النقض على المريسي ت الشوامي

الدارمي، أبو سعيد

نَقْضُ الإِمَامِ أَبِي سَعِيِدٍ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيِدٍ عَلَى المَرِيْسِيِّ الْجَهْمِيِّ العَنِيدِ فِيْمَا افْتَرَىَ عَلَى اللهِ - عز وجل - مِنَ التَّوْحِيدِ تَصْنيفُ أَبِي سَعِيدٍ عُثمَانَ بن سعِيدٍ الدَّارمِيِّ المتوفى سنة 280 هـ حَقَّقَهُ وضَبَطَ نَصَّهُ أَبوُ عَاصِم الشَّوَامِيُّ الأَثرِي المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع

نَقْضُ الإِمَامِ أَبِي سَعِيِدٍ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيِدٍ عَلَى المَرِيْسِيِّ الْجَهْمِيِّ العَنِيدِ فِيْمَا افْتَرَىَ عَلَى اللهِ - عز وجل - مِنَ التَّوْحِيدِ تَصْنيفُ أَبِي سَعِيدٍ عُثمَانَ بن سعِيدٍ الدَّارمِيِّ المتوفى سنة 280 هـ حَقَّقَهُ وضَبَطَ نَصَّهُ أَبوُ عَاصِم الشَّوَامِيُّ الأَثرِي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

[مقدمة التحقيق]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} فكان لاحِبًا لا لَبْسَ فيه إلا على كل مغرور مخذول، اتبع هواه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ثم زاده ربُّنا وضوحًا وبَيَانًا فأنزل السُنة تِبْيَانًا له وتوضيحًا، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فلم يَعُدْ لمُبْتَدِعٍ بعد هذا الوضوح والبيان حُجة يُحَاجِجُ بها ربَّهُ يوم القيامة، فَيَوَدُّ يومئذ لو تسوى به الأرض ولا يكتم الله حديثا، فلك الحمد ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمة الإسلام لك، والاستسلام لشرعك، والانقياد لوحيك، اللهم إني لا أُحصي ثَناءً عليك، أنت كما أَثْنَيْتَ على نَفسِكَ. والصَّلاةُ والسَّلامُ على خَيْرِ رُسْلِ اللهِ محمدٍ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الدَّاعي إلى الهُدى، والرَّشَاد، وعلى أَبَويْهَ الكَريمَيْن إبراهيمَ وإسماعيلَ - عليه السلام -، وعلى أصحَابه الكِرام البَررة، الذين ائْتمنَهُم اللهُ على حِفْظِ كتابه، وتبليغ دِينهِ إلى النَّاس كافةً، صلاةً، وسلامًا، دائمين مباركين طَيِّبَين، ما أَقَامَ أُحُدٌ مَكَانَهُ، وما أَبَسَّ عبدٌ بِلَقُوحٍ. وبعد. فكان مِنْ فَضْلِ اللهِ عليَّ أن وَفَّقَنِي لتحقيق كتاب «الرَّد على الجَهْمِيَّة» للإمام العلامة أبي سعيد عثمان بن سعيد الدَّارمي، وذلك بعد أن رَغَّبَ إليَّ فضيلة الشيخ أبو الفضل عبدُ السَّلام بنُ عبد الكَريم صاحب المكتبة

توثيق نسبة الكتاب

الإسلامية بالقاهرة ذلك، فلما أن طبع الكتاب، رغب إليَّ حفظه الله تعالى مرة أخرى لتحقيق الكتاب الثاني لهذا الإمام العلم ألا وهو كتاب «نقض الإمام أبي سعيد على المريسي الجهمي العنيد»، فأجبته لذلك، شاكرا له ثقته في مثلي. وكتابا المصنف من أفضل ما صُنِّف في هذا الموضوع، بحيث إن المصنف قد حاجج هؤلاء الزنادقة -الذين عطلوا صفات ربهم - عز وجل - بالعقل وبالنقل، وبالعربية التي كانوا يجهلونها؛ فأتى على بنيانهم فخر عليهم سقف جهلهم من فوقهم، ولم يعد لهم أي حجة يحتجون بها، واستنبط لهم رحمه الله تعالى من الآيات، والأحاديث الثابتة، ما يعجب له المرء مما يدل على فقه هذا الإمام ورسوخ قدمه في علوم القرآن والسنة. ولا أريد أن أطيل في وصف الكتاب ولا في وصف المصنف فكتابه خير مخبر لك عنه. توثيق نسبة الكتاب: اشتهر هذا الكتاب جدًا بنسبته إلى مُصَنِّفِه مما لا يدع مجالا للشَّك في ذلك، وقد نقل منه كثير من العلماء ونسبوه لمصنفه، وعلى رأس هؤلاء الذين نقلوا منه؛ شيخُ الإِسلامِ ابن تيمية، فقد نَقَل منه فقرات كاملة تجد ذلك بوضوح في كتابه القيم «درء تعارض العقل والنقل»، وكتاب «بيان تلبيس الجهمية». كيف لا وهو أحد رواة هذا الكتاب، وكذلك تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه «اجتماع الجيوش الإسلامية»، وأيضا الإمام الذهبي، في كتابيه العلو، والسير، وغيرهما.

موضوعه وأهميته

موضوعه وأهميته: ولا يخفى موضوع الكتاب وأهميته، فهو كما ذكرت من أفضل الكتب التي وصلت إلينا في موضوعه الذي هو نقض مذهب الجهمية والمعطلة، وأكتفي بذكر قول العلامة ابن القَيِّم، حيث قال: «وكِتَابَاهُ مِنْ أَجَلِّ الكُتُب المُصنَّفة في السُّنة وأَنْفَعِهَا، ويَنْبَغِي لكل طَالبِ سُنَّة -مُرادُهُ الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة- أن يقرأ كتابَيْه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يُوصي بهذين الكتابين أشد الوصية، ويعظمهما جدًا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما». أهـ من كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية (1/ 143). قلت: ويعني بكتابيه؛ كتابنا هذا، وكتاب الرد على الجهمية. ولله در ابن قيم الجوزية إذ قال في نونيته الشهيرة (1/ 91): وَانْظُرْ إِلَى مَا قَالَهُ عَلَمُ الهُدَى ... عُثْمَانُ ذَاكَ الدَّارِمِيْ الرَّبَّانِي في نَقْضِهِ وَالرَّدِّ يَا لهُمَا كِتَا ... بَا سُنَّةٍ وَهُمَا لَنَا عَلَمَانِ هَدَمَتْ قَوَاعِدَ فِرْقَةٍ جَهْمِيَّةٍ ... فَخَرتْ سُقُوفُهُمُ عَلى الحِيطَانِ

وصف النسخ المعتمدة في التحقيق

وصف النسخ المعتمدة في التحقيق: 1 - الأصل الخطي: اعتمدت في تحقيقي لهذا الكتاب على نسخة خطية وحيدة، وهي من محفوظات مكتبة كوبرلي رقم (850) وتقع ضمن مجموع من الصفحة الأولى إلى صفحة ثمان وستين، أي في زهاء ثمان وستين ورقة، وجهان في كل ورقة، ومسطرتها زهاء خمس وعشرين سطرًا، في كل سطر زهاء خمس عشرة كلمة، وهذا المجموع يحتوي على كتاب «نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد»، وكتاب «الرد على الجهمية» كلاهما للمصنف، وناسخ المجموع كله واحد وقد كتبت بخط نسخي عادي، واضح، وفي رأيي أن هذه النسخة قيمة جدًا لاسيما وفي بدايتها العديد من السماعات لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبي الحجاج يوسف المِزِّي، وابن المُحِبِّ، ويوسف بن عبد الهادي، وغيرهم. وقد تم الفراغ من نسخ كتاب «نقض الإمام أبي سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد» في يوم السبت سلخ جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة (735) بمدرسة الحافظ ضياء الدين بسفح قَاسيُون ظاهر دمشق، جاء ذلك مكتوبًا على آخر ورقة من المخطوط. وقد ألحق في هذا الأصل ترجمة الإمام الدارمي من تاريخ ابن عساكر، وترجمةُ كُلٍّ مِنْ بشر المريسي، وابن الثلجي، من تاريخ بغداد، فأثبتهم في آخر هذه المقدمة، والله المُوَفِّقُ.

2 - مطبوعة السماري

2 - مطبوعة السماري: وهي التي طبعت في مكتبة أضواء السلف (الطبعة الأولى 1419 هـ- 1999 م)، بتحقيق الشيخ منصور بن عبد العزيز السماري حفظه الله تعالى، وهي طبعة جيدة، أسأل الله أن يجزي محققها خير الجزاء، وقد اعتمد محققها على نسختين، خطيتين، اعتمدت أنا على واحدة منهما ولم يمكني العثور على الأخرى، فإن الشيخ منصورا لم يذكر في مقدمته مكان وجود هذه النسخة التي أشار أنه اعتمد عليها، وقد قام حفظه الله تعالى بخدمة النص خدمة جيدة فجزاه الله خيرًا، وقد أفدت من الفروق التي وجدتها في طبعته وليست في الأصل الذي اعتمدت عليه، فاتخذت طبعته نسخة أخرى واصطلحت لها الرمز «س». وليس لى مآخذ على نشرته، غير أني وددت أن يذكر فروق النسختين اللتين اعتمد عليهما، حيث إنه لم يفعل ذلك. 3 - مطبوعة الألمعي: وهي التي طبعت في مكتبة الرشد بالرياض (الطبعة الأولى: 1418 هـ- 1998 م) بتحقيق الدكتور رشيد بن حسن الألمعي حفظه الله، وهي طبعة جيدة كان أصلها رسالة علمية تقدم بها محققها لنيل درجة الماجستير، وقد اعتمد على ثلاث نسخ خطية ومطبوعتين، ولم أستفد منها إفادتي من سابقتها، وقد اصطلحت لها الرمز «ع»، ومن مآخذي عليها أنها خرجت في شكل الرسالة العلمية، مما جعلها تخرج في مجلدين، فقد أُسْهِبَ في حواشيها غاية الإسهاب، كحال كل الرسائل العلمية. هذا وللكتاب طبعات أخرى لم ألتفت إليها بل اعتنيت بهاتين لتفوقهما

عملي في الكتاب

على غيرهما من الطبعات، ومن أشهر هذه الطبعات طبعة الشيخ محمد حامد الفقي. عملي في الكتاب: قمت بعون الله وتوفيقه بنسخ الأصل الخطي، ثم مقابلته على المخطوط مرة أخرى، مع الاهتمام والاستئناس بالطبعتين المشار إليهما، وأثبت الفروق المؤثرة، التي عثرت عليها. ثم ضبطتُ الكتابَ بالشكل ضبطا كاملا، وذلك ما خلت منه الطبعتان المشار إليهما، مع الحاجة إلى ذلك. واكتفيت بترقيم المتون التي أسندها المصنف فقط، دون غيرها؛ ليسهل الرجوع إليها، ففي الكتاب أسانيد لا توجد في غيره. ثم قُمتُ بعونِ الله وتوفيقه بدراسة أسانيد الكتاب وتخريجها تخريجًا عِلميًا وسَطًا، ليس فيه إِسهابٌ، وحَكمتُ عليها بما تقتضيه قواعدُ علم الحديث، وقد استفدت جدًّا من تخريجاتي على كتاب «الرد على الجهمية» الذي حققته قبل ذلك الكتاب، ووقفت بفضل تخريجاتي هنا على جملة من الأخطاء وقعت لي هناك، فنبهت عليها في موضعها، وعليه فلو تَكَرَّرَ حديثان أحدهما في «الرد على الجهمية» والآخر في «نقض المريسي» فقولي فيه ما قلته هنا لا ما قلته هناك. تنبيه مهم: إِنَّ الأحاديثَ والآثارَ التي ذَكَرها المصنفُ هنا في هذا الكتاب، إنما ذكرها للاحتجاج بها على خُصُومِهِ مِنْ أعداء السُنة، ولَنْ يذكر الدارميُّ حديثًا -وهو من هو في علوم الحديث رواية ودراية، وهو تلميذ إمام هذا الشأن،

يحيى بن معين- إلَّا وهو مقبول عنده صالحٌ للاحتجاج، وإلا لما ذكره، ولكن قد أحكم على بعض الأسانيد التي احتج بها بالضعف، أو النكارة، وذلك بحسب ما تقتضيه قواعد علوم الحديث، ويبقى احتجاج هذا الإمام لها، واحتجاج غيره من أئمة السلف، ولذلك قال الإمامُ الذهبي تعليقًا على حديث مروي في الصفات وهو مروي هنا برقم (95)، قد أَعَلَّهُ بعض العلماء على طريقة المحدثين، ألا وهو حديث الأطيط، فقال: في كتاب العرش (2/ 153): «هذا حديث محفوظ من حديث أبي إسحاق السبيعي إمام الكوفيين في وقته، سمع من غير واحد من الصحابة، وأخرجا حديثه في الصحيحين، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. تفرد بهذا الحديث عن عبد الله بن خليفة من قدماء التابعين، لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرًا له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري، وحدث به أبو أحمد الزبيري، ويحي بن أبي بكير، ووكيع، عن إسرائيل. وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب (السنة والرد على الجهمية) له، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله ابن خليفة، عن عمر - رضي الله عنه -، ولفظه {إذا جلس الرب على الكرسي، سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد}. ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر {إذا جلس الرب على الكرسي} فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها. قلت -يعني الذهبي-: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا

أدري أخرجه أم لا؟، فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح. فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم، الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟، بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله - عز وجل - قال الإمام أحمد: (لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنِّعت وإن نَبَت عن الأسماع) فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلوَن لهذا الحديث.» ا. هـ فهذه قاعدة مهمة، بحيث لا يتطرق إلى أحد من الأغمار أن يَطْعَنَ على مثل هذا الإمام بأنه يروي أحاديث لا تصح في إثبات صفات الله تبارك وتعالى، ولابن تيمية كلام يشبه كلام الذهبي تجده في موضعه من هذا الكتاب، فكن على ذكر. وأخيرًا، ذَيَّلْتُ الكتاب بمجموعة من الفهارس الفنية ليسهل الرجوع إلى الفائدة. وفي ختام كلمتي أود أن أتقدم بالشكر، والدعاء لكل من أعانني في إخراج هذا الكتاب، وأخص منهم أخي الفاضل الأستاذ هشام بن إبراهيم الجوجري، فقد بذل معي جهدًا في مرحلة المقابلة، فجزاه الله خيرًا. وإنه لمن نافلة القول أن أقول: إني لا أُسَلِّمُ نفسي عن خطإ أو زَلَل، ولا أَعْصِمُ قولي عن وَهَمٍ وخَطَل، فالفَاضِل مَنْ تُعدُّ سَقَطَاتُهُ، وتُحْصَى غَلَطَاتُهُ إلا

بتوفيق الله وعصمته، والسالم من ذلك كتاب الله المجيد الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]. واللهَ تَعَالى أسأل أَنْ يجعلَ عملي هذا خالصًا لوجهه، وأن يجعل تحقيقي وعنايتي لكتابٍ ذَبَّ عن صِفَاتِهِ، وتوحيده، زادًا ليومِ العَرْضِ عليه، وأَنْ يوفقني لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقني حبه، وأن يمتعني بالستر والعافية في الدين والدنيا والآخرة، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40 - 41] والحمدُ لله أولًا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا. وكَتبهُ راجي عفو ربه الكريم أبو عاصم الشَّوَامِي محمد بن محمود بن إبراهيم في الثامن من شهرذي القعدة سَنَةَ اثْنَين وثَلاثِينَ وأَرْبَعْمائَة وأَلف من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -

ترجمة المصنف من تاريخ ابن عساكر

ترجمة المصنف من تاريخ ابن عساكر قال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (38/ 361): عثمان بن سعيد بن خالد أبو سعيد الدارمي السِّجزي، نزيل هَرَاة سمع بدمشق: إبراهيم بن عبد الله بن العلاء بن زَبْر، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وهشام بن خالد، وحماد بن مالك الحَرَسْتاني، وبغيرها: حَيْوَة بن شريح، وأبا اليمان، ويحيى بن صالح الوحاظي، وأبا توبة الربيع بن نافع، وعبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله، ومحبوب بن موسى الفراء، وسعيد بن أبي مريم، ونعيم بن حماد، وعبد الله بن صالح أبا صالح، وعبد الغفار بن داود الحراني، وموسى بن محمد البلقاني، وفروة بن أبي المغراء، ويحيى الحماني، وأبا بكر بن أبي شيبة، وموسى بن إسماعيل التبوذكي، ومحمد بن عبد الله الخزاعي، ومحمد بن المنهال الضرير، وعلي بن المديني، وأبا الربيع الزهراني، وإسحاق بن راهويه، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وعمرو بن عون الواسطي، وغيرهم. روى عنه: أبو عمرو أحمد بن محمد الحيري، والمؤمل بن الحسن بن عيسى، وأبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر السجزي، ومحمد بن يوسف الهروي نزيل دمشق، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي، وأبو عبد الله محمد بن إسحاق القرشي الهروي. أخبرنا أبو بكر خلف بن عطاء بن أبي عاصم النجار المعروف بالماوردي بهراة، أنا الفقيه أبو روح ثابت بن أبي محمد بن أحمد السعدي الواعظ العدل، أنا أبي أبو محمد، أنا أبو عبد الله محمد بن إسحاق القرشي، أنا الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي السجزي، نا موسى بن إسماعيل، نا حماد يعني بن سلمة، أنا يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن أبي رزين العقيلي

قال: قلت يا رسول الله: أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخليا به؟ قلت: بلى قال: فالله أعظم». أخبرنا أبو الحسين القاضي إذنا، وأبو عبد الله الخلال شفاها قالا: أنا أبو القاسم بن منده، أنا أبو علي بن منده، أنا أبو علي إجازة ح قال: وأنا أبو طاهر بن سلمة، أنا علي بن محمد قالا: أنا أبو محمد بن أبي حاتم قال: عثمان بن سعيد الدارمي السجستاني من ساكني هراة، روى عن أبي صالح كاتب الليث، وسعيد بن أبي مريم، وعبد الله بن رجاء، ومسلم بن إبراهيم، وأبي الوليد، وأبي سلمة، وجالس أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني. أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي، أنا أبو القاسم إسماعيل بن مسعدة، أنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في تاريخ جرجان قال: عثمان بن سعيد السجزي كان بجرجان، وأقام بها في سنة ثلاث وسبعين ومائتين، روى عنه: الحسن بن علي بن نصر الطوسي، وجماعة. أخبرنا أبو سعد إسماعيل بن أحمد الكرماني، وأبو الحسن مكي بن أبي طالب الهمداني قالا: أنا أبو بكر بن خلف، أنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن العباس الضبي يقول: سمعت أبا الفضل بن إسحاق وهو يعقوب القراب يقول: ما رأينا مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه، أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه على أبي يعقوب البويطي، والحديث عن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وتقدم في هذه العلوم -رحمة الله عليه-. قرأت على أبي القاسم زاهر بن طاهر، عن أبي بكر البيهقي، أنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا عمرو بن أبي جعفر يقول: سمعت أبا حامد الأعمشي يقول: ما رأيت في المحدثين مثل محمد بن يحيى، وعثمان بن سعيد

ويعقوب بن سفيان، أنبأنا أبو نصر بن القشيري، أنا أبو بكر البيهقي، أنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا عبد الله بن أبي ذهل يقول: قلت: لأبي الفضل بن إسحاق بن محمود هل رأيت أفضل من عثمان بن سعيد الدارمي؟ فأطرق ساعة، ثم قال: نعم إبراهيم الحربي. قال: وأنا أبو عبد الله الحافظ قال: وزادني الثقة من أصحابنا، عن أبي عبد الله محمد بن العباس، عن يعقوب بن إسحاق قال: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: قد نويت أن لا أحدث عن من أجاب إلى خلق القرآن، قال يعقوب فأدركته المنية، ولولا ذلك لترك الحديث عن جماعة من الشيوخ. قال أبو الفضل يعقوب بن إسحاق: ولقد كنا في مجلس عثمان بن سعيد غير مرة ومر به الأمير عمرو بن الليث فسلم عليهم فقال: وعليكم، حدثنا مسدد ولم يزد على هذا. قرأت على أبي القاسم الشحامي، عن أبي بكر الحافظ، أنا أبو عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا الطيب محمد بن أحمد الوراق يقول: سمعت أبا بكر الفسوي يقول: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: قال لي رجل من أهل سجستان ممن كان يحسدني: ماذا كنت أنت لولا العلم؟ فقلت: أردت شينا فصار زينا. سمعت نعيم بن حماد يقول: سمعت أبا معاوية يقول: قال الأعمش لولا العلم لكنت بقالا من بقالي الكوفة، وأنا لولا العلم لكنت بزازا من بزازي سجستان. أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبا بكر الخطيب يقول: سمعت محمد بن يوسف القطان النيسابوري يحكي: أن أبا الحسن الطرائفي لما رحل إلى عثمان بن سعيد الدارمي فقدم هراة دخل عليه

فقال له عثمان: متى قدمت هذا البلد؟ فأراد أن يقول أمس، فقال: قدمت غدا فقال له عثمان: فأنت إذا في الطريق بعد. قرأت على أبي القاسم المُعَدِّل، عن أحمد بن الحسين، أنا محمد بن عبد الله قال: سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن عَبْدُوس يقول: لما أردت الخروج إلى عثمان بن سعيد الدارمي، أتيت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة فسألته أن يكتب لي إليه، فكتب إليه، فدخلت هراة غرة شهر ربيع الأول من سنة ثمانين ومائتين، وقصدت عثمان بن سعيد، وأوصلت إليه كتاب أبي بكر فقرأ الكتاب ورحب بي وأدناني، وسأل عن أخبار أبي بكر محمد بن إسحاق، ثم قال لي يا فتى متى قدمت؟ قلت غدا قال: يا بني فارجع إليهم فإنك تقدم غدا؛ فسودت ثم قال لي: لا تخجل يا بني فإني أقمت في بلدكم سنتين فكان مشايخكم إذا ذاك يحتملون عني مثل هذا. قال: وسمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن العنبري يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن الأزهر السجزي يقول: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: أنا أبي محمد بن الحسين بن عمرو السجزي وكان قد كتب عن يزيد بن هارون، وجعفر بن عون فقال: يا أبا سعيد إنهم يجيئوني فيسألوني أن أحدثهم وأنا أخشى أن لا يسعني ردهم. قال عثمان فقلت له: ولم؟ قال يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة». فقلت له أنت لا تحسن إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سئل عن علم يعلمه» وأنت لا تعلمه. أنبأنا أبو الفرج غيث بن علي الخطيب، أنا أبو طالب عبد الرحمن بن محمد الشيرازي الصوفي، أنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي إجازة، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن مقاتل المُزَكِّي، أنا أبو إسحاق

أحمد بن محمد بن يونس البزاز قال: وعثمان بن سعيد بن خالد الدارمي وكان كتب الحديث مع يحيى بن معين بالبصرة، وبالشام مع الحسن بن علي، والأثرم ومحمد بن صالح كيلجة، وتوفي عثمان في ذي الحجة سنة ثمانين ومائتين، وهكذا ذكر أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن الهروي في وفاته كتب إلي أبو نصر بن القشيري، أنا أبو بكر البيهقي، أنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو عبد الله الضبي، عن شيوخه، أن عثمان بن سعيد الدارمي توفي بهراة سنة اثنتين وثمانين ومائيتن. * * *

ترجمة بشر بن غياث المريسي من تاريخ بغداد

ترجمة بشر بن غياث المريسي من تاريخ بغداد قال الخطيب في تاريخ بغداد (7/ 531): بشر بن غياث بن أبي كريمة، أبو عبد الرحمن المريسي، مولى زيد بن الخطاب، كان يسكن في الدرب المعروف به، ويسمى درب المريسي، وهو بين نهر الدجاج ونهر البزارين، وبشر من أصحاب الرأي، أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي، إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكي عنه أقوال شنيعة ومذاهب مستنكرة، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها، وقد أسند من الحديث شيئا يسيرا عن حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف القاضي، وغيرهم. فمن ذلك ما حدثني أبو عبد الله أحمد بن أحمد بن محمد بن علي القصري، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الكوفي بها، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثني الحسن بن علي بن بزيع، قال: حدثنا محمد بن عمر الجرجاني، قال: حدثنا بشر بن غياث، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن عطاء، عن ابن البيلماني، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اركب ناقتي ثم امض إلى اليمن، فإذا وردت عقبة أفيق ورقيت عليها رأيت القوم مقبلين يريدونك، فقل: يا حجر، يا مدر، يا شجر، رسول الله يقرأ عليكم السلام»، قال: وارتج الأفق، فقالوا: على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام، وعليك السلام، فلما سمع القوم نزلوا، فأقبلوا إلي مسلمين. وأخبرني الحسين بن محمد أخو الخلال، قال: أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الشطي، قال: حدثنا أبو صفوان الثقفي، قال: حدثنا حبيب بن محمد الجوهري أبو الحسن الوكيل، قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بشر بن غياث، عن البراء بن عبد الله الغنوي، عن الحسن، قال: قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الناس سواء كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، والمرء كثير بأخيه، ولا خير لك في صحبة من لا يرى لك من الحق مثل الذي ترى له» أخبرني أبو القاسم الأزهري، والقاضي أبو بكر محمد بن عمر الداودي، قالا: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي بن إسحاق الناقد أبو الحسين، قال: حدثنا عمارة بن وثيمة، قال: أخبرني عبد الله بن إسماعيل بن عياش، قال: كتب بشر المريسي إلى رجل يستقرض منه شيئا، فكتب إليه الرجل: الدخل يسير والدين ثقيل، والمال مكذوب عليه فكتب إليه بشر: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت معتذرا بباطل فجعلك الله معتذرا بحق. أخبرني الأزهري، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن أحمد المقرئ، قال: حدثنا محمد بن يحيى النديم، قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: قال لي الجاحظ قال: بشر المريسي، وقد سئل عن رجل، فقال: هو على أحسن حال وأهياها، فضحك الناس من لحنه، فقال قاسم التمار: ما هذا إلا صوابا مثل قول ابن هرمة: إِنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلأُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيءٍ مَا كَانَ يَرْزَأُهَا قال: فشُغِل الناس بتفسير القاسم عن لحن بشر المريسي. أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: حدثني محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا جعفر بن محمد الصندلي، قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن عمر بن منيع: كان بشر المريسي يقول بقول صنف من الزنادقة، سماهم صنف كذا وكذا، يقولون: ليس بشيء. أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر البصري المالكي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عمر الخفاف بنيسابور، قال: حدثنا أبو العباس السراج، قال:

سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل، يقول: حدثني زياد بن أيوب، قال السراج: وأظن أني سمعته من زياد، قال: سمعت عباد بن العوام، يقول: كلمت بشرا المريسي وأصحاب بشر، فرأيت آخر كلامهم أنه ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء. أنبانا محمد بن أحمد بن رزق، قال: حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرني عمر بن عثمان ابن أخي علي بن عاصم، قال: أخبرني يحيى بن علي بن عاصم، قال: كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي، فقلت: يا أبت يدخل عليك مثل هذا؟ فقال: يا بني وماله؟ قال: قلت: إنه يقول: القرآن مخلوق، وإن الله معه في الأرض، وإن الجنة والنار لم يخلقا، وإن منكرا ونكير باطل، وإن الصراط باطل، وإن الساعة باطل، وإن الميزان باطل مع كلام كثير، قال: فقال: أدخله علي فأدخلته عليه، قال: فقال: يا بشر ادنه، ويلك يا بشر ادنه، مرتين أو ثلاثا، فلم يزل يدنيه حتى قرب منه، فقال: ويلك يا بشر من تعبد، وأين ربك؟ قال: فقال: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: أخبرت عنك أنك تقول: القرآن مخلوق، وإن الله معك في الأرض مع كلام كثير، ولم أر شيئا أشد على أبي من قوله: إن القرآن مخلوق، وإن الله معه في الأرض، فقال له: يا أبا الحسن لم أجئ لهذا، إنما جئت في كتاب خالد تقرأه علي، قال: فقال له: لا، ولا كرامة حتى أعلم ما أنت عليه أين ربك، ويلك؟ فقال له: أو تعفيني؟ قال: ما كنت لأعفيك، قال: أما إذ أبيت، فإن ربي نور في نور، قال: فجعل يزحف إليه، ويقول: ويحكم اقتلوه، فإنه والله زنديق، وقد كلمت هذا الصنف بخراسان. أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قراءة، قال: أخبرنا أبو علي ابن الصواف، قال: وجدت في كتاب أبي، قال: حدثنا أبو بكر الباغندي، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي، يقول: دخلت بغداد، فنزلت على بشر

المريسي، فأنزلني في غرفة له، فقالت لي أمه: لم جئت إلى هذا؟ قلت: أسمع منه العلم، فقالت: هذا زنديق. أخبرنا عبد الملك بن محمد بن عبد الله الواعظ، قال: أخبرنا دعلج بن أحمد، قال: حدثنا ابن خزيمة، قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى، يقول: أخبرني الشافعي، قال: كلمتني أم المريسي أن أكلم المريسي أن يكف عن الكلام، فلما كلمته دعاني إليه، فقال: إن هذا دين، قال: فقلت: إن أمك كلمتني أن أكلمك. أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن أيوب العكبري، إجازة، قال: أخبرنا علي بن أحمد بن أبي غسان البصري، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، ثم أخبرنا محمد بن عبد الملك القرشي، قراءة، قال: أخبرنا عياش بن الحسن البندار، قال: حدثنا محمد بن الحسين الزعفراني، قال: أخبرني زكريا بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: سمعت الحسين بن علي الكرابيسي، قال: جاءت أم بشر المريسي إلى الشافعي، قالت: يا أبا عبد الله أرى ابني يهابك ويحبك، وإذا ذكرت عنده أجلك، فلو نهيته عن هذا الرأي الذي هو فيه، فقد عاداه الناس عليه، ويتكلم في شيء يواليه الناس عليه ويحبونه، فقال لها الشافعي: أفعل فشهدت الشافعي، وقد دخل عليه بشر، فقال له الشافعي: أخبرني عما تدعو إليه أكتاب ناطق، أم فرض مفترض، أم سنة قائمة، أم وجوب عن السلف البحث فيه والسؤال عنه؟ فقال بشر: ليس فيه كتاب ناطق، ولا فرض مفترض، ولا سنة قائمة، ولا وجوب عن السلف البحث فيه، إلا أنه لا يسعنا خلافه، فقال له الشافعي: أقررت على نفسك بالخطأ، فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس عليه، وتترك هذا؟ قال: لنا نهمة فيه، فلما خرج بشر، قال الشافعي: لا يفلح، قال حسين: كلمت يوما بشرا المريسي شبيها بهذا السؤال، قال: فرض مفترض، قلت: من كتاب، أو سنة، أو

إجماع؟ قال: من كل، قال: فكلمته حتى قام وهو يضحك منه. أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، وأحمد بن عمر بن أحمد الدلال، قالا: حدثنا أحمد بن سلمان النجاد، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل السلمي، قال: سمعت البويطي، يقول: سمعت الشافعي، يقول: ناظرت المريسي في القرعة فذكرت له حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرعة، فقال: يا أبا عبد الله هذا قمار، فأتيت أبا البختري، فقلت له: سمعت المريسي يقول: القرعة قمار، قال: يا أبا عبد الله شاهد آخر وأقتله. حدثني الأزهري، قال: أخبرنا الحسن بن الحسين الفقيه الهمذاني، قال: حدثني الزبير بن عبد الواحد، قال: حدثني يوسف بن يعقوب بن مهران الأنماطي ببغداد، قال: حدثنا داود بن علي الأصبهاني، قال: حدثنا أبو ثور، قال: سمعت الشافعي، يقول: قلت لبشر المريسي: ما تقول في رجل قتل وله أولياء صغار وكبار، هل للأكابر أن يقتلوا دون الأصاغر؟ فقال: لا، فقلت له: فقد قتل الحسن بن علي بن أبي طالب ابن ملجم، ولعلي أولاد صغار؟ فقال: أخطأ الحسن بن علي، فقلت: أما كان جواب أحسن من هذا اللفظ؟ قال: وهجرته من يومئذ. أخبرنا أبو بكر عبد الله بن علي بن حمويه الهمذاني بها، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي، قال: أخبرنا أبو شجاع الفضل بن العباس الهروي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: سمعت قتيبة بن سعيد، يقول: دخل الشافعي على أمير المؤمنين، وعنده بشر المريسي، فقال أمير المؤمنين للشافعي: ألا تدري من هذا؟ هذا بشر المريسي، فقال له الشافعي: أدخلك الله في أسفل سافلين مع فرعون، وهامان، وقارون، فقال المريسي: أدخلك الله أعلى عليين مع محمد، وإبراهيم، وموسى، قال محمد بن إسحاق: فذكرت هذه

الحكاية لبعض أصحابنا، فقال لي: لا تدري أي شيء أراد المريسي بقوله، كان منه طنزا، لأنه يقول: ليس ثم جنة ولا نار. أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، قال: أخبرنا محمد بن نعيم الضبي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح يقول: سمعت أبا سليمان داود بن الحسين، يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: دخل حميد الطوسي على أمير المؤمنين، وعنده بشر المريسي، فقال أمير المؤمنين لحميد: أتدري من هذا يا أبا غانم؟ قال: لا، قال: هذا بشر المريسي، فقال حميد: يا أمير المؤمنين، هذا سيد الفقهاء، هذا قد رفع عذاب القبر ومسألة منكر ونكير، والميزان، والصراط، انظر هل يقدر أن يرفع الموت، ثم نظر إلى بشر، فقال: لو رفعت الموت كنت سيد الفقهاء حقا. أخبرني الحسن بن محمد الخلال، قال: حدثنا يوسف بن عمر القواس، قال: حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين، قال: سمعت أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم لؤلؤ يقول: مررت في الطريق، فإذا بشر المريسي والناس عليه مجتمعون فمر يهودي، فأنا سمعته يقول: لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة، يعني أن أباه كان يهوديا. أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق، قال: حدثنا الوليد بن بكر الأندلسي، قال: حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي، قال: حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي، قال: حدثني أبي، قال: رأيت بشرا المريسي عليه لعنة الله مرة واحدة شيخا قصيرا، دميم المنظر، وسخ الثياب وافر الشعر أشبه شيء باليهود، وكان أبوه يهوديا صباغا بالكوفة في سوق المراضع، ثم قال: لا يرحمه الله، ولقد كان فاسقا. أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال: حدثنا يعقوب بن موسى الأردبيلي، قال:

حدثنا أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي، قال: حدثنا سعيد بن عمرو البردعي، قال: سمعت أبا زرعة، يعني الرازي، يقول: بشر المريسي زنديق، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض القاضي بصور، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن جميع، قال: حدثنا ابن مخلد، إملاء، قال: حدثني يوسف بن يعقوب، قال: حدثنا بشار بن موسى، قال: سمعت أبا يوسف القاضي، يقول لبشر المريسي: طلب العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار رأسا في الكلام قيل: زنديق أو رمي بالزندقة، يا بشر بلغني أنك تتكلم في القرآن، إن أقررت لله علما خصمت، وإن جحدت العلم كفرت. أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل الصيرفي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، قال: حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران الرقي بالرقة، قال: حدثنا سليم بن منصور بن عمار في مجلس روح بن عبادة، قال: كتب بشر المريسي إلى أبيه منصور بن عمار، قال: أخبرني القرآن خالق أو مخلوق؟ قال: فكتب إليه عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السنة والجماعة، فإنه إن يفعل فأعظم بها من نعمة، وإلا فهي الهلكة، وليست لأحد على الله بعد المرسلين حجة، نحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة، تشارك فيها السائل والمجيب، وتعاطى السائل ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه، وما أعرف خالقا إلا الله، وما دون الله مخلوق، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك وبالمختلفين معك إلى أسمائه التي سماه الله بها تكن من المهتدين، ولا تسم القرآن باسم من عندك فتكون من الضالين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشونه بالغيب، وهم من الساعة مشفقون. أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق السراج، قال: سمعت الفضل بن إسحاق الدوري، قال: سمعت المعيطي، يقول: كنا عند يزيد بن هارون

فذكروا المريسي، فقال: ما يقول؟ قالوا: يقول: القرآن مخلوق، فقال: هذا كافر. أخبرنا هلال بن محمد بن جعفر الحفار، قال: أخبرنا محمد بن جعفر الأدمي القاري، قال: حدثنا عبد الله بن الحسن الهاشمي، قال: كنا عند يزيد بن هارون، وشاذ بن يحيى يناظره في شيء من أمر المريسي، وهو يدعو عليه فسمعنا يزيد وهو يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. أخبرنا طلحة بن علي بن الصقر الكتاني، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، قال: حدثني أبو بكر الختلي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي، قال: كنا عند يزيد بن هارون، وشاب يناظره في شيء من أمر المريسي، وهو يدعو عليه، فتفرقنا على أن يزيد قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. أخبرني الحسن بن أبي طالب، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، قال: حدثنا محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا حامد بن يحيى، قال: عن يزيد بن هارون، قال: المريسي حلال الدم يقتل. حدثني أحمد بن محمد المستملي، قال: أخبرنا محمد بن جعفر الشروطي، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي، قال: حدثنا أحمد بن الحسين الجرادي، قال: حدثنا محمد بن يزيد، قال: قال يزيد بن هارون: حرضت أهل بغداد على قتل بشر المريسي غير مرة. أخبرني الحسن بن علي التميمي، قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن صدقة، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: أخبرنا يحيى بن يوسف الزمي، قال: سمعت شبابة بن سوار، يقول: اجتمع رأيي ورأي أبي النضر هاشم بن القاسم، وجماعة من الفقهاء على أن المريسي كافر

جاحد أرى أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي طاهر الدقاق، قال: حدثنا أحمد بن سلمان، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: سمعت أبي، يقول: كنا نحضره مجلس أبي يوسف، فكان بشر المريسي يجيء فيحضر في آخر الناس فيشغب، فيقول: إيش تقول، وإيش قلت يا أبا يوسف؟ فلا يزال يصيح ويضج، فكنت أسمع أبا يوسف يقول: اصعدوا به إلي، قال أبي: وكنت في القرب منه فجعل يناظر في مسألة فخفي بعض قوله، فقلت للذي كان أقرب مني: إيش قال له قال: قال له أبو يوسف: لا تنتهي حتى تفسد خشبة. أخبرنا أبو سعد المظفر بن الحسن سبط أبي بكر بن لال الهمذاني، قال: حدثنا جدي، قال: سمعت القاسم بن بندار، يقول: سمعت إبراهيم بن الحسين، يقول: ركب عفان بن مسلم يوما، وأنا قابض على عنان البغلة، فاستقبلنا شيخ قصير كبير الرأس كبير الأذنين، فقال: نح البغلة نح البغلة، أما ترى الكافر، فقلت: من هذا يا أبا عثمان؟ قال: هذا بشر بن غياث بشر المريسي، قال إبراهيم: ويوم مات بشر جعل الصبيان يتعادون بين يدي الجنازة، ويقولون: من يكتب إلى مالك من يكتب إلى مالك. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي طاهر الدقاق، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، وأخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: أخبرنا أحمد بن عيسى بن الهيثم التمار، قال: حدثنا عبيد بن خلف البزاز، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثني محمد بن نوح المضروب عند المسعودي القاضي، قال: سمعت هارون أمير المؤمنين، يقول: بلغني أن بشرا المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلتها

أحدا قط، واللفظ لحديث ابن أبي طاهر. أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد بن عيسى بن موسى البزاز، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد المصري، قال: حدثنا محمد بن الحسين الأنماطي، قال: حدثنا يحيى بن يوسف الزمي، قال: رأيت ليلة جمعة، ونحن في طريق خراسان في مفازة أموه إبليس في المنام، قال: وإذا بدنه ملبس شعرا ورأسه إلى أسفل ورجليه إلى فوق، وفي بدنه عيون مثل النار، قال: قلت له: من أنت؟ قال: أنا إبليس، قال: قلت له: وأين تريد؟ قال: بشر بن يحيى رجل كان عندنا بمرو يرى رأي المريسي، قال: ثم قال: ما من مدينة إلا ولي فيها خليفة، قلت: من خليفتك بالعراق؟ قال: بشر المريسي دعا الناس إلى ما عجزت عنه، قال: القرآن مخلوق. أخبرناه أبو بكر البرقاني، قال: قرأنا على محمد بن إسحاق الصفار، حدثكم إبراهيم بن حماد، قال: حدثنا العباس بن أبي طالب، قال: حدثنا يحيى بن يوسف الزمي، قال: رأيت في المنام إبليس رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء أسود مثل الليل، وله عينان في صدره، فلما رأيته، قلت: من أنت؟ قال: هو إبليس، فجعلت أقرأ آية الكرسي، قال: فقلت له: ما أقدمك هذه البلاد؟ قال: إلى بشر بن يحيى رجل من الجهمية، قال: قلت: من استخلفت بالعراق، قال: ما من مدينة ولا قرية إلا ولي فيها خليفة، قلت: ومن خليفتك بالعراق؟ قال: بشر المريسي، دعا الناس إلى أمر عجزت عنه. أخبرني الحسن بن محمد الخلال، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا الحسين بن علي بن الحسين الأسدي، قال: حدثنا الفضل بن يوسف بن يعقوب بن حمزة القصباني، قال: حدثنا محمد بن يوسف العباسي، قال: حدثني محمد بن علي بن ظبيان القاضي، قال: قال لي بشر بن غياث

المريسي: القول في القرآن قول من خالفني غير مخلوق، قال: قلت: فالقول قولهم ارجع عنه، قال: أرجع عنه، وقد قلته منذ أربعين سنة، ووضعت فيه الكتب واحتججت فيه بالحجج. أخبرني الحسن بن علي التميمي، قال: حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، قال: حدثنا محمد بن أبي الثلج، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن مرزوق العتكي البصري، قال: حدثني أبو بكر بن خلاد الباهلي، قال: كنت عند ابن عيينة إذ أقبل بشر المريسي، فتكلم بذاك الكلام الرديء، فقال ابن عيينة: اقتلوه، قال ابن خلاد: فأنا فيمن ضربته بيدي. أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، قال: حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج المصري، قال: حدثنا حامد بن يحيى البلخي، قال: قيل لسفيان بن عيينة: إن بشرا المريسي يقول: إن الله لا يرى يوم القيامة، فقال: قاتله الله دويبة ألم يسمع الله يقول: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، فجعل احتجابه عنهم عقوبة لهم، فإذا احتجب عن الأولياء، والأعداء، فأي فضل للأولياء على الأعداء. أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثنا أحمد بن سلمان، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: أخبرت عن بشر بن الوليد، قال: كنت جالسا عند أبي يوسف القاضي، فدخل عليه بشر المريسي، فقال له أبو يوسف: حدثنا إسماعيل، عن قيس، عن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديث الرؤية، ثم قال أبو يوسف: إني والله مؤمن بهذا الحديث، وأصحابك ينكرونه، وكأني بك قد شغلت على الناس خشبة باب الجسر فاحذر. أخبرني الحسن بن محمد الخلال، قال: سمعت عمر بن أحمد الواعظ، قال: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، يقول: قال عبد الله بن عمر

الجعفي: سمعت حسينا الجعفي حين حدث بحديث الرؤية، يقول: على رغم أنف بشر المريسي. أخبرني أبو طالب عمر بن إبراهيم الفقيه، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الكاتب، قال: حدثنا محمد بن محمد الواسطي، قال: حدثني ابن عبد الله الحمال، قال: حدثنا محمد بن أبي كبشة، قال: سمعت هاتفا في البحر، يقول: لا إله إلا الله على ثمامة، وعلى المريسي لعنة الله قال: وكان معنا في المركب رجل من أصحاب بشر المريسي فخر ميتا. أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن رامين الإستراباذي، قال: حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن جعفر بن أحمد بن سعيد الجرجاني، قال: حدثنا عمران بن موسى، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن الأزهر، قال: سمعت عثمان بن سعيد الرازي، قال: حدثنا الثقة من أصحابنا، قال: لما مات بشر بن غياث المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم والسنة أحد إلا عبيد الشونيزي، فلما رجع من جنازة المريسي أقبل عليه أهل السنة والجماعة، قالوا: يا عدو الله تنتحل السنة وتشهد جنازة المريسي؟! قال: أنظروني حتى أخبركم، ما شهدت جنازة رجوت لها من الأجر ما رجوت في شهود جنازته، لما وضع في موضع الجنائز قمت في الصف، فقلت: اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة، اللهم فاحجبه عن النظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون، اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن بعذاب القبر، اللهم فعذبه اليوم في قبره عذابا لم تعذبه أحد من العالمين، اللهم عبدك هذا كان ينكر الميزان، اللهم فخفف ميزانه يوم القيامة، اللهم عبدك هذا كان ينكر الشفاعة، اللهم فلا تشفع فيه أحدا من خلقك يوم القيامة، قال: فسكتوا عنه وضحكوا. أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل، قال: حدثنا عثمان بن أحمد

الدقاق، قال: حدثنا الحسن بن عمرو الشيعي المروزي، قال: سمعت بشر بن الحارث، يقول: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي، وأنا في السوق، فلولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود، الحمد لله الذي أماته هكذا قولوا. أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري، قال: حدثنا محمد بن علي بن سويد المؤدب، قال: حدثنا عثمان بن إسماعيل بن بكر السكري، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أحمد بن الدورقي، يقول: مات رجل من جيراننا شاب، فرأيته في الليل، وقد شاب، فقلت: ما قصتك؟ قال: دفن بشر في مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة. أخبرني الحسين بن علي الصيمري، قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني، قال: أخبرني علي بن هارون، قال: أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر، عن أبيه، قال: مات بشر المريسي في ذي الحجة سنة ثمان عشرة ومائتين، قال: ويقال: سنة تسع عشرة ومائتين * * *

ترجمة محمد بن شجاع الثلجي من تاريخ بغداد

ترجمة محمد بن شُجَاع الثَّلجي من تاريخ بغداد قال الخطيب في تاريخ بغداد (3/ 315): محمد بن شجاع أبو عبد الله يعرف بابن الثلجي كان فقيه أهل العراق في وقته، وهو من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلئي. وحدث عن: يحيى بن آدم، وإسماعيل ابن علية، ووكيع، وأبي أسامة، وعبيد الله بن موسى، ومحمد بن عمر الواقدي. روى عنه: يعقوب بن شيبة، وابن ابنه محمد بن أحمد بن يعقوب، وعبد الوهاب بن أبي حية، وعبد الله بن أحمد بن ثابت البزاز، في آخرين. أخبرنا علي بن محمد بن الحسن المالكي، قال: أخبرنا أبو بكر الأبهري، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد يعقوب بن شيبة ببغداد، قال: حدثنا محمد بن شجاع الثلجي أبو عبد الله، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا شريك، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: «الشقي من شقي في بطن أمه». قال يحيى بن آدم: ما حدثت بهذا الحديث غيرك أخبرني الأزهري، قال: حدثنا عبيد الله بن عثمان بن يحيى، قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن حبيش البغوي، قال: وكان ينزل في درب يعقوب الحسين بن أبي مالك، وكان ينزل فيه أيضا محمد بن شجاع الثلجي، ودرب يعقوب منسوب إلى يعقوب بن سوار أحد قواد المهدي، قال: والدرجة إليه منسوبة، وقد رأيت من ولده عدة. قال: ومن ولده المعروف بعبد الله بن يعقوب الثلجي الذي تنصر ببلاد الروم، وليس بينه وبين محمد بن شجاع قرابة أنبأنا إبراهيم بن مخلد، قال: حدثنا أحمد بن كامل القاضي، قال: حدثني أبو الحسن علي بن صالح بن أحمد بن الحسن بن صالح البغوي، قال: حدثني محمد بن عبد الله أبو عبد الله

الهروي صاحب محمد بن شجاع الثلجي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، يقول: ولدت في ثلاثة وعشرين يوما من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، وتوفي وهو في صلاة العصر ساجدا لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة ست وستين ومائتين، ودفن في بيت من داره ملاصقا للمسجد، وأخرج للبيت شباك إلى الطريق، ومدفنه في الدرب المعروف بدرب المعوج الملاصق لدار محمد بن عبد الله بن طاهر. قال أبو الحسن: وحكى لي جدي أنه سمع أبا عبد الله محمد بن شجاع، يقول: ادفنوني في هذا البيت فإنه لم يبق فيه طابق إلا ختمت عليه القرآن. وكان محمد بن شجاع يذهب إلى الوقف في القرآن، فأخبرنا الحسن بن علي التميمي، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل، قال: سمعت القواريري قبل أن يموت بعشرة أيام وذكر ابن الثلجي، فقال: هو كافر. فذكرت ذلك لإسماعيل القاضي فسكت، فقلت له: ما أكفره إلا بشيء سمعه منه؟ قال: نعم. أخبرنا علي بن طلحة المقرئ، قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، عن عمه أبي علي عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان، أنه سأل أحمد بن حنبل عن ابن الثلجي، فقال: مبتدع، صاحب هوى. أخبرني عبد الغفار بن محمد المؤدب، قال: حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان الواعظ، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا السري بن مكرم المقرئ، قال: بعث المتوكل إلى أحمد بن حنبل يسأله عن ابن الثلجي ويحيى بن أكثم في ولاية القضاء، فقال: أما ابن

الثلجي فلا ولا على حارس. أخبرني أبو بكر البرقاني، قال: حدثني محمد بن أحمد بن عبد الملك الأدمي، قال: حدثنا محمد بن علي بن أبي داود البصري، قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، قال: فأما محمد بن شجاع الثلجي فكان كذابا، احتال في إبطال الحديث عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - ورده؛ نصرة لأبي حنيفة ورأيه. حدثني أحمد بن محمد المستملي، قال: أخبرنا محمد بن جعفر الوراق، قال: أخبرنا أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ، قال: محمد بن شجاع الثلجي البغدادي كذاب، لا تحل الرواية عنه؛ لسوء مذهبه، وزيغه عن الدين. أخبرني الحسن بن أبي طالب، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الخلال، قال: حدثنا أبو الحسن محمد إبراهيم بن حبيش من حفظه إملاء، قال: مات محمد بن شجاع في آخر سنة خمس وستين أو أول سنة ست وستين. أخبرنا محمد بن عبد الواحد، قال: حدثنا محمد بن العباس، قال: قرئ على ابن المنادي وأنا أسمع، قال: ومحمد بن شجاع الثلجي كان يتفقه ويقرئ الناس القرآن، مات فجاءة وذلك في ذي الحجة سنة ست وستين ومائتين. قرأت على الحسن بن أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي، قال: ولعشر خلون من ذي الحجة سنة ست وستين ومائتين مات أبو عبد الله من شجاع الثلجي ففيه العراقين في وقته. * * *

صور المخطوط

صور المخطوط

صفحة العنوان من الأصل ويظهر عليها عنوان الكتاب، والتراجم المشار إليها على يسار الصفحة، ويظهر عليها السماعات، وإسناد الكتاب.

الصفحة الأولى من الكتاب

الصفحة الأخيرة من الكتاب

نَقْضُ الإِمَامِ أَبِي سَعِيِدٍ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيِدٍ عَلَى المَرِيْسِيِّ الْجَهْمِيِّ العَنِيدِ فِيْمَا افْتَرَىَ عَلَى اللهِ - عز وجل - مِنَ التَّوْحِيدِ تَصْنيفُ أَبِي سَعِيدٍ عُثمَانَ بن سعِيدٍ الدَّارمِيِّ المتوفى سنة 280 هـ حَقَّقَهُ وضَبَطَ نَصَّهُ أَبوُ عَاصِم الشَّوَامِيُّ الأَثرِي

[مقدمة المصنف]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِرَحْمَتِكَ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الأَحْنَفِ قَالَ: أبنا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ القَرَّابُ الحَافِظ قَالَ: أبنا أَبُو بكر بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ المُزَكِّي قَالَ: أبنا أَبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّرَّامُ قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارَمِيُّ قَالَ: الحَمْدُ لِلهِ قَبْلَ كُلِّ كَلَامٍ، وَلَهُ الحَمْدُ فِي كُلِّ مَقَامٍ، وَعَلَى مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ رَبِّنَا وَعَلِيهِ السَّلَام. أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَارَضَ مَذَاهِبَنَا فِي الإِنْكَارِ عَلَى الجَهْمِيَّةِ مِمَّنْ بَين ظَهْرَيْكُمْ مُعَارِضٌ، وَانْتَدَبَ لَنَا مِنْهُمْ مُنَاقضٌ يَنْقُضُ مَا رَوَيْنَا فِيهِمْ، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى أَصْحَابِهِ بِتَفَاسِيرِ المُضِلِّ المَرِيسِيِّ؛ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الجَهْمِيِّ. فَكَانَ مِنْ صُنْعِ الله لَنَا فِي ذَلِكَ؛ اعْتِمَادُ هَذَا المُعَارِضِ عَلَى كَلَام بِشْرٍ؛ إِذْ كَانَ مَشْهُور عِنْدَ العَامَّةِ بِأَقْبَح الذِّكْرِ، مُفْتَضَحًا بِضَلَالَاتِهِ فِي كُلِّ مِصْرٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْوَنَ لَنَا عَلَى المُعَارِضِ عِنْدَ الخَلْقِ، وَأَنْجَعَ فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الحَقِّ، وَمَوَاضِعِ الصِّدْقِ. وَلَوْ قَدْ كَنَّى فِيهَا عَنْ بِشْرٍ، كَانَ جَدِيرًا أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِمْ بَعْضُه فِي خَفَاءٍ وَفي سِتْرٍ، وَلَمْ يَفْطِنْ لَهُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا كُلُّ مَنْ تَبَصَّرَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَفْصَحَ بِاسْمِ المَرِيسِيِّ وَصَرَّحَ، وَحَقَّقَ عَلَى نَفسه به الظَّنَّ وَصَحَّحَ، وَلَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَلَا لأهل بِلَاده وَلم يَنْصَحْ، فَحَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الخَيْبَةِ وَالحِرْمَانِ، وَفَضْحِهِ فِي الكُوَرِ وَالبُلْدَانِ؛ أَنْ يَكُونَ إِمَامَهُ فِي تَوْحِيدِ الله تَعَالَى بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ المَرِيسِيُّ، المُلْحِدُ فِي أَسْمَاءِ الله، المُفْتَرِي، المُعَطِّلُ لِصِفَاتِ رَبِّهِ، الجَهْمَيُّ.

أَنْشَأَ هَذَا المُعَارِضُ يَحْكِي فِي كِتَابٍ لَهُ عَنِ المَرِيسِيِّ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالِ وَشَنِيعِ المَقَالِ وَالحُجَجِ المِحَالِ، مَا لَمْ يَكُنْ بِكُلِّ ذَلِكَ نَعْرِفُهُ، وَنَصِفُهُ فِيهِ بِرَثَاثَةِ مُنَاقَضَةِ الحُجَجِ، مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ أَنْ يَصِفَهُ، فَتَجَافَيْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مُنَاقَضَةِ المُعَارِضِ، وَقَصَدْنَا قَصْدَ المَرِيسِيِّ العَاثِرِ فِي قَوْلِهِ الدَّاحِضِ، لما أَنَّهُ أَمْكَنُ فِي الحِجَاجِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَفْطِنْ لِغَوْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ من الكَلَام المُدَلَّسِ المَنْقُوضِ، وَالكُفْرِ الوَاضِحِ المَرْفُوضِ. وَكَيْفَ يَهْتَدِي بِشْرٌ لِلتَّوْحِيدِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَكَانَ وَاجِدِهِ، وَلَا هُوَ بِزَعْمِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِوَاجِدِهِ، فَهُوَ إِلَى التَّعْطِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَوَاجِدُهُ بِالمَعْدُومِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالمَوْجُودِ، وَسَنُعَبِّرُ لَكُمْ عَنْهُ مِنْ نَفْسِ كَلَامِهِ مَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالجُحُودِ، بِعَوْنِ المَلِكِ المَجِيدِ الفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ. وَلَوْلَا مَا بَدَأَكُمْ هَذَا المُعَارِضُ بِإِذَاعَةِ ضَلَالَاتِ المَرِيسِيِّ، وَبَثِّهَا فِيكُمْ، مَا اشْتَغَلْنَا بِذِكْرِ كَلَامِهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَعْلَقَ بَعْضُ كَلَامِهِ بِقُلُوبِ بَعْضِ الجُهَّالِ، فَيُلْقِيهِمْ فِي شَكٍّ مِنْ خَالِقِهِمْ وَفِي ضَلَالٍ، أَوْ أَنْ يَدعُوهُم إِلَى تَأْوِيلِهِ المُحَالِ؛ لِأَنَّ جُلَّ كَلَامِهِ تَنَقُّصٌ، وَوَقِيعَةٌ فِي الرَّبِّ، وَاسْتِخْفَافٌ بِجَلَالِهِ وَسَبٌّ، وَفِي التَّنَازُعِ فِيهِ يُتَخَوَّفُ الكُفْرُ وَيُرْهَبُ. وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الله بْنُ المُبَارَكِ - رضي الله عنه -[2/و]: «لَأَنْ أَحْكِيَ كَلَامَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أحكي كَلَام الجَهْمِية». (1) حَدثنَا الحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ البَزَّارُ قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ (¬1). ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (23، 216)، من طريق علي بن الحسن بن شقيق، به، وهذا إسناد صحيح.

فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَرِهْنَا الخَوْضَ فِيهِ، وَإِذَاعَةَ نَقَائِضِهِ (¬1) حَتَّى أَذَاعَهَا المُعَارِضُ فِيكُمْ، وَبَثَّهَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَخَشِينَا أَلَّا يَسَعَنَا إِلَّا الإِنْكَارُ عَلَى مَنْ بَثَّهَا، وَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، مُنَافَحَةً عَنِ الله، وَتَثْبِيتًا لِصِفَاتِهِ العُلَى وَلِأَسْمَائِهِ الحُسْنَى، وَدعَاءًا إِلَى الطَّرِيقَةِ المُثْلَى، وَمُحَامَاةً عَنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ، وَأَهْلِ الغَفْلَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصبيان أَن يضلوا بهَا، ويَفْتَتِنُوا؛ إِذْ بَثَّهَا فِيهِمْ رَجُلٌ كَانَ يُشِيرُ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فِقْهٍ وَبَصَرٍ، وَلَا يَفْطنُون لِعَثَرَاتِهِ إِذْ هُوَ عَثَرَ، فَيَكُونُوا مِنْ أَخَوَاتِهَا مِنْهُ على حَذَرٍ. (2) وقد كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ (¬2) أَنَّهُ سَمِعَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ (¬3) يَقُولُ: «لَا تُجَالِسُوا الجَهْمِيَّةَ، وَبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَمْرَهُمْ؛ كَيْ يَعْرِفُوهُمْ، فَيَحْذَرُوهُمْ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: افْتَتَحَ هَذَا المُعَارِضُ كِتَابَهُ بِكَلَامِ نَفْسِهِ مُثَنِّيًا بِكَلَام المَرِيسِيِّ، مُدَلِّسًا عَلَى النَّاسِ بِمَا يَهمُ أَنْ يَحْكِيَ وَيُرِي مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الجُهَّالِ وَمَنْ حَوَالَيْهِ مِنَ الأَغْمَارِ، أَنَّ مَذَاهِبَ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ فِي التَّوْحِيدِ؛ كَبَعْضِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الإِيمَانِ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّشَيُّعِ وَالقَدَرِ، وَنَحْوِهَا؛ كَيْ لَا ينفرُوا مِنْ مَذَاهِبِ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ أَكْثَرَ مِنْ نُفُورِهِمْ مِنْ كَلَامِ الشِّيعَةِ والمُرْجِئَةِ والقَدَرِيَّةِ. وَقَدْ أَخْطَأَ المُعَارِضُ مَحَجَّةَ السَّبِيلِ، وَغَلَطَ غَلَطًا كَثِيرًا فِي التَّأْوِيلِ، لما أَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ لَمْ يُكَفِّرْهُمُ العُلَمَاءُ بِشَيْءٍ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ، وَالمَرِيسِيُّ وَجَهْمٌ وأصحابُهم؛ لَمْ يَشُك أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي إِكْفَارِهِمْ. ¬

(¬1) كتبها في الأصل «تفاصيله» ثم عدلها إلى «نقائضه». (¬2) علي بن خشرم بمعجمتين على وزن جعفر: ثقة توفي 257 هـ، ينظر تقريب التهذيب. (¬3) هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو أحد الأعلام في الحفظ والعبادة، توفي 187 هـ، ينظر التقريب.

(3) سَمِعْتُ مَحْبُوبَ بْنَ مُوسَى الأَنْطَاكِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ وَكِيعًا يُكَفِّرُ الجَهْمِيَّةَ (¬1). (4) وَكَتَبَ إِلَيَّ عَلِيٌّ بْنِ خَشْرَمٍ، أَنَّ ابْنَ المُبَارَكِ كَانَ يُخْرِجُ الجَهْمِيَّةَ مِنْ عِدَادِ المُسْلِمِينَ (¬2). (5) وَسَمِعْتُ يَحْيَى بنَ يَحْيَى، (¬3) وَأَبَا تَوْبَةَ، (¬4) وَعلي بن المَدِينِيِّ: (¬5) يُكَفِّرُونَ الجَهْمِيَّةَ، وَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ. فَلَا يَقِيسُ الكُفْرَ بِبَعْضِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الفِرَقِ إِلَّا امْرُؤٌ جَهِلَ العِلْمَ وَلَمْ يُوَفَّقْ فِيهِ لِفَهْمٍ. فَادَّعَى المُعَارِضُ: أَنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي الإِيمَانِ، وَفِي التَّشَيُّعِ، وَالقَدَرِ وَنَحْوِهُ، وَلَا يجوزُ لأَحَدٍ أَنْ يتَأولَ فِي التَّوْحِيدِ غَيْرَ الصَّوَابِ، إِذْ جَمِيعُ خَلْقِ الله يُدْرِكُ بِالحَوَاسِّ الخَمْسِ: اللَّمْسِ، وَالشَّمِّ، وَالذَّوْقِ، وَالبَصَرِ بِالعَيْنِ، وَالسَّمْعِ، وَالله -بِزَعْمِ المُعَارِضِ- لَا يُدْرَكُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الخَمْسِ. ¬

(¬1) إسناده حسن، محبوب الأنطاكي صدوق، وقد ورد هذا المعنى عن وكيع من غير ما طريق وينظر السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 115، 116). (¬2) إسناده صحيح. (¬3) هو الإمام شَيْخُ الإِسْلاَمِ، وَعَالِمُ خُرَاسَانَ، أَبُو زَكَرِيَّا التَّمِيْمِيُّ، المِنْقَرِيُّ، النَّيْسَابُوْرِيُّ، الحَافِظُ، المتوفى سنة 226 هـ. ينظر سير أعلام النبلاء (10/ 512). (¬4) هو الإِمَامُ، الثِّقَةُ، الحَافِظُ، بَقِيَّةُ المَشَايِخِ، أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيْعُ بنُ نَافِعٍ الحَلَبِيُّ المتوفى سنة 241 هـ. ينظر السير (10/ 653). (¬5) هو عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، الحُجَّةُ، أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ، أَبُو الحَسَنِ المتوفى سنة 261 هـ. ينظر سير أعلام النبلاء (11/ 41).

فَقُلْنَا لِهَذَا المُعَارِضِ، الَّذِي لَا يَدْرِي كَيْفَ يُنَاقِضُ: أَمَّا قَوْلُكَ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ فِي التَّوْحِيدِ غَيْرَ الصَّوَابِ، فَقَدْ صَدَقْتَ، وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ عِنْدَ الأُمَّةِ وَصَوَابُهُ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّتِي قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جَاءَ بِهَا مُخْلِصًا دَخَلَ الجَنَّةَ» و «أُمِرْتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله». مَنْ قَالَهَا فَقَدْ وَحَّدَ اللهَ. وَكَذَلِكَ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: «لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، [2/ظ] لَبَّيْكَ إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ». (6) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ (¬1). فَهَذَا تَأْوِيلُ التَّوْحِيدِ، وَصَوَابُهُ عِنْدَ الأُمَّةِ. فَمَنْ أَدْخَلَ الحَوَاسَّ الخَمْسَ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِي صَوَابِ التَّأْوِيلِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ؟ وَمَنْ عَدَّهَا؟ فَأَشِرْ إِلَيْهِ. غَيْر مَا ادَّعَيْتُم فِيه مِنَ الكَذِبِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ، وَنُظَرَائِهِ، ولمن تَأَوَّلَ فِي التَّوْحِيدِ الصَّوَابَ لَقَدْ تَأَوَّلْتَ أَنْتَ فِيهِ غَيْرَ الصَّوَابِ؛ إِذِ ادَّعَيْتَ أَنَّ الله لَا يُدْرَكُ، وَلَمْ يُدْرَكْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الحَوَاسِّ الخَمْسِ، إِذْ هُوَ -فِي دَعْوَاكَ- لَا شَيْءٌ، وَاللهُ مُكَذِّبٌ مَنِ ادَّعَى هَذِهِ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (14908)، وأحمد في مسنده (14440)، وأبو يعلى في مسنده (2126)، وابن خزيمة في صحيحه (2626)، وغيرهم من طريق جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، محمد الباقر، عن جابر، به. وقد أخرجوه مطوَّلا إلا ابن خزيمة.

الدَّعْوَى فِي كِتَابِهِ، إِذْ يَقُولُ - عز وجل -: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 174]، و ... {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، فَأَخْبَرَ الله فِي كِتَابِهِ أَنَّ مُوسَى أدْرك مِنْهُ الكَلَامَ بِسَمْعِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الحَوَاسِّ عِنْدَكَ وَعِنْدَنَا، وَيُدْرَكُ فِي الآخِرَةِ بِالنّظرِ إِلَيْهِ بالأَعْيُن، وهِيَ الحَاسَّةُ الثَّانِيَةُ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]. وَكَمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ جَهْرًا، لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ». وَرَوَى عَنْهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ الله لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ». (7) حَدَّثَنَاهُ عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فَذَاكَ النَّاطِقُ مِنْ قَوْلِ الله، وَهَذَا الصَّحِيحُ المَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَيُّ حَوَاسٍّ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ المُعَارِضَ مَنْ تَأَوَّلَ فِيهِ غَيْرَ الصَّوَابِ. * * * ¬

(¬1) صحيح، أخرجه البخاري (7443، 7512)، ومسلم (1016)، وغيرهما من طرق عن الأعمش، عن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، عن عدي، به.

باب الإيمان بأسماء الله تعالى وأنها غير مخلوقة

بَابُ الإِيمَانِ بِأَسْمَاءِ الله تَعَالَى وَأَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ثُمَّ اعْتَرَضَ المُعَارِضُ أَسْمَاءَ اللهِ المُقَدَّسَةَ فَذَهَبَ فِي تَأْوِيلِهَا مَذْهَبَ إِمَامِهِ المَرِيسِيِّ. فَادَّعَى أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ غَيْرُ اللهِ، وَأَنَّهَا مُسْتَعَارةٌ مخلوقةٌ كَمَا أَنه قَدْ يَكُونُ شَخْصٌ بِلَا اسْمٍ، فَتَسْمِيَتُهُ لَا تَزِيدُ فِي الشَّخْصِ، وَلَا تَنْقُصُ. يَعْنِي أَنَّ الله كَانَ مَجْهُولًا كَشَخْصٍ مَجْهُولٍ، لَا يَهْتَدِي لِاسْمِهِ، وَلَا يَدْرِى مَا هُوَ، حَتَّى خَلَقَ الخَلْقَ فَابْتَدَعُوا لَهُ أَسْمَاءً مِنْ مَخْلُوقِ كَلَامِهِمْ، فَأَعَارُوهَا إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ اسْمٌ قَبْلَ الخَلْقِ. وَمَنِ ادَّعَى هَذَا التَّأْوِيلَ؛ فَقَدْ نَسَبَ اللهَ تَعَالَى إِلَى العَجْزِ، وَالوَهَنِ وَالضَّرُورَةِ، وَالحَاجَةِ إِلَى الخَلْقِ؛ لِأَنَّ المُسْتَعِيرَ مُحْتَاجٌ مُضْطَرٌّ، وَالمُعِيرُ أَبَدًا أَعْلَى مِنْهُ وَأَغْنَى. فَفِي هَذِهِ الدَّعْوَى اسْتِجْهَالُ الخَالِقِ؛ إِذْ كَانَ بِزَعْمِهِ هَملًا لَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَمَا هُوَ وَمَا صِفَتُهُ وَالله المُتَعَالِي عَنْ هَذَا الوَصْف المُنَزَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ هِيَ تَحْقِيقُ صِفَاتِهِ، سَوَاءٌ عَلَيْكَ قُلْتَ: عَبَدْتُ اللهَ، أَوْ عَبَدْتُ الرَّحْمَنَ، أَوِ الرَّحِيمَ، أَوِ المَلِكَ العَزِيزَ الحَكِيمَ، وَسَوَاءٌ عَلَى الرَّجُلِ قَالَ: كَفَرْتُ بِالله، أَوْ قَالَ: [3/و] كفرت بالرحمن الرَّحِيم، أَو بالخالق العَزِيزِ الحَكِيمِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْكَ قُلْتَ: عَبْدُ الله، أَوْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَوْ عَبْدُ العَزِيزِ، أَوْ عَبْدُ المَجِيدِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْكَ قُلْتَ: يَا اللهُ يا رحمنُ، أَو يا رحيمُ، أَو يا مَلِكُ يَا عَزِيزُ يَا جَبَّارُ، بِأَيِّ اسْمٍ دَعَوْتَهُ مِنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ، أَوْ أَضَفْتَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّمَا تَدْعُو اللهَ نَفْسَهُ، مَنْ شَكَّ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ. وَسَوَاءٌ عَلَيْكَ قُلْتَ: رَبِّيَ اللهُ، أَوْ رَبِّيَ الرَّحْمَنُ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} [الأنبياء: 112]، وَقَالَ الله تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:1]،وَقَالَ: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب:42]

كَذَلِكَ قَالَ فِي الِاسْمِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، كَمَا يُسَبِّحُ الله، وَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا مُسْتَعَارًا غَيْرَ اللهِ، لَمْ يَأْمُرِ اللهُ أَنْ يُسَبَّحَ مَخْلُوقٌ غَيْرُهُ. وَقَالَ: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحشر: 24]. ثُمَّ ذَكَرَ الآلِهَةَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ بِأَسْمَائِهَا المُسْتَعَارَةِ المَخْلُوقَةِ فَقَالَ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23]، وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ حِينَ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70]، فَقَالَ لَهُمْ يَنْهَاهُمْ: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأعراف: 71]، يَعْنِي: أَنَّ أَسْمَاءَ اللهِ تَعَالَى لَمْ تَزَلْ، كَمَا لَمْ يَزَلِ اللهُ، وَأَنَّهَا بِخِلَافِ هَذِهِ الأَسْمَاءِ المَخْلُوقَةِ الَّتِي أَعَارُوهَا لِلْأَصْنَامِ وَالآلِهَةِ الَّتِي عَبَدُوهَا مِنْ دُونِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَسْمَاءُ اللهِ بِخِلَافِهَا، فَأَيُّ تَوْبِيخٍ لِأَسْمَاءِ الآلِهَةِ المَخْلُوقَةِ؛ إِذْ كَانَت أسماءُهَا وَأَسْمَاءُ اللهِ مَخْلُوقَةً مُسْتَعَارَةً عِنْدَكُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكُلُّهَا مِنْ تَسْمِيَةِ العِبَادِ وَمِنْ تَسْمِيَةِ آبَائِهِمْ بِزَعْمِكُمْ؟! فَفِي دَعْوَى هَذَا المُعَارِضِ أَنَّ الخَلْقَ عَرَّفُوا اللهَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَسْمَاءٍ ابْتَدَعُوهَا، لَا أَنَّ اللهَ عَرَّفَهُمْ بِهَا نَفْسَهُ، فَأَيُّ تَأْوِيلٍ أَوْحَشَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ مِنْ أَنْ يَتَأَوَّلَ رَجُلٌ أَنَّهُ كَانَ كَشَخْصٍ مَجْهُولٍ، أَوْ بَيْتٍ، أَوْ شَجَرَة، أَو بهيمة، لَمْ يُشْتَقَّ لِشَيْءٍ مِنْهَا اسْمٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ مَا هُوَ، حَتَّى عَرَّفَهُ الخَلْقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟! وَلَا تُقَاسُ أَسْمَاءُ اللهِ بِأَسْمَاءِ الخَلْقِ؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الخَلْقِ مَخْلُوقَةٌ مُسْتَعَارَةٌ، وَلَيْسَت أَسْمَاءَهُم نَفْسُ صِفَاتِهِمْ، بَلْ هِيَ مُخَالِفَةٌ لِصِفَاتِهِمْ. وَأَسْمَاءُ الله صِفَاتُهُ، لَيْسَ شَيْءٌ منها مُخَالِفٌ لِصِفَاتِهِ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَسْمَاءِ (¬1). ¬

(¬1) كلمة «مخالف» جاءت على الرفع هكذا في الموضعين من الأصل، وهي خلاف الجادة،= ... = فالجادة النصب على أنها خبر ليس منصوب.

فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةٌ، أَوْ مُسْتَعَارَةٌ فَقَدْ كَفَرَ وَفَجَرَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: اللهُ؛ فَهُوَ اللهُ، وَإِذَا قُلْتَ: الرَّحْمَنُ؛ فَهُوَ الرَّحْمَنُ، وَهُوَ اللهُ وَإِذَا قُلْتَ: الرَّحِيمُ؛ فَهُوَ كَذَلِك، وَإِذا قلت: حَكِيمٌ، عليم، حَمِيدٌ، مَجِيدٌ، جَبَّارٌ، مُتَكَبِّرٌ، قاهرٌ، قَادرٌ؛ فَهُوَ كَذَلِك وَهُوَ اللهُ سَوَاء، لَا يُخَالِفُ اسْمٌ لَهُ صِفَتَهُ وَلَا صِفَتُهُ اسْمًا. وَقَدْ يُسَمَّى الرَّجُلُ حَكِيمًا، وَهُوَ جَاهِلٌ، وَحَكَمًا، وَهُوَ ظَالِمٌ، وَعَزِيزًا، وَهُوَ حَقِيرٌ، وَكَرِيمًا، وَهُوَ لَئِيمٌ، وصالحًا، وَهُوَ طالح، وَسَعِيدًا، وَهُوَ شَقِيٌّ، وَمَحْمُودًا، وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَحَبِيبًا، وَهُوَ بَغِيضٌ، وَأَسَدًا، وَحِمَارًا، وَكَلْبًا، وَجريًا، وَكُلَيْبًا، وَهِرًّا، وَحَنْظَلَةَ، وَعَلْقَمَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ كَأَسْمَائِهِ سَوَاءٌ، لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَلَا يَزَالُ، لَمْ تَحْدُثْ لَهُ صِفَتُهُ، وَلَا اسْمٌ لَمْ يَكُ [3/ظ] كَذَلِكَ قَبْلَ الخَلْقِ، كَانَ خَالِقًا قَبْلَ المَخْلُوقِينَ، وَرَازِقًا قَبْلَ المَرْزُوقِينَ، وَعَالِمًا قبل المَعْلُومِينَ، وسَمِيعًا قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ أَصْوَاتَ المَخْلُوقِينَ، وَبَصِيرًا قَبْلَ أَنْ يَرَى أَعْيَانَهُمْ مَخْلُوقَةً. قَالَ الله تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وَقَالَ الله تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4]، فقَالَ مَرَّةً: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وَقَالَ مَرَّةً: اللهُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد. ولو كان كَمَا ادَّعَى المُعَارِضُ وَإِمَامُهُ المَرِيسِيُّ، لَكَانَ الخَالِقُ وَالمخْلُوقُ اسْتَوَيَا جَمِيعًا على العَرْش، إِذ كَانَت أسماؤه مخلوقة عِنْدهم؛ إذ كان الله في دعواهم في حد المجهول أكثر منه في حد المعروف؛ لِأَنَّ لِحُدُوثِ الخَلْقِ حَدًّا

وَوَقْتًا، وَلَيْسَ لِأَزَلِيَّةِ اللهِ حَدٌّ وَلَا وَقْتٌ، لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ. ثُمَّ احْتَجَّ المُعَارِضُ لِتَرْوِيجِ مَذْهَبِهِ هذا بِأَقْبَحِ قِيَاسٍ؛ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَتَبْتَ اسْمًا فِي رُقْعَةٍ ثُمَّ احْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ، أَلَيْسَ إِنَّمَا تَحْتَرِقُ الرُّقْعَةُ وَلَا تَضُرُّ النَّارُ الاسْمَ شَيْئًا؟ فَيُقَالُ لِهَذَا التَّائِهِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَخْرُجُ من رَأسه: إِنَّ الرُّقْعَةَ وَكِتَابَةَ الِاسْمِ لَيْسَ كَنَفْسِ الِاسْمِ، إِذَا احْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ احْتَرَقَ الخَطُّ وَبَقِيَ اسْمُ اللهِ لَهُ وَعَلَى لِسَانِ الكَاتِبِ، كَمَا لَمْ يَزَلْ قَبْلَ أَنْ يُكْتَبَ، لَمْ تُنْقِصِ النَّارُ مِنَ الِاسْمِ وَلَا مِمَّنْ لَهُ الِاسْمُ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَسْمَاءُ المَخْلُوقِينَ، لَمْ تُنْقِصِ النَّارُ مِنْ أَسْمَائِهِمْ وَلَا مِنْ أَجْسَامِهِمْ شَيْئًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبْتَ «الله» بِهِجَائِهِ فِي رُقْعَةٍ لَاحْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ وَكَانَ اللهُ بِكَمَالِهِ عَلَى عَرْشِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ صُوِّرَ رَجُلٌ فِي رُقْعَةٍ، ثُمَّ ألقِيَتْ فِي النَّارِ، لَاحْتَرَقَتِ الرُّقْعَةُ، وَلَمْ تُضَرُّ الصُّورَةُ (¬1) شَيْئًا. وَكَذَلِكَ القُرْآنُ، لَوِ احْتَرَقَتِ المَصَاحِفُ كُلُّهَا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ نَفْسِ القُرْآنِ حَرْفٌ وَاحِدٌ, وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَرَقَتِ القَرَأَةُ كُلُّهُمْ، أَوْ قُتِلُوا، أَوْ مَاتُوا، لَبَقِيَ القُرْآنُ بِكَمَالِهِ كَمَا كَانَ، لَمْ يُنْتَقَصْ مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ عِنْدَ فَنَاءِ الخَلْقِ بِكَمَالِهِ غَيْر مَنْقُوصٍ. وَقَدْ كَانَ لِإِمَامِهِ المَرِيسِيِّ فِي أَسْمَاءِ اللهِ مَذْهَبٌ كَمَذْهَبِهِ فِي القُرْآنِ. كَانَ القُرْآنُ عِنْدَهُ مَخْلُوقًا مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، لَمْ يَتَكَلَّمِ اللهُ بِحَرْفٍ مِنْهُ فِي دَعْوَاهُ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ اللهِ عِنْدَهُ مِنَ ابْتِدَاعِ البَشَرِ مِنْ غير أَن يَقُول الله: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} [القصص: 30] بِزَعْمِهِ قَطُّ. ¬

(¬1) المقصود بالصورة ها هنا: صورة الرجل الحقيقية، وبذلك يستقيم المعنى.

وَزَعَمَ أَنِّي مَتَى اعْتَرَفْتُ بِأَنَّ الله تَكَلَّمَ بِأَنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ؛ لَزِمَنِي أَنْ أَقُولَ: تَكَلَّمَ اللهُ بِالقُرْآنِ. وَلَوِ اعْتَرَفْنَا بِذَلِكَ لَانْكَسَرَ عَلَيْنَا مَذْهَبُنَا فِي القُرْآنِ. وَقَدْ كَسَرَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِهِمْ فَقَالَ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} [القصص: 30] لَا يَسْتَحِقُّ مَخْلُوقٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا. فَإِن فعل ذَلِكَ كَانَ كَافِرًا؛ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]. فَهَذَا الَّذِي ادَّعَوْا فِي أَسْمَاءِ اللهِ؛ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الجَهْمِية الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مِحَنَهُم وأَسَّسُوا بِهَا ضَلَالَتَهُمْ، غَالَطُوا بِهَا الأَغْمَارَ وَالسُّفَهَاءَ، وَهَمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُغَالِطُونَ بِهَا الفُقَهَاءَ، وَلَئِنْ كَانَ السُّفَهَاءُ [4/و] فِي غَلَطٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، إِنَّ الفُقَهَاءَ مِنْهُم لَعَلَى يَقِين. أَرَأَيْتُمْ قَوْلَكُمْ: إِنَّ أَسْمَاءَ اللهِ مَخْلُوقَةٌ. فَمَنْ خَلَقَهَا؟ أَوْ كَيْفَ خَلَقَهَا؟ أَجَعَلَهَا أَجْسَامًا وَصُوَرًا تَشْغَلُ أَعْيَانُهَا أَمْكِنَةً دُونَهُ مِنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ أَمْ مَوْضِعًا دُونَهُ فِي الهَوَاءِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: لَهَا أَجْسَامٌ دُونَهُ، فَهَذَا مَا تَنْفِيهِ عُقُولُ العُقَلَاءِ. وَإِنْ قُلْتُمْ: خَلَقَهَا عَلَى ألسِنَةِ العِبَادِ، فَدَعَوْهُ بِهَا، وَأَعَارُوهَا إِيَّاهُ، فَهُوَ مَا ادَّعَيْنَا عَلَيْكُمْ: إِنَّ اللهَ بِزَعْمِكُمْ كَانَ مَجْهُولًا لَا اسْمَ لَهُ حَتَّى حَدَثَ الخَلْقُ فَأَحْدَثُوا أَسْمَاءً مِنْ مَخْلُوقِ كَلَامِهِمْ. وَهَذَا هُوَ الإلحادُ بِاللهِ وَفِي أَسْمَائِهِ، وَالتَّكْذِيبُ بِهَا. قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4] كَمَا نُضِيفُهُ إِلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَيْتُمْ لَقِيلَ: الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ المُسَمَّى الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، وَكَمَا قَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 2 - 3]، وَكَمَا قَالَ:

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر: 1]، كَذَلِكَ قَالَ: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} [فصلت: 2]، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42]. {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)} [النمل: 6]، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَكُلُّهَا هِيَ اللَهُ، وَاللهُ هُوَ أَحَدُ أَسْمَائِهِ، كالعزيز، الحَكِيم، الجَبَّارِ، المُتَكَبِّرِ، كَذَلِكَ رَوَى زَعِيمُكُمُ الأَوْسَطُ يَعْقُوبُ أَبُو يُوسُفَ (¬1) عَنِ الشَّعْبِيِّ، إِنْ قَنَعْتُمْ بِرِوَايَتِهِ. (8) حَدَّثَنَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو يُوسُفَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ (¬2) قَالَ: «اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ هُوَ الله» (¬3). (9) حَدثنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِد، أَخْبَرَنَا أَبُو هِلَالٍ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ حَيَّانَ الأَعْرَجِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ هُوَ اللهُ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الأَسْمَاءِ كُلِّهَا» (¬4). ¬

(¬1) هو الإمام، المجتهد، العلامة، المحدث، قاضي القضاة، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب. صاحب أبا حنيفة، لزمه، وتفقه به، وهو أنبل تلامذته، وأعلمهم، توفي سنة 182 هـ. ينظر سير أعلام النبلاء (8/ 535). (¬2) الشَّعْبِيُّ: هو عَامِرُ بنُ شَرَاحِيْلَ بن عَبْدِ بنِ ذِي كِبَار، الإِمَامُ، عَلاَّمَةُ العَصْرِ، أَبُو عَمْرٍو الهَمْدَانِيُّ، ثُمَّ الشَّعْبِيُّ، وهو من الطبقة الوسطى من التابعين توفي سنة 105 هـ على الأرجح، وينظر سير أعلام النبلاء (4/ 294). (¬3) اسناده إلى الشعبي ضعيف، فيه مجالد بن سعيد، ضعفه غير واحد من أهل العلم كيحيى القطان وابن مهدي، وأحمد بن حنبل. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (29367)، بإسناد فيه من لم يسم عن الشعبي. (¬4) إسناده حسن، أبو هلال الراسبي اسمه محمد بن سليم البصري، قال ابن معين -كما نقل عنه المصنف-: صدوق. وباقي الإسناد ثقات، وجابر بن زيد هو: أَبُو الشَّعْثَاءِ الأَزْدِيُّ اليَحْمَدِيُّ، توفي فيد حدود المائة. وينظر سير أعلام النبلاء (4/ 294). والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (29366)، عن وكيع، وابن أبي حاتم في التفسير (1/ 25) من طريق آدم، وهو بن أبي إياس، كلاهما: وكيع وآدم، عن أبي هلال، به. وأخرجه عبد الغني= ... = المقدسي في الترغيب في الدعاء (56)، والضياء في العدة للكرب والشدة (47)، كلاهما من طريق هدبة بن خالد، به.

أَفَلَا يَسْتَحِي عَبْدٌ مِنْ خَالِقِهِ، وَمِنْ خَلْقِ رَبِّهِ؛ فَيَدَّعِي أَنَّ «اللهَ» اسْمٌ مَخْلُوقٌ مُسْتَعَارٌ! (10) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بن أبي طَلْحَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «{كهيعص (1)} [مريم: 1]؛ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ» (¬1). وَقَدْ رُوِيَ لَنَا فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -. (11) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَافٌ مِنْ كَرِيمٍ، وَعَيْنٌ مِنْ عَلِيمٍ، وياء من حَكِيمٍ، وَهَا مِنْ هَادٍ، وَصَادٌ من صدوق» (¬2). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات من طريق المصنف، به، وأخرجه ابن جرير في تفسيره (15/ 451)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2747)، كلاهما من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح، به. قلت: عبد الله بن صالح فيه ضعف مشهور. قال الذهبي: فيه لين، وقال الحافظ صدوق كثير الغلط. ثم الراوي عن ابن عباس وهو علي بن أبي طلحة. قال أبو حاتم عن دحيم: لم يسمع من ابن عباس التفسير. وذكر الخليلي في الإرشاد (ص 96) نحو ذلك. ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه: أن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مرسل. ينظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص 140). وقال الإمام أحمد: له أشياء منكرات. (¬2) حسن بمجموع طرقه؛ أخرجه عبد الرزاق في التفسير (2/ 350)، والضياء في المختارة (319)، من طريق سفيان بن عيينة، وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (166)، من طريق ورقاء بن عمر، وأخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 403)، من طريق عمرو بن أبي قيس. ثلاثتهم (سفيان، وورقاء، وعمرو) تابعوا هشيمًا في روايته عن عطاء بن السائب.= ... = قلت: وهذا إسناد ضعيف؛ عطاءٌ اختلط فلا يقبل منه إلا ما كان من رواية القدماء عنه، وهؤلاء لم نتبين متى سمعوا منه، بل الأرجح أنهم ممن سمع منه بِأَخَرَةٍ، وقد نص على هشيم من بينهم. لكن توبع عطاء في روايته عن سعيد بن جبير، تابعه كل من: 1 - سالم الأفطس، كما أخره الطبري في التفسير (15/ 444)، والحاكم (2/ 403)، وعنه البيهقي في الأسماء (168)، وإسناده لا بأس به. 2 - إسماعيل بن راشد، كما أخرجه الطبري (15/ 443)، والبيهقي في الأسماء (165)، وإسناده رجاله ثقات غير إسماعيل نفسه فإنه مجهول الحال. 3 - أبو حصين واسمه عثمان بن عاصم، أخرجه الطبري (15/ 445) بلفظ مختصر، وإسناده صحيح. فالأثر في أقل أحواله حسن بمجموع هذه الطرق والله أعلم.

وَحَتَّى إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يُجْمِلُهَا فَيَقُولُ: «يَا كَهَيَعصَ! اغْفِرْ لِي» كَمَا يَقُولُ: «يَا الله اغْفِرْ لِي». (12) حَدَّثَنَا رَوْحُ بنُ عَبْدِ المُؤمن المُقْري، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ فَاطِمَةَ ابْنَةِ عَلِيٍّ أَنَّهَا سَمِعَتْ عليًّا يَقُول: «يَا كهيعص اغفر لي» (¬1). فَمَنْ خَلَقَ {كهيعص (1)} [مريم: 1] فِي دَعْوَاكُمْ؟ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِهَا قَبْلَ اللهِ؟ وَمَنِ اهْتَدَى لَهَا غَيْرَ اللهِ؟ وَكَمَا قَالَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} [القصص: 30] كَذَلِكَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَا الرَّحْمَنُ». (13) حَدَّثَنَاهُ مُسَدَّدٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ [4/ظ] ¬

(¬1) إسناده حسن، نافع هو ابن عبد الرحمن بن أبي نعيم، قال أحمد: ليس في الحديث بشيء، وقال ابن معين ثقة، وقال ابن عدي: لم أر فِي أحاديثه شيئا منكرًا، وأرجو أنه لا بأس بِهِ. وقد أخرج هذا الحديث من طريقه ابن ماجه في التفسير، كما أشار المزي في ترجمة نافع من تهذيب الكمال (29/ 382).

رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ، وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ» (¬1). فَيَقُولُ اللهُ: أَنَا شَقَقْتُ لَهَا من اسْمِي، وَادَّعت الجَهْمِيةُ المُكَذِّبِينَ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ أَنَّهُمْ أَعَارُوهُ الِاسْمَ الَّذِي شَقَّهَا مِنْهُ! ومن أَيْنَ عَلِمَ الخَلْقُ أَسْمَاءَ الخَالِقِ قَبْلَ تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ آدَمُ وَلَا المَلَائِكَةُ أَسْمَاءَ المَخْلُوقِينَ، حَتَّى عَلَّمَهُمُ اللهُ مِنْ عِنْده، وَكَانَ بَدْءُ عِلْمِهَا مِنْهُ فَقَالَ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 31 - 33]. وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا وَحَفِظَهَا دَخَلَ الجَنَّةَ». (14) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «للهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعين اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِد، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ؛ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهُوَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الوِتْرَ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، والحديث أخرجه أبو داود (1694)، والترمذي (1907)، وأحمد (1686)، والحميدي (65)، وأبو يعلى (840)، وغيرهم، جميعا من طريق سفيان بن عيينة، به. (¬2) أخرجه البخاري (6410) عن علي بن المديني، به، ومسلم (2677)، من طريقين عن أبي هريرة، به.

(15) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الوَلِيدُ بن مُسلم، ثَنَا خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَج، عَن قَتَادَة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لِلهِ تِسْعَة وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أحصاها كُلَّهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬1). قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ: كُلُّهَا فِي القُرْآن: «هُوَ الله الذي لَا إِلَه إلا هُوَ الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، المَلِكُ القُدُّوسُ، السَّلَامُ، المُؤْمِنُ، المُهَيْمِنُ، العَزِيزُ، الجَبَّارُ، المُتَكَبِّرُ، الخَالِقُ، البَارِئُ، المُصَوِّرُ، الغَفَّارُ، القَهَّارُ، الوَهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الفَتَّاحُ، العَلِيمُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الخَافِضُ، الرَّافِعُ، المُعِزُّ، المُذِلُّ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، الحَكَمُ، العَدْلُ، اللَّطِيفُ، الخَبِيرُ، الحَلِيمُ، العَظِيمُ، الغَفُورُ، الشَّكُورُ، العَلِيُّ، الكَبِيرُ، الحَفِيظُ، الحَسِيبُ، الجَلِيلُ، الكَرِيمُ، المُحْصِي، الرَّقِيبُ، المُجِيبُ، الوَاسِعُ، الحَكِيمُ، الوَدُودُ، المَجِيدُ، البَاعِثُ، الشَّهِيدُ، الحَقُّ، الوَكِيلُ، القَوِيُّ، المَتِينُ، الوَلِيُّ، الحَمِيدُ، المُبْدِئُ، المُعِيدُ، المُحْيِي، المُمِيتُ، الحَيُّ، القَيُّومُ، المَاجِدُ، الوَاجدُ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، القَادِرُ، ¬

(¬1) صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف؛ فيه الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي وهو مع إمامته كان يدلس تدليس التسوية، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الرابعة من طبقات المدلسين، ومثل الوليد نحتاج منه أن يصرح بالسماع في جميع طبقات الإسناد ولم يفعل هنا، ثم شيخه خليد بن دعلج؛ ضعفه أحمد ويحيى، وقال الدارقطني متروك، ثم شيخه قتادة وهو ابن دعامة السدوسي مدلس أيضا ولم يصرح بالسماع. قلت: لكن صح الحديث -والحمد لله- من طريق ابن سيرين، فقد أخرجه مسلم في صحيحه (2677) من طريق أيوب السختياني، عن ابن سيرين، والطبري في التفسير (10/ 596)، بإسناد صحيح من طريق هشام ابن حسان، عنه، به، وابن أبي حاتم في التفسير (5/ 1622)، بإسناد صحيح من طريق ابن عون، عنه، به. وقد تابع ابن سيرين في روايته عن أبي هريرة، الأعرج عبد الرحمن بن هرمز؛ كما أخرجه البخاري (2736)، وأبو رافع نفيع الصائغ المدني؛ كما عند الترمذي (3506)، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -».

المُقْتَدِرُ، المُقَدِّمُ، المُؤَخِّرُ، الأَوَّلُ، الآخِرُ، الظَّاهِرُ، البَاطِنُ، الوَالِي، المُتَعَالِي، البَرُّ، التَّوَّابُ، المُنْتَقِمُ، العَفوُّ، الرَّؤُوفُ، مَالِكُ المُلْكِ، ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، المُقْسِطُ، الجَامِعُ، المُعْطِي، المَانِعُ، الضَّارُّ، النَّافِعُ، النُّورُ، الهَادِي، البَدِيعُ، الغَنِيُّ، البَاقِي، الوَارِثُ، الرَّشِيدُ، الصَّبُورُ» (¬1). ¬

(¬1) قد رجح المصنف -رحمه الله- هنا أن إحصاء الأسماء موقوف على الوليد بن مسلم، ولم يروه مرفوعا كما هو ظاهر من صنيعه، وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث من جهة ذكر الأسماء فيه، هل هي مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو هي مدرجة من كلام الوليد، والراجح الثاني والله تعالى أعلم. قال الحافظ في فتح الباري (11/ 215): «واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة فمشى كثير منهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم لأن كثيرا من هذه الأسماء كذلك وذهب آخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه ونقله عبد العزيز النخشبي عن كثير من العلماء». قلت: وقد أخرج الحديث مرفوعا الترمذي (2507)، وابن حبان (808)، والحاكم (1/ 62)، والبيهقي في السنن (1048)، وفي الشعب (101)، وابن منده في التوحيد (361)، وغيرهم، من طرق عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه. وصفوان بن صالح يدلس تدليس التسوية كما نقل الحافظ عن أبي زرعة الدمشقي، ولم يصرح بالسماع في جميع طبقات الإسناد، فهذا إسناد ضعيف، ثم هو أيضا معلول بعدم إخراج الأئمة له، وقد أخرجوه من حديث أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب، به دون سرد الأسماء. وللحديث طريق أخرى عن أبي هريرة، أخرجه ابن ماجه (3861).قلت: لكن إسنادها منكر فهو من رواية عبد الملك بن محمد الصنعاني الدمشقي، عن زهير العنبري، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعا. وعبد الملك لينه الحافظ، قلت: ثم هو دمشقي ورواية الشاميين عن زهير بن محمد العنبري فيها نكارة كما ذكر أبو حاتم الرازي وغيره. فجملة القول: أنه ليس هناك حديث صحيح ثابت في رفع سرد الأسماء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والراجح أنها مدرجة من بعض الرواة. وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 516): «وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّ = ... = سَرْدَ الْأَسْمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُدْرَجٌ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، أَيْ: أنهم جمعوها من القرآن كما ورد عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي زَيْدٍ اللُّغَوِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ». قلت: ولعل المصنف -رحمه الله- عدل عن رواية المرفوع لترجيحه الإدراج، والله أعلم.

فَهَذِهِ كُلُّهَا، أَسْمَاءُ اللهِ، لَمْ تَزَلْ لَهُ كَمَا لم يَزَلْ، بِأَيِّهَا دَعْوَتَ فَإِنَّمَا تَدْعُو اللهَ نَفْسَهُ. وَفِي أَسْمَاءِ اللهِ حُجَجٌ وَآثَارٌ أكثر مِمَّا ذَكَرْنَا، تَرَكْنَاهَا؛ مَخَافَة التطَّوِيل، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ [5/و] بَيَانٌ بَيِّنٌ، وَدِلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى إِلحَادِ هَؤُلَاءِ المُلْحِدِينَ فِي أَسْمَائِهِ، المُبْتَدِعِينَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، قَاتَلَهُمُ اللهُ! أَنَّى يَخْرُصُونَ، وَعَزَّ رَبُّنَا وَجَلَّ عَمَّا غَمَصُوهُ، وَتَبَارَكَ وَتَعَالَى عَمَّا تَنَقَّصُوهُ، وَهُوَ المُنْتَقِمُ مِنْهُمْ فِيمَا افْتَرَضُوهُ. وَأَيُّ تَأْوِيلٍ أَوْحَشَ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ أَنَّ الله كَانَ وَلَا اسْمَ لَهُ؟! مَا مُدَّعِي هَذَا بِمُؤْمِنٍ، وَلَنْ يَدْخُلَ الإِيمَانُ قَلْبَ رَجُلٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ إِلَهًا وَاحِدًا، بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، لَمْ يَحْدُثْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، كَمَا لَمْ تَزَلْ وَحْدَانِيَّتُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. * * *

باب

بَابٌ وَادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ اللهَ لَا يُدْرَكُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَوَاسِّ الخَمْسِ، وَهِيَ فِي دَعْوَاهُ: اللَّمْسُ، وَالشَّمُّ، وَالذَّوْقُ، وَالبَصَرُ بِالعَيْنِ، وَالسَّمْعُ، وَاحْتَجَّ لِدَعْوَاهُ بِحَدِيثٍ مُفْتَعَلٍ مَكْذُوبٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، مَعَهُ شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ كَثِيرَةٌ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ. فَأَوَّلُ شَوَاهِدِهِ: أَنَّهُ رَوَاهُ المُعَارِضُ عَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ المرِيسِيِّ المُتَّهَمِ فِي تَوْحِيدِ الله، المُكَذِّبِ بِصِفَاتِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رَوَاهُ بِشْرٌ عَنْ قَوْمٍ لَا يُوثَقُ بِهِمْ، وَلَا يُعْرَفُونَ، رَوَاهُ المرِيسِيُّ عَنْ أَبِي شِهَابٍ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن مَيْمُون، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَمن أبي شِهَابٍ الخَوْلَانِيُّ، وَمَنْ نُعَيْمُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ؛ فَيُحْكَمُ بِرِوَايَتِهِمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رِوَايَةِ قَوْمٍ أَجِلَّةٍ مَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، قَدْ رَوَوْا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ؟! فَمِنْ ذَلِكَ: (16) مَا حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بن سَلمَة، عَن عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «آتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بَابَ الجَنَّةِ، فَيُفْتَحُ لِي، فَأَرَى رَبِّي وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ -أَوْ سَرِيرِهِ- فَيَتَجَلَّى لِي، فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا» (¬1). ¬

(¬1) إسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد هو ابن جدعان، وعليٌ؛ ضعفه أحمد وغيره، وقال الدارقطني فيه لين، والحديث أخرجه مطولًا أحمد (2546)، والطيالسي (2711)، وأبو يعلى (2328)، واللالكائي (3/ 593)، وغيرهم، وأخرجه مختصرًا عبد بن حميد (695)، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش (46)، كلهم من طرق عن علي بن زيد، به.

فَهَذَا أَحَدُ الحَوَاسِّ، وَهُوَ النَّظَرُ بِالعَيْنِ وَالتَّجَلِّي، رَوَاهُ هَؤُلَاءِ المشهورون عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى رَغْمِ بشر. ومن ذَلِك: (17) مَا حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شيبَة، عَن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الحَارِثِ، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «إِذْ تَكَلَّمَ اللهُ بِالوَحْيِ، سَمِعُوا لَهُ مِثْلَ سِلْسِلَةِ الحَدِيدِ عَلَى الصَّفْوَانِ» (¬1). وَهَذَا الحَوَاسُّ الثَّانِي، بِأَسْمَاعِ المَلَائِكَةِ عَلَى رَغْمِ بِشْرٍ وَرِوَايَةِ بِشْرٍ, فَمَا تُغْنِي عَنْ بِشْرٍ رِوَايَتُهُ عَن هَؤُلَاءِ المغمورين إِذَا مَا كَذَّبَ بِرِوَايَةِ هَؤُلَاءِ المَشْهُورِينَ مَعَ تَكْذِيبِ الله إِيَّاهُ قَبْلُ، وَفِي كِتَابِهِ إِذْ يَقُولُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164] و {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، وَقَالَ: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]، فَأَخْبَرَ الله تَعَالَى أَنَّهُ قَدْ أسَمِعَ مُوسَى نَفْسَ كَلَامِهِ، وَسَيُكَلِّمُ مَنْ يَشَاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَرَاهُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَيَانًا بِأَعْيُنِهِمْ، كما قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحسُّ المَلَائِكَةُ بِكَلَامِهِ عِنْدَ نُزُولِ وَحْيِهِ حتى يُصْعَقُوا مِنْ شِدَّةِ حَوَاسِّهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ¬

(¬1) صحيح المتن وهذا الإسناد ضعيف، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (538)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (219)، وأبو زرعة الرازي كما في العلو للذهبي (294)، من طريق جرير بن عبد الحميد، به. وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل يزيد بن أبي زياد، قال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالقوي، وكذلك قال ابن معين كما نقله عنه المصنف. قلت: قد صح هذا المتن ولكن من حديث عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - كما أخرجه أبو داود (4738)، وعبد الله بن أحمد في السنة (536، 537)، والمصنف في الرد على الجهمية (158) بتحقيقي، وغيرهم، من طريق مسروق بن الأجدع، عن ابن مسعود، به.

وَابْنُ مَسْعُودٍ (¬1) وَتَأَوَّلَا فِيهِ قَوْلَ الله تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 23]. فَهَلْ مِنْ حَوَاسٍّ أَقْوَى مِنَ السَّمْعِ وَالنَّظَرِ؟. فَمَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى بِشْرٍ وَتَفْسِيرِ بِشْرٍ، وَيَتْرُكُ النَّاطِقَ مِنْ [5/ظ] كِتَابِ اللهِ، وَالمَأْثُورِ مِنْ قَول رَسُول اللهِ، إِلَّا كُلُّ مَخْبُولٍ مَخذُول. ثُمَّ طَعَنَ المُعَارِضُ فِي رُؤْيَةِ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَرُدَّهُ بِتَأْوِيلِ ضَلَالٍ وَبِقِيَاسِ مُحَالٍ، فَقَالَ: لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ فَتَسْتَوْصِفَهُ. فَنَظَرْنَا إِلَى مَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وَرُوِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ مُسْنَدَةٌ، وَغَيْرُ مُسندَة، فلابد مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. فَيَزْعُمُ المُعَارِضُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَن أبي حنيفَة: «أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ كَمَا يَشَاءُ أَنْ يَرَوْهُ». فَبَيَّنَ فِي ذَلِكَ صِفَات هَذِهِ الأَحَادِيثِ كُلِّهَا، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، -يَعْنِي المَرِيسِيَّ ونظرائه الَّذِينَ قَالُوا: لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ-، أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَرَى يَوْمَئِذٍ آيَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رَآهُ يَعْنِي أَفْعَالَهُ، وَأُمُورَهُ وَآيَاتِهِ كَمَا قَالَ الله فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} [آل عمران: 143]، فَالمَوْتُ لَا يُرَى وَهُوَ مَحْسُوسٌ، إِنَّمَا يُدْرَكُ عَمَلُ المَوْتِ، فَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَرَادَ هَذَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنَّا بِالله، وَبِمَا أَرَادَ مِنْ هَذِهِ المَعَانِي، وَوَكَلْنَا تَفْسِيرَهَا وَصِفَتَهَا إِلَى الله. ¬

(¬1) يشير المصنف إلى حديث ابن مسعود الصحيح، الذي ذكرته في الحاشية السابقة.

فَيُقَالُ لِهَذَا التَّائِهِ، الَّذِي لَا يدْرِي ما يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ، وَيَنْقُضُ آخِرُ كَلَامِهِ أَوَّلَهُ: أَلَيْسَ قَدِ ادَّعَيْتَ فِي أَوَّلِ كَلَامِكَ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ: لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنَّهُ يَرَى آيَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رَآهُ. ثُمَّ قُلْتَ فِي آخِرِ كَلَامِكَ: فَقَدْ وَكَلْنَا تَفْسِيرَهَا إِلَى الله، أَفَلَا وَكَّلْتَ التَّفْسِيرَ إِلَى الله قَبْلَ أَنْ تُفَسِّرَهُ؟. وَزَعَمْتَ أَيْضًا فِي أَوَّلِ كلامك أَنه لابد مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعْتَ عَنْ قَوْلِكَ فَقُلْتَ: لَا، بَلْ نَكِلُهُ إِلَى الله، فَلَوْ كَانَ لَكَ نَاصِحٌ يَحْجُرُ عَلَيْكَ الكَلَامَ! وَالعَجَبُ مِنْ جَاهِلٍ فَسَّرَ لَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - تَفْسِيرَ الرُّؤْيَةِ مَشْرُوحًا مُخلَّصًا ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ كَانَ كَمَا فَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ آمَنَّا بِالله. وَلَوْ قُلْتَ: أَيُّهَا المُعَارِضُ: آمَنَّا بِمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَفَسَّرَهُ، كَانَ أَوْلَى بِكَ مِنْ أَنْ تَقُولَ: آمَنَّا بِمَا فَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا تَدْرِي قَالَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ لَمْ يَقُلْهُ؟. وَهَلْ تَرَكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الرُّؤْيَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالمَرِيسِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ المُتَأَوِّلِينَ مَوْضِعَ تَأَوُّلٍ، إِلَّا وَقَدْ فَسَّرَهُ وَأَوْضَحَهُ بِأَسَانِيدَ أَجْوَدَ مِنْ عُمَرَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ. رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُمَا سَحَابٌ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» (¬1). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (80، 81 بتحقيقي) متصلا بإسناده عن إسماعيل؛ قال: حدثنا أحمد بن يونس عن أبي شهاب الحناط، وقال: حدثني ابن المديني= ... = عن سفيان بن عيينة، كلاهما أبو شهاب، وابن عيينة عن إسماعيل، به. وسيأتي متصلا هنا أيضا برقم (23). والحديث أخرجه البخاري (544، 4851، 7434، 7436)،ومسلم (633)، وأبو داود (4731)، والترمذي (2551)، وابن ماجه (177)، وأحمد (19190)، وغيرهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، به.

وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فَكَيْفَ تَسْتَحِلُّ أَنْ تَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حنيفَة وَلَا يحْتَمل عندك أَنْ يَكُونَ [6/و] كمَا فَسَّرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: يَرَاهُ أَهْلُ الجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ، كَمَا رَوَيْتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -إِنْ كَانَ قَالَهُ- وَلَكِنْ قَالَ: «كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُمَا سَحَابٌ» فَالتَّفْسِيرُ مَقْرُونٌ بِالحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ. فَمَنِ اضْطَرَّ النَّاسَ أَيُّهَا المُعَارِضُ إِلَى الأَخْذِ بِالمُبْهَمِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَوَيْتَ عَنْهُ -إِنْ كَانَ قَالَهُ- مَعَ تَرْكِ قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المَنْصُوصِ المُفَسَّرِ؟ هَذَا إِذًا ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَجَوْرٌ جَسِيمٌ. وَأما قولك: وَلَمْ تَرَهُ عَيْنٌ فَتَسْتَوْصِفَهُ. فَلَوِ احْتَجَّ بِهَذَا صَبِيٌّ صَغِيرٌ؛ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا قُلْتَ: جَهَالَةً. أَفَرَأَى أَهْلَ (¬1) الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِ فَيَسْتَوْصِفَهُ؟! وَهَلْ يَصِفُهُمَا وَيَصِفُ مَا فِيهِمَا إِلَّا بِمَا وَصَفَهُمَا الله فِي كِتَابِهِ: أَنَّ فِي الجَنَّةِ حُورًا عِينًا، وَطَعَامًا وَشَرَابًا، وأنهارًا، وَنَخْلًا، ورمانًا، وشجرًا، وقصورًا مِنْ دُرٍّ وَيَاقُوتٍ، وَلِبَاسًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وَحِريرًا وَمَا أَشْبَهَهَا. وَكَذَلِكَ النَّارُ فِيهَا أَنْكَالٌ وَقُيُودٌ وَمَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، وَأَغْلَالٌ، وَسَلَاسِلُ، وَحَمِيمٌ، وَزَقُّومٌ. أَفَتَصِفُ الجَنَّةَ وَالنَّارَ أَيُّهَا المُعَارِضُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ عَمَّنْ رَآهَا بِعَيْنِهِ، أَوْ عَمَّا ¬

(¬1) كذا في الأصل وقد أشار محقق المطبوهة «ع» أنها في بعض النسخ «أحد».

أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -؟ وَكَذَلِكَ تَصِفُ رُؤْيَةَ اللهِ وَتُفَسِّرُهَا عَنِ اللهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَإِنْ لَمْ ترَهُ عَيْنٌ تَسْتَوْصِفُهُ، قَالَ الله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَوْنَ رَبَّكُمُ الله جَهْرًا يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ». فَأَخَذْنَا هَذَا الوَصْفَ عَنِ الله وَعَنْ رَسُولِهِ، كَمَا أَخَذْنَا صِفَةَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ عَنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ نَرَ شَيْئًا مِنْهُمَا بِأَعْيُنِنَا، وَلَا أَخْبَرَنَا عَنْهُمَا مَنْ رَآهُمَا بعَيْنَيْه. فَتَدَبَّرْ أَيُّهَا المُعَارِضُ كَلَامَكَ ثُمَّ تكلم، فلوا احْتَجَّ بِمَا احْتَجَجْتَ بِهِ صَبِيٌّ لم يبلغ الحِنْثَ؛ ما زَادَ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَيْتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -إِنْ صَدَقَتْ عَنْهُ رِوَايَتُكَ- أَنَّهُ ذَهَبَ فِي الرُّؤْيَةِ إِلَى أَنْ يَرَوْا لِآيَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأُمُورِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: رَآهُ, وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُجَجِ الصِّبْيَانِ، لما أَنَّ آيَاتِهِ وَأُمُورَهُ وأَفْعَالَهُ مَرْئِيَّةٌ مَنْظُورٌ إِلَيْهَا فِي الدُّنْيَا كُلَّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ، فَمَا مَعْنَى تَوْقِيتِهَا وَتَحْدِيدِهَا وَتَفْسِيرِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ جَهِلَ، وَإِنْ كَانَ كَمَا ادَّعَيْتَ، وَرَوَيْتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا خَصَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ دُونَ الأَيَّامِ. فَفِي دَعْوَاكَ: يَجُوزُ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَرَى رَبَّنَا فِي الدُّنْيَا كُلَّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ، لما أَنَّهُمْ يَرَوْنَ كُلَّ سَاعَةٍ، وَكُلَّ لَيْلَةٍ، وَكُلَّ يَوْمٍ أُمُورَهُ وَآيَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، فَقَدْ بَطُلَ فِي دَعْوَاكَ قَوْله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]؛ لِأَنَّ الأَبْصَارَ كُلَّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ تُدْرِكُ أُمُورَهُ وَآيَاتِهِ فِي الدُّنْيَا قبلَ الآخِرَةِ، فَأَنْكَرْتُمْ عَلَيْنَا رُؤْيَتَهُ فِي الآخِرَةِ وَأَقْرَرْتُمْ بِرُؤْيَةِ الخَلْقِ كُلِّهِمْ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، لِمَا أَنَّهُمْ جَمِيعًا [6/ظ] لَا يَزَالُونَ يَرَوْنَ أُمُورَه وآيَاتِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فخالفتم بِسُلُوكِ هَذِهِ المحجَّةِ جَمِيعَ العَالَمِينَ، وَرَدَدْتُمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]؛ إِذا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ رُؤْيَتَهُ: يَعْنِي إِدْرَاكَ

آيَاتِهِ وَأُمُورِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَأَمَّا دَعْوَاكَ: أَنَّ رُؤْيَةَ الله كَقَوْلِ الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} [آل عمران: 143]، فَلَوْ قَدْ عَقَلْتَ تَفْسِيرَ هَذِهِ الآيَةِ وَفِيمَ أُنْزِلَتْ؛ لَكَانَ احْتِجَاجُكَ إِقْرَارًا بِرُؤْيَةِ اللهِ عَيَانًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ كَانَتْ رُؤْيَةَ عَيَانٍ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ رُؤْيَةُ القَتْلِ وَالقِتَالِ، فَقَدْ رَأَوْهُ بِأَعْيُنِهِمْ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، فَلَمْ يَصْبِرُوا لَهُ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ غَابُوا عَنْ مَشْهَدِ بَدْرٍ فَقَالُوا: «لَئِنْ أَرَانَا الله قِتَالًا لَيَرَيَنَّ مَا نَصْنَعُ، وَلَنُقَاتِلَنَّ». فَأَرَاهُمُ الله القِتَالَ عَيَانًا، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِأَعْيُنِهِمْ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ الله، وَلَمْ يَصْبِرُوا لِلْقِتَالِ، فَعَفَا الله عَنْهُمْ، فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} [آل عمران: 143]. فَكَانَ هَذَا رُؤْيَةَ عَيَانٍ لَا رُؤْيَةَ خَفَاءٍ. (18) حَدَّثَنَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «تَغَيَّبَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ بَدْرٍ فَقَالَ: تَغَيَّبْتُ عَنْ أَوَّلِ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَأنْ أَرَانِي اللهُ قتالًا؛ لَيَرَيَنَّ مَا أَصْنَعُ» (¬1). (19) حَدَّثَنَا العَبَّاسُ بْنُ الوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} [آل عمران: 143] قَالَ: «كَانَ أُنَاسٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَرَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم (1903)، والترمذي (3200)، وأحمد (13015)، والطيالسي (2157)، وغيرهم من حديث ثابت البناني، عن أنس، به. وأخرجه البخاري (2805)، والترمذي (3201)، وأحمد (13085)، وغيرهم من طريق حميد الطويل، عن أنس، به. (¬2) صحيح، رجاله ثقات، العباس النرسي قد تكلم فيه علي بن المديني، وقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه. قلت: لكن وثقه ابن معين، والدارقطني، وابن قانع، ومع ذلك فإنه = ... = لم يتفرد فقد تابعه بشر بن معاذ العقدي كما أخرجه الطبري في التفسير (6/ 94)، وبشر وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق. هذا وقد تابع سعيدَ بنَ أبي عروبة، بنحوه مَعْمَرٌ كما أخرجه عنه عبد الرزاق في التفسير (1/ 415)، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبري في التفسير (6/ 94).

فَهَذِهِ رُؤْيَةُ عَيَانٍ، لَا رُؤْيَةُ خَفَاءٍ. فَإِنْ أَنْكَرْتَ مَا قُلْنَا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ المَوْتَ يُرَى فِي الآخِرَةِ». قَالَ: «يُؤْتَى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ، فَيُذْبَحُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ! خُلُودٌ وَلَا مَوْتٌ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ! خُلُودٌ وَلَا مَوْتٌ» (¬1). وَلَوْلَا كَثْرَةُ مَا يُسْتَنكرُ الحَقَّ وَيَرُدُّهُ بِالجَهَالَةِ لَمْ نَشْتَغِلْ بِكُلِّ هَذِهِ المُنَازَعَةِ فِي الرُّؤْيَةِ؛ لما أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَسَّرَها تَفْسِيرًا لَمْ يَدَعْ لِمُتَأَوِّلٍ فِيهَا مَقَالًا، إِلَّا أَنْ يُكَابِرَ رَجُلٌ غَيْرَ الحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُهُ. إِذْ سُئِلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ لَهُ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «هَلْ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ صَحْوًا؟ فَكَذَلِكَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَته». (20) حدّثنَاهُ نُعَيْمٌ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنهما -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (21) وحدثناه نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يزيد اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البزار (8265). (¬3) أخرجه البخاري (806، 6537)، ومسلم (182)، وأحمد (7717)، وابن حبان (7429)، وأبو يعلى (6360)، وغيرهم من طريق الزهري، عن عطاء الليثي، به.

(22) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، [عن زيد بن أسلم] (¬1)، عَنْ عَطَاءِ بن يسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (23) وَحَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ الحَنَّاطِ، [7/و] عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بن أبي حَازِم، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). (24) وَحدثنَا عَليُّ بنُ المَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ (¬4). قَالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: لَا يَكُونُ مِنَ الإِسْنَادِ شَيْءٌ أَجْوَدَ مِنْ هَذَا (¬5). ¬

(¬1) ما بين معقوفين سقط من الأصل ومن جميع النسخ التي اعتمدها محقق المطبوعة «ع»، ولم يشر محقق المطبوعة «س» إلى هذا السقط، بل ذكر الإسناد متصلا. وليس هذا انقطاع بل هو سقط ظاهر، وإلا فالمصنف رحمه الله قد رواه متصلا في الرد على الجهمية (رقم 86 - بتحقيقي)، وقد أحالنا رحمه الله هنا إلى كتابه الرد على الجهمية فساغ لي أن أجبر هذا السقط منه. (¬2) أخرجه البخاري (4581)، ومسلم (182)، والحاكم (4/ 582)،وابن أبي عاصم في السنة (457، 635)،والطيالسي (2293)، وغيرهم، مطولاً ومختصرًا من طريق زيد بن أسلم، به. (¬3) أخرجه البخاري (544، 4851، 7434، 7436)، مسلم (633)، وأبو داود (4731)، والترمذي (2551)، وابن ماجه (177)، وأحمد (19190)، وغيرهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، به. (¬4) أخرجه الحميدي (799)، وابن أبي عاصم في السنة (447)، والطبراني في الكبير (2232)، من طريق ابن عيينة، به. (¬5) نقل المصنف رحمه الله في الرد على الجهمية (ص 99) عن علي بن المديني أنه قال: «حدثنا به سِتَّةٌ عن إسماعيل؛ سفيانُ وهُشَيْمٌ، ووَكِيعٌ، والمُعْتَمِرُ، وغَيرُهُم». قال عليٌّ: «لا يكون الإسناد أَجْوَدَ مِنْ ذَا».

وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ بَابًا كَبِيرًا فِي الكتاب الأول بأسانيدها (¬1). فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا وَلَمْ يَرْجُهَا كَانَ مِنَ المَحْجُوبِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففون: 15]؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ: «مَنْ كَذَّبَ بِفَضِيلَةٍ لَمْ يَنَلْهَا» وَقَدْ كَذَّبَتِ الجَهْمِيَّةُ بِهَذِهِ الفَضِيلَةِ أَشَدَّ التَّكْذِيبِ. (25) وَكَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ (¬2) قَالَ: «من نَازع فِي حَدِيث الرُّؤْيَة؛ ظَهَرَ أَنَّهُ جَهْمِيٌّ». * * * ¬

(¬1) يعني رحمه الله «باب الرؤية» من كتابه «الرد على الجهمية»، انظره (ص 98 - بتحقيقي). (¬2) تقدمت ترجمة علي بن خشرم عند الأثر رقم (2).

باب النزول

بَابُ النُّزُولِ وَادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ من دَاع». (26) حدّثنَاهُ القَعْنَبِيُّ، وَابْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَن الأَغَر، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَنْزِلُ رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخر فَيَقُول: من يدعني أستجيب لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» (¬1). (27) حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الحَوْضِيُّ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رِفَاعَةَ الجُهَنِي: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ -أَوْ شَطْرُ اللَّيْلِ- يَنْزِلُ الله إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُ عَنْ عِبَادِي غَيْرِي، فَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي أَغْفِرْ لَهُ؟ مَنْ يَدْعُنِي أَسْتَجِبْ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي أُعْطِهِ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الفجْر» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (757)، وأبو داود (1317)، وأحمد (10313)، والبيهقي في الكبرى (3/ 2)، وفي الأسماء والصفات (953)، جميعًا من طرق عن مالك، به، والحديث في الموطأ (498). (¬2) صحيح، أخرجه أحمد (16215، 16217، 16218)، وابن حبان (212)، والطبراني في الكبير (4558)، وغيرهم من طرق عن يحيى بن أبي كثير به. وقد صرح يحيى بن أبي كثير بالسماع؛ كما في إحدى روايات أحمد ورواية ابن حبان، والطبرانِي. فأمنا بذلك تدليسه.

وَهَذا بَابٌ طَوِيلٌ قَدْ جَمَعْنَاهُ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ (¬1). فَادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ اللهَ لَا يَنْزِلُ بِنَفْسِهِ إِنَّمَا يَنْزِلُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَهُوَ عَلَى العَرْشِ بِكُلِّ مَكَانٍ، مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ؛ لِأَنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ، وَالقَيُّومُ -بِزَعْمِهِ- مَنْ لَا يَزُولُ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ حُجَجِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ بَيَانٌ، وَلَا لِمَذْهَبِهِ بُرْهَانٌ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ يَنْزِلُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَوَقْتٍ وَأَوَانٍ، فَمَا بَالُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَحُدُّ لِنُزُولِهِ اللَّيْلَ دُونَ النَّهَارِ؟ وَيُوَقِّتُ مِنَ اللَّيْلِ شَطْرَهُ أَوِ الأَسْحَارَ؟ أَفَبِأَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ يَدْعُو العِبَادَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ؟ أَوْ يَقْدِرُ الأَمْرُ وَالرَّحْمَةُ أَنْ يَتَكَلَّمَا دُونَهُ؛ فَيَقُولَا: هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَ؟! هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فأعفر لَهُ؟! هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَ؟! فَإِنْ قَرَّرْتَ مَذْهَبَكَ لَزِمَكَ أَنْ تَدَّعِي أَن الرَّحْمَة وَالأَمْرَ اللَّذَيْنِ يَدْعُوَانِ إِلَى الإِجَابَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِكَلَامِهِمَا دُونَ الله. هَذَا مُحَالٌ عِنْدَ السُّفَهَاءِ، فَكَيْفَ عَنْدَ الفُقَهَاءِ؟! وَقَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ وَلَكِنْ تُكَابِرُونَ. وَمَا بَالُ رَحْمَتِهِ وَأَمْرِهِ يَنْزِلَانِ مِنْ عِنْدِهِ شَطْرَ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَا يَمْكُثَانِ إِلَّا إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ ثُمَّ يُرْفَعَانِ [7/ظ]؛ لِأَنَّ رِفَاعَةَ يَرْوِيهِ يَقُولُ فِي حَدِيثِهِ: «حَتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ». وَقَدْ عَلِمْتُمْ -إِنْ شَاءَ الله- أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ أَبْطَلُ بَاطِلٍ، لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا كُلُّ جَاهِلٍ. * * * ¬

(¬1) يشير رحمه الله إلى «باب النزول» من كتابه «الرد على الجهمية» (ص 76).

وَأَمَّا دَعْوَاكَ: أَنَّ تَفْسِيرَ «القَيُّومِ» الَّذِي لَا يَزُولُ مِنْ مَكَانِهِ وَلَا يَتَحَرَّكُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَّا بِأَثَرٍ صَحِيحٍ، مَأْثُورٍ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ الحَيَّ القَيُّومَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ، ويَهْبِطُ ويَرْتَفِعُ إِذا شَاءَ، ويَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، وَيَقُومُ وَيَجْلِسُ إِذَا شَاءَ؛ لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ التَّحَرُّكَ. كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ مَيِّتٍ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ لَا مَحَالَةَ (¬1). ¬

(¬1) قد اعترض الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله - في طبعته، وتبعه بعض علمائنا المعاصرين- على المصنِّف لذكره هذه الصفات، كالحركة والهبوط والجلوس وغيرها مما لم يرد بها نص صريح، فقال: نتوقف عن وصف الله بها. قلت: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (8/ 21) -تحت عنوان فصل في قدرة الرب عز وجل- وقد ذكر أن القدرة هي قدرته على الفعل، والفعل نوعان: لازم، ومتعد، وقد انقسم الناس في هذين النوعين ثلاثة أقوال فذكر منها اثنان ثم قال: «القول الثالث إثبات الفعلين: اللازم والمتعدي كما دل عليه القرآن فنقول: إنه كما أخبر عن نفسه: أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وهو قول السلف وأئمة السنة وهو قول من يقول: إنه تقوم به الصفات الاختيارية - كأصحاب أبي معاذ وزهير البابي وداود بن علي؛ والكرَّامية وغيرهم من الطوائف وإن كانت الكرامية يقولون بأن النزول والإتيان أفعال تقوم به - وهؤلاء يقولون: يقدر على أن يأتي ويجيء وينزل ويستوي ونحو ذلك من الأفعال كما أخبر عن نفسه وهذا هو الكمال. وقد صرح أئمة هذا القول بأنه «يتحرك» كما ذكر ذلك حرب الكرماني عن أهل السنة والجماعة وسمى منهم: أحمد بن حنبل؛ وسعيد بن منصور وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم. وكذلك ذكره عثمان بن سعيد الدارمي عن أهل السنة وجعل نفي الحركة عن الله عز وجل من أقوال الجهمية التي أنكرها السلف وقال: كل حي متحرك وما لا يتحرك فليس بحي وقال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك. فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء. وهؤلاء يقولون من جعل هذه الأفعال غير ممكنة ولا مقدورة له فقد جعله دون الجماد فإن الجماد وإن كان لا يتحرك بنفسه فهو يقبل الحركة في الجملة. وهؤلاء يقولون: إنه تعالى لا يقبل ذلك بوجه ولا تمكنه الحركة، والحركة والفعل صفة كمال؛ كالعلم والقدرة = ... = والإرادة. فالذين ينفون تلك الصفات سلبوه صفات الكمال ... إلخ».

وَمَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى تَفْسِيرِكَ وَتَفْسِيرِ صَاحِبِكَ مَعَ تَفْسِير نَبِي الرَّحْمَة وَرَسُول رب العِزَّة؛ إِذَا فَسَّرَ نُزُولَهُ مَشْرُوحًا مَنْصُوصًا، وَوَقَّتَ لِنُزُولِهِ وَقْتًا مَخْصُوصًا، لم يَدَعْ لَكَ، وَلَا لِأَصْحَابِكَ فِيهِ لَبْسًا، وَلَا عَوِيصًا؟ ثُمَّ أَجْمَلَ المُعَارِضُ مَا يُنْكِرُ الجَهْمِيَّةُ مِنْ صِفَاتِ الله وَذَواتِهِ المُسَمَّاةِ فِي كِتَابِهِ وَفِي آثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَدَّ مِنْهَا بِضْعًا وَثَلَاثِينَ صِفَةً، نسقًا وَاحِدًا، يَحْكُمُ عَلَيْهَا وَيُفَسِّرُهَا بِمَا حَكَمَ المَرِيسِيُّ وَفَسَّرَهَا، وَتَأَوَّلَهَا حَرْفًا حَرْفًا، خِلَافَ مَا عَنَى الله، وَخِلَافَ مَا تَأَوَّلَهَا الفُقَهَاءُ الصَّالِحُونَ، لَا يَعْتَمِدُ فِي أَكْثَرِهَا إِلَّا عَلَى المَرِيسِيِّ، فَبَدَأَ مِنْهَا بِالوَجْهِ، ثُمَّ بِالسَّمْعِ وَالبَصَرِ، وَالغَضَبِ، وَالرِّضَا، وَالحُبِّ، وَالبُغْضِ، وَالفَرَحِ، وَالكُرْهِ، وَالضَّحِكِ، وَالعَجَبِ، وَالسَّخَطِ، وَالإِرَادَةِ، وَالمَشِيئَةِ، وَالأَصَابِعِ، وَالكَفِّ، وَالقَدَمَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، و {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]، و {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وَ {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] و {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وَقَوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وَ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة: 17]، و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وَ {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] وَقَوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، وَ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] وَ

{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]،وَ {اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]. عَمِدَ المُعَارِضُ إِلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالآيَاتِ فَنَسَّقَهَا، وَنَظَمَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، كَمَا نَظَمَهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ثُمَّ فَرَّقَهَا أَبْوَابًا فِي كِتَابِهِ، وَتَلَطَّفَ بِرَدِّهَا بِالتَّأْوِيلِ، كَتَلَطُّفِ الجَهْمِيَّةِ، مُعْتَمِدًا، فِيهَا عَلَى تَفَاسِيرِ الزَّائِغِ الجَهْمِيِّ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، مُسْتَتِرًا عِنْدَ الجُهَّالِ بِالتَّشْنِيعِ بِهَا عَلَى قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَيُصَدِّقُونَ الله وَرَسُولَهُ فِيهَا بِغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا بِمِثَالٍ. فَزَعَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ المُؤْمِنِينَ بِهَا يُكَيِّفُونَهَا وَيُشَبِّهُونَهَا بِذَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ العُلَمَاءَ بِزَعْمِهِ قَالُوا: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا اجْتِهَادُ رَأْيٍ لِتُدْرَك كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ، أَوْ يُشَبَّهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا هُوَ فِي الخَلْقِ مَوْجُود. قَالَ: وَهَذَا خَطَأٌ لما أَنَّ الله تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ [8/و]، كَكَيْفِيَّتِهِ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَقُلْنَا لِهَذَا المُعَارِضِ المُدَلِّسِ بِالتَّشْنِيعِ. أَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَشْبِيهَهَا بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الخَلْقِ خَطَأٌ. فَإِنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّهُ خَطَأٌ كَمَا قُلْتَ، بَلْ هُوَ عِنْدَنَا كُفْرٌ وَنَحْنُ لِكَيْفِيَّتِهَا، وَتَشْبِيهِهَا بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الخَلْقِ أَشَّدُ اتِّقَاءً (¬1) مِنْكُمْ، غَيْرَ أَنَّا كَمَا لَا نُشَبِّهُهَا، وَلَا نُكَيِّفُهَا، لَا نَكْفُرُ بِهَا، وَلَا نُكَذِّبُ، وَلَا نُبْطِلُهَا بِتَأْوِيلِ الضُّلَّالِ، كَمَا أَبْطَلَهَا إِمَامُكَ المَرِيسِيُّ فِي أَمَاكِنَ مِنْ كِتَابِكَ، سَنُبَيِّنُهَا لِمَنْ غَفَلَ عَنْهَا مِمَّنْ حَوَالَيْكَ مِنَ الأَغْمَارِ إِنْ شَاءَ الله. ¬

(¬1) في المطبوعتين «أنفًا» والمثبت من الأصل، وأربع نسخ على كتاب درء تعارض العقل والنقل (2/ 54).

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي تَكْيِيفِ صِفَاتِ الرَّبِّ، فَإِنَّا لَا نُجِيزُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ، الَّتِي نَرَاهَا بِأَعْيُنِنَا، وَتُسْمَعُ فِي آذَانِنَا، فَكَيْفَ فِي صِفَاتِ الله الَّتِي لَمْ تَرَهَا العُيُونُ، وَقَصُرَتْ عَنْهَا الظُّنُونُ؟ غَيْرَ أَنَّا لَا نَقُولُ فِيهَا كَمَا قَالَ إِمَامُكَ المَرِيسِيُّ: إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا لله كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ السَّمْعُ مِنْهُ غَيْرَ البَصَرِ، وَلَا الوَجْهُ مِنْهُ غَيْرَ اليَدِ، وَلَا اليَدُ مِنْهُ غَيْرَ النَّفْسِ، وَأَنَّ الرَّحْمَنَ لَيْسَ يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ، سَمْعًا مِنْ بَصَرٍ، وَلا بَصَرًا مِنْ سَمْعٍ، وَلَا وَجْهًا مِنْ يَدَيْنِ، وَلَا يَدَيْنِ مِنْ وَجْهٍ. هُوَ -بِزَعْمِكُمْ- سَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَوَجْهٌ، وَأَعْلَى وَأَسْفَلُ، وَيَدٌ وَنَفْسٌ، وَعِلْمٌ وَمَشِيئَةٌ، وَإِرَادَةٌ، مِثْلُ خَلْقِ الأَرَضِينَ، وَالسَّمَاءِ، والجبَال، وَالتِّلَالِ، وَالهَوَاءِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ لِشَيْءٍ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالذَّوَاتِ، وَلَا يُوقَفُ لَهَا مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، فَالله المُتَعَالِي عندنَا أَن يكون كَذَلِك. فَقَدْ مَيَّزَ الله فِي كِتَابِهِ السَّمْعَ مِنَ البَصَرِ فَقَالَ: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46] و {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} [الشعراء: 15]، وَقَالَ {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77] فَفَرَّقَ بَيْنَ الكَلَامِ وَالنَّظَرِ دُونَ السَّمْعِ، فَقَالَ عِنْدَ السَّمْعِ وَالصَّوْتِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1] وَ {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، وَلَمْ يَقُلْ: قَدْ رَأَى الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا. وَقَالَ فِي مَوْضِعِ الرُّؤْيَةِ إنه {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 218 - 219] وَقَالَ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105]، وَلَمْ يَقُلْ: يَسْمَعُ اللهُ تَقَلُّبَكَ، وَيَسْمَعُ عَمَلَكَ، فَلَمْ يَذْكُرِ الرُّؤْيَةَ فِيمَا يُسْمَعُ، وَلَا السَّمَاعَ فِيمَا يُرَى. لِما أَنَّهُمَا عِنْدَهُ خِلَافُ مَا عِنْدَكُمْ.

وَكَذَلِكَ قَالَ: {وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13 - 14]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]، وَلَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: عَلَى سَمْعِي. فَكَمَا نَحْنُ لَا نُكَيِّفُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، لَا نُكَذِّبُ بِهَا كَتَكْذِيبِكُمْ، وَلَا نُفَسِّرُهَا؛ كَبَاطِلِ تَفْسِيرِكُم. * * *

باب الحد والعرش

بَابُ الحَدِّ وَالعَرْشِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لله حَدٌّ وَلَا غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ. وَهَذَا هُوَ الأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ جَهْمٌ جَمِيعَ ضَلَالَاتِهِ، وَاشْتَقَّ مِنْهَا أُغْلُوطَاتِهِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ سَبَقَ جَهْمًا إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ. فَقَالَ [8/ظ] لَهُ قَائِلٌ مِمَّنْ يُحَاوِرُهُ: قَدْ عَلِمْتُ مُرَادَكَ بِهَا أَيُّهَا الأعجمي، وتعني أَن الله لَا شَيْءٌ؛ لأنَّ الخَلْقَ كُلَّهُم عَلِمُوا أَنَّه لَيْسَ شَيءٌ، يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ إِلَّا وَلَهُ حَدٌّ وَغَايَةٌ وَصِفَةٌ، وَأَنَّ لَا شَيْءٌ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلَا غَايَةٌ وَلَا صِفَةٌ, فَالشَّيْءُ أَبَدًا مَوْصُوفٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا شَيْءٌ يُوصَفُ بِلَا حَدٍّ وَلَا غَايَةٍ. وَقَوْلُكَ: لَا حَدَّ لَهُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا شَيْءٌ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَالله تَعَالَى لَهُ حَدٌّ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُه، وَلَا يجوزُ لأَحَدٍ أَن يتَوَهَّم لحدِّه غايةً فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ يُؤْمِنُ بِالحَدِّ ويَكِلُ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ، ولِمَكَانِهِ أَيْضًا حَدٌّ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، فَهَذَانِ حَدَّانِ اثْنَانِ. وَسُئِلَ ابْنُ المُبَارَكِ: بِمَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: «بِأَنَّهُ عَلَى العَرْشِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. قِيلَ: بِحَدٍّ؟ قَالَ: بِحَدّ». (28) حدّثنَاهُ الحَسَنُ بْنُ الصَّباح البَزَّارُ، عَنْ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ (¬1). فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ للهِ حَدٌّ فَقَدْ رَدَّ القُرْآنَ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الله حَدَّ مَكَانَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (21، 78)، وعبد الله بن أحمد في السنة (22)، وابن بطة في الإبانة (114)، والبيهقي في الأسماء والصفات (910).

[طه: 5]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، و {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ على الحَدِّ. وَمَنْ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِتَنْزِيلِ الله، وَجَحَدَ آيَاتِ الله. وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ»، وَقَالَ لِلْأَمَةِ السَّوْدَاءِ: «أَيْنَ الله؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». فَقَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُؤْمِنْ بِأَنَّ الله فِي السَّمَاءِ؛ لم تَكُنْ مُؤمِنَة، وَأَنَّهُ لا يَجُوزُ فِي الرَّقَبَة إِلَّا مَنْ يُحِدُّ اللهَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ. (29) فَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ البَغْدَادِيُّ الأَصَمُّ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ شَبِيبِ ابْن شيبَة، عَنْ الحَسَنِ، عن عِمْرَانَ بْنِ الحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ لِأَبِيهِ: «يَا حُصَيْنُ، كَمْ تَعْبُدُ اليَوْمَ إِلَهًا؟ قَالَ سَبْعَةً، سِتَّة فِي الأَرْض، وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ، قَالَ فَأَيُّهُمْ تَعُدُّهُ لِرَغْبَتِكَ وَلِرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ» (¬1). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الترمذي (3483)، والبزار (9/ 53)، والطبراني (18/ 174)، وفي الأوسط (1985)، والروياني (85)، ومن طريقه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (4/ 721)، والبيهقي في الأسماء والصفات (902)، وغيرهم من طرق عن شبيب بن شيبة، به. وهذا إسناد ضعيف لأجل شبيب بن شيبة، ضعفه جماعة من أهل العلم، وأيضا الانقطاع بين الحسن، وعمران بن الحصين؛ فإن الحسن لم يسمع من عمران كما ذكر ابن أبي حاتم في المراسيل (ص 38). وقد روى البزار هذا الحديث بإسناد آخر (9/ 53)، قال: حدثنا أبوسعيد، نا أبو خالد، نا دود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن، عن عمران، به. وهذا إسناد ضعيف أيضا؛ العباس بن عبد الرحمن مجهول الحال. لكن يبدو أن هذه الرواية غير محفوظة؛ فقد قال الترمذي كما في العلل الكبير (ص 391): سألت محمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث أبي معاوية. ... = ... = قلت: فما تغني عنا متابعة لا يعرفها البخاري. ثم قال الترمذي: وحديث الحسن عن عمران بن حصين في هذا أشبه عندي وأصح. فهذا الكلام من هذين الإمامين يدل على أن رواية الحسن هي المحفوظة، وأن ما سواها غير محفوظ، فصدني كلامهما أن أعتبر رواية البزار الثانية؛ فكلام أئمتنا على العين والرأس. وقد أخرج الحديث الذهبي في العلو (ص 25)، وقال: شبيب ضعيف.

فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الكَافِرِ إِذْ عَرَفَ أَنَّ إِلَهَ العَالَمِينَ فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فَحُصَيْنٌ الخُزَاعِيّ فِي كُفْرِهِ يَوْمِئِذٍ؛ كَانَ أَعْلَمَ بِاللهِ الجَلِيلِ الأَجَلِّ مِنَ المَرِيسِيِّ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ مَا يَنْتَحِلُونَ مِنَ الإِسْلَامِ؛ إِذْ مَيَّزَ بَيْنَ الإِلَهِ الخَالِقِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، وَبَيْنَ الآلِهَةِ وَالأَصْنَامِ المَخْلُوقَةِ الَّتِي فِي الأَرْضِ. وَقَدِ اتَّفَقَتِ الكَلِمَةُ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالكَافِرِينَ أَنَّ الله فِي السَّمَاءِ، وَحَدُّوهُ بِذَلِكَ إِلَّا المَرِيسِيَّ الضَّالَّ وَأَصْحَابَهُ، حَتَّى الصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ قَدْ عَرَفُوهُ بِذَلِكَ، إِذَا حَزَبَ الصَّبِيَّ شَيْءٌ يرفع يَدَيْهِ إِلَى رَبِّهِ يَدْعُوهُ فِي السَّمَاءِ دُونَ مَا سِوَاهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ بِالله وَبِمَكَانِهِ أَعْلَمُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ. ثُمَّ انْتَدَبَ المُعَارِضُ لِتِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أَلَّفَهَا وَعَدَّدَهَا فِي كِتَابِهِ: مِنَ الوَجْهِ، وَالسَّمْعِ، وَالبَصَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، يَتَأَوَّلُهَا، وَيَحْكُمُ عَلَى الله وَرَسُولِهِ فِيهَا حَرْفًا بَعْدَ حَرْفٍ، وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، [9/و] بِحُكْمِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ المَرِيسِيِّ، لَا يَعْتَمِدُ فِيهَا على إِمَام أقدمَ مِنْهُ، وَلَا أَرْشَدَ مِنْهُ عِنْدَهُ فَاغْتَنَمْنَا ذَلِكَ مِنه، إِذْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ، وَسَلَّمَ فِيهَا بِحُكْمِهِ. لَما أَنَّ الكَلِمَةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ مِنْ عَامَّةِ الفُقَهَاءِ فِي كُفْرِهِ، وَهُتُوكِ سِتْرِهِ وَافْتِضَاحِهِ فِي مِصْرِهِ وَفِي سَائِرِ الأَمْصَارِ الَّذِينَ سَمِعُوا بِذِكْرِهِ. فَرَوَى المُعَارِضُ عَنْ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ قِرَاءَةً مِنْهُ بِزَعْمِهِ -وَزَعَمَ أَنَّ بشرًا قَالَ

لَهُ: ارْوِهِ عَنِّي- أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله الله لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] فَادَّعَى أَنَّ بِشْرًا قَالَ: «يَعْنِي الله بِذَلِكَ: أَنِّي وَلِيتُ خَلْقَهُ، وَقَوله ... {بِيَدَيَّ} تَأْكِيدٌ لِلْخَلْقِ، لَا أَنَّهُ خَلَقَهُ بِيَدٍ». فَيُقَالُ لِهَذَا المَرِيسِيِّ الجَاهِلِ بِالله وَبِآيَاتِهِ: فَهَلْ عَلِمْتَ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ الله وَلِيَ خَلْقَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، حَتَّى خَصَّ آدَمَ مِنْ بَيْنِهِمْ أَنَّهُ وَلِيَ خَلْقَهُ من غير مَسِيس بِيَدِهِ؟ فَسَمِّه! وَإِلَّا فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الله لَمْ يَلي (¬1) خَلْقَ شَيْءٍ -صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ-؛ فَقَدْ كَفَرَ غَيْرَ أَنَّهُ وَلِيَ خَلْقَ الأَشْيَاءِ بِأَمْرِهِ، وَقَوْلِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَوَلِيَ خَلْقَ آدَمَ بيده مَسِيسًا، لَمْ يَخْلُقْ ذَا رُوحٍ بِيَدَيْهِ غَيْرَهُ، فَلِذَلِكَ خَصَّهُ وَفَضَّلَهُ، وَشَرَّفَ بِذَلِكَ ذِكْرَهُ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَتْ لَهُ فَضِيلَةٌ في ذَلِك على شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، إِذْ خَلَقَهُمْ بِغَيْرِ مَسِيسٍ فِي دَعْوَاكَ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: «تَأْكِيدٌ لِلْخَلْقِ». فَلَعَمْرِي إِنَّهُ لَتَأْكِيدٌ جَهِلْتَ مَعْنَاهُ فَقَلَبْتَهُ، إِنَّمَا هُوَ تَأْكِيدُ اليَدَيْنِ، وتَحْقِيقُهُما وَتَفْسِيرُهُمَا، حَتَّى يَعْلَمَ العِبَادُ أَنَّهَا تَأْكِيدُ مَسِيسٍ بِيَدٍ، لَما أَنَّ اللهَ قَدْ خَلَقَ خَلْقًا كَثِيرًا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرَ مِنْ آدَمَ وَأَصْغَرَ، وَخَلَقَ الأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَكَيْفَ لَمْ يُؤَكِّدْ فِي خَلْقِ شَيْءٍ مِنْهَما مَا أَكَّدَ فِي آدَمَ، إِذْ كَانَ أَمْرُ المَخْلُوقِينَ فِي مَعْنَى يَدَيِ الله كَمَعْنَى آدَمَ عِنْدَ المَرِيسِيِّ. فَإِنْ يَكُ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ؛ فَلْيُسَمِّ شَيْئًا نَعْرِفُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ الجَاحِدُ بِآيَاتِ الله المُعَطِّلُ لِيَدَيِ الله. وَادَّعَى الجَاهِلُ المَرِيسِيُّ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ التَّأْكِيدِ مِنَ المُحَالِ مَا لَا نَعْلَمُ ¬

(¬1) كذا في الأصل و «س»، والجادة أن يحذف حرف العلة جزمًا، ولكن إثباته يقع في الحديث كثيرا، وله عدة أوجه ذكرها ابن مالك في «شواهد التوضيح» (ص 20 - 22).

أَحَدًا ادَّعَاهُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ. فَقَالَ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْخَلْقِ، لَا لِلْيَدِ؛ كَقَوْلِ الله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. فَيُقَالُ لِهَذَا التَّائِهِ الَّذِي سَلَبَ اللهُ عَقْلَهُ وَأكْثَرَ جَهْلَهُ: نعم هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْيَدَيْنِ كَمَا قُلْنَا، لَا تَأْكِيدُ الخَلْقِ كَمَا أَنَّ قَوْلَه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} تَأْكِيدُ العَدَدِ لَا تَأْكِيدُ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ العَدَدَ غَيْرُ الصِّيَامِ، وَيَدَ اللهِ غَيْرُ آدَمَ، فَأَكَّدَ الله لِآدَمَ الفَضِيلَةَ الَّتِي كَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ بِهَا، وَآثَرَهُ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ؛ إِذْ كُلُّ عِبَادِهِ، خَلَقَهُمْ بِغَيْرِ مَسِيسٍ بِيَدٍ، وَخَلَقَ آدَمَ بِمَسِيسٍ، فَهَذِهِ عَلَيْكَ لَا لَكَ، وَقَدْ أَخَذْنَا فَالَكَ مِنْ فِيكَ مُحْتَجِّينَ بِهَا عَلَيْكَ كَالشَّاةِ الَّتِي تَحْمِلُ حَتْفَهَا بِأَظْلَافِهَا. فَإِنْ أَجَابَ المَرِيسِيُّ أَعْلَمْنَاهُ تَأْكِيدَ الخَلْقِ -إِذْ كَانَ بِهِ جَاهِلا- وَهُوَ قَوْلُهُ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] وَ {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:7 - 9] [9/ظ] الآيَةَ، وَقَوْلُهُ {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [غافر: 67] الآيَة {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 12 - 14]، فَهَذَا تَأْكِيدُ الخَلْقِ وتَفْسِيرُهُ، لَا مَا ادَّعَى الجَاهِلُ. وَقَوْلُهُ لِإِبْلِيسَ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} تَأْكِيدُ يَدَيْهِ لَا تَأْكِيدُ خَلْقِ آدَمَ، وَمَا كَانَ حَاجَةُ إِبْلِيسَ إِلَى أَنْ يُؤَكِّدَ اللهُ لَهُ خَلْقَ آدَمَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ الخَلْقِ بِآدَمَ؟ رَآهُ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوح طِينًا مُصَوَّرًا مَطْرُوحًا بِالأَرْضِ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَمَا نُفِخَ

فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ كَانَ مَعَه فِي الجنَّة، حتى وَسْوَسَ إِلَيْهِ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ يَرَاهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَإِنَّمَا أَكَّدَ الله لَهُ مِنْ أَمْرِ آدَمَ مَا لَمْ يَرَ، لا مَا رَأَى (¬1)؛ لِأَنَّهُ لَمْ ير يَدي الله وهما تَخْلُقْنَاهُ (¬2). فَلْيَعْلَمِ الجَاهِلُ المَرِيسِيُّ، بِأَنَّا مَا ظَنَنَّا عِنْدَهُ مِنْ رَثَاثَةِ الحُجَج وَالبَيَانِ وَقِلَّةِ الإِصَابَةِ وَالبُرْهَانِ، قَدْرَ مَا كَشَفَ عَنْهُ هَذَا الإِنْسَانُ، وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي نَطَّقَ (¬3) به لِسَانَهُ، وَعَرَّفَ النَّاسَ شَأَنَهُ، لِيَعْرِفُوهُ فيجاوزوا مَكَانَهُ. ثُمَّ لَمْ (¬4) يَرْضَ الجَاهِلُ المريسي مَعَ سَخَافَةِ هَذِهِ الحُجَجِ، حَتَّى قَاسَ اللهَ فِي يَدَيْهِ اللَّتَيْنِ، خَلَقَ بِهِمَا آدَمَ أَقْبَحَ القِيَاسِ، وَأَسْمَجَهُ، بَعْدَمَا زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُقَاسَ اللهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ هُوَ مَوْجُودٌ فِي خلقه، وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ, ثُمَّ قَالَ، أَلَيْسَ يُقَالُ لِرَجُلٍ مُقَطَّعِ اليَدَيْنِ مِنَ المِنْكَبَيْنِ -إِذْا هُوَ كَفَرَ بِلِسَانِهِ- إِنَّ كُفْرَهُ ذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُفْرُهُ بِيَدَيْهِ. فَيُقَالُ لِهَذَا الضَّالِ المُضِلِّ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنَّ اللهَ لَا يُشَبَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يَتَوَهَّمُ الرَّجُلُ فِي صِفَاتِهِ مَا يَعْقِلُ مِثْلَهُ فِي نَفْسِهِ؟ فَكَيْفَ تُشَبِّهُ اللهَ فِي يَدَيْهِ اللَّتَيْنِ خَلَقَ بِهِمَا آدَمَ بِأَقْطَعَ مَجْذُومِ اليَدَيْنِ مِنَ المِنْكَبَيْنِ؟ وَتَتَوَهَّمُ فِي قِيَاسِ يَدَيِ الله مَا تعقله فِي ذَلِكَ المَجْذُومِ المَقْطُوعِ، وَيَتَوَهَّمُ ذَلِكَ؟ فَقَدْ تَوَهَّمْتَ أَقْبَحَ مَا عِبْتَ عَلَى غَيْرِكَ، إِذِ ادَّعَيْتَ أَنَّ اللهَ لَا يَدَانِ لَهُ كَالأَقْطَعِ المَقْطُوعِ اليَدَيْنِ مِنَ المِنْكَبَيْنِ. ¬

(¬1) في الأصل «أما رأى» ولا معنى لها في السياق، والظاهر أنه سبق قلم من الناسخ. (¬2) كذا في الأصل، وفي «س»، ونسختين على «ع»: «تخلقانه». (¬3) في «س»، ثلاثة نسخ على «ع»: «أنطق»، والمثبت من الأصل، «ع». (¬4) لم ليست في الأصل، وأثبتناها من «س»، وثلاثة نسخ على «ع».

وَيْلَكَ! إِنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ كَفَرَ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَتْ لَهُ يَدَانِ: «ذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ» مَثَلًا مَعْقُولًا, يُقَالُ ذَلِكَ لِلْأَقْطَعِ، وَغَيْرِ الأَقْطَعِ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ هَذَا المَثَلُ، وَلَا يُقَال ذَلِك، إِلَّا لمن هُوَ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، أَوْ كَانَ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي قَبْلَ أَنْ تُقْطَعَا، وَاللهُ بِزَعْمِكَ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، فَيَسْتَحِيلُ فِي كَلَامِ العَرَبِ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَيْسَ بِذِي يَدَيْنِ، أَوْ لَمْ يَكُ قَطُّ ذَا يَدَيْنِ: إِنَّ كُفْرَهُ وَعَمَلَهُ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بِيَدِ فُلَانٍ أَمْرِي وَمَالِي، وَبِيَدِهِ الطَّلَاقُ وَالعِتَاقُ وَالأَمْرُ، وَمَا أَشْبَهَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ مَوْضُوعَةً فِي كَفِّهِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ المُضَافُ إِلَى يَدِهِ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ المُضَافُ إِلَى يَدِهِ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الأَشْيَاءِ. وَقَدْ يُقَالُ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَا وَكَذَا، [10/و] وَكَمَا قَالَ الله تَعَالَى {... بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46]، وَكَقَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]، وَكَمَا قَالَ الله تَعَالَى {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97]. فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ يَدَيْ كَذَا وَكَذَا، كذا وَكَذَا، لِمَا هُوَ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، وَممن لَيْسَ من ذَوي الأَيْدِي. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بِيَدِهِ إِلَّا لِمَنْ هُوَ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي؛ لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: بِيَدِ السَّاعَةِ كَذَا وَكَذَا، كَمَا قُلْتَ: بَيْنَ يَدَيْهَا؛ اسْتَحَالَ، وَبِيَدِ العَذَابِ كذا وَكَذَا، وَبِيَدِ القُرْآنِ الَّذِي هُوَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَذَا وَكَذَا، أَوْ بِيَدِ القَرْيَةِ الَّتِي جَعَلَهَا نَكَالًا كَذَا وَكَذَا؛ اسْتَحَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: بَيْنَ يَدَيْكَ؛ لِأَنَّكَ تَعْنِي أَمَامَهُ وقُدَّامَه بَيْنَ يَدَيْهِ. فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَقْطَعِ إِذَا كَفَرَ بِلِسَانِهِ: إِنَّهُ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي قُطِعَتَا أَوْ كَانَتَا مَعَهُ. وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: بِمَا كَسَبَتْ يَدُ السَّاعَةِ وَيَدُ العَذَابِ، وَيَدُ القُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ

لَا يُقَال: بيد شيء شَيْءٌ إِلَّا وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْقُولٌ فِي القُلُوبِ أَنَّهُ مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، وَأَنْتَ أَوَّلُ مَا نَفَيْتَ عَنِ الله يَدَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي يَدَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ لَهُ يَدَانِ، ثُمَّ قُلْتَ: بِيَدِ الله كَذَا وَكَذَا، وَخَلَقْتُ آدَمَ بِيَدَيَّ، وَلَا يَدَانِ لَهُ عِنْدَكَ، فَهَذَا مُحَالٌ فِي كَلَامِ العَرَبِ. لَا شَكَّ فِيهِ، أَو سَمِّ شَيْئًا يُخَالِفُ دَعْوَانَا. وَكَذَلِكَ الحُجَّةُ عَلَيْكَ فِيمَا احْتَجَجْتَ بِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ يَدَيِ الله عَنْهُ أَنَّهُ عِنْدَكَ كَقَوْلِ النَّاسِ فِي الأَمْثَالِ: «يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ»، وَكَقَوْلِ الله {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فَادَّعَيْتَ أَنَّ العُقْدَةَ بِعَيْنِهَا لَيست مَوْضُوعَةً فِي كَفِّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الكَلَامِ. فَقُلْنا لَكَ: أَجَلْ أَيُّهَا الجَاهِلُ هَذَا يَجُوزُ لِمَا أَنَّ المَوْصُوفَ بِهِمَا مِنْ ذَوِي الأَيْدِي؛ فَلِذَلِكَ جَازَ، وَلَوْلَا ذَاك لم يَجُزْ، لَو لَمْ يَكُنِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَلَا لِلْمُوكِي وَلَا لِلنَّافِخِ يَدَانِ، أَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الأَيْدِي، كَمَعْبُودِكَ فِي نَفْسِكَ لم يجزأَنْ يُقَالَ: بِيَدِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لله تَعَالَى يَدَانِ بِهِمَا خَلَقَ آدَمَ وَمَسَّهُ بِهِمَا مَسِيسًا كَمَا ادَّعَيْتَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَال: بيَدِه الخَيْرُ (¬1) {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [الحديد: 29] وَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] لِلْمَذْهَبِ الَّذِي فَسَّرْنَا. فَإِنْ كُنْتَ لَا تُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ فَسَلْ مَنْ يُحْسِنُهَا ثُمَّ تَكَلَّمْ. وَقَدْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: بَنَيْتُ دَارًا، أَو قَتَلْتُ رَجُلًا وَضَرَبْتُ غُلَامًا، وَوَزَنْتُ لِفُلَانٍ مَالًا، وَكَتَبْتُ لَهُ كِتَابًا، وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِك بِيَدِهِ بل أَمر البنَّاءَ بِبِنَائِهِ، وَالكَاتِبَ بِكِتَابِهِ، وَالقَاتِلَ بِقَتْلِهِ، وَالضَّارِبَ بِضَرْبِهِ، وَالوَازِنَ بِوَزْنِهِ ¬

(¬1) هذه اللفظة «بيده الخير» وردت في حديث الدعاء عند دخول السوق أخرجه الترمذي (3428)، وابن ماجه (2235).

فَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ عَلَى المَجَازِ الَّذِي يَعْقِلُهُ النَّاسُ بِقُلُوبِهِمْ عَلَى مَجَازِ كَلَامِ العَرَبِ. وَإِذَا قَالَ: كَتَبْتُ بِيَدَيَّ كِتَابًا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أَوْ قَالَ: وَزَنْتُ بِيَدَيَّ، وَقَتَلْتُ بِيَدَيَّ، وَبَنَيْتُ بِيَدَيَّ، وَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ، كَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِيَدَيْهِ، دُونَ يَدَيْ غَيْرِهِ، وَمَعْقُولٌ المَعْنَى عِنْدَ العُقَلَاءِ، كَمَا أَخْبَرَنَا الله أَنَّهُ خَلَقَ الخَلَائِقَ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل:40]، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ خَلَقَ الخَلَائِقَ بِأَمْرِهِ وإرادَتِه، [10/ظ] وَكَلَامِه وَقَوْلِهِ: {كُن} وَبِذَلِكَ كَانَتْ، وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ. فَلَمَّا قَالَ: خَلَقْتُ آدَمَ بِيَدَيَّ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ ليديه وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِهِمَا مَعَ أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ. فَاجْتَمَعَ فِي آدَمَ تَخْلِيقُ اليَدَيْنِ نَصًّا وَالأَمْرُ وَالإِرَادَةُ، وَلَمْ يجتمعا فِي خَلْقٍ غَيرِهِ من الروحانيين؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مَسَّ خَلْقًا ذَا رُوحٍ بيدَيْهِ غَيْرَ آدَمَ، إِذْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي أَحَدٍ مِمَّنْ سِوَاهُ، وَلم يخص بِهِ بشرًا غَيْره مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ أَنَّهُ أَرَادَ بِيَدَيْهِ أَنَّهُ وَلِيَ خَلْقَهُ فَأَكَّدَهُ؛ لَمَا كَانَ عَلَى إِبْلِيسَ إِذًا فِيمَا احْتَجَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اليَدَيْنِ لِآدَمَ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ وَلَا فَخْرٌ، إِذْ وَلِيَ خَلْقَ إِبْلِيسَ فِي دَعْوَاكَ كَمَا وَلِيَ خَلْقَ آدَمَ سَوَاء، وأَكَّدَه كَمَا أَكَّدَهُ, وَلو كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ لَحَاجَّ إِبْلِيسُ رَبَّهُ فِي ذَلِكَ كَمَا حَاجَّهُ فِي أَنْ قَالَ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]، وَكَمَا قَالَ: أسجد {لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)} [الحجر: 33]، فَيَقُول: خلقتني أَيْضًا يا رب بِيَدَيْكَ، عَلَى مَعْنَى مَا خَلَقْتَ بِهِ آدَمَ أَيْ: وليتَ خَلْقِي، وَأَكَّدْتَهُ -فِي دَعْوَاكَ- وَلَكِنْ كَانَ الكَافِرُ الرَّجِيمُ أَجْوَدَ مَعْرِفَةً بِيَدَيِ الله مِنْكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ، بَلْ عَلِمَ عَدُوُّ الله تَعَالَى إِبْلِيسُ أَنْ لَوِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى الله كَذَّبَهُ. وَأَمَّا دَعْوَاكَ أَيُهَّا المَرِيسِيُّ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]،

فَزَعَمْتَ تَفْسِيرَهُمَا «رِزْقَاهُ»، رِزْقٌ مُوَسَّعٌ، وَرِزْقٌ مَقْتُورٌ، وَرِزْقٌ حَلَالٌ وَرِزْقٌ حرَام. فَقَوله «يَدَاهُ» عِنْدَكَ رِزْقَاهُ. فَقَدْ خَرَجْتَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ حَدِّ العَرَبِيَّةِ كُلِّهَا، أومن حَدِّ مَا يَفْقَهُهُ الفُقَهَاءُ وَمِنْ جَمِيعِ لُغَاتِ العَرَبِ وَالعَجَمِ. فَمِمَّنْ تَلَقَّفْتَهُ؟ وَعَمَّنْ رَوَيْتَهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ بِالعَرَبِيَّةِ وَالفَارِسِيَّةِ؟ فَإِنَّكَ جِئْتَ بِمُحَالٍ لَا يَعْقِلُهُ عَجَمِيٌّ وَلَا عَرَبِيٌّ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ سَبَقَكَ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي تَفْسِيرِكَ هَذَا فَأْثُرْهُ عنْ صَاحِبِ عِلْمٍ أَوْ صَاحِبِ عَرَبِيَّةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّكَ مَعَ كُفْرِكَ بِهِمَا مِنَ المُدَلِّسِينَ. وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُمَا عِنْدَكَ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ كَذِبٌ مُحَالٌ، فَضْلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ كُفْرًا؛ لِأَنَّكَ ادَّعَيْتَ أَنَّ لله رِزْقًا مُوَسَّعًا، وَرِزْقًا مُقَتَّرًا، ثُمَّ قُلْتَ: إِنَّ رِزْقَيْهِ جَمِيعًا مَبْسُوطَانِ، فَكَيْفَ يَكُونَانِ مَبْسُوطَيْنِ، وَالمَقْتُورُ أَبَدًا فِي كَلَامِ العَرَبِ غَيْرُ مَبْسُوطٍ؟ وَكَيْفَ قَالَ الله: إِن كلتيهما مبسوطتان وَأَنت تزْعم أن إِحْدَيهُمَا مَقْتُورَةٌ؟ فَهَذَا أَوَّلُ كَذِبِكَ وجهالتك بالتفسير. وَقد كَفَانَا اللهُ ورَسُولُهُ مُؤْنَةَ تَفْسِيرِكَ هَذَا، بِالنَّاطِقِ مِنْ كِتَابِهِ، وَبِمَا أَخْبَرَ الله عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَمَّا النَّاطِقُ مِنْ كِتَابِهِ فَقَوْلُهُ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وَقَوْلُهُ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وَقَوْلُهُ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وَقَوله {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وَقَوْلُهُ {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [الحديد: 29]، وَقَوْلُهُ: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، وَقَوْلُهُ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. فَهَلْ يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَتَأَوَّلَ، [11/و] فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ رِزْقَاهُ، فَتَقُولَ بِرِزْقِهِ الخَيْرُ، وبِرِزْقِهِ الفَضْلُ، وبِرِزْقِهِ المُلْكُ، وَلَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ رِزْقِ اللهِ

وَرَسُوله؟ وَأَمَّا المَأْثُورُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ المُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهَ يَمِينٌ». (30) حَدَّثَنَا ابْنُ المَدِينِيِّ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فَتَفْسِيرُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي تَأْوِيلِكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ: أَنَّهُمْ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ: «عَنْ رِزْقَيِ الرَّحْمَنِ، وَكِلَا رِزْقَيْهِ يَمِينٌ!». (31) حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيد (¬2) الله بْنِ مِقْسَمٍ، عَن ابْن عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يَأْخُذُ الجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ -وَقَبَضَ كَفَّيْهِ أَو قَالَ: يَدَيْهِ - فَجعل يقبضهَا ويبسطها ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الجَبَّارُ، أَنَا المَلِكُ أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟ وَيَمِيلُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1827)، عن ابن أبي شيبة، وابن نمير، وزهير بن حرب، عن سفيان، به. وأخرجه النسائي (5379)، من طريقين عن ابن عيينة، به. وأخرجه ابن أبي شيبة (35032) عن سفيان، به. (¬2) في الأصل «عبد الله»، وهو خطأ، والمثبت من مصادر التخريج. (¬3) أخرجه مسلم (2788)، وابن ماجه (4275) من حديث أبي حازم سلمة بن دينار، به. وأخرجه أحمد (5414)، وابن أبي عاصم في السنة (546)، وغيرهما من حديث عبيد الله بن مقسم، به. وأخرجه البخاري (7412)، ومسلم (2788)، وأبو داود (4732)، وغيرهم من طرق أخرى عن ابن عمر، بنحوه.

فَيَجُوزُ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنْ تَتَأَوَّلَ هَذَا الحَدِيثَ أَنَّهُ يَأْخُذُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ بِرِزْقَيْهِ بِمُوَسَّعِهِ، وَبِمَقْتُورِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ؟ مَا أَرَاكَ إِلَّا وَسَتَعْلَمُ أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ بِالمُحَالِ، لِتُغَاط (¬1) بِهَا الجُهَّالَ، وَتُرَوِّجَ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَنَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ، لَا تدْخلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا ... الحَدِيثُ» (¬2). (32) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارك، أبنا يُونُس، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَقْبِضُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ المُلُوكُ؟» (¬3). أَفَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ يَطْوِيَ اللهُ السَّمَاءَ بِأَحَدِ رِزْقَيْهِ؟ فَأَيُّهُمَا المُوَسَّعُ عِنْدَكَ مِنَ المَقْتُورِ؟ وَأَيُّهُمَا الحَلَالُ مِنَ الحَرَامِ؟ لِأَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ»، وَادَّعَيْتَ أَنْتَ أَنَّ إحْدَهُمَا مُوَسَّعٌ، وَالآخَرُ مَقْتُورٌ. (33) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة، أَبَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرو، ¬

(¬1) كذا بالأصل، وفي «س»، وثلاث نسخ على «ع»، «تغالط». والمثبت من الأصل، و «ع». وقال صاحب تاج العروس (19/ 520): «غَاطَ يَغُوطُ غَوْطاً، أَي حَفَر. وغاطَ الرَّجُلُ فِي الطِّين. والغَوْطُ: دُخُولُ الشَّيءِ فِي الشَّيْءِ، كالغَيْطِ، يُقالُ: غاطَ فِي الشَّيْءِ يَغُوطُ ويَغِيطُ: دَخَلَ فِيهِ. وَهَذَا رملٌ تَغُوطُ فِيهِ الأَقْدامُ». (¬2) أخرجه مسلم (54)، وغيره. من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه البخاري (6519، 7382)، ومسلم (2787)، وابن ماجه (192)، وأحمد (8863)، وغيرهم، من طرق عن يونس -هو ابن يزيد الأيلي-، به.

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَقِيَ آدَمَ مُوسَى فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي خلقك الله بِيَدِهِ» (¬1). أَفَيَجُوزُ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنْ تَتَأَوَّلَ قَوْلَ مُوسَى «خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ»، «بِأَحَدِ رِزْقَيْهِ بِحَلَالِهِ أَمْ حَرَامِهِ»؟ (34) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَزْدِيُّ، وَأَبُو عُمَرَ بْنُ الحَوْضِيِّ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الله يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَار، ويَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ؛ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» (¬2). أَفَيَجُوزُ أَنْ يَبْسُطَ حَلَالَهُ بِاللَّيْلِ وَحَرَامَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ المُسِيئَانِ؟ (35) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، [11/ظ] عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَوْلِ الله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (140) وعبد الله بن أحمد في السنة (553)،وابن أبي عاصم في السنة (149)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 121)، من طريق محمد بن عمرو، به، تامًّا. ومحمد بن عمرو فيه كلام لا ينزله عن رتبة الحسن. لكن قد أخرج الحديث: البخاري (4738)، ومسلم (2652)، وأحمد (7856)، وعبد الرزاق (20067)، والنسائي في الكبرى (11266)، والبزار (7888)، من طريق ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، به، فيكون الزهري قد تابع محمد بن عمرو، فبهذه المتابعة القوية يرتقي الحديث إلى الصحة، وقد رواه عن أبي هريرة أكثر من واحد من أصحابه. (¬2) أخرجه مسلم (2759)، وأحمد (19529)، والطيالسي (492)، والبزار (8/ 39)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 176)، وغيرهم من طريق شعبة، به.

الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، فَأَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ» (¬1). أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الأَرْضَ جَمِيعًا رِزْقُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِرِزْقِهِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَمُوَسَّعِهِ وَمُقَتَّرِهِ؟ لَقَدْ عَلِمَ الخَلْقُ إِلَّا مَنْ جَهِلَ اسْتِحَالَةَ هَذَا التَّأْوِيلِ. فَلَوْ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ مُعَانَدَةَ الله وَرَسُولِهِ، وَمُخَالَفَةَ أَهْلِ الإِسْلَامِ؛ احْتَجَجْتَ بِكَلَامٍ أَسْتَرَ عَوْرَةً، وَأَقَلَّ اسْتِحَالَةً مِنْ هَذَا، كَانَ أَنْجَعَ لَكَ فِي قُلُوبِ الجُهَّالِ مِنْ أَنْ تَأْتِيَ بِشَيْءٍ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ وَلَا جَاهِلٌ فِي بُطُولِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ. (36) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن صَالح، حَدَّثَنِي لَيْثٌ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الله حِينَ خَلَقَ الخَلْقَ، كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ، إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه الترمذي (3241)، وأحمد (24856)، والنسائي في الكبرى (11389)، والحاكم (2/ 473)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 183)، وغيرهم، من طريق ابن المبارك، به. قال الترمذي: «هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه». وقال أبو نعيم: «غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، تَفَرَّدَ بِهِ حَبِيبُ بنُ أبي عَمْرَةَ، وَهُوَ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ عَزِيزُ الْحَدِيثِ». قلت: وللحديث شاهد أخرجه مسلم (2791)، عن عائشة أيضًا بلفظ «على الصراط» بدلا من «على جسر جهنم» وهما بمعنى. (¬2) صحيح لغيره، عبد الله بن صالح فيه ضعف لكنه توبع. والحديث أخرجه الترمذي (3534) عن قتيبة عن الليث، وابن ماجه (189) من طريق صفوان بن عيسى، وأحمد (9597) عن يحيى القطان، وابن حبان (6145) من طريق الليث، وابن أبي شيبة في المصنف (35200) عن أبي خالد الأحمر، وعنه ابن ماجه (4295)، وابن بطة في الإبانة (246)، والبيهقي في الأسماء والصفات (629) كلاهما من طريق أبي عاصم النبيل خمستهم، عن محمد بن عجلان، به. ... = = وأخرجه البخاري (3194)، ومسلم (2751)، وغيرهما من حديث الأعرج، وأخرجه البخاري (7404)، من حديث أبي صالح السمان، وفي (7554)، من حديث أبي رافع الصائغ، وأخرجه مسلم (2751)، من حديث عطاء بن ميناء، أربعتهم عن أبي هريرة، به ولكن دون ذكر اليد، فاستنكر البعض ذكر اليد في حديث عجلان. قلت: ذكر اليد لا يستنكر في حديث عجلان؛ فإنه لم ينفرد بها فقد تابعه أبو صالح السمان كما عند أحمد (9159)، وأبو رافع الصائغ كما عند ابن أبي عاصم في السنة (608) وإسناد كل واحد منهما صحيح، فلا وجه لاستنكار هذه اللفظة، لا سيما وقد وردت في أكثر من حديث ورواها الأئمة في كتبهم، وقد قال الترمذي عقب روايته: هذا حديث حسن صحيح.

فَهَلْ مِنْ بَيَانٍ أَشْفَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي؟ أَفَيَجُوزُ لِهَذَا المَرِيسِيِّ أَنْ يَقُولَ: كَتَبَ بِرِزْقِهِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ على نَفسه؟ وَفِي هَذَا البَابِ أَحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ، تَرَكْنَاهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ بَيَانٌ بَيِّنٌ وَدِلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي تَثْبِيتِ يَدَيِ الله - عز وجل - أَنَّهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلَهُ هَذَا المَرِيسِيُّ الضَّالُّ، الَّذِي خَرَجَ بِتَأْوِيلِهِ هَذَا مِنْ جَمِيع لُغَات العَرَب والعجم. فليعرض هَذِه الآثار رجلٌ على عَقْلِهِ، هَل يجوز لِعَرَبِيٍّ أَو عَجَمِيّ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَنَّهَا أَرْزَاقُهُ، وَحَلَالُهُ، وَحَرَامُهُ؟ وَمَا أَحْسَبُ هَذَا المَرِيسِيَّ إِلَّا وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهَا تَأْوِيلُ ضَلَالٍ وَدَعْوَى مُحَالٍ، غَيْرَ أَنَّهُ مُكَذِّبٌ الأَصْلَ، مُتَلَطِّفٌ لِتَكْذِيبِهِ بِمُحَالِ التَّأْوِيلِ؛ كَيْلَا يَفْطِنَ لِتَكْذِيبِهِ أَهْلُ الجَهْلِ. وَلَئِنْ كَانَ أَهْلُ الجَهْلِ فِي غَلَطٍ مِنْ أَمْرِهِ، إِنَّ أَهْلَ العِلْمِ مِنْهُ لَعَلَى يَقِينٍ. فَلَا يَظُنن المُنْسَلِخُ مِنْ دِينِ الله أَنَّهُ يُغَالِطُ بِتَأْوِيلِهِ هَذَا إِلَّا مَنْ قَدْ أَضَلَّهُ اللهُ، وَجَعَلَ عَلَى قَلْبِهِ وَبَصَرِهِ وَسَمْعِهِ غِشَاوَةً. ثُمَّ إِنَّا ما عَرَفْنَا لِآدَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ابْنًا أَعَقَّ وَلَا أَحْسَدَ مِنْهُ، إِذْ يَنْفِي عَنْهُ أَفْضَلَ فَضَائِلِهِ وَأَشْرَفَ مَنَاقِبِهِ، فَيُسَوِّيهِ فِي ذَلِكَ بِأَخَسِّ خَلْقِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لآدَمَ فَضِيْلَةٌ أَفْضَلَ مِنْ أَنَّ اللهَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ من بَيْنِ خَلَائِقِهِ، فَفَضَّلَهُ بِهَا عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالمَلَائِكَةِ، أَلَا تَرَوْنَ مُوسَى حِينَ التَقَى مَعَ آدَمَ فِي المُحَاوَرَةِ احْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَشْرَفِ مَنَاقِبِهِ فَقَالَ: «أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ؟» وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مَخْصُوصَةً لِآدَمَ دُونَ مَنْ سِوَاهُ؛ مَا كَانَ يَخُصُّهُ بِهَا فَضِيلَةً دُونَ نَفْسِهِ؛ إِذْ هُوَ وَآدَمُ فِي خَلْقِ يَدَيِ اللهِ سَوَاءٌ -فِي دَعْوَى المَرِيسِيِّ-؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِآدَمَ ابْنٌ أَعَقُّ مِنْهُ، إِذْ يَنْفِي عَنْهُ

مَا فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالمَلَائِكَةِ المُقَرَّبِينَ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ الله بن عَمْرو بن العَاصِ. (37) حَدَّثَنَاه عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، حَدثنِي اللَّيْث، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ (¬1)، عَنْ زَيْدِ [12/و] بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: «لَقَدْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا، مِنَّا المَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ، وَمِنَّا حَمَلَةُ العَرْشِ، وَمِنَّا الكِرَامُ الكَاتِبُونَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ الله اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا نسأم وَلَا نفتر، خلقتَ بَني آدَمَ فَجَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَجَعَلْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، فَكَمَا جَعَلْتَ لَهُمُ الدُّنْيَا فَاجْعَلْ لَنَا الآخِرَةَ فَقَالَ: لَنْ أَفْعَل، ثُمَّ عَادُوا فَاجْتَهَدُوا المَسْأَلَةَ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِك، فَقَالَ: لَنْ أَفْعَل، ثُمَّ عَادُوا فَاجْتَهَدُوا المَسْأَلَة بِمثْل ذَلِكَ، فَقَالَ: لَنْ أَجْعَلَ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، كَمَنْ قُلْتُ [لَهُ كُنْ] (¬2) فَكَانَ» (¬3). ¬

(¬1) في الأصل «سعيد»، وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من وينظر تهذيب الكمال (30/ 204). (¬2) ما بين معقوفين سقط من الأصل، وأثبته من «س»، «ع»، وجميع مصادر التخريج. (¬3) ضعيف الإسناد، وله شاهد صحيح. هشام بن سعد: ضعفه يحيى القطان، وأحمد، وابن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وأيضا عبد الله بن صالح فيه ضعف كما مر قبل قليل. ... = = وقد روى هذا الحديث مرفوعًا الطبراني في الكبير (13/ 658)، وفي الأوسط (6173) بإسنادين ما أتلفهما. وذكره الدارقطني في العلل (2843)، ولكن من حديث ابن عمر بدل ابن عمرو، ولا أرى الحديث يصح بهذا الإسناد لا موقوفا ولا مرفوعًا. قلت: لكني وجدت له شاهدًا من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري مرفوعًا، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1065)، عن الهيثم بن خارجة، والطبراني في مسند الشاميين (521)، من طريق هشام بن عمار، كلاهما عن عثمان بن علاق -وفي الشاميين علان وهو تحريف- عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله، به. وهذا إسناد صحيح. وتابع عثمان بن حصن بن علاق في روايته عن عروة بن رويم عبدُ ربه بن صالح القرشي كما أخرجه البيهقي في الشعب (147)، وفي الأسماء والصفات (694).

أَوَلَا تَرَى أَيُّهَا المَرِيسِيُّ، كَيْفَ ميّزَ بَين آدَمَ فِي خِلْقَتِهِ بِيَدَيِ اللهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الخَلْقِ؟ وَلَوْ كَانَ تَفْسِيرُهُ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ؛ لَاحْتَجَّتِ المَلَائِكَةُ عَلَى رَبِّها إِذ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِيَدَيْهِ فِي آدَمَ، أَنْ يَقُولُوا: يَا رَبَّنَا، نَحْنُ وَآدَمُ فِي مَعْنَى خِلْقَةِ يَدَيْكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ عَلِمَتِ المَلَائِكَةُ مِنْ تَفْسِيرِ ذَلِكَ مَا عَمِيَ عَنْهُ الضَّالُّ المَرِيسِيُّ. وَاللهِ مَا رَضِيَ اللهُ لِذُرِّيَّةِ آدَمَ حَتَّى أَثْبَتَ لَهُمْ بِذَلِكَ عِنْدَهُ مَنْقَبَةَ آدَمَ، إِذْ خَلَقَ أَبَاهُمْ بِيَدِهِ خُصُوصًا مِنْ بَيْنِ الخَلَائِقِ حَتَّى احْتَجَّ بِهِ عَلَى المَلَائِكَةِ، وَفَضَّلَ وَلَدَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ آدَمُ نَفْسُهُ؟ لَقَدْ حَسَدْتَ أَبَاكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ كَمَا حَسَدَهُ إِبْلِيسُ، حَيْثُ قَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} ... [الأعراف:12]. وَأَيُّ عُقُوقٍ لِآدَمَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَقُولَ الله: خَلَقْتُ أَبَاكَ آدَمَ بِيَدَيَّ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الخَلَائِقِ فَتقُولُ: لَا، وَلَكِنْ خَلَقْتَهُ بِإِرَادَتِكَ دُونَ يَدَيْكَ، كَمَا خَلَقْتَ القِرَدَةَ والخَنَازيرَ، وَالكِلاَبَ، والخَنَافِسَ، والعَقَارِبَ، سَوَاء. وَمِمَّا يَزِيدُكَ بَيَانًا لِاسْتِحَالَةِ دَعْوَاكَ: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: «خَلَقَ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الخَلْقِ: كُنْ فَكَان».

(38) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مِهْرَانَ -وَهُوَ المُكْتِبُ- ثَنَا مُجَاهِدٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ: «خَلَقَ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ: العَرْشَ، وَالقَلَمَ، وَعَدْن، وَآدَمَ، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الخَلْقِ: كُنْ، فَكَانَ» (¬1). أَفَلَا تَرَى أَيُّهَا المَرِيسِيُّ كَيْفَ مَيَّزَ ابْنُ عُمَرَ وَفَرَّقَ بَيْنَ آدَمَ وَسَائِرِ الخَلْقِ فِي خِلْقَةِ اليَد، أفَأَنْتَ أَعْلَمُ مِنِ ابْنِ عُمَرَ بِتَأْوِيلِ القُرْآنِ، وَقَدْ شَهِدَ التَّنْزِيلَ، وَعَايَنَ التَّأْوِيلَ، وَكَانَ بِلُغَاتِ العَرَبِ غَيْرَ جَهُولٍ؟. (39) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ: «إِنَّ الله لَمْ يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ غَيْرَ ثَلَاثٍ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ» (¬2). (40) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المِنْهَالِ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنَا سَعِيدُ بن أبي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: «لَمْ يَخْلُق اللهُ غَيْرَ ثَلَاثٍ؛ [12/ظ] خَلَقَ آدَمَ ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (730)، من طريق مسدد عن عبد الواحد، به. وأخرجه الحاكم (2/ 349)، وابن بطة في الإبانة (229)، واللالكائي (729)، من طريق سفيان الثوري، وأخرجه الطبري في التفسير (20/ 145)، من طريق شعبة، كلاهما (سفيان وشعبة) عن عبيد المكتب، به. (¬2) ضعيف، أخرجه عبد الله ين أحمد في السنة (572)، من طريق أبي الأحوص، والطبري في التفسير (17/ 6)، من طريق جرير بن عبد الحميد ثلاثتهم (أبو عوانة، وأبو الأحوص، وجرير) عن عطاء، وقد اختلط بأخرة، وثلاثتهم ممن روى عنه بعد الاختلاط، فأما جرير فقد نص عليه أنه سمع بعد الاختلاط، وأبو عوانة سمع قبل وبعد ولا يحتج بروايته عنه كما نص على ذلك ابن معين، وأما أبو الأحوص فلا ندري سمع قبل أو بعد. وقد وقع عند الطبري «لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ شَيْئًا بِيَدِهِ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ».

بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَغَرَسَ جَنَّةَ عَدْنٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، قَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ» (¬1). وَلَوْ كَانَ كَمَا ادَّعَى المَرِيسِيُّ لَكَانَ مَعْنَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ: أَنَّ الله لَمْ يَلي (¬2) ¬

(¬1) صحيح، إسناده مسلسل بالأئمة الثقات وقد أخرجه الآجري في الشريعة (804)، من طريق ابن المنهال، به. وقد خالف معمرٌ سعيدًا؛ فأخرجه عبد الرزاق في التفسير (1952)، ومن طريقه الطبري في التفسير (17/ 5) عن معمر عن قتاد عن كعب دون ذكر أنس. قلت: ومخالفة معمر لسعيد لا تضره فإن سعيدا قد اتفقت الكلمة من أئمة هذا الشأن على أنه أوثق الناس في قتادة، هذه واحدة. والثانية: أن قتادة بصري، وقد قال يحيى بن معين: «وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبى النجود وهشام بن عروة وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام». قلت: يعني من كانوا من أهل البصرة أو الكوفة وليسوا من أهل اليمن. وقال: «إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه إلا عن الزهرى وابن طاووس، فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا، وما عمل فى حديث الأعمش شيئا». وقد خالف يزيدَ بن زريع، عبدُ الوهاب بن عطاء؛ فأخرجه البيهقي في البعث والنشور (213)، من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، قال: بلغنا عن كعب، فذكره. أيضا لم يذكر أنسا فيه. قلت: وعبد الوهاب قد تكلم فيه البخاري والنسائي، وأما يزيد بن زريع فيكفيك فيه ما قاله أحمد بن حنبل قال: «كل شئ رواه يزيد بن زريع عن سعيد بن أبى عروبة فلا تبالى أن لا تسمعه من أحد، سماعه من سعيد قديم، وكان يأخذ الحديث بنية». قلت: ويبقى معنا عنعنة قتادة وعنعنة سعيد وقد وصفا بالتدليس. فأما قتادة فكان من أثبت الناس في أنس وهو مكثر عنه فلا يحتاج أن يدلس عنه، ثم إن البخاري رحمه الله قد أخرج له في الصحيح عن أنس. وقد قال الشيخ محمد عمرو بن عبد اللطيف طيب الله ثراه وسقى جدثه: الأصل أن تقبل عنعنته عن أنس ولا ترد إلا بقرائن واعتبارات يعرفها أهل هذا الشأن. وأما عنعنة سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، فجوابنا: هو عين ما قلناه في عنعنة قتادة عن أنس. (¬2) ينظر حاشية رقم (1)، ص 71.

خَلْقَ شَيْءٍ غير هَذِه الثَّلَاث، وهَذَا كُفْرٌ بِالله. وَمَنْ يُحْصِي مَا فِي تَثْبِيتِ يَدِ الله مِنَ الآثَارِ وَالأَخْبَارِ؟ غَيْرَ أَنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نَأْتِيَ مِنْهَا بِألفَاظٍ، إِذَا فَكَّرَ فِيهَا العَاقِلُ؛ اسْتَدَلَّ عَلَى ضَلَالِ هَذَا الجَاهِلِ. (41) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، أبنا حَمَّادُ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ الله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، قَالَ: «كُلهنَّ بِيَمِينِهِ» (¬1). (42) حدثنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَن مُجَاهِد «{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وَكِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَمِينٌ. قَالَ قلت: فَأَيْنَ النَّاس يومئذ؟ قَالَ: عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ» (¬2). (43) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عبد الرَّحْمَن بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله عنه - قَالَ: «خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ فَكَانُوا فِي قَبْضَتِهِ، فَقَالَ لِمَنْ فِي يَمِينِهِ: ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلَامٍ، وَقَالَ لِمَنْ فِي الأُخْرَى: ادخلوا ¬

(¬1) ضعيف، وعلته علي بن زيد هو ابن جدعان: ضعيف سيء الحفظ، ولم أجد من أخرج هذه الرواية، وقد وقفت لها على طريق أخرجه الطبري في التفسير (20/ 246)، عن محمد بن سعد العوفي عن أبيه، عن عمه، عن أبيه، عن أبيه، عن ابن عباس، بنحوه. قلت: وهذا الإسناد إن جاز لي سميته «عائلة الضعفاء» فليس راو من هذه العائلة إلا وهو إما ضعيف أو منكر الحديث. فما أغنت عنا هذه الطريق شيئًا. (¬2) ضعيف، أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (715)، من طريق أحمد بن يونس، به. وهذا إسناد ضعيف، وعلته أبو يحيى القتات فقد ضعفه ابن معين كما في رواية الدوري عنه، وأما في رواية المصنف عنه؛ فقد وثقه، ولعل ذلك هو السبب الذي جعل المصنف يخرج هذا الحديث، لكن الراجح من كلام الأئمة أنه ضعيف، وله ما يستنكر.

النَّار وَلَا أُبَالِي، فَذَهَبَتْ إِلَى يَوْم القِيَامَة» (¬1). (44) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الوَاسِطِيُّ، أَبَنَا خَالِدٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ بِالتَّمْرَةِ مِنَ الكَسْبِ الطَّيِّبِ فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا، فَيَقْبَلُهَا اللهُ بِيَمِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ يُرْبِيهَا كَمَا يُربي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ، حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَ مِنْ جَبَلٍ» (¬2). (45) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى-يَعْنِي القَطَّانَ -عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بْنُ السَّائِبِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ -رَجُلًا مِنْ مُحَارِبٍ- قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ إِلَّا وَقَعَتْ فِي يَدَيِ الله قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدَيِ السَّائِلِ، وَقَرَأَ {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]» (¬3). ¬

(¬1) ضعيف، فيه انقطاع عبد الرحمن بن سابط لم يدرك أبا بكر الصديق قاله الدارقطني في العلل: (1/ 282)، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل (ص 127) عن أبي زرعة: عبد الرحمن بن سابط عن أبي بكر مرسل. والأثر أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20094)، وابن بطة في الإبانة (1335، 1556)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1204) وغيرهم، من طرق عن فطر، به. (¬2) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه البخاري (1410، 7430)، من طريق عبد الله بن دينار عن أبي صالح، به. وأخرجه مسلم (1014)، وأحمد (8961، 9433)، من طريق سهيل بن أبي صالح، به. والحديث رواه غير واحد من أصحاب أبي هريرة عنه. (¬3) حسن، رجاله ثقات سوى أبي قتادة واسمه عبد الله بن قتادة المحاربي، وثقه ابن حبان وذكره البخاري في التاريخ، وقال: «عَنِ ابْن مسعود قَوْله في الصدقة، قَالَه الثوري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السائب»، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. والأثر أخرجه عبد الرزاق في التفسير (1125)، ومن طريقه الطبري في التفسير (11/ 665)، وأخرجه ابن زنجويه في الأموال (1305)، عن محمد بن يوسف الفريابي، كلاهما عبد = ... = الرزاق والفريابي، عن سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب، به.

(46) حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِير، ثَنَا سُفْيَان، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، أَوْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «إِنَّ الله خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَخَرَجَ فِي يَمِينِهِ كُلُّ طَيِّبٍ، وَخَرَجَ فِي الأُخْرَى كُلُّ خَبِيثٍ، ثُمَّ قَالَ: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19]. قَالَ: يُخْرِجُ المُؤْمِنَ مِنَ الكَافِرِ، وَيخرج الكَافِر من المُؤمن» (¬1). (47) حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ قَالَ: ثَنَا عَامِرُ بْنُ زَيْدٍ البِكَالِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلمِيّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رَبِّيَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ ألفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَيُشَفِّعُ كُلَّ ألفٍ لِسَبْعِينَ ألفًا، يُحْثِي بِكَفِّهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، فَكَبَّرَ عُمَرُ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات والأثر أخرجه الطبري في التفسير (5/ 310)، من طريق بشر بن المفضل، وأبو نعيم في الحلية (8/ 263)، والفريابي في القدر (13)، كلاهما من طريق أبي إسحاق الفزاري، والفريابي في القدر (10)، وعنه الآجري في الشريعة (470)، والبيهقي في الأسماء والصفات (723)، من طريق معتمر بن سليمان، وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1546)، من طريق يحيى القطان، وابن بطة في الإبانة (1650)، من طريق حماد بن سلمة، والبيهقي في الأسماء (722)، من طريق يزيد بن هارون. ستتهم (بشر، وأبو إسحاق، ومعتمر، والقطان، وحماد بن سلمة، ويزيد بن هارون)، عن سليمان التيمي، به. وفي رواية معتمر عن أبيه التي أخرجها البيهقي: قال أبي -القائل معتمر-: ولا أراه إلا سلمان. (¬2) إسناده حسن، عامر بن زيد البكالي وثقه ابن حبان، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا، وفي تعجيل المنفعة قال الحسيني -صاحب الأصل-: ليس بالمشهور، فتعقبه الحافظ قائلا: بل هو معروف، ومن في طبقته يستثنى من الوصف = ... = بالجهالة التي تقتضي الرد حيث عاشوا في القرون المشهود لهم بالخيرية. وثمة مخالفة وقعت من الدارمي لأصحابه في هذا الإسناد فقد: رواه الطبراني في الكبير (17/ 126)، وفي الأوسط (402)، وفي الشاميين (2860)، عن أحمد بن خليد. والبيهقي في البعث والنشور (274)، من طريق أبي حاتم الرازي. والفسوي في المعرفة (2/ 341)، ثلاثتهم (ابن خليد، والرازي، والفسوي)، عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، به. فزادوا في الإسناد زيد بن سلام، وأغلب ظني أن هذه ليست مخالفة، بل هذا سقط من النسخة، وقد ورد الإسناد في «س»، بالزيادة ولم يشر المحقق إلى شيء، فلا أدري هي في نسخته التي ليست عندي أو زادها من عنده، والله تعالى أعلم بالصواب.

(48) وَحَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بْنُ عَامِرٍ، أَنَّ قيسًا الكِنْدِيّ حَدَّث الوَلِيدَ أَن أَبَا سعيد الخَيْر الأَنْمَارِيَّ حدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ رَبِّيَ وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ [13/و] مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا، وَيَشْفَعُ كُلُّ أَلْفٍ لِسَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ يُحْثِي لِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ بِكَفِّهِ». قَالَ قَيْسٌ: فَأَخَذْتُ بِتَلبِيبِ أبي سَعِيدٍ فَجَذَبْتُهُ فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ بِأُذُنِي وَوَعَاهُ قَلْبِي (¬1). ¬

(¬1) إسناده صحيح أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 304)، وفي الشاميين (2863)، وابن أبي عاصم في السنة (814)، ومن طريقه ابن الأثير في أسد الغابة (5/ 137)، وأبو أحمد الحاكم في الكنى كما في الإصابة لابن حجر (12/ 299)، جميعا من طريق أبي توبة، به. لكن قال أبو أحمد في روايته قيس بن حجر. قلت: الظاهر أنها مخالفة؛ فإن قيسًا الكندي قد صُرِّح باسم أبيه هنا ألا وهو الحارث، لكن البخاري رحمه الله ترجم لقيس بن حجرهذا في التاريخ الكبير (7/ 153)، وقال: رَوَى عَنه عَبد اللهِ بن عامر، حدَّثنا عَنِ الوليد، أن الأَنمارِيَّ حَدَّثَهُ. قَالَ مُحَمد بْن يَحيى: وهو عنْدي أَبو سَعِيد الخَير، ولعله أن يكون ابْن الحارث».فهذا الإمام محمد بن يحيى الذهلي يشير إلى أنهما واحد، والبخاري ينقل ذلك عنه دون أن يعلق. قلت: وللحديث طريق آخر عن عبد الله بن عامر وهو ما أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد = ... = والمثاني (4/ 226)، والطبراني (22/ 305)، بإسنادين يقوي كل واحد منهما الآخر عن محمد بن الوليد الزبيدي عن عبد الله بن عامر، به. وثمة مخالفة أخرى: فقد أخرج الحاكم أبو أحمد كما في الإصابة (12/ 299)، الحديث من طريق مروان بن محمد عن معاوية بن سلام عن جده أبي سلام عن عبد الله بن عامر عن قيس بن حجر يحدث عبد الملك بن مروان قال: حدثني أبو سعيد الأنماري، فذكره. ... قلت: قد خالف مروان بن محمد أبا توبة في أمرين، الأول: جعله من رواية معاوية عن جده دون أن يذكر أخاه زيد بن سلام. والجواب عن ذلك أن أبا سلام واسمه ممطور الحبشي معدود في شيوخ معاوية فلا مانع أن يرويه عن أخيه عن جده مرة، وأن يرويه عن جده مباشرة مرة، إن كان سمعه منه. الثاني: أنه جعل المستمع لحديث قيس عن أبي سعيد، عبد الملك بن مروان، خلافا لرواية أبي توبة التي جعلته الوليد بن عبد الملك. والجواب عن ذلك أنني أرجح رواية من جعله الوليد؛ وذلك لأن إسناد أبي أحمد الحاكم إلى مروان بن محمد مجهول لدينا، فلعل أحد الرواة من دون مروان إن لم يكن مروان نفسه قد وهم فقال عبد الملك بن مروان بدل الوليد بن عبد الملك بن مروان. وقد توقف الحافظ في الإصابة بعد أن صححه عن هذا التصحيح لهذا الاختلاف الذي ذكرته، والله أعلم بالصواب. هذا وقد وقع عدة تصحيفات في ترجمة أبي سعيد الخير من الإصابة مما جعل الشيخ الألباني رحمه الله يعله بعلل لا وجود لها، إنما نشأت عن تلك التصحيفات، وقد ظهرت طبعة دار هجر لكتاب الإصابة منذ سنوات قليلة وهي أضبط النسخ لهذا الكتاب وكان عليها اعتمادي فيما نقلت.

وَهُوَ قَيْسُ بْنُ الحَارِثِ الكِنْدِيُّ. (49) حَدَّثَنَا الهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدِ بن أبي سُوَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ فَاوَضَ الحَجَرَ؛ فَإِنَّمَا يُفَاوِضُ كَفَّ الرَّحْمَنِ» (¬1). ¬

(¬1) منكر، أخرجه ابن ماجه مطولا (2957)، وابن عدي في الكامل مطولا (3/ 78)، من طريق هشام بن عمار، به. وأخرجه الطبراني في الأوسط (8400)، من طريق هشام بن عمار، واخرجه الفاكهي في أخبار مكة (1/ 138)، من طريق محمد بن المبارك. كلاهما عن = ... = إسماعيل بن عياش، به دون ذكر الكف والمفاوضة. وهذا إسناد منكر وآفته حميد بن أبي سويد، قال ابن عدي في ترجمته بعد أن روى له هذا الحديث مع أحاديث أخر: «وحميد بن أبي سويد هذا قد حدث عنه ابن عياش يعني هذه الأحاديث وكأنه قد أخذ عطاء بن أبي رباح قباله، وهذه الأحاديث عن عطاء الذي يرويها عنه غير محفوظات». ... ثم إن إسماعيل بن عياش في روايته عن غير الشاميين وهم وتخليط كما ذكر غير واحد من أئمة هذا الشأن، وحميد هذا مكي.

يَعْنِي: اسْتِلاَمَ الحَجَرِ الأَسْوَد. (50) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعت أَبا إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّوَاسَ بْنَ سَمْعَانَ الكِلَابِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «المِيزَانُ بِيَدَيِ الرَّحْمَنِ، يرفع أقوامًا وَيُخْفِضُ آخَرِينَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (¬1). وَإِنَّمَا جِئْتُ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ القَوْمَ مُخَالِفُونَ لما قَالَ اللهُ وَرَسُولُه وَمَا مَضَى عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ - رضي الله عنهم - أجمعين، وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ وَمَحَجَّةِ الصَّادِقِينَ. وَقَدِ ادَّعَى المَرِيسِيُّ أَيْضًا وَأَصْحَابُهُ أَنَّ يَدَ اللهِ نِعْمَتُهُ، قُلْتُ لِبَعْضِهِمْ إِذًا يَسْتَحِيلُ فِي دَعْوَاكُمْ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ بِنِعْمَتِهِ. ¬

(¬1) صحيح، أخرجه النسائي في الكبرى (7691)، من طريق حبان بن موسى، وابن حبان (943)، من طريق علي بن الحسن بن شقيق كلاهما عن ابن المبارك، به. وأخرجه ابن ماجه (199)، وابن أبي عاصم في السنة (552)، من طريق صدقة بن خالد. وأخرجه أحمد (17630)، عن الوليد بن مسلم. وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1224)، من طريق إسماعيل بن عياش. ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به. وقد رواه غيرهم عن عبد الرحمن بن يزيد، واكتفيت بهؤلاء خشية الإطالة.

أم قَوْله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، أنعمتان مِنْ أَنْعُمِهِ قَطُّ مَبْسُوطَتَانِ؟ فَإِنَّ أَنْعُمَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، أَفَلَمْ يَبْسُط مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ إِلَّا ثِنْتَيْنِ وَقَبَضَ عَنْهُم مَا سِوَاهُمَا فِي -دَعْوَاكُمْ-؟ فَحِينَ رَأَيْنَا كَثْرَةَ نِعَمِ اللهِ المَبْسُوطَاتِ عَلَى عِبَادِهِ ثُمَّ قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، عَلِمْنَا أَنَّهَما بِخِلَافِ مَا ادَّعَيْتُمْ، وَوَجَدْنَا أَهْلَ العِلْمِ مِمَّنْ مَضَى يَتَأَوَّلُونَهَا خِلَافَ مَا تَأَوَّلْتُمْ، وَمَحَجَّتُهُمْ أَرْضَى، وَقَوْلُهُمْ أَشْفَى. (51) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا الفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَن يزِيد النَّحْوِيّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَوْلُهُ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، قَالَ: «يَعْنِي اليَدَيْنِ» (¬1). (52) حَدثنِا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الجُمَحِيِّ قَالَ: سَألتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ يَدِ الله، أَوَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ؟ قَالَ: «بل اثْنَتَانِ» (¬2). (53) وَحدثنَا هُدْبَةُ بن خَالِد، ثَنَا سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ، عَنْ عَاصِمٍ الجَحْدَرِيِّ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] قَالَ: «بِيَدَيْهِ» (¬3). فَمَنْ يَلْتَفِتُ بَعْدَ هَذَا إِلَى تَأْوِيلِ هَذَا المَرِيسِيِّ، وَيَدَعُ تَأْوِيلَ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةِ؟ ¬

(¬1) إسناده حسن، نعيم بن حماد وإن كان مختلف فيه كما قال الذهبي إلا أنه كان يعنى بالروايات التي تنقض مذهب الجهمية، والحسين بن واقد شيخه ثقة له أوهام كما قال الحافظ وليس هذا من أوهامه إن شاء الله. والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1168) معلقًا عن الفضل بن موسى، به. وقد وقع في المطبوعة من التفسير تحريفين: تحرف الفضل بن موسى وهو السيناني، إلى الفضل بن موسق! والثاني: تحرف حسين بن واقد إلى ابن فائد. (¬2) إسناده صحيح، وقد أورده الذهبي في الأربعين في صفات رب العالمين (79)، وصححه. (¬3) إسناده صحيح، ولم أقف على تخريج له.

أَرَأَيْتُمْ إِذَا تَأَوَّلْتُمْ أَنَّ يَدَ الله نِعْمَتُهُ، أَفَيَحْسُنُ أَنْ تَقُولُوا فِي قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَطْوِي اللهُ السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». أَنَّهُ يَطْوِيهَا بِنعْمَتِهِ؟! أَمْ قَوْلُهُ: «المُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ» وَكِلْتَا نِعْمَتَيِ الرَّحْمَنِ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ؟! هَذَا أَقْبَحُ مُحَالٍ وَأَسْمَجُ ضَلَالٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ضَحِكَةٌ وَسُخْرِيَةٌ مَا سَبَقَكُمْ إِلَى مِثْلِهَا أَعْجَمِيٌّ أو عربي. أَمْ قَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدَيِ الله قَبْلَ يَدَيِ السَّائِلِ». أَنَّهَا تَقَعُ فِي نِعْمَتَيِ الله؟! أَمْ قَوْلُ أَبِي بكر الصّديق - رضي الله عنه -: «خَلَقَ الله الخَلْقَ فَكَانُوا فِي [13/ظ] قَبْضَتِهِ» أَيْ: نِعْمَتِهِ! قَالَ لِمَنْ فِي نِعْمَتِهِ اليُمْنَى: ادْخُلُوا الجَنَّةَ وَقَالَ لِمَنْ فِي نِعْمَتِهِ الأُخْرَى: ادْخُلُوا النَّارَ؟! أَمْ قَول ابْن عمر: خَلَقَ الله أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الأَشْيَاءِ: كُنْ فَكَانَ. أَفَيَجُوزُ أَنْ تَقُولُوا خَلَقَ الله أَرْبَعَة أَشْيَاء بنعمته ورزقه، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الخَلْقِ: كُونُوا بِلَا نِعْمَةٍ وَلَا رِزْقٍ، فَكَانُوا؟! قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّ هَذِهِ تَفَاسِيرٌ مَقْلُوبَةٌ، خَارِجَةٌ مِنْ كُلِّ مَعْقُولٍ لَا يَقْبَلُهُ إِلاَّ كُلُّ جَهُولٍ. فَإِذَا ادَّعَيْتَ أَنَّ اليَدَ عُرِفَتْ فِي كَلَامِ العَرَبِ أَنَّهَا نِعْمَةٌ، وَقُوَّةٌ، قُلْنَا لَكَ: أَجَلْ، وَلَسْنَا بِتَفْسِيرِهَا مِنْكَ أَجْهَلَ، غَيْرَ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ يَسْتَبِينُ فِي سِيَاقةِ كَلَامِ المُتَكَلِّمِ حَتَّى لَا يُحتَاج لَهُ من مِثْلِكَ إِلَى تَفْسِيرٍ، إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: «لِفُلَانٍ عِنْدِي يَدٌ أُكَافِئُهُ عَلَيْهَا»، عَلِمَ كُلُّ عَالِمٍ بِالكَلَامِ أَنَّ يَدَ فُلَانٍ لَيْسَتْ بِبَائِنَةٍ مِنْهُ، مَوْضُوعَة عِنْدَ المُتَكَلِّمِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا النِّعْمَةُ الَّتِي يُشْكَرُ عَلَيْهَا.

وَكَذَلِكَ إِذْ قَالَ: «فُلَانٌ لِي يَدٌ وَعَضُدٌ وَنَاصِرٌ»، عَلِمْنَا أَنَّ فُلَانًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ نَفْسَ يَدِهِ -عُضْوَهُ-، وَلَا عَضُدَهُ، فَإِنَّمَا عُنِيَ بِهِ النُّصْرَة والمعونة وَالتَّقوية. فَإِذَا قَالَ: «ضَرَبَنِي فُلَانٌ بِيَدِهِ، وَأَعْطَانِيَ الشَّيْءَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ لِي بِيَدِهِ» اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَنِي بنعمته، وَعَلِمَ كُلُّ عَالِمٍ بِالكَلَامِ أَنَّهَا اليَدُ الَّتِي بِهَا يَضْرِبُ وَبِهَا يَكْتُبُ وَبهَا يُعْطي، لَا النِّعْمَة. كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} [ص: 45]،أَيْ: أُولِي البَصَرِ وَالعُقُولِ بِدِينِ الله؛ لِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ أُولِي أَيْدِي وَأَبْصَارٍ فَلَمَّا خَصَّ هَؤُلَاءِ الأَنْبِيَاءَ بِهَا؛ عَلِمَ كُلُّ عَالِمٍ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالأَيْدِي الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا وَيُكْتَبُ؛ لما أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أُولُو أَيْدِي وَأَبْصَارٍ، الَّتِي هِيَ الجَوَارِح. ولَا يَجُوزُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنْ تَنْفِيَ اليَدَ الَّتِي هَيِ اليَدُ لَما أَنَّهُ وجدَ فِي فَرْطِ كَلَامِ العَرَبِ أَنَّ اليَدَ قَدْ تَكُونُ نِعْمَةً وَقُوَّةً، وَلَكِنَّ هَذَا فِي سِيَاقِ الكَلَامِ مَعْقُولٌ وَذَلِكَ فِي سِيَاقِ الكَلَامِ مَعْقُولٌ، فَلَمَّا قَالَ الله - عز وجل -: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] اسْتَحَالَ فِيهِمَا كُلُّ مَعْنًى إِلَّا اليَدَيْنِ. كَمَا قَالَ العُلَمَاءُ الَّذِينَ حَكَيْنَا عَنْهُمْ. فَلَيْسَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الأَيْدِي شَيْءٌ إِلَّا وَالشَّاهِدُ بِتَفْسِيرِهَا يَنْطِقُ فِي نَفْسِ كَلَامِ المُتَكَلِّمِ، فَإِنْ صَرَفْتَ مِنْهُ مَعْنًى مَفْهُومًا إِلَى غَيْرِ مَفْهُومٍ، اسْتَحَالَ وَإِنْ صَرَفْتَ عَامًّا إِلَى خَاصٍّ اسْتَحَالَ، وَإِنْ صَرَفْتَ خَاصًّا مِنْهُ إِلَى عَامٍّ اسْتَحَالَ أَوْ بَطُلَ مَعْنَاهُ. وَأَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَ مِنَ الجَهْلِ بِمَعَانِي الكَلَامِ كُلُّ مَا لَا يُعْقَلُ مَا قُلْنَا، وَلَكِنَّكَ فِيهِ كَالغَرِقِ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ عُودٍ، وَقَدْ قُلْنَا: يَكْفِينَا فِي مَسِّ اللهِ آدَمَ بِيَدِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنَّا لَا نَسْمَعُ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ

عِبَادِ الله أَنَّ اللهَ خَلَقَ نوحًا بِيَدِهِ، وهودًا، أو صالحًا، أَو إِبْرَاهِيم، أَو إِسْمَاعِيل، وإِسْحَاقَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدًا صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ لَكَانَ كَافِيًا. وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ عَلَى مَا ادَّعَيْتَ؛ أَنَّ الله أَرَادَ بِاليَدَيْنِ تَأْكِيدَ الخَلْقِ لَا تَأْكِيدَ اليَدِ، لَأَكَّدَ أَيْضًا فِي خَلْقِ نَبِيٍّ أَوْ رَسُولٍ، كَمَا أَكَّدَ فِي خَلْقِ آدَمَ فِي دَعْوَاكَ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الآخِرَةِ يَعْرِفُونَ لِآدَمَ تِلْكَ الفَضِيلَةَ فِي المَوْقِفِ يَوْمَ [14/و] القِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: «اذْهَبُوا بِنَا إِلَى آدَمَ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ اشْفَعْ لَنَا إِلَيّ رَبِّكَ». (54) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أنس، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى» (¬1). وَلَا يَقُولُونَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ، كَمَا قَالُوا لِآدَمَ، بَلْ يَقُولُونَ لِإِبْرَاهِيمَ: اتَّخَذَكَ اللهُ خَلِيلًا، وَلِمُوسَى: كَلَّمَكَ اللهُ تَكْلِيمًا، وَلِعِيسَى: كُنْتَ تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَيَقُولُونَ لِآدَمَ مِنْ بَيْنِهِمْ: خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ؛ لما أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِهِمْ، كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ الأَنْبِيَاءِ مَخْصُوصٌ بِمَنْقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ. فَأَيُّ ضَلَالٍ أَبْيَنُ مِنْ ضَلَالِ رَجُلٍ خَالَفَهُ فِي دَعْوَاهُ أَهْلُ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الآخِرَةِ؟، وَلَكِنْ {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} الزمر: [36 - 37]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4476، 7516)، عن مسلم بن إبراهيم، به. مطولا، وأخرجه البخاري أيضا (6565، 7440،)، ومسلم (193)، وابن ماجه (4312)، وأحمد (12153)، وغيرهم من طرق عن قتادة، به. مطولا.

فَاحْتَجَّ مُحْتَجٌّ عَنِ المَرِيسِيِّ فِي إبطال مَسِّ الله آدَمَ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} ... [آل عمران: 59] فَقَالَ: جَعَلَهُ مِثْلَ عِيسَى، وَعِيسَى لَمْ يَخْلُقْهُ بِيَدِهِ. قُلْنَا لِهَذَا المُحْتَجِّ: غَلِطْتَ فِي التَّأْوِيلِ، وَضَلَلْتَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِيسَى مِثْلَ آدَمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَهَذَا أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِ اللهِ وَكَلِمَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، كَمَا أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، ثُمَّ هُوَ فِي سَائِرِ أَمْرِهِ مُخَالِفٌ لِآدَمَ. أَوَّلُهُ: خَلَقَ الله إِيَّاهُ بِيَدَيْهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الله خَلَقَ آدَمَ بِتَمَامِهِ مِنْ طِينٍ، لَمْ يَكُنْ صَغِيرًا فَيَكْبُرَ، وَلَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ بَطْنٌ وَلَا رَحِمٌ، وَلَمْ يَرْضَعْ بِلَبَنٍ صَغِيرًا فِي المَهْدِ، فَكَمَا هُوَ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ مُخَالِفٌ لِآدَمَ، فَهُوَ لَهُ مُخَالِفٌ فِي خَلْقِ يَدَيِ الله تَعَالَى، وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَيْسَ كَيَدِهِ يَدٌ. فَافْهَمْ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّكَ تَأَوَّلْتَ فِي يَدَيِ الله، أَفْحَشَ مِمَّا تَأَوَّلَتِ اليَهُودُ؛ لِأَنَّ اليَهُودَ قَالُوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وَادَّعَيْتَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ وَلَما أَنَّكَ تَأَوَّلْتَهَا النِّعَمَ وَالأَرْزَاقَ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ، فَمَاذَا لَقِيَ الله مِنْ عَمَايَاتِكُمْ هَذِهِ؟ تَدَّعُونَ أَنَّ يَدَيِ الله مخلوقتان، إِنَّهُمَا عِنْدَكُمْ رِزْقَاهُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَمَوْسعهُ وَمَقْتُورُهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ. * * *

وَادَّعَى المَرِيسِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِ الله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75]، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} [آل عمران: 15]: أَنَّهُ يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ، وَيَعْرِفُ الألوان، بِلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ، وَأَنَّ قَوْله: {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)} يَعْنِي: عَالِمٌ بِهِمْ، لَا أَنَّهُ يُبْصِرُهُمْ بِبَصَرٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بِعَيْنٍ، فَقَدْ يُقَالُ لِأَعْمَى: مَا أَبْصَرَهُ أَيْ: مَا أَعْلَمَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُبْصِرُ بِعَيْنٍ. فَيُقَالُ لِهَذَا المَرِيسِيِّ الضَّالِّ: الحِمَارُ، وَالكَلْبُ، أَحْسَنُ حَالًا مِنْ إِلَهٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الحِمَارَ يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ، وَيَرَى الألوان بِعَيْنٍ, وَإِلَهُكَ بِزَعْمِكَ: أَعْمَى أَصَمّ، لَا يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَلَا يُبْصِرُ بِبَصَرٍ. وَلَكِنْ يُدْرِكُ الصَّوْتَ كَمَا يُدْرِكُ الحِيطَانُ، وَالجِبَالُ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَسْمَاعٌ، وَيَرَى الألوان بِالمُشَاهَدَةِ لَا يُبْصِرُ -فِي دَعْوَاكَ-. فَقَدْ جَمَعْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ فِي دَعْوَاكَ هَذِهِ جهلا وَكُفْرًا. أَمَّا الكُفْرُ: فَتَشْبِيهُكَ الله تَعَالَى بِالأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَرَى. وَأَمَّا الجَهْلُ: فَمَعْرِفَةُ النَّاسِ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ فِي كَلَامِ العَرَبِ أَن يُقَال لشَيْء هو سَمِيعٌ [14/ظ] بَصِيرٌ، إِلَّا وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَوْصُوفٌ بِالسَّمْعِ وَالبَصَرِ مِنْ ذَوِي الأَعْيُنِ وَالأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ، وَالأَعْمَى مِنْ ذَوِي الأَعْيُنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حُجِبَ. فَإِنْ كُنْتَ تُنْكِرُ مَا قُلْنَا، فَسَمِّ شَيْئًا مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا أَسْمَاعٌ وَأَبْصَارٌ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟ وَنَحْنُ نَقُولُ اللهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ نَفَيْتَ عَنْهُ السَّمْعَ وَالبَصَرَ اللَّذَيْنِ هُمَا السَّمْعُ وَالبَصَر، ونفيتَ عَنهُ العَيْنَ، وكَمَا يَسْتَحِيلُ هَذَا فِي الأَشْيَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا أَسْمَاعٌ وَأَبْصَارٌ؛ فَهُوَ فِي الله السميع البَصِيرِ أَشَدُّ اسْتِحَالَةً. وَكَيْفَ اسْتَجَزْتَ أَنْ يُسَمَّيَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَهْلُ المَعْرِفَةِ بِصِفَاتِ الله

المُقَدَّسَةِ: مُشَبِّهَة، إِذْ وَصَفُوا الله بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي أَسْمَاؤُهَا مَوْجُودَةٌ فِي صِفَاتِ بني آدم، بلا تَكْيِيفٍ، وَأَنْتَ قَدْ شَبَّهْتَ إِلَهَكَ فِي يَدَيْهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِأَعْمَى وَأَقْطَعَ، وَتَوَهَّمْتَ فِي مَعْبُودِكَ مَا تَوَهَّمْتَ فِي الأَعْمَى وَالأَقْطَعِ، فَمَعْبُودُكَ -في دعواك- مُجَدَّعٌ مَنْقُوصٌ، أَعْمَى لَا بَصَرَ لَهُ، وَأَبْكَمُ لَا كَلَامَ لَهُ، وَأَصَمُّ لَا سَمْعَ لَهُ، وَأَجْذَمُ لَا يَدَانِ لَهُ، وَمُقْعَدٌ (¬1) لَا حِرَاكَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَه بِصِفَةِ إِلَهِ المُصَلِّينَ؟ فَأَنْتَ أَوْحَشُ مَذْهَبًا فِي تَشْبِيهِكَ إِلَهِكَ بِهَؤُلَاءِ العِمْيَانِ وَالمَقْطُوعِينَ، أَمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ مُشَبِّهَةً؛ أَنْ وَصَفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ بِلَا تَشْبِيهٍ؟ فلولا أَنَّهَا كَلِمَةٌ هِيَ مِحْنَةُ الجَهْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا يَنْبِزونَ المُؤْمِنِينَ، مَا سَمَّيْنَا مُشَبِّهًا غَيْرَكَ؛ لِسَمَاجَةِ مَا شَبَّهْتَ وَمَثَّلْتَ. وَيْلَكَ! إِنَّمَا نَصِفُهُ بالأسماء لَا بالتَّكْيِيفِ وَلَا بِالتَّشْبِيهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّهُ مَلِكٌ كَرِيمٌ، عَلِيمٌ، حَكِيمٌ، رَحِيمٌ، لَطِيفٌ، مُؤْمِنٌ، عَزِيزٌ، جَبَّارٌ، مُتَكَبِّرٌ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى البَشَرُ بِبَعْضِ هَذِهِ الأَسْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِصِفَاتِهِمْ، فَالأَسْمَاءُ فِيهَا مُتَّفِقَةٌ، وَالتَّشْبِيهُ وَالكَيْفِيَّةُ مُفْتَرِقَةٌ، كَمَا يُقَالُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الجَنَّةِ إِلَّا الأَسْمَاءَ، يَعْنِي فِي الشَّبَهِ وَالطَّعْمِ وَالذَّوْقِ، وَالمَنْظَرِ، وَاللَّوْنِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالله أَبْعَدُ مِنَ الشَّبَهِ وَأَبْعَدُ. فَإِنْ كُنَّا مُشَبِّهَةً عِنْدَكَ؛ أَنْ وَحَّدْنَا اللهَ إِلَهًا وَاحِدًا بِصِفَاتٍ أَخَذْنَاهَا عَنْهُ وَعَنْ كِتَابِهِ فَوَصَفْنَاهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، فَالله فِي دَعْوَاكُمْ أَوَّلُ المُشَبِّهِينَ بِنَفسِهِ ثمَّ رَسُولُ اللهِ الَّذِي أَنْبَأَنَا ذَلِكَ عَنْهُ. فَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تُكَابِرُوا العِلْمَ، إِذْ جَهِلْتُمُوهُ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ مِنَ التَّشْبِيه بعيدَة. ¬

(¬1) هنا في الأصل لحق وكتب في الحاشية «ومن» ولا أرى لها مناسبة في السياق.

وَأَمَّا مَا ادَّعَيْتَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58] أَنَّهُ إِنَّمَا عَنَى: عَالِمًا بِالأَصْوَاتِ عَالمًا بِالْأَلوانِ، لَا يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَلَا يُبْصِرُ بِبَصَرٍ، ثُمَّ قُلْتَ: وَلم يجِئ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، ويُبْصِرُ بِبَصَرٍ، ولكنكم قَضَيْتُمْ عَلَى الله بِالمَعْنَى الَّذِي وَجَدْتُمُوهُ فِي أَنْفُسِكُمْ. فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ: أَمَّا دَعْوَاكَ عَلَيْنَا أَنَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالمَعْنَى الَّذِي وَجَدْنَاهُ فِي أَنْفُسِنَا، فَهَذَا لَا يَقْضِي بِهِ إِلَّا مَنْ هُوَ ضَالٌّ مِثْلُكَ. غَيْرَ أَنَّ الله -تَبَارَكَ اسْمُهُ- أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ [15/و] يَسْمَعُ بِسَمْعٍ وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، وَاتَّصَلَتْ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ أَخْبَارٌ مُتَّصِلَةٌ، فَإِنْ حَرَمَكَ اللهُ مَعْرِفَتَهَا فَمَا ذَنْبُنَا؟! قَالَ الله تَعَالَى لِمُوسَى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39]، وَقَالَ: {وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13 - 14]، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، ثمَّ ذكر رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدَّجَّالَ فَقَالَ: «إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»، وَالعَوَرُ عِنْدَ النَّاسِ ضِدُّ البَصَرِ، وَالأَعْوَرُ عِنْدَهُمْ ضِدُّ البَصِيرِ بِالعَيْنَيْنِ. وَرَوَيْتَ أَنْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَجًّا لِمَذْهَبِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ أَصْحَابَهُ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا»، فَالصَّمَمُ ضِدُّ السَّمْعِ الَّذِي هُوَ السَّمْعُ عِنْدَ النَّاسِ. وَهَذَا مِمَّا رَوَيْتَهُ وَثَبَتَّهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَحِيحًا فِي بَعْضِ دَعْوَاكَ بِهِ. فَفِيمَا ذَكَرْنَا عَنِ الله وَعَنْ رَسُولِهِ بَيَانٌ أَنَّ السَّمْعَ غَيْرُ البَصَرِ، وَأَنَّ البَصَرَ غَيْرُ السَّمْعِ، وَأَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، غَيْرَ مُكَيَّفٍ وَلَا مُمَثَّلٍ. وَمِمَّا يَزِيدُكَ بَيَانًا: قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ، خَلِيلِ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- حِينَ قَالَ لِأَبِيهِ {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42]، يَعْنِي إِبْرَاهِيمُ أَنَّ إِلَهَهُ بِخِلَافِ الصَّنَمِ، يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا أَوَّلْتَ أَيُّهَا

المَرِيسِيُّ لَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لِإِبْرَاهِيمَ: فَإِلَهُكَ أَيْضًا لَا يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَلَا يُبْصِرُ بِبَصَرٍ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَصْنَامِ العَرَبِ: {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، يَعْنِي: أَنَّ اللهَ بِخِلَافِهِمْ، لَهُ يَدٌ يَبْطشُ بهَا، وَعَيْنٌ يُبْصِرُ بِهَا، وَسَمْعٌ يَسْمَعُ بِهِ. وَادَّعَيْتَ أَيْضًا أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الله يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، فَقَدِ ادَّعَيْنَا أَنَّ بَعْضَهُ عَاجِزٌ، وَبَعضَهُ قَوِيٌّ، وَبَعْضَهُ تَامٌّ، وبَضْعَهُ نَاقِصٌ، وَبَعْضَهُ مُضْطَرٌّ، فَإِنْ قُلْتُمْ: هُوَ ... أَيُّهَا المَرِيسِيُّ! لَا يَجُوزُ هَذَا القِيَاسُ فِي صِفَةِ كَلْبٍ مِنَ الكِلَابِ؟ فَكَيْفَ فِي صِفَةِ رَبِّ العَالَمِينَ؟ بَلْ حَرَامٌ عَلَى السَّائِلِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَحَرَامٌ عَلَى المُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ فِيهِ وَالعَجَبُ مِنْ قَائِلِهِ، كَيْفَ لَمْ يَخْسِفِ الله بِهِ؟ غَيْرَ أَنَّ الله حَلِيمٌ ذُو أَنَاةٍ، وحَلِمَ عَمَّن قَالَ: {اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، وَعَمَّنْ قَالَ: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116]، وَعَمَّنْ قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24] وَمَنْ قَالَ: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وَكَذِلَكَ حَلِمَ عَنْ هَذَا المَرِيسِيِّ، إِذْ لَمْ يَخْسِفْ بِهِ وَلَمْ يُعْجِزْهُ هَرَبًا. وَيْلَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ! إِنَّا لَا نَدَّعِي فِيهِ هَذِهِ الخُرَافَاتِ الَّتِي احْتَجَجْتَ بِهَا مِمَّا لَيْسَ لِمِثْلِهَا جَوَابٌ، وَنُجِلُّهُ أَنْ نَلْفظَ فِي صِفَاتِهِ بِهَذِهِ الخُرَافَاتِ، غَيْرَ أَنَّا سَمِعْنَاهُ يَقُولُ: إِنَّهُ {سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75] و {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه: 46]، فَفَرَّقَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالبَصَرِ، فَأَخَذْنَا عنَ اللهِ، وَرَدَدْنَا عَلَيْكَ جَهْلَكَ وَخُرَافَاتِكَ. أَوَ لَمْ تَقُلْ أَيُهَّا المَرِيسِيُّ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي صِفَاتِ الله بِمَا يَعْرِفُ

مَعْنَاهُ فِي نَفْسِهِ، فَكَيْفَ نَسَبْتَ اللهَ إِلَى العَجْزِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ عَلَى المَعْنَى الَّذِي تَعْرِفُهُ مِنْ نَفْسِكَ؟ ثُمَّ قُلْتَ: فَكَمَا أَنَّكَ بِأَحَدِهِمَا مُضْطَرٌّ إِلَى الآخَرِ كَذَلِكَ الله -فِيمَا، [15/ظ] ادَّعَيْتَ عَلَيْنَا- مُضْطَرٌّ إِلَى الآخَرِ فَشَبَّهْتَ الله فِي مَذْهَبِكَ بِالإِنْسَانِ المُجَدَّع المَنْقُوص. أَو لم تَسْمَعْ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ قَوْلَ الله تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وَكَمَا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَيْسَ كَسَمْعِهِ سَمْعٌ، وَلَا كَبَصَرِهِ بَصَرٌ، وَلَا لَهُمَا عِنْدَ الخَلْقِ قِيَاسٌ، وَلَا مِثَالٌ، وَلَا شَبِيهٌ، فَكَيْفَ تَقِيسُهُمَا أَنْتَ بِشَبَهِ مَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ، وَقَدْ عِبْتَه عَلَى غَيْرك؟ وَأَمَّا دَعْوَاكَ أَنَّ قَوْلَهُ: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} [الحج: 75]: أَنَّهُ يُدْرِكُ الأَصْوَاتَ، وَيَعْلَمُ الألوان. فَقَدْ فَهِمْنَا بِحَمْدِ الله مَعْنَى كُفْرِ مَا تَقْصِدُهُ بِهِ إِلَيْهِ. فَلَا يَجُوزُ لَكَ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ أُغْلُوطَةٌ -إِنْ شَاءَ الله-: يَعْنِي أَنَّ إِلَهَكَ مُهْملٌ شَبَحٌ هَوَاءٌ قَائِمٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ لَا يُوصَفُ بِسَمْعٍ، وَلَا بَصَرٍ، وَلَا عِلْمٍ, وَلَا كَلَامٍ، وَلَا وَجْهٍ، وَلَا يَدٍ وَلَا نَفْسٍ، وَلَا حَدٍّ، فَالسَّمْعُ عِنْدَكَ مِنْهُ بَصَرٌ، وَالبَصَرُ مِنْهُ سَمْعٌ، وَالوَجْهُ ظَهْرٌ، وَالأَعْلَى مِنْهُ أَسْفَلُ، وَالأَسْفَلُ مِنْهُ أَعْلَى، يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ -بِزَعْمِكَ- أَنَّهُ يَبْلُغُهُ الصَّوْتُ وَلَا يَفْهَمُهُ؛ كَمَا يَبْلُغُ الجِبَالَ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا أَسْمَاعٌ وَلَا تَفْقَهُهُ، وَيَعْرِفُ الألوان بِالتَّرَائِي وَالمُشَاهَدَةِ، لَا أَنَّ لَهُ سَمْعًا يَسْمَعُ بِهِ فَيَفْقَهُهُ، وَلَا لَهُ بَصَرٌ يُبْصِرُ بِهِ فَيَرَاهُ وَيَعْرِفُهُ، كَمَا يُقَالُ لِلدُّورِ وَالقُصُورِ: يَرَى بَعْضُهَا بَعْضًا، أَيْ يَتَرَائَيا وَلَيْسَتْ لَهَا أَبْصَارٌ، وَالجِبَالُ: يَنْظُرُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِلَا بَصَرٍ، فَكَمَا يُقَال: «ذهب فُلَانٌ بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وَبَصَرِهَا» مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْأَرْضِ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ، هُوَ السَّمْعُ وَالبَصَرُ، فَوَصَفْتَ رَبَّكَ بِمَا وَصَفَ الله بِهِ الأَصْنَامَ، مَا تَقُولُ؟! {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)} [الأعراف: 198]، كَمَا قَالَ لِلَّذِينَ

يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14] وَلَوْ كَانَ مَعْنَى السَّمْعِ وَالبَصَرِ: إِدْرَاكَ الأَصْوَاتِ وَتَرَائِيَ الأَجْسَامِ لَكَانَ ذَلِكَ يُدْرِكُ الأَصْنَامَ كَمَا يُدْرِكُ اللهَ -فِي دَعْوَاكُمْ-، وَلَكِن مَا وَصَفْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ صِفَةُ الأَصْنَامِ لَا صِفَةُ الله تعالى, فَإِلَى مثل هَذَا المَعْنَى تَقْصِدُ فِي سَمْعِ الله وَبَصَرِهِ، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ مِنْ بَعْضِ خُطَبَائِكُمْ يُغَالِطُ بِمِثْلِ هَذِهِ الحُجَجِ أَنْبَاطَ كُوثَى، أَوْ أَبْطَاطَا، أَوْ يَهُودَ الحِيرَةِ؛ أهلَ مِلَّة أَبِيك، وجِيرَانَه. (55) فَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا هِشَامٍ الرِّفَاعِيَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا نُعَيْمٍ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى أَبَاكَ يَهُودِيًّا صَابِغًا بِالحِيرَةِ (¬1). وَأَمَّا دَعْوَاكَ: أَنَّ مَنْ وَصَفَ اللهَ بِالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ السَّمْعُ، وَالبَصَرُ الَّذِي هُوَ البَصَر، ومَيَّزَ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى العَجْزِ، فَمَا ظَنَنَّا أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّهُ يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَنَّ العَاجِز الضَّعِيف المُضْطَر المُحْتَاج الَّذِي لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ حَتَّى ادَّعَيْتَ أَنْتَ عَلَى جَهْلٍ مِنْكَ، وَمَا يَدْعُوكَ إِلَى ذِكْرِ العَاجْزِ (¬2) وَالقُوَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ خُرَافَاتِكَ؟ صِفْهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؛ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، إِنَّهُ القَوِيُّ المَتِينُ الغَنِيُّ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَجَمِيعِ الذَّوَاتِ وَعَلَى كُلِّ الحَالَاتِ، وَهُوَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، المُتَعَالِي عَمَّا نَسَبْتَهُ إِلَيْهِ، قَاتَلَكَ الله! مَا أَكْفَرَكَ! وَلَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ بِكُفْرِكَ قَدِيمًا، [16/و] وَحُكِيَ لِي بَعْضُهُ عَنْكَ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَعْتَقِدُ مِنْ أَنْوَاعِ الكُفْرِ كُلَّمَا رَوَى عَنْكَ المُعَارِضُ. ¬

(¬1) قال الإمام في مسائله رواية أبي داود السجستاني (ص: 362) ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا النَّضْرِ هَاشِمَ بْنَ الْقَاسِمِ، يَقُولُ: «كَانَ أَبُو بِشْرٍ الْمَرِيسِيُّ يَهُودِيًّا قَصَّارًا أَوْ صَبَّاغًا فِي سُوَيْقَةِ ابْنِ نَضْرِ بْنِ مَالِكٍ». (¬2) كذا، وفي «س»، ونسختين على «ع»: العجز.

قُلْنَا وَمَا إِخَالُه يَعْقِلُ معَاني كَلَامِكَ، وَمَا يُؤَدِّيكَ إِلَى صَرِيحِ الكُفْرِ فَإِنْ هُوَ عَقِلَهُ وَاعْتَقَدَهُ فَهُوَ مِثْلُكَ، إِذْ يَعْتَقِدُهُ ثُمَّ يَبُثُّهُ وَيَنْشُرُهُ لِلْعَوَامِّ، إِذْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ تَجْتَرِئُ أَنْ تَنْشُرَهُ فِي بَلَدِكَ لِلْأَنَامِ إِلَّا مُنَاجَاةً بَيْنك وَبَين جَهَلَةٍ طِغَامٍ. وَأَمَّا مَا ادَّعَيْتَ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ الله يَسْمَعُ بِسَمْعٍ وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ. فَسَنَرْوِي لَكَ فِيهِ مَا قَدْ غَضِبْتَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ الله. (56) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بن سَلمَة، عَن عُرْوَة قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: «الحَمْدُ لله الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ كُلَّهَا، إِنَّ خَوْلَةَ جَاءَتْ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَيَخْفَى عَلَيَّ أَحْيَانًا بَعْضُ مَا تَقُولُ. فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]» (¬1). (57) وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ المَدَنِيَّ قَالَ: «لَقِيَتِ امْرَأَةٌ عُمَرَ يُقَالُ لَهَا خَوْلَة ابنة ثَعْلَبَة، فَقَالَ عُمَرُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ سَمِعَ الله شَكْوَاهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، علقه البخاري في الصحيح (9/ 144)، عن الأعمش، وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (731)، وعنه النسائي (3460)، عن جرير، به. وأخرجه ابن ماجه (188)، وأحمد (24195)، والطبري في التفسير (22/ 454)، وغيرهم من طريق أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، به. (¬2) أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (31) بأتم من هذا، وابن أبي حاتم في التفسير (18841) عن شيخ المصنف، والبيهقي في الأسماء والصفات (894)، من طريق يزيد بن هارون، كلاهما عن جرير بن حازم به. قال الذهبي في العلو (169): «هذا إسناد صالح فيه انقطاع؛ أبو يزيد لم يلحق عمر». ... قلت: وللأثر طريق أخرى أخرجها البخاري في التاريخ (7/ 245)، قال: قال محمد بن العلاء: نا أبو أسامة قال: نا عبد الله بن كهف القشيري قال: نا أبِي، عن ثمامة بن حزن = ... = قال: فذكر عن عمر نحوه، وهذا إسناد رجاله ثقات، غير عبد الله بن كهف، وأبيه لم أجد أحدًا من أهل العلم تكلم فيهما بجرح أو تعديل وقد ذكرهما ابن حبان في الثقات. وثمة طريق أخرى أخرجها عمر بن شبة في أخبار المدينة (760)، من طريق خليد بن دعلج عن قتادة عن عمر، وخليد ضعيف، وقتادة لم يسمع من عمر. وثالثة أخرجها اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (3/ 455)، من طريق الحسن البصري، عن الأحنف بن قيس قال: كنت عند عمر، فذكر نحوه. وإسناده إلى الحسن في ضعف شديد. قلت: فالأثر بجموع هذه الطرق محتمل للتحسين والله أعلم.

(58) حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، ثَنَا أبو عَبْدِ الرَّحْمَن المُقْرِي، ثَنَا حَرْمَلَةُ بنُ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «قَرَأَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58] (¬1) فَوضَعَ أُصْبُعَه الدَّعَّاء عَلَى عَيْنَيْهِ، وإِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ» (¬2). (59) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارك، أبنا خَالِدٌ الحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزَاةٍ فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شُرُفًا وَلَا نَهْبِطُ فِي وَادي إِلَّا رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ، فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» (¬3). ¬

(¬1) في الأصل «إنه كان سميعًا بصيرًا» وهو خطأ. (¬2) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه أبو داود (2728)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (396)، عن نصر بن علي، ومحمد بن يونس النسائي، وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 97)، وعنه ابن حبان (265)، عن محمد بن يحيى الذهلي، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (3/ 987)، عن يحيى بن عبدك، وأخرجه الحاكم (2/ 257)، من طريق أبو يحيى بن أبي مسرة، كلهم عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، به. (¬3) صحيح، رجاله ثقات سوى نعيم بن حماد فيه كلام معروف، لكنه توبع، تابعه محمد بن= ... = مقاتل كما أخرجه البخاري (6610)، وتابعه سويد بن نصر كما عند النسائي في الكبرى (7634). وأخرجه البخاري أيضا (2992، 4205)، ومسلم (2704)، وأحمد (19520)، من طريق عاصم الأحول. وأخرجه البخاري (6384)، من طريق أيوب السختياني. وأخرجه أبو داود (1527)، من طريق سليمان التيمي. ثلاثتهم، وغيرهم عن أبي عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل، به.

أَفَلَا تَرَى أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ الأَصَمَّ وَالسَّمِيعَ وَهُمَا مُتَضَادَّانِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الله سَمِيعٌ بِخِلَافِ الأَصَمِّ. (60) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ، أَبَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «إِنِّي لَمُسْتَتِرٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ إِذْ جَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: ثَقَفِيٌّ وَخَتَنَاهُ قُرَشِيَّانِ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَتَحَدَّثُوا الحَدِيثَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَى الله يَسْمَعُ مَا قُلْنَاهُ؟ فَقَالَ أحدهما: يَسْمَعُ إِذَا رَفَعْنَا، ولا يَسْمَعُ إِذَا خَفَضْنَا. فقال الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا رَفَعْنَا إِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا خَفَضْنَا. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 22 - 23]» (¬1). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم (2775)، من طريق الثوري، به. وأخرجه الترمذي (3249)، عن هناد، وأحمد (3614)، كلاهما عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، به. وأخرجه أحمد (3874)، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود، به. وأخرجه الحميدي (87)، وعنه البخاري (4817، 7521)، ومسلم (2775)، والترمذي (3248)، من طريق سفيان بن عيينة، عن منصور عن مجاهد عن أبي معمر الكوفي عبد الله بن سخبرة، عن ابن مسعود، به. هذا وقد اختلف على الأعمش في هذا الحديث كما ترى. وينظر العلل لابن أبي حاتم (1791)، والعلل للدارقطني (5/ 278 - 280).

(61) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ المِصْرِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ دَرَّاجٍ، [16/ظ] قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ الأَكْبَر، عَنْ أبي هُرَيْرَة أَو أَحدهمَا، عَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمٌ حَارٌّ، أَلْقَى اللهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، مَا أَشَدَّ حَرَّ هَذَا اليَوْمِ، الَّلهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ، قَالَ اللهُ لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِيَ اسْتَجَارَنِي مِنْ حَرِّكِ، فَإِنِّي أُشْهِدُكِ فَقَدْ أَجَرْتُهُ مِنْكِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمٌ شَدِيدُ البَرْدِ أَلْقَى اللهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، مَا أَشَدَّ بَرْدَ هَذَا اليَوْمِ، الَّلهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ زَمْهَرِير جَهَنَّمَ، قَالَ اللهُ لِجَهَنَّمَ: إِنَّ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِيَ اسْتَجَارَنِي مِنْ زَمْهَرِيركِ، وَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، قَالُوا: وَمَا زَمْهَرِيرُ جَهَنَّمَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: بَيْتٌ يُلْقَى فِيهِ الكُفَّارُ، يَتَمَيَّزُ مِنْ شِدَّةِ بَرْدِهِ بَعْضُهُ مِنْ بَعْض» (¬1). (62) قُلْتُ لِأَبِي اليَمَانِ: أَخْبَرَكَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: قَالَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: قَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّاس، فَأثْنى على الله بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: «إِنِّي سَأَقُولُ لَكُمْ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُنَّ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ الله لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (¬2). ¬

(¬1) منكر، أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (393)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (307)، من طريق أبي صالح، به. ودراج أبو السمح في حديثه عن أبي الهيثم ضعف كما ذكر الإمام أحمد وغيره، وقال أحمد: منكر وكذلك قال النسائي، وقال الدارقطني متروك، والذين من دونه في الإسناد لا يخلون من مقال. (¬2) صحيح، أخرجه البخاري (3337)، ومسلم (169)، من طريق يونس بن يزيد= ... = وأخرجه البخاري (7127)، من طريق صالح بن كيسان، وأخرجه الترمذي (2235)، من طريق معمر، ثلاثتهم (يونس وصالح ومعمر)، عن الزهري، به.

فَأَخْبَرَنِي أَبُو اليَمَانِ، أَنَّ شُعَيْبًا أَخْبَرَهُ بِهِ. فَفِي تَأْوِيل قول رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله لَيْسَ بِأَعْوَرَ» بَيَانٌ أَنَّهُ بَصِيرٌ ذُو عَيْنَيْنِ خلاف الأَعْوَر. (63) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله، أَنَّ الدَّجَّالَ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا إِنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ اليُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبةٌ طَافِيَةٌ» (¬1). (64) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: «أَعْوَرٌ جَعْدٌ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» (¬2). (65) حَدثنَا عَليُّ بْنُ الجَعْد، أَبَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَول اللهِ: {المر} [الرعد: 1]، قَالَ: «أَنا الله أرى» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (7407)، عن موسى بن إسماعيل، به. (¬2) صحيح لغيره، ورواية سماك عن عكرمة وإن كان فيها اضطراب كما ذكر ذلك شعبة نفسه، إلا أنه قد توبع؛ فقد تابعه قتادة، فأخرجه الطبراني في الكبير (11843)، من طريق شيبان النحوي، وفي الأوسط (1648)، من طريق عفير بن معدان وأحمد (2148)، من طريق شعبة، ثلاثتهم عن قتادة، عن عكرمة، بنحوه. (¬3) ضعيف، عطاء بن السائب مختلط، وقد اختلف عليه فيه، فأخرجه الطبري في التفسير (13/ 406)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1074)، من طريق شريك هو ابن أبي نمر عنه عن أبي الضحى، عن ابن عباس، به. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2215). من طريق شريك، عنه، عن أبي أسيد العجمي، عن ابن عباس، به. وأخرجه الطبري في التفسير (13/ 405) من طريق هشيم بن بشير، عنه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به.

(66) حَدَّثَنَا الزَّهْرَانِيُّ أَبُو الرَّبِيعِ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ المَدَنِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ -وَهُوَ المَقْبُرِيُّ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، حَتَّى نُوحٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْهُ بِشَيْءٍ مَا أَخْبَرَ بِهِ نَبِيٌّ كَانَ قَبْلِي، إِنَّه كَانَ أَعْوَر، وَإِنَّ اللهَ لَيْسَ كَذَلِكَ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَأُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ» (¬1). (67) حَدَّثَنَا القَعْنَبِيُّ -فِيمَا قَرَأَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ- عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ الله بْنِ دِينَارٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إزَاره خُيَلَاء» (¬2). (68) حَدَّثَنَا القَعْنَبِيُّ -فِيمَا قَرَأَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ- عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ¬

(¬1) صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف، سعيد هو ابن أبي سعيد المقبري، وإن كان ثقة في نفسه إلا أنه اختلط قبل موته بأربع سنين، لكن قال الذهبي في ترجمته من السير (5/ 217): «ما أحسبه روى شيئا في مدة اختلاطه، وكذلك لا يوجد له شيء منكر». قلت: فإن سلمنا منه بقي لنا الراوي عنه أبو معشر المدني، واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي، ضعفه ابن معين وقال البخاري: منكر، وتكلم فيه غيرهما وقال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه. قلت: وللحديث طريق أخرى عن أبي هريرة، فقد أخرجه البخاري (3338)، ومسلم (2936)، وابن أبي شيبة (38478)، وغيرهم من طريق شيبان النحوي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، فذكر نحوه. (¬2) صحيح، أخرجه البخاري (5783)، عن إسماعيل بن أبي أويس، ومسلم (2085)، عن يحيى بن يحيى النيسابوري، والترمذي (1730)، عن معن بن عيسى، وقتيبة بن سعيد، وعبد الله بن أحمد في السنة (1239)، من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي، كلهم عن مالك، به. والحديث في الموطإ (1665 - برواية يحيى الليثي)، و (1912 - برواية أبي مصعب الزهري).

«جَرَّ، [17/و] إِزَارَهُ بَطَرًا» (¬1). (69) حَدَّثَنَا القَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ العَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مثله (¬2). (70) حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، ثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ أَبُو الجَلِيلِ قَالَ: سَمِعْتُ عُبَيْدَةَ الهُجَيْمِيَّ، يُحِدِّثُ عَنْ أبي جُرَيٍ جَابِر قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَبِسَ بُرْدَيْنِ لَهُ، فَتَبَخْتَرَ فِيهِمَا، فَنَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ فَمَقَتَهُ، فَأَمَرَ الأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ بَيْنَ الأَرْضِينَ، فَاحْذَرُوا وَقَائِعَ اللهِ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه البخاري (5788)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1238)، كلاهما من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي، عن مالك، به. وهو في الموطإ (1664 - برواية يحيى الليثي)،. وقد أخرجه مسلم وغيره من غير طريق الأعرج. (¬2) حسن، أخرجه مالك في الموطإ (1666 - برواية يحيى الليثي)، وابن ماجه (3573)، وغيره من طريق سفيان بن عيينة، وأبو داود (4093)، وأحمد (11010)، والطيالسي (2342)، وغيرهم من طريق شعبة، ثلاثتهم، عن العلاء بن عبد الرحمن، به. والعلاء فيه كلام لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن، لاسيما وقد توبع، تابعه عطية بن سعد العوفي كما أخرجه ابن ماجه (3570)، من طريق الأعمش، وأخرجه أحمد (11352)، من طريق فراس بن يحيى، كلاهما عن عطية عن أبي سعيد، به. وعطية وإن كان ضعيفا لكنه يعتبر بحديثه في الشواهد والمتابعات، فقد قال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه، وكذلك قال ابن عدي: وهو مع ضعفه يكتب حديثه. (¬3) أخرجه أبو مسلم الكشي كما في العلو للذهبي (1/ 41)، ومن طريقه قوام السنة الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (71)، وابن قدامة المقدسي في إثبات صفة العلو (ص 104)، عن سهل بن بكار، به. وإسناده ضعيف؛ لجهالة عبيدة الهجيمي، وأبو الجليل هو عبد السلام بن عجلان ذكره الذهبي في الميزان وقال: قال أبو حاتم يكتب حديثه، وتوقف غيره في الاحتجاج به. وقال الذهبي أيضا في العلو: إسناده لين.

فَهَاكَ خُذْهَا أَيُّهَا المَرِيسِيُّ، قَدْ جِئْنَاكَ بِهَا، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَأْثُورَةً صَحِيحَةً، بَعْدَمَا ادَّعَيْتَ بِجَهْلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِيهِ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ. وَمَا تَصْنَعُ فِيهِ بِأَثَرٍ بَعْدَ قَوْلِ الله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء: 58]؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، إِلَّا لِمَنْ هُوَ مِنْ ذَوِي الأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي مَجَازِ الكَلَامِ: الجِبَالُ وَالقُصُورُ تَتَرَاءَى، وَتَسْمَعُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا يُقَابِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَبْلُغُهَا الأَصْوَاتُ وَلَا تَفْقَه، وَلَا يُقَال: جَبَلٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وَقَصْرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؛ لِأَنَّه سَمِيعٌ. مُسْتَحِيلٌ ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ يَسْمَعُ بِسَمْعٍ، وَيُبْصِرُ بِبَصَرٍ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَصْحَابُ المَرِيسِيِّ مَا قُلْنَا فَلْيُسَمُّوا شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوِي الأَسْمَاعِ وَالأَبْصَارِ، أَجَازَتِ العَرَبُ أَنْ يَقُولُوا: هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِشَيْءٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ. * * *

وَادَّعَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وَفِي قَوْلِهِ: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]. فَادَّعَيْتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْهُ بِإِتْيَانٍ؛ لِما أَنَّهُ غَيْرُ مُتَحَرِكٍّ عنْدك، وَلَكِنْ يَأْتِي بالقِيَامَةِ (¬1) بِزَعْمِكَ، وَقَوْلُهُ: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، يَأْتِي اللهُ بِأَمْرِهِ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ (¬2)، وَلَا يَأْتِي هُوَ بِنَفْسِهِ. ثُمَّ زَعَمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قَوْلِهِ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]، وَ {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]. فيُقَالُ لِهَذَا المَرِيسِيُّ: قَاتَلَكَ اللهُ! مَا أَجْرَأَكَ عَلَى اللهِ وَعَلَى كِتَابِهِ بِلَا عِلْمٍ وَلَا بَصَرٍ! أَنْبَأَكَ الله أَنَّهُ إِتْيَانٌ، وَتَقُولُ لَيْسَ إتيانا، إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]. لقد مَيَّزْتَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللهُ، وَجَمَعْتَ بَيْنَ مَا مَيَّزَ اللهُ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ هذَيْن في التَّأْوِيلِ إِلَّا كُلُّ جَاهِلٍ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ تأويلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْرُونٌ بِهِ فِي سِيَاقِ القِرَاءَةِ، لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا مِثْلُكَ. وَقَدِ اتَّفَقَتِ الكَلِمَةُ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنَّ الله تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ لِعُقُوبَةِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَشُكُّوا أَنَّهُ يَنْزِلُ يَوْم القِيَامَة ليفصل بَيْنَ عِبَادِهِ، وَيُحَاسِبَهُمْ وَيُثِيبَهُمْ، وَتَشَّقَقُ السَّمَاوَاتُ يَوْمَئِذٍ لِنُزُولِهِ، ¬

(¬1) قوله: «يأتي بالقيامة» في الأصل «يأتي يوم القيامة» والمثبت من درء تعارض العقل والنقل (2/ 67)، و «س». (¬2) قوله: «يأتي الله بأمره في ظلل من الغمام» سقطت من الأصل وأثبته من درء تعارض العقل والنقل (2/ 67)، و «س».

وَتُنَزَّلُ المَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يومئذ ثَمَانِيَةٌ، كَمَا قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَشُك المُسْلِمُونَ أَنَّ الله لَا يَنْزِلُ إِلَى الأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ لِشَيْءٍ مِنْ [17/ظ]، أُمُور الدُّنْيَا، عَلِمُوا يَقِينًا أن مَا يَأْتِي النَّاسَ مِنَ العُقُوبَاتِ إِنَّمَا هُوَ أَمْرُهُ وَعَذَابُهُ فَقَوْلُهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]، يَعْنِي مَكْرَهُ مِنْ قِبَلِ قَوَاعِدِ (¬1) بُنْيَانِهِمْ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، فَتَفْسِيرُ هَذَا الإِتْيَانِ خُرُورُ السَّقْفِ عليهم مِنْ فَوْقِهِمْ. وَقَوْلُهُ {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]: مَكَرَ بِهِمْ، فَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤمنِينَ، وهم بَنو قُرَيْظَة (¬2). فَتَفْسِيرُ الإِتْيَانِ مَقْرُونٌ بِهِمَا؛ خُرُورُ السَّقْفِ، وَالرُّعْبُ، وَتَفْسِيرُ إِتْيَانِ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْصُوصٌ فِي الكِتَابِ مُفَسَّرٌ. قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 13 - 18] إِلَى قَوْلِهِ: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} [الحاقة: 29]، فَقَدْ فَسَّرَ الله تَعَالَى المَعْنَيَيْنِ تَفْسِيرًا لَا لَبْسَ فِيهِ، وَلَا يُشْتَبَهُ عَلَى ذِي عَقْلٍ، فَقَالَ فِيمَا يُصِيبُ بِهِ مِنَ العُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24]، فحين قَالَ: {أَتَاهَا أَمْرُنَا} عَلِمَ أَهْلُ ¬

(¬1) في الأصل «القواعد» ثم ضرب على الألف واللام فتصير كما أثبتناه. (¬2) كذا في الأصل، والصواب بنو النضير كما هو مشهور، وينظر درء التعارض (2/ 68)، وراجع أيضا تفسير الطبري (23/ 263).

العِلْمِ أَنَّ أَمْرَهُ يَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ مِنَ السَّمَاءِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، فَلَمَّا قَالَ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} الآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَقَالَ أَيْضًا: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} [الفرقان: 25]،و {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} [البقرة: 210]، وَ {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 21 - 22]، عَلِمَ بِمَا قَصَّ الله مِنَ الدَّلِيلِ، وَبِمَا حَدَّ لِنُزُولِ المَلَائِكَةِ يَوْمَئِذٍ، أَنَّ هَذَا إِتْيَانُ اللهِ بِنَفْسِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَلِيَ مُحَاسَبَةَ خَلْقِهِ بِنَفْسِهِ، لَا يَلِي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وأَنَّ مَعْنَاهُ مُخَالِفٌ لِمَعْنَى إِتْيَانِ القَوَاعِدِ، لاخْتِلَافِ القَضِيَّتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّهُ قَالَ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]، وَلَمْ يَذْكُرْ عِنْدَهَا نَفْخَ الصُّورِ، وَلَا تَشَقُّقَ السَّمَاءِ، وَلَا تَنَزُّلَ المَلَائِكَةِ، وَلَا حَمْلَ العَرْشِ، وَلَا يَوْمَ العَرْضِ. وَلَكِنْ قَالَ: خَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} [النحل: 26]، فَرَدَّ الإِتْيَانَ إِلَى العَذَابِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ المَعْنَيَيْنِ مَا قُرِنَ بِهِمَا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالتَّفْسِيرِ. وَإِنَّمَا يَصْرِفُ كُلَّ مَعْنَى إِلَى معْنَى الَّذِي يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُهُ فِي سِيَاقِ القَوْلِ، إِلَّا أَنْ يَجِدَ الشَّيْءَ اليَسِيرَ فِي الفَرْطِ يَجُوزُ فِي المَجَازِ بِأَقَلِّ المَعَانِي وَأَبْعَدِهَا عَنِ العُقُولِ، فَيَعْمِدُ إِلَى أَكثر مَعَاني الأَشْيَاء وَأَغْلَبِهَا فَيَصْرِفُ المَشْهُورَاتِ مِنْهَا إِلَى المَغْمُورَاتِ المُسْتَحَالَاتِ؛ يُغَالِطُ بِهَا الجُهَّالَ، وَيُرَوِّجُ عَلَيْهِمْ بِهِ الضَّلَالَ. فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا مِنْهُ عَلَى الظِّنَّةِ وَالرِّيبَةِ، وَمُخَالَفَةِ العَامَّةِ. وَالقُرْآنُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، تُصْرَفُ مَعَانِيهِ إِلَى أَشْهَرِ مَا تَعْرِفُهُ العَرَبُ فِي لُغَاتِهَا، وَأَعَمِّهَا عِنْدَهُمْ. فَإِنْ تَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ مِثْلُكَ، جَاهِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْهُ خُصُوصًا، أَوْ صَرَفَهُ إِلَى

مَعْنًى [18/و]، بَعِيدٍ عَنِ العُمُومِ بِلَا أَثَرٍ، فَعَلَيْهِ البَيِّنَةُ عَلَى دَعْوَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى العُمُومِ أَبَدًا، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى. وَقَدْ كَفَانَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ تَفْسِيرَ هَذَا الإِتْيَانِ، حَتَّى لَا نحْتَاج لَهُ مِنْكَ إِلَى تَفْسِيرٍ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ أَثَرٌ؛ لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى تَفْسِيرِكَ؛ لما أَنَّكَ فِيهِ ظنِينٌ غَيْرُ أَمِينٍ. (71) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يعَبْدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ قَالَ: فَيَقُولُ المُؤْمِنُونَ: هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا. فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ الله، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبنَا فيتبعونه» (¬1). (72) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي هَذِهِ الآيَةِ: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)} [الفرقان: 25]. قَالَ: «يَنْزِلُ أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ وَمِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ، فَيَقُولُ أَهْلُ الأَرْضِ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا، وَسَيَأْتِي. ثُمَّ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ -وَسَاقه إِلَى السَّمَاء السَّابِعَةِ قَالَ:- فَيَقُولُونَ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَسَيَأْتِي، ثُمَّ يَأْتِي الرُّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الكُرُوبِيِّينَ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (806، 6537)، ومسلم (182)، وأحمد (7717)، وابن حبان (7429)، وأبو يعلى (6360)، والمصنف في الرد على الجهمية (69)، وغيرهم، من طريق الزهري، عن عطاء الليثي، به. (¬2) ضعيف، أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 569)، والطبري في التفسير (19/ 261)، وابن أبي حاتم في التفسير (8/ 2682)، والمصنف في الرد على الجهمية (73)، جميعًا من طريق= = علي بن زيد بن جدعان، وقد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. وشيخه يوسف بن مهران: لينه الحافظ.

(73) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ المِصْرِيُّ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ:- وَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] «قَالَ: يُبَدِّلُهَا اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَرْضٍ مِنْ فِضَّةٍ لَمْ تُعْمَلْ عَلَيْهَا الخَطَايَا، يَنْزِلُ عَلَيْهَا الجَبَّارُ» (¬1). (74) وحَدثنَا أَحْمدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي المِنْهَالِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ مُدَّتِ الأَرْضُ مَدَّ الأَدِيمِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قُبِضَتْ هَذِهِ السَّمَاءُ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِهَا فَنُثِرُوا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَإِذَا أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ, فَإِذَا رَآهُمْ أَهْلُ الأَرْضِ فَزِعُوا، وَقَالُوا: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَيْسَ فِينَا وَهُوَ آتٍ. قَالَ: ثُمَّ يقبض السَّمَاء الثَّانِيَةِ -وَسَاقَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ- قَالَ: فَلَأَهْلُ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَحْدَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ سِتِّ سَمَاوَاتٍ، وَمِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ بِالضِّعْفِ، قَالَ: وَيَجِيءُ الله تَعَالَى فِيهِمْ، وَالأُمَمُ جُثًا صُفُوفٌ قَالَ: فَيُنَادِي مُنَادٍ: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ» (¬2). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الطبري في التفسير (17/ 47)، من طريق أبي صالح، به، وهذا إسناد ضعيف، فيه ابن لهيعة، وهو في نفسه ضعيف وإن روى عنه القدماء مثل ابن وهب، وابن المبارك، قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 147): «سُئِل أبو زرعة عن ابن لهيعة، سماع القدماء منه؟ فقال آخره وأوله سواء إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه». وقد قال الذهبي: العمل على تضعيف حديثه. وأيضا عبد الله بن صالح الراوي عنه، فيه ضعف مشهور، كما مر في الحديث رقم (10). (¬2) أخرجه الطبري في التفسير (24/ 384)، من طريق محمد بن جعفر، والحارث في مسنده (1122 - بغية)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (6/ 62) عن هوذة بن خليفة، وابن أبي= ... = الدنيا في الأهوال (173)، من طريق ابن المبارك، ثلا ثتهم عن عوف هو ابن أبي جميلة الأعرابي، به. ... قلت: رجاله ثقات غير شهر بن حوشب فهو متكلم فيه، وقد حسن إسناد هذا الأثر البوصيري في إتحاف الخيرة (8/ 162)، والحافظ في المطالب العالية (4557).

وَمَنْ يَلْتَفِتُ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ إِلَى تَفْسِيرِكَ المُحَالِ فِي إِتْيَانِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَدَعُ تَفْسِيرَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ إِلَّا كُلُّ جَاهِلٍ مَجْنُونٍ، خَاسِرٍ مَفْتُونٍ لما أَنَّكَ مَغْبُونٌ فِي الدِّينِ مَأْبُونٌ، وَعَلَى تَفْسِيرِ كِتَابِ الله غَيْرُ مَأْمُونٍ. وَيْلَكَ! أَيَأْتِي الله بِالقِيَامَةِ وَيَتَغَيَّبُ هُوَ بنَفْسه؟ فَمَنْ يُحَاسِبُ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ؟ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَكَ هَذَا، وَأَسْتَيْقِنُ أَنَّهُ لَا يُؤمن بِيَوْم الحساب. [18/ظ] وَادَّعَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّ قَوْلَ الله تَعَالَى: {هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وَادَّعَيْتَ أَنَّ تَفْسِيرَ القَيُّومِ عِنْدَكَ: الَّذِي لَا يَزُولُ، يَعْنِي الَّذِي لَا يَنْزِلُ وَلَا يَتَحَرَّكُ، وَلَا يَقْبِضُ، وَلَا يَبْسُطُ، وَأَسْنَدْتَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِكَ، غَيْرَ مُسَمًّى، عَن الكَلْبِيّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «القَيُّومُ: الَّذِي لَا يَزُولُ». وَعِنْدَ أَهْلِ البَصَرِ، وَمَعَ رِوَايَتِكَ هَذِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ دَلَائِلُ وَشَوَاهِدُ أَنها بَاطِلٌ. إِحْدَاهَا: أَنَّك أَنْت رَوَيْتَهَا وَأَنْتَ المُتَّهَمُ فِي تَوْحِيدِ الله. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّكَ رَوَيْتَهُ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِكَ غَيْرَ مُسَمًّى، وَأَصْحَابُكَ مثلك فِي الظنة والتهمة. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَنِ الكَلْبِيِّ (¬1) وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ بِالأَثَرِ عَلَى أَنْ لَا يَحْتَجُّوا ¬

(¬1) هو أبو النضر الكوفي النسابة المفسر محمد بن السائب الكلبي، قال الحافظ متهم= ... = بالكذب، ورمي بالرفض، توفي سنة 146 هـ.

بِالكَلْبِيِّ فِي أَدْنَى حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. فَكَيْفَ فِي تَفْسِيرِ تَوْحِيدِ الله وَتَفْسِيرِ كِتَابِهِ؟ وَكَذَلِكَ أَبُو صَالِحٍ (¬1). وَلَوْ قَدْ صَحَّتْ رِوَايَتُكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «القَيُّومُ: الَّذِي لَا يَزُول» لم نستنكره، وَكَانَ مَعْنَاهُ مَفْهُومًا وَاضِحًا عِنْدَ العُلَمَاءِ، وَعِنْدَ أَهْلِ البَصَر بِالعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى «لَا يَزُولُ»: لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ، لَا أَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَا يَزُولُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، إِذَا شَاءَ، كَمَا كَانَ يُقَالُ لِلشَّيْءِ الفَانِي: هُوَ زَائِلٌ، كَمَا قَالَ لَبِيدُ بْنُ ربيعَة: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلٌ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا محَالةَ زائِلُ يَعْنِي فانٍ، لَا أَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ. فَإِنَّ أَمَارَةَ مَا بَيْنَ الحَيِّ، وَالمَيِّتِ التَّحَرُّكُ، وَمَا لَا يَتَحَرَّكُ فَهُوَ مَيِّتٌ، لَا يُوصَفُ بِحَيَاةٍ، كَمَا وَصَفَ الله تَعَالَى الأَصْنَامَ المَيِّتَةَ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)} [النحل: 20 - 21]، فَاللهُ الحَيُّ القَيُّومُ القَابِضُ البَاسِطُ، يَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (¬2)، بِخِلَافِ الأَصْنَامِ المَيِّتَةِ الَّتِي لَا تَزُولُ حَتَّى تُزَالَ. وَاحْتَجَجْتَ أَيْضًا أَيُّهَا المريسي فِي نَفْي التَّحْرِيكِ، عَنِ اللهِ - عز وجل - وَالزَّوَالِ بِحُجَجِ الصِّبْيَانِ، فَزَعَمْتَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - حِينَ رَأَى كَوْكَبًا وَشَمْسًا وَقَمَرًا {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76]، ثُمَّ قُلْتَ: فَنَفَى إِبْرَاهِيمُ المَحَبَّةَ مِنْ كُلِّ إِلَهٍ زَائِلٍ، يَعْنِي أَنَّ اللهَ إِذَا نَزَلَ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، أَوْ نَزَلَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِمُحَاسَبَةِ العِبَادِ، فَقَدْ أَفَلَ وزَالَ كَمَا أَفَلَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ، فَتَنَصَّلَ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِمَا إِبْرَاهِيمُ. ¬

(¬1) هو باذام ويقال باذان، أبو صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب. قال أبو حاتم: لا يحتج به. (¬2) ينظر تعليقي في حاشية (1) ص 71، ويراجع مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (8/ 21).

فَلَوْ قَاسَ هَذِا القِيَاسَ تُرْكِيٌّ طُمْطُمَانِيٌّ، أَوْ رُومِيٌّ أَعْجَمِيٌّ؛ مَا زَادَ عَلَى مَا قِسْتَ قُبحًا وسَمَاجَةً. وَيْلَكَ! وَمَنْ قَالَ مِنْ خَلْقِ اللهِ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا نَزَلَ أَوْ تَحَرَّكَ، أَوْ نَزَلَ لِيَوْمِ الحِسَابِ أَفَلَ فِي شَيْءٍ، كَمَا تَأْفُلُ الشَّمْسُ فِي عَيْنٍ حَمِئَة؟ إِنَّ اللهَ لا يَأْفُلُ فِي خَلْقٍ سِوَاهُ إِذَا نَزَلَ أَوِ ارْتَفَعَ كَمَا تَأْفُلُ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالكَوَاكِبُ، بَلْ هُوَ العَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، المُحِيطُ بِكُلِّ شَيْء فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنْ نُزُولِهِ وَارْتِفَاعِهِ. وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ لَا يَأْفُلُ فِي شَيْءٍ، بَلِ الأَشْيَاءُ كُلُّهَا تَخْشَعُ لَهُ، وَالمَوَاضِعُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالكَوَاكِبُ خَلَائِقُ مَخْلُوقَةٌ، إِذَا أَفَلَتْ أَفَلَتْ فِي مَخْلُوقٍ، فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، كَمَا قَالَ اللهُ، وَاللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَحْتَوِي عَلَيْهِ شَيْءٌ. ثُمَّ انْتَدَبَ المَرِيسِيُّ [19/و]، الضَّالُّ لِرَدِّ مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الرُّؤْيَةِ فِي قَوْلِهِ: «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ كَمَا لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ»، فَأَقَرَّ الجَاهِلُ بِالحَدِيثِ وَصَحَّحَهُ، وَثَبَّتَ رِوَايَتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ تَلَطَّفَ لِرَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ بِأَقْبَحِ تَأْوِيلٍ، وَأَسْمَجِ تَفْسِيرٍ. وَلَوْ قَدْ رَدَّ الحَدِيثَ أَصْلًا؛ كَانَ أَعْذَرَ لَهُ مِنْ تَفَاسِيرِهِ هَذِهِ المَقْلُوبَةِ الَّتِي لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ العَرَبِيَّةِ. فَادَّعَى الجَاهِلُ أَنَّ تَفْسَيرَ قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ»: تَعْلَمُونَ أَنَّ لَكُمْ رَبًّا لَا تَشُكُّونَ فِيهِ كَمَا أَنَّكُمْ لَا تَشُكُّونَ فِي القَمَرِ أَنَّهُ قَمَرٌ، لَا عَلَى أَنَّ أَبْصَارَ المُؤْمِنِينَ تُدْرِكُهُ جَهْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى

قَوْلِ المُشَبِّهَةِ، فَقَوْلُهُ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ»: تَعْلَمُونَ أَنَّ لَكُمْ رَبًّا لَا يَعْتَرِيكُمْ فِيهِ الشُّكُوكُ، والرَّيْبُ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الأَعْمَى يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا أَبْصَرَهُ، أَيْ مَا أَعْلَمَهُ، وَهُوَ لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: قد نَظَرْتُ فِي المَسْأَلَةِ، وَلَيْسَ لِلْمَسْأَلَةِ جِسْمٌ يُنْظَرُ إِلَيْهِ، فَقَوْلُهُ: نَظَرْتُ فِيهَا، رَأَيْتُ فِيهَا، فَتَوَهَّمَتِ المُشَبِّهَةُ الرُّؤْيَةَ جَهْرَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ العَيَانِ. فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ: أَقْرَرْتَ بِالحَدِيثِ وَثَبْتِهِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذَ الحَدِيثُ، بِحَلْقِكَ، لما أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ قَرَنَ التَّفْسِيرَ بِالحَدِيثِ فَأَوْضَحَهُ وَلَخَّصَهُ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا إِسْنَادٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَمْ يَدَعْ لِمُتَأَوِّلٍ فِيهِ مَقَالًا. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رُؤْيَةُ العَيَانِ نَصًّا، كَمَا تَوَهَّمَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُسَمِّيهِمْ بِجَهْلِكَ مُشَبِّهَةً، فَالتَّفْسِيرُ فِيهِ مَأْثُورٌ مَعَ الحَدِيثِ، وَأَنْتَ تُفَسِّرُهُ بِخِلَافِ مَا فَسَّرَ الرَّسُولُ، مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ تَأْثُرهُ عَمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَأَيُّ شَقِيٍّ مِنَ الأَشْقِيَاءِ، وَأَيُّ غَوِيٍّ مِنَ الأَغْوِيَاءِ يَتْرُكُ تَفْسِيرَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المَقْرُونَ بِحَدِيثِهِ، المَعْقُولَ عِنْدَ العُلَمَاءِ، الَّذِي يُصَدِّقُهُ نَاطِقُ الكِتَابِ، ثُمَّ يَقْبَلُ تَفْسِيرَكَ المُحَالَ الَّذِي لَا تَأْثُرُهُ إِلَّا عَمَّنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْكَ وَأَضَلُّ؟! أَلَيْسَ قَدْ أَقْرَرْتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ لَا تُضَامُونَ فِيهِ كَمَا لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ»، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَصْحَابِهِ: لَا تَشُكُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُعَانَدَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مُحَالٌ خَارِجٌ عَنِ المَعْقُولِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي رُبُوبِيَّةِ الله - عز وجل -؛ زَائِلٌ عَنِ المُؤْمِنِ وَالكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ يَوْمئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ رَبُّهُ لا يَعْتَرِيهم فِي ذَلِكَ شَكٌّ، فَيَقْبَلُ اللهُ ذَلِكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَلَا يَقْبَلُهُ من الكَافِرِينَ، ولا يَعْذِرُهُم يَوْمَئِذٍ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَيَقِينِهِمْ بِهِ، فَمَا فَضْلُ المُؤْمِنِ عَلَى الكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَكَ فِي مَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَعَالَى؟ إِذْ مُؤْمِنُهُمْ، [19/ظ] وَكَافِرُهُمْ لَا يَعْتَرِيهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ شَكٌّ.

أَوَمَا عَلِمْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ قَبْلَ مَوْتِهِ أَنَّ اللهَ رَبُّهُ فِي حَيَاتِهِ، حَتَّى يَعْرِفَهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا وَمَصِيرُهُ النَّارُ أَبَدًا؟ وَلَنْ يَنْفَعَهُ الإِيمَانُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِمَا يَرَى مِنْ آيَاتِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، فَمَا مَوْضِعُ بُشْرَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ إِذْ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فِي الرُّؤْيَةِ يَوْمَئِذٍ سَوَاءٌ عِنْدَكَ، إِذْ كُلٌّ لَا يَعْتَرِيهِ فِيهِ شَكٌّ وَلَا رِيبَةٌ. أوَلَمْ تَسْمَعْ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ قَوْلَ الله تَعَالَى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} [السجدة: 12]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام: 30]؟ فقد أخبر الله - عز وجل -، عَنِ الكُفَّارِ أَنَّهُمْ بِهِ يَوْمَئِذٍ مُوقِنُونَ، فَكَيْفَ المُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذِينَ سَأَلُوهُ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ وَقَدْ عَلِمُوا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ أَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ لَا يَعْتَرِيهِمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ. أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]؟ يُقَالُ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهِا، فَإِذَا لَمْ يَنْفَع الرَّجُلَ إِيمَانُهُ عِنْد الآيَاتِ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ يَنْفَعُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهَا النَّظَرَ إِلَى اللهِ تَعَالَى؟ فَاعْقِلْ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ مَا يَجْلِبُ عَلَيْكَ كَلَامُكَ مِنَ الحُجَجِ الآخِذَةِ بِحَلْقِكَ. وَأَمَّا إِدْخَالُكَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا حَقَّقَ مِنْ رُؤْيَةِ الرَّبِّ يَوْمَ القِيَامَةِ- قَوْلَهُ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، فَإِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَزَلَ، وَقَدْ عَرَفَ مَا أَرَادَ الله بِهِ وَعَقِلَ، فَأْوَضَحَهُ تَفْسِيرًا، وَعَبَّرَهُ تَعْبِيرًا؛ فَفَسَّرَ الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا تَفْسِيرًا شَافِيًا كَافِيًا، سَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ -يَعْنِي فِي الدُّنْيَا-؟

فَقَالَ: «نُورٌ أَنَّى أرَاهُ؟». (75) حَدَّثَنَا الحَوْضِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عبد اللهِ بن شَقِيق، عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَحِينَ سُئِلَ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي المَعَادِ قَالَ: «نَعَمْ، جَهْرَةً كَمَا تَرَى الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ»، فَفَسَّرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَعْنَيَيْنِ عَلَى خِلَافِ مَا ادَّعَيْتَ. وَالعَجبُ مِنْ جَهْلِكَ بِظَاهِرِ لَفْظِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، إِذْ تَتَوَهَّمُ فِي رُؤْيَةِ الله جَهْرَةً كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ، ثُمَّ تَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ تَوَهُّمِ مَنْ سَمَّيْتَهُمْ بِجَهْلِكَ مُشَبِّهَةً، فَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي دَعْوَاكَ أَوَّلُ المُشَبِّهِينَ؛ إِذْ شَبَّهَ رُؤْيَتَهُ بِرُؤْيَةِ الشَّمْس وَالقَمَر، كَمَا شَبَّهَهُ هَؤُلَاءِ المُشَبِّهُونَ فِي دَعْوَاكَ. وَأَمَّا أُغْلُوطَتُكَ الَّتِي غَالَطْتَ بِهَا جُهَّالَ أَصْحَابِكَ فِي رُؤْيَة الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ، فَقُلْتَ: أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْمَ مُوسَى حِينَ قَالُوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَقَالُوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ، وَقَالُوا: {أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)} [الفرقان: 21]، فَادَّعَيْتَ أَنَّ الله أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَعَابَهُمْ بِسُؤَالِهِمُ الرُّؤْيَةَ. فَيُقَالَ لِهَذَا، [20/و] المَرِيسِيِّ: تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ، وَقَلْبُكَ غَافِلٌ عَمَّا يُتْلَى عَلَيْكَ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ مُوسَى سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ الله فِي الدُّنْيَا إلحَافًا، فَقَالُوا: ... {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]؟ وَلَم يَقُولُوا: حَتَّى نَرَى الله فِي ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه مسلم (178)، والترمذي (3282)، وأحمد (21392، 21527)، وغيرهم من طريق يزيد بن إبراهيم، به.

الآخِرَةِ وَلَكِنْ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ سَبَقَ مِنَ اللهِ القَوْلُ بِأَنَّهُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أَبْصَارُ أَهْلِ الدُّنْيَا؛ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ، وَسُؤَالِهِمْ عَمَّا حَظَرَهُ الله على أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلَوْ قَدْ سَأَلُوهُ رُؤْيَتَهُ فِي الآخِرَةِ كَما سَأَلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -، لَمْ تُصِبْهُمْ تِلْكَ الصَّاعِقَةُ، وَلَمْ يقل لَهُم إِلَّا مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - لِأَصْحَابِهِ إِذْ سَأَلُوهُ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» فَلَمْ يَعِبْهُمُ الله وَلَا رَسُولُهُ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، بَلْ حَسَّنَهُ لَهُمْ وَبَشَّرَهُمْ بِهَا بُشْرَى جَمِيلَةً، كَمَا رَوَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ عَنْهُ. وَقَدْ بَشَّرَهُمُ الله تَعَالَى بِهَا قَبْلَهُ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وَقَالَ لِلْكُفَّارِ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]، فقوم مُوسَى سألوا نَبِيَّهُمْ مَا قَدْ حَظَرَهُ الله عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وَسَأَلَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيَّهُمْ مَا أَخْبَرَ الله أَنَّهُ سَيُعْطِيهِمْ وَيُثِيبُهُمْ بِهِ، فَصُعِقَ قَوْمُ مُوسَى بِسُؤَالِهِمْ مَا لَا يَكُونُ، وَسَلِمَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِسُؤَالِهِمْ مَا يَكُونُ. وَمَتَى عَابَ اللهُ عَلَى قَوْمِ مُوسَى سُؤَالَ الرُّؤْيَةِ فِي الآخِرَةِ, فَتَفْتَرِيَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ؟ تَكْذِبُ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَالله لَا يُحِبُّ الكَاذِبِينَ. وَقَدْ فَسَّرْنَا أَمْرَ الرُّؤْيَةِ، وَرَوَيْنَا مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ الآثَارِ فِي الكِتَابِ الأَوَّلِ، الَّذِي أَمْلَيْنَاهُ فِي الجَهْمِيَّةِ (¬1)، وَرَوَيْنَا مِنْهَا صَدْرًا فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ أَيْضًا، فَالتَمِسُوهَا هُنَالِكَ، وَاعْرِضُوا أَلْفَاظَهَا عَلَى قُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ؛ يَنْكَشِفْ لَكُمْ ¬

(¬1) ينظر «باب الرؤية» من كتاب «الرد على الجهمية للدارمي» ص 98 بتحقيقي.

عَوْرَةُ كَلَامِ هَذَا المَرِيسِيِّ، وَضَلَالُ تَأْوِيلِهِ، وَدُحُوضُ حُجَّتِهِ -إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى-، وَلَوْلَا أَنْ يَطُولَ بِهِ الكِتَابُ؛ لَأَعَدْتُ البَابَ بِطُولِهِ وَأَسَانِيده. * * *

وَرَوَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «القُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ شَاءُ». فَأَقْرَرْتَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ، ثُمَّ رَدَدْتَهُ بِأَقْبَحِ مُحَالٍ، وَأَوْحَشِ ضَلَالٍ. وَلَوْ قَدْ دَفَعْتَ الحَدِيثَ أَصْلًا كَانَ أَعْذَرَ لَكَ مِنْ أَنْ تُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ تَرُدَّهُ بِمُحَالٍ مِنَ الحُجَجِ، وَبِالَّتِي هِيَ أَعْوَجُ، فَزَعَمْتَ أَنَّ أُصْبُعِي اللهِ قُدْرَتَيْه، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] أَيْ: فِي مُلْكِهِ. فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المُعْجَبُ بِجَهَالَتِهِ: فِي أَيِّ لُغَاتِ العَرَبِ وَجَدْتَ أَنَّ أُصْبُعَيْهِ: قُدْرَتَيْهِ؟ فَأَنْبِئْنَا بِهَا، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَاهَا خَارِجَة من جَمِيع لُغَاتِهم. إِنَّمَا هِيَ قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ كَفَتِ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَمَلَأَتْهَا وَاسْتَنْطَقَتْهَا، فَكَيْفَ صَارَتْ لِلْقُلُوبِ مِنْ بَيْنِ الأَشْيَاءِ قُدْرَتَانِ؟ وَكَمْ تَعُدُّهَا قُدْرَةً؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ»، [20/ظ] وَفِي دَعْوَاكَ: هِيَ أَكْثَرُ مِنْ قُدْرَتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ. حَكَمْتَ فِيهَا لِلْقُلُوبِ قدرتين وَسَائِرُهَا لِمَا سِوَاهَا، فَفِي دَعْوَاكَ هَذَا أَقْبَحُ مُحَالٍ، وَأَبْيَنُ ضَلَالٍ، فَكَيْفَ ادَّعَيْتَ أَنَّ الأَرْضَ قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: أَنَّهَا صَارَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مُلْكِه؟ كَأَنَّهُمَا كَانَتا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ فِي مُلْكِ غَيْرِه، خَارِجَة عَن مُلْكِهِ، فَكَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهَا -فِي دَعْوَاكَ- حَتَّى صَارَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي مُلْكِهِ!! وَمَا بَالُهَا تَصِيرُ فِي مُلْكِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَطْوِيَّاتٍ، وَلَا تَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَنشُورَات؟ وَمَا أَرَاكَ إِلَّا سَتَدْرِي أَنَّ قَوْلَهُ: {مَطْوِيَّاتٌ} [الزمر: 67]: نَاقِضٌ لِتَأْوِيلِكَ. وَمِمَّا يَزِيدُهُ نَقْضًا: قَوْلُهُ في المَكَانِ الآخَر: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وَقَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَطْوِي الله السَّمَاءَ يَوْم القِيَامَة بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ».

فَفِي قَوْلِ الله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ}، وَحَدِيثِ رَسُولِه - صلى الله عليه وسلم - بَيَانٌ وَمَعْنًى مُخَالِفٌ قِيلَكَ لَا شَكَّ فِيهِ، وَكَيْفَ أَقرَرْتَ بِالحَدِيثِ فِي الأُصْبُعَيْن مِنْ أَصَابِعِ اللهِ وَفَسَّرْتَهُمَا قُدْرَتَيْنِ؟ وَكَذَّبْتَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي خَمْسِ أَصَابِعَ، وَهُوَ أَجْوَدُ إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ الأُصْبُعَيْنِ؟ أَفَلَا أَقْرَرْتَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ثُمَّ تَأَوَّلْتَهُ: القُدْرَةُ خَمْسُ قُدْرَاتٍ، كَمَا تَأَوَّلْتَ فِي الأُصْبُعَيْنِ بِقُدْرَتَيْنِ؟ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَين أَصْبُعَيْن مِنَ الأَصَابِع». فَأَمَّا تَكْذِيبُكَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ حَبْرًا مِنَ اليَهُودِ قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَبَلَغَكَ أَنَّ الله يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ السَّمَاوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى أُصْبُعٍ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ، وَالخَلَائِقَ عَلَى أُصْبُعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ وَيَقُولُ: أَنَا المَلِكُ؟، فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ تَعَجُّبًا لِمَا قَالَ الحَبْرُ، وَتَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]». فَادَّعَيْتَ أَنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَ الحَبْرُ، ثُمَّ قُلْتَ: أَفَتَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اليَهُودِ؟ فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ: قَلَّمَا رَأينَا مُفَسِّرًا ومُتَكَلِّمًا أَشَد مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ مِنْكَ؛ مَرَّةً تَقُولُ: الحَدِيثُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَتُفَسِّرُهُ قُدْرَتَيْنِ، وَمَرَّةً تَقُولُ: هُوَ كَذِبٌ. وَقَوْلُ اليَهُودِ تُقِرُّ بِهِ مَرَّةً، وتُنْكِرُهُ أُخْرَى، وَلَوْ قَدْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ وَرُوَاتِهِ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ الأَثَرَ قَدْ جَاءَ بِهِ تَصْدِيقًا لِلْيَهُودِيِّ، لَا تَكْذِيبًا لَهُ كَمَا ادَّعَيْتَ.

(76) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُور، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ: ضَحِكَ مِنْ قَوْلِ الحَبْرِ تَعَجُّبًا لِمَا قَالَ وَتَصْدِيقًا لَهُ (¬1). فَعَمَّنْ رَوَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ قَالَ تَكْذِيبًا لَهُ، فَأَنْبِئْنَا بِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّكَ فِيهَا من الكَاذِبين. وَأَمَّا تَشْنِيعُكَ عَلَى هَؤُلَاءِ المُقِرِّينَ بِصِفَاتِ الله - عز وجل - المُؤْمِنِينَ بِمَا قَالَ اللهُ، أَنَّهُمْ يَتَوَهَّمُونَ فِيهَا جَوَارِحَ وَأَعْضَاءً، فَقَدِ ادَّعَيْتَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ زُورًا [21/و] بَاطِلًا، وَأَنتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاس بِمَ يُرِيدُونَ بِهَا، إِنَّمَا يُثْبِتُونَ مِنْهَا مَا أَنْتَ لَهُ مُعَطِّلٌ وَبِهِ مُكَذِّبٌ، وَلَا يَتَوَهَّمُونَ فِيهَا إِلَّا مَا عَنَى اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا يدعونَ جَوَارِح، وَلَا أَعْضَاء كَمَا تَقَوَّلْتَ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَأْلُو فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِم بِالكَذِبِ، لَيَكُون أَرْوَجَ لِضَلَالَتِكَ عِنْدَ الجُهَّالِ، وَلَئِنْ جَزِعْتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قِصَّةِ الحَبْرِ، مَالَكَ رَاحَةٌ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا يُحَقِّقُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيُثْبِتُ رِوَايَتَهُ. (77) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو سَلَمَةَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قُلُوبُ العِبَادِ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدٍ قَلَّبَهُ» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2786) عن أحمد بن يونس، به. وأخرجه البخاري (4811، 7414، 7315)، من طريق منصور بن المعتمر، به. وأخرجه أيضا في (7415، 7451)، من طريق الأعمش عن إبراهيم، به. (¬2) إسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد بن جدعان، ولجهالة أم محمد، واسمها أمية بنت = ... = عبد الله وهي امرأة أبيه، والحديث أخرجه أحمد (26133)، وابن أبي شيبة (29199)، وإسحاق بن راهويه (1369)، من طريق علي بن زيد، به. ويشهد له الأحاديث الآتية بعده.

(78) وَحَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَاركِ، أخبرناه حَيْوَةُ بنُ شُرَيْح، أَخْبرنِي أَبُو هَانِئٍ الخَوْلَانِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عبد الرَّحْمَن الحُبْلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قُلُوبُ بَنِي آدَمَ كُلُّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِع الرَّحْمَنِ؛ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرَّفُ كَيفَ شَاءَ، ثُمَّ يَقُولُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» (¬1). (79) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَاركِ، أَبَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ بُسْرَ (¬2) بْنَ عَبْيدِ الله قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الكِلَابِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْن مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ». وَكَانَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «اللهمَّ مُقَلِّبَ القُلُوبِ! ثَبِّتْ قُلُوبنَا عَلَى دِينِك» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، وهذا إسناد حسن لأجل نعيم بن حماد، فهو مختلف فيه كما قال الذهبي، وقد تابعه حبان بن موسى السلمي في روايته عن ابن المبارك كما أخرجه ابن حبان (902)، وقد أخرج الحديث مسلم في (2654)، وأحمد (6569)، وابن أبي عاصم في السنة (222)، وغيرهم من طريق أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة بن شريح، به. (¬2) في الأصل «بشر» بالشين المعجمة، والصواب ما أثبتته بالسين المهملة. وينظر تهذيب الكمال (4/ 75). (¬3) صحيح، وهذا إسناد حسن لأجل نعيم بن حماد، وقد توبع تابعه حبان بن موسى كما أخرجه النسائي في الكبرى (7691)، وقد أخرج الحديث ابن ماجه (199)، وابن أبي عاصم في السنة (219)، وغيرهما من طريق صدقة بن خالد، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة = ... = (1224)، وغيره، من طريق إسماعيل بن عياش، والطبراني في الدعاء (1262)، وغيره من طريق الوليد بن مسلم ثلاثتهم (صدقة، وإسماعيل، والوليد)،وغيرهم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به. وقد صحح إسنادَ ابنِ ماجه البوصيريُّ في الزوائد (1/ 27).

(80) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي عَيَّاش بن أبي مِهْرَان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّمَا قَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ» (¬1). (81) حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الحِمْصِيُّ، ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدِ، عَن عُتْبَةَ ابْن أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِذَا شَاءَ قَالَ بِهِ هَكَذَا -وَأَمَالَ يَدَهُ- وَإِذَا شَاءَ قَالَ بِهِ هَكَذَا -وَأَمَالَ يَدَهُ- وَإِذَا شَاءَ ثَبَّتَهُ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح بشواهده، وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد الله بن صالح كاتب الليث، ولجهالة حال أبي عياش وهو ابن النعمان المعافري وقد سماه ابن يونس في تاريخ مصر (1/ 394) فروخ بن النعمان. والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (8712)، وابن أبي عاصم (229)، كلاهما من طريق عبد الله بن صالح، به. وأخرجه الذهبي قي سير أعلام النبلاء (13/ 326)، من طريق المصنف، به، وقال الذهبي: هذا حديث غريب جدًا. قلت: لكن له شواهد صحيحة كما مر وكما سيأتي. (¬2) إسناده ضعيف، والمتن صحيح. يزيد بن أبان الرقاشي وإن كان من الزهاد إلا أنه ضعيف الحديث، وعتبة بن أبي حكيم مختلف فيه، وهو إلى الضعف أقرب لا سيما إذا كان الراوي عنه بقية بن الوليد كما ذكر ابن حبان فقال في ترجمته من الثقات (7/ 271): «يعتبر حديثه من غير رواية بقية بن الوليد عنه». ثم الراوي عنه بقية بن الوليد وهو من أشهر الذين وصفوا بالتدليس، بل وبتدليس التسوية القبيح الذي ذمه جميع العلماء، ولم يصرح هنا بالسماع في أي طبقة. ... = = قلت: لكن قد تابع الأعمشُ عتبةَ بن أبي حكيم، فأخرج ابن ماجه (3834)، من طريق عبد الله بن نمير، والآجري في الشريعة (777)، من طريق إبراهيم بن عيينة، والطبراني في الدعاء (1261)، من طريق سليمان التيمي، ثلاثتهم، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بنحوه. قلت: قتبقى لنا علة ضعف يزيد الرقاشي. وقد توبع، تابعه كل من: أبو سفيان طلحة بن نافع القرشي؛ فأخرج الترمذي (2140) وحسنه، وأحمد (12107)، وأبو يعلى (3687)، وغيرهم، من طريق أبي معاوية الضرير محمد بن خازم. وأخرج البخاري في الأدب المفرد (683)، من طريق أبي الأحوص، وأحمد (13696)، من طريق عبد الواحد بن زياد، والآجري في الشريعة (776)، من طريق فضيل بن عياض، أربعتهم (الضرير، وأبو الأحوص، وعبد الواحد بن زياد، وفضيل بن عياض)، عن الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن أنس، بنحوه. وإسناده ثقات غير طلحة بن نافع فهو كما قال الحافظ: صدوق. ثابت بن أسلم البناني؛ فأخرج الطبراني في الكبير (759)، من طريق الأعمش أيضًا، عن ثابت بن أسلم، عن أنس، بنحوه. وإسناد الطبراني ضعيف. قال الترمذي: «وفي الباب عن النواس بن سمعان، وأم سلمة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وأبي ذر وهذا حديث حسن وهكذا روى غير واحد، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، وروى بعضهم عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث أبي سفيان عن أنس أصح».

(82) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الحَمِيدِ بْنِ بِهْرَامٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - تُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ بَشَرٌ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ» (¬1). ¬

(¬1) حسن، أخرجه أحمد (26576)، وعبد بن حميد (1534 - منتخب)، وغيرهما من طريق عبد الحميد بن بهرام، به. وأخرجه الترمذي (3522)، وحسنه، والطيالسي (1713)، وابن أبي عاصم في السنة (223)، وغيرهم من طريق أَبِي كَعب عبدِ رَبِّه بن عُبيد صاحبِ الحرير عن شهر بن حوشب، به. وأخرجه الآجري في الشريعة (774)، من طريق مقاتل بن حيان، عن شهر بن حوشب، به. ... = = وشَهْرٌ متكلم فيه، لكنه توبع تابعته خيرة أم الحسن البصري، أخرج حديثها الطبراني في الكبير (23/ 366)، والآجري في الشريعة (773)، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم، عن سالم الخياط، عن ألحسن، عن أمه، عن أم سلمة، به. وإسناد هذه الطريق رجاله ثقات، غير الخياط فهو صدوق كما ذكر الحافظ.

فَهَذِهِ أَلْفَاظُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْتُهُ وَثَبَتُّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. فَفِي أَيِّ لُغَاتٍ وَجَدْتَ أَنَّهَا قُدْرَتَينِ مِنَ القُدَرِ؟ وَهَلْ من شَيْءٍ لَيْسَ [تَحْتَ] (¬1) قُدْرَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى يَخُصَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - القُلُوبَ مِنْ بَيْنِهَا بِقُدْرَتَيْنِ؟! فَلِمَ تَدَّعِ مَا إِذَا رَجَعْتَ فِيهِ إِلَى نَفْسِكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ ضَلَالٌ وَبَاطِلٌ وضَحِكَةٌ وسُخْرِيَةٌ؟ مَعَ أَنَّ المُعَارِضَ لَمْ يَقْنَعْ بِتَفْسِيرِ إِمَامِهِ المَرِيسِيِّ حَتَّى اخْتَرَقَ لِنَفْسِهِ [21/ظ] فِيهِ مَذْهَبًا خِلَافَ مَا قَالَ إِمَامُهُ، وخِلافَ مَا يُوجد فِي لُغَاتِ العَرَبِ وَالعَجَمِ، فَقَالَ: أُصْبُعَاهُ: نِعْمَتَاهُ قَالَ: وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ العَرَبِ. فَيُقَالُ: لِهَذَا المُعَارِضِ: فِي أَيِّ كَلَامِ العَرَبِ، وَجَدْتَ إِجَازَتَهُ؟ وَعَنْ أَيِّ فَقِيهٍ أَخَذْتَهُ؟ فَاسْتَنِدْ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَإِنَّكَ مِنَ المُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ وعَلَى رَسُولِهِ. فَلَوْ كُنْتَ الخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ (¬2)، أَوِ الأَصْمَعِيَّ (¬3) مَا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ. وَأَمَّا إِنْكَارُكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَتَرَاءَى لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي غَيْرِ صُورَتِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِالله مِنْكَ، ثُمَّ ¬

(¬1) ما بين معقوفين ليس في الأصل وأثبته من نسخة على (ع)، وبدونه لا يتضح المعنى. (¬2) هو أبو عبد الرحمن الفراهيدي الإمام، صاحب العربية، ومنشئ علم العروض، البصري، أحد الأعلام، توفي سنة 160 هـ، وقيل سنة 170 هـ. ينظر سير أعلام النبلاء (7/ 429). (¬3) هو الإمام، العلامة، الحافظ، حجة الأدب، أبو سعيد عبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي، البصري، اللغوي، أحد الأعلام. توفي سنة 216 هـ ينظر سير أعلام النبلاء (10/ 175).

يَتَرَاءَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا فَيَعْرِفُوْنَهُ، فَيَتَّبِعُونَهُ». فَزَعَمْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَذَا فَهُوَ مُشْرِكٌ. يُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ عَرَفْتُمْ رَبَّكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ جَهِلْتُمُوهُ عِنْدَ العَيَانِ وَشَكَكْتُمْ فِيهِ؟ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ. (83) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنهما -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). كَأَنَّكَ تَسْمَعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَوْدَةٍ- يَقُولُهُ، فَاحْذَرْ أَنْ لَا يَكُونَ قَذْفُكَ بِالشِّرْكِ أَنْ يَقَعَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا ذَنْبُنَا إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ سَلَبَ عَقْلَكَ حَتَّى جَهِلْتَ مَعْنَاهُ؟ وَيْلَكَ! إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَكٍّ وَارْتِيَابٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ أَنَّ اللهَ تَجَلَّى لَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي صُورَتِهِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ صِفَاتَهَا فِي الدُّنْيَا لَاعْتَرَفُوا بِمَا عَرفُوا، وَلم يَنْفِرُوا، وَلَكِنَّهُ يُرِي نَفْسَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، لِقُدْرَتِهِ وَلُطْفِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي صُورَةٍ غَيْر ما عَرَّفَهُم اللهُ صِفَاتَهَا فِي الدُّنْيَا، لِيَمْتَحِنَ بِذَلِكَ إِيمَانَهُمْ ثَانِيَةً فِي الآخِرَةِ، كَمَا امْتَحَنَ فِي الدُّنْيَا ليثبتهم أَنَّهُمْ لَا يَعْتَرِفُونَ بِالعُبُودِيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلَّا لِلْمَعْبُودِ الَّذِي عَرَفُوهُ فِي الدُّنْيَا بِصِفَاتِهِ، الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَاسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُهُمْ حَتَّى مَاتُوا عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا مُثِّلَ فِي أَعْيُنِهِمْ غَيْرُ مَا عَرَفُوا مِنَ الصِّفَةِ؛ نَفَرُوا وَأَنْكَرُوا، إِيمَانًا مِنْهُمْ بِصَفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ الَّتِي امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا ¬

(¬1) تقدم تخريجه برقم (21، 71).

الَّتِي امْتَحَنَ الله قُلُوبَهُمْ تَجَلَّى لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي عَرَّفَهُمْ فِي الدُّنْيَا؛ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا، وَمَاتُوا، وَنُشِرُوا عَلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَوَّلَ اللهُ مِنْ صُورَةٍ إِلَى صُورَةٍ، وَلَكِنْ يُمَثِّلُ ذَلِكَ فِي أَعْيُنِهِمْ بِقُدْرَتِهِ. فَلَيْسَ هَذَا أَيُّهَا المَرِيسِيُّ بِشَكٍّ مِنْهُمْ فِي مَعْبُودِهِمْ، بَلْ هُوَ زِيَادَةُ يَقِينٍ وَإِيمَانٌ بِهِ مَرَّتَيْنِ. كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ قَالَ لَهُم يَوْمَ القِيَامَةِ: أَتَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ إِذَا اعْتَرَفَ لَنَا عَرَفْنَاهُ، يَقُولُونَ: لَا نُقِرُّ بِالرُّبُوبِيَّةِ إِلَّا لِمَنِ اسْتَشْعَرَتْهُ قُلُوبُنَا، بِصِفَاتِهِ الَّتِي أَنْبَأَنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَحِينَئِذٍ يَتَجَلَّى لَهُمْ فِي صُورَتِهِ المَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ، فَيَزْدَادُونَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، [22/و] اغْتِبَاطًا وَطُمَأَنِينَةً. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّكِّ عَلَى مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ يَقِينٌ بَعْدَ يَقِينٍ، وَإِيمَانٌ بَعْدَ إِيمَان وَلَكِن الشَّكَّ والرِّيبةَ كُلَّهَا، مَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ فِي تَفْسِيرِ الرُّؤْيَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ»، فَادَّعَيْتَ أَنَّ رُؤْيَتَهُمْ تِلْكَ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ لَهُمْ رَبًّا لَا يَعْتَرِيهِمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، كَأَنَّهُمْ فِي دَعْوَاكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ لَمْ يَعْلَمُوا فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ رَبُّهُمْ، حَتَّى يَسْتَيْقِنُوا بِهِ فِي الآخِرَةِ. فَهَذَا التَّفْسِيرُ إِلَى الشَّكِّ أَقْرَبُ مِمَّا ادَّعَيْتَ فِي قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الشَّكِّ وَالشِّرْكِ، لَا بَلْ هُوَ الكُفْرُ؛ لِأَنَّ الخَلْقَ كُلَّهُمْ مُؤْمِنَهُم وكَافِرَهُم يَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ أَنَّ اللهَ رَبُّهُمْ، لَا يَعْتَرِيهِمْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)} [السجدة: 12]؛ فَالشَّكُّ فِي الله الَّذِي تَأَوَّلْتَهُ أَنْتَ فِي الرُّؤْيَةِ لَا مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَيْلَكَ! إِنَّ اللهَ لَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، وَلَكِنْ يُمَثَّلُ فِي أَعْيُنِهِمْ يَوْمَئِذٍ،

أَوَلَمْ تَقْرَأْ كِتَابَ اللهِ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44]؟ وَهُوَ الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، كَمَا مَثَّلَ جِبْرِيلَ - عليه السلام - مَعَ عِظَمِ صُورَتِهِ وَجَلَالَةِ خَلْقِهِ فِي عَيْنِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صُورَةَ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ، وَكَمَا مَثَّلَهُ لِمَرْيَم بَشَرًا سَوِيًّا، وَهُوَ مَلَكٌ كَرِيمٌ فِي صُورَةِ المَلَائِكَةِ، وَكَمَا شَبَّهَ فِي أَعْيُنِ اليَهُودِ أَنْ قَالُوا: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} [النساء: 157] فَقَالَ: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157]. (¬1) ¬

(¬1) علق شيخ الإسلام ابن تيمية على مسألة إتيان الله - جل جلاله - يوم القيامة في صورة بعد صورة بكلام طويل يرد فيه على المصنف فآثرت أن أنقله بنصه لأهميته، فقال في بيان تلبيس الجهمية (7/ 134)، ما نصه: «وأقرب ما يكون عليه إتيان الله في صورة بعد صورة وإن كان تأويلاً باطلاً أيضًا ما ذكره بعض أهل الحديث مثل أبي عاصم النبيل وعثمان بن سعيد الدارمي فإنه يروى عن أبي عاصم النبيل أنه كان يقول: (ذلك تغير يقع في عيون الرائين كنحو ما يُخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة) وقال عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي» فنقل كلام المصنف في هذه المسألة كله ثم قال: «وهذا أيضًا باطل من وجوه. أحدها: أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي لفظ في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهذا يفسر قوله في حديث أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون هي التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا وليس الأمر كذلك لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا ولفظ الرؤية صريح في ذلك وقد بينا أنه في غير حديث مما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة. الوجه الثاني: أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة ولم يروه في الدنيا في صورة فإن ما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يوجب لهم صورة يعرفونها ولهذا جاء في حديث آخر أنه ليس كمثله شيء، فلو كانوا أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك فعلم أنهم لم يطيقوا وصف الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وقد قال النبي في سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها، حتى لا يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها، فالله أعظم من أن يستطيع= ... = أحد أن ينعت صورته وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم، ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر، ومع هذا فقد قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فالخالق أولى أن يكونوا لا يطيقون معرفة صفاته كلها. الوجه الثالث: أن في حديث أبي سعيد فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقوله لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم مخالفة لهذا النص. الوجه الرابع: أن في حديث ابن مسعود وأبي هريرة من طريق العلاء أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون وفي لفظ أشباه ما كانوا يعبدون ثم قال يبقى محمد وأمته فيتمثل لهم الرَّب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول: مالكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فقد أخبر أن الله تعالى هو الذي تمثل لهم ولم يقل مُثِّل لهم كما قال في معبودات المشركين وأهل الكتاب. الوجه الخامس: أن في عدة أحاديث؛ كحديث أبي سعيد وابن مسعود قال هل بينكم وبينه علامة فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجدون له وهذا يبين أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف وكذلك في حديث جابر قال فيتجلى لنا يضحك ومعلوم أنه وإن وصف في الدنيا بالضحك فذاك لا يعرف صورته بغير المعاينة. الوجه السادس: أن تمثيله ذلك بقوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} ... [الأنفال: 44] وبقوله: {شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] لا يناسب تشبيهه بمجيء جبريل في صورة دحية والبشر وذلك أن اليهود غلطوا في الذي رأوه فلم يكن هو المسيح ولكن ألقى شبهه عليه والذي رأته مريم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل نفسه ولكن في صورة آدمي، فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم يره هو وإنما ألقي شبهه على غيره، وأما التقليل والتكثير في أعينهم بالمقدار ليس هو في نفس المرئي ولكن هو صفة المرئي. الوجه السابع: أن هذا المعنى إذا قصد كان مقيدًا بالرائي لا بالمرئي مثل قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} ... [الأنفال: 44] فقيد ذلك بأعين الرائين يقال كان هذا في عين فلان رجلاً فظهر امرأة وكان كبيرًا فظهر صغيرًا ونحو ذلك لا يقال جاء فلان في صورة كذا ثم تحول في صورة كذا ويكون التصوير في عين الرائي فقط هذا لا يُقال في مثل هذا أصلا».

وَمَا عَمَلُكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ بِهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ وَرَدَتْ عَلَيْكَ آثَارٌ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَتْ بِحَلْقِكَ، وَنَقَضْتَ عَلَيْكَ مَذْهَبَكَ فَالتَمَسْتَ الرَّاحَةَ

مِنْهَا بِهَذِه المَغَالِيطِ وَالَأَضَالِيلِ، الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالبَصَرِ بِالعَرَبِيَّةِ، وَأَنْتَ مِنْهَا فِي شُغُلٍ، كُلَّما غَالَطْتَ بِشَيْءٍ أَخَذَ بِحَلْقِكَ شَيْءٌ فَخَنَقَكَ حَتَّى تَلْتَمِسَ لَهُ أُغْلُوطَةً أُخْرَى، وَلِئِنْ جَزِعْتَ مِنْ هَذِهِ الآثَارِ فَدَفَعْتَهَا بِالمَغَالِيطِ مَالَكَ رَاحَةٌ فِيمَا يُصَدِّقُهَا مِنْ كِتَابِ اللهِ - عز وجل - الَّذِي لَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، وَكَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى دفع هَذِهِ الآثَارِ وَقَدْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَلْفَاظُهَا بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، نَاقِضَةٌ لمذاهِبِكَ وتَفَاسِيرِك، وَقد تَدَاوَلَتْهَا أَيْدِي المُؤْمِنِينَ وَتَنَاسَخُوهَا، يُؤَدِّيهَا الأَوَّلُ إِلَى الآخِرِ، وَالشَّاهِدُ إِلَى الغَائِبِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، لِيَقْرَعُوا بهَا رُؤُوسَ الجَهْمِيَّةِ، وَيُهَشِّمُوا بِهَا أُنُوفَهُمْ، وَيَنْبُذُ تَأْوِيلَكَ هذا فِي حشِّ أَبِيك، وَيُكْسَرُ فِي حَلْقِكَ كما كُسِرَ فِي حُلُوقِ مَنْ كَانَ فَوْقَكَ مِنَ الوُلَاةِ وَالقُضَاةِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ فَوْقِكَ، مِثْلَ ابْنِ أَبي دُؤَاد (¬1)،وَعبْدِ الرَّحْمَن (¬2)، وَشُعَيْبٍ (¬3) بَعْدَهُ، وَغَسَّانَ (¬4)، وَابْنِ رَبَاحٍ (¬5) المُفْتَرِي عَلَى القُرْآنِ. فَإِنْ كُنْتَ تَدْفَعُ هَذِهِ الآثَارَ بِجَهْلِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِي القُرْآنِ، وَكَيْفَ تَحْتَالُ لَهُ؟ وَهُوَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، [22/ظ] نَاقِضٌ لِمَذْهَبِكَ، وَمُكَذِّبٌ لِدَعْوَاكَ حَتَّى ¬

(¬1) هوأَحْمَد بْن أَبِي دَؤاد بْن حريز أَبُو عَبْد اللَّه الْقَاضِي الإيادي، ولي ابْن أَبِي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وَكَانَ موصوفا بالجود والسخاء، وحسن الخلق ووفور الأدب، غيرأنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن. توفي سنة 240 هـ، ينظر تاريخ بغداد (5/ 233). (¬2) مشتبه علي تعيينه .. (¬3) هو شعيب بن سهل بن كثير أبو صالح الملقب شعبويه قاض من الجهمية يقول بخلق القرآن ونفي الصفات والرؤية، وينتقص أهل السنة، وقد كتب على باب مسجده «القرآن مخلوق» فأحرق بابه ونهب العوام بيته، توفي سنة 246 هـ. ينظر تاريخ بغداد (10/ 335). (¬4) مشتبه علي تعيينه. (¬5) هو أحمد بن رباح من الجهمية قال فيه أحمد بن حنبل: «جهمي معروف بذلك»، ينظر سيرأعلام النبلاء (11/ 297).

بَلَغَنِي عَنْكَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ المُعَارِضِ أَنَّكَ قُلْتَ: «مَا شَيْءٌ أَنْقَضُ لِدَعْوَانَا مِنَ القُرْآنِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلى دَفْعِهِ إِلَّا مُكَابَرَة بالتأويل». * * *

ثُمَّ أَنْشَأْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ تَطْعَنُ فِي حَدِيثِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -، بَعْدَمَا صَدَّقْتَ بِهِ، وَعَرَفْتَ أَنَّهُ قَدْ قَالَهُ، ثُمَّ فَسَّرْتَهُ تَفْسِيرًا مُخَالِفًا لِتَفَاسِيرِ أَهْلِ الصَّلاةِ (¬1)، وَهُوَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَنْزَوِى فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ». وَادَّعَيْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ أَنَّ الحَدِيثَ حَقٌّ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَكَ: أَنَّهَا لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ قَدَمَهُ فِيهَا، فَقُلْتَ: مَعْنَى «قَدَمِهِ»: أَهْلُ الشِّقْوَةِ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -بِبَاطِلِ زَعْمِكَ- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] قَالَ: «مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ». فَقَدْ رَوَيْنَا أَيُّهَا المَرِيسِيُّ عَنِ الثِّقَاتِ الأَئِمَّةِ المَشْهُورِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي تَفْسِيرِ القَدَمِ خِلَافَ مَا ادَّعَيْتَ مِنْ تَأْوِيلِكَ هَذَا. (84) حَدَّثَنَاه عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَيَحْيَى الحِمَّانِيُّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بن جُبَير، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، وَالعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا الله - عز وجل -» (¬2). فَهَذَا الَّذِي عَرَفْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا مَشْهُورًا. فَمَا بَالُكَ تَحِيدُ عَنِ المَشْهُورِ المَنْصُوصِ مِنْ قَوْله وتتعلق بالمغمور مِنْهُ، الملتبس الَّذِي يتَحَمَّل المعَانِي. ¬

(¬1) في الأصل «الضلالة» وضرب فوق إعجام الضاد، وما أثبته من «س»، وثلاثة نسخ على «ع». (¬2) إسناده صحيح رجاله ثقات، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (586)، عن أبيه، عن وكيع، وفي (1020)، عن أبيه، عن ابن مهدي، وأخرجه عبد الرزاق في التفسير (3030)، والطبري في التفسير (4/ 538)، من طريق أبي أحمد الزبيري، والدارقطني في الصفات (36)، من طريق أبي عاصم النبيل، خمستهم وغيرهم، عن سفيان الثوري، به.

وَكَيف تَدَّعِي أَنَّهَا لا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُلْقِيَ اللهُ فِيهَا الأَشْقِيَاءَ الَّذِينَ هُمْ قَدَمُ الجَبَّارِ عِنْدَكَ، فَتَمْتَلِئَ بِهِمْ فِي دَعْوَاكَ؟ وَهل اسْتَزَادَتْ أَيُّهَا التَّائِه إلا بَعْدَ مَصِيرِ الأَشْقِيَاءِ إِلَيْهَا، وإِلْقَاءِ اللهِ إِيَاهُم فيها فَاسْتَزَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. أَفَيُلْقِيهُمْ فِيهَا ثَانِيَةً، وَقَدْ أَلْقَاهُم فِيهَا قَبْلُ، فَلَمْ تَمْتَلِئْ؟ كَأَنَّهُ فِي دَعْوَاكَ حَبَسَ عَنْهَا الأَشْقِيَاءَ، وألقى فِيهَا السُّعَدَاءَ، فَلَمَّا اسْتَزَادَتْ أَلْقَى فِيهَا الأَشْقِيَاءَ بَعْدُ، حَتَّى مَلَأَهَا. لَوِ ادَّعَى هَذَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ حَرْفًا مِنَ القُرْآنِ مَا زَادَ! ثُمَّ رَدَدْتَ الحَدِيثَ بَعْدَمَا أَقْرَرْتَ بِهِ أَنَّهُ حَقٌّ فَقُلْتَ: يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ المُشَبِّهَةِ: أَلَيْسَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ كَافِر؟ فَإِن قَالُوا: نعم، فَقل لَهُمْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ جَهَنَّمَ تَمْتَلِئُ مِنْ غَيْرِ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ فَقَدْ كَفَرَ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى قَالَ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13]. وَيْلَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ! إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ مَنْ أَنْزَلَ الَّتِي فِي «ق» {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]. وَيَجُوزُ فِي الكَلَامِ أَنْ يُقَالَ لِمُمْتَلِئٍ اسْتَزَادَ، كَمَا يَمْتَلِئُ الرَّجُلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَيَقُولُ: قَدِ امْتَلَأْتُ وَشَبِعْتُ، وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَزْدَادَ، كَمَا يُقَالُ: امْتَلَأَ المَسْجِدُ مِنَ النَّاسِ، وَفِيهِ فَضْلُ سَعَة لِلرِّجَالِ بَعْدُ، وَامْتَلَأَ الوَادِي مَاءً وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَخْرُجُ المَهْدِيُّ فَيَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا»، وَفِي الأَرْضِ سَعَةٌ بَعْدُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الظُّلْمِ، [23/و] وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ القِسْطِ، فَتَمْتَلِئُ جَهَنَّمُ بِمَا يلقى الله فِيهَا مِمَّا وَعَدَهَا مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ. فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ لِفَضْلٍ فِيهَا غَضَبًا للهِ عَلَى الكفَّار، حَتَّى يَفْعَلَ الجَبَّارُ بِهَا مَا أَخْبَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا شَاءَ، وَكَمَا عَنَى رَسُولُ

الله - صلى الله عليه وسلم -، فَحِينَئِذٍ تَقُولُ: «حَسْبِي، حَسْبِي». وَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ مَا وَصَفَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَضْعِ القَدَمِ فِي جَهَنَّمَ؟ وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ بِكَمَالِهِ فِي جَهَنَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمْلَأَهَا، وَبَعْدَمَا مَلَأَهَا؛ لِأَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، فَجَهَنَّمُ مِنْ أَعْظَمِ الأَمْكِنَةِ، فَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَ بِالآيَةِ إِذْ تَدَّعِي أَنَّ جَهَنَّمَ مُمْتَلِئَةٌ مِنَ الجَبَّارِ، تَبَارَكَ وَتَعالَى - عز وجل - عَنْ وَصْفِكَ. ثُمَّ ادَّعَيْتَ أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ فِي هَذَا قَدَمَ الجَبَّارِ فَقَدْ جَعَلَ اللهَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ وَمَنْ تَبِعَ إِبْلِيسَ. إِذْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ، وَالله يَقُولُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13]. فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ: فَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ جَعَلْتَهُ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ وَمَنْ تَبِعَ إِبْلِيسَ، إِذْ تزْعُم أَنَّهُ لَا تَخْلُو مِنْهُ جَهَنَّمُ، وَلا شَيْءٌ مِنَ الأَمْكِنَةِ، أَفَبَعْضٌ أَوْحَشُ أَمْ كُلٌّ؟. وَيْلَكَ! إِنَّمَا أَرَادَ الله بِقَوْلِهِ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13]: الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ العَذَابُ. وَلَهَا خَزَنَةٌ يَدْخُلُونَهَا؛ مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ، غَيْرُ مُعَذَّبِينَ بِهَا، وَفِيهَا كِلَابٌ وَحَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ وَقَالَ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 30 - 31]، فَلَا يدْفعُ هَذِه الآيَات قَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة: 13]، كَمَا لَا يَدْفَعُ هَذِهِ الآيَةَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَضَعُ الجَبَّارُ فِيهَا قَدَمَهُ». فَإِذَا كَانَتْ جَهَنَّمُ لَا تَضُرُّ الخَزَنَةَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا وَيَقُومُونَ عَلَيْهَا، فَكيف تَضُرُّ الَّذِي سَخَّرَهَا لَهُمْ؟ فَإِنْ أَنْتَ أَقْرَرْتَ بِالخَزَنَةِ وَمَلَائِكَةِ العَذَابِ وَمَا

فِيهَا مِنْ غَيْرِ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ؛ كَفَرْتَ فِي دَعْوَاكَ؛ لِأَنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ جَهَنَّمَ تَمْتَلِئُ مِنْ غَيْرِ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ فَقَدْ كَفَرَ. وَهَذِهِ الآثَارُ الَّتِي رُوِيَتْ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فِي ذِكْرِ القَدَمِ مِمَّا أَنْتَ مُصَدِّقٌ مُحَقِّقٌ. (85) حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ البَصْرِيُّ، ثَنَا أَبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، فَيُدْلِي فِيهَا رَبُّ العَالَمِينَ قَدَمَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَطّ بِعِزَّتِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فِيهَا» (¬1). (86) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ- عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «افْتَخَرَتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: يَا رَبُّ يَدْخُلُنِي الجَبَّارُونَ وَالمُلُوكُ وَالأَشْرَافُ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: يَدْخُلُنِي الفُقَرَاءُ وَالضُّعَفَاءُ وَالمَسَاكِينُ. فَقَالَ اللهُ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِلْجَنَّةِ [23/ظ]: أَنْتِ رَحْمَتِي وَسِعْتِ كُلَّ شَيْءٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَيُلْقَى فِيهَا وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حَتَّى يَأْتِيَهَا فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا. وَتَقُولُ: قَدِي قدي ثَلَاثًا» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (4848)، من طريق شعبة، وفي (6661)، من طريق شيبان النحوي، وفي (7384)، من طريق سعيد بن أبي عروبة، وأخرجه مسلم (2848) من طريق سعيد أيضًا ثلاثتهم (شعبة، وشيبان، وسعيد)، عن قتادة، به. (¬2) صحيح، أخرجه أحمد (11099، 11740)، وعبد بن حميد (908 - منتخب)، وابن أبي عاصم في السنة (528)، وغيرهم، من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، به.= ... = قلت: ورجاله ثقات إلا أن عطاء بن السائب كان قد اختلط في آخر عمره فمن سمع منه قبل الاختلاط فصحيح، ومن سمع بعد الاختلاط فليس بشيء، والراوي عنه هنا حماد بن سلمة، وقد روى عنه قبل الاختلاط وبعده، فلا ندري أهذه الرواية سمعها حماد قبل أوبعد، لا سيما وقد قال العقيلي في الضعفاء: قال عليٌّ -يعني ابن المديني- قلت ليحيى: وكان أبو عوانة حمل عن عطاء بن السائب قبل أن يختلط، فقال: كان لا يفصل هذا من هذا، وكذلك حماد بن سلمة. قلت لكن للحديث طريق آخر فقد أخرجه أحمد (11754)، وأبو يعلى (1172)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (2253)، والبيهقي في البعث والنشور (170)، وغيرهم، من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد، به. وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.

(87) وَقَرَأْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ الهَيْثَمِ المُؤَذِّنِ، أَنَّ عَوْفَ بْنَ أَبِي جَمِيلَةَ الأَعْرَابِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اخْتَصَمَتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقَالَت النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالمُتَكَبِّرِينَ وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجنَّةُ: مَالِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا سِفْلَةُ النَّاسِ وَسُقَّاطُهُمْ؟ -أَوْ كَمَا قَالَتْ- فَقَالَ لَهُمَا: قَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أُسْكِنُكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ خَلْقِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَإِنَّهَا لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللهُ قَدَمَهُ فِيهَا، فَيَنْزَوِيَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ قَدِ قَدِ قَدِ، وَأَمَّا الجَنَّةُ فَإِنَّ اللهَ يُنْشِئُ لَهَا مَا [شاءَ] مِنْ خَلْقِهِ» (¬1). فَأخْبرنَي عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ، أَنَّ عَوْفًا حَدَّثَهُ بِذَلِكَ كَمَا قَرَأْتُ عَلَيْهِ. ¬

(¬1) صحيح أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 207)، من طريق ابن سيرين به. وأخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846)، وأحمد (8164)، وغيرهم من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة، به. وأخرجه البخاري (7449)، ومسلم (2864)، كلاهما من طريق الأعرج، عن أبي هريرة، به. وما بين معقوفين من (س)، ونسخ على (ع).

(88) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ صَالِحٍ، حَدَّثَهُ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَطْوِي المَظَالِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَجْعَلُهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَجْرِ الأَجِيرِ، وَعَقْرِ البَهِيمَةِ، وَفَضِّ خَاتَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» (¬1). يُرِيدُ افْتِضَاضَ الأَبْكَارَ. فَانْظُرْ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ فِي أَلْفَاظِ مَا رَوَيْتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي أَقْرَرْتَ بِأَنَّهُ قَالَهُ، هَلْ تَحْتَمِلُ أَلْفَاظُهُ التَّأْوِيلَ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ؟ * * * ¬

(¬1) ضعيف لإرساله، ولضعف عبد الله بن صالح كاتب الليث، والحديث أخرجه ابن منده في الرد على الجهمية (1/ 20)، من طريق عبد الله بن صالح، به.

باب ما جاء في العرش

بَابُ مَا جَاءَ فِي العَرْشِ ثُمَّ انْتَدَبْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ مُكَذِّبًا بِعَرْشِ اللهِ وَكُرْسِيِّهِ، مُطْنِبًا فِي التَّكْذِيبِ بِجَهْلِكَ، مُتَأَوِّلًا فِي تَكْذِيبِهِ بِخِلَافِ مَا تَعْقِلُهُ العُلَمَاءُ. فَرَوَيْتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَعلمه». قُلْتَ: فَمَعْنَى الكُرْسِيِّ: العِلْمُ، فَمَنْ ذَهَبَ فيه إِلَى غَيْرِ العِلْمِ أَكْذَبَهُ كِتَابُ الله تَعَالَى. فَيُقَالُ لِهَذَا المَرِيسِيِّ: أَمَّا مَا رَوَيْتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الأَحْمَرِ، وَلَيْسَ جَعْفَرٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ، إِذْ قَدْ خَالَفَتْهُ الرُّوَاةُ الثِّقَاتُ المُتْقِنُونَ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ البَطِينُ، عَنْ سَعِيدِ بن جُبَير، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الكُرْسِيِّ خِلَافَ مَا ادَّعَيْتَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. (89) حَدثنَاه يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، والعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا الله» (¬1). فَأَقَرَّ المَرِيسِيُّ بِهَذَا الحَدِيثِ وَصَحَّحَهُ، وَزَعَمَ أَنَّ وَكِيعًا رَوَاهُ، إِلَّا أَنَّ تَفْسِيرَ القَدَمَيْنِ هَاهُنَا فِي دَعْوَاهُ: الثَّقَلَيْنِ قَالَ: يَضَعُ اللهُ عِلْمَهُ، وَقَضَاءَهُ لِلثَّقَلَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَحْكُمُ بِهِ فِيهِمْ. فَهَلْ سَمِعَ سَامِعٌ مِنَ العَالَمِينَ بِمِثْلِ مَا ادَّعَى هَذَا المَرِيسِيُّ؟ وَيْلَكَ! عَمَّنْ أَخَذْتَهُ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْطَانٍ تَلَقَّنْتَهُ؟ فَإِنَّهُ مَا سَبَقَكَ إِلَيْهَا آدَمِيٌّ نَعْلَمُهُ. ¬

(¬1) صحيح، تقدم تخريجه رقم (83).

أَيَحْتَاجُ الرَّبُّ - عز وجل - أَنْ يَضَعَ مُحَاسَبَةَ العِبَادِ عَلَى كِتَابِ عِلْمِهِ، [24/و] وَأَقْضِيَةٍ يَحْكُمُ بِمَا فِيهِ بَيْنَهُمْ؟ وَلَا أَرَاكَ مَعَ كَثْرَةِ جَهْلِكَ إِلَّا وَسَتَعْلَمُ أَنَّكَ احْتَجَجْتَ بِبَاطِلٍ، جَعَلْتَهُ أُغْلُوطَةً تُغَالِطُ بِهَا أَغْمَارَ النَّاسِ وَجُهَّالَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آتِي بَابَ الجَنَّةِ فَأَقْرَعُهُ فَيُفْتَحُ لِي، فَأَرَى رَبِّي وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، فَيَتَجَلَّى لِي فَأَخِرُّ سَاجِدًا» (¬1). فَهَلْ يَجُوزُ لَكَ فِي تَأْوِيلِكَ أَنَّهُ يَأْتِي رَبَّهُ وَهُوَ عَلَى عِلْمِهِ؟ إِذْ ادَّعَيْتَ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الكُرْسِيَّ غَيْرُ العِلْمِ أَكْذَبَهُ القُرْآنُ بِمَا رَوَيْتَ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَعَنْ نَفْسِهِ خِلَافَ مَا رَوَيْتَ فِيهِ. فَكَيْفَ تَحِيدُ عَنْ هَذَا المَشْهُورِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى المَغْمُورِ عَنْهُ إِلَّا مِنْ ظِنَّةٍ وَرِيبَةٍ؟. وَأَمَّا قَوْلُكَ: مَنْ ذَهَبَ فِي الكُرْسِيِّ إِلَى غَيْرِ العِلْمِ أَكْذَبَهُ كِتَابُ الله. وَيْلَكَ! وَأَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ الله تُكَذِّبُهُ؟ أَأُنزِلَ عَلَى غِيَاثٍ اليَهُودِيِّ فِي تَكْذِيبِهِ آيَةً لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟! وَيْلَكَ! وَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ نِسَاءِ المُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ إِلَّا وَقَدْ عَقِلَ أَمْرَ العَرْشِ وَالكُرْسِيِّ، وَآمَنَ بِهِمَا إِلَّا أَنْتَ وَرَهَطُكَ؟ وَلَيْسَ العَرْشُ وَالكُرْسِيُّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُسْنَدَ فِي تَثْبِيتِهِمَا الآثَارُ وَيُؤَلَّفُ فِيهِمَا الأَخْبَارُ، لَوْلَا أُغْلُوطَاتُكَ هَذِه؛ لما أَن عِلْمَهُمَا وَالإِيمَانَ بِهِمَا خَلُصَ إِلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، إِلَّا إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ، طَهَّرَ الله مِنْكُمْ بِلَادَهُ، وَأَرَاحَ مِنْكُمْ عِبَادَهُ! ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن عباس، أحمد (2546)، والطيالسي (2711)، وعبد بن حميد (695)، وأبو يعلى (2328)، والمصنف في الرد على الجهمية (91)، وغيرهم، وأسانيدهم مدارها على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

والعَجَبُ مِنْ اسْتِطَالَتِكَ بِجَهَالَتِكَ هَذِهِ، وَأُغْلُوطَاتِكَ؛ إِذْ تَقُولُ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالله وَبِكِتَابِهِ مِنْكَ: إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا تَفْسِيرَ مَا قُلْنَا، وَإِلَّا فَسَلُوا العلمَاءَ ولا تَعْجَلُوا. وَيْلَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ، قَدْ سألنا العُلَمَاءَ، وَجَالَسْنَا الفُقَهَاءَ، فَوَجَدْنَاهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِكَ، فَسَمِّ عَالِمًا مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ غَبَرَ يَحْتَجُّ بِمثْل هَذِه العَمَايَات، ويتَكَلَّم بها حتى نَعْرِفَهُ فَنَسْأَلَهُ، فَإِنَّا مَا رَأَيْنَا مُتَكَلِّمًا يَنْتَحِلُ الإِسْلَامَ أَظْهَرَ كُفْرًا، وَأَسْمَجَ كَلَامًا، وَأَقَلَّ إِصَابَةً فِي التَّأْوِيلِ مِنْكَ. وَقَدْ عَرَضْنَا كَلَامَكَ عَلَى كَلَامِ مَنْ مَضَى، وَمَنْ غَبَرَ مِنَ العُلمَاءِ، فَمَا فَوَجَدنَا أَحَدًا عَلَى مَذْهَبِكَ، وَعَرَضْنَاهُ عَلَى لُغَاتِ العَرَبِ والعَجَمِ فَلَمْ يَحْتَمِلْ شَيْءٌ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ كَلَامِكَ. وَلَوْ كَانَ عِنْدَكَ مَنْ يَنْصَحُكَ لَحَجَرَ عَلَيْكَ الكَلَامَ فَضْلًا أَنْ يَفْتَخِرَ بِحُسْنِ الكَلَامِ. وَسَنَذْكُرُ لَكَ آثَارًا مِمَّا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَصْحَابِهِ فِي الكُرْسِيِّ لِتَنْظُرَ فِي أَلْفَاظِهَا، هَلْ تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُغْلُوطَاتِكَ هَذِهِ؟ (90) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، «أَنَّ جَعْفَرًا - رضي الله عنه - جَاءَهَا إِذْ هُمْ بِالحَبَشَةِ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَتْ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فَتًى مُتْرَفًا مِنَ الحَبَشَةِ شَابًّا جَسِيمًا، مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ، فَطَرَحَ دَقِيقًا كَانَ مَعَهَا، فَنَسَفَتْهُ الرِّيحُ، فَقَالَتْ: أَكِلُكَ إِلَى يَوْمٍ يَجْلِسُ المَلِكُ عَلَى الكُرْسِيِّ فَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ من الظَّالِم» (¬1). ¬

(¬1) حسن، أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 246)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (244)، وأبو طاهر المخلِّص في المُخَلِّصِيَّات (3/ 291)، وغيرهم، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة، به، وإسناده صحيح سوى الراوي عن أسماء بنت عميس، سعد بن معبد «التغلبي» كما = ... = ذكره البخاري في تاريخه، ووقع في إسناد أبي طاهر «الهاشمي»، وسعد هذا مجهول، لم أجد من ذكره سوى البخاري، فقال في تاريخه (4/ 65): «سعد بن معبد التغلبي، قاله لي إسحاق بن منصور، نا أبو أسامة، نا زكريا، عن أبي إسحاق» ا. هـ وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وقال: روى عن (بياض)، روى عنه (بياض)، سمعت أبي يقول ذلك. قلت وللحديث طريقان آخران. الطريق الأول: ما أخرجه ابن ماجه (4010)، وابن حبان (5058)، وأبو يعلى (2003)، وابن أبي الدنيا في الأهوال (243)، وغيرهم من طريق أبي الزبير عن جابر، بنحوه وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمهاجرة الحبشة لما رجعوا «ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة» فقال فتية منهم: بلى يا رسول الله وقصوا عليه بنحو قصة جعفر إلا أنهم قالوا كانت تحمل قلة ماء. قلت وهذا إسناد صحيح، سوى ما فيه من عنعنة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس الراوي عن جابر بن عبد الله، وأبو الزبير مدلس. الطريق الثاني: الحديث الذي يليه فانظره فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن إن شاء الله.

(91) حَدَّثَنَا يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ [24/ظ]، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لما قدم جَعْفَرٌ من الحَبَشَةِ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْتَ بِالحَبَشَةِ»؟ قَالَ: رَأَيْتُ امْرَأَةً عَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ فِيهِ طَعَام، فجَاء فَارِسٌ فَأَذْرَاهُ، فَجَلَستْ تَجْمَعُهُ، ثُمَّ التَفَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: وَيْحَك! كَيفَ تَصْنَعُ لَوْ قَدْ وَضَعَ المَلِكُ كُرْسِيَّهُ، فَأَخَذَ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: «مَا قَدَّسَ اللهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ شَدِيدِهَا غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» (¬1). ¬

(¬1) حسن، وقد اختلف على عطاء بن السائب في هذا الحديث، فرواه خالد بن عبد الله الواسطي، عنه، عن ابن بريدة، عن أبيه، به كما عند المصنف هنا. ورواه منصور بن أبي الأسود الكوفي، عنه، عن، محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه، به. كما أخرجه الطبراني في الأوسط (5234)، والبزار (10/ 334)، والحربي في غريب الحديث (1/ 251)، وغيرهم من طرق عن منصور بن أبي الأسود، به. وقال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم رواه عن عطاء بن السائب إلا منصور بن أبي الأسود، ولا نعلم له عن بريدة = ... = طريقا غير هذا الطريق». قلت: لا. ورواه عمرو بن أبي قيس الكوفي، عنه، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه، به. كما أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (582)، من طريق عمر بن أبي قيس، به. قلت: وعطاء بن السائب كان قد اختلط بأخرة، وخالد بن عبد الله الراوي عنه هنا قد نص البخاري أنه روى عنه بعد الاختلاط، أما منصور بن أبي الأسود، وعمرو بن أبي قيس فلم ينص عليهما أحد، وهذا غير كاف في إثبات سماعهما منه قبل الاختلاط، لكن هناك أمر آخر أن الذين وصفوا عطاءًا بالاختلاط ذكروا أن الذين سمعوا منه في حال الاختلاط البصريون حين قدم عليهم في آخر حياته، ومنصور بن أبي الأسود، وعمرو بن أبي قيس، كلاهما كوفي، وقد اتفقا في روايتهما عنه كما ترى. وبما مر آنفا وبما ذكرناه فالحديث حسن إن شاء الله تعالى.

(92) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُور أبنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الله مَوْلَى غَفْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَس بْن مَالِكٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ اتَّخَذَ فِي الجَنَّةِ وَادِيًا أَفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا كَانَ يَوْم الجُمُعَة مِنْ أَيَّامِ الآخِرَةِ هَبَطَ الرَّبُّ مِنْ عَرْشِهِ إِلَى كُرْسِيِّهِ، وَحَفَّ الكُرْسِيَّ بِمَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ، وحَفَّ المَنَابِرَ بِكَرَاسِيَّ مِنْ ذَهَبٍ فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا الصديقون وَالشُّهَدَاء» (¬1). ¬

(¬1) صحيح لغيره، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (75، 93)، والدارقطني في رؤية الله (76)، من طريق محمد بن شعيب، به، وهذا إسناد ضعيف؛ لأجل عمر بن عبد الله مولى غفرة، ضعفه ابن معين، والنسائي، ثم إنه منقطع بينه وبين أنس، قال أبوحاتم الرازي عنه: لم يلق أنسًا. قلت: لكن تابعه: أبو عمران الجوني، أخرجه الطبراني في الأوسط (2084)، عن أحمد بن زهير، عن محمد بن عثمان بن كرامة، عن خالد بن مخلد القطواني، عن عبد السلام بن حفص، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، به ومن طريق الطبراني، أخرجه الضياء في المختارة (2291)، وإسناد هذه المتابعة حسن؛ رجاله ثقات، غير خالد بن مخلد القطواني؛ وثقه العجلي، وابن شاهين، وقال ابن معين وابن عدي: ما به بأس. ... وتابعه أيضًا: علي بن الحكم البناني، أخرجه أبو يعلى في مسنده (4228)، عن شيبان بن فروخ، عن الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم، عن أنس، به. وهذا إسناد حسن. ... = = هذا وقد أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (76)، والبزار في مسنده (7527)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (91)، والطبراني في الأوسط (6717)، وفي الأحاديث الطوال (35)، وغيرهم من طرق عن أنس - رضي الله عنه -، ولا تخلو أسانيدها من مقال. فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح إن شاء الله تعالى. قال الذهبي في العلو (ص: 33): بعد أن ذكر بعض طرقه: «وَهَذِهِ طُرُقٌ يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا رزقنا الله وَإِيَّاكُم لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ!».

(93) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ- عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ إِلَى المَاءِ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَالعَرْشُ عَلَى المَاءِ، وَالله، فَوْقَ العَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُم عَلَيْهِ» (¬1). (94) حَدَّثَنَا يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ قَالَا: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، وَالعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا الله» (¬2). (95) حَدَّثَنَا الحِمَّانِيُّ، ثَنَا الحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَن ... عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ فِي الكُرْسِيِّ، إِلَّا بِمَنْزِلَةِ حَلقَةٍ بِأَرْض فَلاَة» (¬3). ¬

(¬1) حسن، أخرجه أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (33)، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 242 - 244)، والطبراني في الكبير (8987)، والبيهقي في الأسماء والصفات (858)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 688)، من طريق حماد بن سلمة، به. قلت: وإسناده حسن لأجل عاصم هو ابن أبي النجود صاحب القراءة، في حفظه شيء، لا ينزله عن مرتبة الحسن. وقال الذهبي في العلو: إسناده صحيح. هذا وقد كنت صححت هذا الحديث في كتابي التخريجات العلمية لكتاب الرد على الجهمية الذي هو في ذيل كتاب الرد على الجهمية بتحقيقي، ولكني أرى الآن أن الحديث حسن فقط. (¬2) صحيح، تقدم تخريجه برقم (83). (¬3) منكر، وآفته الحكم بن ظهير، قال البخاري: منكر الحديث تركوه، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. ولم أقف على من أخرج هذا الحديث غير المصنف.

(96) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، أبنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الجَنَّةَ، فَعَظَّمَ الرَّبَ. فَقَالَ: «إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّهُ لَيَقْعُدُ عَلَيْهِ، فَمَا يَفْضَلُ مِنْهُ إِلَّا قَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَمَدَّ أَصَابِعَهُ الأَرْبَعَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الجَدِيد إِذْا رَكِبَهُ مَنْ يُثْقِلُهُ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الطبري في التفسير (4/ 540)، وعبد الله بن أحمد في السنة (593)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 650)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 589)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 4)، وغيرهم، من طرق عن إسرائيل بن أبي إسحاق، به. وأخرجه الطبري (4/ 540)، وابن أبي عاصم في السنة (574)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 548)، وابن بطة في الإبانة (3/ 178)، وغيرهم، من طريق إسرائيل، عن، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب، قال: أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ، فذكره. ورواه الضياء في المختارة (154)، من طريق شعبة عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. قلت: وقد اختلفوا فيه بين مصحح له، ومضعف. قال ابن الجوزي في العلل المتناهية: «هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإسناده مضطرب جدا وعبد الله بن خليفة ليس من الصحابة فيكون الحديث الأول مرسلا ...» ثم ذكر الاختلاف في ألفاظه. وقال الإمام الذهبي في العرش (2/ 153): «هذا حديث محفوظ من حديث أبي إسحاق السبيعي إمام الكوفيين في وقته، سمع من غير واحد من الصحابة، وأخرجا حديثه في الصحيحين، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. تفرد بهذا الحديث عن عبد الله بن خليفة من قدماء التابعين، لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرًا له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري، وحدث به أبو أحمد الزبيري، ويحي بن أبي بكير، ووكيع، عن إسرائيل. وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب (السنة والرد على الجهمية) له، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله ابن خليفة، عن = ... = عمر - رضي الله عنه -، ولفظه {إذا جلس الرب على الكرسي، سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد}. ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر {إذا جلس الرب على الكرسي} فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها. قلت -يعني الذهبي-: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا أدري أخرجه أم لا؟، فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح. فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم، الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟، بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله - عز وجل - قال الإمام أحمد: (لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنِّعت وإن نَبَت عن الأسماع) فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلوَن لهذا الحديث.» ا. هـ قلت: وقد آثرت أن أنقل كلام الإمام الذهبي على طوله، ولكن هذا كلام عزيز، وقاعدة جليلة ينبغي أن تراعى في الكلام على أحاديث الصفات، وما يتعلق بأمور العقيدة التي عمدتنا فيها أسلافنا الأوائل.

فَهَاكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ خُذْهَا مَشْهُورَةً مَأْثُورَةً فَصُرَّهَا، وَضَعْهَا بِجَنْبِ تَأْوِيلِكَ الَّذِي خَالَفْتَ فِيهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ثُمَّ أَنْشَأْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ, وَاعِظًا لِمَنِ اتَّعَظَ قَبْلَكَ بِمَوَاعِظِ الله وَقَبِلَهَا عَنِ اللهِ وَصَدَّقَ فِيهَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَانْتَهَى فِيهَا إِلَى مَا أَمَرَ الله، فَانْزَجَرَ عَمَّا نَهَى اللهُ فَقُلْتَ لَهُمْ: لَا تَعْتَقِدُوا فِي أَنْفُسِكُمْ أَنَّ لِلهِ شَبَهًا أَوْ مِثْلًا، أَوْ عِدْلًا، أو يُدْرَكُ بِحَاسَّةٍ، وَانْفُوا عَنِ اللهِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَصِفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ للهِ شَبَهًا أوَعدْلًا؛ فَهُوَ كَافِرٌ. فَيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ المُدَّعِي فِي الظَّاهِرِ لَما أَنْتَ لَهُ مُنْتَفِن (¬1) فِي البَاطِنِ: ¬

(¬1) كذا بالأصل، وهو متجه، وهذا التنوين هو الغالي، ينظر شرح ابن عقيل (1/ 20).

قَدْ قَرَأْنَا القُرْآنَ كَمَا قَرَأْتَ، وَعَقِلْنَا عَنِ الله أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَقَدْ نَفَيْنَا عَنِ الله مَا نَفَى عَنْ نَفْسِهِ، وَوَصَفْنَاهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، فَلَمْ نَعْدُهُ، وَأَبَيْتَ أَنْ تَصِفَهُ بِمَا [25/و] وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَوَصَفْتَهُ بِخِلَافِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. أَخْبَرَنَا اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ ذُو سَمْعٍ وَبَصَرٍ، وَيَدَيْنِ، وَوَجْهٍ، وَنَفْسٍ، وَعِلْمٍ، وَكَلَامٍ، وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، فَآمَنَّا بِجَمِيعِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ كَمَا وَصَفَهُ بِلَا كَيفَ، وَنَفَيْتَهَا أَنْتَ عَنْهُ كُلَّهَا أَجْمَعَ بِعَمَايَاتٍ مِنَ الحُجَجِ، وَتَكْيِيفٍ. فَادَّعَيْتَ أَنَّ وَجْهَهُ: كُلُّهُ، وَأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِنَفْسٍ، وَأَنَّ سَمْعَهُ: إِدْرَاكُ الصَّوْتِ إِيَّاهُ، وَأَنَّ بَصَرَهُ: مُشَاهَدَةُ الأَلْوَان؛ كَالجِبَالِ وَالحِجَارَةِ وَالأَصْنَامِ الَّتِي تَنْظُرُ إِلَيْكِ بِعُيُونٍ لَا تُبْصِرُ، وَأَنَّ يَدَيْهِ: رِزْقَاهُ، مُوَسَّعُهُ وَمَقْتُورُهُ، وَأَنَّ عِلْمَهُ وَكَلَامَهُ: مَخْلُوقَانِ مُحْدَثَانِ. وَأَنَّ أَسْمَاءَهُ: مُسْتَعَارَةٌ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ، وَأَنَّ فَوْقَ عَرْشِهِ مِنْهُ مِثْلَ مَا هُو فيَ أَسْفَلِ سَافِلِينَ، وَأَنَّهُ فِي صِفَاتِهِ، كَقَوْل النَّاس فِي كَذَا، وكَقَوْل العرب فِي كَذَا، تَضْرِبُ لَهُ الأَمْثَالَ تَشْبِيهًا بِغَيْرِ شَكْلِهَا، وَتَمْثِيلًا بِغَيْرِ مِثْلِهَا، فَأَيُّ تَكْيِيفٍ بأَوْحَشَ مِنْ هَذَا؛ إِذْ نَفَيْتَ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَغَيْرَهَا عَنِ اللهِ تَعَالَى بِهَذِهِ الأَمْثَالِ وَالضَّلَالَاتِ المُضِلَّاتِ؟ وَادَّعَيْتَ فِي تَأْوِيلِكَ أَنَّ مَعْبُودَكَ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ، أَبْكَمُ لَا يَتَكَلَّمُ، أَعْمَى لَا يُبْصِرُ، أَجْذَمُ لَا يَدَ لَهُ، مُقْعَدٌ لَا يَقُومُ وَلَا يَتَحَرَّكُ، جَاهِلٌ لَا يَعْلَمُ، مُضْمَحِلٌّ ذَاهِبٌ لَا يُوصَفُ بِحَدٍّ، وَلَا بِنَفْسٍ، وَلَا يُدْرَكُ بِحَاسَّةٍ فِي دَعْوَاكَ. وَهَذَا خِلَافُ صِفَةِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَالحَمْدُ لله الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمَعْرِفَتِهِ، وَطَبَعَ عَلَى قَلْبكَ بِجَهَالَتِهِ، ولَو قد قَرَأْتَ القُرْآنَ وَعَقِلْتَ عَنِ اللهِ مَعْنَاهُ؛ لَعَلِمْتَ يَقِينًا أَنَّهُ يُدْرَكُ بِحَاسَّةٍ بَيِّنَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْهُ مُوسَى فِي الدُّنْيَا الصَّوْتَ، وَالكَلَامَ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الحَوَاسِّ، قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164].

وَتُدْرَكُ مِنْهُ فِي المَعَادِ الرُّؤْيَةُ وَالكَلَامُ، وَالنَّظَرُ عَيَانًا، كَمَا قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَغْمِكَ، وَإِنْ كَرِهْتَ، قَالَ الله تَعَالَى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77]، فَهَلْ مِنْ حَوَاسٍّ أَعْظَمَ مِنَ الكَلَامِ وَالنَّظَرِ؟ غَيْرَ أَنَّكُمْ جَعَلْتُمُ الحَوَاسَّ كَلِمَةً أُغْلُوطَةً تُغَالِطُونَ بِهَا الصِّبْيَانَ وَالعُمْيَانَ؛ لِأَنَّ قَوْلَكُمْ: لَا تُدْرِكُهُ الحَوَاسُّ مَعْنَاهُ عِنْدَكُمْ: أَنَّهُ لَا شَيْءٌ؛ لِمَا قَدْ عَلِمْتُمْ وَجَمِيعُ العَالَمِينَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَقع عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيءِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُدْرَكَ بِكُلِّ الحَوَاسِّ أَوْ بِبَعْضِهَا، وَأَنَّ لَا شَيْءَ لَا يُدْرَكُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَوَاسِّ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ، فَجَعَلْتُمُوهُ لَا شَيْءَ. وَقَدْ كَذَّبَكُم اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ فَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19]، فَجَعَلَ نَفْسَهُ أَعْظَمَ الأَشْيَاءِ، وَأَكْبَرَ الأَشْيَاءِ، وَخَالِقَ الأَشْيَاءِ. فَإِنْ أَنْكَرْتَ مَا قُلْنَا، وَلم تَعْقِلْهُ بِقَلْبِكَ؛ فَسَمِّ مِنَ الأَشْيَاءِ شَيْئًا - صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا- يَقَعُ عليه اسْمُ الشَّيْءِ لَا يُدْرَكُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَوَاسِّ الخَمْسِ، غَيْرَ مَا ادَّعَيْتُمْ عَلَى الأَكْبَرِ الأَكْبَرِ، وَالأَعْظَمِ الأَعْظَمِ، وَالأَوْجَدِ الأَوْجدِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَال. فَجَعَلْتُمُ الخَلْقَ الفَانِيَ مَوْجُودًا، وَالقَيِّمَ الدَّائِمَ البَاقِيَ غَيْرَ مَوْجُودٍ، وَلَا يُدْرَكُ بِحَاسَّةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. [25/ظ] وَادَّعَيْتُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ مِمَّنْ لَا يُكَيِّفُ التَّكْيِيفَ، وَعَلى مَنْ لَا يُشَبِّهُ التَّشْبِيه، وَأَنْتُم دَائِبُونَ تُكَيِّفُونَ، وَتُشَبِّهُونَ بِأَقْبَحِ الأَشْيَاءِ. وَأَبْطَلِ الأَمْثَالِ، فَمَرَّةً تُكَيِّفُهُ فَتُشَبِّهُهُ بِأَعْمَى، وَمَرَّةً بِأَقْطَعَ، فَكَانَ وَعْظُكَ هَذَا لِهَؤُلَاءِ كَقَوْلِ القَائِلِ: كَلِمَةُ حَقٍ يُبْتَغَى بِهَا بَاطِل. وَالعَجَبُ مِنْ إِعْجَابِكَ بِهَذِهِ المَقْلُوبَات مِنْ تَفَاسِيرِكَ، وَالمُحَالَاتِ مِنْ شَرْحِكَ وَتَعْبِيرِكَ، حَتَّى رَوَيْتَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «لِلْحَدِيثِ جَهَابِذَةٌ؛

كَجَهَابِذَةِ الوَرِقِ». وَصَدَقْتَ أَيُّهَا المَرِيسِيُّ، وَمَا أَنْتَ وَالله مِنْهُمْ، لَا مِنْ رِجَالِهِ وَلَا مِنْ رُوَاتِهِ وَلَا مِنْ جَهَابِذَتِهِ، فَقَدْ وَجَدْنَا الزُّيُوفَ عِنْدَكَ جَائِزَةً نَقَّادَةً، وَالنَّقَادَةَ نَفَايَةً، فَكَيْفَ تَسْتَطِيلُ بِمَعْرِفَتِهَا، وَأَنْتَ المُنْسَلِخُ مِنْهَا؟ ثُمَّ ادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى هَاهُنَا السَّمَاعُ مِنْ بِشْرٍ. قَالَ: ثُمَّ ابْتَدَأْنَا بِعَوْنِ الله فِي حِكَايَاتِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ المُعْجَبِ بِضَلَالَاتِ هَذَيْنِ الضَّالَّيْنِ: فَرَغْتَ مِنْ كَلَامِ بِشْرٍ بِسَخَطِ الرَّحْمَنِ، وَابْتَدَأْتَ فِي كَلَامِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ بِعَوْنِ الشَّيْطَانِ. وَمِثْلُ فَرَاغِكَ مِنْ كَلَامِ بِشْرٍ، وَشُرُوعِكَ فِي كَلَام ابْن الثَّلْجِي؛ كَمِثْلِ المُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ، فَرَغْتَ مِنَ احْتِجَاجِ كَافِرٍ، إِلَى احْتِجَاجِ جَهْمِيٍّ خَاسِرٍ، فَعَلَى أَيِّ جَنْبَيْكَ وَقَعْتَ مِنْهُمَا لَمْ تَنْجَبِرْ، وَبِأَيِّهِمَا اسْتَعَنْتَ لَمْ تَظْفَرْ، وَبِأَيِّهِمَا اسْتَنْصَرْتَ لَمْ تُنْصَرْ، وَكَذَلِكَ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ لِبَعْضِ أَهْلِ البِدَعِ إِذَا انْتَقَلُوا مِنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ: «إِنَّكُمْ لَا تَرْجِعُونَ عَنْ بِدْعَةٍ، إِلَّا تَعَلَّقْتُمْ بِأُخْرَى هِيَ أَضَرُّ عَلَيْكُمْ مِنْهَا». (97) حَدَّثَنَاه عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الهِقْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ. (¬1) وَسَنَنْقُضُ عَلَى الثَّلْجِيِّ مِنْ ضَلَالَاتِهِ، كَمَا نَقَضْنَا مِنْ ضَلَالَاتِ المَرِيسِيِّ إِنْ شَاءَ الله، بعون الله وتوفيقه. حكيت أَيهَا المعارض عَنِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرْتُ بِشْرًا المَرِيسِيَّ فِي العَرْشِ أَنَّ اللهَ فَوْقَهُ، قال فَقَالَ لِي بِشْرٌ: لَا أَقُولُ إنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ. ¬

(¬1) أخرجه الهروي في ذم الكلام (912)، من طريق المصنف، به.

فَيُقَالُ لِهَذَا الثَّلْجِيِّ الغَوِيِّ: أَوَّلُ غِوَايَتِكَ سُؤَالُكَ المَرِيسِيِّ عَنْ تَفْسِيرِ العَرْشِ، إِذْ عَقِلَ أَمْرَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ. وَيْلَكَ! أَمَا وَجَدْتَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ وَأَهْلِ العِلْمِ الَّذِينَ أَدْرَكْتَ أَجْوَدَ إِيمَانًا بِالعَرْشِ مِنْ بِشْرٍ وَأَحْسَنَ مَعْرِفَةً لَهُ حَتَّى تُنَاظِرَهُ فِيهِ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ تَسْتَحْسِنُ تَفْسِيرَهُ وَتَرْوِيهِ لِأَهْلِ الغَفْلَةِ عَنْهُ، كيمَا يَعْتَقِدُونَهُ دِينًا، وَكَانَ أَكْفَرَ أَهْلِ زِمَانِهِ بِالعَرْشِ، وَأَشَدَهُّمْ لَهُ إِنْكَارًا مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الإِسْلَامَ، فَكْفِي بِهَذَا مِنْكَ دَلِيلًا وَظِنَّةً عَلَى الرِّيبَةِ أَنْ يَكُونَ المُخْتَارُ عِنْدَكَ من جَمِيع العُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ العَرْشِ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ المَريسِي. أَو مَا سَمِعْتَ بِبِشْرٍ وَسُوءِ مَذْهَبِهِ، وَافْتِضَاحِهِ فِي بَلَدِهِ، وَأَهْلِ مِصْرِهِ، وَأَنْتَ لَهُ جَارٌ قَرِيبٌ؟ وَلَكِنْ يَعْتَبِرُ بِالإِمَامِ المَأْمُوم، والصَّاحِبُ بالصَّاحِبِ. أَو لم يَكْفِكَ أَيُّهَا الثَّلْجِيُّ مَا قَصَّ الله فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ العَرْشِ وَتَفْسِيرِهِ، وَمَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ الرَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ تَقْنَعْ بِهِمَا حَتَّى اضْطُرِرْتَ إِلَى مُنَاظَرَةِ المَرِيسِيِّ؟ وَالمُنَاظَرَةُ فِي العَرْشِ رِيبَةٌ لَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الإِيمَانَ بِهِ قَدْ خَلُصَ إِلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا فِقْهَ لَهُمْ وَلَا عِلْمَ، وَكَيْفَ [26/و] إِلَى مَنْ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ العِلْمِ؟ فَأَمَّا إِذ أَبَيْتَ إِلَّا مُنَاظَرَتَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: أَيُّهَا المَرِيسِيُّ، لَا يُقَالُ: إِنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ، وَلَكِن مَلِكٌ كَرِيمٌ خَالِقٌ غَيْرُ مَخْلُوقَ عَلَى عَرْشٍ عَظِيمٍ مَخْلُوقٍ جَسِيمٍ عَلَى رَغْمِكَ وَأَنْتَ مَلُومٌ، فَمَنْ لمن يُؤْمِنْ أَنَّهُ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَجَحَدَ آيَاتِ اللهِ، وَرَدَّ أَخْبَارَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وَقَوْلُكَ: كَكَذَا عَلَى كَذَا، وَكَمَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ، تَشْبِيهٌ وَدِلْسَة، وَكُلْفَةٌ لَمْ نُكَلَّفْ ذَلِكَ فِي دِينِنَا، وَلَكِنْ نَقُولُ كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}

[طه: 5]، وَكَمَا قَالَ الرَّسُولُ المُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الأَعْلَى، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ العُلَى». وَتِلْكَ العُرْوَةُ الوُثْقَى، مَنِ انْتَهَى إِلَيْهَا اكْتَفَى، وَمَنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ اعْتَدَى. ثُمَّ انْتَدَبَ المُعَارِضُ مُتَكَلِّمًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِي العَرْشِ، مُتَأَوِّلًا فِي تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَاهُ خِلَافَ مَا تَأَوَّلَهُ أَهْلُ العِلْمِ بِالله وَكتابه وآياته، فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)}، لَيْسَ لَهُ تَأْوِيلٌ إِلَّا عَلَى أَوْجُهٍ نَصِفُهَا، وَنَكِلُ عِلْمَهَا إِلَى الله. قَالَ بَعْضُهُمْ: العَرْشُ أَعْلَى الخَلْقِ، وَاللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَبِكُلِّ مَكَانٍ غَيْرَ مَحْوِيٍّ وَلَا مُلَازِقٍ، وَلَا مُمَازِجٍ، وَلَا بَائِنٍ بِاعْتِزَالٍ، وَبِفُرْجَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، لَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ عَلَى العَرْشِ؛ كَجِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: مَا تَرَكْتَ أَنْتَ وَإِمَامُكَ هَذَا مِنَ التَّكْذِيبِ بِالعَرْشِ غَايَةً، وَلَا مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الله فِيهِ نِهَايَة. أَوَّلُهُ أَنَّكَ قُلْتَ وَحَكَيْتَ أَنَّ العَرْشَ أَعْلَى الخَلْقِ. وَاللهُ مُكَذِّبُكَ فِي كِتَابِهِ إِذْ يَقُولُ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنَّ العَرْشَ أَعْلَى الخَلْقِ وَكَانَ العَرْشُ عَلَى المَاءِ قَبْلَ الخَلْقِ، إِذْ لَا أَرْضَ وَلَا سَمَاءَ، وَلَا خَلْقَ غَيْرُ العَرْش وَالمَاءِ؟ وَمِمَّا يَزِيدُكَ تَكْذِيبًا قَوْلُ الله تَعَالَى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75]، وَقَالَ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]. أَفَتَحْمِلُ المَلَائِكَةُ فِي دَعْوَاكَ أَعْلَى الخَلْقِ، أَوْ أَسْفَلَهُ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الخَلْقِ؟ وَقَالَ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة: 17] أَيَحْمِلُونَ يَوْمَئِذٍ أَعْلَى الخَلْقِ وَيَتْرُكُونَ أَسْفَلَهُ؟ أَمِ المَلَائِكَةُ تَحْمِلُ النَّاسَ يَوْم القِيَامَة وَالسَّمَاوَات؛ لِأَنَّهَا أعلا الخَلْقِ؟ فَهَلْ سَمِعَ سَامِعٌ بِمُحَالٍ مِنَ الحُجَجِ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا؟ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالعَرْشِ نَصًّا وَدَفْعِهِ رَأْسًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ يَكُنِ العَرْشُ فِي دَعْوَاهُ أَعْلَى الخَلْقِ؛ فَقَدْ بَطُلَ العَرْشُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى؛ لِأَنَّ

العَرْشَ غَيْرُ مَا سِوَاهُ مِنَ الخَلْقِ، إِذْ كَانَ مَخْلُوقًا عَلَى المَاءِ قَبْلَ الخَلْقِ، فَفِي أَيِّ كَلَامِ العَرَبِ، وَجَدْتَ هَذَا أَيُّهَا المُعَارِضُ: أَنَّ العَرْشَ أَعْلَى الخَلْقِ فَبَيِّنْهُ لَنَا، وَإِلَّا فَإِنَّكَ مِنَ المُبْطِلِينَ. وَالله مُكَذِّبُكَ فِي كِتَابِهِ إِذْ يَقُولُ: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)} [المؤمنون: 86]، فَمَيَّزَ اللهُ بَيْنَ أَعْلَى الخَلْقِ وَبَيْنَ العَرْشِ العَظِيمِ، وَجَعَلَهُ غَيْرَ السَّمَاوَات السَّبع فَمَا دونهَا. وَمِمَّا يَزِيدُكَ تَكْذِيبًا قَوْلُهُ: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 15]، و {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون: 116]، وَأَيُّ مَجْدٍ وَكَرَمٍ لِأَعْلَى الخَلْقِ مَا لَيْسَ لِأَوْسَطِهِ وَأَسْفَلِهِ؟ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ تَأْوِيلَكَ هَذَا تَكْذِيبٌ بِالْعَرْشِ صُرَاحًا، وإِنْكَارُهُ نَصًّا. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ اللهَ غَيْرُ مَحْوِيٍّ وَلَا مُلَازِقٍ وَلَا مُمَازِجٍ، فَهُوَ كَمَا ادَّعَيْتَ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: غَيْرُ بَائِنٍ بِاعْتِزَالٍ، [26/ظ] وَلَا بِفُرْجَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَقَدْ كَذَبْتَ فِيهِ وَضَلَلْتَ، عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، بَلْ هُوَ بِائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ بِفُرْجَةٍ بَيِّنَةٍ، وَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي الأَرْضِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ مَا هُمْ عَامِلُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ كَمَا أَنْبَأَنَا الله تَعَالَى وَرَسُولُهُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَأَمَّا قَوْلُكَ: كَجِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ، فَإِنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّهُ كَجِسْمٍ عَلَى جِسْمٍ. لَكِنَّا نَقُولُ: رَبٌّ عَظِيمٌ، وَمَلِكٌ كَبِيرٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَإِلَهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَلَى عَرْشٍ مَخْلُوقٍ عَظِيمٍ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَة دون مَا سواهَا مِنَ الأَمَاكِنِ، مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِذَلِكَ كَانَ كَافِرًا بِهِ وَبِعَرْشِهِ. وَالأَنْوَارُ المَخْلُوقَةُ لَيْسَ مِنْهَا نُورٌ إِلَّا وَلَهُ ضَوْءٌ سَاطِعٌ، وَمَنْظَرٌ رائع فيكف النَّورُ الأَعْظَمُ خَالِقُ الأَنْوَارِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ؟! وَزَعَمْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ أَنَّهُ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ،

وَلَكِنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ. وَتَأَوَّلْتَ فِي ذَلِكَ بِمَا تَأَوَّلَ بِهِ جَهْمٌ قَبْلَكَ، فَقُلْتَ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآيَة [المجادلة: 7]، ثُمَّ رَوَيْتَ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَقَدْ رَفَعُوا الصَّوْتَ بِالتَّكْبِيرِ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّه أقربُ إِلَيْكُم مِنْ رُؤُوسِ رَوَاحِلِكُمْ» (¬1). فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضُ: هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ كُلِّ ذِي نَجْوَى، وَأَقْرَبُ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، وَأَقْرَبُ مِنْهَا، بِعِلْمٍ وَمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ مِنْ فَوْقِ العَرْشِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، وَلَا يَحْجُبُهُمْ عنْهُ شَيْءٌ، عِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ فَوْقِ العَرْشِ مُحِيطٌ. وَبَصَرُهُ فِيهِمْ نَافِذٌ، وَهُوَ بِكَمَالِهِ فَوق عَرْشِهِ. وَالسَّمَاوَاتُ وَمَسَافَةُ مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي الأَرْضِ، فَهُوَ كَذَلِكَ مَعَهُمْ، رَابِعُهُمْ وَخَامِسُهُمْ وَسَادِسُهُمْ، يَعْلَمُ مَا عَمِلُوا مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُم يَوْمَ القِيَامَةِ بِمَا عَمِلُوا، كَذَلِكَ هُوَ مَعَ كُلِّ ذِي نَجْوَى، لَا كَمَا ادَّعَيْتُم أَنَّهُ مَعَ كُلِّ بَائِلٍ وَمُحْدِثٍ، وَمُجَامِعٍ فِي كُنُفِهِمْ، وَحُشُوشِهِمْ، وَمَضَاجِعِهِمْ. وَإِنَّمَا يُعْرَفُ فَضْلُ الرُّبُوبِيَّةِ وَعِظَمُ القُدْرَةِ بِأَنَّ الله تَعَالَى مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ وَبُعْدَ مَسَافَةِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَعْلَمُ مَا فِي الأَرْضِ، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَعَ كُلِّ ذِي نَجْوَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: 9]، وَلَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ كَمَا ادَّعَيْتُمْ بِجَنْبِ كُلِّ ذِي نَجْوَى؛ مَا كَانَ بِعَجَبٍ أَنْ يُنَبِّئَهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ. فَلَوْ كُنَّا نَحن بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ مِنْهُمْ؛ لَنَبَّأْنَا كُلَّ عَامِلٍ مِنْهُمْ بِمَا عَمِلَ وَقَالَ، وَنَاجَى بِهِ أَصْحَابَهُ، فَمَا فَضْلُ عَلَّامِ الغُيُوبِ عَلَى المَخْلُوقِ-الَّذِي لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ ¬

(¬1) صحيح، تقدم تخريجه برقم (58).

فِي دَعْوَاكَ-؟ وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ الله لَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ أَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ. فَإِنْ كُنْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ مِمَّنْ يَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ، وَيَفْهَمُ شَيْئًا مِنَ العَرَبِيَّةِ؛ عَلِمْتَ أَنَّكَ كَاذِبٌ عَلَى الله فِي دَعْوَاكَ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ أَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ، وَمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ. ذَكَرَ أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَالعَرْشُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ, فَكَيْفَ مِنَ الرِّجَالِ؟! قَالَ الله تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61]، [27/و] ... {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:3 - 4] مِنَ الأَرْضِ السَّافِلَةِ. وَقَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَلَمْ يَقُلْ: يَنْزِلُ إِلَيْهِ تَحْتَ الأَرْضِ. فَهَذِهِ الآيُ كُلُّهَا تُنْبِئُكَ عَنِ اللهِ أَنَّهُ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ، وَأَنَّهُ عَلَى السَّمَاءِ دُونَ الأَرْضِ، وَأَنَّهُ عَلَى العَرْشِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ المَوَاضِعِ، قَدْ عَرَفَ ذَلِكَ مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَآمَنَ بِهِ، وَصَدَّقَ اللهَ بِمَا فِيهِ. فَلِمَ تَحْكُمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَيُّهَا العَبْدُ الضَّعِيفُ بِمَا هُوَ مُكَذِّبُكَ فِي كِتَابِهِ؟ وَيُكَذِّبُكَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -. أَو لم يَبْلُغْكَ حَدِيثُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِلْأَمَةِ السَّوْدَاءِ: «أَيْنَ الله؟ فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». فَهَذَا يُنْبِئُكَ أَنه فِي السَّمَاءِ دُونَ الأَرْضِ، فَكَيْفَ تَتْرُكُ مَا قَالَ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ، وتَخْتَارُ عَلَيْهَما فِي ذَلِكَ قَوْلَ بِشْرٍ، وَالثَّلْجِيِّ، ونُظُرَائِهِمَا مِنَ الجَهْمِيَّةِ؟. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَحْوِيٍّ وَلَا مُحَاطٍ بِهِ، فَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَنَا وَفِي مَذْهَبِنَا؛

لما أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ فِي هَوَاءِ الآخِرَةِ، حَيْثُ لَا خَلْقَ مَعَهُ هُنَاكَ غَيْرَهُ وَلَا فَوْقَهُ سَمَاءٌ. وَفِي قِيَاسِ مَذْهَبِكَ وَمَذَاهِبِ أَصْحَابِكَ مَحْوِيٌّ مُحَاطٌ بِهِ، مُلَازِقٌ، ممَاس، قَدِ اعْتَرَفْتَ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ؛ لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالسَّمَاوَاتُ فَوْقَ بَعْضِهِ، وَأَنَّهُ فِي كُلِّ بَيْتٍ مُغْلَقٍ، وَفِي كُلِّ صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ، فَهُوَ فِي دَعْوَاكُمْ مُحَاطٌ بِهِ مُمَاسٌّ. وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ إِلَّا وَذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّاس الأَمْكِنَةِ، قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ الأَرْضُ -فِي دَعْوَاكُمْ- وَالسَّمَاءُ، وَحِيطَانُ البُيُوتِ، وَالأَغْلَاقُ وَالأَقْفَالُ. وَنَحْنُ نَبْرَأُ إِلَى اللهِ أَنْ نَصِفَهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، بَلْ هُوَ عَلَى عَرْشِهِ، فَوْقَ جَمِيعِ الخَلَائِقِ فِي أَعْلَى مَكَانٍ وَأَطْهَرِ مَكَانٍ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61]، يَعْلَمُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، يُدَبَّرُ مِنْهُ الأَمرُ، يُعْرَجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ، كَمَا قَالَ، لَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ حَائِطٌ، وَلَا سَقْفُ بَيْتٍ، وَلَا تُقِلُّهُ أَرْضٌ، وَلَا تُظِلُّهُ سَمَاءٌ كَمَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُبْتَلَى أَنَّهُ فِي كُلِّ حَجَرٍ وَزَاوِيَةٍ، وَفِي كُلِّ حُشٍّ وَكَنِيفٍ وَمِرْحَاضٍ، حَيْثُ مَقِيلَ الشَّيْطَانِ، ومَبِيتِهِم تَعَالَى اللهُ عَن وَصْفِكَ. * * *

وَادَّعَى المُعَارِضُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الجَمَاعَةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عِلْمُ الله تَعَالَى مِنْ ذَاتِهِ. وَهُوَ فِي الأَرْضِ بَائِنٌ مِنْهُ. فَإِنَّا لَا نَقُولُ كَمَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ ذَاتِهِ فِي الأَرْضِ مَنْزُوعٌ مُجَسَّمٌ بَائِنًا مِنْهُ. وَلَكنَّا نقُول: علمه وَكَلَامه مَعَهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ، غَيْرُ بَائِنٍ مِنْهُ. فَهُوَ بِعِلْمِهِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ عَالِمٌ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ بِكُلِّ ذِي نَجْوَى، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُ بِمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، لَا يَخْفَي عَلَيْهِ مِنْ جَسَدٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا قِيسَ خَرْدَلَةٍ مِنْ مُخٍ، أوعَظْمٍ، أَوْ عِرْقٍ دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)} [الواقعة: 85] أَيْ: نَحْنُ نَعْلَمُ مِنْهُ مَا ظهر وَمَا بَطَنَ، [27/ظ] ومَا غَيَّبَ (¬1) مِنْهُ الجُلُودُ، وَوَارَاهُ الجَوْفُ، وأَخْفَتْهُ الصُّدُورُ، وَأَنْتُم لاتُبْصِرُون، فَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ بِالعِلْمِ بِذَلِكَ، لَا بِأَنَّ عِلْمَهُ مَنْزُوعٌ مِنْهُ بَائِنٌ مُجَسَّمٌ فِي الأَرْضِ، كَمَا ادَّعَيْتَ بِجَهْلِكَ, فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يدَّعِي أَنَّ عِلْمَهُ فِي الأَرْضِ, لَا مَا ادَّعَيْتَ عَلَيْنَا مِنَ البَاطِلِ، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ لِحُجَّةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَوَجَّهُ لِحُجَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَدْرِي مَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُهُ؟ وَقَلَّ مَا رَأَيْتُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ مُتَكَلِّمًا فِي العَرْشِ أَكْثَرَ لَجَاجَةً فِي إِبْطَالِهِ وَإِدْخَالِ الحَشْوِ مِنَ الكَلَامِ وَالحُجَجِ الدَّاحِضَةِ فِيهِ مِنْ هَذَا المُعَارِضِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَدْحَضَ لِحُجَّتِهِ وَأَكْشَفَ لِعَوْرَتِهِ. فَأَقْصِرْ أَيُّهَا المُعَارِضُ، فَإِنَّ العَرْشَ لَا يُعَطَّلُ بِإِكْثَارِ حَشْوِكَ وَخُرَافَاتِ كَلَامِكَ، وَكَلَامِ المَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ، إِذْ عَقِلَ أَمْرَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَكَيْفَ الرِّجَالُ؟ ¬

(¬1) كذا بالأصل وفي «س»، ونسخ على «ع»: «غيبت».

وَيحَكَ! هَذَا المَذْهَب أَنْزَهُ لله مِنَ السُّوءِ، أَمْ مَذْهَبُ مَنْ يَقُولُ: فَهُوَ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَبَهَائِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ فَوقَ سَمَاوَاتِهِ، وَفَوقَ جَمِيع الخَلَائِقِ فِي أَعْلَى مَكَانٍ، وَأَطْهَرِ مَكَانٍ، حَيْثُ لَا خَلْقَ هُنَاكَ مِنْ إِنْسٍ وَلَا جَانٍّ، فَتَكْفُرُ؟ أَيُّ الحزبين أَعْلَمُ بِاللهِ وَبِمَكَانِهِ، وَأَشَدُّ لَهُ تَعْظِيمًا وإجلالًا؟ وَأَمَّا مَا رَوَيْتَ عَنِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ مِنْهُ من حَديْثُ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، قَالَ: «ارْتَفَعَ ذِكْرُهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ»، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَوَى لَهُ أَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ فَوقَ بَرِيَّتِهِ». عَنِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جُوَيْبِرٍ، وعَنِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] قُلْتُ: ثُمَّ قَطَعَ الكَلَامَ فَقَالَ: «اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض»، يَنْفِي عَنِ الله الِاسْتِوَاءَ وَيَجْعَلُهُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. فَيُقَالُ لَك أَيهَا المعَارض: لَو قد سَمِعْتَ هَذَا مِنَ ابْنِ الثَّلْجِيِّ مَا قَامَتْ لَكَ بِهِ حُجَّةٌ فِي قِيسِ تَمْرَةٍ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا لَا تُسَاوِي بَعْرَةً، وَمَا يَحْتَجُّ بِهَا فِي تَكْذِيبِ العَرْشِ إِلَّا الفَجَرَةُ، وَأَوَّلُ مَا فِيهِ مِنَ الرِّيبَةِ أَنَّكَ تَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ المَأْبُونِ المُتَّهَمِ فِي دِينِ الله. وَالثَّانِي أَنَّهُ عَنِ الكَلْبِيّ هُوَ بزعم ابن الثَّلْجِي، وَعَنْ جُوَيْبِرٍ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنِ الكَلْبِيِّ وَجُوَيْبِرٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَان وَشعْبَة وَحَمَّاد بن زَيْدٍ؛ لَمْ يُكْتَرَثْ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَغْمُوزَانِ فِي الرِّوَايَةِ لَا تَقُومُ بِهِمَا الحُجَّةُ فِي أَدْنَى فَرِيضَةٍ، فَكَيْفَ فِي إِبْطَالِ العَرْشِ وَالتَّوْحِيدِ؟. وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَرَاهُ إِلَّا مَكْذُوبًا عَلَى جُوَيْبِرٍ، وَالكَلْبِيِّ، وَلَكِنْ مَنْ يُرِيدُ أَنْ

يَعْدِلَ عَنِ المَحَجَّةِ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ بِمَا لَا تقوم بِهِ الحجَّة. وَالعَجَبُ مِمَّنْ يَدْفَعُ مَا رَوَى الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَسَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، وَثَابِتٍ البُنَانِيِّ، مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ، وَسُفْيَانَ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَحَمَّاد بن زَيْدٍ، وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَعْلَامِ المُسْلِمِينَ، وَيَتَعَلَّقُ [28/و]، بِرِوَايَةِ الثَّلْجِيِّ، وَالمَرِيسِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الظِّنَّةِ فِي دِينِ الله؛ إِذَا وَجَدَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَدْنَى مُتَعَلِّقٍ يَدْخُلُ بِهَا دِلْسَةً عَلَى الجُهَّالِ. وَسَنُبَيِّنُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا دُلِّسَ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى. ادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] قَالَ: استولى، قال: وقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، أَيْ هُوَ عَالٍ عَلَيْهِ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ: عَلَا الشَّيْءَ أَيْ مَلَكَهُ، وَصَارَ فِي سُلْطَانِهِ، كَمَا يُقَالُ: غَلَبَ فُلَانٌ عَلَى مَدِينَةِ كَذَا، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى أَمْرِهَا، يُرِيدُ اسْتَوْلَى وَلَا يُرِيدُ الجُلُوسَ. وَهَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ مُحْتَمَلَةٌ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ العَامِهِ التَّائِهِ المَأْبُونِ، الَّذِي يَهْذِي وَلَا يَدْرِي: هَذِهِ تَأْوِيلَاتٌ مُحْتَمَلَةٌ لِمَعَانٍ هِيَ أَقْبَحُ الضَّلال، وأَفْحَشُ المُحَال، وَلَا يَتَأَوَّلُهَا مِنَ النَّاسِ إِلَّا الجُهَّالُ، وَكُلُّ رَاسِخٍ فِي الضَّلَالِ. وَيحك! وَهل مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَسْتَوْلِ اللهُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَاكَ وَلَمْ يَعْلُهُ حَتَّى خَصَّ العَرْشَ بِهِ مِنْ بَيْنِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ؟ وَهَلْ نَعْرِفُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْض لَيْسَ اللهُ مَالِكَهُ، ولاهو فِي سُلْطَانِهِ، حَتَّى خَصَّ العَرْشَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَين الأَشْيَاء، وهَلْ نَازَعَ اللهَ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ، أو غَالَبَهُ على عَرْشِهِ فَيَغْلِبَهُ اللهُ ثُمَّ يَسْتَوي عَلَى مَا غَالَبَهُ عَلَيْهِ مُغَالَبَةً ومُنَازَعَةً، مَعَ

أَنَّكَ قَدْ صَرَّحْتَ بِمَا قُلْنَا، إِذْ قِسْتهُ فِي عَرْشِهِ بِمُتَغَلِّبٍ غَلَبَ عَلَى مَدِينَةٍ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا بِغَلَبَةٍ؟ فَفِي دَعْوَاكَ لَمْ يَأْمَنِ اللهُ أَنْ يُغْلَبَ؛ لِأَنَّ المُغَالِبَ المُسْتَوْلِيَ رُبَّمَا غَلَبَ، وَرُبَمَا غُلِبَ. فَهَلْ سَمِعَ سَامِعٌ بِجَاهِلٍ أَجْهَلَ بِالله مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّ اللهَ اسْتَوْلَى عَلَى عَرْشِهِ مُغَالَبَةً، ثُمَّ يَقِيسُهُ فِي ذَلِكَ بِمُتَغَلِّبٍ فَيَقُولُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ: غَلَبَ عَلَى مَدِينَةٍ وَاسْتَوْلَى عَلَى أَهْلِهَا؟ وَأَيْنَ مَا انْتَحَلْتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَبِّهَ اللهَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ يَتَوَهَّمَ فِيهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الخَلْقِ، وَقد شَبَّهْتَه بِمُتَغَلِّب غَلَبَ عَلَى مَدِينَةٍ بِغَلَبَةٍ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا؟ لَو وَلَدَتْكَ أُمُّكَ أَصَمَّ أَخْرَسَ؛ كَانَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَأَوَّلَ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فِي الله تَعَالَى وَفِي عَرْشِهِ. فَأَقْصِرْ أَيُّهَا المَرْءُ الضَّعِيفُ. فَإِنَّكَ لَنْ تَدْفَعَ العَرْشَ وَالكُرْسِيَّ بِمِثْلِ هَذَا الحَشْوِ وَالخُرَافَاتِ وَالعَمَايَاتِ؛ لِأَنَّ الإِيمَانَ بِهِمَا قَدْ خَلُصَ إِلَى كُلِّ مَنْ عَرَفَ الله: مِنْ عَالِمٍ أَوْ جَاهِلٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ: قِيَاسُكَ الله بِمِقْيَاسِ العَرْشِ وَمِقْدَارِهِ ووَزنه من صغَر أَوْ كِبَرٍ، وَزَعَمْتَ كَالصِّبْيَانِ العِمْيَانِ إِنْ كَانَ الله أَكْبَرَ مِنَ العَرْشِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهُ، أَوْ مِثْلَهُ فَإِنْ كَانَ الله أَصْغَرَ؛ فَقَدْ صَيَّرْتُمُ العَرْشَ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنَ العَرْشِ؛ فَقَدِ ادَّعَيْتُمْ فِيهِ فَضْلًا عَلَى العَرْشِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا ضَمَّ إِلَى العَرْشِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ؛ كَانَتْ أَكْبَرَ، مَعَ خُرَافَاتٍ تَكَلَّمَ بهَا وَتُرَّهَاتٍ تَلَعَّبَ بهَا، وضَلَالَاتٍ تَضِلُّ بِهَا. لَوْ كَانَ مَنْ يعْمَلُ عَلَيْهِ لله؛ لَقَطَعَ ثَمَرَةَ لِسَانِهِ، وَالخَيْبَةُ لِقَوْمٍ هَذَا فَقِيهُهُمْ،

وَالمَنْظُورُ إِلَيْهِ، مَعَ هَذَا التَّمْيزِ كُلِّهِ، وَهَذَا البَصَر وَكُلِّ هَذِهِ الجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ. فَيُقَالُ لِهَذَا البَقْبَاقِ النَّفَّاجِ: إِنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ خَلْقٍ، وَلَمْ يَحْتَمِلْهُ العَرْشُ عِظَمًا وَلَا [28/ظ] قُوَّةً، وَلَا حَمَلَةُ العَرْشِ احْتَمَلُوهُ بِقُوَّتِهِمْ، وَلَا اسْتَقَلُّوا بِعَرْشِهِ بِشِدَّةِ أَسْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلُوهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وتَأْيِيِدِهِ لَوْلَا ذَلِك؛ مَا أَطَاقُوا حَمْلَهُ. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ حِينَ حَمَلُوا العَرْشَ وَفَوْقَهُ الجَبَّارُ فِي عِزَّتِهِ، وَبَهَائِهِ ضَعُفُوا عَنْ حَمْلِهِ وَاسْتَكَانُوا، وَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ، حَتَّى لُقِّنُوا «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله» فَاسْتَقَلُّوا بِهِ بِقُدْرَةِ الله وَإِرَادَتِهِ. لَوْلَا ذَلِكَ مَا اسْتَقَلَّ بِهِ العَرْشُ، وَلَا الحَمَلَةُ، وَلَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَلَا مَنْ فِيهِنَّ. وَلَوْ قَدْ شَاءَ لَاسْتَقَرَّ عَلَى ظَهْرِ بَعُوضَةٍ فَاسْتَقَلَّتْ بِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَلُطْفِ رُبُوبِيَّتِهِ، فَكَيْفَ عَلَى عَرْشٍ عَظِيمٍ أَكْبَرَ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرَضِينَ السَّبْعِ؟ وَكَيْفَ يُنْكَرُ أَيُّهَا النَّفَّاج أَنَّ عَرْشَهُ يُقِلُّهُ، أو العَرش أَكْبَرَ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرَضِينَ السَّبْعِ؟ وَلَوْ كَانَ العَرْشُ فِي السَّمَاوَات وَالأَرضين مَا وَسِعَتْهُ، ولَكِنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. فَكَيْفَ تُنْكِرُ هَذَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ فِي الأَرْضِ، وَفِي جَمِيعِ أَمْكِنَتِهَا، وَالأَرْضُ دُونَ العَرْشِ فِي العَظَمَةِ وَالسَّعَةِ؟ فَكَيْفَ تُقِلُّهُ الأَرْضُ فِي دَعْوَاكَ وَلَا يُقِلُّهُ العَرْشُ الَّذِي أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَوْسَعُ؟ وَأَدْخِلْ هَذَا القيَاس الَّذِي أَدْخَلْتَ عَلَيْنَا فِي عِظَمِ العَرْشِ وَصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ عَلَى نَفْسِكَ، وَعَلَى أَصْحَابِكَ فِي الأَرْضِ وَصِغَرِهِا، حَتَّى تَسْتَدِلَّ عَلَى جَهْلِكَ وَتَفْطِنَ لِمَا تُورِدُ عَلَيْكَ حَصَائِدُ لِسَانِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحْتَجُّ بِشَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَيْكَ وَآخِذٌ بِحَلْقِكَ.

(98) وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ حِينَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاء حَملَةَ عَرْشِهِ فَقَالُوا: رَبنَا لما خَلَقْتَنَا؟ فَقَالَ: خَلَقْتُكُمْ لِحَمْلِ عَرْشِي, قَالُوا: رَبَّنَا، وَمَنْ يَقْوَى عَلَى حَمْلِ عَرْشِكَ، وعَلَيْهِ عَظَمَتُكَ، وَجَلَالُكَ وَوَقَارُكَ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي خَلَقْتُكُمْ لِذَلِكَ، قَالُوا: رَبَّنَا وَمَنْ يَقْوَى عَلَى حَمْلِ عَرْشِكَ وَعَلِيهِ عَظَمَتُكَ، وجَلَالُكَ وَوَقَارُكَ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: خَلَقْتُكُمْ لِحَمْلِ عَرْشِي قَالَ: فَيَقُولُونَ ذَلِكَ مِرَارًا، قَالَ فَقَالَ: قُولُوا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله؛ فَيَحْمِلَكُمْ وَالعَرْشَ قُوَّةُ الله» (¬1). أَفَلَا تَدْرِي أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ حَمَلَةَ العَرْشِ لَمْ يَحْمِلُوا العَرْشَ وَمَنْ عَلَيْهِ بِقُوَّتِهِمْ وَشِدَّةِ أَسْرِهِمْ إِلَّا بِقُوَّةِ الله وَتَأْيِيدِهِ؟. وَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ مَا جَهِلْتَ مِنْ أَمْرِ العَرْشِ بِشَوَاهِدِهِ مِنْ كِتَابِ الله تَعَالَى، وَشَوَاهِدِهِ مِنْ مَعْقُولِ الكَلَامِ، وَمِمَّا مَضَى عَلَيْهِ أَهْلُ الإِسْلَامِ، وَسَنَقُصُّ عَلَيْكَ فِيهِ من آثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، المَأْثُورَة وَأَخْبَارِهِ المَشْهُورَة، مَا لَوْ عَرَضْتَهَا عَلَى قَلْبِكَ وَتَدَبَّرْتَ أَلْفَاظَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا؛ عَلِمْتَ -إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى- أَنَّ مَا تَأَوَّلْتَهُ فِي تَفْسِيرِ العَرْشِ بَاطِلٌ. (99) حَدَّثَنَا مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى الأَنْطَاكِيُّ، أبنا أَبُو إِسْحَاقَ الفَزَارِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَان محرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنهما - قال: أَتَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالُوا: أَتَيْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ، كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: «كَانَ اللهُ لم يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، [29/و] وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ كَتَبَ فِي ¬

(¬1) لم أقف على تخريج له، غير أن الذهبي ذكره في العلو (346)، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص 346)، وعزاه للمصنف.

الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (¬1). فَهَذَا قَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِنَّ عَرْشَهُ كَانَ عَلَى المَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، الَّتِي هِيَ أَعْلَى الخَلْقِ، فَقَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ تَكْذِيبٌ لِدَعْوَاكَ، وَإِبْطَالٌ لِتَأْوِيلِكَ. (100) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ، وَقَضَى القَضِيَّةَ، وَأَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، وَعَرْشُهُ على المَاء» (¬2). (101) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ العَبْدِيُّ، أبنا سُفْيَانُ الثَّوْريُّ، ثَنَا أَبُو هَاشم، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس - رضي الله عنهما - قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَانَ على عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3190)، وأحمد (19822، 19876، 19886، 19910)، والمصنف في الرد على الجهمية (13)، وابن حبان (6140، 6142)، والطبراني في الكبير (18/ 204)، والبيهقي في السنن الكبير (9/ 2)، والطحاوي في شرح المشكل (5630)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 259)، وغيرهم، من طريق، جامع بن شداد، به. (¬2) هذا الحديث ضعيف جدًا؛ أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده (190 إتحاف الخيرة)، والمصنف في الرد على الجهمية (14)، وأبو الشيخ في كتاب العظمة (2/ 589)،جميعًا من طريق بشر بن نمير، به. وبشر بن نمير قال الحافظ: متروك متهم (التقريب 706). وقد تابع بشرًا؛ جعفرُ بن الزبير، أخرجه الطيالسي (1226)، والطبراني في الكبير (7940)، وابن عدي في الكامل (7/ 268)، جميعًا من طرق عن جعفر بن الزبير، وهذه متابعة لا يُفْرَح بها؛ فإن جعفرًا حاله كحال متابعه؛ متروك أيضًا كما قال الحافظ في التقريب (939)، وللحديث طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط (7632)؛ من حديث أبي عثمان النهدي عن أبي أمامة، وهو ضعيف أيضا؛ في إسناد الطبراني، سلم بن سالم البلخي، قال أحمد: ليس بذاك، وقال أبو زرعة: لا يكتب حديثه (الجرح والتعديل 4/ 266)، وشيخه عبد الرحمن؛ لا يعرف. (¬3) صحيح، رجاله ثقات. أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (16)، والطبري في التفسير= = (13/ 326)، من طريق ابن مهدي، عن سفيان، به

فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يُخْبِرُ أَنَّ اللهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ مِنْ سَمَاءٍ أوَ أَرْضٍ. وَادَّعَيْتَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ أَنَّ العَرْشَ أَعْلَى الخَلْقِ تَكْذِيبًا لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَلِأَصْحَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «بَدْءُ الخَلْقِ العَرْش». (102) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «بَدْءُ الخَلْقِ العَرْشُ وَالمَاءُ» (¬1). (103) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ المنْهَال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] قَالَ: «عَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: على مَتْنِ الرِّيح» (¬2). (104) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ بُنْدَارٌ، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتبَة، وَجُبَيْر بنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ فَوْقَ أَرْضِهِ مِثْل القُبَّةِ -وَأَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (36905)، والطبري (10/ 245)، والبيهقي في الأسماء والصفات (813)، من طريق أبي عوانة، به. ورجاله ثقات. وقع عند ابن أبي شيبة، «أبي كثير» بدل «أبي بشر»، وهو تحريف. (¬2) صحيح، رجاله ثقات. أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9089)، والطبري في التفسير (12/ 333)، وابن أبي حاتم في التفسير (6/ 2005)، وابن أبي عاصم في السنة (584)، والحاكم (2/ 367)، وصححه، وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (809)، وغيرهم من طريق الأعمش، به.

بِيَدِهِ مِثْلَ القُبَّةِ- وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بالراكب» (¬1). وَهَذَا أَيُّهَا المُعَارِضُ نَاقِضٌ لِتَأْوِيلِكَ: أَنَّ العَرْشَ إِنَّمَا هُوَ أَعْلَى الخَلْقِ، يَعْنِي السَّمَاوَاتِ فَمَا دُونَهَا مِنَ السُّقُوفِ وَالعُرُشِ وَأَعَالِي الخَلَائِقِ، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: إنه فَوْقَ السَّمَاوَاتِ العُلَى، فَكَفَى خَيْبَةً وخَسَارِةً بِرَجُل أَن يُضَادَّ قَوْلُهُ ¬

(¬1) ضعيف الإسناد. أخرجه أبو داود (4726)، والمصنف في الرد على الجهمية (24)، والطبراني في الكبير (1547)، والبغوي في شرح السنة (92)، والدارقطني في العلل (3320)، وابن خزيمة في التوحيد (147)، وغيرهم من حديث محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن جبير، به. وهو المحفوظ، وهذا حديث ضعيف؛ جبير بن محمد مقبول إذا توبع، وإلا فهو لين، وقد تفرد به، ولم يتابعه عليه أحد. وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. قال الذهبي في العلو للعلي الغفار (1/ 44): «هذا حديث غريب جدا فرد وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند، وله مناكير، وعجائب فالله أعلم أقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أم لا؟ والله - عز وجل - {ليس كمثله شيء} جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره، والأطيط الواقع بذات العرش من جنس الأطيط الحاصل في الرحل؛ فذاك صفة للرحل وللعرش ومعاذ الله أن نعده صفة لله عزوجل ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت. وقولنا في هذه الأحاديث إننا نؤمن بما صح منها وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال واختلف العلماء في قبوله وتأويله؛ فإنا لا نتعرض له بتقرير، بل نرويه في الجملة ونبين حاله وهذا الحديث إنما سقناه لما فيه مما تواتر من علو الله تعالى فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب».اهـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (3/ 254): «وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارًا للجهمية، وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعًا لما فيه من ذكر الأطيط، كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيحتمل أن يكون منقطعًا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولاً بين أهل العلم خالفًا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية مُتَلَقين لذلك بالقبول حتى قد رواه الإمام أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقات ... إلخ».

قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَيُكِذِّبَ دَعْوَاهُ. (105) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَة عام وَبَيْنَ كُلِّ سَمَائَيْن مَسِيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَالعَرْشُ عَلَى المَاءِ، وَالله فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» (¬1). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَفَلَا تَرَى أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ ابْن مَسْعُود كَيفَ مَيَّزَ بَيْنَ العَرْشِ وَالكُرْسِيِّ، وَبَيْنَ السَّمَاوَاتِ فَمَا دُونَهَا الَّتِي هِيَ أَعْلَى الخَلَائِقِ فِي دَعْوَاكَ وَسَمَّيْتَهَا عَرْشًا دُونَ عَرْشِ الرَّحْمَن الذي هُوَ العَرْشُ عَلَى أَلْسُنِ العَالَمِينَ. (106) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مِهْرَانَ -وَهُوَ المُكْتِبُ-، ثَنَا مُجَاهِدٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ [29/ظ] بْنُ عُمَرَ: «خَلَقَ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاء بِيَدِهِ: العَرْشَ، وَالقَلَمَ، وَعَدْن، وَآدَمَ، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الخَلْقِ كُنْ فَكَانَ» (¬2). تَكْذِيبًا لِمَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ إِذْ خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ خُصُوصًا ثُمَّ قَالَ لِمَا هُوَ أَعْلَى الخَلَائِقِ عِنْدَكَ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]، فإِذَا كَانَ العَرْشُ فِي دَعْوَاكَ ودعوى إِمَامِكَ: السَّمَاوَاتِ، فَمَا بَالُ حَمَلَةِ العَرْشِ وَمَا يُصْنَعُ بِهِمْ فِي رَفْعِ السَّمَاوَاتِ، وَقَدْ قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2]. فَفِي مَعْرِفَةِ النَّاسِ لِحَمَلَةِ العَرْشِ، واسْتِفَاضَتِهِ فِيهِم وعَلَى أَلْسِنَتِهِم تَكْذِيبُ دَعْوَاكَ، وَدَعْوَى صَاحِبِكَ، ثُمَّ مَا رُوِيَ فِيهِمْ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَعَنْ أَصْحَابِهِ سَنَذْكُرُ مِنْهَا بَعْضَ مَا حَضَرَ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى. ¬

(¬1) حسن، تقدم تخريجه برقم (92). (¬2) صحيح، تقدم تخريجه برقم (37).

(107) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، ثَنَا الوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِب - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ بِالبَطْحَاءِ فِي عِصَابَةٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - السَّمَاوَاتِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ قَالَ: «وَفَوْقَ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ، وَعَلَى ظُهُورهمْ العَرْش، أَسْفَله، وَأَعلاهُ ما بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اللهُ فَوقَ ذَلِك» (¬1). (108) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ- عَنْ الزُّبَيْر أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الله الفِهْرِيِّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، وَإِنَّ مِقْدَارَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِكُمْ عِنْدَهُ؛ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ أَعْمَالُكُمْ بِالأَمْسِ أَوَّلَ النَّهَارِ، اليَوْمَ، فَيَنْظُرُ فِيهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، فَيَطَّلِعُ فِيهَا عَلَى مَا يَكْرَهُ، فَيُغْضِبَهُ ذَلِكَ، فَأَوَّلُ مَنْ يَعْلَمُ بِغَضَبِهِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ، يَجِدُونَهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ، فَيُسَبِّحُهُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ، وَسُرَادِقَاتُ العَرْشِ وَالمَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَسَائِرُ المَلَائِكَةِ» (¬2). ¬

(¬1) ضعيف؛ أخرجه أبو داود (4724)، والترمذي (3320)، وابن ماجه (193)، ... وأحمد (1770)، والمصنف في الرد على الجهمية (25)، والبيهقي في الأسماء والصفات (854)، وغيرهم من حديث عبد الله بن عميرة الكوفي به، وهو مجهول لم يرو عنه غير سماك بن حرب كما ذكر ذلك مسلم في الوحدان، وقال الذهبي في الميزان (2/ 469): «فيه جهالة» وقال البزار في مسنده (4/ 137): «لا نعلم روى عنه إلا سماك». وقال الترمذي عقبه: حسن غريب. وثمة انقطاع بينه وبين شيخه الأحنف بن قيس؛ حيث قال البخاري في التاريخ الكبير: «ولا نعلم له سماعًا من الأحنف». (¬2) أخرجه أبو داود في الزهد (168)، وابن أبي حاتم في التفسير (2/ 590)، والطبراني= ... = في الكبير (9/ 179)، وعنه أبو نعيم في الحلية (1/ 137)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 477)، وغيرهم، من طريق حماد بن سلمة، به. وفيه الزبير أبو عبد السلام ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وقال روى عنه حماد بن سلمة مراسيل. وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه شيئا. وقال الدارقطني كما في الضعفاء لابن الجوزي: يروي عنه حماد بن سلمة يحدث عن أيوب بن عبد الله بن مكرز عن ابن مسعود بالمنكرات.

(109) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَلِيِّ بن زيد، عَن يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «لِحَمَلَةِ العَرْشِ قُرُونٌ لَهَا كُعُوبٌ كَكُعُوبِ القَنَا، مابَيْنَ أَخْمَصِ أَحَدِهِمْ إِلَى كَعْبِهِ مَسِيرَةُ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَمِنْ كَعْبِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ مسيرَةُ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَمِنْ رُكْبَتِهِ إِلَى أَرْنَبَتِهِ مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ، وَمِنْ أَرْنَبَتِهِ إِلَى تُرْقُوَتِهِ مَسيرَةُ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَمِنْ تُرْقُوَتِهِ إِلَى مَوْضِعِ القُرْطِ خَمْسمِائَة عَام» (¬1). (110) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: «حَمَلَةُ العَرْشِ؛ مِنْهُمْ مَنْ صُورَتُهُ عَلَى صُورَةِ الإِنْسَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ صُورَتُهُ عَلَى صُورَةِ النِّسْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صُورَتُهُ عَلَى صُورَةِ الثَّوْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صُورَتُهُ عَلَى صُورَةِ الأَسَدِ» (¬2). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 569) مطولا، والطبري في التفسير (19/ 261)، وابن أبي حاتم في التفسير (8/ 2682)، والمصنف في الرد على الجهمية (73)، جميعًا من طريق علي بن زيد بن جدعان، وقد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي، وقال أبو زرعة: ليس بقوي. وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه. وشيخه يوسف بن مهران: لينه الحافظ. وقال الحاكم عقبه: «رواة هذا الحديث عن آخرهم محتج بهم غير علي بن زيد بن جدعان القرشي وهو وإن كان موقوفًا على ابن عباس فإنه عجيب بمرة». (¬2) إسناده صحيح، أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 206)، من قول هشام، وله شاهد من حديث ابن عباس بإسناد رجاله ثقات، خلا محمد بن إسحاق، وحديثه حسن، أخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/ 202)، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (26415)، وعنه = ... = عبد الله بن أحمد في السنة (1168)، وابن أبي عاصم في السنة (579)، وغيرهم.

(111) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولي، [30/و] [ثنا إسرائيل] (¬1) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ قَدْ مَرَقَتْ رِجْلَاهُ الأَرْضَ السَّابِعَةَ، وَالعَرْشُ عَلَى مِنْكَبِهِ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ أَيْنَ أَنْتَ، أَوْ حَيْثُ تَكُونُ» (¬2). (112) حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الله الرَّقِّيُّ أَبُو الحَسَنِ السُّكَّريُّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ - رضي الله عنه - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} [الحاقة: 17]. قَالَ: «ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ عَلَى صُورَةِ الأَوْعَالِ» (¬3). (113) حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ مُوسَى البَغْدَادِيُّ، ثَنَا الهِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّان بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: «حَمَلَةُ العَرْشِ ثَمَانِيَةٌ، أَقْدَامُهُمْ فِي الأَرْض وَرُؤُوسُهُم قَدْ جَاوَزَتِ السَّمَاءَ، وَقُرُونُهُمْ مِثْلُ طُولِهِم عَلَيْهَا العَرْش» (¬4). ¬

(¬1) ما بين المعقوفين ليس في الأصل، ويغلب على ظني أنه سقط من الناسخ وليس الإسناد هكذا، وقد أثبته محقق «س»، دون أن يشير إلى شيء، وهو مثبت في جميع مصادر التخريج، بل إن الحديث حديثه كا أشار الدارقطني في العلل. (¬2) حسن، أخرجه أبو يعلى (6619)، عن عمرو الناقد، والطبراني في الأوسط (7324)، وأبو الشيخ في العظمة (524)، من طريق الفضل بن سهل كلاهما عن، إسحاق بن منصور، به. وتابع إسحاق في روايته عن إسرائيل، عبيدُ الله بن موسى، كما أخرجه الحاكم (4/ 330) وصححه. وقد وقع في غير طريق الناقد، وفي رواية عبيد الله بن موسى عن إسرائيل: «أذن لي أن أحدث عن ديك ...». والكلمتان قريبتان في الرسم. (¬3) ضعيف، تقدم تخريجه برقم (106). (¬4) إسناده صحيح، أخرجه أبو الشيخ في العظمة (479)، من طريق عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، به.

(114) حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ الحَرَّانِيُّ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَجُلٍ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ فَقَالَ: «إِنَّ الله رَفَعَنِي يَوْمَ القِيَامَةِ فِي أَعلَى غُرْفَةٍ من جَنَّاتِ النَّعِيمِ، لَيْسَ فَوْقِي إِلَّا حَمَلَةُ العَرْشِ» (¬1). وَفِي العَرْشِ وَحَمَلَةِ العَرْشِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ اخْتَصَرْنَا مِنْهَا هَذِهِ الأَحَادِيثَ، لِيَعْلَمَ مَنْ نَظَرَ فِيهَا مُخَالَفَتَكُم رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ وَالتَّابِعِينَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُؤْمِنْ بِهَا أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، فَقَدْ آمَنَ بِهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ وَأَطْيَبُ. وَاعْلَمُوا يَقِينًا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَلْزَمُ لَهُمْ وَأَصَحُّ عِنْدَ الله مِمَّا يَرْوِي المَرِيسِيُّ وَابْنُ الثَّلْجِيِّ، مِنْ خُرَافَاتِهِمْ وَتُرَّهَاتِهِمُ الَّتِي لَا تَنْقَاسُ فِي كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا فِي شَيْءٍ من لُغَات العَرَب والعَجَمِ. * * * ¬

(¬1) إسناده ضعيف، ابن لهيعة قال الذهبي: العمل على تضعيف حديثه، ثم جهالة عين الراوي عن عبادة بن الصامت. وأبو صالح شيخ المصنف هو عبد الغفار بن داود بن مهران الحراني، وليس هوأبو صالح كاتب الليث كما زعن محقق «س». وقد أورد الحديث الذهبي في العلو (124)، وضعفه.

وَادَّعَيْتَ أَيْضًا عَلَى قَوْمٍ أَعْلَمَ بِالله وَبِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْكَ وَمِنْ أَصْحَابِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عِلْمُ الله غَيْرُهُ، وَالعِلْمُ بِمَعْزِلٍ مِنْهُ، العَالِمُ فِي السَّمَاء وَالعِلْم فِي الأرض مِنْهُ بِمَعْزِلٍ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ البَاهِتِ: مِثْلُ هَذَا لَا يَتَفَوَّهُ بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ مِثْلُكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَهُ عَلَى مَعْنًى لَا يَتَوَجَّهُ لَهُ أَمْثَالُكَ, يَقُولُونَ: العَالِمُ بِكَمَالِهِ وَبِجَمِيع عِلْمِهِ فَوقَ عَرْشه، وَعِلْمُهُ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْهُ، يَعْلَمُ بِعِلْمِهِ الَّذِي فِي نَفْسِهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، عَلَى بُعْدِ مَسَافَةِ مَا بَيْنَهُنَّ, فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ عِلْمَهُ فِي الأَرْضِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، لَا عَلَى مَا ادَّعَيْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الزُّورِ، أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِلْمَ الله مَنْزُوعٌ مِنْهُ مُجَسَّمٌ فِي الأَرْضِ، إِذًا هُمْ فِي الجَهْلِ وَالضَّلَالِ مِثْلُكَ وَمِثْلُ أَئِمَّتِكَ المَرِيسِيِّ وَابْنِ الثَّلْجِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ. وَادَّعَيْتَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ الله مِنْ صِفَاتِهِ وَذَاتِهِ وَالكَلَامُ هُوَ الفِعْلُ بِزَعْمِكَ، وَزَعْمِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مِنَ الذَّاتِ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: أَمَّا مَا يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ مِنْ ذَلِكَ فَسَنُبَيِّنُهُ لَكَ، وَإِنْ جَهِلْتَ، غَيْرَ أَنَّكَ تَرَدَّدْتَ وَرَاوَغْتَ وَوَالَسْتَ وَدَالَسْتَ، تُقَدِّمُ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُ أُخْرَى، كَيْفَ تُصَرِّحُ بِالقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؟ فَلَمْ تَزَلْ عَنْكَ وَدُونَكَ تَلَجْلَجُ بِهَا فِي صَدْرِكَ، حَتَّى صَرَختَ [30/ظ] بِهَا فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِعْلٌ، وَالفِعْلُ عِنْدَكَ مَخْلُوقٌ وَلَا شَكَّ فِيهِ. وَأَمَّا دَعْوَاكَ عَلَيْنَا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ كَلَامَ الله مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِنَّا نَقُولُ عَلَانِيَةً غَيْرَ سِرٍّ، وَهُوَ الحَقُّ المُبِينُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ مَخْلُوقًا، وَكُلُّ كَلَامٍ صِفَةُ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ بِهِ، خَالِقٍ أَوْ مَخْلُوقٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُقَاسُ بِهِ مِنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ سَائِرُ الصِّفَاتِ، مِنَ اليَدِ وَالوَجْهِ وَالنَّفْسِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الصِّفَاتِ

الَّتِي إِذَا بَانَتْ مِنَ المَوْصُوفِ وَاسْتَبَانَ مَكَانُهَا مِنْهُ؛ قَامَ البَائِنُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ فِي مَكَانٍ آخَرَ؛ لِأَنَّكَ تَرَى المُتَكَلِّمَ مِنَ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، وَكَلَامُهُ يَخْرُجُ مِنْهُ وَصْفًا لَا يَنْقُصُ مِنْ كَلَامِهِ شَيْءٌ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، كَأَنَّهُ مَتَى شَاءَ عَادَ فِي مِثْلِهِ مِنَ الكَلَامِ، وَلَا الكَلَامُ يَقُومُ بِعَيْنِهِ جِسْمًا يُرَى وَيُنْظَرُ إِلَيْهِ دُونَهُ وَيَنْشُرُ كَلامَهُ فِي الآفَاقِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ، فَيُنْسَبُ إِلَيْهِ حَيًّا وَمَيِّتًا، كَمَا يُنْسَبُ اليَوْمَ أَشْعَارُ الشُّعَرَاءِ فَيُقَالُ: شِعْرُ لَبِيدٍ، والأَعْشَى، وَلَوْ قَطَعْتَ يَدَهُ لَاسْتَبَانَ مَوْضِعُ قَطْعِهِ مِنْهُ واسْتِبِانَ المَقْطُوعُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الكَلَامَ لَهُ حَالٌ خِلَافُ حَالِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الأُخَرِ، لَا يُقَاسُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يُشَكُّ فِيهَا أَنَّهَا صِفَةُ المُتَكَلِّمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: كَلَامُ اللهِ فِعْلُهُ، فَقَدْ صَرَّحْتَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَادَّعَيْتَ أَنَّ أَفَاعِيلَ اللهِ زَائِلَةٌ عَنْهُ مَخْلُوقَةٌ، وَالكَلَامُ أَحَدُ أَفَاعِيلِهِ عِنْدَكَ، فَقُلْتَ فِيهِ قَوْلًا أَفْحَشَ مِمَّا قَالَ إِمَامُكَ المَرِيسِيُّ. زَعَمَ المريسيُّ أَنَّهُ مَجْعُولٌ، وكُلُّ مَجْعُولٍ مَخْلُوقٌ، وَزَعَمْتَ أَنْتَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مَفْعُولٌ، وَأَنْتُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِنْكُمَا الألفَاظُ فَإِنَّ المَعْنَى فِيهِ مِنْكُمَا مُتَّفِقٌ، كَمَا اتَّفَقَ القَوْلُ مِنْ إِمَامِكَ المَرِيسِيِّ مَعَ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ المُشْرِكِ المَخْزُومِيِّ أَنْ قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]، وَكَذَا الَّذِي قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 7]، فَزَعَمَ إِمَامُكَ أَنَّهُ مَجْعُولٌ، وَزَعَمْتَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ فَاتَّفَقَتِ المَعَانِي، وَاخْتَلَفَتِ الألفَاظُ مِنْكُمَا جَمِيعًا وَلَئِنْ كَانَ أَهْلُ الجَهْلِ مِنْ مُرَادِكُمْ فِي شكّ؛ إِن أَهْلَ العِلْمِ مِنْكُمْ لَعَلَى يَقِينٍ. فَكَانَ مِنْ صُنْعِ اللهِ لِمَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْكَ أَنْ صَرَّحْتَ بِالمَخْلُوقِ بَعْدَ تَسَتُّرٍ وَانْقِبَاضٍ مِنْهُ، مَخَافَةَ الفَضِيحَةِ، حَتَّى صَرَّحْتَ بِهَا، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَذْهَبِكَ لِيَحْذَرُوا مِثْلَهَا مِنْ زَلَّاتِكَ، ويجتنبوا أَخَوَاتِهَا مِنْ سَقَطَاتِكَ، ثُمَّ صَرَّحْتَ بِهَا

ثَانِيَةً فِي آخِرِ كِتَابِكَ، فَادَّعَيْتَ أَنَّ مَنْ قَالَ: القُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ جَاءَ بِالكُفْرِ عَيَانًا. أَو لم تَزْعُمْ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ هَذَا: أَنَّ مَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَافِر عِنْدَكَ، إِنَّ الَّذِي يَقُولُ: مَخْلُوق مُؤْمِنٌ مُوَفَّقٌ، مُصِيبٌ في دَعْوَاكَ فَلِمَ تَنْسبُهُ إلى البِدْعَةِ، وهو في دَعْوَاكَ مُوَفَّقٌ مُصِيبٌ، وَلَكِنَّكَ مَوَّهْتَ بِالأَوَّلِ؛ لِئَلَّا يَفْطِنَ الجُهَّالُ مِنْكَ الأُخْرَى، وَقَدْ صَرَّحْتَ وَأَوْضَحْتَ وَأَفْصَحْتَ بِهِ حَتَّى لَمْ تَدَعْ لِمُتَأَوِّلٍ عَلَيْكَ مَوْضِعَ شُبْهَة. * * *

وَصَرَّحْتَ أَيْضًا بِمَذْهَبٍ كَبِيرٍ فَاحِشٍ مِنْ قَوْلِ الجَهْمِيَّةِ فَقُلْتَ: إِذَا قَالُوا لَنَا: أَيْنَ الله؟ فَإِنَّا لَا نَقُولُ بِالأَيْنِيَّةِ بِحُلُولِ المَكَانِ، إِذا قِيلَ: أَيْنَ هُوَ؟ قِيلَ: عَلَى العَرْشِ وَفِي السَّمَاءِ. فَيُقَالُ لَكَ، [31/و] أَيُّهَا المُعَارِضُ: مَا أَبْقَيْتَ غَايَةً فِي نَفْي اسْتِوَاءِ اللهِ عَلَى العَرْشِ وَاسْتِوَائِهِ إِلَى السَّمَاءِ، إِذْ قُلْتَ: لَا نَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى العَرْشِ وَفِي السَّمَاءِ بِالأَيْنِيَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ إِلَهَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، فَإِنَّمَا يَعْبُدُ غَيْرَ الله، وَيَقْصِدُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى إِلَهٍ فِي الأَرْضِ، وَمَنْ قَصَدَ بِعِبَادَتِهِ إِلَى إِلَهٍ فِي الأَرْضِ كَانَ كَعَابِدِ وَثَنٍ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى العَرْشِ، وَالأَوْثَانُ فِي الأَرْضِ، كَمَا قَالَ لِجِبْرِيلَ {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} [التكوير: 20 - 21]، فَفِي قَوْلِهِ «ثَمَّ» دَلِيلٌ عَلَى البَيْنُونَةِ وَالحَدِّ بِقَوْلِهِ: «ثَمَّ» لَا هَاهُنَا فِي الكُنفِ وَالمَرَاحِيضِ كَمَا ادَّعَيْتُمْ. وَإِنْ أَبَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنْ تُؤَيِّنَ اللهَ تَعَالَى وَتُقِرَّ بِهِ أَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، دُونَ مَا سِوَاهُ، فَلَا ضَيْرَ عَلَى مَنْ أَيَّنَهُ؛ إِذْ رَسُولُهُ وَنَبِيُّهُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ أَيَّنَهُ فَقَالَ لِلْأَمَةِ السَّوْدَاءِ: «أَيْنَ الله؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». وَكَذَلِكَ أَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. (115) حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ الرِّفَاعِيُّ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ قَالَ: اللهمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الأَرْض وَاحِد أَعْبُدُكَ» (¬1). ¬

(¬1) ضعيف؛ أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (28)، وأبو يعلى كما في إتحاف الخيرة = ... = (6275)، والبزار (16/ 19)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 19)،والخطيب في التاريخ (10/ 346)، وغيرهم، من طريق أبي هاشم الرفاعي، به وهذا إسناد ضعيف لأجل أبي هشام الرفاعي واسمه محمد بن يزيد، ضعفه غير واحد، وقال البخاري: رأيتهم مجتمعين على ضعفه، وكذلك شيخ شيخه أبو جعفر الرازي قال أحمد: ليس بقوي في الحديث، وقال أبو زرعة شيخ يهم كثيرًا. قلت: وقد تفرد به كما قال البزار عقب روايته للحديث: «وَهَذَا الحديثُ لاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ إلا أبو جعفر، ولا عن أبي جعفر إلا إسحاق، ولم نسمعه إلا من أبي هشام».

(116) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ يَزِيدَ العَطَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ للْأمة السَّوْدَاء: «أَيْن اللهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» (¬1). فَمَا نَصْنَعُ بِقَوْلِكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ وَقَوْلِ إِمَامِكَ المَرِيسِيِّ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله وَإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ يُنْبَذَ فِي الحُشِّ. وَالقُرْآنُ يُصَدِّقُ مَا قَالَا، وَيُحَقِّقُهُ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، إِذْ يَقُولُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وَ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر: 10]، {ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} [المعارج: 3 - 4]، و {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]،و {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ القُرْآنِ. ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (18)، والطيالسي في مسنده (1201)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (899)، وأبو عوانة في مسنده (1727)، وابن أبي عاصم في السنة (489)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (652)؛ جميعا من طريق أبان بن يزيد العطار، به. وأخرجه مسلم (537)، من حديث حجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، به.

وَزَعَمْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّكَ لَا تَصِفُ اللهَ بِحُلُولٍ فِي الأَمَاكِنِ، فَلَوْ شَعرْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ، أَنَّكَ وَصَفْتَهُ بِأَقْبَحَ حُلُول فِي الأَمَاكِن أَفْحَش مِمَّا عِبْتَ عَلَى غَيْرِكَ؛ لِأَنَّا قد أَيَّنَّا لَهُ مَكَانًا وَاحِدًا: أَعْلَى مَكَانٍ، وَأْطَهَرَ مَكَانٍ وَأَشْرَفَ مَكَانٍ؛ عَرْشِهِ العَظِيمِ المُقَدَّسِ المَجِيدِ، فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ العُلْيَا، حَيْثُ لَيْسَ مَعَهُ هُنَاكَ إِنْسٌ، وَلَا جَانٌّ، وَلَا بِجَنْبِهِ حُشٌّ، وَلَا مِرْحَاضٌ، وَلَا شَيْطَانٌ. وَزَعَمْتَ أَنْتَ وَالمُضِلُّونَ مِنْ زُعَمَائِكَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ حُشٍّ وَمِرْحَاضٍ، وَبِجَنْبِ كُلِّ إِنْسِيٍّ وَجَانٍّ، أَفَأَنْتُمْ تُشَبِّهُونَهُ بِالحُلُولِ فِي الأَمَاكِنِ، أَمْ نَحْنُ؟ هَذَا وَاضِحٌ بَيْنَ مَذْهَبِكُمْ وَدَعْوَاكُمْ، صَرَّحْتَ بِهَا أَيُّهَا المُعَارِضُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِكَ، وَلَكِنَّكَ تَقُولُ الشَّيْءَ فَتَنْسَاهُ، ثُمَّ تَنْقُضُهُ عَلَى نَفسِك وَأَنت لا تَشْعُرُ بِهِ حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقِكَ. والحَمد لله الَّذِي أَعَانَنَا عَلَيْكَ بِالنِّسْيَانِ، وكَثْرَةِ الهَذَيَان. ثمَّ ذَهَبْتَ تُنْكِرُ النُّزُولَ، وَتَدْفَعُهُ بِضُرُوبٍ مِنَ الأَبَاطِيلِ، وَالأَضَالِيلِ [31/ظ] مِنْ كَلَامِ المَرِيسِيِّ، وَابْنِ الثَّلْجِيِّ، وَنُظَرَائِهِمْ مِنَ الجَهْمِيَّةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي غَيْرِ خَبَرٍ، كَأَنَّكَ تَسْمَعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُهُ، وَقَلَّ حَدِيثٌ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْقَضَ لِدَعْوَاكُم مِن [أَنَّ] الله فِي كُلِّ مَكَانٍ، مِنْ حَدِيثِ النُّزُولِ؛ لَما أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَان، فَكَيْفَ يَنْزِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مَنْ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟! فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ المُعَارِضِ لِدَفْعِ حَدِيثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي النُّزُولِ؛ حِكَايَةٌ حَكَاهَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ لَعَلَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ: نُزُولُهُ: أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَمَا أَشْبَهَهَا. فَقُلْنَا لَهُ: أَيُّهَا المُعَارِضُ، أَمَّا لَفْظُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَيَنْقُضُ مَا حَكَيْتَ عَنْ

أَبِي مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ قَالَهُ فَالحَدِيثُ يُكَذِّبُهُ وَيُبْطِلُ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الحَدِيثِ: «إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، أَوْ شَطْرُ اللَّيْلِ، نَزَلَ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأُجِيب؟ هَل من مُسْتَغْفِر أغفرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ، حَتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ» وَقَدْ جِئْنَا بِالحَدِيثِ بِإِسْنَادِهِ فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ (¬1). فَلَوْ كَانَ عَلَى مَا حَكَيْتَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَادَّعَيْتَهُ أَنْتَ أَيْضًا أَنَّهُ: أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ وَسُلْطَانُهُ، مَا كَانَ أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ هَذَا وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى اسْتِغْفَارِهِ وَسُؤَالِهِ دُونَ الله، وَلَا المَلَائِكَة يَدعُوا النَّاسَ إِلَى إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَإِلَى المَغْفِرَةِ مِنْهَا لَهُمْ، وَإِلَى إِعْطَاءِ السُّؤَّالِ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى وَلِيَ ذَلِكَ، دُونَ من سِوَاهُ. وَأُخْرَى؛ أَنَّ أَمْرَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَسُلْطَانَهُ دَائِبًا يُنَزَّلُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ لَا يَفْتُرُ، وَلَا يَنْقَطِعُ، فَمَا بَالُ ثُلُثِ اللَّيْلِ خُصَّ بِنُزُولِهِ وَرَحْمَتِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ بَيْنِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟ حَتَّى وَقَّتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ وَقْتًا آخَرَ، فَقَالَ: «إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ الفَجْرُ»، فَفِي دَعْوَاكَ تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ عَلَى النَّاسِ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ، فَإِذَا انْفَجَرَ الفَجْرُ رُفِعَتْ فِي دَعْوَاكَ. هَذَا وَاللهِ تَفْسِيرٌ مُحَالٌ، وَتَأْوِيلُ ضَلَالٍ، يَشْهَدُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الحَدِيثِ بِالإِبْطَالِ. وَأَمَّا مَا رَوَيْتَ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ عَنِ المَرِيسِيِّ: أَنَّ اللهَ بِكُلِّ مَكَانٍ عَن ابْن عُيَيْنَة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: «لَا تَقُلْ: الله حَيْثُ كَانَ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ مَكَانٍ». وَعَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي البَخْتَرِيِّ، مِثْلَهُ. ¬

(¬1) تقدم برقم (26، 27).

فَتَأْوِيلُ هَذَا أَيُّهَا المُعَارِضُ عَلَى مَا فَسَّرْنَا: أَنَّهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ بِكُلِّ مَكَانٍ بِالعِلْمِ بِهِ، وَمَعَ كُلِّ صَاحِبِ نَجْوَى، وَأَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، لَا عَلَى أَنَّ نَفْسَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، مِمَّا بَيْنَ الخَلْقِ فِي الأَرْضِ وَالأَمْكِنَةِ، وَبِجَنْبِ كُلِّ مُصَلٍّ وَقَائِمٍ وَقَاعِدٍ، فَهُوَ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ مَعَ مَنْ بِالمَشْرِقِ، كَمَا هُوَ مَعَ مَنْ بِالمَغْرِبِ، وَمَعَ مَنْ فِي الأَرْضِ السَّابِعَةِ، كَمَا هُوَ مَعَ مَنْ هُوَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَلَا يَبْعُدُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَالعَجَبُ مِنْكَ وَمِنْ إِمَامِكَ المَرِيسِيِّ إِذْ يَحْتَجُّ فِي ضَلَالِهِ بِالتَّمْوِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَنِ أَبِي البَخْتَرِيِّ وَيَدَعُ المَنْصُوصَ المُفَسَّرَ [32/و] عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الرُّؤْيَةِ وَالعَرْشِ خِلَافَ مَا مَوَّهَ مِنْ كِتَابِ الله، وَرِوَايَةِ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - أَجْمَعِينَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي النُّزُولِ، وَفِي أَنَّ الله تَعَالَى فِي السَّمَاءِ دون الأَرْض. هذا إلى الِابْتِدَاعِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الِاتِّبَاعِ، وَإِلَى الجَهْلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى العَدْلِ، غَيْرَ أَنَّ المُصِيبَ يَتَعَلَّقُ مِنَ الآثَارِ بِكُلِّ وَاضِحٍ مَشْهُورٍ، وَالمُرِيبَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُتَشَابِهٍ مَغْمُورٍ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَ عَلَى أَبِي مُعَاوِيَةَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا النُّزُولِ، ثُمَّ قُلْتَ: وَيُحْتَمَلُ مَا قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: إِنَّ نُزُولَهُ، أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ كَمَا تَرَوْنَ أن القُرْآنَ يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَافِعًا مُشَفَّعًا، وَمَاحِلًا مُصَدِّقًا، فَقَالُوا: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ ثَوَابُهُ. فَإِنْ جَازَ لَهُمْ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي القُرْآنِ جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ نُزُولَهُ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: لَقَدْ قِسْتَ بِغَيْرِ أَصْلٍ، وَلَا مِثَالٍ؛ لِأَنَّ العُلَمَاءَ قَدْ

عَلِمُوا أَنَّ القُرْآنَ كَلَامٌ. وَالكَلَامُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا قَائِمًا حَتَّى تُقِيمَهُ الأَلْسُن وَيَسْتَلِينَ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى المَجِيءِ، وَالتَّحَرُّكِ، وَالنُّزُولِ بِغَيْرِ مُنَزِّلٍ وَلَا مُحَرِّكٍ، إِلَّا أَن يُؤْتَى بِهِ وَيُنْزَّلَ. واللهُ تَعَالَى حَيٌّ قَيُّومٌ، مَلِكٌ عَظِيمٌ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فِي عِزِّهِ وبَهَائِهِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ، وَيَنْزِلُ بِلَا مُنْزِلٍ، ويَرْتَفِعُ بِلَا رَافِعٍ، وَيفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِغَيْر اسْتِعَانَةٍ بِأحَدٍ، وَلَا حَاجَةَ فِيمَا يَفْعَلُ إِلَى أَحَدٍ، وَلَا يُقَاسُ الحَيُّ القَيُّومُ الفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ بِالكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَيْنٌ قَائِمٌ حَتَّى تُقِيمَهُ الأَلْسُنُ، وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إِرَادَةٌ، وَلَا يَسْتَبِينُ إِلَّا بِقِرَاءَةِ القُرَّاءِ. أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ نُزُولُهُ: أَمْرَهُ وَرَحْمَتَهُ، فَمَا بَالُ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا يَنْزِلُ إِلَّا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ ثُمَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ وَمَا بَالُ أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي دَعْوَاكَ لَا يَنْزِلُ إِلَى الأَرْضِ حَيْثُ مُسْتَقَرُّ العِبَادِ، مِمَّنْ يُرِيدُ اللهُ أَنْ يَرْحَمَهُ، وَيُجِيبَ وَيُعْطِيَ، فَمَا بَالُهَا تَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا تَجُوزُهَا؟ وَمَا بَالُ رَحْمَتِهِ تَبْقَى عَلَى عِبَادِهِ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ إِلَى انْفِجَارِ الفَجْرِ، ثُمَّ تَرْجِعُ مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ بِزَعْمِكَ؟ وَمَا بَالُهُ إِذْ الله بِزَعْمِكَ فِي الأَرْضِ، فَإِذَا اسْتَرْحَمَه عِبَادُهُ واسْتَغْفَرُوُه وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، بَعَّدَ عَنْهُمْ رَحْمَتَهُ إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا مَسِيرَةَ خَمْسمِائَة عَامٍ، وَلَا يُغَشِّيهِمْ إِيَّاهَا وَهُوَ مَعَهُمْ فِي الأَرْضِ بِزَعْمِكَ؟ إِذْ زَعَمْتَ أَنَّ نُزُولَهُ تَقْرِيبُ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ كَقَوْلِهِ الآخَرِ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا؛ تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا؛ تَقَرَّبْتُ مِنْهُ باعًا». فَقلت: هَذَا تَقَرُّبٌ بِالرَّحْمَةِ. فَفِي دَعْوَاكَ فِي تَفْسِيرِ النُّزُولِ: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ شِبْرًا تَبَاعَدَ هُوَ عَنْهُ مَسِيرَةَ مَا بَيْنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ العِبَادُ إِلَى الله اقْتِرَابًا تَبَاعَدَ هُوَ بِرَحْمَتِهِ عَنْهُمْ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ بِزَعْمِكَ.

لَقَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا الجَاهِلُ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ مُحَالٌ يَدْعُو إِلَى ضَلَالٍ، وَالحَدِيثُ نَفْسُهُ يُبْطِلُ هَذَا التَّفْسِيرَ وَيُكَذِّبُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ أَغْيَظُ حَدِيثٍ لِلْجَهْمِيَّةِ، وَأَنْقَضُ شَيْءٍ لِدَعْوَاهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ أَنَّ اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ فِي الأَرْضِ، كَمَا هُوَ فِي السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَنْ هُوَ تَحْتَهَا فِي الأَرْضِ؟ وَجَمِيعُ الأَمَاكِنِ مِنْهَا، وَنَفْسُ [32/ظ] الحَدِيثِ نَاقِضٌ لِدَعْوَاهُمْ، وَقَاطِعٌ لِحُجَجِهِم. وَأُخْرَى، أَنَّهُ قَدْ عَقِلَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ وَرَأْيٍ أَنَّ القَوْلَ لَا يتَحَوَّلُ صُورَة لَهَا لِسَانٌ وَفَمٌ، يَنْطِقُ وَيَشْفَعُ، فَحِينَ اتَّفَقَتِ المَعْرِفَةُ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ ثَوَابٌ فَيُصَوِّرُهُ اللهُ بِقُدْرَتِهِ صُورَةَ رَجُلٍ يُبَشِّرُ بِهِ المُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ القُرْآنُ صُورَةً كَصُورَةِ الإِنْسَانِ لَمْ يَتَشَعَّبْ أَكْثَرَ مِنْ ألفِ ألفِ صُورَةٍ، فَيَأْتِيَ أَكثرُ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ شَافِعًا، وماحِلًا؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ الوَاحِدَةَ إِذَا هِيَ أَتَت وَاحِدًا زَالَتْ عَنْ غَيْرِهِ، فَهَذَا مَعْقُولٌ لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا كُلُّ جَهُولٍ. وَهَذَا كَحَدِيثِ الأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَالِ، عَن زَاذَان، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنهما -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ تَأْتِيهِ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ فِي صُورَة رجل فِي أَحْسَنَ هَيْئَةٍ، وَأَحْسَنَ لِبَاسٍ، وَأَطْيَبَ رِيحٍ فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ كَانَ، فَكَذَلِكَ تَرَانِي حَسَنًا، وَكَانَ طَيِّبًا، فَكَذَلِكَ تَرَانِي طَيِّبًا وَكَذَلِكَ العَمَلُ السَّيئ يَأْتِي صَاحِبَهُ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِك، ويُبَشِّره بِعَذَاب الله». وَإِنَّمَا عَمَلُهُما الصَّلَاةُ، والزَّكاةُ، وَالصِّيَامُ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَعَمَلُ الآخَرِ الزِّنَا، وَالرِّبَا، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ المَعَاصِي قَدِ اضْمَحَلَّتْ وَذَهَبَتْ فِي الدُّنْيَا، فَيُصَوِّرُ اللهُ بِقُدْرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِ وَالفَاجِرِ ثَوَابَهَا وَعِقَابَهَا يُبَشِّرُ بِهِمَا إِكْرَامًا لِلْمُؤْمِنِ وَحَسْرَةً عَلَى الكَافِرِ.

وَهَذَا المَعْنَى أَوْضَحُ مِنَ الشَّمْسِ، قَدْ عَلِمْتُمُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ الله لَكِنْ تُغَالِطُونَ وَتُدَلِّسُونَ، وَعَلَيْكُمْ أَوْزَارُكُمْ وَأَوْزَارُ مَنْ تُضِلُّونَ. ثُمَّ أَكَّدَ المُعَارِضُ دَعْوَاهُ فِي أَنَّ اللهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِقِيَاسٍ ضَلَّ بِهِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل. فَقَالَ: أَلا ترى أَن مَنْ صَعَدَ الجَبَلَ لَا يُقَالُ لَهُ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ تَعَالى. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ المُدَّعِي مَا لَا عِلْمَ لَهُ: مَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّ رَأْسَ الجَبَلِ لَيْسَ بِأَقْرَبَ إِلَى الله تَعَالَى مِنْ أَسْفَلِهِ؟ لِأَنَّهُ مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ رَأْسَ الجَبَلِ أَقْرَبُ إِلَى الله مِنْ أَسْفَلِهِ، وَأَنَّ السَّمَاءَ السَّابِعَةَ أَقْرَبُ إِلَى عَرْشِ الله تَعَالَى مِنَ السَّادِسَةِ، وَالسَّادِسَةَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ الخَامِسَةِ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى الأَرْضِ. كَذَلِكَ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: «رَأْسُ المَنَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى الله مِنْ أَسْفَلِهِ». وَصَدَقَ ابْنُ المُبَارَكِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إِلَى السَّمَاءِ أَقْرَبُ؛ كَانَ إِلَى اللهِ أَقْرَب. وَقُرْبُ اللهِ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ أَقْصَاهُم وأَدْنَاهُم وَاحِد، لَا يَبْعُدُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَبَعْضُ الخَلْقِ أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ عَلَى نَحْوِ مَا فَسَّرْنَا مِنْ أَمْرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قُرْبُ المَلَائِكَةِ مِنَ الله، فَحَمَلَةُ العَرْشِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ المَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَالعَرْشُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَقُرْبُ الله إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ. هَذَا مَعْقُولٌ مَفْهُومٌ إِلَّا عِنْدَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ أَنَّ فَوْقَ العَرْشِ إِلَهًا؛ وَلِذَلِكَ سَمَّى المَلَائِكَةَ المُقَرَّبِون وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206]، [33/و] فَلَوْ كَانَ اللهُ فِي

الأَرْضِ كَمَا ادَّعَتِ الجَهْمِيَّةُ مَا كَانَ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} مَعْنًى، إِذْ كُلُّ الخَلْقِ عِنْدَهُ وَمَعَهُ فِي الأَرْضِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، وَمُطِيعُهُمْ وَعَاصِيهِمْ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الأَرْضِ مَنْ لَا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَا يَسْجُدُ لَهُ. وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ، لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الآيَةِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا يَسْجُدُ لَهُ، وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ. فَأَيُّ منقبة إِذًا فِيهِ لِلْمَلَائِكَةِ؛ إِذْ كُلُّ الخَلْقِ عِنْدَ الجَهْمِيَّةِ فِي مَعْنَاهُمْ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. ثُمَّ فَسَّرَ المُعَارِضُ هَذَا المَذْهَب تَفْسِيرًا أَشْنَعَ من هَذا، دَفْعًا بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللهَ فِي السَّمَاء. فَيُقَال: يُحْتَمَلُ التَّأْوِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي السَّمَاء، على أَنَّهُ مُدَبِّرُهَا وَمُتْقِنُهَا، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: هُوَ فِي صَلَاتِهِ وَعَمَلِهِ، وَتَدْبِيرِ مَعِيشَتِهِ، ولَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهَا وَفِي جَوْفِهَا، وَفِي نَفْسِ المَعِيشَةِ بِالحَقِيقَةِ وَلَكِنْ بِالمَجَازِ عَلَى دَعْوَاهُ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: قَدْ قُلْنَا لَكَ: إِنَّكَ تَهْذِي وَلَا تَدْرِي، تَتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ ثُمَّ تَنْقُضُهُ عَلَى نَفْسِكَ، أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنَّ الله تَعَالَى فِي السَّمَاءِ، وَفِي الأَرْضِ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ تَدَّعِي هَاهُنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْهُ إِلَّا تَدْبِيرُهُ وَإِتْقَانُهُ، كَتَدْبِيرِ الرَّجُلِ فِي مَعِيشَتِهِ، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهَا؟. وَمَا أَوْلَاكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنْ تَعَضَّ عَلَى لِسَانِكَ، وَلَا تَحْتَجَّ بِشَيْءٍ لَا تَقْدِرُ أَنْ تَقُودَهُ، أَوْ تَتَخَلَّصَ مِنْهُ بِحُجَّةٍ حَتَّى تَنْقُضَهُ عَلَى نَفْسِكَ بِنَفْسِ كَلَامِكَ، وَلَوْ كَانَ لَكَ نَاصِحٌ؛ لَحَجَرَ عَلَيْكَ الكَلَامَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَيْكَ بَعْضُ النَّاسِ بِبَعْضِ النَّصرَةِ فِي العِلْمِ، مَا اشْتَغَلْنَا بِالرَّدِّ عَلَى مثلك؛ لِسَخَافَةِ كَلَامِكَ، وَرَثَاثَةِ حُجَجِكَ، وَلَكِنَّا تَخَوَّفْنَا مِنْ جَهَالَتِكَ ضَرَرًا عَلَى الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ ظَهْرَيْكَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نُبَيِّنَ لَهُمْ عَوْرَةَ كَلَامِكَ، وَضَعْفَ احْتِجَاجِكَ؛ كَيْ يَحْذَرُوا مِثْلَهَا مِنْ

رَأْيِكَ، وَقَدْ فَضَحْنَاكَ فِي ذَلِكَ، وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا عَلَيْكَ فِي الِاحْتِجَاج، لَطَالَ به الكِتَابُ، غَيْرَ أَنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نُفَسِّرَ مِنْهَا قَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى كَثِيرٍ. وَلَوْلَا أَنَّكَ بَدَأْتَنَا بِالخَوْضِ فِيهِ وَفِي إِذَاعَةِ كَلَامِ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ، المُلْحِدِ فِي تَوْحِيدِ الله تَعَالَى، المُعَطِّلِ لِصِفَاتِ الله، المُفْتَري على الله؛ لم نَعْرِضْ لِشَيءٍ من هَذَا، ومَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ بَيَانٍ أَوْ بُرْهَانٍ، يَكُونُ بِبَلْدِةٍ يَنْتَشِرُ فِيهَا كَلَامُ المَرِيسِيِّ فِي التَّوْحِيدِ ثمَّ لَا ينْقُضُه. ثُمَّ عَادَ المُعَارِضُ إِلَى مَذْهَبِهِ الأَوَّلِ نَاقِضًا عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا تَأَوَّلَ فِي المَسْأَلَةِ الأُولَى، فَاحْتَجَّ بِبَعْضِ كَلَامِ جَهْمٍ، وَالمَرِيسِيِّ، فَقَالَ: إِنْ قَالُوا لَكَ: أَيْنَ الله؟ فَالجَوَابُ لَهُمْ: إِنْ أَرَدْتُمْ حُلُولًا فِي مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَفِي مَكَانٍ يَعْقِلُهُ المَخْلُوقُونَ فَهُوَ المُتَعَالِي عَن ذَلِك؛ لِأَنَّهُ عَلَى العَرْشِ، وبِكُلِّ مَكَانٍ، ولا يُوصَفُ بِأَيْنَ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: أَمَّا قَوْلُكَ: كَالمَخْلُوقِ، فَهَذِهِ كُلْفَةٌ مِنْكَ وَتَلْبِيسٌ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنَ العُلَمَاءِ. وَلَكِنَّهُ بِمَكَانٍ يَعْقِلُهُ المَخْلُوقُونَ المُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله، وَهُوَ عَلَى العَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، دُونَ مَا سِوَاهَا مِنَ الأَمْكِنَةِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَبِمَنْ هُوَ فِي [33/ظ] كُلِّ مَكَانٍ، مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنْ بِالله، وَلَمْ يَدْرِ مَنْ يَعْبُدُ، وَمَنْ يُوَحِّدُ. مَعَ أَنَّكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَقْرَرْتَ بِأَنَّكَ تَعْقِلُ مَكَانَهُ؛ لِأَنَّكَ ادَّعَيْتَ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْ سَمَاءٍ وَمِنْ أَرْضٍ. وَأمَا اشْتِرَاطُكَ عَلَى مَنْ سَأَلَكَ: أَيْنَ الله؟ فَتَقُولُ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، لَمْ يشْتَرِط ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ عَلَى أَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الله؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حِين سَأَلَ الأَمَةَ السَّوْدَاء «أَيْنَ الله؟» لَمْ تَشْتَرِطْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -

كَمَا اشْتَرَطْتَ أَنْتَ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ حُلُولًا كَحُلُولِ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قَالَتْ: «فِي السَّمَاءِ»، فَاكَتْفَى مِنْهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا: كَيْفَ كَيْنُونَتُهُ فِي السَّمَاءِ، وَكَيْفَ حُلُولُهُ فِيهَا؟ وَأَمَّا قَوْلُكَ: لَا يُوصَفُ بِأَيْنَ. فَهَذَا أَصْلُ كَلَام جَهْمٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَ اللهُ - عز وجل - وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُؤْمِنُونَ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، فَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ العِبَادَ أَيْنَ اللهُ، وَأَيْنَ مَكَانُهُ، وَأَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْحَمْ مَنْ فِي الأَرْضِ؛ لَمْ يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ». (117) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَن أبي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ؛ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» (¬1). فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِأَيْنَ كَمَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ، لَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لِلْجَارِيَةِ «أَيْنَ اللهُ» فَيُغَالِطُهَا فِي شَيْءٍ لَا يُؤَيَّنُ، وَحِينَ قَالَتْ: «هُوَ فِي السَّمَاءِ»، لَوْ قَدْ أَخْطَأَتْ فِيهِ لَرَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا وَعَلَّمَهَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى إِيمَانِهَا بِمَعْرِفَتِهَا أَنَّ الله فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ لَنَا عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ. ¬

(¬1) أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (27)، والطيالسي (333)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (4/ 210)، وأبو يعلى (5063)، والطبراني في الكبير (10277)، والحاكم (4/ 277)، وغيرهم من طريق أبي إسحاق السبيعي، به. وهذا إسناد منقطع أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، وفي الباب عن أبي هريرة، وغيره.

(118) حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ الشَّقِيقِيُّ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ المُبَارَكِ بِأَيِّ شَيْءٍ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: «بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى العَرْشِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ». قُلْتُ: بِحَدٍّ؟ قَالَ: بِحَدٍّ (¬1). فَهَذَا القُرْآنُ يَنْطِقُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَيْنَ، وَهَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ وَصَفَهُ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ. فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ -غَيْرَ المَرِيسِيِّ- أَنَّ اللهَ لَا يُوصَفُ بِأَيْنَ؟ فَأَخْبِرْنَا بِهِ، وَإِلَّا فَأَنْتَ المُفْتَرِي عَلَى الله، الجَاهِل بِهِ، وبِمَكَانِهِ. ثمَّ نَقَضَّتَ عَلَى نَفْسِكَ دَعْوَاكَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى أَنَّهُ مُدَبِّرُهَا، كَمَا يَكُونُ الرَّجُلُ فِي عِمَارَةِ دَارِهِ خَارِجًا مِنْهَا، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِيهَا، فَتَرَكْتَ المَذْهَبَ الأَوَّلَ، ثُمَّ ادَّعَيْتَ أَخِيرًا فَقُلْتَ: هُوَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، تَحْتَجُّ بِالشَّيْءِ، ثُمَّ تَنْسَاهُ، حَتَّى تَنْقُضَهُ عَلَى نَفْسِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ؟!. وَسَنَذْكُرُ فِي إِبْطَالِ حُجَجِكَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ أَخْبَارًا صَحِيحَةً يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ وَفَّقَهُ الله تَعَالَى عَلَى إلحَادِكَ فِيهَا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى. (119) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو -وَهُوَ ابْنُ دِينَارٍ- عَنْ أَبِي قَابُوسَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه - قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ [34/و] السَّمَاءِ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، تقدم تخريجه برقم (28). (¬2) صحيح؛ أخرجه أحمد (6494)، وأبو داود (4943)، والترمذي (1924)، والمصنف في الرد على الجهمية (22)، والحميدي (591)، والبيهقي (9/ 41) وغيرهم، من طريق = ... = أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو، قال الذهبي في الميزان (10522) لا يُعرف. وقال في الكاشف (6784): وُثِّق. وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه ... جرحا ولا تعديلا، وقال الحافظ في التقريب: مقبول. قلت: وقد تابعه، حبان بن زيد الشرعبي، أخرجه أحمد (6541)، وعبد بن حميد (320 - منتخب)، والبخاري في الأدب المفرد (380)، والطبراني في مسند الشاميين (1055)، والبيهقي في شعب الإيمان (11052)، وغيرهم؛ من طريق الشرعبي، عن عبد الله بن عمرو، بمعناه. وهذا إسناد صحيح، والحمد لله رب العالمين.

(120) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ المصْرِيّ، أَبَنَا اللَّيْثُ، عَنْ زِيَادَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اشْتَكَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا، أَوِ اشْتَكَى أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ: رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، وَاغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا، وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ، وَرَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ عَلَى هَذَا الوَجَعِ» فَيَبْرَأَ (¬1). أَفَلَا تَرَى أَيُّهَا المُعَارِضُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ حَدَّهُ فِي السَّمَاءِ دُونَ الأَرْضِ بِقَوْلِهِ: «رَبُّنَا الَّذِي فِي السَّمَاء»، وَكَذَلِكَ رُويَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -. (121) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ الله، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ ¬

(¬1) إسناده منكر؛ أخرجه أبو داود (3892)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (1045)، والمصنف في الرد على الجهمية (23)، والطبراني في الأوسط (8636)، وابن حبان في المجروحين (1/ 386)، وابن عدي في الكامل (4/ 145)، جميعًا من حديث زيادة بن محمد، تفرد به، وقال البخاري منكر الحديث. تنبيه: كرر في الأصل إسناد هذا الحديث مع متن الحديث الذي قبله، وساقه كأنه حديث قائم بذاته، وأغلب الظن أنه انتقال نظر من الناسخ، والله تعالى أعلم.

الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: «وَيْلٌ لِدَيَّانِ الأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ السَّمَاءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ» (¬1). (122) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَن ابْن شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ - رضي الله عنه -: «وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ» قَالَ عُمَرُ: «إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ»، قَالَ كَعْبٌ: «إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ». فَكَبَّرَ عُمَرُ وَخَرَّ سَاجِدًا (¬2). فَفِي هَذَا بَيَانٌ بَيِّنٌ لِلْحَدِّ، وَأَنَّ اللهَ فِي السَّمَاءِ دُونَ الأَرْض؛ لِأَنه هُنَاكَ عَلَى العَرْشِ دُونَ مَا سواهُ من الأَمْكِنَة. (123) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله فَوْقَ عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، وسَمَاوَاتُهُ فَوْقَ أَرْضِهِ مِثْلُ القُبَّةِ، وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ» (¬3). (124) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: لمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: «أَيُّهَا ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (23297)، وأحمد في الزهد (ص 155)، كلاهما عن وكيع، وأبو نعيم في فضيلة العادلين (44)، والبيهقي في الكبرى (10/ 200)، من طريق سعيد بن عبد العزيز، به. (¬2) صحيح، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (41)، والخرائطي في فضيلة الشكر (67)، من طريق عبد الله بن صالح ويحيى بن عبد الله بن بكير، كلاهما عن الليث، به، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 389)، من طريق سعيد بن أبي هلال، والبيهقي في شعب الإيمان (7393)، من طريق مالك، كلاهما سعيد ومالك، عن كعب، وكلا الطريقين مرسل، فكلاهما لم يدرك كعبًا. (¬3) تقدم تخريجه برقم (103).

النَّاسُ، إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ إِلَهَكُمُ الَّذِي تَعْبُدُونَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، فَإِنَّ إِلَهَكُمْ لَمْ يَمُتْ». ثُمَّ تَلَا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144]. حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ (¬1). (125) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسيرَة خَمْسمِائَة عَام، وَبَين كُلِّ سَمَائين مسيرَة خَمْسمِائَة عَام، وَبَين السَّمَاء السَّابِعَة وَبَين الكُرْسِيّ مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ، وَبَيْنَ الكُرْسِيِّ إِلَى المَاءِ مسيرَة خَمْسمِائَة عَامٍ، وَالعَرْشُ عَلَى المَاءِ وَالله فَوْقَ العَرْشِ [34/ظ]، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ» (¬2). (126) حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا زُهَيْرٌ -وَهُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ- ثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عُثْمَانَ بْنُ خُثَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ حَدَّثهُ ذَكْوَانُ حَاجِبُ عَائِشَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - رضي الله عنها - وَهِيَ تَمُوتُ، فَقَالَ لَهَا: «كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا، وَأَنْزَلَ الله بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، جَاءَ بِهَا الرُّوحُ الأَمِينُ، فَأَصْبَحَ لَيْسَ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ الله يُذْكَرُ فِيهِ اسْمُ اللهِ، إِلَّا وَهِي تتلى فِيهِ آَنَاءَ الَّليْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات. أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (30)، وابن أبي شيبة في المصنف (38176)، والبزار (103، 5991)، وقوام السنة الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (499). (¬2) تقدم تخريجه برقم (92). (¬3) أخرجه البخاري (4753)، وأحمد (2496، 3262)، والمصنف في الرد على الجهمية (36)، وأبو يعلى (2648)، والطبراني في الكبير (10783)، والحاكم (4/ 9)، وغيرهم من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، به. والنفيلي: هو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل.

(127) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّاد، ثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، أَبَنا سُلَيْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَانيِّ قَالَ: ثَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ يَتْبَعُ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَهُ، فَلَقِيَ نَوْفًا، فَقَالَ نَوْفٌ: «ذُكِرَ لَنَا أَنَّ اللهَ قَالَ لمَلَائكَته: ادْعُوا لِي عبَادي، قَالُوا: يا ربُّ! فَكَيْفَ وَالسَّمَاوَاتُ السَّبْعُ دُونَهُمْ، وَالعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا الله؛ فَقَدْ اسْتَجَابُوا» (¬1). (128) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل أَبُو سَلَمَةَ، ثَنَا أَبُو هِلَالٍ، ثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: قَالتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: يَا ربُّ أَنْتَ فِي السَّمَاءِ، وَنَحْنُ فِي الأَرْضِ، فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ رِضَاكَ وَغَضَبَكَ؟ قَالَ: «إِذَا رَضِيتُ عَنْكُمُ؛ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ، وَإِذَا غَضِبْتُ عَلَيْكُمُ؛ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ» (¬2). فَهَذَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَصَاحِبَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضي الله عنهما -، وَخِيَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ، حَتَّى بَني إِسْرَائِيلَ، كُلُّهُمْ قَدْ قَالُوا بِخِلَافِ مَذْهَبِكَ فِي أَن الله فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَهَذَا بَابٌ طَوِيلٌ، وَالآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ وَلَكِنْ يَكْفِي العَاقِل من ذكرنَا من ذَلِك. * * * ¬

(¬1) صحيح؛ رجاله ثقات، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (38) بأتم من ذلك، وابن ماجه (801)، وأحمد (6750، 6752، 6860)، وابن المبارك في الزهد (7)، والرجل المبهم، هو أبو أيوب الأزدي واسمه يحيى بن مالك، كما جاء مصرحًا به في رواية ابن ماجه وأحمد، ونوف: هو نوف بن فضالة البِكَالي ابن امرأة كعب الأحبار. (¬2) إسناده حسن، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (39)، وقال الذهبي في العلو (336): «هذا ثابت عن قتادة».

ثُمَّ رَأَيْنَاكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ بَعْدَمَا فَرَغْتَ مِنْ إِظْهَارِ حُجَجِ الجَهْمِيَّةِ مِنْ كَلَامِ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ وَنُظَرَائِهِ، تَقَلَّدْتَ كَلَامَ ابْنِ الثَّلْجِيِّ الَّذِي كَانَ يَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ التَّجَهُّمِ بَعْدَمَا لَمْ تَدَعْ لِلْجَهْمِيَّةِ مِنْ كَبِيرِ حُجَّةٍ إِلَّا قُمْتَ بِهَا، وَأَظْهَرْتَهَا، وَزَيَّنْتَهَا فِي أَعْيُنِ الجُهَّالِ وَدَعَوْتَهُمْ إِلَيْهَا، وَبَعْدَمَا صَرَّحْتَ بِأَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِكَ هَذَا، وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَهُوَ عِنْدَكَ كَافِرٌ، وَأَنَّ اللهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِزَعْمِكَ. ثُمَّ أَنْشَأْتَ طَاعِنًا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَسَطَّرْتَ فِيهِ الأَسَاطِيرَ، وَأَكْثَرْتَ مِنَ المَنَاكِيرِ، وغَلَطت فِي كَثِيرٍ، فَادَّعَيْتَ أَنَّ قَوْلَ النَّاسِ فِي القُرْآنِ إِنَّهُ «مَخْلُوقٌ»، «غير مَخْلُوقٍ»: بِدْعَةٌ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُخَاضُ فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الخَوْضَ فِي القُرْآنِ، فَحَكَمْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ عَلَى نَفْسِكَ بِالبِدْعَةِ، وَشَهِدْتَ بِهَا على نَفْسِكَ، لَما أَنَّكَ صَرَّحْتَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ قَوْلُكَ: كَلَامُ الله غَيْرُ الله، وَهُوَ مِنْ أَفَاعِيلِهِ، وَالأَفَاعِيلُ بِزَعْمِكَ زَائِلَةٌ عَنْهُ مَخْلُوقَةٌ، فَحَكَمْتَ على نَفْسِكَ بِمَا تَخَوَّفْتَ عَلَى غَيْرِكَ. فَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الخَوْضَ فِي القُرْآنِ فَقَدْ صَدَقْتَ. وَأَنْتَ، [35/و] المُخَالِفُ لَهُمْ؛ لَما أَنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِيهِ الخَوْضَ، وَجَمَعْتَ عَلَى نَفْسِكَ كثيرًا مِنَ النَّقْضِ، فَمِثْلُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَ مِنْ كَرَاهِيَةِ الخَوْضِ فِيهِ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - لِلْخَوَارِجِ حِينَ قَالُوا: «لَا حُكْمَ إِلَّا لله» فَقَالَ: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُبْتَغَى بِهَا بَاطِلٌ». فَقَدْ خُضْتَ فِيهَا أَيُّهَا المُعَارِضُ بِأَقْبَحِ خَوْضٍ، وَضَرَبْتَ لَهُ أَمْثَالَ السُّوءِ، وَصَرَّحْتَ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ، كَمَا قَالَ إِمَامُكَ المَرِيسِيُّ: مَجْعُولٌ، وَكُلُّ مَجْعُولٍ عِنْدَكَ مَخْلُوقٌ لَا شَكَّ فِيهِ.

وَيْحَكَ! إِنَّمَا كَرِهَ السَّلَفُ الخَوْضَ فِيهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَهْلُ البِدَعِ وَالضَّلَالِ وَأَغْمَارُ الجُهَّالِ مَا تَأَوَّلْتَ فِيهِ أَنْتَ وَإِمَامُكَ المَرِيسِيُّ. فَحِينَ تَأَوَّلْتُمْ فِيهِ خِلَافَ مَا أَرَادَ اللهُ، وَعَطَّلْتُمْ صِفَاتِ اللهِ؛ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عِنْدَهُ بَيَانٌ أَنْ يَنْقُضَ عَلَيْكُمْ دَعْوَاكُمْ فِيهِ. وَلَمْ يَكْرَهِ السَّلَفُ الخَوْضَ فِي القُرْآنِ؛ جَهَالَةً بِأَنَّ كَلَامَ الخَالِقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا جَهَالَةً أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، حَتَّى لَوْ قَدِ ادَّعَى مُدَّعٍ فِي زَمَانِهِمْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ مَا كَانَ سَبيلُهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا القَتْلَ، كَمَا هَمَّ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - بِصُبَيْغٍ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ إِذْ تَعَمَّقَ فِي السُّؤَالِ عَنِ القُرْآنِ، فِيمَا كَانَ أَيْسَرَ مِنْ كَلَامِكُمْ هَذَا، فَلَمَّا لَمْ يَجْتَرِئْ كَافِرٌ أَوْ مُتَعَوِّذٌ بِالإِسْلَامِ أَنْ يُظْهِرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ فِي عَصْرِهِمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَكَلَّفُوا لِنَقْضِ كُفْرٍ لَمْ يَحْدُثْ بَين أَظْهُرِهِم فَيكون سَبَبًا لِإِظْهَارِهِ، إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ كَلِمَة كُفْرٍ تَكَلَّمَ بِهَا بَدْءًا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، مِنْهُمُ الوَحِيدُ، الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ فَقَالَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]. وَمِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ فَقَالَ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ} [الأنفال: 31]، كَمَا قَالَ جَهْمٌ وَالمَرِيسِيُّ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ البَشَرِ مَخْلُوقٌ لَا شكّ فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)} [الأنعام: 25] كَمَا قَالَ جَهْمٌ وَالمَرِيسِيُّ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ وَالمَعْنَى: إِنْ هَذَا إِلَّا مَخْلُوقٌ، فَأنْكر عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ: فَقَالَ لِلْوَحِيدِ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)} [المدثر: 26] لَمَّا قَالَ (¬1): {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]، وَقَالَ لِلَّذِي قَالَ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)} [الأنفال: 31]: ¬

(¬1) قوله «لما قال»: ليست في الأصل، وأثبتته من «س»، «ع».

{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]، وَلنْ يَفْعَلُوا. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ هَذَا الكُفْرُ بَعْدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ دَارِسًا طَامِسًا، لما قَدْ طَمَسَهُ اللهُ بِتَنْزِيلِهِ، حَتَّى مَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ بِالبَصْرَةِ، وَجَهْمٌ بِخُرَاسَانَ فَقَتَلَهُمَا الله بِشَرِّ قِتْلَةٍ، وَفَطِنَ النَّاسُ لِكُفْرِهِمَا، حَتَّى كَانَ سَبِيلُ مَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ فِي الإِسْلَامِ؛ القَتْلَ صَبْرًا، حَتَّى كَانُوا يُسَمُّونَهُمْ بِذَلِكَ الزَّنَادِقَةَ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ طَامِسًا دَارِسًا حَتَّى دَرَجَ العُلَمَاءُ، وَقَلَّتِ الفُقَهَاءُ، وَنَشَأَ نَشْءٌ مِنْ أَبْنَاءِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، مِثْلُ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ المَرِيسِيِّ، وَنُظَرَائِهِ فَخَاضُوا فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَظْهَرُوا طَرَفًا مِنْهُ، وَجَانَبَهُمْ أَهْلُ الدِّينِ وَالوَرَعِ وَشَهِدُوا عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ، حَتَّى هَمَّ بِهِمْ وَبِعُقُوبَتِهِمْ قَاضِي القُضَاة يَوْمَئِذٍ أَبُو يُوسُفَ، حَتَّى فَرَّ [35/ظ]، مِنْهُ المَرِيسِيُّ إِمَامُكَ وَلَحِقَ بِالبَصْرَةِ، بِزَعْمِكَ، وبِرِوَايَتِك عَنهُ، فَلم يَزَالُوا أَذِلَّةً مَقْمُوعِينَ، لَا يُقْبَلُ لَهُمْ قَوْلٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ لَهُمْ إِلَى رَأْيٍ، حَتَّى رَكَنُوا إِلَى بَعْضِ السَّلَاطِينِ الَّذِينَ لَمْ يُجَالِسُوا العُلَمَاءَ، وَلَمْ يُزَاحِمُوا الفُقَهَاءَ؛ فَاخْتَدَعُوهُمْ بِهَذِهِ المِحْنَةِ المَلْعُونَةِ حَتَّى أَكْرَهُوا النَّاسَ عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ وَالسِّيَاطِ. فَلَمْ تَزَلِ الجَهْمِيَّةُ سَنَوَاتٍ يَرْكَبُونَ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِقُوَّةِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ المُحَادِّ لله وَلِرَسُولِهِ، حَتَّى اسْتُخْلِفَ المُتَوَكِّلُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَطَمَسَ اللهُ بِهِ آثَارَهُمْ، وَقَمَعَ بِهِ أنْصَارَهُمْ، حَتَّى اسْتَقَامَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى السُّنَّةِ الأُولَى، وَالمِنْهَاجِ الأَوَّلِ. وَاحْتَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاعْتِقَادِ التَّجَهُّمِ حِيلَةً لِتَرْوِيجِ ضَلَالَتِهِمْ فِي النَّاسِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الإِفْصَاحُ بِهِ؛ مَخَافَةَ القَتْلِ وَالفَضِيحَةِ وَالعُقُوبَةِ مِنَ

الخَلِيفَةِ المُنكِرُ لذَلِك، فاسْتَتَرُوا بِالوَقْفِ مِنْ مَحْضِ التَّجَهُّمِ، إِذْ لم يكن يَجُوزُ مِنْ إِظْهَارِهِ مَعَ المُتَوَكِّلِ ما كان يَجُوزُ لَهُمْ مَعَ مَنْ قَبْلَهُ. فَانْتَدَبُوا طَاعِنِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التجهم ودَانَ بِأَنَّ كَلَامَ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَانْتَدَبَ هَؤُلَاءِ الوَاقِفَةُ مُنَافِحِينَ عَنِ الجَهْمِيَّةِ، مُحْتَجِّينَ لِمَذَاهِبِهِمْ بِالتَّمْوِيهِ وَالتَّدْلِيسِ، مُنْتَفِينَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ بَعْضِ كَلَامِ الجَهْمِيَّةِ، مُتَابِعِينَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ في البَاطِنِ، مُمَوِّهِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالسُّفَهَاءِ بِمَا حَكَيْتَ عَنْهُمْ أَيهَا المُعَارِضُ: أَنَّ أَبَا أُسَامَةَ، وَأَبَا مُعَاوِيَةَ، وَبَعْضَ نُظَرَائِهِمْ كَرِهُوا الخَوْضَ فِي المَخْلُوقِ وَغَيْرِ المَخْلُوقِ. فَقُلْنَا لَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ (¬1): إِنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الخَوْضَ مِنْ هَؤُلَاءِ المَشَايِخِ -إِنْ صَحَّتْ عَنْهُم رِوَايَتُكَ- لمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخُوضُ فِيهِ إِلَّا شِرْذِمَةٌ أَذِلَّةٌ سِرًّا بِمُنَاجَاةٍ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا العَامَّةُ مُتَمَسِّكُونَ مِنْهُمْ بالسُّنَن الأُولَى، والأَمْرِ الأَوَّلِ. فَكَرِهَ القَوْمُ الخَوْضَ فِيهِ؛ إِذْ لم يَكُنْ يُخَاضُ فِيهَا عَلَانِيَةً، وَقَدْ أَصَابُوا فِي تَرْكِ الخَوْضِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يُعْلَنْ. فَلَمَّا أَعْلَنُوهُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَدَعَوُا العَامَّةَ إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ وَالسِّيَاطِ، وَادَّعَوْا أَن كَلَامَ اللهِ مَخْلُوقٌ، أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَنْ غَبَرَ مِنَ العُلَمَاءِ وَبَقِيَ مِنَ الفُقَهَاءِ، فَكَذَّبُوهُمْ وَكَفَّرُوهُمْ وَحَذَّرُوا النَّاسَ أَمْرَهُمْ، وَفَسَّرُوا مُرَادَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. فَكَانَ هَذَا مِنَ الجَهْمِيَّةِ خَوْضًا فِيمَا نُهُوا عَنهُ، وَمن أَصْحَابنَا إِنْكَارًا لِلْكُفْرِ البَيِّن، وَمُنَافَحَةً عَنِ اللهِ - عز وجل - كَيْلَا يُسَبَّ وَتُعَطَّلَ صِفَاتُهُ، وَذَبًّا عَنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ ¬

(¬1) كلمة «المعارض» ليست في الأصل، وأثبتتها من «س»، «ع».

كَيْلَا يَضِلُّوا بِمِحْنَتِهِمْ هَذِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا ضِدَّهَا مِنَ الحُجَجِ الَّتِي تَنْقُضُ دَعْوَاهُمْ وَتُبْطِلُ حُجَجَهُمْ. (129) فَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ يَقُول: «لَا تُجَالِسُوا الجَهْمِيَّةَ، وَبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَمْرَهُمْ، كَيْ يَعْرِفُوهُمْ فَيَحْذَرُوهُمْ» (¬1). وَقَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: «لَأَنْ أَحْكِيَ كَلَامَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْكِيَ كَلَامَ الجَهْمِيَّةِ». فَحِينَ خَاضَتِ الجَهْمِيَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَأَظْهَرُوهُ وَادَّعَوْا أَنَّ كَلَامَ الله مَخْلُوقٌ، وأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ المُبَارَكِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوق، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه: 14]، مَخْلُوقٌ؛ فَهُوَ كَافِرٌ. (130) حَدَّثَنِيهِ يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ (¬2). [36/و] فَكَرِهَ ابْنُ المُبَارَكِ حِكَايَةَ كَلَامِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُعْلِنُوهُ. فَلَمَّا أَعْلَنُوهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَعَابَهُمْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ: «كُنَّا نَرَى السُّكُوتَ عَنْ هَذَا قَبْلَ أَن يَخُوضَ فِيهِ هَؤُلَاءِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوُه لم نَجِدْ بُدًّا مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِم». ولَمْ يَقُلْ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ: أَنَّهُ مَتَى مَا أَظْهَرَتِ الجَهْمِيَّةُ مِحْنَتَهُمْ وَأَذَاعُوا كُفْرَهُمْ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهَا، فَأَمْسِكُوا عَنِ الإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسْتَمِرَّ فِي النَّاسِ كُفْرُهُمْ، وَتَدْرُسَ سُنَنُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ قَالُوا: ¬

(¬1) تقدم تخريجه برقم (2). (¬2) صحيح، وهذا إسناده ضعيف لأجل الحماني؛ متهم، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (191)، وقد صح هذا المعنى عن ابن المبارك، وينظر السنة لعبد الله بن أحمد (19)، والثقات لابن حبان (9/ 65).

أَمْسِكُوا عَنِ الخَوْضِ فِيهِ مَا لَمْ يُنَصِّبِ القَوْمُ الكُفْرَ إِمَامًا، فَإِذَا نَصَّبُوهُ إِمَامًا فَمَنْ يَعْقِلُ تَدْلِيسَهُمْ وَتَمْوِيهَهُمْ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَى أَهْلِ الإِسْلَامِ بِبَعْضِ مَنْ نَاقَضَهُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُفْرَهُمْ وَضَلَالَهُمْ. فَالمُبْتَدِعُ الضَّالُّ مِنَ الحِزْبَيْنِ مَنْ نَصَّبَ رَأْيَ جَهْمٍ إِمَامًا، وأَذَاعَهُ فِي النَّاسِ بَدْءًا، وَالمُتَّبِعُ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَنَاقَضَهُ. فَمَنْ أَجْرَى النَّاقِضَ لِلْبِدْعَةِ وَالرّاَدَّ لِلْكُفْرِ مَجْرَى مَنْ شَرَعَهَا؛ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللهُ. وَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسْمَعَ مِنْهُ وَيُقْبَلَ. أَوَ طَمِعْتُمْ مَعْشَرَ الجَهْمِيَّةِ وَالوَاقِفَةِ أَنْ تُنَصِّبُوا الكُفْرَ للنَّاس إِمَامًا تَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ. وَيَسْكُتُوا أَهْلُ السُّنَّةِ عَنِ الإِنْكَارِ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَتَرَوَّجَ عَلَى النَّاسِ ضَلَالُكُمْ بِمَا حَكَيْتُمْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَأَبِي أُسَامَةَ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ-إِنْ صَدَقَتْ دَعْوَاكُمْ- حَتَّى تَضْمَحِلَّ مَذَاهِبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْتَفِيضَ مَذَاهِبُ الجَهْمِيَّةِ فِي العَامَّةِ؟ لَقَدْ أَسَأْتُمْ بِأَهْلِ السُّنَّةِ الظَّنَّ، وَنَسَبْتُمُوهُمْ إِلَى العَجْزِ وَالوَهَنِ. وَإِنْ يَكُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو بَكْرٍ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ جَبُنُوا عَنِ الخَوْضِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُخَاضُ فِيهِ فِي عَصْرِهِمْ، فَقَدْ جَسَرَ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ؛ مِثْلَ ابْنِ المُبَارَكِ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا مَا ادَّعَيْتَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ، لَمْ يَقُمْ لَكَ بِهِ حُجَّةٌ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ نَسْمَعْهُ؛ لِأَنَّهُ المَعْرُوف فِي دِينِهِ، المَأْبُونُ فِي رِوَايَتِهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْهُ بِذَلِكَ فَسَمِّ رَجُلًا صَالِحًا رَضِيَ بِالثَّلْجِيِّ فِي الفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ إِمَامًا، أَوْ رَضِيَ بِهِ فِي السُّنَّةِ نِظَامًا، أَوْ رَوَى عَنْهُ شَيْئًا، أَوْ حَمِدَ لَهُ مَذْهَبًا. فَإِنْ كُنْتَ مُحْتَجًّا بِحَقٍّ فَعَلَيْكَ بِغَيْرِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ وَنُظَرَائِهِ، كَمَنْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ مِنْ أَعْلَامِ النَّاسِ وَأَئِمَّتِهِمْ. وَلَكِنَّ الغَرِقَ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ عُودٍ.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ صَحَّ فِيهِ مَا رَوَى ابْنُ الثَّلْجِيِّ، فَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَا مِنْ أَجِلَّةِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، فَيُنَصَّبُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ يُنَاقِضُ الجَهْمِيَّةَ، وَيَرُدُّ المُحْدَثَاتِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوق، فَبِجَهْدِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُقِيمَ حَدِيثَهُ فِي العُلَمَاءِ حَتَّى يَتَفَرَّعَ لِلنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ العُلَمَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ كَلَامَ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَكَيْفَ تَحْتَجُّ بِأَبِي يُوسُفَ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ كَلَامَ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا تَحْتَجُّ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا رَوَيْتَ عَنِ المَرِيِسيِّ من ضَلَالَاتِهِ، وَقَدْ رَوَيْتَ، [36/ظ] عَنْ أَبِي يُوسُف أَنه هَمَّ بِعُقُوبَتِهِ وَأَخْذِهِ فِيهَا، حَتَّى فَرَّ مِنْ مَجْلِسِهِ إِلَى البَصْرَةِ. فَإِنْ كُنْتَ مُحْتَجًّا عَلَيْنَا بِأَبِي يُوسُفَ، فَهُوَ عَلَيْكَ أَحَجُّ، لَمَا أَنَّكَ بِهِ أَعْجَبُ وبِإِمَامَتِهِ أرْضَى مِمَّن يَزْعُمُ أَنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ أَنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لَمْ يُؤْمِنْ بَعْدُ بِأَنَّهُ نَفْسُ كَلَامِ الله؛ لِأَنَّهُ لَوْ آمَنَ بِأَنَّهُ نَفْسُ كَلَامِ الله لَعَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الكَلَامَ صِفَةُ المُتَكَلِّمِ، وَاللهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَإِنْ طَلَبْتُمْ مِنَّا فِيهِ آثَارًا مَأْثُورَةً مُسْنَدَةً مَنْصُوصَةً فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ؛ فَقَدْ أَخْبَرْنَاكُم أَنَّهُ كُفْرٌ لَمْ يَحْدُثْ فِي عَصْرِهِمْ، فَيُرْوَى عَنْهُمْ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ كُفْرٌ مَعْقُولٌ، تَكَلَّمَ بِهِ مُشْرِكُوا قُرَيْشٍ عِنْدَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]، فَأَنْكَرَ اللهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ طُمِسَ حَتَّى ظَهَرَ فِي العَصْرِ الَّذِي أَنْبَأْنَاكُمْ بِهِ، فِي عَصْرِ جَهْمٍ وَالجَعْدِ ثُمَّ المَرِيسِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ، فَرَوَيْنَا لَكُمْ عَمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَخَالَفَهُمْ فِيهِ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، مِثْلِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَوَكِيعِ بْنِ الجَرَّاحِ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ، وَبَقِيَّةَ بْنِ الوَلِيدِ، وَغَيْرِهِمْ.

وَهَذَا كُفْرٌ مَعْقُولٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَثَرٍ وَلَا خَبَرٍ، كَمَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى أَنَّ مُلْكَ اللهِ وَسُلْطَانَهُ، وَقُدْرَتَهُ، وَعِلْمَهُ، وَمَشِيئَتَهُ، وَإِرَادَتَهُ، وَوَجْهَهُ، وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَيْهِ، أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا مَخْلُوقٌ. قِيلَ لَهُ: كَفَرْتَ وَكَذَبْتَ، بَلْ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَإِنْ طَلَبْتَ مِنَّا فِي شَيْء مِنْها أَثَرًا مَنْصُوصًا بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ مُرِيبٌ كَافِرٌ، وَمَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ حَتَّى يَطْلُبَ فِيهَا الآثَارَ؟! وَكَذَلِكَ كَلَامُ الله مِثْلُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ سَوَاءً، غَيْرُ مَخْلُوقٍ لَا يَشْتَبه إِلَّا على مَنْ لَا فَهْمَ لَهُ وَلَا عَقْلَ. وَأُخْرَى: أَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ مُحْدَثٍ لَا شَكَّ فِيهِ، فَاللهُ بِزَعْمِكُمْ كَانَ بِلَا كَلَامٍ، حَتَّى خَلَقَ لِنَفْسِهِ كَلَامًا، ثُمَّ انْتَحَلَهُ اضْطِرَارًا إِلَى كَلَامِ غَيْرِهِ، فَتَمَّتْ بِهِ رُبُوبِيَّتُهُ، وَوَحْدَانِيَّتُهُ، وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بِزَعْمِكُمْ. فَمَنْ يَحْتَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا المَعْقُول إِلَى أَثَرٍ؟! وَأُخْرَى: أَنَّ الكَلَامَ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا يُرَى ويُحَسُّ إِلَّا بِلِسَانِ مُتَكَّلِمٍ بِهِ، فَالكَلَامُ مِنَ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ صِفَتُهُمَا، فَالخَالِقُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَالمَخْلُوقُ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ مَخْلُوقٌ، وَلَا شَكَّ فِيهِ. فَلْينْظُر هَذَا الشَّاكُّ فِي القُرْآنِ، فَإِنْ كَان اللهُ المُتَكَلِّم بِهِ عِنْدَهُ، فَلَا يَشُكَّنَّ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَخْلُوقٍ مِنَ الكَلَامِ، وَلَمْ يُضْطَرَّ إِلَى شَيْء مَخْلُوق قَطُّ مِنَ الكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ حَاجَة. وَإِن ابْتَدَعَهُ مَخْلُوقٌ أَضَافَهُ إِلَى الله تَعَالَى. فَلَا يَشُكَّنَّ هَذَا الشَّاكُّ فِي صِفَاتِ المَخْلُوقِينَ وَكَلَامِهِمْ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ كُلَّهَا، وَأَنَّ مُبْتَدِعَهَا وَالمُتَكَلِّمَ بِهَا مِنَ المَخْلُوقِينَ كَافِرٌ إِذْ يَقُولُ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} [القصص: 30]، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، و {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12].

قَائِلُ هَذَا القَوْلِ غَيْرَ الله كَافِرٌ، مِثْلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وَادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ مَنْ قَالَ: القُرْآنُ هُوَ الله؛ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ غَيْرُ الله؛ فَقَدْ أَصَابَ، [37/و] وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَقَدْ جَهِلَ وَكَفَرَ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: لَمْ تَدَعْ مِنْ صَرِيحِ المَخْلُوقِ شَيْئًا، إِذْ زَعَمْتَ أَنَّ مَنْ قَالَ: القُرْآنُ غَيْرُ الله فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: غير مَخْلُوق فقد جَهِلَ. لَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنَ غَيْرُ الله، فَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَهُّ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ اللهِ مَخْلُوقٌ لَا شَكَّ فِيهِ. وَلَا يُقَالُ أَيُّهَا المُعَارِضُ: إِنَّ القُرْآنَ هُوَ اللهُ فَيَسْتَحِيل، وَلَا هُوَ غَيْرُ الله فَيُلْزِمَ القَائِلَ به أَنَّهُ مَخْلُوق، وَلَكِن يُقَال: كلَامًا للهِ عِلْمٌ مِنْ عِلْمِهِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاته، وَأَنَّ اللهَ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ إِلَهٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لَا شَكَّ فِيهِ. فَافْهَمْ وَمَا أَرَاكَ تَفْهَمُهُ؛ لِأَنَّكَ تَقُولُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ الله، أَوْ غَيْرُ الله. فَإِنْ قَالَ: رَجُلٌ: هُوَ الله، أَكْفَرْتَهُ. وَإِنْ قَالَ: غَيْرُ الله قُلْتَ لَهُ: أَقْرَرْتَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَصَوَّبْتَ مَذْهَبِي؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ اللهِ مَخْلُوقٌ. فَيُقَالُ لَكَ: أَخْطَأْتَ الطَّرِيقَ، وَغَلِطْتَ فِي التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: القُرْآنُ هُوَ الله أَوْ غَيْرُ الله، كَمَا لَا يُقَالُ: عِلْمُ الله هُوَ الله، وَقُدْرَةُ الله هِيَ الله، وَكَذَلِكَ عِزَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْهَا: هُوَ الله بِعَيْنِهِ وَكَمَالِهِ، وَلَا غَيْرُ الله، وَلَكِنَّهَا صِفَاتٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرُ مَخْلُوق وَكَذَلِكَ الكَلَامُ، فَافْهَمْ. وَادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ عُلَمَائِهِ وَزُعَمَائِهِ قَالَ: إِن كَلَامَ اللهِ مُضَافٌ إِلَيْهِ كَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ رُوحُ اللهِ، وَبَيْتُ الله، وَهَذَا مِنْ قَدِيمِ حُجَجِ

الجَهْمِيَّةِ، وَلَيْسَ من حُجَجِ الوَاقِفِيَّةِ. فَلْيَكْشِفِ المُعَارِضُ عَنِ اسْمِ هَذَا العَالِمِ الَّذِي قَالَ، فَإِنَّهُ لَا يَكْشِفُهُ إِلَّا عَنْ جَهْمِيٍّ خَبِيثٍ. وَإِنَّهُ لَا يُقَاسُ رُوحُ اللهِ، وَبَيْتُ اللهِ، وَعَبْدُ اللهِ، المُجَسَّمَاتُ المَخْلُوقَاتُ القَائِمَاتُ المُسْتَقِلَّاتُ بِأَنْفُسِهِنَّ اللَّائي كُنَّ بِكَلَامِ الله وَأَمْرِهِ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْهَا مِنَ الله، كَكَلَامِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ هَذَا المَخْلُوقَ قَائِمٌ بِنَفسِهِ وعَيْنِهِ، وحِلْيَتِهِ وَجِسْمِهِ، لا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ اللهِ. وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ مِنْها لله صِفَةً. وَالقُرْآنُ كَلَامُهُ الَّذِي مِنْهُ خَرَجَ وَبِهِ تَكَلَّمَ، لَمْ يَقُمْ بِنَفْسِهِ جِسْمًا غَيْرَ الله، قَائِمًا يُحِسُّ أَوْ يُحَسُّ حِينَ تُقِيمُهُ القَرَأَةُ (¬1) والأَلْسُنُ، فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ القَرَأَةُ خَفِيَ فَلَمْ يُحَسَّ مِنْهُ بِشَيْءٍ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ عَيْنٌ إِلَّا أَنْ يُبَيَّنَ بِكِتَابٍ يُكْتَبُ، فَبَيْنَ رُوحِ الله وَبَيْتِ الله وَعَبْدِ الله، وَالقُرْآنِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ كَلَامِ الله الخَارِجِ مِنْ ذَاتِهِ بَوْنٌ بَعِيدٌ. فَكَيْفَ تَقَلَّدْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ كَلَامَ الوَاقِفَةِ بَدْءًا، ثُمَّ فَرَعْتَ مِنْهُ إِلَى أَفْحَشِ كَلَامِ الجَهْمِيَّةِ: أَنَّهُ كَعَبْدِ الله، وَبَيْتِ الله، ثُمَّ إِدْخَالِ الحُجَجِ عَلَى تَعْطِيل ما سِوَاهَا مِنَ الصِّفَاتِ؟ إِنَّمَا تَقُولُ الوَاقِفَةُ: إِنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله، وَلَا تَقُولُ: مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، ثُمَّ تَعْرِضُونَ لِهَذِهِ الحُجَجِ الَّتِي عَرَضْتَ لَهَا وَاحْتَجَجْتَ بِهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّكَ تُشِيرُ بِالوَقْفِ، مُنَافِحٌ عَنِ التَّجَهُّمِ، حَتَّى صَرَّحْتَ بِهِ فِي غَيْرِ مَكَانٍ مِنْ كِتَابِكَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَشْبِيهُكَ إِيَّاهُ بِبَيْتِ الله أَوْ عَبْدِ الله، وَبِقَوْلِكَ: إِنَّهُ غَيْرُ الله، ¬

(¬1) وقع في «س»، «ع»: «القراءة»، والصواب ما أثبتته وهو الموافق لما في الأصل، «وقرأة» جمع قاريء، «ككتبة» جمع كاتب.

وَإِنَّهُ مَفْعُولٌ، وَإِنَّ مَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَكَ، لاكْتَفَيْنَا بهذَا دُونَ مَا سِوَاهُ. ثُمَّ تَعَلَّقْتَ بَعْدَهُ بِالوُقُوفِ مُسْتَتِرًا بِهِ عَنِ التَّجَهُّمِ، تَتَقَدَّمُ إِلَى، [37/ظ] هَؤُلَاءِ بِرِجْلٍ وَتَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ بِأُخْرَى، فَمَرَّةً تَحْتَجُّ بِحُجَجِ الوَاقِفَةِ، وَمَرَّةً بِحُجَجِ الجَهْمِيَّةِ، كَأَنَّكَ تُلَاعِبُ الصِّبْيَانَ وَتُخَاطِبُهُمْ. وَكَذَلِكَ تَأَوَّلْتَ فِي العَرْشِ كَمَا تَأَوَّلَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَنَيْتَ عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِكَ وَزُعَمَائِكَ وَلَمْ تُصَرِّحْ بِاسْمِهِ: أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، تُرِي مَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْكَ أَنَّ هَذَا الَّذِي رَوَيْتَ عَنْهُ هَذَا التَّفْسِيرَ أَحَدُ العُلَمَاءِ، وَلَا يَدْرِي مَنْ حَوْلَكَ أَنَّهُ أَحَدُ السُّفَهَاءِ، وَقَدْ فَسَّرْنَا لَكَ تَفْسِيرَهُ فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ، وَبَيَّنَّا لَكَ فِيهِ اسْتِحَالَةَ هَذَا المَذْهَبِ وَبُعْدَهُ مِنَ الحَقِّ وَالمَعْقُولِ. فَاكْشِفْ عَنْ رَأْسِ هَذَا المُفَسِّرِ حَتَّى نَعْرِفَهُ، أَمِنَ العُلَمَاءِ هُوَ أَمْ مِنَ السُّفَهَاءِ؟ فَإِنَّكَ لَا تَأْثُرُهُ إِلَّا عَنِ المَرِيسِيِّ، أَوْ عَنْ مَنْ هُوَ أَخْبَثُ مِنْهُ. وَالعَجَبُ مِنَ المَرِيسِيِّ صَاحِبِ هَذَا المَذْهَبِ، أَنَّهُ يَدَّعِي تَوْحِيدَ الله بِمِثْلِ هَذَا المَذْهَبِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَقَدْ عَطَّلَ جَمِيعَ صِفَات الوَاحِدِ الأَحَدِ، فَادَّعَى فِي قِيَاسِ مَذْهَبِهِ أَنَّ وَاجِدَهُ الَّذِي يُوَحِّدُهُ إِلَهٌ مُجَدَّعٌ، مَنْقُوصٌ، مُشَوَّهٌ، مُثَبَّجٌ (¬1) مَقْصُوصٌ، لَا تَتِمُّ وَحْدَانِيَّتُهُ إِلَّا بِمَخْلُوقٍ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْ مَخْلُوقٍ: مِنَ الكَلَامِ وَالعِلْمِ وَالِاسْمِ. ¬

(¬1) في «س»: كشبح، وفي «ع»: مشيج، والصواب ما أثبتته وهو الموافق لما في الأصل. قال في اللسان: «ورجلٌ مُثَبَّجٌ: مضطرِبُ الخَلْقِ مَعَ طُولٍ».

وَيْلَكَ! إِنَّمَا المُوَحِّدُ الصَّادِقُ فِي تَوْحِيدِهِ الَّذِي يُوَحِّدُ اللهَ بِكَمَالِهِ، وَبِجَمِيعِ صِفَاتِهِ فِي عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ وَقَبْضِهِ وَبَسْطِهِ وَهُبُوطِهِ وَارْتِفَاعِهِ، الغَنِيَّ عَن جميع خَلْقِهِ بجَمِيعِ صِفَاتِهِ: مِنَ النَّفْسِ وَالوَجْهِ وَالسَّمْعِ وَالبَصَرِ وَاليَدَيْنِ وَالعِلْمِ وَالكَلَامِ، وَالقُدْرَةِ وَالمَشِيئَةِ وَالسُّلْطَانِ، القَابِضَ البَاسِطَ، المُعِزَّ المُذِلَّ، الحَيَّ القَيُّومَ، الفَعَّالَ لِمَا يَشَاءُ. هَذَا إِلَى التَّوْحِيدِ أَقْرَبُ مِنْ هَذَا الَّذِي يُوَحِّدُ إِلَهًا مُخَدَّجًا مَنْقُوصًا مَقْصُوصًا، لَوْ كَانَ عَبْدًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يكن يُسَاوِي تَمْرَتَيْن؟ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِينَ؟ تَعَالَى اللهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. وَاحْتَجَّ المُعَارِضُ أَيْضًا لِمَذْهَبِهِ بِبَعْضِ حُجَجِ الجَهْمِيَّةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ حُجَجِ الوَاقِفَةِ فَقَالُوا: أَتَقُولُونَ: يَا رَبُّ -القُرْآن- افْعَلْ بِنَا كَذَا، وَكَذَا؟ أَمْ يُصَلِّي أَحَدٌ لِلْقُرْآنِ كَمَا يُصَلِّي للهِ؟ يَعْنِي أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ. فَيُقَالُ لِهَذَا التَّائِهِ الحَائِرِ، الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُهُ: إِنَّهُ لَا يُصَلَّى لِلْقُرْآنِ وَلَكِنْ يُصَلَّى بِهِ للهِ الوَاحِدِ، الَّذِي هَذَا القُرْآنُ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ، لَا يُخَصُّ بِالصَّلَاةِ قُرْآنٌ وَلَا غَيْرُهُ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ وَعِزَّهُ وَجَلَالَهُ لَا يُصَلَّي لِشَيْءٍ مِنْهَا مَقْصُودًا بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا وَحْدَهَا، وَلَكِنْ يُصَلَّي لِلْوَاحِدِ الأَحَدِ الَّذِي هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ: مِنَ العِلْمِ، وَالكَلَامِ، وَالمُلْكِ وَالقُدْرَة وَغَيرهَا، فَاعْقِلْهُ، وَأَنَّى لَكَ العَقْلُ مَعَ هَذَا الِاحْتِجَاجِ وَالخُرَافَاتِ؟! أَرَأَيْتَكَ إِنْ عَرَّضْتَ بِالقُرْآنِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ لَما أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَا رَبَّ القُرْآنِ، فَجَعَلْتَهُ مَخْلُوقًا بِذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات:180]،أَفَتَحْكُمُ عَلَى عِزَّةِ الله بِقَوْلِهِ: ... {رَبِّ الْعِزَّةِ} كَمَا حَكَمْتَ عَلَى القُرْآنِ؟

وَيْحَكَ! إِنَّمَا قَوْلُهُ: {رَبِّ الْعِزَّةِ} يَقُولُ: ذِي العِزَّةِ. وَكَذَلِكَ ذُو الكَلَامِ كَقَوْلِهِ: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]. [38/و] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِ هَذَا المُعَارِضِ رَأْيَ الجَهْمِيَّةِ لَا رَأْيَ الوَاقِفَةِ أَنَّ ذَبَّهُ وَمُنَافَحَتَهُ وَاحْتِجَاجَهُ عَنْ غَيْرِ الوَاقِفَةِ، وَأَنَّهُ أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ الإِنْكَارَ عَلَى الفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا: عَلَى مَنْ يَقُولُ: مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ، تَمْوِيهًا بِهِ وَدُنُوًّا بِهِ إِلَى العَامَّةِ، ثُمَّ لَمْ يُكْثِرِ الطَّعْنَ عَلَى مَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ، كَمَا أَطْنَبَ فِي الطَّعْنِ عَلَى مَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، حَتَّى جَاوَزَ فِيهِمُ الحَدَّ وَالمِقْدَارَ، فَنَسَبَهُمْ فِيهِ إِلَى الكُفْرِ البَيِّنِ وَالبِدْعَةِ الظَّاهِرَةِ، وَالضَّلَالَةِ وَالجَهْلِ، وَقِلَّةِ العِلْمِ وَالتَّمْيِيز، وَسُوءِ الدِّيَانَةِ، وَسُوءِ مُرَاقَبَةِ الله، وَأَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: «غَيْرُ مَخْلُوقٍ» مُطِيعُونَ لِلشَّيْطَانِ وَجُنُودِهِ، مُقَدِّمُونَ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ، نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بالكفْر أَنْ قَالُوا: القُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَلَمْ يَنْسِبْ مَنْ قَالَ: «مخْلُوقٌ» إِلَى جُزْءٍ مِنْ ألفِ جُزْءٍ مِمَّا نَسَبَ إِلَيْهِ الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ شِدَّةِ طَعْنِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ رِوَايَاتِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ -وَلَمْ يَسْمَعْهُ بِزَعْمِهِ مِنَ ابْنِ الثَّلْجِيِّ- أَنَّهُ لَا يُصَلِّي خَلْفَ من يَقُول القُرْآن مَخْلُوقٍ. فَلَوْ سَمِعَ هَذَا المُعَارِضُ مِنْ أَبِي يُوسُفَ نَفْسِهِ لَمْ تَقُمْ لَهُ بِهِ حُجَّةٌ، وَجَرَّ إِلَى أَبِي يُوسُفَ بِهَا فَضِيحَةً. فَاجْتِهَادُ هَذَا المُعَارِضِ فِي الطَّعْنِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَفْحِهِ عَمَّنْ يَقُولُ: مَخْلُوقٌ، فَهَذَا يَدُلُّ مِنْهُ عَلَى أَسْوَأ الرِّيبَةِ، وَأَقْبَحِ الظِّنَّةِ وَأَنَّ ألْبَهُ (¬1)، وَمَيْلَهُ إِلَى مَنْ يَصْفَحُ عَنْهُ. ¬

(¬1) قال في اللسان: والأَلْبُ: مَيْلُ النَّفْسِ إِلَى الهَوى. وَيُقَالُ: أَلْبُ فُلانٍ معَ فُلانٍ أَي صَفْوُه مَعَه.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ظِنَّتِهِ أَنَّ احْتِجَاجَهُ فِيهِ بِالمَقْذُوفِينَ المُتَّهَمِينَ فِي دِينِ الله تَعَالَى مِثْلِ المَرِيسِيِّ، والُّلؤْلُؤِيِّ، وَابْنِ الثَّلْجِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ. فَأَيْنَ هُوَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَشُعْبَةَ وَمَعْمَرٍ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَنُظَرَائِهِمْ؟ وَأَيْنَ هُوَ عَمَّنْ كَانَ فِي عَصْرِ ابْنِ الثَّلْجِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ زَمَانِهِ، مِثْلِ ابْنِ حَنْبَلٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنِيّ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَنُظَرَائِهِمْ إِنْ كَانَ مُتَّبِعًا مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ؟ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي مَذْهَبِهِ حِكَايَةً وَلَا رِوَايَة، وَإِنَّمَا يتَعَلَّق بالمَغْمُورِين المَغْمُوزِين، إِذْ لم يُمْكنهُ التَّعْلُّق بِهَؤُلَاءِ المَشْهُورِينَ، كَيْمَا يُرَوِّجُ ضَلَالَهُ عَلَى النَّاسِ بِأَهْلِ الرِّيَبِ الَّذِينَ لَا قَبُولَ لَهُمْ وَلَا عَدَالَةَ عِنْدَ أَهْلِ الإِسْلَامِ. ثُمَّ تَقَلَّدْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَفْحَشَ حُجَجِ الجَهْمِيَّةِ فِي نَفْيِ الكَلَامِ عَنِ الله تَعَالَى، لَمَا ادَّعَيْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ نَسَبَ الكَلَامَ إِلَى الجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ، فَشَبَّهْتَ اللهَ تعالى في كَلامِهِ بالجِبَالِ، والشَّجَرِ، والشَّمْسِ، والقَمَرِ، الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى الكَلَامِ وَلَا لَهَا أَسْمَاعٌ وَلَا أَبْصَارٌ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ الجَهْمِيَّةِ يَجْعَلُونَ اللهَ الحَيَّ القَيُّومَ المُتَكَلِّمَ بالكلَام، السَّمِيعَ البَصِيرَ، القَابِضَ البَاسِطَ، كَالمَدَرِ والِحجِارَة، والجِبَالِ، والتِّلَالِ الصُّم البُكْمِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا كَلَامٌ وَلَا أَسْمَاعٌ وَلَا أَبْصَارٌ. فَقَالَ: كَمَا يَجَوزُ عِنْدَنَا فِي المَجَازِ أَنْ يُنْسَبَ الكَلَامُ إِلَى هَذِهِ الأَشْيَاءِ الصُّمِّ، يَجُوزُ فِي المَجَازِ أَنْ يُنْسَبَ الكَلَامُ إِلَى الله تَعَالَى، من غير أَن يَقْدِرَ اللهُ عَلَى الكَلَامِ فِي دَعْوَاهُمْ، إِلَّا كَقُدْرَةِ الجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَشْبَهَ بِالكُفْرِ البَيِّنِ مِنْ هَذَا المَذْهَبِ؟، بَلْ هُوَ الكُفْرُ صُرَاحًا: أَنْ يَكُونَ مَنْزِلَةُ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى [38/ظ] عِنْدهم، كَكَلام الجبَال، والشَجَرِ والحَجَرِ، وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ

وَالأَشْيَاءِ المَخْلُوقَةِ البَيِّنَةِ. هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ لَهُ نِظَامٌ، وَلَا هُوَ عَنْ مَذَاهِبِ الإِسْلَامِ، وَلَا يَحْتَاجُ، إِلَى نَقِيضِهِ مِنَ الكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا نَقِيضُهَا مِنْ نَفْسِ كَلَامِ المُعَارِضِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ كَلَامَ الله، وَالقُرْآنَ مُضَافٌ إِلَى الله؛ كَبَيْتِ الله، وَكَرُوحِ الله، وكَعَبْدِ الله، أَوْ شَبَّهَهُ بِكَلَامِ الجِبَالِ وَالشَّجَرِ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ مَخْلُوق اخْتَلَقَهُ فِي ... -دَعْوَاهُ- بَشَرٌ كَذَّابٌ، كَمَا قَالَ الوَحِيدُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25] لما أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ لِنَفْسِهِ كَلَامَهُ يَدْعُو إِلَى اللهِ، وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ المُتَكَلِّمُ بِهِ اللهُ عِنْدَكُمْ فَهُوَ كَلَامُ نَفْسِهِ بِحَقِيقَة مِنْهُ وَمِنْهُ خَرَجَ، وَلَا يَجْهَلُ ذُو عَقْلٍ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الله كَلَامٌ مَخْلُوقٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ المُتَكَلِّمُ بِهِ عِنْدَكُمْ غَيْرَ الله، ثُمَّ أَضَافَهُ كَذِبًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا إِلَى الله، فَهَذَا المُتَكَلِّمُ بِهِ المُضِيفُ إِلَى الله كَذَّابٌ مُفْتَرٍ كَافِرٌ، بِالله إِذْ يَقُولُ: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} [القصص: 30]، أويقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]، أَوْ يَقُولُ لِمُوسَى {أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12].فَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ هَذَا، أَوْ قَالَهُ غَيْرُ الله؛ فَهُوَ كَافِرٌ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]، لَا يَسْتَحِقُّ قَائِلُ هَذَا أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ قُرْآنًا يُضَافُ إِلَى الله وَيُقَامُ بِهِ دِينُ الله. هذا أَوْضَحُ مِنَ الشَّمْسِ وَأَضْوَأُ مِنْهَا إِلَّا عِنْدَ كُلِّ مُدَلِّسٍ. وَلَوْ لَمْ يُذِعْ هَذَا المُعَارِضُ هَذَا الكَلَامَ، وَلَمْ يَنْشُرْهُ فِي النَّاسِ لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمُنَاقَضَتِهِ وَإِدْخَالٍ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّا لَمْ نَقْصِدْ بِالنَّقْضِ إِلَيْهِ، وَلَكِن إِلَى ضُعَفَاءِ مَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَذَا المَذْهَبِ. سَمِعُوا بِهِ مِنْهُ، وَلَمْ يَسْمَعُوا ضِدَّ كَلَامِهِ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَاحْتِجَاجِهِمْ، فَيَضِلُّونَ بِهِ، إِذْ لَا يَهْتَدُونَ بِضِدِّهِ وَمَا يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ.

فَلَوْ أَنَّهُ أَلَّفَ لَهُمْ كُتُبًا فِي مَعَالِمِ دِينِهِمْ مِنْ نَحْوِ الوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا؛ كَانَ أَوْلَى بِهِ وَأَسْلَمَ لِدِينِهِ وَأَنْفَعَ لِمَنْ حَوَالَيْهِ مِنَ المُسْلِمِينَ. غَيْرَ أَنِّي أَظُنُّهُ اضطَمَرَ هَذَا الرَّأْيَ قَدِيمًا، وَكَانَ يَجِيشُ فِي صَدْرِهِ، ولَا يُمْكِنُهُ كَظْمُهُ حَتَّى هَمَّ بِإِظْهَارِهِ فِيمَا بَلَغَنِي مرَّة، فَأَنْكَرَهَا عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهَا وفُقَهَاؤُهَا وَاسْتَتَابُوهُ مِنْهَا فَتَابَ، وَعَاهَدَهُمْ أَنْ لَا يَعُودَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، ثُمَّ عِيلَ صَبْرُهُ بَعْدَ وَفَاةِ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءِ حَتَّى عَرَّفَ بِمَا [في] صَدرَهُ فَافْتُضِحَ وَفَضَحَ أَئِمَّتَهُ، وَضَلَّ وَأَضَلَّ وَجَهِلَ فَلَمْ يَعْقِلْ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُعْجَبٌ بِالإِصَابَةِ غَافِلٌ عَمَّا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الإِثْمِ وَالعَارِ وَالنَّقْصِ مِنْ كِتَابِ الله وَآثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَذَاهِبِ الصَّالِحِينَ، وَلَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ، لَكَانَ أَنْ يَكُونَ أَخْرَسَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فَكَانَ يَسْتَتِرُ مِنَ الِافْتِضَاحِ بِهِ حَتَّى أَنْطَقَ اللهُ بِلِسَانِهُ وَصَرَّحَ بِالمَخْلُوقِ أَيْضًا فِي كَلَامٍ مُمَوَّهٍ عِنْدَ السُّفَهَاءِ، مَكْشُوفٍ عِنْدَ الفُقَهَاءِ. فَادَّعَى أَيْضًا أَنَّ كَلَامَ الله يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفَاعِيلِهِ، وَأَنَّ أَفَاعِيلَهُ زَائِلَةٌ عَنْهُ. وَكُلُّ زَائِلٍ عَنِ الله مَخْلُوقٌ فِي دَعْوَاهُ. فَلَمْ يَزَلْ يَعِيبُ عَنْ هَذَا القَوْلِ، [39/و] وَيُلَجْلِجُ بِهِ فِي صَدره حَتَّى صَرَّحَ بِهِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ بِالبِلَادِ مَنْ يَفْطِنُ لِمَذْهَبِهِ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنَ فِعْلُ اللهِ الزَّائِلُ عنه؛ فَقَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ: كَلَامُ الله؛ لِأَنَّ القَوْلَ غَيْرُ الفِعْلِ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَالمَفْعُولَاتُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ لَا شَكَّ فِيهِ، فَقَدْ صَرَّحَ بِالمَخْلُوقِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَعْدَمَا عَابَ مَنْ قَالَهُ، وَرَجَعَ عَيْبُهُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. أرأيتك أَيهَا المعَارض إِذْ ادَّعَيْتَ فِي بَعْضِ كَلَامِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا يُزَادُ على أَنْ يُقَالَ: كَلَامُ اللهِ ثُمَّ يَسْكُتُ عَمَّا وَرَاءَ

ذَلِكَ لَمَا أَنَّهُ لَمْ يُخَضْ فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، فَمَنْ خَاضَ فِيهِ كَانَ بِزَعْمِكَ مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ، فَكَيْفَ تَرَكْتَ فِيهِ قَوْلَ الله تَعَالَى وَمِنْهَاجَ السَّلَفِ، وَرَجَعْتَ عَنْ كَلَامِ الله فَجَعَلْتَهُ فِعْلًا لَهُ مَخْلُوقًا؟ أوَ مَا تَخْشَى عَلَى نَفْسِكَ مَا تَخَوَّفْتَ عَلَى غَيْرِكَ؟ لقد ارْتَطَمْتَ فِيمَا تَخَوَّفْتَ عَلَى غَيْرِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ، وَصَرَّحْتَ بِالمَخْلُوقِ بَعْدَمَا نَسَبْتَ إِلَى البِدْعَةِ مَنْ قَالَهَا، وَبُؤْتَ بِمَا عِبْتَ عَلَى غَيْرِكَ مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ، وَتابَعْتَ جَهْمًا وَالمَرِيسِيَّ فِي دَعْوَاهُمَا، زَعَمَ هَذَانِ أَنَّهُ مَجْعُولٌ وَزَعَمْتَ أَنْتَ أَنَّهُ مَفْعُولٌ، وَكِلَا المَعْنَيَيْنِ سَوَاءٌ. وَقَدْ كَانَ رَأْسُ حُجَجِ المَرِيسِيِّ وَأَصْحَابِهِ مِنَ الجَهْمِيَّةِ وَأَوْثَقُهَا فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى تَأَوَّلُوا فِيهَا عَلَى الله مِنْ كِتَابِهِ خِلَافَ مَا أَرَادَ. فَقَالُوا: قَالَ الله تَعَالَى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 1 - 3] و {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فَادَّعَوْا أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ: {جَعَلْنَاهُ} إِلَّا وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَخْلُوقٌ، فَضَلُّوا بِهَذَا التَّأْوِيل عَن سَوَاء السَّبِيلِ وَجَهِلُوا فِيهِ مَذَاهِبَ أَهْلِ الفِقْهِ وَالبَصَرِ بِالعَرَبِيَّةِ. فَقُلْنَا لَهُمْ: مَا ذَنْبُنَا إِنْ كَانَ اللهُ سَلَبَ مِنْكُمْ مَعْرِفَةَ الكِتَابِ وَالعِلْمِ بِهِ وَبِمَعَانِيهِ، وَبِمَعْرِفَةِ لُغَاتِ العَرَبِ، حَتَّى ادَّعَيْتُمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُقَالُ: «جَعَلْناهُ» فَهُوَ خَلَقْنَاهُ. أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الجَهَلَةُ قَوْلَ الله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]، أَهُوَ خَلَقْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ؟ وَكَذَلِكَ: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28]-لَا إِلَهَ إِلَّا الله- أَهُوَ خَلَقَهَا؟

{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)} [الطلاق: 2]، و {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} [الطلاق: 4]، أَهُوَ خَلَقَ (¬1) لَهُ مَخْرَجًا؟ أَمْ قَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] أَهُوَ خَلَقْنَا؟ أَمْ قَوْلُهُ: و {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} [الحاقة: 11 - 12] أم قَوْله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} [الحشر: 10]، أم قَوْلُهُ: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5] أَهُوَ فِي دَعْوَاكُمْ لَا تَخْلُقْنَا، بِعَدَما خَلْقِهِمْ مَرَّةً؟ أم قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84] أَيَقُولُ اخْلُقْ لي. أَمْ قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74] أَيِ اخْلُقْنَا؟! أَمْ قَوْلُهُ: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} [القصص: 7]،أَيَجُوزُ أَنْ يُقَال: وخَالِقُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ، بَعْدَمَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ؟! أَمْ قَوْلُهُ: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35]، أَمْ قَوْلُهُ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91]، أَمْ قَوْلُهُ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، أَمْ قَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)} [الشعراء: 85] أَهُوَ اخْلُقْنِي، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ؟. أَمْ [39/ظ] قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: جَعَلَكَ الله بِخَيْرٍ؟ وَكُلُّ مَا عَدَدْنَا مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِمَّا لَمْ يُعَدَّدْ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَصْرِفَ جَعَلْنَا مِنْهَا إِلَى خَلَقْنَا. وأَشَدُّها اسْتِحَالَة: مَا ادَّعَيْتُم عَلَى الله تَعَالَى فِي ¬

(¬1) في الأصل «جعل» والمثبت من «س»، ونسخ على «ع».

قَوْله: {جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أَنَّهُ خَلَقْنَاهُ، فَلَمْ تَفْقَهُوا مَعْنَاهُ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِكُمْ بِالعَرَبِيَّةِ. وَيْلكُمْ! إِنَّمَا الكَلَامُ لله بَدْءًا وَأَخِيرًا، وَهُوَ يَعْلَمُ الأَلْسِنَةَ كُلَّهَا، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ مِنْهَا: إِنْ شَاءَ تَكَلَّمَ بِالعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ شَاءَ بِالعِبْرَانِيَّةِ وَإِن شَاءَ بالسُّرْيَانيَّة، فَقَالَ: جعلت هَذَا القُرْآنَ مِنْ كَلَامِي عَرَبِيًّا، وَجَعَلْتُ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل مِنْ كَلَامِي عِبْرَانِيًّا؛ لَمَا أَنَّهُ أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِلِسَانِ قَوْمِهِ، كَمَا قَالَ: فَجَعَلَ كَلَامَهُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ لَهُ كَلَامًا لِكُلِّ قَوْمٍ بِلُغَاتِهِمْ فِي أَلْسِنَتِهِم. فَقَوْلُهُ: «جَعَلْنَاهُ» صَرَفْنَاهُ مِنْ لُغَةٍ إِلَى لُغَة أُخْرَى لَيْسَ أَنَّا خَلَقْنَاهُ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ فِي دَعْوَاكُمْ، فَهُوَ مَعَ تَصَرُّفِهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. يَقُولُ: تَسْتَنِيرُ بِهِ القُلُوبُ وَتَنْشَرِحُ لَهُ، لَا أَنَّهُ نُورٌ مَخْلُوقٌ، لَهُ ضَوْءٌ قَائِمٌ، يُرَى بِالأَعْيُنِ مِثْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالكَوَاكِبِ. فَافْهَمْهُ، وَلَا أَرَاكَ تَفْهَمُهُ. وَاحْتَجَّ المُعَارِضُ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَجِيءُ القُرْآنُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لِصَاحِبِهِ». فَقَالَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ: إِنْ قُلْتُمْ بِهَذَا الحَدِيثِ كَانَ نَقْضًا لِمَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَرَاءَى شَيْءٌ فِي صُورَةٍ، إِلَّا وَذَلِكَ المُتَرَائِي وَالمُتَكَلِّمُ فِي قِيَاسِ مَذْهَبِهِ مَخْلُوقٌ. فَقَدْ فَسَّرْنَا هَذَا لِهَذَا المُعْجَبِ بِجَهَالَتِهِ فِي كِتَابِنَا هَذَا، أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ، وَلَا جِسْمٌ، وَلَا يَتَحَوَّلُ صُورَةً أَبَدًا، لَهُ فَمٌ وَلِسَانٌ ينْطِقُ بِهِ ويَشْفَعُ، قد عَقِلَ ذَلِكَ جَمِيعُ المُسْلِمِينَ. فَلَمَّا كَانَ المَعْقُولُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ ثَوَابٌ يُصَوِّرُهُ الله فِي أَعْيُنِ المُؤْمِنِينَ، جَزَاءً لَهُمْ عَن القُرْآن الَّذِي قَرَءُوُه.

وَاتَّبَعُوا مَا فِيهِ، لِيُبَشِّرَ بِهِ المُؤْمِنِينَ وَنَفْسُ القُرْآنِ كَلَامٌ غَيْرُ مُجَسَّم فِي كُل أَحْوَاله، إِنَّمَا يُحَسُّ بِهِ إِذَا قُرِئَ، فَإِذا زَالَت عَنهُ القَرَأَةُ؛ لم يُوقَفْ لَهُ على جِسْمٍ وَلَا صُورَةٍ، إِلَّا أَنْ يُرْسَمَ بِكِتَابٍ. هَذَا مَعْقُولٌ لَا يَجْهَلُهُ إِلَّا كُلُّ جَهُولٍ. قَدْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ -إِنْ شَاءَ الله- وَلَكِنَّكُمْ تُغَالِطُونَ، وَالعُلَمَاءُ بِمُغَالَطَتِكُمْ عَالمون وَلِضَلَالَتِكُمْ مُبْطِلُونَ. وَيَكْفِي العَاقِلَ أَقَلُّ مِمَّا بَيَّنَّا وشَرَحْنَا مِنْ مَذَاهِبِكُم، غَيْرَ أَنَّ فِي تَكْرِيرِ البَيَانِ شِفَاءٌ لما فِي الصُّدُور. وَأما دَعْوَاكَ أَيهَا المعَارِضُ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنَ السَّلَفِ فِي القُرْآنِ قَوْلٌ وَلَا خَوْضٌ، أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٌ, فَسَنَقُصُّ عَلَيْكَ إِنْ شَاءَ الله عَنْهُمْ مَا يُكَذِّبُ دَعْوَاكَ، وَسَنَحْكِيهِ لَكَ عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمْ أَعْلَى وَأَعْلَمَ مِمَّنْ حَكَيْتَ عَنْهُمْ مَذْهَبَكَ؛ نَحْوَ المَرِيسِيِّ وَابْنِ الثَّلْجِي، ونُظَرائِهِم. (131) حَدَّثَنَاه عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، ثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا مَعْبَدٌ قَالَ عَليٌّ:-وَهُوَ ابْنُ رَاشِدٍ- عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قِيلَ لِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: القُرْآنُ خَالِقٌ هو، أَوْ مَخْلُوقٌ؟ قَالَ: «لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوق، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللهِ» (¬1). (132) وَسَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيَّ يَقُولُ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَدْرَكْتُ، [40/و] أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنْ دُونَهُمْ مُنْذُ ¬

(¬1) حسن، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (179)، والبخاري في خلق أفعال العباد (95)، وعبد الله بن أحمد في السنة (134)، والبيهقي في الأسماء والصفات (543)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (397)، من طريق معبد بن راشد، به، وإسناده حسن، ومعبد بن راشد؛ قال الحافظ: مقبول. قلت: يعني حيث يتابع، وقد توبع، تابعه سويد بن سعيد كما عند البيهقي في الأسماء والصفات (542)، ويحيى بن عبد الحميد الحماني كما عند اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (402).

سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: «اللهُ الخَالِقُ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَالقُرْآنُ كَلَامُ الله، مِنْهُ خرجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ» (¬1). (133) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ -مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ- قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مَضَّاءٍ مَوْلَى خَالِدٍ القَسْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ المُبَارك بِالمِصِّيصَةِ -وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ القُرْآنِ- قَالَ: «وَهُوَ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ» (¬2). (134) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَضَّاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ يَقُولُ: «القُرْآنُ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ» (¬3). (135) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن مَنْصُورٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَضَّاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ القَاسِمَ الجَزَرِيَّ يَقُولُ: «القُرْآنُ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ» (¬4). (136) حَدثنِي مُحَمَّد بن مَنْصُور، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَضَّاءٍ قَالَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (178) كذلك، ومن طريقه البيهقي في السنن (10/ 205)، وأخرجه الخلال في السنة (1860)، وابن عبد البر في التمهيد (24/ 186) كلاهما من طريق ابن راهويه، به، وأخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (381)، من طريق الحكم بن محمد الآمُلي، عن سفيان بن عيينة، به. (¬2) أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (180) كذلك، وإسناده صحيح إلى ابن المبارك، إن كان علي بن مضاء؛ هو علي بن محمد بن علي بن أبي المضاء المصيصي، وإلا فلم أقف له على ترجمة، والمذكور وثقه النسائي، ثم إني لم أجد من أخرج هذا القول بهذا الإسناد، وإلا فهو صحيح عن ابن المبارك من أوجه أخر، وينظر الأسماء والصفات للبيهقي (549)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (426)، والسنة لعبد الله بن أحمد (144). (¬3) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (182)، وإسناده صحيح كسابقه، ولم أقف على من أخرجه بهذا الإسناد سوى المصنف. (¬4) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (183)، وإسناده صحيح كسابقه، ولم أقف على من أخرجه بهذا الإسناد سوى المصنف.

بهْرَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ المُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ يَقُولُ: «القُرْآنُ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ» (¬1). قَالَ هِشَامٌ: «وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالَ المُعَافَى» قَالَ عَلِيٌّ: «وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالَ هِشَامٌ»، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ: «وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالَ خَمْسِينَ مَرَّةً»، قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ: «وَأَنَا أَقُولُ كَمَا قَالُوا»، قَالَ الصَّرَّامُ (¬2): «وَأَنَا أَقُول كَمَا قَالُوا» قَالَ رُوَاةُ الصَّرَّامِ: «وَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالُوا»، وَقَالَ لَنَا إِسْحَاقُ (¬3): «وَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالُوا». فَكُلُّ هَؤُلَاءِ قد قَالُوا: «إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ»، وَلَيْسُوا بِدُونِ مَنْ رَوَيْتَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَرهُوا الخَوْض فِيهِ فَيَقُولُوا: «هو غَيْرُ مَخْلُوق» مِثْل أبي أُسَامَةَ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، وَمَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ- إِنْ صَدَقْتَ عَلَيْهِمْ دَعْوَاكَ-. وَأَخَسُّهُمْ عِنْدَ النَّاسِ مَنْزِلَةً أَعْلَى مِنَ المَرِيسِيِّ، واللُّؤْلُؤِيِّ، وَابْنِ الثَّلْجِيِّ، وَنُظَرَائِهِمُ الَّذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، حَتَّى لَقَدْ أَكْفَرَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ بِقَوْلِهِمْ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ بِهِ القَتْلَ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهِمُ القَتْلَ بِذَلِكَ؛ إِلَّا وَأَنَّ قَوْلَهُمْ في ذلك كَانَ عِنْدَهُمْ كُفْرًا. (137) حَدَّثَنِي يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، حَدَّثَهُمْ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - قَتَلَ زَنَادِقَةً، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللهُ ¬

(¬1) إسناده صحيح، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (184)، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (512)، عن محمد بن منصورالطوسي به، دون ذكر قول محمد بن منصور «خمسين مرة». (¬2) الصرام: هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الصرام راوي الكتاب عن أبي سعيد الدارمي، وراجع ترجمته في المقدمة. (¬3) هو أبو يعقوب إسحاق بن أبي إسحاق القراب الحافظ أحد رواة الكتاب، تراجع ترجمته في المقدمة.

وَرَسُولُهُ» (¬1). فَالجَهْمِيَّةُ عِنْدَنَا أَخْبَثُ الزَّنَادِقَةِ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ قَوْلِهِمْ إِلَى التَّعْطِيلِ كَمَذْهَبِ الزَّنَادِقَةِ سَوَاءٌ. (138) حَدَّثَنَا القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَعْمَرِيُّ البَغْدَادِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَن أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: خَطَبَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الله القَسْرِيُّ بِوَاسِطَ يَوْمَ أَضْحَى فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، ارْجِعُوا فَضَحُّوا، تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ! فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ؛ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا». ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ فَذَبَحَهُ (¬2). ¬

(¬1) حسن، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (198)، ويحيى الحماني وإن كان تكلم فيه، لكن تابعه عليه خلاد بن أسلم، كما أخرجه البزار في مسنده (570)، وخلاد وثقه الدارقطني والنسائي وغيرهما، وأبو بكر بن عياش أقل أحواله أنه صدوق، وباقي رجاله ثقات. (¬2) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (1)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/ 64)، وفي خلق أفعال العباد (ص 19)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 205 - 206)، وفي الأسماء والصفات (569)، وغيرهم؛ من طريق عبد الرحمن بن محمد بن حبيب بن أبي حبيب عن أبيه عن جده، وعبد الرحمن مقبول وأبوه مجهول وجده صدوق يخطئ كما ذكر الحافظ رحمه الله؛ فهذا إسناد ضعيف. لكن للخبر طريق آخر فقد أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب «الرد على الجهمية» له -كما في كتاب العلو للعلي الغفار للذهبي (ص 131) - قال: حدثنا عيسى بن أبي عمران الرملي، حدثنا أيوب بن سويد، عن السري بن يحيى قال: خطبنا خالد، فذكر القصة، وهذا إسناد رجاله ثقات، غير أيوب بن سويد، قال الحافظ: صدوق يخطئ. قلت: ولكنه إلى الضعف أقرب فالقصة إسنادها محتمل للتحسين إن شاء الله، لاسيما وقد رواها الأئمة في كتبهم، واحتجوا بها.

(139) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: قُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ بنَ سَعْدٍ: مَا تَقُولُ فِي الزَّنَادِقَةِ تَرَى أَنْ نَسْتَتِيبَهُمْ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَبِمَ تَقُولُ ذَاك؟ قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا وَالٍ بِالمَدِينَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا وَلَمْ يَسْتَتِبْهُ، فَسَقَطَ فِي يَدِهِ فَبَعَثَ إِلَى أبي (¬1)، فَقَالَ لَهُ أَبِي: لَا يَهِيدَنَّكَ فَإِنَّهُ قَوْلُ اللهِ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} قَالَ: السَّيْفُ {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84 - 85] قَالَ: السَّيْفُ سُنَّةُ القَتْلِ (¬2). (140) وَسَمِعْتُ الرَّبِيعَ بْنَ نَافِعٍ أَبَا تَوْبَةَ يَقُولُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: مَا تَرَى فِي قَتْلِ هَؤُلَاءِ [40/ظ] الجَهْمِيَّةِ؟ قَالَ يُسْتَتَابُونَ، فَقُلْتُ: لَا، أَمَّا خُطَبَاؤُهُمْ فَلَا، يُسْتَتَابُونَ وَتُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ (¬3). (141) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْر المصْرِيُّ، ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» (¬4). قَالَ مَالِكٌ: وَمَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا -فِيمَا نَرَى وَالله أَعْلَمُ- أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ مِثْلُ الزَّنَادِقَةِ، وَأَشْبَاهِهِا، فَإِنَّ أُولَئِكَ يُقْتَلُونَ، وَلَا يُسْتَتَابُونَ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ رَوِيَّتُهُم (¬5)، وَأَنَّهُ قَدْ كَانُوا يُسِرُّونَ الكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ بِالإِسْلَامِ، فَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلَاءِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ (¬6). ¬

(¬1) هو الإمام الثقة العابد سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، المتوفى سنة 125 هـ. (¬2) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (203)، وإسناده أئمة. (¬3) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (204)، وإسناده أئمة. (¬4) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (205)، وهو مرسل، أخرجه مالك في الموطأ (1419)، وعنه الشافعي في مسنده (ص 321)، ومن طريق الشافعي البيهقي (8/ 195). (¬5) كذا في الأصل، وفي الرد على الجهمية، والموطأ «توبتهم»، وما أثبتته متجه، ومعناه التردد في الفكر. (¬6) ذكره مالك في الموطأ عقب الحديث السابق.

(142) حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَحْيَى البُوَيْطِيُّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، فِي الزِّنْدِيقِ: «يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِذَا رَجَعَ وَلَا يُقْتَلُ» (¬1). (143) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُعْتَمِرِ السِّجِسْتَانِيُّ -وَكَانَ مِنْ أَوْثَقِ أَهْلِ سِجِسْتَانَ وَأَصْدَقِهِمْ- عَنْ زُهَيْرِ بْنِ نُعَيْمٍ البَابِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ سَلَّامَ بن أبي مُطِيع يَقُول: «الْجَهْمِيَّةُ كُفَّارٌ» (¬2). (144) قَالَ: وَسَمِعْتُ زُهَيْرَ بْنَ نُعَيْمٍ يَقُولُ: سُئِلَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ -وَذُكِرَ لَهُ شَيْءٌ عَنْ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ- فَقَالَ: «ذَاكَ كَافِرٌ» (¬3). (145) حَدَّثَنَا يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، ثَنَا الحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ المُبَارَكِ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا}: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ (¬4). (146) وَسَمِعْتُ مَحْبُوبَ بْنَ مُوسَى الأَنْطَاكِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ وَكِيعًا يُكَفِّرُ الجَهْمِيَّةَ (¬5). (147) وَكَتَبَ إِليَّ عَلِيُّ بْنِ خَشْرَمٍ: أَنَّ ابْنَ المُبَارَكِ كَانَ لَا يَعُدُّ الجَهْمِيَّةَ فِي عِدَادِ المُسْلِمِينَ (¬6). (148) وَسَمِعْتُ يَحْيَى بنَ يَحْيَى يَقُولُ: «القُرْآنُ كَلَامُ الله مَنْ شَكَّ فِيهِ أَوْ ¬

(¬1) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (207). (¬2) صحيح، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (188)، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (9)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (517)، والخلال (1700)، وغيرهم من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن زهيربن نعيم، به. وزهير وثقه عبد الله بن أحمد. (¬3) صحيح، وأخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (189). (¬4) تقدم تخريجه برقم (129). (¬5) حسن، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (192)، والأنطاكي صدوق، وقد ورد هذا المعنى عن وكيع من غير ما طريق وينظر السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 115، 116). (¬6) تقدم برقم (4).

زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ» (¬1). فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَكْفَرُوهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ وَأَنْزَلَاهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاسْتحقَّ بِتَبْدِيلِهِ القَتْل. (149) حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أُتِيَ بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَحَرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ لَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمَا حَرَقْتُهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَقَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله» (¬2). فَادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ مَنْ رَوَيْنَا عَنْهُمْ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالعُلَمَاءِ المَشْهُورِينَ فِي إِكْفَارِ الجَهْمِيَّةِ وَقَتْلِهِمْ عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِمْ: «القُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ»، أَن هَذِه الرِّوَايَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا لَيْسَ أَثَرًا عِنْدَهُ؛ لَما أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: «الأَثَرُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالصَّحَابَةِ، وَمَا بَعْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِأَثَرٍ». فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: فَكَيْفَ جَعَلْتَ أَنْتَ أَثَرًا مَا رَوَيْتَ فِي رَدِّ مَذْهَبِنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَبِي أُسَامَةَ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، وَالمَرِيسِيِّ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ، وَالثَّلْجِيِّ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا رَوَيْنَا مِنْ ذَلِكَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَبَقِيَّةَ بن الوَلِيد، وَابْن المُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ، ونُظَرَائِهِم أثرًا عنْدك؛ فَأَبْعَدَ مِنَ الأَثَرِ مَا احْتَجَجْتَ فِي رَدِّهِ عَنِ المَرِيسِيِّ، وَالثَّلْجِيِّ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ ¬

(¬1) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (194)، وتابع المصنف على معناه؛ محمودُ بنُ غيلان، كما أخرجه اللالكائي في شر أصول الاعتقاد (447). (¬2) أخرجه البخاري (3017)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458)، والنسائي (7/ 104)، والمصنف في الرد على الجهمية (187)، والبيهقي في الكبرى (8/ 202)، وغيرهم من طرق عن أيوب، به.

وَنُظَرَائِهِمْ. فَكَيْفَ أَقَمْتَ أَقَاوِيلَ هَؤُلَاءِ المُتَّهَمِينَ لِنَفْسِكَ أَثَرًا، وَلَا تُقِيمُ، [41/و] أَقَاوِيلَ هَؤُلَاءِ المُتَمَيِّزِينَ لَنَا أَثَرًا؟ مَعَ أَنَّ أبا يُوسُفَ إِنْ قَالَ: «لَيْسَتْ أَقَاوِيلُ التَّابِعِينَ بِأَثَرٍ»؛ فَقَدْ أَخْطَأَ. إِنَّمَا يُقَالُ: لَيْسَ اخْتِلَافُ التَّابِعِينَ سُنَّةً لَازِمَةً، كَسُنَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ. فَأَمَّا أَنْ لَا يَكُونَ أَثَرًا، فَإِنَّهُ أَثَرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَقَاوِيلُهُمْ ألزَمُ لِلنَّاسِ مِنْ أَقَاوِيلِ أَبِي يُوسُفَ وَأَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى التَّابِعِينَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة: 100] فَشهد بِاتِّبَاع الصَّحَابَةِ، وَاسْتِيجَابِ الرُّضْوَانِ مِنَ الله تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وَاجْتَمَعَتِ الكَلِمَةُ مِنْ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ أَنْ سَمَّوْهُمُ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَزَالُوا يَأْثُرُونَ عَنْهُمْ بِالأَسَانِيدِ كَمَا يَأْثُرُونَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَيَرَوْنَ آرَاءَهُمْ ألزَمَ لهم مِنْ آرَاءِ مَنْ بَعْدَهُمْ، لِلِاسْم الذِي اسْتَحَقُّوا مِنَ اللهِ تَعَالَى، ومِنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ الذِينَ سَمُّوهُم تَابِعِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. حَتَّى لَقَدْ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِلْحَسَنِ البَصْرِيِّ: «وَلَا تُفْتِ النَّاسَ بِرَأْيِكَ» فَقَالَ: «رَأْيُنَا لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ آرَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ» (¬1). فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَن التَّابِعين أَثَرًا، فَبِئْسَ مَا أَثْنَى عَلَى زَعِيمِهِ وَإِمَامِهِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ عَامَّةَ فُتْيَاهُ بِغَيْرِ أَثَرٍ؛ لِأَنَّ عِظَمَ مَا أَفْتَى وَأَخَذَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، مِمَّا رَوَاهُ عَن حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِغَيْرِ أَثَرٍ، وَعَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ تَبِعَهُ فِي فُتْيَاهُ مِنْ ¬

(¬1) أخرج هذا الكلام ابن سعد في الطبقات (9/ 166)، بإسناد صحيح.

غَيْرِ نَظَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا روى عَن التَّابِعين آَثَارٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَكُمْ، فَكَيْفَ سَمَّيْتَ رَأْيَ إِبْرَاهِيمَ: آثَارَ أَبِي حَنِيفَةَ؟ وَإِنَّمَا إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. كَذَبْتُمْ إِذًا فِيمَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَثَرٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ. فَتَفَهَّمْ أَيُّهَا المُعَارِضُ ثُمَّ تَكَلَّمْ، وَلَا تَنْطِقَنَّ بِمَا لَا تَعْلَمُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تُحْسِنُ فَتَعَلَّمْ، وَلَا تُرْسِلْ مِنْ رَأْسِكَ ما يَأْخُذُ مِنْكَ بِالكَظْمِ، فَيَنْقُضَ عَلَيْكَ وَتُطَلَّمَ (¬1) وَتُعَدَّ فِي عِدَادِ مَنْ لَا يَفْهَم. * * * ¬

(¬1) قال في لسان العرب (12/ 369): «وأَصلُ الطَّلْمِ: الضرْبُ ببَسْطِ الكَفِّ».

باب الحث على طلب الحديث والرد على من زعم أنه لم يكتب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث والذب عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب الحديث وأهل السنة وفضل

بَابُ الحثِّ عَلَى طَلَبِ الحَدِيثِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَبْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الحَدِيثُ والذبِّ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَفَضْلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ. وادَّعَى المُعَارِضُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ: إِنَّ الأَثَرَ مَا رُوي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَنْ أَصْحَابِهِ - رضي الله عنهم - أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَنْشَأَ طاعنًا على الآثَار. وروى عَنْ أَبِي يُوسُفَ الآثَارَ تَصُدُّ النَّاسَ عَنْ طَلَبِهَا وَتُزَهِّدُهُمْ فِيهَا، بِتَأْوِيلِ ضَلَالٍ يُرَى مَنْ بَيْنِ ظَهْرَيْهِ أَنَّهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ ذَلِكَ مُصِيبٌ. فَكَانَ مِمَّا تَأَوَّلَ فِي رَدِّهَا أَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «سَيَفْشُو الحَدِيثُ عَنِّي، فَمَا وَافَقَ مِنْهَا القُرْآنَ فَهُوَ [41/ظ] عَنِّي، وَمَا خَالَفَهُ فَلَيْسَ عني». فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: لَقَدْ تَأَوَّلْتَ حَدِيثَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «سَيَفْشُو الحَدِيثُ عَنِّي» عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَدَاوَلُهُ الحُفَّاظُ مِنَ النَّاسِ وَالصَّادِقُ، وَالكَاذِبُ، وَالمُتْقِنُ، وَالمُغَفَّلُ، وَصَدَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قَدْ تَبَيَّنَ مَا قَالَ فِي الرِّوَايَاتِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَقِدُهَا أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِهَا، فَيَسْتَعْمِلُونَ فِيهَا رِوَايَةَ الحُفَّاظِ المُتْقِنِينَ، وَيَدْفَعُونَ رِوَايَةَ الغُفَلَاءِ النَّاسِينَ، وَيُزِيِّفُونَ مِنْهَا مَا رَوَى الكذَّابون، وَلَيْسَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ الِاخْتِيَارُ مِنْهَا، وَلَا كُلُّ النَّاسِ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَى القُرْآنِ، فَيَعْرِفَ مَا وَافَقَهُ مِنْهَا مِمَّا خَالَفَهُ، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الفُقَهَاءِ، العُلَمَاءِ الجَهَابِذَةِ النُّقَّادِ لَهَا، العَارِفِينَ بِطُرُقِهَا وَمَخَارِجِهَا، خِلَافَ المَرِيسِيِّ وَاللُّؤْلُؤِيِّ وَالثَّلْجِيِّ، وَنُظَرَائِهِمُ المُنْسَلِخِينَ مِنْهَا، وَمِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَمِمَّا يُصَدِّقُهَا مِنْ كِتَابِ الله تَعَالَى. فَقَدْ أَخَذْنَا بِمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ نَقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا مَا رَوَى الفُقَهَاءُ

الحفَّاظ المُتْقِنُونَ، مِثْلُ: مَعْمَرٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَزُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَزَائِدَةَ، وَشَرِيكٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَنُظَرَائِهِمُ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِرِوَايَتِهَا وَمَعْرِفَتِهَا وَالتَّفَقُّهِ فِيهَا خِلَافَ تَفَقُّهِ المَرِيسِيِّ، وَأَصْحَابِهِ، فَما تَدَاوَلَ هَؤُلَاءِ الأَئِمَّةُ وَنُظَرَاؤُهُمْ عَلَى القَبُولِ قَبِلْنَاه، وَمَا رَدُّوهُ رَدَدْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ تَرَكْنَاهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ بِتَأْوِيلِ القُرْآنِ وَمَعَانِيهِ، وَأَبْصَرَ بِمَا وَافَقَهُ مِنْهَا مِمَّا خَالَفَهُ مِنَ المَرِيسِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَاعْتَمَدْنَا عَلَى رِوَايَاتِهِمْ، وَقَبِلْنَا مَا قَبِلُوا، وَزَيَّفْنَا مِنْهَا مَا رَوَى الجَاهِلُونَ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا المُعَارِضِ، مِثْلِ المَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ، فَأَخَذْنَا نَحْنُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِكَ الَّذِي رَوَيْتَهُ عَنه، وَتَرَكْتَهُ أَنْتَ لِأَنَّكَ احْتَجَجْتَ فِي رَدِّ مَا رَوَى هَؤُلَاءِ الأَعْلَامُ المَشْهُورُونَ، العَالِمُونَ مَا وَافَقَ مِنْهَا كِتَابَ الله مِمَّا خَالَفَهُ، بِأَقَاوِيلِ هَؤُلَاءِ الجَهَلَةِ المَغْمُورِينَ وَالشَّاهِدُ عَلَيْكَ بِمَا أَقُولُ كِتَابُكَ هَذَا الَّذِي ألَّفْتَه عَلَى نَفْسِكَ، لَا عَلَى غَيْرك. وَاحْتَجَجْتَ أَيْضًا فِي رَدِّ آثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا رَأْسُ الآثَارِ وَألزَمُهَا للنَّاس بكذب ادَّعَيْتَهُ، زَعَمْتَ أَنَّهُ صَحَّ عِنْدَكَ أَنَّهُ لَمْ تُكْتَبِ الآثَارُ، وَأَحَادِيثُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالخُلَفَاءِ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه -، فَكَثُرَتِ الأَحَادِيثُ وَكَثُرَ الطَّعْنُ عَلَى مَنْ رَوَاهَا. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: دَعْوَاكَ هَذِهِ كَذِبٌ، لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الصِّدْقِ، فَمِنْ أَيْنَ صَحَّ عِنْدَكَ أَنَّ الأَحَادِيثَ لم تَكُنْ تُكْتَب عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالخُلَفَاءِ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ؟ وَمَنْ أَنْبَأَكَ بِهَذَا؟ فَهَلُمَّ إِسْنَادَهُ، وَإِلَّا فَإِنَّكَ مِنَ المُسْرِفِينَ عَلَى نَفْسِكَ، القَائِلِينَ فِيمَا لَا يَعْلَمُ، فَقَدْ صحَّ عِنْدَنَا أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالخُلَفَاء بَعْدَهُ. كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -[42/و] مِنْهَا صحيفَة، وَهُوَ أَحَدُ الخُلَفَاء مِنْ

رَسُولِ اللهِ فَقَرَنَهَا بِسَيْفِهِ، فِيهَا أَمْرُ الجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإِبِلِ، وَفِيهَا «المَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَو آوى مُحدثا فعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وَإِذَا فِيهَا «المُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» وَإِذَا فِيهَا «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ». رَوَاهُ الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيه، عَن عَليٍّ (¬1). فَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَدْ جِئْنَاكَ بِهِ فِي خِلَافِ دَعْوَاكَ، فَعَمَّنْ رَوَيْتَ الحَدِيثَ الَّذِي ادَّعَيْتَ أَنَّهُ صَحَّ عِنْدَكَ؟ فَأَظْهِرْهُ حَتَّى نَعْرِفَهُ كَمَا عَرَفْنَا هَذَا. (150) حَدَّثَنَا الحِمَّانِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَة، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْريِّ، عَن مُحَمَّد بن الحَنَفِيَّة قَالَ: جَاءَتْ سُعَاةُ عُثْمَانَ إِلَى عَلِيٍّ يَشْكُونَهُ، فَقَالَ لِي: «خُذْ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ، فَإِنَّ فِيهَا سُنَنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَاذْهَبْ بِهَا إِلَى عُثْمَانَ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهَا إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا، وَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا وَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ضَعْهَا مَكَانَهَا» (¬2). فَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - وَهُوَ أَحَدُ الخُلَفَاءِ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَتَبَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى عُثْمَانَ - رضي الله عنه - قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ عُثْمَانُ. فَمِنْ أَيْنَ صَحَّ عِنْدَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّهُ لَمْ يُكْتَب الحَدِيثُ فِي زَمَنِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَالخُلَفَاءِ بَعْدَهُ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ، وأَسْنِدْهُ كَمَا أَسْنَدْنَا لَكَ، وَإِلَّا فَلِمَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1870، 3172، 3179، 6755، 7300)، ومسلم (1370)، من طريق الأعمش، به. (¬2) أخرجه البخاري (3111)، وعبد الرزاق في المصنف (6795)، وعنه أحمد (1196)، من طريق سفبان، به.

تَدَّعِي مَا لَا تَعْقِلُهُ، وَلَا تَفْهَمُه؟ فَيَسْمَعُ بِهِ مِنْكَ سَامِعٌ مِنِ الجُهَّالِ يَحْسَبُ أَنَّكَ مُصِيبٌ فِي دَعْوَاكَ، وَأَنْتَ فِيهَا مُبْطِلٌ وَإِنَّمَا قَالَ عُثْمَانُ: «لَا حَاجَةَ لَنَا فِي الصَّحِيفَةِ» عَلَى مَعْنَى أَنَّا نُحْسِنُهَا وَنَعْرِفُ مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيفَةِ. ثُمَّ كَتَبَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو، فَأكْثَرَ، واسْتَأْذَنَهُ فِي الكِتَابِ عَنهُ فَأَذِنَ لَهُ. (151) حَدَّثَنَاه عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ قَالَ: سمعتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: «مَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، وَأَنَا كُنْتُ لَا أَكْتُبُ» (¬1). (152) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمَانَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ حَكِيمِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَة - رضي الله عنه - يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَحْفَظَ لِحَدِيثِهِ إِلَّا عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كان يَكْتُبُ، وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكْتُبَ، فَكَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ، وَيَعِي بِقَلْبِهِ، وَكُنْتُ أَنَا أَعِي بِقَلْبِي» (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (113)، عن ابن المديني، به. وأخرجه الدارمي أبو محمد (500)، من طريق سفيان، به. (¬2) صحيح رجاله ثقات سوى عبد الرحمن بن سلمان، قال البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس وأخرجه من طريقه أيضا العقيلي في الضعفاء (2/ 333)، في ترجمته، والخطيب في تقييد العلم (83). قلت وللحديث طريق آخر أخرجه أحمد (9231)، والطحاوي في معاني الآثار (4/ 355)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 369)، من طريق محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن مجاهد، عن مغيرة بن حكيم، به.

وَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - كِتَابَ الصَّدَقَاتِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. (153) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: أَخَذْتُ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ أَنَسٍ كِتَابًا، زَعَمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَهُ لِأَنَسٍ وَعَلَيْهِ خَاتَمُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، وَكَتَبَ لَهُ: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا فَرِيضَةُ [42/ظ] الصَّدَقَةِ» ... وَسَاقَ أَبُو سَلمَة الحَدِيث بطوله (¬1). (154) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يُونس، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي الصَّدَقَاتِ نُسْخَةَ كِتَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَهِيَ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، أَقْرَأَنِيهَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله فَوَعَيْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا ... وَسَاقَهُ أَبُو صَالِحٍ بِطُولِهِ (¬2). (155) حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ بِكِتَابٍ، فِيهِ الفَرَائِضُ، وَالسُّنَنُ، والديَّات، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (¬3). (156) حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ المُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الله ابْن أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: فِي ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1567)، عن موسى بن إسماعيل، به. والحديث رواه البخاري (1453). (¬2) أخرجه أبو داود (1570)، من طريق ابن المبارك، عن يونس -هو ابن يزيد الأيلي-، به. (¬3) ضعيف، أخرجه النسائي (8/ 57)، وأبو داود في المراسيل (ص 213)، من طريق الحكم بن موسى، به. قال أبو داود كلاما مفاده أن هذه الرواية خطأ، وهم فيها الحكم بن موسى فقال سليمان بن داود-يعني الخولاني- والصواب سليمان بن أرقم، والأخير هذا متروك، وإلى مثل هذا أشار النسائي في سننه.

خَمْسٍ مِنَ الإِبِلِ شَاةٌ ... وسَاق نعيم الحَدِيثَ بِطُولِهِ (¬1). فَهَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَالخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رضي الله عنهم -، قَدْ صَحَّ أَنَّهُ كُتِبَت الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ فِي عَصْرِهِمْ وَزَمَانِهِمْ، قَدْ أَسْنَدْنَا لَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ إِلَيْهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ صَحَّ عِنْدَكَ مَا ادَّعَيْتَ: أَنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ؛ فَكَثُرَتِ الأَحَادِيثُ بَعْدَهُ وَكَثُرَ الطَّعْنُ عَلَى رُوَاتِهَا، وَمَنْ طَعَنَ عَلَى الثِّقَاتِ مِنْ رُوَاةِ الأَحَادِيثِ عِنْدَ مَقْتَلِ عُثْمَان؟! وَأَمَّا أَهْلُ الظِّنَّة، وَالغَفْلَةِ فِيهَا فَلَمْ يَزَالُوا مَطْعُونين عَلَيْهِمْ، لَيْسَ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَنُظَرَائُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَنَّهُمْ المَطْعُونُونَ عَلَيْهِم فِيهَا. حَتَّى ادَّعَيْتَ فِي ذَلِكَ كَذِبًا عَلَى عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «أَكْذَبُ ¬

(¬1) إسناده صحيح، أخرجه عبد الرزاق (6793)، ومن طريقه ابن خزيمة (2269)، عن معمر، به. وأخرجه ابن زنجويه في الأموال (1395)، عن سفيان بن عبد الملك، وعلي بن الحسن، كلاهما عن ابن المبارك، به. وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب العقول، باب ذكر العقول (1)، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه. ولم يذكر جده. قال ابن عبد البر في التمهيد (17/ 338): «لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد وقد روي مسندا من وجه صالح وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتهاعن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة وقد روى معمر هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وذكر ما ذكره مالك سواء في الديات وزاد في إسناده عن جده وروي هذا الحديث أيضا عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده بكماله وكتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه فمتفق عليه إلا قليلا وبالله التوفيق».

المُحَدِّثِينَ أَبُو هُرَيْرَةَ». وَهَذَا مَكْذُوبٌ عَلَى عُمَرَ. فَإِنْ تَكُ صَادِقًا فِي دَعْوَاكَ؛ فَاكْشِفْ عَنْ رَأْسِ مَنْ رَوَاهُ، فَإِنَّكَ لَا تَكْشِفُ عَنْ ثِقَةٍ، فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ يُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَرْمِيَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالكَذِبِ عَنْ غَيْر صِحَةٍ ولا ثَبْتٍ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تسبُّوا أَصْحَابِي» (¬1) و «أحفظوني فِي أَصْحَابِي» (¬2) و «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي» (¬3) و «مَنْ سبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ» (¬4). فَأَيُّ سَبٍّ لِصَاحِبِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَعْظَمُ مِنْ تَكْذِيبِهِ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وَإِنَّهُ لَمِنْ أَصْدَقِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَحْفَظِهِمْ عَنْهُ وَأَرْوَاهُمْ لِنَوَاسِخِ أَحَادِيثِهِ، وَالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِهِ: لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوٍ من ثَلَاثِ سِنِينَ، بَعْدَمَا أَحْكَمَ الله لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ أَمْرِ الحُدُودِ وَالفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ. وَكَيْفَ يَتَّهِمُهُ عُمَرُ بِالكَذِبِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الأَعْمَالِ النَّفِيسَةِ، وَيُوَلِّيهِ الوِلَايَاتِ؟ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ كَمَا ادَّعى المُعَارِضُ؛ لَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يَأْتَمِنُهُ عَلَى أُمُورِ المُسْلِمِينَ، وَيُوَلِّيهِ أَعْمَالَهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، حَتَّى دَعَاهُ ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541). (¬2) أخرجه ابن ماجه (2363)، والنسائي في الكبرى (9182)، والحاكم (1/ 199) وابن بطة في الإبانة (116)، وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.وإسناده صحيح. (¬3) رواه الترمذي (3862)، وغيره بإسناد ضعيف، وينظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للعلامة الألباني (2901). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (32959)، وابن الجعد (2010)، وأحمد في فضائل الصحابة (10)، وغيرهم من حديث عطاء بن أبي رباح، مرسل، وإسناده صحيح. وقد روي موصولا بإسناد ضعيف.

آخِر ذَلِكَ إِلَى العَمَلِ فَأبى عَلَيْهِ. (157) حَدَّثَنَاه مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي [43/و] هِلَالٍ الرَّاسِبِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - (¬1). ثُمَّ عَرَفَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَثْرَةِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَثَبَّتُوهُ فِي ذَلِكَ، مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ الله، وَابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمَا. وَرَوَى عَنهُ غير وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ آثَارًا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، مِنْهُمْ عَبْدُ الله بْنُ عَبَّاس، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنهما -. وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِدَادِ الكذَّابين -كَمَا ادَّعَيْتَ عَلَيْهِ- لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِلُّونَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ. ثُمَّ قَدْ رَوَى عَنْهُ مِنْ أَعْلَامِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَبَصْرَةَ وَالكُوفَةِ وَالشَّامِ وَاليَمَنِ، عَدَدٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ؛ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُرْوَةُ بن الزبير، وَعُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بن عتبَة، وَعَطَاء، وَطَاوُوسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيُّ مِنْ أَهْلِ الشَّام، وَمن لَا يُحصَونَ مِنْ هَذِهِ الكُورِ. وَقَدْ رَوَوُا الكَثِيرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاحْتَجُّوا بِهِ، وَاسْتَعْمَلُوا رِوَايَتَهُ، وَلَوْ عَرَفُوا مِنْهُ مَا ادَّعَى المُعَارِضُ؛ مَا حَدَّثُوا المُسْلِمِينَ عَنْ أَكْذَبِ المُحَدِّثِينَ. ¬

(¬1) صحيح، أخرجه عبد الرزاق (20659 - جامع معمر)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 380)، من طريق أيوب السختياني، وأبو عبيد في الأموال (667)، من طريق ابن عون، والحاكم (2/ 378) من طريق هشام بن حسان، ثلاثتهم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، بقصته مع عمر حين أبى عليه أبو هريرة أن يستعمله، - رضي الله عنهما -.

فَاتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُعَارِضُ، وَاسْتَغْفِرْهُ مِمَّا ادَّعَيْتَ عَلَى صَاحِبِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المَعْرُوفِ بِخَلَافِ مَا رَمَيْتَهُ، وَلَو كَانَ لَكَ سُلْطَانٌ صَارِمٌ يَغْضَبُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لَأَوْجَعَ بَطْنَكَ وَظَهْرَكَ، وأثَّر فِي شَعْرِكَ وبَشَرِكَ، حَتَّى لَا تَعُودَ تَسُبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تَرْمِيهِم بِالكَذِبِ مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ. (158) حَدَّثَنَا أَبُو الأَصْبَغِ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الحَرَّانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلمَة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله - رضي الله عنه - قَالَ: «وَالله مَا أَشُكُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا لَمْ نَسْمَعْ؛ كُنَّا نَحْنُ قَوْمٌ لَنَا عَنَاءٌ وَبُيُوتَاتٌ، وَكُنَّا إِنَّمَا نَأْتِي رسَوُلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا مَالَ، وَإِنَّمَا يَدُهُ مَعَ يد رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يَأْكُلُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ، فَوَالله مَا نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَلَا نَجِدُ أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَا لَمْ يَقُل» (¬1). (159) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ العُمَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَة قال: «وَالله إِنَّا لَنِعْرِفُ مَا يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَجْبُنُ وَيَجْتَرِئُ» (¬2). ¬

(¬1) حسن، أخرجه الترمذي (3837)، من طريق محمد بن سلمة، وأبو يعلى (636)، والحاكم (3/ 585)، من طريق جرير بن حازم، كلاهما عن محمد بن إسحاق، به. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق، وقد رواه يونس بن بكير، وغيره عن محمد بن إسحاق». قلت: ورجاله ثقات خلا محمد بن إسحاق، وحديثه حسن إن شاء لله، وقد أمنا تدليسه، بتصريحه بالتحديث كما في رواية الحاكم. (¬2) إسناده صحيح، وقد أخرج نحوه أبو داود (1261)، وابن خزيمة (1120)، والحاكم (3/ 583)، وغيرهما في قصة.

(160) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُحَدِّثُ فَقَالَ: «لَمْ يكن يَشْغَلنِي عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غَرْسُ الوَدِيِّ، وَلَا سَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ، إِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَكلَة يُطْعِمُنِيهَا أو كَلِمَةً يُعَلِّمُنِيهَا. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَدَقْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْتَ ألزَمَنَا لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَعْلَمنَا بحَديثه» (¬1). (161) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، [43/ظ] عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَر المُزَكِّي، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْروٍ، عَن سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ على الحَدِيث، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قِبَل نَفْسِهِ» (¬2). أَفَلَا يُراقِبُ امْرُؤٌ رَبَّهُ، فَيَكُفَّ لِسَانَهُ وَلَا يُكَذِّبَ رَجُلًا أَحْفَظَ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَيَرْمِيَهُ بَالكَذِبِ عنْ غَيْرِ ثَبْتٍ وَلَا صِحَّةٍ، وَكَيْفَ يَصِحُّ عِنْدَ هَذَا المُعَارِضِ كَذِبُهُ، وَقَدْ ثَبَّتَهُ مِثْلُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله، وَعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ؟، لَو عَضَّ هَذَا الرَّجُلُ عَلَى حَجَرٍ، أَوْ عَلَى جَمْرَةٍ حَتَّى تحْرِقَ لِسَانَهُ، كَانَ خَيْرًا لَهُ مِمَّا تَأَوَّلَ عَلَى صَاحِبِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) صحيح، أخرجه الترمذي (3836) وحسنه، وعبد الرزاق (6270)، وأحمد (4453)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 557)، من طريق هشيم، به. وأخرجه الطيالسي (2704)، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، به. وأصل الحديث الذي دارت حوله القصة-حديث من صلى على جنازة فله قيراط- في الصحيحين. (¬2) أخرجه البخاري (6570)، وأحمد (8858)،وغيرهم من طريق إسماعيل بن جعفر، به. وأخرجه البخاري في (99)، من طريق عمرو بن أبي عمرو، به. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة.

وادَّعى المُعَارِضُ أيضًا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الصَّلْتِ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَانَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بَيْتٌ يُسَمَّى بَيْتُ الحِكْمَةِ، فَمَنْ وَجَدَ حَدِيثًا ألقَاهُ فِيهِ ثُمَّ رُويَت بَعْدَهُ. فَهَذِهِ حِكَايَةٌ لَمْ نَعْرِفْهَا وَلَمْ نَجِدْهَا فِي الرِّوَايَاتِ، فَلَا تَدْرِي عَمَّنْ رَوَاهَا أَبُو الصَّلْتِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي بِهِ عَنْ ثِقَةٍ، فَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ مَعْرُوفًا بِقِلَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو شاء لَأَكْثَرَ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَّقِي ذَلِكَ وَيَتَقَدَّمُ إِلَى النَّاسِ يَنْهَاهُمْ عَنِ الإِكْثَارِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِن كَانَ لَيَقُولُ: «اتَّقُوا مِنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِلَّا مَا كَانَ يُذْكَرُ مِنْهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - كَانَ يُخوِّف النَّاسَ فِي اللهِ». (162) حَدَّثَنَا ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ ... وَسَاقَهُ بِإِسْنَادِهِ (¬1). وَهَذَا طَعْنٌ كَثِيرٌ مِنَ المُعَارِضِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ أَحَادِيثَ النَّاسِ عَنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فَيَجْعَلُهَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوِ استحلَّ مُعَاوِيَةُ هَذَا المَذْهَبَ؛ لَافْتَعَلَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، وَنَحَلَهَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَكَانَ يُقْبَلُ مِنْهُ، لِمَا أَنَّهُ عُرِفَ بِصُحْبَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَمْ يَكُنْ يُنْحِلُهُ قَوْلَ غَيره مِنْ عَوَامِّ النَّاس. ويَدُلُّك قِلَّةُ رِوَايَة مُعَاويةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكَانَ كَاتِبُهُ- عَلَى تَكْذِيبِ مَا رَوَيْتَ عَنْ أبي الصَّلْت. فَإنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَاكْشِفْ عَنْ إِسْنَادِهِ فَإِنَّكَ لا تُسْنِدُهُ إِلَى ثِقَةٍ. وَكَذَلِكَ ادَّعَيْتَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاص، وكَانَ مِنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رِوَايةً عَنْهُ، مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ اليَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الكِتَابِ فَكَانَ يَرْوِيهَا لِلنَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وكَانَ يُقال لَهُ: أَلا ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1037)، وأحمد (16910)، وغيرهما من حديث معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر اليحصبي، قال: سمعت معاوية، فذكره.

تَحَدِّثُنَا عَن الزَّامِلَتَيْنِ. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! إِنْ كَانَ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو أَصَابَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَهْلِ الكِتَابِ يَوْمَ اليَرْمُوكِ، فَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَمِينًا عِنْدَ الأُمَّةِ عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن لَا يَجْعَلَ مَا وَجَدَ فِي الزَّامِلَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلَكِنْ كَانَ يَحْكِي عَنِ الزَّامِلَتَيْنِ مَا وَجَدَ فِيهِمَا، وَعَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا سَمِعَ مِنْهُ، لَا يُحِيلُ ذَاكَ عَلَى هَذَا وَلَا هَذَا عَلَى ذَاكَ، كَمَا [44/و] تأوَّلتَ عَلَيْهِ بِجَهْلِكَ، وَاللهُ سَائِلُكَ عَنْهُ. فَأَقْصِرْ أَيُّهَا الرَّجُلُ مِنْ طَعْنِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الرِّوَايَاتِ فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عِنْدَ الأُمَّةِ فِي مَوْضِعِ الجَرْحِ كَمَا ادَّعَيْتَ عَلَيْهِمْ -وَلَيْسُوا كَذَلِكَ-؛ مَا كَانَتْ لَكَ حُجَّةٌ عَلَى أَلْفٍ سِوَاهُمْ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِمَّنْ لَا تَجِدُ سَبِيلًا إِلَى الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا يَغِيظُكَ. وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الكَلِمَةُ مِنْ جَمِيعِ الفُقَهَاءِ أَنَّ شَهَادَاتِ العُدُولِ إِذَا شَهِدَ مَعَهُمْ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ لَا يَسْقُطُ. وَلَا يُجْعَلُ مَثَلُ السَّوْءِ بِأَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكُلُّهُمْ بِحَمْدِ الله عُدُولٌ، يُؤْتَمَنُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَالمَجْرُوحُ مَنْ جَرَحَهُمْ، وَلَا يُزَيَّفُ مِائَةُ أَلْف حَدِيثٍ مَشْهُورَةً مَحْفُوظَةً مَأْثُورَةً عَنِ الثِّقَاتِ إِذْ وُجِدَ فِيهَا مِائَةُ حَدِيثٍ مُنْكَرَةً، وَلا يُجْرَحُ أَلْفُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الإِتْقَانِ وَالحِفْظِ فِي الرِّوَايَةِ، إِذْ وُجِدَ فِيهِمْ عِشْرُونَ رَجُلًا يُنْسَبُونَ إِلَى الغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَقِلَّةِ الإِتْقَانِ. فَارْبَحِ العَنَاءَ فِيمَا لَيْسَ لَكَ فِيهِ شِفَاءٌ، وَكَمَا لَا يُبَهْرَجُ مِائَةُ دِينَارٍ إِذَا وُجِدَ دِينَارَانِ زَائِفَانِ، وَلَا نَحْكُمُ عَلَى جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ بِالجَرْحِ إِذْ وُجِدَ فِيهِمْ مَجْرُوحَان، وَلَكِن نُزَيِّفُ الزَّائِفَ مِنْهَا وَنُرَوِّجُ المُنْتَقَدَةَ.

فَمَا تَصْنَعُ بِهَذِهِ العَمَايَاتِ وَالأُغْلُوطَاتِ الَّتِي لَا تُجْدِي عَلَيْكَ شَيْئًا؟ فَإِنَّهُ لَا يُتْرَكُ طَلَبُ العِلْمِ وَالآثَارِ بِخُرَافَاتِكَ هَذِهِ، وَلَوْ كَانَ المَذْهَبُ فِيهِ مَا تَأَوَّلْتَ؛ لَحَرُمَ طَلَبُ العِلْمِ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَكَانَ يَدُلُّ قَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»: أَنَّ تَرْكَهُ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: «تَضَعُ المَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًا بِمَا يطْلب»: أَنَّهَا تَضَعُهُمَا سَخَطًا بِمَا يَطْلُبُ، وَيَدُلُّ قَوْلُهُ: «يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ العِلْمِ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الحُوتُ فِي البَحْرِ»: أَنَّهَا تَلْعَنُهُ وَتَدْعُو عَلَيْهِ. فَيَنْقَلِبُ فِي دَعْوَاكَ مَعَانِي الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ، وَالمَعْرُوفِ إِلَى المُنْكَرِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَعْنِ بِطَلَبِ العِلْمِ عَمَايَاتِ أَصْحَابِ الكَلَامِ وَأَهْلِ المَقَايِيسِ، وَلَكِنْ عَنَى بِهِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُ. أوَ لَيْسَ قَدِ ادَّعَيْتَ أَنَّ الزَّنَادِقَةَ قَدْ وَضَعُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ دَلَّسُوهَا عَلَى المُحَدِّثِينَ؟ فَدُونَكَ أَيُّهَا النَّاقِدُ البَصِيرُ الفَارِسُ النِّحْرِيرُ فَأَوْجِدْونَا مِنْهَا اثْنَيْ عَشَرَ حَدِيثًا، فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهَا، فَلِمَ تُهَجِّنُ العِلْمَ وَالدِّينَ فِي أَعْيُنِ الجُهَّالِ بِخُرَافَاتِكَ هَذِهِ؟ لِأَنَّ هَذَا الحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ دِينُ الله بَعْدَ القُرْآنِ، وَأَصْلُ كُلِّ فِقْهٍ، فَمَنْ طَعَنَ فِيهِ؛ فَإِنَّمَا يَطْعُنُ فِي دِينِ الله تَعَالَى. أَو لم تَسْمَعْ قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَهُ أَصْلَ الفَقْهِ؛ فَقَالَ: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فرُبَّ حَامل فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ». فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَصْلَ الفَقْهِ كُلِّهِ بَعْدَ القُرْآنِ حَدِيثَهُ الَّذِي تَدْفَعُهُ أَنْتَ وَإِمَامُكَ المَرِيسِيُّ.

(163) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَن ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ» (¬1). فَمَا ظَنُّكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ إِذَا لَقِيتَ [44/ظ] اللهَ تَعَالَى، وَقَدْ طَعَنْتَ فِي دِينِهِ، ثُمَّ لَمْ تَقْنَعْ بِجَرْحِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الرِّوَايَاتِ، حَتَّى تَعَرَّضْتَ فِي التَّابِعِينَ فَقُلْتَ: أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِغُلَامِهِ: «انْظُرْ أَلَّا تَكْذِبَ عَلَيَّ كَمَا كَذَبَ عِكْرِمَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ»، تُوهِمُ مَنْ حَوَالَيْكَ مِنَ الجُهَّالِ أَنَّهُ إِذَا قِيلَ هَذَا فِي مِثْلِ عِكْرِمَةَ، فَقَدْ بَطُلَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا، وَيُظَنُّ بِرُوَاتِهَا كُلِّهَا مَا ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ بِعِكْرِمَةَ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: إِنْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُجَوِّزُ توَهُّمَ عَلَى عِكْرِمَةَ -فِي دَعْوَاكَ-، فَمَا لَكَ رَاحَةٌ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ مِمَّا يَغِيظُكَ مِمَّن لَا تَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى الطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، مِثْلِ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ (¬2) وَعَطَاءٍ، وَطَاوُوسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَنُظَرَائِهِمْ، وَالعَجَبُ مِنْكَ إِذْ تَطْعَنُ فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا يُبْطِلُ دَعْوَاكَ، وَتَحْتَجُّ لِإِقَامَةِ دَعْوَاكَ بِرِوَايَةِ بِشْرٍ المَرِيسِيِّ عَنْ أَبِي شِهَابٍ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ الَّذِي لَا يُدْرَى منْ هُمْ، وَعَنِ الكَلْبِيِّ، عَن أبي صَالح، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَسَانِيدِ الَّتِي أَجْتمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى تَرْكِهَا. ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 14)، وأبو محمد الدارمي (397)، من طؤيق هشام، به. وأخرجه ابن أبي شيبة (27047)، والعقيلي في الضعفاء (1/ 7)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 278)، والخطيب في الجامع (1/ 129)، من طريق عبد الله بن عون. وأخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 414)، من طريق الأوزاعي كلاهما عن ابن سيرين، به. (¬2) في الأصل «سعيد بن المسيب» وكتب فوق المسيب «جبير» وهو الصواب.

فَكُلَّمَا وَافَقَ مِنْ ذَلِك رَأْيَكَ -وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا- صَارَ عِنْدَكَ فِي حَدِّ القَبُولِ، وَمَا خَالَفَ رَأْيَكَ مِنْهَا صَارَ مَتْرُوكًا عِنْدَكَ، وَإِنْ كَانَ عنْد الفُقَهَاء في حَدِّ القَبُولِ. هَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ، وجَوْرٌ جَسِيمٌ. وَادَّعَيْتَ أَيْضًا فِي دَفْعِ آثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ضُحْكَةً لَمْ يَسْبِقْكَ إِلَى مِثْلِهَا عَاقِلٌ مِنَ الأُمَّةِ، وَلَا جَاهِلٌ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا تَقُومُ الحُجَّةُ مِنَ الآثَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلا كُلَّ حَدِيثٍ لَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ كَذِبٌ لَطُلِّقَت امْرَأَتُهُ (¬1). ثُمَّ قُلْتَ: وَلَوْ حَلَفَ رَجُلٌ بِهَذِهِ اليَمِينِ عَلَى حَدِيثٍ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صَحِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ كَذِبٌ مَا طُلِّقَتِ امْرَأَتُهُ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ النَّاقِضُ عَلَى نَفْسِهِ: قَدْ أَبْطَلْتَ بِدَعْوَاكَ هَذِهِ جَمِيعَ الآثَارِ الَّتِي تُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مَا احْتَجَجْتَ مِنْهَا لِضَلَالَتِكَ وَمَا لم تَحْتَجَّ، وَلَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يُلْتَفَتُ إِلَى تَأْوِيلِهِ، لَقَدْ سَنَنْتَ لِلنَّاسِ سُنَّةً، وَحَدَدْتَ لَهُمْ فِي الأَخْبَارِ حَدًّا لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِثْلَهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَالَمِينَ قَبْلَكَ، وَلَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُخْتَارٍ مِنَ الأَئِمَّةِ فِي دَعْوَاكَ أَلَّا يَخْتَارَ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يَبْدَأَ بِاليَمِينِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَيَحْلِفَ أنَّ هَذَا الحَدِيثَ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ البَتَّةَ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا طُلِّقَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنْ لَمْ تُطَلَّقْ تَرَكَهُ. وَيْلَكَ! إِنَّ العُلَمَاءَ لَمْ يَزَالُوا يَخْتَارُونَ هَذِه الآثَار وَيَسْتَعْمِلُونَهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَصَحِّهَا؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَه البَتَّةَ، وَعَلَى أَضْعَفِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقُلْهُ البَتَّةَ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَأْلُونَ الجَهْدَ فِي الأَخْبَارِ الأَحْفَظِ منها، والأَمْثَل فَالْأَمْثَل مِنْ رُوَاتِهَا فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَرَوْنَ أَنَّ ¬

(¬1) في الأصل «لَمْ تُطَلَّقِ امْرَأَتُهُ». وكتب في الحاشية «صوابه طلقت امرأته».

الأَيْمَانَ الَّتِي ألزَمْتَهُمْ فِيهَا بِطَلَاقِ نِسَائِهِمْ مَرْفُوعَةٌ عَنْهُمْ حَتَّى ابْتَدَعْتَهَا أَنْتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَكَ إِلَيْهَا مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ. فَفِي دَعْوَاكَ يَجِبُ عَلَى القُضَاةِ وَالحُكَّامِ أَنْ لَا يَحْكُمُوا بِشَهَادَةِ العُدُولِ [45/و] عِنْدَهُمْ إِلَّا بِشَيْءٍ يُمَكِّنُ القَاضِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَنَّ الشَّاهِدَ بِهِ قَدْ صَدَقَ، أَوْ أَنَّهُ إِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا كَذِبٌ لَمْ تُطَلَّقِ امْرَأَتُهُ. وَيْحَكَ! مَنْ سَبَقَكَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي اتِّباع الرِّوَايَاتِ وَاخْتِيَارِ مَا يَجِبُ مِنْهَا؟ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَى القَاضِي أَنْ يَفْحَصَ عَنِ الشُّهُودِ وَيَحْتَاطَ؛ فَمَنْ عُدِّلَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ، -وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي شَهَادَتِهِ فِي عِلْمِ اللهِ بَعْدَمَا لَمْ يَطَّلِعِ القَاضِي مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ-، وتُرَد شَهَادَةُ المَجْرُوحِ -وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي شَهَادَتِهِ فِي عِلْمِ الله بَعْدَمَا لَمْ يَطَّلِعِ القَاضِي عَلَى صِدْقِهِ-، وَكَذَلِكَ المَذْهَبُ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الآثَارِ وَقَبُولِهَا مِنْ رُوَاتِهَا، لَا مَا تَأَوَّلْتَ أَنْتَ فِيهَا مِنْ هَذِهِ السُّخْرِيَةِ بِنَفْسِكَ وَالضَّحِكِ. وادَّعى المُعَارِضُ: أَنَّ مِنَ الأَحَاديِثِ الَّتِي تُروَى عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً مُسْتَشْنَعَةً جِدًّا، لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا، فألَّف مِنْهَا أَحَادِيثَ بَعْضُهَا مَوْضُوعَةٌ، وَبَعْضُهَا مَرْوِيَّةٌ تُرْوَى، وَتَوَقَّفَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى تَفْسِيرِهَا، يُوهِمُ مَنْ حَوَالَيْهِ مِنَ الأَغْمَارِ أَنَّ آثَارَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُلَّهَا -مَا رُوِيَ مِنْهَا مِمَّا يَغِيظُ الجَهْمِيَّةَ فِي الرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ، وَالصِّفَاتِ الَّتِي رَوَاهَا العُلَمَاءُ المُتْقِنُونَ وَرَأَوْهَا حَقًّا-، سَبِيلُهَا سَبِيلُ هَذِهِ المُنْكَرَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا، وَلَا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا بَعْدَمَا أقرَّ أَنَّهَا مُنْكَرَاتٌ مُسْتَشْنَعَةٌ، يُفَسِّرُهَا وَيَطْلُبُ لَهَا مَخَارِجَ يَدْعُو إِلَى صَوَابِ التَّأْوِيلِ فِي دَعْوَاهُ. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! وَمَا يَدْعُوكَ إِلَى تَفْسِيرِ أَحَادِيثَ زَعَمْتَ أَنَّهَا مُسْتَشْنَعَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا عِنْدَكَ، وَلَا يَجُوزُ التحدث بِهَا؟! فَلَوْ دَفَعْتَهَا بِعِلَلِهَا

وَشَنَعِهَا عِنْدَكَ، كَانَ أَوْلَى بِكَ مِنْ أَنْ تَسْتَنْكِرَهَا وَتُكَذِّبَ بِهَا، ثُمَّ تُفَسِّرُهَا ثَانِيَةً كَالمُثْبِتِ لَهَا عَلَى وُجُوهٍ وَمَعَانٍ مِنَ المُحَالِ وَالضَّلَالِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْكَ إِلَى مِثْلِهَا أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ. فَادَّعَيْتَ أَنَّ مِنْ تِلْكَ المُنْكَرَاتِ؛ مَا رَوَى أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «خَلَقَ الله المَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ الذِّرَاعَيْنِ وَالصَّدْرِ، قُلْتَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ شعر الذراعين، والصدر» (¬1). فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: إِذَا كَانَ هَذَا الحَدِيثُ عِنْدَكَ مِنَ المُنْكَرَاتِ الَّتِي تَتْرُكُ مِنْ أَجْلِهِ جُلَّ الرِّوَايَاتِ، فلِم فَسَّرْتَهُ كَأَنَّكَ تُثْبِتُهُ؟ فَقُلْتَ: تَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا مُحْتَمَلٌ عَلَى مَا يُقَالُ فِي أَسْمَاءِ النُّجُومِ الَّذِي يُسَمَّى مِنْهَا الذِّرَاعُ وَالجَبْهَةُ. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! اسْتَنْكَرْتَ الحَدِيثَ، وَتَفْسِيرُكَ أَنْكَرُ مِنْهُ!! أَخَلَقَ الله المَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ النُّجُومِ، وَشُعُورِهَا الَّتِي يُسمى الذِّرَاع وَالجَبْهَة، أَمْ لِلنُّجُومِ شُعُورٌ فَيُخْلَقُ مِنْهَا المَلَائِكَةُ؟ لَقَدْ أَغْرَبْتَ بِهَذَا التَّفْسِير عَلَى جَمِيعِ ¬

(¬1) صحيح إلى عبد الله بن عمرو، أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1084) من طريق أبي أسامة، وابن منده في الرد على الجهمية (33)، من طريق ابن إسحاق، وفي (34)، من طريق أبي خالد الأحمر، ثلاثتهم عن هشام، به. قلت: قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة عقب حديث (458): «وعن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر. قلت: فهذا كله من الإسرائيليات التي لا يجوز الأخذ بها، لأنها لم ترد عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -». اهـ قلت: وقد يكون سمعه ابن عمرو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو افترضنا أنه من الإسرائيليات، وكان فيه ما يُسْتَنْكَر، فهل الظن في مثل عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن يرويه دون أن يبين ما فيه من نكارة، وهل رواه وأذاعه إلا وهو يعلم أنه ثابت؟!

المُفَسِّرِينَ، وَأَنْدَرْتَ، وَكِدْتَ أَنْ تَقْلِبَ العَرَبِيَّةَ ظَهْرَهَا لِبَطْنِهَا إِنْ جَازَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ المُسْتَحِيلَاتُ: أَنَّ الله خَلَقَ المَلَائِكَةَ مِنْ شُعُورِ النُّجُومِ الَّذي تُسَمِّي ذِرَاعًا. وَاحْتَجَجْتَ فِي رَدِّ آثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَرَاهِيَةِ طَلَبِهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِجَمْعِهَا، بِحِكَايَةٍ حَكَيْتَهَا عَنْ سُفْيَانَ [45/ظ] الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ عِدَدِ المَوْتِ». وَبِقَوْلِ شُعْبَةَ: «إِنَّ هَذَا الحَدِيثَ يَصُدُّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَن الصَّلَاة، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟»، وَبِقَوْلِ ابْنِ المُبَارَكِ: «اللهمَّ اغْفِرْ لِي رِحْلَتِي فِي الحَدِيثِ». فَتَوَهَّمْتَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا طَعْنٌ فِي الآثَارِ وَكَرَاهِيَةٌ مِنْهُم لجمعها وَاسْتِعْمَالِهَا، وَقَدْ أَخْطَأْتَ الطَّرِيقَ وَغَلِطْتَ فِي التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الحِكَايَاتِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الآثَارَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا طَلَبَهُ أَفْضَلَ الأَعْمَالِ، وَلَكِنْ خَافُوا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَطَ ذَلِكَ بَعْضُ الرِّيَاءِ وَالعُجْبِ وَالِاسْتِطَالَةِ بِهِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ فِيهِ، أَوْ أَنَّهُمْ إِذَا جَمَعُوهَا وَكَتَبُوهَا لَمْ يَقُومُوا بِالعَمَلِ بِهَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَصِيرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا أَزْرَوْا فِيمَا حَكَيْتَ عَنْهُمْ بِأَنْفِسِهِمْ لَا بِالعِلْمِ وَالأَحَادِيثِ، كَمَا تَفْعُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُمْ مِنْ سَيِّئِ الأَعْمَالِ -كَمَا ادَّعيت عَلَيْهِمْ- مَا صَنَّفُوهَا وَنَقَلُوهَا إِلَى الأَنَامِ، وَلَا دَعَوْهُمْ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا وَالأَخْذِ بِهَا، فَيُشْرِكُوهُمْ فِي إِثْم مَا وَقَعُوا فِيهِ، وَمَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَّا جَاهِلٌ مِثْلُكَ بَعْدَ الَّذِي رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «حدِّثوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ» (¬1)، وَقَالَ: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَبَلَّغَهَا غَيْرَهُ» (¬2)، وَقَوْلَهُ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُم الغَائِب» (¬3)، ¬

(¬1) أخرجه مسلم (3004)، وغيره، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه ابن ماجه (236)، وأحمد (13350)، وغيرهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - بسند صحيح. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري (205)، ومسلم (1679)، وغيرهما من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -.

وَقَوْلَهُ: «طَلْبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» (¬1)، وَقَوْلَهُ: «مَا سَلَكَ رجلٌ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهَا عِلْمًا إِلَّا سهَّل اللهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ» (¬2)، وَقَوْلَهُ: «إِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ؛ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ» (¬3). وَهِيَ هَذِهِ الآثَارُ، وَهِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ بَعْدَ القُرْآنِ، فَمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي حضَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى طَلَبِهَا وَإِبْلَاغِهَا وَأَدَائِهَا إِلَى مَنْ يَسْمَعُهَا عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ مَا حكيت عَن سُفْيَانَ وَشُعْبَةَ وَابْنِ المُبَارَكِ عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلْتَهُ. وَيْحَكَ! إِنَّمَا قَالَ القَوْمُ هَذَا تَخَوُّفًا عَلَى أَنْفِسِهِمْ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أُوتُوا مِنْهُ الكَثِيرَ فَلَمْ يُوَفَّقُوا لِاتِّبَاعِهِ كَمَا يَجِبُ، وَلَمْ يَتَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ العُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؛ مِنَ السَّكِينَةِ وَالوَقَارِ وَالوَرَعِ وَالعِبَادَةِ، وَلَمْ يَتَأَدَّبُوا بِأَحْسَنِ آدَابِهِمْ. فَقَدْ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ: «طَلَبْنَا العِلْمَ فَأَصَبْنَا مِنْهُ شَيْئًا، فَطَلَبْنَا الأَدَبَ فَإِذَا أَهْلُهُ قَدْ مَاتُوا». وَكَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: «زَيَّنَ العِلْمَ حِلْمُ أَهْلِهِ». وَكَمَا قَالَ ابْن سِيرِين: «ذهب العِلْمُ وَبَقِيَ مِنْهُ غُبَّرَاتٌ فِي أَوْعِيَةِ سُوءٍ». وَكَانَ تَخَوُّفُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالحِكَايَاتِ الَّتِي حَكَيْتَهَا عَنْهُمْ، أنهم عَسَى أَنْ لَمْ يُرْزَقُوا هَذِهِ الآدَابَ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِلْمُ، حَتَّى يَخْلُصَ لِوَجْهِ الله تَعَالَى، فكَانَ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (224)، وغيره بأسانيد لا تخلو من ضعف، وقال النووي أن معناه صحيح وإن كان إسناده ضعيف، وقال المزي، روي من طرق تبلغ رتبة الحسن. (¬2) أخرجه مسلم (2699)، وأبو داود (3643)، وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) أخرجه الترمذي (2535، 2536)، وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/ 98)، وغيرهما من حديث صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه -.

ذَلِكَ مِنْهُمْ إِعْظَامًا لِلْعِلْمِ وَإِجْلَالًا لَهُ، لَا اسْتِخْفَافًا بِهِ وَتَعْرِيضًا لِإِبْطَالِهِ، كَمَا فَعَلْتَ أَنْتَ. (164) وَسَمِعْتُ الطَّيَالِيسِيَّ أَبَا الوَلِيدِ، أَنَّهُ سمع ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: «طَلَبْتُ هَذَا العِلْمَ يَوْمَ طَلَبْتُهُ لِغَيْرِ الله، فَأَعْقَبَنِي منه مَا تَرَوْنَ» (¬1). قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يقول: لَمْ أَعْرِفْ لِنَفْسِي يَوْمَ طَلَبْتُهُ تِلْكَ النِّيَّةَ الخَالِصَةَ، فَأَعْقَبَنِي مِنْهُ أَنِّي اشْتَغَلْتُ بِتَحْدِيثِ النَّاسِ بِهِ، لَا بِالعَمَلِ بِهِ، وَالزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالعِبَادَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْال عَنْ شَيْءٍ». أَيْ: [46/و] لِمَا أَنَّ الَّذِي سَألتُ عَنْهُ صَارَ عَلَيَّ حُجَّةً. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ أَيْضًا: «إِنَّا لَسْنَا بِفُقَهَاء، وَلَكنَّا رُوَاةُ الحَدِيثِ». وَكَمَا قَالَ الحَسَنُ: «هَلْ رَأَيْتَ فقهيًا قَطُّ؟ إِنَّمَا الفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الآخِرَةِ، لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي، بِنَشْرِ حُكْمِ الله، فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ حَمِدَ الله، وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ الله». فَتَخَوَّفَ القَوْمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا أَهْلَهُ، وَمَا زَادَهُمْ تَخَوُّفُهُمْ مِنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ إِلَّا حُبًّا وعِظمًا، وَلِلْعِلْمِ تَوْقِيرًا وَإِجْلَالًا؛ إِذْ خَافُوا أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْ صَالحِي أَوْعِيَتِهِ. وَرَوَى المُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الحَسَنِ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ فِيمَا مَضَى، وفِيمَا بَقِي مُؤمِنًا ازْدَادَ إحساناً إِلَّا ازْدَادَ شَفَقَةً، وَلَا مَضَى مُنَافِقٌ وَلَا بَقِيَ ازْدَادَ إِسَاءَةً إِلَّا ازْدَادَ بِالله غِرَّةً». ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 371)، من طريق أبي الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك.

(165) حَدَّثَنَاه سَعْدَوَيْه، عَن المُبَارَكِ بنِ فَضَالَةَ، عَنِ الحَسَنِ (¬1). وَاحْتَجَّ المُعَارِضُ أَيْضًا لِمَذْهَبِهِ الأَوَّلِ بِحَدِيثٍ مُسْتَنْكَرٍ تَعَجَّبَ الجُهَّالُ مِنْهُ، وَيُوهِمُهُمْ أَنَّ مَا رَوَى أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الصِّحَاحِ المَشْهُورَةِ مِمَّا يُنْقَضُ بِهَا عَلَى الجَهْمِيَّةِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الله تَعَالَى مُسْتَنْكَرٌ مَجْهُولٌ مَهْجُورٌ مِثْلُ هَذَا الحَدِيثِ. فَزعم أَن حَمَّاد بن سَلَمَةَ، رَوَى عَنْ أَبِي المُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ الله، مِمَّ رَبُّنَا؟ فَقَالَ: «مِنْ مَاءٍ مَرُورٍ، لَا مِنْ أَرْضٍ وَلَا مِنْ سَمَاءٍ، خَلَقَ خَيْلًا فَأَجْرَاهَا، فَعَرَقَتْ فَخَلَقَ نَفسَهُ مِنْ ذَلِك العرَق» (¬2). فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: لَوْ كَانَ لَكَ فَهْمٌ وَعَقْلٌ لَمْ تَكُنْ تُذِيعُ فِي النَّاسِ مِثْلَ هَذَا الحَدِيثِ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ عِنْد العَلمَاء، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ حَمَّادٍ إِلَّا كُلُّ مَقْرُوفٍ فِي دِينِهِ، فَيَظُنُّ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْكَ أَنَّ لَهُ أَصْلًا، فَيُضَلُّ بِهِ أَوْ يَضِلُّ، وَهَذَا الحَدِيثُ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَلَمَةَ، وَلَا نَدْرِي مِنْ أَيْنَ وَقَعَ إِلَى المُعَارِضِ؟ وَمِمَّا يَسْتَنْكِرُ هَذَا الحَدِيثَ أَنَّهُ مُحَالُ المَعْنَى، بَلْ هُوَ كُفْرٌ لَا يَنْقَادُ وَلَا يَنْقَاسُ، فَكَيْفَ خَلَقَ الخَيْلَ الَّتِي عَرَقَتْ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ فِي دَعْوَاكَ؟. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! إِنَّا نُكَفِّرُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كَلَامَ الله مَخْلُوقٌ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ: نَفْسَهُ؟ لَا جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا! عَمَّا تُورِدُ عَلَى قُلُوبِ الجُهَّالِ، مِمَّا لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهِ، فَعَمَّنْ رَوَيْتَهُ؟ عَنْ حَمَّاد؟ وَمِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَسَمِّه لَنَا نَعْرِفْهُ، فَإِنَّا لَا نَعْرِفُ إِلَّا أَنَّ اللهَ ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (579)، في آخر قصة مقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقال الهيثمي في المجمع (9/ 76): إسناده حسن. (¬2) موضوع لعن الله من وضعه! كما قال الذهبي وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (231)، من طريق محمد بن شجاع الثلجي الكذاب الوضاع.

الأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، فَكَيْفَ كَانَ هَذَا العَرَقُ قَبْلَهُ، حَتَّى خَلَقَ مِنْهُ نَفسَه؟ وَهَذَا الحَدِيثُ لَا يُحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِهِ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ. ثُمَّ لَمْ تَرْض بِمَا قُلْتَ وَرَوَيْتَ مِمَّا تُشَنِّعُهُ، حَتَّى ادَّعَيْتَ لَهُ تَفْسِيرًا عَنْ إِمَامِكَ الثَّلْجِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَمِلُ تَأْوِيلُ هَذَا الحَدِيثَ أنْ يَكُونَ الكُفَّارُ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ آلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ الله - عز وجل - وَذَلِكَ أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ وَأَحْبَارَهُمْ كَانُوا عِنْدَهُمْ كَالأَرْبَابِ، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. فَيُقَالُ لِهَذَا الثَّلْجِيِّ الجَاهِلِ: وَيْلَكَ! يَخْلُقُ اللهُ أُولَئِكَ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ عَرَقِ الخَيْلِ الَّذِي أَجْرَى، وَفِي الحَدِيثِ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ لَا مِنْ أَرْضٍ ولَا مِنْ سَمَاءٍ، فَهَلْ شَكَّ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آَدَم أَنَّ اللهَ خَلَقَ [46/ظ] آدَمَ مِنَ الأَرْضِ، وَذُرِّيَّتَهُ من نَسْله؟. أَو لم يعْلَمْ -أَيُّهَا الثَّلْجِيُّ- رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا خَلَقَ اللهُ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله؟ أَو لم يَدْرِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، حَتَّى يَقُولَ: خَلَقَهُمُ اللهُ مِنْ عَرَقِ الخَيْلِ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمْ مِنْ أَرْضٍ وَلَا سَمَاءٍ؟ لَقَدْ ضَلَّ هَذَا الثَّلْجِيُّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَضَلَّ بِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَوْ فَسَّرَ هَذَا صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغِ الحِنْثَ؛ مَا زَادَ عَلَى هَذَا جَهْلًا وَاسْتِحَالَةً، هُوَ كُفْرٌ أَضَافَهُ هَذَا الثَّلْجِيُّ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وَيْلَكَ! نَحْنُ نَدْفَعُ الحَدِيثَ وَنَسْتَنْكِرُهُ، وَأَنْتَ تَسْتَشْنِعُهُ، ثُمَّ تُثْبِتُهُ وَتُفَسِّرُهُ وَتَلْتَمِسُ لَهُ المَخَارِجَ، كَيْ تَصُونَهُ، وَلَئِنْ كَانَ هَذَا الحَدِيثُ مُنْكَرًا، فَتَفْسِيرُكَ لَهُ أَنْكَرُ. وَاحْتَجَّ المُعَارِضُ أَيْضًا فِي دَفْعِ آثَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَتَقْلِيدِ رُوَاتِهَا مِنَ العُلَمَاءِ بِحِكَايَةٍ حَكَاهَا عَنْ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ المَرِيسِيِّ، كَانَ يَحْكِيهَا عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ،

فَقَالَ مُعْجَبًا بِسُؤَالِهِ: سَأَلتُ بِشْرَ بْنَ غِيَاثٍ عَن التَّقْلِيد فِي العِلْمِ، فَقَالَ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ لِلْعُلَمَاءِ، حَتَّى يَعْرِفَ هَذَا العَالِمُ أَصْلَهُ، وَمَعْرِفَتَهُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا التَّقْلِيدُ لِلْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَافْتَخَرَ المُعَارِضُ بِسُؤَالِ بِشْرٍ عَنْ هَذَا كَأَنَّهُ سَأَلَ عَنْهَا الحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْهَا جَهْمِيًّا جَاهِلًا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، إِنْ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ خَطَؤُهُ، وَإِنْ أَصَابَ لَمْ يُلْتَفَتْ لِإِصَابَتِهِ؛ لِأَنَّهُ المَأْبُونُ فِي دِينِ الله المُتَّهَمُ عَلَى كِتَابِ الله، الطَّاعِنُ في سُنَّةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَكَيْفَ تَسْتَفْتِي المَرِيسِيَّ، وَقَدْ رَوَيْتَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ هَمَّ بِأَخْذِهِ، وَتَنْكِيلِهِ فِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ، حَتَّى فَرَّ مِنْهُ إِلَى البَصْرَةِ؟ فَإِنْ يَكُنْ مَا قَالَ بِشْرٌ حَقًّا فَبُؤْسًا لَكَ ولأَصْحَابِكَ الَّذينَ قَلَّدْتُمْ دِينَكُمْ أَبَا حَنِيفَةَ، وَأَبَا يُوسُفَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ فِي أَكْثَرِ مَا تُفْتُونَ مِمَّا لَا تَقَعُونَ مِنْ أَكْثَرِهِ عَلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. غَيْرَ أنَّا نَقُولُ: إِنَّ عَلَى العَالِمِ بِاخْتِلَافِ العُلَمَاءِ، أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَفْحَصَ عَنْ أَصْلِ المَسْأَلَةِ، حَتَّى يَعْقِلَهَا بِجَهْدِهِ مَا أَطَاقَ، فَإِذَا أَعْيَاهُ أَنْ يَعْقِلَهَا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرَأْيُ مَنْ قَبْلَهَ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ رَأْيِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: «أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ دِينَهُ رَجُلًا، إِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنْ كُنْتُم لَابُدَّ فَاعِلِينَ، فَالأَمْوَاتَ، فَإِنَّ الحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الفِتْنَةُ» (¬1). وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا: «مَنْ عُرِضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ، فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ الله، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي كِتَابِ الله، فَفِي سُنَّةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ الله، فَفِيمَا ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (8764)، وعنه أبو نعيم في الحلية (1/ 136)، من طريق الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.وإسناده صحيح.

قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ قَبْلَهُ» (¬1). فَأَبَاحَ ابْنُ مَسْعُودٍ التَّقْلِيدَ لِلْأَمْوَاتِ، وَقَضَاءِ الصَّالِحِينَ عَلَى التَّحَرِّي وَالِاحْتِيَاطِ. فمَنْ هَذَا المَرِيسِيُّ الضَّالُّ الَّذِي يَحْظُرُه عَلَى الأُمَّةِ؟ وَمن هو حَتَّى يُسْتَحَلَّ بِقَوْلِهِ شَيْءٌ أَوْ يُحَرَّمَ؟ وَقَالَ شُرَيْحٌ وَابْنُ سِيرِينَ: «لَنْ نَضِلَّ مَا تَمَسَّكْنَا بِالأَثَرِ». [47/و] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «مَا الأَمْرُ إِلَّا الأَمْرُ الأَوَّلُ، لَوْ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ لم يَغْسِلُوا إِلَّا الظُفُرَ مَا جَاوَزْنَاهُ، كَفَى إِزْراءً عَلَى قَوْمٍ أَنْ تَتَخَالَفَ أَعْمَالُهُمْ». فالِاقْتِدَاءُ بِالآثَارِ تَقْلِيدٌ! فَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِي دَعْوَى المَرِيسِيِّ أَنْ يَقْتَدِيَ الرَّجُلُ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الفُقَهَاءِ، فَمَا مَوْضِعُ الِاتِّبَاعِ الَّذِي قَالَه الله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]؟ وَمَا يَصْنَعُ بِآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ، بَعْدَ أَنْ لَا يَسَعَ الرَّجُلُ اسْتِعْمَالَ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا مَا اسْتَنْبَطَهُ بِعَقْلِهِ فِي خِلَافِ الأَثَرِ؟ إِذًا بَطَلَتِ الآثَارُ وَذَهَبَتِ الأَخْبَارُ، وَحُرِّمَ طَلَبُ العِلْمِ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَزِمَ النَّاسُ المَعْقُولَ، مِنْ كُفْرِ المَرِيسِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَالمُسْتَحِيلَاتِ مِنْ تَفَاسِيرِهِم، فَقَدْ عرضنَا كَلَامَهُم عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّة، فَأَخْطَئُوا فِي أَكْثَرِهَا الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَمْ يُصِيبُوا السُّنَّةَ. (166) حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ المَصْرِيُّ، عَنِ الهِقْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: مَا رَأْيُ امْرِئٍ فِي أَمْرٍ بَلَغَهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا اتِّبَاعه، ولَوْ لم ¬

(¬1) أخرجه النسائي (8/ 230)، وعبد الرزاق (15295)، والدارمي أبو محمد (167)، والحاكم (4/ 106)، وصححه ووافقه الذهبي، وغيرهم.

يَكُنْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ فِيهِ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا أَوْلَى فِيهِ بِالحَقِّ مِنَّا؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى أَثْنَى عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100]، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: بَلْ نَعْرِضُهَا عَلَى رَأْيِنَا فِي الكِتَابِ، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا صَدَّقْنَاهُ وَمَا خَالَفَهُ تَرَكْنَاهُ، وَتِلْكَ غَايَةُ كُلِّ مُحدِث فِي الإِسْلَامِ: رَدُّ مَا خَالَفَ رَأْيَهُ من السّنة» (¬1). وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِلْحَسَنِ البَصْرِيِّ: لَا تُفْتِ النَّاسَ بِرَأْيِكَ، فَقَالَ الحَسَنُ: «رَأْيُنَا لَهُمْ خَيْرٌ مِنْ آرَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِم» (¬2). وَكَيْفَ تَسْأَلُ أَيُّهَا المُعَارِضُ بِشْرًا عَنِ التَّقْلِيدِ، وَهُوَ لَا يُقَلِّدُ دِينَهُ قَائِلَ القُرْآنِ وَمُنْزِلَهُ، وَلَا الرَّسُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ، حَتَّى عَارَضَهُمَا فِي صِفَاتِ الله - عز وجل - وَكَلَامِهِ بِخِلَافِ مَا عَنَيَا، وَفَسَّرَ عَلَيْهِمَا بِرَأْيِهِ خِلَافَ مَا أَرَادَا؟ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ: إِنِّي سَألتُ بِشْرًا المَرِيسِيَّ عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]؟ فَقَالَ بِشْرٌ: كَوَّنَهُ كَمَا شَاءَ بِغَيْر «كُنْ». أَو مَا وَجَدْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِيمَنْ رَأَيْتَ مِنَ المَشَايِخِ شَيْخًا أَرْشَدَ مِنْ بِشْرٍ وَأَعْلَمَ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ مِنْ بِشْرٍ الَّذِي كَفَرَ بِرَبٍّ قَالَ قَوْلًا لِشَيْءٍ قَطُّ: كُنْ فَكَانَ؟، وَهَذَا المَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ المَعْرُوف فِي كُلِّ مِصْرٍ: أَنَّ الله لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ قَطُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا قَطُّ، فَسُؤَالُكَ بِشْرًا عَن هَذِه الآيَة من بين المَشَايِخِ؛ دَلِيلٌ مِنْكَ عَلَى الظِّنَّةِ وَالرَّيْبَةِ القَدِيمَةِ، وَأَنَّكَ لَمْ تَسْألْهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ ضَمِيرٍ مُتَقَدِّمٍ، أَفَلَا سَألتَ عَنْهُ مَنْ أَدْرَكْتَ مِنَ المَشَايِخِ، مِثْلَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ ¬

(¬1) أخرجه الهروي في ذم الكلام (3/ 11)، من طريق المصنف، به. (¬2) أخرج هذا الكلام ابن سعد في الطبقات (9/ 166)، بإسناد صحيح.

أَهْلِ الدِّينِ وَالفَضْلِ وَالمَعْرِفَةِ بِالسُّنَّةِ؟! ثُمَّ ادَّعَيْتَ أَنَّ بِشْرًا قَالَ: مَعْنَاهُ أَنْ يُكَوِّنَهُ حَتَّى يَكُونَ، أي مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ يَقُولُ لَهُ: «كُنْ»، وَلَكِنْ يُكَوِّنُهُ عَلَى مَا أَرَادَ. ثُمَّ فَسَّرْتَ قَوْلَ بِشْرٍ هَذَا، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ الأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً مِنْ «كُنْ»، وَلَكِنَّ اللهَ كَوَّنَهَا عَلَى مَا أَرَادَ [47/ظ] مِنْ غَيْرِ كَيْفِيَّةٍ، وَلِلْكَلَامِ وُجُوهٌ بِزَعْمِكَ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: قَدِ افْتَرَيْتُمَا على الله جَمِيعًا فِيمَا تَأَوَّلْتُمَا مِنْ ذَلِكَ، وَجَحَدْتُمَا قَوْلَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40] إِذِ ادَّعَيْتُمَا أَنَّ الأَشْيَاءَ لَا تَكُونُ بِقَوْلِهِ: «كُنْ» وَلَكِن يُكَوِّنَهُ بِإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَوْلِ: «كُنْ». وَهَذَا هُوَ الجُحُودُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى جَمَعَ فِيهِ القَوْلَ وَالإِرَادَةَ، فَقَالَ: {إِذَا أَرَدْنَاهُ} فَسَبَقَتِ الإِرَادَةُ قَبْلَ «كُنْ»، ثُمَّ قَالَ: «كُنْ» فَكَانَ بِقَوْلِهِ وَإِرَادَتِهِ جَمِيعًا: فَكَيْفِيَّةُ هَذَا كَمَا قَالَ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ: إنَّهُ إِذَا قَالَ كُنْ فَكَانَ، لَا مَا تَأَوَّلَهُ أَكْذَبُ الكَاذِبِينَ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ مِمَّا يَحْتَاجُ النَّاسُ فِيهَا إِلَى تَفْسِير، وَلَا هِيَ من العَوِيِصِ الَّذِي يَجْهَلُهَا العَوَامُّ، فَكَيْفَ الخَاصُّ مِنَ العُلَمَاءِ؟ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يُشْكِلُ عَلَى رَجُلٍ رُزِقَ شَيْئًا مِنَ العَقْلِ وَالمَعْرِفَةِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ مِثْلَ المَرِيسِيِّ الَّذِي لَا يَعْرِفُ رَبَّهِ، فَكَيْفَ يَعْرِفُ قَوْلَهُ؟ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ المَرِيسِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَنْ يُقِرُّوا بِهَذَا؛ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَتى مَا أقْرَرْنَا أَنَّ اللهَ قَالَ لِشَيْءٍ «كُنْ» -كَلَامًا مِنْهُ- لَزِمَنَا أَنْ نُقِرَّ بِالقُرْآنِ، والتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ أَنَّهُ نَفْسُ كَلَامِهِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الله -فِي دَعْوَاهُمْ- لَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ

وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا المُعَارِضِ بِسُؤَالِ بِشْرٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ قَدِيمًا فِي شَبَابِهِ، وَقَدْ عَرَفَ مَذْهَبَ بِشْرٍ أَنَّهُ اضْطَمَرَ هَذَا الرَّأْيَ فِي أَوَّلِ دَهْرِهِ وَلَيْسَ بِرَأْيٍ اسْتَحْدَثَهُ حَدِيثًا. وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللهُ: إِنَّ رَحْمَتِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، وَغَضَبِي كَلَامٌ، إِنَّمَا قَوْلِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُون» (¬1). ادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا فِي قَولِ الله تَعَالَى لِعِيسَى بن مَرْيَمَ: «رُوحُ الله وَكلِمَتُهُ» فَقَالَ: يَقُولُ أَهْلُ الجُرْأَةِ فِي مَعْنَى «كَلِمَتُهُ»: أَيْ بِكَلِمَتِهِ، وَإِنْ سُئِلوا عَنِ المَخْرَجِ مِنْهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلُوا عَلَى الله بِرَأْيِهِمْ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: أوَ يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى تَفْسِيرٍ وَمَخْرَجٍ؟ قَد عَقِلَ تَفْسِيرَهُ عَامَّةُ مَنْ آمَنَ بِالله: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: «كُنْ فَيَكُونُ»، وَمَتَى لَا يَقُولُ لَهُ: «كُنْ»؛ لَا يَكُونُ، فَإِذَا قَالَ: «كُنْ»؛ كَانَ، فَهَذَا المَخْرَجُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بِإِرَادَتِهِ وَبِكَلِمَتِهِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُ الكَلِمَةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَلَكِنْ بِالكَلِمَةِ كَانَ، فَالكَلِمَةُ مِنَ الله «كُنْ» غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَالكَائِنُ بِهَا مَخْلُوقٌ. وَقَوْلُ الله فِي عِيسَى «رُوحُ الله، وَكَلِمَتُهُ» فَبَيْنَ الرُّوحِ وَالكَلِمَةِ فَرْقٌ فِي المَعْنَى؛ لِأَنَّ الرُّوحَ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا مَخْلُوقٌ امْتَزَجَ بِخَلْقِهِ، وَالكَلِمَةُ مِنَ الله غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ تَمْتَزِجْ بِعِيسَى، وَلَكِنْ كَانَ بِهَا، وَإِنْ كَرِهَ لِأَنَّهَا مِنَ الله أَمْرٌ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قُلْنَا، لَا عَلَى مَا ادَّعَيْتَ عَلَيْنَا مِنَ الكَذِبِ وَالأَبَاطِيلِ. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (21367)، وهناد في الزهد (905)، والطبراني في الدعاء (15)، وغيرهم من حديث ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر، به مطولا، بلفظ «عطائي كلام، وعذابي كلام».وهذا إسناد ضعيف. وأصل الحديث في صحيح مسلم -حديث إني حرمت الظلم على نفسي- من حديث أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، ولكن دون ذكر موطن الشاهد.

ثُمَّ عَادَ المُعَارِضُ أَيْضًا إِلَى إِنْكَارِ مَا عَنَى الله تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]، فَادَّعَى: أَنَّ المَجِيءَ وَالِانْتِقَالَ مِنْ مَكَان إِلَى مَكَانِ؛ صِفَةُ المَخْلُوقِ، وَالله يَأْتِي فِي ظُلُلٍ مِنَ الغَمِامِ، فَتَثْبُتُ الظُّلَلُ وَمَجِيئُهَا؛ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ. فَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] يَعْنِي: يَأْتِيهِمْ أَمْرُهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ عَلَى إِضْمَارِ «أَمْرِهِ» كَمَا [48/و] قَالَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] يُرِيدُ: أَهْلَ العِيرِ بِإِضْمَارِ «الأَهْلِ»، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، بِإِضْمَارِ «أَمْرِهِ»، وَكَذَلِكَ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} يُرِيدُ أَنَّ المَلَائِكَةَ هِيَ الصُّفُوفُ دونه جَايِئُونَ بأَمْرِهِ، فَفَسَّرُوا: «جَاءَ المَلَائِكَةُ صَفًّا صَفًّا، وَرَبُّكَ فِيهِمْ مُدَبِّرٌ مُحْكِمٌ»، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النحل: 33]، وَقَالَ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، فَبَيَّن الأَمْرَ هَا هُنَا، وَأَضْمَرَهُ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ المُفْتَرِي عَلَى اللهِ: قَدْ فَسَّرْتَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى خِلَافِ مَا عَنَى وَفَسَّرَهَا رَسُولُه - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَى خِلَافِ مَا فَسَّرَهَا أَصْحَابُهُ. قَدْ رَوَيْنَا تَفْسِيرَهَا عَنْهُمْ فِي صَدْرِ هذَا الكتاب بِأَسَانِيدِهَا المَعْرُوفَةِ المَشْهُورَةِ، عَلَى خِلَافِ مَا فَسَّرْتَ وادَّعَيْتَ عَنْ هَؤُلَاءِ المُفَسِّرِينَ، فَمَنْ مُفَسِّرُوكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَحْكِي عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهَا كَذَا، وَقَالَ آخَرُونَ فِيهَا كَذَا؟. فَمَنْ هَؤُلَاءِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ؟ فَاكْشِفْ عَنْ رُؤُوسِهِم وسَمِّهم بِأَسْمَائِهِمْ، فَإِنَّكَ لَا تَكْشِفُ إِلَّا عَنْ زِنْدِيقٍ أَوْ جَهْمِيٍّ، لَا يُؤْمِنُ بِالله وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلَا يُحْكَمُ لَكَ بِتَفْسِيرِ هَؤُلَاءِ المُعَنْعِنِينَ عَلَى تَفْسِيرِ هَؤُلَاءِ المَكْشُوفِينَ

الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ، أَصْحَابُ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفُونَ -مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَالتَّابِعِينَ- عِنْدَ الأُمَّةِ مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابت، وأُبَيَّ بْن كَعْبٍ، وَنُظَرَائِهِمْ - رضي الله عنهم - وَمِنَ التَّابِعِينَ؛ مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي صَالِحٍ الحَنَفِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ، فَعَنْ أَيِّهِمْ تَحْكِي هَذِهِ التَّفَاسِيرَ الَّتِي تَرويهَا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ؟ فإنَّا مَا وَجَدْنَاهُمْ مُخَالِفِينَ لِمَا ادَّعَيْتَ عَلَى الله فِي كِتَابِهِ، أَتَيْنَاكَ بِهَا عَنْهُمْ فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ، مَنْصُوصَةً مُفَسَّرَةً، فَعَمَّنْ تَرْوِي هَذِهِ الضَّلَالَاتِ وَإِلَى مَنْ تُسْنِدُهَا؟ فَصَرِّحْ بِهِمْ كَمَا صَرَّحْتَ بِبِشْرٍ المَرِيسِيِّ وَابْنِ الثَّلْجِيِّ. وَمَا نَرَاكَ صَرَّحْتَ بِبِشْرٍ وَابْنِ الثَّلْجِيِّ وَكَنَيْتَ عَنْ هَؤُلَاءِ المُفَسِّرِينَ إِلَّا وَأَنَّهُمْ أَسْوَأُ مَنْزِلَةً عِنْدَ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَأَشَدُّ ظِنَّةً فِي الدِّينِ مِنْهُمَا، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَشَفْتَ عَنْهُمْ كَمَا كَشَفْتَ عَنْ بِشْرٍ، وَقَدْ فَسَّرْنَا لَكَ أَمْرَ إِتْيَانِ الله وَمَجِيئِهِ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ لَمْ نُحِبَّ أَنْ نُعِيدَهُ هَاهُنَا فَيَطُولُ الكِتَابُ. وَأَمَّا مَا ادَّعيت من انْتِقَال مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ المَخْلُوقِينَ، فَإِنَّا لَا نُكَيِّفُ مَجِيئَهُ وَإِتْيَانَهُ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَ النَّاطِقُ مِنْ كِتَابِهِ، ثُمَّ مَا وَصَفَ رَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم -. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي تَفْسِيرِهَا: أَنَّ السَّمَاءَ تَشَقَّقُ لِمَجِيئِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وتَتَنَزَّلُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَفِيكُمْ رَبُّنَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا، وَهُوَ آتٍ، حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ دُونِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِي صَدْرِ هَذَا الكتاب، وَهُوَ مُكَذِّبٌ لِدَعْوَاكَ أَنَّهُ إِتْيَانُ المَلَائِكَةِ بِأَمْرِهِ، دُونَ مَجِيئِهِ، لَكِنَّهُ فِيهِمْ مُدَبِّر. وَيْلَكَ! لَوْ كَانَتِ [48/ظ] المَلَائِكَةُ هِيَ الَّتِي تَجِيءُ وَتَأْتِي دُونَهُ؛ مَا قَالَتِ

المَلَائِكَةُ: «لَمْ يأتِ رَبُّنَا وَهُوَ آتٍ»، وَالمَلَائِكَةُ آتِيَةٌ نَازِلَةٌ، حِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ. أَرَأَيْتُمْ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الله فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، أَوَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ عَلَى العَرْشِ فَوْقَ المَاءِ؟ فَكَيْفَ صَارَ بَعْدُ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ... فِي دَعْوَاكُمْ، وَفِي دَعْوَانَا: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ دُونَ الأَرْضِ؟ فَكَمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَجِيءَ وَيَأْتِيَ مَتَى شَاءَ وَكَيْفَمَا شَاءَ. أَرَأَيْتَكَ إِذَا فَسَّرْتَ قَوْلَهُ: {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] فَزَعَمْتَ أَنَّ الله أَضْمَرَ فِي ذَلِكَ «أَمْرَهُ» كَمَا أَضْمَرَ فِي القرْيَة وَالعير «أَهلهَا»، أوَ لَسْتَ قَدِ ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ أَنْ لَا يُوصَفَ بِالضَّمِيرِ؛ فإنَّ الضَّمِيرَ يُنْفَى عَنِ الله تَعَالَى وَمَنْ وَصَفَ الله بِشَيْء وَهُوَ عَنْهُ مَنْفِيٌّ فَهُوَ الكَافِرُ عِنْدَكَ، فَكَيْفَ نَفَيْتَ عَنْهُ هَذَا الضَّمِير هُنَاكَ، وثَبَّتَّهُ لَهُ هَهُنَا؟ أَوَلَمْ تَخْشَ عَلَى نَفْسِكَ مَا تَخَوَّفْتَ عَلَى غَيْرِكَ مِنَ الكُفْرِ؟ وَلَكِنَّكَ تَدَّعِي الشَّيْءَ فَتَنْسَاهُ حَتَّى تَدَّعِيَ بعدُ خِلَافَهُ، فَيُأْخَذَ بِحَلْقِكَ، غَيْرَ أَنِّي أَظُنُّكَ تَكَلَّمْتَ بِهِ بِالخرَافِ، وَأَنْتَ آمِنٌ مِنَ الجَوَابِ. وَادَّعَيْتَ أَيْضًا أَنَّ الزَّنَادِقَةَ قَدْ وَضَعُوا اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا مِنَ الحَدِيثِ رَوَّجُوهَا عَلَى رُوَاةِ الحَدِيثِ، وَأَهْلِ الغَفْلَة مِنْهُم. فيُقال لَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ: مَا أَقَلَّ بَصَرَكَ بِأَهْلِ الحَدِيثِ وَجَهَابِذَتِهِ، وَلَوْ وَضَعَتِ الزَّنَادِقَةُ اثْنَيْ عَشَرَ ألفَ حَدِيثٍ مَا يرُوجُ لهُمْ عَلَى أَهْلِ البَصَرِ بِالحَدِيثِ مِنْهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَا تَقْدِيمُ كَلِمَةٍ، وَلَا تَأْخِيرُهَا، وَلَا تَبْدِيلُ إِسْنَادٍ مَكَانَ إِسْنَادٍ، وَلَوْ قَدْ صَحَّفُوا عَلَيْهِمْ فِي حَدِيثٍ؛ لَاسْتَبَانَ ذَلِكَ عِنْدهم، وَرُدَّ فِي نُحُورِهِم. وَيْلَكَ! هَؤُلَاءِ يَنْتَقِدُونَ عَلَى العُلَمَاءِ المَشْهُورِينَ تَقْدِيمَ رَجُلٍ مِنْ تَأْخِيرِهِ،

وَتَقْدِيمَ كَلِمَةٍ مِنْ تَأْخِيرِهَا، وَيُحْصُونَ عَلَيْهِمْ أَغَالِيطَهُمْ وَمُدَلَّسَاتِهِمْ، أَفَيَجُوزُ لِلزَّنَادِقَةِ عَلَيْهِمْ تَدْلِيسٌ؟ إِذْ هُمْ فِي الغَفْلَةِ مِثْلُ زُعَمَائِكَ هَؤُلَاءِ، ضَرْبُ المَرِيسِيِّ وَنُظَرَائِهِ، إِذْ هُمْ دَلَّسُوا عَلَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الله لَا يُدْرَكُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَوَاسِّ» فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ فَهُوَ هَذَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْطِيلَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، لِأَنَّ شَيْئًا لَا يُدْرَكُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَوَاسِّ فَهُوَ لَا شَيْءَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الزَّنَادِقَةِ، فَقَدْ رَوَّجُوهُ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِكِتَابِ الله تَعَالَى، قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164]، فَأَخْبَرَ أَنَّ مُوسَى أَدْرَكَهُ مِنْهُ الكَلَامُ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الحَوَاسِّ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يُدْرِكُونَ مِنْهُ بالحَوَاسِّ ... -النّظر إِلَيْهِ- وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] وَالنَّظَرُ أَحَدُ الحَواسِّ، وَقَالَ: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]، وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِلْمُؤْمِنِينَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» (¬1) رَوَاهُ عَنْهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. فَهَلْ مِنْ حَوَاسَّ أَبْيَنَ مِنَ الكَلَامِ وَالنَّظَرِ؟ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ رَوَّجُوهُ عَلَى المَرِيسِيِّ وَتُرَوِّجُهُ أَنْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ عَلَى مَنْ حَوَالَيْكَ مِنَ الجُهَّالِ، وَمَا إِخَالُكَ إِلَّا وَسَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّنَادِقَةِ عَلَى أَهْلِ العَلْمِ بِالحَدِيثِ تَدْلِيسٌ، غَيْرَ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَهْجُرَ العِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَتُزْرِي بِهِمْ مِنْ أَعْيُنِ مَنْ [49/و]،حَوَالَيْكَ مِنَ السُّفَهَاءِ، بِمِثْلِ هَذِهِ الحِكَايَاتِ؛ كَيْمَا يَرْتَابَ فِيهَا جَاهِلٌ فَيَرَاكَ صَادِقًا فِي دَعْوَاكَ، فَدُونَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ فَأَوْجِدْنَا عَشَرَةَ أَحَادِيثَ دَلَّسُوهَا على أَهْلِ العِلْمِ، كَمَا أَوْجَدْنَاكَ مِمَّا دَلَّسُوا عَلَى إِمَامِكَ المَرِيسِيِّ، أَوْ جَرِّبْ أَنْتَ فَدَلِّسْ عَلَيْهِمْ مِنْهَا عَشَرَةً، حَتَّى تَرَاهُمْ كَيْفَ يَرُدُّونَهَا فِي نَحْرِكَ. ¬

(¬1) تقدم تخريجه برقم (7).

وَكَيْفَ دَلَّسَ الزَّنَادِقَةُ عَلَى أَهْلِ الحَدِيثِ اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا، وَلَمْ يَبْلُغْ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ اثْنَيْ عَشَرَ ألفَ حَدِيثٍ، بِغَيْرِ تَكْرَارٍ إِنْ شَاءَ الله؟ إِذًا رِوَايَاتُهُمْ كُلُّهَا مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ فِي دَعْوَاكَ. وَرَوَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ عَنْ حَرِيز بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ، وَأَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَل اليَمَنِ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (10978)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2276)، والطبراني في الشاميين (1083)، من طريق حريز، به. قلت: رجاله ثقات، وشبيب بن نعيم أبو روح وثقه ابن حبان، وقال أبو داود: شيوخ حريز بن عثمان كلهم ثقات. وقد استنكر موضع الشاهد -ألا وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأجد نَفَس رَبِّكم مِنْ قِبَلِ اليَمَن» - بعضُ العلماء. والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنها ثابتة محفوظة، والدليل على ذلك من وجهين: الأول: أن الحديث معروف ومتداول بين السلف؛ فانظر إلى قول المصنف بعده «وهذا الحديث معروف». وقد ذكرنا قبل ذلك قول الذهبي، وابن تيمية رحمهما الله في قبول الروايات التي تتعلق بصفات الله - جل جلاله - وإن كان إسنادها فيه مقال إذا كان السلف يتداولونها فيما بينهم ويحتجون بها في كتبهم. الثاني: أن لهذه الزيادة شواهد، فقد أخرج النسائي في الكبرى (10705)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1196)، والحاكم (2/ 298)، من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِنَّهَا مِنْ نَفَسِ الرَّحْمَنِ»، وإسناده إلى أبي بن كعب صحيح، رجاله ثقات، وصححه الحاكم، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري. وأخرج البخاري في التاريخ الكبير (4/ 70)، والبزار (9/ 150)، والطبراني في الكبير (6358)، وغيرهم من حديث سلمة بن نفيل السكوني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «... وَقَالَ وَهُوَ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ هَهُنَا ...». وهذا أيضا إسناده صحيح. قال البزار: «وهذا الحديث لا نعلم أحدا يرويه بهذه الألفاظ إلا سلمة بن نفيل، وهذا أحسن طريقا يروى في ذلك عن سلمة ورجاله رجال معروفون من أهل الشام مشهورون إلا إبراهيم بن سليمان الأفطس». قلت: وإبراهيم بن سليمان الأفطس نقل المصنف عن دحيم أنه قال: «ثقة ثقة».

فَقُلْتَ كَالمُنْكِرِ لِهَذَا -تَعَالَى اللهُ عَمَّا نَحَلَهُ المُبْطِلُونَ-: بِأَنَّ ذَلِكَ نَفَسٌ يَخْرُجُ مِنْ جَوْفٍ. فَمِمَّنْ سَمِعْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ هَذَا نَفَسٌ يَخْرُجُ من جَوف الله تَعَالَى؟ وَهَذَا الحَدِيثُ مَعْرُوفٌ مَعْقُولُ المَعْنَى، جَهِلْتَ مَعْنَاهُ، فَصَرَفْتَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ نَرَ أَحَدًا يَقُولُهُ، أَوْ يَذْهَبُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا فَسَّرَهُ العُلَمَاءُ عَلَى الرَّوْحِ الَّذِي يَأْتِي بِهَا الرِّيحُ مِنْ نَحْوِ اليَمَنِ، لِأَنَّ مَهَبَّ الرِّيحِ مِنْ هُنَاكَ عِنْدِهِمْ، فأمَّا أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ: هُوَ نَفَسٌ يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ الرَّحْمَنِ، فَمَا سَمِعْنَا أَحَدًا يَقُولُهُ قَبْلَكَ، وَأَدْنَى مَا عَلَيْك فِيهِ الكَذِبِ أَنْ تَرْمِيَ قَوْمًا مُشَنِّعًا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُثْبِتَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الإِيمَانُ يَمَانٌ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ»: أَيْ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ مَكَّة (¬1). وادّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا أنَّ المُقْرِئَ، حَدَّثَ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنَ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَرَأَ {سَمِيعًا بَصِيرًا}، فَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ (¬2). وقَدْ عَرَفْنَا هَذَا مِنْ رِوَايَةِ المُقْرِئِ، وغَيْرِهِ كَمَا رَوَى المُعَارِضُ غَيْرَ أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَ كَتَبَةِ الحَدِيثِ ثَبَّتُوا بِهِ بَصَرًا بِعَيْنٍ كَعَيْن، وسَمْعًا بِسَمْعٍ جَارِحًا مُرَكَّبًا. فَيُقَالُ لَهذَا المُعَارِض أَمَّا دَعْوَاكَ عَلَيْهِم أَنَّهُم ثَبَّتُوا لَهُ سَمْعًا، وبَصَرًا؛ فَقَدْ صَدَقْتَ. وَأَمَّا دَعْوَاكَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ كَعَيْنٍ، وكَسَمْعٍ فَإِنَّهُ كَذِبٌ ادَّعيتَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا كَصِفَاتِهِ صِفَةٌ. ¬

(¬1) ينظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 397). (¬2) تقدم مسندا برقم (57).

وَأَمَّا دَعْوَاكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: جَارِحٌ مُرَكَّبٌ؛ فَهَذَا كُفْرٌ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَكنَّا نُثْبِتُ لَهُ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالعَيْنَ بِلَا تَكْيِيفٍ، كَمَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -، وَهَذَا الَّذِي تُكَرِّرُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ جَارِحٌ وَعُضْوٌ وَمَا أَشْبَهَهُ، حَشْوٌ وَخُرَافَاتٌ، وَتَشْنِيعٌ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنَ العَالَمِينَ. وَقَدْ رَوَيْنَا آياتِ السَّمْعِ وَالبَصَرِ وَالعَيْنِ فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ بِأَسَانِيدِهَا وَألفَاظِهَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَنَقُولُ كَمَا قَالَ، وَنُعَيِّنُ بِهَا كَمَا عَيَّن، وَالتَّكْيِيفُ عَنَّا مَرْفُوعٌ، وَذِكْرُ الجَوَارِحِ وَالأَعْضَاءِ تَكَلُّفٌ مِنْك، وتَشْنِيعٌ. وَادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ رَوَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالَحٍ، عَنِ العَلَاءِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[49/ظ]: «إِنَّكُمْ لَنْ تقرَّبوا إِلَى اللهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ». يَعْنِي القُرْآنَ (¬1). فادَّعى المُعَارِضُ أَنَّ الثَّلْجِيَّ قَالَ فِي هَذَا -مِنْ كِتَابٍ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الثَّلْجِيِّ- قَالَ: ذَهَبَتِ المُشَبِّهَةُ فِي هَذَا إِلَى مَا يَعْقِلُوا مِنَ الكَلَامِ مِنَ الجَوْفِ فَنَاقَضُوا إِذْ صَحَّحُوا أَنَّهُ الصَّمْدُ، وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ أَيْ مِنْ عِنْدِهِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ مِنْهُ، كَمَا يُقال: خَرَجَ لَنَا مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا مِنَ الخَيْرِ، وَخَرَجَ العَطَاءُ مِنْ قِبَلِهِ، لَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ وَلِإِمَامِهِ الثَّلْجِيِّ: قَدْ فَهِمْنَا مُرَادَكَ، إِنَّمَا تُرِيدُ نَفْيَ الكَلَامِ عَنِ الله تَعَالَى، مُشَنِّعًا بِذِكْرِ الجَوْفِ، فَأَمَّا خُرُوجُهُ مِنَ الله فَلَا يَشُكُّ فِيهِ ¬

(¬1) مرسل، أخرجه الترمذي (2912)، وأبو داود في المراسيل (538)، وعبد الله بن أحمد في السنة (109)، ومن طريقه ابن بطة في الإبانة (5/ 233)، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، به. والمحفوظ منه المرسل، وإلا فقد روي موصولا من حديث أبي ذر، مرفوعًا، ولكنه وهم من بعض الرواة.

إِلَّا مَنْ أَنْكَرَ أنه كَلَامَهُ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ يَخْرُجُ مِنَ المُتَكَلِّمِ لَا مَحَالَةَ، وَأَمَّا أَنْ نَصِفَهُ بِالجَوْفِ -كَمَا ادَّعَيْتَ عَلَيْنَا زُورًا- فإنَّا نُجِلُّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ المُتَعَالِي عَنْهُ، لِأَنَّهُ الأَحُدُ الصَّمَدُ، كَمَا قَالَ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا كَخُرُوجِ عَطَاءِ الرَّجُلِ مِنْ قِبَلِهِ، فَقَدْ أقرَّ بِأَنَّهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَكَلَام غَيْرِهِ مَخْلُوقٌ. لَا يَجُوزُ أَنْ يُضاف إِلَيْهِ صِفَةٌ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّاسُ مِنَ الغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالشِّعْرِ كُلُّهُ كَلَامُ الله وَهَذَا مُحَالٌ يَدْعُو إِلَى الضَّلَالِ. وَفِي هَذَا القِيَاسِ الَّذِي ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يُقال: قَول اليَهُود عُزَيْرٌ ابْنُ الله، وَالنَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَ الله عَنْهُمْ؛ كَانَ كَلَامَ الله، فَإِنْ كَانَ القُرْآنُ عِنْدَكُمْ كَلَامَ الله فَمِنْهُ خَرَجَ بِلَا شَكٍّ، وَالجَوْفُ مَنْفِيٌّ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَلَيْسَ بِكَلَامِهِ، وَلَكِنْ كَلَامُ غَيْرِهِ فِي دَعْوَاكُمْ. فَقُلْ لِهَذَا الثَّلْجِيِّ يَرُدُّ هَذَا التَّفْسِيرَ عَلَى شَيْطَانِهِ الَّذِي ألقَاهُ عَلَى لِسَانِهِ، وَمَا يُصْنَعُ فِي هَذَا بِقَوْلِ الثَّلْجِيِّ مَعَ مَا يَرْوِيهِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: اللهُ الخَالِقُ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، وَالقُرْآنُ كَلَامُ الله، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يِعُودُ». (167) حَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (¬1). وَأَمَّا أَنْ يُقَاسَ الكَلَامُ مِنَ المُتَكَلِّمِ بِالخَيْرِ الَّذِي يَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ، وَالعَطَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقِيسُ بِهِ إِلَّا جَاهِلٌ مِثْلُ الثَّلْجِيِّ؛ لِأَنَّ الخَلْقَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الكَلَامَ يَخْرُجُ مِنَ المُتَكَلِّمِ بِلَا شَكٍّ، وَأَنَّ إِعْطَاءَ العَطاءِ، وبذلَ المَال لَا يَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ المُعْطِي وَالبَاذِلِ، وَلَكِنْ مِنْ شَيْءٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ، وَالكَلَامُ ¬

(¬1) تقدم برقم (131).

غَيْرُ بَائِنٍ مِنَ المُتَكَلِّمِ، وَالمَالُ وَالعَطَاءُ بَائِنٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ المُتَكَلِّمَ مَتَى شَاءَ عَادَ فِي مِثْلِ كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّ الكَلَامَ الخَارِجَ مِنْهُ إِلَى نَفْسِهِ ثَانِيَةً، وَلَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ على رد المَالِ وَالعَطَاءِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، ولا أَنْ يَعُودَ فِيهِ بِعَيْنِهِ، فَمَنْ قَاسَ هَذَا بِذَاكَ؛ فَقَدْ تَرَكَ القِيَاسَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ القِيَاسِ، وَالمَعْقُولَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ العَقْلِ. * * *

وَرَوَى المُعَارِضُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الرُّكْنُ يَمِينُ الله فِي الأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهِ خَلْقَهَ» (¬1)، فَرَوَى عَنْ هَذَا الثَّلْجِيِّ مِنْ غَيْرِ سَماع مِنْهُ أَنه قَالَ: يَمِينُ الله: نِعْمَتُهُ وَبَرَكَتُهُ وَكَرَامَتُهُ، لَا يَمِينُ الأَيْدِي. فيُقال لِهَذَا الثَّلْجِيِّ -الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ عَن الله بِهَذِهِ الضَّلَالَاتِ يَدَيْهِ اللَّتَيْنِ خَلَقَ بِهِمَا آدَمَ-[50/و] وَيْلَكَ أَيُّهَا الثَّلْجِيُّ! إِنَّ تَفْسِيرَهُ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ الحَجَرَ الأَسْوَدَ لَيْسَ بِيَدِ الله نَفْسِهِ، وَأَنَّ يَمِينَ الله مَعَهُ عَلَى العَرْشِ غَيْرُ بَائِنٍ مِنْهُ، وَلَكِنْ تَأْوِيلهُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: كَأَنَّ الَّذِي يُصَافِحُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ وَيَسْتَلِمُهُ كَأَنَّمَا يُصَافِحُ الله، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. فَثَبَتَ لَهُ اليَدُ الَّتِي هِيَ اليَدُ عِنْدَ ذِكْرِ المُبَايَعَةِ، إِذْ سَمَّى اليَدَ مَعَ اليَدِ، وَاليَدُ مَعَهُ عَلَى العَرْشِ، وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ يَدِ السَّائِلِ». فَثَبَتَ بِهَذَا اليَدَ الَّتِي هِيَ اليَدُ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهَا المُتَصَدِّقُ فِي نفس يَدِ اللهِ. وَكَذَلك تَأْوِيلُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ، إِنَّمَا هُوَ إِكْرَامٌ لِلْحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَتَعْظِيمٌ لَهُ وتَثْبِيتٌ لِيَدِ الرَّحْمَن وَيَمِينِهِ، لَا النِّعْمَةُ كَمَا ادَّعى الثَّلْجِيُّ الجَاهِلُ فِي تَأْوِيلِهِ، وَكَمَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ صَاحِبِ نَجْوَى مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، كَذَلِكَ يَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ. وَكَذَلِكَ ادَّعَى الجَاهِلُ الثَّلْجِيُّ أَنَّ الله خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، قَالَ: بِنِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَخَصَّهُ بِمَا خصَّ مِنْ كَرَامَاتِهِ. فَيُقَالُ لِهَذَا الثَّلْجِيِّ البَقْبَاقِ النَّفَّاجِ: لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَعْقِلُ شَيْئًا مِنْ وُجُوهِ ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (8919)، والأزرقي في أخبار مكة (1/ 323، 324، 326)، وغيرهما من طرق عن ابن عباس، ولا يخلو طريق منها من مقال، ويشد بعضها بعضًا

الكَلَامِ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ مُحَالٌ مِنْ كَلَامٍ لَيْسَ لَهُ نِظَامٌ. وَيْلَكَ! وَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ الله مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ قِرْدٍ أَوْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ لَمْ يُنْعِمِ اللهُ عَلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِذْ خَلَقَهُ حَتَّى خَصَّ بِنِعْمَتِهِ آدَمَ، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ الخَلَائِقِ، وَأَيُّ مَنْقَبَةٍ لِآدَمَ فِيهَا إِذْ كُلُّ هَؤُلَاءِ خُلِقُوا بِنِعْمَتِهِ كَمَا خُلِقَ آدَمُ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الثَّلْجِيِّ الجَاهِلِ فِيمَا ادَّعَى فِي تَأْوِيلِ حَدِيث رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُقْسِطُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهَ يَمِينٌ» (¬1). فَادَّعَى الثَّلْجِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَأَوَّلَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ تَأْوِيلِ الغُلُولِيِّينَ أَنَّهَا يَمِينُ الأَيْدِي، وَخَرَجَ مِنْ مَعْنَى اليَدَيْنِ إِلَى النِّعَمِ يَعْنِي بِالغُلُولِيِّينَ: أَهْلَ السُّنَّةِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ يَمِينَانِ، وَلَا يُوصَفُ أَحَدٌ بِيَمِينَيْنِ، وَلَكِنْ يَمِينٌ وَشِمَالٌ بَزَعْمِهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَيْلَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! إِنَّمَا عَنَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِاليَدَيْنِ [مَا قَد أُطْلِقَ عَلَى التِي في مُقَابَلَة اليَمِينِ بِالشِّمَال، ولَكِنْ تَأْويلَه وكِلْتَا يَدَيْه يَمِين: أَي مُنَزَّه عَن الضَّعْف كَما في أَيْدِينَا الشِّمَال مِنَ النَّقْص، وعَدَمِ البَطْش] (¬2) فَقَالَ: «كِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَمِينٌ» إِجْلَالًا لله وَتَعْظِيمًا أَنْ يُوصَفَ بِالشِّمَالِ، [وَقَدْ وُصِفَتْ يَدَاهُ بالشِّمَالِ واليَسَارِ، وكَذَلِكَ لَو لَم يَجُزْ إِطْلَاق الشِّمَال واليَسَار، مَا أَطْلَقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -] ولو لم يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: كِلْتَا يَدَيِ الرَّحْمَنِ يَمِينٌ، لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَهَذَا قَدْ جَوَّزَهُ النَّاسُ فِي الخَلْقِ، فَكيف لَا يُجَوِّزُهُ الثَّلْجِيُّ فِي يَدَيِ الله أَنَّهُمَا جَمِيعًا يَمِينَانِ؟ وَقَدْ سُمِّيَ مِنَ النَّاسِ ذَا الشِّمَالَيْنِ؛ فَجَازَ فِي دَعْوَى الثَّلْجِيِّ أَيْضًا: ¬

(¬1) صحيح، تقدم برقم (30). (¬2) ما بين معقوفين ليس في الأصل وأثبته من «س».

خَرَجَ ذُو الشِّمَالَيْنِ مِنْ مَعْنَى أَصْحَابِ الأَيْدِي. ثُمَّ ادَّعى الجَاهِلُ أَنَّ هَذَا مِنَ النِّعَمِ وَالأَفْضَالِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: سَأَبْكِيكَ لِلدُّنْيَا وَلِلْعَيْنِ إِنَّنِي ... رَأَيْتُ يَدَ المَعْرُوفِ بَعْدَكَ شُلَّتِ وَيْلَكَ أَيُّهَا الثَّلْجِيُّ!، أَتُعَلِّمُ بِوَجْه العَرَبيَّة ولُغَاتِ العَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بهَا مِنْك؟ هَذَا هَاهُنَا فِي المَعْرُوفِ جَائِزٌ فِي المَجَازِ، لَا يَسْتَحِيلُ، وَفِي يَدَيِ الله تَعَالَى [50/ظ] اللَّتَيْنِ يَقُولُ: «خَلَقْتُ بِهِمَا آدَمَ» يَسْتَحِيلُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى غَيْرِ اليَدِ؛ لِأَنَّ المَعْرُوفَ لَيْسَ لَهُ يَدَانِ، يَقْبِضُ بِهِمَا وَيَبْسُطُ، وَيَخْلُقُ وَيَبْطِشُ، فَيُقَالُ: يَدُ المَعْرُوفِ مَثلًا، وَلَا يُقَالُ: فَعَلَ المَعْرُوفُ بِيَدَيْهِ كَذَا، وَخَلَقَ بِيَدَيْهِ كَذَا، وَكَتَبَ بِيَدَيْهِ كَذَا، كَمَا يُقَالُ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ بِيَدِهِ، وَكَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، ذَاك فِي سِيَاقِ القَوْلِ بَيِّنٌ مَعْقُولٌ، وَهَذَا فِي سِيَاقِ القَوْلِ بَيِّنٌ مَعْقُولٌ، مَنْ صَرَفَ مِنْهُمَا شَيْئًا إِلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ المَعْقُولِ جَهِلَ وَلم يَعْقِلْ. أَوَ لم يَكْفِكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ كَثْرَةُ مَا نَسَبْتَ إِلَى اللهِ، وَإِمَامُكَ المَرِيسِيُّ فِي نَفْيِ اليَدَيْنِ عَنْهُ بِهَذِهِ الأُغْلُوطَاتِ؟ وَمَا حَسَدتُما أَبَاكُمَا آدمَ فِي خِلْقَتِهِ بِيَدَيِ الرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صَدْرِ كِتَابِكَ حَتَّى عُدْتَ لِأَقْبَحَ مِنْهَا فِي آخِرِ الكِتَابِ، فَادَّعَيْتَ أَنَّ يَدَيِ اللهِ اللَّتَيْنِ خَلَقَ بِهِمَا آدَمَ: نِعْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ، فَامْتَنَّ عَلَى آدَمَ بِمَا رَكَّبَ فِيهِ. وَيْحَكَ! وَهَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ لم يَخْلُقْهُ بِقُدْرَتِهِ، حَتَّى يَمْتَنَّ عَلَى آدَمَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ مِنْ بَيْنِ الخَلَائِقِ؟ هَذَا مُحَالٌ لَا يَسْتَقِيمُ فِي تَأْوِيلٍ، بَلْ هُوَ أَبْطَلُ الأَبَاطِيلِ. وَأَشَدُّ مِنْهُ اسْتِحَالَةً؛ مَا ادَّعَيْتَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ: «إِنَّ الله خَمَّرَ طِينَةَ

آدَمَ، ثمَّ خَلَطَهَا (¬1) بِيَدِهِ فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ بَيَمِينِهِ، وَكُلُّ خَبِيثٍ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ مَسَحَ إِحْدَى يَدَيْهِ بِالأُخْرَى» (¬2). فَادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ لَهُ تَفْسِيرًا مِنْ قِبَلِكَ: أَنَّهُ لمَّا امْتَنَّ اللهُ عَلَى آدَمَ بِنِعْمَتِهِ، كَانَتْ تِلْكَ النِّعْمَةُ مُخَالِطَةً لِقُدْرَتِهِ، وَقَالَ بيدَيْهِ: بِنَعْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، هَكَذَا. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: إِذَا خَلَطَ قُدْرَتَهُ بِنِعْمَتِهِ فَسَمَّاهَا يَدَيْهِ -فِي دَعْوَاكَ-، فَمَا بَالُ هَذِهِ المِنَّةِ وُضِعَتْ عَلَى آدَمَ مِنْ بَيْنِ الخَلَائِقِ، وَكُلُّ الخَلْقِ فِي نِعْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ إِذْ كُلاً خُلِقَ فِي دَعْوَاكَ بِنِعْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا بِيَدَيْهِ؟، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَخْلِطَ القُدْرَةَ بِالنِّعْمَةِ، وَالقُدْرَةُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَالنِّعْمَةُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ؟ هَذَا كَلَامٌ لَا يَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ عَاقِلٍ، وَمَا يُوَفَّقُ لِمِثْلِهِ إِلَّا كُلُّ جَاهِلٍ. ثُمَّ رَوَيْتَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ كَذِبًا أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10].قَالَ: «نِعَمُ الله». فَعَمَّنْ رَوَيْتَ هَذَا عَنِ الحَسَنِ؟ فَاكْشِفْ عَنْ رَأْسِهِ، فَإِنَّكَ لَا تَكْشِفُ عَنْ ثِقَةٍ. وَقَدْ أَكْثَرْنَا النَّقْضَ عَلَيْكَ وَعَلَى إِمَامِكَ المَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ فِي تَفْسِيرِ اليَدِ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا، غَيْرَ أَنَّكَ أَعَدْتَهَ فِي آخِرِ الكِتَابِ؛ فَأَعَدْنَاهَا. * * * ¬

(¬1) في الأصل «خلقها»، والمثبت من «س»، وهو الموافق للسياق. (¬2) صحيح موقوف تقدم تخريجه برقم (45).

ثُمَّ لمَّا فَرَغْتَ مِنْ إِنْكَارِ اليَدَيْنِ وَنَفْيِهَا عَنِ الله ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، أَقْبَلْتَ قِبَل وَجْهِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِتَنْفِيَهُ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذِهِ العَمَايَاتِ، كَمَا نَفَيْتَ عَنْهُ اليَدَيْنِ، فَزَعَمْتَ أَنَّ وَكِيعًا، رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: «أَنَّ العَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، فَلَا يَصْرِفُهُ عَنْهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنْصَرِفُ، أَوْ يُحَدِثُ حَدثَ سُوءٍ» (¬1). ثُمَّ قُلْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ: إِنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّ الله يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِنِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَا أَوْجَبَ لِلْمُصَلِّي مِنَ الثَّوَابِ كَمَا قُلْتُمْ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وَكَقَوْلِه: {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} [الليل: 20]، وَكَقَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، أَيْ يَبْقَى اللهُ وَحْدَهُ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَللهِ وَجْهٌ؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ [51/و] كُنْتَ تُرِيدُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}، ¬

(¬1) صحيح، أخرجه عبد الرزاق (1689) عن الثوري، وأخرجه ابن أبي شيبة (7524) عن وكيع، وغيرهما، كلاهما عن الأعمش، به. وأخرجه ابن ماجه (1023)، وابن أبي شيبة (7525)، كلاهما من طريق أبي بكر بن عياش. وأخرجه البزار (2889)، من طريق عمران القطان، كلاهما (ابن عياش، والقطان)، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن حذيفة، مرفوعًا. قال البزار عقب رواية الحديث: «وهذا الحديث لا نعلم رواه عن عاصم، عن أبي وائل مرفوعا إلا عمران القطان، ورواه غيره موقوفا». قلت: وليس كذلك، فقد تابعه أبو بكر بن عياش كما ترى. وظاهر الرواية يدل على أن ثمة اختلاف على أبي وائل فيها، فإن الأعمش رواه موقوفا من قول حذيفة، وعاصم بن أبي النجود رواها مرفوعة. وقلت: ولا أجد اختلافًا؛ لأنه لا يمكن أن يكون ذلك من قول حذيفة لأنه أمر غيبي، فرواية الأعمش، التي ظاهرها الوقف، فإن لها حكم الرفع؛ إذ لا يتثنى لحذيفة أن يقول ذلك من قبل نفسه، والله تعالى أعلم.

{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، فَقَوْلُهُ الحَقُّ، وَإِنْ أَرَدْتَ عُضْوًا كَمَا تَرَى مِنَ الوجوهِ، فَهُوَ الخَالِقُ هَذِهِ الوُجُوهَ، فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا وَجْهُ الشَّيْءِ وَوَجْهُ الأَمْرِ، وَيَقُولُ: هَذَا وَجْهُ الثَّوْبِ وَوَجْهُ الحَائِطِ، فَقَوْلُهُ: ... {وَجْهُ رَبِّكَ}: مَا تَوَجَّهُ بِهِ إِلَى رَبِّكَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} يَقُولُ: ثَمَّ قِبْلَةُ النَّاسِ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا، وَقَوْلُهُ: {ثَمَّ وَجْهُ اللَّه} ... : ثَمَّ قِبْلَةُ الله. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: لَمْ تَدَعْ غَايَةً فِي إِنْكَارِ وَجْهِ الله ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، وَالجُحُودِ بِهِ وَبِآيَاتِهِ الَّتِي تَنْطِقُ بِالوَجْهِ، حَتَّى ادَّعَيْتَ أَنَّ وَجْهَ الله الَّذِي وَصَفَهُ بِالجَلَالِ وَالإِكْرَامِ مَخْلُوقٌ، لِأَنَّكَ ادَّعَيْتَ أَنَّهَا أَعْمَالٌ مَخْلُوقَةٌ، يُوَجَّهُ بِهَا إِلَيْهِ، وَنِعَمٌ وَإِحْسَانٌ، وَالأَعْمَالُ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، فَوَجْهُ رَبِّكَ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ فِي دَعْوَاكَ مَخْلُوقٌ. فَزَعَمْتَ أَيْضًا أَنَّهَا قِبْلَةُ الله، وَالقِبْلَةُ أَيْضًا مَخْلُوقَةٌ، فَادَّعَيْتَ أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْ ذِكْرِ وَجْهِهِ: وَجْهٌ مَخْلُوقٌ، لَيْسَ لله مِنْهَا وَجْهٌ مَعَهُ، وَلَا هُوَ ذُو وَجْهٍ فِي دَعْوَاكَ. وَكِتَابُ الله المُكَذِّبُ لَكَ فِي دَعْوَاكَ، وَهُوَ مَا تلوت أَيُّهَا المُعَارِضُ مِنْ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي كُلُّهَا نَاقِضَةٌ لِمَذْهَبِكَ، وَآخِذَةٌ بِحَلْقِكَ، أَوَ تَأْثُرُ تَفْسِيرَكَ هَذَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِأَثَرٍ مَأْثُورٍ مَنْصُوصٍ مَشْهُورٍ؟ وَلَنْ تَفْعَلَهُ أَبَدًا، لِمَا قد رُوِيَ عَنهُ خِلَافه وهو قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله». أَفَيَجُوزُ أَنْ يُتَأوَّلَ هَذَا: أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى الكَعْبَةِ، أَوْ إِلَى أَعْمَالِ المَخْلُوقِينَ؟ وَكَانَ يَدْعُو: «اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ» فَيَجُوزُ فِي تَأْوِيلِكَ أَنْ يَقُولَ: اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لذَّة النَّظَرِ إِلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ أَعْمَالِ

خَلْقِكَ، أَمْ إِلَى القبْلَة؟ وَيْلَكُمْ! مَا سَبَقَكُمْ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الفِرْيَةِ عَلَى الله إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وَلَا فِرْعَوْنُ مِنَ الفَرَاعِنَةِ، وَلَا شَيْطَانٌ. وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ دَعْوَاكَ أَنَّ وَجْهَ اللهِ؛ كَوَجْهِ الثَّوْبِ، وَالحَائِطِ، وَالمَيِّتِ الَّذِي لَا يُوقَفُ مِنْهَا عَلَى وَجْهٍ وَلَا ظَهْرٍ، مَا تَرَكْتُمْ مِنَ الكُفْرِ بِوَجْهِ الله غَايَةً، وَلَوْ قَدْ تَكَلَّمَ بِهَذَا رَجُلٌ بِالمَغْرِبِ؛ لَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الشَّرْقِ أَنْ يَغْزُوهُ، حَتَّى يَقْتُلُوهُ؛ غَضَبًا لله، وَإِجْلَالًا لِوَجْهِهِ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. أَرَأَيْتَكَ أَيُّهَا الجَاهِلُ، إِنْ كَانَ وَجْهُ الله عِنْدَكَ قِبْلَتَهُ، وَالأَعْمَالَ الَّتِي ابْتُغِيَ بِهَا وَجْهُهُ، وَكَوَجْهِ الثَّوْبِ، وَالحَائِطِ، أَفَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْقِبْلَةِ وَلأَعْمَالِ العِبَادِ: ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ؟ فَقَدْ عَلِمَ المُؤْمِنُونَ مِنْ خَلْقِ الله أَنَّهُ لَا يُقَدَّسُ وَجْهٌ بِذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ غَيْرَ وَجْهِ الله. وَأَمَّا تَكْرِيرُكَ وَتَهْوِيلُكَ عَلَيْنَا بالأَعْضَاءِ والجَوَارِحِ، وَهَذَا مَا يَقُولُهُ مُسلمٌ، غَيْرَ أنَّا نقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27] أَنَّهُ عَنَى بِهِ الوَجْهَ الَّذِي هُوَ الوَجْهُ عِنْدَ المُؤْمِنِينَ لَا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَلَا القِبْلَةَ، وَلَا مَا حَكَيْتَ مِنَ الخُرَافَاتِ كَاللَّاعِبِ بِوَجْهِ الله - عز وجل -، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] [يَقُولُ كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَ] (¬1) نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ الوُجُوهِ، وَأَجْمَلُ الوُجُوهِ، وَأَنْوَرُ الوُجُوهِ، المَوْصُوفُ بِذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، [51/ظ] الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الصِّفَةَ غَيْرُ وَجْهِهِ، وَأَنَّ الوَجْهَ مِنْهُ غَيْرُ اليَدَيْنِ، وَاليَدَيْنِ مِنْهُ غَيْرِ الوَجْهِ عَلَى رَغْمِ الزَّنَادِقَةِ والجَهْمِيَّةِ. ¬

(¬1) ما بين معقوفين ليس في الأصل، وأثبتته من «س».

وَسَنَذْكُرُ فِي ذِكْرِ الوَجْهِ آيَاتٍ وَآثَارًا مُسْنَدَةً، لِيَعْرِضَهَا أَهْلُ المَعْرِفَةِ بِالله عَلَى تَفْسِيرِكَ، هَلْ يَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْهَا شَيْءٌ مِنْهُ؟ فَإِنْ كُنْتَ لَا تُؤْمِنُ بِهَا؛ فَخَيْرٌ مِنْكَ وَأَطْيَبُ مِنْ عِبَادِ الله المُؤْمِنِينَ مَنْ قَدْ آمَنَ بِهَا وَأَيْقَنَ. قَالَ الله تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} [الليل: 20]، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9]. فَالخَيْبَةُ لِمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَجْهِ الله نَفْسِهِ، وَأَنَّهَا وُجُوهٌ مَخْلُوقَةٌ. وَمِمَّا يُوَافِقُهُ مِنْ صِحَاحِ أَحَادِيثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (168) مَا حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أبي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: «إِنَّ الله لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ، وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ من خلقه» (¬1). أَفَيَسْتَقِيمُ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنْ يُتَأوَّلَ هَذَا: أَنَّهُ أَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، وأخرجه مسلم (179)، وابن ماجه (195، 196)، وأحمد (19587، 19632)، والمصنف في الرد على الجهمية (47)، وابن حبان (266)، وأبو يعلى (7262)، والطيالسي (493)، وغيرهم، من طرق عن عمرو بن مرة، به. وفي بعض طرقه «حجابه النار».

الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَوَجْهُ القِبْلَةِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ؟ مَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ فِي بُطُولِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ، أَمْ قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي: (169) حَدَّثَنَاهُ سُلَيْمَانُ بن حَرْبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله - رضي الله عنهما - قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» (¬1). أَفَيَجُوزُ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنْ يُتَأَوَّلَ هَذَا: أَعُوذُ بِثَوَابِكَ، والأَعْمَالِ الَّتِي ابْتُغِيَ بِهَا وَجْهُكَ، وَبِوَجْهِ القِبْلَةِ؟ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَاذَ بِوَجْهِ شَيْءٍ غَيْرَ وَجْهِ الله تَعَالَى، وَبِكَلِمَاتِهِ، لَا يُسْتَعَاذُ بِوَجْهِ مَخْلُوقٍ. وَمِنْ ذَلِكَ: (170) مَا حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو: «اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ» (¬2). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه البخاري (4628)،عن عارم أبي النعمان، وفي (7406)، عن قتيبة بن سعيد، كلاهما عن حماد بن زيد، به. وأخرجه البخاري (7313)، عن علي بن المديني، والترمذي (3065)، عن ابن أبي عمر، وأحمد (14316)، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، به. وأخرجه ابن أبي عاصم (300)، عن هدبة بن خالد، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، به. وأخرجه غير هؤلاء أيضا من طرق عن عمرو بن دينار، به. (¬2) صحيح، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (95، 104)، والنسائي (3/ 54)، وفي الكبرى (1228)، وابن حبان (1971)، وابن أبي عاصم في السنة (129، 425)، والبزار (1393)، وعبد الله بن أحمد في السنة (279)، وغيرهم، من طريق حماد بن زيد، به = ... = وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، غير أن عطاء بن السائب كان قد اختلط في بأخرة، لكن حماد بن زيد ممن روى عنه قبل الاختلاط، كما ذكر يحيى بن سعيد القطان، وغيره. وقد روي من وجه آخر عن عمار فأخرج أحمد (18324، 18325)، من طريق شريك القاضي، عن أبي هاشم يحيى بن دينار، عن أبي مجلز لاحق بن حميد، عن عمار، بنحوه. وأخرج النسائي (3/ 55)، وابن أبي شيبة (29836)، وعنه عبد الله بن أحمد في السنة (467)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (276)، وفي السنة (128)، وغيرهم، أيضا من طريق شريك إلا أنهم جعلوه عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن عمار، به.

أَفَيَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقُولَ فِي هَذَا: لذَّةُ النَّظَرِ إِلَى قِبْلَتِكَ، وَإِلَى الأَعْمَالِ الَّتِي ابْتُغِيَ بِهَا وَجْهُكَ؟ وَمِنْ ذَلِكَ: (171) مَا حَدَّثَنَا يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ نِمْرَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قَالَ: الزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ تَعَالَى (¬1). أَفَيَجُوزُ أَنْ يُتَأوَّلَ هَذَا: أَنَّهُ النَّظَرُ إِلَى الأَعْمَالِ الَّتِي ابْتُغِيَ بِهَا وَجْهُ الله ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (97)، والدارقطني في رؤية الله (221)، والطبري في التفسير (15/ 68). وهذا إسناد ضعيف لجهالة سعيد بن نمران، كما قال الحافظ في لسان الميزان، والسبيعي مدلس وقد عنعن. وقد أخرج هذا الأثر من رواية أبي إسحاق عن عامر بن سعد عن أبي بكر، دون ذكر ابن نمران: إسحاق بن راهويه في مسنده (1424)، والطبري في التفسير (15/ 63)، وهناد في الزهد (170)، وابن أبي عاصم في السنة (473)، وعبد الله بن أحمد في السنة (471)، وغيرهم وهو ضعيف أيضًا؛ فرواية عامر بن سعد هو البجلي عن أبي بكر مرسلة، وعامر مقبول، ولم يتابعه أحد، وقد أعل الدارقطني الرواية الأولى بتلك الرواية المرسلة وقال وهي المحفوظة، كما في العلل (73).

أوَ إِلَى وَجْهِ القِبْلَةِ؟ وَكَذَلِكَ قَالَهُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله تَعَالَى». (172) حَدَّثَنَاه مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَغَيْرُهُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْب - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). [52/و] (173) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ الحَنَّاطِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إِذَا بَلَغَ النَّعِيمُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَظَنُّوا أَنْ لَا نَعِيمَ أَفْضَلَ مِنْهُ، تَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ، فَنَظَرُوا إِلَى وَجه الرَّحْمَن، فَنَسَوْا كُلَّ نَعِيمٍ عَايَنُوهُ؛ حِينَ نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ الرَّحْمَنِ» (¬2). أَفَيَجُوزُ أَنْ تتأوَّل هَذَا أَنَّهُ يَتَجَلَّى لِأَهْلِ الجَنَّةِ، فَنَظَرُوا إِلَى وَجْهِ قِبْلَتِهِ، وَإِلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؟ كَأَنَّ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ القِبْلَةِ -فِي دَعْوَاكَ- آثَرُ عِنْدَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ نَعِيمِ الجَنَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ: (174) مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ رَجَاء البَصْرِيّ، عَن المَسْعُودِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم (181)، والمصنف في الرد على الجهمية (82)، والترمذي (2552)، وأحمد (23925)، والنسائي في الكبرى (11170)، والبزار (2087)، والطبراني في الأوسط (756)، وابن أبي حاتم في التفسير (6/ 1945)، وغيرهم من طرق، عن حماد بن سلمة، به، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. (¬2) ضعيف، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (96)، وعبد بن حميد (851 - منتخب)،وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (342)، والدارقطني في الرؤية (193)، من طريق أبي شهاب الحناط، به وهذا إسناد ضعيف ومنقطع؛ فإن حماد بن جعفر إن كان هو البصري، فهو لين الحديث، كما قال الحافظ، وقال ابن عدي: منكر الحديث، فضلا عن الانقطاع فإنه لم يسمع من ابن عمر، وإن كان غيره؛ فهو مجهول، والله تعالى أعلم.

بْنِ المُخَارِقِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الله بْنُ مَسْعُودٍ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا قَالَ: الحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَتَبَارَكَ اللهُ، حطَّ عَلَيْهِنَّ مَلَكٌ فَضَمَّهُنَّ تَحْتَ جَنَاحِهِ فَصَعَدَ بِهِنَّ، لَا يمرُّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ المَلَائِكَةِ إِلَّا اسْتَغْفرُوا لِقَائِلِهِنَّ حَتَّى يُحَيَّا بِهِنَّ وَجْهُ الرَّحْمَنِ، وَقَرَأَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (¬1). أَفَيَجُوزُ لَكَ أَنْ تَتَأَوَّلَ هَذَا المَلَك يَصْعَدُ بِهنَّ حَتَّى يُحَيا وَجْهُ القِبْلَةِ فِي السَّمَاءِ وَالقِبْلَةِ فِي الأَرْضِ؟ قَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ وَعَلِمَ كُلُّ ذِي فَهْمٍ أَنَّ هَذِهِ تَفَاسِيرُ مَقْلُوبَةٌ، وَمَغَالِيطُ لَا يَسْتَقِيمُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي القِيَاسِ، فَكَيْفَ فِي الأَثَرِ؟ وَلَا يهدي شَيْء مِنْهَا إلى هُدًى، وَلَا يُرْشِدُ إِلَى تُقًى. وَمِنْ ذَلِكَ: (175) مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَن مُسْلِم بنِ يَزِيدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه -: ¬

(¬1) صحيح، أخرجه الطبراني (9144)، من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، والحاكم (2/ 461)، وصححه، من طريق إسحاق بن سليمان، كلاهما عن المسعودي، به. وهذ ... اإسناد صحيح، والمسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وكان قد اختلط قبل موته بسنتين، ولا يضرنا اختلاطه هاهنا لأن الراوي عنه عبد الله بن رجاء وأبو نعيم والأول بصري والثاني كوفي وقد قال الإمام أحمد: «إنما اختلط المسعودي ببغداد، ومن سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد». وشيخه عبد الله بن مخارق: وثقه ابن حبان، وقال ابن معين: مشهور. وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه شيئًا. قلت: وللأثر طريق آخر عن ابن مسعود فقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 268)، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال: ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن عون بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه، عن ابن مسعود، به. قلت: وإسناده صحيح.

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. قَالَ: «الحُسْنَى الجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ» (¬1). (176) وَعَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ (¬2). (177) وَعَنْ جَرِيرٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ (¬3). (178) وَحَدَّثَنَاهُ الحِمَّانِيُّ، عَنْ وَكِيعٍ، عَن أَبِي بَكْرٍ الهُذَلِيِّ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الهُجَيْمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (¬4). ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (98)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1424)، وهناد في الزهد (170)، وابن أبي عاصم في السنة (473)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة (346)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 452)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (783)، والدارقطني في الرؤية (224)، وغيرهم، من طريق أبي إسحاق السبيعي، به. وإسناده لا بأس به، لولا عنعنة أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلس. (¬2) ضعيف جدًا، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (100)، والدارقطني في الرؤية (244)، وفيه جويبر بن سعيد متروك الحديث، والضحاك هو ابن مزاحم. والإسناد معطوف على الذي قبله، أي: عن ابن أبي شيبة، عن أبي معاوية، به. (¬3) أيضا معطوف على الذي قبله، به. أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (35973)، ومن طريقه الدارقطني في الرؤية (221)، وفيه ليث بن أبي سليم: ضعفوه. (¬4) ضعيف جدًا، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (102) إسحاق في مسنده (1425)، ونعيم بن حماد في زوائده على الزهد لابن المبارك (419)، وهناد في الزهد (169)، والطبري (15/ 64)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (786)، والدارقطني في الرؤية (54)، من حديث أبي بكر الهذلي، به. وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ لأجل أبي بكر الهذلي، قال الذهبي: واه، وقال الحافظ: متروك الحديث. قلت: وقد توبع؛ تابعه أبان بن أبي عياش، كما عند اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (782)، والدارقطني في الرؤية (53)، ولكن أبان بن أبي عياش، متروك الحديث هو الآخر، فلم تغن عنا متابعته شيئًا، والله تعالى أعلم. وقد تحرف في الأصل نسبة أبي موسى الأشعري إلى الأشجعي، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، وهو الموافق لما في مصادر التخريج.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُلُّهُمْ قَالُوا: «الزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله تَعَالَى»، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِلَى وَجْهِ الكَعْبَةِ، وَوُجُوهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، كَمَا ادَّعَيْتَ. وَعَلَى تَصْدِيقِ هَذِهِ الآثَارِ وَالإِيمَانِ بِهَا؛ أَدْرَكْنَا أَهْلَ الفِقْهِ وَالعِلْمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مَا رَوَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: «أنَّ العَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي أقبل الله عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ» (¬1) فَادَّعَيْتَ أَنَّهُ يُقْبِلُ عَلَيْهِ بِنِعْمَتِهِ وَثَوَابِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: وَجْهُ الله فِي المَجَازِ، كَمَا يُقَالُ: وَجْهُ الحَائِطِ، وَوَجْهُ الثَّوْبِ. وَيْلَكَ! فَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الكُفْرِ، مُحَالٌ فِي الكَلَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقال لِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذَوِي الوُجُوهِ: أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى إِنْسَانٍ، أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَالمُقْبِلُ بِوَجْهِهِ مِنْ ذَوِي الوُجُوهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِلثَّوْبِ وَجْهٌ، وَللحَائِطِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَقْبَلَ الثَّوْبُ بِوَجْهِهِ عَلَى المُشْتَرِي، وَأَقْبَلَ الحَائِطُ بِوَجْهِهِ عَلَى فُلَانٍ، لَا يُقَالُ: أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا مَنْ لَهُ القُدْرَةُ عَلَى الإِقْبَالِ. وَكُلُّ قَادِرٍ عَلَى الإِقْبَالِ ذُو وَجْهٍ، هَذَا مَعْقُولٌ [52/ظ] مَفْهُومٌ فِي كَلَامِ العَرَبِ، فَإِنْ جَهِلْتَهُ، فَسَمِّ شَيْئًا مِنَ الأَشْيَاءِ لَيْسَ مِنْ ذَوِي الأَوْجُهِ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى فُلَانٍ؛ فَإِنَّكَ لَا تَأْتِي بِهِ، فَافْهَمْ، وَمَا أَرَاكَ وَلَا إِمَامَكَ تَفْهَمَانِ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ. وَلَوْلَا كَثْرَةُ مَنْ يَسْتَنْكِرُ الحَقَّ، وَيَسْتَحْسِنُ البَاطِلَ؛ مَا اشْتَغَلْنَا كُلَّ هَذَا الِاشْتِغَالِ بِتَثْبِيتِ وَجْهِ الله ذِي الجلَال وَالإِكْرَام، ولو لم يَكُنْ فِيهِ إِلَّا اجْتِمَاعُ الكَلِمَةِ مِنَ العَالِمِينَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِ الله العَظِيمِ» و «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ يَا رَبِّ»، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في أول هذا الفصل.

و «جَاهَدْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله» و «أَعْتَقْتُ لِوَجْهِ الله»، لَكَانَ كَافِيًا مِمَّا ذَكَرْنَا؛ إِذْ عَقِلَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، وَالبَرُّ وَالفَاجِرُ، وَالعَرَبِيُّ وَالعَجَمِيُّ، غَيْرَ هَذِهِ العِصَابَةِ الزَّائِغَةِ المُلْحِدَةِ فِي أَسْمَاءِ الله، المُعَطِّلَةِ لِوَجْهِ اللهِ، وَلِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، - عز وجل - وَجْهُهُ، وتقدَّست أَسْمَاؤُهُ. لَقَدْ سَبَبْتُمُ اللهَ بِأَقْبَحِ مَا سبَّه اليَهُودُ: {قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: يَدُ اللهِ مَخْلُوقَةٌ لمَّا ادَّعيتم أَنَّهَا نِعْمَتُهُ وَرِزْقُهُ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ وَالأَرْزَاقَ مَخْلُوقَةٌ كُلُّهَا. ثُمَّ زِدْتُمْ عَلَى اليَهُودِ، فَادَّعَيْتُمْ أَن وَجْهَ اللهِ مَخْلُوقٌ؛ إِذ ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ وَجْهُ القِبْلَةِ وَوُجُوهُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَكَوَجْهِ الثَّوْبِ وَالحَائِطِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ، فَادَّعَيْتُمْ أَنَّ عِلْمَهُ وَكَلَامَهُ وَأَسْمَاءَهُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ، كَمَا هِيَ لكم، فَمَا بَقِي إِلَّا أَنْ تَقُولُوا: هُوَ بِكَمَالِهِ مَخْلُوقٌ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّكُمْ سَبَبْتُمُ الله بِأَقْبَحِ مَا سبَّته اليَهُودُ. * * *

وَرَوَى المُعَارِضُ عَنْ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَبِّي فِي جَنَّةِ عَدْنٍ شَاب جَعْد فِي ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (947)، من طريق أسود بن عامر شاذان، به، وفيه «حلة خضراء» بدل «ثوبين» وأخرجه الخطيب (13/ 55)، من طريق حماد، به، وفيه «حلة حمراء» بدل «ثويبن أخضرين» وأخرجه أحمد (2580)، وعنه ابنه عبد الله في السنة (1116)، عن أسود بن عامر، به إلا أن لفظه هكذا «رأيت ربي تبارك وتعالى»، وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1167)، وابن أبي عاصم في السنة (433، 440)، والآجري في الشريعة (1033)، والدارقطني في الرؤية (264، 267)، وغيرهم من طريق حماد بن سلمة، به أيضا بلفظ «رأيت ربي تبارك وتعالى»، أو نحوه دون ذكر الصفة الواردة ها هنا. وقد استنكرها بعض الأئمة، على رأسهم المصنف. وزعم البعض أن الإمام أحمد والإمام أبا زرعة الرازي قد صححا هذه الرواية، وليس ما يدل على تصحيحهما، وإنما الذي يظهر أنهما صححا أصل الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وإليك هذه الحكاية التي رواها الخلال في العلل كما في المنتخب من علله للمقدسي (ص 283): «أخبرنا المروذي، قال: قرئ على أبي عبد الله: شاذان: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: إنَّ محمداً رأى ربه. قلت: إنهم يقولون: ما رواه غير شاذان؟.فقال: بلى؛ قد كتبته، عن عفان. وقُرئ على أبي عبد الله: عفان: ثنا عبد الصمد بن كيسان: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيتُ ربي». قلت: إنهم يقولون: إن قتادة لم يسمع من عكرمة. قال: هذا لا يَدْري الذي قال! وغضب، وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث مما سمع قتادة من عكرمة، فإذا ستة أحاديث: «سمعت عكرمة». وقال أبو عبد الله: قد ذهب من يحسن هذا، وعجب من قومٍ يتكلمون بغير علمٍ، وعجب من قول من قال: لم يسمع، وقال: سبحان الله! فهو قدِم إلى البصرة فاجتمع عليه الخلقُ.» أ. هـ. قلت: فظاهر هنا الذي صححه الإمام أحمد. وممن استنكر هذه الرواية الإمام الذهبي فقال في السير (10/ 113) بعد رواية هذا الخبر: «وهو خبر منكر نسأل الله السلامة في الدين فلا هو على شرط البخاري، ولا مسلم، ورواته - وإن كانوا غير متهمين - فما هم بمعصومين من الخطأ والنسيان، فأول الخبر: قال: = ... = (رأيت ربي)، وما قيد الرؤية بالنوم، وبعض من يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج يحتج بظاهر الحديث. والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإثبات ذلك أو نفيه صعب، والوقوف سبيل السلامة، والله أعلم. وإذا ثبت شيء قلنا به، ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول: الله ورسوله أعلم، بلى نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبت بنصوص متوافرة.». قلت: رحم الله الذهبي، فلا يعدل بالسلامة شيء.

وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى العُلَمَاءِ نَشْرُهُ وَإِذَاعَتُهُ فِي أَيْدِي الصِّبْيَانِ، فَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ المُعَارِضِ فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُهُ مَرَّةً ثُمَّ يُثْبِتُهُ أُخْرَى، فَيُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا أَنْكَرَ مِنَ الحَدِيثِ؟ وَالله أَعْلَمُ بِهَذَا الحَدِيثِ وَبِعِلَّتِهِ، غَيْرَ أَنِّي اسْتَنْكَرْتُهُ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: نُورٌ أنَّى أَرَاهُ؟» (¬1). وَيُعَارِضُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ، وَتَلَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]» (¬2). فَهَذَا هُوَ الوَجْهُ عِنْدَنَا فِيهِ، وَالتَّأْوِيلُ، وَالله أَعْلَمُ، لَا مَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ تَفْسِيرَهُ: أَنِّي دَخَلْتُ عَلَى رَبِّي فِي جَنَّةِ عَدْنٍ، كَقَوْلِ النَّاسِ: أَتَيْنَاكَ رَبَّنَا شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِتَغْفِرَ لَنَا ذُنُوبَنَا. وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُحَالٌ لَا يُشْبِهُ مَا شَبَّهْتَ؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَتِكَ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُهُ شَابًّا جَعْدًا فِي ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ»، وَيَقُولُ أُولَئِكَ: أَتَيْنَاكَ شُعْثًا غُبْرًا، أَيْ قَصَدْنَا إِلَيْكَ نَرْجُو عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ، وَلَمْ يَقُولُوا: أَتَيْنَاكَ فَرَأَيْنَاكَ شَابًّا جَعْدًا فِي ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ لِتَغْفِرَ لَنَا، هَؤُلَاءِ قَصَدُوا قَصْدَ الثَّوَاب وَالمَغْفِرَة، وَلَمْ يَصِفُوا الَّذِي ¬

(¬1) أخرجه مسلم (178)، وغيره من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) متفق عليه وسيأتي مسندًا برقم (183).

قَصَدُوا إِلَيْهِ بِمَا فِي حَدِيثِكَ مِنَ الحِلْيَةِ وَالكُسْوَةِ والمُعَايَنَة، فَلَفْظُ هَذَا الحَدِيثِ بِخَلَافِ [53/و] مَا فَسَّرْتَ، وَتَفْسِيرُكَ أَنْكَرُ مِنْ نَفْسِ الحَدِيثِ، فَافْهَمْ وَأَقْصِرْ عَنْ شِبْهِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الحَدِيثِ، فَإِنَّ الخَطَأَ فِيهِ كُفْرٌ، وَرَأْيُ الصَّوَابِ مَرْفُوعًا عَنْكَ. وَمِنَ الأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهَا العُلَمَاءُ وَرَوَوْهَا وَلَمْ يُفَسِّرهَا، وَمَنْ فَسَّرَهَا بِرَأْيِهِ اتَّهَمُوهُ. (179) فَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَنَّ وَكِيعًا سُئل عَنْ حَدِيثِ عبد الله ابْن عَمْرٍو: «الجَنَّةُ مَطْوِيَّةٌ مُعَلَّقَةٌ بِقُرُونِ الشَّمْس» (¬1)؟ فَقَالَ وَكِيعٌ: هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، قَدْ رُوِيَ فَهُوَ يُرْوَى، فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ تَفْسِيرِهِ لَمْ نُفَسِّرْ لَهُمْ، وَنَتَّهِمُ مَنْ يُنْكِرُهُ ويُنَازِعُ فِيهِ، والجَهْمِيَّةُ تُنْكِرُهُ. فَلَوِ اقْتَدَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ المُشْكِلَةِ المَعَانِي بَوَكِيعٍ؛ كَانَ أَسْلَمَ لَكَ مِنْ أَنْ تُنْكِرَهُ مَرَّةً، ثُمْ تُثْبِتَهُ أُخْرَى، ثُمَّ تُفَسِّرَهُ تَفْسِيرًا لَا يَنْقَاسُ فِي أَثَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ عَنْ ضَرْبِ المَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ وَنُظُرَائِهِمْ، ثُمَّ لَا حَاجَةَ لِمَنْ بَيْنَ ظَهْرَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ، ثُمَّ فَسَّرْتَهُ تَفْسِيرًا أَوْحَشَ من الأول، فَقُلْتَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الحَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَبِّي فِي جَنَّةِ عَدْنٍ شَابًّا جَعْدًا» أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى شَابًّا فِي الجَنَّةِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الله وَافَاهُ رَسُولُهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ فَقَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى رَبِّي». فَقَدِ ادَّعَى المُعَارِضُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُفْرًا عَظِيمًا أَنَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ فَرَأَى ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (34974)، والطبراني في الكبير (13/ 349)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 289 - 290)، والبيهقي في البعث والنشور (207)، وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.

شَابًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الله فَقَالَ: رَأَيْتُ رَبِّي. ثُمَّ بَعْدَمَا فسَّر هَذِهِ التَّفَاسِيرَ المَقْلُوبَةَ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي وَضَعَتْهَا الزَّنَادِقَةُ فَدَسُّوهَا فِي كُتُبِ المُحَدِّثِينَ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ الأَحْمَقِ، الَّذِي تَتَلعَّبُ بِهِ الشَّيَاطِينُ: وَأَيُّ زِنْدِيقٍ اسْتَمْكَنَ مِنْ كُتُبِ المُحَدِّثِينَ مِثْل حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَسُفْيَانَ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ، وَوَكِيعٍ، وَنُظَرَائِهِمْ فَيَدُسُّوا مَنَاكِيرَ الحَدِيثِ فِي كُتُبِهِمْ؟ وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ أَصْحَابَ حِفْظٍ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الكُتُبِ كَانُوا لَا يَكَادُونَ يُطْلِعُونَ عَلَى كُتُبِهِمْ أَهْلَ الثِّقَةِ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ الزَّنَادِقَةُ؟ وَأَيُّ زِنْدِيقٍ كَانَ يَجْتَرِئُ عَلَى أَنْ يَتَرَاءَى لِأَمْثَالِهِمْ وَيُزَاحِمَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ؟، فَكَيْفَ يَفْتَعِلُونَ عَلَيْهِمُ الأَحَادِيثَ وَيَدُسُّوهَا فِي كُتُبِهِمْ؟ أَرَأَيْتَكَ أَيُّهَا الجَاهِلُ إِنْ كَانَ الحَدِيثُ عِنْدَكَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ؛ فلِمَ تَلْتَمِسُ لَهُ الوَجْهَ وَالمَخَارِجَ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ، كَأَنَّكَ تُصَوِّبُهُ وَتُثْبِتُهُ؟ أَفَلَا قُلْتَ أَوَّلًا: إِنَّ هَذَا مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَة فَتَسْتَريحَ وتُريحَ العَنَاء وَالِاشْتِغَالَ بِتَفْسِيرِهِ، وَلَا تَدَّعِيَ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ فَرَأَى شَابًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الله تَعَالَى فَقَالَ: هَذَا رَبِّي، غَيْرَ أَنَّكَ خَلَطْتَ عَلَى نَفْسِكَ؛ فَوَقَعْتَ فِي تَشْوِيشٍ وَتَخْلِيطٍ لَا تَجِدُ لِنَفْسِكَ مَفْزَعًا إِلَّا بِهَذِهِ التَّخَالِيطِ، وَلَنْ يُجْدِيَ عَنْكَ شَيْئًا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرْتَ مِنْ هَذَا وَشَبَهِهِ؛ ازْدَدْتَ بِهِ [53/ظ] فَضِيحَةً؛ لِأَنَّ أَحْسَنَ حُجَجِ البَاطِلِ تَرْكُهُ وَالرُّجُوعُ عَنْهُ. وَرَوَى المُعَارِضُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الله بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ ثَوْبَانَ - رضي الله عنه -، أَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَبِّ فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ فِي صَدْرِي،

فَتَجَلَّى لِي مَا بَين السَّمَاء وَالأَرْض» (¬1). فَادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ هَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ: أَتَانِي رَبِّي مِنْ خَلْقِهِ بِأَحْسَنِ صُورَةٍ فَأَتَتْنِي تِلْكَ الصُّورَةُ، وَهِيَ غَيْرُ اللهِ، وَاللهُ فِيهَا مُدَبِّر، وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (470)، والروياني في مسنده (656)، والطبراني في الدعاء (1417)، وابن منده في الرد على الجهمية (73)، والبغوي في شرح السنة (4/ 38)، جميعا من طرق عن عبد الله بن صالح، به. وتابعه عبد الله بن وهب، كما أخرج ابن خزيمة في التوحيد (1/ 543)، والدارقطني في الرؤية (253)، من طريق ابن وهب، عن معاوية بن صالح، به. قلت: وفيه انقطاع فإن أبا سلام الحبشي واسمه ممطور لم يسمع من ثوبان كما ذكر ابن المديني وابن معين وأحمد. والراوي عنه أبو يزيد الشامي اسمه غيلان بن أنس قال الحافظ: مقبول. وقد روي هذا الحديث من أوجه مختلفة، وقد اختلف العلماء فيه من بين مصحح له ومضعف. فقد صححه الترمذي (3235) من حديث أبي سلام هذا ولكن عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل. وقال سألت البخاري عنه فقال: هذا حديث حسن صحيح. وأما الدارقطني فبعد أن تكلم على طرق حديث معاذ هذا في العلل (6/ 57)، قال: «ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة». وكذلك قال محمد بن نصر المروزي كما في مختصر قيام الليل للمقريزي (ص 56): «قال: وفي الباب عن ثوبان - رضي الله عنه -، وابن عباس - رضي الله عنه -، ومعاذ بن جبل، وأبي أمامة - رضي الله عنهما -، قال محمد بن نصر رحمه الله: هذا حديث قد اضطربت الرواة في إسناده على ما بينا، وليس يثبت إسناده عند أهل المعرفة بالحديث». قال البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 780) بعد روايته لحديث معاذ: «وقد روي من أوجه أخر كلها ضعيف، وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد الله ثم رواية موسى بن خلف، وفيهما ما دل على أن ذلك كان في النوم». قلت: وهذا الذي ذكره البيهقي هو ما ذهب إليه المصنف أيضًا وهو الراجح والله أعلم، وللحافظ العلامة أبي الفرج ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795 هـ رسالة قيمة في الكلام على هذا الحديث، وقد سماها «اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى».

كَتِفَيَّ؛ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ فِي صَدْرِي، يَعْنِي تِلْكَ الصُّورَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالأَنَامِلُ لِتِلْكَ الصُّورَةِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الله، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الخَلْقَ كُلَّهُ للهِ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: كَمْ تَدْحَضُ فِي قَوْلِكَ، وَتَرْتَطِمُ فِيمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، أَرَأَيْتَكَ إِذَا ادَّعيتَ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ صُورَةً مِنْ خَلْقِ الله سِوَى الله أَتَتْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ تَدْرِي يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ أَفَتَتَأَوَّلُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَجَابَ صُورَةَ غَيْرِ الله: «لَا يَا رَبِّ لَا أَدْرِي» فَدَعَاهَا رَبًّا، دُونَ الله، أَمْ أَتَتْهُ صُورَةٌ مَخْلُوقَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَانِي رَبِّي»؟ إِنَّ هَذَا لَكُفْرٌ عَظِيمٌ ادَّعَيْتَهُ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَيَّةُ صُورَةٍ تَضَعُ أَنَامِلَهَا وَكَفَّهَا فِي كَتِفِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَيَتَجَلَّى لَهُ بِذَلِكَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ غَيْرُ الله؟ فَفِي دَعْوَاكَ ادَّعَيْتَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَقَرَّ بِالرُّبُوبِيَّةِ لِصُورَةٍ مَخْلُوقَةٍ غَيْرِ الله؛ لِأَنَّ فِي رِوَايَتِكَ أَنَّ الصُّورَةَ قَالَتْ لَهُ: «هَلْ تَدْرِي يَا مُحَمَّدُ» فَقَالَ لَهَا: «يَا رَبِّ»، وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صُورَةٌ مَخْلُوقَةٌ تَضَعُ أَنَامِلَهَا فِي كَتِفِ نَبِيٍّ مِثْلِ مُحَمَّدٍ، فَيَتَجَلَّى لَهُ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أُمُورٌ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ تِلْكَ الصُّورَةُ كَفَّهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ وَيْحَكَ! لَا يُمْكِنُ هَذَا جِبْرِيل، وَلَا مِيكَائِيل، وَلَا إِسْرَافِيلُ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا غَيْرُ الله، فَكَمْ تَجْلِبُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الجَهْلِ وَالخَطَإِ، وَتَتَقَلَّدُ مِنْ تَفَاسِيرِ الأَحَادِيثِ الصَّعْبَةِ، مَا لَمْ يَرْزُقْكَ الله مَعْرِفَتَهَا، وَلَا تَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَجُرَّكَ ذَلِكَ إِلَى الكُفْرِ كَالَّذِي تَأَوَّلْتَ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ صُورَةً مَخْلُوقَةً كَلَّمَتْهُ فَأَجَابَهَا مُحَمَّدٌ: «يَا رَبِّ»، أَمِ الله صُورَةٌ لَمْ يَعْرِفْهَا، فَقَالَ: «أَتَانِي رَبِّي» لِمَا أَنَّ الله فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مُدَبِّرٌ؟ فَفِي دَعْوَاكَ يَجُوزُ لَكَ كُلَّمَا رَأَيْتَ كَلْبًا أَوْ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا قُلْتَ: هَذَا رَبِّي لِمَا أَنَّ الله مُدَبِّرٌ فِي صُوَرِهِمْ فِي دَعْوَاكَ، وَجَازَ لِفِرْعَوْنَ فِي دَعْوَاكَ أَنْ يَقُولَ: {أَنَا

رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24]؛ لِمَا أَنَّ الله مُدَبِّرٌ فِي صُورَتِهِ بِزَعْمِكَ، وَهَذَا أَبْطَلُ بَاطِلٍ، لَا يَنْجَعُ إِلَّا فِي أَجْهَلِ جَاهِلٍ. وَيْلَكَ! إِنَّ تَأْوِيلَ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ؛ لِمَا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي حَدِيث أَبِي ذَرٍّ «أَنَّهُ لَمْ يَرَ رَبَّهُ» (¬1)، وَقَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» (¬2)، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ»، وَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ الله تَعَالَى: [54/و] ... {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] يَعْنُونَ أَبْصَارَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الرُّؤْيَةُ كَانَتْ فِي المَنَامِ، وَفِي المَنَام يُمْكِنُ رُؤْيَة الله تَعَالَى عَلَى كُلِّ حَال وَفِي كل صُورَة. رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبِلٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَا شَاءَ الله مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ وَضَعْتُ جَنْبِي، فَأَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» (¬3). فَحِينَ وُجِدَ هَذَا لِمُعَاذٍ كَذَلِكَ صُرِفَتِ الرِّوَايَاتُ الَّتِي فِيهَا إِلَى مَا قَالَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه برقم (74). (¬2) أخرجه أحمد (22864)، والمصنف في الرد على الجهمية (89)، والنسائي في الكبرى (7716)، والطبراني في الشاميين (1157)، والبزار (2681)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 157، 221)، وغيرهم، من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وسنده حسن. وأخرجه البخاري (3337، 7127)، ومسلم (2931)، وأبو داود (4759)، والترمذي (2235)، وأحمد (6365)، والمصنف في الرد على الجهمية (94)، وغيرهم، من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وفيه «لن يرى أحدكم ربه حتى يموت». (¬3) أخرجه الترمذي (3235)، وأحمد (22109)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 540)، والحاكم (1/ 702)، وغيرهم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد مضى الكلام عليه قبل قليل.

مُعَاذٌ، فَهَذَا تَأْوِيلُ هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، لَا مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ مِنَ الجُنُونِ وَالخُرَافَاتِ، فَزَعَمْتَ أَنَّ الله بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صُورَةً فِي اليَقَظَةِ كَلَّمَتْهُ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا رَبِّ»، غَيْرَ أَنِّي أَظُنُّكَ لَوْ دَرَيْتَ أَنَّهُ يُخْرِجُكَ تَأْوِيلُكَ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الضَّلَالَاتِ؛ لَأَمْسَكْتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ عَلَى حَدِّ الحِوَارِ آمِنًا مِنَ الجَوَابِ غَارًّا أَنْ يُنْتَقَدَ عَلَيْكَ. وَقَدْ رَوَى المُعَارِضُ أَيْضًا عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: «بَيْنَمَا عَبْدُ الله يُمَجِّدُ رَبَّهُ إِذْ قَالَ مِعْضَدٌ: نِعْمَ المَرْءُ رَبُّنَا فَقَالَ عَبْدُ الله: إِنِّي أُجِلُّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» (¬1). فَادَّعَى المُعَارِضُ فِي تَفْسِيرِهِ تَخْلِيطًا مِنَ الكَلَامِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: الشَّخْصُ فِي قَوْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الله إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهَ، فَأَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ يَعْنِي الشَّيْءَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا، وَالله لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ. فَإِنْ كَانَ هَذَا المُعَارِضُ ذَهَبَ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ فَهَذَا مَحْضُ الزَّنْدَقَة؛ لِأَنَّ الله أَكْبَرُ الأَشْيَاءِ، وَأَعْظَمُ الأَشْيَاءِ وَخَالِقُ الأَشْيَاءِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -. (180) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الله الفِهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (¬2). وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نُورٍ مَخْلُوقٍ إِلَّا وَلَهُ مَرْأًى وَمَنْظَرٌ، فَكَيْفَ النُّور الأَعْظَم خَالقُ الأَنْوَار. ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (640)، من طريق الأعمش، به. (¬2) تقدم تخريجه برقم (107).

وَذَكَرَ المُعَارِضُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «يَقُولُ دَاوُدُ يَوْمَ القِيَامَةِ: ادْنِنِي، فَيُقَالُ لَهُ: ادْنُهْ، فَيَدْنُوَ حَتَّى يَمَسَّ رُكْبَتَهُ» (¬1). فَادَّعَى المُعَارِضُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ: أَنَّهُ يُدْنِيهِ إِلَى خَلْقٍ من خَلْقِهِ، ذِي رُكْبَةٍ حَتَّى تمَسَّ رُكْبَةُ دَاوُدَ رُكْبَةَ ذَلِكَ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أيضًا أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ. فَلَوْ كَانَ لِهَذَا المُعَارِضِ مَنْ يَقْطَعُ لِسَانَهُ كَانَ قَدْ نَصَحَهُ! وَيْلَكَ! أَيُّ زِنْدِيقٍ تَرْوِي عَنْهُ هَذِهِ التَّفَاسِيرَ وَلَا تُسَمِّهِ؟ وَأَيُّ دَرَكٍ لِدَاوُدَ إِذَا اسْتَغْفَرَ اللهَ لِذَنْبِهِ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ وَاسْتَعَاذَ بِهِ فِي أَنْ يُدْنِيَهُ إِلَى خَلْقٍ سِوَاهُ، فَيَمَسَّ رُكْبَتَهُ، وَمَا يُجْزِئُ عَنْ دَاوُدَ رُكْبَةُ ذَلِكَ المَخْلُوقِ الَّذِي إِذَا مَسَّ دَاوُدُ النَّبِيُّ رُكْبَتَهُ غَفَرَ ذَنْبَهُ، وَآمَنَ رَوْعَتَهُ، إِنَّ ذَلِكَ خَلْقٌ كَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ أَكْرَمُ مِنْ دَاوُدَ، وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ فِي دَعْوَاكَ، إِذْ جَعَلَهُ مَفْزَعًا لِلْأَنْبِيَاءِ وَمُعَوَّلًا عَلَيْهِ فِي ذُنُوبِهِمْ، يَحْكُمُ عَلَى الله فِي مَغْفِرَتِهِ، فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ يَوْمَ القِيَامَة دون الله!! ولابُدَّ لِمِثْلِ هَذَا الخَلْقِ أَنْ يَكُونَ سَبَقَ لَهُ مِنَ الله اسْمٌ فِي المَلَائِكَةِ أَوْ فِي النَّبِيِّينَ، فَمَا اسْمُهُ أَيُّهَا الجَاهِلُ؟ لَوْ تَكَلَّمَ بِهَذَا شَيْطَانٌ أَوْ مُدْمِنُ خَمْرٍ سَكْرَانَ، مَا زَادَ عَلَيْكَ جَهْلًا [54/ظ] فَكيف إِنْسَان! وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ: إِنَّهُ يتقرَّب إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ لَا بِالدُّنُو مِنْهُ، أوَ لم تَعْلَمْ أَيُّهَا المُعَارِضُ أَنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ بِيَوْمِ عَمَلٍ، إِنَّمَا هُوَ يَوْمُ جَزَاءٍ لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى الله فِي الدُّنْيَا؟ فَكَيْفَ رَفَعَ الله العَمَلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ جَمِيعِ المُسْلِمِينَ وَأَوْجَبَهُ عَلَى دَاوُدَ؟ ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (1162)، (1181)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 274)، وابن أبي الدنيا في التوبة (38)، من طريق سفيان، عن حميد، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص: 25].دون ذكر الركبة.

قُلْتَ: وَكَذَلِكَ مَا رَوَى المَسْعُودِيُّ، عَنِ المِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله: «أَنَّ الرَّب يَبْدُو لِأَهْلِ الجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ، فَيَكُونُونَ مِنْهُ فِي القُرْبِ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَى الجُمُعَةِ فِي الدُّنْيَا» (¬1). فَادَّعَيْتَ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ هَذَا مِنَ القُرْبِ: أَنَّهُ يَبْدُو لَهُمْ بِظُهُور الدلالات، وَبَذْلِ الكَرَامَاتِ لِأَوْلِيَائِهِ، فَيَظْهَرُ بِمَا فَعَلَ، ودِلَالَاتُهُ وَعَلَامَاتُهُ لَا هُوَ بِنَفْسِهِ. فَيُقَالُ لَكَ: أَيُّهَا المُعَارِضُ، بِئْسَمَا أَثْبَتَّ عَلَى أَوْلِيَاءِ الله أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الله بِدِلَالَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ وَبرِسَالَاتِ نَبِيِّهِ، وَمَا أَنْزَلَ فِي كُتُبِهِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ مَقَامِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوهُ بِهَا فِي الآخِرَةِ؛ إِذْ مَاتُوا كُفَّارًا فِي دَعْوَاكَ، جُهَّالًا بِالله وَبِدِلَالَاتِهِ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي دَعْوَاكَ؛ لَمْ يَكُونُوا إِذًا أَوْلِيَاء الله؛ إِذ لَمْ يَمُوتُوا عَلَى حَقِيقَةِ مَعْرِفَةِ الله تَعَالَى وَلَا اسْتَحَقُّوا الكَرَامَاتِ مِنَ اللهِ، وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلًا فِي دَعْوَاكَ أَنْ يَبْدُوَ لَهُمْ فِي كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ، بَلْ يَحْتَجِبُ عَنهُم؛ إِذْ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِدِلَالَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ وَرِسَالَاتِ نَبِيِّهِ، إِلَّا يَوْمَ لَا يَنْفَعُ نَفْسً (¬2) إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ؛ إِذْ كُلُّ كَافِرٍ ومُنَافِقٍ يَعْرِفُهُ يَوْمَئِذٍ بِدِلَالَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ، فَمَا فَضْلُ المُؤْمِنِ عِنْدَكَ فِي هَذَا عَلَى الكَافِرِ؟ ¬

(¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (2/ 131)، عن المسعودي، ومن طريقه عبد الله بن أحمد في السنة (476)، والدارقطني في الرؤية (165)، وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (2/ 893) من طرق أبي داود الطيالسي، والطبراني في الكبير (9/ 238)، من طريق أبي نعيم، كلاهما عن المسعودي، به. وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه فإن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه. (¬2) الجادة «نفسًا» والمثبت من الأصل؛ جائز على لغة ربيعة التى حكاها ابن مالك في «كتابه شواهد التوضيح» (ص 49)، ومفادها جواز الإضراب عن إثبات الألف المبدلة من تنوين النصب.

ثُمَّ فَسَّرْتَ قَوْلَ عَبْدِ الله: «أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي القُرْبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إِلَى الجُمُعَةِ»: أَنَّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ بِالعَمَلِ الصَّالَحِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا». وَيْلَكَ أَيُّهَا الحَيْرَانُ! إِنَّمَا قَالَ الله: «مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا» فِي الدُّنْيَا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، لَا فِي الآخِرَةِ يَوْمَ تُرْفَعُ الأَعْمَالُ منِ العِبَادِ. لَقَدْ تقلَّدت أَيُّهَا المُعَارِضُ مِنْ تَفَاسِيرِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَشْيَاءَ لَمْ يَسْبِقْكَ إِلَى مِثْلِهَا فَصِيحٌ، وَلَا أَعْجَمِيٌّ، وَلَوْ قَدْ عِشْتَ سِنِينَ؛ لَقَلَبْتَ العَرَبِيَّةَ عَلَى أَهْلِهَا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى. ثُمَّ قُلْتَ: هَذَا كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّجْوَى: «إِنَّهُ يَدْنُو المُؤْمِنُ مِنْ ربِّه حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيُقَرِّرَهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك اليَوْم» (¬1). قُلْتَ: فَتَفْسِيرُ «كَنَفِهِ»: نِعْمَتُهُ وَسَتْرُهُ وَعَافِيَتُهُ، فَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ عَلَى السَّتْرِ مَعَ القُرْبِ وَالدُّنُوِّ وَالمُنَاجَاةِ الَّتِي قَالَهَا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنْتَ لِجَمِيعِهَا مُنْكِرٌ، وَعَلَى مَنْ آمن بهَا مُغْتَاظ. * * * ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768)، وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

ثُمَّ طَعَنَ المُعَارِضُ فِي الحُجُبِ الَّتِي احْتَجَبَ الله تَعَالَى بِهَا عَنْ خَلْقِهِ، فَقَالَ: رَوَى وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدٍ المُكْتِب، عَن مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «احْتَجَبَ الله مِنْ خَلْقِهِ بِأَرْبَعٍ: بِنَارٍ وَنُورٍ وَظُلْمَةٍ وَنُورٍ». فَفَسَّرَهُ المُعَارِضُ تَفْسِيرًا يُضْحَكُ مِنْهُ، فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الحُجُبُ آيَاتٍ يَعْرِفُونَهَا، وَدَلَائِلَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ أَنَّهُ الوَاحِدُ المَعْرُوفُ، إِذْ عرَّفَهُم بِدِلَالَاتِهِ، فَهِيَ آيَاتٌ لَوْ [55/و] قَدْ ظَهَرَتْ لِلْخَلْقِ لَكَانَتْ مَعْرِفَتُهُمْ كَالعِيَانِ بِهَا. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: عَمَّنْ رَوَيْتَ هَذَا التَّفْسِيرَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْطَانٍ تَلَقَّنْتَهُ؟ وَمَنِ ادَّعى قَبْلَكَ أَنَّ حُجُبَ الله آيَاتُهُ الَّتِي احْتَجَبَ بِهَا؟ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]؟ أَمَعْنَاهُ عِنْدَكَ: مِنْ وَرَاءِ الدِّلَالَاتِ وَالعَلَامَاتِ؟ أَمْ قَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 15]؛ أَهُوَ عِنْدَكَ: أَنْ لَا يَرَوْا يَوْمَئِذٍ آيَاتِهِ وَدَلَائِلَهُ؟ وَلَا يَعْرِفُوا يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ الوَاحِدُ المَعْرُوفُ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي دَعْوَاكَ عَنْهُ مَحْجُوبٌ؛ لِمَا أَنَّ كُلًّا يَرَى يَوْمَئِذٍ دِلَالَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ وَآيَاتِهِ، وَكُلٌّ يَعْرِفُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ، فَمَا مَوْضِعُ الحِجَابِ يَوْمَئِذٍ؟ وَكَيْفَ صَارَتْ تِلْكَ الدِّلَالَاتُ والعَلامَاتُ مِنْ نَارٍ، وَنُورٍ، وَظُلْمَةٍ؟ وَمَا يَصْنَعُ بِذِكْرِ النَّارِ وَالظُّلْمَةِ هَا هُنَا فِي الدِّلَالَاتِ؟ قُلْتَ: وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، حِجَابُهُ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ» (¬1). ¬

(¬1) تقدم برقم (167).

ثُمَّ قُلْتَ: فَتَأْوِيلُ الحِجَابِ فِي هَذَا الحَدِيث مِثْلُهُ فِي الحَدِيثِ الأوَّل: هِيَ الدِّلَالَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَعَلَى أَنَّ الدِّلَالَاتِ كَشْفٌ عَنِ الشَّيْءِ، لَا حِجَابٌ وَغِطَاءٌ. ثُمَّ قُلْتَ: فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: «لَوْكَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وَجْهِهِ»، لَوْ كَشَفَ تِلْكَ النَّارَ؛ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ذَلِكَ العِلْمَ الدَّالَّ عَلَيْهِ. قُلْتَ: وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ «سُبُحَاتُ وَجْهِهِ»، سُبُحَاتُ وَجْهِ ذَلِكَ العِلْمِ، وَذَلِكَ العِلْمُ وَجْهٌ يُتَوَجَّهُ بِرُؤْيَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الله، كَقَوْلِهِ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] قُلْتَ: قِبْلَةُ الله. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: نَرَاكَ قَدْ كَثُرَتْ لَجَاجَتُكَ فِي رَدِّ هَذَا الحَدِيثِ، إِنْكَارًا مِنْكَ لِوَجْهِ الله تَعَالَى؛ إِذْ تَجْعَلُ مَا أَخْبَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ مَعْقُولٍ فِي سِيَاقِ اللَّفْظِ، أَنَّهُ وَجْهُ الله نَفْسُهُ، فَجَعَلْتَهُ أَنْتَ وَجْهَ العِلْمِ، وَوَجْهَ القِبْلَةِ، وَإِذْ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «حِجَابُ اللهِ النَّار، لَوْ كَشَفَهَا عَن وَجهه لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أدْركهُ بَصَرُهُ» فَإِن لَمْ تَتَحَوَّلِ العَرَبِيَّةُ عَنْ مَعْقُولِهَا؛ إنَّه لَوَجْهٌ حَقًّا كَمَا أَخْبَرَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت سُبُحَاتُ وُجُوهِ الأَعْلَامِ لَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: حِجَابُهُ النَّارُ، لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتِ النَّارُ سُبُحَاتِ وُجُوهِ الخَلْقِ كُلِّهَا، وَمَا بَالُ تِلْكَ النَّارِ تَحْرِقُ مِنَ العِلْمِ سُبُحَاتِهِ، وَتَتْرُكُ سَائِرَهُ؟! وَإِنَّمَا تَفْسِيرُ السُّبُحَاتِ: الجَلَالُ، وَالنُّورُ فَأَيُّ نُورٍ لِوَجْهِ الخَلْقِ حَتَّى تَحْرِقَهَا النَّارُ مِنْهُمْ؟ وَمَا لِلنَّارِ تَحْرِقُ مِنْهُمْ سُبُحَاتِهِمْ بَعْدَ أَنْ يَكْشِفَهَا اللهُ عَنْ وَجْهِهِ، وَلَا تَحْرِقُهَا قَبْلَ الكَشْفِ؟ فَلَوْ قَدْ أَرْسَلَ الله مِنْهَا حِجَابًا وَاحِدًا لَأَحْرَقَتِ الدُّنْيَا كُلَّهَا، فَكَيْفَ سُبُحَاتُ وُجُوهِ الخَلْقِ؟ وَيْحَكَ! إِنَّ هَذَا بيِّن، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، إِنَّمَا نَقُولُ: احْتَجَبَ الله بِهَذِهِ

النَّارِ عَنْ خَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ وسُلْطَانِهِ، لَوْ قَدْ كَشَفَهَا؛ لَأَحْرَقَ نُورُ الرَّبِّ وَجَلَاؤُهُ كُلَّ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ، وَبَصَرُهُ مُدْرِكٌ كُلَّ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يُصِيبُ [55/ظ] مَا يَشَاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّا يَشَاءُ، كَمَا أَنَّهُ حِينَ تَجَلَّى لِذَلِكَ الجَبَلِ خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ الجِبَالِ، وَلَوْ قَدْ تَجَلَّى لِجَمِيعِ جِبَالِ الأَرْضِ؛ لَصَارَتْ كُلُّهَا دَكًّا، كَمَا صَارَ جَبَلُ موسى، وَلَوْ قَدْ تَجَلَّى لِمُوسَى كَمَا تَجَلَّى لِلْجَبَلِ؛ جَعَلَهُ دَكًّا، وَإِنَّمَا خرَّ مُوسَى صَعِقًا مِمَّا هَالَهُ مِنَ الجَبَلِ مِمَّا رَأَى مِنْ صَوْتِهِ حِينَ دُكَّ فَصَارَ فِي الأَرْضِ. (181) وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَن وُهَيْبِ، عَن خَالِد الحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنهما -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ والقمر، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا حَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ» (¬1). وَإِنَّمَا كَانْتَ تَحْرِقُ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ لَوْ كَشَفَهَا كُلَّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا؛ لأنَّ اللهَ ¬

(¬1) ضعيف، أخرجه النسائي (1485)، وابن ماجه (1262)، وأحمد (18365)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 889)، وغيرهم من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، به. وهذا إسناد منقطع؛ أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد، لم يسمع من النعمان بن بشير. وأخرجه أحمد (18351)، والبيهقي (3/ 333) من طريق أبي قلابة، عن رجل، عن النعمان بن بشير. وقد رواه النسائي (1486)، وفي الكبرى (1885)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1078)، وغيرهما من طريق قتادة، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي، به. وقتادة لم يسمع من أبي قلابة. كما ذكر ذلك يحيى بن معين. وأخرجه أبو داود (1185)، والنسائي (1486)، وأحمد (20607)، وغيرهم، من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة، به ولكن دون ذكر قوله (ولكن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له). قلت: وفي كل هذه الطرق لم يصرح أبو قلابة بالتحديث، وقد عرف بالتدليس وإن كان يسيرا، لكنا نعتبره هاهنا لا سيما وهذا الاضطراب الواضح في هذه الرواية.

كَتَبَ الفَنَاءَ عَلَيْهَا، وَرَكَّبَ مَا رَكَّبَ مِنْ جَوَارِحِ الخَلْقِ لِلْفَنَاءِ، فَلَا يَحْتَمِلُ نُورَ البَقَاءِ فَتُحْرَقَ بِهِ أَوْ تُدَكَّ، كَمَا دكَّ الجَبَلُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ؛ رُكِّبَتِ الأَبْصَارُ وَالجَوَارِحُ لِلْبَقَاءِ، فَاحْتَمَلَتِ النّظر إِلَى وَجهه، وَإِلَى سُبْحَاتِهِ وَنُورِ وَجْهِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْرِقَ أَحَدًا، كَمَا لَوْ أَنَّ أَجْسَمَ رَجُلٍ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْمَلَهُ لَوْ أُلقِيَ فِي الدُّنْيَا فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ لَصَارَ رَمَادًا فِي سَاعَةٍ، فَهُوَ يَحْتَرِقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ألفَ عَامٍ وَأَكْثَرَ، وَنَارُهَا أَشَدُّ حَرًّا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا سَبْعِينَ ضِعفًا، لَا يَصِيرُ مِنْهَا رَمَادًا، وَلَا يَمُوتُ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]؛ لِأَنَّ أَجْسَامَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ تُرَكَّبُ يَوْمَئِذٍ لِلْبَقَاءِ، فَاحْتَمَلَتْ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ مَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَمِلُ جُزْءًا مِنْ ألفِ جُزْءٍ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ اللهِ تَحْتَمِلُ أَبْصَارُهُمُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَوْ قَدْ أَدْرَكَهُمْ شَيْءٌ مِنْ سُبُحَاتِ وَجْهِهِ فِي الدُّنْيَا لَاحْتَرَقُوا، كَمَا قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلم تَحْتَمِلْهَا أَبْصَارُهُمْ، فَهَذَا تَأْوِيلُ حَدِيثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ ألفَاظُهُ، لَا مَا تأوَّلتَ لَهُ مِنَ التَّفْسِيرِ المَقْلُوبِ، الَّذِي لَا يَنْقَاسُ لِلَفْظِ الحَدِيثِ إِلَّا أَنْ تَقْلِبَ لَفْظَهُ كَمَا قَلَبْتَ تَفْسِيرَهُ، فَارْبَحِ العَنَاءَ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ ألفَاظِهِ تَشْهَدُ عَلَيْكَ بِالتَّكْذِيبِ بِالتَّوْحِيدِ. وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي القُرْآنِ وَفِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَمْرِ الحُجُبِ؛ لِيَعْرِضَهَا عَاقِلٌ عَلَى قَلْبِهِ، هَلْ يَنْقَاسُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى مَا تَأَوَّلْتَ؟ أَوَّلُ ذَلِكَ مَا رَوْيَتَهُ أَيُّهَا المُعَارِضُ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (182) حَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِأَرْبَعٍ فَقَالَ: «إِنَّ الله لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ

عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ، حجابه النُّور، لو كشفها لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أدْركهُ بَصَره» (¬1). (183) وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، ثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ بِشْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - يَقُولُ [56/و]: قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله لَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ» (¬2). (184) حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَبنَا هُشَيْم، عَن دَاوُدَ، عَن الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا رَأَى ربَّه فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، ثُمَّ تَلَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]» (¬3). أَفَيَجُوزُ أَنْ يتأوَّل هَذَا أَنَّ الله لَمْ يُكَلِّمْ بَشَرًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ الآيَاتِ وَالعَلَامَاتِ؟ ¬

(¬1) صحيح، تقدم برقم (167). (¬2) حسن، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (52، 139)، والترمذي (3010) وقال حسن غريب، وابن ماجه (190)، والحاكم (3/ 204) وصححه، وابن أبي عاصم في الجهاد (196)، وفي السنة (602)، وغيرهم، من طريق موسى بن إبراهيم بن كثير، به. وموسى صدوق كما ذكر الحافظ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال «كان ممن يخطئ»، فحديثه حسن إن شاء الله تعالى، لاسيما وقد رواه عنه غير واحد من كبار أهل الحديث كما ذكر الترمذي رحمه الله، وسيأتي الحديث بتمامه رقم (139). (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري (4612، 7380، 7531)، ومسلم (177)، وغيرهما من طريق الشعبي، به. وقد أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (53)، وإسناد المصنف فيه هشيم بن بشير وكان مدلسًا، لكنه توبع من جمع من الثقات.

(185) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَبنا سُفْيَانُ، عَن عُبَيْدٍ المُكْتِب، عَن مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «احْتَجَبَ اللهُ مِنْ خَلْقِهِ بِأَرْبَعٍ: بِنَارٍ وَظُلْمَةٍ، وَنُورٍ وَظُلْمَةٍ» (¬1). أَفَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَى الله فِي هَذَا الحَدِيثِ بِأَرْبَعِ عَلَامَاتٍ وَأَرْبَعِ دَلَائِلَ وَنَارٍ وَظُلْمَةٍ وَنُورٍ وَظُلْمَةٍ؟ (186) وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حمَّاد بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَ جِبْرِيلَ: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْ أَدْنَاهَا حِجَابًا؛ لَاحْتَرَقْتُ» (¬2). أَفَيَجُوزُ أَنْ يُتَأوَّلَ عَلَى جِبْرِيلَ أَنْ يَقُولَ: بَيْنِي وَبَيْنَ الله سَبْعِينَ عَلَامَةً وَدلَالَةً مِنْ نُورٍ، لَوْ دَنَوْتُ مِنْ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ؟ أَمْ يَجُوزُ أَنْ يُتَأوَّلَ عَلَى جِبْرِيلَ أَنَّهُ لَا يَسْتَدِلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الوَاحِدِ لِمَا رَأَى وَشَاهَدَ من آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ إِلَّا بِهَذِهِ الأَرْبَعَةِ الحُجُبِ الَّتِي ادَّعَيْتَ أَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الوَاحِدِ المَعْرُوفِ؟ أَوَلَمْ يكتفِ جِبْرِيلُ بِمَا رَأَى وَعَايَنَ مِنَ الدِّلَالَاتِ وَالعَلَامَاتِ عَلَى مَعْرِفَةِ الله، وَهُوَ السَّفِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رُسُلِهِ، حَتَّى يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِالحُجُبِ الَّتِي ادَّعَيْتَ أَنَّهَا آيَاتُهُ وَعَلَامَاتُهُ؟ ¬

(¬1) صحيح، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (55)، من طريق أبي إسحاق الفزاري، والحاكم في المستدرك (2/ 320)،والبيهقي في الأسماء والصفات (699)، من طريق يزيد بن هارون، وابن أبي زمنين في السنة (42)، من طريق وكيع بن الجراح، وأبو الشيخ في العظمة (268)، وابن بطة في الإبانة (3/ 301)، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، أربعتهم عن سفيان الثوري، به. (¬2) مرسل، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (56)، وأبو الشيخ في العظمة (2/ 677)، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في العرش (77)، وابن أبي زمنين في السنة (40)، وله شاهد موصول من حديث أنس عند الطبراني في الأوسط (6407)، إلا أنه ضعيف.

وَلَوْ قَدْ رُزِقْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ شَيْئًا مِنَ العَقْلِ؛ عَلِمْتَ أنَّ مَا تَدَّعِي زُورٌ وَبَاطِلٌ، وَلَكِنْ قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (¬1). (187) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ المُثَنَّى، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «احْتَجَبَ رَبُّنَا - عز وجل - عَنْ خَلْقِهِ بَأَرْبَعٍ: بِنَارٍ وَظُلْمَةٍ، ثُمَّ بِنُورٍ وَظُلْمَةٍ، مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَالبَحْرُ الأَعْلَى فَوْقَ ذَلِك، كُلُّهُ تَحتَ العَرْشِ» (¬2). (188) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حُبَابَةَ بِنْتِ عَجْلَانَ الخُزَاعِيَّةِ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ حَفْصٍ، عَنْ صَفِيَّةَ ابْنَةِ جَرِيرٍ، عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَدَّاعٍ الخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «دُعَاءُ الوَالِدَةِ يُفْضِي إِلَى الحِجَابِ» (¬3). وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! قَدْ عَلِمَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ ألفَاظَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا ادَّعيت مِنْ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ المَقْلُوبَةِ، وَأَنَّ للهِ أَكْثَرَ مِنْ ألفِ آيَةٍ وَعَلَامَةٍ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3483، 3484)، وأبو داود (4797)، وغيرهما من أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -. (¬2) ضعيف، أخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة (2/ 682)، من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح، به. وفيه المثنى بن الصباح، ضعفه غير واحد من أهل العلم، وقال النسائي: متروك. وقد صح الحديث من رواية عبد الله عمر بن الخطاب، موقوفا، كما تقدم، وله حكم الرفع. (¬3) ضعيف، أخرجه ابن ماجه (3863)، والطبراني (25/ 163)، وعنه أبو نعيم في المعرفة (6/ 3486)، من طريق موسى بن إسماعيل، به. وهذا إسناد ضعيف لجهالة، حبابة، وأمها، وصفية.

فَكَيْفَ لَمْ يَحْتَجِبْ مِنْهَا إِلَّا بِأَرْبَعٍ، جَعَلَهَا دَلَالَةً وَعَلَامَةً عَلَى مَعْرِفَتِهِ؟ وَسَائِرُهَا لَا تَدُلُّ فِي دَعْوَاكَ؟. [56/ظ] * * *

باب إثبات الضحك

بَابُ إِثْبَاتِ الضَّحِكِ ثُمَّ أَنْشَأَ المُعَارِضُ أَيْضًا مُنْكِرًا أنَّ اللهَ يَضْحَكُ إِلَى شَيْءٍ ضَحِكًا هُوَ الضَّحِكُ، طَاعِنًا عَلَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي نُقِلَتْ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفَسِّرُهَا أَقْبَحَ التَّفْسِيرِ وَيَتَأَوَّلُهَا أَقْبَحَ التَّأْوِيلِ. فَذَكَرَ مِنْهَا حَدِيثَ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يَتَجَلَّى رَبُّنَا ضَاحِكًا يَوْم القِيَامَة» (¬1). وَأَيْضًا حَدِيثَ أَبِي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ الله، أَيَضْحَكُ الرَّبُّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَنْ نَعْدِمَ مِنْ ربِّ يَضْحَكُ خَيْرًا» (¬2). وحَدِيث جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ضَحِكِ الرَّبِّ (¬3). فادَّعى المُعَارِضُ فِي تَفْسِيرِ الضَّحِكِ (¬4) أنَّ ضَحِكَ الرَّبِّ؛ رِضَاهُ وَرَحْمَتُهُ، وَصَفْحُهُ عَنِ الذُّنُوبِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: رَأَيْتَ زَرْعًا يَضْحَكُ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: قَدْ كَذَبْتَ فِيمَا رَوَيْتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الضَّحِكِ شَبَّهْتَ ضَحِكَهُ بِضَحِكِ الزَّرْعِ؛ لأنَّ ضَحِكَ الزَّرْعِ لَيْسَ بِضَحِكٍ، إِنَّمَا هُوَ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ، فَجُعِلَ مَثَلًا لِلضَّحِكِ، فعمَّن رَوَيْتَ هَذَا التَّفْسِيرَ مِنَ ¬

(¬1) جزء من حديث ضعيف، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (87)، وأحمد (19655)، وعبد بن حميد (540)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة (1/ 270)، وعبد الله بن أحمد في السنة (277)، والدارقطني في الصفات (34)، وغيرهم، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. (¬2) سيأتي مسندًا، برقم (189). (¬3) يشير المصنف إلى الحديث الصحيح، الذي أخرجه هو في الرد على الجهمية (92)، ومسلم (191)، وأحمد (15115)، وأبو عوانة (360)، وغيرهم من حديث أبي الزبير قال: سألت جابرًا، عن الورود ... وفيه «فيتجلى لهم يضحك فيتبعونه». (¬4) في الأصل «الرب» وكتب في الحاشية «لعله الضحك».

العُلَمَاءِ، أنَّ ضَحِكَ الرَّبِّ رِضَاهُ وَرَحْمَتُهُ؟ فسمِّه وَإِلَّا فَأَنْتَ المحرِّف قَوْلَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِتَأْوِيلِ ضَلَالٍ؛ إِذْ شَبَّهْتَ ضَحِكَ اللهِ الحَيِّ القَيُّومِ الفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ ذِي الوَجْهِ الكَرِيمِ، وَالسَّمْعِ السَّمِيع والبَصَرِ البَصِيرِ، بِضَحِكِ الزَّرْعِ المَيِّتِ الَّذِي لَا ضَحِكَ لَهُ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الضَّحِكِ، وَإِنَّمَا ضَحِكُهُ يُمَثَّلُ، وَضَحِكُ اللهِ لَيْسَ يُمَثَّلُ. وَيْحَكَ! إِنَّ ضَحِكَ الزَّرعِ نَضَارَتُهُ، وَزَهْوتُهُ، وَخُضْرَتُهُ، فَهُوَ أَبَدًا مَا دَامَ أَخْضَرُ ضَاحِكٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لِلْوَلِيِّ وَالعَدُوِّ وَلِمَنْ يَسْقِيهِ، وَلِمَنْ يَحْصُدُهُ، لَا يَقْصِدُ بِضَحِكِهِ إِلَى شَيْءٍ، (¬1) واللهُ يَقْصِدُ بِضَحِكِهِ إِلَى أَوْلِيَائِهِ؛ عِنْدَمَا يُعْجِبُهُ فِعَالُهُمْ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ أَعْدَائِهِ فِيمَا يُسْخِطُهُ مِنْ أَفْعَالِهِم. فَالدَّلِيلُ مِنْ فِعْلِ الله أَنَّهُ يَضْحَكُ إِلَى قَوْمٍ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ قَوْمٍ، أنَّ ضَحِكَ الزَّرْعِ مَثَلٌ عَلَى المَجَازِ، وَضَحِكَ اللهِ أَصْلٌ، وَحَقِيقَةٌ لِلضَّحِكِ، يَضْحَكُ كَمَا يَشَاءُ، وَالزَّرْعُ أَبَدًا نَضَارَتُهُ وَخُضْرَتُهُ الَّتِي سَمَّيْتَهُ ضَحِكًا قَائِمٌ أَبَدًا حَتَّى يُسْتَحْصَدَ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ ضَحِكَهُ رِضَاهُ وَرَحْمَتُهُ، فَقَدْ صَدَقْتَ فِي بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْحَكُ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا عَن رِضَا فَيَجْتَمِعُ مِنْهُ الضَّحِكُ وَالرِّضَا. وَلَا يَصْرِفُهُ إِلَّا عَنْ عَدُوٍّ، وَأَنْتَ تَنْفِي الضَّحِكَ عَنِ الله، وَتُثْبِتُ لَهُ الرِّضَا وَحْدَهُ، وَلَئِنْ جَزَعْتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الضَّحِكِ حَتَّى نَفَيْتَهُ عَنِ اللهِ بِمَعْنى ضَحِكِ الزَّرْع؛ مَالَكَ مِنْ رَاحَةٍ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - مِمَّا يُكَذِّبُ دَعْوَاكَ، وَيَسْتَحِيلُ بِهِ تَفْسِيرُكَ. ¬

(¬1) زاد هنا في الأصل «وَالله يَقْصِدُ بِضَحِكِهِ إلى شَيء»، ولعله انتقال نظر من الناسخ.

(189) حَدَّثَنَاه مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ بْن سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آَخِرُ رَجُلٍ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يَمْشِي يَكْبُو عَلَى الصِّرَاطِ وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا جَاوَزَهَا التَفَتَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي أَنْجَانِي مِنْكِ، فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَقُولُ: [57/و] يَا رَبِّ ادْنُنِي مِنْهَا، فَيُدْنِيَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَتَسْتَهْزِئُ بي وَأَنْتَ ربُّ العَالَمِينَ؟ فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي مِمَّ ضَحِكْتُ؟ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ فَقَالَ: مِنْ ضَحِكِ ربِّ العَالَمِينَ مِنْهُ حِينَ يَقُولُ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي، فَيَقُولُ اللهُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ، فَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ» (¬1). أَفَلَا تَسْمَعُ أَيُّهَا المُعَارِضُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ ضَحِكِ رَبِّ العَالَمِينَ مِنْهُ»، أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ ضَحِكَ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ للزَّرْع: يَضْحَكُ، وَلَا يُقالُ يَضْحَكُ مِنْ أَحَدٍ وَلَا مِنْ أَجْلِ أَحَدٍ، وإنِّا لَمْ نَجْهَلْ مَجَازَ هَذَا فِي العَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، فَقَدْ سَمِعْنَا قَوْلَ الأَعْشَى وَفَهِمْنَا مَعْنَاهُ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى ضَحِكِ الرَّبِّ بَعِيدٌ، إِذْ يَقُولُ: مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤْزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ فَالزَّرْعُ مَا دَامَ أَخْضَرَ، فَهُوَ مُضَاحِكُ الشَّمْسِ أَبَدًا، لَا يخصُّ بِضَحِكِهِ أَحَدًا وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ أَحَدٍ، وَالله يَضْحَكُ إِلَى قَوْمٍ، وَيَصْرِفُهُ عَنْ آخَرِينَ. ¬

(¬1) صحيح، أخرجه مسلم (187)، وأحمد (3714، 3899)، وابن أبي عاصم في السنة (557)، والبزار (4/ 273)، وغيرهم من طريق حماد بن سلمة، به.

(190) وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّادُ، أبنا يَعْلَى بْنُ عَطاء، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ العَقِيلِيِّ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ، قَالَ أَبُو رَزِينٍ: أَيَضْحَكُ الرَّبُّ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا» (¬1). فَهَذَا حَدِيثُكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ الَّذِي رَوَيْتَهُ وَثَبَتَّهُ وَفَسَّرْتَهُ، وَأَقْرَرْتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَهُ، فَفِي نَفْسِ حَدِيثِكَ هَذَا مَا يَنْقُضُ دَعْوَاكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ - رضي الله عنه - لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيَضْحَكُ الرَّبُّ؟ وَلَو كَانَ تَفْسِيرُ الضَّحِكِ الرِّضَى وَالرَّحْمَةُ وَالصَّفْحُ مِنَ الذُّنُوبِ فَقَطْ؛ كَانَ أَبُو رَزِينٍ فِي دَعْوَاكَ إِذًا جَاهِلًا أَنْ لَا يَعْلَمَ أَنَّ ربَّه يَرْحَمُ ويَرْضَى ويَغْفِرُ الذُّنُوبَ، حَتَّى يَسْأَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيَرْحَمُ رَبُّنَا وَيَغْفِرُ وَيَصْفَحُ عَنِ الذُّنُوبِ؟ بَلْ هُوَ كَافِرٌ فِي دَعْوَاكَ؛ إِذْ لم يَعْرِفْ اللهَ بالرضَى وَالرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ، وَقَدْ قَرَأَ القُرْآنَ وَسَمِعَ مَا ذَكَرَ اللهُ فِيهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ، وَصَفْحِهِ عَنِ الذُّنُوبِ، مَا كَانَ لَهُ فِيهِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَيَغْفِرُ رَبُّنَا وَيَرْحَمُ؟ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَمَّا لَا يَعْلَمُ، لَا عَمَّا عَلِمَ وَآمَنَ بِهِ قَبْلُ، وَقَرَأَ القُرْآنَ فَوَجَدَ فِيهِ ذِكْرَهُ، وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ ذِكْرَ الضَّحِكِ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَضْحَكُ قَالَ: «لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا»، وَلَوْ كَانَ عَلَى تَأْوِيلِكَ لَاسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ أَبُو رَزِينٍ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَرْحَمُ ويرضى ويغفر خيرًا، لِمَا أَنَّهُ قَدْ آمَنَ وَقَرَأَ قَبْلُ فِي كِتَابِهِ: «إنِّهُ غَفُورٌ رَّحيمٌ» [57/ظ]، فَاعْقِلْهُ، وَمَا أَرَاكَ تَعْقِلُهُ. ¬

(¬1) ضعيف الإسناد، أخرجه الطيالسي (1188)، وأحمد (16187، 16201)، وعبد الله بن أحمد في السنة (453)، وابن أبي عاصم في السنة (554)، وغيرهم، من طريق حماد بن سلمة، به. وهذا إسناد ضعيف فيه وكيع بن حدس، ويقال عدس؛ الراجح فيه أنه مجهول الحال.

ثُمَّ لَم تَأْنَف مِنْ هَذَا التَّأْوِيلَ حَتَّى ادَّعَيْتَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يُفَسِّرُونَ ضَحِكَ الله عَلَى مَا يَعْقِلُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا كَذِبٌ تَدَّعِيهِ عَلَيْهِمْ؛ لأنَّا لَمْ نَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يُشَبِّهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الله تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ المَخْلُوقِينَ، ولكنَّا نَقُولُ: هُوَ نَفْسُ الضَّحِكِ، يَضْحَكُ كَمَا يَشَاءُ، وَكَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَتَفْسِيرُكَ هَذَا مَنْبُوذٌ فِي حشِّكَ. ثُمَّ فَسَّرْتَ الضَّحِكَ تَفْسِيرًا أَوْحَشَ مِنْ هَذَا أَيْضًا فَقُلْتَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَحِكُهُ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ ضَاحِكًا يَأْتِيهِمْ مُبَشِّرًا وَمُغِيثًا وَدَلِيلًا إِلَى الجَنَّةِ. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! أَلَا تَسْمَعُ مَا فِي حَدِيثِكَ الَّذِي رَوَيْتَهُ، وَثَبَتَّهُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيَضْحَكُ رَبُّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ»، وَلَمْ يَقُلْ: أَيَخْلُقُ الله خَلْقًا يَضْحَكُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا»، وَلَمْ يَقُلْ: لَا نَعْدَمُ مِنْ رَبٍّ يَخْلُقُ الضَّاحِكَ، فَهَذَا فِي نَفْسِ حَدِيثِكَ لَوْ قَدْ عَقِلْتَهُ، وأنَّي لَكَ العَقْلُ مَعَ هَذَا التَّخْلِيطِ؟ وادَّعَيْتَ أَيْضًا تَفْسِيرًا لِلضَّحِكِ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا مِنَ الحَقِّ وَالمَعْقُولِ؛ فَزَعَمْتَ أنَّ اللهَ يَضْحَكُ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ مِنْ شَيْءٍ تُفَسِّرُهُ أَنَّهُ يُضْحِكُهُ وَيَسَرُّهُ، فَذَلِكَ ضَحِكُ اللهِ تَعَالَى عَلَى النِّسْبَةِ، يَعْنِي أَنَّ الخَلْقَ وَضَحِكَهُمْ وَكَلَامَهُمْ لله. فيُقَالُ لَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ: إِذَا تَحَوَّلَتِ العَرَبِيَّةُ إِلَى لُغَتِكَ، وَلُغَاتِ أَصْحَابِكَ؛ جَازَ فِيهَا أَنْكَرُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَأَفْحَشُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَهَذَا أَيْضًا بيِّنٌ فِي نَفْسِ حَدِيثِكَ الَّذِي رَوَيْتَهُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ لَهُ: «أيَضْحَكُ رَبُّنَا يَا رَسُولَ الله؟»، وَلَمْ يَقُلْ: أيُضْحِكُ رَبُّنَا، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَكَانَ جَاهِلًا؛ إِذْ سَأَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أيُضْحِكُ الرَّبُّ الخَلْقَ؟ وَقَدْ قَرَأَ فِي كِتَابِ الله تَعَالَى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} [النجم: 43].

فَلَوِ اشْتَغَلْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِيمَا تَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ وَنُظَرَائِهِمْ؛ كَانَ أَعْذَرَ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَعَرَّضَ بِمِثْلِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الصِّعَابِ المَعَانِي الَّتِي كَانَ يَسْتَعْفِي مِنْ تَفْسِيرِهَا العُلَمَاءُ أَصْحَابُ العَرَبِيَّةِ البُصَرَاءُ، فَتُفَسِّرُهَا بِجَهْلٍ وَضَلَالٍ. وَسَنَذْكُرُ لَكَ أَيْضًا بَعْضَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ضَحِكِ الرَّبِّ تَعَالَى مِمَّا يَنْقُضُ دَعْوَاكَ حَتَّى تَضُمَّهُ إِلَى حَدِيث أَبِي رَزِين، وَأَبِي مُوسَى - رضي الله عنهما - فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ لَمْ يُوَفِّقْكَ فِيهَا لِصَوَابٍ مِنَ التَّأْوِيلِ. (191) حَدَّثَنَا يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي الوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يَضْحَكُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَالقَوْمُ إِذَا اصطَفُّوا لِلْقِتَالِ، وَالقَوْم إِذا اصْطَفُّوا للصَّلَاة» (¬1). أَفلا ترى أَيهَا المُعَارِضُ أَنَّ الضَّحِكَ لَا يُشْبِهُ ضَحِكَ الزَّرْعِ الَّذِي تأوَّلتَه؛ لِأَنَّ ضَحِكَ الزَّرْعِ لَا يَخُصُّ به أَحَدًا وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ أَحَدٍ، وَاللهُ يَضْحَكُ إِلَى قَوْمٍ وَيَصْرِفُهُ عَنْ قَوْمٍ. (192) حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ عَيَّاش، حَدثنِي بَحِيرُ بْنُ سَعِد (¬2)، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَثِيرِ [58/و] بْنِ مرّة، عَن نُعَيْم ابْن ¬

(¬1) إسناده ضعيف، أخرجه ابن أبي شيبة (19545)، وعنه ابن أبي عاصم في الجهاد (140)، وأخرجه أحمد (11761)، وابنه عبد الله في السنة (1204)، وأبو يعلى (1004)، وغيرهم من طريق هشيم، به. وهذا إسناد ضعيف لأجل مجالد بن سعيد، فهو ضعيف، سئل أبو حاتم الرازي عنه، يحتج بحديثه؟ قال: لا، وقال ابن معين: ضعيف، واهي الحديث، لا يحتج بحديثه. وهشيم بن بشير مدلس وقد عنعن. (¬2) في الأصل «يحيى بن سعيد»، وكُتِبَ في الحاشية «صوابه بحير بن سعد». قلت: نعم.

هَمَّارٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَي الشُّهَدَاء أفضل؟ قَالَ: الَّذِين يُلْقَوْنَ فِي الصَّفِّ وَلَا يَلْفِتُونَ وُجُوهَهُم حَتَّى يُقْتَلُوا، أُولَئِكَ الَّذِين يَتَلَبَّطُونَ فِي العُلَى فِي الجَنَّةِ يَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ إِلَى عَبْدٍ فِي مَوْطِنٍ؛ فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ» (¬1). (193) حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ المَعَافِرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ ابْن المُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ - رضي الله عنهما - قَالَ: «يَضْحَكُ اللهُ إِلَى صَاحِبِ البَحْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: حِينَ يَرْكَبُهُ وَيُخَلَّى مِنْ أَهْلِهِ، وَحِينَ يَمِيدُ مُتَشَحِّطًا، وَحينَ يَرَى البَرَّ لِيُشْرِفَ لَهُ» (¬2). (194) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أَبنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَن أبي الأَحْوَص، وَأَبِي الكَنُودِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «إِنَّ الله يَضْحَكُ إِلَى اثْنَيْنِ: رَجُلٌ قَامَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، وَرَجُلٌ كَانَ مَعَ قَوْمٍ فَلَقَوُا العَدُوَّ فَانْهَزَمُوا وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ يَضْحَكُ إِلَيْهِ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (22476)، وسعيد بن منصور في سننه (2566)، وأبو يعلى (6855)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1277)، والآجري في الشريعة (650)، من طرق عن إسماعيل بن عياش، به. ورجاله ثقات وإسماعيل بن عياش في روايته عن أهل بلده من الشاميين ثقة، وبحير بن سعد منهم. (¬2) إسناده ثقات، خلا عبد الله بن صالح، وقد توبع. أخرجه ابن أبي شيبة (19720)، عن زيد بن الحباب، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 581)، من طريق ابن وهب، كلاهما عن أبي شريح عبد الرحمن بن شريح، به. (¬3) أخرجه الآجري في الشريعة (637)، من طريق يحيى بن آدم، عن إسرائيل، به. واختلف فيه على إسرائيل فرواه أحمد بن يونس عنه عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وأبي الكنود، ورواه يحيى بن آدم، عنه، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، وأبي الكنود. وينظر علل الدارقطني (5/ 267).

ورُوي عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَضْحَكُ مِنْ رَجُلَيْنِ؛ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كِلَاهُمَا دَاخِلٌ الجَنَّةَ: مُشْرِكٌ قَتَلَ مُسْلِمًا، ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسْتَشْهَدُ بَعْدُ». (195) حَدَّثَنَاهُ مَحْبُوبُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ، عَن سُفْيَانَ ابْن حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). (196) وَحَدَّثَنَاهُ القَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (197) وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ البَغْدَادِيُّ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّا أَبُو زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن أَبِي الهُذَيْلِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: «إِنَّ الله يَضْحَكُ مِمَّنْ ذَكَرَهُ فِي الأَسْوَاقِ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (10636) من طريق محمد بن أبي حفصة، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 572)، من طريق عبد الرحمن بن يزيد، كلاهما عن الزهري، به. وهذا إسناد متماسك، وينظر الإسناد الذي بعده. (¬2) صحيح، أخرجه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (723)، من طريق القعنبي، به. وأخرجه البخاري (2826)، عن عبد الله بن يوسف التنيسي، والنسائي (6/ 38)، من طريق عبد الرحمن بن القاسم العتقي، وابن حبان (215)، من طريق أحمد بن أبي بكر أبي مصعب الزهري، والآجري (630)، من طريق مصعب بن عبد الله الزبيري، والبيهقي (9/ 278)، من طريق ابن وهب، كلهم عن مالك، به. والحديث في الموطإ (2/ 460)، ورواه مسلم (1890) وغيره، من حديث أبي الزناد، به. (¬3) إسناده حسن، إسماعيل بن زكريا مقارب الحديث، كما قال الإمام أحمد، وباقي إسناده ثقات. ولم أجد من أخرجه سوى المصنف. وقال أبوداود في المراسيل (1/ 112): «حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن نصر، قال: سألت سفيان بن عيينة قلت: يا أبا محمد أريد أسألك= = قال: لا تسأل، قلت: إذا لم أسألك فمن أسأل، قال: سل قلت: ما تقول في هذه الأحاديث التي رويت نحو: القلوب بين أصبعين، وأن الله يضحك أو يعجب ممن يذكره في الأسواق؟ فقال: «أمروها كما جاءت بلا كيف».

(198) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ نُمَيْرٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ قَالَتْ: لمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ - رضي الله عنه - صَاحَتْ أمُّهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ يَرْقَأُ دَمْعُكِ، وَيَذْهَبُ حُزْنُكِ؟ فَإِنَّ ابْنَكِ أوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللهُ إِلَيْهِ» (¬1). وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ ضَحِكِهِ مَا شَبَّهْتَ بِهِ أَيُّهَا المُعَارِضُ مِنْ ضَحِكِ الزَّرْعِ؛ مَا كَانَ يَقُولُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللهُ إِلَيْهِ»؛ لِأَنَّ خُضْرَةَ الزَّرْعِ وَنَضَارَتَهُ بَادِيَةٌ لِأَوَّلِ نَاظِرٍ إِلَيْهَا وَآخِرٍ، لَا يَقْصِدُ بِضَحِكِهِ إِلَى تَقِيٍّ، وَلَا يَصْرِفُهُ عَنْ شَقِيٍّ، فَكَمْ تَدْحَضُ فِي بَوْلِكَ، وَتَعْثُرُ فِي قَوْلِكَ، وتَغُرُّ مَنْ حَوْلَكَ!. أوَ لم تَقُلْ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ هَذَا أَنَّ الله لَا يُقاس بِالنَّاسِ، وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَوَهَّمَ فِي صِفَاتِهِ مَا يَعْقِلُهُ مِنْ نَفْسِهِ؟ وَأَنْتَ تَقِيسُهُ فِي ضَحِكِهِ بِالزَّرْعِ وَتَتَوَهَّمُ فِيهِ مَا تتَوَهَّمُ بِالزَّرْعِ. وادَّعيت أَيْضًا فِي صَدْرِ كِتَابِكَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي صِفَاتِ الله تَعَالَى اجْتِهَادُ الرَّأْيِ، وَأَنْتَ تَجْتَهِدُ فِيهَا أَقْبَحَ الرَّأْيِ، حَتَّى مِنْ قَبَاحَةِ اجْتِهَادِكَ تَتَخَطَّى بِهِ الحَقَّ إِلَى البَاطِلِ، وَالصَّوَاب إِلَى الخَطَإ. [58/ظ] ¬

(¬1) أخرجه أحمد (27581)، وفي فضائل الصحابة (2/ 824)، والسنة لابن أبي عاصم (559)، وابن خزيمة في التوحيد (2/ 580)، وغيرهم، من طريق يزيد بن هارون، به. وإسحاق بن راشد هذا قال الحافظ: مقبول، ولم نجد له متابع. وقال ابن خزيمة: «لست أعرف إسحاق بن راشد هذا، ولا أظنه الجزري، أخو النعمان بن راشد». تنبيه: أدخل ناسخ الأصل هذا الإسناد في الذي قبله من عند إسماعيل لانتقال نظره، ثم علق في الحاشية بقوله: مكرر. والإسناد المثبت هكذا في «س»، وفي مصادر التخريج جميعا.

أوَ لم تَذْكُرْ فِي كِتَابِكَ أَنَّهُ لَا يحْتَمل فِي التوحيد إِلَّا الصَّوَابُ فَقَطْ؟ فَكَيْفَ تَخُوضُ فِيهِ بِمَا لَا تَدْرِي؟ أَمُصِيبٌ أَنْتَ أَمْ مُخْطِئٌ؟ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا نرَاك تُفَسِّرُ التَّوْحِيدَ بِالظَّنِّ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَهُوَ قَوْلُكَ: يَحْتَمِلُ فِي تَفْسِيرِهِ كَذَا، وَيَحْتَمِلُ كَذَا تَفْسِيرًا وَيَحْتَمِلُ فِي صِفَاتِهِ كَذَا، وَيَحْتَمِلُ خِلَافَ ذَلِكَ كذا، وَيَحْتَمِلُ فِي كَلَامِهِ كَذَا وَكَذَا، وَالِاحْتِمَالُ ظَنٌّ عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ يَقِينٍ، وَرَأْيٌ غَيْرُ مُبِينٍ، حَتَّى تَدَّعِيَ لله فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ ألوَانًا كَثِيرَةً، وَوُجُوهًا كَثِيرَةً أَنَّهُ يَحْتَمِلُهَا لَا تَقِفُ عَلَى الصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ فَتَخْتَارَهُ، فَكَيْفَ تَنْدُبُ النَّاسَ إِلَى صَوَابِ التَّوْحِيدِ، وَأَنْتَ دَائِبٌ تجْهَلُ صِفَاتَه، وَأَنْتَ تَقِيسُهَا بِمَا لَيْسَ عِنْدَكَ بِيَقِينٍ؟ ولكنَّا نَظُنُّكَ تَقُولُ الشَّيْءَ فَتَنْسَاهُ، حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكَ فِيهِ مَا يَأْخُذُ بِحَلْقِكَ أَوْ يَكْظِمُكَ. وَالعَجَبُ مِنْ رَجُلٍ يَدَّعِي عَلَى قَوْمٍ زُورًا وَكَذِبًا أَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ اللهَ بَآدَمَ فِي صُورَتِهِ، فَتَدَّعِي عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ كُفْرًا، وَهُوَ يُشَبِّهُهُ فِي يَدِهِ بِأَقْطَعَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَفِي بَصَرِهِ بِأَعْمَى، وَفِي سَمْعِهِ بِأَصَمَّ، وَفِي وَجْهِهِ بِوَجْهِ القبْلَة، وَوُجُوه الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي كَلَامِهِ بِأَبْكَمَ، حَتَّى تَتَوَهَّمَ فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ كَكَلَامِ الجِبَالِ وَالشَّجَرِ، وَفِي ضَحِكِهِ بِالزَّرْعِ الأَخْضَرِ. فَكَيْفَ تُجِيزُ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَجْحَدُهُ عَلَى غَيْرِكَ؟ لَقَدِ احْتَظَرْتَ وَاسِعًا، وَكُلَّما احْتَجَجْتَ لِمَذْهَبِكَ مِنْ بَاطِلٍ احْتُمِلَ، وَمَا احتجَّ عَلَيْكَ غَيْرُكَ فِيهِ مِنْ حَقٍّ بَطُلَ! رُوَيْدَكَ بِالقَضَاءِ فَلَا تَعْجَلْ، فَتَزِلَّ قَدَمُكَ، وَتَسْتَجْهِلَ، وَتَفْتَضِحَ بِهَا عِنْدَ مَنْ عَقِلَ. وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَهْمِيَّةِ مِنَ الحُجَجِ إِلَّا مَا حَكَيْتَ عَنْهُمْ مِنْ هَذِهِ العَمَايَاتِ المُسْتَشْنَعَةِ، وَالتَّفَاسِيرِ المَقْلُوبَةِ؛ مَا أَسْدَيْتَ إِلَيْهِمْ بِذِكْرِهَا نَصِيحَةً، وَقَدْ زِدْتَهُمْ بِهَا فَضِيحَةً عَلَى فَضِيحَةٍ، إِذْ تُضِيفُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الشَّناَئِعَ القَبِيحَةَ، فَكَشَفْتَ عَنْهُمُ

الغِطَاءَ فِيمَا كَانَ بَيْنَهُمْ هَيْنَمَةَ فِي خَفَاء. وَرَوَى المُعَارِضُ أَيْضًا عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ الله قَدْ مَلَأَ العَرْشَ، حَتَّى إِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ، ثُمَّ فسَّر قَوْلَ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَدْ مَلَأَهُ آلَاءً وَنِعَمًا حَتَّى إِنَّ لَهُ أَطِيطًا، لَا عَلَى تَحْمِيلِ جِسْمٍ، فَقَدْ حَمَّلَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالجِبَالَ الأَمَانَةَ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَالأَمَانَةُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، فَكَذَلِكَ يَحْتَمِلُ مَا وَصَفَ عَلَى العَرْشِ. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: لَجْلَجْتَ بها ولبَّسْتَ، حَتَّى صَرَّحْتَ بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ عَلَى العَرْشِ، إِنَّمَا عَلَيْهِ آلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ، فَلَمْ يبقَ مِنْ إِنْكَارِ العَرْشِ غَايَةٌ بَعْدَ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَيْلَكَ! فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى العَرْشِ بِزَعْمِكَ إِلَّا آلَاؤُهُ، وَنَعْمَاؤُهُ، وَأَمْرُهُ فَمَا بَالُ العَرْشِ يَتَأَطَّطُ مِنَ الآءِ وَالنَّعْمَاءِ؟ لَكَأَنَّهَا عِنْدَكَ أَعْكَامُ الحِجَارَةِ وَالصُّخُورِ وَالحَدِيدِ؛ فَيَتَأَطَّطُ مِنْهَا العَرْشُ ثِقلًا، إِنَّمَا الآلَاءُ طَبَائِعُ أَوْ صَنَائِعُ لَيْسَ لَهَا ثِقَلٌ، وَلَا أَجْسَامٌ يَتَأَطَّطُ مِنْهَا العَرْشُ، مَعَ أَنَّكَ قَدْ جَحَدْتَ فِي تَأْوِيلِكَ هَذَا أَنْ يَكُونَ عَلَى العَرْشِ شَيْءٌ مِنَ الله، وَلَا مِنْ تِلْكَ الآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، إِذْ شَبَّهْتَهَا بِمَا حَمَّلَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالجِبَالَ مِنَ الأَمَانَةِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، فَقَدْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى العَرْشِ شَيْءٌ؛ لأنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [59/و] وَالجِبَالَ إِذْ أبينَ أَنْ يَحْمِلْنَ الأَمَانَةَ؛ لَمْ يُحَمِّلْهُنَّ الله شَيْئًا، بَلْ تَرَكَهُنَّ خلْوًا مِنْ تِلْكَ الأَمَانَةِ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. فَفِي دَعْوَاكَ لَيْسَ عَلَى العَرْشِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ الَّتِي ادَّعيت، كَمَا لَيْسَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَالجِبَالُ مِنْ تِلْكَ الأَمَانَةِ شَيءٌ فَكَما السماواتُ والأرضُ والجبالُ خلْوٌ مِنَ الأَمَانَةِ؛ كَذَلِكَ العَرْشُ عِنْدَكَ خلْوٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَلَيْهِ.

فَانْظُرْ أَيُّهَا الجَاهِلُ أَنْ تُورِدَكَ هَذِهِ التَّفَاسِيرُ مِنَ المَهَالِكِ، وَمَاذَا تَجُرُّ إِلَيْك مِنَ الجَهْلِ وَالضَّلَالِ، فَتَشْهَدُ عَلَيْكَ بِأَقْبَحِ المُحَالِ، وَلَمْ تَتَأَوَّلْ فِي العَرْشِ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ تَأْوِيلًا أَفْحَشَ وَلَا أَبْعَدَ مِنَ الحق من هَذَا. وَادَّعَيْتَ أَيْضًا أَنَّ قَتَادَةَ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَمَّا قَضَى الله خَلْقَهُ اسْتَلْقَى وَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ» (¬1). ثُمَّ فسَّره المُعَارِضُ بِأَسْمَجِ التَّفْسِيرِ وَأَبْعَدِهِ مِنَ الحَقِّ، وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَهُ. فَزَعَمَ أنَّه قِيلَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الحَدِيثِ: «إنَّ الله لَمَّا خَلَقَ الخَلْقَ اسْتَلْقَى»، فَتَفْسِيرُهُ: أَنَّهُ ألقَاهُمْ وبثَّهم، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى»، فَيَحْتَمِلُ أَنه أَرَادَ بِالرِّجْلِ الجَمَاعَةَ الكَثِيرَةَ، كَقَوْلِ النَّاسِ: «رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ»، فَنَسَبْتَ تِلْكَ الرِّجْلَ إِلَى الله كَمَا نُسِبَ رُوحُ عِيسَى إِلَى الله بِالإِضَافَةِ، فَألقَى رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ أَيْ جَمَاعَةً عَلَى جَمَاعَةٍ -فِي دَعْوَاهُ-. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: مَنْ يَتَوَجَّهُ لِنَقِيضَةِ هَذَا الكَلَامِ مِنْ شِدَّةِ اسْتِحَالَتِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ جَمِيعِ المَعْقُولِ عِنْدَ العَرَبِ وَالعَجَمِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الإِنْسِ؟ وَمَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهَا شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهَا يَنْطِقُ لَهَا حَتَّى لَا تحْتَاجَ نَقِيضَةً، وَيْلَكَ! عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا التَّفْسِيرَ؟ وَمَنْ عَلَّمَكَ؟ وَعَمَّنْ رَوَيْتَ هَذَا؟ فسمِّه ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (568)، والطبراني (19/ 13)، والبيهقي في الأسماء والصفات (767)، قال البيهقي عقبه: «فهذا حديث منكر».وقال ابن رجب الحنبلي في فتح الباري له (3/ 407): «لا أصل لرفعه وإنما هو متلقى من اليهود». وقال الشيخ الالباني رحمه الله في ظلال الجنة: منكر. وقد وقع في الأصل «أبا قتادة»، وهذا وهم إنما هو قتادة بن النعمان، وصوبته من «س»،والمصادر.

حَتَّى يَرْتَفِعَ عَنْكَ عَارُهُ، وَيَلْزَمَ مَنْ قَالَهُ، فَأَغْرِبْ بِهَا مِنْ ضَحِكَةٍ! وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ سُخْرِيَةٍ! وَيْحَكَ! أَخَلَقَ اللهُ خَلْقًا فَسَمَّاهُمْ رِجْلًا لَهُ ثمَّ أَلْقَى رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؟! أَحَطَبًا كَانُوا فَخَدَّهُم، فَألقَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الشَّمْسِ؟ وَفِي أَيِّ لُغَاتِ العَرَبِ وَجَدْتَ اسْتَلْقَى: فِي مَعْنَى ألقَى؟ فَإِنَّكَ لَمْ تَجِدْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ لُغَاتِهِمْ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ احْتِجَاجُكَ بِجَهْلِكَ لِمَقْلُوبِ تَفْسِيرِكَ هَذَا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَمَرَّ بِنَا رِجْلٌ مِنَ النَّاسِ وَانْزَوَى ... إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّجْلِ الثَّمَانِينَ أَرْجُلُ وَيْلَكَ! إِنَّمَا قَالَ: رِجْلٌ مِنَ النَّاسِ، وَرِجْلٌ مِنَ الثَّمَانِينَ، وَلَمْ يقلْ: رِجْلٌ مِنَ الله، كَمَا ادَّعَيْتَ أَنَّ الخَلْقَ رِجْلٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى ألقَى بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ انْتَحَلْتَ أَنْتَ فِيهِ قَوْلَ الشَّاعِرِ بِمَا بَهَتَّهُ بِهِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِهَذَا مَجْنُونٌ مَا زَادَهُ، فَبُؤْسًا لِقَرْيَةٍ مِثْلُكَ فَقِيهُهَا، والمَنْظَورُ إِلَيْهِ فِيهَا! * * *

وادَّعى المُعَارِضُ أَيْضًا زُورًا عَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الله: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] قَالَ: يَعْنُونَ بِذَلِكَ الجَنْبَ الَّذِي هُوَ العُضْوُ، وَلَيْسَ عَلَى مَا يَتَوهَّمُونَهُ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: مَا أَرْخَصَ الكَذِبَ عِنْدَكَ، [59/ظ] وأخفَّه عَلَى لِسَانِكَ! فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِي دَعْوَاكَ فَأَشِرْ بِهَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ قَالَهُ، وَإِلَّا فَلِمَ تُشَنِّع بِالكَذِبِ عَلَى قَوْمٍ هُم أَعْلَمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِنْكَ، وَأَبْصَرُ بِتَأْوِيلِ كِتَابِ الله مِنْكَ، وَمِنْ إِمَامِكَ؟ إِنَّمَا تَفْسِيرُهَا عِنْدَهُمْ، تَحَسُّرُ الكفَّار عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي الإِيمَانِ وَالفَضَائِلِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى ذَاتِ الله، وَاخْتَارُوا عَلَيْهَا الكُفْرَ وَالسُّخْرِيَةَ بِأَوْلِيَاءِ الله؛ فَسَمَّاهُمُ السَّاخِرِونَ. فَهَذَا تَفْسِيرُ الجَنْبِ عِنْدَهُمْ. فَمَا أَنْبَأَكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: جَنْبٌ مِنَ الجُنُوبِ؟ فَإِنَّهُ لَا يَجْهَلُ هَذَا المَعْنَى كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ المُسْلِمِينَ، فَضْلًا عَنْ عُلَمَائِهِمْ، وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه -: «الكَذِبُ مُجَانِبُ الإِيمَانِ» (¬1)، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: «لَا يَجُوزُ مِنَ الكَذِبِ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ» (¬2)، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «مَنْ كَانَ كَذَّابًا؛ فَهُوَ مُنَافِقٌ» (¬3)، فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مِنْهُم. * * * ¬

(¬1) صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (25994)، وأحمد (16)، وعنه ابنه عبد الله في السنة (786)،وغيرهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر - رضي الله عنه -. (¬2) صحيح، أخرجه أحمد (3896)، من طريق أبي الأحوص، والبخاري في الأدب المفرد (387)، من طريق أبي معمر، وابن المبارك في الزهد (1/ 491)، من طريق أبي عبيدة، وابن أبي شيبة (25939)، من طريق أبي البختري، وغيرهم عن ابن مسعود. (¬3) صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة (25997)، وابن بطة في الإبانة (938)، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي.

وَرَوَى المُعَارِضُ أَيْضًا عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً، مَنْ يَنْظُرُ إِلَى نَعِيمِهِ وَجَنَّاتِهِ مَسِيرَةَ ألفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى الله - عز وجل - مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ تَلَا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)} [القيامة: 22]» (¬1). قَالَ المُعَارِضُ: فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ نَظَرًا إِلَى مَا أعدَّ اللهُ لَهُمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الجَنَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى الجِنَانِ. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: قَدْ جِئْتَ بِتَفْسِيرٍ طَمَّ عَلَى جَمِيعِ تَفَاسِيرِكَ ضَحلةً وَجَهَالَةً، وَلَوْ قَدْ رَزَقَكَ اللهُ شَيْئًا مِنْ مَعْرِفَةِ العَرَبِيَّةِ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ هَذَا الكَلَامَ الَّذِي رَوَيْتَهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ، وَهَذِهِ الألفَاظِ الوَاضِحَةِ لَا يَحْتَمِلُ تَفْسِيرًا غَيْرَ مَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَتَلَا تَصْدِيقَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الله. وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِلَى وَجْهِ الله»، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى وُجُوهِ مَا أَعَدَّ الله لَهُمْ مِنَ الكَراَمَاتِ، وَمَنْ سَمَّى مِنَ العَرَبِ وَالعَجَمِ مَا أَعَدَّ اللهُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ وَجْهًا للهِ قَبْلَكَ؟ وَفِي أَيِّ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ وَجَدْتَ أَنَّ وَجْهَ اللهِ أَعْلَى جَنَّتِهِ؟ مَا لَقِيَ وَجْهُ اللهِ ذُو (¬2) الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ مِنْ تَفَاسِيرِكَ؟! مَرَّةً تَجْعَلُهُ مَا أعدَّ الله لِأَهْلِ الجنَّة، وَمَرَّةً تَجْعَلُهُ أَعْلَى الجَنَّةِ، وَمَرَّةً تَجْعَلُهُ وَجْهَ القِبْلَةِ، وَمَرَّةً تُشَبِّهُهُ بِوَجْهِ الثَّوْبِ، وَوَجْهِ الحَائِطِ، وَاللهُ سَائِلُكَ عمَّا تَتَلَاعَبُ بِوَجْهِهِ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. فَإِنْ كَانَ كَمَا ادَّعَيْتَ: أَنَّ أَكْرَمَهُمْ عَلَى اللهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ مَا أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ ¬

(¬1) أخرجه عبد بن حميد (819 - منتخب)، وعنه الترمذي (2553، 3330)، وأحمد (4623)، وعنه ابنه عبد الله في السنة (461)، وغيرهم من طرق عن ثوير بن أبي فاختة، وهو ضعيف كما قال يحيى بن معين، وأبو حاتم، وغيرهما. وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: قد نسب إلى الرفض. فالحديث ضعيف. (¬2) في الأصل «ذي»، وهو خلاف الجادة، والمثبت من «س».

مِنَ الكَرَامَةِ الَّتِي يَتَوَقَّعُونَهَا مِنَ اللهِ، أَفَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِكَ أَيْضًا: «إِنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أَعَدَّ الله لَهُمْ مِنَ جَنَّاتِهِ وَنَعِيمِهِ وَكَرَامَاتِهِ مَسِيرَةَ ألفِ سَنَةٍ، وَإِنَّ الأَدْنَيْنَ مِنْهُمْ يَتَوَقَّعُونَ مِنْ كَرَامَاتِ الله مَا يَتَوَقَّعُ أَكْرَمُهُمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَى أَعْلَى الجَنَّةِ كَمَا يَنْظُرُ أَكْرَمُهُمْ؟» فمَا مَوْضِعُ تَمْيِيزِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الأَدْنَى بِالنَّظَرِ إِلَى مُلْكِهِ وَنَعِيمِهِ، وَالأَعْلَى إِلَى وَجْهِهِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً؛ إِذْ كُلُّهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ [60/و] فِيهَا غَيْرُ مَحْجُوبِينَ، وَلَا عَنِ التَّوَقُّعِ مَمْنُوعِينَ حَتَّى تَلَا رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الأَكْرَمِينَ مِنْهُمْ مَا لم يَتْل فِي الأَدْنَيْنِ مِنْهُم تَثْبِيتًا لِوَجْهِهِ ذِي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، وَتَكْذِيبًا لِدَعْوَاكَ، فَقَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23] وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى كَرَامَاتِهَا نَاظِرَةٌ، فَسُبْحَانَ الله! مَا أَوْحَشَهَا مِنْ تَأْوِيلٍ، وَأَقْبَحَهَا مِنْ تَفْسِيرٍ، وَأَشَدَّهَا اسْتِحَالَةً فِي جَمِيعِ لُغَاتِ العَالَمِينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَرْزُقْكَ مِنَ الفَهْمِ إِلَّا مَا تَرَى، لَوْ تَكَلَّم بِهَذَا الكَلَامِ صِبْيَانُ الكُتَّابِ لَاسْتَضْحَكَ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَكَيْفَ رَجُلٌ يَعُدُّ نَفْسَهُ مِنْ عِدَادِ عُلَمَاءِ بِلَادِهِ؟ وَرَوَى المُعَارِضُ أَنَّ الحَجَّاجَ بْنَ مُحَمَّدٍ، رَوَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ (¬1). وَرَوَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - «رَأَى ربَّه جَعْدًا أَمْرَدَ عَلَيْهِ حُلَّة خَضْرَاءُ» (¬2). فادَّعى المُعَارِضُ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ فسَّروا هَذَا أَنَّ هَذِهِ صِفَةُ جِبْرِيلَ، فَعَرَفَ ¬

(¬1) رواه الطبراني في كتاب السنة كما في اللآليء المصنوعة للسيوطي (1/ 33 - 34)، من طريق حجاج بن محمد، به. وإسناده منقطع فإن ابن جريج، لم يسمع من الضحاك. (¬2) تقدم الكلام على هذا الحديث ص (281).

رَبَّهُ بِرُؤْيَةِ جِبْرِيلَ عِلْمًا بِقَلْبِهِ بإدرَاكِهِ جِبْرِيل عيَانًا، فَهَذَا تَفْسِيرُ أَنَّهُ رَأَى مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ الصُّورَةُ الَّتِي شَاهَدَ بِبَصَرِهِ، وَكَانَتْ الصُّورَةُ صُورَةُ جِبْرِيلَ. فَقُلْنَا لِهَذَا المُعَارِضِ المُنَاقِضِ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ فِي صَدْرِ كِتَابِكَ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ؟ ثُمَّ تَدَّعِي هَاهُنَا أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ فَسَّرُوهُ أَنَّهُ صُورَةُ جِبْرِيلَ، وَأَيُّ صَاحِبِ عِلْمٍ يُفَسِّرُ أَحَادِيثَ الزَّنَادِقَةِ، يُوهِمُ النَّاسَ أَنَّهَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ إلَّا إِنَّ يَكُونَ زُعَمَاؤُكَ هَؤُلَاءِ المُعَطِّلُونَ؟ وَكَيْفَ تُثْبِتُ الشَّهَادَةَ عَلَى حَدِيثِ الزَّنَادِقَةِ أَن هَذَا تَفْسِيره؟ أَو لَيْسَ قد أَنْبَأْنَاكَ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الرِّوَايَاتِ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: نُورٌ أنَّى أَرَاهُ»، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى ربَّه؛ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ؛ لِأَنَّ الله قَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]». غَيْرَ أَنَّكَ فَسَّرْتَهُ تَفْسِيرًا شَهِدْتَ فِيهِ بِالكُفْرِ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إِذْ ادَّعَيْتَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ رَبُّهُ، وَأَنَّهُ قَالَ لِصُورَةٍ مَخْلُوقَةٍ شَاهَدَهَا بِبَصَرِهِ أَنَّهُ رَبُّهُ، فَتَفَكَّرْ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِيمَا يَجْلِبُ عَلَيْكَ تَأْوِيلُكَ هَذَا مِنَ الفَضَائِحِ، حِينَ تَدَّعِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَعْرِفْ جِبْرِيلَ مِنَ اللهِ، حَتَّى يَرَى صُورَةَ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ شَابٍّ جَعْدٍ، فَيَدَّعِيَ أَنَّهُ رَبُّهُ بِزَعْمِكَ. لَوْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ أَبْكَمَ كَانَ خَيْرًا لَكَ مِنْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِهَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ! أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ: إِنَّ أَهْلَ العِلْمِ قَالُوا: إِنَّ هَذَا صُورَةُ جِبْرِيلَ، فَمِنْ أَيِّ أَهْلِ العِلْمِ سَمِعْتَ هَذَا التَّفْسِيرَ؟ فَأَسْنِدْهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْنِدُهُ إِلَّا إِلَى مَنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْكَ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ إِنَّمَا تُغَالِطُ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِتَدْفَعَ بِهَا قَوْلَ الله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23]، وَقَوْلُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: [60/ظ] «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ»، فَتُوهِمَ النَّاسَ

أَنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الَّتِي تَسْتَنْكِرُهَا، وَتَلْتَمِسُ لَهَا هَذِهِ العَمَايَاتِ كَالَّتِي يَرْوُونَ فِي الرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَأَنَّهُ لَا تُدْفَعُ تِلْكَ بِمِثْلِ هَذَا التَّفْسِيرِ المَقْلُوبِ، لِمَا أَنَّهَا قَدْ ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَسَانِيدَ كَالصُّخُورِ، فَلَا يُدْفَعُ إِلَّا بِأَثَرٍ مِثْلِهِ مَأْثُورٍ، فَارْبَحِ العَنَاءَ! فَقَدْ عَلِمْنَا حَوْلَ مَاذَا تَدُورُ، وَلَنْ تَغُرَّ بِمِثْلِهَا إِلَّا كُلَّ مَغْرُورٍ. وَاحْتَجَّ المُعَارِضُ أَيْضًا فِي إِنْكَار الرُّؤْيَة بِحَدِيث رَوَاهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ ضَرَبَ العُزَّى بِالسَّيْفِ فَقَالَ لَهُ: «كُفْرَانَكَ، لَا سُبْحَانَكَ، إِنِّي رَأَيْتُ الله قَدْ أَهَانَك» (¬1). قَالَ المُعَارِضُ: فَهَذِهِ رَؤْيَةُ عِلْمٍ لَا رُؤْيَةُ بَصَرٍ. قَالَ: يَعْنِي أَنَّ المُؤْمِنِينَ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا كَنَحْوِ مَا رَأَى خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ فِي دُنْيَاهُ. قَالَ المُعَارِضُ: وفسَّر قَوْمٌ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لِلشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ عَلَى العِلْمِ، كَمَا يُقال: رَأَيْتُ الخَلَّ شَدِيدَ الحُمُوضَةِ، وَرَأَيْتُ العُودَ طَيِّبًا، يُرِيدُ رَائِحَتَهُ كَمَا قَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} [الفيل: 1]، وَلَمْ يَرَهُ إِلَّا بِالمَعْرِفَةِ. وَكُلُّ شَيْءٍ يُدْرَكُ بِالرُّؤْيَةِ فَلَهُ قِلَّةٌ وَكَثْرَةٌ. فَاللهُ المُتَعَالِي عَنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا يُرَى بِدَلَائِلِهِ وَآثَارِ صُنْعِهِ، فَهِيَ شَوَاهِده لَا الَّذِي يُعْرَفُ بِمُلَاقَاةٍ وَلَا بِمُشَاهَدَةِ حَاسَّةٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ ذَهَبَتِ الشُّكُوكُ وَعَرَفُوهُ عَيَانًا، لَا بِإِدْرَاكِ بَصَرٍ. ثُمَّ قَالَ: فَإِن كَانَ الرِّوَايَات فَهَاهُنَا رِوَايَاتٌ أَيْضًا مُعَارِضَةٌ، وَإِنْ كَانَ يحْتَمل التَّأْوِيل فهاهنا مَا يَحْتَمِلُ أَيْضًا. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: أَمَّا الرِّوَايَاتُ فَمَا نَرَاكَ تَحْتَجُّ فِي جَمِيعِ مَا تَدَّعِي إِلَّا بِكُلِّ أَعْرَجَ مَكْسُورٍ، بِالتَّجَهُّمِ مَشْهُورٌ، وَفِي أَهْلِ السُّنَّةِ مَغْمُورٌ. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (36939)، والطبراني (3811)، وعنه أبو نعيم في المعرفة (2/ 929).

وَأَمَّا المَعْقُولُ الَّذِي تَدَّعِيهِ مِنْ كَلَامِكَ؛ فَقَدْ أَنْبَأْنَاكَ أَنَّهُ عِنْدَ العَرَبِ مَجْهُولٌ، وَعِنْدَ العُلَمَاءِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لَا يَخْفَى تَنَاقُضُهُ إِلَّا عَلَى كُلِّ جَهُولٍ. وَأَمَّا مَا احْتَجَجْتَ بِهِ مِنْ قَوْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ فَمَعْقُولٌ بِأَنَّ الله لمَّا قَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، ورَوَىَ أبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنه قَالَ: «نورأنَّى أَرَاهُ»، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا» آمَنَّا بِمَا قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الدُّنْيَا، فَلَمَّا قَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} [الفيل: 1]؛ عَلِمْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُدْرِكْهُ، وَلَمْ يَرَهُ لِمَا أَنَّهُ وُلِدَ عَامَ الفِيلِ، فَاسْتَيْقَنَّا عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ هَذِهِ رُؤْيَةُ عِلْمٍ، لَا رُؤْيَة بصر، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45]؛ فَاسْتَيْقَنَّا بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَمْ يرَ رَبَّهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِرُؤْيَةِ اللهِ عَيَانًا، وَأَنَّهُ رُؤْيَةُ الفِعْلِ مَدُودِ الظِّلِّ الَّذِي يَرَاهُ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ الوَلَيد: «إِنِّي رَأَيْتُ اللهَ قَدْ أَهَانَكَ» لِاجْتِمَاعِ الكَلِمَةِ مِنَ الله وَرَسُولِهِ، وَمِنْ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ [61/و] أَنَّ أَبْصَارَ أَهْلِ الدُّنْيَا لَا تُدْرِكُهُ فِي الدُّنْيَا. فَحِينَ حدَّ اللهُ لِرُؤْيَتِهِ حدًّا فِي الآخِرَة بِقَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] عَلِمْنَا أَنَّهَا رُؤْيَةُ عَيَانٍ، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ هَلْ رَأْيتَ رَبك؟ فَقَالَ: «نور أنى أَرَاهُ؟» فَلَمَّا سَأَلَهُ أَصْحَابُهُ: «أَنَرَاهُ فِي الآخِرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَرُؤْيَةِ الشَّمْس، وَالقَمَر لَيْلَة البَدْر». وأمَّا تَفْسِيرُكَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، رُؤْيَةُ آيَاتِهِ وَدَلَائِلِهِ [لَا إِدْرَاكُ بَصَرٍ] (¬1)، فَإِذَا رَأَوْا آيَاتِهِ ذَهَبت الشُّكُوكُ عَنْهُمْ، فَهَذِهِ أَفْحَشُ كَلِمَةٍ ادَّعَيْتَهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ مَاتُوا شُكَّاكًا لَمْ يَعْرِفُوا رَبَّهُمْ حَتَّى يَرَوْا آيَاتِهِ ¬

(¬1) ما بين المعقوفين ليس في الأصل، وأثبتته من «س».

يَوْمَ القِيَامَةِ فَبِهَا تَذْهَبُ الشُّكُوكُ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ. وَيْحَكَ! أمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ وَفِي قَلْبِهِ أَدْنَى شَكٌّ مِنْ خَالِقِهِ إِلَّا مَاتَ كَافِرًا؟ وَكَيْفَ تَعْتَرِي المُؤْمِنِينَ يَوْمَئذٍ الشُّكُوكُ، وَالكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ بِرُبُوبِيَّتِهِ مُوقِنُونَ لَا تَعْتَرِيهِمْ شُكُوكٌ؟ فَإِنْ كَانَتِ الشُّكُوكُ يَوْمَئِذٍ تَنْزَاحُ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِمَا تَصِفُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالعَلَامَاتِ، مِنْ غَيْرِ إِدْرَاكِ بَصَرٍ؛ فَكَذَلِك الكفَّار كُلُّهُم قد رَأَوْا يَوْمئِذٍ آيَاتِهِ وعَلَامَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إِدْرَاكِ بَصَرٍ، فَانْزَاحَتْ عَنْهُمُ الشُّكُوكُ، فَصَارُوا كَالمُؤْمِنِينَ فِي دَعْوَاكَ، فَمَا فَضْلُ بُشْرَى اللهِ وَرَسُولِهِ المُؤمنِينَ عَلَى الكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]؟ وَيْحَكَ! لَلْغِنَاءُ وَالعَزْفُ أَحْسَنُ مِمَّا تَدَّعِي عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا تَقْذِفُ بِهِ المُؤْمِنِينَ؛ أَنَّ الشُّكُوكَ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَا تَذْهَبُ عَنْهُمْ إِلَّا فِي الآخِرَةِ، يَوْمَ يَرَوْنَ آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ. فَأَمَّا مَا احْتَجَجْتَ بِهِ مِنْ قَوْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ حِينَ قَالَ: «رَأَيْتُ الله قَدْ أَهَانَكَ» فَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ فِيمَا أَنْتَ مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وَلَمْ يُدْرِكْ، وَلَمْ يُمْكِنْ إِدْرَاكُهُ، فَأَمَّا مَا يُرْجَى إِدْرَاكُهُ بِبَصَرٍ فَلَا يَجُوزُ فِي هَذَا المَجَازِ إِلَّا بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ مِنْ كِتَابٍ مَسْطُورٍ، أَوْ أَثَرٍ مَأْثُورٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ مَشْهُورٍ. وَقَوْلُ خَالِدٍ عِنْدَنَا مَعْنَاهُ كَمَعْنَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لعمر - رضي الله عنهما - يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يمتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَمْ تَسْمَعِ اللهَ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء: 34]، إِنَّمَا عَنَى أَبُو بَكْرٍ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ فِي كِتَابِهِ لِمَا أَنَّ العِلْمَ مِنْ جَمِيعِ العُلَمَاءِ قَدْ أَحَاطَ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَ اللهِ بَشَرٌ مِنْ بَنِي آدم غَيْرُ مُوسَى، فَحِينَ أَحَاطَ العِلْمُ بِذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ عَنَى قَوْلَهُ، لَا

السَّمَاعَ مِنَ الله، وَهَكَذَا قصَّةُ خَالِد بْن الوَلِيدِ، وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} لِإِحَالَةِ العِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَلا تَدْفَع مَا أَحَاطَ العِلْمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، مَا أَحَاطَ العِلْمُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ. وَمِثْلُهُ قَوْلُ الكُمَيْتِ: وَجَدْتُ اللهَ إِذْ سَمَّى نَزَارًا ... وَأَسْكَنَهُمْ بِمَكَّةَ قَاطِنِينَا لَنَا جَعَلَ المَكَارِمَ خَالِصَاتٍ ... فَلِلنَّاسِ القَفَا وَلَنَا الجَبِينَا فَحِينَ عَرَفْنَا يَقِينًا أَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ الله لَمْ يَجِدْهُ عَيَانًا فِي الدُّنْيَا؛ عَلَمِنْا أَنَّ قَوْلَ الكُمَيْتِ: «وَجَدْتُ الله» يُرِيدُ بِهِ المكارم الَّتِي أَعْطَاهُم اللهُ. * * *

وَادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا: أَنَّ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّ لله عَيْنًا، يُرِيدُونَ جَارِحًا [61/ظ] كَجَارِحِ العَيْنِ مِنَ الإِنْسَانِ، وَأَرَادُوا التَّرْكِيبَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. قَالَ المُعَارِضُ: وَالمَعْقُولُ بَيِّنٌ أَنَّ هَذَا يُرِيدُ عَيْنَ القَوْمِ، يَعْنِي رَئِيسَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ وَلَا يُرِيدُ جَارِحًا، وَلَكِنْ يُرِيدُ الَّذِي يَجُوزُ فِي الكَلَامِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} يَقُولُ: «فِي كَلَاءَتِنَا وَحِفْظِنَا» أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ القَائِلِ: عَيْنُ اللهِ عَلَيْكَ، يَقُولُ: أَنْتَ فِي حِفْظِ اللهِ وكَلَاءَتِهِ. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: أَمَّا مَا ادَّعَيْتَ أَنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ للهِ عَيْنًا فَإِنَّا نَقُولُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ قَالَهُ وَرَسُولَهُ، وَأَمَّا جَارِحٌ كَجَارِحِ العَيْنِ مِنَ الإِنْسَانِ عَلَى التَّرْكِيبِ؛ فَهَذَا كَذِبٌ ادَّعَيْتَهُ عَلَيْنَا عَمْدًا، لِمَا أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُهُ، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَأْلُو مَا شَنَّعْتَ، لِيَكُونَ أَنْجَعَ لِضَلَالَتِكَ فِي قُلْوبِ الجُهَّالِ، وَالكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، فَمِنْ أَيِّ النَّاسِ سَمِعْتَ أَنَّهُ قَالَ: جَارِحٌ مُرَكَّبٌ؟ فأشِرْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَائِلَهُ كَافِرٌ، فَكَمْ تُكَرِّرُ قَوْلَكَ: جِسْمٌ مُرَكَّبٌ، وأَعْضَاءٌ وَجَوَارِحُ، وَأَجْزَاءٌ، كَأَنَّكَ تُهَوِّلُ بِهَذَا التَّشْنِيعِ عَلَيْنَا أَنْ نَكُفَّ عَنْ وَصْفِ اللهِ بِمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا وَصَفَهُ الرَّسُولُ. وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَصِفِ اللهَ بِجِسْمٍ كَأَجْسَامِ المَخْلُوقِينَ، وَلَا بِعُضْوٍ وَلَا بِجَارِحَةٍ؛ لَكِنَّا نَصِفُهُ بِمَا يَغِيظُكَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْتَ ودُعَاتُك لَهَا مُنْكِرُونَ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، ذُو الوَجْه الكَرِيم، والسَّمْعِ السَّمِيع، والبَصَرِ البَصِير، نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ، وَكَمَا وَصَفَهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فِي دُعَائِهِ حِين يَقُول:

«اللهمَّ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» (¬1)، وَكَمَا قَالَ أَيْضًا: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟»، وَكَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: «نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ» (¬2). وَالنُّورُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِضَاءَةً واسْتِنَارَةً ومَرأَى ومَنْظَرًا، وَأَنَّهُ يُدْرَكُ يَوْمَئِذٍ بِحَاسَّةِ النَّظَرِ (¬3)، إِذَا كُشِفَ عَنْهُ الحِجَابُ، كَمَا يُدْرَكُ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ فِي الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا احْتَجَبَ اللهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ فِي الدُّنْيَا رَحْمَةً لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَجَلَّى فِي الدُّنْيَا لِهَذِهِ الأَعْيُنِ المَخْلُوقَةِ الفَانِيَةِ لَصَارَتْ كَجَبَلِ مُوسَى دَكًّا، وَمَا احْتَمَلَتِ النَّظَرَ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا أَبْصَارٌ خُلِقَتْ لِلْفَنَاءِ، لَا تحْتَمِلُ نُورَ البَقَاءِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ؛ رُكِّبَتِ الأَبْصَارُ لِلْبَقَاءِ فَاحْتَمَلَتِ النَّظَرَ إِلَى نُورِ البَقَاءِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}، أَنَّهُ قَالَ: بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا، (¬4) فَإِنْ صحَّ قَوْلُكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَمَعْنَاهُ الَّذِي ادَّعَيْنَا لَا مَا ادَّعَيْتَ أَنْتَ، يَقُولُ: بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا بِأَعْيُنِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي كَلَام العَرَبِ أَنْ يُوصَفَ بِكَلَائةٍ إِلَّا وَذَلِكَ الكَالِيءُ مِنْ ذَوِي الأَعْيُنِ، فَإِنْ جَهِلْتَ؛ فَسَمِّ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ ذَوِي الأَعْيُنِ يُوصَفُ بِالكَلَائةِ. وَإِنَّمَا أَصْلُ الكَلَائةِ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ كَالِئًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، ¬

(¬1) متفق عليه، أخرجه البخاري (1120، 6317، 7385، 7442، 7499)، ومسلم (769)، وغيرهما من طريق طاوس عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، به. (¬2) تقدم تخريجه برقم (107). (¬3) زاد هنا في الأصل، وس «والكلام»، ولا وجه لها في هذا السياق، وأظن أنه ضرب عليها في الأصل، والمثبت بدونها من بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (5/ 513). (¬4) زاد هنا في الأصل «فَإِنْ صَحَّ قَوْلُكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أَنَّهُ قَالَ: بِحِفْظِنَا وَكَلَاءَتِنَا»، وهو تكرار لانتقال نظر الناسخ.

وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الأَعْيُنِ، [62/و] وَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِكَ: عَيْنُ الله عَلَيْكَ، فَافْهَمْ، وَقَدْ فسَّرنا لَكَ بَعْضَ هَذَا الكَلَامِ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا، غَيْرَ أَنَّكَ أَعَدْتَهُ لَجَاجَةً مِنْكَ، اغْتِيَاظًا عَلَى مَنْ يُؤمِنُ بِرُؤْيَةِ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَاغْتِيَاظِكَ وَإِفْرَاطِكَ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَانْتدبْتَ مُختلطًا غَضْبَانًا تَدَّعِي أَنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ، لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُم وَلَا نَظَرَ لَدَيْهِمْ، يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقُولَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَألزَمَ بِجَهْلِهِ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ الكُفْرَ، وَهُوَ الكَافِرُ عَيَانًا فِيمَا يتَكَلَّفُ مما لم يُؤْمَرْ بِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ السَّلَفُ، فَجَاءَ الظَّالِمُ الجَرِيءُ فَهُوَ آمِنٌ بِجَهْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَرْضَى حَتَّى يَنْسِبَ المُؤْمِنَ التَّقِيَّ الكَافَّ عَنِ الخَوْضِ فِيهِ إِلَى الكُفْرِ. ثُمَّ وَصَفَ أَنَّ الكَلَامَ مِنَ النَّاطِقِ لَا يُسَمَّى مُحْدَثًا مَتَى مَا قَالَهُ، وَلَا يَتْرُكُونَ مَنْ عَرَفَ وَجْهَ الكَلَامِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: لَا كُلُّ هَذَا الاخْتِلَاط (¬1) غَيْرَةٌ، غَيْرَ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْكَ، إِنَّكَ لَا تُبْدِي هَذَا إِلَّا عَنْ حُرْقَةٍ، فَأَهْلٌ لَكَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الكَلَامَ مِنَ النَّاطِقِ مُحْدَثًا، فقَدْ فَهِمْنَا مُرَادَكَ مِنْ هَذَا، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَهُ مَخْلُوقًا مُحْدَثًا للهِ فَقَدْ صَدَقْتَ فِي دَعْوَاكَ عَلَيْهِمْ: لَا يَرَوْنَهُ مُحْدَثًا لله كَمَا ادَّعَيْتَ، وَمَنْ رَآهُ مُحْدَثًا للهِ عَدُّوُهُ كَافِرًا، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللهَ كَانَ، وَلَا كَلَامَ لَهُ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ السَّلَفُ، فَقَدْ أَنْبَأْنَاكَ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنَ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا أَعَلْمَ بِالله وَبِكِتَابِهِ مِنْ سَلَفِكَ الَّذِينَ احْتَجَجْتَ بِهِمْ؛ مِثْلِ المَرِيسِيِّ وَابْنِ الثَّلْجِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ، وَأَمَّا مَا تَصِفُ عَنْ نَفْسِكَ مِنَ الكَفِّ عَنِ الخَوْضِ فِيهِ، فَقَلَّمَا رَأَيْنَا أَسْفَقَ عَيْنًا مِنْكَ وَلَا أَقَلَّ حَيَاءً، ¬

(¬1) في الأصل «الأخلاط» والنثبت من «س»، ونسخة على «ع».

أَوَلَيْسَ كُلُّ مَا ضَمَّنْتَ هَذَا الكِتَابَ مِنْ هَذِه العَمَايَات خَوْضٌ كُلَّهُ؟ فَإِنَّا مَا رَأَيْنَا خَائِضًا فِيهِ أَقْبَحَ مِنْكَ خَوْضًا، وَأَوْحَشَ مِنْكَ تَأْوِيلًا وَأَقَلَّ مِنْكَ إِصَابَةً، فَمِثْلُكَ فِي وَعْظِكَ كَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفَسَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: لَا يَتْرُكُونَ مَنْ عَرَفَ وُجُوهَ الكَلَامِ مَا ضَمَّنْتَ هَذَا الكَلَامَ (¬1) عَنْ نَفْسِكَ وَعِنْ إِمَامِكَ المَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ، فَقَدِ انْقَلَبَتْ لُغَاتُ العَرَب، فَصَارَ المُنْكَرُ مِنْهَا مَعْرُوفًا وَالمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالعَرَبِيُّ عَجَمِيًّا، وَالعَجَمِيُّ عَرَبِيًّا؛ لِأَنَّ تَفَاسِيرَكُمْ هَذِهِ كُلَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلُغَاتِهِمْ، وَلِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. مَنْ أَئِمَّتُكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَنْسبُهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ وُجُوهِ الكَلَامِ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا لِأَهْلِ السُّنَّةِ حُجَّةً مِنْ كِتَابِ الله عَلَى الجَهْمِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ إِلَّا نَقَضُوهَا بِخُرَافَاتٍ وَعَمَايَاتٍ، وَلَا تَرَكُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا صَحِيحًا نَاقِضًا لِمَذْهَبِهِمْ إِلَّا وردُّوهُ بِتِلْكَ العَمَايَات. لَقَدْ تَرَكُوا مَعْرِفَةَ كِتَابِ الله وَالسُّنَّةِ شَرْقًا (¬2) ومَغْرِبًا مِثْلَ انْتِحَالِكَ لِهَؤُلَاءِ بِحُسْنِ الكَلَامِ مِمَّا يُوَافِقُ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، كَمَا قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْط كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُوُر» (¬3)؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا فِيهَا مِنَ البَصَرِ إِلَّا خِلَافَ مَا مَضَى عَلَيْهِ أَسْلَافُ المُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ البَصَرِ، فَإِنْ جَحَدْتَهُ فَهَاهُنَا رِوَايَاتُهُمْ وَتَفَاسِيرُهُمْ إِذَا نَظَرَ فِيهَا [62/ظ] النَّاظِرُ؛ اسْتَيْقَنَ بِضَلَالِ تَفْسِيرِكُمْ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى قِلَّةِ عِلْمِكُمْ بِالمُسْتَحَالَاتِ مِنْهَا، فَمَا تَدْرِي أَيُّ زُعَمَائِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُبْصِرُونَ وُجُوهَ الكَلَامِ؟ فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَكَيْتَ عَنْهُمْ هَذِهِ العَمَايَاتِ، ¬

(¬1) في «س» (الكتاب)، والمثبت من الأصل. (¬2) في الأصل غير واضحة، وكتب في الحاشية «م شرقا»، فلعلها في نسخة هكذا. (¬3) أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2130)، وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -.

فَقَدْ أَنْبَأْنَاكَ بِنَاقِضِهَا وَاسْتِحَالَتِهَا، مِمَّا يَجْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الكُفْرِ الَّذِي لَا مَخْرَجَ لَهُمْ مِنْهَا، فَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُبْصِرُونَ وُجُوهَ الكَلَامِ مِنْ زُعَمَائِكَ؟ أَهُوَ المَرِيسِيُّ المَشْهُور بالتَّجَهُّم؟ فَقَدْ أَنْبَأْنَاكَ عَوْرَةَ كَلامِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّلْجِيُّ، وَكَذَلِكَ ضِرَارٌ (¬1)، ذَاكَ الزِّنْدِيقُ الَّذِي تَنْتَحِلُ بَعْضَ كَلَامِهِ، وَتُكَنِّي عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ البَصَرِ هَؤُلَاء، وَأَحْسَنُ الكَلَامِ عِنْدَكَ مَا حَكَيْتَ عَنْ هَؤُلَاءِ؛ فَإِلَى اللهِ نَبْرَأُ مِمَّا حَكَيْتَ عَنْهُمْ، لَلْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ، وَنُبَاحُ الكِلَابِ أَحْسَنُ مِمَّا حَكَيْتَ عَنْهُمْ مِنْ هَذِهِ الحِكَايَاتِ الَّتِي لَا تَنْقَاسُ فِي كِتَابٍ، وَلا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ. أَحَسَدْتَهُمْ أَيُّهَا المُعَارِضُ فِيمَا أَصَابُوا بِهَذِهِ العَمَايَاتِ مِنْ وُجُوه الحَقِّ أم فِيمَا نَالُوا مِنَ المَرَاتِبِ السَّنِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الإِسْلَامِ، وَالثَّنَاءِ الحَسَنِ عَلَى أَلْسُنِ المُؤْمِنِينَ، حَتَّى انْتَحَلْتَ مَذْهَبَهُمْ وَاحْتَجَجْتَ بِكَلَامِهِمْ؛ حَتَّى تَنَالَ بِذِكْرِهِمْ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا مِثْلَ مَا نَالُوا؟! إِذْ يُدعى أَحَدُهُمْ زِنْدِيقٌ، وَالآخَرُ جَهْمِيٌّ، وَالآخَرُ تُرْسُ الجَهْمِيَّةِ يَعْنُونَ: ابْنَ الثَّلْجِيِّ، وَهَنِيئًا لَكَ مِيرَاثُهُمْ غَيْرَ مَحْسُودٍ وَلَا مَغْبُوطٍ! فَبِأَيِّ مُتَكَلِّمٍ مِنْهُمْ تَسْتَطِيلُ؟ أَبِالَّذِي زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ؟ أَمْ بِالَّذِي قَالَ: أَسْمَاءُ اللهِ مُحْدَثَةٌ مُسْتَعَارَةٌ مَخْلُوقَةٌ؟ أَمْ بِالَّذِي زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَبُّ؟ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ فَضَائِحِ مَا حَكَيْتَ عَنْهُم فِي كِتَابِكَ هَذَا كثيرًا. هَؤُلَاءِ عِنْدَكَ أَهْلُ البَصَرِ بِالكَلَامِ، وَأَهْلُ المَعْرِفَةِ بِالتَّمْيِيزِ؟ فَقَدْ أَخْبَرْنَاكَ أَنَّ النَّوْحَ وَالغِنَاءَ، وَنُبَاحَ الكِلَابِ أَحْسَنُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَتَفَاسِيرِهِمْ. * * * ¬

(¬1) هوضرار بن عمرو، من رؤوس المعتزلة، شيخ الضرارية. يقال مات في زمان الرشيد ينظر سير أعلام النبلاء (10/ 544) ..

ثُمَّ زَعَمَ المُعَارِضُ أَنَّهُ فَرَغَ مِنَ الأَحَادِيثِ المُشْتَبِهَةِ، وَابْتَدَأَ فِي التَّوْحِيدِ بالمَعْقُولِ ثُمَّ حَكَى في تَفْسِيرِ التَّوْحِيدِ كَلَامًا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الفِقْهِ وَالعِلْمِ، وَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْهَا فِي الرِّوَايَاتِ. فَقَالَ: سَلِ الرَّجُلَ: هَلْ عَرَفْتَ الخَلْقَ بِاللهِ، أَوْ عَرَفْتَ اللهَ بِالخَلْقِ؟ فيُقالُ لَهُ: مَعْبُودُكَ هَذَا مَا هُوَ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَمَا صِفَتُهُ؟ وَمَا مِثَالُهُ؟ ثمَّ فسَّرهما بِتَفَاسِير لَا يَأْثُرُ شيءً مِنْهَا عَنْ أَحَدٍ مَوْسُومٍ بِالعِلْمِ مِمَّنْ مَضَى وَمِمَّنْ غَبَرَ، فَلَمْ أَجِدْ لِبَعْضِهَا نَقِيضَةً أَسْلَمَ مِنَ الإِمْسَاكِ عَنْ جَهْلِ الجَاهِلِينَ، وَكَثِيرًا مِنْهَا قَدْ فَسَّرْتُ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا، فَإِنْ لَمْ يوحِّد اللهَ من أمة مُحَمَّدٍ إِلَّا مَنْ قَامَ بِهَذِا الخُرَافَاتِ، وَجَوَابِهَا مَا فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ هَذَا المُعَارِضِ مُوَحِّدٌ. وَقَدْ فسَّرنا لِلْمُعَارِضِ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْحِيدِ مَا كَانَ فِيهِ مَنْدُوحَةٌ من هَذِه التَّخَالِيط: أَنَّهُ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هَذَا تَفْسِيرُهُ المَعْقُولُ، وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى وَالعُرْوَةُ الوُثْقَى، مَنْ جَاءَ بِهَا مُخْلِصًا؛ فَقَدْ وَحَّدَ الله تَعَالَى، وَإِن لم يَجِئْ بِمَا فَسَّرَ المُعَارِضُ ولم يحسن مِنْ هَذِهِ العَمَايَاتِ وَهِيَ الكَلِمَةُ الَّتِي رَضِيَ بِهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - من عَمِّهِ، وهُوَ الدَّلِيل على إِيمَانِ الرَّجُلِ وَإِسْلَامِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! أَوَلَمْ تَزْعُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي التَّوْحِيدِ إِلَّا الصَّوَابُ؟ [63/و] أَفَتَأْمَنُ الجَوَابَ فِي هَذِهِ العَمَايَاتِ أَنْ تَجُرَّكَ إِلَى الخَطَإِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالخَطَأُ فِيهِ كُفْرٌ؟ فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ نَفْسِكَ لِمَا نَدَبْتَ إِلَيْهِ غَيْرَكَ مِنَ الخَوْضِ فِيهِ وَمَا أَشْبَهَهُ؟ ثُمَّ عَادَ المُعَارِضُ إِلَى أَسْمَاءِ الله تَعَالَى ثَانِيَةً، فَادَّعَى أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الأَسْمَاءَ هِيَ ألفَاظٌ، ولا يكون لَفْظٌ إِلَّا مِنْ لَافِظٍ، إِلَّا أَنَّ مِنْ مَعَانِيهَا مَا هِيَ قَدِيمَةٌ، وَمِنْهَا حَدِيثَةٌ. وَقَدْ فَسَّرْنَا لِلْمُعَارِضِ تَفْسِيرَ أَسْمَاءِ الله فِي صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا، وَاحْتَجَجْنَا

عَلَيْهِ بِمَا تَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَمْ نُحِبَّ إِعَادَتَهَا هَاهُنَا لِيَطُولَ بِهِ الكِتَابُ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: هِيَ «لَفْظُ اللَّافِظِ» يَعْنِي: أَنَّهُ مِنَ ابْتِدَاعِ المَخْلُوقِينَ بِألفَاظِهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَلْفِظُ بِشَيْءٍ -فِي دَعْوَاه-، وَلَكِنْ وَصَفَهُ بِهَا المَخْلُوقُونَ، فَكُلَّمَا حَدَثَ للهِ فِعْلٌ -فِي دَعْوَاهُ- أَعَارَهُ العِبَادُ اسْمَ ذَلِكَ الفِعْلِ، يَعْنِي أَنَّهُ لمَّا خَلَقَ؛ سَمَّوْهُ خَالِقًا، وَحِينَ رَزَقَ؛ سَمَّوْهُ رَازِقًا، وَحِينَ خَلَقَ الخَلْقَ فَمَلَكَهُمْ؛ سَمَّوْهُ مَالِكًا، وَحِينَ فَعَلَ الشَّيْءَ؛ سَمَّوْهُ فَعَّالًا. وَلِذَلِكَ قَالُوا: مِنْهَا حَدِيثَةٌ وَمِنْهَا قَدِيمَةٌ، فَأَمَّا قَبْلَ الخَلْقِ -فَبِزَعْمِهِمْ- لَمْ يَكُنْ للهِ تَعَالَى اسْمٌ، وَكَانَ كَالشَّيْءِ المَجْهُولِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرِى ما هو حتى حَدَثَ الخَلْقُ فَأَحْدَثُوا أَسْمَاءَهُ، وَلَمْ يَعْرِفِ اللهُ -فِي دَعْوَاهُمْ- لِنَفْسِهِ اسْمًا حَتَّى خَلَقَ الخَلْقَ؛ فَأَعَارُوهُ هَذِهِ الأَسْمَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَيَقُولُ: {أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]، وَ «أَنَا الله الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ»، {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160]، فَنَفَوْا كُلَّ ذَلِكَ عَنِ الله - عز وجل - مَعَ نَفْيِ الكَلَامِ عَنْهُ، حَتَّى ادَّعى جَهْمٌ: أَنَّ رَأْسَ مِحْنَتِهِ نَفْيُ الكَلَامِ عَنِ الله تَعَالَى فَقَالَ: مَتَى نَفَيْنَا عَنْهُ الكَلَامَ، فَقَدْ نَفَيْنَا عَنْهُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ، مِنَ النَّفْسِ وَاليَدَيْنِ، وَالوَجْهِ، وَالسَّمْعِ، وَالبَصَرِ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا لِذِي نَفْسٍ وَوجه وَيَد وَسمع وَبَصَرٍ، وَلَا يَثْبُتُ كَلَامٌ لِمُتَكَلِّمٍ إِلَّا مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ. وَكَذَبَ جَهْمٌ وَأَتْبَاعُهُ فِيمَا نَفَوْا عَنْهُ مِنَ الكَلَامِ، وَصَدَقُوا فِيمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الكَلَامُ إِلَّا لمن اجْتَمَعَتْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتُ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِي اللهِ عَلَى رَغْمِ أَعْدَاءِ اللهِ، وَإِنْ جَزَعُوا مِنْهُ، بِلَا تَكْيِيفٍ، وَلَا تَمْثِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَسْمَائِهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ المُنَزَّلِ عَلَى نَبِيِّهِ المُرْسَلِ، وَوَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ. وَقَوْلُهُ وَوَصْفُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، -عَلَى رَغْمِ الجَهْمِيَّةِ- غَيْرَ أَنَّ الوَصْفَ مِنَ الله عَلَى لَوْنَيْنِ: أَمَّا مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَالْوَصْفُ والوَاصِفُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَمَّا مَا

وَصَفَ بِهِ خَلْقَهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ وَالشَّجَرِ، وَالجِنّ وَالإِنْس والأَنْعَامِ وسَائِرِ الخَلَائِقِ، فَالوَصْفُ مِنْهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالمَوْصُوفَاتُ مَخْلُوقَاتٌ كُلُّهَا. * * *

وَادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا: أَنَّ اللهَ لَا يُوصَفُ بِالضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ مُنْتَفِي عَنِ اللهِ تَعَالَى وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ المُعَارِضِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ قَدِيمَةٌ مِنْ كَلَامِ جَهْمٍ؛ عَارَضَ بِهَا جَهْمٌ قَوْلَ الله تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، يَدْفَعُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللهُ سَبَقَ لَهُ عِلْمٌ فِي نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ، [63/ظ] قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَطَّفَ بِذِكْرِ الضَّمِيرِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهُ عِنْدَ الجُهَّالِ. فَردَّ عَلَى جَهْمٍ بَعْضُ العُلَمَاءِ قَوْلَهُ هَذَا وَقَالُوا لَهُ: كَفَرْتَ بِهَا يَا عَدُوَّ الله مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٍ: أَنَّكَ نَفَيْتَ عَنِ الله تَعَالَى العِلْمَ السَّابِقَ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ حُدُوثِ الخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ. وَالوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّكَ اسْتَجْهَلْتَ المَسِيحَ أَنَّهُ وَصَفَ اللهَ تَعَالَى بِمَا لَا يُوصَفُ بِأَنَّ لَهُ خَفَايَا عِلْمٍ فِي نَفْسِهِ؛ إِذْ يَقُولُ لَهُ: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. وَالوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّكَ طَعَنْتَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ إِذْ جَاءَ بِهِ مُصَدِّقًا لِعِيسَى، فَأَفْحَمَ جَهْمًا. وَقَوْلُ جَهْمٍ: لَا يُوصَفُ اللهُ بِالضَّمِيرِ، يَقُولُ: لَمْ يَعْلَمِ اللهُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الخَلْقِ قَبْلَ حُدُوثِهِمْ وَحُدُوثِ أَعْمَالِهِمْ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَعْطِيلِ النَّفْسِ وَالعِلْمِ السَّابِقِ، وَالنَّاقِضُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ قَوْلُ الله تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، فَذكر المَسِيحُ أَنَّ للهِ عِلْمًا سَابِقًا فِي نَفسه، يُعلمهُ اللهُ، ولا يَعْلَمُهُ هُوَ، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه: 41]، وَ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].

وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لمَّا خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: أَن رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي». (199) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). (200) وحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ اللهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِذَا ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ؛ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ؛ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ خَيْر مِنْهُم» (¬2). فقد أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ اللهَ يُخْفِي ذِكْرَ العَبْدِ فِي نَفْسِهِ إِذَا أَخْفَى ذِكْرَهُ، وَيُعْلِنُ ذِكْرَهُ؛ إِذَا هُوَ أَعْلَنَ ذِكْرَهُ، فَفَرَّقَ بَيْنَ عِلْمِ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ، وَالجَهْرِ وَالخَفَى، فَإِذَا اجْتَمَعَ قَوْلُ اللهِ وَقَوْلُ الرَّسُولَيْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- فَمَنْ يَكْتَرِثُ لِقَوْلِ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا؟ فَنَفْسُ اللهِ، هُوَ اللهُ. وَالنَّفْسُ تَجْمَعُ الصِّفَاتِ كُلَّهَا، فَإِذَا نَفَيْتَ النَّفْسَ؛ نَفَيْتَ الصِّفَاتِ، وَإِذَا نَفَيْتَ الصِّفَاتِ؛ كَانَ لاشَيءٌ. (201) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَبَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا البَخْتَرِيِّ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: الَّلهُمَّ أَدْخِلْنِي مُسْتَقَرَّ رَحْمَتِكَ، فَإِنَّ مُسْتَقَرَّ رَحْمَتِهِ نَفْسُهُ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (7404)، من طريق الأعمش، به. ومسلم (2751)، من طريق الأعرج، عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675)، وغيرهما من طريق الأعمش، به. (¬3) إسناده صحيح إلى إبي البختري الطائي سعيد بن فيروز، ولم أقف له على تخريج، = ... =وقد روى البخاري في الأدب المفرد (768)، من طريق أَبي الْحَارِثِ الْكَرْمَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي رَجَاءٍ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَمَا مُسْتَقَرُّ رَحْمَتِهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ، قَالَ: لَمْ تُصِبْ، قَالَ: فَمَا مُسْتَقَرُّ رَحْمَتِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: رَبُّ الْعَالَمِينَ. وقال الألباني: صحيح.

فَقَدْ أَخْبَرَ أَبُو البَخْتَرِيِّ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15]. (202) فَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْر، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الحَنَفِيِّ: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} قَالَ: «من نَفسِي» (¬1). فَأَيُّ مُسْلِمٍ سَمِعَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَى أَقَاوِيلِهِمْ إِلَّا كُلُّ شَقِيٍّ غَوِيٍّ. وَلَوْ قَدْ أَظْهَرَ المُعَارِضُ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ بِبَلَدٍ سِوَى بَلَدِهِ؛ لَظَنَنَّا أَنَّهُ كَانَ يُنْفَى عَنْهَا، وَجَانَبَهُ مِنْ أَهْلِهَا أَهْلُ الدِّينِ وَالوَرَعِ. وَيْحَكَ! إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَرْضَوْا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذْ أَفْتَى بِخِلَافِ رِوَايَاتٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -[64/و] فِي «البَيِّعَيْن بِالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا» (¬2)، وَفِي «الوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ» (¬3) و «إِشْعَار البُدْن» (¬4) وَفِي «إِسْهَامِ الفَارِسِ وَالرَّاجِلِ» (¬5) وَفِي «لبس المحرم الخُفَّيْنِ إذا لم يَجِدِ النَّعْلَيْنِ» (¬6). ¬

(¬1) إسناده صحيح، رجاله ثقات. وأبو صالح الحنفي اسمه عبد الرحمن بن قيس من الوسطى من التابعين. (¬2) أخرجه البخاري (2107)، وغيره من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) أخرجه مسلم (360)، من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬4) أخرجه البخاري (1696)، ومسلم (1321)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) أخرجه البخاري (2863)، ومسلم (1762)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬6) أخرجه البخاري (1841)، ومسلم (1178)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الأَحَادِيث حَتَّى نَسَبُوا أَبَا حَنِيفَةَ فِيهَا إِلَى رَدِّ حَدِيثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَنَاقَضُوهُ فِيهَا، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ فِيهَا الكُتُبَ. فَكَيْفَ بِمَنْ نَاصَبَ اللهَ فِي صِفَاتِهِ الَّتِي يَنْطِقُ بنصِّها كِتَابُهُ، فَيَنْقُضُهَا عَلَى اللهِ صِفَةً بَعْدَ صِفَةٍ، وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِعَمَايَاتٍ مِنَ الحُجَجِ وَخُرَافَاتٍ مِنَ الكَلَامِ خِلَافَ مَا عَنَى اللهُ، وَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا الرِّوَايَاتُ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهَا عَن العلمَاء الثِّقَات، بَلْ كُلُّهَا ضَحِكٌ وَخُرَافَاتٌ؟ فَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتَحَقَّ بِمَا أَفْتَى مِنْ خِلَافِ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى رَدِّ حَدِيثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ اسْتَحْقَقْتُمْ أَنْتُمْ أَنْ تُنْسَبُوا إِلَى رَدِّ مَا أَنْزَلَ اللهُ - عز وجل -، بَلْ أَنْتُمْ أَوْلَى بِالرَّدِّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى بَعْضِ فُتْيَاهُ بَعْضُ الفُقَهَاءِ، وَلَمْ يُتَابِعْكُمْ عَلَى مَذَاهِبِكُمْ إِلَّا السُّفَهَاءُ وَأَهْلُ البِدَعِ والأَهْوَاءِ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لَهُ إِلَهًا فِي السَّمَاءِ، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا أَفْتَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ كَفَرَ كَمَنْ أَخْطَأَ، وَلَا هُمَا فِي الإِثْمِ والعَارِ سَوَاءٌ. وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا بِحَمْدِ الله تَعَالَى مِنْ لُغَاتِ العَرَبِ هَذِهِ المَجَازَاتِ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا دَلَسَةً وَأُغْلُوطَةً عَلَى الجُهَّالِ، تَنْفُونَ بِهَا عَنِ اللهِ حَقَائِقَ الصِّفَاتِ بِعِلَلِ المَجَازَاتِ. غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: لَا يُحْكَمُ لِلْأَغْرَبِ مِنْ كَلَامِ العَرَبِ عَلَى الأَغْلَب، وَلَكِن نَصْرِفُ مَعَانِيهَا إِلَى الأَغْلَبِ، حَتَّى تَأْتُوا بِبُرْهَانٍ أَنَّهُ عَنَى بِهَا الأَغْرَبَ، وَهَذَا هُوَ المَذْهَبُ الَّذِي إِلَى العَدْلِ وَالإِنْصَافِ أَقْرَبُ، لَا أَن تُعْتَرِضَ صِفَاتِ اللهِ المَعْرُوفَةَ المَقْبُولَةَ عِنْدَ أَهْلِ البَصَرِ فَتُصْرِفُ مَعَانِيَهَا بِعِلَّةِ المَجَازَاتِ إِلَى مَا هُوَ أَنْكَرُ، وَتَرُدَّ عَلَى اللهِ بِدَاحِضِ الحُجَج، وبِالَّتِي هِي أَعْوَجُ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ القُرْآنِ وَجَمِيعُ ألفَاظِ الرِّوَايَاتِ، تُصْرَفُ مَعَانِيهَا إِلَى العُمُومِ، حَتَّى يَأْتِيَ مُتَأَوِّلٌ بِبُرْهَانٍ بَيِّنٍ أَنَّهُ

أُرِيدَ بِهَا الخُصُوصُ؛ لِأَنَّ الله تَعَالَى قَالَ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، فَأَثْبَتُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ: أَعَمُّهُ وأَشَدُّه اسْتِفَاضَةً عِنْدَ العَرَبِ، فَمَنْ أَدْخَلَ مِنْهَا الخَاصَّ عَلَى العَامِّ؛ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَتَّبِعَ فِيهَا غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ. فَمُرَادُ جَهْمٍ بِقَوْلِهِ «لَا يُوصَفُ اللهُ بِضَمِيرٍ» يَقُولُ: لَا يُوصَفُ اللهُ بِسَابِقِ عِلْمٍ فِي نَفْسِهِ، وَالله مُكَذِّبُهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَسُولُهُ؛ إِذْ يَقُولُ: «سَبَقَ عِلْمُ الله فِي خَلْقِهِ، فَهُمْ صَائِرُونَ إِلَى ذَلِك». (203) حَدَّثَنَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ العَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُرَقِي، عَن أَبِيهِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). (204) وحَدَّثَنَا نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ - رضي الله عنهما - قَالَ: سمعتُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ» (¬2). ¬

(¬1) إسناده حسن، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (111)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (677)، من طريق المصنف، به، ورجاله ثقات خلا العلاء بن عبد الرحمن الحرقي، قال النسائي: ليس به بأس، وكذلك قال ابن معين فيما رواه المصنف عنه. (¬2) صحيح، أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (112)، والترمذي (2642)، وأحمد (6644)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1172)، وابن أبي حاتم في التفسير (17932)، وابن أبي عاصم في السنة (241، 243)، وغيرهم، من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي، به، وإسناده صحيح رجاله ثقات، غير نعيم بن حماد، فإنه صدوق يخطئ كثيرًا كما ذكر الحافظ، غير أنه توبع؛ تابعه أحمد بن جميل المروزي أبو يوسف، كما عند عبد الله بن أحمد في السنة، وأحمد بن جميل، صدوق.

(205) وَحَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، أَبنا رَبَاحُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُمَرِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ أَبِي بزَّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ [64/ظ] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ القَلَمَ، فَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ» (¬1). فَهَلْ جَرَى القَلَمُ إِلَّا بِسَابِقِ عِلْمِ الله فِي نَفْسِهِ قَبْلَ حُدُوثِ الخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ؟ وَالله مَا جَرَى القَلَمُ بِمَا يَجْرِي حَتَّى أَجْرَاهُ الله تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وعلَّمه مَا يَكْتُبُ مِمَّا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَتَبَ الله مَقَادِيرَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ بِخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ». فَهَلْ كَتَبَ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا عَلِمَ؟ فَمَا مَوْضِعُ كِتَابِهِ هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي دَعْوَاهُمْ؟ (206) حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ المَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ حُمَيْدِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبْلِيِّ (¬2)، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ» (¬3). ¬

(¬1) صحيح، أخرجه المصنف في الرد على الجهمية (118)، والطبري في التفسير (23/ 526)، وأبو يعلى في مسنده (2329)، وابن أبي عاصم في السنة (108)، والبيهقي في الكبرى (9/ 3)، والضياء في المختارة (361)، وغيرهم، من طريق ابن المبارك، به، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، سوى نعيم بن حماد، وفد توبع، تابعه أحمد بن جميل كما عند المصنف في الرد على الجهمية. (¬2) بضم الحاء المهملة، وسكون الباء الموحدة، وضبطت بضمهما أيضًا، والمثبت ما رجحه العلامة المعلمي اليماني في حاشيته على كتاب الأنساب للسمعاني (4/ 50). (¬3) صحيح، أخرجه مسلم (2653)، والمصنف في الرد على الجهمية (119)، والترمذي= ... = (2156)، وأحمد (6579)، وابن حبان (6138)، وعبد الله بن أحمد في السنة (856)، وغيرهم، من طرق عن أبي هانئ، به.

وَالأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الإِيمَانِ بِسَابِقِ عِلْمِ الله تَعَالَى كَثِيرٌ، يَطُولُ إِن ذَكرنَاهَا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ دَعْوَى جَهْمٍ فِي أُغْلُوطَتِهِ الَّتِي تَوَهَّمَ عَلَى الله فِي الضَّمِير. * * *

ثُمَّ عَارَضَ المُعَارِضُ أَيْضًا أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ الله تَعَالَى الَّتِي هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الله، وَنَازَعَ فِي الآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا لِيُغَالِطَ النَّاسَ فِي تَفْسِيرِهَا؛ فذكر منها: الحُبَّ وَالبُغْضَ، وَالغَضَبَ، وَالرِّضَا وَالفَرَحَ، وَالكُرْهَ، وَالعَجَبَ، وَالسَّخَطَ، وَالإِرَادَةَ، وَالمَشِيئَةَ، ليُدْخِلَ عَلَيْهَا مِنَ الأُغْلُوطَاتِ مَا أَدْخَلَ عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ أَمْسَكَ عَنِ الكَلَامِ فِيهَا بَعْدَمَا خَلَطَهَا بِتِلْكَ، فَحِينَ أَمْسَكَ المُعَارِضُ عَنِ الكَلَامِ فِيهَا؛ أَمْسَكْنَا عَنْ جَوَابِهِ، وَرَوَيْنَا مَا رُوي فِيهَا عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أُغْلُوطَاتِهِ، فَإِلَى اللهِ نَشْكُوا قَوْمًا هَذَا رَأْيُهُمْ فِي خَالِقِنَا وَمَذْهَبُهُمْ فِي إِلَهِنَا. مَعَ أَنَّهُ عَزَّ وَجْهُهُ، وَجَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ حَقَّقَهَا فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ، قَبْلَ أَنْ يَنْفِيَهَا عَنْهُ المُبْطِلُونَ، وَكَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدَّعُوهُ، وَعَابَهُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكُوهُ، ثُمَّ رَسُولُهُ المُجْتَبَى، وَصَفِيُّهُ المُصْطَفَى، فَاسْتَغْنَيْنَا فِيهِ بِمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ مِنْهَا وَسَطَّرَ (¬1)، وَسَنَّ رَسُولُهُ المُصْطَفَى وَأَخْبَرَ، وَرَدَّدَ مِنْ ذِكْرِهَا وَكَرَّرَ، فَمَنْ يَكْتَرِثُ لِضَلَالَتِهِمْ بَعْدَ قَوْلِ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4]، أَمْ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فَجَمَعَ بَيْنَ الحُبَّيْنِ: حُبِّ الخَالِقِ وَحُبِّ المَخْلُوقِ، مُتَقَارِنَيْنِ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُحِبُّ وَبين مَا لَا يُحِبُّ، لِيَعْلَمَ خَلْقُهُ أَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ غَيْرُ مُتَّفِقَيْنِ، فَقَالَ: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148]، و {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وَقَالَ تَعَالَى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 80]. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ سَخَطِهِ ¬

(¬1) يشبه أن يكون ضرب عليها في الأصل.

وَإِسْخَاطِ العِبَادِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]، وَقَالَ: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6]. ثُمَّ ذَكَرَ إِغْضَابَ الخَلْقِ إِيَّاهُ، فَقَالَ تَعَالَى: [65/و] {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] يَقُولُ: أَغْضَبُونَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ يَغْضَبُ ويُغْضِبُ. وَقَالَ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]. فَهَذَا النَّاطِقُ مِنْ كِتَابِ الله يُسْتَغْنَى فِيهِ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ عَنِ التَّفْسِيرِ، وَتَعْرِفُهُ العَامَّةُ وَالخَاصَّةُ، غَيْرَ هَؤُلَاءِ المُلْحِدِينَ فِي آيَاتِ الله الَّذِينَ غَالَطُوا فِيهَا الضُّعَفَاءَ. فَقَالُوا: نُقِرُّ بِهَا كُلِّهَا؛ لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي القُرْآنِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا، غَيْرَ أنَّا لَا نَقُولُ: يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَيَغْضَبُ وَيَسْخَطُ، وَيَكْرَهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا هَذِهِ الصِّفَاتُ مِنْ ذَاتِهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا؛ وَلَكِنْ تَفْسِيرُ حُبِّهِ وَرِضَاهُ -بِزَعْمِهِمْ-: مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنَ العَافِيَةِ، وَالسَّلَامَةِ، وَالخِصْبِ، وَالدَّعَةِ، وَغَضَبُهُ وَسَخَطُهُ ... -بِزَعْمِهِمْ-: مَا يَقَعُونَ فِيهِ مِنَ البَلَاءِ، وَالهَلَكَةِ، وَالضِّيقِ وَالشِّدَّةِ. فَإِنَّمَا آيَةُ غَضَبِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ -عِنْدَهُمْ-: مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الحَالَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا، لَا أَنَّ اللهَ يُحِبُ وَيَبْغَضُ ويَرْضَى وَيَسْخَطُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ فِي نَفْسِهِ. فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ المُلْحِدِينَ فِي آيَاتِ الله تَعَالَى المُكَذِّبِينَ بِصِفَاتِ الله: مَا رَأَيْنَا دَعْوَى أَبْطَلَ وَلَا أَبْعَدَ مِنْ صَحِيحِ لُغَاتِ العَرَبِ وَالعَجَمِ مِنْ دَعْوَاكُمْ هَذِهِ، فَفِي دَعْوَاكُمْ: إِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللهِ المُؤْمِنُينَ مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَسَائِرِ أَوْلِيَائِهِ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ وَعِوَزٍ مِنَ المَأْكَلِ وَالمَشْرَبِ، وَفِي خَوْفٍ وَبَلَاءٍ، كَانُوا -فِي دَعْوَاكُمْ- فِي سَخَطٍ مِنَ الله وَغَضَبٍ وعِقَاب، وإذَا كَانَ الكَافِرُ فِي خِصْبٍ وَدَعَةٍ وَأَمْنٍ

وعَافِيَةٍ، وَاتَّسَعَتْ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ مِنْ مَأْكَلِ الحَرَام وَشُرْبِ الخُمُورِ كانوا فِي رِضًا مِنَ الله وَفِي مَحَبَّةٍ. مَا رَأَيْنَا تَأْوِيلًا أَبْعَدَ مِنَ الحَقِّ مِنْ تَأْوِيلِكُمْ هَذَا! وَبَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ المَرِيسِيِّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الأَسَانِيدِ الجِيَادِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَيْنَا فِي رَدِّ مَذَاهِبِنَا، مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّكْذِيبُ بِهَا؟ مِثْلَ: سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُور، عَن الزُّهْرِيّ، وَالزهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، وَأَيُّوبَ وَابْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَا أَشْبَهَهَا؟ قَالَ: فَقَالَ المَرِيسِيُّ: لَا تَرُدُّوهُ فَتُفْتَضَحُوا، وَلَكِنْ غَالِطُوهُمْ بِالتَّأْوِيلِ فَتَكُونُوا قَدْ رَدَدتُمُوهَا بِلُطْفٍ؛ إذْ لَم يُمْكِنُكُمْ رَدُّهَا بِعُنْفٍ، كَمَا فَعَلَ هَذَا المُعَارِضُ سَوَاءً. وَسَنَقُصُّ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ هَذِه الأَبْوَاب، مِنَ الحُبِّ وَالبُغْضِ وَالسَّخَطِ وَالكَرَاهِيَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ. (207) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ العَبْدِيُّ، أَبَنَا هَمَّام، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت - رضي الله عنهما -، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» (¬1). فَذَكَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الكَرَاهَتَيْنِ مَعًا من الخَالِق والمَخْلُوقِ. (208) وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ القَطَّانُ- عَنْ زَكَرِيَّا بْن أَبِي زَائِدَة، حَدثنِي عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -[65/ظ] قَالَ: ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1056)، من طريق المصنف، به. وأخرجه البخاري (6507)، عن حجاج بن المنهال، ومسلم (2683)، عن هدبة بن خالد كلاهما عن همام، به.

«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ الله أَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ الله كَرِهَ الله لِقَاءَهُ، وَالمَوْتُ قَبْلَ لِقَاءِ الله» (¬1). (209) وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الوَاسِطِيُّ، أَبَنَا خَالِدٌ -وهو ابن عَبْدِ الله- عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قال: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، فَيُبْغِضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ البَغْضَاءُ فِي الأَرْضِ» (¬2). (210) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَبَنَا سُفْيَانُ قَالَ: «مَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا فَأَبْغَضَهُ، وَمَا أَبْغَضَ عَبْدًا فَأَحَبَّهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْبُدُ الأَوْثَانَ وَهُوَ عَبْدُ اللهِ» (¬3). (211) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ» (¬4). (212) حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ نَافِعٍ الرَّمْلِيّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الجُمَحِيِّ، عَن بِشْر بْن عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: قَالَ ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2684)، والحميدي (227)، وغيرهما من طريق زكريا بن أبي زائدة، به. (¬2) أخرجه مسلم (2637)، والترمذي (3161)، وغيرهما من طريق سهيل، به. وأخرجه البخاري (7485)، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن أبي صالح، به. (¬3) إسناده ثقات، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 29)، من طريق محمد بن كثير، به. وفيه «وهو عند الله سعيد». (¬4) أخرجه البخاري (7188)، عن مسدد، به. وفي (2457)، (4523)، ومسلم (2668)، من طريق ابن جريج، به

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ تَخَلُّلَ البَاقِرِ بِأَلْسِنَتِهَا» (¬1). (213) وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ، ثَنَا مُعَاذُ بنُ هِشَام، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدُنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدُكُم فَقَدْ أَسْخَطُّتم رَبَّكُم» (¬2). (214) حَدثنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِير، أبنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ الحَارِثِ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عبد الله بن عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله! أَيُّ الهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ» (¬3). (215) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا حَمَّاد -وَهُوَ ابْن سَلمَة- أَبَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ الهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ قَامَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، وَرَجُلٌ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَانْهَزَمَ، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ فِي الفِرَارِ وَمَا لَهُ فِي ¬

(¬1) صحيح، رجاله ثقات أخرجه أبو داود (5005)، والترمذي (2853)، وأحمد (6543)، وغيرهم من طريق نافع بن عمر، به. (¬2) صحيح، رجاله ثقات أخرجه البخاري في الأدب المفرد (760)، عن علي بن المديني، به. وأخرجه أبو داود (4977)، وأحمد (22939)، وغيرهما من طريق معاذ بن هشام الدستوائي، به. (¬3) صحيح أخرجه النسائي (7/ 144)، من طريق محمد بن جعفر، وأحمد (6487)، عن ابن أبي عدي، والطيالسي (2386)، ثلاثتهم، وغيرهم عن شعبة، به. ورجاله ثقات، وأبو كثيرالزبيدي اسمه زهير بن الأقمر، وثقه النسائي، وابن حبان.

الرُّجُوعِ فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ» (¬1). (216) حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ المَدَائِنِيُّ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَاد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قَوْمٍ جِيءَ بِهِمْ فِي السَّلَاسِلِ حَتَّى يُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ» (¬2). (217) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ كَانَ رِدْفَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه -: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «يَعْجَبُ الرَّبُّ -أَوْ رَبُّنَا- إِذَا قَالَ العَبْدُ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (2536)، وأحمد (3949)، وابن أبي شيبة في المسند (385)، وعنه ابن أبي عاصم في السنة (569)، وفي الجهاد (125)، وأبو يعلى (5272)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 167)، وغيرهم من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء، به. وعطاء ممن اختلط بأخرة، وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وبعد الاختلاط، فلا ندري متى سمع منه هذه الرواية، وينظر تعليقي، على حديث (85). وقال أبو نعيم بعد رواية الحديث: «هذا حديث غريب، تفرد به عطاء عن مرة، وعنه حماد بن سلمة». وقد أعل الدارقطني هذه الرواية كما في العلل (5/ 266)، ورجح أن الصحيح رواية أبي الكنود، عن ابن مسعود، موقوفًا. (¬2) أخرجه البخاري (3010)، عن محمد بن بشار، قال حدثنا غندر، وأحمد (9889)، عن غندر، عن شعبة، به. (¬3) أخرجه أبو داود (2602)، والترمذي (3446)، والطيالسي (134)، من طريق أبي الأحوص، وأخرجه عبد الرزاق في التفسير (3/ 165)، عن معمر، وأخرجه أحمد (753)، من طريق شريك، وفي (1056)، من طريق إسرائيل، وأخرجه أبو يعلى (586)، من طريق منصور، خمستهم وغيرهم عن أبي إسحاق السبيعي، به. وهذا الإسناد ظاهره الصحة إلا أن أبا إسحاق لم يسمع من علي بن ربيعة، قال الدارقطني في= = العلل (4/ 61): «وأبو إسحاق لم يسمع هذا الحديث من علي بن ربيعة يبين ذلك ما رواه عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، قال: قلت لأبي إسحاق: سمعته من علي بن ربيعة؟ فقال: حدثني يونس بن خباب، عن رجل عنه».اهـ. قلت: قد دلسه أبو إسحاق إذن وأسقط منه رجلين، أحدهما يونس بن خباب، قال البخاري: منكر الحديث، والثاني مبهم. وقد روى هذا الحديث الطبراني في الأوسط (175)، من طريق يونس بن خباب هذا، عن شقيق الأزدي، عن علي بن ربيعة، به. فتبين لنا الرجا المبهم الذي أشار إليه أبو إسحاق، ألا وهو شقيق وهو بن عقبة الأسدي، كما ذكر الدارقطني في العلل. وأخرج البزار (771)، من طريق أبي عاصم النبيل، وابن أبي شيبة (29892)، عن أبي نعيم الفضل، كلاهما عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير، عن علي بن ربيعة، به. قلت: وإسماعيل ممن يكتب حديثه كما ذكر البخاري، وابن عدي. وأخرج الحاكم (2/ 108)، وابن بطة في الإبانة (7/ 104)، من طريق فضيل بن مرزوق، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن ربيعة، به. وهذا إسناد حسن. قلت: لذلك قال الدارقطني في العلل (4/ 62): «وأحسنها إسنادا حديث المنهال بن عمرو، عن علي بن ربيعة». قلت: فهذه طريق علي بن ربيعة لهذا الحديث. وقد توبع، تابعه الحارث الأعور، كما أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (499)، من طريق أبي إسحاق السبيعى، عنه، عن علي بن أبي طالب. وإسناده ثقات إلا الحارث الأعور فإنه ضعيف وقد رمي بالرفض، فضلا عن عنعنة أبي إسحاق، وقد عانينا منها قبل قليل. قلت: لكن هذه الطرق ترقي الحديث إلى درجة الحسن على أقل الأحوال، والله أعلم.

(218) وَحَدَّثَنَا الطَّيَالِسِيُّ أَبُو الوَلِيدِ، ثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ [66/و] إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، حَدَّثَنِي إِيَادٌ، عَنِ البَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ تَجُرُّ زِمَامَهَا بِأَرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَطَلَبَهَا حَتَّى شقَّ عَلَيْهِ، فَمَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ، فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا بِهِ فَوَجَدَهَا مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: شَدِيدٌ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: وَاللهِ للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُم يَسْقُطُ عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ

أَطَلَّهُ بِأَرْضٍ فَلَاة» (¬1). (219) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَلَربُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ رَجُلٍ كَانَ فِي فَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَمَعَهُ رَاحَلَتُهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَمَالُهُ، فَتَوَسَّدَ رَاحِلَتَهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ، ثمَّ قَامَ وَالرَّاحِلَةُ قَدْ ذَهَبَتْ، فَصَعَدَ شَرَفًا فَنَظَرَ فَلم يرَ شَيْئًا، ثمَّ هَبَط فَنظر فَلم يرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: لَأَعُودَنَّ إِلَى المَكَانِ الَّذِي نِمْتُ فِيهِ حَتَّى أَمُوتَ، قَالَ: فَعَادَ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَالرَّاحِلَةُ قَائِمَةٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ صَاحِبِ الرَّاحِلَةِ بِهَا حِينَ وَجَدَهَا» (¬2). (220) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يتَوَضَّأُ أَحَدٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُسْبِغُهُ، ثُمَّ يَأْتِي المَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا تَبَشْبَشَ اللهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الغَائِبِ بِطَلْعَتِهِ» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أحمد (18492)، عن أبي الوليد الطيالسي، به. وأخرجه مسلم (2746)، وغيره من طريق عبيد الله بن إياد، به. تنبيه: زاد في «س»، وثلاث نسخ على «ع» ما يلي [حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَسْقُطُ عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فلاة»]، وليس موجودا بالأصل. (¬2) أخرجه أحمد (18423)، من طريق شريك، ومسلم (2745)، من طريق أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة، والدارمي (2770)، من طريق حماد بن سلمة، وغيرهم عن سماك، به. (¬3) ضعيف أخرجه أحمد (8487)، (8065)، (9842)، وابن خزيمة في صحيحه (1491)، من طريق الليث، به. وأخرجه أحمد (8350)، (9841)، وابن ماجه (800)، والطيالسي= ... = (2455)، وغيرهم من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، به. دون ذكر أبي عبيدة في الإسناد. والمحفوظ رواية الليث بن سعد، كما رجح ذلك الدارقطني في العلل (11/ 9)، وصرح بجهالة أبي عبيدة، وهو علة هذا الحديث.

(221) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ نُوحًا النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - قَالَ لِابْنِهِ: اثْنَتَانِ أُوصِيكَ بِهِمَا؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ اللهَ يَسْتَبْشِرُ بِهِمَا وَصَالِحَ خَلْقِهِ، وَرَأَيْتُهُمَا يُكْثِرَانِ الوُلُوجَ عَلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، وَقَوْلُ: لَا إِلَهِ إِلَّا الله. وَأَمَّا اللَّتَانِ أَنْهَاكَ عَنْهُمَا؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ اللهَ يَكْرَهُهُمَا وَصَالِحَ خَلْقِهِ: الكِبْرُ، وَالشِّرْكُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله: أَمِنَ الكِبْرِ أَنْ ألبَسَ الحُلَّةَ الحَسَنَةَ؟ قَالَ: لَا، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ» (¬1). وَفِي هَذِهِ الأَبْوَابِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْنَا، لَمْ نَأْتِ بِهَا؛ مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْهَا دِلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا دَلَّسَ هَذَا المُعَارِضُ عَنْ زُعَمَائِهِ الَّذِينَ كَنَى عَنْهُمْ مِنَ الكَلَامِ المُمَوَّهِ المُغَطَّى، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يَسْتَخْفِي عَلَى مَنْ لَا ¬

(¬1) هذا الحديث اختلف فيه على زيد بن أسلم فأخرجه الطبراني في الدعاء (1714)، من طريق هشام بن سعد عنه، به، وإسناده ضعيف. وأخرجه أحمد (6583)، والبخاري في الأدب المفرد (548)، والطبراني في الكبير (13/ 660)، جميعا من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن الصقعب بن زهير، عن زيد بن أسلم، به. دون ذكر موضع الشاهد، ألا وهو: الاستبشار، والكراهية. وقد أخرج الحاكم في المستدرك (1/ 78)، من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، قال: قلت: يا رسول الله أمن الكبر أن ألبس الحلة الحسنة؟ قال: «إن الله جميل يحب الجمال». فالذي يظهر لي أن هذا من أوهام هشام بن سعد فقد قال أحمد عنه: ليس بمحكم للحديث، وقال أبو حاتم لا يحتج به. والله تعالى أعلم.

يَفْطِنُ لِمَعْنَاهُ وَلَا يَدْرِي، وَنَحْنُ نَكْتَفِي مِنْهُ بِاليَسِيرِ الأَدْنَى؛ حَتَّى تَقَعَ عَلَى الفَرْحَةِ الكُبْرَى. فَلَمْ يَزَلْ هَذَا المُعَارِضُ يُلَجْلِجُ بِأَمْرِ القُرْآنِ فِي صَدْرِهِ حَتَّى كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ الغِطَاءَ، وَطَرَحَ جِلْبَابَ الحَيَاءِ، فَصَرَّحَ وَأَفْصَحَ بِأَنَّهُ [66/ظ] مَخْلُوقٌ، وَأَنَّ من قَالَ: غيرمَخْلُوقٍ؛ كَافِرٌ -فِي دَعْوَاهُ-، فَلَمْ يَتْرُكْ لِمَتَأَوِّلٍ عَلَيْهِ مَوْضِعَ تَأْوِيلٍ، وَلَا لِمُسْتَنْبِطٍ عَلَيْهِ مَوْضِعَ اسْتِنْبَاطٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَافِر عِنْدَهُ؛ فَالَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُؤْمِنٌ مُوَفَّقٌ رَاشِدٌ، تَابِعٌ لِلْحَقِّ. فَحِينَ نَكْشِفُ عَنْهُ لِلنَّاسِ إِرَادَتَهُ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِهَا عِبَارَتُهُ، سُقِطَ فِي يَدِهِ وَكُسِرَ فِي دِرْعِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ بِالإِكْفَارِ إِلَى مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ كَلَامَ اللهِ ذَلِكَ بِفَم وَلِسَانٍ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ، يُسْأَلُونَ عَنِ الكَلَامِ؟ فَإِنِ ادَّعوا فَمًا وَلِسَانًا؛ فَهُوَ كُفْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الجَوَابِ فِيهِ؛ كَانُوا بِإِمْسَاكِهِمْ أَنْ يَدَّعُوا فَمَا وَلِسَانًا؛ جَهْلٌ لَا يُعْذَرُونَ بِهِ. فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ المُحْتَجِّ بِالمُحَالِ مِنَ الضَّلَالِ: قد تَفَلَّتَتْ مِنْكَ الكَلِمَةُ بِلَا تَفْسِيرٍ، وَلَا بِحَضْرَةِ مَنْ تَدَّعِي عَلَيْهِ فَمَا وَلِسَانًا، أوَ تَقْدِرُ أَنْ تُشِيرَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ الله أَنَّهُ يَتَوَهَّمُ ذَلِكَ؟ فَتَعَلُّقُكَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ اليَوْمَ مِنْكَ مُوَارَبَةٌ وَاعْتِذَارٌ مِنْكَ إِلَى الجُهَّالِ؛ كَيْلَا يَفْطنُوا لِمُرَادِكَ مِنْهَا. وَلَئِنْ كَانَ أَهْلُ الجَهْلِ فِي غَلَطٍ مِنْ مُرَادِكَ؛ إِنَّا مِنْهُ لَعَلَى يَقِينٍ، وَلَئِنْ جَازَ لَكَ هَذَا التَّأْوِيلُ؛ إِذًا يَجُوزُ لِكُلِّ زِنْدِيقٍ وَجَهْمِيٍّ أَنْ يَقُولَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ اللهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ. فَإِذَا وُبِّخَ، وَوُقِفَ عَلَى دَعْوَاهُ قَالَ: إِنَّمَا قَصَدْتُ بِالكُفْرِ قَصْدَ مَنْ يَدَّعِي بِهِ فَمًا وَلِسَانًا. وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَنَّهُ قَالَهُ. فَلَمْ يَنَلِ المُعَارِضُ عِنْدَ النَّاسِ بِاعْتِذَارِهِ عُذْرًا، بَلْ حَقَّقَ بِمَا فسَّر، وَأَكَّدَ مِنْ

ذَلِكَ أَنَّهُ كَلَامُ المَخْلُوقِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: يُسْأَلُ مَنْ قَالَ: كَلَامُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَإِن ادَّعَوْا فَمًا وَلِسَانًا؛ لَقَدْ كَفَرُوا، وَإِنْ أَمْسَكُوا عَنِ الجَوَابِ فَقَدْ جَهِلُوا، وَلَمْ يُعْذَرُوا، لِمَا أَنَّ الكَلَامَ كُلَّهُ -فِي دَعْوَاهُ- لَا يَحْتَمِلُ مَعْنًى إِلَّا بِفَمٍ وَلِسَانٍ، وَخُرُوجٍ مِنْ جَوْفٍ، مَنْ لَمْ يَفْقَهْ ذَلِكَ فَهُوَ عِنْدَ المُعَارِضِ جَاهِلٌ. فَإِنْ كَانَ كَمَا ادَّعَى فَقَدْ حَقَّقَ أَنَّهُ كَلَامُ البَشَرِ لَمْ يَخْرُجْ -بِزَعْمِهِ- إلَّا مِنَ الأَجْوَافِ وَالألسُنِ وَالأَفْوَاهِ المَخْلُوقَةِ- تَعَالَى الله عَنْ هَذَا الوَصْفِ وَتَكَبَّرَ-؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ المَلِكِ الأَكْبَرِ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى خَيْرِ البَشَرِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا عَدَدَ مَنْ مَضَى وَغَبَرَ، وَعَدَدَ التُّرَابِ وَالرَّمْلِ وَأَوْرَاقِ الشَّجَرِ. ثُمَّ قَفَّى المعَارِضُ بِكِتَاب آخَرَ كَالمُعْتَذِر لِمَا سَلَفَ مِنْهُ، مُصَدِّقًا لِبَعْضِ مَا سَبَقَ مِنْ ضَلَالَاتِهِ، مُكَذِّبًا لِبَعْضٍ، يُرِيدُ أَنْ يَنَلَ عِنْدَ الرِّعَاعِ لِنَفْسِهِ فِي زَلَّاتِهِ وَسَقَطَاتِهِ عُذْرًا، فَلَمْ ينلْ بِهِ عُذْرًا؛ بَلْ أَقَامَ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةً بَعْدَ حُجَّةٍ، وَكَانَتْ حُجَّتُهُ الَّتِي احتجَّ بِهَا فِي كِتَابِهِ أَعْظَمَ مِنْ جُرمِهِ. وَهكَذَا البَاطِل مَا ازْدَادَ المَرْءُ له احْتِجَاجًا؛ إِلَّا ازْدَادَ اعْوِجَاجًا، وَلِمَا خَفِيَ مِنْ ضَمَائِرِهِ إِخْرَاجًا. فَادَّعَى أَنَّ مَنْ قَالَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ، وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وهُوَ يَعْنِي أَنَّهُ اللهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ غَيْرُ الله فَهُوَ مُصِيبٌ، ثُمَّ إِنْ قَالَ بَعْدَ إِصَابَتِهِ إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ جِسْمٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ: وَالكَلَامُ غَيْرُ المُتَكَلِّمِ، وَالقَوْلُ غَيْرُ [67/و] القَائِلِ وَالقُرْآنُ، وَالمَقْرُوءُ وَالقَارِئُ كُلُّ وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ مَعْنًى. فيُقال لِهَذَا المُعَارِضِ: مَا أَثْبَتَّ بِكَلَامِكَ هَذَا الأَخِيرِ عُذْرًا، وَلَا أَحْدَثْتَ مِنْ ضَلَالَتِكَ بِهِ تَوْبَةً، بَلْ حَقَّقْتَ وَأَكَّدْتَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِتَمْوِيهٍ وَتَدْلِيسٍ، وَتَخْلِيطٍ

مِنْكَ وَتَلْبِيسٍ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ مَوَّهْتَ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ بَعْضَ التَّمْوِيهِ، فَسَنَرُدُّهُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ الله إِلَى تَنْبِيهٍ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: الكَلَامُ غَيْرُ المُتَكَلِّمِ، وَالقَوْلُ غَيْرُ القَائِلِ، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ عَرَبِيٌّ ولا عَجَمِيٌّ أَنَّ القَوْلَ وَالكَلَامَ مِنَ المُتَكَلِّمِ وَالقَائِل يَخْرُجُ مِنْ ذَوَاتِهِم سِوَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنُ غَيْرُ اللهِ فَقَدْ أَصَابَ، فَهَذَا مِنْكَ تَأْكِيدٌ وَتَحْقِيقٌ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ اللهِ فِي دَعْوَاكَ وَدَعْوَانَا مَخْلُوقٌ. ثُمَّ أَكَّدْتَ أَيْضًا فَقُلْتَ: مَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ جَهِلَ، وَقُلْتَ مَرَّةً: فَقَدْ كَفَرَ، فَأَيُّ تَوْكِيدٍ أَوْكَدُ فِي المَخْلُوقِ مِنْ هَذَا؟ ثُمَّ رَاوَغْتَ فَقُلْتَ فِي بَعْضِ كَلَامِكَ: مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ؛ تَمْوِيهًا مِنْكَ وَتَدْلِيسًا عَلَى الجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ عِنْدَكَ جَاهِلًا كَافِرًا؛ كَانَ مَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ عِنْدَكَ عَالِمًا مُؤْمِنًا. فَقَوْلُكَ مُبْتَدَعٌ لَا يَنْقَاسُ لَكَ فِي مَذْهَبِكَ، غَيْرَ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تُرْضِيَ بِهِ مَنْ حَوْلَكَ مِنَ الأَغْمَارِ. وَأَمَّا قَوْلُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ جِسْمٍ فَهُوَ كَافِرٌ، فَلَيْسَ يُقَالُ كَذَلِكَ، وَلَا أَرَاكَ سَمِعْتَ أَحَدًا يَتَفَوَّهُ بِهِ كَمَا ادَّعَيْتَ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَشُكُّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دُونَ مَنْ سِوَاهُ. وَذِكْرُ الجِسْمِ وَالفَمِ وَاللِّسَانِ؛ خُرَافَاتٌ وَفُضُولٌ مَرْفُوعَةٌ عَنَّا، لَمْ نُكَلَّفْهُ فِي دِينِنَا، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ الكَلَامَ يَخْرُجُ مِنَ المُتَكَلِّمِ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ تِلْكَ الفُضُولِ، وَمَا رَأَيْنَا أَحَدًا يَصِفُهُ بِالأَجْزَاءِ، وَالأَعْضَاءِ -جَلَّ عَن هَذَا الوَصْف وَتَعَالَى- وَالكَلَامُ صِفَةُ المُتَكَلِّمِ لَا يُشْبِهُ الصِّفَات من الوَجْه وَاليَدِ، وَالسَّمْعِ، وَالبَصَرِ، وَلَا يُشْبِهُ الكَلَامُ من الخَالِق والمَخْلُوقِ سَائِرَ الصِّفَات.

وَقَدْ فَسَّرْنَا لَكَ فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ تَفْسِيرًا فِيهِ شِفَاءٌ إِنْ شَاءَ الله. وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنْ قَالُوا: القُرْآنُ هُوَ اللهُ، فَهُوَ كُفْرٌ؛ فَإِنَّا لَا نَقُولُ: هُوَ اللهُ كَمَا ادَّعَيْتَ، فَيَسْتَحِيلُ، وَلَا نَقُولُ: هُوَ غَيْرُ اللهِ، فَيَلْزَمُنَا أَنْ نَقُولَ: كُلُّ شَيْءٍ غَيْرَ الله مَخْلُوقٌ، كَمَا لَزِمَكَ. وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللهِ وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، خَرَجَ مِنْهُ كَمَا شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ، وَاللهُ بِكَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ بِكَمَالِهِ عَلَى عَرْشِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكَ: فِي القِرَاءَةِ وَالقَارِئِ وَالمَقْرُوءِ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ مَعْنًى عَلَى حِدَةٍ؛ فَهَذَا أَمْرُ مَذَاهِبِ اللَّفْظِيَّةِ، لَا نَدْرِي مِنْ أَيْن وَقَعَتَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ تَقَلَّدْتَهُ؟ فَمَرَّةً أَنْتَ جَهْمِيٌّ، وَمَرَّةً وَاقِفِيٌّ، وَمَرَّةً لَفْظِيٌّ، وَلَوْلَا أَنْ يَطُولَ الكِتَابُ لَبَيَّنَّا لَكَ وُجُوهَ القَارِئِ وَالقِرَاءَةِ وَالمَقْرُوءِ، وغَيْرَ أَنِّي قَدْ طَوَّلْتُ وَأَكْثَرْتُ، وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَصَرْتُ وَتَخَطَّيْتُ خُرَافَاتٍ لَمْ يَسْتَقِمْ لِكَثِيرٍ مِنْهَا جَوَابٌ، غَيْرَ أَنَّا مَا فَسَّرْنَا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ نُفَسِّرْ، وَالله المُوَفِّقُ لِصَوَابِ مَا نَأْتِي وَمَا نَذَرُ. [67/ظ] وَاعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أرَ كِتَابًا قَطُّ أَجْمَعَ لِحُجَجِ الجَهْمِيَّةِ مِنْ هَذَا الكِتَابِ الَّذِي نُسِبَ إِلَى هَذَا المُعَارِضِ، وَلَا أَنْقَضَ لِعُرَى الإِسْلَامِ مِنْهُ، وَلَوْ وَسِعَنِي لَافْتَدَيْتُ مِنَ الجَوَابِ فِيهِ بِمُحَالٍ، وَلَكِنْ خِفْتُ أَنه لَّا يَسَع أَحَدًا عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ البَيَانِ يَكُونُ بِبَلَدٍ يُنْشَرُ فِيهِ هَذَا الكَلَامُ، ثُمَّ لَا يَنْقُضُهُ عَلَى نَاشِرِهِ ذَبًّا عَنِ الله تَعَالَى وَمُحَامَاةً عَنْ أَهْلِ الغَفْلَةِ مِنَ ضُعَفَاءِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيانِ، أَن يَضِلُّوا بِهِ، وَيَفْتَتِنُوا أَوْ يَشُكُّوا فِي الله وَفِي صِفَاتِهِ. وَلَمْ نَأْلُكُمْ فِيهِ وَالإِسْلَامَ نُصْحًا إِنْ قَبِلْتُمْ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ فَلْيَنْصَحْ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَإِخْوَانَهُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ، فَلْيَعْرِضْهُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ عُلَمَاءِ الحِجَازِ وَالعِرَاقِ، وَمَنْ غَبَرَ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ، حَتَّى يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ نُصْحُنَا، وَخِيَانَةُ هَذَا المُعَارِضِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ أَحْدَثَ أَشْنَعَ

المُحْدَثَاتِ وَجَاءَ بِأَنْكَرِ المُنْكَرَاتِ، وَلَا آمَنُ عَلَى مَنْ أَحْدَثَ هَذَا بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ ... -فَأَغَضُّوا لَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ عَلَيْهِ بِجِدٍّ- أَنْ يُصِيبَهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ مَسْخٍ، أَوْ خَسْفٍ، أَوْ خَذْفٍ؛ فَإِنَّ الخَطْبَ فِيهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَذْهَبُ إِلَيْهِ العَوَامُّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي مَسْخٌ، وَذَلِكَ فِي قَدَرِيَّةٍ وَزَنْدَيقِيَّةٍ». (222) حَدَّثَنَا يَحْيَى الحِمَّانِيُّ، ثَنَا ابْنُ المُبَارك، عَن حَيْوَة بْن شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بنُ زِيَاد، أَن نَافِعًا أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي مَسْخٌ، وَذَلِكَ فِي قَدَرِيَّةٍ وَزَنْدَقِيَّةٍ» (¬1). وَالتَّجَهُّمُ عِنْدَنَا بَابٌ كَبِيرٌ مِنَ الزَّنْدَقَةِ، يُسْتَتَابُ أَهْلُهُ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا قُتِلُوا، وَقَدْ رَوَيْنَا بَابَ قَتْلِهِمْ فِي صَدْرِ هَذَا الكِتَابِ، حَتَّى لَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ اسْتِتَابَةَ القَدَرِيَّةِ، فَكَيْفَ الجَهْمِيَّةُ وَالزَّنَادِقَةُ. (223) حَدَّثَنَا القَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَمِّهِ أبي سُهَيْل قَالَ: «كُنْتُ أُسَايِرُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ فَقَالَ لِي: مَا تَرَى فِي هَؤُلَاءِ القَدَرِيَّةِ؟ فَقُلْتُ: أَرَى أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ، فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَالَ عُمَرُ: ذَلِكَ رَأْيِي» قَالَ القَعْنَبِيُّ: قَالَ مَالك: «ذَلِك رَأْيِي» (¬2). (224) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ التَّنُوخِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، ¬

(¬1) منكر، أخرجه الترمذي (2152، 2153)، وابن ماجه (4061)، وأحمد (5867)، وغيرهم من حديث أبي صخر حميد بن زياد، وهومختلف فيه، وقد ذكره ابن عدي في الكامل (3/ 68)، وقال: «وهو عندي صالح الحديث، وإنما أنكرت عليه هذين الحديثين» ... فذكر هذا الحديث وآخر. (¬2) صحيح، وهو في الموطإ (1631)، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (199)، عن سعيد بن عبد الجبار، والخلال في السنة (876)، من طريق القعنبي، كلاهما وغيرهما عن مالك، به.

عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ اليَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا نِسْبَةُ رَبِّكَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] كُلَّهَا» (¬1). (225) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو هِلَالٍ الرَّاسِبِيُّ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِلْحَسَنِ: هَلْ تَصِفُ رَبَّكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، بِغَيْرِ مِثَالٍ» (¬2). (226) حَدثنَا سَلَّامُ بنُ سُلَيْمَانَ المَدَائِنِيُّ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «لَيْسَ لله مَثَلٌ» (¬3). وَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ للهِ مَثَلٌ وَلَا شَبَهٌ، وَلَا كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا كَصِفَاتِهِ صِفَةٌ، فَقَوْلُنَا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أَنَّهُ شَيْءٌ أَعْظَمُ الأَشْيَاءِ، وخَالِقُ ¬

(¬1) صحيح، وسعيد بن بشير، وإن ضعفه بعض أهل العلم، إلا أن محله الصدق، وقال ابن عدي الغالب على حديثه الاستقامة، وقد أخرجه الطبري في التفسير (24/ 729)، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قوله، دون ذكر سعيد بن جبير. لكن إسناد الطبري إلى سعيد لا يصح، ففيه مهران بن أبي عمر العطار سيء الحفظ. (¬2) أخرجه المصنف كذلك في الرد على الجهمية (10)، وعبد الله بن أحمد في السنة (499، 1132)، والبيهقي في الأسماء والصفات (617)، بزيادة رجل مبهم بين الراسبي، وابن رواحة، فالأثر ضعيف. (¬3) أخرجه ابن أبي داود في كتاب المصاحف (1/ 195، 196)، من طريق روح، عن شعبة، عن أبي جمرة، بمثله، وصرح فيه بنسبة أبي جمرة فقال الضبعي. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 244) من طريق شبابة، ويحيى بن عباد، عن شعبة، والطبري في التفسير (2/ 600)، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، وفيه أبو حمزة، وكلاهما أبو جمرة، وأبو حمزة ممن روى عن ابن عباس، وروى عنهما شعبة، لكن أحدهما ثقة وهو أبو جمرة، واسمه نصر بن عمران الضبعي، والآخر متكلم فيه، وهو أبو حمزة واسمه عمران بن أبي عطاء، والذي يترجح لدي من رسم المخطوط، ومن تصريح ابن أبي داود، أنه أبو جمرة الضبعي، وعليه فلأثر صحيح، وشيخ المصنف وإن كان ضعيفا؛ فقد توبع كما مر في التخريج. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الأَشْيَاء، وَأَحْسَنُ الأَشْيَاء [68/و] نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرْض، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ يَعنُونُ: لا يُثْبِتُونَ فِي الأَصْلِ شَيْئًا، فَكَيْفَ المِثْلُ؟ وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ. وَالدِّلَالَةُ عَلَى دَعْوَاهُمْ هَذِهِ الخُرَافَاتُ وَالمُسْتَحَالَاتُ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي إِبْطَالِهَا، وَاتَّخَذُوا قَوْلَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، دَلَسَةً عَلَى الجُهَّالِ لِيُرَوِّجُوا عَلَيْهِمْ بهَا الضَّلالِ، كَلِمَةُ حَقٍّ يُبْتَغَى بهَا بَاطِلٌ، وَلَئِنْ كَانَ السُّفَهَاءُ فِي غَلَطٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ؛ إِنَّ الفُقَهَاءَ مِنْهُمْ على يَقِين. آخِرُ الكِتَابِ وَالحَمْدُ للهِ المَلِكِ الوَهَّابِ الكَرِيمِ التَّوَّابِ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمين، ... وَصَلواتِهِ وَسَلَامِهِ عَلىَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ وَسلِّم تَسْلِيمًا كَثِيرًا. فُرِغَ مِنْ نَسْخِهِ يَوْمَ السَّبْتِ سَلْخ جُمَادَى الآخِر سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ وَسَبْعُمَائَةِ بِالمَدْرَسَةِ الضِّيَائِيَّة رَحِمَ اللهُ وَاقِفُهَا بِسَفْحِ قَاسْيُون ظَاهِر دِمَشْق المَحْرُوسَة. -

فهرس لأهم مصادر ومراجع التحقيق

فهرس لأهم مصادر ومراجع التحقيق الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، لابن بلبان الفارسي، تحقيق شعيب الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة. الأسماء والصفات، للبيهقي، تحقيق محمد محب الدين أبو زيد، مكتبة التوعية الإسلامية. الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق د/ عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز هجر، دار هجر. الأنساب، لأبي سعيد السمعاني، تحقيق المعلمي اليماني، وآخرين، توزيع مكتبة ابن تيمية بالقاهرة. بيان الوهم والإيهام، لابن القطان الفاسي، تحقيق الحسين آيت سعيد، دار طيبة. بيان تلبيس الجهمية، لابن تيمية، تحقيق مجموعة من الباحثين، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. تاج العروس، للزبيدي، تحقيق مصطفى حجازي وآخرين، الكويت التاريخ الكبير، للبخاري، تصوير دار الكتب العلمية. تاريخ دمشق، لأبي القاسم ابن عساكر، تحقيق عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت. التاريخ لابن معين رواية عباس الدوري، تحقيق أحمد محمد نور سيف، مركز البحث العلمي، وإحياء التراث الإسلامي مكة المكرمة. تاريخ مدينة السلام = تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي. تحفة الأشراف، لأبي الحجاج المزي، تحقيق عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، بومباي، الهند.

تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، تحقيق كمال سالم، مكتبة العلم. تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، تحقيق صغير أحمد شاغف، دار العاصمة. تهذيب الكمال، للحافظ المزي، تحقيق د/بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة. التوحيد، لابن خزيمة، تحقيق عبد العزيز الشهوان، مكتبة الرشد. الثقات، لابن حبان البستي، تصوير دار الفكر، بيروت. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، تصوير دار الفاروق. حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصبهاني، دار السعادة. خلق أفعال العباد، للبخاري، تحقيق محمد السعيد بسيوني، مكتبة التراث بالقاهرة. درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود. الرد على الجهمية، لأبي سعيد الدارمي، تحقيق أبي عاصم الشوامي الأثري، المكتبة الإسلامية بالقاهرة. رؤية الله، للإمام الدارقطني، تحقيق إبراهيم محمد علي، مكتبة المنار، الأردن. الزهد، لهناد بن السري، تحقيق عبد الرحمن الفريوائي، دار الخلفاء الكويت. السنة لابن أبي عاصم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي. السنة، لعبد الله بن أحمد، تحقيق محمد سعيد القحطاني، دار ابن القيم. السنن الكبرى للإمام النسائي، تحقيق حسين عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة. بيروت. السنن الكبرى، للإمام البيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية. السنن للإمام أبي عبد الرحمن النسائي، دار الريان.

السنن للإمام الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر، ومصطفى الذهبي، دار الحديث بالقاهرة. السنن، لأبي عبد الله بن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. السنن، للإمام أبي داود السجستاني، جمعية المكنز الإسلامي. سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وأخرين، مؤسسة الرسالة. شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق نشأت كمال المصري، المكتبة الإسلامية بالقاهرة. الشريعة، للإمام الآجري، تحقيق الوليد بن محمد، مؤسسة قرطبة بالقاهرة. الصحيح، للإمام البخاري، الطبعة السلطانية. الصحيح، لابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي. الصحيح، للإمام مسلم بن الحجاج، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية. الضعفاء الكبير للعقيلي، تحقيق مازن السرساوي، دار ابن عباس. الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد، تحقيق د/علي عمر، مكتبة الخانجي بالقاهرة. علل الترمذي الكبير، ترتيب القاضي أبي طالب، تحقيق صبحي السامرائي، المكتبة الإسلامية بالقاهرة. العلل الواردة في الأحاديث النبوية، للدارقطني، تحقيق محفوظ الرحمن، ومحمد بن صالح الدباسي، دار طيبة، ودار ابن الجوزي. العلل لابن أبي حاتم، تحقيق محمد بن صالح الدباسي، دار ابن حزم. الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، تحقيق عادل عبد الموجود، دار الكتب

العلمية. كتاب العرش، لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة، تحقيق محمد بن حمد الحمود، مكتبة المعلا، الكويت. كشف الأستار عن زوائد البزار، للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة. لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، تحقيق غنيم عباس، دار المؤيد. مجمعه الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي. مجموع الفتاوى لشيخ لابن تيمية، تحقيق عامر الجزار، دار الوفاء. المراسيل لابن أبي حاتم، تحقيق شكر الله نعمة الله، مؤسسة الرسالة. المراسيل، لأبي داود السجستاني، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة. المسند الجامع، لأبي المعاطي النوري وآخرين، دار الجيل، بيروت. مسند الشاميين، للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة. المسند، لأبي بكر الحميدي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية. المسند، لأبي داود الطيالسي، تحقيق د/محمد التركي، دار هجر. المسند، للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، تحقيق شعيب الأرناؤوط وأخرين، مؤسسة الرسالة. المسند، للإمام البزار، تحقيق محفوظ الرحمن، وعادل سعد، وصبري الشافعي، مكتبة العلوم والحكم. المسند، للإمام الروياني، تحقيق أيمن علي أبي يماني، مؤسسة قرطبة. مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، للبوصيري، تحقيق موسى محمد علي، وعزت علي عطية، دار الكتب الحديثة.

المصنف، لأبي بكر بن أبي شيبة، تحقيق محمد بن إبراهيم اللحيدان، إشراف سعد الحميد، مكتبة الرشد. المصنف، لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي. المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق أبي الفضل عبد المحسن بن إبراهيم، وطارق بن عوض الله، دار الحرمين، بالقاهرة. المعجم الصغير، للطبراني، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت. المعجم الكبير، للطبراني ج 13 تحقيق فريق من الباحثين بإشراف سعد الحميد. المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مصورة ط العراق معرفة الصحابة، لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل عزازي، دار الوطن. منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود. الموضوعات لابن الجوزي، تحقيق نور الدين بن شكري، أضواء السلف. الموطأ، للإمام مالك بن أنس، جمعية المكنز الإسلامي. ميزان الاعتدال، للإمام الذهبي، تحقيق علي البجاوي، دار الفكر.

§1/1