صحيح ابن خزيمة 33 - الإجماع ... لابن عبد البر 34 - الإجماع ... لابن حزم 35 - بدائع الفوائد ... لابن القيّم 36 - أعلام الموقعين ... لابن القيم 37 - سبل السلام ... للصنعاني 38 - الطبقات ... لابن سعد 39 - المسائل الماردينيّة ... لشيخ الإسلام ابن تيمية 40 - السنن الكبرى ... للبيهقي 41 - تقريب التهذيب ... لابن حجر 42 - المنتقى ... لابن الجارود 43 - مسند أبي يعلى الموصلّي ... الموصلي 44 - الميزان ... للذهبي 45 - الميزان ... للبزار 46 - نتائج الأفكار ... لابن حجر

الرقم ... الكتاب ... المؤلف 47 - العلل ... لأبي حاتم 48 - ديوان الضعفاء والمتروكين ... للذهبي 49 - الناسخ والمنسوخ ... لأبي عبيد 50 - الفتاوى الكبرى ... لابن تيميّة 51 - الإلمام ... لابن دقيق العيد 52 - الملل والنخل ... للشهرستاني 53 - التعليقات الرضية ... للألباني 54 - المعجم الكبير ... للطبراني 55 - نصب الراية ... للزيعلي 56 - المطالب العالية ... لابن حجر 57 - السنن للدارمي 58 - اقتضاء الصراط المستقيم ... لابن تيمية 59 - التعليق المغني ... لأبي الطيب محمد شمس الدين العظيم آبادي 60 - حديث علي بن حجر السعدي 61 - تهذيب الأسماء واللغات ... للنووي 62 - المحلى ... لابن حزم 63 - تعجيل المنفعة ... لابن حجر * * *

§1/1