النقد الأدبي ومدارسه الحديثة

ستانلي هايمن

النقد الأدبي ومدارسه الحديثة

تصدير يلاحظ القارئ المتتبع أن زاوية النقد الحديث في المكتبة العربية تكاد تكون خاوية. فالمؤلفات التي كتبت في هذا الموضوع؟ على قلتها؟ لا تخرج عن نطاق النقد القديم غربيه وعربيه. وقد بدأت حركة التأليف في هذا الموضوع عقب إنشاء الجامعة المصرية الحديثة سنة 1925، لما رافق ذلك من نشاط في حقول الأدب والعلم. إلا أن هذه الدراسات، بحكم تخصص أصحابها، اتجهت نحو القديم بقوة، وتركت الحديث للمحدثين من خريجي الجامعة يتناولنه بأقلامهم مستعينين بما اغترفوه منها من فيض العلم وما هيأته لهم من التخصص في أوروبة. على أن المحدثين من أبناء الجامعة المصرية، ومن ثم من أبناء الجامعات الأخرى في الأقطار العربية، لم يمنحوا هذا الموضوع حقه في العناية والتوفر، فكانت دراساتهم تدور في فلك القديم، أو تتخطف من الدراسات الأوروبية العتيدة في هذا الموضوع، بعض الفكر والنظريات، التي لن تستطع حتى الآن أن تنضم في نظرية شاملة للنقد، تعين الجيل المعاصر على تفهم أصوله والإفادة من أساليبه في دراسة أدبنا العربي قديمه وحديثه. ومضت القافلة في هذا السبيل، مبطئة متعثرة، والدراسات النقدية في العالم من حولها تسير سيرا حثيثا نحو التعمق والتخصص، حتى غدا الناقد العربي كالمنبت لا أرضا ولا ظهرا أبقى.

وعندما وقع هذا الكتاب في أيدينا، رأينا أن ترجمته وتقريبه للقارئ العربي طريق النقد الوعر الشائك؛ فالمؤلف لا يكتفي بعرض المدارس النقدية الحديثة، عرضا دقيقا متزنا، بل يحرص كل الحرص على أن يربطها بتاريخ النظرية النقدية منذ الإغريق حتى اليوم، وبهذا يتيح للقارئ أن يراجع ثقافته النقدية، على ضوء الاتجاهات الحديثة، معروضة على النظرية النقدية القديمة، مربوطة بها أوثق ربط. ونحن إذ نقدم هذا الكتاب لزملائنا وطلابنا، نرجو أن يكون مفتاحا ييسر لهم الدخول في باب النقد الواسع، ودليلا يهدي خطاهم في هذا الطريق المتوعث العسير. وقد رأينا، خدمة للقارئ العربي، أن نجلو ما غمض من أفكار المؤلف ونظراته، بالتعليق عليها وتفسيرها (1) ، كما أثبتنا أسماء الكتب التي اعتمد عليها في دراسته بأسمائها العربية والإفرنجية، كي يتمكن القارئ من الرجوع إليها إذا أراد. أما أسماء الأعلام، فقد أثبتناها بالعربية، على أن نثبتها باللغتين في الفهرس العام للكتاب. والكتاب في الأصل يقع في جزء واحد، ولكننا آثرنا إخراجه في جزأين تيسيرا على القارئ واستعجالا للثمرة، حتى لا يفوته الانتفاع السريع بهذا الأثر النفيس. المترجمان

_ (1) ميزنا تعليقاتنا بهذه العلامة، وجعلنا لتعليقات المؤلف أرقاما متسلسلة.

المساهمون في إخراج هذا الكاب المؤلف: ستانلي ادغار هايمن. ولد سنة 1919 في بروكلين (نيويورك) . وتخرج سنة 1940 من جامعة سيراكوز. ومنذ ذلك التاريخ وهو يعمل محررا في مجلة النيويوركي The New Yorker، ويساهم في تحرير المجلات الأخرى بأبحاثه ومقالاته. وقد أصدر سنة 1956 كتابه الثاني " العملية النقدية " The Critical Performance. وهو يدرس الأدب، والأدب الشعبي في كلية بننجتون. المترجمان: الدكتور إحسان عباس: من مواليد فلسطين. تخرج من الكلية العربية في القدس، ودرس الأدب في بعض المدارس الثانوية في فلسطين، ثم التحق بالجامعة المصرية، وتخرج منها بشهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية سنة 1954. وقد أصدر عددا من الكتب، منها: " كتاب الشعر " لأرسطو (ترجمة) و " خريدة القصر وجريدة العصر " للعماد الأصفهاني (تحقيق بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف) و " رسائل ابن حزم " (تحقيق) ، و " الحسن البصري "، و " فن الشعر "، و " فن السيرة " " وأبو حيان التوحيدي " و " الشعر العربي في المهجر " (بالاشتراك مع الدكتور محمد يوسف نجم) وهو الآن أحد أساتذة الأدب العربي بجامعة الخرطوم. الدكتور محمد يوسف نجم: ولد في فلسطين سنة 1925. تخرج من الكلية العربية في القدس. ودرس الأدب العربي في الجماعة الأميركية

ببيروت (حتى سنة 1948) . والتحق بالجماعة المصرية سنة 1949، وتخرج منها بشهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية سنة 1954. وقد أصدر بعض الكتب، منها: " القصة في الأدب العربي الحديث "، و " المسرحية في الأدب العربي الحديث " و " ديوان الزهراوي " (نشر وتحقيق) و " فن القصة "، و " فن المقاتلة "، و " الشعر العربي في المهجر " (بالاشتراك مع الدكتور إحسان عباس) و " ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات " (تحقيق وشرح) . وهو الآن أستاذ مساعد للأدب العربي بجامعة بيروت الأميركية.

مقدمة

مقدمة النقد الأدبي الحديث طبيعته: إن النقد الأدبي الذي كتب بالإنجليزية في مدى الربع الماضي من هذا القرن، مختلف من حيث النوع عن أي نقد سبقه. وسواء أسميته نقدا " جديدا "؟ كما سماه كثيرون؟ أو " نقدا عمليا " أو " نقدا عاملا " أو " نقدا حديثا " كما يسميه هذا الكتاب، فإن صلته الوحيدة بالنقد العظيم في العصور الماضية لا تعدو الصلة بين الخالف والسالف. فليس القائمون به أشد ألمعية أو أكثر تنبها للأدب من أسلافهم؛ بل إنهم، في الحق، لا يتطاولون في هاتين الناحيتين إلى عمالقة مثل أرسطو طاليس، وكولردج، ولكنهم يسيرون بالأدب سيرة مخالفة؟ أصلا؟ كذلك. وعلى هذا يمكن أن نقول في تعريف النقد الحديث تعريفا غير مصقول أو بالغ الدقة: " إنه استعمال منظم للتقنيات غير الأدبية ولضروب المعرفة؟ غير الأدبية أيضاً؟ في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب ". وإذا شئنا توضيح ذلك بصورة من التعدين قلنا إن الأدوات هي تلك الوسائل أو التقنيات، والمعادن

الثمينة هي نفاذ البصيرة، والعمل نفسه هو استخراج المعادن أو التنقيب، أو القشر الظاهري فحسب. أما التقنيات غير الأدبية فمنها عملية التداعي في التحليل النفسي أو التفسيرات السمانتية (1) مثلا. وأما ضروب المعرفة غير الأدبية فتمتد من النماذج الشعائرية عند البدائيين إلى طبيعة المجتمع الرأسمالي، وكل هذا يفضي إلى دراسة دقيقة، ويقظة مستقيضة على النص، يشبهان تحليل الأشياء تحت المجهر. وسر هذا التعريف السابق منطو في كلمة " منظم "، ذلك لأن أكثر هذه التقنيات والنظم لم يكن مجهولا في النقد القديم ولكنه كان يستعمل بطريقة عفوية عارضة، ولم تكن العلوم الأثر في النقد قد تطورت تطورا كافيا لتستعمل منهجيا، ولا كانت زاخرة بالمعرفة لتسدي له يدا جليلة. وأكثر ضروب المعرفة فائدة للنقد هي العلوم الاجتماعية التي تدرس الفرد عاملا في جماعة (إذ الأدب بعد كل شيء أحد الوظائف الاجتماعية عند الإنسان) . وعلى ذلك فتلك العلوم أكثر فائدة من العلوم الطبيعية أو البيولوجية (لأن الأدب ليس عملا من أعمال النمو الاجتماعي أو الحضاري) . ومع أن أرسطو طاليس كان يهدف عامدا ليسلط ما نسميه اليوم " العلوم الاجتماعية " على المسرحية والشعر، ليدرسهما تحت ضوء المصطلح الذي كان يعرفه عن العقل الإنساني وطبيعة المجتمع وبقايا البدائية، فإنه لم يكن لديه إلا مواد قليلة وراء ملاحظه التجريبية؟ على نفاذها؟ وإلا موروثا غفلا غير ممحص. أما التي حققها أرسطو طاليس، أعني تلك الإصابة الأساسية في نقده، دونما مستند سوى ملاحظه الخاصة وإحساسه

_ (1) تدور الدراسات السمانتية حول أحد شيئين: الأول تتبع التطورات والتغيرات التي تصيب معاني الصور والأشكال الكلامية، والثاني دراسة العلاقات بين الإشارات والرموز وبين معانيها أي دراسة " السمات " الدالة لغويا ونفسيا.

المرهف، فإنها انتصار لنفاذ النقدية التي اهتدت؟ بقوة الحدس؟ إلى أشياء كثيرة تم جلاؤها والتطور بها من بعد. حتى إنه في عصر كولردج، أي بعد ألفي سنة، لم يزد ما كان معروفا بدقة عن طبيعة العقل الإنساني والمجتمع، على ما كان يعرفه عنه أرسطو طاليس، بشيء كثير. وهناك قسط كبير من النقد، معاصر، غير أنه لا يسمى حديثا، وفقا للمعنى الذي حددناه من قبل؛ أي أنه لا يستخدم هذه المادة استخداما نقديا منظما؟ (ومن المدهش أنه كثيرا ما يستخدمها عرضا) ؟ ومع أن لهذا النقد مكانا، وهذا المكان كثيرا ما يكون هاما، فإنه حسب تعريفه نوع آخر من النقد، خارج عن مجال اهتمامنا هنا. وبالإضافة إلى ما للنقد الحديث من مهمة خاصة، أو درجة معينة يؤدي بها أشياء كانت تؤدى من قبل عرضا واتفاقا، فإن هذا النقد ما يزال أيضاً يؤدي عددا من الأمور، لم ينفك النقد يقوم بها في كل زمان. أعني تفسير الأثر الأدبي ووصله بموروث أدبي سابق وتقويمه وما أشبه، فهذه كلها مظاهر خالدة لأي نقد (إلا أن التقويم من بينها، فيما قد نلحظه، قد تضاءل شأنه في النقد الجاد في زماننا) . ولكن حتى حين ينزع الناقد الحديث ليتخصص في أحد هذه العناصر النقدية الموروثة فإنه يضع إلى جانبها عناصر أخرى غير موروثة، أو يجريها معدلة تعديلا عميقا بما أحرزه تطور العقل الحديث من مميزات وخصائص. لقد ذهب جون كرو رانسوم؟ الذي كان له أثر كبير في ترويج اصطلاح " النقد الجديد " لكتاب ألفه بهذا الاسم مؤكدا الفرق في النوع بينه وبين النقد القديم (على أساس الدراسة المستقصية الحديثة لخصائص المبنى الشعري) ؟ ذهب هذا الناقد إلى أن عصرنا هذا يتميز تميزا غير عادي في النقد، وأن الكتابات النقدية المعاصرة، من حيث عمقها ودقتها، قد فاقت

جميع النقد القديم المكتوب باللغة الإنجليزية. وهذا كلام لا يعتوره الشك، ولكنا لا نستطيع أن نتملق أنفسنا، فتدعي أن تفوقنا إنما هو في سعة باع نقادنا إذا قايسناهم بأسلافهم؛ كلا، بل من الواضح أن هذا التفوق إنما يكمن في الأساليب والمناهج. ففي متناول النقد الحديث ضروب من المعرفة عن السلوك الإنساني، وفي جعبته تقنيات جديدة مثمرة، فإذا أمكن تركيز بعض هذا كله، وأمكن توحيد أعمال عدد من النقاد، كل يعمل على شاكلته، وبعث الانسجام فيما هو لامع مبدد منها، لأنها تجيء أحيانا متأرجحة أو ناقصة؟ إذا أمكن ذلك كله اتسعت في مستقبل النقد دروبه ومناظره وانطلقت في اللغة الإنجليزية دراسات أدبية تحليلية جدية من نوع يميز عصرنا. ومن بين المناهج والنظم التي تقررت فائدتها للنقد الأدبي، تخطر العلوم الاجتماعية في الذهن أولا، فهي نبع ثر لم تصهرج قنواته بعد. فمن التحليل النفسي استعر النقاد الفروض الأساسية عن عمل اللاشعور وكيف يعبر عن " رغباته " الكامنة بالتداعي، وبعناقيد من الصور، كما استعاروا كيفية عمل الأحلام وما فيها من تعبير ملتو سيال: مثل الخلط الكلامي والخلط المكاني والفصم (1) وهذه هي أيضا الكيفية الأساسية للتشكل الشعري. ومن يونج استعاروا فكرة " النماذج العليا " أو محتوى اللاشعور (2) الجماعي وكثيرا غيرها. أما من أصحاب علم النفس الجماعي

_ (1) يحدث الخلط الكلامي Condensation في الحلم حيث تختلط فكرتان أو أكثر وينتج من ذلك تعبير ملتو تحاشيا لإيقاظ " الرقيب " أو العقل الظاهر، ومثاله Alco holidays بدلا من Chrustmas holidays، أما الخلط المكاني Displacement فهو أن لا يميز الإنسان في الحلم بين اليمين واليسار أو بين فوق وتحت. وأما الفصم Splitting فهو استقلال بعض عن الوعي وعملها منفصلة مستقلة عنه في بعض الأحوال. (2) النماذج العليا Archetypes، سيتعرض المؤلف لها في الفصل الخامس من هذا الكتاب. ويعني بها يونج أن هناك لا شعورا جماعيا تكمن فيه الصور الكبرى والرموز التي تمثل قاعدة هامة في الفنون وكلما تدخلت في كيان الفن زادت الاستجابة له والتأثر به.

(الجشطالتيين) فأخذوا فكرة " الكليات " (1) ومن علماء النفس التجريبيين استمدوا المقدمات التجريبية الأساسية عن سلوك الحيوان والطفل. ومن النفسيين الأكلينكيين استقوا معلوماتهم عن التعبيرات المرضية للعقل الإنساني. ومن النفسيين الاجتماعيين استفادوا الكشوف عن سلوك الإنسان في الجماعات والمجتمعات الكبرى. وأفادوا ما هو أكثر من ذلك، مما سماه يانش " الصور الايدية " (2) eidetic images، وما أشبه هذا من مقدمات هي مواد ذاتية بحت، إلى أشد المقدمات الطبيعية والكيميائية موضوعية، مما تقدمه لهم العلوم النفسية العصبية، والنفسية المتصلة بعلم الغدد الصم. واستعار النقد من علوم الاجتماع والصراع الاجتماعي، وصلة هذه بالأدب والظواهر الثقافية الأخرى. أما من المذاهب الانثروبولوجية فقد استمد مقدمات عن المجتمعات البدائية والسلوك الاجتماعي ابتداء من التعميمات الجارفة التي وضعها عن التطور نظريون مثل تيلور إلى مذهب بوز (3) القائم على الاستقصاء الواعي المتزمت في دقته. وكان " الفولكلور "، وهو فرع من الانثروبولوجيا، ذا مدد خصب للنقد من حيث هو مصدر للمعلومات الخاصة بالشعائر الشعبية المورثة والأساطير والمعتقدات التي ترتكز إليها نماذج الفن الشعبي وموضوعاته كما يرتكز إليها الفن الآخذ بنصيبه من الرقي.

_ (1) الكليات - Configuration تكاد تكون مرادفة لكلمة Gestalt وهو الاتجاه النفسي الجماعي التكاملي. (2) الصور الأيدية نوع حي من الصور لا يتخيل فقط وإنما يرى منعكساً في الخارج، وهو شيء متصل بالهلاس والفرق بينهما أن صاحب الصور الايدية (ويسمى Eidetiker) يدري أن هذه الصور ذاتية، وإن كان يراها دقيقة إلى درجة فوتوغرافية. (3) توفر تيلور على دراسة الأديان البدائية دراسة نقدية مقارنة، وهو صاحب الفكرة التي تقول إن الإنسان اهتدى إلى الروح من حالات الحلم والإغماء وما أشبه وما أشبه ثم الموت. غير أن الروح بعد الموت تؤثر في حياة الأحياء الباقية وهذا يؤدي إلى الصلوات والضحايا وما إلى ذلك، وأول الأديان عبادة الأسلاف ثم عبادة الطبيعة. وهذا الانتقال ناشئ عن طبيعة عقلية البدائي الذي لا يفرق بين الحي وغير الحي فمنح الطبيعة صفات الأحياء. (وانظر أيضاً الفقرة الثالثة من الفصل الخامس في هذا الكتاب) . أما بوز فهو من العلماء الذين يقولون بقيام الصلة بين البيئة والجغرافية وخصائص العرق، وقد درس التغييرات في أجسام المهاجرين الأميركيين ليثبت أن البيئة تحدث في الجنس تغيراً في وقت قصير. وقد لقيت نتائجه نقداً قوياً من المختصين. ومن كتبه: Race، Language and culture (نيويورك 1948) .

وهناك أيضاً عدد من النظم الحديثة الأخرى؟ عدا العلوم الاجتماعية؟ أثمر كثيراً بالفعل، أو كان كذلك بالقوة؛ خذ مثلاً الدراسة الأدبية، فهي حقل ليس جديداً تماماً، ولكنها استطاعت في هذا القرن أن تحشد كثيراً من المعرفة الدقيقة، ومجموعة من المناهج المنضبطة حتى إنها حين انضاف إليها الخيال الناقد، أنتجت نوعاً من النقد الأكاديمي حديثاً تماماً، بالمعنى الذي تقدم استعماله. هذا وإن الدراسات القديمة في اللغويات وفقه اللغة، بالإضافة إلى الحقل الجديد من الدراسات السمانتية، قد فتحت للنقد آفاقاً واسعة، لم تكن من قبل مستكشفة إلا قليلاً. أما العلوم الطبيعية والحيوية فقد أمدت النقد بعناصر أساسية، كالطريقة التجريبية نفسها، ونظريات ذات فائدة مجازية عظيمة مثل " التطور "، ومبادئ مثل " النسبية " و " المجال " و " اللامحدودية ". أما الفلسفة، فمع أنها في القديم لم تعن بالأدب إلا تحت ستار علم الجمال، فقد أثبتت اليوم فائدتها للنقد وخاصة في باب المصطلح الأخلاقي والمتافيزيقي وبه يستطيع النقد أن يواجه مسألة العقيدة ومشكلات أخرى ذات قيمة بالغة. وهنالك عدد من النقاد قد سلط مبادئ الدين وتجليات التصوف على الأدب. وإلى جانب هذه الضروب من النظريات والمعارف طور النقد عدداً من المناهج الخاصة به " ومذهبها " فقياساً على المناهج العلمية في بعض الأحيان، مثال ذلك الاستقصاء في الأخبار عن الأشخاص وسيرهم، والكشف عن نواحي الغموض ودراسة

العمل الرمزي والنقل في الآثار الأدبية والاكباب وبذل الجهد الدائب في قراءة النصوص والكشف المستفيض عنها عامة. هذه التقنيات النقدية الجديدة، وهذه الاتجاهات في البحث، تعتمد في أكثر أحوالها، على فروض أصبحت أساسية في الفكر الإنساني الحديث مميزةً له. ويعود الفضل في هذه الفروض، في المقام الأول، إلى أربعة علماء عظماء من مفكري القرن التاسع عشر وأوائل العشرين وهم: دارون وماركس وفريزر وفرويد (1) . ونستطيع هنا أن نلحظ، عابرين، بعض هذه الفروض التي تعد مفتاحاً لما وراءها، وهي جديدية، نسبياً، في النقد المعاصر. على أن نذكر أنه ليس هناك ناقد حديث واحد يقبل كل هذه الفروض مجتمعة: أما دارون فمنه جاءت الفكرة بأن الإنسان جزء من النظام الطبيعي وأن الحضارة تطورية. وأما ماركس فهو الذي ذهب إلى أن الأدب والذي يعكس، ولو بطريقة معقدة ملتوية أحياناً، العلاقات الاجتماعية والإنتاجية لهذا العصر أو ذاك. وأما فرويد فهو الذي يرى أن الأدب تعبير مقنع، وأنه تحقيق لرغبات مكبوتة؟ قياساً على الأحلام؟ وأن هذه المقنعات تعمل حسب مبادئ معروفة. وتحت هذا كله هنالك فكرته عن أن هناك مستويات ومدارج عقلية تقع وراء الوعي، وأن بين الرقيب والرغبة في التعبير صراعاً مستمراً. وأما فريزر فهو صاحب الأفكار عن السحر والبدائي والأسطورة والشعيرة البدائية وأن هذه كلها

_ (1) لعل فريزير من بين هؤلاء العلماء هو الذي يحتاج تعريفاً، فهو أحد الذين بذلوا جهداً كبيراً في دراسة الأديان البدائية. وترتكز فكرته إلى أن نمو الدين البدائي إنما تم بمحاولة السيطرة على الطبيعة فأساس الدين البدائي هو عجز السحر عن أن يقوم بهذه السيطرة، ذلك لأن السحر كالعلم، يحاول أن يربط بين العلة والنتيجة أما الدين فمبني على الاعتقاد بقوى من الإنسان توجه حياته وتسيطر عليها وعلى الطبيعة. فلما خاب الإنسان في مجال السحر غير قانون العملية إلى شيء آخر. وقد استعرض فريزر الفولكلور في حياته البدائية في كتابه الضخم: The Golden Bough، (انظر أيضاً الفقرة الثالثة من الفصل الخامس في هذا الكتاب) .

تكمن في أساس أعلى النماذج والمواد الأدبية. وقد يضاف إلى هذه الفروض والأفكار نظرية ديوي في " الاستمرار "، وأن قراءة الأدب وكتابته ليستا إلا صوراً لفعالية إنسانية يمكن أن تقايس بأي فعالية أخرى، وأنها خاضعة للقوانين نفسها ويمكن دراستها على المناهج الموضوعية نفسها. كما تضاف إليه فكرة السلوكيين بأن الأدب ليس إلا رجلاً يكتب ورجلاً يقرأ ولا شيء غير ذلك، ثم فكرة العقليين بأن الأدب قابل للتحليل. ومن الناحية السلبية يتميز النقد الحديث بغياب مبدأين كانا يحتلان مقاماً رئيسياً في الماضي كلما جرى الحديث عن الأدب وهما: أن الأدب نوع من التعليم الأخلاقي، وأنه في أساسه نوع من اللذة أو المتعة. وبالإفادة من هذه الفروض، يطرح النقد الحديث عدداً من الأسئلة لم تكن، فيمعظم الأحوال، تسأل في الأدب من قبل؛ من ذلك: ما هي أهمية العمل الفني من حيث علاقته بحياة الفنان، بطفولته، بعائلته، بحاجاته العميقة ورغباته؟ وما علاقته بالجماعة، بطبقته، بحياته الاقتصادية، بمجتمعه الكبير؟ ماذا يؤدي هذا العمل لصاحبه وكيف؟ ماذا يؤدي للقارئ وكيف؟ وما العلاقة بين هاتين الوظيفتين؟ ما الصلة بين العمل الفني ولنماذج الكبرى البدائية في الشعائر، بينه وبين المادة الأدبية الموروثة، بيه وبين الأفكار الفلسفية المعاصرة له وغير المعاصرة؟ ما الترتيب الذي اتبع في صوره وعبارته وشلكه العام؟ ما الممكنات المحتجبة في أبرز كلماته وإلى أي مدى يضطلع محتواه بما هو برهاني ذو معنى؟ وأخيراً يبلغ النقد الحديث عتبات الأسئلة القديمة مثل: ما غايات هذا العمل وإلى أي درجة هي سليمة وما مدى تحققها؟ ما معانيه (بالجمع لا بالأفراد) ، وهل هو عمل جيد أو رديء ولماذا؟ ومن الواضح أن كل هذه أسئلة تسأل عن الأدب عامة أو عن عمل

فني واحد بخاصة. على أن النقد الحديث لم يعد، في اكثر الأحوال، يقبل وضعه القديم من حيث كان ملحقاً بالأدب الخالق أو الأدب القائم على الخيال. فإذا عرفنا الفن بأنه خلق لنماذج من التجربة ممتعة ذات معنى، أو قلنا إنه نسج للتجربة الإنسانية في نماذج ممتعة ذات معنى، اتضح أن الكتابة القائمة على الخيال أو الكتابة النقدية كليهما فن حسب هذا التعريف. والفرق بينهما أن الأدب الخالق ينظم تجاربه التي استمدها من الحياة بنفسه، استمدها من " رأس النبع " في أكثر الأحوال، أما النقد فينظم تجاربه المستمدة من الأدب الخالق أي من الحياة بعد أن نقلها الأدب نقلة جديدة. وإذا شئت فقل إن كليهما وع من الشعر، ولكل واحد منهما حظه من الاستقلال بقدر ما بينهما من اتصال. لقد كتب ت. س. إليوت في مقال له عن " مهمة النقد " (1) سنة 1923 يقول: " لا أظن أن متحدثاً واحداً عن النقد استطاع أن يدعي؟ محيلاً مجاوزاً للمعقول؟ بأن النقد فن غاية في نفسه ". ولكن إن لم يجهر أحد بهذه الدعوى؟ محيلاً مجاوزاً للمعقول؟ في سنة 1923 فليس من شك في أن النقد الحديث الذي بدأ في السنة التالية بنشر كتاب رتشاردز " مبادئ النقد الأدبي "، قد ظل يعمل في حدود هذه الدعوى. ومجمل الأمر ما عبر عنه ر. ب. بلاكمور حين قال: " النقد شيء قائم بذاته ولكنه ليس بحال فناً منفصلاً مستقلاً ". وقد كان النقد الحديث في الواقع العملي كذلك: غاية في نفسه تماماً، ومرتبطاً بالشعر ارتباطاً لا انفصام له. أي أنه كان، كأي نقد آخر، يهدي الفن ويغذيه ويحيا مستقلاً عنه، وهو من ناحية أخرى أمة للفن، طفيلية في أردأ أحوالها، معايشة

_ (1) هو المقال في كتابه " مقالات مختارة " Selected Essys ص 23 - 34.

له في أحوالها. فالنقد يريد أعمالاً فنية يتخذ منها مادته وموضوعه ويقدم بديلاً عنها خدمات ثانوية بالغة القيمة، كأن يساعد القارئ على فهم العمل الفني وتذوقه، ويساعد الفنان على أن يفهم فنه ويقومه، ويعين على تقدم الفن وتطوره، بتعميم المعايير المطلوبة أو بتحديدها وتجهيزها. وهو في حالات خاصة يوقظ جيلاً من الشراء كما فعل إمرسون أو فإن ويك بروكس في أول عهده وهو قد يعين موضوعات للأدباء يكتبونها مثلما يفعل غوركي وبرنارد دي فوتو، وقد يغير اتجاه الفن أو يحاول ذلك مترسماً خطى تولستوي والأخلاقيين في محاولة التغيير وخطى بوالو والنقاد الرومانتيكيين الإنجليز في تحقيق التغيير نفسه، أو قد يمد الفنان (وأحياناً نفسه) بموضوعات محددة وتقنيات وقواعد عملية مثلما يفعل عدد من نقاد الشعر المعاصرين. وعلى حد النقد الأدبي من إحدى ناحيتيه تقع المراجعات وعلى الناحية الأخرى منه يقع علم الجمال. أما المراجع فإنه يرى في الكتب متاعاً، وأما الناقد فيرى فيها أدباً أو كما يقال في الاصطلاح الحديث يرى عملاً أو سلوكاً أدبياً، وأما الجمالي فيهمه من الأدب التجريد، وليست له رغبة في كتب معينة. ومثل هذا التمييز بين هؤلاء الثلاثة إنما هو تفرقة في الدور الوظيفي الذي يؤديه كل منهم وليس تفرقة صارمة الحدود؛ فقد يتجاوز كل واحد منهم مجاله إلى غيره، فإذا غفل المواجع عن خصائص المتاع، وهو يتحدث عن كتاب، وأخذ في الحديث عما للكتاب ن مميزات، من حيث هو نتاج أدبي، أصبح لهذه المراجعة، على الأقل، يعد في صف النقاد. والناقد الذي يرسل التعميمات عن الطبيعة المجردة للفن والجميل، يصبح مؤقتاً في عداد الجماليين؛ والجمالي الذي ينقد أعمالاً أدبية محددة، مستعملاً المصطلح الذي يكشف عن خصائصها الفذة، إنما هو ناقد في تلك الحال. ومن أبرز ملامح هذا العصر وجود ذلك الجم الغفير من

الذين طار صيتهم في النقد من مثل هنري سيدل كانبي والأخوين فإن دورن؛ وإذا كشف عنهم لم تجدهم أكثر من مراجعين متنكرين. وثمة سمة أخرى للنقد الحديث تستحق أن ينوه بها، وهي أن كل ناقد ينزع إلى أن يكون لديه صورة مجازية فارقة، أو عدد من الصور، يرى من خلالها عملية النقد، وهذه الصورة؟ بالتالي تشكل عمله وتنبئ عنه، وتجعله؟ أحياناً محدوداً. فصورة الناقد عنه ر. ب. بلاكمور أنه جراح سحري يجري العملية دون أن يقطع الأنسجة الحية. والناقد عند جورج سينتسبري، سكير. أما عند كونستانس رورك فهو " مسمد " يرش الأرض من أجل حصاد طيب. وهو عند ولدو فرانك " مولد " يظهر للوجود نسمةً جديدة. وهو مائل عند كنث بيرك؟ بعد أن استعمل عدة صور؟ في صورة مدير مسرحي ثري يخرج على المسرح كل عمل تمثيلي يعلق بخياله. وهو عند غزرا بوند رجل صبور يأخذ بيد صديقه ليريه مكتبته ... إلى غير ذلك من تصورات. إن ما لحظناه فيما تقدم من أساليب وتقنيات في النقد الحديث ليترشح من خلال هذه الصور المجازية الكبرى، كما يترشح أيضاً من خلال شيء غير ملموس أعني به جهاز الذكاء الشخصي للناقد ومعرفته ومهارته وحساسيته وقدرته على الكتابة. وليس في النقد طريقة؟ مهما تبلغ روعتها؟ بقادرة على أن تكون سداً حائلاً دون الحماقة، وتكاد كل تقنية في النقد الحديث تستعمل بألمعية على يد الألمعيين من النقاد ثم تكون هي نفسها معرضاً للعجز إذا استعملها الأغبياء الجهلة المقصرون البلداء (كما سنعرض في الفصول التالية من هذا الكتاب) . على أنه من الناحية الأخرى قد يحسن النقد أو يبرع فيه امرؤ طيب يتمتع بفضائل الناقد؟ في هذا العصر أو في أي عصر آخر؟ وليس لديه من الأساليب إلا استغلال ذكائه وحساسيته. ومثل هذا ليس ناقداً حديثاً بالمعنى الذي اصطلحناه. ولا يهمنا الحديث عنه

في هذا المجال. وكل ناقد؟ مهما تكن طريقته؟ يحتاج تلك الخصائث التي سميناها الذكاء والمعرفة والمهارة والحساسية والقدرة على الكتابة؟ يحتاج الذكاء ليكيفه بما يلائم العمل الذي يعالجه، والمعرفة من أدبية وغير أدبية ليكون على وعي بما يتطلبه عمله، والمهارة لئلا تتدرج به طريقته أو تنساق به نحو وحدة آلية جوفاء، والحساسية ليظل دائماً متنبهاً للقيم الخاصة في العمل الذي ينتقده من حيث أنه يمثل تجربة جمالية فذة، والمقدرة الأدبية ليحسن التعبير عما يريد أن يقوله. وليس ثمة من محك تختبر به هذه الخصائص الذاتية، حتى إن شيكسبير، ذلك المحك التقليدي، ليس عوناً كبيراً في هذا المضمار. فهنالك رجلان تميزا في النقد المعاصر بالحط من شيكسبير وشتان ما هما: أولهما ولدو فرانك وهو داعية للتقوى محترف وليس له إلا علاقة واهية بالأدب، ولثاني جون كرو رانسوم وهو من أحذق العقليات الناقدة وأشدها مضاءً وحدة في عصرنا. وعند تقدير أعمال الناقدين لا يحسب حساب هذه الخصائص، وعندما نستعرض طريقة نقدية ونخضعها للمقياس الموضوعي ونعزلها عن صاحبها الحي، نستطيع أن نفترض وجود هذه الخصائص أو؟ على الأصح؟ أن نرجو توفرها. ومن المضامين الرئيسية في النقد الحديث تطوره ليكون علماً، أما في المستقبل الذي يمكن التكهن به والحكم عليه، فالنقد لن يصح علماً؟ سواء أتقبلنا هذه الحقيقة مستسلمين أو شاكرين؟ ولكنا نتوقع منه أن يزداد تدرجاً في الاتجاه العلمي أي نحو تكوين منهجية شكلية ونظام للمعالجة قابلين للنقل والاحتذاء موضوعياً. وكما أن أي تجربة عملية يمكن محاكاتها أو اختبارها ما كتب عنها في أي زمان ومكان وعلى يد أي شخص يستطيع القيام بالممارسة الضرورية، فكذلك هي المعالجة النقدية؟ سيصبح في مقدور أي فرد أن يعيدها ما دامت تتوفر له القدرة والرغبة الضروريتان أما الحساسية الخاصة فشيء يتفرد به الناقد ويموت بموته، وأما وسائله فإن

نقلها موضوعياً سيصبح أمراً ممكناً وسيحتاج من يعيد استعمالها محتذياً؟ ولا بد؟ حساسية ومميزات أخرى تقارب ما كان لدى الناقد الأصيل، على حال لا تنطبق على العلوم الطبيعية منذ بدء الطريقة التجريبية. ففي مجال الطبيعيات يستطيع الأحمق والجلف إذا توفرت لديهما الكفاية الأولية أن يصلا إلى النتائج التي توصل إليها بويل إذا هما أعادا تجارب هذا العالم. ثم إن الناقد في طريقة التحليل النقدي مهما تبلغ هذه درجة التجارب الموضوعية سيظل داخلاً في المجال الذاتي المحض ما دامت هنالك مصطلحات مثل " تقويم " و " تذوق "؟ سيظل الأمر كذلك سواء كان النقد بناءً مؤسساً على التحليل الموضوعي الركين، يقيمه امرؤ عارف عاقل، أو كان نزوة لا محل لها أو هوى يصدر عن رجل أحمق. أما المضمون الرئيسي الآخر في النقد الحديث فهو تطوره في اتجاه نقد ديموقراطي، أي تحقيقاً لما رجاه إدمند بيرك حين قال: " أن يصبح كل إنسان ناقداً لنفسه ". فقد كتب بيرك في مقاله عن " الرائع والجميل " يقول: " إن المقياس الحقيقي للفنون في طوق كل إنسان وإن ملاحظة ما هو شائع في الطبيعة بل أحياناً ما هو حقير واه لمينح المرء الأنوار الهادية حيث يكون لأعظم الحكمة وأسنى الجهد اللذين يغضان من شأن هذه الملاحظة أثر في تركنا سامدين في الظلام أو في إمتاعنا وتضليلنا بالأضواء الخادعة؟ وهذا أدهى وأمرّ؟ ". ومعنى هذا الكلام؟ بنزاهة؟ أن الملكات الإنسانية وحدها، دون عون خارجي، قد تجعل من أي إنسان ناقداً. وهو رأي مناقض تماماً لما قاله فرانسس بيكون في كتابه " القانون الجديد " Novum Organum من أن اختيار هذه الطريق (المعرفة بالتأمل في الطبيعة) يسوي بين جميع العقول كما تسوي البوصلة أو المسطرة بين الأيدي جميعاً. وفي مكان ما بين هذين الرأيين تقع الإمكانيات التي تجعل من النقد الحديث ديموقراطياً، أي أن توسيع الأساليب سيزيد في عدد الناقدين

القادرين؟ لا احترافاً في أغلب الأحوال وإنما لكل في نطاق قراءته وحياته الخاصة، وهذا الاحتمال يهدد بتناقض قدسية الناقدين المحترفين ولكن تهديده لذوي المصالح المادية أكثر (1) . أصوله يمكننا القول بأن النقد الأدبي الحديث يبدأ بأفلاطون وأن أرسطوطاليس مضى فيه ووسعه؛ بل إن هذين الرجلين هما؟ على التحقيق؟ رائده العظيمان، حين سبقا إلى أشياء كثيرة، وفيما سبقا إليه كثير من التطبيق النقدي المعاصر. أما أفلاطون فقد وجه طريقته الفلسفية الديالكتيكية، كما بينها في الكتابين الخامس والسابع من " الجمهورية "، إلى الشعر وإلى الفروض النفسية الاجتماعية القائمة في أصله ومهمته. وإذا كانت نتائجه قد استبعدت الشعر فلسفياً لأنه مجانب للحقيقة الأفلاطونية الصحيحة ولأنه من ناحية اجتماعية نفسية ضار بالمجتمع السليم (2) ، فإن طريقته هي الطريقة الحديثة، إذ سلط عليه كل المعرفة المنظمة التي كانت لديه. أما في حال أرسطوطاليس فإن المدرسة الأرسطوطاليسية الجديدة في النقد بجامعة شكاغو قد بذلت جهداً حديثاً لتقول إن هذا الفيلسوف لم يستعمل المبادئ أو المعرفة الاستنتاجية في الشعر، وإنما فحص القصائد استقرائياً من حيث أن كل

_ (1) يعني حين يصبح الناقد ديموقراطياً قد يتضاءل شأن الناقد المحترف ويستغني عنه إلى حد كبير، ولكن خطر شيوع النقد واستقراء الملكات النقدية عند نسبة كبيرة من الناس قد يهدد رجال المال الذين لا يعيشون متبسطين إلا حيث يستحكم الجهل وتضعف ملكة النقد. (2) لا بد للقارئ من أن يتذكر في هذا المقام أن أفلاطون كان يرسم بالجمهورية مدينة فاضلة وأنه في مثل تلك البيئة لا يرى مكاناً للشعر القائم على المحاكاة (لا كل أنواع الشعر) . ون ناحية اخرى هناك نظريته عن العالم المثالي وأن هذا العالم الدنيوي ليس إلا تقليدياً له، وأن الشاعر حيث يقلد هذا العالم يبتعد عن الحقيقة ثلاث خطوات. أضف إلى هذين العنصرين تقديسه للعقل، والشعر يتجه نحو العواطف ولذلك اتهم أفلاطون - منتصراً للعقل - هذه " العاطفة " أو اتجاه الشعر " لسقي العواطف بدلاً من تجفيفها " أي لإثارتها وتقويتها بدلاً من إخمادها وإضعافها.

قصيدة فيها كيان متفرد في ذاته. وقد قوض أركان هذه النظرية نقاد كثيرون منهم جون كرو رانسوم (في مقال له بعنوان " أسس النقد " نشر بمجلة " سيواني " Sewanee (في خريف 1944) وكنث بيرك (في مقاله " مشكلة الجوهري "؟ وقد طبع ملحقاً بكتابه " مبادئ الدوافع " The Grammar of Motives) . ولم يكتف بيرك فحسب بأن بين أن أرسطوطاليس كان " أفلاطونياً " صرفاً بل بين أن الأرسطوطاليسيين الجدد هم؟ على وجه الدقة؟ أفلاطونيون في أشد أعمالهم نجاحاً، دون أن يحسوا هذه الحقيقة. ولا حاجة بالقارئ إلى أكثر من قراءة البويطيقا ليعرف أن أرسطوطاليس؟ وإن عمل استقرائياً وباشر لنص ولازمه في دراسته كما يريده الأرسطوطاليسيون الجدد أن يفعل؟ أتم في الوقت ذاته كثيراً مما بدأه أفلاطون فعمق في تهمة المحاكاة التي ألصقها أفلاطون بالشعر، ليمنح الشعر ثبوتاً فلسفياً. ثم استبدل فكرة التطهير Catharsis (1) ، وهي فكرة نفسية اجتماعية بفكرة افلاطون القاصرة عن مهمة الشعر، حين زعم أن الشعر ضار لأنه ينبه العواطف. وعلاوة على تحليله الشعر بوساطة من تلك الفروض المسلمة القاطعة من فلسفية واجتماعية ونفسية، فانه سلط على الشعر نواة الانثروبولوجيا؟ أي ألقي عليه أضواء ذلك الموروث من الأصول البدائية للدراما اليونانية، ووفق في ذلك إلى مدى أدهش الباحثين المتأخرين في الأنثروبولوجيا والآثار وفقه اللغة (بالرغم

_ (1) جرد أرسطوطاليس اتهامات أفلاطون من مغزاها وتحول بها إلى وجهة جديدة، فأقران المحاكاة طبيعة في الإنسان وذهب إلى أنها لا يمكن أن توصف بأنها رديئة في ذاتها لأنها تختلف بنسبة ما يحاكي وبطريقة الحاكية وأن هذه لمحاكاة قد تنتج شعراً تراجيدياً أو كوميديا أو ملحمياً. وميز كل هذه الأنواع، وفضل الشعر على التاريخ ثم واجه التهمة بأن الشعر ينبه العواطف فقال أنه يصرف العواطف إي يجد لها متنفساً ومخرجاً وهذا هو التطهير Catharsis. ذلك أن التراجيديا بإثارتها عاطفتي الشفقة والخوف تهيئ مسرباً للاضطراب العاطفي وتحقق الرضا الجمالي في النفس وتبعث على الراحة والهدوء (لعل هذا هو المقصود من التطهير، وإن كان الدارسون قد اختلفوا كثيراً حول المعنى الذي أراده أرسطوطاليس) .

من هنات لم يستطع أن يتحاشاها كقوله إن أغنية الجوق ليست إلا تزييناً للمأساة) . إذن فإن أرسطوطاليس هو الواضح الأول للملامح والتقنيات الكبرى في هذا النقد الأدبي الذي أصبحنا نسميه " حديثاً ". ومضى الكلاسيكيون المتأخرون ونقاد القرون الوسطى في واحد أو آخر من هذه السبل الحديثة ابتداءً من ارسطارخس وشراح القرن الثاني قبل المسيح بما كتبوه من نقد اجتماعي وليد. إلى دانتي وبترارك وبوكاشيو في القرن الرابع عشر، بما قدموه من تفسيرات مجازية باطنية للأدب قريبة الشبه بما نسميه اليوم قراءات " رمزية ". وبدأ النقد الحديث المبني على دراسة البيئة بكتاب فيكو " العلم الجديد " New Science (1725) وهو يحوي تفسيراً اجتماعياً ونفسياً لهوميرس، وتطور هذا النقد تطوراً مستقلاً فيما يبدو عن رأي فيكو، فيما كتبه مونتسكيو، وبخاصة في " رواح الشرائع " The Cpirit of Laws (1748) . ثم امتدت هذه الحركة التي بدأت في إيطالية وفرنسة إلى ألمانية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وانتقلت بذلك من دائرة التاريخ والقانون إلى الأدب والفن، وأصبحت مظهراً للقومية الألمانية المبرعمة، في كتابات فنكلمان ولسنج هردر؟ بدأها فنكلمان سنة 1764 في كتابه " تاريخ الفن القديم " History of Ancient Art حين درس فيه الفن التشكيلي عند اليونان بدراسة أصوله في السياسة والاجتماع والأدب، وأتمها لسنج في كتابه " لاوكون " Laocoon الذي صدر بعد ذلك بسنتين مركزاً جهداً خاصاً على نسبة الأشكال فقد مضى في تطوير الدراسة البيئية خطوة أبعد حين زاد في نسبية الطريقة، بوضعه الفن الشعبي والقوطي في مقابل الفن الكلاسيكي الذي استعرضه فنكلمان ولسنج، موسعاً في مبادئ فيكو التاريخية الدينامية في كتابه " فلسفة التاريخ " Philosophy of history مؤكداً طريقة المقارنة

التي بدأها مونتسكيو بتطبيقها في كل المجالات التي ارتادها، (جاعلاً من مونتسكيو أباً لما لدينا اليوم من فيلولوجيا مقارنة وأديان وأساطير مقارنة ودراسة أدبية مقارنة) . وفي القرن التالي ازدهرت هذه البراعم كلها في مؤلفات أول ناقد حديث عظيم؟ على التحقيق؟ وهو كولردج بانجلترة، وكذلك في مدرسة حيوية أخرى نشأت بفرنسة. ويعد كتاب كولردج المسمى " السيرة الأدبية " Biographia Literaria الذي نشر عام 1817 إنجيل النقد الحديث. وينزع النقاد العاصرون إلى اعتباره " أعظم كتاب نقدي باللغة الإنجليزية "؟ كما يقول آرثر سيمونز؟ أو " أحق كتاب نقدي بالاعتبار "؟ كما يقول هربرت ريد. وعلى صفحته الأولى كتب " البيان الرسمي " للنقد الحديث أي تطبيق كولردج للمبادئ السياسية والفلسفية (وهي تضم النفسية أيضاً) والدينية على الشعر والنقد. وجاء هذا الكتاب متقدماً على عصره بقرن كامل، ولم يحل بين كولردج وبين إيجاد (النقد الحديث) ، حينئذ إلا قصور المعرفة التي تيسرت له. فهو باستثناء أرسطوطاليس أعظم أبٍ موجود لهذا النقد. غير أن ما حققه كولردج لم يجد من يتمه للأسف، ولما عادت مبادئ النقد القائم على البيئة إلى الظهور في انجلترة في كتاب ألفه هـ؟؟. ت. بكل بعنوان " تاريخ الحضارة في انجلترة " History of Civilization in England عام 1857 استمدت تلك المبادئ لا من كولردج نفسه بل من أسلافه الألمان وخلفائه الفرنسيين. وفي الوقت نفسه أدخلت مدام دي ستايل إلى فرنسة المبدأ الألماني القائل بأن الأدب تعبير عن المجتمع في كتابها " الأدب في علاقته بالنظم الاجتماعي " Literature in relation to Social Institution (1800) وإلى تأثير هذا الكتاب تعزى تلك " المولودات " المتنوعة من مثل التاريخ الفكري لجيزو Guizot والتاريخ الشعبي لميشليه والتاريخ الشكي الإلحادي لريتان

والنقد الأدبي المتصل بالسيرة عند سنت بيف والنقد الأدبي المتصل بالاجتماع عند تين. ويمثل سنت بيف النقطة التي انقسم عندها كل الموروث السابق قسمين: فمن ناحية كان سنت بيف يرى النقد علماً اجتماعياً أي يراه " التاريخ الطبيعي للأدب " مع معالجة منهجية يدرس بها المؤلف، أو كما يقول مك كلنتوك في كتابه " النظرية النقدية عند سنت بيف " Sainte؟ Beuve " s Critical Theory: " أن يدرس المؤلف من حيث علاقته بجنسه ووطنه وعصره وأسرته وثقافته وبيئته الأولى وأصحابه الأدنين ونجاحه الأول وأول لحظة بدأ عندها يتحطم، وخصائص جسمه وعقله وبخاصة نواحي ضعفه " وكثير غير ذلك. وهذا هو المنهج الذي يستمر على يد تين وبراندز وبرونتيير. ومن ناحية أخرى يلح سنت بيف في نقده لتين فيما عنوانه " تين وكتابه تاريخ الأدب الإنجليزي " على أن الناقد يجب أن " يستمر على احترام واستنشاق أريج تلك الزهرة الرزينة ذات العطر الناعم، يعني ذلك النوع من الشعر الذي أنتجه بوب وبوالو وفونتان " وهذا هو النهج الذي سار فيه آرنولد وبابت واليوت وهم مدينون له على السواء. ويرى سنت بيف أن الناقد الكامل هو الذي يستطيع الجمع بين هاتين المدرستين، غير أنه يسلم بأن الأمل في التوفيق بينهما عند شخص واحد إنما هو محال أو حلم. ويقرّ تين نفسه بأن الخيال التاريخي عند لسنج وميشليه كان بعض الأنوار التي اهتدى بها. غير أن من يقرأ كتاب ميشليه " تاريخ فرنسة " ويطلع على بعض تحليلاته الأدبية العارضة، وبعضها استشفاف لطبيعة الطبقات (كالقول بأن مانون ليسكو تعبير عن أعيان طبقة الملاك الصغار قبل نشوب الثورة) سيحكم بأن التشابه بين هذه التحليلات وما كتبه تين كان شيئاً أبعد من مجرد خيال تاريخي (1) كذلك فإن المعايير الثلاثة الكبرى التي وضعها

_ (1) يريد أن تين في هذا الموقف كان ناقلاً أو محتذياً لا مستلهماً فحسب.

تين للنقد وهي: الجنس والعصر والبيئة، قد سبقه إليها سنت بيف نقلاً عن ثلاثية هجل بدوره من هردر. ومعنى هذا أن تين بلور كثيرا من النزعات السابقة ليجعل منها نقدا علميا، فلا عجب إذا أصبح عمله هدفا لكل الهجمات الموجهة إلى تلك النزاعات. فمثلا كتب عنه Goncurts في شيء كثير من الاعتزاز حين لقياه: " ذلك هو تين الذي تجسد فيه النقد الحديث لحما ودما، نقدا عميقا ذكيا، غاية في ذلك، ولكن الخطأ فيه يفوق التصور ". ولعل فلوبير كان أمضى وأنفذ بصيرة من سنت بيف في الكشف عن ضعف تين قسط كبير من النقد الحديث حين كتب في إحدى رسائله ناقدا تاريخ الأدب الإنجليزي لتين، يقول: في الفن شيء آخر إلى جانب البيئة التي نما فيها، والموروث الفيزيولوجي عند المفتن؛ فعلى هذه القاعدة تستطيع أن تفسر مظاهر التسلسل والمشاركة ولكنك لا تستطيع تفسير الفردية أي الحقيقة التي تجعل من الفنان هذا الشخص لا ذاك؛ فهذه الطريقة إذن تسقط " الموهبة " من اعتبارها، ولا محالة. ويصبح أروع ما ينتجه الفنان لا معنى له إلا من حيث هو وثيقة تاريخية، وهي هذه الطريقة النقدية القديمة عينها التي انتهجها لاهارب La Harpe ثم بعثت من جديد. فقد كان الناس يعتقدون أن الأدب شيء شخصي وأن الكتب سقطت من السماء مثل الشهب، أما اليوم فهم ينكرون أن يكون للإرادة وللمطلق وجود بالفعل. ويخيل إلي أن الحقيقة تقع بين هذين الطرفين. وكتب فلوبير (1869) إلى جورج صاند عن موضوع الناقدين يقول: " كان الناقدون في زمن لاهارب نحويين وفي أيام سنت بيف وتين مؤرخين فمتى يصبحون فنانين حقا وصدقا ". وفي سنة 1912 وما تلاها من أعوام حدث تطورا هام في النقد

الحديث، ففي ذلك العام نشرت جين إلن هاريسون J. E. Harrison المحاضرة في الدراسة القديمة بكلية نيونهام بكيمبردج كتابها " تيمس " Themis وهو دراسة للأصول الاجتماعية في دين الإغريق. ويضم هذا الكتاب الذي أهدي لجبرت مري، بحثاً له عنوانه " جولة حول الأشكال الشعائرية التي احتفظت بها المأساة الإغريقية ". كما يضم فصلاً آخر كتبه ف. م. كورنفورد وهو زميل للآنسة هاريسون بكيمبردج، وعنوانه " فصل في نشأة الألعاب الأولمبية ". ومع أن اكثر الكتاب كان من صنع الآنسة هاريسون فإنه كان يضم نوعاً من " البيان المشترك " لما يسمى مدرسة كيمبردج في الدراسات الكلاسيكية. وهي المدرسة التي حققت ثورة في دراسة الفن والفكرالإغريقيين بتسليط المعارف والنظريات الأنثروبولوجية المقارنة عليهما. وقد استمدت المؤلفة كثيراً من مادتها، علاوة على نشر مقالتي مري وكور نفورد واستغلالهما، من مؤلفات لم تنشر لزميل آخر لها اسمه أ. ب. كوك A. B. cook وآخرين غيره. وبعد ذلك بوقت قصير، وفي ذلك العام نفسه، نشر كورنفورد كتابه " من الدين إلى الفلسفة " From Religion to Philosopohy وهو تتبع أنثروبولوجي للأصول الشعائرية للفكر الإغريقي الفلسفي (1) . وفي عام 1913 نشر مري كتابه " يوربيدس وعصره " Euripides and His Age فدرس فيه بيوربيدس ومسرحياته بالنظر إلى الأصول الشعائرية في المأساة، ونشرت الآنسة هاريسون " الفن القديم والشعائر " Ancient Art and Ritual وفي السنة التالية نشر كورنفورد " أصول الملهاة الأتيكية " (2) The Oriin of the Attic Comedy وحلل فيه الملهاة الإغريقية على الأسس

_ (1) لقد كان عام 1912 نبعاً ثراً جاد بما هو اكثر من ذلك إذ شهد نشر بحث للكاتب ف. ك. برسكوت بعنوان " الشعر والأحلام " في Journal of Abnormal Psychology وهو أول تطبيق مفصل سليم للتحليل النفسي على الشعر يكتبه أحد الأدباء. (2) الأتيكية نسبة إلى مقاطعة أتيكا Attica وهي ببلاد يونان وأهم مدنها أثينة.

نفسها، ونشر كوك أول جزء من " زيوس " Zeus تطبيقاً للمادة الأنثروبولوجية في حقل آخر. وأخيراً، وفي عام 1920، جربت الآنسة جسي وستون J. Weston طريقة مدرسة كيمبردج هذه؟ بتوفيق عظيم؟ على مادة غير يونانية في كتابها " من الشعائر إلى القصص الرومانسية " From Ritual to Romance وهو كشف أنثروبولوجي عن نشأة " القصص الطلسمية " (1) بمصطلح شعائري، وأدت برتا فلبوتس مهمة مماثلة في دراسة الملاحم الشمالية في كتابها " الأغاني الشمالية والدراما السكندنافية القديمة " The Elder Edda and Ancient Scandinavian Drama. ومع أنه من الممكن عد هذه الكتب من حيث الغايات العملية نقداً أدبياً حديثاً، فإنها لما كانت نتاج علماء يكتبون في حقول متخصصة قد عجزت عن أن تجذب إليها اهتمام رجال الأدب جذباً يكفي لتدشين الحركة الجديدة. وفي أميركة؟ عام 1919؟ سلط كونراد أيكن مبادئ فرويد وغيرها من النظريات النفسية على الشعر في كتابه " شكوك " Scepticisms وكون بوضوح الفرضية الأساسية في النقد الحديث وهي أن الشعر " نتاج طبيعي عضوي ذو همات يمكن جلاؤها وهو قابل للتحليل، دون ريب ". ولكنه كان يشبه جماعة كيمبردج في افتقاره إلى التأثير الأدبي ليوجه النقد إلى اتباع رأيه هذا. وظل من نصيب إ. أن. رتشاردز في كتابه " مبادئ النقد الأدبي " (1924) أن يكون الأوليات الشكلية في النقد الحديث معيداً ما قاله أيكن في صورة جديدة، حين قال: " إن التجارب الجميالة ليست شيئاً جديداً ولا مختلفاً؟ بأي حال؟ عن سائر التجارب الإنسانية، وإنه يمكن دراستها

_ (1) تسمى هذه The Grail Romances وهي قصص من البطولة والمغامرة يتخللها دائماً عنصر قوة خارقة يشفي المرض ويكون الشفاء إما بطلسم أو كأس أو صحن أو حجر، وقد وجد الباحثون أنه تلتقي في هذه القصص عناصر وثنية ومسيحية. أما تسميتها كذلك فترجح إلى " الكأس " Grail التي استعملها المسيح في العشاء الأخير.

على الطريقة مشابهة. ولم يكن هذا المبدأ جديداً (فليس أيكن على وجه التحديد هو وحده الذي قرره قبل خمس سنوات بل إن جون ديوي أيضاً قد قرر الشيء نفسه؟ أصلاً؟ يوم تحدث عن " الاستمرار " في التجربة منذ أن نشر كتابه " دراسات في النظرية المنطقية " Studies in Logical Theory سنة 1903، وكان أرسطوطاليس نفسه يعمل على أساس ذلك الفرض) ، ولكنه في هذه المرة جاء مستنداً إلى المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها كل من رتشاردز وأوغدن حسن اشتركا في تأليف " معنى المعنى " The Meaning of Meaning ونشراه قبل نشر " مبادئ النقد " بعام واحد، ومن ثم لقيّ اقتناعاً عاماً وقبولاً، وآتى في ربع قرن ثمار النقد الأدبي الحديث. حقاً إن المعركة لم تنته بعد، فقد شهد القرن الماضي ناقداً إثر ناقد يصارعون كل فرض أو طريقة في النقد الحديث، بما في ذلك كل شكل من المعرفة قد يمكن تسليطه على الأدب حتى مبدأ " الاستمرار " نفسه. وعند أدنى السلم تتمثل هذه الهجمات في صورة الحنق الساذج الذي انبعث عن جيمس رسل لوول في مراجعة كتبها عن لونجفلو، سخر فيها من النظرة النقدية الحديثة التي ترى " أن شكل إنتاج المؤلف إنما يتحكم فيه شكل جمجمته وبالتالي يؤثر فيه الشكل الخاص للمقاطعة التي يستوطنها ". وتتمثل تلك الهجمات أيضاً في المقدمة التي كتبها لودفج لويزون لكتاب " الفن والفنان " Art and Artitst من تأليف رانك فاستبعد بها النقد الحديث من عهدتين لأنه نقد يخرج مسرحية " هاملت " دون أن لدع لهاملت نفسه دوراً فيها. أما في الناحية الثانية من السلم فإن هذه الهجمات تشمل شكوك تشيخوف المتعلقة حين كتب إلى سوفورين في نوفمبر (تشرين ثاني) عام 1888 مرعياً انتباهه إلى تلك الكمية من " القمامة " التي أنتجها " حمقى " يعملون في حقل النقد العلمي على مبادئ لا تعاب. وتشمل

تلك الهجمات أيضاً ما كتبه أناتول فرانس في نقد برونتيير في كتابه " الحياة الأدبية " La Vie Litteraire حيث يقترح التزام الاتزان والتحفظ اللذين نص عليهما سنت بيف من قبل، فيقول: إن الطريقة النقدية لا بد؟ نظرياً؟ من أن تشارك العلم ثبوته ما دامت ترتكز إلى العلم نفسه ... ولكن الأمور في هذا الكون متشابكة تشابكاً لا ينفصم، وحلقات السلسلة؟ في أي موضوع منها اختبرته؟ مختلطة متراكمة حتى إن الشيطان نفسه ليعجز عن أن يفك عقدها، ولو كان منطقياً ... ولا يستطيع أحد أن يتنبأ اليوم؟ مهما يقل؟ بحلول زمان يصبح للنقد فيه دقة العلم اليقيني. ولقد يمكن للمرء أن يعتقد؟ وهو محق في ذلك بأن ذلك الزمان لن يحل أبداً. ومهما يكن ن شيء فقد كان عظماء الفلاسفة القدماء يتوجون نظمهم الكونية (1) بالكلام في الشعر، وقد أصابوا، لأن من الخير أن نتحدث عن الأشكال والأفكار الجميلة، ولو ظناً، بدلاً من أن نبقى صامتين إلى الأبد. وفي الكون أشياء قليلة تخضع خضوعاً مطلقاً للعلم، وتدعه يعيد تكوينها أو ينبئ عنها، ولكني على يقين من أن القصيدة أو الشاعر لن يكونا في نطاق تلك الأشياء ... على أن هذه الأشياء حين تقيم بينها وبين العلم سبباً فإنما تصل نفسها بعلم ممتزج بالفن، أعني علماً قائماً على قوة البصيرة، مشحوناً بالقلق، قابلاً للزيادة إلى الأبد. ذلك العلم أو بالأحرى ذلك الفن موجود حقاً: إنه الفلسفة والأخلاق والتاريخ والنقد أو بكلمة واحدة إنه قصة الإنسان الجميلة. ووجد بعض النقاد أنفسهم نهباً موزعاً في اتجاهين حول هذه المسألة فبينما يهاجم جون مدلتون مري في كتابه " مشكلة الأسلوب "

_ (1) أبرز مثل على ذلك أرسطوطاليس نفسه، فإن كلامه عن الضشعر أو كتاب " البويطيقا " يجئ في نهاية القائمة حسب الترتيب التقليدي لكتبه.

The Problem of Style ذلك " الحلم الخالب " بأن يتحول النقد " إلى دقة العلم وثبوته " وذلك " الأمل الخادع " بأن تصبح لغته " مصطلحاً ثابتاً لا يتغير " نراه أخيراً في الكتاب نفسه يقترح نقداً علمياً (أو ميكانيكياً) اجتماعياً اقتصادياً، نقداً يقيم صلة متساوية بينه وبين الأصول الاقتصادية والاجتماعية من ناحية والأشكال الفنية والأدبية من ناحية أخرى، بل يقترح إيجاد " التاريخ الاقتصادي للأدب الإنجليزي ". أما ألان تيت الربيب الفذ للمبادئ الحديثة وأحد من يتوفورن على تطبيق أسالبيها فانه في كتابه " العقل في جنون " Reason in Madness يهاجم العلوم الاجتماعية ويصفها بأنها خطر أساسي كما يهاجم النقد الحديث نفسه، ويسميه " الطريقة التاريخية " ويجمع إلى التاريخ أيضاً استعمال النقد للعلوم الطبيعية والحيوية والاجتماعية والسياسية. وكذلك هاجم جون كرو رانسوم؟ بين الحين والحين؟ استعمال العلم في النقد وصرح بأنه يقاوم بشدة العلوم الاجتماعية كالانثروبولوجيا وأعلن أنه لا يشارك ماكس ايستمان " آماله المتحمسة " فيما يمكن أن يحققه علم النفس، بينما كان هو نفسه يستمد بمهارة من هذه المصادر الثلاثة في كتابته النقدية. وربما كان الدفاع المتحمس الذي يقوم به رجال يتدرج نتاجهم من الضعيف إلى الممقوت أشد خطراً على النقد الحديث من الهجمات التي يوجهها إليه رجال طيبون، ومن التردد المتناقض الذي يبديه بعض من يمارسونه. فهذا لويس ماكنيس مثلاً، يعلن في كتابه " الشعر الحديث " Modern Poetry عن إيمانه المغالي بمبدأ رتشاردز في الاستمرار، أي أن الشعر فعالية عادية وأن الشاعر " يتخصص فيما يحسن ممارسته كل إنسان " ولكنه يعجز عن أن يتابع ذلك الفرض في كتابه بتسليط كل معرفة أياً كانت على الشعر. ومن الصعب أن نجد أحداً أشد تحمساً للنقد العلمي في العصر الحديث من اثنين أولهما ماكس إيستمان حين نشر " بياناً " في

كتابه " العقل الأدبي " The Literary Mind يدعو إلى " دائرة من دوائر العلم ستتخذ من الأدب موضوعاً لدراستها "، وثانيهما ف. ف. كالفرتون في كتابه " أسس جديدة للنقد " The New Ground of Criticism حين دافع بفصاحة عن نقد يلائم بين الفلسفة وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا. ومع ذلك فمن الصعب علينا أيضاً أن نعثر في عصرنا على أسوأ واكثر استفزازاً من هذين الناقدين. ويثير فينا هنري بير ريبة مشابهة، فقد خرج في " الأدباء ونقادهم " Writers and Their Critics بحكم أريب حين قال: " إن النقد الحديث ما يزال يتلمس طريقته ويندفع في تجربة تقنيات متعددة ولكنه لم يجاوز بعد المرحلة البدائية التي كان يتحسس فيها الطريق متعثراً كل من علم الطبيعة قبل بيكون وديكارت، والكيمياء قبل لافوازييه، وعلم الاجتماع قبل أوغست كونت والفزيولوجيا قبل كلود برنارد. ثم إنه في الكتاب نفسه يحتفظ بأمضى هجوم هذه الأساليب نفسها من اجتماعية ونفسية ونصية وغيرها، وعلى أولئك النقاد مثل رتشاردز وإمبسون وبيرك وبلاكمور الذين يمثلون؟ بجلاء؟ محاولة النقد أن يجاوز تلك المرحلة البدائية التي يصفها. وكان النقد الحديث، في الوقت نفسه، هدفاً لهجمات منظمة يشنها عليه أعداؤه المتكسبون من مراجعين وأعداء للنورانية محترفين. ومما يمثل الأولين خير تمثيل مراجعة تستحق الاقتباس لأنها نموذجية في هذا الصدد، كتبها أورفيل برسكوت وظهرت في التايمس النيويوركية New York Times في مارس (آذار) سنة 1945 وكانت تدور حول كتاب بعنوان " فكتوريا في المرآة " Victoria Through the Looking؟ g؛ass كتبته الآنسة فلورنس بيكر لنون ودرست فيه لويس كارول. كتب برسكوت يقول: " لقد حققت الآنسة لنون معجزات من البحث، ولكن كتابها على

ما فيه من جهود مخلصة، مخيب للآمال باعث على الملل، ذلك لأن سحر الكتب التي خلفها كارول، يتحدى كل تحليل، فالبحث عن مصادرها في تلمسات فرويدية خلال عقد كارول ومكبوتاته أمر لا جدوى فيه، وهو شبيه بمن يحاول أن يجد تفسيراً لطيران الفراشة أو اختيار البرق لهدف منصوب، إن العبقرية لتحيا في خفاء غامض وتلد كنوزاً خالدة على وجه لا يمكن تفسيره أيضاً. حقاً إن كارول عاش حياة عزوبة نقية، ولكن كثيرون هم الذين يختارون العزوبة اختياراً ويقنعون بنصيبهم من الدنيا على الرغم من الشكوك الفرويدية التي تثبها الآنسة لنون. والحق أيضاً أن كارول كان يحب صحبة الصغيرات أكثر من حبه مرافقة الأولاد أو الكبار؛ وهذا، على أنه حق، فهو مستغرب منه أيضاً، ولكن التوغل الذي جاست به الآنسة لنون خلال نفسيته وخلال الرموز الجنسية في كتبه لم يبلغ بها إلى شيء ... غير أن لويس كارول الذي مرت حياته دون أحداث كان يعيش في عزوبته حياة فارغة ... عاش لويس كارول دون أي نوع من أنواع الصراع الخارجي ولم يصادف إلا أنواعاً قليلة من الصراع الداخلي (أعني تلك الذبذبات الدينية الغامضة) فلم يعرف الحب أو الصداقة المتينة، كان إنساناً طيباً ومسيحياً طيباً وكان يحاول أن يحصل على مرتبه خفضاً ويلح على أن يعقد بينه وبين الناشر عقداً يؤكد فيه أنه هو نفسه يتحمل ما قد يحدث من خسارة؛ إلا أن حياته كانت بليدة عادمة الألوان ". وتبين هذه المقتبسات أن برسكوت في هجومه على الدراسة النفسية التي قامت بها الآنسة لنون يقدم كل الأسباب التي تجعل الدراسة النفسية أمراً لازماً. وبينا يؤكد أن حياة كارول مرت بلا أحداث، نجده يملأ هذه الحياة بأبرز الأحداث أيضاً. فهو ككثير من المراجعين العاصرين

يهاجم النقد الحديث لا صدوراً عن حقد في نفسه بل عن جهل ساذج ولكن في بعض الأحوال الأخرى يجتمع إلى هذا الجهل شيء من الحقد والضغينة المرة فإذا الصورة؟ في وضوح؟ صورة مراجع سطحي ثائر في وجه جمهور من المتحررين الثائرين، ليحتفظ بكانته وربحه مما يعتقد أنه نقد. وتلك هي حال ج. دونالد آدمز في العمود الأسبوعي من جريدة Sunday Times وفي كتابه " شكل الكتب التي ستظهر " The Shape of Books Come أما الهجوم الذي يقوم به أعداء النورانية المحترفون فأمره اكثر تعقيداً. وربما كان خير مثل في هذه الناحية موقف مارك فإن دورن الذي يتكافأ موقفه من النقد مع موقف كليته؟ كلية القديس يوحنا؟ من التربية جملة، أعني الوقوف في وجه أي ضرب من ضروب المعرفة الحديثة. وقد كتب فإن دورن في مقدمة كتابه " القارئ لنفسه " The Private Reader أتم هجوم وأبلغه على النقد الحديث، فيما أعلم. إذ يصفه بأنه " صحاري من البراعة وهضبات من العلم " ويتهمه بأنه " يبذل كل ما في وسعه ليمسك الفن الشعري عن الطيران " ويختم كل ذلك مستنتجاً بأنه " على خير أحواله علم خاطئ لا فن ". ثم يجبهه بعدوان صريح للنورانية ويقول " أخطأ آرنولد في النص على الأفكار " ... " نحن لا نعرف كل هذا عن الشعر ولن نعرف " ... الشعر " لا يستطاع الخوض فيه " " هو سر غامض " ... إلى غير ذلك. وتتميز هذه القطعة بنغمة المرثية المريرة فتبدأ بذكر الغربة: " النقد المعاصر؟ ذلك البيت الذي أحس فيه أني غريب " وترتفع إلى إعوال المناحات: " إن عصرنا الأدبي عصر مريض " وتنتهي بانطفاء الشعلة الذاتية " إن غايتي الوحيدة؟ وأنا ناقد؟ أن أصبح واحداً من هؤلاء الغرباء المغمورين الذين يحلم الأدباء بأنهم يكتبون من أجلهم؛ إن الشعر نفسه ليستطيع أن يقنع بالصمت إلى حين ".

وقد كتب رتشاردز التعليق القاطع على هذه الصيحة التي أطلقها فإن دورن باسم " القراءة الصامتة " أي استبعاد كل ما يؤثر في الأدب، ما عدا انتباه القارئ فقال في " التفسير في التعليم " Interpretation in Teaching " وأظن أن العلاج لذلك هو النمو الذي لا بد له من أن يتحقق إذا تكررت فرص التجربة بحيث تكفي لتجبر رسوبات عهد المراهقة المتبقية في عالم الحلم الطفل على أن تنسحب إلى مواضعها الطبيعية. غير أن القراءة الصامتة؟ لسوء الحظ؟ ليست وقاية من هذه التجارب إلا إن كانت نوعاً من الحلم منضبطاً بعض الشيء. وكثيراً ما تصبح هذه القراءة مستودعاً تخيلياً للفاعلية الذهنية التي تختفي نسبياً في حال اليقظة الكاملة. وإلى جانب هذا النقد الحديث، وعلى غرار هؤلاء المراجعين وأعداء النور المتحفزين تقف مذاهب جدلية تتصارع بعنف. وهي مذاهب أهل الآراء الجمالية والفلسفية التي أنعشت المجلات الأدبية في الماضي من: انطباعيين وتعبير وذوي النزعة الإنسانية الجديدة والطبيعيين والكلاسيكيين والرومانتيكيين والوضعيين واللاوضعيين وغيرهم. ويبدو أنه قد خلفهم في هذا الصراع الأرسطوطاليسيون الجدد والافلاطونيون المحدثون والكولردجيون المحدثون الذين يخوضون معركة في غير معترك. ولكل من هذه المذاهب والمجادلات مهمتهما، ولكن يبدو أنها مهمات قاصرة على الجدل حول عموميات كبرى متجافية عن الخوض في شأن الطريقة الحقة إلا قليلاً. وما هذه المذاهب؟ بوجه أو بآخر؟ إلا مسارب معاصرة مغلقة عمياء لا يهتدي فيها من يهمه التحليل الأدبي على وجه الحقيقة. وبينا تتطاير الحجارة المقذوفة فوق الرءوس يقبع الناقد الحديث الجاد في منجمه ويحفر منقباً، وقد تعلق الأتربة بيديه، ولكنه قد يكشف عن معدن كريم، بين الحين والحين.

الفصل الأول

الفصل الأول ادموند ولسن والترجمة في النقد عندما تتسع الهوة بين الأدب الجدي وذوق جمهور القراء، يحظى ذلك الجزء من وظيفة الناقد، الذي يقتضيه أن يكون همزة الوصل بين العمل الغامض أو الصعب، وبين القارئ، بأهمية كبيرة. ولعل إدموند ولسن من السابقين عندنا في هذا المضمار، من تأويل محتوى الأدب أو " ترجمته ". وليس بمحض اتفاق، أن يكون ولسن من أوسع نقادنا شهرة، اللهم إلا إذا استثنينا فإن ويك بروكس (الذي راجت كتبه تجارياً) (1) . لقد جعل كبار المترجمين في العهد التيودوري كنوز الآداب الأخرى في متناول القراء، حينما نقلوها إلى اللغة الانجليزية. أما في يومنا هذا فثمة حاجة مشابهة إلى الترجمة، لا من لغة إلى أخرى وإنما في اللغة نفسها. وهذا على أهميته شيء يبعث على الاستغراب. وقد وصف ولسن عمله بأنه: إمداد القصائد بالسيناريو (السياق) ؛ ومما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من هذه (السيناريات) التي قدمها ولسن لا يقدر بثمن. ولا بد من أن يكون هناك نفر من الناس، مدينين لولسن، بأنه أوحى إليهم بأن جويس أو إليوت، يمكن أن يفهما وأنهما جديران بالقراءة في سبيل المتعة (كما أنه من المحتمل أن يكون كثيرون ممن يدينون

_ (1) راجع شرح ذلك في الفصل الرابع من هذا الكتاب.

له بتلك الملخصات التي تيسر لهم التظاهر بالمعرفة الأدبية دون ما اطلاع) . ولعل لكتابه الأول " قلعة أكسل " Axel " s Castle (1931) في زمننا من التأثير، في فتح حقبة جديدة كاملة في الأدب لجمهور كبير، ما يجعله ياتي في المرتبة الثانية بعد كتاب إليوت " الغابة المقدسة " The Sacred Wood. ويذكر " قلعة أكسل " بتلك الصفحات التي فسر فيها ولسن، تفسيراً دقيقاً ومستفيضاً، رموز قصيدة " اليباب " (1) The Waste Land لإليوت، وبتلك الصفحات الثلاثين المدهشة التي تلخص قصة بروست (2) الضخمة منظراً اثر منظر، وبالسرد المطول لحوادث كتاب " عولس " (3) Ulysses لجويس، وبما شابه ذلك من أعمال. وليس هناك من عنده مقدرة ولسن على إفهام القارئ الشادي لماذا ينادي عندليب إليوت " قق قق قق " أو ما أهمية أم ستيفن ديدالوس في قصة عولس، أو كيف أن الظهيرة في " المقبرة البحرية " Le Cimetère marin لفاليري، تمثل في وقت معاً: طبيعة لا عضوية، والمطلق في ذهن الشاعر كما تمثل عشرين سنة من عمره قضاها بلا عمل، ثم هي الظهيرة المحسوسة نفسها.

_ (1) كان لهذه القصة أثر كبير في الشعر الحديث. وهي تصور مشكلة الإنسان المعاصر الذي يبدو للشاعر تافهاً مشلول القوة محطم الإرادة، يعيش في عالم يستحق الفناء. وقد استعار الشاعر فكرة القصيدة من موضوع أسطورة أوردتها الآنسة جسي وستون في كتابها " من الشعائر إلى القصص الرومانسية " وقد حللها أحدنا، الدكتور إحسان عباس في كتابه " فن الشعر ". (2) هي قصة " البحث عن الزمن الضائع " Ala Recherche du Temps Perdu، وهي سلسلة من القصص تمتاز باتجاهها الميتافييقي، وخاصة فكرة الزمن الذي لا يعود، وبتعطيلاتها النفسية، وبتلك الصور الرائعة التي عرضها الكاتب عرضاً موضوعياً. ومما يزعج القارئ فيها أحياناً، ذلك التوفر على تحليل الشذوذ الجنسي. (3) قصة ملحمية للكاتب الارلندي جيمس جويس؛ وقد ظهرت في باريس سنة 1922. وفيها يقدم الكاتب صورة فذة جذابة لتاريخ يوم واحد من حياة ليوبولد بلوم وستيف يدالوس. وقد عرضها الكاتب بطريقة تيار الوعي والمونولوج الداخلي، ولم يراع قواعد الكتابة في الترقيم ولا قواعد فقه اللغة في استعمال الألفاظ. وتعد من اشهر القصص الحديثة، وأبعدها أثراً في التيار القصصي المعاصر. وقد كتبت عليها شروح كثيرة متضاربة.

ويكون شرح ولسن أحياناً تحليلاً رمزياً دقيقاً. وأحياناً تلخيصاً مباشراً لحبكة القصة، حادثة إثر حادثة كأنه تلخيص طلاب الجامعات. ويتضح ذلك في التلخيص الطويل لأوجين أونيغين (1) Yevgeni Onyegin و " دورة اللولب " (2) The Turn of the Screw في الفصلين المعقودين لبوشكين وجيمس في كتابه " الفنانون أو المفكرون كثيراً " The Triple Thinkers (1938) . ويبلغ شرحه أحياناً درجة فائقة من البراعة كما يتجلى في ترجمته لمسرحية " عربة التفاح " The Apple Cart لشو، إلى عبارات موسيقية. وأحياناً يكون مجرد محاولة تتجاوز حدود الإمكان، كمحاولته تركيز الجوهر النظري للتفكير الماركسي في فقرتين من كتابه " إلى محطة فنلندة " To the Finland Station (1940) . ولكن هذا الشرح يظل للقارئ الجاهل نسبياً على الأقل، في كل الأحوال، كثيراً بل ضرورياً في بعض الأحيان. ويتجلى إبداع ولسن، عندما يكون " ناقداً ممهداً ". وهذا مصطلح عرفه جون ماسي بقوله: " إنه الناقد الذي يدعو الغرباء بسحره وبراعته إلى التعرف على رجل عظيم ". وهنالك عقبة تعترض سبيل الناقد الممهد، وهي أن قيمته تتضاءل بنسبة حظ جمهوره من المعرفة ومن الألفة بالأثر الذي يضطلع ببحثه، حتى إنها تكاد تتلاشى عند القارئ الذي يتمتع بحظ من الثقافة. ويدرك ولسن هذا جيداً، ولذا فقد جنح بكتابته عامداً إلى القارئ الجاهل، وظل دائماً يعتبر نفسه " مبسطاً " في المقام الأول. وكتب في مقالة تحدث فيها عن نفسه بعنوان " خواطر حول وضع فهارس

_ (1) مسرحية شعرية لبوشكين صور فيها المجتمع الروسي، وأقامها على فكرة وجود الخير في الإنسان بالفطرة، وبين اثر المجتمع في إفساده والعبث بمثله. (2) قصة أشباح لهنري جيمس، رواها جيمس من مذاكرات عانس كانت تعمل في شبابها مربية في ضيعة إنجليزية منعزلة. وكانت تؤمن بوجود الأشباح وبتأثيرها على البشر.

لدراستي " Thoughts on Being Bibliographed نشرت في عدد شباط (فبراير) 1944 من " حولية مكتبة جامعة برنستون "، الذي خصص لكتبه، وما كتب عنه ولدراسة آثاره، يقول: " ومهما يكن من أمر، فإن أمام الصحفي الشاب سبيلين يجب أن يمهدا، الأول: فهم أحدث الأحداث الأدبية في العالم؟ جويس، إليوت، بروست ... الخ؟ " التي لم تكن في متناول القراء الذي شب ذوقهم على كتاب " الانانيون " (1) Egoists وكتاب " جوهر الإبسنية " (2) The Quintessence of Ibsenism (3) ، وأن ينقل إلى عالم الفكر " البرجوازي " أحدث تطورات الماركسية، مما يتصل بالثورة الروسية. ولم أكن بطبيعة الحال الرجل الوحيد، أو أول من بسط أياً من الموضوعين، ولكنهما كانا الموضعين اللذين شغلا فكري اكثر من غيرهما، وكنت أشعر بأن ما أعمله يمت بعلاقة منطقية إلى أعمال الرجال الكبار الذين أعجبت بهم ". (وعبارة " الرجال الكبار " تعني هنا شو ومنكن وهنكر، ولعلهم اشهر ثلاثة " مبسطين " في الجيل الذي سبق ولسن) . ويتكلم ولسن أحياناً باستخفاف عن تلخيصاته وشروحه. وعندما استعرض كتاب لوينل ترلنج عن " ماثيو آرنولد " Mathew Arnold في مجلة " الجمهورية الجديدة " The New Republic، علق على تلخيصات ترلنج لقصائد أرنولد ومقالاته بقوله: " إنها تظهر من حين لآخر بليدة إلى حد ما "، ثم أضاف مستدركاً: " وعلى كل حال فإن من تجشم كتابة مثل هذه (التلخيصات) ، يدرك

_ (1) لم اعثر على كتاب له مثل هذا الاسم في هذه الفترة سوى قصة لمردث نشرها سنة 1879 وهي تدور حول شخصية سير ولوباي بترن الأناني المتعجرف المغرور. (2) لاحظ إن ولسن ما يزال يكتب لهذه الفئة نفسها من القراء، على الرغم من أنها اختفت منذ عهد بعيد. (3) كتاب لبرنارد سو أصدره سنة 1891، وحلل فيه مسرحيات ابسن تحليلاً مفصلاً وشرح طريقته في بناء الشخصية وتركيب الحبكة، وابرز قيمته باعتباره رائداً للمسرح الأوربي الحديث.

مدى الصعوبة في محالة جعلها سائغة للقراءة ". بيد إنه يعلم جيداً أن تلخيصاته ضرورية كما لو كانت " برنامج أوبرا "، إذ أنه يكتب لجمهور لا يأبه بالثقافة. ويمتلك ولسن كفايات عديدة تجعل منه مبسطاً بارعاً. فهو يكتب كتابة واضحة ومقروءة، ويستطيع أن يحول أكثر المواد غموضاً إلى جمل إنجليزية بسيطة مفهومة. وهو واسع الاطلاع، أو على الأقل له معرفة وثيقة بعدد من الوضوعات التي ترفد الأدب كالتاريخ والفلسفة وعلم النفس ثم الماركسية والتحليل النفسي بوجه خاص، وهما الموجهان الرئيسيان للفكر الأدبي العاصر. وهو إذا ما قورن بغيره من النقاد الأميركيين، يعتبر ذا تمكن فذ من اللغات، بما في ذلك اللاتينية واليونانية (ونراه أحياناً يثبت في مقالاته مقطوعات من سوفوكليس بلغتها الأصلية، وقد خاطر مرة فأخذ يصحح بعض ما ترجمه ايرفنج بابت عن اليونانية) ، والفرنسية والألمانية والروسية (وقد تعلم الأخيرتين في منتصف عمره لتعيناه في أبحاثه عن الماركسية) . وهناك صفة أخرى لولسن، ولعلها أقل سحراً من غيرها، تجعل منه (مترجماً) ممتازاً للأدب، وهي استخدامه البارع لأبحاث الآخرين وملاحظاتهم الدقيقة دون أن يشير إلى ذلك أحياناً. ففي المادة التي كتبها عن جويس مثلاً في كتابيه " قلعة أكسل " و " الجرح والقوس " The Wound and the Bow (1941) ، اعتمد على معلومات استمدها من منابع مختلفة كتفسير ستيوارت جلبرت الموثق المعتمد، والسيرة التي كتبها هربرت غورمان ولقاء ماكس ايستمان الذي يثير الشك، ومن مجموعة من المقالات لعدد من الكتاب نشرت في مجلة " فترة الانتقال " (1) Transition بباريس تحت عنوان

_ (1) هي مجلة صغيرة صدرت في باريس سنة 1927 واستمرت حتى سنة 1938، وكانت غايتها إبراز المحاولات العالمية الجديدة في الإبداع. ومن أشهرها انشر فيها تلك الدراسات الأصيلة عن " يقظة فينيغان " التي اعتبرت فيما بعد وثائق لدراسة هذه القصة. وقد جمعت هذه المقالات في الكتاب الآنف الذكر، وطبعت في لندن سنة 1929.

Our Examination roud his Factification for Incamination of Wok in Progress وكثيراً غيرها. ويعترف ولسن بأنه استمد معرفته للماركسية من عدد من المعاصرين ومنهم " الثقات " كماكس ايستمان وسدني هوك ومارك ستار وماكس نوماد وهربرت رسمية. وقد استقى معلوماته عن الأدب الروسي من كتابي د. س. ميرسكي عن تاريخ هذا الأدب، ومن دراسته لبوشكين، ومن كتابي دي فوغي " القصة الروسية " Le Roman russe ومن كثير من تعليقات فلاديمير نابوكوف الخاصة، التي انفق في ترجمتها سنين عدة. (وربما كان ولسن مديناً لنابوكوف في تحليله للنغمة الموسيقية في إحدى قصائد بوشكين، هذا التحليل الذي ضمنه مقالة كتبها عن بوشكين ونشرها في مجلة " شهرية الأطلسي " Atlantic Monthly، وهو تحليل فذ مسهب لا يمثل طبيعة ولسن ولكن يبدو منه إنه يكشف عن معرفته الوثيقة باللغة الروسية من جهة، ويمثل طبيعة نابوكوف؟ من جهة أخرى؟ تمثيلاً دقيقاً) . وحقيقة الأمر، أن جميع مقالات ولسن تكاد تنم إفادته البارعة من مثل هذه التحليلات، التي يتناولها أحياناً بالإسهاب أو التنقيح، ويحورها أحيانا أخرى إلى مصطلح اكثر شيوعاً وتداولاً فحسب. إلى جانب ذلك يكاد يكون ولسن استقى ما يعنيه في نظريته النقدية من كل ناقد حديث مبدع؟ دون أن يغزو الفضل إلى ذويه غالباً؟ واستغل كثيراً من المصادر المتنوعة لتمده بالمعلومات الدقيقة المتخصصة (1) .

_ (1) إن نشر التهمة المباشرة بالسرقة النقدية وعدم الأمانة، أمر خطير، يعز إثباته. فقد علت مثلاً، مرات عديدة، من أفراد يتمتعون بمكانه تتيح لهم أن يعلموا، أن ثلاثة أبحاث كاملة على الأقل يقوم عليها معظم مادة " قلعة أكسل "، ظهرت في فرنسة في السنوات العشر التي سبقت نشر ذلك الكتاب. ولكن لم يحاول أحد أن يكتب عن ولسن متتبعاً ما لم يعترف به هذا الناقد من دين لهذه الأبحاث، ولكن لم يحاول أحد أن يكتب عن ولسن متتبعاً ما لم يعترف به هذا الناقد من دين لهذه الأبحاث، إن كان ثمة دين حقاً. وقد كاد ولم تروي، الذي يعني بالنقد المتصل بجويس عناية خاصة - حيث تجلت تلك السرقات واضحة - أن يوجه التهمة إلى نقاد أخر، توجيهاً رقيقاً في أحد أعداد مجلة " البارتزان " Partisan Review (عدد يوليو - اغسطس 1947) ، مشيراً إلى " جماعة أكاديمية جديدة من الباحثين " منهم هاري ليفن ورتشاد م. كين وسواهما، " ممن لا يحفلون بأمانة النقل ".

وإلى جانب علم ولسن وقدرته على الإفادة من علم الآخرين، فانه مؤهل أحسن تأهيل لذلك النوع من الترجمة والتفسير الذي يؤديه بما أوتي من ألمعية فائقة في النقد ومقدرة على إدراك العلاقات ثم استخراج التعميمات منها. والدلائل على مقدرته هذه في كتبه، أكثر من أن تحصى. ولكن إذا كانت القدرة على التنبؤ هي مقياس التحليل فمن الجدير بالملاحظة إن ولسن قد تنبأ بأحداث أدبية عدة، قدر بانها في جوهرها روائية، وأن إليوت سيتجه لا محالة إلى المسرحية الشعرية، باقل نتبؤاته شأناً (1) . وعلى الرغم من هذه المؤهلات القوية للتفسير، يعاني ولسن من عدد من القيود والعوائق. واكبر هذه (ومما لا شك فيه أنها العامل الأول في نجاحه كمبسط، وفي الوقت نفسه أكبر مما يهدد جديته كناقد) نظرته الأساسية للأدب، إذ يراه ينقسم إلى عنصرين منفصلين تمام الانفصال، هما الشكل والمحتوى. كتب ديلمور شفارتز مقالة بعنوان " كتابة ادموندولسن " في مجلة " اكسنت " Accent (ربيع 1942) فعبر عن هذه الحقيقة (وهي أول شيء يلاحظه قارئ ولسن) ، يتشبيه رائع حين قال: " إن الشكل الأدبي عند ولسن هو الورق الذي تلف به الهدية، ومن الضروري صرف بعض الوقت في نزع هذا الورق وحل العقد المستعصية

_ (1) عند دراسة ولسن لجون شتاينبك في كتابه: " الرجال في الغرفة الخلفية " The Boys in the back Room (1941) ، لاحظ أن شتاينبك يتجه إلى تمثيل الحياة الإنسانية " بمسميات حيوانية " وبذلك تنبأ ولسن تنبؤا فطناً بتطور صار اكثر وضوحاً في آثار شتاينبك اللاحقة. ولعل هذه حالة خاصة من التنبؤ لأن الاتجاه نفسه قوي جداً ي قصص ولسن وفي كتاباته، حتى ليجعل منه حجة موثوقاً في مثل هذه الظاهرة.

في الخيط الذي تربط به الهدية، ولكن الشيء الرئيسي هو الهدية التي تختفي في الداخل، أعني مادة الموضوع ". والشعر، إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية، لا يكون سوى جمل نثرية ضغطت في شكل معقد دون داع للتعقيد، وهذا هو على وجه الدقة ما يعنيه الشعر في نظر ولسن، فانه يكون في أسوأ حالاته عندما يتصدى لعالجته، ويبدو أنه يكرهه بوجه عام. وفي سنة 1929 أعلن ولسن أيها الشعراء " Poest، Farewell (" اترك لكم هذا اللون من الكلام يا من لهم السنة تنطق ") . ومع أنه نظم شعراً بعد ذلك الحين، غير أن ذلك، فيما يبدو، لم يكن سوى عمل عرضي متكلف. ومنذ ظهور " قلعة أكسل " على الأقل، صرح ولسن بزوال الشعر أو فنائه، وذلك حين كتب يقول: إن الشخصية الشعرية في طريقها إلى التلاشي، وأن الشعر فن " اكثر بدائية واشد همجية من النثر ". وأن الشعر أو الأدب التخيلي، كما يقول قاليري، يقوم على التهاون بدقة اللغة، وسيستبدل، لا محالة، الأستعمال الصحيح للغة وهو الأداء العلمي. ومنذ ذلك الحين ظل يطعن في الشعر في مراجعاته ومقالاته وكتبه، ولا سيما في ذلك الفصل الذي دعاه " هل الشعر فن في طور الاحتضار "؟ في كتابه " الفنانون أو المفكرون كثيراً ". وليس هناك من فائدة ترتجى في تفنيد حجج ولسن التي تتعلق بتأبينه للشعر، سوى القول فيها بأنها حجج تستند إلى عدد من التعريفات المجحفة التي أعيد بها تحديد مصطلحات " الشعر " و " النثر " و " العلم "، ويبلغ من إجحافه أنها إذا أخذت بالتسليم أصبحت مناقشتها عبثاً لا طائل وراءه وحار الشعر من جرائها إلى مرتبة أشغال الزركشية والتخريم. والحقيقة أن ولسن يزعم أن أحسن النثر الحديث هو الشعر أو ما جرت العادة بتسميته

شعراً، وأن فلوبير " يمثل كيف انتزع النثر عامداً واعياً من الأسلوب الشعري خصائصه التي كان يتميز باستخدامها في التعبير عن الموضوعات الإنسانية الكبرى أعني خصائص الرقة والدقة والإيجاز البليغ ". ويحلل ولسن الشعر ويتصدى للحكم عليه بطريقة غثة هزيلة، غير أنه يحاول أن يتحاشى هذه المهمة ما وجد إلى ذلك سبيلا. ومما هو جدير بالملاحظة إنه في التمهيد النقدي الذي كتبه على أنشودة مالرميه " قبر إدجار ألان بو " Le Tombeau d " Edgar Poe البالغة حداً كبيراً من الغموض، وهي أنشودة أوردها في مختاراته التي دعاها " هزة التعرف " The Shock of Recognition (1943) ، أعاد نشر تعليق روجر فراي عليها، بدلاً من أن يدرسها بنفسه، ومن المؤكد أن مثل هذا يعتبر تقاعساً لا مثيل له، حين يبدر من ناقد محترف. ويبدو هذا العجز في معالجة الشعر، بوجه خاص، في بحثه الذي نشره عن الكتاب الأميركيين المعاصرين في مجلة " الجمهور الجديدة " سنة 1926. ومع أن أحكامه على النثر، ما تزال صالحة على الرغم من مضي عقدين من الزمن عليها (كان يشعر باهتمام بالغ نحو دوس باسوس، وفتزجرالد، شأننا نحن اليوم، مهملاً العمالقة المعاصرين أمثال لويس وهيرغيشايمر وكابل وكارثر) ، فإن احكامه على الشعر كات غاية في السخف؛ (فهو يرى مثلاً أن آثار ماريان مور، " قل أن تثبت عند الامتحان كقصائد ". وأن ولاس ستيفنز، يمتلك، " موهبة فذة في استعمال الألفاظ استعمالاً تافهاً ... وأنه فنان مزخرف برع ". أما وليم كارلوس وليمز " فلم استطع أن أومن به أبداً " وهكذا) . وهنالك عدد آخر من العوامل التي تحد من مقدرة ولسن في التبسيط. فهو لا يستطيع أن ينظم حبكه ملخصاته ومختصراته في مقالاته، تنظيماً متقناً، ولذا فعمله ينضح بالاستطراد المموج وبالحشو. كقوله مثلاً: " في ذلك الجزء من الكتاب موضوع بحثنا " وقوله: " في ذلك الجزء

الذي تصديت لبحثه آنفاً " وقوله: " أولاً، وعلى كل حال، يمكننا أن نقف برهة لنفحص ... " (وهذه الجمل لثلاث وردت كلها في صفحة واحدة) . وكقوله: " ومهما يكن من أمر، لنعد إلى القصة حيث تركناها " (وهذا شيء مألوف من الملخص) وقوله: " لنمسك بالقصة من بدايتها " وهكذا. وكثيراً ما تصبح تبسيطاته سوقية وتنحدر تفسيراته إلى حضيض الابتذال. ويفقد كتاب " قلعة أكسل "، كما ذكر مالكولم كولي، كثيراً من قيمته لأن ولسن يخلط بين الرمزية كأسلوب أدبي، والرمزية كطريقة في الحياة، ويعتبرها شيئاً واحداً. وقد أدى به ذلك في الخاتمة، إلى عاقبة وخيمة، فتردى في هوة الأسفاف بقوله: إن الكتاب الذين تولى دراسة آثارهم، قد اختاروا بوجه عام طريق أكسل، فتعهدوا أوهامهم الذاتية، عوضاً عن العيش في العالم الواقعي، بينما كان جل ما يستطيع أن يقوله فيهم، هو أن كتاباتهم غامضة، كما يتضح من مثال ييتس على الأقل. (ويتجلى هذا التبسيط المسرف وهذه السفسطة المحيرة ذات الوجهين بصورة خاصة في كتابه " إلى محطة فنلندة " الذي ترى فيه أحياناً شيئاً من طبيعة كتاب " البواتق " أو كتاب " صائدو المكروب " حتى ليوحي لك بأن من الممكن أن تسميه " الرجال الذين صنعوا ماركسيتنا "، وأن يباع من ثمة إلى " الرابطة الأدبية الصغرى (1) " Junior Literary Guild. ولعل النقد الأول الذي يمكن أن يوجه إلى كتاب " قلعة أكسل " مثلاً، أنه على الرغم من أن الغاية منه كانت الهجوم على أدباء مدرسة ما بعد الرمزية باعتبار أنها نهاية أدبية فانية، ثم التخلص منهم في الفصل الأخير في سبيل البلوغ إلى كتابة اجتماعية جديدة ملتزمة، فإن نغمته كانت تنضح بالاستحسان حتى أنها كانت " المرشد " إلى فهم أولئك الأدباء، أي كانت عملية

_ (1) أحد نوادي القراءة في أميركة. وكان يوزع الكتب البسطة في مختلف الموضوعات على أعضاء، لقاء اشتراك سنوي.

نقد تمهيدي يتقبل الأثر الأدبي وهو يريد يهاجمه. ومما لا شك فيه إنه من البراعة بمكان، أن يكون الناقد مع الأثر الفني وعليه في الوقت نفسه، وهي غاية قل من النقاد من أدركها ... وعند ولسن إلى جانب هذه الرغبة الجارفة في التبسيط، ضعف أصيل في الذوق، (يتجلى واضحاً في موقفه من بو) فقد كتب هنري جيمس، بتبصر بالغ الحد من الدقة يقول: " أن التحمس لبو، أمارة قاطعة على مرحلة من التأمل البدائي ". ومع ذلك وضع ولسن نفسه منذ زمن بعيد، في طليعة المتحمسين لبو في عصرنا هذا. ودأب على الإشادة الصارخة بذكره، في كتاباته، منذ ظهور قصته " كنت أفكر في ديزي " I Thought of Daisy (1929) . ولما أن راجع كتاب " عالم واشنطون ابرفنج) The Word of Washington Irving، لفان ويك بروكس، جعل من تحمس بروكس لبو إحدى البينات الساطعة على قيمة الكتاب. وهو يرى أن لبو ذهنا من الطراز الأزل " كسهم لامع وضاء "، وأنه ليس من عصبة أ. هنري وس. س. فإن دين، وإنما هو ن الرهط " ذوي العقول الكبيرة الفاحصة المتعددة الجوانب كغوته ". بل أن نقد بو هو اشهر نقد أنتجته الولايات المتحدة، وأن بو نفسه " أمير ". قد يكون احترام ولسن الشديد لبو شذوذاً يمكن التجاوز عنه، أو لعلنا نتساهل ونعتبره نوعاً من المماثلة الشخصية لو اقتصر على بو وحده، ولكنه يزداد أهمية عندما يصاحبه احترام مماثل لكتاب من أمثال منكن (الذي اعترف بمحاكاته) وأدنا سنت فنسنت ميلي (وهي " من هذه القلة من شعراء الإنكليزية المفلقين الذين ما زالوا على قيد الحياة ". وهي ثالث ثلاثة من الشعراء المعاصرين الذي قد يخلدون باعتبار أنهم. شعراء من الطراز الأول. أما الاثنان الآخران فهما روبنصون وإليوت) وقد أشار ديلمور شفارتز إلى " عطف " ولسن الخاص على مؤلفين من أمثال

ميلي وثورنتون ويلدر وفان ويك بروكس في دوره الأخيرة، وماكس ايستمان وهنري ميلر، فقال أن ذلك مهم، وخاصة إذا قوبل " بعدم اكتراثه أو كرهه " لرجال من امثال جيد وكافكا ومان وريلكه. وكلا القائمتين، يمكن أن يزاد إليها أسماء أخرى. ويدعو شفارتز ذلك، على سبيل المجاملة " افتقاراً إلى السبق النقدي "، ولكنه فيما يبدو، ضحالة متأصلة. أن الرجل الذي يكتب عن قصيدة " قبلاي خان " (1) Kubla Khan فيصفها بأنها قصيدة فارغة تافهة هو بكل بساطة، إنسان يعاني من خلل في الإحسساس. والنتيجة أن ولسن لا يستطيع أن يتتبع الأشياء إلى نهايتها أو لا يرغب في ذلك، والفقرة التالية من " قلعة أكسل " مثل نموذجي على تهربه وإحجامه: " وطبيعي أن يقودنا هذا البحث، إذا ما استقصيناه، إلى طبيعة اللغة نفسها ومن ثم إلى مجاهل علم النفس البشري، وإلى ما نعنيه حين نتحدث عن أشياء " كالعقل " و " العاطفة " و " الإحساس " و " والخيال "، وهذا يدب أن يترك للفلاسفة " ... قول غريب حقاً، فإن هذه الأشياء عينها هي التي لا يمكن للناقد في زمننا أن يتركها للفلاسفة، وإنما يجب أن يشغل بها نفسه إلى أقصى حدود طاقته، إذ أنها تعتبر حجر الزاوية في أي بحث جدي للأدب. وأن أحجام ولسن عن الغوص فيها ليس سوى دليل آخر على أن محاولة تفسير الروائع الأدبية و " ترجمتها " وتعميمها، دون الاعتماد على دعامة ما سوى القراءة الدقيقة والانتخاب، لا تؤدي في أحسن حالاتها إلا إلى ومضات من الفراسة، وفي أسوأ حالاتها تؤدي إلى نوع مهلهل من التبسيط، مثل " خلاصة مائة من روائع الكتب " 100 Great Books Digested.

_ (1) قصيدة لكولردج، يقول إنه نظمها أثناء نومه، أو أثناء وقوعه تحت تأثير الأفيون، عقب قراءته لرقصة عن قبلاي خان والقصر الذي أمر بتشييده.

2 - ليس كتاب " الجرح والقوس "، بأجود كتب ولسن، ولا أكثرها دلالة عليه، ولكنه افضلها حين يدرس من حيث المنهج، نه يمثل نهاية عملية " الترجمة " عنده. وهو زيادة على ذلك، اكثر كتبه التزاماً بنظرية أدبية. (بينما يقوم " قلعة أكسل " على أساس القياسات الخاطئة بين أكسل ورومبو، " والفنانون أو المفكرون كثيراً " حول مفهوم فلوبير لوظيفة الفنان الإلهية، و " إلى محطة فنلندة " حول طبيعة التاريخ و " الرجال في الغرفة الخلفية " حول جغرافية كاليفورنية) وفي " الجرح والوقس " تبلغ جميع اتجاهات ولسن حد الأثمار. فمن بين المقالات السبع التي يضمها الكتاب، تدور أربع حول كتاب قصصين هم؟ ديكنز وكبلنج وادث وارتون وهمنجوي؟ وواحدة حول كاتب مذكرات، وهو كازانوفا. وتعالج اثنتان نوعاً معيناً من الأعمال الفنية، وهما " يقظة فينيغان " Finnegan " s Wake لجيمس جويس، ومأساة " فيلوكتيتس " Philoctetes لسوفوكليس. وهكذا نجد تدرجاً محدد المعالم عند ولسن في نظرته إلى الشعر ابتداءً من " قلعة أكسل " الذي شغل فيه الحديث عن الشعر والشعراء نصفه على الأقل، ثم يتضاءل حظ الشعر في كتاب " الفنانون أو المفكرون كثيراً " فإذا هو بالنسبة للمحتوى كله أقل من الثلث، وينتهي الأمر في كتاب " الجرح والقوس " إلى إزراء بالشعر يطرحه إطلاقاً. وفضلاً عن ذلك فإن الفصلين الأولين الطويلين عن ديكنز وكبلنج اللذين يستغرقان ثلثي الكتاب، ربما كانا افضل مجال ممكن، برجل تخصص في التلخيص وفي إيجاز حبكات القصص. وهدف ولسن الأول في هذين الفصلين، إذا ضربنا صفحاً عن تلخيص عقد القصص، هو البرهان على أن ديكنز وكبلنج كاتبان جديان ومعذبان.

فديكنز " هو اعظم كاتب إنجليزي في زمنه، ولا يشق له غبار ". وكبلنج " هو أحد المبدعين الأصليين القلائل في عصره ". وأسلوب ولسن في بلوغ هذا الهدف غاية في البراعة: فقد كتب في الفصل الذي عقده لديكنز، بحثاً تمهيدياً عن أهمية ديكنز الأدبية (" أنه أستاذ دستويفسكي " الخ..) ثم عرض لطرف من حياة ديكنز مع التأكيد على ما مر به من تجارب مؤلمة، من فقر عائلته وشغله في معمل الدهان الأسود. ثم أعقب ذلك بدراسة تفصيلية لقصصه مع الإشارة الدائمة إلى سيرة حياته. وأخيراً أنهى الفصل بتلخيص وشرح لقصته " لغز إدون درود " The Mystery of Edwin Drood، تلك القصة التي اختارها لتمثيل شخصية ديكنز المزدوجة التي تعكسها في القصة شخصيتا " سكروج " ممثلتين في جون جاسبر. وهكذا يظهر الشرح أن آثار ديكنز تبدو غامضة (أي " عميقة ") ، وموحية بحقائق نفسية أساسية (أي " بعيدة الغور ") ، ويبين عن أهمية ككاتب كبير، دون أن يتعارض ذلك مع سهولة قراءة آثاره. وقد وفق في اختياره قصة " ادون درود؟ وهي قصة لم تكتمل وتبدو غامضة إلى حد ما -، مثلاً رائعاً على هذه الوظيفة المعقدة. ولكن مما لا شك فيه أنه لو بذلت جهود أشق من هذه، بعض الشيء، لأمكن الخروج بنتائج مماثلة من كتب ديكنز، أو من أي كتب أخرى. ومما هوة جدير بالملاحظة، أن ولسن ما يزال يعنى بعلم النفس وعلم الأجتماع، إلى حد يؤدي به إلى استعمال بعض النظرات الغريبة. مثل قوله: إن سكروج هو " ضحية عهد ملتاث تنتابه السوداوية ". وأن الفكرة النهائية التي تستخلص من كتاب " صديقنا المشترك " Oue Mutual Friend (" لنتكلم باللغة الماركسية ") هي أن " ممثلي الطبقات المهنية العليا القديمة الذين نبذتهم طبقتهم، يمكن أن يتحدوا مع طبقة البروليتارية ضد الطبقة

الوسطى التجارية "؟ ولكن يبدو أن طريقته تتدرج باطراد، نحو الترجمة المباشرة. (وبهذه المناسبة، ربما كان ثناء ولسن المدهش؟ بعض الشيء؟ على النقد المباشر الذي كتبه ت. أ. جاكسون الماركسي عن ديكنز، غير صادر عن احترامه لوجهة نظره السياسية، بقدر ما هو وليد مجاملة من كاتب تلخيصات لزميل له، إذ أن 143 صفحة من كتاب جاكسون، على صغر حجمه، خصصت لتلخيص عقد القصص، ومنها أربعون صفحة لخصت فيها قصة " صديقنا المشترك ") . والبحث الذي كتبه عن كبلنج، شبيه بذاك الذي كتبه عن ديكنز. فهو يحلل فيه كسوف شهرة كبلنج، ويعرض لحياته المبكرة، مع النص الخاص على التجربة المؤلمة التي مر بها في مرحلة الطفولة، حين هجره أبواه، والانهيار الذي مني به إثر ذلك. ثم يتناول كتابيه، " ستوكي وشركاه " Stalky and Co.، و " كيم " Kim، بالدراسة المفصلة. وينفق سائر الفصل في التحدث عن حياة كبلنج في طور النضج، وعن أفكاره وكتاباته، وينوه خاصة بالخيبة التي أصابته عقب تجربته الأميركية، متخذاً تلك التجربة مفتاحاً لتفسير نزعته الاستعمارية المريرة فيما بعد. وهذه الدراسة أوضح في اتجاهها النفسي من تلك التي خص بها ديكنز. وقد كان هم ولسن الأول فيها، الكشف عن العصابات الذي كان كبلنج يشكو منه، أي تذكره وهو المستضعف المدفع لما كان يلقاه من عسف الأقوياء، مما أدى به إلى الاستقواء الشرير والحقد على الضعفاء والمغلبين، ومقت الأجانب والزنوج واليهود، والديموقراطية نفسها. وهنا أيضاً يحاول ولسن أن يعرض موضوعه عرض مؤلف يتمتع بالقدرة الفائقة والأهمية. وإذا كان هذا يسوقه أحياناً إلى مضحكات لا يستشعرها كما يتضح من زعمه أن قصص كبلنج هي منبع الأقاصيص تتسع مسافة الخلف فيما بينها مثلما تتسع بين حكايات رنج لاردنر عن البيسبول وقصة السايكلوبس في

" عولس " (1) فانه من ناحية أخرى قد تؤدي به إلى أوثق ربط بين آثار المؤلف وبين حياته. ذلك أنه في هذا المقام يعتبر الكتب، المفتاح الأول لشخصية الرجل، بدلاً من أن يكون الأمر على عكس ذلك (وذلك ما يضعنا في النهاية وجهاً لوجه أمام قضية تاريخية، لا قضية من قضايا النقد) ، ولكن لا شك في أن الرجل نفسه، يتمتع بأهمية فائقة حين يمثل النهاية القصوى في انحراف أدبي. وتسير الفصول القصيرة في الكتاب، على المنهج نفسه دون داع للإسراف في التقدير المغرق. فالفصل الذي عقده لكازانوفا، فصل تقييمي قصير، يشبه فصول فرجينيا ولف، وأن كان قد كتب بمهارة أقل. وهو يعيد سرد بعض الأحداث التي وردت في المذاكرات، ويقدم لنا كازانوفا، على أنه روسو جديد، ولكنه يفوقه جاذبية. والفصل الذي عنوانه " إنصاف ادث وارتون "، هو فصل تقييمي قصير آخر وفيه خلاصات لعدد من كتبها، وثناء معتدل عليها، وإشارة إلى أن كتاباتها منبثقة عن الأضطرابات العقلية التي اكتوت بنارها هو وزوجها. أما الفصل الخاص بهنجوي، فهو سلسة من الشروح القصيرة لقصصه وكتبه الواحد تلو الآخر، وهي شروح تجنح إلى الضحالة. وليس فيه عدا ذلك سوى إشارة إلى " الجرح "، ي إلى العداء المتزايد للمرأة في كتاباته، إلى جانب تذييل أفرط فيه في تقدير قصة " لمن تدق الأجراس " To Whom the Bell Tols حيث نزع همنجوي " رداءة الستاليني " نزعاً كاملاً. أما الفصل الذي عنوانه " حلم هـ؟؟. ش. ايرويكر " فهو تلخيص تفسيري لقصة " يقظة فينغان "، وهو يعتبر مفصلاً تفصيلاً كاملاً، بالنسبة للزمن الذي كتب فيه (تواً إثر نشر

_ (1) اشتهر الكاتب الأميركي لاردنر (1885 - 1933) ، بقصصه التي كتبها عن الألعاب الرياضية وخاصة البيسبول. وتمتاز هذه القصص بالسخرية اللاذعة وبالفكاهة التي تقوم على تمثيل اللهجات المحلية المختلفة. والسايكلوبس جيل من المردة ورد ذكرهم في أساطير الإغريق، وكانوا يسكنون جزيرة صقلية. ولكل منهم عين واحدة في جبهته.

الكاتب) ، ولكنه بطبيعة الحال لا يعتبر كاملاً إذا ما قيس بتلك التفسيرات التي ظهرت منذ ذلك الحين. ويعتمد ولسن فيما كتب على المقالات التي ظهرت في مجلة " فترة الانتقال " Transition (وهو يعترف بأنه يشك في " إمكان فهم الكتاب دون الاعتماد عليها ") . وفي تحليله المسهب، لقطعة معقدة عن عمى سويفت (يبدو أنها حذفت من المسودة الأخيرة للكاتب) اعتمد على شرح روبرت ماك المونز وقال عنه " إنني اعتبره ثقة على كل حال ". أما الفصل الأخير الذي كتبه ولسن عن مسرحية فيلوكتيتس لسوفوكليس، فقد رمى فيه إلى أن يجعل الكتاب كلاً متكاملاً، وأن يقرر فيه أحداث نظرية أدبية له. لقد كتب ماثيو آرنولد في الثناء على أحد النقاد، عبارة يمكن أن تطبق على ولسن في دراسته لسوفوكليس، قال: " إن نحل نقدنا الإنجليزي لا يحوم بعيداً لجمع عسله، وهذا الناقد جدير بالثناء، لأنه طار إلى أرجاء غريبة في بحثه عن الأزهار ولأنه وقع على زهرة جميلة وجدها هنالك ". ويدرس ولسن مسرحية سوفوكليس، وغيرها من الآثار التي دارت حول أسطورة فيلوكتيتس، ويدرس أثناء ذلك الأسطورة وإمكاناتها في المجال الفني، حيث ترتبط القوة الفائقة أبداً بشيء من العجز. (ومن الجدير بالملاحظة أن ولسن يرى أن سوفوكليس يعرض علينا ذاته في فيلوكتيتس، وزاد على ذلك أن شخصية فيلوكتيتس كثيراً ما استعرت انتباه المصابين بالاضطراب النفسي، ومنهم جيد، وجون جي شابمان، ولام، وربما ولسن نفسه الذي يبدو أنه مفتون بهذه الشخصية، منذ سنوات عدة) . ويفتقر كتاب " الجرح والقوس " إلى فصل أخير، يعقد للشرح ويكون بمثابة تكلمة له، توضح معنى استعارة (الجرح والقوس) وتلخص ما بدا منها في آثار هؤلاء الكتاب. وبغير هذا الفصل يكون الكتاب إلى

حد ما نوعاً من التدليس، إذ أن ولسن في كثير من الحالات، يلمح إلى " الجرح " تلميحاً فقط، ويترك للقارئ استخراج الحقائق والاستنتاجات إلا أن الإشكال في هذه الطريقة، إن لكل كاتب (وغير كاتب) " جرحاً " من نوع ما، وكتاب جونسن " حياة الشعراء " (1) The lives of the poets مثلا، يمكن أن يسمى بحق " الجرح والقوس "، إذ أن القارئ يستطيع أن يضيف " جرحا " إلى كل من الموضوعات التي يحتويها الكتاب، مستخلصا ذلك من المعلومات التي يقدمها له في بعض الأحيان، ثم يؤول " أقواسهم " أو فنهم وفقا لذلك. هذا بينما مطلوب حقا، هو تبيان كيف ولماذا ينتهي مثل هذا (الجرح) المعين إلى ذلك (الفن) المعين. وقد فعل ولسن هذا العمل البالغ الدقة في الفصلين اللذين كتبهما عن ديكنز وكبلنج، ولكنه ترك للقارئ أن يستنتج في الفصلين اعتمادا على الأدلة التي بثت في الفصل، أو حتى من معلوماته الخاصة، مدلول " ما ورثه كازانوفا من الفساد الخلقي "، أو ما أصاب مسز وارتون من الانهيار العصبي، ومشكلة همنجوي وهي " رجال بلا نساء " وعمى جويس ومنفاه وعذاب سوفوكليس في الحب (وهذا شيء اعتمد فيه ولسن، على الإشارة المشهورة التي وردت في " جمهورية " أفلاطون) (2) . وسنتناول بالبحث أهمية هذه النظرية وإمكاناتها فيما بعد، ولكن يجب أن نشير هنا إلى أنها ليست عند ولسن، فقد وجد شفارتز

_ (1) مجموعة من تراجم الشعراء الإنجليز، أعدها جونسن لتكون مقدمات لسلسلة من دواوينهم اضطلع بنشرها أحد الوارقين في لندن. وهي تضم 52 شاعرا، وكل ترجمة منها تشمل حديثا عن حياة الشاعر وشخصيته ومكانته الشعرية. (2) وردت هذه الإشارة في الكتاب الأول، ونصها: " والواقع خلاف ذلك كما أكد لي كثيرون من الشيوخ. أخص بالذكر منهم صفوكليس الشاعر، فإنه لما سئل في حضرتي: ما هو شعورك بلذائذ الغرام يا صفوكليس؟ أقادر أنت على التمتع بها؟ أجاب السائل قائلا: يا صاح، يسرني أني نجوت من تلك اللذات نجاتي من سيد غضوب " (ترجمة حنا خباز: ص 5 - ط المقتطف 1929) .

إنها الموضوع الأساسي في " كنت أفكر في ديزي "، وهو اعتبار النقص في رجال الفن، شيئا لا ينفصل عن فنهم. ومما لا شك فيه أنها تبدو جلية في كتاباته النقدية، منذ أصدر " قلعة أكسل "، حيث بين أن موسيقى جويس اللفظية الرائعة هي التعويض الموازي لكلال بصره، وإن قصة بروست نتيجة لآلامه الجسمية والنفسية (ومع أن " جرح " بروست الرئيسي هو الشذوذ الجنسي، فقد تجاهله ولسن براعة) . أما كتاب " إلى محطة فنلندة " فإنه الأكثر مسخ مضحك للمبدأ الماركسي، وكثيرا ما كانت الماركسية في نظره، نتيجة لما مني به ماركس من أرق وبثور وزكام وروماتزم ووجع في الأضراس وصداع وتضخم في الكبد، وإمساك، دع ذكر الزهري عند لاسال والعنة عند باكونين. (وقد كتب ماركس ذات مرة لانجلز يقول: أرجو أن يجد البرجوازيون، ما داموا في قيد الحياة، سببا يذكرهم بما أنا مصاب به من البثور. وها هو برجوازي واحد على الأقل لم ينس ذلك أبدا) . 3 - وتعتبر كتابات ولسن اتباعية، بينما نجد معظم النقد المعاصر على غير ذلك. ولعل التفسير أو " الترجمة " كانت الوظيفة الرئيسية للنقد منذ القدم، بعد " التقييم ". وقد أقر الإغريق علم التأويل، وأطلقوا عليه اسم Hermeneutics، وكان شرح المتون هو التطبيق العملي له. وقد تمرس انكساغوراس، قبل أرسطو طاليس بأكثر من قرن، بنقد تفسيري، بل رمزي، يشبه نقد ولسن إلى حد كبير، وذلك حين حلل خيال هوميرس وفسر سهام أبولو بأنها رمز لأشعة الشمس ونسيج بنيلوب على أنه خطوات القياس المنطقي. ويسرد لنا سينتسبري (1) قائمة بأسماء الإغريق

_ (1) ذكر سينتسبري ذلك في كتابه: A History of Criticism and Literaty Tast in Europe (Vol. 1 p. 11 ff.) .

الأوائل الذين تمرسوا بتفسير هوميرس ومنهم انكسماندر وستسمبرتس وغلوكس أو غلوكون. إن تفسير تلك الشخصيات الإغريقية الخرافية من أمثال هرقل وثيسيوس، على أنها رموز للفضيلة قد حاوله السفسطائيون وطوروه، واستغله الرواقيون المتأخرون إلى أبعد بهد، وكان من الطبيعي، بانتشار المسيحية، أن تطبق هذه الأساليب نفسها على الكتاب المقدس، الذي كان بعد هوميرس والأساطير، الموضوع الرئيسي للتفسير. وقد تمرس فيلون اليهودي بالترجمة الرمزية الأولى للعهد القديم. وبفضل دفاع القديس اوغسطين القوي عن هذه الطريقة، أصبحت الشخوص والقصص في التوراة، تدريجا، رموزا مقبولة لأنواع الفضائل الإنسانية والصراع الخلقي. وفي القرن السادس ترجم فلغنتيوس " الانيادة " Aeneid على أنها رمز للنفس الإنسانية. وقد ظلت هذه الطريقة، متبعة في تفسير الأدب الديني والدنيوي طوال العصور الوسطى. وقد نسب غريغوريوس الكبير إلى الكتاب المقدس ثلاث طبقات من المعاني: المعنى الحرفي أو التاريخي، والرمزي أو النموذجي، والمجازي أو الأخلاقي. وزاد المتأخرون من علماء اللاهوت طبقة رابعة هي المعنى الباطني أو الصوفي. (وقد ادعى دانتي جميع هذه المعاني للمهزلة الإنسانية) . واستمر مرير التفسير الرمزي، دون أن يضعف، حتى نهاية عصر النهضة تقريبا، إذ نرى أن بترارك مثلا ما يزال يقرأ " الانيادة " على أنها خرافة أخلاقية ذات مغزى، وتاسو يفسر شعره الملحمي الرومانتيكي تفسيرا رمزيا، وسير جون هارنغتون يحاول في المقدمة التي كتبها لترجمته لكتاب اورلاندو فوريوزو (1) أن يقرب طبقات غريغوريوس الثلاث، إلى المفهوم الإنجليزي. وقد تلقى التفسير

_ (1) ملحمة رومانسية من نظم أريوستو لم يتقيد فيها ناظمها بقواعد الملحمة كما وصفها أرسطو طاليس فموضوعها غير تاريخي وحبكاتها متعددة.

الرمزي الأخلاقي جرحا رغيبا مميتا من بيكون حبن أشار في كتابه " تقدم العلم " The Advancement of Learning، إلى أن المؤلفات تكتب أولا ثم يضاف إليها المعنى عقب ذلك. ثم ألقى به جونسون في غيابة القبر حين بعث الحياة في النظرية الأرسطو طاليسية، التي ترى الفن محاكاة للطبيعة (1) ، ومن ثم تعده؟ نسبيا؟ غاية في ذاته. وبطبيعة الحال استمر التفسير الرمزي على صور أخرى، وما زال استنباط المعاني المتعددة للنص الواحد ماثلا إلى يومنا هذا في نقد الكتاب المقدس وفي الدراسات الدانتية، وما إلى ذلك، وكن اعمل الرئيسي للنقد التفسيري اقتصر في أيامنا هذه على شرح ما استغلق من المعاني، وتقريبها إلى الإفهام. وقد زاول كل ناقد، منذ عصر النهضة، مثل هذا العمل إلى حد ما ولكن ليس هناك ناقد واحد وقف عليه جهده وتخلى بسببه عن نواحي أخرى من النشاط. وعندما ترجم دريدن آثار شوسر إلى إنجليزية عصره، محتجا بأن " الهدف الأول للأديب أن يكون مفهوما "، كان يتمرس بنوع من النقد زاوله ولسن فيما بعد، عند درسته لجويس على نحو أقل تشددا. وعندما جاء بلزاك بعد قرن ونصف القرن، ووقف أكثر من نصف دراسته المطولة عن " دير بارم " (2)

_ (1) ما تزال فكرة المحاكاة التي جعلها أرسطو طاليس جوهر العمل الفني، موضوع خصومة بين النقاد. وقد أساء بعضهم وذهبوا في تأويلها مذاهب شتى لم تخطر لأرسطو طاليس على بال. فأرسطو طاليس لم يقصد بالمحاكاة المعنى الحرفي لها، أي تقليد الطبيعة ونسخها، بل أراد إعادة إخراجها على صورة جديدة تكشف عن تأثر المتفنن بها. ولم يقصد بالطبيعة، الطبيعة الجامدة فحسب كما يظن بعض النقاد اليوم، بل توسع في معناها فجعلها تشمل الواقع الإنساني والنفس الإنسانية إلى جانب مشاهد الطبيعة بمعناها الشائع. (2) قصة للكتاب الفرنسي ستندل، كتبها سنة 1830 وترجمها للعربية الأستاذ عبد الحميد الدواخلي في سلسلة " الكاتب المصري ". وقد تحمس لها بلزاك وكتب عنها دراسة طويلة نادى به فيها أستاذا من أساتذة الفن القصصي، وكان بهاذ يتحدى آراء معاصريه أمثال هوغو وديفيني وميريمي الذين كان رأيهم في الكاتب غير حميد.

The Charterhouse of Parma على تلخيص الحبكة تلخيصا مسرفا، كان يقوم بالدور نفسه الذي اضطلع به ولسن عندما درس بروست. وقد كانت الدراسات الشيكسبيرية منذ البداية، تفسيرية إلى حد بعيد، ويعزى بعض ذلك إلى وجود بعض المستغلقة، الناجمة عن اضطراب المتون. وبتطور الثورة الصناعية، وقيام الحركة الرومنتيكية واتساع المسافة تدريجيا بين الفنان وجمهوره وما ترتب على ذلك كله من اضطراب في الأوضاع، وتشبث بالمذهبية، أصبحت الحاجة إلى النقد التفسيري أكثر إلحاحا، وازدهرت حركة هذا النقد بوجه عام. وفي مطلع القرن التاسع عشر كان الشعراء يصرفون في تفسير نتاجهم ونتاج زملائهم للجمهور، وقتا يعادل ما كانوا يصرفونه في نظم الشعر. وفي الربع الأخير من ذاك القرن، عند ظهور الحركة الرمزية، كانت الأعمال التفسيرية تكتب لصفوة من المتأدبين فكانت هذه الأعمال نفسها في حاجة إلى التوضيح. أما في هذا القرن الذي نعيش فيه، فبعد أن تحولت الكتابة من مهنة إلى تجارة، وانقلبت حركة نشر الكتب من تجارة إلى عمل ضخم واسع النطاق، ازدهر النقد التفسيري والترجمة ازدهارا عظيما في الذروتين العليا والدنيا للسلم الأدبي. أما في القمة فقد تخصص النقاد، بتأثير بوند وإليوت، بأكثر الأدباء غموضا؟ أمثال دانتي ودن وبليك وهوبكنز؟ ولعل ذلك كان من قبيل رد الفعل (وقد يكون ذلك لا شعوريا) ؟ للاتجار بالأدب. وأما في الحضيض فإن هذا الاتجار نفسه هو الذي أوحى بقيام حركة التبسيط الأدبي، على أنها وسيلة من وسائل جلب المال. 4 - وهنك أشكال كثيرة من الترجمة والتفسير في النقد للمعاصر، تختلف باختلاف النقاد. ومن أشهرها؟ وهذه في الأكثر موهبة شخصية لا

أدري إذا كان من الممكن اعتبارها منهجا؟ طريقة وليم إمبسون في قراءة المعاني الغامضة المستغلقة (1) ، التي بلغت حدا كبيرا من الدقة. والمثال النموذجي على هذه الطريقة، تحليله المدهش الذي استغرق اثنتي عشرة صفحة من كتابه " بعض تفاسير للعشر الريفي " Some Versions of Pastoral لبعض ما دعاه ساخرا " 4096 حركة ممكنة من حركات التفكير " في سوناتا شيكسبير الرابعة والتسعين ومطلعها: " أولئك الذين لديهم القدرة على الأذى ولا يفعلون "، وهذه ترجمة من أرفع النماذج وأكثرها تعقيدا، بكل ما فيها من الاحتمالات المنثورة على وجه الصفحة. ومع أنها بكل تأكيد ليست تبسيطا، إذ هي دائما أكثر تعقيدا من الأصل، إلا أنها باعتبارها عرضا " للقراءة " في أرفع صورها، قد وسعت من مجال " الإيصال " الأدبي في زمننا، لا يقل عن سابقه دقة إلا أنه أكثر استقلالا وتفردا، أعني تحليل كنث بيرك الرمزي الذي يعتبر تفسيرا ونثرا كالذي يفعله ولسن، إلا أنه على مستوى أعمق في المعنى. فمثلا يعد ولسن توريات جويس تعقيدا فحسب في المعنى ويترجمها في عبارات مفهومة، أما بيرك فيرى في التورية رمزا عن الأثم وتنكرا للتقوى الكاثوليكية يمتد إلى رفض المواءمة اللغوية، وبذلك يؤكد المعنى الحرفي بمضمون رمزي (2) . وليس من العجيب أن تكون آثار جويس، موضوعا من الترجمات المعاصرة، إذ لعلها أخصب حقل لمثل هذه المحاولات في أدبنا الحديث (ويأتي كافكا في المقام الثاني، كما يتضح من مجموعة عنوانها " مشكلة كافكا " The Problem of Kafka) وتكاد تكون جميع اكتب ألفت عن جويس وأعماله شروحا في المقام الأول. فهنالك عدد مما يدعى

_ (1) راجع ما كتبه المؤلف عن هذه الطريقة في الفصل التاسع من هذا الكتاب. (2) راجع الفصل الحادي عشر من هذا الكتاب.

" مفاتيح " لقصة " عولس ". ولكن أكثرها أهمية التعليق المعتمد الذي كتبه ستيوارت جبرت فهو يعتبر دراسة تفسيرية مفصلة رائعة. وقد أدت المقالات التي نشرت في مجلة " فترة الانتقال " وكتاب " مفتاح تخطيطي ليقظة فينيغان " Skeleton Key to Finnegan " s Wake، تأليف جوزف كمبل وهنري مورتون روبنصون، الدور نفسه بالنسبة لكتاب جويس الأخير، قد نشر عدد كبي من المقالات، من بينها مقالتا ولسن، حاول كتابها تفسير " عولس " و " يقظة فينيغان " تفسيرات جزئية. وقد حاول كاتبان ناشئان هما رتشارد ليفن وشارل شاتوك في عدد الشتاء من مجلة " أكسنت " (1944) ، أن يفسروا مجموعة أقاصيص " سكان دبلن " Dubliner " s لجويس، على أساس المشابهة الهوميرية، شأنها في ذلك شأن " عولس ". وقد نستطيع أن نلم بشيء من مشكلات النقد التفسيري في أيامنا، إذا أدركنا أن الترجمة الوافية لأي من كتابي جويس " يقظة فينيغان " و " عولس " لا بد من أن تحتوي على جميع الآراء المنثورة في هذه الكتب والمقالات، علاوة على آراء ونظرت كثيرة أخرى لم تظهر بعد. وعلم النفس والتاريخ الأدبي، وتفاصيل حياة جويس، وقد تستغرق؟ كما ذكر جويس في حديثه إلى إيسمان بلهجة ربما كانت ساخرة؟ حياة الناقد بأجمعها. ولعل عزرا بوند هو مصدر النقد التفسيري الجدي في زمننا (هذا إذا تجاهلنا تلك الأعمال المهمة من الناحية التاريخية؟ وإن كانت ليست كذلك من الناحية الفنية؟ كدراسات وليم ليون فلبس في الأدب الروسي) ونظريات بوند في النقد، تبدو في غاية التواضع إذا ما قسناها بصاحبها المريض بداء العظمة. فهو يعتقد أن الناقد ليس أكثر من رجل يطلع صديقه على محتويات مكتبته ويدله على الكتب التي قد تروقه قراءتها. وعلى كل حال فالمسألة كما قال بوند عن فينولوزا وعنى نفسه " الغريب مثمر على

الدوام " وكثيرا ما تكون الأشياء التي ينوه بها في حاجة إلى ترجمة من الناحيتين المجازية والحرفية. وقد قدم بوند في كتابه " روح الرومانس " The spirit of Romance (1910) أدب أوروبة اللاتينية، في العصور الوسطى، إلى القارئ العادي في إنجلترة وأميركة لأول مرة. وقد اهتدى في تصميم كتابه هذا بكتاب " الشعراء الإيطاليون الأول " Early Italian Poets لروزيتي، ودرس فيه أدب إيطالية وفرنسة وبروفنس وأسبانية والبرتغال وزوده بشواهد كثيرة من الشعر، مترجمة إلى الإنجليزية، مع شروح ونقدات. ولعل هذا الكتاب هو المثل الكامل للنقد التمهيدي الرشيد، وللتبسيط على مستوى من فهم أصيل وذوق سليم. ومع أن بوند قام بكثير من أعمال الترجمة والتفسير منذ لك الحين، بما في ذلك دراساته وشروحه لارنو دانيال وكفلكنتي وهنري جيمس، لم يبلغ في شيء من هذا مبلغ ما حققه في كتابه الأول من فائدة ملموسة. وبينما اندفع بوند في مشاكسات مختلفة الأنواع، تابع إليوت طريقة صديقه في النقد التمهيدي (1) . وكان ظهور كتاب " الغابة المقدسة " له (1920) ، حدثا أدبيا عظيما، قدم لأدباء عصر اليزابث وغيرهم من الأثيرين عنده ما قدمه بوند لكفلكنتي ودانيال، ولكنه قدم ذلك بطريقة أكثر نجاحا في نظر الجمهور، حتى كاد جونسون ومارلو أن ينافسا منكن وكابل وكأنهما من أدباء العقد الثاني من هذا القرن. وقد افترض إليوت في قرائه من الفطنة وسلامة الذوق ما افترضه بوند، وأن لم يعتمد على ثقافتهم اعتماد بوند عليها. ومن الواضح أنه في بعض الأحيان، كما حدث في دراسته لدانتي وسنيكا، يفترض أن جمهوره لم يسبق له أن ألم بهذه الموضوعات، ولا شك أنه محق في ذلك. وقد كتب إليوت مقالات أقصر

_ (1) راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب.

بكثير من مقالات بوند وأكثرها يدور حول كتاب بأعيانهم. ولما كان يفتقر إلى مثل قدرة أستاذه في معرفة اللغات، فقد تخصص بدراسة المهجورين من أدباء الإنجليز (خاصة كتاب القرنين السادس عشر والسابع عشر) . وعندما يعرض لأديب أجنبي، فإنه قل أن يعتمد ترجماته الخاصة له، أما فيما عدا ذلك فطريقته تشابه طريقة بوند إلى حد كبير لاعتمادها الرئيسي على كثرة الاستشهاد والمقارنة والشرح والتعليق التقييمي. ومع إن اهتمام إليوت بالنشر لا يشبه في ضآلته اهتمام ولسن بالشعر، إلا أنه يكاد يكون أعظم ناقد تمهيدي جاد في زمننا هذا، وهو يعالج مادة المبسطة، وما يتصل بها من تمهيد وتذييل، باتزان وثقة ولم يسيرا لولسن. وهنالك نوعان حديثان من النقد " الترجمي " أو التمهيدي، يمكن أن يخرجا من حظيرة " التبسيط "، يجدر بنا أن نذكرهما هنا، وهما نقد كلينث بروكس وفلاديمير نابكوف. فبعد أن أخرج بروكس كتابه الأول " الشعر الحديث والاتباعية " Modern poetry and Tradition (1939) الذي حاول فيه شرح الصعب وتفسيره على الطريقه التقليدية، ولاسيما شعر إليوت وييتص، وبعد أن أصدر سلسلة من الكتب المدرسية، بالاشتراك مع بعض المؤلفين، ومنها " كيف نفهم الشعر " Understanding poetry، و " كيف نفهم القصص " Understanding Fiction، و " كيف نفهم المسرحية " Understanding Drama، تلك الكتب التي سهلت الأمر على طلاب الكليات تسهيلا مسرفا؟ بعد هذا كله غير منهجه في كتابه " الزهرية المحكمة الصنع " The Well Wrought Urn (1947) فحول أن يبرهن فيه، أثناء تحليله لبناء عشر من القصائد، على أن القصائد التي درج الناس على اعتبارها بسيطة سهلة القراءة؟ ومنها قصيدة غراي " مرثاة مكتوبة في فناء كنيسة ريفية " Elegy Written in a Country Churchyard وقصيدة تنيسون " أيتها الدموع، أيتها الدموع المتثاقلة " Tears، Idle Tears

هي في الحقيقة غامضة. تنطوي على شيء من التناقض، بل هي في الأكثر، " ميتافيزيقية ". وهكذا نراه يقدم لنا القصائد المألوفة ويعرضها في ثياب جديدية. و " يترجمها " من البساطة إلى التعقيد. وقد قام فلاديمير نابوكوف بعمل مشابه في دراسته العجيبة " نقولا غوغول " Nikolia Gogol (1944) ، إذ حاول أن يعيد تفسير غوغول، الذي اشتهر عنه أنه كاتب اجتماعي ساخر سهل القراءة، بطريقه جديدة؛ فأكد أنه كاتب معقد جدي لا يحفل بالمجتمع، وأنه غير عقلاني، بل أنه يكاد يكون رائدا للسريالية. وينهج نابكوف في هذه الترجمة العكسية، نهج ولسن الأثير لديه وهو تلخيص الحبكة (ومن المعروف أنه اتصل بولسن، لعدة سنوات، وإن آثاره حازت التقدير عند ولسن) ، مع أنه يبين أنه يقدم للقارئ " الحبكات الحقيقية " التي كتبها غوغوكل، والتي " تختفي وراء الحبكات الظاهرة ". ومما يمكن ملاحظته أن نابكوف أيضاً يستعمل اسلوب الترجمة الحرفية على طريقة بوند، فيقدم ترجمات إنجليزية جديدة للقطع والآثار التي يدرسها، معلنا بصراحة عن إيمانه أن الترجمات القديمة غير صالحة من حيث الأسلوب والنسق؟ ويجب أن نقر هنا بأن ترجماته تبدو أرفع مما سبقها؟ بل أنه أحيانا يترجم ترجمة مفصلة، دور الإيحاء والمعنى في أسماء الأعلام عند غوغول) . ومن الوضاح أنه لا جدوى من إضاعة الوقت في بحث ذلك النوع من " التبسيط " الذي يقصد به كسب المال على حساب رغبة القراء في التظاهر بالمعرفة الأدبية. ومثل هذه الكتب تسير جميعاً على نسق واحد: سيرة الكتاب، ويفضل أن تكون لكاتب عرف عنه الشذوذ الجنسي، مثل بيرون ووايلد، يراعى فيها بقدر الإمكان إبراز فضائحه، وتضم إليها خلاصة وافية لتمكن القارئ من التظاهر بأنه قرأ آثار ذاك الكتاب. ويمكن أن تقع على أسماء هذه الكتب، في قوائم الكتب الرائجة جداً.

وهذه الظاهرة، ولله الحمد، تعني الباحثين في علم النفس الاجتماعي اكثر مما تعنينا نحن. 5 - وهنالك نواح أخرى عديدة من كتابات ولسن، تحتاج إلى بحث، إلى جانب عمله كمترجم. إذ يبدو أنه يعتبر ناقدا تاريخيا في المقام الأول. وهو يصف عمله في " قلعة أكسل " بأنه " تاريخ أدبي ". والنقاد التاريخيون الثلاثة الذين يعتدهم ولسن " أسلافا " له، هم فيكو وهردر وتين. وهو حين يزعم أنه خلف لهؤلاء الرجال الثلاثة في النقد الاجتماعي، يتناسى ما في نظريات الاثنين الأولين على الأقل من توريطات مريبة. ولا يستطيع المرء أن يستنتج شيئا مما ذهب إليه ولسن من أن فيكو كان عدوا للعلم وللفكر الحديث ولديمقراطية الثقافة، وأنه كان شديد التعصب حتى أن دي سانتكس، الذي كان يحترم نتاجه احتراما شديدا، يتهمه بأنه في منتهى الرجعية. أو مما قاله عن هردر من أن إلحاحه على الطبيعة القومية للفكر والفن وعلى الحدس اللاعقلاني للعبقرية، و " الجماهيرية " Folkish، كان مصدرا أساسيا من مصادر تشبث النازية بفكرة الدم والعرق. واستعمال ولسن لتعبير " تاريخي " يقوده دائما إلى تجريده عن ملابساته الاجتماعية، حتى إنه مثلا، يتهم إليوت بأنه يستعمل نقدا (اشبنجلريا) (1) مقارنا، وهذا " في جوهره غير تاريخي "، دون أن ينتبه إلى أن الفترات الأدبية التي لا يأبه بها إليوت أو يسقطها من " موروثة " (Tradition) تؤلف نقدا تاريخيا سلبيا، يمتاز بوعي قوي، وإن " اللازمني " قد يعتبر " فترة زمنية " أيضاً. والطريقة التاريخية عند ولسن تشمل السيرة أيضاً، وتمتد حتى تشمل

_ (1) يعني أنه يعنى بتصوير الحضارات من جوانب انحلالها، أو رؤيتها وهي منحلة كما فعل اشبنجلر المؤرخ الألماني في دراسته للحضارة الأوروبية في كتابه " انهيار الغرب " The Decline of the West.

المعلومات النفسية والتحليل النفسي، وبهذا يصبح جونسون وسنت بيف وكولردج وفرويد على قدم المساواة في مجال النقد التاريخي. وطريقة ولسن في النقد التاريخي تعتمد دائما العوامل الاجتماعية والنفسية، مع التوكيد على العوامل الاجتماعية في نقده المبكر، ثم الانصراف تدريجيا نحو العوامل النفسية، كلما قطع شوطا في طريق التظور. على أن تحليلات ولسن التي اعتمد فيها على هذه العوامل المختلفة جميعا في الوقت نفسه تبدو أكثر توفيقا، إذ يفيد من ماركس وفرويد، وذلك يتجلى في دراسته لقصة بروست الضخمة، لا على أنه تعبير عن اعتماد بروست الشاذ على أمه، وما نجم عن ذلك من " نزعات انحراف طفولية مجدبة " فحسب، بل على أنها أيضاً تعبير عن " قصة الحضارة الرأسمالية " التي تذكر المرء بمسرحية " البيت المحطم للقلب " (1) . إن تاريخ اتجاه ولسن نحو الماركسية، سجل غريب حقا. ففي مطلع العقد الرابع من هذا القرن يبدو أنه كان يعتبر نفسه ماركسيا، كما يشهد بذلك كتابه " المشاعر الأميركية الهائجة " The American Jitters، وكتاباته السياسية وبخاصة تلك التي ظهرت حوالي تلك الفترة (1932) . ويظهر أنه بدأ في كتابه " إلى محطة فنلندة " حوالي ذلك التاريخ إطراء للماركسية وعرضا لقدرتها على تحويل النظرية التاريخية إلى تطبيق عملي. وخلال السنوات السبع التب قضاها في تحبير الكتاب، فقد إيمانه بالماركسية، وبدأ التحول في منتصف الطريق (2) ، وانتهى إلى القول بأن الماركسية

_ (1) إحدى مسرحيات شو، ويعرض فيها إفلاس حضارتنا الحديثة، كما تجلى عقب الحرب الكبرى. (2) يمكن أن نشير هنا إلى تحول مشابه حدث عند ولسن في منتصف الطريق، وذلك أثناء تحبيره لكتاب " قلعة أكسل "، فبذلك نفسر لم بدأ هذا الكتاب بالانتفاض من أدباء كان يعتبرهم غير مسؤولين من الناحية الاجتماعية، ثم انتهى بنثر الزهور في طريقهم.

إذا كانت تعني ستالين بالضرورة، وهذا ما يراه، فلا فائدة له منها. وفضلا عن ذلك حاول ولسن أن يتقبل الماركسية في حين أنه تنكر لدعامتين من دعائمها الأساسية، وهما المادية الديالكتيكية، ونظرية القيم في العمل، ويعتبرها نوعا من الهراء الصوفي، أما الديالكتيكية في نظر ولسن، فهي الاستمرار اللاشعوري للثالوث المسيحي، ومثلث فيثاغورس السحري (وربما كانت أيضاً رمزا " لأعضاء الذكر التناسلية ") ، وأما نظرية القيم في العمل فإنها ميتافيزيقية ماركس، وهو متأثر في ذلك بآراء سدني هوك وماكس ايستمان. وبما أن هاتين النظريتين هما بالتتالي الأساس الفلسفي والاقتصادي للماركسية، فمعنى هذا أن ولسن كان يحفر على جذور معتقده، وكان انهيار ذاك المعتقد نتيجة حتمية لذلك. وترتب على تنكر ولسن التدريجي للماركسية، خيبة أمل الشيوعية الروسية، بل ربما كان ذلك هو الدافع الأساسي لهذا التنكر. وكتبه سجل رائع لهذا التحول. فروسية في كتاب " قلعة أكسل " (1931) " بلد استطاعت فيه مثالية اجتماعية؟ سياسية مركزية، أن تسخر الفنان وتتعهد إلهامه "، وهي أمل الفن أولا ثم المجتمع. ثم ابتدأ شعور القلق على الفنان الروسي يساور ولسن في كتابه " المشاعر الأميركية الهائجة " (1932) ، إذ يقول: " ولعل العقيدة السياسية الصارمة التي تتطلب دائما حكايات ملفقة، لتبرز فضائلها، لا تخلو من جانب سقيم ". وفي كتابه " رجلات في بلدين من بلدان الديمقراطية " Travels in Two Democracies (1936) ، يتحدث عن زيارة جاهدة، إلى حد ما، قام بها إلى الاتحاد السوفييتي، ويكيل المدح لستالين وحكومته (فروسية ما تزال " ذروة الفضيلة في العالم ") ، ولكنه يهاجم الأميركيين الذين يدينون بالشيوعية الستالينية هجوما مرا. وفي كتابه التالي " الفنانون أو المفكرون كثيرا " (1938) ، يهاجم ستالين وسجون البوليس السياسي G P U مهاجمة صريحة، هذا إلى أنه

كان ما يزال يعتقد بأن الحكومة السوفييتية " أفضل من حكومة القيصرية ". وفي " إلى محطة فنلندة " (1940) أصبحت الحكومة السوفييتية تجمع " بين مجازر عهد الإرهاب الروبسبيري وفساد حكومة الإدارة ورجعيتها " (1) كما أن " استبداد ستالين " " استأصل الماركسية الروسية من جذورها ". ومنذ ذلك الحين انقلبت كراهيته لستالين والشيوعية والاتحاد السوفييتي إلى نوع من الهوس، وأصبحت التعريضات المرة الجامحة بكل هؤلاء تظهر في أغلب ما يختطه قلمه. وقد أقام ولسن كتاباته بصفة رئيسية على نظريتين في الفن، هذا إلى جانب الفروض العامة في النقد الاجتماعي والنفسي، وضرورة " الترجمة ". أما النظرية الأولى، وهي أكثرهما أهمية، فقد عبر عنها في استعارة فيلوكتيتس، الجرح والقوس. وفحواها أن الموهبة الفنية، تعويض عن نوع من أنواع العجز البغيض. والرأي الذي يقول بأن الفنان يعبر بطبيعة الحال، عن الأشياء التي تعينه أكثر من غيرها، أو عن آلامه، أو أن الفن وليد الألم، كل ذلك يعتبر من الأفكار المعادة المكرورة في مجال التفكير النقدي. أما التعبير الصريح المباشر عن هذه الفكرة، بالقول إن الفن ليس إلا صورة من صور المرض أو تعويضا عنه، فإن مصدره الرئيسي المعاصر هما الكاتبان مان وجيد، ويدو أن كلا منهما استمد الفكرة من شوبنهاور عن طريق نيتشه. وعندما تعرض جيد لهذه الفكرة، في كتابه عن دستويفسكي، عزاها إلى النظرية التي يقول بها لمبروزو، ومؤداها أن العبقرية نوع من أنواع العصاب. ويبدو أن هذا المفهوم يرتبط أيضاً بنظرية فرويد القائلة بأن الفنان شخصية فجة، لا يتخلى فيها مبدأ اللذة الطفولية عن مكانه لمبدأ التفكير الواقعي الذي يرتبط بسن النضج، كما

_ (1) إشارة إلى ما حدث في الثورة الفرنسية من إرهاب على يدي روبسبير ومن فساد أثناء حكم حكومة الإدارة.

يرتبط بنظرية أدلر القائلة بأن الفنان ضحية للشعور بالنقص، وما إلى ذلك من نظريات التحليل النفسي. ومما لا شك فيه أن كلا من هذه الآراء ينظري على شيء من الحقيقة، ولكنها ليست الحقيقة كاملة. فالذي عجز أنصار هذه النظرية عن تعليله؟ وعليهم أن يعللوه حتى تغدو هذه النظرية ذات فائدة ملموسة للنقد الأدبي؟ هو: لماذا لم يصبح سوى عدد ضئيل من الشخصيات المريضة والعصابية والإنطوائية والشاعرة بالنقص فنانين؟ وبمعنى آخر، لماذا يتلقى القوس والجرح في بعض الحالات فقط، ولماذا في تلك الحالات بعينها، ولماذا هذا القوس بالذات (1) . وفضلا عن الناحية التشخيصية في نظرية الجرح والقوس، فإن صياغتها الخاصة في أسطورة فليوكتيتس جديرة بالبحث (2) . وقد نوه كنث بيرك، في إحدى مقالاته التي نشرها قبل صدور كتاب " الجرح والقوس " بفائدة

_ (1) لعل من أحسن ما كتب حول هذه النظرية، ورد في مقال و. هـ؟؟. اودن " علم النفس أو الفن في ايامنا هذه "، في مجموعة جيوفري جرجسون " الفنون في أيامنا " The Arts Today (1935) . إلا أنه عجز عن الرد على هذه الأسئلة بطريقة مقنعة. وقد بحثت مشكلة الفن والعصاب، ونظرية ولسن الخاصة عن الجرح والقوس بحثا مستفيضا في جدل احتدم بين الدكتور شاؤول روزنتسفايج وليونل ترلنج، في مجلة البارتزان (عدد الخريف من سنة 1944، والشتاء من سنة 1945) ثم ردت إلى مكانها الطبيعي في مجال النقد القائم على التحليل النفسي، في مقال كتبه جورهام ديفز في عدد الصيف من سنة 1945. (2) لخص ولسن قصة فيلوكتيتس على الوجه التالي: سلم أبولو قوسا لا تخطئ لنصف الإله هرقل. وعندما أصيب بالتسمم من رداء ديانيرا أزمع أن يحرق نفسه على جبل ايتا، وكان قد أغرق فيلوكتيتس بإشعال النار فيه، لقاء توريثه سلاحه مكافأة له. وهكذا كان فيلوكتيتس مدججا بسلاح لا يفل، عندما أبحر فيما بعد من اغاممنون ومينالوس لمحاربة طروادة. وكان عليهم أن يهبطوا في طريقهم، على جزيرة خرايسه الصغيرة ويقدموا الضحايا لآلهتها. وكان فيلوكتيتس أول من اقترب من المزار فلدغته أفعى في قدمه. وكان سم الأفعى فتاكا، وقد حالت أناته بينه وبين تقديم الضحية التي تفسدها الأصوات المشؤومة. وبدأت تفوح من اجرح رائحة نتنة حتى إن أصحابه لم يستطيعوا البقاء إلى جانبه. ونقلوه إلى جزيرة لمنوس المجاورة، وهي أكبر حجما من جزيرة خرايسه، وكانت مأهولة بالسكان. ثم أقلعوا نحو طروادة دونه. ومكث فيلوكتيتس هناك عشر سنوات ولم يندمل الجرح العجيب. وفي تلك الأثناء كان الإغريق في طروادة، في حالة ضيق شديد بعد مقتل اخيل واياس، وبعد أن أذهلهم تصريح عرافهم بأنه لم يعد قادرا على غسداء النصح لهم. فلجأوا إلى اختطاف عراف الطرواديين وحملوه على أن يكشف لهم الحجب عن المستقبل، فأخبرهم بأنهم لن يكسبوا المعركة ما لم يستدعوا نيوبطليموس ابن اخيلن ويضعوا في يده سلاح أبيه، ويحضروا فيلوكتيتس وقوسه. وقد نفذوا ما أشار به عليهم. وشفي فيلوكتيتس في طروادة على يد ابن الطبيب اسكليبيوس وبارز باريس فقتله. وقد غدا فيلوكتيتس ونيوبطليموس بطلي طروادة.

استخدام أسطورتي أورفيوس وبرسيوس رمزا على طبيعة الفن. وبعد أن صدر الكتاب، كتب ديلمور شفارتز مقالا عن ولسن ذهب فيه إلى أن عددا من الأساطير القديمة ومن بينها بيجاسوس واورفيوس وأوديب، يمكن استعماله لتوضيح بعض المناحي في عملية الإبداع، شأنه في ذلك شأن أسطورة فيلوكتيتس، وربما كانت أسطورة أوديب أعظم دلالة منها في هذا المجال. ولعل شفارتز كان قد ألم بفكرة كنث بيرك التي أشرنا إليها سابقا. ولا ريب في أن جميع هذه الأساطير القديمة، بل كل قصة نموذجية، يمكن أن تطور حتى تغدو نظرية صالحة لتفسير طبيعة الفن، صلاح تلك. فكما أن الفنان يجمع بين قواه السحرية وعجزه البغيض، كذلك فإنه يهبط إلى الجحيم ليسترد من عالم النسيان، تلك التي أحبها (1) ، وهو كذلك عاجز عن مواجهة ذلك التنين الأفعواني الرأس، دون أن يتحول إلى حجر، غير أنه في مأمن إذا راقب صورة التنين معكوسة في المرآة (2) ، وهكذا. وليست هذه الأساطير وغرها متساوية في النفع فقط، فإن قصة فيلوكتيتس، كما ذكر شفارتز وغرانفل هكس (3) ،

_ (1) إشارة إلى أسطورة اورفيوس الذي هبط إلى الجحيم ليسترد حبيبته يوروديكي. (2) إشارة إلى أسطورة برسيوس الذي قتل ميدوسا التي حول أثينا شعرها إلى أفاعي. وكان يحمل درع أثينا الذي يلمع كالمرآة، وكان ينظر إليه ليرى وجه ميدوسا فيه خشية أن يتحول إلى حجر إذا حدق في وجهها. (3) وذلك في مقالة له بعنوان " عناد ادموند ولسن "، ظهرت في " مجلة إنطاكية " Antioch Review عدد الشتاء لسنة 1946 - 1947. وأنا مدين لها بعدد من الحقائق والأفكار. وأعتقد أن مقالة هكس هي خير دراسة نشرت عن ولسن. ولا يعيبها سوى المبالغة في تقدير إمكاناته، فهو يعتبر " أفضل ناقد في البلاد " و " ذكاء نقديا من الطراز الأول " وما إلى ذلك. ولقد غشى على بصيرته عمى عجيب، جعله يرى تجارة ولسن العنيدة نوعا من " الاستقامة ".

لا تصلح تماما لأداء وظيفتها، لأن فيلوكتيتس كان يحمل القوس قبل أن يصاب بالجرح، وبذا كان الجرح عرضيا، لا يمت بصلة إلى قوة القوس، ولأنها لا تكشف لنا عن فائدة القوس في نكأ الجرح. إن أي نظرية تعكس، إلى حد ما، مشكلات مبدعها وظروفه الخاصة. (حتى إن نهاية أية قذيفة؟ ولنتخذ بدلا من صورة القوس مجازا من الآلة؟ تنطلق من بندقية الفنان، تحمل معها جميع عيوب أنبوبة البندقية، وهذه العيوب بدورها إمارة على استعمال سابق) ولذا يستحسن أن تطبق دائما على مبدعها، حيث يجب أن تؤدي وظيفتها بدقة. وإنها لخدمة جليلة أن نسلط نظرية الجرح والقوس على ولسن نفسه، فنتبين طبيعة " جرحه "، ونربطها بقواه المنتجة. إلا أن مثل هذا التحليل الشخصي المفصل، يتعدى نطاق هذا البحث. ومهما يكن من أمر فقد يصح أن نسجل بعض الملاحظ اللازمة في مثل هذه الدراسة. وتنبع هذه الملاحظ جميعها دون استثناء، من كتابته الإبداعية، أو غير النقدية، التي تبدو دائما وكأنها حديث عن حياته، بل أنها تكون في بعض الأحيان حديثا مزعجا عن نفسه. ولعل ذلك راجع إلى عدم قدرته على المزج اللازم للإبداع الفني. وعندما ننخل مجلدات ولسن العشرة، التي لا تتصل بالنقد؟ وهي قصة، ومجموعة أقاصيص وثلاثة كتب وصفية، وديوان شعر، ومجموعة مسرحيات وثلاثة مجلدات يختلط فيها الشعر والنثر والمسرحية؟ تبدو لنا حقا كأنها أضواء كاشفة. وإذا تناولناها بالترتيب فقد نستخرج منها ما يومئ إلى " جرحه " دون أن نحتاج إلى تحليلها بطريقة أدبية. والكتاب الأول هو " إكليل دافن الموتى " The undertaker " s Garland (1922) ، وهو مجموعة من النثر والشعر، حول موضوع " الموت " " رقصة الموت " لجون بيل بيشوب وادموند ولسن الابن مع رسوم مقلدة لرسوم بيردسلي وضعها بوريس ارتزيباشف. وقد وضح ما أسهم

به كل من الكاتبين في الكتاب في تعليقة تمهيدية، ولعل البون بين كتابات المرحوم جون بيل بيشوب وكتابات ولسن البارعة، الأدبية المنبع، الجافة هو أهم مظهر في الكتاب. (وإذا بحثنا عن الدافع الذي قد يكون حمل ولسن على نشره شعره إلى جانب شعر شاعر طبيعي موهوب، فلا نلاحظ أن ولسن قضى ثلاثة عقود، محاولا أن ينقض النكتة اللطيفة التي شنع عليه بها زملاؤه في الصف، في جامعة برنستون، إذ انتخبوه " أسوأ شاعر ") . وكتاب ولسن الثاني، الذي ألفه منفردا، هو " الخصوم المتنافرون " Discordant Encounters (1926) وهو يحتوي على أربع محاورات ومسرحيتين. والمسرحيتان في الأكثر، من نوع " الفنتازيات الحلمية "، وليست لهما أهمية خاصة. ولكن المحاورات؟ " الخصوم المتنافرون "؟ رائعة. وفي كل منها يفصم ولسن شخصيته إلى شخصين متخاصمين، وهذه الشخصيات هي: بول روزنفيلد وماثيو جوزيفسون، وفان ويك بروكس وسكوت فتزجرالد، وأستاذ في الخمسين من عمره وصحفي في الخامسة والعشرين (قد يكون الأول أستاذه في برنستون، كرستيان غوس، والثاني هو نفسه) ووليم بيب ومارين اغوانا. ويناقش من وراء هذه الأقنعة أربعا من المشكلات الأساسية التي يجابهها، كفنان وناقد بين الثقافة الاتباعية و " المودرنزم " بين التكامل الذاتي والاتجار الفني، بين الأخلاقيات ومواضعات البيئة، بين العلم والغريزة. وقد استغل طبيعة المحاورة، فخلف كلا من هذه المشكلات دون أن يقطع فيها برأي. وقد ظهرت قصة " كنت أفكر في ديزي " سنة 1929. وهي مكتوبة بضمير المتكلم، بل غنها تبدو ترجمة ذاتية، وتتركز حول البطلين المتخاصمين اللذين تدور حولهما قصص ولسن ومسرحياته على الأكثر، وهما شخصية

الكاتب الحدث المغرور الذي ينتمي إلى أسرة كريمة، والفتاة التي تميل إلى السيطرة، وتأخذ بحظ من التحرر، وتنتمي إلى وسط اجتماعي وضيع تدل عليه كيفية نطقها للكلمات. ويحتوي أيضاً على مونولوج طويل يدور حول سوفوكليس وفيلوكتيتس وعلى العلاقة بين الفن والعجز (وهي خلاصة نظرية الجرح والقوس) . وينتهي بصورة محمومة من التخيل الجنسي الدائر حول عضو التذكير، ويستطرد في الصفحة الأخيرة إلى حديث يدور حول احمر الشفاه والفم والمسدس والأفعى. ويتميز كتابه " وداعا أيها الشعراء " (1929) الذي يضم مجموعة من لشعر وبعض النثر كتبها بعد تخرجه من الجامعة، بما فيه من قلق جنسي، بثه في شعره (كقوله: أيها الجمهور باعد ما بين فخذيك، بجأش رابط) ، وهو ما وصفه راندل جرل في حديثه عن شاعر آخر، بقوله: " حدائق حقيقية تحتوي على ضفادع حقيقية ". وفيه محاكاة مضحكة لادوين ارلنجتون روبنصون، في قصيدة تقارن مقارنة عجيبة بين هنري جيمس والرئيس ولسن، ثم قصائد ولسن التي ضمنها وادعه الرثائي للعشر. أما الكتابان التاليان فقد كانا وصفا اجتماعيا: وهما " المشاعر الأميركية الهائجة " (1932) و " رحلات في بلدين من بلدان الديمقراطية " (1936) . وهما مفيدان من حيث الكشف عن طبيعة " جرح " ولسن. إذ يكشفان بوضوح عن اهتمامه " بالأحوال الاجتماعية " مع عدم اكتراث بالناس، من حيث هم أفراد، مما قد يبلغ أحيانا حد الكره. ويستعمل ولسن فيه التعبيرات العنصرية، مثل " زنجي "، و " عاهرة زنجية " و " أغنية مسودة "، إلى جانب اللهجة اليهودية المضحكة. وهو يرمز إلى الناس دائما بصور الخنافس والفراش وقناديل البحر والضفادع. ويبدو أنه يفتقر أشد الافتقار إلى الفكاهة، وإلى الدفء الإنساني. والقسم الذي يدور حول اختباراته الشخصية في كتاب " رحلات في بلدين من بلدان

الديمقراطية "؟ هذه الاختبارات التي تتميز عن وصفه الموضوعي؟ يبدو وكأنه نوع من الهذيان، وذلك منذ اللحظة الأولى التي تحسس فيها قذارة الروس، عندما وطئت قدماه ظهر السفينة الروسية، ورأى الخادمات الروسيات وهن يدرن على المسافرين باحذية متهرئة عالية الكعوب، والسجائر تتدلى من أفواههن (1) . وعندما كان يحاول الاستحمام، سقط على أنبوب ساخن " وحرق مرفقه حرقا مؤلما ". هذا علاوة على تلك السلسلة من المضايقات التي انهالت عليه من الجماهير الروسية، ومن عدم تقيدهم بالمواعيد، ومن قذارتهم وإهمالهم، ووعودهم التي لا تتحقق، وفزعه الشديد من المرض الذي انتابه في أودسة، واهتياجه الشديد من القذارة والروائح الكريهة والبق والافتقار إلى الوسائل الصحية وحرية الانفراد وما إلى ذلك. وأشد أقوال ولسن دلالة على ترفعه البغيض وكرهه لمعاشرة الناس، وردت في تلك المقطوعة من الكتاب التي دعاها " البيت الحجري القديم "، قال: " وهكذا يبدو أنني أقيم هنا، في بيت قديم متداع قبيح الشكل. يعد أن أخفقت إخفاقا أشد من إخفاق أقاربي خلال تلك الفترة التي امتازت بنشاط الحركة التجارية في أميركة، في أن أستخلص الترف والجاه اللذين كان من الممكن أن أتمتع بهما دون ريب. وهكذا انتهى بي الأمر، إلى أن أعيش؟ بين حثالة هذا المجتمع بدلا من أن أعيش بين نخبته؟ بين الأطفال القذرين المنحرفي الصحة من أبناء جيراني اللذين ينبحون ليل نهار خارج بيتي. وفي نهاية الأمر؟ أستطيع أن أقول وقد تبدت

_ (1) من الممتع هنا أن نلاحظ هذه الصورة نفسها، وقد حولت إلى بريطانية في كتابه " أوروبة دون دليل " Europe Without Baedeker، إذ يقول: " كانت المناضد العارية في غرفة الطعام تبدو وكأنها لم تنظف أبدا، إذ كانت ملطخة ببقع من الحساء والمرق والبيض والمربى والشاي. ويقوم بتقديم الطعام والخدمة، أندال قذرون يلبسون التبابين، ويفقدون الآكل شهيته، حتى إنهم يذهبون بالبقية الباقية من طعم تلك الكمية الضئيلة من الطعام ".

لي الحقيقة ناصعة؟ إن ما كان يصدعني ويسبب وجومي هو أنني خلفت ذلك العالم المبكر ورائي، ومع ذلك لم أستطع أن أشعر بالراحة في ذلك الذي كان يدعى حتى الأمس بالعالم الجديد ". أما مسرحياته الثلاث التي نشرت تحت اسم " هذه الحجرة وزجاجة الجن والشطائر " This room and this gin and These Sandwiches (1937) فهي صور ثلاث من موضوع " الثورة الفنية والأخلاقية التي اتخذت نيويورك مركزا لها بعد الحرب ". وتدور جميعها حول شخصية البطل الأدبي المغرور، بل البليد، والفتاة الشكسة ذات اللهجة السوقية التي تنتمي إلى طبقة وضيعة. وكلها تنتهي بتحقيق الأماني. أما كتاب " مذكرات الليل " Notebook of Night (1942) فهو مجموعة من الشعر والنثر، تنقسم إلى ثلاثة أقسم: قصائد غنائية قصيرة، بعضها جدي والآخر ساخر، وتدور حول الموضوع الجديد الشاغي، وهو ستالية، إلى جانب الموضوع القديم وهو الجنس. وقصائد طويلة من بينها تلك القصيدة المعروفة التي ينتقد فيها مكليش، نقدا يقوم على المحاكاة الساخرة. ثم مجموعة من النثر، تتضمن معارضات ساخرة وذكريات عن طفولته. وبعض هذه المعراضات والاهاجي عنيف، ولكنه موفق تمام التوفيق، والبعض الآخر رديء لا يدل على ذوق سليم. (وبالمناسبة نذكر أن إحدى قصائد الحب في الكتاب وعنوانها " هيا إلى البيت في المدينة: قدحان من الوسكي " ومنها هذا البيت: " الظل الصغير الماكر بين الفخذين الضيقين "؟ موجهة، فيما يبدو، إلى " أنا " التي ذكرت في " مقاطعة هيكت "

هذا الكتاب من النجاح ما لم يلاقه كتاب " أصحابها.. " The Company She Keeps لماري مكارثي) . ويضم لكتاب ست قصص كتبت بضمير المتكلم وجميعها تدور حول الحياة في تلك المقطاعة الوهمية. وتستغرق القصة الطويلة وهي " الأميرة ذات الشعر الذهبي " نصف الكتاب، وهي التي اعتبرت أمثر القصص إساءة إلى أخلاق الجمهور. (وهي تتناول، كما قال الإدعاء في لهجة مرحة، عشرين دورا مستقلا من عمليات الجماع، تشترك فيها أربع نساء، مع الوصف الدقيق المفصل، إلى جانب " مجموعة (منوعة) من أعمال الدعارة "، و " التحليات المقرفة ") . وقد أجمع المراجعون والنقاد على أنها ترجمة ذاتية؟ فقال رالف بيتس " إنني مقتنع بأن كل كلمة فيها صادقة ". وأشار غرانفل هكس إلى " كشفها عن ممارساته الجنسية "، وأعلن قائلا: " إن الدلائل الداخلية تشير إلى أنها ترجمة ذاتية، وأن هنالك إشارات إلى " أنا " في كتابات ولسن السابقة التي ظهرت في منتصف العقد الرابع ". أما المحاولات التي قامت لتدحض مطابقتها لحياة ولسن، فكانت تافهة، ومنها قولهم إن القاص ناقد من نقاد الفن، وميدانه هو القاعدة الاجتماعية للتصوير، وأنه ذهب إلى بيل لا إلى برنستون، وقولهم: " هو طويل نحيف "، لا قصير سمين، وما إلى ذلك. وقد كتبت قصة " الأميرة ذات الشعر الذهبي " بأمانة مدمرة مؤلمة محرجة (جديرة بالإعجاب إلى حد ما) . وهي ما وهبه ولسن؟ فيما يبدو؟ بديلا عن الموهبة الأدبية. ولهذا السبب، وتمشيا مع خطتنا في هذا الكتاب، تستحق هذه القصة من المعالجة أكثر مما يستحقه غيرها من أعمال ولسن. والقصة نوع من السخرية الاجتماعية، ولعلها نوع من الرمز الذي يصور بلغة جنسية، في المقام الأول، علاقة القاص المضطربة بأنا، الفتاة العاملة، وبايموجين الجمسلة، المقعدة (ونعرف فيما بعد

أنها كذلك من أثر الهستيريا) المتزوجة التي تنتمي إلى طبقة ذاتها، في وقت معا. ويمضي القاص في عرض الجانب الآلي من العلاقات الجنسية في فترة المراهقة، بمنتهى الصراحة، متدرجا إلى سن النضج، ويبدو ذلك في قوله: " وأخيرا أقنعتها "، أنها الآن راغبة "، " ومضينا إلى ابعد من ذلك بكثير "، " ولكنني لم أتجاوز ذلك الحد "، وما إلى ذلك. وهو يرى الناس دوما على صورة الكلاب والهررة والقرود، بل حتى على صور شقائق الماء (فأنا هي " الوحش أو الطير الذي اقتنص من الحقول ") ، أو على صورة الأطعمة، والطعام متسلط على القصة (فهو يتحدث عرضا عن حفلة عشاء بقوله: " إنني أتذكر ألوان الطعا التي قدمت أكثر من تذكيري للأحاديث التي تبودلت ") . ويكشف القاص عن عنجهيته دون خشية: فيبين بصراحة أن اهتمامه بالعمال بدأ في الانهيار الاقتصادي (1929) . ويبحث بهدوء عن وجه بالمجازفة في " علاقة المرء بأناس من طبقة دون طبقته "، ويصرح عن مخاوفه من أنه قد يستشعر العار من علاقته بأنا (" لن أجرؤ على الظهور بصحبتها في مقاطعة هيكت ") .. الخ. وإن ما يكشفه لنا من دخيلته في حالة اللاوعي لأكثر أهمية. فهو شبيه ببابت (1) (فعندما يأخذ سبيله إلى النجاح يقول " لقد ابتعت قبعة سوداء ") ؛ وهو متعجرف منخوب (" كنت حريصا على تجنب المغامرات "، " مع أنني بطبيعة الحال كنت قد اتخذت الاحتياطات اللازمة ") ودون جوان صغير (" وتأثيري القوي الذي يدل على خبرة "، " وطبقت فنونا متنوعة وألونا من اللطف ") . وسوقي مسرف في عاطفيته (" لساني في فمها الصغير الناعم ") وبذيء مسرف في بذاءته (" الأعضاء السفلى العشوشبة الندية "، " والفرن البشري ذو الحرارة والعصير ")

_ (1) بطل قصة لسنكلير لويس بهذا الاسم (1922) . أصبح فيما بعد رمزا لرجل الأعمال الذي يتمسك بالتقاليد الاجتماعية والخلقية لطبقته.

أو حتى ما يدعى " بالخسيس " (فهو يرفض مباضعة ايموجين وهي مرتدية مشدها " لقد كنت أخشى أن يكون متعسرا، أو ليس من الرجولة في شيء ") . ويكشف القاص، إلى جاني كل هذا عن نوع غريب من الشبق، نحو المرأة التي ترتدي ملابسها (" فالشهوة في مناسبات سريعة كهذه، تزداد برؤية الملابس والجوربين والحذاء "، " بانتعاش مفاجئ للرغبة الجنسية، عندما ارتدت ملابسها وهمت بالانصراف ") حتى ليكون ذلك شبيها بسادية داعر هم ممن يتحدث عنهم كرافت ابن (1) ولكن الشيء الأكثر دلالة في القصة، ليس هو الوصف الجنسي الصريح أبدا، وإنما التورية اللاشعورية. فقد تحقق من أن " أنا " ليست مشاعا في الصفحة نفسها التي يذكر فيها حبه المتزايد للشيوعية. وتؤيد الأقاصيص الأخرى وكذلك الكتاب كله بوجه عام، بعض هذه النظرات، كما تؤكد وتوضح بعض الإشارات المبكرة في كتابات ولسن. فهو في قصته " الرجل الذي اصطاد السلاحف الكدامة " The Man Who Shot Snapping Turtles يسخر من عالم التجارة وفيها أيضاً استعارات حيوانية للشخصيات الإنسانية. ويحاول في " إلين تيرهون " Ellen Terhune أن يخرج قصة أشباح على طريقة هنري جيمس، ليوضح بها نظرية الجرح والقوس. وفي " لمحات من ولبر فليك " Glimpses of Wilbur Flick تختلط السخرية من غني تافه يتلاعب بالأسباب والعلل مع رمز غريب للفن على أنه " كخاتم لبيك "، وفيها أيضاً يصف الكائنات البشرية بأوصاف حيوانية. أما قصة " الملهولانديون وروحهم اللعينة " The Milhillands and Their Damend Soul، فهي سخرية لاذعة من دور النشر الضخمة، وهي مليئة بمعارضات ولسن القاتلة وسخرياته المرة، دون أن تتسم بشيء من الفكاهة الحقيقية.

_ (1) البارون ريشارت فون كرافت ابن (1840 - 1902) عالم بالأمراض العصبية وطبيب نفساني.

أما قصة " السيد بلاكبرن وزوجه في البيت " Mr. And Mes. Blackburn at Home فهي أضغاث أحلام ذات صلة بدراسة الجن والعفاريت، وتختلط فيها الصور السياسية، بالصور الجنسية، وفيها أيضاً سخريته المرة التي لا تلطفها روح الفكاهة (باستثناء ذلك السطر الذي يعتبر نسيج وحده في كتابات ولسن، وهو قوله: " لم أقل شيئا، لأن القبلة قالت كل شيء ") . أما كتاب ولسن الأخير، " أوروبة دون دليل " (1947) ، فهو مجموعة مقالات وصفية عن أوروبة بعد الحرب، ظهر نحو من نصفها في مجلة " النيويوركر " New Yorker وإذا نحينا جانبا كراهيته الشديدة لكل ما هو بريطاني، هذه الكراهية التي تعادل كراهيته لروسية، نجد أن الظاهرة الهامة في الكتاب هي اعتماده الصريح على أسلوب " المبسط ". أي على أن ولسن يستطيع أن يثير الاهتمام بأي شيء وذلك بالكشف عنه (كما فعل في المقالات المبكرة التي نشرها في شهرية الأطلسي Atlantic عن الأدب الروسي، والتي استرعت اهتمام العالم حين كشفت عن أن اللغة الروسية تحتوي على جميع أنواع الألفاظ والأصوات الممتعة) . والكتاب يقدم شواهد جديدة على موضوعات مألوفة، دون أن يأتي بطريف. وفيه ما في غيره من عدم الاكتراث بالكائنات البشرية، فجميع الناس الذين قابلهم في بلاد اليونان، أقرب إلى النماذج والأفكار السياسية المجردة، منهم إلى الأفراد الإنسانيين. وكان في ميلان يتجنب الجماهير، أما في لندن، فإنه لا يلاحظ الأفراد، بل يلاحظ " العلامات الدهنية التي تتركها رؤوسهم في حجرات الفنادق ". ويشتد به جنون العظمة، فلا يعكس صورة بعض المظاهر المنفرة التي علق بها سنتيانا (1) ، ولا يدافع عنها

_ (1) لعل المؤلف يشير هنا إلى ما كتبه عن الإنجليز في كتابه " مناجيات في إنجلترة " Soliloquies in England، الذي وصف حيه حياته وأحاسيسه في أعوام الحرب العظمى الأولى حين كان يعيش في إنجلترة.

فحسب، ولكنه في أحد المواضع يرى أن المفكرين الإنجليز أثاروا غضبه بمدحهم لكتاباته القديمة فقط، ويقرن نفسه إلى شيكسبير. وهناك أيضاً يتجلى شغله الشاغل بالأمور الجنسية. فهو يلاحظ الفتيات " المشرقات الوجوه " و " الفاتنات " بمظاهرهن " المغرية " " المثيرة " حيثما ذهب، (حتى التماثيل في كريت لها أثداء شهية) ويعلق على جاذبية عدم التناسب والتنافر في الشكل، ويبدي اهتماما بالغا بالمومسات، ويصف لقاءاته لهن في إسهاب، ويكتب أبحاثا مقارنه عن أحوال معيشتهن، ويتحدث عن دولة من الدعارة ترأسها " فتاة بهية الطلعة حقا، حيتني بالفرنسية " في لندن، وفتاة غريبة من أصل بولوني؟ ألماني " رائعة الجمال " في نابلي. وكذلك تشغله شؤون الطعام، فهو يقارن بنهم بين وجبات الطعام والخدمة في مختلف أنحاء أوروبة التي دمرتها الحرب. ولا يرى في دلهي أكثر من " كبائب لحم ضأن في سفود "، والتجربة التي يذكرها جيدا في كريت، لم تكن أكثر من " مأدبة هومرية ". ولعل أهم ما في الكتاب، وصفه للخدعة التي كان يقوم بها ليسلي الطفال، وهي تحويله منديل جيبه إلى فأر وثاب. " وقد كنت أحقق بها أعظم النجاح ". وقد جربها مع الأطفال في أثينة " ولكنها لم تكن ناجحة تماما، فالولد على ما يبدو كان أكثر اهتماما بالاستماع إلى المناقشات السياسية ". ونستطيع أن نجمع عددا آخر من الملاحظ المتنوعة التي تساعدنا على دراسة " جرح ولسن ". منها بعض التجارب التي مر بها في برنستون ومدرسة هل، التي ما يزال يكتب عنها في ذكريات لا يجف لها معين. (لاحظ مالكوم كولي في مقالته التي كتبها عن كتاب " إلى محطة فنلندة " إن ولسن يصف لينين بأنه يتمتع بالوقار الأكيد الذي يتمتع به " ناظر مدرسة محترم ") . ولا يزال زملاؤه القدامى في الجامعة يطلون برؤوسهم في كل كتاباته. ويلازمه أيضاً اهتمام شديد بالسحر المسرحي وبالشعوذة

(التي يبدو أنها تمثل دائما، كما يقول ولسن، بعض الرمزية القسرية، كطقوس الموت والدفن عند هوديني) ، وكثير مما يشبه ذلك. وتمدنا مقالة غرانفل هكس ببعض المعلومات القيمة: كقصة المرة الوحيدة التي التقى فيها هكس بولسن، عندما كانت جميع آرائه في كافة الأصدقاء " مرة مهجنة دون استثناء ". وكان يبدو على مائدة العشاء رزينا متغطرسا، على نحو لا تستدعيه آداب المائدة. ثم " عجزه الأساسي عن التعاون مع أية مجموعة من البشر، وخاصة تلك الصيغة التي طبعها ولسن على بطاقات ليستعملها في المناسبات، وأنا أنقلها هنا عن دراسة هكس المشار إليها: ادموند ولسن يأسف لأنه لا يستطيع: أن يقرأ مخطوطات الكتب أو يسهم في تأليف الكتب أو الكتابة للمجلات أو يشرف على التحرير أو يقف حكما في المسابقات الأدبية ولا يمكنه أن يقوم بالأعمال التالية دون أجر: أن يعطي درسا أو يلقي محاضرات أو يخطب في المحافل أو يقف خطيبا عقب حفلات العشاء أو يتحدث في الإذاعة ولا يمكنه على أي حال من الأحوال: أن يهدي نسخا من كتبه للمكتبات العامة أو يوقع على الكتب للغرباء أو يقدم معلومات شخصية عن نفسه أو يهدي صورا له

أو يسمح باستعمال اسمه في أعلى الرسائل لو يستقبل أناسا مغمورين لا شغل لهم معه. ويبدو أن جميع هذه المادة تتركز في سلسلة من المتناقضات الأساسية والورطات، وما دمنا لا نستطيع أن نصلقها بشخصية ولسن دون مزيد من الاعترافات الذاتية؟ فلا بد لنا من القول فيما يبدو هي الصفة المميزة لأبطال قصصه، وخاصة ذلك البطل الذي يستعمل ضمير المتكلم. فهذا البطل القصصي، إنسان بارد الإحساس، ينفر من أي اتصال بالناس، ولكنه يهتاج بدافع جنسي متوثب، وهو يفتقر إلى ملكة الإبداع ولكنه مضطر إلى إنتاج أعمال أدبية، وهو رهن الروح التجارية في الأدب، ولا يعجبه إلا الإخلاص والاستقامة. وهو ديمقراطي واشتراكي مع أنه مغال في عصبيته العنصرية، وغطرسته واحتقاره للناس. وليس له حظ من روح الفكاهة، ويلجأ إلى المعارضة الساخرة والهجاء. يحس بالتعقيد ويغالي في تبسيط كل شيء، سواء كان في الأدب أو في العلاقات البشرية، بعبارات تنضح بالحيرة والتردد. يمقت جميع القيود، ومع ذلك لا يستطيع أن يقطع " حبل السرة " الذي يربطه بالمدرسة. يهوى التملق ومع ذلك ينفر من المعجبين. له عقل شاك، وخلق محافظ يتوق إلى أن يكون " فلوبير "، فإذا به يصبح " إما بوفاري " (1) فإذا كان شيء من هذا ينطبق على ولسن نفسه، وإذا كانت نظرية " الجرح والقوس " تربط بين غور الجرح وقوة القوس، حق لنا أن نعجب لماذا لم يكن ولسن أعظم فنان في عصرنا هذا.

_ (1) أنا أعلم أن فلوبير قال: " إن مدام بوفاري هي أنا " ولكنه كان يعني بذلك شيئا آخر. (وأما بوفاري هي بطل قصة فلوبير العظيمة " مدام بوفاري "، وهي مثال الغباء والضعة والسوقية في نظر النقاد) .

ومن إسهامات ولسن النظرية في حقل النقد، وإن كانت إسهاما ثانويا، نظرية هزة التعرف التي بنى عليها مجموعته المنتخبة سنة 1943، وعرفها بحكمة مقتبسة من ملفل، هي: " إن العبقريات في جميع أرجاء العالم، تقف متشابكة الأيدي متضافرة، وهزة واحدة من التعرف نسري في الدنيا بأسرها ". وعلى الرغم من السخافة التي ينطوي عليها هذا القول بمعناه الحرفي فإن ولسن آمن به حتى أنه جمع 1290 صفحة من الأحكام الأدبية التي أطلقت على الأدباء الأميركيين. وهذه الأحكام لم يكتبها النقاد، وإنما أدباء أخر. ومن الواضح أن عددا من الأدباء العظام، اعترفوا بعبقرية معاصريهم وأسلافهم " بهزة تعرف " مشجعة دافئة "، ومنهم بعض هؤلاء الذين ضمنهم ولسن مجموعته. وتاريخ الأدب مليء بالشواهد التي تثبت ذلك. وباستطاعة أي إنسان أن يعد قائمة طويلة بأسمائهم، مثال ذلك: بلزاك ورأيه في بيل، وبيل ورأيه في سكوت وبيرون، وسيموندز ورأيه في وتمان، وتولستوي فيما قاله عن تشيخوف، وتشيخوف عن غوركي (إن حدب هذين الكاتبين الروسيين العظيمين على الناشئين، واستجابتهما السريعة لهم، جديرة بالذكر) ، ورأي بوالو (دون غيره) في موليير، ورأي كيتبس في شيكسبير، ورأي آرنولد في كيتس (مع شيء من التحفظ) ورأي راسين في لافونتين، ورأي دريدن في ملتن، وما إلى ذلك. على أنه من المتيسر أن نعد قائمة أخرى لهزات عدم التعرف تبلغ في طولها عشرة أضعاف تلك. فبيرون كان يمقت شعر كيتس، وامرسون كان يحتقر يو، وقد تهجم رونسار على ربليه، وكان وتمان يثير شعور الكراهية في نفس لوول ولونجفلو وهلمز ولانيير ووتيير (ألقى وتيير ديوان " أوراق العشب " في النار) ، كما كان سوينبرن يكرهه وآخرون سواهم. وكان لامرتين يحتقر لافونتين ولم يكن سوفوكليس يرى شيئا ذا قيمة في آثار

اسخيلوس ويوربيدس، ولم يكن وردزورث يستطيع أن يقرأ شعر كيتس، وكان كورني يفضل بورسو على راسين، وكان امرسون يحب هورثون ولكنه يأسف على افتقاره إلى الموهبة، وكان وتمان يكره ملفل. وفي محيط مستشاري دور النشر، رفض جيد قصة بروست المعروفة، ورفض مردث قصة " طريق الجميع " The Way of All Flesh لبتلر، وكان رأي ملتن في شيكسبير غير حميد، وكذلك كان رأي جونسون في ملتن. وكان وردزورث يكاد لا يفهم صديقه كولردج، وكان جورج مور يكره هاردي وكان سنت بيف يغض من شأن بيل وبودلير وبلزاك وفلوبير، وهكذا إلى ما لانهاية. إن أسوأ ما في نظرية " هزة التعرف "، هو أن الأدباء الذين أساء إليهم معاصروهم، كوتمان، لا يميلون إلى أن يكونوا خيرا من ذلك في حكمهم على غيرهم من الأدباء. وإن عددا من الكتاب، ومنهم وردزورث وهردي وجيمس وملفل نفسه (على الرغم من استشهاد ولسن بقولته تلك) آلمهم عدم التعرف إلى مواهبهم حتى إن بعضهم لزم الصمت فترة من الزمن، أو ظل كذلك طوال حياته المنتجة، أو طلق فنا أدبيا كان هو الفن الذي خلق له. ومن الممتع أن نلاحظ، حين نطبق هذه النظرية على ولسن نفسه أنه عجز عن تذوق عدد كبير من مشاهير الأدباء في عصره (ومنهم بعض من ذكرنا آنفا) ، كما عجز عن تذوق عمله الأدبي نفسه (1) . ومن الواضح أن مثل هذه النظرية لا تمت إلى حقيقة

_ (1) علي هنا أن أشير إلى أن كتب ولسن النقدية ما تزال تتمتع بشهرة مبالغ فيها وغير طبيعية. فقد أثنى عليه واعترف به في هذه البلاد (أميركة) كتاب أعظم منه بكثير: ومنهم ف. و. ماثيسون، ر. ب. بلاكمور. أما في بريطانية فإنه يعتبر الناقد الأميركي الأول. ويبدو أن " قلعة اكسل " يعتبر المثل الأعلى للنقد النفسي والاجتماعي. وقد مدحه واعترف بنتاجه جيل كامل من الشعراء من سبندر وماكنيس وداي لويس إلى فرنسيس سكارف وفيليب توينبي. وكذلك بعض النقاد من أمثال ف. ر. ليفز (بل أن اليوت نوه به) . ومن الواضح أن هذا يرجع إلى أن جميع كتبه النقدية قد طبعت في إنجلترة، مما جعله الناقد الأميركي الوحيد الذي حاز هذا الشرف. ولكن هذه الظاهرة نفسها تحتاج تفسيرا. ومهما تكن الأسباب فإننا نأمل أن يتغير هذا الوضع الذي جعل من ولسن الناقد الأميركي الحي الوحيد الذي يعرف الكتاب الأنجليز آثاره، بينما لا يعرفون آثار كنث بيرك وبلاكمور في الأكثر.

الأمر بصلة. وإنها مجدية، في المقام الأول، في مجال التأسي الذاتي والدفاع عن النفس. وكأنما جانباها كطرتي الدينار وفي أحدهما الفوز لي وفي الثاني الخسارة لغيري. فإذا كان الكاتب الذي يؤمن بها مخفقا في أدبه، شعر بأن هناك نفرا من ذوي المواهب يقدرونه. وإذا كان موفقا شعر بأن يد العبقرية مهدت له سبيل السمو إلى مرتبة الخلود. أما وضع ولسن الحاضرة، وقد نيف على الخمسين (ولد سنة 1895) (1) فإنه يثير الحيرة. فعمله في مجلة النيويوركر New Yorker كمعلق دائم على الكتب، يجافي الصورة التقليدية للناقد الجدي الذي يبذل أقصى من عنده من المقدرة، في التعليق على الكتب مرة أو مرتين في الأسبوع. بما في ذلك من اضطرار إلى إضاعة الوقت في سقط المتاع، ومعاناة الكتابة الضحلة، في نطاق محدود، ثم الاقتراب من الكتب الكبيرة والموضوعات الشائكة بتخصص تضيق دائرته يوما بعد يوم. ومجمل القول أن زاويته في تلك المجلة، خيبت أمل هؤلاء القراء الذين كانوا يتوقعون أن يجدوا فيها نقدا جديا (تلك المجلة التي تخصصت في النقد الخفيف) ، فألفوا ولسن سطحيا. ولم يوفق ولسن إلى اجتذاب تلك الفئة من القراء التي تبحث عن زاوية خفيفة سهلة القراءة؟ كتلك التي يحررها كفلتون فدمان؟ من زاويته في التعليق على بعض الكتب الخفيفة ككتاب " الرداء " the Robe للويد دوغلاس، و " الفيروزة " The Turquiose لآنيا سيتون، في حين أنه تجاهل عددا من الكتب الجيدة، التي ظهرت في ذلك الحين:

_ (1) نشر هذا الكتاب لأول مرة سنة 1948. وقد نيف ولسن الآن على الستين، وأصدر كتبا أخرى في مواضيع جديدة.

وقد كانت آراؤه النقدية في غالبيتها تقليدية، مع بعض الانحراف أحيانا، كثنائه الشاذ على ايزابيل بولتون، وانتقاصه من قدر كافكا. وقد تبدى من خلال هذا القتام، بعض القطع الجيدة، أو قطع تحتوي على بعض الأشياء الجيدة، كذلك الهجوم القوي المفحم (وإن كان خاليا من الفكاهة على القصة البوليسية، ودراسته للعلاقة بين فن وايلد ومرض الزهري، ومراجعاته الجيدة المسهبة لبعض كتب مالرو وسيلون (يمتاز ولسن بمقدرة فائقة على التغلغل إلى عقول الراديكاليين الذين انقشعت الأوهام عن عيونهم، وعلى التعمق في كتبهم، وذلك واضح فيما كتبه عن كويستلر وغيره) . ودراستع للعمل الرمزي الذي ينطوي عليه السحر المسرحي والشعوذة. وتحليله الاجتماعي الرائع لكتاب " آداب السلوك " Etiquette لاميلي بوست الذي استعان فيه باصطلاحات فن المسرح. ويبدو أن ولسن يقف في نقطة تحول في حياته. ففي مقالته التي ذكرناها آنفا والتي نشرت في " حولية مكتبة جامعة برنستون " اعترف ولسن؟ الذي كان في التاسعة والأربعين من عمره؟ بأنه بلغ منتصف العمر " والشعور يتملكني بأنني لم أبدأ في الكتابة بعد ". ولم يخف عن الناس أن النقد حرره من الوهم، وأنه لا يرى في مراجعاته في " النيويوركر "، وسلسلة مقالاته عن الأدب الروسي التي نشرها في " شهرية الأطلسي " سنة 1943 أكثر من أعمال صحفية. وإن كتابه عن آثار الحرب، وقصة " مقاطعة هيكت " يمثلان عودته الطويلة إلى الكتابة الإبداعية، من حيث أنها مهنة له. وأكبر من هذا الاحتقار لسمعته كناقد، احتقاره الجديد لفن النقد نفسه، وقبوله المذهل للتنازل عن وظيفة النقد. ولا مندوحة من قراءة عبارته الواردة في مجلة " النيويوركر " في مقالة عن كاترين آن بورتر، قال: " إنني بهذا أشوه أقاصيص الآنسة بورتر، إذ أحاول العثور قواعد تنطبق عليهان بينما كان علي أن أنصحكم بقراءتها فقط ".

وقد يكون ولسن هنا ضحية لأسلوبه المهني الذي لازمه أخيرا. وقد وصف نفسه في تلك المقالة التي نشرها في " حولية مكتبة جامعة برنستوب " بأنه " صحفي " ووصف طريقة الصحفي في العمل، وصفا جديرا بالاقتباس، قال: " لقد كانت خطتي عادة؟ ولا بأس هنا من أن أهوي من عل؟ أن أجمع بعض الكتب لأراجعها، أو بعض القطع الإخبارية لتوضح بعض الموضوعات التي كانت تثير اهتمامي آنذاك. وبعد ذلك أجمع المقالات المبعثرة لأستعين بها في كتابة دراسات عامة عن هذه الموضوعات، وأخيرا أصدر كتابا يحتوي على عدد من هذه المقالات، بعد مراجعتها وتنسيقها ". ويحمل هذا القول معه رنين الصواب، وهو دون ريب، يفسر أمرا يجعل القارئ الجدي لكتب ولسن يحس بشيء من العسر، ذلك أنه في الحقيقة لم يكتب كتابا نقديا (أو أي كتاب متكامل، باستثناء " كنت أفكر في ديزي "، و " إلى محطة فنلندة ") ، بل ألف بين مجموعات من مقالاته ودراساته في المجلات، وأضفى عليها شيئا من الوحدة بعنوان مبدأ ينتظمها. وإذا بدت هذه الطريقة جذابة من حيث مصلحة الكاتب فإنها قد قيدت خطى ولسن، ودفعت بنقده إلى سبل تجارية لا تتطلب أكثر من كتابة مقالات قصيرة ليست ذات عمق هائل وتركته في العقد السادس من عمره وكأنه لم يحقق من النجاح أكثر مما حققه كاتب أصدر كتابا واحدا، يمتاز بالوحدة والشمول. ولعل الشعور بالحاجة المفاجئة إلى ترك أثر تذكره الأجيال التالية، هو أحد الأسباب التي قشعت غشاوة الوهم عن عيني ولسن فيما يتعلق بالنقد، وفي الوقت الحاضر. وهنالك ناحية أخرى من كتابة ولسن الإبداعية، تستحق البحث، وفي معرض الحديث عن كتابته النقدية؟ ألا وهي موهبته الحقيقية في كتابته المعارضات الساخرة. وهذه الناحية هي الصفحة الأخرى من عنايته بالترجمة

والتفسير في النقد، وقد تكون تعويضا عنها. كما لو كان الاهتمام الزائد بالمادة وحدها يتطلب منه أن يجد مكانا للاهتمام بالأسلوب وحده. وقد وفق ولسن إلى كتابة معرضات ناجحة منذ نظم قصيدته التي عارض بها اسلوب ادوين آرلنجتون روبنصون (1923) ، حتى بلغ ذروته في قصيدة " عجة أ. مكليس " The Omelet of A. Macleish (1938) ، ثم بعض القطع الجيدة في " مقاطعة هيكت ". وأقصى جهد طامح بذله، هو معارضة اسلوب جويس في كتابه " يقظة فينيغان "، وهو عمل جدير بالتقدير على الرغم من أنه لم يوفق فيه تمام التوفيق سواء في صورته القديمة، أو في صورته المنقحة التي صدرت باسم " المقعدون الثلاثة ". فإنها تفتقر إلى دقة جويس (فالأسماء الثلاثة: كارل فإن دورن، وهربرت غورمان، وغورهام ب. منسون، لا تمت إلى الأصل بصلة، ويبدو أنه اختارها للمشابهة الصوتية فقط) ، كما تفتقر إلى براعة جويس في تحريف الكلام ليصبح حمال أوجه المعاني. إن لهذه المعارضات الساخرة، أهمية عظيمة، وذلك عندما ننظر إليها على ضوء عبارة ولسن التي وردت في " الفنانون أو المفكرون كثيرا "، إذ قال: " إن الرغبة في هجاء الرومانتيكية، كما هو الأمر عند فلوبير، تعني ميلا قويا نحوها ". وإذا عممنا هذه العبارة، قلنا: إن الرغبة في هجاء أي شيء، تعني الميل القوي نحوه. وبما أن الموضوعات الثلاثة التي تشغل بال ولسن، وتستدعي معارضته وسخريته، هي غرور هوليوود وروحها التجارية، والعبودية الفكرية المزرية في " الستالينية "، والاسلوب الشعري، فإن كل من يتقبل نظرية ولسن، يستطيع أن ينتهي إلى نتائج طريفة. (إن الميل القوي نحو الشعر عند ولسن، فضلا عن رثائه له، ملحظ يمكن أن تنجلي حيرة النقاد الذين عجزوا عن أن يعللوا لم خصص ولسن

هذه المساحة الكبيرة من كتابه " هزة التعرف " لبعض الأعمال التافهة؟ مثل " خرافة من أجل النقاد " A Fable for Critics لجيمس رسل لوول، و " ملاهي نادي الصدى " Diversions of the Echi Club. لبيارد تيلور، و " خرافة نقدية " لايثي لوول (246 صفحة أو نحو ربع الكتاب) ؟ إذا علموا أن الهجاء أو الكاتب الساخر قد يستشعر شيئا من الولاء لزملائه من مزاولي فن الهجاء والسخرية. وأخيرا، لا يكون البحث عن ولسن وافيا إذا لم يتعرض لحالته النفسية الحزينة في الوقت الحاضر. لقد غدت لهجة ولسن رثائية حين يتحدث عن الشعر، منذ أن كتب " قلعة اكسل ". وكذلك عندما يتحدث عن الماركسية، على الأقل منذ كتب تلك المقالة القصيرة الحزينة التي دعاها " الماركسية والأدب "، والتي نشرها في كتاب " الفنانون أو المفكرون كثيرا ". وقد اتخذت كتاباته كلها هذه اللهجة منذ عهد قريب. وقد أخذ يكتب ذكريات طفولته وشبابه (وفيها بعض مشاهد " مقاطعة هيكت ") ، بلهجة مفعمة بالحنين إلى أمجاد بائدة. ومقالته التي كتبها في ذكرى ت. ك. وبل، وهو أحد زملائه في برنستون، وقد مات سنة 1939، مليئة بمثل هذه العبارة: " لقد رأينا عددا من الأصدقاء الموهوبين يعجزون عن تحقيق بعض ما كنا نعقده عليهم من آمال ". أما مقالته التي نشرها في " حولية مكتبة جامعة برنستون "، فأكثرها رثاء لأصدقائه في برنستون الذين ماتوا أو أخفقوا في حياتهم (1) ، ولزملائه من الأدباء الذين ماتوا

_ (1) مات سكوت فتزجرالد وجيمس جويس في شهرين متتاليين، الأول في ديسمبر 1940 والثاني في يناير 1941، وكان ولسن في ذلك الحين المحرر الأدبي لمجلة " الجمهورية الجديدة " New Republic. ومن الطريف أن نلاحظ أن فتزجرالد الذي كان زميلا لولسن في برنستون، والذي دعاه في رسائله " ضميري الفكري " حظي بعد وفاته بسلسلة من المقالات الرثائية، نشرت في أكثر من عددين من المجلة. بينما لم يحظ جويس بأكثر من افتتاحية لا تزيد على ثلاث فقرات. (جعل ولسن رسائله إلى فتزجرالد جزءا من كتاب The Creak - up) .

أو أخفقوا، وللكتابة نفسها التي رأى أنها قد بلغت مرحلة جديدة من العقم. ومراجعاته في " النيويوركر " تطوي الحاضر دائما وتحن إلى الماضي، وخاصة العقد الثالث من هذا القرن، حين ازدهرت مجلتا " فترة الانتقال " و " هذا الركن " This Quarter، وحين كان سكوت فتزجرالد وجون بشوب ما يزالان على قيد الحياة، وعندما كانت حركاتنا الأدبية " لم تستنفذ نفسها بعد "، وحين كان ادموند ولسن كاتبا ناشئا حديث التخرج من الجامعة، ينتظره مستقبل زاهر. والحقيقة أن ولسن ابن نفسه بطريقة مؤثرة حتى أصبح من المجازفة أن يعمد إنسان آخر إلى تأنيبه من جديد. وهو يشعر أنه جزء من شيء ضاع على الأدب ولعله كذلك. وحتى الأطفال يبدو أنهم قد ملوا رؤية منديل الجيب وهو يتحول إلى فأر.

الفصل الثاني

الفصل الثاني ايفور ونترز والتقويم في النقد لم يندرس تقويم الآثار الفنية في عصرنا، ويرجع الفضل في بقاء هذه الظاهرة إلى الأعمال الجبارة التي حققها ايفوز ونترز الشاعر وأستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة ليلاند ستانفورد Leland Stanford ومؤلف أربعة مجلدات بارزة في النقد الأدبي وهي: البدائية والانحطاط Primitivism and Decadence (1937) . لعنة مول Maul " s Curs (1938) . تشريح الهراء The Anatomy of Nonsense (1943) . ادوين أرلنجتون روبنصون Edwin Arligton Robinson (1946) (1) وهو رجل جاد، مفيد؟ من بعض النواحي؟ أيضاً، ومن المؤسف أن يصبح بين جيل من الكتاب أصغر منه سنا، شخصية هزلية، فلا يعرف إلا بأنه الرجل الذي يعتقد أن اليزابيث داريوش هي أكبر شعرائنا الأحياء وأن إدث وارتون أديبة خير من هنري جيمس (2) . حقا لقد صدر

_ (1) نشرت الكتب الثلاثة الأولى معدلة بعض التعديل في مجلد واحد سنة 1947، ومعها مقالة بعنوان دفاع عن العقل In Defence of Reason وهي عن قصيدة " الجسر " The Bridge لهارت كربن H. Cran. (2) إن نظرة المؤلف إلى ونترز - كما يصور هذا الفصل - لا تختلف كثيرا عن نظرة الجيل الذي يرى ونترز ضحكة يسخر منه، فقد صور شطحاته الكثيرة وشطط آرائه النقدية من مثل تقديمه اليزابيث داريوش واديث وارتون، وغير ذلك وأظهر أن جانب الفائدة في تطبيقاته النقدية قليل.

هذان القولان بل ما هو أكثر تطرفا منهما عن ونترز ولكنه الممثل الأوحد القوي لفن نقدي آخذ بالزوال؟ وهو طريقة جونسون في النقد؟ ومن ثم فهو يستحق دراسة دقيقة. فهو ناقد متحمس لطريقة التقويم في النقد ويراها سر وجود التحيلي النقدي وغايته الرفيعة. ولقد عد الخطوات التي تنتهي إلى تقويم في إسهاب، ومنها جميعا يتألف النقد الأدبي، في رأيه. يقول: يتألف النقد: (1) من مقررات المعرفة المستمدة من التاريخ والسير مما قد يكون ضروريا ضروريا لكي يساعد على فهم عقل الأديب وطريقته. (2) من تحليل نظرياته الأدبية لأننا بحاجة إلى أن نفهم ونزن ما يعمله. (3) من نقد عقلي لمحتوى القصيدة القابل لأن يصاغ نثرا محلولا أو بعبارة أخرى، الدافع الموجود في القصيدة. (4) من نقد عقلي للمشاعر التي يكمن الدافع وراءها أي تفصيلات الأسلوب كما تبدو في اللغة والتراكيب. (5) من الحكم النهائي وهو حكم فريد يمكن الكشف عن طبيعته العامة ولكن لا يمكن نقلها بدقة لأنها تشمل تلقينا من الشاعر حكمه القاطع الفريد على مادته ثم حكمه على ذلك الحكم. ويجب أن نتنبه إلى ان غاية الخطوات الأربع الأولى هي تحديد المجال الذي سيتحقق فيه الحاكم القاطع الفريد، وتضييقه قدر المستطاع (1) .

_ (1) لا بد من أن نذكر أن ونترز نفسه قلما يؤدي هذه الخطوات مكتفيا في أكثر الأحوال بإعلان الحكم - أو التقويم - عارضا حيثياته سطحيا دون تقديم شهادة تسندها، وفي اصطلاحات لا معنى لها من ناحية سمانتية ولذلك لا تتيح المناقشة، ولكن هذا العجز في تطبيق القاعدة يجب ألا ينتقص من سداد هذه البنود التي أقرها.

ولنضع أي عبارة " أي عمل فني " في موضع قوله " قصيدة "؛ فمن ثم نلحظ أنه بقدر ما يكون الفن نفسه تقويما للتجربة؟ عند ونترز؟ يكون النقد حكما مزدوجا معقدا تعقيدا شديدا، فهو ثانوي في تقويم التقويم الذي أجراه الشاعر على تجربته 0أي موضوع القصيدة) وهو أساسي في تقويم تجربة الناقد (أي القصيدة نفسها) . ويضع ونترز لهذه المهمة الدقيقة الصبعة مبادئ مقنعة حين ينص على أن الاقد يجب أن يبدي " تواضعا وحذرا معقولين " في التقويم؛ وحتى عندئذ " فمن العدالة أن نضيف بأن قلة من الناس هي التي تملك الموهبة والثقافة اللتين تتيحان لنا أخذ الأحكام مطمئنين، ولا يستثنى من ذلك الدارسون المحترفون في هذه الأمور ". ومهما يكن من أمر " فإن لكل ناقد أدبي الحق في كثير من الأخطاء في الحكم ". وسواء أكان ونترز يبدي؟ في الواقع؟ أو لا يبدي " توضعا وحذرا معقولين "، وسواء عليه أستنفذ حصته من الأخطاء؟ كما يتهم هو نفسه بو - أم لم يستنفدها، فهذه مسائل أخرى. إن تقديرات ونترز المتعسفة باعثة على الدهشة في حال عدد من الأدباء يعجبونه إلى درجة العبادة. وأحد هؤلاء الكاتبة اديث وارتون فقد كتب يقول: إن السيدة وارتون في خير حالاتها لهي؟ تقريبا؟ المثل الأكمل للتأثير في مجال القصة، وهي مرتبة لا تبلغها جين أوستن وملفل وهوثورن وهنري جيمس وفيلدنج إلا بعد التغاضي عما لديهم من " محدودية الآفاق وقصور المعالجة ". ويعتقد إذ يعقد مقارنته المشهورة بينها وبين هنري جيمس أنها تستطيع أن تمنح أحكامها الخلقية دقة يعجز عنها جيمس نفسه وأن أسلوبها النثري في قصتيها " عصر البراءة " و " وادي الحكم "؟ على الأقل؟ أرفع من نثر جيمس على التحقيق؛ ولا ريب في أن قصتها " عصر البراءة " بما أوتيته من رفعة في النثر وبأنها " تصحح نقصا " في

مفهوم جيمس عن القصة، لتعد " أجمل زهرة فريدة في فن مدرسة جيمس ". وهذا لا يعني الحط من قدر قصتها الأخرى " وادي الحكم " فإنه قد يقال فيها " إنها خير من أي قصة لجيمس؟ منفردة؟ ". ولعل أعلى ثناء في قاموس ونترز إنما ادخره لشعر روبرت بردجز، فشعره؟ في رأي ونترز؟ أرفع من شعر اليوت وهارت كرين وولين كارلوس وليمز وماريان مور ومن أي شعر آخر معاصر، بل لا يمكن أن يقارن به عزرا بوند، وهو أرفع وأكثر أصالة من شعر جرارد مانلي هوبكنز من كل وجه. فضلا عن أن بردجز " أكثر تمدنا " و " أعقل " من سائر معاصريه، فهو لا يقارن بهم وإنما يقارن بمن يساوونه؛ فقد كتب عددا من القصائد يطيق أشد امتحان للمقارنة بأي مقطوعة من مقطوعات شيكسبير، وهو " أكمل وآصل من كتب شعرا غير مقفى منذ عهد ملتن "، وقد كتب مقطوعتين في مناسبتين " لو نسبتا إلى ملتن لما عابتاه "؛ وكتب قصيدة غنائية ليست تنقص مثقال ذرة عن قصيدة دريدن التي كتبها في قصيدة الصغير آن كلجرو Ode on the Death of Mistress Anne Killigrew. ويقول ونترز: " يبدو لي؟ دون أدنى ريب؟ أن مسرحيتي بردجز عن نيرون هما أعظم مأساة كتبت منذ صدرت مسرحية آل شنشي (1) The Cench وإذا استثنينا آلام شمشمون (2) Samson Agonistes وهي قطعة مريعة ثائرة؟ وليست مسرحية وإن كانت تحمل روح المأساة؟ فمن المحتمل أن تكون هاتان المسرحيتان أرفع من أية مأساة إنجليزية فيما عدا مآسي شيكسبير. ثم صنف ونترز شعر بردجز خدمة للكسالى من القراء على النحو التالي: غنائيات قصيرة من الدرجة الأولى (10 قصائد) .

_ (1) آل شنشي: مسرحية تراجيدية من تأليف شللي، تتعلق بالمفجعات المتصلة بهذه العائلة الرومانية وبخاصة بياتريس شنشي ووالدها. (2) قصيدة طويلة لملتن، تصور آلام شمشون بعد أن أصيب بالعمى.

غنائيات قصيرة من الدرجة الثانية (12 قصيدة) . غنائيات طويلة ذات إيقاع بطيء، من الدرجة الأولى (3 قصائد) . غنائيات طويلة من الدرجة الثانية (قصيدة واحدة) . يضاف إلى هذه القائمة أفوغرامان (1) (Epigrams) جميلان وقصيدتان تعليميتان ذواتا طول لا باس به " والأولى منهما في الدرجة الأولى تقريبا " ثم المقطوعتان اللتان تقدمت الإشارة إليهما مع القصيدة الغنائية. ويعتقد ونترز " أن أقرب منافس لهذا الشاعر منذ عهد شللي، هو ت. ستيرج مور T. s. Moore "؛ فقد كتب مور شعرا " لم يلحق شأوه فيه إلا اثنان أو ثلاثة من الأحياء، وقدرا من الشعر لم ينظم مثله شاعر حي " فهو أعظم بكثير من وليم بتلر يتس W. B. Yeats دون أن تكون له موهبة ييتس في سكب المواجد الذاتية؛ وقد راجع وصحح قصيدتين من أشد قصائد هوبكنز اضطرابا (2) ؛ وهو إلى ذلك كله " فكر متألق جدا " فقد كتب؟ على الأقل؟ قصيدة يعد كل بيت فيها على حدة طرفة يتيمة، وهو أقدر من أي أديب آخر معاصر على أن يعرفنا بما يواجهنا من صعوبات أدبية. وثالث ثلاثة يعجبون ونترز هي السيدة اليزابيث داريوش " أرق شاعرة إنجليزية منذ ت. ستيرج مور " وبما أنها ابنة روبرت بردجز فموقفها

_ (1) الافوغرام: قطعة قصيرة منظومة، يضمنها ناظمها فكرة وكثيرا ما تكون ساخرة وقد تكون غزلا أو تخليدا للبيت، وقد كان شعراء الرومان يكثرون من نظم الافوغرام. وأصل الكلمة يدل على أن الافوغرام هو " النقش المنظوم " الذي يكتب على شواهد القبور. (2) يشير ونترز إلى مقال بعنوان " الأسلوب والجمال في الأدب " نشر بمجلة Criterion يوليه (تموز) 1930، وفيه تناول مور فاتحة قصيدة هوبكنز " الصدى الرصاصي والصدى الذهبي " فأعاد كتابتها واحتفظ بسلاسة التعبير وأسقط الحشو؛ (وقد أورد المؤلف في الحاشية نص الفاتحة قبل التغيير وبعده، ولكن شعر هوبكنز يستعصي على الترجمة، لاعتماده على إيقاع خاص وترديد وإسهاب وحشو) .

قد يحمل على الظن بأن صفة " العظمة " التي أسبغها عليها ونترز يمكن انتقالها بالوراثة (ومما يستحق التسجيل هنا أني لم أسمع بها حتى لقيت اسمها في أول كتاب لونترز ولم أر اسمها يذكر في أي مكان آخر إلا حين يشار إلى آراء ونترز في النقد) . وقد كتب ونترز يقول " إنها واحدة من الشعراء القلائل الأحياء الذين يوصفون بالعظمة " وعندما قال في وصف إحدى قصائدها " إن التعبيرات لا يمكن أن تكون على حال أجمل مما هي في هذه القصيدة "، ألحق بذلك مقطوعة لها بعنوان " صورة جمادات " (1) Still - Life ليقوي رأيه. ولكن مهما بلغ الرأي من تسامح نحو هذه المقطوعة فإنه لن يصفها إلا بأنها مقطوعة من النثر المقفى لطيفة بليدة فقيرة الخيال (2) . وفي سنة 1946 أضاف ونترز؟ دون سابق إنذار قوي؟ معبودا رابعا إلى " الثالوث " السابق حين كتب عن اودين آرلنجتون روبنصون بطلب من القائمين على سلسلة " صانعو الاتجاهات الجديدة في الأدب الحديث ". وقد قال عن روبنصون إنه " شاعر عظيم رزين " قد لنا في " اليهودي المتجول " The Wandeing Jew قصيدة من أعظم القصائد لا في عصرنا وحده بل في لغتنا أيضاً. " وربما كانت من أعظم ما يقع عليه نظر الإنسان "، وعشر قصائد قصيرة أخرى لا يدانيها " إلا شعر أربعة أو خمسة من الشعراء الإنجليز والأميركيين في المائة والخمسين سنة الماضية " وقصيدة بعنوان " لانسلوت " Lancelot وهي واحدة من القصائد القليلة القصصية المؤثرة المكتوبة باللغة الإنجليزية في خلال

_ (1) هذا الاصطلاح Still - Life يعني بعض الأشياء الصغيرة التي قد تدخل في نطاق التصوير لا يتمتع بصفة الحياة مثل الزهريات والكتب، أو صورة تضم هذه الأشياء أو بعضها. (2) من أسوأ مظاهر التثلب العنيف في آراء ونترز أنه يولد تصلبا معاكسا مشابها في العنف وربما لم تبلغ السيدة داريوش حد الرداءة الذي بلغته لو أننا لم نتعرف إليها من خلال ما كتبه ونترز.

مائتي عام " وبعض قصائد متوسطة الطول اثنتان منها " تقفان في صف واحد مع أعظم القصائد الإنجليزية التي من نوعهما "، واثنتان " عظيمتان " فحسب، واثنتان أخريان " ناجحتان " وعدد غير هذه " يستحق التذكر ". وعلى العموم فإن روبنصون " في مناسبات معينة شاعر من أبرز الشعراء في لغتنا "؛ وأحسن شعره يقف في صف مع أعظم ما أنتجه وردزورث وتنيسون وبراونج وهاردي وبردجز. وبين هؤلاء جميعا " يبدو أن روبنصون يجد صحابه الأدنين، في بعض اللحظات، مثلما يجد منافسيه الأقربين حيث يقف ملتن ودريدن، وهو في وقفته هذه، لا يقف أبدا في الدرجة الدنيا ". وإذا لم ينفع هذا التأكيد المغالي في بعث صيت جديد لشاعر مغمور أو متخلف فإن ونترز على استعداد ليدعي أن صيته كان مؤثلا ذائعا من قبل، كما قال عن ادليد كرابسي " إنها ليست فحسب شاعرة خالدة " بل " كانت من أشهر الشعراء في عصرنا " (1) . وأعلى درجة من الإطراء بلغها ونترز مسجلة في الملحق الخامس من كتابه " تشريح الهراء " حيث دون أسماء سبعة عشر شاعرا أميركيا ممن نالوا احترامه من أبناء جيله والجيل التالي له، وعد لهم أروع ثماني وأربعين قصيدة (طتب أمام اثنتين منها " ربما ") . وقد حذف من القائمة اسمه واسم زوجته جانيت لويس (وصرح في إحدى الحواشي أنه يحاول عامدا أن يتجنب الحديث عما كتبته وإن كان يعتقد أنها من أحسن شعراء جيلها كما أنها من أحسن القصصيين) . ومع ذلك فإن نصف الأسماء التي كتبها إنما هي أسماء أصدقائه ومريديه وتلامذته، وقد أسقط من بينها أسماء جميع الشعراء الذين اتفق على تقدمهم في عصرنا؟ تقريبا؟ ويبدو اختياره للقصائد رديئا أو مبينا على الهوى: وهذه الجريدة في مجموعها تعد من

_ (1) هذا مثل من أبرز الأمثلة على إغراق ونترز وركوبه رأسه في الحكم فإن كرابسي (1878 - 1914) ليس لها من الشعر إلا ديوان صغير نظمته في أواخر عمرها وطبع بعد وفاتها.

أغرب الوثائق في الكتابات النقدية المعاصرة (1) . ويستعمل ونترز مثل هذا التعسف في الحكم على الشعراء الذين يمقتهم وفي رأس القائمة منهم اليوت وييتس وعزرا بوند. أما اليوت فهو مؤلف " محض شعر مستمد من غيره " وهو يعمل كل ما يعمله بوند " بمهارة أقل " وهو " أدنى مرتبة من وليم كارلوس وليمز وآخرين ". ويختم ونترز حكمه على قصيدته " الخاوون " The Hollow Men بهذه العبارة المتسامحة: " وقلما تجد في الأدب الحديث محاولة مشجية كهذه، تستمر بالقصيدة بيتا إثر بيت في عناد لا يلين ". وأما بوند فإنه " همجي حل عقاله في متحف "، وأما ييتس فشاعر " يجيش بعاطفية محزنة ملودرامية ". ويقول عنه في موضع آخر، دون أن يحاول لزوم رأي واحد فيه: إنه شاعر ذو مشاعر قد بردت حتى إنها لتبعث الخدر؛ وهؤلاء الثلاثة؟ بطبيعة الحال؟ أدنى كثيرا في مرتبتهم من بردجز وستيرج مور وغيرهما من الذين يؤثرهم ونترز. وعلى هذا الهوى والتعسف، لم تسلم آراء ونترز من التقلب. وفي كتابه " تشريح الهراء " الذي نشر عام 1943 يصف الشاعر ولاس ستيفنز بأنه صورة للموهبة الشعرية العظيمة حين تكون منحلة منحطة وأنه لم يكتب شيئا من الدرجة الأولى منذ أن نشر ديوانه " الأرغن الصغير " Harmonium سنة 1942. أما في كتابه " البدائية والانحطاط " الذي نشر عام 1937 أي بعد أن ظل ستيفنز أربعة عشر عاما في الدرك الأسفل؟ كما يقول ونترز فإنه قال فيه " لعله أعظم شعراء جيله ". وفي سنة 1939 كتب

_ (1) إن هذا النوع من الإطراء الذي يمكن أن نسميه " صفق لي أصفق لك " يحدث أثره طردا وعكسا فالناشر الان سوالو A. Swallow يصف ونترز بأنه " أعظم ناقد في نهضة النقد الحديثة " ويسميه لنكولن فتزل L. Fitzell أحد أثرائه السبعة عشر " الشاعر والناقد الرهيف الذي يحب " الغرب " وبعض أهله وإن لم يكن من أبنائه " (أما كلمة " الغرب " فتعني الغرب الأميركي) .

ونترز مراجعة يقول فيها: " سيشهد عام 2000 كلا من ستيفنز ووليمز وقد تأثلت مكانتهما وعدا أحسن شاعرين " في جيلهما. ومن الممتع أن نقارن بين آراء ونترز الأدبية التي نشرها في مجلة " القافلة الأميركية الجديدة " New American Caravan عام 1929 في مقال عنوانه " امتداد الروح الإنسانية وتكاملها في الشعر وبخاصة في الشعر الفرنسي والأميركي منذ بو وبودلير "، وبين آرائه المتأخرة التي نشرها خلال هذه الفترة (بعد 1929) : في سنة 1929 كان ألان تيت " يفتقر إلى مهارة " أرشيبولد مكليش وكانت قصص اليزابيث مادوكس روبرتس أعلى من قصص هنري جيمس وكان فصل من كتاب: " في الخلق الأميركي " In the American Grain للدكتور وليمز أعلى من أي نثر في عصرنا وأرفع من أكثر الشعر. أما الثالوث الذي كان يعجب ونترز بين الأميركيين الأحياء فيضم وليمز وكرين وتيت (على افتقاره إلى المهارة) وأما لورنس فهو الشاعر العظيم الوحيد بإنجلترة منذ عهد هاردي. وفي سنة 1943 أصبح تيت " بلا شك " من أكفأ ذوي المواهب في عصرنا، وأخذ مكليش " يذوي مع الأيام "، أما وليمز وكرين فوقعا ضحية " لدعوة وتمان الخاطئة " التي تنادي بالتعبير القومي ووحدة الوجود وما أشبه، ثم سقط ذكر لورنس وحل محله بردجز ومور والسيدة داريوش. وأما قصص الآنسة روبرتس فلا ذكر لها أيضاً لأن ونترز قتلها منذ سنة 1933 بتهمة " الصنعة ". ويميل ونترز إلى إيراد حيثياته بأقصى تفصيل، منتزعا قصيدة واحدة أو بضعة أبيات منها من أجل الحكم والتقويم. فقد يتهم ولاس ستيفر " بالإنحطاط اللذي " مثلا ولكن قصيدته " صباح الأحد " Sunday Morning " ربما كانت أعظم قصيدة أميركية في القرن العشرين، وهي على التحقيق من أعظم القصائد التأملية في الإنجليزية ". وقصيدتا تيت

" الخيال والظل " Shadow and Shade و " الصليب " The Cross " من أعظم القصائد الغنائية في عصرنا ". وقصيدة هريك Herrick " تجمعي يا براعم الورود " " متفوقة بوضوح " على قصيدة مارفل " إلى خليلته الخفرة ". والأبيات التسعة من قصيدة Gerontion لأليوت وأولها " أنا الذي كنت قريبا إلى قلبك أقصيت عنه " هي الوحيدة في شعر اليوت التي يمكن أن توصف بأنها شعر عظيم. وليس لروبنصون جفرز R. Jeffers أبيات سائرة يحسن اقتباسها خلا ثلاثة، وهي أبيات يعلوها الصدأ. وهناك قصيدة لبردجز يصفها بأنها استجمعت كل قوتها في الفقرة المتوسطة (كذا) وأخرى لوليمز فيها ثمانية أبيات جيدة تحمل عبء القصيدة جميعا، ولروبنصن قصيدة فيها ست دورات Stanzas أضعف من سبعة أخرى، وقصيدة أخرى تحولت إلى " مأساة كاملة " ببيتين جميلين فيها. وللنقد التقويمي المقارن عند ونترز ما له عند اليوت من طاقة على اختراق حواجز الزمان وقطع المسافات الشاسعة بين النماذج المتباينة بحثا عن التشابه في سبيل المقارنة. ومن الأمثلة النموذجية على ذلك قول ونترز " إن تفضيلي لبوب وبليك أمر لا يتزعزع " (1) . وقفة ونترز هي وقفة العقل الذي يومض لامحا الشعر الإنجليزي كله مفتشا عن مقارنة وهو قادر تمام القدرة على أن يفسر بيرون في عبارة واحدة بمقارنته ببعض خصائص بن جونسون وكامبيون وغوج وتربرفيل ولورنس وبو، كما هو قادر في عبارة أخرى على أن يوضح الفرق بين هارت كرين ووليم كارلوس وليمز مستعملا مصطلح البلاغة البتراركية بنت القرن السادس عشر والشعر المتافيزيقي ابن القرن السابع عشر ومقطعات شيكسبير ودن وشعر فلك غرفيل وفوكس وغوج وغاسقوينه وتربرفيل ودانيل ودريتون.

_ (1) إنما عده مثلا نموذجيا لهذا الجمع الغريب بين شاعرين متباعدين في الطريقة وهما بوب وبليك.

وفي حمأة هذه المقارنات والفتاوى والتقديرات والمقامات المصطنعة يتشبث ونترز بمبدأ لا يحيد عنه هو " المبدأ الخلقي "؛ كتب يقول: " إن الفن أخلاقي ولا بد من أن يكون النقد مثله ضوروة " أما ماذا يعني بقوله " أخلاقي " على وجه الدقة فأمر بعيد التعقيد والتناقض، وسنعرض له بالشرح المسهب من بعد، ولكن يكفي أن نورد هنا قطعة حسنة الدلالة، وردت في كتابه " تشريح الهراء " لتوضح؟ على الأقل؟ بعض المعنى لكيفية ما يعده هو تقويما أخلاقيا في الفن؛ يقول: " أرى أن العملية الفنية عملية تقويم أخلاقي للتجربة الإنسانية بواسطة تقنية تجعل من الممكن إجراء تقويم أدق من سواه. فالشاعر يجرب أن يفهم تجربته بمصطلحات عقلية ليعبر عن فهمه ويعبر؟ في الوقت نفسه؟ بطريق المشاعر التي نسبغها على الألفاظ، عن نوع الشعور ومقداره، أعني الشعور الذي يجب أن يثيره ذلك الفهم إثارة صحيحة. وتختلف النتيجة الفنية عن أي تجربة فجة فيما تتمتع به من إرهاف في الحكم: وهذا الفرق كبير المقدار في الفن الجيد، ولكنه فرق في المقدار لا في النوع ". ومن هذا الرأي عن الطبيعة الأخلاقية للفن والنقد يفهم ضمنا أن الناقد مفروض عليه أن " يصحح " الرأي التقليدي ما دام يعتقد أنه خطأ. ولا ريب في أن هذا العبء الخلقي المضني هو المسئول عن تطرف كثير من تقويمات ونترز، فإن محاولته في كتابه " لعنة مول " أن يضع جونز فري في مرتبة أعلى من إمرسون في كل شيء (1) ؟ وهي

_ (1) الرأي التقليدي أن امرسون على جونز فري فحاول ونترز أن " يصحح " هذا الرأي، يتقديم الثاني على الأول وربما أعجبه أن فري (1813 - 1880) كان ينحو في شعره وتآليفه منحى دينيا صوفيا. وفري هذا ساعده امرسون على الظهور ثم اتهم في قواه العقلية وأدخل المارستان المخصص للمجانين.

دولة باءت بالإخفاق عندما طبع اثنتين وعشرين قصيدة وألحقها بالكتاب؟ ليست إلا جزءاً صغيراً من تلك الخطة الواسعة التي حددها ونترز في مقدمة كتابه بتواضع لم يعهد منه، فقد كتب يقول: " إن منتهى أملي أن أقيم قاعدة نقدية أعيد على أساسها النظر في تاريخ الأدب الأميركي جملة، وهو مشروع يتطلب سنوات كثيرة من الجهد ". وفي موضع آخر أشار ونترز إلى أن تشرشل وغاسقوينه وجونسون " أساتذة عظماء أغفلهم التاريخ ". وظل عدة سنوات يقود حملة ليؤكد لكل من غاسقوينه وبرنابه غوج وتربرفيل مكانتهم " الصحيحة " في الأدب، وكل هذا قد يشير إلى أنه بعد انتهائه من الأدب الأميركي كان يرنو إلى إعادة النظر أيضاً في الأدب الإنجليزي أو في أدب العالم. وعلى قدر هذا المشروع الضخم الذي بدأت تظهر معالمه والذي يرمي إلى تصحيح الرأي السائد، فصلت كل كتابات ونترز في النقد. فقد بين أن " البدائية والانحطاط " دراسة للقيم الأخلاقية في الأشكال الأدبي، وأنه يتحدث فيه عن الأدباء ليوضح الأشكال فحسب. أما " لعنة مول " فإنه صلة للكتاب السابق، إذ أنه دراسة للقيمة الخلقة عند الأدباء أنفسهم؛ وأما " تشريح الهراء " فهو أنه دراسة للقيمة الخلقية عند الأدباء أنفسهم؛ وأما " تشريح الهراء " فهو دراسة لأربع نزعات يعتقد ونترز " أنها أبعد النزعات أثراً في الإنتاج الأدبي في عصرنا، وأصحابها أبعد العقول أثراً كذلك " (لا حاجة إلى القول بأن هذا الحكم يكسب كلاً من جون كرو رانسوم وولاس ستيفنز؟ على الأقل؟ إن لم نقل اليوت وهنري آدمز، شهرة مهزوزة) . وثمة مراجعة صدرت بمجلة جبال روكي Rocky Mountain Review (عدد الخريف 1944) كتبها ألان سوالو وهو أحد المعجبين بونترز وزاد فيها إلى هذه القائمة ما يعتبره عملاً رابعاً ضخماً، وهو مقالة طويلة لونترز بعنوان " الغنائية الإنجليزية في القرن السادس عشر " نشرت بمجلة " شعر " العدد الخاص بفبراير ومارس 1939، ويقول سوالو: إنه يقدم هذه المقالة

لأنها أحسن ما كتبه ونترز في جانب البناء لا الهدم، " فهي دراسة لتاريخ ما يعده أحكم موروث تليد في الطريقة والفكر ". ومنذ ذلك الحين زاد ونترز مقالة تشبهها في البناء؟ فيما يبدو؟ وهي دراسة للشاعر روبنصون. وما من شك في أن ونترز دءوب صبور بعيد النظر، يدل على ذلك؟ حسبما يقول؟ أنه صرف سبعة عشر عاماً يعمل في المقالات الخمس الطويلة التي يتكون منها كتابه " البدائية والانحطاط "، مثابراً على مراجعتها، مضيفاً إليها أكثر ما يكتبه في المجلات، متحدثاً عنها إلى كل من يلقاه، وأحياناً مغيراً نظرته نحو الشعر الحديث، ماضياً في طريقه دون كلل. وعلى ظهر الورقة التي خط على وجهها عنوان كتابه " لعنة مول "، كتب أنه بسبيل إصدار مجلدين في النقد الأدبي؟ هما في دور الأعداد؟ الأول: دراسات عن المؤرخين والنقاد الأميركيين، والثاني: مجمل مختصر لتاريخ بلاغة القصيدة القصيرة في الإنجليزية. ولعل " تشريح الهراء " نغبة من الكتاب الأول، أما ماذا تم بالباقي منه وبالكتاب الثاني كله؟ في السنوات التي تلت عام 1937؟ فشيء لا يعرفه إلا ونترز نفسه. ومما يلفت الانتباه أن " تشريح الهراء " نفسه نشر بعد خمس سنوات على يد الناشر الأول نفسه دون أن يحمل إعلاناً عن كتب تحت الطبع. فإذا كان ونترز قد تخلى عن مشروعيه هذين، فما ذلك إلا لأن أجزاء من " سلاحه الأدبي " بحاجة ماسة إلى شحذ وتثقيف في هذه الآونة. 2 - ولعل كتاب " لعنة مول " أحسن كتب ونترز للدراسة التفصيلية عن تطبيق الطريقة التقويمية، لأنه الكتاب الوحيد الذي يعنى؟ من بين كتبه؟ بالأدباء، بينا الأول منها يعنى بالأشكال والثالث بالأفكار والرابع بشاعر واحد. ولعلها أيضاً أشد كتبه حيوية وأكثرها قيمة وإن لم يكن أوفرها لماحية. أما كلمة " لعنة " التي أضيفت إلى عنوانه فهي مستمدة من

نبوءة وردت في قصة لهوثورن عنوانها " البيت ذو القباب السبع " The House of the Seven Gabels؛ وتروى القصة أن الكولونيل بنشيون Pyncheon ظلم أحد الناس فتنبأ له المظلوم (1) بأن " الله سيعطيه دماً بشربه ". ويعتقد ونترز أن الأدباء العظماء في القرن الماضي ابتداءً من كوبر حتى جيمس كانوا يقاسون هذه اللعنة المجازية وبعبارة أدق: بما أنهم جذوا ما بينهم وبين الموروث الأدبي الصحيح من أسباب فإنهم استقبلوا أثر الرومانتيكية الأوروبية بشغف، وبذلك كانوا يشربون دماً ... هو دمهم. وقيام وحدة الكتاب على هذه الفكرة شيء مصطنع إلى حد ما لأن كل كاتب فهو؟ من ناحية؟ يشرب من دمه حتى أشد المتعلقين بالكلاسيكية؛ ومن ناحية أخرى، فإن كتابنا العظماء في القرن التاسع عشر وهم الذين أنتجوا أدباً عظيماً أصيلاً يمتد من " الحرف القرمزي " The Scarlet Latter وينتظم موبي ديك Moby؟ Dick وينتهي إلى " السفراء " (2) The Ambassador لا يمكن أن يكونوا ملعونين أبداً إلا إن كان ونترز يريد منهم أن يقدموا أعظم مما قدموه أو يثبت أن ذلك كان في مقدورهم. (وأقول استطراداً إن هذه هي العثرة التي تحطمت عندها آراء فإن ويك بروكس الأولى، كما تحطم عندها كثير من النقد المتصل بالاجتماع لدى نقاد آخرين، أعني أنه لابد لك؟ قبل أن تظهر أن جيمس أو توين

_ (1) المظلوم هو مول - الساحر - نفسه إذ سلبه بنشيون الجد ثروته. (2) تستحق هذه القصة توضيحاً موجزاً. أما الحرف القرمزي " فإنها قصة رومانسية من تأليف هوثورن وتتلخص في أن أستاذاً إنجليزياً كبير السن يرسل زوجه الشابة مستر لكي تنشئ لهما ليتاً في بوسطن، وحين يلحق بها بعد سنتين يجدها وفي حضنها طفلها غير الشرعي واسمه بيرل. وترفض أن تخبره عن صاحبها فيحكم عليها بتعليق شارة الزنا (حرف " ز " بلون قرمزي) ثم يخفي الزج هويته ويتسمى باسم مستعار متنكراً في زي طبيب بحثاً عن عشيق زوجه. أما هي فتأخذ في العطف على البؤساء حتى تنال عطف جيرانها واحترامهم بالتدريج، ويكتشف الزوج المتنكر أن والد الطفل قسيس شاب جميل عليه سيما الصلاح وهو مثقل بخطيئته يصرخ في السر طالباً الغفران، وكبرياؤه تمنعه من البوح بإثمه. ثم يلتاث الزوج لما لاقاه من عناء في البحث، فتطلب المرأة إلى صاحبها أن يفر معها إلى أوروبة فيرفض ويعترف على الملأ بما فعله ثم يموت بين يديها وقد حطمه شعوره بالخطيئة، أما هي فتعيش لابنها ولعمل الخير. وقصة " موبي ديك " لملفل، قصة رمزية ميدانها البحر، وموبي ديك فيها هو اسم الحوت وقبطانها آهاب شغوف يصيد الحيتان وهو يرمز للإرادة التي تقاوم القدر وتتحدى العواصف والبروق، وفي النهاية يظهر موبي ديك، ويغرق السفينة. وأما " السفراء " فإنها من تأليف هنري جيمس وهي تصور ناشراً أميركياً ذكياً أرسلته خطيبته الأرملة ليحضر ابنها تشاد من باريس وحين يصل إلى هذه المدينة يعرف أن تشاد يفضل البقاء في العالم القديم لأن له خليلة هنالك، ثم يتخلى الناشر عن مهمته ويتعلق بإحدى المغتربات فترسل الأرملة " سفراء " لإقناع ابنها بالعودة ولكنهم يخفقون في مهمتهم ولا يستطيعون أن يفهموا لم تغيرت طباع تشاد، أما الناشر فإن ضميره يستيقظ وينهي علاقته بصاحبته الجديدة ويعود إلى وطنه.

أو هوثورن أو ملفل كانوا جميعاً ضحايا لبيئة معادية لهم؟ لابد لك من أن تثبت أنهم كانوا قادرين على إنتاج خيرٍ مما أنتجوا أن تتطلب كتاباً خيراً من موبي ديك أو هكلبري فن (1) Huckleberry Finn. حقاً إنهم لو عاشوا في بيئة اجتماعية متعاطفة معهم لأنشأوا أدباً مختلفاً عما أنتجوه وربما كانت الكتب التي يكتبها جيمس بخاصة موجهة إلى جمهور أكبر ولكن هذا كله من شأن النقد البيئي وحده.) اعتبر كتاب ونترز؟ إذن؟ سلسلة من المقالات النقدية فحسب، عن أدباء أميركيين عاشوا في القرن التاسع عشر، أو اعتبر كما وصفه هو بعنوان إضافي " سبع دراسات في تاريخ المعاداة للنورانية بأميركية " وهذه المقالات السبع تتحدث عن هوثورن وكوبر وملفل وبو وامرسون وجونز فري واملي ديكنسون وهنري جيمس. وطريقة ونترز في كل فصل؟ على وجه التقريب؟ أن يتحدث عن عقلية الأديب ويحلل أمثلة من نتاجه قارناً كل ذلك بتقويم تفصيلي واقتباسات غزيرة وأخيراً ملخصاً قيم كتبه وأفكاره.

_ (1) قصة من تأليف مارك توين تجري الأحداث فيها على لسان هك Huck ويحكي فيها حكاية مغامراته، كيف حاول الوصي أن ينتزع ثروته وكيف غامر باجتياز النهر ورافق أحد العبيد وبعض الأفاقين وعمل بهلواناً ... الخ.

أما هوثورن فهو في الأصل صورة للإخفاق، رجل أخرج للناس قصة " الحرف القرمزي " وهي من أعلى الصور في النثر الإنجليزي، ثم انغمس في رومانتيكية جوفاء. وأما كوبر فهو رجل كان ينطوي على مثال اجتماعي عظيم ثم نخره صدأ العاطفة الرومانتيكية، وليس له أمل في البقاء إلا عن طريق قطع تنتزع من إنتاجه الكلي. ويتميز ملفل؟ بين هؤلاء؟ بأنه " أعظم رجل في عصره وقومه " واجه ثمار لعنة مول متقمصاً شخصية آهاب (1) فتفهمها وتغلب عليها. أما بو فإنه رجل ممتاز بثباته في النقد وفي الخلق الفني ولكنه ذو تفاهة متفردة فيهما معاً. ويقف إمرسون متخلفاً كثيراً عن جونز فري (الذي كان ذا ذكاء خلقي) وهو مصدر كثير من الاضطراب في أدبنا (2) . وأما إملي ديكنسون فإنها " عبقرية شعريه من الطراز الأول " و " واحدة من أعظم الشعراء الغنائيين في عصرنا ". ومع ذلك فإنها مغلوبة بقلة الذوق والجفاء. وأما هنري جيمس فرمز إخفاق مريع، وكانت غاياته ومقدرته العارضة رحيبة واسعة فخلقت منه ظاهرة تستثير اهتماماً لا يبلغ شأوه. وتبدو هذه الأحكام؟ لي على الأقل؟ (وقد قدمت ملخصة دون جور مع العلم بأن الأحكام الحاسمة في مقالات ونترز المسهبة الغامضة لا يمكن استخلاصها في جملة) صحيحة دقيقة جميلة في حالي ملفل وبو، جائزة في حق أمرسون وجيمس، متسامحة في حق كوبر، موضع أخذٍ ورد في حال هوثورن والآنسة ديكنسون. وفي " لعنة مول " أشياء جيدة تعد نقداً قيماً، مثال ذلك تلك " العملية الجراحية " التي أجريت لبو، فإنها تأخرت كثيراً عن موعدها وكان

_ (1) هو اسم البطل في قصة " موبي ديك ": راجع التعليق في هامش الصفحة السابقة. (2) عندما أصدر ونترز كتاب " أدوين آرلنجتون روبنصون " (1946) أصبح امرسون هو العدو الأكبر وأضحى كل ما هو رديء عند روبنصون يعزى إلى تأثير امرسون.

من حقها أن نكتب الانهزام المريع على الناقدين الذين يتخذون من بو معبوداً لهم، وبينهم أدموند ولسن وفان ويك بروكس. لقد أظهر ونترز فيها جهل بو الناقد ودعواه العلم وكشف عن العاطفية المبتذلة في فكره، وسجل الصدمة المعقولة التي يلقاها من يطالع الطبيعة الآلية الفاسدة لآرائه في الشعر والتي تحيل الشعر إلى " التفاهة والبهلوانية " وتشمل جماليات الذين يعادون النورانية؛ وفضخ تفاهة نظرياته في الأوزان وجساوة أذنه وعد مواطن شططه الغريب في تقويم الأدباء، وأخيراً هدم أركان قصائده وأقاصيصه بالنص على صغار أسلوبه بخاصة. وهذه العملية في مجموعها " جزارة " لازمة، وليس يقلل منها وزناً أنها وليدة أسباب ظالمة، وأن كل صفحة عند ونترز لتوحي بأنه يعترض على بو لأن بو يقاوم كل فن ونقد يخضع للتقويم الأخلاقي (بل إذا عرف القارئ أن بين ونترز وبو شبهاً قريباً من حيث أن كلاً منهما يقدر تقديرات جامحة مغربة، وأن نظرياتهما في الأوزان متشابهة في التفاهة، وإذا تذكر هذا القارئ المثل القائل: " رمتني بدائها وانسلت " فليس هذا كله مما يفسد عملاً نقدياً ركيناً) . وإذا استراح ونترز قليلاً من مسؤوليات التقويم الأخلاقي وجدنا فيه دارساً مدهشاً رحيب الخيال سديد الأحكام. وفي كتابه دراسات نقدية عديدة ذات أثر أخاذ، وبخاصة ذلك التحليل المسهب للرمزية الباطنية في منظر من مناظر " الحرف القرمزي " حيث تقف خستر وابنها بيرل منتظرين في بمنى الحاكم بلنجهام Bellingham ويريان نفسيهما في المرآة مشوهين. وكثيراً ما يورد تحليلات في الأوزان قوية، ومن الأمثلة الجيدة على ذلك تحليلة في كتاب " لعنة مول " ثلاث قصائد لاملي ديكنسون، هذا على الرغم من أن نظرياته في الأوزان موطن شك، وبخاصة نظريته في القاعدة الوزنية للشعر الحر (وسنعرض لها فيما بعد) ، وكتابه أيضاً مفيد

لما فيه من تحليل حاد لمظاهر متنوعة من التاريخ الحضاري الأميركي وأحسن مثال لذلك حديثه عن " التناقض الظاهري البيورتاني " وهو: الإيمان بالجبرية في الفكرة، والعمل على أساس حرية الإرادة. ويبدو أن ونترز مدين بالتفصيلات في هذه الفكرة لهنري بمفورد باركس ويعترف ونترز بأنه مدين لباركس ديناً كبيراً في كثير من مظاهر الفكر الأميركي، غير أن تطبيقه لتلك الفكرة على ذلك الاتجاه الرمزي عند كتاب ولاية نيوانجلند، من كتن ماذر حتى هنري آدمس، ليعد عملاً أصيلاً. وكما أن دراسته لبو أكثر ما في كتابه إقناعاً فإن مجاوزته الحد في تقدير فنيمور كوبر أقلها إقناعاً، ذلك لأن ونترز يحاول أن يجعل من كوبر أديباً واقعياً، فيدافع عن الصحة المصطنعة في تلك الأعمال الباهرة التي تضمنتها قصصه " حكايات الجورب الجلدي " (1) Leatherstocking Tales بينا الأصوب إن شئنا الجد في تحليل كوبر ودراسته أن نعتبره كاتباً رمزياً (ذلك هو ما ارتآه د. هـ؟. لورنس وجون ماسي) . ويقتبس ونترز منظراً يكاد يكون كاملاً من قصة " صائد الغزلان " The Deerslayer فقرة إثر فقرة، من نثر كوبر المتثاقل المترجرج المتعسر، شافعاً ذلك كله بمثل قوله " لعله عمل لا يقل عظمة في طوله عما يجده الإنسان في سائر القصص الأميركي، ما عدا ملفل ". أو قوله " وفجأة ينتحل النثر صفة العمومية والعظمة لكي يهيئ المرء لتلقي الصفة المتافيزيقية للأثر الذي يتلوه بعد قليل ". أما أعلى إطراء فيضيفه ونترز على قصة لكوبر عنوانها " ساحرة

_ (1) كتب كوبر (1789 - 1851) سلسلة من خمس قصص تصور حياة " الحد الأميركي " The Frontier وتسمى باسم البطل لأنه كان يلبس جوربين طويلين من جلد الغزال ومنها الرواد The Pionrrrs والسهوب The Prairie وصائد الغزلان، وتحكي هذه القصص مغامرات البطل - ابن الغاب الذي يكره القيود ويحب الغابات ويفهم طبيعتها وهو كريم لأعدائه وأصدقائه على السواء أما قصة ساحرة الماء فتصور الحياة الأميركية على ظهر السفن واسم القصة مأخوذ من اسم السفينة.

الماء " The Water؟ Witch حين قدمها باعتدال قائلاً: " لهي بالتأكيد من ألمع القطع إن لم تكن من أعمقها في النثر الأميركي ". ويبدو أننا لا نبعد عن الحقيقة حين نرى السر الحقيقي لهذا الإطراء متصلاً بالأفكار السياسية والارستقراطية اللاديمقراطية التي كان كوبر يعتنقها، وبأختها " الرفعة البلاغية ". ويخصص ونترز أول جزء من مقالته للثناء على " الخلقية العامة " عند كوبر مسهباً مدافعاً عنها، ويختم تقديره بما يجب أن يعتبر أشد الصيحات المحزنة الداعية للتكتل انتصاراً للرجعية حين يقول " إنه ينطوي على مثل اجتماعي أعلى كان في زمانه قد أدركه التعفن والفساد، حتى إن وقوفه دونه كلفه سمعته، ولعل ذلك المثل الأعلى لم يعش بعده مدى عشرين عاماً ". ولعل أحفل تقويمات ونترز بالإساءة، في كتابه، مروره دون مبالاة على الشخصيات الكبيرة؛ فهو يرى في ثورو وألكوت شخصين قليلي الأذى غريبي الأطوار من مدرسة امرسون، ملمحاً إلى " السجية الرعوية عند ثورو " و " البلاهة الهادئة في ألكوت ". ويعتقد أن هنري جيمس كان ملتاثاً مثله شخصيات قصصه، إن كان لكلمة " لوثة " التي يكثر من استعمالها من معنى. وعلى أية حال، فكل فصل في كتاب " لعنة مول " يحوي نصيباً مقدوراً من الآراء التقويمية السطحية التي يقذف بها ونترز حول الأعمال الأدبية أو حول بعض أجزائها بل على أسطر منها أحياناً، وكلها آراء ذاتية، وقليل منها مؤيد بالبرهان. ولنتناول بضعة أمثلة كيفما اتفق: يستبعد كل ما كتبه هوثورن ما عدا " الحرف القرمزي " لأنه في زعمه " يدل على إخفاق " أو هو " تافه القيمة "، ويختار الفصل السابع من " صائد الغزلان " لأنه " خير قطعة مفردة في النثر كتبها كوبر "، ويختار الفصل الأول والأخير من قصة " السهوب " The Prairie لأنهما " يتلوانه في حسن " النثر. ويعد " بنيتوتشيرينو " Benito Cereno

" والجزائر المسحورة " Encantadas و " بلي بد " (1) Billy Bud حير ما كتبه ملفل باستثناء موبي ديك. ويعد خير الأبيات التي يستحسنها من شعر بو، لأن " مسجها لا بأس به " ومجموعها أقل بقليل من مائة بيت، موزعة في خمس قصائد. ويطبع القصائد الثلاث من شعر إملي ديكنسون وهي التي تجمع بين " أعظم قدرة وأجمل أداء ". ويشير إلى أن هناك رجلاً يسمى فردريك جودارد تكرمان (2) F. G. Tuckerman، " مشبه لهوثورن في رومانسيته المتأخرة إلا أنه يكتب أحسن من هوثورن "، ون قصائد جونز فري " وهو كاتب مؤثر " ممتازة " في حدودها " مثل قصائد ترايرن Traberne وهربرت أوبليك. ويستحق ونترز ثناءً على الطريقة التي درس بها هرمان ملفل، إذ هو الوحيد من بين النقاد المعاصرين، باستثناء ف. أ. ماثيسون الذي أعطاه؟ أخيراً؟ ما يستحقه من حيث هو أعظم كاتب أميركي، وواحد من أرفع القصصين في العالم. إن ونترز ضعيف أو محدود جداً؟ على الاقل؟ في تفسير المعاني العميقة في موبي ديك غير أن تحليلاته الرمزية المسهبة لبعض القطع بالغة القيمة، فمثلاً يبدو أنه غير واعٍ لصور الشذوذ الجنسي التي تجري خلال ما يكتبه ملفل وبخاصة تلك التي تجمعت

_ (1) الأولى قصة تاجر إسباني اسمه بنيتوتشيرينو يحكي كيف أبحر من بونس أيرس ومعه خمسون بحاراً وخمسمائة زنجي ثم هبت عليه عاصفة عند كيب هورن فغرق كثير من بحارته وأهلك المرضى أكثر من بقي منهم ومن الزنوج، يحكيها لقبطان أميركي اسمه ديلانو، وتنتهي القصة بتمرد الزنوج واستيلاء ديلانو عليهم ودخول التاجر الإسباني أحد الأديرة. والثانية قطع وصفية، أما الثالثة فإنها تصور بلي يد الأنموذج للبحار الجميل ولجماله وبراءته كرهه ضابط ذميم يدعى كلاغارت دون أن يدرك بلي لسذاجته سر ذلك المقت ويفتعل كلاغارت قصة تمرد ينسب تدبيرها إلى بلي ويتهمه بذلك عند القبطان فيثور بلي ويضرب خصمه ضربة قاضية وعندئذ يضطر القبطان إلى أن يحكم عليه بالموت شنقاً مع عطفه عليه، لبراءته من التهمة الأولى. (2) تكرمان (1713 - 1871) ولد في بوسطن ورحل إلى نيويورك وكتب في النقد والمقالة والتراجم كما أشأ قصصاً رومانسية عن الأسفار والرحلات.

في قصته الأثيرة " بلي بد " (وهذا قصور غريب حقاً حين نعلم أن ونترز من النقاد القلائل الذين لم يخجلوا من التعليق على الشذوذ الجنسي فيما كتبوه بل إنه لحظ في قصيدة من قصائد روبنسون موضوعاً يحتمل أن تكون له صلة بالشذوذ الجنسي) . ومع هذا فإن دراسة ونترز للمفل قطعة فذة وكفاها أنه ضمنها اقتباسة كاملة تدل على جودة اختيار. بل ربما كان ونترز في هذه الدراسة، مثله عندما درس بو، يعطي الأديب ما يستحقه من تقدير صائب لأسباب خاطئة وربما كان سر اهتمامه بما يثني عليه من كتب ملفل أنه وجد فيها " الأخلاقية " التي يبحث عنها في الأدب. وهب ذلك صحيحاً، فإنه شيء لا ينقص من قدر تلك الدراسة. وهناك نقاط إضافة عن " لعنة مول " تستحق أن تذكر: أولاً: مسألة " معاداة النورانية "، سر العنوان الإضافي للكتاب، وهي تهمة يكثر من تكرارها، إكثاره من ذكر " الرومانتيكية "، وبين المصطلحين وشيحة نسب. ويعني ونترز بمعاداة النورانية نوعاً من الانفعال الكاذب يزيد فيه قدر الشعور الناتج عن مقدار الدافع المحرك له، وهذا هو ما كان يعنيه الاغريق بكلمة " هستيريا " ويرونها مرضاً نسوياً مركزه الرحم. وعلى أساس هذا المفهوم يرى ونترز الأدباء السبعة المذكورين مصابين بمعاداة النورانية؟ على وجه ما؟ بل يرى أن هذا المرض هو أكبر الظواهر فيما يسميه " الفترة الرومانتيكية " الممتدة من 1750 حت اليوم. ولا حاجة إلى القول بأن هذا المصطلح " معاداة النورانية " في كتاب " لعنة مول " كالغربال لا يمسك ماءً، شأنه في ذلك شأن المصطلح الآخر " شرب الدم "؛ ولا شك في أن موقف رجل يتهم قرنين من تاريخ الأدب برمته مستثنياً بردجز وستيرج مور لأنهما، فيما يرى، ولدا خطأ في ذلك العصر؟ إن مثل هذا الموقف، في أحسن أحواله، قلق هش خرع لا يطمأن إليه. ثانياً: لابد من أن ننبه إلى أن معالجة هنري جيمس في الكتاب

- إذا صرفنا النظر عن التقويم المتناقض المشوه الذي يورده ونترز، إذ يراه حيناً رمز إخفاق مريع ويراه حيناً آخر أعظم قاص في الإنجليزية بعد ملفل؟ لهي من أشد الكتابات النقدية قصوراً في عصرنا. 3 - لم يصبح التقويم الجمالي المنظم للأعمال الفنية غاية رئيسية للنقد، في تاريخ الأدب، إلا بعد عصر النهضة، وظل منذ عهدئذ حتى القرن الحاضر هو المنهج السائد. أما النقاد الإغريق والرومان، فكانوا يهتمون ف الدرجة الأولى بالبويطيقا، وبتحليل الطبيعة الاجتماعية للفن والتأثير الفني. وأما نقاد القرون الوسطى فقد وقفوا همهم على التفسير الأخلاقي والباطني، وارتكز نقد عصر النهضة وبخاصة في انجلترة على إيجاد التبرير الخلقي للأدب الخيالي. ولما حل العصر اليعقوبي بانجلترة (1) أخذ النقد ينتحل التعلق بالتقويم وجرى عليه طوال ثلاثة قرون مثلما كانت الحال في أوروبة يعد النهضة وفي أميركية حوالي عهد الثورة بعد فترة من الأحجام الطبيعي. وفي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بانجلترة، ازدهر النقد التقويمي، وبلغ فيه أمثال توماس رايمر وجون دنس وصمويل جونسون ذروة التقريرات التعسفية التي يتضاءل أمامها ونترز. أما رايمر الذي وصفه ماكولي وفي وصفه شيء من العدل " بأنه أردأ ناقد عاش على ظهر الأرض " فإنه قد تأدى إلينا في صورة كان يعيد الأثر. فقد أثر في القراء حين استبعد شوسر قائلاً " إن لغتنا عندئذٍ لم تكن قادرة على إبراز شخصية بطولية " وتأثروا هم حين أعاد كتابة مسرحيات بيمونت وفتشر حسب فكرته عن الصحة الكلاسيكية وحين مزق مسرحية " عطيل " نصفين لأنها

_ (1) العصر اليعقوبي هو الفترة التي يشغلها حكم جيمس الأول 1603 - 1625.

نسيج من الهراء أو لأنها " مسرحية مضحكة دموية دونما تمليح أو نكهة " كتبها رجل كان يظن أن امرأة فينيسية عريقة الأصل تستطيع أن تحب زنجياً. ويقول رايمو أيضاً في شكسبير " إنه يبدو في المأساة في غير بيئته، فأفكاره معوجة وهو يهذي ويهيم على وجه دون تماسك؛ ودون أي قبس من عقل أو أي ضابط يزعه ويحد من جنونه ". أما شعره فإن " صهيل الحصان " ونباح " الزغاري " يحملان معنى أكبر مما يحمل ". وكان جون دنس يرى أحكام رايمر على شكسبير رغماً عن بعض اختلاف بينهما " أحكاماً معقولة عادلة في أكثر جزئياتها ". وقد حسن في مسرحية " نساء وندسور المرحات " (1) The Merry Wives of Windsor وجعل عنوانها " الشهم المضحك " The Comical Gallant. وعلى هذا كله فإنه كان ناقداً أميل إلى الناحية الخلقية، مؤمناً بأن الغاية الكبرى من الشعر هي إصلاح العقل البشري الآثم. غير أن تقويماته المتزمتة وبخاصة ما يتعلق منها باسكندر بوب " عدوه اللدود " أو مراجعته الممتازة لرواية " كاتو " Cato لاديسون كانت مثل أحكام رايمر تعسفية تحكمية، ومرسلاته العامة في الأدب أعلق بالجزئيات. وأما الأحكام القوية التي كان يصدرها جونسون عن الأدباء في أحاديثه لبوزول أو فيما قيده في كتابه " سير الشعراء " فإنها أشهر من أن يعاد فيها القول هنا، غير أن بعض تقريراته التي لم تنل شهرة واسعة، يستحق التنويه. ففي مقالة نشرها في " الجواب " Rambler عن سبنسر نزع إهاب " أسلوبه الفاسد " وصفع الدورة السبنسرية " الصعبة المنفرة المتعبة " بل إنه في مقدمة كتبها عن شكسبير؟ تقديراً وتبجيلاً؟ لم يتورع عن عد نقائضه من مثل " إنه قلما يوفق كثيراً في المناظر الهزلية " و " إن خطبه؟ على وجه عام؟ باردة أو ضعيفة " وزاد

_ (1) إحدى روايات شكسبير، وأهم شخصية فيها فولستاف.

قائلاً: إنه إذا اعتبرنا حال حياة شكسبير وهمجية عصره، فعلى القراء " أن يسامحوه على جهله ". وأكبر ناقد تقويمي متعسف شهده القرن التاسع عشر خلفاً لرايمر ودنس وجونسون هو ولتر سفج لاندور W. S. Landor فقد كان في مقدوره أن يصفع فرجيل نفسه لأنه استعمل تعبيراً لاتينياً غير دقيق وأن يصرح بأن ليس لبوليتيان (انجيليو بوليتزيانو) إلا قصيدة واحدة تستحق التقدير، وأن يهاجم كولردج هجوماً شريراً، ويستبعد الأدب الفرنسي بحذافيره وبخاصة المأساة الفرنسية وفولتير، ويضحي بكل من بوب وبيرون. وفي حمله؟ صراحةً؟ عبء التقويم التعسفي إلى نهايته المنطقية، كما حمله ونترز ضمناً؟ قرر لاندور أن أسوأ ما خطه ممثلاً في " أحاديثه الخيالية " العشرة " Immaginary Conversation " لا يمكن أن يسمو إليه أرفع خصومه موهبةً، في عشر سنوات من الكد، وأن الإصبعين اللتين تحملان قلمه لهما أقوى من داري البرلمان. ومن الواضح أن إيفور ونترز يجيء في سلسلة هؤلاء الرجال مباشرة، وأنه مثل لاندور، رجعة إلى ما قبل عصره بقرن كامل حين كان " القول الفصل " مظهراً سائداً في النقد والأدب. وهو مثل هؤلاء جميعاً، يبني تقويماته على الكلاسيكية والإيمان بالموروث. ومثل معظمهم في أنه يصدع بتقويماته خدمة لقضية رجعية سياسية. وقد قال ببعض هذه المقارنة بينه وبينهم نقاد آخرون، فقارنه كلينث بروكس برايمر في كينيون رفيو Kenyon Review عدد الربيع سنة 1940 لتشابههما في " جوانب القوة والضعف " ووازن كثير من المراحعين بينه وبين جونسون، ربما لأن ونترز سبقهم إلى القول بأن جونسون هو الناقد الإنجليزي الذي يستحق أن يوصف ب؟ " العظيم "، ولكن لم يلحظ أحد وجه الشبه المفزع بينه

وبين دنس، لأن دنس عندما يهاجم الشعراء الذين يحسبهم أردياء لا لأنهم فحسب فنانون خاطئون بل لأنهم أشرار يعادون الأخلاق، أو حين يقول " إذا كان المرء واثقاً من نفسه فعليه أن يتكلم في ثقة متواضعة " ... أقول: إن دنس في هذا كله ليس إلا تجسداً مبكراً لونترز. وإذن فإن معجم ونترز النقدي وأمثلته معاصرة، غير أن قلبه وفكره يعيشان؟ فيما يبدو؟ في لندن سنة 1700. وهناك أرومة نقدية أخرى ينتسب إليها نقد ونترز، وهو قد جلا النقاب عنها بقوله في كتاب " البدائية والانحطاط ": " إن هذه الفكرة عن الشعر في مجملها العام ليست أصلية، ولكنها إعادة للأفكار التي كانت سائدة في النقد الإنجليزي منذ أيام سدني، وظهرت في أكثر كتب الدفاع عن الشعر منذ سدني أيضاً وبخاصة فيما كتبه آرنولد ونيومان ". وهو يعني؟ بالطبع؟ سلسلة النقد الأدبي المبني على الأخلاق، ذلك انقد الذي بدأ منذ أقدم كتاب يونان، وهو موروث يطابق أحياناً مبدأ التقويم التعسفي، ويسلك أحياناً سبيلاً مجافياً له؛ ومن الواضح أن ونترز يرى موضعه في هذه السلسلة أيضاً. ولقد يحرج النفس أن نشهده يقارب بين غنف طريقته الجافية وبين لطف سدني ونيومان ظاناً أنهما من معدن واحد. بل لعل التشابه بينه وبين آرنولد أدق وأقرب. ومع أن ونترز قد ينكر ذلك التشابه مستاءً، فإن مبدأه الأساسي أعني إيمانه بأن الفن " هو تخلل الفهم الخلقي الثابت للتجربة الإنسانية " ليس؟ فيما يبدو؟ إلا إعادة لمبدأ آرنولد: " الفن هو نقد الحياة " عن طريق تطبيق المبادئ الأخلاقية. ولا ريب في أن هناك أنواعاً أخرى من النقد الأخلاقي في الأدب، يغفل ونترز ذكرها بمرونة؟ هناك ماكولي ونظرته الأخلاقية النفعة التي تختنق الأنفس، وتمثل مبدأ حزب الأحرار. وهناك تولستوي ومقته

المتعصب لكل فن يدق على فهم القن الروسي ابن القرن التاسع عشر، وهناك الحياء الخائر المصطنع عند وليم دين هولز الذي يقترح ألا تحتوي القصص ما يخجل القصاص من ذكره أما الفتاة، وكثيرون كهؤلاء رداءةً. ومن الجور أن نضع خلقية ونترز المترفعة في صف مع هؤلاء، ومع ذلك فكلهم داخلون في سلسلة النقد الأخلاقي مثلما أن أردأ شطحات رايمر معدود في نطاق النقد التقويمي، فإذا جمع شخص مثل ونترز ودنس بين الموروثين في نقده فقد ينجيه من التردي في الصلف المستكبر أو الحماقة المستعلية أن يكون هو نفسه مصيباً حقاً. ولا حاجة إلى القول بأن ونترز منقوص الحظ من ذلك. 4 - في عصرنا نماذج أخرى من التقويم النقدي تشبه في تعسفها أحكام ونترز وأكثرها أقل من أحكامه نصاً على الأخلاق؟ بعض الشيء؟ فهناك في المستوى الصحفي (أو كان كذلك لأنه قد تخلى فيما يبدو عن النقد الأدبي إلى الأبد) رجل اسمه هـ؟. ل. منكن H. L. Mencken العدو الجبار لعصبة " البلهوازيين " (1) وتبدو تقويماته المتعسفة دائماً وليدة جهل ساذج، ومع ذلك فإنها تسخر من تقويمات ونترز على نحو غريب فقد وصف منكن كلاً من بو ومارك توين بأنهما " الشخصيات العالميان اللذان أسهمنا بهما في دنيا الأدب، دون ريب " أعلن أن ليزيت ودورث ربز " قد كتبت أرصن الشعر، وأن شعرها أبلغ وأجمل؟ على التحقيق؟ من شعر كل الشعراء المحدثين مجتمعين "، وزعم أن هنري جيمس هو " هوراس ولبول " (2) الأميركي، ووسم أحد اثنين أو ثلاثة من المفكرين

_ (1) Booboisie وهي كلمة مصنوعة من boob وتعني أبله أو أحمق ومن المقطع الثاني على مثال برجوازي وقد صنعنا على مثالها " البلهوازيين " من بله جمع أبله مع الإضافة الأخيرة. (2) أي هو عند الأميركيين مشبه لهوراس ولبول (1717 - 1797) الأديب الإنجليزي المشهور عند الإنجليز.

الأميركيين الخلاقين، ممن لا يشك في عبقريتهم، وذلك هو ثورشتين فبلن (1) بأنه " نافورة أفٍ وتف ". وإذا عارضنا تقويمات منكن بتقويمات ونترز وجدنا أن القاعدة في تقويمات منكن هي عجزه عن أن يفهم الأدب الجاد وأنه عدو خصيم لكل شكل من أشكال الخلق، ولكن من المدهش تقارب ما قاله عن بو وتوين مما قاله ونترز عن كوبر، ومشابهة تقديره لليزيت ريز تقدير ونترز لاليزابث داريوش. أما المنبع الكبير الآخر للتقويم المتعسف في نقدنا فهو عزرا بوند الذي كان صديقاً لمنكن؟ مدة طويلة -، فقبل مرحلة الفاشية والبارانويا (مرض العظمة) بوقت طويل (2) ، كان بوند يصدر أحكاماً تبدو أمامها أسطع أحكام ونترز باهتة شاحبة. فقد وصف " الفردوس المفقود " Paradise Lost بأنها ملودراما مصطنعة كتبها رجل " غليظ العقل " " حماري " " مثير للاشمئزاز " " بهيمي "، واستبعد أدب القرن التاسع عشر برمته، وأعلن أنه يفضل صورة الآنسة الكسندر الشابة التي رسمها ويسلر على كل " الرسوم اليهودية " التي أنتجها بليك، وألقى بتاسو وأريوستو وسبنسر في " كومة النفايات "، ونبذ دريدة لأنه " فدم عبام " وانتاجه لأنه " جدب صراح " وأعلن أن تاريخ هيرودوتس " أدب " وتاريخ ثوسيديد " صحافة " وهاجم رجلاً يسميه أحياناً أرسطوطاليس وأحياناً أخرى " أرى سطوطاليس " لما كان يصطنعه من " تحويط وسند وترميم ". ومن المحتمل؟ في أقل تقدير؟ أن بوند نفسه لم يكن يؤمن بهذه

_ (1) فبلن (1857 - 1929) نال الدكتوراه من جامعة بيل ودرس في جامعة شيكاغو؛ أول كتبه " نظرية الطبقة المتعطلة " هاجم فيه القيم التجارية عند طبقة ذوي الأموال، وكان شديد الهجوم على النظام المالي القائم بأميركة في زمنه. (2) هي المرحلة التي انتهى إليها بوند، وتشمل إيمانه بالفاشية، ومهاجمة السياسة الأميركية في الحرب العالمية الثانية، ثم القبض عليه والقاؤه في مستشفى للأمراض العقلية.

الأحكام. فقد قال مرة مشيراً إلى حكم أصدره فضل به كاتولس من بعض نواحيه على سافو: " لا أدري إن كان هذا صحيحاً أو غير صحيح، فعلى المرء أن يتناول الأمور بعقل متفتح ". وقد سجل كذلك دراسة جميلة مسهبة وعبقريته وشفعها بقوله " إن المرء ليقرأ هنري جيمس لمجرد ما فيه من وحشة وظلام ". ومن أشد المظاهر غرابة في تقويمات بوند أنه يكاد دائما يجمع بين أديب مجيد وآخر رديء، أو بين أثر لهذا وأثر لذاك ويسوي بينهما. فقد تحدث عن " تار " Tarr لوندهام لويس جنبا إلى جنب مع كتاب " صورة الفنان في شبابه " لجويس بنفس العبارات، وقرن بين " مينا لوي وماريان مور " وأشار إلى أن جوزف جولد ووليم كارلوس وليمز شاعران معاصران بارعان. (وأقول استطرادا: إن ولدو فرانك وهو ناقد أندرسون ومانويل كمروف؛ وبين د. هـ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟. لورنس وج؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟. د. برسفورد؛ وبين " الموهبتين الكوميديتين "؟ دورثي رتشاردسون وجيمس جويس) . ولعل هذا القرن بين أديب عظيم وآخر متخلف؟ من كل أحمق بليد مستكتب بأجر؟ بآصرة واحدة من الملق،.. لعله أن يكشف عن نقص في الذوق أكبر وأخطر من الاقتصار على مدح الحمقى والبلداء المأجورين. وفي النقد التقويمي؟ في عصرنا؟ نوع آخر رئيسي يمكن أن نسميه " تصحيح الرأي "، ومن أشد أمثلته تخلفا في الذوق، على مستوى منكن، كتاب لآرنست بويد عنوانه " تجديفات أدبية " Literary Blasphemies وهو محاولة لإعادة النظر في التقديرات الموروثة حول عدد من الأدباء، من شيكسبير حتى هاردي، بمثل هذا الأسلوب في وصف ملتن " ذلك المغرب (1)

_ (1) المغرب صفة الخيل؛ وهو الفرس الذي تبيض اشفار عينيه مع زرقهما وهو صفة قريبة في مدلولها من albino ويعنى ذا بشرة بيضاء وشعر أبيض وعينين صغيرتين.

المصاب بداء العظمة الذي كان عماه دون ريب أثرا للزهري الموروث " في وصف جيمس " رجل متهوس بحب الإنجليز، وصولي في المجتمع، صرف كل وقته يخترع مصطلحات تقوم مقام كلمة الآلة الكاتبة ". أما في المستوى العلمي فكل أستاذ في الأدب ألف كتابا قد جرب أن يقترح فيه؟ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؟ أسماء الأدباء الذين يقدمهم أو يؤخرهم. وهذا نشاط عقيم لأن الناقد قلما ينجح، أما الأستاذ فلن ينجح، في تغيير الذوق الأدبي. وإذا استثنينا الضغينة المتعسفة التي يبدو أن مصحح الآراء يحملها دائما نحو كل ذي مجد مؤثل (ونشاط ونترز لسوء الحظ نموذجي في هذه الناحية) قلنا إن هذا اتجاه لا ضرر يخشى منه فهو ضرب أستاذي لطيف من اعتداد بالنفس، لا يحقق غاية. 5 - ولعل أهم مسألة يجدر اعتبارها في تقويمات ونترز هي؟ بالدقة؟ ما الذي يعنيه بقوله " أخلاقي ". فقد عرفها أو استعملها لتؤدي عديدا مختلفا من الأشياء بعضه لا يلائم البعض الآخر، وبعضه لا معنى له أبداً. وقد سوى بينها وبين " الجهاد للوصول إلى مثال في الشكل الشعري " وجعلها تعني كلاسيكياً في مقابل ما هو رومانتيكي، وتعني " تقليدياً " في مقابل " تجريبي " أو تعني " شعوراً معتدلاً تحفزه دوافع صحيحة "، الأقل؟ محل " إنساني ". وفي بعض الأحيان تبدو مصطلحاً أديباً فنياً قريب الشبه مما يسميه آرنولد " الأسلوب الفخم " أو " الجد الرفيع "، وأحياناً تعني " تعليمياً " وأحياناً لا تعدو معنى " رجعي " ويبدو أنها في بعض الحالات ليست أكثر من نعت يدل على أن ونترز أعجب بالعمل الفني وظنه جيداً. ولا يربط بين هذه الاستعمالات جميعاً خيط واحد

إلا أن " أخلاقي " كانت في الأصل شيئاً واضحاً عند ونترز، لعله ذاتي أو لعله نظام فني مساوٍ لما يسميه الإنسانيون المحدثون " الوازع الداخلي " ثم اتسعت في الدلالة حتى أصبحت تشمل نتائج هذا الوازع، ومن ثم تشمل كل عمل أو نزعة يمكن أن يفترض وجود هذا الوازع وراءها، أي تشمل كل عمل يحبه ونترز وكل نزعة يحترمها (1) . وثمة طريقة أخرى تطلعنا على ما يعينه ونترز بقوله " أخلاقي "، وتلك هي أن نلحظ ما يعده " غير أخلاقي "؟ وهذا يضم؟ أولاً؟ كل المترادفات المضادة لاصطلاح " أخلاقي " كانعدام الشكل، والرومانتيكية والتجريبية وكل شعور مبدد أو هستيري أو " محفوز بدوفاع غير صحيحة "، والاتفعالية الكاذبة وما أشبه. وفي المقام الأول يمقت ونترز شيئين يمقت ونترز شيئين هما: البدائية والانحطاط. فالشعراء البدائيون؟ كما يعرفهم؟ هم الذين يستغلون كل الوسائل الضرورية لبناء قصيدة قوية ولكن مجال مادتهم محدود، أما المنحطون فهم الذين يظهرون إحساساً مرهفاً باللغة، وقد يكون لديهم آفاق واسعة، ولكن عملهم ناقص شكلاً أو هم الذين أضعفتهم جريرة الشعور بعض الضعف لا كله. ويفسر ونترز هذا بقوله: الشاعر البدائي شاعر كبير في مجال صغير والشاعر المنحط شاعر كبير تنقصه إحدى القدرات الهامة. ومثال الأول وليم كارلوس وليمز، ومثال الثاني ولاس ستفنز. وهذه التفرقة صحيحة متينة، ومع أن استعماله للاصطلاحات كاستعماله لمصطلح " معاداة النورانية " يكاد يكون محض تحكم لأنه لا صلة له

_ (1) في آخر إنتاج لونترز يبدو أن " أخلاقي " أصبحت هي مسألة النزعات التي يعبر عنها الشكل المنثور لمضمون القصيدة. فهو يقول عن " اختيار روبنصون لمادته " و " موضوعاته " و " مباحث " إنها تتضمن هذه " الأخلاقية " وأن قصيدة مثل " ذروة التلة " Hillerest تعد " أخلاقية " مضادة " للرومانتيكية " لا لشيء إلا لأنها " تنبئنا أن الحياة تجربة شاقة لا تتحمل إلا بالألم ولا تفهم إلا بعسر ". وبعبارة أخرى إن القصيدة الرواقية التي تدور حول " تحمل الألم وتتخذ منه موقفاً لا هروبياً " تعد قصيدة " أخلاقية ".

بالأصل الاشتقاقي للكلمات أو الاستعمالات المألوفة، فليس من سبب يمنعه من أن يسمي " بدائياً " و " منحطاً " ما يسميه كاتب آخر " صغيراً " أو " ناقصاً " وما يسمه ثالث " كذا " و " كيت ". على أن ونترز يحدث اضطراباً حين يستعمل كلمة " منحط " بمعنى أميل إلى الاتباعية كأن يقول في سدني وسبنسر " إنهما منحطان " لأنهما يهمان " باصطناع مناهج لا معنى لها نسبياً ". أو حين يهاجم هنري آدمز بأنه " صورة للبيورتانية المنحطة " وسوينبرن بأنه " صورة لانحطاط الموروث الأدبي ". وأخيراً كان العدو الألذ لأخلاقية ونترز شيء يسميه " مبدأ اللذة " وهذا ما دعا كلينث بروكس ليسمه بالرواقية؛ وهو يرى هذا المبدأ متمثلاً في أصرح حالاته عند ستيفنز (وأقول استطراداً إن أساس هذه الدعوى واهٍ ركيك لأنه ينظر إلى قصيدة " صباح الأحد " من خلال محتواها النثري فقط، وكذلك زاد ميله إلى هذا الاتجاه في تقدير الشعر مع أنه يستنكر هذه الطريقة صراحة في موضوع آخر) . وينتهي مبدأ اللذة؟ فيما يقوله؟ إلى " السآمة " مثلما أن انحطاط آدمز انتهى به إلى " الفوضى "؛ ويرى ونترز أن كل أدب لابد من أن يتردى في إحدى هاتين الهوتين إذا لم يكن مؤسساً على " الأخلاق ". والنص على الأخلاق هو لب النقد عند ونترز وربما كان مديناً به إلى الإنسانيين المحدثين وبخاصة ايرفنج بابت (ومنه أيضاً استمد طريقة الأحكام التعسفية المتهورة) . وقد اعترف ونترز بأنه معجب ببابت وأنه " تعلم منه الكثير " كما اعترف بدين محدد لعدد من أفكار بابت وتحليلاته، ويبدو أنه لم يفد كثيراً من سائر الإنسانيين المحدثين، وصرح بأنه لا يعد نفسه واحداً من جماعتهم بل إنه في مقال له نشره في مجموعة عنوانها " نقد النزعة الإنسانية " أعدها كلنستون هارتلي غراتان (1) ، هاجم النزعة الإنسانية

_ (1) صدرت هذه المجموعة سنة (1930) بعنوان The Critique of Humanism أما غراتان الذي أعدها فهو ناقد أدبي ومؤرخ.

الجديدة بمرارة ورمى كثيراً دعائها بتهمة " الانطباعية المنتحلة " و " الآلية الأخلاقية " بله الكتابة الرديئة والعنف والعنف المتهور (وهذه تهمة ممتعة) وسوء الأدب و " الإفلاس الروحي ". على أن مقاومة ونترز للرومانتيكية، لأنها تريد " إطلاق " العواطف لا " كبحها " هو نفس المبدأ الذي تدور عليه النزعة الإنسانية، ولا ريب في أن ونترز أقرب إلى هذا المذهب من أي مذهب آخر. دعنا نتوجه بعد عرضنا لأخلاقية ونترز إلى توضيح نظرياته في الأوزان، فهي حرية بذلك: يبدي ونترز وبخاصة في " البدائية والانحطاط " اهتماماً كبيراً بالتفعيلات الشعرية، وكثير من تحليلاته للبحور ذو قيمة أصيلة مثل تحليله لثلاثٍ من قصائد إملي ديكنسون، تقدمت الإشارة إليها. ومع ذلك فإن هناك خطأين كبيرين يفسدان نظريته في الوزن وبعض تطبيقاته العملية وأولهما: ما يمكن أن يسمى " أغلوطة الإيقاع الحكائي " وهي الفكرة التي تقول إن البحر والاختلاف الوزني وحدهما يوحيان بالمعنى أو بالحال (لا أنهما يقويان المعنى فحسب) وكثيراً ما تصدى لهذه النظرية نقاد بارعون (بينهم رتشاردز) فأبطلوها بلباقة، وذلك بوضع كلمات أو مقاطع لا معنى لها في سياق الإيقاع نفسه، فإذا الإيقاع في شكله الجديد لا يحدث شيئاص من الإيحاء المزعوم. ومما يدهش له المرء أن يظل ونترز مؤمناً بهذه الفكرة، على ذلك كله. أما خطأه الثاني فهو النظرية التي ترى أن الشعر الحر منتظم يمكن تقطيعه إلى تفاعل فتكون التفعلية الأولى طويلة تحتوي نبرة ثقيلة يتلوها ما شئت من نبرات خفيفة ومقاطع غير منبورة. وقد خصص ونترز لهذه النظرية جانباً رحباً من كتابه " البدائية والانحطاط " وخلق تعليلات واسعة مسهبة متسامحاً في قبول نماذج كثيرة من المستثنيات والأبيات الشاذة حتى كاد يستوعب كل شيء خارج عن تفعيلاته بحيث لا يتبقى ما يشذ أو يستثنى. ويقف في وجه ونترز ذلك السؤال الحتمي

الذي يحطم كل جهوده، وهو: لمَ لمْ يكن في المستطاع " تفعيل " أي عبارة نثرية. بما في ذلك عبارة ونترز نفسه، بهذه الطريقة نفسها؟ ولا جواب له على ذلك إلا قوله: إن الترتيب المقطعي في النثر عفوي عارض بينما الترتيب المقطعي في الشعر الحر تعمدي؟ فيما نفترض -، وإننا " نحس " بنوع من الإيقاع النغمي في الشعر الحر ولا نحسه في النثر. إن علم العروض ما زال شكلاً من أشكال " خفة اليد الحوائية " (1) لأن أكثره لا ينفك في عقل " المفعل " لا على صفحة القرطاس (حتى إن هوبكنز؟ مثلاً؟ يستطيع أن يقطع أي شيء في إيقاع منحدر وذلك ببدء كل تفعيلة بمقطع قوي منبور؟ وكان في مقدوره أن يقطع كل شيء بإيقاع صاعد، بمثل تلك السهولة، لو أنه بدأ بالتفعيلة بالمقطع الثاني لا بالأول) . ولعل تقطيع ونترز للشعر الحر؟ على هذا الاعتبار؟ ليس أشد شذوذاً من أكثر ضروب التقطيع التعسفي. على أنه حين يكتب شعراً حراً على طريقته في الوزن فإنه يصبح أسيراً لنظريته كالساحر الذي أدى دوره على المسرح وما يزال منديله يصر على أن يتشكل في صورة العلم الأميركي (2) . وكل تقدير عام لا يفوز ونترز لابد من أن يحسب حساباً لنواحي عجزه وقصوره؛ ومن أوضح هذه النواحي ضيق المعرفة عنده. نعم إنه مصطلح،

_ (1) لا تظن أن هذا الحكم يسري على العروض العربي، لأنه لا يعتمد على النبر وعدمه بل على طول المقطع وقصره. (2) ليس في نطاق هذه المقالة أن نتفحص شعر ونترز ولكن مما يتفق وسياق ما نحن فيه أن أقول: " إن ما قرأته من شعره يبدو ملائماً لمبادئه النقدية أي إنه تقليدي في شكله، أخلاقي كلاسيكي بطيء ومن نوع قديم بعض الشيء، وأكثره وليد مناسبة أو تعليمي في طبيعته وكله مكبل غير منطلق. أما هل هو لطيف هادئ الحركة أو هو أكاديمي بليد حتى الموت فشيء يعتمد الحكم فيه على ذوق القارئ الذاتي ".

ولكن اطلاعه؟ فيما يبدو؟ يدور في فلك ضيق لا يتعدى القصة الإنجليزية والأميركية والشعر الحديث في الأدب الإنجليزي والأميركي والفرنسي. ويظهر أنه لم يتعرف إلى أي أدب من آداب القارة الأوروبية عدا الفرنسي وإذا استثنيت دانتي فلست أذكر ورود ذكر لأديب خيالي آخر في كل آثاره النقدية، ممن ترك آثاراً في غير اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ومراجعه الفرنسية محدودة أيضاً. ولنختر بضعة أسماء اتفاقاً: لم يذكر ونترز أبداً دوستويفسكي أو بوشكين أو بوكاشيو أو بترارك أو غوته أو هايني أو سرفانتس أو لوب دي فيجا أو حتى ستندال أو فيون. وليس معنى هذا أننا نريد إليه أن يتحدث عن الأدباء الأجانب بعد إذ بدا أنه ملتزم بعدم الإشارة إلى شخص لا يستطيع أن يقرأ آثاره في لغته الأصلية، وإنما نريد أن نشير إلى خطأ فادح في الطريقة التي ينهجها ونترز دائماً وأبداً وهي أن يقال: هؤلاء أعظم القصصيين وهؤلاء أعظم الشعراء ثم لا يكون هؤلاء وهؤلاء إلا من الإنجليز أو من الأميركيين. بل هناك ثغرات غريبة في معرفة ونترز حتى فيما يقع في دائرة اختصاصه. فقد كتب فصلاً طويلاً مسهباً عن هوثورن من غير أن يبدو ما يدل على أنه يعرف شيئاً عن وجود مذكرات يومية لهوثورن، إخبارية متطرفة في واقعيتها، دع جانباً أنه لم يقرأها. وهو يسوق مقررات قابلة كثيراً للأخذ والرد عن تاريخ الأدب الإنجليزي، دون أن يشير إلى برهان أو وثيقة فيها. والأمر كما بينه رانسوم وكما اتهمه به هوراس غريغوري هو أنه فيما يبدو لا يعرف الفرق بين الشعر الذي ينتمي إلى عصر إليزابث والشعر الذي ينتمي إلى عصر آل تيودور. وإلى جانب هذا القصور في معرفة ونترز نراه يعاني من استكباره عن أن يستعمل عقله. مثلاً لا ينكر أحد أن في الفكر النقدي عند اليوت متناقضات واقعية كثيرة، ولكن كثرتها لم تمنع ونترز من أن يخترع له

متناقضات جديدة؛ فقد استكشف ذات مرة أن هناك عبارتين متناقضتين عند اليوت (سطحياً) ؛ وأبى أن يحكم بالصواب لأحدهما لأنه أبى قراءتها على أي صعيد إلا الصعيد الحرفي. وهو أيضاً يتبجح بجهالته، فقد أقتبس مقطوعة للشاعر ادوين آرلنجتون روبنصون عنوانها " عابر سبيل " En Passant وقال " إنه لا يستطيع أن يحل معمياتها " وذهب يتشدق مرة أخرى أسفاً، إذ فاته سر عنوان قصيدة ستيفنز " الكوميدي في صورة الحرف ك " قائلاً: " يؤسفني أن أقول إنه استعصى على كل من علمي وذكائي ". ولكن هذا العنوان نفسه لم يستعص على علم بلاكمور وذكائه فقد نشر تفسيراً باهراً مقنعاً لعنوان تلك القصيدة في مجلة " الكلب والنفير " (1) Hound and Horn سنة 1932، ونشره مرة أخرى في الصفحة من The Double Agent سنة 1935، وقد كان المرجو من ونترز، حيث يأبى أن يفكر، أن يتنازل؟ على الأقل فيقتبس أفكار الآخرين وخاصة حين تكونتلك الأفكار في متناول يده خلال عشر سنوات (2) . وكان من ثمرات هذا الجهل والتصلب الفكري العارضين، عدد من الآراء ليست فوق الغاية في التعسف أو الشذوذ بقدر ما هي مضحكة،

_ (1) سميت هذه المجلة بهذا الاسم من قولة لعزرا بوند في " الوعل الأعصم " جاء فيها " إننا لنسعى إلى الشهرة العصماء " وندعو كلاب العالم لتجتمع على صوت النفير، وقد كان ونترز رئيساً لتحريرها في الغرب. كما أن بلا كسور كان ذات يوم رئيساً لتحريرها، ومن ثم لا يعذر ونترز في استمراره على جهله بمعنى ذلك العنوان، لهذه الصلة الوثيقة الطويلة بينه وبين المجلة وما ينتشر فيها. (2) استفتح ت. فايس T. Weiss في تحليله الفذ لنواحي العجز في نقد ونترز في مقال له بعنوان " هراء ونترز " نشرخ في Quart. Review of Lit ربيع 1944 وصيف 1944 - استنتج استنتاجاً أكثر تطرفاً مما وصلت إليه وهو أن مشكلة ونترز تنبع من ثلاثة أنواع من العجز: " عجزه عن القراءة، وعجزه عن الكتابة وعجزه عن فهم الشعر " وأنا مدين لدراسة فايس هذه ببعض الخواطر والالتماعات، وأنا موافق عموماً على كل ما جاء في مقالته ولست متأكداً من أن فايس مخطئ في هذا الاستنتاج أيضاً.

فقد وصف شكسبير بأنه كتب مكبث وعطيل ليضع على القرطاس تقديراً أخلاقياً للخطيئة وأعلن أن كتاب هنري آدمز " تاريخ الولايات المتحدة ": " أعظم مؤلف تاريخي في اللغة الإنجليزية باستثناء تاريخ غبون " لا ليمدح آدمز، وهو محتقر عنده، بل ليصفع سائر مؤلفات آدمز. (واستطرد إلى القول بأن آدمز نفسه كتب يقول إنه يفضل اثنتي عشرة صفحة من قصة ايستر (1) Esther على كل كتاب في التاريخ " بما في ذلك الخرائط والفهارس " وهي حقيقة لا يذكرها ونترز ولعله لا يعرفها) وقال يعرف ماثيو آرنولد " إنه أحد الشعراء العظماء في القرن التاسع عشر " و " إنه من أسوأ الشعراء في الإنجليزية " فجمع بين هاتين الحقيقيتين في جملة واحدة. وهو يرى أن كارليل لا يؤبه به، فلم يشر إليه إلا مرة واحدة في الهامش بقوله " لعل القارئ يحس مثلما أحس؟ أنه كلما قل الكلام في كارليل كان ذلك أحسن، وهذه عندي حقيقة مسلمة ". ثم أكد ذلك بحذف اسم كارنيل من فهرست الأعلام في كتابه. وأخيراً وجد أن " النغمة " متشابهة عند كل من بيتس وروبنصون جفوز، وتتبع نظريات ت. س. اليوت في الشعر فوجد أصولها عند إدجار ألان بو. ويبدو أيضاً أن الأفكار السياسية والاجتماعية أثراً في آرائه النقدية؛ كتب عنه ألان سوالو في " مجلة جبال روكي " يقول: " إن موقف ونترز هو موقف المسيحي ". غير أنه عرف نفسه بقوله: " أنا أحد الضالين ولست مسيحياً " هذا على أنه يعتنق المذهب الذي ترعاه الكنيسة الكاثوليكية والأنجلوكاثوليكية. وهو يؤثر السمة التي اختارها أيرفنج بابت أي " رجعي "

_ (1) نشرت قصة ايستر سنة 1884 باسم مستعار أما البطلة فيها فقد رست على مثال زوج آدمز، وتدور حوادثها حول فتاة رسامة تعرفت إلى قسيس فلم يعجبها لاستغراقه في أمور الدين ثم عهد إليها بتزيين القديس جون تحت إشراف فنان كبير فاتخذت نموذجها صديقتها كاترين فوقع الفنان في حب كاثرين، ووقعت هي في حب القسيس الذي كرهته أولاً، ثم إنها تزوجته فلم ينسجما بعد الزواج فكرهت عشرته لوم تنجح المحاولات التي بذلت للتوفيق بينهما.

حين يستعمل هذه اللفظة لأبلغ الإطراء. وربما أنكر ونترز أنه يقيم أحكامه الأدبية على أساس من التحيز السياسي، ولكن كيف نفسر هجومه المرير على كتاب بارنغتون " التيارات الرئيسية في الفكر الأميركي " وهجومه على كتاب برنارد سمث " المؤثرات في النقد الأميركي " في الملحقين الثاني والثالث من كتاب " تشريح الهراء " إن لم يكن الحافز في ذلك دوافعه السياسية؟ وهذان مثلان فحسب ولكن من طلب مزيداً وجده. وهو مثل بابت، إمامه وناصحه (كتب بابت مرة يقول: إن بعض الأذواق لا تقوم إلا بالعصا) ليس ألطف المجادلين ولا أحسنهم تأدباً وهو يدخر بعض شتائمه الجارحة لهنري آدمز الذي يحتل لديه؟ تقريباً؟ مقاماً يحتله روسو عند بابت، أو الشيطان عند المسيحي الذي يأخذ التوراة حرفياً. فقد قال يصف آدمز: " إنه صورة للتفكك العقلي " ونبزه بأسماء لا يستعملها إلا رجل الأخلاق، مثل " لذي " " فوضوي " " مريض عصبياً " " طفولي " " وقح "، وتدنى مسفاً فاتهمه بأن انتحار امرأته كان نتيجة طبيعية لموقفه. والانتحار عنده نصيحة أثيرة يمحضها خصومه، وليس هذا ما يجب أن يتحلى به رجل أخلاقي فقد اقترح " الانتحار " مرتين؟ على الأقل؟ كتابةً، مرةً لروبنصون جفرز، ومرة ليوجين جولاس. وإذا حمي في الجدل اندفع نحو التجريح المقذع ونزع إلى مثل هذه التعليقات: " إن معرفتي يعقليات الأدباء المعاصرين معرفة واسعة ... ولشد ما آسف إذ أجد كثيراً من اللامعين فيهم لأياً ما يفهمون المسائل البسيطة "، أو مثل " وإذ عجز (أي خصمه) عن أن يلحظ نقدي لهذه الأبيات تشبث متصلباً بنوعٍ من الجدل الأدبي المعاصر لا يليق بكاتب ناشئ مثلي أن يحتج عليه ". والحق أن ونترز شرير لا ينجو المرء من براثنه إذا تورط معه كتابةً، وبين الحين والحين تقاتل مع عدد كبير من النقاد والمراجعين المعاصرين

ويبدو لأنه يقرأ كل قصاصة مطبوعة يذكر فيها اسمه ويجيب على المراجعة بمراجعة مضادة، وعلى المقالة بمقالة مثلها، وعلى الفصل من كتاب بفصل مماثل. وهو لا ينسى هجوماً أبداً مع أنه قد ينتظر سنوات حتى يرد، غير أنه أحياناً ينسى تفصيلات ما يكتبه أصلا. ومن المفيد أن نستعيد هنا الخصومة بينه وبين ثيودور سبنسر: راجع ونترز في مجلة " الكلب والنفير " أبريل (نيسان) 1933 شعر ستيرج مور وزعم أن مور شاعر أعظم من بيتس. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه اقتبس سبنسر ملحوظة ونترز هذه وحطمها بأن طبع الرباعية الأولى من قصيدة لمور عنوانها " أبوليوس يتأمل " (1) Apuleius Meditates وكان ونترز قد رفعها إلى السماء تمجيداً؛ ونشر إلى جانبها أربعة أبيات من قصيدة لييتس عنوانها " ليدا والإوزة " (2) Leda and the Swan. بعدئذٍ تسلم ونترز دفة الجدل فاتهم سبنسر في " تشريح الهراء " 1943 بأنه أساء الاقتباس منه وأنه حرف أقواله الأولى تحريفاً كاملاً (أي قارئ يشك في هذا عليه أن يختبر حقيقة ما قاله ونترز في ييتس ومور ويعرضها على ما قاله من ملاحظ بعد عشر سنوات) . وإذا لم تنجع هذه الأساليب تنزل ونترز إلى مجرد التحقير فقد أجاب على مراجعة كتبها وليم تروي

_ (1) عاش أبوليوس في القرن الثاني بعد الميلاد، وتثقف في الإسكندرية واستوطن قرطاجة وتنقل في المدن الأفريقية يعلم الفلسفة والف رسالة في فلسفة أفلاطون، ولكنه شهر بقصة " الحمار الذهبي " في أحد عشر كتاباً. وتدور القصة حول إنسان (هو المؤلف نفسه) تحول إلى حمار ومر بمراحل كثيرة من حياة اللصوص ثم عطفت عليه ايزيس فردته إلى حاله الأول ويبدو أن القصة رمز لانحدار الروح الإنسانية إلى عالم حيواني ثم استنقاذها بعد عقبات جمة. (2) ليدا زوجة تندارس ملك سبارطة، رآها جوبتر - وهي حامل - فاستهام بها، وقرر أن يخدعها فاقنع فينوس أن تتخذ شكل صقر وأن يتحول هو في صورة إوزة، وتنطلق الإوزة خوفاً من الطير الجارح وتختبئ في أحضان ليدا، وحين تبسط كنفها على الإوزة الفزعة، يتمكن منها جوبتر، وبعد تسعة أشهر وضعت ليدا بيضتين نفقت الأولى عن طفلين ادعيا النسبة إلى جوبتر، ونفقت الثانية عن اثنين آخرين انتسبا إلى تندارس.

ولم يكن هذا قاسياً أو ذاتياً، بقوله: " هذه محض حماقة أمية " وصب عليه الاتهامات الآتية " اختبار متهاون، تفكير سطحي، تحذلق متنطع، غمز غير غائي ". وكتب عنه ت. فايس مراجعة (يجب أن نقر بأنها كانت قاسية ذاتية) فأجاب عنها في العدد الثاني من المجلد الثالث من مجلة Quartely Review of Literature، وقد صعد به جوابه إلى ذروة الهستيريا وهو يصرخ " جهل " " تحقير دنيء " " لا يستطيع أن يفهم جملة واحدة " " تحريف وتشويه " " خيانة متعمدة " ثم ينهي ذلك كله بلطف قائلاً: " أما فايس فإنه غبي أحمق كذاب ". وهناك عبارة من ردود ونترز تستحق الاقتباس لما فيها من كشف وإيحاء وهذه هي: " إن الأسباب التي تدعوني للرد عليه ثلاثة: أولها اعتقادي أن ما كتبته في كتابي هام، ولا أحب أن أرى إنتاجي محطاً للعبث والفوضى وثانيها أني اكسب معاشي من أني دارس، وسمعتي في مهنتي تتأذى من هذا الأمر، وثمة عدد قليل من أهل مهنتي؟ للأسف؟ وغالباً ما يكون من ذوي النفوذ، يؤمنون بالحرف المكتوب، وإنما أحكي هذا عن تجربة لا عن تخيل. وآخرها أن هناك كثيراً من هذا النوع من المراجعات رائجاً في هذه الأيام، ولابد من وسمه بحقيقته ليعرف أمره ". في هذا الفزع الجلي المريع دلالة يمكن أن تفسر شخصية ونترز ونقده. وهذا النوع من القلق كامن؟ فيما يبدو؟ وراء مشروعاته الفخمة المزعومة التي لا يحقق منها شيئاً، وأحكامه الجارفة التي يرسلها دون أدنى شاهد، ويغيرها من سنة إلى أخرى، كامن أيضاً وراء أمور كثيرة منها: حاجته إلى أن يحدث تأثيراً بكل وسيلة، وتقسيمه الأدباء طبقات على حسب الاستحقاق تقسيماً تحكمياً، وحاجته الماسة إلى متملقين المأجورين، وتأثره العميق بأي نقد، وإلحاحه على هذه الدعائم الخارجية مثل " أخلاقي "

" منطقي " " عقلي " " نظام " " ضبط " " رجعية "، وشعوره بأن شعره لم يتذوق، وغضبته ومرارته وانعكاس ذاته على شعراء مغمورين لا يقبل عليهم أحد مثل جونز واليزابث داريوشس، وتفاخره بالجهالة، وتكلفه عامة وسوء أدبه وهراشه البذيء. وهذا النوع من القلق يزيد فيما قد يسمى " الشخصية الباروقية " (1) وهي تقع ككل " باروق " عموماً في نهاية الشوط حين تستنفذ كل الإمكانيات الفعالة وينجم عنها انحسار الاطمئنان، والشعور بالإخفاق فلا يبقى من وسيلة لمواجهة ذلك إلا زيادة المحسنات الفخمة الجسيمة. وكثير من المتعسفين في التقويم قبل ونترز، من رايمر ودنس حتى منكن وبوند باورقيون قلقون على هذا النحو تماماً مثلما هي حال الإنسانيين المحدثين المتصلين بونترز وبخاصة إيرفنج بابت من بينهم جميعاً. وإذا فهمنا هذه الشخصية الباروقية، اتضح لنا كثير من آراء ونترز ومبادئه. فمثلاً: مما أسداه للنقد الحديث (وهو شيء ورثه من بابت ثم زاد فيه ونماه) مبدأ " بدعة الشكل المعبر " وتعريفه عنده أنه الاعتقاد بأن خير ما يعبر عن التفكك شكل مفكك مضطرب لا شكل منظم مرتب. وهو يرى ذلك ميزة بارزة للأدب الحديث وبخاصة عند اليوت وبوند وجويس، ويتتبعها إلى مبدأ كولردج المسمى " الشكل العضوي ". ولكن الأمر كما وضحه فايس وغيره وهو أن كلاً من اليوت وبوند وجويس ومن على شاكلتهم من الأدباء المحدثين لا يستعمل شكلاً فوضوياً مفككاً وإنما شكلاً يبدو فوضوياً مفككاً وينشأ عضوياً من طبيعة مادتهم ولكنه

_ (1) أنا مدين بفكرة " الشخصية الباروقية " وكثير من العناصر التي تتألف منها وبأشياء أخرى في هذا الكتاب لليونارد براون (ويمتاز الباورقي بأنه غير متزن، متأرجح بين الحيوانية والروحانية، تحفزه دوافع عنيفة، فتجذبه الشهوة حيناص كما يجتذبه الشعور بالموت حيناً آخر) .

منظم مرتب مدبر بعناية (ويقول إن لكتاب " يقظة فينيغان " من التنظيم ما تقف أمامه حائرين) ، على وجه وإلى مدى لا يتطاول إليه الأدب المعاصر التقليدي بما في ذلك شعر ونترز نفسه. ويبدو أن مشكلة ونترز هنا هي: بما أنه هو نفسه يتطلب شكلاً مفروضاً عليه من الخارج ونظاماً يحمل عنه عبء شكوكه الذاتية وعبء مظاهره الباروقية، فإنه يعجز عن أن يتصور شكلاً مفروضاً من الداخل، ناشئاً طبيعياً وعضوياً من مادة الفنان. وقد أدى ونترز أشياء ذات قيمة للنقد المعاصر منها بعض التحليلات الجيدة في العروض، وبعض القراءات والدراسات المتينة للبناء الشعري (وبخاصة في كتابه " تشريح الهراء "، وأخص منه ما قاله عن " قصة الجرة " Anecdate of the Jar لستيفنز، و " موت الأولاد الصغار " لتيت، وبيتين من قصيدة براوننج " سيراناده عند البيت الريفي ") ومنها أيضاً الإلحاح المفيد على القيمة الأدبية والخلقية للأشكال الشعرية والعلاقات بين المعتقدات والأشكال (مع أن كثيراً من تلك العلاقات والمميزات التي يذكرها بأعيانها موسوم بالحماقة) وأهم من ذلك كله أنه وحده حفظ الحياة على مهمة نقدية هامة هي " التقويم ". وقد تجيء تقويماته في مصطلح لا معنى له من ناحية سمانتية، وقد تكون متناقضة أو ذاتية محضاً، وغير محددة الدلالة مثل " عظيم " " فائق " " كبير " " يتيمة " " عاقل " " مصدع " " نقائض " " محدودية " " متمدن " " رائق " " الدرجة الأولى " " الدرجة الثانية ". وهو يقدم نتائجه وحدها، وغالباً يتقدم بها دون أي شهادة تقترب من السداد، وعلى نحو لا يمكن مجادلته فيه أو فهم ما يريد أن يقول. ومع ذلك كله فإنه يقوم بالتقويم والمقارنة والمقايسة والتدريج والترتيب والتصنيف، حين يكون أقيم النقد مقصور الهمة على التحليل والتفسير، وحين لا يجد القارئ أمامه إلا مراجع الصحيفة

ليسأله إن كان العمل الأدبي جيداً أو رديئاً (وكثيراً ما يضلل) . ويستطيع النقد أن يقتبس عن ونترز قوته وجرأته في التقويم، حين ينوي أن ينشئ ميزاناً أدق من ميزانه، مستنداً إلى ما هو ألزم للأدب من " العقلية " و " الأخلاقية " على أن يعطى القارئ من التقويم تحليلاً كاملاً ليعينه على اتخاذ أساس يضبط به القيم أو ليساعده على أن يضع تقويماً من عنده مؤيداً بالبرهان. أما المراحل الخمس التي يعدها ونترز مفضية إلى التقويم (انظر ما سبق) فهي أساس جيد لمثل هذا الإجراء، وقلما استفاد ونترز نفسه منها. فإذا اختبرتها بتسليطها عليه، كما حاولت هذه المقالة أن تفعل فإنها؟ أي تلك المراحل؟ تؤتي ثماراً جيدة. وعلى هذا نجد ونترز؟ " بحكم قاطع حاسم " (1) ذي حظ من التعسف والبذاءة، إلى حد يعجب ونترز لأنه تطبيق لطريقته؟ ناقداً بالغ الحد رداءة وإبراماً، لا يخلو من أهمية.

_ (1) أي يحكم عليه محتذياً طريقة ونترز نفسه في الحكم على الناس، وطريقته " قاطعة حاسمة ذات حظ من التعسف والبذاءة ".

الفصل الثالث

الفصل الثالث ت. س. إليوت والنقد الإتباعي إن أهم ما أسنده ت. س. اليوت للنقد الحديث هو فيما عبر عنه جون كرو رانسوم " استنقاذ النقد القديم ". وقد كان تأثيره في هذه الناحية بعيداً. لكن أيعزى تأثيره هذا إلى النقد نفسه أو إلى مكانة اليوت في أنه من أبرز الشعراء الأحياء؛ ذلك الشيء لا يمكن الجزم به، ومع ذلك فلا ريب في أن اليوت هو اللسان المعبر عن اتجاه في النقد يمكن أن نسميه بشيء من التجوز " اتباعياً "؛ فهو ناقد على طريقة الشعراء النقاد في القرون الأولى لكنه ليس محللاً محترفاً للأدب بمقدار ما هو شاعر محترف، ذو رسالة عامة يؤديها. وكل كتب النقد التي أصدرها ليست إلا ترتيباً وإعادة ترتيب لنيف وسبعين مقالة ومراجعة ومقدمة ومحاضرة وجدها تستحق الصون من بين المئات العديدة التي كتبها. ويكاد كل نقد كتبه أن يكون قد ظهر أولاً في مجلة أو مقدمة لكتاب آخر أو ألقي على منبر من منابر المحاضرات. ويعتقد اليوت أن النقد يخدم قارئ الشعر، وقد مر بنا حديثه عن خطأ الاعتقاد بأن النقد فعالية غاية في ذاتها. وهو يرى أن مهمة النقد هذه مزدوجة: أحد طرفيها " توضيح الفن وتصحيح الذوق " وطرفها الثاني " إعادة الشاعر إلى الحياة ". أما " أدوات الناقد التي يحقق بها هاتين الغايتين

فهي " المقارنة والتحليل ". وغاية النقد إنشاء " موروث "؟ أو اتباعية؟ وصلة مستمرة بين أدب الماضي وذوقه وأدب الحاضر وذوقه. وسر كتابات اليوت النقدية كامن في هذه اللفظة أعني لفظة " موروث "؟ أو اتباعية؟ أما ماذا يعني بها فشيء يشبه ما يعنيه ونترز حين يستعمل اصطلاح " أخلاقي " تقلباً وتعقيداً، أو يشبه ما يعنيه امبسون باصطلاح " غنوض " (وإن كان امبسون؟ على خلاف اليوت وونترز؟ يعرف الغموض في مصطلحه " غموض ") . فأحياناً لا تعني كلمة " اتباعي " هذه إلا ما تعنيه كلمة " جيد "، وأن اليوت يحب الأثر الذي يمنحه ذلك الوصف، وحالها في ذلك كحال مصطلح " أخلاقي " عند ونترز. وأحياناً تصبح؟ كما وضح رانسوم؟ طريقة مجازية من ضروب تنبيه الأديب إلى أن لا " يفرط في الجدة ". والحق أن " اتباعية " اليوت فكرة نفعية، وهو دائماً ينص على استغلال الموروث كأن يقول في بن جونسون: " بل نستطيع أن نتخذه، ونعي وجوده، كجزء من موروثنا الأدبي، يتطلب توضيحاً جديداً ". وخير طريقة نكشف بها عما يعنيه اليوت بهذه " الاتباعية " أن نراقب أثرها في إنتاجه. ولعل اليوت لم يسهب في استعمال الموروث بالمعنى الأدبي المجرد؟ نسبياً؟ كما أسهب في النصف الثاني من مقال عن هنري جيمس كتبه في " المجلة الصغيرة " Little Review (1918) في العدد الخاص بجيمس ثم لم يعد طبعه في كتابه " مقالات مختارة " Selected Essays سنة 1932، وذلك النصف الثاني من المقال بعنوان " المظهر الهوثورني من جيمس " The Hawthorne Aspect، فقد فسر جيمس بعرضه على هوثورن، ووضح النزعة القصصية عند كليهما بالمقارنة، مؤكداً " أميركية " جيمس في الأساس، وأبدى بإسهاب ما الذي يصيب الموروث الأدبي من تعديلات وما الذي يحتفظ به إذا استمر مريره طوال فترة من الزمن.

وثمة وجه آخر لاستعمال " الاتباعية " يخالف ماتقدم ويتميز عنه، وهو موجه إلى غاية أدبية في أساسها، ويوجد في بعض مقالات اليوت كمقاله عن الأسقف أندروز وعن برامهول Bramjall رئيس الأساقفة فيما أسماه " من اجل لانسلوت أندروز " (1928) For Lancelot Andrews حيث يحاول أن يصقل ويوسع، بل أن يصطنع، موروثاً أدبياً أنجليكانياص، إذ يزعم أن مواعظ أندروز " تقف في صف مع أجمل نثر إنجليزي معاصر لها بل مع أي نثر في أي عصر " وأنها تفوق مواعظ دن لأن دوافع دن كانت " غير خالصة " وكان يعوزها " النظام الروحي "؟ وهي نقيصة كسبت لمواعظ دن شهرة ذائعة بعيدة. وهذا نرى اليوت يقيم، بضربة واحدة، موروثاً أدبياً على قاعدة من مقاييس أخلاقية، كلياً، ويهاجم أديباً، من حيث هو أديب، فيغمز بالتلميح المهموس ميله إلى الشك، أو على الأقل؟ يلمز فيه أنانيته الطامحة التي لم تتخل عنه وهو يؤدي واجبه الكنسي. ويمجد الاستقامة في ظل الكنيسة الإنجليزية ويعدها منبعاً، لا للخلاص في الحياة الأخرى حسب، بل لأحسن أنواع النثر، في كل زمان ومكان. ويقف اليوت مثل هذا الموقف من برامهول بادئاً بالنص على فائدته الفلسفية حين ينصب سوط عذاب على مادية هوبز (التي تشبه مادية روسية المعاصرة) منتهياً باجلاسه مطمئناً عل قمة الإجادة في النثر. بل إن مصطلح " الاتباعية " هذا في أوسع دلالاته (أعني في المقالات الأولى) ضيق العطن، فهو يتقبل الكلاسيكي ويستبعد الرومانتيكي، ومعنى " الرومانتيكي " آثار كثيرة لا يحبها اليوت أما الكلاسيكي فإنه " كامل " " ناضج " " مرتب "، وأما الرومانتيكي فهو " شذري " " فج " " مضطرب ". وليس هذا تماماً مثل أن ننحي أدب القرن التاسع عشر برمته كما فعل بوند (1) (ينزع اليوت إلى أن يطري شعر ملتن وبليك

_ (1) مرت الإشارة إلى موقف بوند من أدب القرن التاسع عشر وإنه يستبعده جملة في الفقرة الرابعة من الفصل السابق وهذا فرق بينه وبين اليوت الذي لا يستبعد أدب ذلك القرن وإنما يحاول أن يقلب فيه أسس التقديم والتأخير. وهناك فرق آخر بينهما هو أن اليوت لا يتنكر لكل رومانتيكي. ويكره أحياناً ما هو كلاسيكي. من ذلك مقته لشعر بوب، وهو النموذج الأعلى الكلاسيكية الإنجليزية، وفي هذه الكراهية خروج على منهجه العام في تفضيل ما هو كلاسيكي.

وكيتس وتنيسون ويمقت شعر بوب، وفي هذا يناقض المشهور المتعارف، ويخالف فيه بوند الكلاسيكي الأكثر منه ثباتاً في مبدأه) . غير أن اليوت بعامة يرى أن مهمته هي أن يحل " اتباعيته " محل اتباعية أدباء ذلك القرن، فينقذ الروائيين الاليزابيثيين من لام وسوينبرن ويناهض حكم هازلت وباتر على دريدن، ويقلب بعامة أسس التقديم والتأخير بين أدباء القرن التاسع عشر. ويحمل اليوت قسطاً من عبء الاتباعية في النقد بأسلوبه النثري نفسه، فهو أسلوب شكلي محافظ فصيح دون أن يصبح حاداً. وهو يجمع بين الصنعة الأسلوبية والوضوح الشفاف، فهو أسلوب القرن الثامن عشر مرصعاً بمصطلح القرن العشرين، وكثيراً ما يخيل للقارئ؟ تخييلاً مضللاً في الغالب؟ أنه بنجوةٍ عن مهمات الحاضر الرخيصة، بتشبثه بما يجاوز حدود الزمان؛ وسر هذا التخييل يعزى من ناحية إلى رفض اليوت؟ ألبتة؟ أن يطبع نقده للمعاصرين في كتاب (باستثناء عدد قليل) . فمثلاً ما تزال محاضراته (1933) عن جينس وبوند وجويس ولورنس تتشوف المطبعة دون أن تبلغها، كما أنه لم يجمع النبذ الست عن بوند، ومقالاته عن الأدباء المعاصرين أو المقدمات المختلفة التي صدر بها مؤلفات معاصرة (1)

_ (1) بعض القطع التي كتبها عن معاصريه البارزين ونشرها تستدعي التقييد هنا لمن يرغب في مراجعتها. فقد كتب ست قطع - على الأقل - عن بوند وهي: (أ) عزرا بوند: أوزانه وشعره، في كراسة نشرت سنة 1917 (ب) ملحوظة عن عزرا بوند نشرت في مجلة اليوم Today سبتمبر (أيلول) 1918 (ج؟) طريقة عزرا بوند في Athenaeum 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1919 (د) مقدمة لأشعار مختارة من بوند 1928 وقد نشرها (هـ؟) مقال في مجلة Dial يناير (كانون الثاني) 1928 عنوانه " التفوق المتفرد " (ز) عزرا بوند، في مجلة شعر سبتمبر (أيلول) 1946. وكتب عن جويس في مجلة Dial نوفمبر (تشرين الثاني 1923) مقالاً بعنوان " عولس: نظامه وأسطورته " ومقدمة لمختارات من نثر جويس " تقديم جيمس جويس " 1942. وكتب عن بروست في Criterion 1926 وعن ييتس في Southern Review شتاء 1942 (وهي محاضرة منشورة) وعن فاليري في مقدمة الطبعة الإنجليزية من " الأفعى Le Serpent " 1924 وفي العدد الثالث من المجلد الثالث من مجلة Quarterly Rev. of Lit وهي نبذة تأبينية أعيد طبعها نقلاً عن Cahiers du Sud.

وأما ما يوحي به نثر اليوت من شعور بأنه نثر يعلو على حدود الحاضر فإنه في الحق حاد إلى درجة أن القارئ يحس دائماً بصدمة حين يقع على ملاحظة هامشية تشير إلى المجادلات الأدبية المعاصرة في مؤلفاته (1) . غير أن هذه الصفة الركينة الوقور لم تتطور مع الزمن، فالمقالات الأولى التي نشرها اليوت في العقد الثالث من عمره كان لها ما للشيخ الوقور من أثر حتى إن نتاج السنوات القلائل الأخيرة ليبدو؟ في الحق؟ إذا ما قورن بها ناعماً متحالاً من القيود نسبياً. وأكبر خطأ في " اتباعية " اليوت إنما يكمن فيما تنحيه وتحذفه، فلم يكتف هذا الناقد بما يبديه من قلة مبالاة بالمعاصرين (وهذا قد يغتفر في ناقد مثل سنت بيف، لأن سيرة الأديب لا تستدير كاملة إلا بالموت، غير أنه لا يغتفر في طريقة نقدية ترى أن تحكم على الجديد الطريف بعرضه دائماً علىالموروث الأدبي التليد) . بل إنه لم يمارس نقد الأدباء الأميركيين، إلا قلة منهم، في مختلف العصور (ولعل بو هو الوحيد الذي يتردد ذكره عنده) وفيما عدا مقدمات كتبها لكتب أمثال بوند وماريان مور وجونا بارنس (وبعضها فيما أعتقد مراجعات نشرتها مجلة " المحك " Criterion وأعيد طبعها) يبدو أنه لم يخصص مقالاً لأي أديب أميركي مبتكر خلا هنري جيمس، ثم لم يطبع ذلك المقال ثانية من بعد الطبعة الأولى. وعلى الرغم من المحاولة المخلصة التي بذلها ف. أ. ماثيسون في

_ (1) يتأتى هذا الشعور من أن إشارات اليوت للمجادلات الأدبية المعاصرة مطمئنة الأحكام في ظاهرها توحي بأنها القول الفصل في كل مسألة، مع أنها في حقيقتها ليست كذلك.

كتابه " ماذا حقق ت. س. اليوت " The Achivement of T. S. Eliot ليضعه في صف الموروث الأميركي متحدثاً عن بيورتانيته؟ دراسته دانتي في هارفارد؟ مشابهته في المادة والطريقة لهوثورن وأملي ديكنسون وجيمس؟ فإن اليوت يبدو في غفلة تامة عن الموروث الأميركي، إن لم نقل يبدو هارباً منه. ومثل إغفاله الأميركيين، إغفاله لأدباء بارزين لا يدخلون في موروثهن لو شئنا لكتبنا بأسمائهم جريدة كبيرةز فهو لا يعلق في نقده على " شوسر " كما بين ماثيسون؟ أو على سكلتون والشعراء الإنجليز قبل عصر اليزابث، ولم يكتب عن أحد من الإيطاليين خلا دانتي ومكيافللي ولا عن أحد من الرومانيين إلا سنيكا، ولا عن إغريقي إلا يوربيدس، ولا عن أحد من الأدباء الفرنسيين (وهذا شيء غريب لأن شعره متأثر إلى حد بعيد بالشعر الفرنسي) إلا عن بودلير وبسكال، وكتب عن قليل من آثار الأدب النثري الخيالي. ويبدو أنه ليس هناك إلا مكان صغير في موروث اليوت لكل من هوميرس وفيون وغوته وسرفانتس وأفذاذ القصصيين باستثناء جيمس. وثمة خطآن شخصيان يحددان نقد اليوت وهما: تفكير غائم متناقض ينتهي به إلى مصطلحات عارية من المعنى أو سديمية (أو مصطلحات سديمية تنتهي به إلى كتابة غائمة متناقضة تعتمد على كيفية تناولك لها) ، وتبرم بالموضوعات التي ينتقدها، وهو تبرك زاد لديه في أخريات أيامه، ولا صلة له بالقيم الأدبية نفسها. أما الخطأ الأول فإنه أساسي في تفكيره، ومن المستحيل أن تقرأ نقد اليوت، وتطيل في قراءته دون أن تحس بأنه يرسل مقررات في لغة يستحيل عليك أن تناقشه الرأي فيها. وفي مقال له من أجمل مقالاته بعنوان " اختبار النقد "؟ ظهر في Bookman (1)

_ (1) Bookman اسم لمجلة أدبية نقدية إنجليزية وأخرى أميركية وقد صدرت الثانية 1895 - 1939 وكانت محافظة في طابعها العام.

لعدد نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1929 ثم لم يعد نشره من بعد (1) - يقول اليوت " هناك حاجة ماسة بالنقد إلى اختيار جديد يشمل دراسة منطقية جدلية للمصطلحات التي يستعملها ". وعلى الرغم من هذا التصريح الممتاز الذي لم يكن يعني به اليوت نفسه، فيما يبدو، فإنه ظل دائماً يرفض أن يدرس، أو حتى أن يحدد، المصطلحات التي يستعملها، متهرباً من ذلك إلى مقل قوله: " في إصدار هذا الحكم، أرفض أن أساق إلى البحث في تعريفات " الشخصانية " و " الشخصية " (2) " أو إلى مثل قوله " وإذا أبدى امرؤ تذمره من أني لم أعرف الصدق أو الحقيقة أو الحق فإني أستطيع أن أقول معتذراً إن ذلك لم يكن جزءاً من هدفي لأن كل ما أقصد إليه هو أن أجد منهجاً تندرج فيه هذه المصطلحات، مهما يكن شأنها، إن كان لها وجود ". وأحياناً يكتب اليوت عبارات تبدو وكأنها ليست إلا سفسطات فارغة مركبة من مصطلحات غائمة تخيل إلى سامعها أنها تنقل أحكاماً نقدية كهذه العبارة الآتية التي يتحدث فيها عن روستان: " هو متفوق على مايترلنك الذي يعجز عن أن يكون شعرياً حين يعجز عن أن يكون روائياً؟ هو متفوق عليه لا من حيث هو روائي فحسب بل من حيث هو شاعر أيضاً. نعم إن لدى مايترلنك بصراً أدبياً بما هو روائي كما أن لديه بصراً أدبياً بما هو شعري وفيه يجتمع الاثنان معاً، غير أنهما غير ممتزجين لديه كما هي الحال في آثار روستان، فشخصياته ليست ترغب رغبة واعية في أدوارها بل هي شخصيات عاطفية. أما في حال روستان فإن جهده منصب على التعبير عن العاطفة، ولا كذلك مايترلنك الذي

_ (1) (هي في الأصل محاضرة ألقاها في " معهد المدنية الأدبي " بلندن وقد نشرت ومعها محاضرات لآخرين تتصل بالموضوع في كتاب " الاتباعية " والتجربة في الأدب المعاصر " سنة 1929) . (2) هذان من اصطلاحات اليوت فالشخصانية " Personality " والشخصية " Character " وربما كان الفرق بينهما هو الفرق بين " الذات " و " مقومات الذات "، وينص اليوت على أن الإبداع الفني يحقق اللاشخصانية أي هو عملية إفناء للذات مستمرة.

ينصب جهده على عاطفة لا يمكن التعبير عنها ". ونتج عن استعمال اليوت لمثل هذه المصطلحات أن " قبض " عليه كل من تحدث عنه متلبساً بالتناقض. فمثلاً وجده ليونل ترلنج يقيم فرقاً بين " الشعر " و " المنظوم " (1) من أجل كبلنج كان قد حطم هذه التفرقة، قبل سنوات عديدة، حين رآى آرنولد يستغلها في نقد دريدن. وقد لحظ ونترز في فصل من كتاب " تشريح الهراء " اتهم في اليوت بتناقض إثر تناقض في تفكيره النقدي (ويجب أن نسلم بأن كثيراً من تلك التناقضات ليس له أساس إلا رفض ونترز أن يقرأ بوضوح حسب دلالة القرينة) ؟ لحظ ونترز خطأ واحداً مضحكاً؟ على الأقل؟ وذلك هو قولة لهربرت ريد جاء فيها أن الشعر فيض عن الشخصية وفينا وعلينا ألا تحاول فيه تنقيحاً أو تحسيناً فوسم اليوت هذه العبارة بأنها " زنديقية " في كتابه " بحثاً عن آلهة غريبة " (1934) After Strange Gods. غير أنه في الكتاب نفسه، دافع عن نفسه ضد من يتهمونه بعدم التوافق بين شعره ونثره بقولة ريد هذه، مقولة في سياق جديد. وأحد أسباب هذا التناقض حيلة لقنها اليوت من بوند؟ دون ريب؟ وهي التقدم بآراء لا يؤمن من أجل أن يسمع من حولها ضجيجاً. وفي موطن واحد؟ على الأقل؟ كان اليوت صريحاً غير متستر في هذه الأمر، وذلك حين كتب في مقاله " شكسبير ورواقية سنيكا " يقول: " هاهنا أقدم أديباً يسمى شكسبير تحت تأثير من رواقية سنيكا، ولكن لا أعتقد في أن شكسبير وقع تحت تأثير سنيكا، وإنما اقترح

_ (1) هناك فرق في العربية بين اللفظتين في الصعيد الفني، ولكن الاستعمال القديم لم يكن يفرق بينهما فإذا تذكرنا قسمة الكلام عامة إلى " نثر ونظم " عرفنا أن النظم والشعر لفظتان مترادفتان، أو كانتا كذلك. أما تبين الفرق بين لفظتي Poetry و Verse في الإنجليزية فإنه مبالغة في التدقيق.

ذلك لأني أومن أنه بعد شكسبير المتأثر بمونتين (لا أن مونتين كان ذا فلسفة ما) وبعد شكسبير المتأثر بمكيافللي لابد أن يجيء شكسبير سنيكائي أو رواقي. وإني لأريد فحسب أن أطهر هذا الشكسبير السنيكائي قبل أن يظهر ولقد يتحقق لي طموحي لو أنني بذلك حلت بينه وبين الظهور. " وبعد ذلك كله نجده يبرز أثر رواقية سنيكا في شكسبير، ويعود إلى هذه النقطة في كتابه مرة إثر أخرى. وثمة سبب آخر لهذا التناقض وضحه اليوت نفسه في مقال " موسيقى الشعر "، بقوله: " أنا لا أستطيع أن أعيد قراءة ما أكتبه من نثر دون حرج حاد، وإني لأتهرب من هذا الواجب فأغفل بالتالي أمر التصريحات التي دمغت بها نفسي ذات يوم، وكثيراً ما أكرر ما كنت قلته، وليس ببعيد أن أقع في تناقض ". وقد تكون هذه دعابة، لو لم تكن دعابة غريبة على اليوت (لأنه قد تعود أن يقف موقف المعتذر في آثاره، لا موقف الساخر) وقد تحسبها دعابة أيضاً، لولا أن اليوت أعادها مرات، ومن بين تلك المرات موقف متميز بالوقار، وهو محاضرته التذكارية عن ييتس. ومن المؤكد أن اليوت يستعملها معتذراً اعتذاراً جاداً عن تناقضه، غافلاً عما قد تحمله من جفاء وجسو خين تقارن بقولة وتمان السخيفة العظيمة في آن " أأنا أناقض نفسي؟ حسناً إذن، أنا أناقض نفسي " (أنا رحيب الذات أتسع لمكثرات متعددة) . أما تبرمه بموضوعاته التي ينتقدها فينتهي به إلى حيلة أخرى ابتكرها بنفسه، وتلك هي دعواه أنه لا يفهم الشعر البسيط. فقد زعم أنه لا يستطيع أن يقيم معنى للمقطوعة الخامسة من قصيدة شللي " إلى قبرة "، وهي مقطوعة محيرة ولكنها قطعاً مفهومة (1) .

_ (1) نظم شللي هذه القصيدة قبل وفاته بسنتين، يخاطب فيها " القبرة " وهي طائر يرتفع في الجو مغرداً حتى يختفي عن الأنظار. وقد تناول الشاعر هذا المعنى فأداره في صور كثيرة، فشبه القبرة بالشاعر تستمتع بقراءة شعره دون أن نراه، وبفتاة في قصر تغني أناشيد الحب وهي محتجبة، وبالوردة المختفية بين الأوراق يفوح شذاها دون أن ترى.. الخ. أما هذه المقطوعة فقد شبه القبرة بالقمر " الكرة البيضاء " فإنه حين ينجلي الفجر يتضاءل نوره حتى لا يرى، ولكننا نحس أنه موجود.

[أنت محتجبة، ولكني ما أزال اسمع سرورك يسترسل في صوت نفاذ] نفاذ المضاء، كسهام تلك الكرة البيضاء التي يتضاءل مصباحها الوضاء عندما يتجلى الفجر الناصع حتى يكاد ينبهم أمام الأنظار غير أننا ما نزال نحس بوجوده وقد قرر أن بيت كيتس " الجمال هو الحق والحق هو الجمال " لا يعني شيئاً لديه وهكذا. ومن البين أن هذا الاصطناع المفاجئ لموقف من الذكاء المتبلد إنما يقصد به نحواً من السخرية السقراطية؛ ودليل هذا أولاً تلك الأمثلة التي يختارها (وهي دائماً أمثلة من العواطف الغائمة عند الشعراء الرومانتيكيين) وثانياً: أنه امتدح ف. هـ؟؟؟؟. برادلي " بأنه يحرج خصمه بإقراره فجأة على نفسه بالجهل ". ومن المفارقات الساخرة أن واحداً من أشد منتقديه مرارة؟ أعني ايفور ونترز؟ قد هاجمه على هذا النحو نفسه أيضاً. وأما الشكل الآخر الذي يظهر فيه تبرمه المتزايد بالأدباء فهو عادة تفنيدهم لأنهم لم يكونوا شيئاً غير الذي كانوا: كان من الواجب أن يكون لكل من بليك وشكسبير فلسفة خير مما لهما، وما كان من حق أدباء العصر الكتوري أن يكتبوا هذا المقدار، وما كان لغوته أن يقرض شعراً أبداً (فإن دوره الطبيعي هو دور الإنسان الدنيوي الحكيم وفي مقدوره أن

يكون لاروشفقو ثانياً أو قل لابيرويير أو لافوفنارج ثانياً) وكان على شكسبير أن يكتب عطيل بطريقة لا تثير اعتراض رايمر، وكان على شللي أن يكون امرءاً خيراً مما كان، وهلم جرا. 2 - ثمة طريقة مثمرة لدراسة نقد اليوت بإسهاب وهي شرح مقالته " الاتباعية والموهبة الفردية " (1) Tradition and the Individual Talent التي طبعت أول مرة سنة 1917، ولا تزال بعد ربع قرن من الزمان أهم مقالاته، ومفتاحاص لما بعدها من آثار. وهي تتضمن في ذاتها كل التطورات الأخيرة، وسأحاول في هذه الفقرة أن أقيد بعض مشمولاتها: (1) لو كان الشكل الوحيد للاتباعية، أي توريث السالف للخالف، إنما يشمل انتهاجنا منهج الجيل السالف لنا مباشرة فيما وفق فيه، في تبعية عشواء أو خرقاء لكان الحق أن نخذل الناس عن " الاتباعية " تخذيلاً إيجابياً. يبد أن اليوت يحمل هنا فكرة غريبة، وهي أن الاتباعية دائماً تتخطى السلف المباشر إلى ما قبله. وفي مقاله " بودلير في عصرنا " في كتابه " من أجل لانسلوت أندروز " كتب وثيقة هذه الفكرة حين قيد بتحكم وحماقة جريدة لآخر خمسة أجيال أدبية سالفة وهي: (1) بودلير (2) هكسلي وتندال وجورج اليوت وغلادستون (3) سيمونز ودوسن ووايلد (4) شوٍ وويلز وليتون ستراشي (5) اليوت ومدرسته. ويزعم اليوت أنه استمر بالموروث الذي يمثله الفريق الأول والثالث والخامس أما الثاني والرابع فيلتقيان ويعتنقان.

_ (1) هي المقالة الأولى في كتابه " مقالات مختارة ": ص 13 - 22.

(2) غير أن الاتباعية تشمل في المقام الأول الحس التاريخي الذي قد نقول فيه إنه لا ستغني عنه واحد يريد أن يستمر شاعراً بعد عامه الخامس والعشرين. ويتضمن الحس التاريخي إدراكاً لا لمضي الماضي فحسب، بل لشهوده أيضاً. فالحس التاريخي يضطر المرء إلى أن يكتب، لا لمجرد أنه يحس بجيله وحده في دمه، بل بإحساسه أن كل الأدب الأوروبي منذ هوميرس، بما في ذلك أدب وطنه كلهن له وجود في زمان، وأنه يشكل نظاماً في زمان أيضاً. وهذا الحس التاريخي؟ وهو حس بما وراء الزمن وبالزماني، وبهما معاً متحدين؟ هو الذي يجعل الأديب اتباعياً. يستعمل اليوت لفظة " تاريخي " استعمالاً غريباً، ومن غموض اللفظة ثار ما يشبه الجدل النقدي حول طريقة اليوت النقدية: أهي تاريخية أم لا. فقد تحدث ادموند ولسن عن اليوت في كتابه " قلعة أكسل " وفي مقال له بعنوان " التفسير التاريخي في الأدب " فعده الأنموذج الحق للناقد غير التاريخي الذي يعالج الأدب كأنما تصادف وجوده كله معاً؟ في زمان؟ مقارناً بين صوره، معطياً حكمه عليه، حسب مقاييس مطلقة؟ في فراغ؟ بينما اختاره كرو رانسوم؟ من الناحية الأخرى؟ في كتابه " النقد الجديد " مثلاً على الناقد التاريخي، مبيناً أن اليوت " يستغل دراسته التاريخية من أجل الفهم الأدبي ". ومن الواضح أن الفريقين المتنازعين يستعملان لفظة " تاريخي " بمعنيين مختلفين. أما ولسن فيعني بها استعمال مقاييس قرائنية أو نسبية وأما رانسوم (واليوت نفسه فيما يبدو) فيعنيان بها الإطلاع على التاريخي والوعي بما كان عليه الماضي. ويبدو اليوت أحياناً ناقداً تاريخياً على طريقة اشبنجلرية، حتى حسب مفهوم ولسن نفسه، كما هي الحال في مقاله " شكسبير ورواقية سنيكا " فهناك وجد عاملاً مشتركاً للانحلال الاجتماعي يربط بين انجلترة في عصر اليزابث ورومة

الاستعمارية، ثم أخذ يظهر أثر ذلك كله في أدبيهما. ولكنه بعامة غير تاريخي بهذا المعنى إلى درجة تثير الضحك. وحين يقول " أترى الفنون تزدهر أحسن ازدهار في فترة النمو والتوسع أو في حال الانحطاط، مسالة لا أستطيع الإجابة عنها "، فإن كلمة " أحسن ازدهار " هنا مثل على أنه بلغ الغاية في انعدام الحس التاريخي. وإذا وقفنا عند كلمة أضافها اليوت إلى ما تقدم وهي أنه يعجز عن أن يفهم لم يبدو أن المسرحية الشعرية قد ماتت، فقد نقترح أن نتلمس حكماص حاسماً بين الفريقين المتنازعين ونقول إن اليوت لا يعرف من التاريخ في رأي رانسوم ما يكفيه ليكون ناقداً تاريخياً ثابتاً في رأي ولسن. (3) وكل من قبل هذه الفكرة عن نظام الشعر الأوروبي (1) ، والشعر الإنجليزي وشكلهما فإنه لن يرى أن من قلب الأوضاع أن يعمل الأدب الحاضر في الأدب الماضي أنه ليس من قلب الأوضاع أن يعمل الماضي في الحاضر. هاهنا عدد من الأفكار الكاشفة عند اليوت فكلمة " النظام " أصبحت " اتباع السنة " وكلمة " الفوضى " أصبحت " محاربة السنة " أو " البدعة "، وفكرة " تغيير " الأدب الماضي أصبحت عملاً نقدياً كاملاً يهدف لمراجعة تاريخ الأدب، لكي ينص على " اتباعيته " وأما مبدأ توجيه الحاضر بالماضي فقد تبلور في صورة رجعيته الدينية والاجتماعية والسياسية. (4) دعنا نتقدم إلى تبيان أكثر وضوحاً، يجلو علاقة الشاعر بالماضي،

_ (1) كان اليوت يقول في مقاله هذا، قبل هذه العبارة، إن التراث الأدبي موجود على نظام معين فإذا أراد أحد أن يضيف إليه شيئاً فلابد من تغيير ولو طفيفاً، وبذلك تتغير العلاقات والنسب والقيم وتتعدل، وهذا هو معنى الانسجام بين القديم والحديث، فمن هذا النظام لا يرى في تبادل التأثير بين الماضي والحاضر أو نقصاً في الذوق أو مجاوزة للمعقول.

فهو لا يستطيع أن يرى الماضي كتلة أي قطعة صماء، ولا يستطيع أن يعود نفسه الاكتفاء من هذا الماضي بشيء أو شيئين يعجبانه، ولا أن يعود نفسه إيثار فترةٍ ما ... بل على الشاعر أن يكون واعياً على التيار الكبير الذي لا يغير مجراه أبداً خلال أفذاذ المشهورين. مهما يصدق هذا القول على شعره (الذي كان أميل إلى الشمول والرحب دائماً) فهو في الحق لا يصدق على الاتباعية التي خلقها اليوت في نقده، فقد كانت اتباعيته هذه أحياناً كتلة صماء؟ هي الأدباء الأموات جملة؟ وقد كنت دائماص تفضيل فترة أو اثنتين؟ وفي المقام الأول روائيو عصر اليزابث والشعراء المتافيزيقيون؟ مع أنها لم تكن تجمع أفذاذ المشهورين وروائع الشهرة، فإنها لم تكن أيضاً التيار الكبير أو أجزاء من التيار الكبير؟ في الأقل -. (5) وأنا على وعيٍ باعتراض مألوف يوجه لجزء من منهاجي هذا، متصلٍ بمادة الشعر، وذلك الاعتراض هو أن هذا المبدأ يحتاج قدراً مضحكاً من الاطلاع أو (الحذلقة) وهو زعم يمكن رده جملة بالكشف عن سير الشعراء في أي " مقام ".... إن شكسبير قد حصل على مادة تاريخية هامة من فلوطارخس أكثر مما يستطيع تحصيله كثير من الناس من المتحف البريطاني جميعه. يحلو لاليوت أحياناً أن يدعي بأنه شاعر أو ناقد بسيط غير مثقف ترهبه الدراسات المتعمقة، فيتقدم بمثل هذه " المرافعة " المتواضعة: " ليس من اللياقة أن يتتبع الناقد الأدبي أثر هذه الدراسة عوداً، حيث تبدو موافقته لها أو خلافه معها نوعاً من الوقاحة ". مع ذلك فإن المثل الأعلى

لديه هو الذي ورثه عن بوند (الذي وصف نفسه ذات مرة بأنه آلة فيلولوجية بلغت حد الإرهاف) أعني الناقد الدارس. وعلى حسب مقاييس النقد المعاصر وبخاصة في أميركة يعد علم اليوت شيئاً متميزاً، وإن لم يكن له مثل إحاطة نقاد كجورج سينتسبري، هم علماء دارسون، في المقام الأول: فقد درس اليوت على بابت وسنتيانا في فارفارد، وأجيز في الفسلفة، وقرأ الأدب الفرنسي والفلسفة في السوربون، ودرس الفلسفة الإغريقية في اكسفورد، وقضى سنتين يدرس فقه اللغة السنسكريتية والهندية وسنة يدرس المتافيزيقيا الهندية. ومع أنه لا يحسن لغات بعدة ما يحسنه بوند، فإنه يقرأ في خمس لغات إلى جانب الإنجليزية وهي الإغريقية واللاتينية والإطيالية والفرنسية والسنسكريتية مع تفاوت في القراءة بين اليسر والعسر. وقراءته في هذه اللغات أوسع وأعمق حظاً من بوند، كما أن محصوله الفلسفي والعلمي يفوق محصول بوند دون ريب. (6) أما الذي يحدث للشاعر (من تمثله للماضي وتطوير وعيه به خلال الأيام) فهو إسلامه نفسه، على حاله هذه، لشيء أقيم وأكثر جدوى. ذلك أن تقدم الفنان إنما هو تضحية نفسية مستمرة، هو إفناء مستمر للذات. وهذه أيضاً من الأفكار الكاشفة عند اليوت، وهي نظريته عن الطبيعة اللاشخصانية في الفن، فهو يقول في موضع آخر من هذا المقال: " ليس الشعر إطلاقاً لسراح العاطفة وإنما هو هرب من العاطفة وليس هو تعبيراً عن الذات بل هرب منها ". فيجهد الشاعر جهده " ليحول آلامه الذاتية الخاصة إلى شيء خصب غريب، شيء كوني عام لا ذاتي ". وكل جهد الروائي هو " عملية سكب الذات أو بمعنى أعمق سكب حياة الأديب في الشخصية التي يخلقها ". ومع أن لهذا الكلام حظاً من الصدق المجازي

فإنه في المستوى الحرفي يمثل المقياس الجمالي عند رجل معذب، ذلك لأن لدى اليوت خوفاً يقينياً من الذات، بما في ذلك ذاته هو نفسه، وما هذا النظام المستحكم للإتباعية الأدبية إلا مهرباً منها. وظل عدة سنوات يرى أن إعلاء الذات عند الأدباء الرومانتيكيين مصدر لخطرٍ قد أطل. وبالتالي تحقق أن العدو الحقيقي هو البروتستانتية. يقول في كتابه " بحثاً عن آلهة غريبة ": " إن ما كنت أستقرئه متدرجاً هو هذا التصريح التالي: حين تكف الأخلاق عن أن تكون أمراً موروثاً سنياً؟ أي عادات للمجموعة، شكلتها الكنيسة، وصححتها، ورفعت من شأنها، بما لها من تفكير وتوجيه دائمين، وعندما يسير كل إنسان في الوجهة الخلقية التي كونها لنفسه، عندئذٍ تصبح الذات أمراً ذا أهمية مخيفة ". ومن الواضح أن الذي أدركه الرعب هو اليوت لا المجتمع. (7) وكلما كان الفنان أكمل، زادت سعة الخلف فيه بين الإنسان الذي يتعذب والعقل الذي يخلق، وأصبح في مقدور العقل أن يهضم العواطف التي هي مادته ويشكلها على وجه أكمل. يرى اليوت أن ليس الفن " تحويلاً " للألم والعاطفة فحسب، بل كلما كان الفن أحسن، كان التحويل أكمل، وهذا نوع من التطهير لنفس الفنان يوازي ما عند أرسطوطاليس منتطهير لأنفس النظارة (1) . وهذا في واقعه، وإن لم يلحظه اليوت أبداً، هو جوهر الفردية الرومانتيكية والبروتستانتية، هو النفعية التي ترى أن قيمة الفن مقدار الخدمة التي يؤديها لفرد متفرد اسمه الفنان. وهذا كله يقع على النقيض من الاتباعية

_ (1) إشارة إلى نظرية التطهير Katharsis التي جعلها أرسطوطاليس الغاية الأولى للمأساة.

ومن المقاييس الكاثوليكية " للمشاركة " التي يرمز إليها " العشاء الرباني ". (8) وستلحظون أن التجربة أي العناصر التي تدخل في حضرة الوسيط الكيميائي المحول (1) إنما هي نوعان: عواطف ومشاعر. إن تمييز اليوت بين " العاطفة " و " الشعور " بالغ الأهمية والغموض في آن. ويبدو أن العاطفة كائنة قارة في الشاعر نفسه أما الشعر فإنه مخبوء للشاعر في " كلمات وعيارات وصور خاصة ". ويتصل بهذه النظرية مبدأ " التبادل الموضوعي " الذي وضحه اليوت فيما بعد في مقاله " هملت ومشكلاته " من حيث أن التبادل الموضوعي حال أو موقف تكمن فيه " مشاعر " تعبر عن " عاطفة " الشاعر وتثير " عاطفة " مشابهة في القارئ (2) . وهكذا يجيء هذا الفصل بين العاطفة والشعور لكي يحول دون دخول " العاطفة " إلى الشعر خضوعاً لنظرياته عما هو لا شخصاني واتباعي، ثم يدسها في الشعر باسم آخر (وربما) بشكل آخر. (9) وسيخدمه في منحاه هذا العواطف التي لم يجربها، كالتي جربها. هذه إلماعة إلى مبدأ لا يتزحزح عنه اليوت متصل اتصالاً وثيقاً بمبدأ

_ (1) تحدث اليوت في مقاله عن تجربة كيميائية وهي وضع قطعة مصقولة من البلاتين في وعاء يحتوي الاكسجين وثاني أكسيد الكبريت، فإذا مزجت الغازين نجم عنهما حامض الكبريت ولا يتم لهما ذلك لولا وجود قطعة البلاتين، ومع ذلك فليس في الحامض الناتج أثر من البلاتين ولا في قطعة البلاتين أثر منه. فعقل الأديب هو البلاتين والتجارب هي الغاز المتفاعل مع الاكسجين، وهو يشير بهذا إلى التجاور والانفصال بين العقل الخالق والإنسان الذي يتعذب. (2) لتوضح هذا " التبادل الموضوعي " بمثل سلبي تصدى له اليوت (ص 145 من كتابه مقالات مختارة) وهو موقف هملت: ثار عملت (الإنسان) لأن أمه تزوجت من عمه بعد " مقتل " أبيه، يستطيع نقلها موضوعياً ليقنع الآخرين بصواب موقفه، ولذلك بقيت هذه العاطفة تسمم حياته وتعرقل إرادته؛ فهنا فقدت " الحتمية " الفنية التي تفرض التساوي بين هذه العاطفة الداخلية وبين ما هو في الخارج، ومن ثم لم يقع التأثير من حالة في أخرى " موضوعياً ".

" اللاشخصانية " وهو اعتقاد بأن الفن في أساسه نظام محكم الغلق، وأن مقاييس العقيدة أو مضاهاة الحقيقة لا علاقة لها به، وإذا كان دانتي يستند إلى نظام فكري مترابط بينا لا يستند شكسبير إلى ذلك فما ذلك (فيما يعتقد اليوت) إلا " مصادقة لا يقاس عليها ". إن الشاعر " ليصنع " الشعر عضوياً، ودون عقيدة، بالطريقة التي تصنع النحلة بها العسل أو تفرز العنكبوت بها خيوطها " والشعر الأصيل يستطيع أن ينتقل للمتلقي قبل أن يفهم " أو إنه في الواقع لا يفهم أبداً. وقد يعبر الشاعر عن حال جيله " مصادفة؟ وإن كانت مصادفة غريبة؟ بينا هو في الوقت نفسه يعبر عن حالة من أحواله مغايرة تماماً " (هنا يتحدث اليوت ضمناً عن تجربته هو في قصيدة " اليباب ") وهكذا. وقد صاغ اليوت هذه المبادئ في نظرية قريبة الشبه بنظرية رتشاردز عن أن " التوافق " الشعري لحظة قراءة القصيدة منفصل عن مسائل " العقيدة ". وقد تفوق اليوت على رتشاردز حين أضاف إلى نظريته: أن كل ما يختار الشاعر أن يعتقده فإنما يتقرر آلياً " وحينئذ لا يبقى لصحته أو كذبه؟ من إحدى النواحي؟ أثر في شيء، كما أن صحته من الناحية الأخرى تجد لها برهاناً ". وعلى هذا فقد يكون من المقنع المرضي ألا يكون للشاعر اعتقاد في أي شيء بل " يستعمل " أي معتقد يقع في متناول يده (1) . هذه هي إذن كل الموضوعات التي تطورت وأصبحت تكون نقد اليوت نظراً وتطبيقاً: (1) " الاتباعية " التي أصبحت تسمى " اتباع السنة " أو " الارثوذكسية ". (2) " والنظام " الذي أصبح فيما بعد " فكرة المجتمع المسيحي " (3) والنص على أنواع مفضلة من أدب

_ (1) لم يتوه المؤلف هنا بهذا الازدواج في شخصية اليوت، فإن اليوت الفنان يرى أن يكون الفنان شخصاً " غير مسؤول " يلبس لكل حالة لبوسها من عقيدة وما أشبه بينما اليوت الناقد يخدم بنقده غايات سياسة ومذهبية رجعية.

الماضي (والحاجة إلى التفسير والمعرفة التاريخية (5) والمبادئ الأربعة وهي: اللاشخصانية، واللاتناسب بين الفن والعقيدة، التفرقة بين العاطفة والشعور، التادل الموضوعي. وقد تكونت هذه الماتيح الأربعة؟ ظاهرياً؟ عن الحاجة إلى تجريد موروث من قرائنه التاريخية وإلقائه إلينا ليفهم على ضوء قرائننا الحاضرة، أما في الحقيقة فقد ينعكس السياق ونقول إن مبدأ " الاتباعية " نفسه لم يطور إلا ليمنح صبغة شرعية لحاجة اليوت الذاتية إلى فن " يطفئ " الشخصانية ز " يحول " الألم و " ويستعمل " العقائد دون أن يؤمن بها. إن الحاجة الملحة في نقد اليوت ليبدو أنها هي حاجته هو نفسه ليقيم من هذه العناصر الموضوعية؟ الاتباعية؟ اللاعاطفية؟ الشكلية، أربع دعائم " لطوار " يريح عليه جسمه، مثله في ذلك مثل هوبكنز عندما اعترف أنه في المرحلة الأخيرة من حياة إبداعه الفني لم يجد ما يتيح له قرض الشعر أبداً إلا الشكل الجافي للسوناتة Sonnet. ويمكن اعتبار كل مقالات اليوت توضيحعات للأفكار والطريقة الاتباعية التي رسم هيكلها العام في مقاله " الاتباعية والموهبة الفردية "، ويمكن اعتبارها فهرسناً واسعاً من التطبيقات والأمثلة. ونستطيع أن نرى اتباعية اليوت في دور التطبيق منذ أن أصدر كتابه " الغابة المقدسة " سنة 1920، وهو أول مجموعة من المقالات النقدية، وفيه ظهر مقال " الاتباعية والموهبة الفردية ". ويقول ف. أ. ماثيسون في كتابه " ماذا حقق ت. س. اليوت " " بهذا الكتاب؟ الغابة المقدسة؟ يبدأ، عوداً، الفحس الحديث المسهب المكبر عن صفة الشعر ومهمته ". وللكتاب تأثير تاريخي أعظم من التأثير الذي يحدثه في قراء هذه الأيام. ومن حسنات ذلك الكتاب، الاقتباس المستمر من النصوص الشعرية، حتى إن مقالاته ليست عملياً إلا اقتباسات مستفيضة من الأدباء ممتلئة بالمقارنات والشروح والتقويمات. وكان اليوت حينئذ يؤمن أن الشعر " متعة رفيعة " وغايته الكبرى " أن يمنح نوعاً خاصاً

من المتعة "، وأن المهمة للنقد هي زيادة المتعة الصادرة عن الشعر؛ وقد وصف نقد ذلك العهد وصفاً جافياً لكنه صحيح حين قال " إننا حين لا نتطلب المعرفة التي تحشى بها كراسات الطلبة بل نتطلب متعة الشعر ونبحث عن قصيدة فإننا قلما نعثر على واحدة ". وعندما نظر اليوت وراءه نحو كتاب " الغابة المقدسة " في مقدمة كتبها عام 1928 قيد هذه الملاحظة: إنه لتبسيط مصطنع يجب أن يتلقى بحذر، أن أقول: إن المشكلة التي تتحدث عنها هذه المقالات والتي تكفل لها حظها من التلاؤم لهي مشكلة تكامل الشعر، مؤيدة بالتأكيد المكرور على أننا حين ننظر إلى الشعر فلابد من أن ننظر إليه من حيث هو شعر لا أي شيء آخر. في ذلك العهد أثارتني وأسعفتني كتابات ريميه دي غورمونت النقدية، وأنا أعترف بهذا التأثير وأحس نحوه بالجميل ولست أنكره مطلقاً وإن كنت قد تجاوزته إلى مشكلة أخرى لم يمسها هذا الكتاب ألا وهي مشكلة العلاقة بين الشعر والحياة الروحية والاجتماعية في عصره وفي سائر العصور. وليس هذا القول دقيقاً لأن " الغابة المقدسة " يحدد بوضوح الموروث المبرعم الذي تفتح عن أفكاره الدينية والاجتماعية، ولكن هذه العبارة المقتبسة تلمح حقاً إلى تغيير واحد ذي بال وذلك هو أنه بالانتقال من الاهتمام بأمر " الشعر من حيث هو شعر " قل لديه الاقتباس من النصوص بل ربما اختفى، حتى إن آخر كتاب لاليوت متصل بالأدب وعنوانه " فائدة الشعر وفائدة النقد " يحوي أقل من مائة بيت من المقتبس أو أقل مما كان يقتبسه في مقال واحد من كتابه " الغابة المقدسة ". وقد كتب اليوت في مقدمة الكتاب الأصلي يقول: " إن من واجب الناقد أن يحفظ الموروث، حيث يكون هنالك موروث جيد ". وفي الفصول

الأخيرة من الكتاب بين أن الموروث الجيد موجود وأنه " أدب العصور العظيمة، أي أدب القرنين: السادس عشر والسابع عشر ". وكل خيوط الاتباعية تظهر في كتابه " الغابة المقدسة " بتفصيل، إلا شعر المتافيزيقيين الذين ظهروا لديه بعد الكتاب بعام (1921) في مراجعة كتبها عن مختارات انتقاها غريرسون من الشعر المتافيزيقي، وإلا دريدن الذي كتب عنه اليوت أول مرة سنة 1922. وخصص مقالة لدانتي، ولأربعة من روائي عصر اليزابث (وهم مارلو وشكسبير وجونسون وماسنغر) ، ولنقادٍ حاولوا أن يستعملوا اتباعية شبيهة باتاعية اليوت (ومنهم تشارلس وبلي وايرفنج بابت وبول إلمر مور وجوليان بندا) ، وخصص مقالة أخرى عن المظاهر المتنوعة للمسرحية الشعرية، وهي شغله الشاغل وعنصر كبير في اتباعيته. وهناك مقالان وقسم من ثالث في الكتاب ترسم ما يعتبره اليوت الموروث المناهض، ممثلاً في سوينبرن وبليك (1) ، فهو يعالج بليك باعتدال وبقسط وافر من الاعجاب ويعده " شاعراً ذا عبقرية " أخطأ طريقه ليكون " كلاسيكياً " مثل دانتي لأنه ولد في بيئة لا تناسبه، أما سوينبرن فإنه يضحي به شاعراً وناقداً وبذلك يقاوم الموروث " الرومانتيكي " ويصرعه أرضاً. أضف إلى كل هذه المقالات، مثاله " الاتباعية والموهبة الفردية " الذي يعد بحثاً عاماً، وقد يتعرض فيه لهذا أو ذاك من الأدباء الذين أفرد كلاً منهم بمقال على حدة. 3 - قد يكون مصدر اتباعية اليوت حاجة أدبية ولكن غاياتها اجتماعية ودينية، فعمله على تطبيقها وتوسيعها كي تشمل النواحي الاجتماعية والأدبية أمر يستحق الفحص. ومن الأسباب الرئيسية في ذلك أنه تحول إلى المذهب

_ (1) أكثر هذه المقالات مضمن في كتابه " مقالات مختارة ".

الأنجلو كاثوليكي. ويزعم هاري م. كمبل في دراسة عن اليوت نشرها بمجلة جبال روكي، صيف 1944، أن تحول اليوت تم مبكراً في سنة 1922 أي السنة التي نشر فيها قصيدة " اليباب "، وأصبح رئيس تحرير لمجلة " المحك ". أما على أي شيء اعتمد كمبل في هذا القول، فذلك ما لا أدريه، غير أني أعلم أن أول إشارة عامة أعرفها عن تحوله جرت سنة 1928، حين كتب اليوت مقدمة جديدة لكتابه " الغابة المقدسة " متخلياً عن " الشعر من حيث هو شعر " ونشر " من أجل لانسلوت أندروز " وفي مقدمته هذه العبارة الصارخة: إنه كلاسيكي في الأدب، أنجلو كاثوليكي في المذهب، ملكي في السياسة. أما الملكية فقلما تحدث عنها من بعد، وأما الكلاسيكية، إن كانت تعني شيئاً، فإنها ليست خبراً من الأخبار، غير أن تمذهبه بالأنجلو كاثوليكية هو الذي تملك عليه أمره، واصبح شغله الشاغل، وتمخض له عن جاه اجتماعي عريض. ولما أعاد اليوت نشر كتابه " من أجل لانسلوت أندروز " باسم " مقالات قديمة ومحدثة " سنة 1936 أسقط المقدمة: " التي أدت أكثر مما قدر لها ". ولم يكن عمله هذا نوعاً من التنكر للعقائد، فقد وضح من بعد في كتابه " بحثاً عن آلهة غريبة " أن اعتراضه عليها إنما كان للتركيب الجائر الذي سكبت فيه عبارتها، وهو تركيب أتاح للناس أن يستنتجوا أن الموضوعات الثلاثة متساوية لديه في الأهمية، وأنه يقبلها جميعاً على أسس واحدة، أو أنها إما أن تبقى معاً أو تذهب معاً. غير أنه عندما أمعن فيها النظر وجد واحداً منها يعني " الإيمان " أما الثاني والثالث فليسا إلا " المبدأ السياسي " و " الطريقة الأدبية "، فوضع الثلاثة معاً كأنهما في " موقف مسرحي " خطر أي خطر. إن العبارة الأخيرة لتلمح إلى الصعوبات التي واجهها اليوت؟ فيما يبدو؟ في تحوله المذهبي؛ فالعقائد الدينية للمرء وعلاقاته بخالقه (إن

كان يعتقد أن له خالقاً) إنما هي مما يهمه هو نفسه، ولكن عندما تصبح مثل هذه الأمور وجهة نظر ومصدراً للدعاوة في النقد الأدبي فإنها تستدعي المناقشة. حقاً إن اليوت لم يشأ أن يتحدث عن تحوله كتابةً ولكن هناك ملمحاً من العسر، لا يخفى في شعره الأخير، بل يتضح في تصريحات محنقة متبرمة تشير بكل وضوح إلى الذات، كذلك الذي قاله في تحول هوبكنز: " إذا حول المرء مذهبه، في أي حال، فقد يمكنه ذلك التحول من أن يستمتع بأماني الخلاص الذاتي، ولكنه لن يمنحه، إن كان أديباً، ما عجزت عن منحه له أرومته ووطنه طوال عدة أجيال ". ومنذ عهد مبكر (1927) أظهر فرنسيس فرغسون في " مجلة القافلة الأميركية " The American Caravan بعض المتناقضات في طبيعة اليوت، وهي: " فردية رومانتيكية في الأخلاق، ونظام صارم في الفن؟ إيمان عاطفي يساويه غنوصية (1) عاطفية؟ فهم عميق للخلق الفني، وعجز عن الهرب من الذاتي في شعره ": كذلك وصف ر. ب. بلاكمور المتناقضات بين طبيعة اليوت وتحوله المذهبي، وعندما تحدث عن عقل اليوت قال: " إنه آخر عقل كان يتوقع له المرء في هذا القرن أن يدخل الكنيسة، في زي غير كهنوتي، ذلك لأن دنيوية أدواته النثرية، واطمئنان موقفه، وألمعيته ولماحيته للحقيقة الأخاذة، وموهبته على أن " يستنزلها وهي طائرة "، تكاد لا تتمشى أبداً مع ما نسميه اليوم " الشعور الديني الإنجليزي الأميركي ". ولقد قاده تحوله إلى موقف غريب. فليس هو مثل رانسوم الذي يقر بأن ما اجتذبه إنما هو الشعائر في الدين بل إنه مثل هيوم Hulmo من قبله منجذب إلى العقيدة، أي إلى الرغبة في صلواتها، وهو يراها

_ (1) الغنوصية توقف عن الجزم بأن هناك إلهاً أو بعثاً.

هامة لأنها في نظره أصل المسرحية وقاعدتها (درجات من القيم فيها شيء من روح " أليس في بلاد العجائب ") . وهو؟ من ناحية؟ منجذب إلى رومة بشدة، وكثيراً ما تبدو كنيسته سامقة، حتى إنك لا تستطيع أن تصعدها. مثال ذلك أنه مقاله " أفكار على طريقة لامبث " (1) " يأسف " لأن الأساقفة الانجليكانيين " قد اتكأوا كثيراً على الضمير الفردي " في موقفهم من مشكلة تحديد النسل. وهو من الناحية الأخرى لا يزال يحتفظ ببقايا قوية من البروتستانتية المتبررة التي كان يدين بها ف عهده الأول؛ وآية ذلك أنه دائماً يقاوم السلطة دفاعاً عن وحيه الذاتي، بل إنه صرح بمبدأ " كل امرئ ناقد نفسه " (ومن الطريف أنه صرح به في خطابه عن الدين والأدب) وهو مبدأ يمكن أن يعد جوهر البروتستانتية (ومما قاله: يجب علينا جميعاً أن نحاول لنصبح نقاداً، ولا نترك النقد في أيدي الذين يكتبون مراجعات في الصحف) . وفي مذهب اليوت مضامين اجتماعية تتراوح بين الإقطاعية والفاشية المباشرة (2) . فقد رسم هيكلاً لدولة كنسية، تشرف على التعليم فيها منظمات رهبانية، ويكون أمر تحديد النسل فيها مسلماً للكنيسة، وتقام الرقابة فيها في قصر لامبث (3) وهلم جرا. وهو أنموذج من الحكومة

_ (1) راجع هذا المقال في " مقالات مختارة ": ص: 353 وما بعدها. (2) لابد لنا من أن نقر بأن اليوت إذا اضطر للاختيار فإنه أحياناً يختار المضامين الاجتماعية لا الدين، وفي العقد الثالث من القرن ظل لعدة سنوات يساند تشارلس موراس C. Maurras وصحيفته المسماة " العمل الفرنسي " Actuon Francaise في مجلة " المحك " Criterion فنشر لموراس نفسه مقالاً في عدد يناير (كانون الثاني) 1928 وأثنى عليه لأنه في رأيه مثل خير من موسوليني يحتذيه الفاشيون البريطانيون. ولما أدانت الكاثوليكية موراس وصحيفته لأنه تقدم بمبدأ ينادي بأن الكاوليكية " مفيدة " للدولة الملكية أو الدكتاتورية، دافع عنه اليوت بقوله أن موراس " مهتم بمظهر ليس من الضروري أن يكون مسيحياً، من مظاهر الكنيسة الرومانية، لأن وجهة نظره هي وجهة نظر الفيلسوف الغنوصي ". وقد أوضح دلمور شفارتز أن كون الإنسان كاثوليكياً، وليس من الضروري أن يكون مسيحياً (بل يكفيه أن يكون ملكياً) أمر ممتع حقاً. (3) هو المقر الرسمي لرؤساء أساقفة كانتربري منذ عام 1197.

يشبه حكومة إسبانية وحكومة فيشي الفرنسية. ولعل من الطريف أن اليوت وجد لذة عظمى حين أشاع في رسالة بعثها إلى محرري مجلة البارتزان عدد مارس؟ أبريل (آذار؟ نيسان) 1942 أن حكومة فيشي قد حرمت تداول مؤلفاته، وهي إشاعة لم تجد ما يؤيدها من عهدئذٍ. والحق أن الدولة المثالية في نظره هي؟ بصراحة؟ دولة إقطاعية. وترسم محاضراته عن " مثال المجتمع المسيحي " وغيرها من المقالات الحديثة مجتمعاً إقطاعياً مطبوعة بالمثالية (إن كلمة " مثالي " و " مطبوعاً بالمثالية " أساسيتان هنا لأن اليوت يعترف بأن كلمة " مثال " في عنوان مقاله، واردة بالمعنى الأفلاطوني) ؟ " أي مجموع مستغنية بنفسها، مرتبطة بالأرض، وحاجاتها مرتكزة في مكان واحد ". وللأرستقراطية في كل هذا دور محدد، ذلك أن اليوت يؤمن؟ حرفياً؟ بما يسمى " دم الملوك " الذي ينتج " سلوكاً ملكياً راسخاً " كما يؤمن " بأرستقراطية النسب " و " الصفوة المختارة " وما إلى ذلك. ولا ريب في أنه يؤمن بالاستعمار بل يؤمن بالمبدأ الفاضح الذي نادى به كبلنج (1) ، وهو " يعطف سليقة " على العلاجات الرجعية في الاقتصاد من مثل " نظام التوزيع " و " إصلاح القروض " و " الدعوة إلى التسوية في توزيع الأرض في الجنوب الأميركي ". بل هناك ما هو أردأ من ذلك، " لأنه ليست لدي موهبة التفكير المغلق "، فإنه لا يتردد عن أن يمزج مبادئ تشسترتون وماجور دوغلاس ودونالد ديفدسون و " غيرهم من القوميين الإسكتلنديين " في رفد " ضخم " ويقلبها ويذوقها. ويؤمن اليوت على وجه التحقيق بأنواع من عصبية العرق، ومجتمعه المسيحي لن يسمح " بهجرة الغرباء " و " الأجناس الغريبة " التي خربت أقساماً من الولايات المتحدة، وبخاصة

_ (1) أي مبدأ كبلنج بأن هناك " Losser Breeds without the law " وهي الدعوى الاستعمارية الفاضحة بأن من واجب الدول الراقية أن ترعى " القطعان " التي لم تنل حظاً من الرقي.

نيويورك، وقد يجد مجتمعه " أن كثرة من المفكرين اليهود الأحرار غير مرغوب فيهم " وهلم جرا. وكل هذا يضاف، لا إلى الفاشية تماماً، بل إلى نوع من العبث بها عبثاً متفحصاً عابراً قلقاً. وهو يقول في وصف خلقية الفاشية: " إنها قادرة على كثير من الخير في حدود "، وإن المغالطة متعينة الوجود في الديموقراطية ولكنها في الدكتاتورية محتملة الوجود، وإن الفاشية لتهيئ خلاصاً عاجلاً ولكنه ربما كان خادعاً، وإن للجنرال ج. ف. ك. فلر 0 وهو فاشي بريطاني باعترافه؟ ملء الحق في أن يدعو نفسه " مؤمناً بالديموقراطية " كأي فرد آخر، وإن النازيين أصابوا حين أعادوا النساء إلى المطابخ وتربية الأطفال والكنائس. ويميل اليوت إلى " الدولة النقابية " (1) إذا لم تكن " وثنية " (أي ظناً، يميل إلى حكومة فرانكو وسلازار وموسوليني وبيتان ويرفض حكومة هتلر) وعلى أية حال " فما الفاشية إلا ديموقراطية بلغت أقصى الحد في الانحدار ". ويبدو أن مبدأ الاتباعية عند اليوت ليس أساسه إلا سلاحاً لتحقيق هذا المجتمع المنفر البغيض، فمهمة النقد الاتباعي فيما يقول، هي " تحقيق النظام " أما عدوه فهو الفوضى، ومعنى هذا في لغة أدبية خالصة أن نجعل الناقد سوط عذاب ينصب على " الرومانتيكي " و " الهستيري " وما إلى ذلك، وبهذا الأخير يصبح ناقد مثل اليوت " متعقباً للزندقة " " متربصاً للسحرة " فيطلع على الناس بهذه المرثية العامة: " لقد أفسد الأدب الحديث كله ما أسميه النزعة الدنيوية "؟ و " أنا في شك من أن يصبح قارئ الأدب الحديث رجلاً صالحاً "؟ ويعلن أن دوره بصراحه هو دور " المصلح الأخلاقي ". ويتعقب اليوت بدعاً معينة بل الحق أن سلسلة

_ (1) Corporative State وهي نظرياً مثال الدولة الفاشية بإيطالية (1924 - 1943) وتكون السلطة فيها في أيدي مجموعات، تضم كل مجموعة أصحاب رءوس الأموال والعمال في ناحية.

المحاضرات التي سماها " بحثاً عن آلهة غريبة " ليست إلا حديثاً في الزندقة الأدبية الحديثة مذيلة بفهرست ممتع يضم أربع عبارات زنديقية استمدها من مصادر شيطانية مثل هربرت ريد والتايمس اللندنية، ويصرح أن غاية الأدب هي محاربة مذهب حرية الرأي. وعندما سلط اليوت نقده السديمي المستطيل على جرارد مانلي هوبكنز، وهو أسقف يسوعي، فهو نظرياً إذن يستحق التبجيل، وحين أجمل هذا النقد كله بكلمة ختامية قال فيها: " إن هوبكنز في هذا الصراع كله لم يقدم لنا إلا عونا ضئيلا "؟ عندئذ كان اليوت يصرخ بأنه لا يكترث بالقيم الجمالية وحدها في تقدير العمل الفني. ترى كم من اهتمام اليوت بالشعر الذي يلقى قبولا عند الجماهير، دعاوي محض؟ أي إلى أي حد ليس يعنيه إلا أن يجد عددا كبيرا من المستمعين لمبادئه الدينية والاجتماعية؟ إن الحدس في هذه الناحية ليبدو طريفا ممتعا. غير أنه لا ريب في أن اليوت مشغول البال بمسألة جمهور كبير يستمع للشعر، وفي ذلك يقول: " أعتقد أن الشاعر يفضل؟ طبيعيا؟ أن يكتب لأكبر جمهور ممكن، وأكثره تنوعا. وأكثر من يقف في طريقه إنما هم أنصاف المتعلمين أو حثالة المتعلمين لا الأميون، وإني لأفضل أن يكون جمهوري ممن لا يقرأون ولا يكتبون ". ثم وسع في هذا الرأي ونماه على شكل نظرية تقول: " إن الأديب في حاجة إلى ثلاثة جماهير تشترك في مركز واحد، جمهور صغير له مثل حظ الشاعر من الثقافة والذوق، وجمهور كبير بينه وبين الشاعر متكأ مشترك وأخيرا لا بد من أن يكون ثمة شيء مشترك بينه وبين كل ذي ذكاء وإحساس يستطيع قراءة لغته ". ويتخذ هذا الاهتمام بجمهور كبير للشعر شكلا رئيسيا آخر يتمثل في اهتمام اليوت بالمسرحية الشعرية، فمسرحياته المنظومة تؤدي مهمات متشابكة. وقد أقر اليوت أن الشخصيات في المسرحية " إنما تمثل بوجه

ما، عملا أو صراعا في روح الشاعر لبلوغ الانسجام، دون أن تتخذ ذلك شكلا واضحا ". فالأدباء الذين يمزق الصراع نفوسهم ينزعون إلى نسجه في الشكل الحواري من المسرحية. ومسرحيات اليوت تحقق هذا الذي يقوله، ومن أمثلتها الجلية مسرحية " جريمة قتل في الكاتدرائية " Murder in the cathedrol. وقد أبان ماثيسون أيضاً بمراجعته " للمقامات الرباعية الأربع " Four Quartet أن اليوت قد جعل شعره الأخير، وبخاصة القصائد المذكورة، أقل روحا مسرحيا وأكثر تأملا (أي " أثبت وأدق غاية ") من شعره الأول وذلك بأن جعل دوافعه المسرحية وقفا على قصائده المسرحية الخالصة. وأهم من هذه الوظائف الخاصة التي تؤيدها المسرحية، وظيفتها العامة عند اليوت، وتلك هي مقدرتها على أن تجمع بين الشعر والدعاوة متنكرة في لبوس المتعة العامة. وهو يريد للمسرح تعبيرا شعريا " نستطيع أن نسمع فيه كلام الأحياء المعاصرين، وبه تعبر الشخصيات المسرحية عن أخلص الشعر دون حذلقة، وبه تستطيع أن تنقل أبسط رسالة شعبية دون تفاهة ". وفي قاعدة هذا الأمل عند اليوت نظرية متصلة بنظرية في جماهير الشاعر ذات المركز المشترك، وهي أن المسرحية الناضجة، ولنقل إنها واحدة من مسرحيات شيكسبير، إنما تكون ذات عدة " مناسيب من الأهمية " - فهناك العقدة لأبسط المشاهدين، والشخصية لمن هم أكثر فكرا، والتعبيرات والكلمات لمن هم أميل إلى الناحية الأدبية، والإيقاع لمن هم أشد سواهم حسا موسيقيا، أما الجماهير المعرقة في الإحساس والفهم فنصيبها من المسرحية معنى ينكشف لها خطوة إثر خطوة ". ومما يجري في سياق هذا، قوله في موضع آخر إن لهاملت ومكبث وعطيل دع عنك أوديب (ملكا) (1) " متعة الهزة في الشعور " كالتي في الروايات البوليسية.

_ (1) Oedipus Tyrannus إحدى المآسي التي كتبها سوفوكليس وقد أثنى عليها أرسطو طاليس في كتاب الشعر وعدها المثل للمأساة. وهي تصور جانبا من قصة أوديب وترمز إلى عجز الإنسان أمام القدر الذي يقذف به من حالق عزه إلى الحضيض دون علة واضحة.

ومن أبرز مقالات اليوت مقالته " ماري لويد "، وفيها يحدد وهو ينتحل العلاقة المثالية التي يراها بين الفنان والجمهور: أما الجمهور فهو طبقة اجتماعية متلاحمة، يتحدث الفنان عن حياتها وآمالها ويعلو بها إلى مرتبة الفن، ويمنحها رفعة؛ وأما الفنان فإنه مستساغ محبوب ودائما مفهوم؛ وهما معا؟ أي الجمهور والفنان؟ متساندان في خلق الفن. ويكاد هذا كله ينم عن حرقة أديب ينظم شعرا معقدا غامضا إلى أن يجد كثيرا من القراء، وأن يقبل عليه الناس في مجالات كبيرة من المجتمع، تنزع إلى أن لا تسمع باسمه. وفي هذا أيضاً عنصر من خطة دعاوية واعية. وقبل ذلك بسنوات كتب اليوت في " الغابة المقدسة " يقول: كانت مسرحيات عصر اليزابث موجهة إلى جمهور يتطلب تسلية من نوع جافٍ، ولكنه يتقبل قسطاً كبيراً من الشعر. أما مشكلتنا نحن فيجب أن تكون تناول شكل من التسلية وإخضاعه لإجراء يجعل منه فناً. ولعل كوميدي القاعة الموسيقية هو خير ما هنالك في هذا المقام (1) .

_ (1) هناك وثيقة أهم من هذه، وهي قطعة من رسالة إلى عزرا بوند نشرت في Townsman يوليه (تموز) 1938، وصراحتها العظيمة في الموضوع، مجتمعة إلى أسلوبها غير المألوف تجعل منها أنموذجاً خلاباً لما نستطيع أن نحصله من المراسلات المنشورة التي تبودلت بين اليوت وبوند. وهذه هي: رأيي في كتابة لك مسرحية لا يزيد عن: 1. - أنه لابد لك من أن تملك انتباه الشهود طوال الوقت. 2. - فإذا فقدته فعليك أن تستعيده - أسرع! 3. - كل شيء عن العقدة والتشخيصات وكل ما قاله أرسطوطاليس وغيره أمور ثانوية بالنسبة لما تقدم. 4. - ولكن إن كنت تستطيع أن تمتلك انتباه الجمهور الأحمق، فإنك تستطيع أن تمثل أي العبانيات حين تنصرف عنك أبصارهم، وما تعمله من حيث لا يشعرون هو الذي يجعل مسرحتيك " خالدة " مدة من الزمن. فإذا حصل الجمهور على المنظر الذي يمسك عليه انتباهه، منظر امرأة تتجرد من ثيابها قطعة إثر قطعة، على نغمات الموسيقى، فقد ينساغ له الشعر. 5. - فإذا كتبت مسرحية منظومة فلابد من أن يكون الشعر وسيطاً تنظر من خلاله، لا زينة جميلة تحدق فيها.

لقلما تجد نقاداً واعين، مثل اليوت، على أنهم يخلقون موروثاً ويستعملونه إلا أن ناقد يجرد، وهو يجرب مجالات الماضي، أولئك الأدباء وتلك الآداب التي تعن شيئاً ما عنده في الحاضر، فيخلق موروثاً فعالاً أو جزءاً من موروث لنفسه ولغيره من الأدباء وهناك عدد من النقاد في أيامنا هذه وبعضهم يدرك، مثل اليوت، أنه يخلق موروثاً، قد أعادوا تفسير ماضينا الأدبي، وتوصلوا إلى نتائج متباينة، وتباينها يوضح أن اليوت قد قدم لنا " اتباعية " ما ولكنه لم يقدم " الاتباعية " (وقد حاول هربرت ريد مساعد اليوت في تحرير مجلة " المحك " أن يوازن اتجاه اليوت بخلق اتباعية " رومانتيكية " مناقضة، مغفلاً كل من وقع بين شكسبير ووردزورث في كتابه " أطوار الشعر الإنجليزي " وفي غيره من كتب) . ويبدو أن التكتل وراء هذا الموروث أو ذاك إنما يكمن فيه دافع سياسي فهناك عدد من النقاد بنوا ماضياً يستعمله أصحاب اليمين وآخرون نظموا ماضياً آخر يستعمله أصحاب اليسار. غير أن هناك مجموعة ثالثة من أصحاب التفسير الاتباعي ليست سياسية؟ فيما يبدو؟ أو لعلها سياسية من بعيد، همها الأول أن تخلق ماضياً حيادياً في السياسة يستغله الفنان. وأهم نقد اتباعي معاصر يتجه نحو اليمين بالإضافة إلى نقد اليوت هو أعمال مدرسة الجنوب، مدرسة جون كرو رانسوم وألان تيت

وهي مجموعة غير وثيقة الترابط، تضم كلينث بروكس وروبرت بن ورن كما تضم عدداً من نقاد الشباب البارزين. ومر على هذه المجموعة عهد كان لها فيه برنامج سياسي محسوس يشمل الإقليمية الجنوبية، ومبدأ المساواة في توزيع الأرض بالجنوب. وفي ذلك العهد كانت الجماعة ترى في دونالد ديفدسون قائداً لها. ومزايا هذه المجموعة على الاتباعين الرجعيين المتفرقين أمثال ونترزوبوند ووندهام لويس واليوت نفسه، أن فيها مواهب متعاونة وأن لها مركزاً تصدر عنه في جامعتين أو ثلاث بالجنوب ومراكز ترقى إلى درجة " المعسكرات " في الجامعات الشمالية، وأنه كان لها دائماً صحيفة أدبية ممتازة أو اثنان، فكان لها أولاً " المجلة الجنوبية " The Southern Review تحت إشراف بروكس وورن من 1935؟ 1942 ثم مجلة كينيون Kenyon Review بإدارة رانسوم بدئت سنة 1939 ولا تزال تصدر ثم مجلة سيواني Sewanee Review التي تولى الإشراف عليها تيت منذ 1944 واستمر بها آخرون. وكل هذه المجلات قد أفسحت صدرها (كما فعلت Criterion التي رأس تحريرها اليوت) لأشد الآراء. تبايناً، وأكثر وجهات النظر اختلافاً، جنباً إلى جنب مع آراء أصحابها. وربما كان قائد هذه الجماعة حالياً هو جون كرو رانسوم الذي درس تيت بكلية فندربلت، وكان بحكم مرانه العلمي وميله الفلسفي وسعة اطلاعه، وذكائه الوقاد، المفلسف النظري للجماعة. وقد كتب رانسوم كتاباً في الدفاع عن " الأرثوذكسية " بعنوان " الله دون رعد " God Without thunder (1930) وفيه ثغرات غريبة في معرفته الدينية (فهو أول كاتب في اللاهوت يمزج بين فكرة الولادة من غير دنس، والولادة من غير أب) وعلى هذه الهنات، فالكتاب هجوم ممنطق حيوي على العدو الذي يمثله الرأي، والطبيعة والعلم (وبخاصة الأنثروبولوجيا) ومذهب حرية الرأي. وغرضه في الكتاب محدد بقوله: " إنه يريد

أن يكسب الناس بخطة جديدة ". وهذا المبدأ اليسوعي قد استمر فيما يبدو، في كتابيه التاليين وهما " جسم الكون " The World " s Body (1938) " والنقد الجديد " The New Criticism (1941) . واتباعية رانسوم تشارك اتباعية اليوت في التبجيل الذي تغدقه على دن، وتفترق عنها في أداء احترام؟ بقدره؟ لملتن واحتقار شاذ لشكسبير (الذي لم يكن؟ من جراء افتقاره إلى " النظام الجامعي " وإلى اطلاع ملتن ودن إلا " هاوياً "، وأديباً ينظم مقطوعات Sonnets " سيئة التركيب "، وشاعراً متخلفاً ضئيل المكانة) أما مفتاح النقد عند رانسوم فهو المصطلح " أنطولوجي " (1) Ontological، ويبدو أنه يعني به الدراسة النقدية للمبنى الشعري أو منطق القصيدة وعلاقاته بما يسميه " السياق الشعري " أو جزئيات القصيدة. ونتيجة لهذا الاهتمام بالمبنى وبعلاقات السياق البنائي كان رانسوم الموجه الأول لقراءة النصوص الشعرية ودرسها بدقة. (وهو موقف يشبه موقف ف. ر. ليفز بانجلترة) مع أنه لم يصدر بما يناسب هذا الاهتمام إلا قليلاً من النصوص المدروسة، إذ كرس همه إلى البويطيقا والمشاكل الفلسفية في العقيدة والمعرفة في الشعر، فإن أثره كان شاملاً، كما كانت القراءات التي أصدرها بنفسه ممتازة بعامة. وعلى أن اتباعيته تتضمن توجيهاً دينياً وسياسياً، فقد نص؟ مناقضاً لاليوت؟ على أن المقاييس الخلقية في النقد دخيل (وكذلك هي المقاييس الدراسية

_ (1) أي يتعلق بذلك الفرع من المتافيزيقا الذي يعنى بطبيعة الحدوث أو الحقيقة. يقول رانسوم في كتابه " جسم الكون ": " يميز شعر من شعر بموضوعه ويميز الموضوع " بانطولوجيته " أو " حقيقة وجوده ... ولذلك ربما كان النقد متكئ على التحليل الانطولوجي كالذي عناه كانت ". ولابد للقارئ من أن يتذكر أن أرفع أشكال الشعر عند رانسوم هو الشعر المتافيزيقي مثل قصيدة " تقديس " لدن وقصيدة ليسداس Lycidas لملتن. وهو الشعر الذي يستطيع أن يوقظ الانتباه على وضع جديد لحقيقة مألوفة، بما يتكئ عليه من طريقة مجازية أو إبهام، هو الشعر الذي يعتمد مما يسميه رانسوم " Miraculism " أي ما له خصائص المعجز العجيب ".

واللغوية والتاريخية والانطباعية وغيرها) وأن اهتمام الناقد يجب أن يكون جمالياً فنياً. (من الطريف أن نلحظ في هذا المقام كيف أن الأثيرين لديه من الشعراء وهما دن وملتن كانا داعيتين دينيين وسياسيين وأن الشاعر الذي يحط رانسوم من قدره؟ أعني شكسبير؟ كان أقرب شيء إلى ما نسميه نحن اليوم " الأديب الجمالي ") . وأكمل ألان تيت عدداً من اتجاهات رانسوم (وبعضها كان هو الذي وضع أصوله باعتراف رانسوم نفسه) وطور لنفسه نزعات جديدة. فتناول؟ مثلاً؟ مبدأ رانسوم " علم جمال الأقليمية " فحاول أن يوجد نقداً إقليمياً مائزاً، كأن يفسر؟ مثلاً آثار أملي ديكنسون على أنها نتاج نيوانجلند. ومع ذلك فإنه لم يطور الاتباعية في اتجاه أدبي واضح. وفي المجموعتين من المالات والمرجعات اللتين نشرهما باسم " مقالات رجعية في الشعر والفكر " Reactionary Essays on Poetry and Ideas (1936) و " العقل في جنون " Reason in Madness (1941) قسط كبير مخصص للمشكلات الاجتماعية والسياسية والتعليمية. بل لقد طور برنامجاً يدعو إلى " الرجعية " و " العنف ". (ومن الإنصاف أن نقول إن العنف الذي يريده ليس هو استعمال البنادق في الشوارع بقدر ما هو عنف كلامي.) وصرح بمقاومته للعلم والفلسفة التجريبية وانقد العلمي في مصطلح أعنف من الذي استعمله رانسوم، ثم إن القدر الضئيل الذي حققه من القراءات الفنية للشعر قد حققه؟ مثل رانسوم؟ على مستوى عال. أما الذي ثبت على تطبيق مبادئ هذه الجماعة على الأدب فهو كلينث بروكس الذي يظهر فيه تأثير اليوت بأكثر من أي فرد آخر من أقرانه. وفي كتابه النقدي الأول " الشعر الحديث والاتباعية " (1939) Modern Poetry and Tradition حاول مثلما فعل ونترز أن " يراجع " تاريخ

الشعر الإنجليزي على منهج مشابه لمحاولة أخرى أقل وضوحاً، بدلها اليوت، وحاولها ليفز في كتابه " تقويم جديد " Revaluation. ولابد من أن نعترف بأن بروكس ناقد انتقائي ذو حدة حقيقة وقد أقام، مستعيناً بكل ناقد محدث نقريباً، اتباعية عمادها " قوة اللمح الساخر " (1) وهي تضم؟ في المقام الأول؟ أدب القرن السابع عشر اد والمتافيزيقيين وجونسون وهريك وغيرهم، وأدب القرن العشرين أي هاردي وييتس واليوت وعدداً من المعاصرين الآخرين. وفي هذا الكتاب الأول تبدو اتباعية بروكس على خلاف اتباعية اليوت، فهي قد تغفل أواخر القرن السابع عشر وكل القرن الثامن عشر والتاسع عشر (باستثناء أفراد متفرقين مثل سويفت وغاي وبليك وأملي ديكنسون وهوبكنز) وقد تستهين بكل من دريدن وبوب ولا تقبل إلا قطعاً متافيزيقية أو لماحة السخرية لشعراء من طراز ملتن. ويصور هذا الكتاب، أثناء تكوينه لهذه الاتباعية، طبيعتها، بدراسته المتمعنة للنصوص، وبمقتبسات مختارة من خير ما أنتجه عدد من النقاد، وبنصوص شعرية، وبخاصة من مثل " اليباب " لاليوت، وبعض شعر ييتس الغنائي. وفي سنة 1943 أصدر بروكس كتاباً ثانياً سماه " الزهرية المحكمة الصنع " فأكمل به هذين الاتجاهين وجعل لكتابه عنواناً فرعياً هو " دراسات في مبنى الشعر " وضمنه قراءات

_ (1) هذا تعبير غير دقيق لكلمة " Wit " تلك اللفظة التي احتشدت حولها معان كثيرة وفهمها كل ناقد حسب هواه، ولكنها على وجه الإجمال تعنى " القدرة على اللمح لأمور غير متكاملة أو غير متناسبة ثم ثم صياغة المعنى في شكل مفاجئ مدهش، ولا يخلو أن يكون ذلك مصحوباً بشيء من الحذاقة أو التهكم أو السخرية أو الجدة إطلاقاً ". وقد قال الدكتور جونسون في تعريفها: إنها شيء مألوف طريف في آن، شيء غير واضح فإذا عبرت عنه أقر من سمع التعبير بصحته وعدالته. وقد أنكر جونسون أن تكون هذه العقبة في أساس الشعر المتافيزيقي في القرن السابع عشر، ولكن إذا نظرنا إلى مفهومها عند النقاد المحدثين وجدنا أنها تلتبس بهذا النوع من الشعر (انظر التعليق السابق عن هذا الشعر وطبقه على هذا المصطلح " Wit ") . على أن النقاد بعد ذلك يتفاوتون في لمحها عند هذا الشاعر أو ذاك.

لعشر قصائد هامة تتراوح بين قصيدة دن " تقديس " Canonization وقصيدة ييتس " بين أطفال المدرسة "، مبرزاً درجات متفاوتة من الإحكام. وهذا الكتاب في الوقت نفسه يوسع من اتباعية بروكس الأولى ويعدل بها إلى وجهة أكثر رحباً، فإذا قصيدة بوب " اغتصاب خصلة الشعر " The Rape of the Lock ومرثية غراي، وقصيدة وردزورث عن ذكريات الطفولة، وقصيدة كيتس عن الزهرية الإغريقية بل حتى قصيدة تنيسون " أيتها الدموع، أيتها الدموع المتثاقلة "؟ إذ هذه كلها: " قصائد يحس كثير منا أنها قريبة إلى النهر المركزي للموروث ". ولقد اتسع لديه المفهوم الأول الذي استوحاه من اليوت أعني مبدأ " قوة اللمح الساخر " فأصبح يشمل " التهكم " و " إيهام التضاد " و " الرمزية " و " الغموض " و " المبنى الروائي "، حتى أصبح في الإمكان أن تعالج أي قصيدة على أنها نوع من الشعر المتافيزيقي.. ومن الطبيعي المتوقع؟ مع ذلك؟ أن تكون دراسة شعراء مثل دن وشكسبير وبوب أمثلة من الدراسة الدقيقة، أحفل وأحسن من دراسة شاعر مثل تنيسون أو ملتن (الذي كتب عنه مقالة بليدة جوفاء) . وهذا الكتاب؟ حسب تعريفه؟ تطبيق لأفكار رانسوم، في كشفها الفني عن المبنى الشعري، وتركيزها على الدراسة المستفيضة للنصوص، ونصها على أهمية دن والمتافيزيقيين، حتى إنه لمن الطريق، بعد هذا كله، أن نراه يهاجم رانسوم في بعض ملحقات الكتاب المخصصة لمسائل نقدية عامة، بأنه غير مرت في أفكاره، وأنه يبالغ في إعجابه بدن، وإن كان ذلك هجوماً معتدلاً. وفي سنة 1938 جمع بروكس وروبرت بن ورن مختارات من الشعر لطلبة الكليات عنوانها " فهم الشعر " Understanding Poetry وهي ترعى قدراً معيناً من الدراسة الدقيقة والتحليل للمبنى و " اتباعية بروكس " (والغالب عليها تفضيل الناحية الأخيرة، وذلك باختيار الأمثلة وحشد

الأسئلة " وترتيب الأوراق " بطريقة تكفل الفوز لدن والمتافيزيقيين على شللي والشعر الرومانتيكي) . أما نقد ورن نفسه، وهو غير كبير في الحجم، ولما يجمع في كتاب، فإنه أقل احتفالاً بالموروث الأدبي، وأميل إلى الموروث الأخلاقي، وقد ظل هذا الأمر كذلك منذ أن نشر مقالته The Briar Patch ضمن مجموعة مقالات عن ملكية الأرض عنوانها " سأحدد موقفي " I " ll take my Stand سنة 1930. وفيها احتج مستنداً على مبادئ خلقية لا يأتيها الباطل (1) ، بأن من الخطأ منح المساواة والتعليم العالي وأمثال هذين من ضروب الترف للزنوج؟ ظل هذا شأنه إلى أن نشر مقدمة لطبعة مصورة من قصيدة كولردج " أغنية الملاح القديم " في سنة 1946 قال فيها: إن القصيدة ليست إلا رمزاً أخلاقياً معقداً، وأدخل مقياس " الصدق " على فكرة كولردج " الخيال الخالص ". ولا ريب في أن أكبر ناقد معاصر خلق اتباعية تتجه نحو اليسار هو فرنون لويس بارنغتون. ويعد كتابه الضخم ذو الأجزاء الثلاثة " التيارات الرئيسية في الفكر الأميركي " والذي أبقاه موته المفاجئ ناقصاً، - يعد من الآثار الشامخة في الموروث الأميركي. والعنوان الفرعي لهذا الكتاب هو " تفسير الأدب الأميركي من أقدم عهوده حتى سنة 1920، " إلا أن كلمة " أدب " فيه مستعملة بأوسع معانيها، لأنه في حقيقته دراسة لتاريخ الاجتماع والأفكار الاقتصادية بأميركة، منعكسة في أدبها. وقد استنقذ بارنغتون الموروث الأميركي الحيوي المتمثل في الراديكالية والديموقراطية، المتنقل من روجر وليمز وفرنكلين وسام آدمز وتوم بين وجفرسون (عبر) وتمان والداعين لإلغاء الرق بأميركية إلى الأدباء الراديكاليين في هذا لقرن. وقد كتب بارنغتون كتابة رجل حر الرأي صادق اللهجة، كتابة تلميذ

_ (1) لا يخفى على القارئ أن هذا ضرب من التهكم.

من تلامذة جفرسون، يدافع عن " إعلان الاستقلال " وعن وثيقة الحقوق ضد الدستور، وأساس نظرته " حتمية اقتصادية "، اقتبسها من تين ومن أستاذ مغمور اسمه ج. ألان سمث (وهذا الثاني موؤلف كتاب عنوانه " روح الحكومة الأميركية "، The Spirit of American Government ظهر سنة 1907) أكثر من أن يكون استمدها من " المادية التاريخية " أعني نظرية ماركس، الشبه حتمية. وكتابه ناقص ضعيف في الناحية الجمالية، فهو يغفل بو (ويحوله للمحلل النفسي والأديب) ويشوه ملفل معتمداً على السيرة السخيفة التي كتبها ويفر، ويقصر أهمية ثورو على أنه ذو تجارب اقتصادية، ويعجز عن أن ينصف هوثورن، ويضحي بهنري جيمس. وقد يكون كل هذا وفق منهج مرسوم لأن بارنغتون مهتم بالأفكار، وهو يقر قائلاً " أما الأحكام الجمالية فلم أكن كثير الاهتمام بها ". غير أنه في كتابه نفسه خصص خمساً وعشرين صفحة لجيمس برنش كابل " ذلك الروح الساخر الرفيع الذي منحناه حتى اليوم " " غريب الأطوار مثل شو، مثير مثل تشسترتون "، إنه لرجل يمكن أن نقارنه بكارليل وتوين. ثم إن كتاب بارنغتون، حتى حين نحاسبه في حدود منهجه، مليء بالأخطاء. فهو يغفل ما أسداه الزنوج للتاريخ والأدب الأميركي، ويستخف بجون براون، ويتخلى عن الحتمية الاقتصادية من أجل أن يمدح كوبر (مع أن هذا كان المدافع الجهير عن حقوق الملاك المحافظين المتطرفين) لأنه اتفق له أن أعجب بعمله: وهو قادر على أن يقول في بريانت " ربما لم يكن شاعراً عظيماً، ولكنه كان أميركياً عظيماً ". وهو يرى في بنكروفت مؤرخاً أعظم من برسكوت وموتلي وباركمان لأن هؤلاء جميعاً كانوا " مثقفين من محتدٍ رفيع " " انعزاليين " وكان بنكروفت " الديموقراطي المكافح الوحيد بينهم جميعاً ". ومع كل ذلك فإن كتاب بارنغتون عمل جميل هام

ذو أثر واسع في جيله والأجيال الخالفة من نقاد الأدب، ولعله أول كتاب خلق موروثاص كاملاً راديكالياً ديموقراطياً اجتماعياً لدى الأدباء الأميركيين، لينافس الموروث الرجعي الارستقراطي الديني الذي أوجده إليوت ورانسوم وونترز وغيرهم. وهناك فريق ثالث من موجودي الاتباعية يتفاوت فراده في مدى إغفالهم الأهداف السياسية، وقد كان جل اهتمام هذا الفريق موجهاً إلى إقامة ماضٍ يفيد منه الفنان الخالق، وأحياناً يفيدون منه هم أنفسهم. ويندرج تحت هذه المقولة كتابان من أحسن الكتب أولهما " دراسات في الأدب الأميركي الكلاسيكي " Studies in Classic American Literature للورنس، وهو تفسير مغرق في النظرة الذاتية، مؤسس على الفكرة الأسطورية التي يؤمن بها لورنس وهي " التعرف الغريزي ". والثاني كتاب متأثر كثيراً بالأول وهو " في الخلق الأميركي " لوليم كارلوس وليمز، وهو إلى تفسير التاريخ الأميركي؟ من جديد؟ أشبه منه بتفسير الأدب. وليس فيه حديث عن أديب محترف إلا عن واحد هو بو، ولكن الكتاب مخطط؟ بصراحة؟ ليقيم موروثاً للأديب الأميركي. ويقول وليمز " وما ذلك إلا لأن الحمقى لا يؤمنون بأن لهم أصولاً صدروا عنها ". ومع أن أحكامه؟ بعامةٍ؟ غير تقليدية، إذ يعلي من شأن أشخاص مثل مورتون أف مريمونت وهارون بر (1) ، فإن كتابه كان ذا أثر في الأدباء لا ينكر، وأبرز من تأثر به هارت كرين وقصصي مؤثر اسمه جون سانفورد. ويجمع وليمز التاريخ الأميركي

_ (1) اختار هذين المثلين ليبرهن على أن وليمز لا يعبأ بمقاييس العرف التقليدية، لأن مورتون التاجر الإنجليزي لم يكن مرضياً عنه فقد اتهم ببيع الأسلحة للهنود، وفي سنة 1630 صودرت ممتلكاته، وتقلبت به الحياة كثيراً بين سجن واطلاق، وأما بر (1756 - 1836) فقد اتهم بالخيانة ثم برئ فرحل إلى انجلترة وفرنسة ثم عاد إلى وطنه.

حول قطبين، فيقع في حيز الأول: الهنود؟ الفرنسيون؟ الكاثوليك ويقع في حيز الثاني: البيض؟ الإنجليز؟ البروتستانت، وتتمشى مع الأول الحرية والمرح والخلق الفني، وتلزم الثاني الخشونة البيورتانية والكبت واصطناع الحشمة. أما رأيه في البيورتانية فإنه مبسط جداً معدول عن الصواب. وهو رأي يتميز به العقد الثالث من هذه القرن حين كانت البيورتانية خصماً للفنان، وإذا ذكرت انصرف الذهن إلى أنتوني كومستك (1) أكثر من انصرافه إلى جون براون. إلا أن الكتاب ليس فحسب من أجمل الآثار النثرية في عصرنا بل هو نظرة جديدة في القيم، مثيرة باعثة على الحيوية. وثمة مجموعة أخيرة؟ محدودة إلى حد ما؟ من هؤلاء النقاد الاتباعيين، يمكن أن نسميها بغير تأنق " النسابين الأدبيين " وهم النقاد الذين يحرصون على أن يذكروا " أنباء " هذا الأديب أو ذاك. وقد كانت هذه الطريقة دائماً إحدى الطرق التي يشغل بها النقاد وقتهم؟ منذ دريدن في أقل تقدير؟ وليس يكفيهم أنهم وجدوا سبنسر، ولكنهم وفقوا أعظم توفيق حين استطاعوا أن يردوا ولر إلى إدورد فيرفاكس. ولعل أكثر المعاصرين شغفاً بتتبع الأنساب الأدبية هو الناقد الفرنسي فردنند برونتيير الذي حاول أن يطبق في هذا المجال نظرية تطور حرفية مستمدة من علم الأحياء الداروني. ويظهر مؤلفه كيف أن الأشكال والمؤثرات تنمو وتتكاثر وتطور ثم تتلاشى كأنها فصائل حيوانية. وقد نمى بعض النقاد الإنجليز والأميركيين هذا التتبع للأنساب، وجعلوا منه طريقة، دون أن يغرقوا فيه إغراق برونتيير فمثلاً: قد يصرف هوراس غرغوري صفحتين وهو يتتبع أثر

_ (1) ذلك لأن كومستك هذا (1844 - 1915) شن حرباً " بيورتانية " على الأدب الشهواني المبتذل وألف جمعية " قمع الرذيلة "، وتسبب في القبض على 3000 شخص وحرق 50 طناً من الكتب.

" دون جوان " لبيرون في " جوليان سورل " لبيل وفي " جريجرز فيرل " أحد شخصيات ابن، و " جوان " عند شو، و " منيفر شيفي " لروبنصون، و " بروفروك " لاليوت. وليست مقالة سسل داي لويس " أمل للشعر " A Hope for Poetry إلا دراسة مستقصاة في الأنساب الأدبية، استعمل فيها المؤلف مبدأ أودن " عمي؟ جدي "، ووجد جذور الحركة الشعرية التي تنتظم أودن وسبنسر ولويس نفسه عند " أجداد " مختلفين مثل جرارد مانلي هوبكنز وولفرد أون واليوت. وما " الجد " عند داي لويس إلا " النسبة الوطنية الممكنة أي الرابطة الضرورية بالماضي أي معنى الموروث ". وهناك شاعر ناقد إنجليزي شاب اسمه فرنسيس سكارف وهو " نسابة " دائماً، يرد ديلان توماس إلى جويس وفرويد والتوراة، ويرد السريالية إلى رامبو ونرفال ولوترمونت وهكذا. أما المتخصصون في الأدب المقارن مثل ماريو براز فهم نسابون دائماً، ذهاباً مع ميلهم الدراسي لا النقد. 5 - هضم اليوت المؤثرات الخارجية في يسر، وبجهد ظاهره ضئيل، حتى ليبدو وكأنه أبو عذرة كل ما صدر عنه. غير أن آثاره تعتمد الاستمداد من غيرها كثيراً. وقد أثر في نقده عدد من معاصريه تأثيراً كبيراً. وفي أول القائمة من هؤلاء يجيء طبعاً عزرا بوند، فمنه ورث اليوت طريقته التفسيرية، وطريقته في الدراسة المقارنة، وفكرة الناقد العالم. ومما يستحق التنويه أن دعوة اليوت في إحدى مقالاته الأولى " يوربيدس والبروفسور مري " إلى دراسة تتخطى حدود الزمان " فتربط بين هوميرس وفلوبير "؟ إن هذه الدعوة ليست إلا شرحاً لقول بوند من قبل إنه يتطلب " دراسة أدبية تضع ثيوقريطس والمستر ييتس في ميزان واحد ". أضف إلى هذا أن اليوت مدين لبوند بعدد من مبادئه 0 على التعيين؟ ومن ذلك فكرة

اللاشخصانية، وفكرة التبادل الموضوعي؟ في رأي ماريو براز؟ فقد ذهب هذا الدارس إلى أن أصل الفكرة الثانية موجود بوند في مقاله " روح الرومانس " حيث يقول: إن الشعر " نوع من الرياضيات المتلقاة إلهاماً، ويعطينا معادلات، لا للأرقام المجرد والمثلثات والكرويات وما أشبه، بل للعواطف الإنسانية ". وفي نفس اليوت نحو بوند احترام يبلغ حد التقديس على الرغم من خلاف أساسي في الدين ومشاجرات أخرى. وهو لا يعده أحد عظماء النقاد المعاصرين فحسب بل " لعله أعظم شاعر حي في لغتنا " (1) . ومع ذلك فمما يثير السخرية أن يسيء الناس فهم إهدائه قصيدة " اليباب " لبوند " الصانع الأحسن "، عرفاناً منه بالجميل. فهذه القولة " الصانع الأحسن " استعملها دانتي في وصف آرنو دانيال في " المطهر " (على لسان غويدو غوينشللي) ولكنها اليوم تحمل معنى التقريظ الساخر المتخفي (وإن لم تكن كذلك حينئذ) إذ هب أن دانتي لم يكن يعلم أنه صانع خير من آرنو وأعظم فنحن اليوم نعرف ذلك، فإذا استعملها اليوت في حديثه عن بوند ففيها يقترن العرفان المهذب بالجميل مع ما توحيه من شعور الزهو بمقدرة فائقة. وثاني انين من المؤتمرات في اليوت؟ بعد أثر بوند، مستمد من ت. إ. هيوم الذي قتل في الحرب العظمى عام 1917 وعمره أربعة وثلاثون

_ (1) كشف اليوت عن أحد العوامل في هذا الاحترام الذي يبدو مغرقاً في مقال له عنوانه " عزرا بوند " نشر بمجلة شعر، سبتمبر (أيلول) 1946 حيث قال: " في سنة 1922 قدمت إليه في باريس مخطوطتي من قصيدة مبددة متراخية فوضوية تسمى " اليباب " فغادرت يديه وقد ارتدت إلى نصف حجمها في الشكل الذي ظهرت فيه مطبوعة ". وحين يقول في نهاية المقال نفسه عن الأناشيد Cantos " ليس في الأحياء من يستطيع أن يكتب مثل هذا. كم في الناس من يستطيع أن يكتب ما يشبه نصف هذا جودة؟ فإن هذه العبارة لا تثير معنى موضوعياً أكثر مما أثارته أشباه لها من قبل أما اليوم فإنها قسطاً صالحاً من المعنى الذاتي.

عاماً، ولم ننشر آثاره إلا في سنة 1924 عندما نشر هربرت ريد مجموعة من أوراقه بعنوان " تأملات " Speculations. وقد كان هيوم مترجماً عن برغسون وسورل، كاثوليكياً، عقلانياً كلاسيكياً، عسكرياً، فاشياً قبل الأوان. وكانت أيدي أصحابه تتداول تعليقاته في نسخها الخطية، ومن المؤكد أن اليوت وبوند وعدداً من النقاد الآخرين كانوا يعرفونها قبل أن تطبع. وقد استمد اليوت من هيوم؟ إلى حد ما؟ اتباعيته الكلاسيكية وأن العقيدة هي العنصر الحيوي في الدين، وفي سبيلها يستطيع المرء أن " يزدرد " العاطفة والشعائر، كما استمد منه مثله الأعلى في أن الفن والنقد إنما هما في خدمة السنة الدينية والرجعية السياسية. ولعل هيوم هو الناقد المعاصر الوحيد الذي كان في مقدوره أن يوافق اليوت تماماً على فكرته المنحرفة في أن الصلة الفردية بالله تميت، وأن الحرف المكتوب يمنح الحياة. وقد نال هيوم في ربع القرن التالي لوفاته صيت الرجل الذي حمل لواء النقد الاتباعي. وبالإضافة إلى أثره في اليوت، فإن أثره منطبع في بوند (الذي سجل محادثة مسيئة بينه وبين هيوم وقف فيها موقف الأستاذ ووقف هيوم تلميذاً تملؤه الرهبة) وفي ألان تيت وغيره من أفراد مدرسة الجنوب، وفي الإنسانيين المحدثين وت. ستيرج مور وفي المعسكر الثاني: معسكر رتشاردز وهربرت ريد. وعلى الرغم من الخلاف الأساسي بين رتشاردز واليوت، فإن الأول كان ذا أثر كبير في الفكر النقدي عند الثاني. وكثيراً ما اعترف اليوت بأنه مدين لرنشاردز، وبأن أفكارهما تتشابه، وأن مؤلفات رتشاردز مبدأ من مبادئه الأساسية الأولى أعني نظرية عدم التناسب بين المعتقد والتذوق الشعري في القارئ مطلقاً، وفي الشاعر مع بعض التقييد. وقد قاوم اليوت التوجيه العلمي الأساسي عند رتشاردز، وكثيراً ما كانت مقاومته هجوماً

حاداً، بينا استعار في نفس الوقت كثيراً من مبادئ ذلك التوجيه وقسطاً وافراً من مصطلحاته. ومن أكبر المشكلات التي يثيرها نقد اليوت مشكلة الناقد الذي يتفق له أن يكون أديباً خالقاً ذا شأن. فمن بين النقاد الذين نعرض لهم في هذا الكتاب نجد عدداً لا يكتبون إلا نقداً أو دراسات ومن هؤلاء بروكس ورتشاردز وكارولاين سبيرجن ومود بودكين. أما أمثال ونترز وبلاكمور وامبسون وبيرك فهم شعراء أو قصصيون يتفاوتون درجات في الأهمية والبراعة الأدبية، إلا اليوت فإنه شاعر خالق من الطراز الأول، وذو شأن كبير. وقد أصاب ماثيسون حين ذكرنا بأن اليوت " يقف في سلسلة الشعراء النقاد، وهي السلسلة التي تبدأ بالشاعرين جونسون ودريدن وتضم صمويل جونسون وكولردج وآرنولد ". ولقد أحرز ما أحرزه من بسطة في التأثير، لأنه كان كذلك؟ ذا صنعة يتحدث عما يعرفه حديث دراية، لا بالواسطة. وأكبر ممجد للشاعر الناقد في عصرنا؟ على وجه متميز؟ هو بوند الذي يقول في بعض المواطن " لا تلقوا انتباهاً لذلك النقد الذي يصدر عن ناس لم يكتبوا كتاباً معروفاً "، ويقول في موطن آخر " إذا أردت أن تعرف شيئاً عن السيارة فهل تذهب إلى من يعرف عنها وعن قيادتها شيئاً أو تذهب إلى من سمع بها فحسب؟ وإذا خيرت بين اثنين من صانعي السيارات فهل تذهب إلى من أجاد صنع واحدة أو إلى من صنع سيارة رديئة "؟. ومع هذا كله، فكل هذا الحجاج ليس في جانب الشاعر الناقد، وحتى اليوم لم يحقق أحد حجة فنكلمان بأن الفنان الذي ينقد الفن يميل إلى أن يحكم عليه من زاوية الجهد الفني، لا من حيث معناه أو جماله (1) .

_ (1) أي يعلق اهتمام الناقد إن كان فناناً بطبيعة الجهد المبذول لا بنتيجته، وهذا على أنه لا يحقق الغاية المطلوبة من النقد فإنه يتطلب قدراً موضوعياً كبيراً من روح الإنصاف.

وهذا الذي جرت عليه المجلات الأدبية، وبخاصة الحرة منها، من تحويل الشعر تواً للشعراء كي يراجعوه قد كشف عن أن اعتراض فنكلمان ينطبق على أحسن الأمثلة. أما في أردأ الأمثلة، فإن الشاعر الناقد ينصرف إلى أمور من الشحناء الخاصة، وتقارض الثناء والبذاء، ونثل الأحقاد والانتقام. ونظرة إلى بضعة نماذج من النقد الذي ينهمك فيه الأدباء الخالقون ذوو الشأن قد تلقي ضوءاً على هذا الأمر. وأبرز مثل على هذا النوع من انقد في عصرنا؟ باتفاق إجماعي؟ هي المقدمات النقدية التي يكتبها هنري جيمس. فهذا القاص كان يجمع بين بصيرة نافذة في عملية الإبداع والكشف الذاتي المسهب، وبين القدرة التعميمية الفذة على أن يزودنا بأقيم وثائق خطها قلم عن عملية الخلق الفني. غير أنه كان يعوزه نفاذ البصيرة في عملية الخلق عن الآخرين، وعلى ما كان يتمتع به من حس مرهف في صنعته، لعله أعظم حس في عصرنا، فإنه لم يحقق عندما كان يتحدث عن أديب آخر مثل النتائج التي حققها وهو يحلل ذاته. وهذا المورو من الكشف الذاتي؟ كما بدأه جيمس؟ استمر عند عدد من الشعراء النقاد في عصرنا، ومن أبرزهم ألان تيت وجون كرو رانسوم (أما اليوت فلم يسجل إلا شيئاً قليلاً من هذا ويكاد لا يتحدث عن شعره صراحة، مفضلاً أن يحدث عن " الشاعر " عموماً، وهذا غريب حقاً لأنه هو الذي يقول " إنني لأعتقد أن النقد الذي يجريه أديب ماهر ذو مران على نتاجه لهو أشد أنواع النقد حيوية وأعلاها درجة ") . أما تيت فإنه في مقال بارز عنوانه " نرجس في نظر نفسه " Narcissus Narcissus من كتابه " العقل في جنون " حلل قصيدته " أغنية إلى الأموات المتحالفين " في عشرين صفحة من التعليق المسهب، وهو تحليل جليل الفائدة، يستحق أن يقف في صف مع رسالة كتبها هارت كرين يفسر بها قصيدته " عند قبر ملفل "، ويصلح اتخاذهما دراسة

للعقل الشعري المعاصر. إلا أنه يكاد يكون ن المستحيل أن نعدهما نقداً لأمور كثيرة ليس أقلها شأناً أن الشاعر حين يتحدث عن نتاجه، يستطيع أن يحتكر أية حقائق تزويدنا بها. وأما جون كرو رانسوم، وهو يمثل موقفاً مخالفاً، فإنه يعالج هذا النوع من النقد الذاتي الكاشف بطريقة أحذق؟ بعض الشيء؟ فقد خلق من حيث هو ناقد " بوطيقا " تبدو مؤسسة في المقام الأول على طريقته هو في كتابة الشعر وتتضمن تمييزه بين " المبنى " و " السياق الشعري " ف القصيدة، والتفرقة بين الوزن والمعنى. فالقصيدة لديه توفيق بين المبنى والسياق الشعري ثم يتحقق فيها توفيق آخر عندما يغير المعنى المقصود ليندرج في الوزن، أو يغير الوزن ليلائم المعنى. وهذه التفرقة؟ بكل أجزائها؟ صحيحة، ولا ريب، في حال رانسوم أو في نتاج رجل مثل ييتس (الذي كان يكتب نثراً أولاً ثم يطرقه في سموط الوزن) أما في حال شاعر ينبثق عنه النظم حراً مثل شكسبير أو كيتس في أوائل عهده، فإن هذه التفرقة نابية لا محل لها. وحين خلق رانسوم بوطيقيا على مثاله، كان ذلك ضربة لازب بالنسبة له، كما هي الحال عند كل شاعر ناقد، غير أن هذا الأنموذج الذي خلقه كان محدوداً لا يمكن تعميمه فقلت منه الفائدة. ومن هذه الأمثلة القليلة عن الشاعر الناقد؟ وهي أمثلة من خير ما قدمه عصرنا؟ تظهر بعض المشكلات المشتملة ثمة. فالأديب الخالق خير الناس استعداداً (تحت ظروف معينة) ليتحدث عن نتاجه. غير أنه ليس في طوق أحد؟ حينئذ؟ أن يناقشه الرأي فيه، ومن ثم يصبح النقد فناص منعزلاً، مثله في ذلك مثل السيرة الذاتية. ولو أن هذا الأديب بدلاً من التحدث عن نتاجه أقام نظرية إنشائية عنه فإن هذه النظرية قد تعاني لاقياسيته وشذوذه لأن كل الأدباء إلى حد ما، ومن وجه وآخر

لا قياسيون شذوذاً وتفرداً. وإذا ناقش نتاج الآخرين موجهاً ضرورةً بنتاجه المتخصص، فمن المحتمل أن يفتقر إلى المعرفة والأساس النظري اللذين يحتاجهما الناقد المترف كما يفعل إ. م. فورستر في قطعه الأدبية. ومن المحتمل أن يعجز عن أن يكون قارئاً عادياً لشدة وعيه بطريقته، بينا هو لا يستطيع أن يكون ناقداً خالصاً أو صانعاً خالصاً، كما كانت حال فرجينيا ولف في كتابها " القارئ العادي " The Common Reader. وقد تحول محرمات ذاتية دون الحديث عن نتاجه؟ صراحة؟ كما هي حال اليوت أو يكون عاجزاً عن أن يسلط بصيرته على نتاج غيره مثلما يسلطها على نتاجه كحال جيمسن وأخيراً قد يكون مشغول الذهن بقواعده التي يضعها أو يكون شديد التشبث بنتاجه حسوداً أو مصاباً بإحدى الرذائل التي تصيب الشاعر الناقد، مما سبق ذكره. وقد يقال، في وجه هذه الاعتراضات، إن نقداً موضوعياً من الطراز الأول قد ينشأ على يدي أديب خالق من الطراز الأول، وذلك هو حال اليوت. ولكن أحسن النقد كالأحسن من كل شيء آخر، سيكون حسب قانون عام؟ في هذه الحياة؟ نتاج قوم محترفين. (ولسنا ننكر بهذا قاعدة من أصول القواعد النقدية وهي أن الناقد بحاجة إلى أن يحسن شيئاً من تجربة الأديب الخالق، وإلا عجز عن أن يفهم مشكلات الخلق الفني، كما أننا لسنا نقلل من الأهمية العظيمة التي تتمتع بها وثقائق أدبية مثل مقدمات جيمس ومقالة تيت) . ولقد كتب اليوت يقول في دريدن: " إن مقالاته هي أفكاره الواعية عن أنواع الإنتاج الذي كان يزاوله " وفي هذه الفكرة التي يقدمها عن شاعر يكتب نقداً ويصفه بأنه " واعٍ " اقترح اليوت الزاوية التي يريدنا أن ننظر إليه منها. ويقرر اليوت، بوضوح، صفة نقدية يسميها أحياناً

الحس التاريخي، ويعدها ضرورة لازمة لكي تكفل بقاء الشاعر شاعراً " بعد عامه الخامس والعشرين "، وبما أنه ظل يكتب شعراً بعد أن تجاوز هذه السنة الحاسمة (قال قولته تلك وهو في التاسعة والعشرين) فليس مما يجافي الصواب أن نزعم بأنه وجد تلك الصفة النقدية في نفسه. ومع كتب يقول: " لقد أقول إن المرء قد يكون من حقه، في نتاجه النثري، أن يشغل نفسه بالمثاليات أما عندما يكتب شعراً فإنه لا يستطيع إلا معالجة الحقيقة ". وهذا القول حسبما ترقى إليه معرفتي أول رد من اليوت على تهمة التباين بين شعره ونثره؟ تهمة طالما لاحقته في صور مختلفة؛ فهي تتدرج من الهجوم العنيد الذي واجهه به إرنست بويد في قوله " ليس بين نظريته الجمالية وتطبيقه اعملي أدنى علاقة " إلى هجوم متعاطف معه يمثله رانسوم في قوله: وتصادم الشاعر والناقد فكان اليوت الناقد هو المستر جيكل، واليوت الشاعر هايد. وكان عجيباً أن نتصور في حكمة جيكل الشاملة وجود الكلمة التي تبرر هايد. وقد درست هذين كليهما بإمعان رجاء التوفيق بينهما غير أني أظن أن هذا التوفيق لن يتحقق، وأن الكلمة التي بحثنا عنها في الحكمة الشاملة غير موجودة؛ لقد سار تيار النقد بقوة في وجه تيار الشعر. ويكاد ماثيسون أن يكون الوحيد تقدم للدفاع عن تماسك اليوت فأقر أولاً أن اليوت " يفضل نوعاً من الشعر مغايراً كثيراً للذي يستطيع نظمه " ثم ذهب إلى أن " نقده ينير أهداف شعره، وشعره يصور مظاهر كثيرة من نظريته النقدية ". حين ظهرت " المقامات الرباعية الأربع " كان ماثيسون قد أصبح يعتقد أنه خير ما يساعد على فهم شعر اليوت هو

النظر في نقده. وأشار إلى أن مقال اليوت " موسيقى الشعر " يلقي أنسب الأضواء على أهدافه الشعرية، وهو حجة جديدة تنقض حجة الذين لا يزالون يوضعون في الخطأ المغالط بقولهم إنه لا انسجام بين نتاجه الخالق " الثوري " ونقده " الاتباعي " (1) . وعلى الرغم مما تورط فيه الفريقان من هذر، فهناك نقطة هامة في مضمون هذا اجدل وهي الوحدة العضوية في الشخصية الإنسانية. أما النقاد الذين يرون تبايناً في نتاجي اليوت فهم لا محالة يجردون المرء من كل مظاهر المعنى إن لم يكن من الحياة نفسها. وكذلك فإن ماثيسون يخطئ؟ من الناحية الأخرى، حين يتصور أن العلاقة بين الإنتاجين بسيطة جداً وأن النقد ليس إلا " المرشد الميسور " أو " الترجمة الحرفية " للشعر. وأسلم من هذين الموقفين موقف اليوت نفسه في أن نقد الشاعر قد يكمل شعره من بعض النواحي، وقد كتب يقول في إحدى مقالاته الأولى: " إن الشاعر الناقد ينقد الشعر من أجل أن يخلق شعراً، وفي هذا يلحظ أوضح العلاقات بين الاثنين. وقد لحظ أيضاً أن الشاعر يتخذ من نفسه الناقدة أداة عاكسة أو مدافعة حين قال: " ربما بم يكن آرنولد أبداً موضوعياً حين كتب هذا السطر بل ربما أثير إلى ذلك دفاعاً عن شعره ". وفي سنة 1942 توقف اليوت عن الإيماء إلى استقلال نقده، وكتب يقول: " غير أني أعتقد أن الكتابات النقدية للشعراء، وقد كان منها في الماضي أمثلة متميزة، إنما يرجع قسط كبير مما فيها من متعة إلى أن الشاعر يجرب؟ غير واعٍ أحياناً إن لم نقل عامداً، أن يدافع عن نوع الشعر الذي يقرضه، أو

_ (1) كسبت " المقامات الرباعية " - فيما يبدو - أناساً كثيرين إلى صف ماثيسون، ومنذ أن كتب هذا الرأي اقتبسه كثيرون، منهم الآنسة م. ك. برادبروكس في كتاب " ت. س. اليوت - دراسة لأدبه على أيدي كتاب متعددين " (1947) وهي تقول: " إن نقده خير تعليق على شعره في الغالب "، وشفعت ذلك بنقول مؤيدة. ومنهم وليم يورك تندال في مجلة The American Scholar خريف 1947 في مقال له ألح فيه على أن نقد اليوت، مهما يكن موضوعه الظاهر، فإنه نقد لإنتاجه.

ليضع قاعدة للشعر الذي يريد أن يقرضه ". ومعنى هذا أن النقد يؤدي لصاحبه مهمات متعددة، مثلما يفعل الشعر، وأنه في الحقيقة نوع آخر من الشعر، وأن هذين النوعين قد يداخلان بدرجات متفاوتة، دون أن يتلاحما، كلياً، أو ينفصلا تماماً. ويبدو أنهما في السنوات الأخيرة أخذا يميلان إلى التباعد، كل عن الآخر، ذلك لأن مقالات اليوت التي صدرت في العقد الخامس من هذا القرن قد نزعت إلى مواجهة الاتباعية في نظاهرها الدينية والتعليمية والاجتماعية بصراحة أكثر من رؤية الاتباعية من خلال النصوص الشعرية: (وهذه هي مرتبة حسب ظهورها) (1) : 1: - يتركز خطابه الذي ألقاه حين رأس الجمعية الكلاسيكية، ونشر في كراسة عام 1942 بعنوان " الكلاسيكيات والأديب " حول مشكلات الثقافة المسيحية. 2: - ومقدمته التي كتبها لكتاب " مختارات من منظوم كبلنج " ونشرت في العام نفسه، " ليست إلا دفاعاً سياسياً عن وطنية كبلنج الاستعمارية وعنصريته العرقية (لا يصدق اليوت أن كبلنج يؤمن بمبدأ تفوق عنصر جنسي على آخر) " (2) 3: - أما مقاله " ملاحظ من أجل تعريف الثقافة " الذي نشره في New English Weekly سنة 1943 وأعاد نشره في مجلة البارتزان ربيع 1944 فإنه صلة للنزعات التي ظهرت

_ (1) ترقيم هذه الكتب غير موجود بالأصل، وإنما وضعناه لتيسير تتبعه على القارئ. (2) تحت ضغط من مراجعة كتبها ليونل ترلنج، بعث اليوت بتوضيح إلى مجلة " الأمة " The Nation يناير (كانون الثاني) 1944 قال فيه: " لست أعلم أنه (أي كبلنج) كان يبطن مشاعر لاسامية، بوجه خاص ".

في " مثال المجتمع المسيحي " مع نص أوكد على المظاهر الثقافية والتعليمية في مبدأه المثالي الديني القائم على حصر السلطة في يد هيئة واحدة. 4: - ومقالة " الأديب ومستقبل أوروبة " الذي أعيد طبعه في مجلة سيواني صيف 1945 بعد طبعه أولاً في مجلة " ابن الشمال " Norseman النرويجية فهو اقتراح للأدباء كي يتفقوا؟ كطبقة؟ على الأمور العامة مثل الثقافة والتعليم. 5: - وأما خطابه الذي ألقاه في جمعية أصحاب الكتب الويلزيين ونشرته مجلة سيواني شتاء 1946 وعنوانه " وما هو الشعر الذي لا يعد من الطراز الأول " فمنهجه تعليمي أكثر منه نقدياً ونغمته توجيهية مستعلية، وقسط كبير منه مخصص لتبويب المهمات التي تؤديها المختارات الشعرية والمجلات الصغيرة. 6: - وأما مقاله الحديث عن بوند وكلمته التأبينية في فاليري فكلاهما يتصل بأوروبة التي شهدها كل منهما، وما يفنى منها وما يبقى (لقد قال فاليري: إن أوروبة بلغت النهاية) وقد نتصور في هذا كله قسطاً من انعكاس النظرة الذاتية. 7: - وأخيراً نجد أن عدداً من كتاباته الحديثة ديني أو سياسي مباشر ومنها " كتيبة " عند وحدة الكنيسة، ومقدمة كتاب عنوانه " ظلام القمر " لمؤلف مجهول عن سوء معاملة الروس لبولندة، وهكذا. ومنذ أن صدر مقاله " موسيقى الشعر " سنة 1942 لا أعرف له نقداً يدور حول الأدب؟ من حيث هو أدب؟ (ربما باستثناء

محاضرة حديثة ألقاها في نيويورك عن ملتن راجع فيها تقديره القديم لهذا الشاعر) . بل إن أنموذج نتاجه الحديث؟ فيما يبدو؟ يتمثل في الموروث الذي قهر الاهتمام الأدبي، مع أنه انبثق منه، مثلما أن الرجعية السياسية (في حالات كحال موراس) تقهر أحياناً النظرة الدينية التي كان يراد لها أن تسندها. ولا ريب في أن فهمنا اليوت الإنسان هو الذي يفتح الطريق إلى شعره ونقده، وإن أنكر ذلك بشدة، مثلما اتضح لنا؟ على وجه الجملة 0 أن " الاتباعية " عنده تستمد وجودها من حاجة ذاتية. وهناك نقاش أدبي آخر لا يقل مرارة وقلة جدوى عن النقاش الذي دار حول الصلة بين شعره ونقده وذلك هو: إلى أي حد يمكن أن نرى في شعر اليوت خيوط سيرة ذاتية؟ وقد صفع ماثيسون، محقاً، نقاداً مثل غرانفيل هكس وس. داي لويس ذهبوا إلى أن اليوت كتب سيرته الاجتماعية في قصيدته " جرونشن " و " بروفروك "؟ بهذا الترتيب؟ ومن الواضح أن اليوت مثل نسر معمر في أوائل عقده الخامس ليبدو مضحكاً بعض الشيء (1) . ومع ذلك فمن المحال أن نعد بعض تعابيره حين نطلع عليها وبخاصة في " المقامات الرباعية " إلا تقريرات ذاتية مباشرة من الشاعر، كتبت في نغمة تشبه نثر لغة التخاطب. فهو يقول في East Coker: كانت تلك طريقة من التعبير عنها؟ طريقة غير كثيراً، دراسة متكلفة معقدة على نحو شعري قد أخنى عليه الدهر تترك المرء في صراع لا قبل له به، مع الألفاظ والمعاني،

_ (1) أي فيه شيء من صفات بروفروك المتردد المنخوب القلب في مجتمع متحضر " وفي وسط رأسه بقعة صلعاء "، والنساء ينظرن إليه ويقلن " يا لشعره كيف يبدو رقيقاً سخيفاً " وياقته قد صعدت نحو ذقنه، ودبوس رخيص يمسك ربطة عنقه، والنساء يقلن " يا لله ما أتحف ذراعيه وساقيه ".

أما الشعر نفسه فأمره ثانوي. أقول مرة أخرى: لم تكن هذه الطريقة هي الشيء المرجو فماذا كانت تصبح قيمة ذلك الذي طال ترقبه. ذلك الهدوء الذي طال ترجيه، ذلك الوقار الخريفي وحكمة العمر؟ وبعد بضع صفحات: وهكذا تراني هنا على الجادة، بعد عشرين سنة عشرين سنة بددتها بسخاء، سنوات ما بين حربين، محاولاً أن أتعلم استعمال الألفاظ، وكل محاولةٍ، بدء جديد، ونوع جديد من الإخفاق لأني لم أتعلم إلا التحكم بالألفاظ المتصلة بشيء لم أعد أريد التحدث عنه أو بالطريقة التي أصبحت لا أميل إلى التعبير بها وكل محاولة بدء جديد، هجوم على مبهم يمتنع على الإبانة، بمعدات متهرئة لا يزال يدركها الفساد، في حومة الشعور الطاغي، وأمام كتائب من العاطفة جامحة على النظام (1) فهذه الأبيات تنص حقاً؟ حتى حين يتردد فيها ذكر " الشعور " و " العاطفة " التي أسقطت من الشعر قبل ربع قرن مضى؟ على الألم؛ ذلك الألم الذي أعلنه اليوت في كتابه عن دانتي وقال إنه ليس مصدر الشعر وحسب بل هو مادته الوحيدة. لقد اعترف أنه يشعر بعد نظم الشعر " براحة مفاجئة من عبء فادح " وقال في موضع آخر: " وعلينا

_ (1) نقلاً عن East Coker في قصيدة " المقامات الرباعية الاربع " لاليوت. حقوق الطبع محفوظة (1943) لاليوت. اقتبست بإذن من شركة هاركورت وبريس ...

جميعاً أن نختار أي موضوع يهيئ لنا أعمق الراحة وأخفاها ". ومن السهل أن نرى الإنسان المتألم في قولته المشهور " إننا لنكافح لنحتفظ بالحياة لشيء ما أكثر من رجائنا أن ينتصر شيء ما " أو في كلمته " كلمات أخيرة "، التي بعث بها إلى مجلة " المحك " سنة 1939 متخلياً عن رئاسة تحريرها بعد ستة عشر عاماً: في مثل هذه الحال الراهنة من أحداث العالم، التي بعثت في نفسي تخاذلاً في الروح يختلف عن كل تجربة واجهتها خلال خمسين عاماً، تجربة لا يمكن أن تتحول إلى عاطفة جديدة، أراني لم أعد أحس بالحماسة التي لابد منها لكي أجعل من مجلة أدبية ما ينبغي أن تكون. إن الشخصية التي تنبثق أخيراً من هذا كله، ليست، كما قد يتوقع المرء، شخصية فنان عظيم منتصر، حقق في قصيدته " المقامات الرباعية " قطعة من أصل ما صدر في عصرنا من شعر، بل شخصية رجل مريض مقهور معذب يتحلل متوكئاً على النظام واللاشخصانية في الشعر، والاتباعية في النقد. وقد يمكن للنقد " الاتباعي " أن يتوجه بأمل تحو المستقبل؟ على خلاف نقد اليوت؟ ولكنه يحتاج حينئذٍ أشياء أدبية أخرى، ولابد له من أن يختار موروثاً آخر.

الفصل الرابع

الفصل الرابع فإن ويك بروكس والنقد المعتمد على السيرة من الصعوبة في حال فإن ويك بروكس، بوجه خاص، أن نجرد طريقة نقدية عملية مما يتصل بالرجل ومؤلفاته. فقد مضى عقد كامل؟ على الأقل؟ منذ أن أخذ من يهتمون بالأدب ينظرون إليه نظرة جدية، وفي خلال تلك الحقبة أحرز نجاحاً واسعاً شاسعاً، (حتى إن كتابه " ازدهار نيوانجلند " The Flowering of New England كان في رأس قوائ الكتب الرائجة لمدة تسعة وخمسين أسبوعاً متوالياً) واصبح شيخاً ضيق العطن مرير النفس أشيب الشاربين. وقد دخل في عداد الناقمين على ما يسميه " أدب الصفوة " يعني أدب جيمس وجويس واليوت وسائر أهل الجد من المحدثين، الذين يمثلون " دافع الموت "، واضعاً في مقابله " الأدب الأصيل " أي أدب ساندبرغ وفروست ولويس ممفورد الذين يمثلون الصحة والحياة. وقد علق مرة في صلف واعتداد بقوله " إن الأدب قد جنح نحو الفروع وعلينا أن نرتد به إلى الجذع ". واستفزه كتاب أرشيبالد مكليش " كفاح الثقافة " Kulturlampf حين صدر في أيام الحرب فاقترح حرق الكتب الألمانية، وأعلن أن الأدباء في البلاد الديموقراطية قد سمموا عقول قرائهم، واستنزفوا إرادة فرنسة حتى عجزت عن

الوقوف أمام هتلر. ثم إذا به يزداد لديه مرض كره الأجانب ويتحول ما كان يحمله من تبرم بالمهاجرين وبخاصة " شباب الجانب الشرقي " (1) ، و " بحاجاتهم الأجنبية " التي تضلل الأميركيين، أهل الوطن، إلى عصبية عرقية في كتبه الأخيرة يمكن أن نسميها " العنصرية الشمالية اليانكية " (2) حتى إنه ليعتقد أن نيوانجلند قد انحدرت " عندما ضغطت العناصر الغريبة فيها على أهل الوطن ". وأصبحت كلمة " جنس " و " جنسي " (3) تتناثر في كتبه الأخيرة بكثرة، كأنها اللوز في اللوزينج. وفي الوقت نفسه زاد انشغاله بالأنساب والاستقصاء عن " أسلاف كل واحد " و " بارستقراطية البنادر " وهم المنتمون إلى فإن ويك (كتب بروكس عن الكوت (4) فقال: كان كثير الاهتمام بنسبه، وإذا بلغ المرء الرابعة والأربعين، فأي بأس في ذلك؟) وتكاد هوامش كتابه المسمى " نيوانجلند؟ اليقظة الأخيرة " New England؟ Indian Summer أن تكون قوائم طويلة من أنساب الأدباء أو التمييز بين أيهم ذهب إلى هارفارد وأيهم تخرج في بيل. وعند هذه المرحلة كان قد آمن بأفكار اشبنجلر، ووقف ولاءه على " هانس زنسر العظيم " والدكتور الكسيس كاريل (5) .

_ (1) يطلق هذا الاسم على حي من أحياء نيويورك معروف بكثافة السكان وفقرهم ورداءة مساكنهم، وأكثرهم هاجر من شرقي أوروبة وجنوبيها، وهو مباءة للجريمة والمرض والراديكالية. (2) Yankee كلمة مجهولة الأصل، كانت تطلق في القرن الثامن عشر على سكان مقاطعة نيوانجلند ثم أصبحت تطلق في الحرب الأهلية على كل سكان الشمال. ثم عمت فشملت الأميركيين في الحرب العظمى. (3) تقيد هاتان اكلمتان في هذا السياق المعنى العنصري الشعوبي. (4) ألكوت (1799 - 1888) أحد الفلاسفة ورجال التربية الأميركيين، كان محدثاً بارعاً ذا آراء خاصة في التعليم، وفلسفة تتراوح بين المثالية المتطرفة وامادية. (5) زنسر (1878 - 1940) باكتربولوجي أميركي؛ أما الكسيس كاريل فإنه طبيب ولد بفرنسة 1873 ودرس فيها ثم هاجر إلى الولايات المتحدة سنة 1905 ونال جائزة نوبل سنة 1912 ومن مؤلفاته المشهورة كتابه " الإنسان - ذلك المجهول " Man، The Unknown.

لقد قام بروكس في سنواته الأربعين وفي كتبه التسعة عشر بتحولات كثيرة، حتى ليعسر علينا أن نلحظ فيها مثالاً ثابتاً. فقد كان جمالياً واجتماعياً وفرويدياً وكاتب بيانات ومتبعاً ليونج وداعياً إلى حرق الكتب مثل تولستوي وأخيراً كان مؤلفاً لشذرات أدبية فكاهية وحكايات عن الأسفار من أجل " نادي كتاب الشهر ". وكان أولاً يأبى إباءً مطلقاً لبيقاً أن يعترف بأميركة وبالثقافة الأميركية فتحول إلى قبولهما والاعتراف بهما اعترافاً مطلقاً دون فحص أو نقد. بل لعله انتحل كل الاتجاهات السياسية والفلسفية المعاصرة وسماها جميعاً " اشتراكية ". ومع ذلك كله فهناك مثال ثابت في كتبه يستمر من أول كتاب إلى آخر كتاب، غير أنه ثبات في الطريقة لا في الرأي، أعني طريقة النقد المعتمد على السيرة. والقضية الأساسية المسلم بها إنما توجد في دراسة حياته وذاته وشخصيته، وقد كتب بروكس يقول في كتابه " أميركة تشب عن الطوق " America " s Coming؟ of؟ Age: " إن الطريقة الوحيدة المثمرة هي دراسة الشخص نفسه ". وبعد ذلك بربع قرن، عرف في كتابه " آراء أوليفر أولستون " The Opinions of Olivere Allston ما الذي يعنيه بالاتجاه الشخصي في دراسة السيرة وميزه عن الاتجاه العلمي فقال: أما هذه الحقائق (حقائق التحليل النفسي) فما عادت أنفع من سواها. وتظل كل الحقائق عنه عديمة الجدوى حتى يأتي كاتب السيرة فيستوعبها ويتمثلها تحت ضوء من قدرته الحدسية الاستبصارية بكل ما تتمتع به من تحسس للحقيقة والتناسب. وهذه القدرة أداة ذهنية تختلف عن الذكاء، وواقع الأمر أن الذكاء يشلها عن العمل. فليست العلل هي التي تهمنا في السيرة، وإنما الشخصية نفسها؟ الشخصية

التي تنتمي إلى المجال الأخلاقي الجمالي، وهو مجال منفصل تماماً عن مجال العلية. فإذا حاول أحد أن يتحول بالسيرة إلى علم، فذلك عبث لا طائل تحته، كالأمر في التاريخ أيضاً. وقد كانت هذه القدرة على استبصار الشخصية والذات، مع اندفاع لا إيغال فيه في استعمال الذكاء؟ ذلك العضو المسيب للشلل؟ هي المظهر الرئيسي في كل إنتاج بروكس؛ وهي وشيجة ثابتة تتخل سلسلة من التغير المستمر المحير، فإذا شئنا أن نتتبع مواطن ورودها، أصبح من الهام أن نرتب كتبه حسب تاريخ صدورها: 1 -؟ فأول كتبه النقدية هو " خمرة البيورتانيين " Wine of the Puritans وعنوانه الفرعي " دراسة لأميركية المعاصرة "؟ نشر في لندن سنة 1908 حين كان بروكس يعيش في انجلترة (وقبل ذلك أي حين كان طالباً في هارفارد سنة 1905 اشترك هو وجون هول ويلوك بنشر شعرهما في كراسة دون أن يذكرا اسميهما) . وهذا الكتاب " خمرة البيورتانيين " في شكل حوار يدور بين بروكس وشاب اسمه غرايلنغ Graeling في باية Baja بإيطالية. وهو وثيقة لعلها أغنى وثائق القرن العشرين احتفالاً بمبدأ " الفن للفن "، ولا ينقصها إلا صور بيردسلي Beardsley ويهمهم أحد الشبان بقوله وهو يشير بإصبع عاجية واهنة: " هذا وسق آخر من الطليان ذاهب ليحتل مواضعنا في الوطن ". ويؤكد لنا بروكس، وهو يكتب بياناً صغيراً يدعو فيه إلى التغرب عن الوطن: أن التاريخ الأميركي فير قريب إلى القلب، فإن بارنوم (1) هو الأميركي النموذجي فيه، والاشتراكية هي " الحلم الباهر بألوان من اليوتوبيا يستحيل تحققها ". ومع ذلك فإن

_ (1) بارنوم (1810 - 1891) مدير مسرح، أخفق أولاً في أن يكون صاحب دكان فأسس جريدة أسبوعية ثم أصبح صاحب مسرح وعارض تمثيليات. رحل إلى أوروبة ثم عاد إلى وطنه فأخفق في الوصول إلى مجلس الشيوخ الأميركي فنظم " السرك " وأعلن أنه " أعظم استعراض في العالم ".

الكتاب يحوي، بين كل هذا السخف، نقطتين هامتين: أولاهما، التفرقة بين خمرة البيورتانيين وشذا الخمر، أي بين النص على ما هو حقيقي بأميركة وهو الروح التجارية والنص على ما هو مثالي فيها وهو مثالي فيها وهو ما أصبح يدعى " الفكر المثالي " (1) وذه التفرقة في نواتها تشير إلى التمييز بين " الممتازين " و " العاديين " وهي تفرقة سينحي عليها بروكس كثيراً فيما بعد. أما النقطة الثانية في الكتيب فهي نواة الطريقة النقدية المعتمدة على دراسة السيرة. فهو لا يستطيع أن يضع الثقافة الأميركية في موضعها اللائق بها إلا إذا رآها من خلال " ذوات أهلها " (كلمة " ذات " كانت دائماً مفتاحاً لمصطلحه كله) ؟ مثل بارنوم وبريغهام يونغ (2) وروكفلر؛ ويعترف أنه حاول أن يكتب كتاباً يسميه " أهل الفكاهة الأميركيون "، ثم اضطر إلى التخلي عنه، عندما عجز عن أن " يخلق الذوات " الكامنة خلف الأسماء خلقاً جديداً. 2 -؟ أما كتيبه الثاني فهو " داء المثالي " The Malady of the Ideal وقد نشر بانجلترة عام 1913، ونشر بأميركية، أول مرة، سنة 1947 ويشمل حديثاً سوادوياً عن موريس دي جيران وآميل وعن كتاب " أوبرمان " Obermann لسينانكور. ويحشد بروكس في الكتيب غنائية رعوية مغالية تدور حول " الإماء الراعيات ذوت النهود المكتنزة "، وأناشيد في وحدة الوجود الكاثوليكية، وهذراً عنصرياً جهيراً عن الروح الفرنسية والروح

_ (1) بريغهام يونغ Brigham Young (1801 - 1877) مبشر ديني، أقام في حوض بحيرة الملح العظمى، وهناك شجع الزراعة وأقام حكومة ثيوقراطية وأدارها على نحو دكتاتوري وكان أخلاقي الاتجاه ولكن مبادئه تقر تعدد الزوجات حتى يقال أنه تزوج 19 - 27 امرأة. (2) Transcendentalism وهي حركة فلسفية أدبية ترعرعت في نيو انجلند وكانت رد فعل لعقلانية القرن الثامن عشر وشكية لوك؛ ذات طابع رومانتيكي مثالي صوفي فردي وكثير من أفكارها يرجع إلى كانت يمثلها من الناحية الأدبية " الغاب " لثورو وبعض كتابات أمرسون ومن تلامذتها الكوت وجونز فري.

التوتونية. وإلى جانب هذا كله يقدم ثلاث دراسات لبقة في سير أناس قد أمرضهم الوجد التواق إلى المطلق، والقطعة التي كتبها عن دي جبران بين هذه الثلاث أقربها إلى الترجمة الحقيقة. أما الاثنتان الأخريان فإنهما تصطبغان بالتحليل النقدي، وبخاصة المقارنة الفذة بين سينانكور وبين آرنولد وجسنج. 3، - 4؟ أما كتاباه الثالث والرابع فهما سيرتان نقديتان قصيرتان، وأحد الكتابين عن " جون أدنجتون سيموندز " J. A. Symonds سنة 1914، والثاني " عالم هـ؟. ج. ويلز " The World of H. G. Wells سنة 1915 والأول منهما دراسة تتسم بالمواربة والروغان فتتجاهل مرض سيموندز العصبي، وتتردد بين التلميح إلى شذوذه الجنسي وبين إنكار وجوده، وتجعل من " النظام الاجتماعي " و " ربات الشعر " قطبين متعارضين وترى سيموندز نهباً مقسماً بين المتطلبات النسبية لكل من " الإنسان " و " الفنان ". ويصرح الكتاب بنظرية من أمتع نظريات بروكس وأقيمها وهي: أن " اختيار الأديب لموضوعاته ليس أمراً عارضاً " وأن الناقد يعالج أدباء بينه وبينهم " وشائج خاصة "، وأن الإنتاج النقدي " فلتات لسانية " و " أنصاف اعترافات ". أما دراسة ويلز فإنها تتخلل خمسة فصول من التحليل النقدي قبل البدء بالترجمة غير أن الفصل المتصل بالسيرة هو لب الكتاب، ومحصله أن والد ويلز كان صاحب دكان، وأن أمه كانت خادماً عند إحدى ربات البيوت، فارتفع ويلز عن طبقته، مثل ديكنز وديفو، بجهوده العقلية، ولذلك كانت كل آرائه وكل كتبه انعكاساً للانتهازية الوصولية التي تمثلها حياته. ويقول بروكس " إن الآراء والنظرات تقررها، إلى حد كبير، شخصيات أصحابها وأحوال حياتهم ". وهذا الكتاب من خير كتبه، ونظرته إلى ويلز على أنه صاحب دكان متميز، تدل على نفاذ بصر مدهش في عالمه الفلسفي السيال المتغير. 5، - 6، 7؟ وتلي ذلك كتبه الآتية: " أميركة تشب عن الطوق "

نشر سنة 1915، " الأدب والقيادة " Letters and Leadership نشر سنة 1918، وجمع كلاهما في مجلد واحد ومعهما مقال عن " الحياة الأدبية بأميركة " The Literary Life in America باسم " ثلاث مقالات عن أميركة " Three Essays On America سنة 1934 وقدم لها جميعاً بمقدمة تعتذر عما في تلك المقالات من " جرأة " و " رعونة ". وهذه المقالات الثلاث كلها بيانات عامة ودعوة إلى العمل، وقد كان لها جميعاً تأثير بالغ في جيل أدبي كامل، مع أنه لم يتضح أبداً ما هو العمل الذي كانت تدعو إليه. وقد صرح في كتاب " أميركة تشب عن الطوق ": " أن المرء لا يستطيع أن يكون ذا ذات، ما دامت غاية المجتمع غاية لا ذاتية، كتكديس المال "، وجرح القسمة الملتوية التي تجعل من مفكرينا طبقتين من الممتازين وأضدادهم، ابتداءً من ادوردز وفرنكلين؛ وعلق الرجاء كله على " ذات تقع في مجال وسط " وعلى تحقيق الذات الاشتراكية؛ ومجد وثمان، وسخر من " اهتمام امرسون؟ اهتماماً ناقصاً؟ بالحياة الإنسانية "، كما سخر من " التفاهة الغربية المشجية الجذابة " التي يتمتع بها أناس مثل برونصون ألكوت، ومن نقائض الغريبة المشجية الجذابة " التي يتمتع بها أناس مثل برونصون ألكوت، ومن نقائض سائر " شعرائنا ". أما كتاب " الآداب والقيادة " فإنه هجوم على الأثر الجائح الذي تطبعه الفلسفة النفعية الرائدة أو البيورتانية على الثقافة الأميركية، وأعلن أن الشعر والفن و " علم " ويلز قد تخلص المجتمع؟ في النهاية؟ من فساده الروحي. وتحدث بمصطلح جانح إلى الحدة عن بعض الشخصيات الناقدة والفنية، ممن أنجبتهم الأيام. وأما " الحياة الأدبية بأميركة " فقد صرح فيه أن الفنان الأميركي منفي ومجرم، ودعا إلى " مدرسة " من الأدباء ذوي " إرادة حرة " و " أنانية أصيلة جياشة العروق " لتعيد لنا غرس أرضنا الروحية ". 8 -؟ أما " محنة مارك توين " The Ordeal of Mark Twain الذي نشر عام 1920 فإنه أول كتاب عظيم يصدره بروس، وسنعرض له ببعض

التفصيل فيما يلي. غير أن مما يستحق التنويه هنا أنهذا الكتاب يمثل خير توازن حققه في الطريقة المتصلة بالسيرة، وفي إفادته من الكشوف النفسية والاجتماعية لتعميق " قوة الحدس في الذات " دون أن يغرق في أي واحد من هذه الأمور إغراقاً يخرجه عن حومة السيرة إلى حدود العلم أو ما يشبهه. فهذا الكتاب، في إحدى نواحيه، نقد " بيوغرافي " مباشر، ومن ناحية أخرى دراسة اجتماعية عرض فيها توين في ظل بيئة اجتماعية جائرة. وهو أيضاً، من ناحية ثالثة دراسة نفسية يجربها " هاوٍ " لا عالم، وفيها يستمد بروكس أفكاراً من فرويد مثل الكبت والتسامي وانعكاس الذات، وتقنيات التحليل الحلمي، ونظرية وظيفة الفكاهة، ويستمد من أدلر مصطلحات مثل " الاستعلاء المذكر " ويستمد من سائر النفسيين كل ما يستطيع التقاطه. 9 -؟ وفي سنة 1914 ظهر بالفرنسية كتاب عنوانه " هنري ثورو؟ المتوحش " H. Thoreau؟ Sauvage من تأليف ليون بازالجيت ولم يترجم إلى الإنجليزية ويطبع في أميركة قبل سنة 1924، ولكن بروكس قرأه فيما بين هاتين السنتين، فخلبته؟ فيما يبدو؟ طريقته التي تعتمد استعمال تعبيرات الأديب نفسه لإبراز أفكاره دون إشارة اقتباس، أو أي دلالة على الموطن الذي منه اقتبست. وقد كانت هذه الطريقة محض تشويه حتى حين طبقت على أديب مثل ثورو، يعد كل ما كتبه؟ إلا قليلاً؟ سيرة ذاتية مباشرة. فلما طبقهابروكس في كتابه " حج هنري جيمس " The Pilgrimage of H. James الذي ظهر عام 1925، لم ينتج عنها إلا " مرقعة " تامة. وتمخضت الطريقة عن سلسلة من المونولوجات الداخلية، تتدرج في سلم الإيذاء والإغاظة، ونحيل عقل جيمس الفذ إلى مستوى أشد شخصياته سذاجة، حتى تبلغ ذروتها في فصل عنوانه " مذبح الموتى " حيث تصل مستوى من السوقية يعز تصديقه، مستوى يظهر فيه جيمس عجوزاً سائلة الذنان (1) تشكو وحشتها

_ (1) الذنان والذنين المخاط الذي يسيل من الأنف.

في انجلترة بلاد سوء الأدب والغاصبين والشطار والمتوحشين ومحدثي النعمة والسوقة واللقطاء والعيارين. وإذا تغاضينا عما في " حج هنري جيمس " من سخف في الطريقة، لم نملك إلا أن نعده كتاباً هزيلاً، لأن بروكس، وهو ناقد محدود الخيال والحس الجمالي، إلى أقصى حد، قد شاء أن يكتب عن أديب لا يحبه ولا يفهمه. وقد كان يكره بخاصة كتب جيمس الأخيرة أو ما يسميه ف. أ. ماثيسون " المرحلة العظمى ". وكشف عن فهم قليل وتذوق ضئيل لأي واحد منها؛ ولو لم يكن هذا نتيجة حتمية لنقص جمالي، لكان نتيجة حتمية للقضية التي يرتكز عليها الكتاب وهي: أن جيمس قتل موهبته لأنه جذ الأسباب بينه وبين وطنه، وهذا الغرض قد اضطر بروكس إلى أن يتصور إنتاج جيمس متدرجاً وبين وطنه، وهذا الغرض قد اضطر بروكس إلى أن يتصور إنتاج جيمس متدرجاً في الانحدار، مثلما أنه افترض أن توين مضطهد اجتماعياً وأضطره ذلك إلى أن يغالي في تقدير جهد توين، إلى حد بعيد. غير أن الطريقة ما تزال تعتمد السيرة، ولكنها أقل ميلاً إلى اناحية الاجتماعية وأقل احتفالاً بالتحليل النفسي وأقل إظهاراً لنفاذ البصر في الإنتاج الفني؛ والقول الفصل فيها أنها؟ نسبياً؟ بليدة مجردة من كل معنى. 10 -؟ أما الدراسة الثانية المطولة فهي كتابه " حياة امرسون " The Life of Emerson الذي صدر سنة 1932. وهو أول أثر لم يدع الانتساب إلى الدراسات النقدية بل هو محض سيرة، ولا تحدوه غاية ككتبه عن سيموندز وويلز وتوين وجيمس (وعنوانه شاهد عدل على ذلك. حين سماه " حياة امرسون " ولك يسمه محنته أو حجه أو شيئاً شبيهاً بذلك) . ليس من قبيل المصادفات أن اختارته " النقابة الأدبية "، وأنه كان أول كتاب لبروكس يجد رواجاً شاسعاً واسعاً، وأنه كان الغاية التي انتهى عندها عمله الجاد، وبدأ قبوله الأشياء دون نقد أو تمحيص. وكان وقد وضع خطة

لدراسة ويتمان وملفل بعد دراسته عن جيمس ثم ارجأ ذلك أو تخلى عنه (ورد تصريحه بالعجز عن دراسة ملفل في قولته حين نشر " ملاحظة عن هرمان ملفل " الذي لم يعد طبعه منذ عهدئذٍ: " إننا لا تستطيع أن نتغلغل في خفايا الذات ") فأصبح إمرسون مثلما كان وتمان " الذات التي تقف في مجال وسط " وتجمع بين خصائص فرنكلين وادوردز وبين خصائص توين وجيمس. 11، - 12؟ وفي أثناء ذلك كان بروكس قد نشر عام 1927 مجموعة من قطع صغيرة بعنوان " إمرسون وآخرون " Emerson and Others وتحتوي: (أ) " امرسون؟ ست فصل " وهي في الدرجة الأولى ملاحظ للسيرة التي كتبها سنة 1932 (ب) " ملاحظ عن ملفل " (ج؟) ست مقالات أخرى. وفي سنة 1932 نشر " تخطيطات في النقد " Sketches in Criticism وهي مجموعة شاملة من مقالاته النقدية، بعضها يرجع في تاريخه إلى ما قبل 1920 وقد استخرجه من مجلتي " الفنون السبعة " Seven Arts و " الحر " وغيرهما. وكثيراً ما تصبح الطريقة المؤسسة على السيرة في هذه المقالات أمثولة ساذجة مطمئنة في موضعها وتكاد تسخر من نفسها مثل قوله: كانت عائلة بارنوم تهزأ منه وهو طفل فلما كبر أخذ يهزأ بالآخرين. أما التطورات الجديدة التي علقت به فهي انتقاله من مصطلح فرويد وأدلر إلى مصطلح يونج المصقول وبخاصة تلك التبسيطات المغرية، وإحلال مصطلح " انطوائي " و " غيري " محل الثنائية الأولى: " الممتازون " و " العاديون ". يزاد على ذلك نغمة جديدة من السخط المتبرم بالأدب الحديث (الذي يمثله هنري جيمس واليوت وغيرهما في مقالات مثل " المثقفون المحدثو النعمة " و " مبدأ التعبير الذاتي "؛ وهو يهاجم ذلك الأدب دون أن يسميه، ولكنه يكني عنه دائماً باسم " التعبيرية " أو أدب " السيكولوجيا " و " التجريب ". وكثير من تلك القطع ينحو منحى السيرة، كتلك القطعة القصيرة التي سماها " من حياة ستيفن كرين " وذكرى

جون بتلر ييتس. وقليل منها يعالج الأحياء لأن بروكس وجد نفسه مثل سنت بيف مواجهاً بهذه المشكلة وهي أن الطريقة المعتمدة على السيرة لا تبدأ عملها إلا إذا استوفت جميع الحقائق؛ أما ما حاوله فيها من نقد قليل فهو بعامة يشبه إرسال مدفع ضخم لينسف بعوضاً مثل هاملتون رأيت مابي ويواقين ميلر. 13، - 14، 15، 16؟ وفي سنة 1936، نشر بروكس أول مجلد من مشروعه الضخم عن التاريخ الأدبي للولايات المتحدة وسماه " ازدهار نيوانجلند ". وعلى ضآلة شأنه إذا قارنته بأمثاله من دراسات مؤرخي الأدب الجديين أمثال تين وبراندز ودي سانكتس وبارنغتون، فإن المجلدات الثلاثة التي تبعته خلال فترات امتدت إلى أربع سنوات لأوفر منه حظاً من الرداءة والضآلة. ذلك لأن " الازدهار " ذو موضوع؟ على الأقل؟ وهو الجو الثقافي في نيوانجلند قبل الحرب الأهلية، أي مسافة الخلف بين أديب وأديب؛ أما كتابه " نيوانجلند؟ اليقظة الأخيرة " فإنه محاولة الخلق جو ثقافي لأدباء نيوانجلند بعد الحرب الأهلية بشيء يشبه الأمر الحتمي " ليكن هذا وليكن ذاك " حتى ولو تم ذلك باختطاف هنري آدمز من وشنطن وكمنجز من قرية جرينتش واعتبارهما من مواطني نيوانجلند. وأما الكتابان الآخران وهما " عالم وشنطون ايرفنج " The World of W. Irving و " عصر ملفل ووتمان " The Time of Melville Whitman فقد تخليا عن هذه الوحدة الإلزامية وليس فيهما رابطة جامعة إلا تاريخان زمنيان، وإلا أن المؤلف اضطلع فيهما بمعالجة كل أديب لم تسبق الإشارة إليه. وهذه الكتب الأربعة جميعاً مراصف من الاقتباسات، وقطع من رسائل قديمة ووثائق، وسجلات من ملاحظ قيدت، وقوائم من كتب ألفت. وليس فيها وجهة نظر ولا مقاييس ولا عمق ولا فكر، وفيها حب دافق لكل واحد دون تمييز. ففي الأول يعد بنكروفت وبرسكوت وموتلي وباركمان معاً مؤرخين تصح المقايسة فيما بينهم؛ وفي الثاني يتساوى هاولز وجيمس في أنهما أديبان بارعان؛ وفي الثالث يعد جفرسون وهملتون وهارون بر

على قدم المساواة في السياسة؛ وفي الرابع يعد والت وتمان وجيمس وتكوم رايلي شاعرين أميركيين. ولا تزال الطريقة ضرباً من التلفيق، قائمة على مبدأ: اقتبس وانثر ما تقتبسه، وهلم جرا. ونجد بروكس واعياً لقيمة براندز وتين، ويقتبس منهما ما يستحسنه، ويعتبر كتابه اتباعاً لمنهجهما، ولكن عالمه الأدبي الواقعي الذي يقع تحت بصره إنما هو فوضى لا ضابط لها، تحكمها المصادفة والاتفاق. فمثلاً مر لوول عهد من الراديكالية لأن زوجه كانت تتوقد حماسة، وكان هو سهل الاستهواء، ثم انتهى ذلك العهد، لأن زوجه ماتت ولم يعد الإيحاء إليه سهلاً. وأما ملفل فإنه (لما كان ملاحاً) " أدرك في مقدمة السفينة المعنى التراجيدي للحياة " (لكن لِم لم يدركه دانا؟) (1) . وأشد ما يزعج بروكس، بعد أن كان فيما كتبه عن ويلز وتوين أديباً واضحاً تمام الوضوح، هو ما جد على أسلوبه من غموض وما ران عليه من غشاوة، وعجزه عن أن ينفذ من حجب الإبهام، وأن يحدد ما يريد أن يقول. وتدليسه في الكتابة، حتى ليصعب على القارئ أن يعرف أين هو النص المقتبس والمنثور وأين هو كلام بروكس نفسه نصاً. إن إبهاماً مثيراً ليحيط ببعض أقواله، فمن ذا الذي يستطيع أن يعين من هو الداعية إلى إلغاء الرق في بوسطن، الذي تلقى بالبريد أذن أحد الأرقاء إذا قرأ قوله: " وقد يتلقى المرء بالبريد ... الخ ". حقاً إن اهتمامه الأكبر منصرف نحو السيرة، ولكنها أصبحت؟ مع الأيام؟ سيرة تعجز عن أن تؤدي إلى نتائج أو تتمخض عن فأر ميت، كأن يقول مثلاً: لقد كان محتوماً على آدمز أن يكون ولوعاً بالفن؛ وإن آثار بو كانت تستمد وجودها من القلق المهيمن على حياته، وإن المبادئ السياسية عند موتلي

_ (1) المعروفون باسم " دانا " كثيرون، أما المعني هنا فهو رتشارد هنري دانا (الأصغر) 1815 - 1872 الذي نذر أن يكرس كتابته في سبيل البحارة، ومن كتبه " صديق البحار " وفيه يعرف الملاحين حقوقهم وواجباتهم ويعد مرجعاً في مصطلحات البحر وعادات البحارة.

كانت توجه كتابته التاريخية. 17، - 18؟ وفي أثناء ذلك، وقبل صدور كتاب " عالم وشنطون ايرفنج "، ظهر كتابان سنة 1941 أولهما مجلدة لطيفة الحجم عنوانها " في الأدب اليوم " On Literature Today والثاني " آراء أوليفر أولستون ". أما الأول من هذين فهو خطاب موجز ألقاه في كلية هنتر Hunter وهو نص على أن حال " الصحة والإرادة والشجاعة والإيمان بالطبيعة الإنسانية " تلك الخصائص الموجودة عند روبرت فروست ولويس ممفورد هي " الحالة المهيمنة في تاريخ الأدب "، وقد نرى فيهما؟ متسامحين؟ رد فعل مخلص هستيري لما يبدو أنه انهزام الشعوب الديموقراطية في أوائل سنوات الحرب. وأما " آراء أوليفر أولستون " فإنه أعمق وأشد خطراً؛ وهو ترجمة ذاتية محجوبة بثوب رقيق مما يسميه ذكرى " صديقي أوليفر أولستون الذي مات في العام الماضي وهو في أوائل عقده السادس "؛ وهو مسرب ترشحت خلاله كل الأحقاد المريرة التي تجمعت في نفس بروكس بعد أن كتب الأجزاء المعسولة في التاريخ الادبيز ولا ريب في أنه احتذى في هذه الطريقة نفسها كتاباً لراندولف بورن (1) عنوانه " تاريخ أديب راديكالي " History of a Literary Radical، وهو ترجمة ذاتية تهدف إلى التحدث عن " صديقي ميرو ". وقد أدى كتاب " آراء أوليفر أولستون " لمؤلفه عدداً من الأغراض الممتازة، فسمح له أن يكون صريحاً كيف شاء، وأن يستعمل مذكراته ويومياته مباشرة دون أن يعثر في ذيول حرج كثير. وأتاح له أن يغير ما قيده حيث أراد، لأن ما يكتبه هو حياة أولستون لا حياته هو نفسه، وقيض له أن ينثال كيف شاء في التحدث عن نفسه وعن قيمته " موضوعياً "، وأخيراً مكنه من أن يضحي بأولستون،

_ (1) بورن (1886 - 1918) : نصب نفسه متكلماً بلسان جيله في نقده للنظم الأميركية ونقد الأفكار العاطفية الخائرة في الأدب، وقد جمع بروكس آراءه النقدية والفلسفية ونشرها في كتاب " تاريخ أديب راديكالي ".

وأن يطيح معه بالصبابة الباقية من ضميره الأدبي، مشيعاً هاتين الضحيتين بشعائر ولادة جديدة معقدة. وقد تفنن بروكس في استغلال كل ضروب السخرية من شخص أولستون وتوصل إلى نتائج دهياء دقيقة مثل: " لو أن أولستون قرأ " كتاباً قرأه بروكس، لكان له نحوه شعور مغاير؟ أو: إن إحدى تعليقات أولستون " لتبدو لي مجاوزة حد الاحتمال وذلك أقل ما يقال في وصفها " 0 أو وأفق أولستون على رأي لبروكس وكانت موافقته؟ وهو العارف المطلع؟ توثيقاً يقوي رأي بروكس نفسه، وهكذا. (يبدو أن اسم اوليفر اولستون يرجح كفة الصفات الجاسية الغليظة في بروكس، فلو جزأناه هكذا: أو؟ ليفر؟ أول؟ ستون؟ لكان معناه: " يا كبداً من حجر كلها ") . إن كتاب " آراء أوليفر أولستون " قد تبرأ من عهدة الكتب الأولى لما فيها من " جهل " و " وقاحة "، ولكنه ذهب يحقق جهلاً ووقاحة، عجزت الكتب الأولى عن مشارفة حدودها. أما القواعد الجديدة التي طبقها بوضوح فهي " الكتاف " الضيق الذي شده تولستوي حول الأدب في كتابه " ما الفن؟ "؟ " إن أدبنا مريض حائد عن مركزه ويعكس دوافع الموت ولابد من " زجره " (كلمة " زجره " تعد مفتاحاً في نقده) (1) . ولم يعد الأدباء يمثلون صوت الشعب " والأدب الحق هو الذي ينقل مشاعر سليمة صحيحة "؛ لقد آن الأوان لكي نعيد الكلاسيكيات الأميركية؛ كان هنري جيمس " بليداً "، كان " ابناً آثماً عاقاً بأمه "، أما رامبو فكان " شقياً صغيراً مريضاً فريسة للعواطف المتصارعة "، وكان جويس " يسوعياً إرلندياً مريضاً " ومؤلفاته " تافهة " " داعرة " " منكرة الريح " " رماد سيجار احترق "، وكان لافورج " غلاماً جامحاً عنيداً "، وكان بروست " طفلاً أفسده التدليل " وهكذا. ويسأل بروكس: " ما الذي جعل بروست حجة

_ (1) بعد ما يقرب من أربعين عاماً أنتقم ايرفنج بابت من بروكس الذي كان في فصله الأول بهارفارد.

في الحب؟ وقد نجيب على ذلك قائلين: هو الشيء الذي جعل بروكس حجة في الصحة العقلية، أعني فقدان كلا العنصرين: الحب عند بروست والصحة العقلية في حال بروكس، فهذا الثاني كثي التحدث عن هذا الموضوع، فهو يذكر في كتابه ما أصاب أولستون من انحطاط عصبي ومرض نفسي، ويذكر الزمن الذي قضاه في مصح إنجليزي. وكلما ازداد بروكس معرفة بحال الأدب المعاصر تخلى عن النطق بلسان أولستون وأخذ يتكلم بصوت نفسه؟ وهو صوت أجش؟ في هذه المرحلة. وانتهى بطريقته المعتمدة على السيرة إلى غايتها المنطقية: إن كان النقد هو سبر غور الشخصية، وإن كان الناقد لا يكتب إلا عن أدباء تربطه بهم بعض الوشائج، وإن كان الأدب موجهاً بحياة الأديب فإن بروكس يستطيع أن يحيط بكل ما هو قيم في النقد لو أنه كشف عن جذور أدبه في حياته، واستبصر خلال ذاته. لقد سجل أولستون في مذكراته هذه الملحوظة: " إن المرء الذي يشجع بما لديه من تفاهات يكون دائماً امرءاً ناجحاً " وفي هذا القول عكس أولستون الوضع وكتب نعياً لفان ويك بروكس. 2 - على ما في " محنة مارك توين " من خلل، فهو أحسن كتب بروكس، إن لم يكن الوحيد الذي نجحت فيه الطريقة المعتمدة على السيرة، ومن ثم يستحق أن ندقق فيه النظر. وموضوعه أن مرارة توين " كانت وليدة نوع من العجز الكليل في حياته الخالقة، أو وليدة ذات حرون مخفقة، ولكنه حطم لديه معنى الحياة ". أما العاملان اللذان كبحا تطوره الخالق فأولهما؟ في المجال الفردي؟ سيطرة أمه عليه، وتعلقها العاطفي به، ثم كان أن خلفها في ذلك زوجه وابنته رمزين لأمه؛ وثانيهما؟ في المجال الاجتماعي: العصر المذهب

في أميركة (1) ، عصر التوسع التجاري ومقاييسه الكاذبة التي سنها رجال الأعمال، وبها اضطر الأديب لأن يعين رجل الأعمال المرهق على الراحة والاسترخاء، لئلا يتحطم. وربما كان في هذين العاملين نصيب أساسي من الصدق، غير أن بروكس حين يحاول أن يشد توين إلى سرير موضوعه البروكرستي (2) - حتى يحصل على المواءمة التامة؟ يجد نفسه مضطراً إلى أن يبتر هنا ويمط هناك، وأعني بالبتر أنه يستخف كثيراً بما أداه توين فيطلق عليه اسم مؤلف كتب ذات " مستوى هابط " لا تتجاوب معها إلا " العقول الفطرية الساذجة "، أما المط فهو مغالاته في تصوير مقدرة توين مؤكداً أنه كان في إمكانه أن يصيب حظ فولتير أو سويفت أو سرفانتس (3) . حقاً إن قلة من كتب توين هي التي لا تزال تستحق القراءة أما سائرها فقد أصبح اليوم مملاً صبيانياً، ولكن الحق أيضاً أن تلك القلة، وبخاصة " هكلبري فن " Huckleberry Finn و " الحياة على المسيسبي " Life On the Mississppi لا تزال أدباً من الطراز الأول. فحين يزعم بروكس أن توين؟ تحت ظروف أخرى؟ كان يستطيع أن يكتب " رحلات جلفر " أو " دون كيشوت " فهو مخطئ، وحين يزعم أن ما استطاع أن يكتبه؟ هك فن مثلاً؟ لا

_ (1) العصر المذهب في أميركة The Gilded Age هو فترة ما بعد الحرب الأهلية حين كان يسيطر على حياة الناس جشع جامح، وقد كتب توين قصة بهذا الاسم صور فيها الفردية في عصر ن القيم المبددة، ومن القصة أخذ الاسم فأطلق على الفترة نفسها؛ وفي قوله " المذهب " بدلاً من " الذهبي " إشارة إلى أن هناك خداعاً وتزويقاً ظاهرياً. (2) نسبة إلى بروكرست Procrustes وهو فيما تروي الأساطير لص كان يقطع الطريق على المسافرين ويشد الواحد منهم إلى سرير فإن تجاوزه قص من رجليه، وإن قصر عنه مطه حتى يسويه به. (3) بعد أن أكملت هذه المقالة بوقت عثرت على تلك الدراسة الممتازة " أميركانية فإن ويك بروكس " للكاتب ف. و. دوبي F. W. Dupee وقد طبعت في The Paretisan Reader سنة 1946 نقلاً عن Partisan Review سنة 1939. وقد لحظت أن دوبي تقدمني إلى الالماع لهذه النقطة (وهذا نص عبارته: " ولقد كان في مقدور صاحبنا أن يكون تولستوي آخر، لو وجد ظروفاً أحسن) - وإلى عدد آخر من النقاط.

يستحق الاهتمام، فهو أحمق. غير أن البصر المركزي النافذ في الكتاب، أعني إجراءه المقارنة بين طاقة توين في الإحساس وسماجة كثير مما حققه فذاك سليم رصين وإن كان مشوباً بالمبالغة. وفي الكتاب أشياء كثيرة مشمولة بقوة البصيرة ومن بينها: تعرف بروكس إلى أن رمز بحار المسيسبي هو النموذج الأعلى للحرية والرضى الخالق؟ حتى في الفن؟ عند توين (كما أنه يرضي بروكس لأنه في مجال وسط بين الرجال المثالي والعملي، بين الممتاز والعادي، بين ادوردز وفرنكلين) ومن ذلك أيضاً يقظته على أن استقبال توين الأخير في السرير يعد أنموذجاً رجوعياً مثل غرفة بروست المخططو بالفلين (1) ؛ وتنويهه بأن اهتمام توين بازدواج الشخصية في مثل قصته " التوأمان الغريبان " Those Extraordinary Twins إنما نوع من التذبذب بين الاستنارة والركود، وملحظه أن قصة " العصر المذهب " The Gilded Age حديث عن الأعمال في صور دينية. وفي الكتاب غير قليل من الحماقة والتشويه والإغراق في تبسيط ما يستمده من مارس وفبلن وفرويد ومن أي نظرية تقع في متناول يده، ولو كانت أخلاقية غثة، إلى حد أن يهتف قائلاً: أيها الأدباء ثوروا ما دام هذا النظام قد فعل ذلك بتوين! ولكن الأثر الكلي غاية في الإفادة، والكتاب إسهام طيب في تبيان تأثير النقد المعتمد على السيرة، ضمن حدوده، واتهام لبروكس الذي لم يفد منه في آخر أيامه. ولعل أكبر ضعف في الكتاب هو انعدام روح الفكاهة عند بروكس انعداماً مؤبداً مطلقاً (اقترح مرة أنه كان على آدمز أن يسمي سيرته " خيانة هنري آدمز " لا أن يسميها " تربية هنري آدمر ") ومما يميز منهجه أنه يحلل، في منتهى التزمت، نكتة من نكات توين أشوى فيها ولم يصب الهدف،

_ (1) كانت هذه الغرفة في وسط منزله في شاعر هاوسمان، وكانت مهبط وحيه، ولم يكن يغادرها إلا نادراً. ثم اضطر بعد سنوات إلى إخلاء المنزل بسبب بيعه إلى إحدى الشركات التجارية.

فهو يقتبس قولة توين الساخرة حين عهد إليه بتحرير Nuffalo Express " إنني لن أضر بالصحيفة عامداً متعمداً في أي وقت " ويعلق عليها بقوله: " يقيني أنه لم تستسلم أبداً إرادة خالقة، ببراءة، ودون ألم، كما استسلمت في هذه الكلمات ". ويقتبس مقدمة توين على " هك فن ": " إن الذين يحاولون أن يجدوا دافعاً في هذا القصص يقدمون للمحاكمة، والذين يحاولون أن يجدوا فيه عقدة قصصية يقتلون رمياً بالرصاص "، ثم يعلق عليها بقوله: " إنه ليشعر بأنه مطمئن إلى نفسه حتى إنه ليتحد الرقيب إن كان يمكنه أن يتهمه بوجود دافعٍ ما ". ومن أمتع المظاهر في " محنة مارك توين " الطبعة المنقحة المحررة التي نشرها عام 1933 دون مقدمة أو تعليق. ففي خلال الثلاثة عشر عاماً التي تقع بين تاريخي الطبعتين، كان عرضة للهجوم والتجريح من أجل كتابه، وبخاصة على يد برنارد دي فوتو. وعندما كان كتاب دي فوتو " أميركة أيام مارك توين "؟ الذي لم يكن إلا محاولة لتحطيم كتاب بروكس؟ عندما حروفاً تصف في المطبعة، أعلن بروكس أنه يعيد طبع كتابه مراجعاً منقحاً. إنني لم أقرأ الكتاب كلمة كلمة لأرى مقدار التغيير في الطبعة الثانية ولكن التغييرات التي تبرز من مقارنة عارضة تكاد لا تصدق: في ص 58: يدرج بروكس تعليقاً معترضاً قبل أن يحكي القصة ليفسر ما وقع فيه توين من تناقض على أساس أن ذاكرة توين كانت تخونه. في ص 61: يحذف مادة متهانفة النشيج عن توين وكيف حطم قلب أمه. في ص 63: يسقط جملاً قوية عن أن توين كال العزم مكبوح. في ص 93: يحذف هذه العبارة " وباختصار مرت جميع نيوانجلند ومرت معها جميع الحياة الروحية للشعب في حال من الأنيميا العصبية وظلت فيها حتى هذا اليوم ". في ص 95: يغير هذه العبارة " إن مؤامرة واسعة لا واعية حفزت كل

أميركة ضد الحياة الخالقة " ويجعلها " إن نوعاً من مؤامرة لا واعية ". في ص 96: يعمل بروكس بسرعة وحذق فيحذف هجوماً مقداره نصف صفحة كان قد صبه على أدباء أميركة واتهمهم بأنهم اتكاليون موزعو الرغبات لا قوام لهم؛ ويغير " ولم تكن أميركة سعيدة في الأساس " ويجعلها " أكانت أميركة حقاً أسعد أثناء العصر المذهب أكثر من أي شعب آخر؟ ويسقط " هاتين العبارتين الهامتين: (أ) كان شعباً كسائر الشعوب ليس لديه ما يعزيه من موسيقى شعبية أو فن شعبي أو شعر شعبي أو قل كان لديه من هذه أشياء شبيهة بالعدم. (ب) كانت حياة قبلية، حياة قطيع، فترة دون شمس أو نجوم، كانت شفق روح إنسانية، ليس لها ما تغتذي به إلا الماء المتدفق في كامدن والمن المجفف في كونكورد (1) . وبعد إشارة إلى فرح الأميركيين بالعمل حذف هذه العبارة: " وذلك قد خلاّهم شيوخاً هرمين، في سن الخامسة والخمسين ". في ص 98: يحذف " حكماً أخلاقياً " مفاده أن الشيطان قد اصطفى توين ليبعث به إلى الدمار. في ص 104: يغير " ودائماً يخضع في النهاية " إلى " ودائماً يخضع بطيبة في النهاية ". في ص 109: يحاول أن يحتفظ بمقررين فيعدلهما بتعبيرات مخففة، مثل:

_ (1) كونكورد قرية في ولاية ماشوست على بعد عشرين ميلاً إلى الشمال الغربي من بوسطن وقد كانت في منتصف القرن التاسع عشر مركز الحركة الفلسفية المثالية التي تضم امرسون وهوثورن وثورو والكوت. فلعل بروكس يرمز بالمن المجفف إلى ثمرات هذه الفلسفة المثالية.

" وربما اقترحت " ... " أتراه كان واعياً بها أو لم يكن ". في ص 131: يغير " اللعبة الأميركية المعروفة " و " القواعد الأميركية المعروفة " إلى " اللعبة المعروفة " و " القواعد المعروفة ". في ص 143: يغير " هذا الاستسلام الخلقي ... أكذلك نسميه؟ ... " إلى " هذا التسليم " (واضح أننا لن نسميه) . في ص 151: يضيف في درج الكلام شهادة جديدة ليقوي قضية مشكوكاص فيها عن خنوع توين المتذلل. في ص 154: يحذف تشبيهه توين بشمشون النائم " الذي أسلم غدائر شعره لزوجه الساذجة دليلة ". في ص 161: يحذف حكاية تنبئ كيف أن توين سرق دخينة، غايتها أن تثبت أنه كان طفلاً عنيداً صعب المراس. في ص 180: يحذف نكتة قالها توين عن روكفلر الأصغر وعن سياسة يوسف بمصر. في ص 182: يحذف ما يملأ الصفحة والنصف من مادة نقدية حادة تصف توين بأنه أديب عارف بإخفاقه ورجل أعمال في حقل الأدب. في ص 190: يحذف جملتين ومن الواضح أن عيبهما قلة التعصب الوطني وفيهما يقارن عقل توين مقارنة فاسدة باي عقل " لأديب فرنسي أو إنجليزي ذي مكانة ". في ص 192: يغير " أود أن أشير إلى " وقد يقال ". في ص 196: بعد أن كان " الصبر والضمير " هما " جوهر كل فن " أصبحا بعد التنقيح " يتعانقان بحياة الإبداع أيضاً ". في ص 261: يزيد لرأيه دفاعاً جديداً رأي مخالف يحمله لودفج لويزون. في ص 278: يحذف نكتة عما ترمى به نيوانجلند من صلف سوقي، كما يحذف تلميحاً يفهم منه أنه يغالي في تقدير مغزى إحدى القصص.

في ص 284: يشفع قوله " أحزان شعب بسيط " بقوله " أشدها تعقيداً " بدلاً من أن يقول " أكثرها نجاحاً ". في ص 292: " وربما كان هذا الاعتراف أكثر اعتراف مسف مثير للرثاء خطه أديب مشهور " تصبح: " ويقيني أنه اعتراف مؤسف جداً يصدر عن مؤلف مشهور ". في ص 315: حذف العبارة: " أنتساءل إذن لم كان مارك توين " يمقت " القصص؟ والجواب عن ذلك لأنه استطاع أن ينتج قصة واحد فحسب، وكانت مخفقة ". وليست هذه الأمثلة إلا نبذاً يسيراً من تغييرات لا تحصى عدداً؛ دع عنك ما تناول فحسب تصحيح خطأ نحوي أو اختصار تكرار أو تفضيل كلمة على أخرى. ومن ذلك كله، تظهر لأعيننا صورة من أقوال مرسلة صارخة، لابد من أن يعدل في نغمتها أديب قد علت به السن، ونمت لديه الحيطة، فهو يتحيل هنا، ويلطف المرسلات الخاطئة هنالك، ويعمل في المتناقضات يداً لبيقة. وهنا تتبدى لنا صورة خنوعٍ جديد، وتشبث بالوطنية، يضطرانه إلى أن يحذف كل ما يهون من شأن أميركة ونيوانجلند وجون ديفدسن روكفلر الابن، وصورة حيطة جديدة مستعدة لأن تتخلى عن جزء كبير من موضوع كتابه إذا شن عليه هجوم، وليست هذه كلها صورة جميلة. 3 - إن الموروث الذي انتهى إلى بروكس، من النقد القائم على السيرة، لموروث أصيل. فتكاد كل ترجمة أدبية أن تكون؟ إلى حد ما؟ نقدية (مع أن الدراسات النقدية نفسها، ربما لم تكن بيوغرافية إلا في القليل النادر) . وأول سيرة أدبية إنجليزية حقة هي " حياة دن وهربرت وغيرهما " لأيزاك والتون، وهي لا تهتم كثيراً بالشعر، لأن " أيزاك الطيب " ليس له ذوق

كبير في الشعر المتافيزيقي. ولكن، بعد قرن من الزمان، أي حين كتب جونسون كتابه، " تراجم الشعراء " Lives of the Poets وجد المحك النظيف الذي يستطيع أن يبين مدى ما تقدمه دراسة الحياة من يدٍ لفهم العمل الفني، وبرز النقد القائم على دراسة السيرة حقاً في مثل الحديث عن العلاقة بين شخصية روشستر الخلقية، وشعره في الفصل المخصص عن " حياة روشستر ". وبعد نصف قرن أصدر سكوت " تراجم القصصين " Lives of the Novelists فمشى بالطريقة خطوة إلى الأمام؛ من ذلك مثلاً استكشافه تردد الشخصيات البرجوازية الظريفة في قصص رتشاردسون وأن ذلك راجع إلى أنه ابن الطبقة الوسطى المتظرفة. وبعد سنوات قليلة تكتمل هذه الطريقة على يدي كارليل (الذي كان يرى التاريخ " جوهر سير عديدة لا تحصى ") وماكولي (مع أن أبدع مقالة كتبها وشرح فيها فرانسس بيكون دون شفقة لم تنجح في الكشف عن العلاقة؟ وهي علاقة واضحة لدينا؟ بين بيكون المحب للتنسيف وبيكون الفيلسوف النفعي) . وفي الوقت نفسه أخذت الطريقة تستعمل فيما يشبه " إثبات القضية بالبرهنة على بطلان نقيضها " وذلك في دراسة دي كونسي لكولردج وهي دراسة ترى الشعر من خلال مرض " جنون السرقة " والزواج التعس والإدمان على المكيفات وغير ذلك من العوامل الفردية التي يعثر عليها دي كونسي أو يخترعها. أما التطور العظيم الذي أحرزه النقد المعتمد على السيرة فإنه لم يحدث على أية حال في انجلترة بل في فرنسة عندما كان سنت بيف ينشر " أحاديث الاثنين " Causerie du Lundi مبتدئاً بذلك في منتصف القرن الماضي. وقد عرف الطريقة تعريفاً يكاد يكون كاملاً بقوله: يتكون النقد الحق؟ كما أحده؟ من دراسة كل شخص، أعني كل مؤلف، أعني كل ذي موهبة، حسب أحوال طبيعته لكي نقيم له وصفاً حيوياً حافلاً حتى يمكن أن ينزل؟ فيما بعد

في موضعه الصحيح من سلم الفن. وهذا التطابق التام بين الأديب وإنتاجه قاد سنت بيف إلى دراسة مسهبة لحيوات أهل الأدب، ابتداءً من المظهر الجسماني إلى أدق التوافه التي تملأ حياتهم اليومية. وقد استطاع أن يحصل من هذا الركام على بصر نافذ بالأديب وإنتاجه، وهو شيء عجز عنه الأدباء الثرثارون الذي اتبعوا طريقته؟ إلا قلة منهم -. وبين الحين والحين وسع في مجال السيرة؟ كما في مقاله عن جبون؟ فجعلها دراسة شاملة للعلاقة بين الأديب وعصره وبيئته، واضعاً بذلك أصول اتجاه جرت فيه الطريقة من بعد على يد تين، أكبر تلامذته. فقد بدأ تين نقده بدراسة السير مثل سنت بيف (ودراسته لبوب على أساس من علله الجسمانية في " تاريخ الأدب الإنجليزي " تدل على أنه لم يتنكر للطريقة إطلاقاً) ولكنه سرعان ما حولها إلى النص على الجنس والعصر والبيئة فأصبح ناقداً للأدب اجتماعياً حتمياً من النوع الذي يمثله النقد الماركسي في أيامنا. وزيد على هذه الحصيلة عنصر فكري يعتزي إلى ألمانية، فقد صرح غوته أن الفن ينبع من المرض وأنه نوع من الاحتجام. وحول وحول شوبنهاور هذا الرأي إلى النص على آلام الفنان، وأضاف إليه نيتشه تعديلاً يقول إن الفن ليس فحسب نتاج المرض، ولكنه تسجيل له، وأن كل فلسفةٍ اعتراف أو " نوع لا إرادي لا واعٍ من الترجمة الذاتية ". أما ماس نورداو فقد أشاع المبدأ القائل بأن العبقرية نوع من المرض العصبي في كتابه " الانحطاط " Degenerration. وحديثاً أكثر توماس مان من القول بأن الفن ينتج من المرض والاضطراب العصبي، مثلما تنتج اللؤلؤة من الصدفة، إلا أن الفن يكون نتاجاً لهذا المرض ووصفاً وتسامياً به؟ أكثر من هذا القول حتى عرف به؟ وهذا الرأي بالطبع هو نظرية " الجرح والقوس " التي انتحلها ادموند ولسن (1) لنفسه. لكن إن جردنا هذا الرأي من النص على المرض والاضطراب

_ (1) راجع الفصل الأول من هذا الكتاب.

العصبي وأحلناه إلى حتمية بسيطة تربط ما بين طبيعة الحياة لفردٍ ما وبين إنتاجه الأدبي كان ذلك هو القضية الأولى التي ينبني عليها النقد المعتمد على السيرة في وقتنا الحاضر. ومن هذا النقد عدد من الأشكال المعاصرة الخاصة أحدها يكاد يختص بهنري جيمس وهو التاريخ الخاص للأثر الفني نفسه: أي ماذا عمل الفنان وماذا سمع وماذا قال وفي أي شيء فكر أثناء خلق الأثر الفني. ولفرجينيا ولف طريقة خاصة طورتها في كتابها " القارئ العادي " بجزئيه الأول والثاني، مقتفيةً بذلك خطوات ليتون ستراشي الذي قصر همه تقريباً على الشخصيات التاريخية. وتعتمد طريقتها إحياء شخصيات أدبية ومدارس وعهود بصور حيوية وقطع أدبية مركزة لبيقية دسمة. ذلك لأنها تستحضر جو الذين تكتب عنهم وطبيعة حياتهم وطيب شذاهم. وليس ذلك تحليلاً ولا هو تماماً سير ولا هو نقد وربما كان نوعاً من " مسرحيات القراءة " (1) ، ومهما يكن أمره فإنه شيء خلاب بالغ القيمة. أما هربرت ريد فإنه قد عكس، في ترجمته لوردزورث، طريقة النقد المعتمد على السيرة، على نحو ساخر، وأخذ يحلل شعر وردزورث " ليفسر به حياته " مثلما أن النقاد الاجتماعيين كتين؟ ضمناً؟ وتوماس كنج وبل في هذا البلد؟ صراحة؟ يدرسون المجتمع متخذين الأدب نبراساً في دراسة التاريخ الأدبي لا العكس. وركز نقاد آخرون معاصرون اهتمامهم على الطريقة البيوغرافية مثل مارك شورر في سيرة " وليام بليك " وف. أ. ماثيسون في كتابيه " سارة أورن جيوت " و " النهضة الأميركية ". وبيتركونيل في " بودلير والرمزيون " وفي " الفضائل الدنيوية "

_ (1) Closet Drama، مسرحية تكتب للقراءة فحسب، لا للتمثيل. وتكون عادة من النوع الفكري الغامض الذي لا يتيسر للجمهور فهمه عندما يعرض عليه ممثلاً على خشبة المسرح. على أن هذا الاصطلاح نسبي، فالمسرحية التي لا تصلح إلا للقراءة في بلد، قد تكون صالحة للتمثيل في بلد أخر. ومن هذا النوع مسرحيات شللي وبيرون وبراوممج وتنيسون في انجلتره ومسرحيات توفيق الحكيم الفكرية وفريدة بشرفارس.

وفي كتب عديدة كتبت عن بيرون. ولدينا أيضاً عدد من السير الأدبية التي تعد دراسات نقدية قيمة ومنها: كتب جورج براندز عن غوته وفولتير وشكسبير ونيتشه دراسات جسنج وتشسترتون عن ديكنز. كتابا نيوتن آرفن عن هوثورن ووتمان. كتاب جوزف ود كرتش عن صموئيل جونسون. كتاب لينويل ترلنج عن ماثيو آرنولد. كتاب ماكس برود عن فرانتز كافكا. كتاب ولاس فاولي عن رامبو فيليب هورتن عن عارت كرين. أما الدراسات البيوغرافية التي كانت نفسية المنزع في معظمها فسوف نعالجها في موطن آخر. 4 - ويتصل بروكس عدد من المسائل التي لا ترتبط مباشرة بالطريقة البيوغرافية ولكنها تستحق البحث. وأولاها دينه لصديقه الحميم راندولف بورن الناقد الراديكالي الشاب اللامع الذي كانت بوادره تبشر بالخير قبل أن يعتبط سنة 1918 وهو في الثانية والثلاثين. فإن غضبته القوية هي التي أوحت إلى بروكس بكتابيه " أميركة تشب عن الطوق " و " الآداب والقيادة ". فلما اهتصر بورن قبل الأوان تناقصت حماسة بروكس بسرعة وهو الذي اقنع بروكس بحقيقة الصراع الطبقي في أميركة وساعد على تحويله من الجمالية الأوروبية الباهتة إلى الانشغال بالأدب الأميركي (غير أنه ليس مؤولاً عن الإقليمية الضيقة التي انحدرها بروكس في النهاية) ولو طال به العمر لكان ناقداً أميركياً عظيماً ولكان بروكس ناقداً خيراً مما هو.

وقد بلغ من أثر بروكس أن أصبحت له مدرسة، وأكبر تلامذته هم ولد فرانك ولويس ممفورد. وكان له أيضاً تأثير حقيقي في بول روزنفلد وماثيو جوزيفسون، وكان له تأثير موقت في ت. ك. وبل وف. أماثيسون (مع أن الأول انشق عنه وأصبح ناقداً ماركسياً، وانشق الثاني بعد كتابه " سارة أورن جيوت " لكي يستبدل بالدراسات البيوغرافية والاجتماعية المبسطة تحليلاً جمالياً جدياً عميقاً) . أما فرانك فكان أخلاقي النقد يكتب مواعظ ونصائح ينسجها من أوهامه. وأما لويس ممفورد من الناحية الأخرى فقد كان ناقداً خيراً من بروكس من نواحي كثيرة؛ وكتابه المسمى " اليوم الذهبي " The Golden Day أحفل بالمعرفة وأنفذ بصراً وألمع نقداً من مجلدات بروكس عن نيوانجلند؟ وهو يشاركها في الموضوع؟ وفي السنوات الأخيرة أخذ بروكس يتتلمذ له فينتحل أفكاره الصوفية عن العضوانية Organicism ويمجد عبقريته و " سلامته ". وأما ماثيو جوزيفسون فإنه قصر تأليفه؟ باستثناء دراسة شاملة عن الأدب الأميركي في " صورة الفنان أميركياً " Portrait of The Artist As American؟ على شخصيات أدبية فرنسية، وفيها صانه ذوقه الجيد المتأصل من الوقوع في الشطحات البروكسية. وأما بول روزنفلد؟ وعلله أكثر الجماعة استقلالاً؟ فإنه لم يكتب إلا مجلدين من الصور الأدبية أحدهما هو " ميناء نيويورك " Port of New york والثاني " رجال شوهدوا " Men Seen وهما مثل كتب بروكس يرتكزان في الدرجة الأولى على الشخصية ولكنهما أحفل بدقة النظر. غير أنه كأستاذه القديم هيونكر Huneker أكثر رغبة من بروكس في إشهار المغمورين من المحدثين وأكثر إحساساً منه بالقيم الجمالية. وأغرب ما في مدرسة بروكس هذه أنها على تماسكها فكل فرد فيها كان على وعي تام بنواحي العجز وضيق الأفق عند بروكس (قد نزعم أن هنا شيئاً من انعكاس الذوات) . وأحد نقد كتب عن بروكس حتى اليوم موجود في مؤلفات ممفورد

وفرانك وجوزيفسون وروزنفلد، وعند الأخير بخاصة، وكله كتب في فترة التلمذة المخلصة لبروكس. أما الفكر الرئيسية التي نجح بروكس في أن يطبع بها مدرسته فهي أن أميركة بعد الحرب الأهلية قد أصبحت بيئة ثقافية معوقة أقعدت ضحاياها من الفنانين بطرق متنوعة. ولو أنا قلنا " غيرت " في مكان " أقعدت " ووضعنا " محصولها " موضع " ضحاياها " لكان هذا مبدأ رصيناً قابلاً للتطبيق عن العلاقة الوثيقة بين الفنان ومجتمعه. أما في شكله الذي قاله بروكس فإنه تعميم فظ أدى إلى تشويه محتوم في كل الأحكام الأدبية؛ وهو نصف حقيقة لا حقيقة كاملة. ولم يقتصر تأثيره على مدرسة بروكس بل ارتسم أيضاً على الماركسيين الآليين أمثال غرانفيل هكس وف. ف. كالفرتون من الذين أضافوا إغراقات بروكس إلى غلوهم وتلقوا كالببغاء تبسيطاته الشديدة لأدباء مثل جيمس وتوين. وقد استمر مرير هذا المبدأ ما يقرب من جيل نقدي كامل إلى حد ما، وشمل بارنغتون (في دراسته لجيمس) وعدداً من النقاد السوفيت (كتبوا عن توين) وأثر في أدباء مبدعين كان عليهم أن يكونوا أحسن معرفة ومن بينهم دريزر وأندرسون. ومن أغرب المظاهر في إنتاج فإن ويك بروكس أن كل دراساته النقدية لا تعدو أن تكون حواشي مسهبة على بياناته ونداءاته. فكل من دراسته عن توين التي نشرت سنة 1920 والأخرى عن جيمس التي نشرت سنة 1925 إنما كانتا تعليقاً على جملة وردت في كتابه " أميركة تشب عن الطوق " سنة 1915 وكل ما فيهما من تشويه مضمن فيها وهذه هي العبارة: والواقع أن أي فحص للأدب الأميركي سيظهر فيما أظن أن من كان من أدبائنا ذا عبقرية ذاتية حيوية قد شله افتقاره إلى مستند اجتماعي، كما أن الذين كانت لهم عبقريات اجتماعية حيوية كانوا أيضاً عاجزين عن إنماء ذواتهم وتطويرها.

أما جيمس فهو أحد وجهين من هذا " الدولار " كما أن توين هو الوجه الآخر. وتبدأ الفترة الثانية بكتابه " حياة إمرسون " وتستمر خلال كتبه عن نيوانجلند. وكل المقررات فيها كأنما كانت كامنة في سؤال ألقاه في كتابه " الحياة الأدبية في أميركة " سنة 1921. ونص سؤال: كيف نفسر استحواذ الأدب الأميركي على الاحترام الكامل من الأميركيين يوم كانت أميركة في حقل الأدب كما هي في سائر نواحي الحياة أوضح صلةً بالاستعمار، أما اليوم وهذا الموروث الاستعماري يكاد يعفو أثره من حولنا فإن الأدب قل أن يستحوذ على احترام الأميركيين بل إنهم ليتبعون " أي إله " غريب من انجلتره؟ (واستطرد إلى القول بأن مما يميز دقة بروكس أنه قال " يتبعون كل إله غريب " ولم يقل " يتهالكون (1) على الآلهة الغريبة ") . أما البيان الأخير فهو كتابه " في الأدب اليوم " وقد نشر سنة 1941. وإذا اعتبرنا ما اعتاده بروكس من إرجاء أي شيء فترة لا تقل عن عشر سنوات، فإننا نتوقع على الأقل كتاباً آخر أو كتابين ينبثقان من واحدة أو أخرى من عباراته المشحونة بالتنبؤ والوحي. ولدى بروكس عدد من نواحي القصور استغله إلى حد ما لفائدته؛ ومن أوضحها لديه أنه مثل ادموند ولسن ناقد لا يحب الشعر أساساً، ولكنه على خلاف ادموند ولسن لم ينسق وراء أي رغبة للكتابة عن الشعر ولم ينشر أي شعر من نظمه مذ فارق عهد الطلب (وذلك شعر ضئيل) . لقد سأل في كتابه عن ويلز في لهجة خطابية: " أكان ويلز يستكيع أن ينظم قصيدة؟ " وقد يوضع هذا السؤال في الصيغة التالية: " أكان بروكس يستطيع

_ (1) تنظر هذه اللفظة إلى كلمة " هلوك " وتحمل بعض إيحاءاتها هنا.

أن ينظم قصيدة؟ " والجواب على هذا وذاك بالنفي المؤسف. ومن نواحي قصوره المتصلة بما سبق، افتقاره إلى ثقافة عامة كافية عريضة تتيح له أن يعالج الأدب الأوروبي (مع أنه ارجم هم وزوجه ثلاثين كتاباً فرنسياً على الأقل) . ومنذ أن نشر " داء المثالي " سنة 1913 لم يكتب شيئاً عن أي أديب أوروبي خلا مقدمات قصيرة لم تجمع؛ ومنذ أن نشر كتابيه عن سيموندز وويلز في سنتي 1914 و 1915 لم يكتب أي شيء عن أي أديب أو فنان إنجليزي خلا مقدمات وقطع صغيرة عن سوينبرن وجون بتلر ييتس. أما الأول فقد لقيه بلندن، وأما الثاني فقد تعرف إليه في نيويورك. وفي كتابه " آراء أوليفر أولستون " يدافع بروكس عن هذا القصور في صديقه أولاً باقتباسة من سنت بيف (الذي كتب قسطاً صالحاً من الأدباء الأجانب) يقول فيها: " لا يظهر للنقد الأدبي قيمته التامة وأصالته إلا عندما يلزم نفسه بموضوعات يعرف مصدرها وبالحقائق المحيطة بها، وبجميع ظروفها لأنه متصل بها اتصالاً مباشراً مطلع على أصولها البعيدة ". وثانياً باقتباسةٍ من ييتس لم يحسن فهمها وهي: " لا يستطيع المرء أن يطول الكون إلا بيد مغلفة بالقفاز وتلك اليد هي أمته، وهي الشيء الوحيد الذي يعرف المرء عنه شيئاً ما " ويعلق على ذلك بقوله: ذلك مبدأ أخذ به أولستون في كل إنتاجه ويصح لي أن أقول إنه لم يكتب بخاصة إلا عن موضوعات أجنبية فقد بدأ بموضوعات أميركية، وهل كان في مقدوره أن يوقف رغبته فيها؟ وهناك قصور آخر حوله بروكس إلى شيء يستحق التقدير، ذلك هو اعتماده الكبير على ملاحظه ويومياته وجملٍ يقيدها ونوادر وأقوال مأثورة، فكأنه دائماً يغتذي بما اختزنه من شحم، حتى إنه استعمل مادته عن إمرسون ف كتابه " امرسون: ست فصل " وفي " حياة امرسون " وفي " ازدهار

نيوانجلند " وفيما تلاه من مجلدات وفي مقالات عارضة. وتعود كل الحكايات والنوادر القديمة إلى الظهور مرة إثر مرة، نصاً أحياناً، مغيرة أحياناً، لأن بروكس رمى بالملحوظة ونسي الشخص الذي قال له غريلي: " في مقدورك أن تحدد لي شيئاً ما ". ولعله أكثر المؤلفين الأميركيين تكرراً منذ أن توفي توماس ولف حتى إنه في كتاب " محنة مارك توين " قد أعاد كل نادرة أو اقتباس مرتين على الأقل. وحتى إن سطراً مقتبساً من هربرت كرولي قد تكرر أربع مرات على الصفحة: 143 (تخلص بروكس من بعض المكررات في الطبعة المنقحة) . ولقد تصرف بروكس برصيده هذا حتى حوله إلى فضيلة، ومدح أولستون على عادة استعماله يومياته، مثلما كان ليفعل مشاهير نيوانجلند، أمثال إمرسون وثورو. وكان كتابه " آراء أوليفر أولستون " عاملاً كبيراً في استغلاله لهذا الرصيد الموفر لأنه مكنه من أن يطبع؟ دون تغيير؟ أية قطعة من يومياته لم يستطيع أن يستغلها في موضع آخر. وهكذا حصل على " سجق " سمين من علالةٍ لم يتبق منها إلا الجلد والشعر والقرون والذنب والكرش. أما نزعة بروكس نحو تيارين فكريين رئيسيين في عصرنا، وهما الماركسية والتحليل النفسي، فكانت كموقف من يأخذ القشر ويطرح اللباب. فقد أفاد من ماركس في كل فرصة وبشكل مبسط سوقي إذا اعتبر وظيفة الفنان خدمة اجتماعية مباشرة؛ مثال ذلك قوله: كان توين مفيداً لرجل الأعمال لأنه ساعد فكره على الراحة والاسترخاء، فكان بذلك عوناً للكفاءة؛ وحث لونجفلو الرائد في طريقه على المضي؛ وهزئ بارنوم من الناس فشحذ بذلك الغرائز التجارية. ومع ذلك فقد كان دائماً يهاجم ماركس متصوراً أن الماركسية حتمية اقتصادية آلية مسمياً نفسه اشتراكياً مثالياً (أشد أقواله السياسية انفعالاً في كتابه أن أولستون قوله " لا تستطيع الشيوعية أن تتغلغل في هذه البلاد لأن الأميركيين أحرار بطبيعتهم. ولدينا أشياء كثيرة نتخلى عنها

عدا السلاسل ". وفي هذا القول شيء من النغمة التي وردت في ماردت به إحدى العجائز على متدين متحمس يدعو لبعث ديني: إن من ولد في بوسطن ليس بحاجة إلى أن يولد مرة أخرى) . أما في التحليل النفسي فإنه بعد أن قضى العم يختلس من اجل السير التي يكتبها نظرات نصف مفهومة من مبادئ فرويد وأدلر ويونج وغيرهم، صرح في كتابه عن أولستون بأن " طريقة التحليل النفسي في كتابة السير ذات قيمة محدودة جداً وأنا اعتقد أنها إذا استعملت مرة فإنها لن تستعمل مرة أخرى ". ومن الطريف الممتع أن نشهد طريقة بروكس في النقد مطبقة على فإن ويك بروكس نفسه: كيف انحدر من أرومة هولندية كانت تقطن نيوانجلند القديمة ونيويورك منفياً في بلينفلد بولاية نيوجرسي، ثم ماذا كان أثر هارفارد والقصتين والشعر الهزيل الذي كتبه هناك، ثم ما أصابه من إرهاق ف خدمة القائمين على تحضير " المعجم المعتمد " The Standard Dicuionary ومجلة " عمل العالم " World " s Work؛ ثم نفيه إلى انجلتره والقاؤه المحاضرات من أجل الجمعية التعليمية للعمال؛ ثم إصابته بالعصاب وانحطاط القوى ودخوله المصح الذي دخله من قبله صديقه أولستون؛ ثم مصادقته للرجل الكسيح بورن، وموت بورن هذا؛ ثم نجاحه الأول في النقابة الأدبية وما تبع ذلك من نصر شعبي لم يحرزه ناقد أدبي أميركي أبداً وذلك حين كسب كتابه " ازدهار نيوانجلند " من " نادي الطبعات المحدودة " وساماً ذهبياً قدم " للكتاب الذي قد يبلغ مستوى الكتب الكلاسيكية " بالإضافة إلى جائزة بولتزر، واختيار " نادي كتاب الشهر " كتابه " نيوانجلند: اليقظة الأخيرة ". وهذا السرد قد يسمى محنة فإن ويك بروكسن أو ححه أو خيانته. وإلى أن يتحقق هذا فإن من أراد في الوقت نفسه أن يكتب شاهداً على قبر بروكس قد يحسن به أن يتخذ نموذجه ما كتبه بروكس نفسه عن لوول؛ ومن المؤكد أنه حين كتبه كانت صورة نفسه حينئذ ترتسم في ذهنه إذ قال:

وإذا كانت تلك النغمة الجديدة الجريئة التي استعلنت في " خرافة من اجل النقاد " (1) قد أدركها الفناء؟ نغمة الشاب الذي جهر بما في فكره، دون أن يحسب حساباً لما قد يظنه الناس أو يقولونه، نغمة الناقد يصيب ويخطئ، ومعه جنون الصبا، وهو غالباً مصيب غير أنه دائماً واثق من آرائه؟ أقول: إن كانت تلك النغمة قد تلاشت فإن نغمة أخرى قد حلت محلها، وإذا لوول الثاني هذا قد تخلى عن منهج لم كن يلائمه طبيعة واكتساباً؛ لقد تلبد ليصيد فمن قال إنه لم يصد؟ اقبلوه على علاته، لا تذكروه بدعاواه القديمة، لا تحرجوه بالأسئلة، وانسوا الآراء الراديكالية التي كان يؤمن بها في شبابه، ودعوه يبتهج بالملكيين ورجال الكنيسة ومحبتي البيرة الطيبة والغلايين المطيبة ممن لا يأبهون كثيراً بقانون إلغاء العبودية، ولا تضيقوا عليه الخناق بالتلميح إلى تقلباته وانحرافاته الخائرة. لو غيرت بضع كلمات وتنازلت عن بعض التسامح، لجاء هذا النص صالحاً لبروكس نفسه.

_ (1) " خرافة من اجل النقاد " قصيدة هجائية ساخرة من نظم لوول نقد فيه الأدباء الأميركيين وحداً واحداً، وقص كيف تجمع الآلهة على الأوليمب، ووعدهم أحد النقاد بأن يحضر لهم زنبقة ثم غاب طويلاً ومر بحقول الأدباء وعاد الآلهة يحم شوكة، فغضب أبولو وتحدث عن العهد السعيد الذي مر على الأدب قبل أن يظهر النقاد.

الفصل الخامس

الفصل الخامس كونستاس رورك والنقد القائم على الموروث الشعبي عندما توفيت كونستانس رورك سنة 1941 عن ستة وخمسين عاماً، كانت قد بدأت تجد وجهتها؛ فقد نشرت ستة كتب، وكانت تعمل في إنجاز كتاب ضخم ذي ثلاث مجلدات، عنوان " تاريخ الثقافة الأميركية " History of American Culture، لم تكن كتبها الأخرى إزاءه إلا مجرد كشوف أولية. وقبل بضع سنوات، اهتدت في كتابها " تشارلس شيلر " Charles Sheeler إلى ما يمكن أن يعد أكبر يدٍ لها في النقد الأدبي المعاصر، وذلك هو طريقتها في تحليل الفن الشكلي بإرجاعه إلى جذوره المسترسلة في الموروث الشعبي. وفي الوقت نفسه اهتمت بإيجاد موروث شعبي أميركي، وتنظيمه وتفسيره وإشاعته، ليكون في متناول فنائي المستقبل. إذن كان عملها تحليلياً وتركيبياً في آن، وهذان الاتجاهان معاً، يمثلان إحدى الحركات التي تبشر بالخير في مستقبل النقد الأميركي، ولكن مع الأسف لم يتعهدها أحد من النقاد بعد موتها. وأول كتاب لها بعنوان " أبواق العيد " Trumpets of Jubilee نشر

سنة 1927 (1) وهو دراسة لخمسة أشخاص أحرزوا قبولاً وإقبالاً من الناس بأميركية في منتصف القرن الماضي وهم: ليمان بيشر وهاربت بيشر ستاو وهنري وارد بيشر وهوراس غريلي وب. ت. بارنوم. فهو كتاب في السير إلى حد، وتاريخ اجتماعي بعض الشيء، ونقد أصيل حيناً ثالثاً، وبخاصة في الفصل الذي كتبته عن السيدة ستاو، الشخصية الأدبية الوحيدة في تلك المجموعة (بما في ذلك تحليلها الفذ للعلة التي جعلت لقصتها " كوخ العم توم " Unche Tom " s Cabin قوة لم تبلغها سائر قصصها، ومقارنة بهرثورن على جانب عظيم من عمق الإدراك) . وبعض ما كتبته في التاريخ الاجتماعي بتعمق العوامل العلية الكامنة، غير أن قسطاً كبيراً منه ليس أكثر من انسياب على السطح، وتقريرات عن غرائب الإناث والأزياء. أما المادة الشعبية في الكتاب؟ وهذه تضم قطعة من أغنية " الشيخ دان تكر " Old Dan Tucker دست حشواً، وبعض القصص الطويلة الظريفة؟ فكلها من النوع السطحي، وهي ذات لون محلي رفيع. وأقل فصوله إرضاء ما كتبته عن عائلة بيشر، لأنها لم تحاول أن تحدد تماماً سر حب الناس لهم. وخير ما يرضي فيه، بعامة، هو الفصل الذي عقدته لبارنوم، وهو دراسة لامعة تجعل من الشخص المدروس مثابة " عملاقية " جيلٍ كامل. ولعل أبعد ما فيه تأثيراً صورة هوراس غريلي، وهي قصة عميقة الإثارة، ترتقي في تأثيرها إلى مستوى المأساة، لأنها الموطن الوحيد الذي سمحت فيه الآنسة رورك لنفسها بالاتكاء على ناحية صحفية حين رسمت صورة ساخرة للتبجحات الاجتماعية التي تشدق بها أبناء غريلي، بعد موت أبيهم. والكتاب كله أخلاط شتى إلا أن فيه كل المعالم التي ستظهر في نتاجها المتأخر، جاهدة لتشق لنفسها طريقاً خلال قشرة التاريخ الاجتماعي التقليدي.

_ (1) قيل لي أن الآنسة رورك نشرت قبل هذا قطعاً في المجلات باسم مستعار، ولكني حتى اليوم لم استطع أن أعرف الاسم الذي اختفت وراءه.

أما الكتاب الثاني الذي نشر في العام التالي وعنوانه " ممثلو الساحل الذهبي المتجولون " Troupers of the Gold Coast فإنه أقل كتبها طموحاً. وهو محالة مغمورة ممتعة سطحية، لاستعادة جو العهود الماضية، يوم كانت الفرق المسرحية متنقلة جوابة، وكأنما هو من بعض وجوهه " كشكول " ملئ ببرامج كانت تلبسه آدا منكن؛ ولا يحفل به وبقراءته إلا امرؤ يحمل ذكريات ذهبية عن طفولته أيام لوتا كرابتري ولولا مونتز (1) . وليس فيه ما يمكن أن يسمى تاريخاً اجتماعياً أو حضارياً، ولا يحوي من المادة الشعبية إلا اثنتي عشرة قطعة من الأغاني الشعبية التي كانت رائجة في ذلك العهد، وعدداً من صفحات مختصرة عن " الشخصيات التي كانت تقطن سان فرنسسكو القديمة، ومنها: المجهول العظيم، " جورج واشنطن "، والغلام السمين، وجترسنايب وروزي وكلبان أحدهما بمر والثاني لعازر والإمبراطور نورتن، وليست فيه طريقة نقدية ولا فيه حقاً نقد. أما كتابها " روح الفكاهة الأميركية " American Humour الذي ظهر عام 1931، وعنوانه الفرعي " دراسة في الشخصية القومية "، فإنه كشف

_ (1) هؤلاء نفر من مشاهير ممثلي المسرح في القرن الماضي: إدوين توماس بوث (1833 - 1893) : ممثل تراجيدي عرف بإجادته في تمثيل أبطال شكسبير، وهو أول رئيس لنادي الممثلين. وقد كان أبوه جونيوس ممثلاً كبيراً وكذلك أخوه الأصغر جون. آده آيزكيس منكن (1835 - 1868) : ممثلة بارعة اشتهرت في سان فرنسسكو ومدينة فرجينيا، وكانت صديقة لعدد من أدباء العصر في أميركة وانجلترة وفرنسة، ولها مجموعة من الشعر العاطفي الرقيق. لوتا كرابتري (1847 - 1924) : من مواليد نيويورك. اشتهرت بتمثيل الأدوار الميلودرامية التي كانت تكتب لها خاصة. اعتزلت التمثيل سنة 1891. لولا مونتز (1818 - 1861) : اسمها الحقيقة ماريا دولورس اليزا روزانا جلبرت. من أصل إيرلندي. راقصة وممثلة، لعبت دوراً هاماً في حياة لودفيج الأول البافاري. ثم هاجرت أميركة وعملت راقصة باليه وممثلة، ولاقت نجاحاً كبيراً في كاليفورنية، ثم اعتزلت التمثيل وعملت محاضرة متجولة.

جرئ عن نزعة واحدة في تاريخ الولايات المتحدة الحضاري. فالكتاب يقسم الثقافة الأميركية المتصلة بالشعب إلى عدد من الدراسات المتفرقة " وكثيراً ما يصح له ما يسميه كنث بيرك " التناسب الناشئ عن عدم التناسب " وذلك باستعمال المتجاورات في مهارة وحذق) منها: رجال الشمال ورجال الغابات النائية نموذجين أميركيين، استعراضات المنشدين الهزليين، الممثلون المتجولون المنتمون إلى الطوائف الدينية نموذجين " للجوابين " الأميركيين؛ لنكولن والكتاب الهزليون، الأديب الكلاسيكي الأميركي، الفكاهيون الغربيون، جيمس وهاولز صفحتين للفنان الأميركي، الأدباء المعاصرون خلال العقد الثالث من القرن. ويعامل فيه أشخاص الأدب الشكلي المتحضر على أنهم نمو للثقافة الشعبية مع قدر من التشويه في بعض الأحيان؟ وهو تشويه يصبح به هوثورن حاكي حكايات شعبية، وتصبح موبي ديك بأسمائها الهزلية المقتبسة من التوراة وبتورياتها النوتية قريبة النسب من كتب النوادر الدارجة؛ ولكن التشويه كثيراً ما يكون بعثاً لامعاً مثل التعرف إلى الشخصية الأدبية في لنكولن. وما تزال الآنسة رورك تحوم حول معنى أعمق من معاني الثقافة الشعبية، حول الأسطورة والشعائر التي تمثل " الأنموذج الأعلى " وهذا ما تعلمته من كتاب لجين هاريسون يسمى " الفن القديم والشعائر "، ولكنها تعجز عن تطبيق فكرته تطبيقاً تاماً، فهي تلحظ أن مايك فنك (1) كان " إله نهر المسسبي أي واحداً من الأرباب الصغار الذين يخلقهم الناس على صورتهم ويكبرونهم ليكبروا أنفسهم " وأن كروكت " قد أصبح أسطورة حتى في حياته " وأنه بعد موته " انتحل موقفاً أسطورياً أقوى من ذى قبل ". فهي إذن تفهم هذه العملية أي تلمح المبدأ " اليوهميري " (2) حين ينسج

_ (1) مايك فنك بحار على نهر الأوهايو والمسسبي ذاعت عنه الحكايات العريضة Tall tales وهي الحكايات المشوبة بالمبالغات مع قسط وافر من الأصول الواقعية، ومن أبطالها أيضاً ديفي كروكت الذي تتحدث عنه الآنسة رورك في كتاب مستقل، ويشغل ذكره مكاناً واسعاً في هذا الفصل. (2) هو مبدأ الفيلسوف الصقلي يوهميرس (القرن الرابع ق. م) وفحواه، إن الآلهة في الأساطير ليست إلا إشخاصاً ألهو.

شعب لا بأس بحظه من المدنية، في خلال سنوات قلائل، ثوباً أسطورياً لشخصية تاريخية، بدلاً من أن تدرك التطور الدينامي الذي تشتمل عليه نظرية الآنسة هاريسون حيث تنتحل الشخصيات التاريخية بما لها من ملامح " جانحة إلى شيء من الأسطورية " خصائص أسطورية وخرافات قديمة. وتلحظ الآنسة رورك أيضاً أن " الانتحال الأسطوري للحكمة " " لم يفتأ يظهر في الشخصيات الهزلية الأميركية " ولكنها تعجز عن أن تتقدم خطوة فترى فيه انتقالاً معقداً من التكهنات القديمة إلى Old Zip Coon (إن لم يكن انتقالاً مباشراً من طراز أفريقي) . وهي تذكر " المواد الأولية للأدب " وتعني بها " المسرح القائم من وراء الدراما، الاحتفالات الدينية البدائية التي سبقت هذين، والحكاية التي سبقت كلاً من المسرحية والقصة، والمونولوج الذي كان مصدراً أولياً لأشكال كثيرة ". وهي قادرة على أن تميز هذه النماذج القديمة التي تكمن وراء ما يشبه الشعر الشعبي الأميركي، ولكن ليس في طوقها أن تدرك " الأعمال الشعبية " وكيفية حدوثها مثل: النقل، والأصل المستقل والتكاثر والاستمرار والتغير وسائر الأمور التي قد كانت حرية أن تساعدها على فهم الوشائج وصلات القربى. وهي في أشد حالاتها اقتراباً منها تهتدي إلى تعريف سلبي (خاطئ بعض الشيء) حيث تقول: جذ الأميركي الأسباب بينه وبين صور الموروث التليد، وكأنما كان ذلك بدافع إجماعي، فنحى الموروث الإنجليزي الطبيعي، وموروثه من القارة الأوروبية في يسر واستخفاف. ولعل رومانتيكية الرواد الأول في علاقتهم بالهنود إنما كانت صورة لتلك الغزيرة التي تدفع شعباً جديداً إلى أن يملأوا أيديهم من موروث قديم، ذلك لأن الهندي كان يملك روابط قبلية

مكينة ليست متوفرة لدى الأميركي، بل إن محاولة تشرب المعارف الزنجية كانت محاولة من هذا القبيل، غير أن الزنجي ليس لديه ما يقدمه إلا صورة باهتة مشوهة من ثقافة أولية، كما أن السعي لثقافة الهنود كان عقيماً. إن ما تحاوله الآنسة رورك في هذا الكتاب هو أن تعرف " القاعدة البدائية " التي تشمل " الأغاني والأهازيج البدائية والمسرح الشعبي والحوليات الفجة " وهي غالباً ما تكون " مليئة بعناصر مبعثرة غير مصقولة، حافلة بالضراوة أو بالغرائب المنفرة " وعلى تلك القاعدة يقوم أدبنا، شأنه شأن غيره في هذا. وتحاول الآنسة رورك أن تنص على هذه العلاقة جاعلة منها موضوعها الرئيسي وموضع اهتمامها فتقول: من نسيج سداه تلك الخيوط الشعبية ولحمته تعبير جديد، على صعيد جديد، نشأ أدب متثل، كغيره من الآداب، بموروث شعبي قديم، يمكن أن نسميه " فولكلور "، لأننا لا نجد له تسمية أخرى. وترسم الكلمة النهائية في كتابها نوع المهمة الجامعة التي لابد من أن يؤديها النقد: قلما تجد بين الفنانين من عمل دون رصيد موروث خصب، ومهمة النقد هي " الكشف في الموروث الأميركي عن المواد التي قد يغمس فيها الفنان نفسه، والسعي لبثها ". وقد الكتابان التاليان محاولتين لبث هذا الرصيد الموروث. وأولهما هو " ديفي كروت " Davy Crokett (1934) والثاني " أودبون " Audubon (1936) . أما الأول فهو صورة لإخفاقها التام؟ كتب بالأسلوب الشائع الموجه في كتب الأطفال لقراء في عقدهم الثاني فما زاد على أن كان خليطاً ملبوكاً من شخصية كروكت الحقيقي والخرافي وسلسلة من حكايات " ممسرحة " تضم فيها " الحديث العريض " الذي يقصه أبناء كروكت حول البيت

ونسيجاً من خرافات كروكت المستمدة من " الحوليات " مع اهتمام ضئيل بالرجل الواقعي ومميزاته (1) . وقد بلغ بها الأمر أن تخفت صوت كروكت في الدفاع عن بدل وبنك الولايات المتحدة وتدفنه في جملة تتحدث عن موضوع آخر دون أن تحاول تفسيرها. إن كتابها " ديفي كروكت " غير علمي وغير تحليلي و " عامي " بأردأ معاني الكلمة، وهو بعامة هزيل لا يصلح للقراءة. أما " أودبون " الذي ظهر بعده بسنتين فقد عدل في الموقف بعض الشيء. ومع أنه ترجمة مباشرة، دون محاولة في النقد أو التحليل فهو في الأقل؟ على خلاف كروكت؟ لذ ممتع جيد الأسلوب وقد وقفت فيه غرارتها الساذجة عند حد قبولها الأسطورة التي تقول إن أودبون كان هو دوفن الصغير المفقود؟ وقولها بأن ذلك أمر جد محتمل؟ وسردها أسطورة عليه بالغة الظنية المفقود عن ابتكاره الجمع بين التلوين بالقلم وطريقة التلوين المائي، الذي اهتدى إليه اتفاقاً ذات يوم أثناء استعراض للصور. وقد وضع الكتابان في أيدي الأدباء الأميركيين مظاهر من موروث " الحد الأميركي " (2) وصنعا صورة لرجل الأعمال الرائد وللفنان الرائد ولكنهما للأسف قدما هاتين الصورتين على نحو لا يزري بالأديب الجاد أن يجهله أو يغفله. أما أول كتبها في النقد الشعبي الأصيل فهو " تشارلس شيلر " الذي نشر عام 1938، وقد وجدت في شيلر فناناً جاداً (وإن لم يكن من الجودة بحيث ظنته) استكشف موروثاً شعبياً أميركياً لنفسه وذلك هو الشكل

_ (1) يستحسن أن يتذكر القارئ الحقائق الآتية عن ديفي كروكت هذا: فقد انتخب عضواً في الكونغرس 1827 واتخذه حزب الأحرار أداة يقاومون بها جاكسون، ثم أصبح رمزاً لبطولة " الحد " الأميركي تصدر عنه الفكاهات " والحكايات العريضة " وباسمه ألفت عدة كتب، ولا يدري أحد على التحقيق مدى مشاركته في تأليفها. أما الحوليات المتعلقة باسمه فهي كراسات كان يصدرها عدد من الناشرين متسلسلة نحو خمسين، وتحتوي " الحكايات العريضة " التي تتعلق بكروكت نفسه وبمايك فنك وغيرهما. (2) الحد الأميركي هو الإقليم القفر الذي انتهى إليه الاستعمار الأبيض في أميركة، في أقصى توعله. وكان له أثر كبير في تشكيل بعض ألوان الأدب الأميركي كالبلاد والحكاية الطويلة وأدب اللون المحلي.

الوظيفي عند الحرفين الحذاق في الطائفة الشيكرية (1) ، فغرس في هذا الموروث جذور فنه، وأفاد فنه بذلك فائدة جلى. وحين ألقت على رسوم شيلر وصوره نظرة فاحصة (طبعت كثيراً من تلك الرسوم في كتابها لتشهد على ما تقول) استكشفت المبدأ الأساسي الذي فات عشاق الموروث الشعبي السابقين إدراكه، وهو أن الموروث ليس في الموضوع وإنما في الشكل وأن السر ليس في أن يرسم الفنان ابن الغاب (أو فتى الجبال) وهو يبني أهراء لغلاله وإنما في أن يرسم على طريقة ابن الغاب وهو يؤدي ذلك العمل. (ذلك هو الإدراك الكاشف الذي ساعدها على التبصر النفاذ فيما بعد، في مثل قولها: إن الأدباء الذين قالوا ليس لدينا موروث مسرحي وطني كانوا مخطئين، ذلك لأنهم لم يعرفوا أين يجدونه. أما هي فإنها تمعنت في الشعائر العامة التي تحيط المعاهدات الهندية، وفي الرواية التعليمية التي تشتملها الموعظة الكالفنية، وهناك وجدت الموروث الذي أخطأوه) . وعلى هذه الأرض الصلبة من الكشوف في كتابها هذا وثقت مبادئها بركاز جديد من الثقة، فكتبت تقول: " لعل تربة بلادنا لم تكن رقيقة فقيرة بحيث تعجز عن إنماء تعبير خالق ". وأبرزت كيف أن شيلر ذهب يدرس أشكال الفن المعماري والحرف اليدوية في إقليم بكس مكتشفاً مباني الطائفة الشيكريه وأثاثها وشعار الشيكريين القائل " لكل قوة شكلها ". وأظهرت كيف تميز شيلر في النهاية دليلاً هادياً لمن شاءوا أن يستغلوا الموروث الأميركي في مجال الفن، أميركيا دون أن يصبح إقليمياً، حديثاً وجذوره راسخة في أعماق الماضي، مستوحياً للأهراء الشيكرية وفن النحت الزنجي البدائي على حد سواء.

_ (1) طائفة تعتمد في شعائرها الاعتراف المكشوف بالخطيئة وتقول تظهور المسيح ثانية وقد سموا بهذا الاسم لأنهم يهتزون وينتفضون في إحدى رقصاتهم. ومن مبادئهم العزوبة والعيش في جماعات والقضاء على الملكية الفردية. وقد كانت لهم جهودهم التي ميزتهم في ميدان الفن المعماري والرقص والطقوس والأغاني.

ولو قدر لها أن تتجاوز هذا إلى صعيد جديد من التجريد لوجدت العلاقة الشكلية بين الأهراء الشيكرية وفن النحت الأفريقي ولكن ذلك لم يكن في طوقها. لقد كادت؟ دائماً؟ أن تمد الوشائج بين هذا بين هذا الموروث الأميركي وذلك التيار الكبير من الثقافة الشعبية العالمية (وفعلاً أدركت أن وراء القصة العريضة التي جرت في المقبرة في قصة " حياة على نهر المسسبي " تكمن أسطورة أوزيريس، وأن الأساطير المتصلة بميلاد كروكت مأخوذة من قصص هرقل، وإحضاره النار من قصة بروميثيوس، ورصاصته الفضية من الأساطير الشمالية (السكندنافية) ومظاهر أخرى من رصيد كلتي أو أميركي هندي. أدركت كل ذلك، ولم يتجاوز بها إدراكها هذا الحد) . غير أنها كانت تفتقر إلى المتكأ العلمي والثقافة، بل ربما إلى الخيال لكي تحقق هذا بنجاح؛ ولم يستشرف طموحها هذا الهدف الضخم بل ظلت غايته القصوى أن يخلق موروثاً شعبياً أميركياً؟ على التحديد؟ ديموقراطياً في طابعه، لتناهض به الموروث الأوروبي الشكلي المصطنع اللاديموقراطي الذي أقامه أمثال إليوت. وقد أقرت بصعوبة هذه المهمة حين قالت: " يبدو أننا نذهب في بعض الأحيان نلمس موروثاً، غير أن ضروب الموروث ليس من السهل؟ في الغالب؟ كشف الحجب عنها، فإن ذلك يحتاج استقصاء طويلاً منظماً. وليس من اليسير بناء ضروب الموروث لأنها تستنفذ مسافة من الزمن لا يفي بها عدد قليل من الأجيال ". غير أن بضعة سنين أخرى ربما كانت كفيلة بأن تمكنها من إتمام قسط صالح في ذلك البناء. 2 - أما كتاب " جذور الثقافة الأميركية " The Roots of American Culture آخر كتبها فقد نشر عام 1942 أي بعد وفاتها. ويتألف من قطع موجزة أخذت من مخطوطتها التي سمتها " تاريخ الثقافة الأميركية "، وقد ظهر

عدد منها من قبل المجلات، ثم استنقذها فإن ويك بروكس من الضياع والإهمال، وأعدها للنشر وكتب مقدمتها. ومادة تلك القطع شذرات تضم: مقالة عن " جذور الثقافة الأميركية " ودراسة طويلة للمسرحيات الأميركية المبكرة، وقطعة عن الموسيقى الأميركية القديمة، وواحدة عن طائفة الشيكرية، و " تعليقة " على الفولكلور، ودراسة لفنان طبيعي مغمور اسمه فولتير كومب، وجولة حول مدى الثقافة الشعبية الزنجية الأصلية في استعراضات المنشدين الهزليين، وقطعة عن التوجيه الممكن الذي قد يساق لفن الرسم الأميركي. أما النقد الفني والموسيقي فإنه، لدورانه حول ما هو مغمور غامض نسبياً يتحاشى أن يكون فنياً لدى عينين وأذنين لم تملك الدربة الكافية. وأما الدراسة المسرحية فتكشف عن إحساس حقيقي بالمسرح، وثقة نفسية لديها فيما يتعلق بالأشكال الشعبية، ميزت كتابها على " فهرست التصميمات الأميركية ". وأجود مقالاتها تلك القطعة الصغيرة عن استعراضات المنشدين الهزليين بعنوان " موروث من أجل الأدب الزنجي " (1) ، فهي قد أظهرت تطور طريقتها النقدية بوضوح تام. وقد ناهضت الآنسة رورك فيها فريقاً من الأدباء، أمثال س. فوستر دامون، كانوا يزعمون أنه لا توجد ثمة مادة زنجية؟ أصالة؟ في استعراض المنشدين الهزليين، كما قاومت أيضاً أمثال جورج بلن جاكسون وغي جونسون ومدرسة نيومان آيفي وايت وكلهم يدعون أنه ليس ثمة من فن زنجي إلا وهو مسروق من فن الرجل الأبيض. فأظهرت رورك أن كل المنظومات الكلاسيكية التي كان ينشدها الرجل الأبيض في مواقف الإنشاد الهزلي إنما استمدت من غيره؛ فإن أنشودة " الشيخ دان تكر " لدان إمت كانت إما مقتبسة عن الزنوج أو من أصل زنجي خالص،

_ (1) راجع هذه القطعة في كتابها ص: 262 - 274.

وأنها ذات نغمة زنجية نموذجية وفيها أثر من صراخ الجوق، زنجي، ومحتواها كذلك مستقى من خرافات زنجية غامضة تدور حول الحيوانات وبخاصة حول طائر القيق والكلب القلطي (البولدج) وأن أغنية " الديك الرومي في التبن " ليست بالتأكيد إلا أغنية زنجية راقصة، وأن " ديكسي " تبدأ بأسطورة زنجية ذات ملامح من التوراة، وأن أغنية " نظف المطبخ " التي يلقيها المهرج دان رايس أسطورة من أساطير الحيوان ينتصر فيها الزنجي، وهلم جرا. ثم أظهرت أيضاً أن الأشكال الشعائرية والتقاليد في استعراض المنشدين الهزليين ودوراته الراقصة وصيحاته بالإضافة إلى مادته القصصية والموسيقية كلها زنجية أو مأخوذة عن الزنوج. وحين أتمت الآنسة رورك هذه المهمة التحليلية واستعملت الجزء الأول من طريقتها؟ أي تتبع الفن الشكلي في جذوره الشعبية؟ اتجهت لتنجز الجزء التركيبي من مهمتها، وهو تنظيم موروث شعبي يستعمله الفنانون. وذلك بأن أظهرت أن كثيراً من المادة الزنجية المتبقية في استعراضات المنشدين الهزليين على شكل مشوه مؤذٍ لم يبق لها من أثرٍ في غير هذا الموضع وأنه يمكن انتزاعها من هذه المواقف التهريجية وتنقيتها وصقلها، لكي تهيء موروثاً حيوياً للأدب الأميركي الزنجي. (لم تفد الآنسة رورك بل لعلها لم تعرف واحدة من أحسن الشواهد الموضحة في قضيتها وهي الأغنية الهزلية " الذبابة ذات الذنب الأزرق " فهي على احتجابها في ثوب اللهجة التهريجية الرخيص لا تزال أغنية جادة جميلة تصور تبرم الأرقاء وثورتهم) . ولم تتناول الآنسة رورك؟ لأن طبيعة موضوعها تخصصية؟ ما يمكن أن يعد المشكلة الأساسية القائمة حول المادة الشعبية الزنجية الأميركية، أعني قرابتها المعقدة بالأسطورة والشعائر الأفريقية البدائية، كما أنها لم تتناول، في الصعيد العام، المشكلة الكبرى في بحثها، وهي القرابة العامة بين الفن والشعائر جملة. وفي موضع آخر من كتابها، أعني ف مقالها المطول " نشوء

المسرحيات الأميركية " (1) ، وفي قطعة منه عنوانها " الموروث الهندي " وجدت المشكلة تقع في صميم موضوعها تماماً، فعالجتها في بضع صفحات، وكانت معالجتها على يجازها فذة موحية. فهي تذهب إلى أن المعاهدات الهندية أقدم أنواع المسرحيات الأميركية وأنها مصدر للمسرحية الأميركية المتأخرة إلى جانب الموروث الأوروبي؟ مصدرها الثاني؟ وتصف طبيعة هذه المعاهدات بقولها: كانت هذه المعاهدات مسرحية في أساسها؟ روايات تاريخية تسجل ما يقال في المناقشات وتتضمن نتفاً من أعمال، وتبادل الهدايا والخرز وتدخين الغلايين، وكثيراً من الشعائر الراقصة والصيحات وتدخين الغلايين، وكثيراً من الشعائر الراقصة والصيحات والأغاني الجوقية. بل إن الشكل المكتوب من هذه المعاهدات كان روائياً: إذ ترتب أسماء المشتكرين فيها في جرائد، كما تصف أسماء الشخصيات في الرواية، وترقم الأعمال الشعائرية بدقة وتستعمل عبارات رمزية لتختم بها العهود بل لتثير الأسئلة. ولم تكن المعاهدات هذه روائية فحسب ولكنها كانت كالمسرحيات اليونانية مؤسسة على نماذج من الشعائر البدائية، فالمعاهدات الأبرويقية (2) كانت تستعمل الأشكال التقليدية من كتب الطقوس الأيرويقية. وكل الترتيبات التي تتخذ في الاحتفالات الشعائرية كانت مؤسسة " على تجربة جماعية بعيدة الجذور ". وقد بينت الآنسة رورك أن الخمسين معاهدة هندية التي عرف أنها طبعت تكون مجموعة من الأساطير والأغاني التي تدور حول بطل واحد وأنها " ذات نسب ملحمية وموضوعات ملحمية كذلك " وهي

_ (1) انظر " جذور الثقافة الأميركية " ص 60 - 75. (2) نسبة إلى الهنود الايرويقيين وهم قبائل خمس اتحدت معاً حوالي 1570 ومن أبطالهم Mohawk الذي خلده لونجفلو باسم " هيواثا " في إحدى قصائده.

" شعر من طراز رفيع ". وتؤكد الآنسة رورك أن هذه كلها ليست أول مسرحيات لنا فحسب وإنما هي أيضاً خير مسرحيات قديمة، ولابد؛ " أذ لا نكاد نتوقع أن يكون في زمانها جهد فني فردي يداني مستواها في القيم الشعرية أو الخيالية، ذلك لأنها كانت تقليدية جماعية، تعبر عن قيم تجمعت منذ عهدٍ بعيد ". وتقترب الآنسة رورك هنا من المستوى الذي حومت حوله في كتابها " روح الفكاهة الأميركية "، أعني أن قيمة القربى بين أدب الفن وأدب الشعب ليست في النسيج السطحي للكلام الشعبي بل في النماذج الكبرى للشعائر البدائية، أي في الأساطير العظيمة. وفي فصل " تعليقة على الفولكلور " من الكتاب نفسه (1) تتعرف إلى أن شيئاً أساسياً يفتقر إليه موضوعها، إذ تتحدث عن استعمال الأدباء الأميركيين للمادة الشعبية حتى إنه لا يعدو أن يكون " وضع نتف غريبة إحداها مشفوعة بالأخرى " ولكنها تعجز عن أن تستبين ما هو الشيء المفقود، ويخفق هذا الفصل في أن يكون ذا نتيجة. أما الشيء الذي اكتشفته الآنسة رورك في هذا الكتاب فهو مبدأ نقدي أساسي يتمم ما استكشفه في كتابها " شارلس شيلر "، حيث توصلت هنالك إلى أن الموروث ليس في المحتوى بل في الشكل. أما ذلك المبدأ النقدي فهو تعرفها إلى أن الموروث الشعبي الأميركي ليس في المقام الأول طبيعياً بل تجريدي، ومن صوره تجريد موعظة جوناثان إدواردز، و " الدثر " التي تصنعها قبيلة نفاجو، والأعمال البطولية المنسوبة لجون هنري بطل الأناشيد الزنجية، والبسط الفرمونتية التي تحاك بالصنارة وأن الذي يرسم فيها هو مارين لا نورمان روكويل. وفي الكتاب عناصر أخرى متفرقة مدفونة كانت تبشر بشيء ما، ومنها: إدراك أهمية " الكليات " الجشطالنية

_ (1) الصفحة 238 - 250.

في دراسة الثقافات (وهو إدراك مستمد من ورث بندكت) ومنهج لتعليم الأدب الشعبي الأميركي بالكليات تعليماً جاداً، ودراسة للكيفية التي ينال فيها ناس مثل طائفة الشيكرية الصفة الجماعية التي " للشعب " خلال جبل واحد؟ ولكن هذه كلها محض وعودٍ حالت منيتها دون إيجازها. 3 - غادرت الآنسة رورك في كتابيها الأخيرين الميدان الشعبي بما فيه من الجمع والسرد والإعادة ودخلت في مجال النقد الشعبي الجاد. وليس النقد الشعبي، كبعض النماذج الأخرى من النقد المعاصر، طريقة مفردة ولكنه عدد من الطرق الممكنة تشترك فيما بينها في مادة واحدة. وتنتمي الآنسة رورك في اتجاهها هذا إلى مدرسة هردر، وهي تتبع جانباً واحداً من هذه المدرسة تتبعاً ممتازاً من حيث أنها مظهر للرومانتيكية في مقالها " جذور الثقاة الأميركية ". فتوضح كيف بدأت بنظرية مونتين في الشعر الشعبي أو الأغنية البدائية النابعة من الحياة الجماعية الرعوية، ثم مضت ذاهبةً خلال الحكمة الشعبية التي قال فيكو بوجودها عند البدائي، مستمرة في الإنسان الطبيعي عند روسو متطورةً في نظرية هردر عن الفنون الشعبية باعتبارها قاعدة وقوة مشكلة للفنون الجميلة في الشكل والروح والتعبير، متضائلة في " نزعة القدم " (antiquarianism) عند شليجل والأخوين غريم (أما جانبها الثاني وهو الموروث الممتد بين فيكو وهردر المزدهر في صورة " الكلتور " النازي فقد أغفلته الآنسة رورك) . وهناك موروث آخر من النقد الشعبي ولكن يبدو أن الآنسة رورك تكاد لا تعرف عنه شيئاً وهو المدرسة الإنجليزية الأنثروبولوجية في القرن التاسع عشر. وتبدأ بالسير أ. ب. تيلور والسير جيمس ج فريزر وتستمر في أندرو لانج وإ. س. هارتلاند وأ. إ. كرولي وغيرهم. ومع أن هؤلاء جميعاً يتميزون بسعة الاطلاع، ويتميز فريزر ولانج من بينهم بأنهما كانا أستاذين في الآداب

الكلاسيكية من الطراز الأول، إلا أن عملهم الرئيسي جميعاً لم يكن لدراسة الأدب بل لدراسة نماذج السلوك البدائي التي يقوم عليها أدبنا. وليس هاهنا مجا للتعليق إلا على عدد قليل من كتبهم الكثيرة. أما تيلور فإنه درس في مؤلفه الأكبر " الثقافة البدائية " Primitive Culture تطور الثقافة وقيمة ما تبقى منها: ابتداء من همهمة الساحرة الطبيبة في يد الطفل إلى بقايا الأنيمزم في الفلسفة. وأما كتاب فريزر " الغصن الذهبي " Golden Bough، وهو ضخم يقع في اثني عشر مجلداً، وغيره من كتبه، فإنها أخبار موجزة؟ مرتبة على نحو شعري؟ عن الأسطورة البدائية والشعائر التي تكمن في قاعدة كل مظهر من مظاهر حضارتنا. وأما لانج فإنه استوعب الميدان كله تقريباً، ابتداء من الطوطمية الأسترالية حتى هوميرس وحكايات الجنيات. ودرس هارتلاند الأسطورة والمعتقد دراسة مقارنة في مؤلفيه العظيمين " الأبوة البدائية " Primitive Paternuty و " أسطورة برسيوس " The Legend of Perseus. وعالج كرولي في كتبه " الوردة الصوفية " The Mystic Rose و " شجرة الحياة " The Tree of Life و " مثال الروح " The Idea of the Soul على التوالي الأصول البدائية للزواج، والدين وإحدى الفكر الفلسفية. وأتم أعمال هؤلاء وبخاصة في حقل الدراسات الكلاسيكية ما يعرف بمدرسة كيمبردج (مع أن جلبرت مري من أكسفورد أحد قادتها وأثر فيها علماء آخرون من اكسفورد مثل تيلور ولانج تأثيراً بعيداً) . وتضم مري وف. م. كورنفورد وأ. ب. كوك وجين هاريسون وكل هؤلاء عالجوا في كتب تتداخل ويتمم واحدها الآخر القاعدة الشعائرية الكامنة وراء الفن والمسرحية والملحمة والدين والفلسفة عند اليونان؛ فأبرز مري أنواع الصراع الشعائري المختفية بتحليل مشابه في ميدان الكوميديا الإغريقية وتتبع الفلسفة الإغريقية

منذ بدأت تباشيرها في الشعائر الدينية. ودرس كوك (الرب؟ الملك) الإغريقي دراسة شاملة باعتباره شخصية شعائرية. وتتبعت الآنسة هاريسون في سلسلة من الكتب تبدأ سنة 1882 أنموذجاً من الصراع الشعائري من خلال كل مظهر من مظاهر الفن والدين الإغريقيين على وجه التقريب. وأهم هؤلاء الأربعة جميعاً في مجال الحديث عن الآنسة رورك. هي الآنسة جين هاريسون لأنها الوحيدة التي تعرفها رورك من بينهم (فقد اقتبست منها مرة في كتابها " روح الفكاهة الأميركية ") كما أن الآنسة هاريسون مثال ممتاز لما كان يمكن أن تبلغه الآنسة رورك لو أنها كانت أكثر إطلاعاً وأتيح لها مرتكز ثقافي آخر. وأهم كتب الآنسة هاريسون كتابها " تيمس " وهو دارسة قيمة بالغة " للأصول الاجتماعية في الدين الإغريقي " كما تنعكس في الدراما والشعر والفن المنظور بل وفي الألعاب الأولمبية. وهو يمثل إطلاعاً هائلاً وخيالاً خلاقاً. وثاني كتاب لها مشهور هو " الفن القديم والشعائر " وهو خلاصة موجزة ذات أسلوب شعبي يضم آراء لجماعة (جماعة كيمبردج) عن صلات القربى بين شعائر الخصب الإغريقية البدائية والإنتاج الأرقى المتمثل في المسرحيالت وفن النحت. وكلا الكتابين ككتب الآنسة رورك يحللان أشكال الفن على اساس من جذورها الشعبية. ويبرهنان بالوثائق على موروث شعبي حي يؤسس الفنان عليه فنه. غير أن إدراك الآنسة هاريسون أن الشعائر هي المحور (أو كما يقول كنث بيرك " إدراكها أن الدراما الشعائرية هي القرار المكين ") وتفوقها في الإطلاع وفي خصب الميدان الذي اختارت أن تجنى ثماره قد جعلا كتابيها أساساً في النقد الشعبي لا ككتب الآنسة رورك التي لم تعد أن تكون موحية، طافية على سطح الموضوع. ولعل أهم المشتغلين في هذا المنهاج؟ دون أن تجمعهم رابطة؟ هم جسي وستون ولورد رجلان. أما الآنسة وستون فإنها متخصصة في حقل

القصص الرومانسية بالقرون الوسطى وبخاصة القصص التي تدور حول آرثر. فقد تأثرت فريزر ومري والآنسة هاريسون في مرحلة متأخرة بعض الشيء من تاريخ اتجاهها وقررت أن تطبق نظرتهم الشعائرية على أصول القصص الرومانسية. وكتابها " من الشعائر إلى القصص الرومانسية "؟ وهو كتاب بالغ التأثير بنى عليه اليوت قصيدته " اليباب "؟ شاهد على النجاح الذي أحرزته حين جعلت الأساطير الطسلمية أخيراً مفهومة على أساس من تكوينها في طقوس الخصب. وأما اللورد راجلان، وهو بارون انجليزي مستقل في بحثه جاف إلى حد ما، فقد كتب كتابين متصلين بالفولكلور " جريمة يوكاستا " Jocasta " s Crime و " البطل " (1) The Hero. والأول منهما دراسات في تحريم الزنا بالمحرمات وهو بالغ القيمة في صورته العامة وفي تحطيمه للنظريات الأخرى ولكنه تافه من حيث النظرية التي يقيمها راجلان نفسه في النهاية. والثاني من أهم الكتب المعاصرة التي لم تجد إقبالاً وتذوقاً وهو دراسة للأبطال التقليديين والشخصيات الدينية في حضارات شعوب مختلفة مثل: روبن هود وسيجفرد وآرثر وكوخولين وأوديب وروميولس وموسى وغيرهم (يتحاشى راجلان ذكر المسيح مع أن وروده في نماذجه أمر ممكن) ؟ وقد درس هؤلاء الأبطال كصور لأصل واحد هو الأنموذج البطولي الأعلى، فكتابه ليس تاريخياً ولكنه مأخوذ عن طريق الأسطورة من الدراما الشعائرية. وهذه هي طريقه جالتون الذي حدد أنموذج بطولة أعلى بتحديد اثنتين وعشرين صفة وجعل يقايس كل بطل إلى الصفات التي افترضها. (لقد قام الكتاب قبل ذلك ببعض هذه المهمة ومن بينهم الفرد نوت في كتابه " أساطير الكأس المقدسة " The Legends of The Holy Grail وأتور رانك في

_ (1) منذ أن كتبت هذا الفصل نشر بانجلترة كتاب عنوانه " الموت والولادة الجديدة " Death and Rebirth ولكني لم أستطع الحصول على نسخة منه حتى اليوم.

كتابه " أسطورة ميلاد البطل " The Myth of the Birth of the Hero ولكنهم لم يبلغوا مثل هذا التوفيق) وهذا الكتاب؟ " البطل "؟ سليط استعلائي اللهجة، محرج للنفس غالباً ولكن محتوياته العامة رصينة قاطعة ثورية (هي متضمنة فيما أنتجه فريزر؟ هاريسون؟ وستون) حتى إنه لو لقي انتشاراً لقضى بمفرده على كثير من الهذيان الذي يحسبه الناس نقداً شعبياً. ومما يقارن بهذا التتبع للنماذج الشعائرية الخفية مع أنحاء على الناحية الغبية، دراسة أقامها كولن ستل حول شكسبير في كتابه " مسرحية شكسبير الغبية؟ دراسة لمسرحية العاصفة " Shakespeare " s Mystery Play: A Study of The Tempest وراجعها مؤخراً بما اسماه " الموضوع اللازماني " The Timeless Theme ثم سار على خطاه ج. ولسون نايت في عدد من مؤلفاته. وآخر ورثي لهذه الطريقة هو جورج تومسون (أستاذ للإغريقية ومنتسب لكيمبردج سابقاً) الذي ضم. إليها الماركسية لينتج كتاباً متميزاً عنوانه " اسخيلوس وأثينا " Aeschylus and Athens وعنوانه الفرعي " دراسات في الأصول الاجتماعية للدراما ". وبالإضافة إلى استمداده الجم من " مدرسة كيمبردج "، نجده يفيد من حقل أوثق صلة بالعلم وهو الأنثروبولوجيا من النوع الذي يمثله مالنووسكي وباتسون. وأكبر مؤثر في إنتاجه هو كتاب " الوهم والحقيقة " Illusion and Reality الماركسي النزعة من تأليف كودول (وهو كتاب متأثر إلى حد ما بالنظرية الشعائرية) ومع أنه يقرأ دائماً اسخيلوس والدراما الإغريقية على ضوء الأصول الشعائرية (مع لمسات يوهميرية) فإنه ينص على الأصول الشعائرية نفسها من حيث أنها مظهر للعمل المنتج مع الوظيفة الرئيسية للسحر أو للتعاويذ أعني ما يجعل المحصولات تنمو. وهناك ناقد إنجليزي آخر اسمه ولتر ألن ومع أنه غير مهتم كثيراً بالشعائر فقد استغل الأسطورة استغلالاً لامعاً (مع المبادئ اللاهوتية) في دراسة الخيال القصصي عند أدباء مثل كافكا ومارلو وغراهام غرين وهنري

غرين في قطع حديثه نشرت في مجلات أو مجموعات. وكل الذين تقدم ذكرهم دارسون ونقاد بريطانيون، ولا يوازي جهودهم في أميركة إلا جهد ضئيل. وربما كانت أهم طريقة شعبية مثيرة في هذه البلاد هي طريقة وليم تروي، وهو ناقد أدبي كامل التطور يعمل على أساس من الأساطير والشعائر، ولكن بما أن الاثنتي عشرة مقالة ومراجعة، أو نحوها؟ التي أبرز فيها أفكاره لم تجمع بعد في كتاب، فليس لإنتاجه ذلك الاعتبار الذي يستحقه؛ وقد حلل القصة الزولائية على قاعدة النموذج الأسطوري الأساسي لقصته أورفيوس ويورديكه وفسر لورنس بعرضه على نماذج دوره المفضل فرأى فيه الرب المحتضر أو الملك الضحية، وقرأ مؤلفات مان على أساس عدد من الأساطير الأساسية والطقوس ابتداء من الشعائر التقديسية التي تكمن في قصة " موت في البندقية " Death in Venice إلى الأسطورة الاجتماعية الراقية التي تتخلل قصصه عن يوسف، ورأى أبطال ستندال " حمالي خطايا " تكفيراً عن غيرهم (1) ومؤلفاته امتداداً شعائرياً للدراما الإغريقية. وقرأ بعض قصص هنري جيمس بمصطلح أسطورة جنة عدن وهبوط آدام، ورأى تطابقاً بين جانسي عند فترجرالد وبين أبطال القصص الطلسمية، وبين ستار وايقاروس؛ ووفق أكثر من أي ناقد معاصر آخر (إن كانت شهادة جويس تعني شيئاً) بوضع النماذج الأسطورية والشعائرية الكامنة وراء انتاج جويس، وبتحليل أهميتها. ومع أنه يسمي طريقته أسطورية، ويعتمد على فريزر بخاصة للنماذج الكبرى التي يراها قابعة في صميم المعنى الأدبي، فإنه يستمد كثيراً من ماركس وفرويد (ومن مواد أخرى تعد نسبياً عويصة مثل غلم الطبيعيات) . وطريقته بعامة تنتزع إلى

_ (1) الاستعارة الدارجة في هذا أن يقال هو " كتيس الخطيئة " Scape - goat وهو تيس للتكفير يضع الكاهن الأعلى يديه على رأسه ويقر عليه بكل ذنوب الشعب ثم يطلقه فيحمل الذنوب كلها إلى البرية (انظر اللاويين 16: 1 - 23) .

الكثرة، حتى ليكون من الأفضل أن نسميها " دانتية " (فربما كان تروي هو الناقد الحديث الوحيد الذي يلح على حاجتنا لإحياء مبدأ دانتي بأن المعنى له أربعة مناسيب) ومهما يكن سمها فهي في أميركة أقرب شيء إلى الأمجاد التي سجلتها جماعة كيمبردج بانجلترة إلا أنها في نطاق ضيق. أما فرنسيس فرغسون، أهم ناقد أميركي يرتكز نقده حول الدراما، فقد نظر إلى الدراما من خلال النماذج القرابينية القديمة التي تصورها مأساة " أوديب الملك " لسوفوكليس. وقد جرب كذلك أن يقرأ شعراء وقصصيين مثل دانتي وجيمس ولورنس على الطريقة نفسها في قطع ينشرها في المجلات، ولما تجمع في كتاب شأنها في ذلك شأن مقالات تروي. وإذا استثنيت هذين الدارسين وجدت محاولة جادة قليلة في أميركة تنحو نحو النقد الشعبي في مجال الأدب الفني. لقد تأثر راندل جرل كثيراً بالأسطورة والشعائر في شعره ولكنه لم يستغلها في نقده الممتاز، إلا بين الحين والحين. ونجح جوزف كمبل وهو دارس وناقد للأدب الشعبي والميثولوجيا بعض النجاح (مع تبسيط مخل) Skeleton Key الذي كتبه مع هنري مورتون روبنصون. ومما يعرقل جهده في هذا الاتجاه استخفافه بالعوامل الشعائرية استخفافاً يحاول أن يحطم روابط الأسطورة بأرض الواقع، ويرسلها طائرة في الفضاء الرقيق؟ فضاء المتافيزيقيا واللاهوت المقارن أو ما هو أسوأ من ذلك. وأفادت ماري أوستن في عديد من كتبها بما أدته في مجالها الخاص حين تناولت العلاقة بين الأشكال والإيقاعات في الشعر الهندي الأميركي، وبين هذين الجانبين في الشعر الأميركي الحديث. وفي السنة أو النستين الماضيتين تدفق تيار فجائي من النقد الذي يهتم بالنماذج الأسطورية، بعضه؟ مثل " ادعوني إسماعيل " Call Me Ishmael لشارلس أولسون وكتب باركر تيلر عن الصور المتحركة؟ يستمد من علم التحليل النفسي فيصيب الحز فيما يفعله، وبعضه مشوش

أو سطحي كدراسات جيد وهنري ملر التي نشرها ولاس فولي بانجلترة، وقطع رتشارد تشيز في المجلات، وبعضه خليط من هذين مثل " أضغاث " Chimera. وهي مجموعة من أبحاث عن الأسطورة، ومن العسير أن نتكهن بمدى استمرار هذه الحركة أو إلى أي مدى تمثل نوعاً جديداً من معاداة النورانية أو تعكس اتجاهاً سارياً من انتحال الشعبية. وإلى جانب خطر الإخلاد إلى التفاهة والعبث هنالك خطران أفدح في الموقف الفولكلوري وكلاهما قد تجنبتها الآنسة رورك بحسن ذوقها. ففي أحد الطرفين هناك خطر " انتحال الشعبية " أي الاستمداد من الشعب لإظهار الحذاقه أو اتخاذ الفضائل الرعوية التي قد يتميز بها أثر بدائي سوطاً ينصب على كاهل الأدب الشكلي. وأبرز مثل على هذا هو تلك العبارة التي تكاد لا تصدق في كتاب " ما الفن " لتولستوي (1) حيث يصرح بتفضيله تمثيلية صامتة عن صيد الغزلان بين قبيلة الفوجل (وهي في نظره عمل فني سليم) على هملت (وهي محاكاة كاذبة لعمل فني) . وفي الطرف الثاني تقع " شعبية " النازية أي غيبية الهلاس المتصل بالعرق والوطن، وخير أدب مشهور يمثلها هو مذهب لورنس في البدائي وإلحاحه على أن الفلاحين والهنود وشتى البدائيين يفكرون " بدمائهم " ويعرفون بقوة " بصائرهم ". وقد وضحت الآنسة رورك أنها على وعي بالأخطار القائمة في الطرف الأول حين ألمحت مدى الخلف بين الاستعمال المزيف لمادة تنتحل المظاهر الشعبية على يد غرانت وودن وبين الاستعمال الجاد للموروث الشعبي الرسمي على يد شيلر. ومع أنها لم تقل شيئاً صريحاً عن الخطر الثاني (وخاصة فيما يتعلق بهردر) فإنها قد هاجمت بذور هذا الخطر وسمته " تراجعاً " اجتماعياً. وهناك نوع آخر من النقد وثيق الصلة بالنقد الشعبي وهو التاريخ الحضاري الذي يعالج الفولكلور والأسطورة بالمعنى الآخر لهذين المصطلحين، وهو ما

_ (1) انظر الصفحة 225 - 226 من الكتاب المذكور.

عناه ثورمان آرنولد حين جعل " فولكلور الرأسمالية " Folklore of Capitalism عنواناً لكتابه مشيراً إلى المعتقدات العامة الخاطئة التي تنزع الرأسمالية إلى أن تثبتها. ويمثل فرنون ل. بارنغتون وهو أحد القلائل الجادين نمن مؤرخي حضارتنا، مقارنة ممتعة لكونستانس رورك فيما كتبه عن كروكت من حيث الطريقة. فبينما هي تهتم في الدرجة الأولى بسحر الأساطير نفسيها، وتنبعث متحمسة لتنكر كل شهادة تظن أنها تنتقص منها، نرى أن محاولته هي أن يسوي أساطير كروكت بردها إلى مكوناتها ومهماتها السياسية. وفي تحليل آخذ بالفتور تدريجاً في كتابه " التيارات الكبرى في الفكر الأميركي " يعري البطل الخرافي حتى يبرز من ورائه كروكت الحقيقي: شخصاً مريضاً جاهلاً مغروراً خلق منه الماهرون من محرري الصحف المنتمين لحزب الأحرار رمزاً أميركياً حين كانوا يبحثون عن أي " دلول " يقاومون به زعامة جاكسون. واستغله حزب الأحرار طوال أن كان صالحاً لذلك ثم قذفوا به جانباً كالحصاة حين أنكر عليه الناخبون أبناء الغابات سجله الانتخابي الذي يشير إلى مساعدته الدائمة لمصالح المصارف الشرقية. ويظهر بانغتون كيف أن الأسطورة بنيت لبنة لبنة ويخمن بحذق عمن كان " شيطان الوحي " في كل كتاب، ويدل فيها على مواطن الدعاوة الدائمة ضد جاكسون التي استخفت وراء نوادرها الهزلية. وبالتالي يبرز كروكت وقد أخذ نفسه يصدق تلك الأساطير شأنه في ذلك شأن كثير من الأبطال الحقيقيين الذين تنسج الأساطير من حولهم. أما الآنسة رورك فلم تزد على أن تؤكد، متحدية وزن البراهين كلها، أن كروركت هو نفسه الذي خلق الأساطير بشخصيته وحديثه الطلي الأصيل، أما حزب الأحرار " فربما زادوا إلى شهرته زخماً "، وأنه هو الذي كتب تلك الكتب جميعاً أو؟ على وجه التقريب؟ وأنه كان شخصاً ديموقراطياً شريفاً قاوم جاكسون لمصالح ناخبيه بشرف. وأصوب من هذا الاتجاه الذي

سارت فيه الآنسة رورك أن يؤخذ رأي بارنغتون عن المكونات السياسية التي جعلت من كروكت بطلاً شعبياً ثم تدرس الطريقة التي أصبح بها هذا الشخص المجتلب فيما بعد أسطورة شعبية أصيلة أو؟ على الأقل؟ أسطورة منقولة إلى المجالات الشعبية في " حوليات كروكت " Crocket Almanacs بعد موت كروكت نفسه. (ويبدو أن بارنغتون لم يسمع بهذه الحوليات أو لم يعرها اهتماماً وفيها يظهر كما تقول الآنسة رورك بحق " آثار قليلة من التحيز السياسي ") . ومن صور هذا التاريخ الحضاري بأميركة ما هو أدنى من كل ما تقدم وتلك هي الصورة المتسلسلة للعقلية الشعبية الأميركية التي قدمها منكن في سلسلة عنوانها " محاباة " Prejudices، وفي عدد من الكتب الأخرى (تبدو فيها شهرة بريو مع توافه شؤون الطبخ على مستوى واحد من الأهمية من حيث هما مظهران حضاريان للعقد الثالث من هذا القرن) . كذلك فإن من صور هذا التاريخ الحضاري أيضاً كتاب " العهد الزاهي " Mauve Decade لتوماس بير ودراسات مارك هنا وستيفن كرين. ومن نماذجه النافعة المتخصصة ذلك المجال الذي اختطه مالكوم كولي أعني الجو الحضاري للأدباء في مقاليه " عودة المنفي " و " الجمهورية الجديدة " وهما قوائم تفصيلية؟ على طريقة منكن للكتب التي كان يقرأها الناس في أي سنة من السنوات، ونماذج مما كان يفكر فيه الأدباء أو يتحدثون عنه، وأحاديث عن الأثر الذي تركته في جيل أدبي أحداث مؤثرة مثل انتحار هارت كرين وهاري كروسي وفترة الانهيار الاقتصادي والبطالة. 4 - ثمة بعض مظاهر أخرى من إنتاج كونستانس رورك في حتجة إلى بحث، أحدها: التعارض الغريب أو مسافة الخلف بين عناوينها الرئيسية والفرعية في كتبها الأولى. فمثلاً جعلت لكتابها " ممثلو الساحل الذهبي المتجولون "

عنواناً فرعياً هو " أو ارتفاع نجم لوتا كرابتري " والكتاب في حقيقته أصغر من العنوان الأول وأكبر من الثاني بقسط وافر. وكتابها " روح الفكاهة الأميركية " عنوانه الفرعي " دراسة للشخصية الأميركية " وهو يناسب العنوان الفرعي أكثر من العنوان الأصلي لأن ما يتعلق منه بروح الفكاهة قليل جداً (إلا أن تكون كلمة Humor مستعملة بالمعنى الآخر الذي يستعمله بن جونسون أي " الطبع " وإذا كان العنوان تورية لا شعورية فإنه منطبق على موضوع الكتاب خير انطباق. غير أنها لو جعلت العنوان " المزاج الأميركي " أو " الأخلاط الأميركية " لكان ذلك أدق) . ولم يتحد العنوان الأصلي والفرعي فكيفا عن هذا التضارب إلا في كتابها " شارلس شيلر " وعنوانه الفرعي " فنان بمقتضى الموروث الأميركي " كذلك فإنه أول كتاب لها توجد فيه صلات قربى متينة بين الفنان الفرد والصورة الأميركية الكبرى. ولا مشاحة في أن إنتاج الآنسة رورك كان محدوداً، فقد كان ينقصها علم جين هاريسون واتخاذها الدراما الشعائرية محوراً لبحثها، كما كان ينقصها تمرس راجلان بمادته الواسعة، والقدر المتشعبة المتكاملة عند كل من تومسون وتروي، ومعرفة ماري أوستن بالأمم البدائية نسبياً أو " بالشعب الحقيقي "، بل كانت تنقصها العقلية الركينة الأصيلة التي وهبها بارنغتون. وقد بدأت عملها بالمعوقات المحبطات ومنها: فكرة ترى أن الفولكلور لون محلي وذكريات عاطفية عن المسرح؛ ثم مجال غفل منوط بجهلةٍ تخصصوا في القيثارة والقبعة الواسعة؛ وبلد يفتقر موروثه الشعبي الصحيح إلى كل انسجام إذ يتألف من بقايا هندية وزنجية وواردات أوروبية، وكلها قد عدلت تعديلاً يقعد دونه التمييز لكي تناسب قرائن الأحوال الجديدة. وعلى الرغم من هذه المعوقات المحبطات يمثل عملها تطوراً مطمئناً نحو نقد ذي بال. فقد كشف عن مهمته التحليلية والتركيبية في كتابعها " روح الفكاهة الأميركية "

وعن صلات القرابة بين الشعب والأدب الفني وبنى موروثاً من المضمون الشعبي " المنتحل " في كتابيها كروكت وأدبون، وأبان أن الموروث في الشكل أكثر مما هو في المحتوى في كتابها شيلر وأن منهاجها الصحيح هو التحليل الشعبي للفن الشكلي. وتحقيق من أن الموروث الشعبي الأميركي تجريدي وفيه عناصر شعائرية أصيلة في كتابها الذي لم يكمل " تاريخ الثقافة الأميركية "، وعلى تلك القاعدة أدى أهم وظائفه في التحليل والتركيب (تناول بالتحليل الجذور الهندية في الدراما الأميركية وتناول بالتركيب الموروث الذي وجدته في استعراضات المنشدين الهزليين وأعادت بناءه من أجل أدب زنجي) . وربما كانت صلتها بفان ويك بروكس تستحق أن تذكر هنا؛ فهي لم تقتبس اقتباساً من كتبه إلا من كتابه " حج هنري جيمس " في فصل عقدته لهذا القصصي في كتابها " روح الفكاهة الأميركية " فأخذت بعض أحكامه العارضة بالقبول، وحطمت استنتاجه الأساسي وهو: أن جيمس نشق عن الموروث الأميركي حين تعلق بالمناظر العالمية، أي تشوف إلى إناء كبير ولم يقنع " بسمنه في أديمه ". ولقد هاجمت بروكس بطريقة غير مباشرة في حديثها عن مارك توين في " روح الفكاهة الأميركية ". (بقولها: من الخطأ أن يتطلع الدارس في مارك توين إلى ناقد اجتماعي حتى ولو كان ناقداً ضئيلاً) . وهاجمت في كتابها " شارلس شيلر " بياناته التي أصدرها في مجلة " الحر " Freeman بشيء من الإسهاب لأنه دعا إلى خلق مدرسة من الفنانين الأميركيين خلقاً آلياً بدلاً من أن يدعو إلى حرية استعمال المواد الأميركية الناشئة عن محض الحاجات والمواقف المحسوسة. بل إن كتاب " جذور الثقافة الأميركية " الذي جمعه بروكس وصدره بمقدمة

تبجيلية احتفظ فيها لنفسه بحقوق الطبع، يحتوي في المقال الذي أضفى عنوانه على الكتاب هجوماً حاداً على صميم موقف بروكس (دون أن تسميه) ، أي على ما وسمه دي فوتو باسم " المغالطة الأدبية "، وذلك حين قالت: " إن الفكرة المستحكمة في الأذهان بأن ثقافتنا أدبية، أو أي فكرة مشابهة نحملها سلفاً، قد تنحرف بأحكامنا عن الجادة " ومن الناحية الأخرى تعلم منها بروكس دون ريب. ومن المحتمل أن التقرير الذي أثار تعليقات كثيرة في الطبعة الأول من كتابه " محنة مارك توين " ومؤاده أنه ليس لأميركة فنها الشعبي؟ من المحتمل أن هذا اختفى بعد أن اطلع بروكس على مؤلفات الآنسة رورك، وأنه تعويضاً عن موقفه السابق، قد حشد في المجلدات الحديثة عن التاريخ الأدبي قطعاً كبيرة من المادة الشعبيةن وبعضها منتزع من كتب الآنسة رورك وليس فيها نقل واحد معزواً إلى مصدره. إن كثيراً من طريقة الآنسة رورك في تناولها الخاص للأمور وكثيراً من مميزاتها ليتمثل بالصراع الأساسي بينها وبين بروكس حول هنري جيمس؛ ذلك لأنها في جهادها لتخلق موروثاً أميركياً صلباً صالحاً للاستعمال شعرت أن التخلي عن جيمس وإسلامه " للأعداء " أمر سخيف، ولذلك جاهدت بحمية لكي تعيده إلى حظيرته. والفكرة التي يدور عليها فصلها عن جيمس في كتاب " روح الفكاهة الأميركية " هي أن جيمس، كما ذكر هاولز، واقف منه يوم أن تغرب عن وطنه ووجه اهتمامه إلى الأحداث العالمية. وبالجملة لم تكن الآنسة رورك فحسب المستخصلة للأصول والجذور الشعبية في الفن الشكلي، والمكونة لموروث شعبي حي يستعمله فنانو المستقبل، والمعلمة للنقاد الإقليميين مثل فان ويك بروكس بروكس، والمنبهة إلى أشخاص مغمورين ومظاهر حضارية في ماضينا لم تدرك على وجهها الصحيح مثل

أدبون وفولتير كومب واستعراض المنشدين الهزليين وهوراس غريلي؟ لم تكن كل ذلك فحسب بل كانت أيضاً محبة لوطنها بمعنى أعمق وأوسع معرفة من المعنى الذي يفهم به الديمقراطية والوطنية " الفشارون " ومعدمو الكتب. وما ذلك إلا لأن جذورها الشعبية كانت أصيلة جوهرية.

الفصل السادس

الفصل السادس مود بوركين والنقد النفسي تتميز مود بودكين في أنها حققت ما لعله أن يكون خير استغلال للتحليل النفسي في مجال النقد الأدبي حتى اليوم. فقد نشرت كتابها " النماذج العليا في الشعر " Archetypal Patterns in Poetry؟ وعنوانه الفرعي " دراسات نفسية للخيال " في اكسفورد سنة 1934، فلم يكد يسترعي اهتمام أحد. نعم، روجع عدد قليل من المجلات، وحاز على شيء من التعليقات المتحمسة في الصحف التي تختص بالفولكلور وعلم النفس، وعاملته الصحف الأدبية بشيء من الاستعلاء، ولم يكن له تأثير ملموس في ما قرأته من نقد إنجليزي (مع أن نايت وداي لويس وأودن قد اعترفوا به، وهاجمه ليفز في مجلة Scrutiny) . أما في هذه البلاد (أميركة) ، فتكاد الآنسة بودكين تكون مجهولة تماماً. فلست أعرف مجلة أميركية واحدة راجعت كتابها أو تحدثت عنه (على أن بعض النقاد ومن بينهم بيرك وورن قد استكشفوا كتابها وأفادوا منه) ولا يندرج اسمها في أي مرجع أميركي وإنجليزي وقع في يدي بما في ذلك معجم " من هو " Who is Who ويبدو أنها لم تنشر شيئاً حتى قيام الحرب في أي مجلة إلا في مجلة " فكر " Mind و " الصحيفة الإنجليزية لعلم النفس " British Journal of Psychology (وفي " الصحيفة

الإنجليزية لعلم النفس الطبي " Brit. Jour. Of Medical Psych، إن كانت هي نفسها أ. م. بودكين التي تقتبس عنها في إحدى الحواشي) ، ثم أسهمت بمقال في مجلة الريح والمطر Wind and the Rain وهي مجلة إنجليزية حديثة ذات منحى ديني أخلاقي. وثمة عدد من الأسباب يفسر لم ظلت الآنسة بودكين مغمورة، أولها: أنها بست محللة نفسية محترفة، بحيث تمنح كتابها شيئاً من نفوذ العالم المتخصص، ولا هي فيما يبدو ناقدة محترفة كذلك، ولكنها، على ما يظهر، تلميذة تهوى الأدب (وكانت ذات يوم تقرأ لأحد الناشرين) ، اتفق أن كان لها تعرف واسع بكل من علم النفس والأدب الخالق، ولديها إحساس أدبي أصيل، وحس بالتناسب، وذوق بجنبها التطرف المعهود في النقد المتصل بالتحليل النفسي. وقد بدأت رغبتها في الجوانب الأدبية من التحليل النفسي، فيما نمي إليّ، في منتصف العمر، فاستمعت إلى مجموعة من المحاضرات يلقيها الدكتور كارل. ج. يونج في زوريخ، على طلبة غير مختصين، في العقد الثالث من هذا القرن، عن نظرياته النفسية ومشتملاتها. ولذلك اعتمد كتابها في المقام الأول على نظريات يونج وكشوفه، وإن كانت الفكرة التطبيقية في الكتاب من صنع يدها، وربما لم يكن يونج على معرفة بكتابها، أتراه لو عرفه أقر ما فيه أو أنكره؟ ذلك موطن للتساؤل. وأنا لست أجد الكفاءة في نفسي لأشرح أفكار الدكتور يونج (أو أي عالم نفسي آخر) شرحاً فنياً، ولكن في سبيل تقدير ما أدته الآنسة بودكين لابد من مجمل لتلك الأفكار التي تتصل بالفن. وفي طليعتها من الزاوية الأدبية، فكرة " النماذج العليا "، وقد عرفها يونج تعريفاً شاملاً في مقال له بعنوان " في العلاقة بين التحليل النفسي والفن الشعري " نشره في كتابه " إسهامات في علم النفس التحليلي " Contributions to Analytical Psych. وهي حسب تعريفه صور ابتدائية لا شعورية أو " رواسب نفسية لتجارب

ابتدائية لا شعورية، لا تحصى " شارك فيها الأسلاف في عصور يدائية، وقد ورثت في أنسجة الدماغ، بطريقة ما؛ فهي؟ إذن؟ نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية؛ أما نظرية يونج التي كرست الآنسة بودكين كتابها لاستقصائها بحثاً، فهي أن هذه النماذج العليا تقع في جذور كل شعر (أو كل فن آخر) ذي ميزة عاطفية خاصة. ويرى يونج أن هذه النماذج العليا موجودة في كل حلقات سلسلة النقل؟ أو التعبير؟ كتصورات في اللاوعي عند الشاعر، وكموضوعات مترددة أو سلاسل من الصور في الشعر؟ وكتصورات في اللاوعي عند القارئ أو عند الجمهور. وهذا مبني على فكرته عن " اللاوعي الجماعي " الذي يختزن الماضي الجنسي وهو الذيولد الأبطال الأسطوريين للبدائيين، ولا يزال يولد أخيلة فردية مشابهة للرجل المتمدن، وهو الذي يجد تعبيره الأكبر في رمزية تتجاوز حدود الزمان غير أنها مألوفة نسبياً، وهي رمزية ما تزال تتكرر أبداً. (لابد من أن يتضح للقارئ مدى اقتراب هذه الفكرة من النظريات الدورية في التاريخ كنظرية فيكو، ومدى اقترابها أيضاً من التعديل الذي أدخله شتكل Stekel على نظرية فرويد في رمزية الحلم الحرة التجريبية لكي يسند الرمزية الثابتة في كتاب له يصور حلم الغجر، وكم تبدو خلابة هذه النظرية، في نظر أديب مثل جويس تأثر بفيكو وكان يفتش عن سيكولوجية يستعملها ليخلق " القاسم المشترك الأعظم " بين الناس جميعاً) . ويقول يونج إن الفنان والمريض عصبياً يعيدان بتفصيل، الأسطاير المستمدة من التجارب الشعائرية عند الإنسان البدائي، أحياناً عن وعي، وأحياناً من خلال عملية " حلمية ". غير أن الفنان مع هذا ليس امرءاً مريض في أعصابه. بل إن يونج يعلي من شأن الشاعر عرضاً، في مقالته " السيكولوجيا والشعر " التي نشرت في مجلة " فترة الانتقال " حين يقول إنه " إنسان

جماعي، إنه الحامل المشكل للنفس الإنسانية الحيوية لا شعورياً ". ومع هذه الفكرة تتمشى فكرة أخرى؛ وهي أن الفن في الجملة " فعالية مستقلة ذاتياً " Autonomous Complex لا نعرف عن أصلها شيئاً، أي هو تعبير يعيا على براعة العلم تفسيره، وكل ما يستطيعه التحليل النفسي أن يدرس المقدمات، ويصف عملية الخلق وصفاً، دون أن يفسرها. (1) وهناك مبادئ يونجية أخرى أقل قيمة من هذه في مؤلف الآنسة بودكين وفي النقد الأدبي عامة مثل: مبدأه في اللبيدو وهو ما خالف به فرويد منذ البدء إذ اعتبر اللبيدو " طاقة غريزية نفسية بعامة " أي " دفقة حيوية " كما يقول برغسون لا " طاقة غريزية " فحسب، ومثل نموذجي الشخصية عنده، وهما: الشخصية " الانطوائية " و " الانبساطية " على أنهما يمثلان الاتجاه الداخلي أو الخارجي للبيدو، واصطلاحاته الأخرى مثل Anima ويعني بها الصورة المثالية أو صورة النفس و Persona وهي الشخصية الخارجية المكملة. إذن فليس يهم التحليل الأدبي من مبادئه إلا مبدأ اللاوعي الجماعي، والنماذج العليا، وذلك هو ما أدركته الآنسة بودكين. ويبدو أن مبادئ يونج في علم النفس التحليلي أكثر جدوى على النقد الأدبي من مبادئ فرويد، من عدة وجوه. وقد تحدثت الآنسة بودكين عن فائدتين لها حسبما رأتهما، فقالت: إن مصطلح فرويد لا يستطيع أن ينصفه (أي التفاعل بين فكر الفرد والموروث الاجتماعي في القصيدة) ذلك لأن المسلمات التي يعمل على ضوئها، تقضي بأن تفسر أعلى النتائج وأدناها في عملية الحياة، بمصطلح العناصر التي كانت موجودة في البدء. كذلك فإن إلحاح الكتاب الفرويديين

_ (1) تمشياً مع هذه النظرة لم يكتب يونج إلا قليلاً عن فنانين بأعيانهم عن أعمال فنية. ولا أعرف له من الدراسات الأدبية إلا حديثاً موجزاً عن " فاوست " لجوته في كتابه " سيكولوجية اللاوعي " وتحليل لكتاب " عولس " لجيمس جويس في: Wirklichkeit der Seele.

على العلاقة الحسية بين الأب والابن يغفل وجهه نظر أخرى لا تقل عنها صحة ومتانة أعني أن سحر الأب في نظر الابن وتأثيره البالغ فيه إنما يرجعان إلى ان الأب يمثل الرافد الأول في ذلك التأثير الواسع للهيئة الاجتماعي نفسها ولرصيدها المخزون. ولعل أهم ميزة لمبادئ يونج على مبادئ فرويد في مجال النقد الأدبي، هي أن فرويد، على خلاف يونج، كان ينزع؟ حيناً ما؟ إلى أن يعتبر الفن تعبيراً مرضياً، أي أنه على وجه الدقة نتاج مرحلة نرجسية من مراحل التطور، أي تحقيق وهمي للرغبات، أي رضى معوض ناشئ عن توقان منهوم، لم يجد شبعه في عالم الحقيقة. وقد كتب عن " الجمال " في " المدنية وما يعلق بها من تبرم "، Civilization and its Discontents يقول: " إن ما يبدو أكيداً في حال الجمال هو أنه مستمد من عوالم الحس الجنسي، فحب الجمال مثل تام كامل على شعور ذي غايات مكبوتة "، وليس من هذا إقراره بأن التحليل النفسي " لا يستطيع أن يقول عن الجمال إلا شيئاً أقل مما يقوله عن غيره من الأشياء ". ومع ذلك فإن فرويد، لا أي واحد من تلامذته الذين انشقوا عنه، هو الذي قد طبع أثره البالغ على كل أديب وناقد حديث، على وجه التقريب. وإذا استثنينا اصطلاح " مركب النقص " الذي ابتكره أدلر؟ وهو اصطلاح قد عم وطم؟ لم نجد نسبياً لهذا العالم النفسي إلا أثراً أدبياً قليلاً. (ولكن لابد من أن نقر بأنه تكاد كل القصص التي تتعلق " بالأنا " أو دوافع القوة أو التعويض ابتداءً من " جاتسبي العظيم " (1) The Great Gatsby حتى " ما الذي يجعل سامي يجري " What Makes Sammy Run؟ تكاد كلها أن تكون اغترفت؟ لا شعورياً؟ شيئاً من سيكولوجية أدلر الفردية) (2)

_ (1) جاتسبي العظيم قصة من تأليف ف. سكوت فتزجرالد، نشرت سنة 1925. (2) في سنة 1946 ظهرت سيرة عنوانها " وليم إرنست هنلي "، كتبها جيروم هاملتون بكلي J. Hamilton Buckley، وهي متأثرة بأدلر، لأن مؤلفها يرى في شخصية هنلي " احتجاجاً رجولياً " على داء سل العظام الذي أقعده، وقد تكون لذلك طليعة اتجاه أدلري في الأدب.

وليس ليونج؟ خارج زوريخ حيث وقع جويس بعض الشيء تحت تأثيره؟ إلا أتباع قليلون في الاتجاه الأدبي ومنهم بينهم يوجين جولاس، وجماعة " فترة الانتقال " بباريس؟ لفترة قصيرة من الزمن؟ وجماعة من الشعراء والنقاد الاشتراكيين الذين يلتفون حول جيمس اوبنهايم في هذا البلد (1) . أما شتكل ورانك وغيرهم من المنشقين على فرويد فقد كان أثرهم ضئيلاً خارج الحقول التي يعملون فيها. إن الطبيعة الجماعية التقريرية لسيكولوجية يونج هي أعظم شيء فائدة للنقد الأدبي ولكنها أيضاً تتضمن أعظم الأخطار عليه أعني ما فيها من ميل لإعلاء شأن اللاعقلانية والتصوف و " ذاكرة الجنس " أي تلك الأشياء التي جعلت يونج جذاباً لدى المفكرين النازيين والفاشيين. وقد تجنبت الآنسة بودكين هذه الهوة في أفكار يونج، ولكنها ف مرة واحدة في كتابها؟ على الأقل؟ تدعو إلى المضي في المحاولة لفهم النماذج السيكولوجية الكامنة " بطريق الشعور لا بطريق الفكر " وفي هذا ما قد يلمح؟ ولو في شيء من الغموض؟ إلى إعلاء شأن اللاعقلانية التي حببت يونج إلى الفريق المؤمن بتميز الثرى الدم. أما في أكثر من اعتمادها على الجوانب المتافيزيقية الصوفية عنده. ومن الأمور ذات المغزى أن تصدر كتابها بعبارة من

_ (1) حاول و. ب. وتكت W. P. Witcutt في كتابه " بليك - دراسة نفسية " الذي نشر بإنجلترة 1946 أن يستعمل سيكولوجية يونج " ليشق طريقاً خلال الأجمة البليكية " في كتبه التنبؤية. ويبدو كتابه لي محمقاص لا فكرة له، وهو لذلك نقيض طريف لكتاب الآنسة بودكين، ويستعمل وتكت أكثر مبادئ يونج صوفية وغيبية ويطبقها على الفوضى المشتجرة عند بليك، ونتيجة ذلك خلية فوضى ازدادت بلبلة، (أو كما يقول المثل " حمأة مدت بماء ") أما جيمس أوبنهايم (1882 - 1932) فقد كان حتى الحرب العظمى الأولى داعية مسالمة Pacifist، ثم حطمت هذه الحرب معنوياته، وقضت على صحيفته " الفنون السبعة " فتتحول إلى التحليل النفسي.

عبارات يونج في أشد أحواله تواضعاً وأقلها إثارة للناس حيث يقول: " لقد أعانني النقد الفلسفي على أن أرى أن لكل سيكولوجيا؟ بما في ذلك مذهبي أنا نفسي؟ طابعاً اعترافياً ذاتياً ... وبقبول هذه الحقيقة التي لا محيص عنها أستطيع أن أخدم قضية معرفة الإنسان للإنسان ". 2 - إن كتاب " النماذج العليا في الشعر " من الكتب القلائل التي يتلازم فيها العنوان والموضوع لأنه يتحدث فحسب عن النماذج العليا في الشعر. ويتألف الكتاب من ستة فصول يثير الأول منها مشكلة النماذج العليا، كما تمثلها الروايات التراجيدية، ويتناول كشف إرنست جونز لعقدة أوديب في هاملت. ثم تعالج الفصول الخمسة الأخرى الموضوعات الآتية على التوالي: أنموذج الولادة الجديدة في قصيدة " الملامح القديم "، أنموذج الجنة والنار عند كولردج وملتن ودانتي، نساء يعتبرن نماذج عليا في الشعر، الشيطان والبطل والله نماذج عليا، بعض النماذج العليا في الأدب المعاصر. وينقسم كتابها منهجياً في قسمين: الأول: الكشف المسهب عن الأنموذج الأعلى في العمل الفني الواحد مثل الولادة الجديدة في " الملاح القديم " والثاني مقارنة أنواع من الأنموذج الأعلى في عدد من الأعمال الفنية كالفصل عن النماذج العليا من النساء عند عظماء الشعراء. وكلا المنهجين يستحقان الفحص. تبدأ الآنسة بودكين في " الملاح القديم " بأن تلحظ العبارات التي تصف هدأة السفينة ثم حركتها العجيبة أخيراً وتجد أن هاتين الظاهرتين؟ أي لهدأة والحركة؟ يقدمان لنا مشكلة الموت والولادة الجديدة، رامزتين رمزاً محدداً، إلى تجربة كولردج الشعرية كيف كانت جهداً ذهنياً ضائعاً تلاه فجأة إلهام خالق. وتعتمد في هذا التفسير على تداعي أفكارها وذكرياتها التي أوحت بها الأبيات ثم عللا ما لديها من آثار كولردج نفسه، مما يشير

إلى تداعي الأفكار عنده وأخيراً على الروابط العامة، التي توضحها اقتباساتها من التوراة، بين هبوب الريح وانتعاش الروح الإنسانية. ثم تمضي الآنسة بودكين لتلقي نظرة على ذروة القصيدة أي حين يتحدث الشاعر عن بركات الأفعاي وما نتج عنها، وتعلق هذا بالأسطورة الأنموذجية التي عند يونج وهي " الرحلة الليلية تحت ماء البحر " كما تصورها قصته " ذي النون " (1) وهي أساس شعيرة الولادة الجديدة وتدور حول فكرة الخطيئة والتكفير. وهنا تشمل طريقتها أيضاً مرة أخرى خواطرها المتداعية وأحلامها، وما كشفه لويس Lowes من مصادر كولردج، وتحليل بدوران لصور مماثلة عند فرهايرن، كما تشمل المأزق الذي وقع فيه هملت، ونماذج أخرى من " الجواب الذي يلاحقه شبح الخطيئة " مثل قابيل واليهودي التائه، والمشكلة العامة التي تتمثل في تشهي الموت والعودة إلى ارحم، كما تنعكس في الأحلام والشعر ونظرية التحليل النفسي. وحين ينتهي بها المطاف يكون عملها غير قاصر على استغلال القصيدة لوضح بها الأنموذج الأعلى، بل هي قد جعلت الأنموذج يلقي أضواءه على القصيدة وأثرها، ويضعها في مصاف الشعر العظيم، ويعلي من درجة المتعة فيها، ويبعثها حيةً فيها إلى درجة كبيرة. ويعمل نهجها المقارن على نحو مشابه ففي الفصل الذي عقدته للحديث عن الصورة الأنموذجية العليا للمرأة وقفت عند ربة الشعر الأم في " الفردوس المفقود " وربطت بينها وبين الربات؟ الأمهات عند هوميرس، ووجدت في هذه هؤلاء ما ينطبق على الزوجة؟ الأم؟ التي تنوح على تموز وغيره من الآلهة الذبيحة التي ترمز إلى الخصب والنماء. ثم نتناول التوازن الغامض الذي يخلق حواء عند ملتن من شخصية بيرسيفوني رمز الشباب الذي قدرت

_ (1) قد اكتنفتني مياه إلى النفس، أحاط بي غمر، التف عشب البحر برأسي، نزلت إلى أسافل الجبال، مغاليق الأرض علي إلى الأبد (يونان 2: 5 - 6) .

له نهاية محزنة، ومن شخصية دليلة رمز الخداع. ثم تجد ذلك الغموض عينه يكتنف فيدرا رمز الخادعة المخدوعة عند يوربيدس، وتلحظ كيف يبلغ هذان الأنموذجان مرتبة المثال في شخصية بياترس؟ صورة الأم؟ عند دانتي بكل ما فيهما من عناصر أرضية تتكون منها هيلانة وديدون وكليوبترا وفرنشسكا (والأخيرة منهن بخاصة) . وتنبه إلى أن التنوع في نماذج فرجيل بين يورديك وديدون يحمل في كل حال؟ حملاً غامضاً؟ كلاً من عناصر بياتريس وفرنشسكا، وتنتهي من هذا إلى أن ترى في هذه العناصر مراحل في التطور الروائي لشخصية غرتشن عند غوته، أي فرنشسكا حين تصبح بياتريس. وحين تعالج الآنسة بودكين ما بين هذه الشخصيات النسوية من ارتباطات متداخلة متنقلة، تحلل مظاهرهن الموقوتة بزمان معين وكيف كان ينظر إليهن في العصور التاريخية المختلفة التي شهدها كل شاعر من أولئك، كما تحلل مظهرهن الأنموذجي اللازمني في الخيال الشعري، خلال العصور مجتمعةً. وحين تعود الآنسة بودكين إلى الأدب المعاصر فتكشف عن أنموذج الولادة الجديدة فيه ممثلاً بتعارض المصطلح الجسماني والروحاني في مثل " الأفعى المريشة " The Plumed Serpent للورنس و " الينبوع " The Fountain لشارلس مورغان، وشخص الشاعر الأنموذجي في صورة أب ممثلاً في " أورلاندو " Orlando لفرجينيا ولف، والنتف الحلمية المتتابعة من شعائر الولادة الجديدة في " اليباب " لاليوت؟ عندما تفعل ذلك تقرر، عن سابق تصميم فيما يبدو، أن هذه النماذج لا تتردد في الشعر العظيم المنتسب إلى الماضي فحسب ولكنها هي القوة المشكلة التي تنتظم أي عمل فني قمين بالاعتبار حتى يومنا هذا. وتجيب الآنسة بودكين، شاءت أم أبت، على كيفية انتقال هذه النماذج حين تلحظ دوامها واستمرارها. فإن كانت هذه النماذج كما يزعم يونج

(مقتفياً خطى فرويد) تجارب بدائية تنطبع في نسيج الدماغ على نحو ما، فإذن لابد من أن نؤمن بأن بعض الخصائص المكتسبة تورث، وأن نظرية فايسمان (1) العظيمة، عن استمرار البلازما الجرثومية لابد من أن تتحطم (لا تتخلق البلازما الجرثومية أبداً من البلازما الجسمية ومن ثم لا تستطيع أن تحدث ما لها من تغيرات تجريبية) . لقد كان فرويد على استعداد ليتقبل مسؤولية هذه الفكرة وحتى سنة 1939 وفي كتابه " موسى والواحدانية " أكد إيمانه بوراثة الخصائص المكتسبة على الرغم من نظريات علم البيولوجيا المعاصر. وأما إن كانت هذه النماذج العليا، من الناحية الأخرى، تورث، كما يعتقد كثير من النفسيين المعاصرين، في البيئة الثقافية لا في العضوية الحسية، وأنها تستعاد في كل جيل خلال تجارب طفولية مشابهة، فإنها من م قد تتغير جذرياً بين مجتمع وآخر وبين جيل وجيل وطفل وطفل وتنتحل في كل مرة تجارب مغايرة جذرياً. (مثال ذلك أن مالينووسكي لم يجد عقدة أوديب في شكل أمومي بين سكان أرخبيل التروبرياند الأمويين) (2) . وتحاول الآنسة بودكين في موقفها من هذه المشكلة أن تتركها محط أخذ ورد وتلمح إلى تحفظاتها هي نحو موقف يونج في الصفحات الأولى من كتابها، فتقول:

_ (1) فايسمان (1834 - 1914) عالم بيولوجي أكد في سلسلة من المقالات والبحوث أن هناك فرقاً واضحاً بين الخلايا الجسدية وبين الخلايا الجرثومية، وهذه التفرقة هامة لأن معناها أن الخصائص الجسمانية للفرد لا تورث، إذ أن الخلايا الجرثومية فحسب هي التي تنتقل من جيل إلى جيل وتظل خالدة أما الخلايا الجسدية فإنها تموت، والنسل وليد الخلايا الجرثومية فحسب، فإذا قلنا إن بعض الخصائص المكتسبة تورث تحطمت هذه النظرية السديدة. (2) أرخبيل التروبرياند موطن الميلانيزيين، ويقع إلى الشمال الشرقي من غينيا الجديدة وهو مجموعة من الجزائر المرجانية المستوية. وقد استكشف مالينووسكي بين تلك القبائل ما يسميه " حب الأب "، وتوصل من هذا إلى أن عقدة أوديب إنما تنشأ في مجتمع عماده النظام " الأبوي " وإذن فأن عكس هذه العقدة قد يكون موجوداً في مجتمع " أمومي ". وإذا شاء القارئ مزيداً من الاطلاع فليراجع كتابه:Sex and Repression in Savage Socity.

منطوق نظرية يونج يصرح مؤكداً أن هذه النماذج ... " تورث في أنسجة الدماغ ". ولكن ليس لدينا هنا أي برهان على هذا التقرير. أما يونج نفسه فيعتقد أنه وجد البرهان على الانبعاث التلقائي لهذه النماذج القديمة في الأحلام والأوهام عند أفراد لم يجدوا طريقهم إلى المادة الثقافية التي تنسجم فيها هذه النماذج. غير أنه من العسير تقويم هذا البرهان وبخاصة إذا تذكرنا أن كثيراً من المادة القديمة يتشكل وينبعث بصورة مدهشة في حالات الغيبوبة فإذا رددته إلى أصوله وجدته انطباعات حسية حدثت في حياة هذا الفرد أو ذاك ثم نسيها. وما إن بلغت في كتابها الصفحة السابعة والخمسين بعد المائتين حتى أنسيت هذه التحفظات، فارتضت لنفسها أن تقول: " لا ريب في أن هناك عاملين: عامل موروث وآخر مكتسب " موجودين في الذات العليا، أما الأول منهما فهو " موروث القبيلة طوال الماضي العرقي ". ولقد برئت الآنسة بودكين من تطرف النقد المتصل بالتحليل النفسي بما لديها من يقظة دائمة حالت دون مغالاتها في تقدير العوامل السيكولوجية في الشعر، فهي تقول: ينتقض تذوقنا لجمال الشعر ويفسد، إن نحن غالينا في النص على هذه الأصداء النفسية العضوية حتى نحسبها أوغل في الحقيقة من سائر العناصر التي تمتزج بها في الفكر الناضج، كأنما تلك العناصر الأخرى التي تؤدي دوراً هاماً في الاستجابة الحقيقية للشعر، ليست إلا تبريراً أو قناعاً لتلك العناصر البدائية القليلة التي تعرف إليها المحلل النفساني منذ عهد قريب. فهي ترى أن العناصر السيكولوجية ليس لها إلا دخل جزئي في الأثر الشعري، وفي دفاع لها عن المنهج السيكولوجي، ألحقته بكتابها وجعلت عنوانه " النقد النفسي والتقاليد الروائية " (1) ردت على ما يبديه إ. إ. ستول

_ (1) انظر هذا الملحق ص: 332 وما بعدها من كتاب " النماذج العليا " (الطبعة الثالثة 1952) .

وغيره من اعتراضات على التحليل النفسي، فذهبت تقرر في اعتدال أننا لا نستطيع أن نلغي؟ ويجب أن لا نلغي؟ " الوعي السيكولوجي الذي جاد علينا به عصرنا " وأننا يجب أن نستغل كل " إمكانيات عقولنا " لتذوق الشعر، وأن الإشراقات السيكولوجية، مثلها مثل أي شيء يتحفنا به ستول أو غيره من النقاد، عناصر قيمة يتركب منها هذا الفهم الغني الخصيب. ومن أقيم مبادئها في استعمالها المتروي لعلم النفس، كيفية تناولها لما يسميه يونج أغلوطة " لا شيء إلا "، أي الفكرة التي ترى أن القصيدة " ليست إلا " مثلاً يندرج تحت إحدى المقولات (وهو نوع من التفكير يسمى اليوم أحياناً، " التفكير المهادي " نسبة إلى المهاد Thalamus وهو ذلك الجزء من الدماغ الذي يستطيع التمييزات الجافية فحسب) . وتصر الآنسة بودكين على أن الشعر، بدلاً من أن يكون " ليس إلا " طريقتها النفسية، هو هذه الطريقة، " وأيضاً " أشياء أخرى كثيرة جداً تنضاف إليها. وهي، على خلاف المحللين النفسيين المحترفين الذي يعتمدون قدر طاقتهم على تواريخ القضية والمدونات الاكلينكية، تعتمد على الاستبطان والتحليل للأرجاع النفسية عندها ووصفها بأقصى ما لديها من قدرة. وتقول: " إن تحليلنا إنما هو للتجربة التي تنتقل لأنفسنا ". فهي تصف إحساسات عقلها عندما تقرأ الشعر، وما الصور التي تنبهت لها، وأي مغزى أو أي توتر أحست، وما الخواطر التي تداعت واستثيرت، ومتى وأين انعكست ذاتها، ومع أي شيء تلابست بل وما الأحلام التي حلمت بها. ولم تحاول أن تمنح هذه الاستبطانات مسحة موضوعية أو على الأقل أن توسع في قاعدتها إلا مرة واحدة في حديثها عن " الملاح القديم ". ففي هذا الموطن انتحلت منهج إ. أ. رتشاردز الذي وصفه في كتابه " النقد التطبيقي "؟ وهو منهج المختبر التجريبي نفسه؟ وذلك أنه أعطى القراء قصائد، وسجل رد الفعل المباشر عند كل منهم. وقد أدخلت الآنسة

بودكين تعديلاً على طريقة رتشاردز حين عرفت القراء بالقصيدة وصاحبها، وطلبت إليهم أن لا يفضوا إليها إلا بمدى الاستجابة العاطفية، التي هي ثمرة " التأمل المستغرق أو التأمل الحال ". (هي التداعي الحر عند جالتون) ، ولم تتطلب منهم تقديراً للقصيدة نفسها. ومه أن المادة التي حصلت عليها انتهت إلى سلسلة من الأسئلة اللبيقة الموجهة إلى القارئ فإنها أعلنت في مقدمة كتابها أنها تخلت آسفة عن هذه المحاولة " لأنها وجدت أنه من غير العملي أن تستحوذ من أولئك الذين لهم بالأديب على أي جهد مركز مستطيل تتطلبه منهم ". ومع ذلك فإنها أقرت " أن العمل العميق المتزايد في دراسة التجربة الشعرية عند الأفراد، لابد من أن يحل في النهاية، محل كثير من المناهج الواسعة في البحث ". وقد استمدت الآنسة بودكين من كل اتجاه نفسي أمكنها الإفادة منه، إلى جانب اعتمادها الرئيسي على مبادئ يونج، وأخذها سيكولوجية جالتون ورتشاردز التجريبية معدلة. ولفرويد عندها يد طولى أيضاً لا حيث ينفق في النظرة هو ويونج فحسب. فهي تثير التساؤل حول قول فرويد " إن النزعات الأوديبية تقع في كل بالأثم أثناء الحلم "، ولكنها تقبل القول بأن " نوعاً من الإخفاق في العلاقة بالأبوين " يثير مثل ذلك الشعور في الحلم، إلى حد أنه يمتزج بعوامل أخرى قد تكون فعالة في الوقت نفسه. وهي تقبل مبدأ فرويد عن الذات العليا وتحاول أن تتوسط بين فرويد ويونج في اعتبار التأثير راجعاً في المقام الأول إلى الأبوين في عهد الطفولة أو إلى القبيلة، محاولة شيئاً من التوفيق بين النظريتين. وكذلك تقبل أيضاً، في شيء من التحفظ أحياناً، هذه المبادئ الفرويدية المتنوعة بمشتملاتها مثل غريزة الموت أو مبدأ ثاناتوس Thanatos (1) والأنا،

_ (1) يرى فرويد أن في الإنسان دوافع، تضاد دوافع الحياة، تهدف إلى الفناء والموت والهرب ومن جرائها يسعى الإنسان إلى الهرب بأن يعيد دور الحياة العادية. أما مبدأ " ثاناتوس " فهو كل ما له صلة بالموت سواء أكان على شكل خوف منه Thanatophobia أو كان نزعة للقتال أو الانتحار Thanatomania.

والأنا غير العاقلة (id) . ومبد اللذة، وصورة الأب، ومصطلحات تتدرج من الطيران في الأحلام حتى الحية والتفاحة في قصة هبوط آدم، ممثلةً لأنواع من الرموز الجنسية. وهي بالإضافة إلى ذلك مدينة لعدد من تلامذة فرويد الذين تناولوا الأدب بالتحليل، فتعتمد دراسة إرنست جونز لهاملت، في قسط كبير من بحثها، وبخاصة تلك المخترعات الأساسية في التكوين السيكولوجي للأدب مثل الانفصال والتحلل (1) . وتستعمل دراسة شارلس بودوان لفرايرن على طريقة فرويدية معدلة في كتابه " التحليل النفسي وعلم الجمال " كما تستعمل الانثروبولوجيا الفرويدية عند جيزا روهايم وآخرين. وهي في الوقت نفسه تستمد من فروع نفسية أخرى عدا مدرسة التحليل النفسي فتستعير من السيكولوجية الجشطالتية خلال انثروبولوجيين أمثال جولدنفيزر اصطلاح " كلي متكامل " في وصفها الأنموذج الحضاري، وهي تعرف كتاب كوهلر عن " عقلية القرود "؟ على الأقل؟ معرفة مباشرة، وتستعير منه مبدأ: وجود فترة من التوقف قبل الحسم في مشكلة. وتستمد الآنسة بودكين إلى جانب هذه السيكولوجيا الانتقائية من الفلاسفة واللاهوتيين والانثروبولوجيين والاجتماعيين ومن عدد من النقاد الأدبيين المحدثين ومنهم وليم امبسون في الغموض وج. ولسون نايت في عطيل، وجون لفنجستون لويس في دراسته الشاملة لكولردج. (مما يبعث

_ (1) الانفصال Dissociatoin هو فصم أي نوع من الروابط، وقد استعملت هذا الاصطلاح المدرسة السيكوباثولوجية الفرنسية لتدل به على انقطاع الترابط أو التداعي في الذهن، مما يولد النسيان والهلاس السلبي وأمثالهما أي الظواهر تتولد عما يسميه فرويد الكبت.

على السخرية أن الآنسة بودكين وهي أحق الناس بتوسيع ملاحظ لويس، عن مصادر الصور عند كولردج، في المجال الوحيد الذي يمكن توسيعها فيه، أعني مجال التحليل النفسي، تأبى عامدة أن تقوم بذلك. وهي مثلها مثل لويس عارفة تماماً بالرمزية الجنسية الواضحة فيالكهوف والجبال في قصيدة قبلاي خان. وبعون من هذه المجموعة الانتقائية من النظريات والمبادئ، خلقت الآنسة بودكين نقداً أدبياً ولم تنتحل علماص. وعلى الرغم من هذا الجهاز فإنها مولعة بالعشر، دارسة حساسة، وكتابها " النماذج العليا في الشعر " يتميز بنفاذ البصيرة في المبنى العاطفي لرواية الملك لير وبتفسيره (ولعله أول تفسير مرضٍ في عصرنا) لما لشعر شللي من هيمنة على قرائه، وبتحليله المرهف النفاذ لفنية فرجينيا ولف وبكثير غير ذلك. ولنقل كما يقول كنث بيرك: إنها في الدرجة الأولى لا تهتم بالنماذج من حيث هي، وإنما تهتم بالشعر كما يبدو في النماذج. 3 - إن النقد النفسي للأدب ليعد في بلادنا نحن تطوراً، أكثر من أي منهج نقدي آخر نتحدث عنه في هذا الكتاب، لأن علم النفس، كفرع منظم من المعرفة، قد بدأ في حياة من لا يزالون منا أحياء حتى اليوم. فإن عدينا عن هذا المعنى الدقيق، قلنا إن النقد بعامة كان نفسياً منذ بدايته بمعنى أن كل ناقد قد حاول بوضوح أن يستغل في نقده ما يعرفه أو يؤمن به من عمليات الفكر الإنساني. فلما تعرف فرويد قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر بقليل إلى اللاوعي، أحرز علم النفس اتجاهاً يستطيع منه أن يفهم ويستبصر الأمور على نحو لم يكن متيسراً في أصول الأعمال الأدبية ومبانيها. وقليل هم الذين يستحقون الذكر من النقاد النفسيين قبل فرويد، وأعلاهم

أهمية؟ بالطبع؟ أرسطوطاليس، المصدر الأول لعلم النفس والنقد النفسي للأدب. وتتخل سيكولوجيته التجريبية كل مؤلفاته كما أنها المحور الذي يدور عليه " كتاب النفس " وكتاب " الطبيعيات الصغرى " ورسائله القصيرة الطبيعية عن الذاكرة والتذكر وعن الرؤيا والتنبؤ عن طريق الرؤيا. وقد طبق سيكولوجيته على الشعر في " البويطيقا "، رداً على الأغلوطة الشعرية التي وقع فيها أفلاطون في " الجمهورية " إذ قال إن الشعر " يغذي " العواطف وإنه لذلك ضار اجتماعياً، فعارضه أرسطوطاليس بنظريته السيكولوجية الرصينة في التطهير "، أي أن الشعر يستثير عاطفتي الشفقة والخوف على نحو رمزي، يمكن ضبطه، ثم يطهرهما. وما " البويطيقا " إلا نص في سيكولوجية الفن، وما مبادئ (hamartia) أي الخطأ التراجيدي الناشئ عن قصر نظر البطل في موقفه، و (Peripateia أو هزة التغير والانقلاب في مقدرات البطل (1) ، وتفضيل المستحيل المحتمل على الممكن غير المحتمل، وغير هذه من مبادئ، إلا الدعائم الأولى للحقائق النفسية. وقد كان أفلاطون في كتابه " ايون " يرى أن الشاعر مجنون ملهم، أو مريض عصبياً، أما أرسطوطاليس فوجد فيه شيئاً يشبه السيكولوجي الملهم (2) .

_ (1) لا خلاف بين الدارسين حول اصطلاح Peripateia أما اصطلاح hamartia فله ظلال كثيرة من المعاني: فقد تعني هذه الكلمة خطأ ناجماً عن جهل بالظروف، وقد تشمل كل خطأ ناجم عن التسرع أو الاستخفاف، وقد تدل على خطأ واع لكنه غير مقصود كما يحدث أثناء الهياج والغضب. وقد تدل على نقص خلقي وعندئذ فإنها تشير إلى ضعف بشري غير مشفوع بغايات شريرة، ولعل المعنى الأخير هو المقصود في سياق نص أرسطوطاليس. (2) الكلام عن جنون الشاعر يذكر بتلك العبارة الغامضة التي قالها ارسطوطاليس في كتاب الشعر " ومن ثم احتاج الشعر ... إلى إنسان به طائف من جنون " فقوله طائف من جنون تعبير مخفف آثره بيووتر في ترجمة لكتاب الشعر، أما غيره من المترجمين فقد استعملوا كلمة " جنون " غير ملطفة، وهؤلاء تؤيدهم الترجمة العربية القديمة. وقد اختلف الشراح حول ما يعنيه ارسطوطاليس بهذه الكلمة أهي تعني شخصاً ناقص القوة العقلية أو شخصاً ملهماً. أما في كتاب الخطابة فإنه يقول " إن الشعر شيء يوحيه الله ".

وقد وسع في هذه النظرات السيكولوجية الارسطوطاليسية في الفن ونماها كتاب العهود الكلاسيكية المتأخرة مثل لونجينوس وهوراس ولكن الخطوة العظمى في النقد النفسي إنما حققها كولردج في " السيرة الأدبية ". فقد تناول كولردج سيكولوجية أرسطوطاليس كما عدل فيها توما الاكويني وديكارت وهوبز وهارتلي، دون أن يضيف أحدهم إليها شيئاً هاماً، وسلطها على الشعر. وما حال بين كولردج وتحقيق نقد نفسي مكتمل إلا الذي منع أرسطوطاليس نفسه من نفسه ذلك، أي عدم كفاية ما لديهم من علم نفسي كما وكيفاً. والحق أن كولردج قد حوم حول اللاوعي حين أشار إلى " انطلاقات تأملات لا ضابط لها، وقد تخلى عنها الوعي الصريح كله، لأنها قد أصبحت شيئاً مجرداً شفافاً، حين اجتازت حدود قوانا العقلية وأهدافها "، ولكنه كان قد تقدم عصره كثيراً إلى حد أعجزه عن أن يفيد من كشفه هذا. ومما سبق إليه كولردج في ميدان النقد النفسي الحديث في " السيرة الأدبية "، اقتراحه على القارئ تجارب مشابهة للتي أجراها رتشاردز في أيامنا، وتفرقته على أساس عاطفة القارئ وتأثره، بين الشعر والعلم، وفكرته القيمة الهامة عن الخيال (وقد انفق رتشاردز فيها مجلداً سماه " رأي كولردج في الخيال " ليطورها في المصطلح السيكولوجي الحديث) . وهناك معاصر لكولردج يستحق أن يذكر في هذا الفصل وإن لم يدن منه أهمية، ذلك هو تشارلس لام، الذي لم يكن صاحب آراء نفسية منظمة، غير أن جنون أخته الباعث على الأسى، واضطراب أحواله العقلية، قد جعلاه مرهف الحس على العلاقة بين علم النفس والفن. وقد كتب في مقاله " سلامة العبقري عقلياً " خير تفرقة لدينا بين الفن والمرض العصبي وفي " السواحر والمخاوف الليلية الأخرى " قد سبق يونج إلى فكرة النماذج العليا، حيث يقول: إن السعالى والأفاعي المتعددة الرؤوس والوحش الثلاثية الرؤوس

والقصص المرعبة عن الوحوش المجنحة التي تنفث الروائح القاتلة (1) قد تتصور في الذهن الغارق في الخرافة، ولكنها كانت هناك من قبل، ذلك لأنها نسخ منقولة أو نماذج، أما النماذج العليا الأصلية فهي فينا وهي خالدة. وهذه المرعبات سواء أكانت سابقة على خلق الجسم أو وجدت دون أن يخلق، فشأنها واحد لا يتغير ". (وسنتحدث في الفصل التالي الخاص بالآنسة كارولاين سبيرجن عن والتر وايتر W. . Whiter الذي سبق كلاً من كولردج ولام سبقاً مدهشاً إلى النقد النفسي الحديث) . 4 - بدأ النقد المعتمد على التحليل النفسي، في الأدب، حين نشر فرويد كتابه " تفسير الأحلام " سنة 1900. ولما اسداه فرويد عدد من المظاهر لعل أهمها ما كتبه عن المشكلات غير الأدبية وبخاصة الأحلام، وتوازن القوى العقلية، وأعراض الأمراض العصبية، وفي هذه كلها مبادئ يمكن أن تستغل استغلالاً مثمراً في الأدب. وهذا يشمل " تفسير الأحلام " نفسه بما فيه من آليات الحلم كالخلط الكلامي والخلط المكاني، والتفصيلات الثانوية، والفصم (2) ، وهي على ما يظهر الآليات الأساسية في الخلق الأدبي، كما تشمل مبدأ الحلم الأساسي وهو تحقيق الرغبة التي يمكن تطبيقها على الفن، وكذلك كشوفها القيمة في طبيعة الرمز. أضف إلى ذلك مؤلفات أخرى له مثل " قوة اللمح الساخر وعلاقتها باللاوعي " و " ثلاث مقالات في نظرية الجنس ".

_ (1) الأرفيلاي Harpylae وحوش مجنحة لكل منها وجه امرأة وجسم عقاب ومخالب حادة وهي ثلاثة في عددها تنفث الروائح المعدية وتفسد كل ما تصيبه. (2) اثنان من هذه الاصطلاحات سبق التعريف بهما أما التفصيلات الثانوية Secondary elaboration فهي ما يضيفه القاص من عنده للقصة وبخاصة في تحليل الحلم.

وربما تلا هذه الأهمية تعليقات محددة لفرويد على طبيعة الفن والفنان. ومقالاته الأولى في هذه الناحية تشمل (1) علاقة الشاعر بأحلام اليقظة (2) بحوث في سيكولوجية الحب (3) نظريات حول القاعدتين في وظيفة العقل. بل إن المحاضرة الثالثة والعشرين من كتابه " مقدمة عامة في التحليل النفسي "، وهي ليست من أولى بحوثه وإنما تعود في تاريخها إلى سنة 920، لا تزال تعالج الفنان على أنه طفولي مريض في أعصابه، كما وقدمنا. أما أبحاثه المتأخرة وبخاصة في " محاضرات تقديمية جديدة " و " ما فوق مبدأ اللذة " فإنها تنحو إلى أن تتجاوز النظريات الأولى فترى في الفنان مريضاً في أعصابه، له فنه، الذي يستطيع أن يفهم من خلاله الحقيقة ويغيرها. وقد أنكر فرويد في خطاب ألقاه في الاحتفال بعيده السبعيني أنه صاحب الفضل في الكشف عن العقل الباطن وقال إن الفضل الصحيح يعود للأدباء. وآخر بابةٍ فيما أسداه فرويد للنقد الأدبي المتصل بالتحليل النفسي هي أحاديثه المحددة عن فنانين بأعيانهم وآثار فنية بأعيانها. وهذه الأحاديث متناثرة في مؤلفاته على شكل تعاليق موجزة، بعضها مشمول بسعة الإدراك كذكره هاملت في " تفسير الأحلام " (1) (وعليه بنى جونز دراسته) وتحليله الملك لير، وحديثه عن التراجيديا اليونانية في " الطوطم والمحرم " (2) ولم يكتب إلا ثلاث دراسات طويلة وهي (1) ليوناردو دا فنشي؟ دارسة نفسية جنسية لذكريات طفولية (2) ومقالة عن " دوستويفسكي وجريمة قتل الأب " و (3) دراسة لقصة ألمانية مغمورة عنوانها غراديفا Gradiva، ومرلفها فلهلم ينسن W. Jensen وبهذه الدراسات الثلاث أقام فرويد منهجين من التحليل، اقتفى ابتاعه فيهما خطواته: الأول الباثوغرافيا أو دراسة المريض عصبياً، أو الشخص المريض نفسياً، مع اتخاذ آثاره

_ (1) راجع ما قاله عن هاملت في كتابه " تفسير الأحلام ": 264 وما بعدها (ط. هوغارث بلندن) . (2) انظر حديثه عن التراجيديا اليونانية في كتاب " الطوطم والمحرم ": 155 (ط. هوغارث بلندن) .

الفنية دليلاً هادياً في هذه الدراسة، والثاني: نقد أدبي متصل حقاً بالتحليل النفسي أو دراسة الأثر الأدبي مع استعمال الآليات التي تستعمل في التحليل النفسي أو الفروض الاكلينكية، مفاتيح لهذه الدراسة. أما كتابه " ليوناردو دافنشي " فهو في معظمه قصة مرض " باثوغرافيا " (وإن كان فرويد يصر على أن ليوناردو لم يكن مريضاً في أعصابه بأي حال) . وهو محالة تعتمد كثيراً على تحليل فذٍ لذكرى وهمية تخيلها ليوناردو عن نسرٍ، ويريد العالم النفسي أن يبني على أساسها سيرة الفنان وتطوره النفسي، بفهمه مكبوتاته الجنسية والفنية المتأخرة. ويسمي فرويد عمله هذا " محاولة في كتابه سيرة " ويصر على أنها شيء في تشخيصه " الشذوذ الجنسي المثالي أو البدائي عند ليوناردو ". ولا يهتم فرويد بآثاره ليوناردو إلا أن يكشف فيها عن مزيد من الشهادات حول الحياة النفسية للفنان، مقيداً نفسه بالتحفظ الآتي: " عندما يقدر المرء أي استحالة عميقة مرت بها تجربة الفنان قبل أن تتمثل خلقاً فنياً سوياص، يتحتم عليه أن يتواضع في مدى ما يتوقع أن يحققه الدارس، حين يعجز عن أن يكشف عن شيء محدد ". ويهمل فرويد الجوانب الأخرى الآثار الفنية ويبدو أنه يوحي في موطن واحد أنه لا خيرة له في ذلك وأن " طبيعة الإتقان الفني لا يمكن بلوغها عن طريق التحليل النفسي ". ومع ذلك فإن هذا الكتاب في حدود مادته ومنهجه، من أجمل كتب فرويد، وهو إعادة بناء، يكاد يكون معجزاً، لحياة فنان وفكره؟ فنانٍ معقد مات قبل أربعمائة سنة. وأما كتابه " دستويفسكي وجريمة قتل الأب " فإنه يكاد يقع في منتصف المسافة بين المنهجين، وهو معني في الدرجة الأولى ببلوغ الصرع الهستيري الذي كان يصيب دوستويفسكي، ورغبته الأوديبية في موت أبيه وشذوذه الجنسي الدفين. غير أنه؟ على الرغم من قوله " أمام مشكلة

الفنان الخالق، على التحليل أن يلقي السلاح عجزاً " 0 ما يزال جيد التذوق لقصص دستويفسكي من حيث هي آثار فنية باهرة، مهتماص كثيراً بتقديم كل ما يستطيعه في سبيل مشتملاتها، من حيث علاقتها الرمزية بمرض المؤلف ومن حيث علائقها الشكلية الخالصة. وأما " الإيهام والحلم في غراديفا لفلهلم ينسن " فإنه تحليل أدبي خالص. ويرفض فرويد أي محاولة للكشف عن عقد ينسن وأمراضه العصبية بهذه الكلمة الموجزة " ليس ثمة مدخل ننفذ منه إلى الحياة النفسية للمؤلف "، ويكتفي بتفسير المبنى السيكولوجي والحلمي في الكتاب محللاً تقنياته الرمزية في الخلط الكلامي والخلط المكاني معمقاً في معناه مقوياً له بعامة. ويستنتج أن ينسن كان على وعي بحقائق التحليل النفسي، لا لأنه درس هذا العلم بل لأنه استكشف ذاته، فما الفنان إلا محلل نفسي من نوع آخر. والحق أن معالجة فرويد للكتاب مرهفة تبجيلية إلى درجة أنها ليست فرويدية تامة في الحقيقة وهو ينسى أو يتناسى عقدة أوديب في البطل (وفي المؤلف افتراضاً) ورمزية جنسية من الطراز الأول تتصل بإمساك الورل. ومن الواضح أن جانباً من الاحترام الذي ناله ذلك الكتاب من فرويد إنما يرجع إلى التطابق الدقيق بينه وبين النظرية النفسية، فهو إلى حد ما " يوثقها " في سنواتها الأولى (" القصاصون أعوان لنا مفيدون وشهادتهم تؤخذ بكل تقدير لأنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لا تحلم بها حكمتنا الأكاديمية ") ولكن ليس ثمة من كبير ريب في أن غراديفا قصة صغيرة هزيلة سخيفة تستأه أن تكون مغمورة مهملة، وأن فرويد في إعلائه وتحليله لها، قد كتب بقلمه قصة خيراً منها. والحق أن الباثوغرافيا؟ أو قصة المرض؟ ليس موروثاً استحدثه فرويد، وإنما هي استمرار لموروث ذي حلقات كثيرة كان يتألف في القرن التاسع عشر من تشخيصات طبية غير علمية، يستنتج فيها أحد الأطباء

ليشبع لهفة العالم الأدبي، أن شعر بيرون يدل على أنه كان مصاباً بحصاة المرارة، وأن بوب كان مصاباً بضغط عالٍ في الدم، ثم استمر هذا على يد النفسيين في صورة سلسلة من التشخيصات النفسانية غير العلمية. غير أن هذه النغمة كانت تتردد بين ثير من تلامذة فرويد، أكثر من ترددها عند أستاذهم، بما في ذلك بعض الثوريين منهم، فهي نغمة حديث بريل Brill؟ مثلاً؟ عن حب الشعر، وأنه ليس إلا تعبيراص عن شهوية شفوية أي " مضغاً ورضاعاً للكلمات الجميلة ". أما العالم النفساني الوحيد الذي قصر جهده على دراسة الفن بدقة فهو أوتو رانك. وقبل أن ينشق عن فرويد، في أوائل العقد الثالث من القرن، كتب عدداً من الدراسات الأدبية القيمة المعتمدة على التحليل النفسي، وهي: " الفنان " سنة 1907، و " أسطورة ميلاد البطل " سنة 1909 ودراسة لقصة " لوهنغرين " سنة 1912 و " دافع الزنا بالمحرمات في الشعر والأسطورة " سنة 1912 ومقالتان إحداهما في سنة 1914 والثانية سنة 1922 وقد نشرنا فيما بعد باسم " دون جوان وصنوه " Don Juan and the Double (1) (وأكثر هذه يمكن الحصول عليه بالإنجليزية) . ولعل أهمها جميعاً " أسطورة ميلاد البطل " فقد التقط رانك تلميحاً من فرويد بأنه يستطيع أن يجرب طريقة جالتون في خلق نموذج أعلى للميلاد الأسطوري (ويظهر أنه يجهل أن مهمة مماثلة قد أداها ألفرد نت على نحو مجزأ مشتت بدراسة حياة البطل كلها) فحقق رانك دراسةً نفسية مؤثرة في ميدان الأساطير المقارنة، هامةً جداً للأدب ولعلها النواة التي نمت من حولها دراسة

_ (1) موضوع " الصنو " - أو القرين - قد بحثه أتو رانك بتوسع؛ فقرن بين " الصنو " والأخيلة في المرايا والخيال الحافظة، والاعتقاد بالروح، والخوف من الموت. وقد كان " الصنو " في البدء أماناً ضد تحطم الذات أي إنكاراً لقوة الموت، ولعل النفس لم تكن في البدء إلا " صنواً " للجسد أي صورة أخرى منه.

اللورد راجلان القيمة " للبطل " سنة 1935. ويتضمن كتابه " دافع الزنا بالمحرمات " عدداً من التحليلات الأوديبية المثيرة ومن بينها: تحليل لمسرحية يوليوس قيصر من تأليف شكسبير (وقد بين أن بروتس وكاسيوس وانطونيوس ثلاث شعب من " ابن " قيصر، يمثل الأول منهما ثوريته، والثاني شفقته، والثالث تقواه الطبيعية) . وتحليل لقصيدة بودلير " الماردة ". ثم لما انشق رانك عن فرويد لم يكتب عن الفن شيئاً ذا قيمة إلا قليلاً (1) وما كتابه الكبير في هذا الموضوع وعنوانه " الفن والفنان " الذي نشر بالإنجليزية سنة 1932 إلا أطروحة بليدة، ألمانية الروح في علم الجمال، تستمد كثيراً من أنثروبولوجيا أحميت بعد أن بردت. وتجعل دافع الفن مرتكزاً على الرغبة في تخليد الذات، وتحذر من شدة الوعي وازدياده لأنه يقتل الفن، وتقاوم التفسيرات النفسية في بعض النقاط، حيث تكون تلك التفسيرات مفيدة قيمة، كما أنها تحيل التحليل النفسي في مواطن أخرى، بمغالاتها المتحمسة، إلى شيء مبتذل سوقي وبخاصة في دراسة هاملت على أنها سيرة ذاتية مباشرة لكاتبها. ولعل من أقيم الدراسات الأدبية النفسانية التامة التي قام بها محللون أو نفاسنيون محترفون، ومن أبعدها أثراً، دراسة إرنست جونز لهاملت في كتابه " مقالات في التحليل النفسي التطبيقي " (2) . فقد حطم جونز كل نظرية عن هاملت، سبق اعتناقها، في مائة صفحة حافلة بالمعرفة، مكتنزة بالمنطق، تدل على تضلع في الدراسات الشكسبيرية، وعلى الاطلاع الواسع. ثم يقيم جونز نظريته هو، ويرسي قواعدها، وخلاصتها أن في المسرحية مبنى أوديبياً هو لا شعوري في هاملت، لا شعوري في شكسبير، لا شعوري

_ (1) لا أقول إن العلاقة هنا عارضة، كما لا أقول إنها بالضرور منقطعة. (2) نشرت هذه الدراسة منفصلة في كتاب (1949) بعنوان " هاملت وأوديب " Hamlet and Oedipus.

في الجمهور، ثم يزيد زيادة حقيقية في مدى استساغة المسرحية حين يظهر فيها ما عجز عنه كل أحد إلاه، وهو مدى المعقولية والحتمية في أحداثها، مع أنه يترك عدداً من الأسئلة دون جواب. ولم يكتب جونز تحليلاً أدبياً آخر مشبهاً لهذا غير أن كتابه من مقالات أخرى، يستغل فيها التحليل النفسي الموحي في ميادين متفاوتة مثل الفن، والفولكور، والتاريخ والسياسة والدين، بل والصحافة أيضاً. وثمة كتاب مثل مقال جونز عن هاملت في حساسيته نحو القيم الأدبية، وبعده عن مجال الباثوغرافيا، وإن لم يكن مثله مثيراً في حد ذاته، ذلك هو كتاب شارل بودوان " اتحليل النفسي وعلم الجمال " وهو دراسة مطولة للرمزية الشعرية عند فرايرن، كتبها رجل كان هو نفسه شاعراً. والتحليل النفسي عند بودان انتقائي يستمد دون تحيز من فرويد ويونج وأدلر ورانك وريبو. ومع أن كتابه قلما يتجه عنه بكليته نحو الدراسة النفسية، فهو عمل هام من التحليل الرمزي المسهب، مع انطلاقات عارضة هامة، تعد إرهاصات بعدد من التقنيات النقدية الجديدة منها: التفسير المتعدد للمعنى، بمصطلحات متعددة مختلفة، واستقطاب الصور المشحونة بالعاطفة، زوجاً زوجاً، في خطوط متوازية. وشرح ميزة الأصوات والرمزية السماعية. ويؤكد بودوان في بداية الكتاب أن تحليل آثار العبقري يظهر عبقريته لا مرضاص عصبياً ولكنه يعود فيقع في الخطأ؟ في الطرف الثاني؟ ويؤكد عند نهاية الكتاب أن القصيدة: بما أنها " صورة معجبة توضح سيكولوجية التسامي " وبما أنها لذلك " حق "، إذن فهي قصيدة " جميلة ". وبما أن القصائد التي تمض باسم روائع فرايرن هي التي " تشحن بالمعاني الرمزية أكثر من غيرها " إذن لعل القصائد الأخرى التي تكون مشحونة بالمعاني السيكولوجية هي أيضاً روائع. وعلى الطرف الثاني من تحليل بودوان لفرايرن يقع كتاب عن بودلير

لأحد بني وطنه، أعني المحلل النفسي الفرنسي رينيه لافورج فإن كتابه " هزيمة بودلير " The Defeat of Baudelaire محض باثوغرافيا، عنوانها الفرعي " دراسة نفسية تحليلية للمرض العصبي عند شارل بودلير ". وهو يصرح بغايته فيه على الصفحة الأولى فيقول: ليس من همي أن أقدر مكانة بودلير في الأدب ولست أرغب في الأخذ بتحليل فنه، إذ ليس بودلير لدي إلا إنساناً، أعني إنساناً مريضاً، ضحيةً للحياة، بين آخرين كثيرين مثله، فهو صورة لحشد جم ممن يسيء الناس فهمهم. وليس لدي إلا سبب واحد للحديث عنه قبل أن أتحدث عن غيره، وما ذلك إلا لأني؟ وشكراً لفنه؟ أجد مدخلاً لدراسته، واراه من خلال ذلك الفن لا يعز على الفهم. ولم يخف لافورج أنه لا يرى في قصائد بودلير ويومياته مقيداته وفي السيرة التي كتبها بورشيه شيئاً سوى مقيدات اكلينكية فوجد أن بودلير كان مصاباً بعقدة أوديب، وعقدة ماسوشية مع أخيلة الضرب بالسوط، وجلد عميرة، وبشذوذ جنسي كمين، ونقص في عضو التناسل، وربما كان مصاباً بالعنة وبالتهيج عن طريق النظر إلى الأوضاع الجنسية (والأخيرة مبنية على تجربة في الطفولة، حدسية إطلاقاً) . ويرى لافورج، وهو يؤد دائماً أن غاياته من تأليف الكتاب تشمل تحذير رجال التعليم من أن يخوفوا الأطفال، وتحسين معاملة المجرمين. ويرى أن الفنان مريض " متميز " يستطيع أن يخلق فناً، وما الشكل الشعري إلا وسيلة تخفي المرض العصبي عند الشاعر حتى يعز كشفه إلا على الاكلينكيين، وفي هذا القدر من الحديث عن الكتاب كفاية، في معرض الكلام عن النقد الأدبي. ولا نستطيع هنا أن نقف إلا على مثلين آخرين من بين العدد الوفير من الدراسات الأدبية التي قام بها أطباء يعملون في حقل التحليل

النفسي لنمثل بهما على الطبيق الدارج بأميركة. أولهما ما كتبه لورنس س. كوبي تحت عنوان " أدب الرعب " فقد نشر مقالين بمجلة Saturday Review of Lit 1934 أحدهما عن " المعبد " Sanctuary لفولكنر Faulkner والثاني عن " أرض الله الصغيرة " God " s Little Acre لكولدول Caldwell (1) (ووعد لواحد ثالث عن همنجوي، ولكنه لم يظهر أبداً فيما يبدو) . واثار بضع نقاط جيدة، وبخاصة في المقال الخاص بفولكنر، ومن تلك النقاط: حديثه عن توتر الرعب والقلق في الأدب الأميركي المعاصر، وإصراره على أنه لا يحلل المؤلفين تحليلاً نفسياً، وأن القول بأن " المعبد " ليست إلا سلسلة من أوهام العنة المذكرة، ليس هو مثل أن تقول إن فولكنر كان عنيناً، وإنما كان يتخيل ذلك فحسب. ومنها الرفض الضروري لدعوى فولكنر بأن الكتاب ليس إلا عملاً بليداً لا معنى له. ثم ينهي دراسته بهذه النظرية المغرقة في التبسيط: وهي أن " بوبي " هو الذات فير العاقلة و " بنبو " هو الأنا والرعاع هم الذات العليا، وهذا مثل على المصطلح، وإلى أين يؤدي، إن لم يكبح جماحه، وتكمل القطعة التي كتبها عن كولدول بعض هذه الموضوعات ولكنها أقل احتفالاً بالأثر الأدبي نفسه، منها بالكشف عن طبيعة الفحش المقذع، ومضمونات رد الفعل له في نفس القارئ. وأقرب إلى طبيعة الأدب من هذين، وإن كان قاصراً على الباثوغرافيا،

_ (1) فولكتر ولد سنة 1897 وأصبح لفتنانت في الحرب العظمى الأولى ولما عاد إلى موطنه عمل نجاراً ثم اشتغل في الصحافة، واتصل بشرود أندرسون وتأثر أسلوبه وطريقته. أما قصة " المعبد " (1931) فإنها قصة رعب سادي كتبها ليكسب ما لم تكسبه له قصصه الأخرى من مال، وقد كانت تحول في حياته الأدبية. وكلودول قصاص أميركي ولد سنة 1903 وأكثر قصصه عن فقراء البيض وكذلك هي قصة " أرض الله الصغيرة " (1933) وهي تظهر روح الفكاهية عنده كما تفصح عن نقمته على التفاوت الاجتماعي بين الناس. وقد سماها كذلك لأن بطل قصته وهو رجل متدين كان دائماً يفرز فداناً من أرضه ويجعل ريعه للكنسية.

مقال لشاول روزنتسفايغ عنوانه " شبح هنري جيمس " نشر في " الشخصية والشخصانية " Character and Personality عدد ديسمبر 1943 وأعيد طبعه في مجلة البارتزان خريف 1944. ويستخدم هذا الناقد بعض أقاصيص جيمس ليبني منها جيمس الذي يعاني قلق الخصاء ومركب النقص من ازدواج جنسي طبيعي " وهو احتمال نظري ". وعلى الرغم من هذه التذكرة الاكلنيكية الضيقة، وهذا التملح الحر باستعمال مصطلحات مثل " الكبت والإحباط والتسامي والمغالاة في التعويض " فإن دراسة روزنتسفايغ الحقة للقصص بالغة الحذافة والحس بالقيم الأدبية، وهي مثل يرينا إلى أي مدى يكون هو ومن شاكلته مفيدين لو سلطوا منهجهم على تحليل الأثر الفني وشكله لا على مؤلفه (وكم كان روزنتسفايغ مفيداً لو أنه مثلاً حاول أن يتحدث لنا عن أسلوب جيمس الباروقي المتأخر وعن نواحي الإخفاء والتهرب فيه) . إن الأدباء المحترفين الذين اعتمدوا فرويد والتحليل النفسي ليكاد يقصر عنهم الحصر. وأول استخدام صحيح للمبادئ النفسية تم سنة 1912 في مقال لفردريك كلارك برسكوت عنوانه " الشعر والأحلام " نشره بمجلة Journal of Abnormal Psychology وأعاد طبعه في كتاب سنة 1919. وقد تناول برسكوت كتاب " تفسير الأحلام " لفرويد، ولم يكن يومئذ قد ترجم إلى الإنجليزية فطبقه تطبيقاً منظماً في تفسير الشعر، فوجد أن الشعر، كالحلم، تحقيق مقنع لرغبات مكبوتة، وألمع إلى أن الآليات التي وجدها فرويد في " العمل الحلمي " قد تكون هي الآليات في " العمل الشعري ". وفي الوقت نفسه حاول أن يؤيد كثيراً من جدليات فرويد الجديدة المزعجة، وأن يوثقها بالاقتباسات من الأدباء على مر العصور. وإذا استثنينا التطبيق الميكانيكي نوعاص ما، واعتقاده أن الشعر " هرب من الواقع "، واحتقاره " لمعميات " كولردج في الوهم والخيال، فإن كتاب

برسكوت بداية هامة، اعتمدت عليها الأعمال التي جاءت من بعد اعتماداً كبيراً. وفي سنة 1922 نشر " العقل الشعري " وهو معالجة أوفى، غير أنها على الرغم من بعض الأمور القيمة، ومنها الإرهاص بمبدأ " الغموض " الذي عالجه امبسون، والنص على تكثر المعنى، فإنها تمثل انحداراً واضحاً، مع المغالاة في الأخذ بالتحليل النفسي الفرويدي، ليجعل ملائماً للصوفية الرومانتيكية وعبادة شللي. ومن أولى المحاولات التي بذلها رجل غير محترف في استعمال مبادئ التحليل النفسي لنقد آثار أدبية بأعيانها محاولة تمت سنة 1919 في كتاب لكونراد أيكن عنوانه " شكيات: ملاحظ في الشعر المعاصر ". فلم ينتفع ايكن بنظرة فرويد في الفن فحسب بل حاول أن يوفق بينها وبين نظرية كوستيلف التي تعتبر الشعر تفريغاً آلياً للكلمات، وبينها وبين مبدأ بافلوف عن الرجع المنضبط، ونتف أخرى من السيكولوجيا " المشكلة ". ولم ينجم عن هذا الخليط استبصار كثير، ولكن أيكن أخذ من فرويد النزعة الأساسية للنقد المعاصر، سابقاً قولة رتشاردز ذات التأثير الواسع ببضع سنوات أي: إن الشعر نتاج إنساني، يسد كغيره من ضروب النتاج حاجات إنسانية، وله أصول ووظائف يمكن الكشف عنها، وتعريضها للتحليل. وقد كان روبرت غريفز من أوائل الإنجليز الذين بينوا للناس النقد المتصل بالتحليل النفسي في سلسلة من الكتب تشمل: (1) " في الشعر الإنجليزي " On English Poetry (1922) (2) " معنى الأحلام " The Meaning of Dreams (1924) (3) " اللاعقلانية في الشعر " Poetic Unreason (1925) . وقد حاول غريفز دراسات نفسية مسهبة لقصائد معينة وبخاصة في " معنى الأحلام " حيث حلل قصيدة كيتس " السيدة الجميلة التي لا رحمة لديها " وقصيدة كولردج " قبلاي خان " وقصيدة من نظمه. وربما لأن غريفز استبعد

فرويد ويونج مفضلاً عليهما النظريات النفسية لرفرز، متكئاً على انفصال الروباط في الشخصيات اللاشعورية، والتجارب الصادمة (1) ؛ وربما لأنه حاول أن يربط أحسن الشعر بأحسن أنواع الصراع الذاتي اللاشعوري، وربما؟ وهذا أقرب الاحتمالات؟ لأنه جمع بين الجهل والسلاطة إلى ردجة مدهشة، أقول؟ ربما لكل ذلك كانت نتائجه بشعة ولعلها هي التي خذلت الجهود الإنجليزية بعده عن الضرب في هذا السبيل. (إن التطبيق الوحيد لمبادئ التحليل النفسي على أحد الآثار الفنية؟ التطبيق الذي نجح نجاحاً كاملاً على يد ناقد إنجليزي؟ هو مقال وليم امبسون عن " أليس في بلاد العجائب " وسيكون موضوع حديثنا في الفصل المخصص لامبسون) . ويمثل هربرت ريد الإنجليزي موقفاً خاصاً محيراً فلم يكتب أحد بمثل حماسته عن أهميته التحليل النفسي، بل أهمية كل العلوم النفسية، في الحقيقة، للأدب والنقد الأدبي. فهو يقول إن على الناقد أن يلتقط من السيكولوجيا وبخاصة التحليل النفسي " ألمع أسلحته "، وإن الناقد قد يسأل في بعض المجالات أسئلة لا يجيب عليها إلا علم النفس، وإن علم النفس قد استطاع أخيراً أن يفسر خفايا علم الجمال مثل مبدأ التطهير، وما أشبه. وقد كتب ريد في مقال له عنوانه " التحليل النفسي والنقد "، نشر في كتابه " العقل والرومانتيكية " Reason and Romanticism (ثم وسعه من بعد وسماه " طبيعة النقد " وضمنه كتابه " مقالات مجموعة في النقد الأدبي ".) ؟ كتب حججاً مستقلة مقنعة، غاية في ذلك، في سبيل النقد المعتمد على التحليل النفسي، ونص على الانتقائية والاعتدال، وبين محدودية التحليل النفسي وأخطاره، كما بين إمكانياته الهائلة. غير أن المحير في كل هذا أن ريد لم يطبق إلا

_ (1) التجارب الصادمة Traumatic experiences هي الناشئة عن حوادث مرعبة مثل صدام قاطرة أو أي أذى مشابه يصيب الجسم ولكنه أيضاً يصيب القوى العقلية فيخل وظائفها ويحدث فيها اضطراباً. وقد أحدثت الحرب الحرب كثيراً من هذه الحالات " الترومائية ".

قليلاً من نصحائحه للناس. فإذا استثنينا كتابه عن وردزورث، ومقاله الطويل عن شللي، ودراسته للأخوات برونتي، وليس فيها جميعاً دراسة عميقة أو شاملة الإدراك، وإذا استثنينا ترديده الكثير لبعض اصطلاحات فرويد واصطلاحي يونج " انطوائية " و " انبساطية " وجدنا أن ما أنتجه ريد مضى دون أن يمسه التحليل النفسي، فيما يبدو. فهو مثل موسى النبي، رأى أرض الميعاد ولكنه لم يحاول أن يدخلها. وكذلك و. هـ؟. أودن، فإنه حلل قيمة فرويد للفن، في مقاله " علم النفس والفن اليوم "، الذي نشر في مجموعة " الفنون في أيامنا "؟ تحليلاً لامعاً، دون أن يفيد كثيراً من الطريقة النفسية في نقده. وحال ليونل ترلنغ بأميركة مشبهة لحال هذين الناقدين الإنجليزيين. فقد كتب تقديراً بالغ اجودة لقيمة فرويد في الأدب وعلم الجمال، مبرزاً معرفة واسعة بمؤلفات فرويد، بمجلة Kenyon Review ربيع 1940 (1) ، وأشار إلى أن فرويد في بعض الأحوال يرى العقل الإنساني عضواً صانعاً للشعر، في الحقيقة، وأن التحليل النفسي على هذا هو علم المجازات والكنايات. ثم أخذ يضرب حول هذه الحقيقة نطاقاً من التضييقات ناشئة عن ميل مناقض رآه في فرويد، أي نظرة تحقير للفن، فإذا به ينتهي إلى الوقوف " على الحياد ". وتعكس دراسته لماثيو آرنولد وإ. م. فورستر، هذا التوزع في ذهنه، ومع أن استغلاله للاستبصارات النفسية واسع إلا أنها لتبدو لديه دائماً تجريبية قليلة الحماسة، وأحياناً تولد ميتة. ومن النقاد الأميركيين الآخرين الذين حاولوا الإفادة من التحليل

_ (1) أعاد ليونل ترلنج نشر مقاله عن " فرويد والأدب " بمجلة Horizon سبتمبر (أيلول) 1947 ثم صمنه كتابه " الخيال الحر " The Liberal Imagination وفي هذا الكتاب أيضاً مقال آخر بعنوان " الفن والمرض العصبي "، كما أن لهذا الناقد كتيباً بعنوان " فرويد وأزمة الثقافة عندنا " (بوسطن: 1955 الطبعة الثانية) .

النفسي، اثنان هما إدموند ولسن وفان ويك بروكس أما الأول فقد تزايد إقباله على التحليل النفسي حين تخلى عن الماركسية، وما الثاني فقد انتقى نتفاً طيبة المذاق من كل أنواع التحليل النفسي ليلفظها جميعاً في النهاية. وهناك أيضاً وليم تروي الذي كتب قطعة واحدة؟ على الأقل؟ في التحليل النفسي، عن عقدة أوديب عند ستندال. ومن المتأثرين ببروكس اثنان هما فرانك وممفورد أما فرانك فقد غاص يفتش عن أغمض المجالات في التحليل النفسي، ليتبرأ منها جميعاً من بعد؟ لأن المحللين النفسيين " ذوو ضالحةٍ فلسفياً "؟ ويختار بدلاً منها صوفيته الخاصة؟ أعني التقديس، والحياة الخيرة، والروح الرياضية. وأما ممفورد فقد التقط سيرة ملفيل السخيفة الغنائية التي كتبها ريموند ويفر بعنوان " هرمان ملفيل، البحار والمتصوف ". وبنى عليها دراسة أسخف وأشد غنائية بعنوان " هرمان ملفيل " وهي حافلة بمبادئ فرويدية غير مهضومة وبذوف رديء ساذج (من أقواله فيها: " ربما " كانت زوجة ملفيل " شديدة الحياء لا تحسن الاستجابة في الحب ".) وهناك بضع سير أخرى مؤسسة على التحليل النفسي ظهرت في العقد الثالث والرابع من هذا القرن، ويبدو أنها أحسن وأنفذ إدراكاً، مثل سيرتين كتبتهما كاترين أنتوني: إحداهما سيرة مارغريت فللر، والثانية سيرة لويزا ماي ألكوت؛ ومثل دراسة روزاموند لانغردج R. Langbridge لشارلوت برونتي. ومثل سيرة بو التي كتبها جوزف وود كرتش J. W. Krutch، مع أنها جميعاً كان من الممكن أن تنتهي بصورة من صور أغلوطة " ليس إلا " التي أنهى بها كرتش سيرة بو إذ قال " إذن فنحن قد تتبعنا فن بو حتى رددناه إلى حال شاذة في أعصابه ". وهناك ما هو أردأ من كل ما تقدم في النقد الأميركي المعاصر الذي حاول الإفادة من التحليل النفسي. وأكبر الآثمين هم المتحدثون عن الجنس

" هواية " لا علماً، و " المتوصوصون " في النقد، ونمطهم متمثل في كتاب " التعبير في أميركة " Expression in America تأليف لودفج لويزون (من أمثلة فيه " إن ثورو؟ مثلاً؟ غر لثق، محشو بالمكبوتات إلى حد العنة النفسية، وإلا فهو ضعيف الباه ضعفاً لا يرجى له شفاء؛ وهو يفضح عوار كل أديب أميركي على هذا النحو) . وفوق هذا المثل ببضع درجات فقط دراسات: كدراسة توماس بير لهنري آدمز المسماة " العهد الزاهي "، حيث فسر بير شخصية المدروس تفسيراً جنسياً مباشراً. وكدراسة فإن دورن التي فضح بها دعوى شعر وتمان وأفكاره على أساس من شذوذه الجنسي، وكالتفسيرات الجنسية للأدب كله. على يد إدورد دلبرغ في " أتحيا هذه العظام " Do These Bones Live، باسم المعاداة للتحليل النفسي؛ وكقولة تولستوي: إن أعمق ألم المرء هو دائماً مأساة غرفة النوم. وقد سلطت على الفن علوم نفسية أخرى إلى جانب التحليل النفسي وأحرزت قسطاً طيباً من النجاح، في عصرنا. وربما كان أبعدها أثراً سيكولوجياً رتشاردز المتكاملة التي تستمد من سيكولوجيا طب الأعصاب، وسيكولوجيا السلوك التحليل النفسي والجشطالت، وملاحظه التجريبية (التي نتحدث عنها فيما يلي في الفصل الخاص برتشاردز) . أما كنث ببرك الذي توسع في الاستمداد من فرويد، وكتب أحذق تحليل أعرفه عن مشتملات التحليل النفسي والتعديلات الضرورية لها إذا شئنا استخدامها في النقد في مقاله " فرويد؟ وتحليل الشعر " الذي نشر في " فلسفة الشكل الأدبي " The Philosophy of Literary Form؟ فإنه أيضاً استمد من كل مدرسة نفسية حديثة ليحقق سيكولوجيا متكاملة يسميها " السيكولوجيا المبنية على علم الظواهر " وهي مؤسسة على الجشطالت في الدرجة الأولى، وتحيد عن " رقة ما هو استبطاني محض " وتجانب " جدب ما هو سلوكي محض " كذلك. (سنتحدث عنها فيما بعد أيضاً) .

أما المدرسة الجشطالتية فإنها فرع نفسي ذو بوادر طيبة للنقد الأدبي؟ فيما يبدو؟ مثلها مثل التحليل النفسي على الأقل. ولكنها حسب ما أعلم لم تطبق على الأدب تطبيق احتراف مباشر إلا قليلاً (1) . ويبدو أن سبب ذلك إنما يرجع إلى النص على العلم التجريبي، وهو ما دعا إليه مؤسسو النظرية الأولون مثل ماكس فرتايمر M. Wertheimer وكرت كوفكا K. Koffka وولفغانغ كوهلر W. Kohler لتفضيلهم الظواهر التي يمكن التثبت منها موضوعياص عن طريق التجارب المنضبطة. وحتى اليوم ظل اهتمام هذه المدرسة واقفاً عند حدود العقل الواعي، وعمليات مثل " الإدراك " و " التعليم "، ترد واضحة في كتاب فرتايمر " التفكير المثمر " Productive Thinking حيث يتناول أمثلة من العمليات المعقولة في النظريات الهندسية، وفي كشف اينشتين للنسبية، لا من مظاهر أقل معقوليةً وأبعد عن دائرة التثبت واليقين، كالصور الشعرية أو شكسبير للملك لير. ومع هذا فإن الفكرة الأساسية في هذه المدرسة وهي أن رد لفعل إنما يكون للكلي المتكامل أو ما يسمى جشطالت التجربة لا " للدافع "

_ (1) صدرت بضعة مؤلفات جشطالتية عن الموضوع العام للفن ومنها: (1) هـ؟. إ. ريز: سيكولوجية الإبداع الفني. A psychology of Artistic Creation. (2) فرنر ولف: التعبير عن الشخصية The Expression of Personality (وهذا الكتاب مع أنه في معظمه يعالج التعبيرات الذاتية مثل المشي والكلام فإن له ارتباطاً واضحاً بالتعبير الجمالي.) (3) رودلف أرنهايم: الجشطالت والفن (مقال نشر في مجلة علم الجمال J. of Aesthetics خريف سنة 1943) . كما أن آرنهايم اليوم يدرس نظرية الجشطالت في سيكولوجية الفن بالمدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية وقد أسهم بمقال عنوانه " ملاحظ سيكولوجية على العملية الشعرية " نشر في " الشعراء حين ينظمون " Poets at Work وهو مجموعة قام بتنسيقها تشارلس د. أبوت من أوراق الشعراء ومسوداتهم بمكتبة جامعة بفلو.

المفرد، وأنه في الحالة هذه يكون الكل أكبر من مجموع الأجزاء وأنه يتحكم في طبيعتها؟ إن هذا كله ليبدو مرتبطاً تماماً بمشكلات الأدب والفن. والحق أن مبدأ الجشطالت عن الكلي المتكامل إنما استوحي في نواته من الطبيعة الشكلية للفن حين تعرف فون اهرنفل Von Ehrenfel إلى أنه حين يغير مكان اللحن الموسيقي وتغير أيضاً النغمات التي يتألف منها ذلك اللحن فإن الصفة الجشطالتيه له Gestaltqualitat لا تتغير لأن العلاقات بين النغمات ظلت محفوظة. وربما كانت مشكلة الفنان في نقل الأنموذج الأساسي لتجربته خلال وسيط ليست له فيه تجربة وبخاصة إن كان وسيطاً يستغل معنى مغايراً (كمنظر طبيعي في قصيدة شعرية أو أغنية طير في تمثال منحوت وهكذا) ؟ أقول ربما كانت مشكلة الفنان في هذا هي بالدقة مسألة هذه الصفة الجشطالتية، وإنذ فهي مجال تستطيع فيه سيكولوجيا الجشطالت أن تكون مثمرة بخاصة. هذا وإن هيكلها النظري الذي ينص على مبادئ " الحقل " يستطيع أن يمد النماذج السلوكية للعقل اللاوعي، وهي ذات صبغة كلية أيضاً، وأن يدرك نظرياً أن العلاقات المتباينة في المجاز الشعري إدراكات " مثمرة " للشعر مثلها في ذلك مثل العلاقات الرياضية التقليدية في مجال العلم (1) . ولا ريب في أن الجشطالتيين

_ (1) قد يكون من المفيد هنا أن نضع تعليقاً موجزاً يوضح للقارئ في شيء من التبسيط نشأة مذهب الجشطالت وأسسه فنقول: هنالك سؤال خالد هو: ما هو الشيء الأساسي الأولي الهام في الطبيعة، وتتخذ الإجابة عليه أحد طريقين الأول: القول بأن الشيء الهام هو " العنصر " أو الجزء وهذا هو الاتجاه الجزئي أو " الذري " والثاني: أن الشيء الهام هو الكلي أو الأنموذج أو هو المركب في مقابل البسيط. وبين الجوابين انفصال حاد، فهما ضدان منطقيان يختلفان اختلاف الليل والنهار ويتباينان تباين الاشتراكية والفردية. أما أصحاب الجواب الأول فيبحثون عن كيفية التقارب التجاذب والترابط بين الأجزاء، وأما أصحاب الجواب الثاني فيبحثون عن التغير والسلوك والحركة في الكليات ولا يبحثون عن الترابط لاعتقادهم أنها نشأت مترابطة. وقد كانت السيكولوجيا في القرن التاسع عشر ميكانيكية ولكن حين استكشفت فكرة " الاستمرار " بدأ السيكولوجيون يتحولون إلى النظام الكلي أو العضواني Organismic ثم تلا ذلك استكشاف فكرة " الوحدة " وهذه أردفت باستكشاف اهرنفل لما سماه " الصفة الجشطالتية " فتحقق كثير من السيكولوجيين من أن العمليات السيكولوجية لا يمكن تفسيرها بتحويلها إلى عناصرها بل أن الحالة العقلية ذات خاصية ذاتية تسمى " Field Property " وكان أول من انفصل عن السيكولوجيا الميكانيكية في ألمانية فرتايمر وكوفكا ثم جاء روبن. فقلب الأفكار المتعارفة عن الإدراك والذاكرة، وكان لفن يعمل مع كوهلر في برلين؛ فطبق تقنيات الطوبولوجيا على مشكلات السلوك الموجه الغائي؛ ومن هنا نشأت السيكولوجيا الطوبولوجيه، والطوبولوجيا هي العلم الرياضي للعلاقات المسافية، فتطبيقها على النواحي النفسية معناه دراسة الظواهر النفسية وتفسيرها على أساس " إقليمي " في مسافة هذه الحياة.

التكامليين الشبان وهم أتباع المرحوم لفن (الذي قال في " مبادئ السيكولوجيا الطوبولوجية ": " إن الاقتراب الوحيد من المشكلات العميقة إنما هو العمل اللامع الذي قام به فرويد ") والحشطالتيين الاجتماعيين مثل س. إ. آش وج. ف. براون؟ لا ريب في أن هؤلاء حين يوجهون انتباهم إلى علاقات البمنى، والكليات و " الحقول " و " الطوبولوجيا " في الآثار الأدبية، ويلتقط النقاد المحترفون منهم استبصاراتهم ويوسعون فيها عندئذ ينفتح أمام النقد الأدبي مجال جديد ذو قيمة هائلة. 5 - بقيت بضع مشكلات يثيرها كتاب الآنسة بودكين والنقد النفسي عامة، في حاجة إلى شرح. وفي أولها المنحى الأخلاقي والديني الموجود في كتاب " النماذج العليا في الشعر " وإن لم يكن مزعجاً. غير أنه مزعج متطفل جداً في كتابها الوحيد الآخر (1) ، وهو كتيبة مخيبة للآمال نشرت سنة 1941 وعنوانها " البحث عن الخلاص في مسرحتين: قديمة وحديثة " The Quest for Salvation in an Ancient and a Modern Play وفيه تقارن الآنسة بودكين بين مسرحية " يومنيدس " Eumenides لاسخيلوس و " اجتماع

_ (1) قوله " الوحيد " يصدق حتى تاريخ تأليف هذا الكتاب؛ غير أن الآنسة بودكين ألفت بعد ذلك كتاباً آخر بعنوان " دراسة للصور النموذجية في الشعر والدين والفلسفة " Studies of Type - Images in Poetry، Religion and Philosopgy..

شمل العائلة " Family Reunion لاليوت بما في كل منهما من وسائل الخلاص المتباينة. وهي ترى أن الخلاص في مسرحية اسخيلوس جماعي وتاريخي، وذلك حين تحول الربة آثينا ربات النعمة Erinyes إلى ربات الرحمة Eumenides (1) ، وينجم عن ذلك أن تنعم الهيئة الاجتماعية بنظام جيد من العدالة. وتقرر الآنسة بودكين أن الأزمة في مسرحية اليوت جماعية كما هي عند اسخيلوس ومع ذلك فإن خلاص البطل عنده في النهاية فردي روحي كلياً، في مصطلح من علاقات ذاتية جديدة، واستبصارات سيكولوجية تهدأ بها ثورة " ربات النقمة " الذاتية عنده. وعلى ما في هذه المقارنة من قوة تبني الآنسة بودكين استكشافها للفرق بين العصر الاثيني وعصرنا من حيث الأخلاق والعدالة والسلام فتقول: لا ريب في أننا نعلم ابتداءً أن الشاعر المعاصر لا يستطيع أن يكتب في مثل هذا المزاج المتهلل، كالذي كان يمتلك الاثينيين أيام اسخيلوس، فيما يبدو. فالشاعر آنئذ كان يستطيع أن يشكل روايته المسرحية ليرفع الحجاب عن حقيقة بنى وطنه، ويشاركهم أفراحهم بعظمة ما استطاعت أن تحققه مدينتهم. إن تقدم الروح الإنسانية، الذي حققته أثينا ليقود أفكارنا إلى عصرنا، إلى تقدم أعظم نحمله في أنفسنا، وإن يكن ما يزال بعيداً عن التحقيق؟ إلى مجلس أو حكومة إنسانية، تضع العدالة مكان العنف بين الشعوب

_ (1) الأصل في تسميتهن Eumenides يدل على الرحمة، ولكن هذا الاسم اختلط بأسمائهن الأخرى التي تدل على الغضب والانتقام وقد سمين ربات الرحمة حين كففن عن تعذيب أورست، فقرب لهن القرابين وبنى لهن هيكلاً، وكانت عبادتهن عامة، ويحاذر الناس من تسميتهن بأسمائهن أو من النظر المسدد إلى هياكلهن، ومع القرابين من النعاج كان العباد يقدمون الأرز والزعفران ويريقون الخمر والعسل، ولا يقوم بتقديم القرابين في أثينة إلا الأحرار الفضلاء الذين يحيون حياة نقية.

في كل العالم، ولو أنا نجحنا في تكوين هيئة تهدئ أحقاد الشعوب مثلما هدئت بين أبناء الوطن الواحد، فقد تتشكل لنا في الشعر أسطورة عن التدخل الإلهي لتعكس لنا نصرنا الجماعي. ولكن في هذه الساعة القاتمة من مقدرات العالم إن خلق لنا شاعر من شعرائنا أسطورة عما حققناه من خلاص، فإن رمزه لا يستطيع أن يعكس إلا نصراً فردياً روحياً. وما تزال الآنسة بودكين في " البحث عن الخلاص " مهتمة إلى حد ما بالدراسات النفسية، وما تزال تقتبس من فرويد ويونج بل إنها تقترح نموذجاً أعلى لربات النقمة؟ نموذج الطاقة العاطفية المتركزة في رابطة شريرة، القادرة على أن تستحل إلى رابطة خيرة. ولكنها خضوعاً لمنحاها الجديد تكثر الاقتباس من المبادئ الصوفية المتنوعة، وهذه تشمل كتاب جون مكمري " مبني التجربة الدينية " The Structure of Religious Experience وكتاب " الأخلاق " لهارتمان، ومبدأ هوايتهد " الفاعلية العلية " في كتابه " المراحل العلمية والحقيقة " Process and Reality. وتلتقط من هارتمان فكرته عن " المهمة فوق الجمالية للشعر بمنح " نفسية المجتمع المرجوة " وحدةً محسوسة وشكلاً؟ أي مثلاً علياً تبزغ في الوعي الأخلاقي للهيئة الاجتماعية ". وعلى قوة هذا المفترض، تعرتف أن كتيبتها ليست دراسة جمالية وإنما هي دراسة فوق؟ جمالية، محاولة لكشف " حقائق من حقائق حياتنا العامة خلال شعر هاتين المسرحيتين ". ومهما يكن هذا قيماً للأخلاق والدين والقانون الدولي، فإنه يبدو في معظمه مجانيةً لمهمة الناقد الأدبي. وثمة مشكلة كبرى يثيرها استخدام الآنسة بودكين للنماذج العليا اليونجية

في النقد، وتلك هي علاقتها بالفولكلور والأنثروبولوجيا. وواضح أنها مدينة؟ طبعاً؟ لفريزر حتى إن مراجعة موجزة لكتابها نشرت في London Mercury غفلاً من الإمضاء تبدأ بهذه العبارة " تحت الظل الممتع " للغصن الذهبي " الذي ألفه فريزر ... ". وتستمد الآنسة بودكين كثيراً لا من فريزر والأنثروبولوجيين المتأخيرين، مثل إميل دركهايم وج. اليوت سمث وروبرت بريفولت والكسندر جولد نفيزر، فحسب، بل إنها على التعيين تستمد من تلامذة المدرسة الأنثروبولوجية العاملين في حقل الفن والدين القديم مثل جلبرت مري، وفرانسس كورنفورد وجين هاريسون ور. ر. ماريت وجسي وستون. وتفيد من كورتفورد بوجه خاص لأنها ترى في مبدأه عن " القوة الروحية " المستمدة من " العاطفة الجماعية والفعالية الجماعية للمجموع " إرهاصاً باللاوعي الجماعي عند يونج، كما تجد أن مري قد أرهص بالنماذج العليا في فكرته عن " المواقف المنغرسة عميقاً في ذاكرة الجنس والتي كأنها مطبوعة في كياننا العضوي الحسي ". ن محور فكرة الآنسة بودكين هي التكوين الشعائري للفن، وهي الفكرة المرتبطة بمدرسة كيمبردج، وحين تغلب الصبغة الفكرية على ما تكتبه وتبتعد عن الذاكرة البيولوجية وهي فكرة يونج الصوفية فإنها تدرك أن انتقال نماذجها العليا إنما هو انتقال شعائري، وتقول: " قد يمكن أن أثراً مثل هذا يستطيع أن يمر؟ وقد تجسده الموروث؟ في العاطفة المنقولة أولاً خلال الشعائر المصحوبة بالخرافة والأسطورة، ثم من خلال الشعر الذي يحتفظ بأثر الشعائر مثلما تحتفظ بها قصيدة فرجيل ". وفي ملحق بكتابها عنوانه " النقد والشعائر البدائية " تجعل اعتقادها بالأصول الشعائرية للدين والفن أمراً جلياً وتدافع عن إشارات اليوت إلى الشعائر القديمة في قصيدة " اليباب " ضد نقد أليك براون، وترى أن

تلك الإشارات تضفي شيئاً على سحر القصيدة وجمالها لا أنها نتف من التعالم المصطنع. وبين الدراسة التكوينية للأدب الشعبي في اصطلاحات الأصول الشعائرية، وتحليل وظيفته في اصطلاحات الحاجات الاجتماعية والسيكولوجية رابطة ضرورية محتومة، تجعل سيكولوجية يونج أو أي سيكولوجية جماعية، لازمة للنقد الشعبي، بمثل لزوم الانثروبولوجيا التي كونها فريزر، في رفض فكرة فرويد ويونج، عن الذاكرة الموروثة، ويعالج الحاجة السيكولوجية لهذه النماذج الشعائرية على أنها تتجدد في كل جيل بتأثير ثقافي، مثلما ألمحت الآنسة بودكين في العبارة التي اقتبسناها منها قبل قليل. فليست النماذج العليا أساساً للأدب فحسب، كما بينت الآنسة بودكين بتوفيق عظيم، بل إن الأدب؟ لعصرنا على الأقل؟ هو واحد من أعظم المكثرات للنماذج العليا. ويتبقى بعد ذلك مسألتان عامتان أثارهما النقد النفسي: المشكلة الأولى جديدة على عصرنا وهي نقد الأديب الذي كان له تمرس وثيق بالأدب المنبني على التحليل النفسي. وقد أثار هذه المشكلة فردريك ج. هوفمان في كتابه " الفرويدية والعقل الأدبي " Freudianism and the Literary Mind وذلك أثناء بحثه عن أثر فرويد في أدباء مثل جويس ولورنس ومان وكافكا، ويتحدث عنها وليم يورك تندال في كتابه " القوى في الأدب البريطاني الحديث " Forces in Modern British Literature أثناء الحديث عن ديلان توماس وأتباعه. وربما انساق إليها ورتام عند الحديث عن رتشارد رأيت لو أنه شاء أن يحلل كتاباً من كتبه التي صدرت أخيراً واستعمل فيها كشوف التحليل النفسي، دايعاً عامداً، مثل كتابه " الرجل الذي عاش تحت الأرض " The Man Who Lived Underground. ولما أن حلل

أرنست جونز أنموذج أوديب في " هاملت " كان يستطيع أن يفترض ان شكسبير لم يقرأ شيئاً عن عقدة أوديب عند فرويد، ولم يعمد إلى تنظيم مسرحيته حول هذه العقدة من أجل تحقيق تأثير أعظم، ولكن هذا الفرض نفسه لم عد ممكناً في حال أدباء مثل جويس ومان. خذ مثلاً مان: فإنه في مقاليه عن فرويد وهما " مكانة فرويد في تاريخ الفكر الحديث " و " فرويد والمستقبل " وهذا الثاني أسهم به عيده الثمانيني، تجعل من الجلي أنه لم يدرج فحسب، عامداً في قصصه، استبصارات التحليل النفسي الشكلية بل إن كتبه الأربعة المتتابعة عن " يوسف "، كانت على وجه التحديد مستوحاة من الكتابات لفرويدية. ففي حال مثل هؤلاء الأدباء (وكل سبب يحدونا لنفترض إن هذا الموقف سيظل كذلك بعد اليوم) ، يصبح الناقد الذي يستنبط من الأثر الأدبي استبصاراً نفسياً في مثل موقف امرئ يجد كنزاً مدفوناً في نورث نوكس. نعم إن الناقد المعتمد على التحليل النفسي، ما يزال يقدر على أن يفترض أن الأنموذج الذي يشاء تحليله، مليء بالمعاني الذاتية، إذ إن الأديب يعبر عن حاجاته الأساسية في مادة شكلية، اختارها واعياً نفس الوضوح الذي يعبر به عنها في مادة اختارها غير واعٍ، غير أن هذا الناقد لن يستطيع بعد اليوم أن يفترض أنه بإماطة اللثام عن ذلك الأثر الفني يسهم بأي إسهام نقدي ركين. وربما لمس القارئ بعضاً من الأثر لهذا نصور المؤسف في النقد الفرويدي الذي يدور حول د. هـ؟. لورنس كما هي الحال في كتاب " كاهن سفر الرؤيا " Pilgrim of the Apocalypse، راس غرغوري. ومنشأ هذا، ولا ريب، من شعور القارئ بأن لورنس نفسه كان يستطيع أن يكتب نقداً معتمداً على التحليل النفسي أعمق من هذا النقد وأشمل إدراكاً، سواء أنقد مؤلفاته أو مؤلفات الآخرين. وأخيراً هناك المشكلة العامة حول إمكانيات النقد النفسي ومستقبله. المظهر المخيب للآمال من الجدل الذي تضمنته مجلة: Partisan Rev

في هذا الموضوع، وأثارته الباثوغرافيا التي كتبها الدكتور روزنتسفايغ عن هنري جيمس هو أن هذا النوع من النقد قد تركز بخاصة، على مشكلة الفن والمرض العصبي، وهي من أقل المشكلات حاجة إلى الاستكشاف في هذه الأيام. ولم يواجه هذه المشكلة الكبرى إلا روبرت جورهام ديفز حين أسهم بمقال له عنوانه " الفن والقلق " عدد الصيف سنة 1945، فقد نص فيه على ما يستطيع أن يؤديه التحليل النفسي، لا على ما يعجز عنه. وقد خطط ديفز الاتجاه المرجو على النحو التالي: حلل في بعض التعليقات الموحية قصة رد ردنجهود Red Ridinghood، ودعا إلى تحليل فرويدي ماركسي معاً، غير مبسط وغير ممسوح بالسوقية، ومهد حقلاً للنقد المتصل بالتحليل النفسي، بدرسه كيف يرضي الأثر الفني الحاجات العاطفية اللاشعورية أي دراس نفسية للشكل) . إن القصور الواضح في التحليل الأدبي الفرويدي التقليدي هو أنه لا تكتب على أساسه إلا دراسة واحدة، فإذا أضفت دراسة أخرى تردد فيها الشيء نفسه. ولقد استطاع إرنست جونز أن يؤدي عملاً جميلاً حين وجد عقدة أوديب كامنة في مسرحية " هاملت " ولكنه لو ذهب يحلل " لير "، أو " حلم منتصف ليلة صيف " أو مقطوعات شكسبير لوجد؟ وربما أدهشه ذلك؟ أنها جميعاً تعكس عقدة أوديب عند شكسبير، ولقام حقاً إن نحن سلمنا له بنظرياته، بالكشف نفسه في أي أثر فني آخر. هاهنا يتجلى لنا أن الرجاء معقود بكتاب الآنسة بودكين " النماذج العليا في الشعر ". ذلك أنه لم يرتكز على المرض العصبي للفنان، ولا على العقد المستخفية في إنتاجه الفني، ولا على أن الفن تحقيق مقنع لرغبات مكبوتة؛ بل ارتكز على كيف يحدث الأثر الفني الرضى عاطفياً، وأية رابطة تقوم بين مبناه الشكلي والنماذج الأساسية والرموز في نفوسنا، وبذلك قدمت لنا الآنسة بودكين نقداً نفسياً لا تنتهي دروبه ومناظره. لقد

تساءلت دائماً: ما الذي تصنعه هذه القصيدة وكيف تصنع ما تصنعه؟ وهذان هما السؤالان التقليديان في النقد. وتقدم العلوم النفسية؟ وفي مقدمتها علم التحليل النفسي؟ ذخيرة عظيمة في الإجابة عليهما، وتختلف الأجوبة باختلاف القصائد. فلنقل في الثناء على هذه المرأة المغمورة وكتابها، إنها بمعنى من المعاني، حققت للنقد الأدبي مهمة أساسية كالتي حققها فرويد، فقد سلط هو أنوار العلم المعشية على أعماق اللاشعور الإنساني، وأبانت هي أن أرق القصائد تحت ذلك الشعاع الساطع لا يدركها الذبول.

الفصل السابع

الفصل السابع كارولاين سبيرجن والدراسة المتخصصة في النقد لم تكن العلاقات بين الدراسة المتخصصة والنقد في الأدب طيبة كثيراً في أيامنا، ذلك لأن الدارس المتخصص ليس في نظر الناقد إلا امرءاً جامعياً أخنى عليه الدهر، وقصارى همه من الشعر العظيم، أن يعد ما فيه من شولات وفواصل، كما أن الناقد في نظر الدارس ليس إلا امرءاً طائشاً، يجمع في أحكامه الجارفة عن الأدب بين عناصر متساوية من الجهالة والسلاطة. ومن سوء حظ العلاقات بين هذين الميدانين، أن تكون هاتان التهمتان صحيحتين في أساسهما، فإن الجامعات مكتظة حقاً بمن أخنى عليهم الدهر، والمجلات حافلة بالطائشين، وأكثر دارسينا المتخصصين يفتقرون كثيراً إلى الخيال، وأكثر نقادنا يفتقرون كثيراً إلى المعرفة؛ وقليل هم النقاد المعاصرون الذين حرصوا على الجمع، مثل عزرا بوند، بين التطبيق في مجالهم السليط، وبين الدراسة التخصصية اصلية، وقليل هم الدارسون المتخصصون الذين حرصوا على أن يسهموا في النقد بقسط من الخيال الأصيل. ومن البارزين بين أفراد الفريق الثاني كارولاين ف. إ. سبيرجن التي انتهى بموتها سنة 1942، عن أربعة وسبعين عاماً، عهد حافل متميز من دراسة شكسبير وشوسر، امتد على مدى نصف قرن من الزمان. أما الكتاب الذي عرفت به فهو " الصور عند شكسبير

وما الذي تنبئنا به " Shakespeare " s Imagery and What It Tells Us وقد نشر في آخر المرحلة من جهادها؟ تقريباً؟ سنة 1935، ولكنه يمثل بمعنى من المعاني، الذروة التي بلغتها في التأليف. وأول كتبها هو " التصوف في الأدب الإنجليزي " Mysticism in English Literature وقد نشر عام 1913 عندما كانت أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة لندن. غير أنه لا يتمتع بعمق الدراسة ولا برجاحة النقد، وإنما هو في الحقيقة رسالة تجنح نحو التصوف وقد انتحلت طبيعة البحث عن الفكر الصوفي في الشعر والنثر الإنجليزيين، ولهذا التحيز الأساسي في الكتاب، أبدت الآنسة سبيرجن استخفافاً لبقاً بالمقاييس الجمالية حتى لقد استطاعت أن تقول: " لقد تعود الجنس الإنجليزي أن يلبس أعمق أفكاره وأسمى مطامحه ثوباً شعرياً، فنحن ليس لدينا أفلاطون أو كانت أو ديكارت، ولكن لدينا شكسبير ووردزورث وبراونغ ". بل يبدو أنها تؤمن إيماناً حرفياً بأن " نشيد الإنشاد "، قد كتب في صور غزلية شهوانية، رمزاً للشوق بين الله والنفس. وليس لديها الوسائل التي تميز بها التجربة الصوفية من الهستيريا العادية كما أن حديثها عن تجربة السيدة جوليان، المتصوفة المشهورة في القرن الرابع عشر، التي أصبحت ترى الرؤى بعد أسبوع من المرض أعقبه ست ساعات من الارتعاشات التشنجية، - إن حديثها ذاك ليدل على أنها تتقبل كل هذه المظاهر وتعدها طريقاً معقلاً للاقتراب من الله، كأي طريق آخر. ونحاول في نهاية كتابها أن تنتحل شهادة تسند بها التصوف فتقول: " إن آخر ما توصل إليه العلم والفلسفة لينزع إلى أن يقوي موقف الصوفي بل وأن يفسره "، أما آخر كلمة لها في الكتاب فإنها مستمدة من برغسون. وفي الكتاب أشياء قيمة وبخاصة ذلك الجزء من الهيكل التأريخي المتلاحم للفكر الصوفي، منذ أفلاطون حتى اليوم، ولكن معظم الكتاب عمل لا

يثير إلا رغبة عقلية قليلة، وقيمته في الأكثر تخص الغيبيين من الأدباء. أما كتابها التالي وهو " خمسمائة سنة من النقد لشوسر، ومن الإحالة إليه " Five Hundred Years of Chauser Criticism and Allusion فقد نشرته جمعية شوسر بين سنتي 1908؟ 1924 في ستة أجزاء، وكله دراسة تخصصية لحماً ودماً، ولا يهمنا في هذا المقام. وفيه لخصت وقيدت كل إشارة إلى شوسر، منذ 1357 حتى 1900 وربما ظل كتابها التصنيف النهائي للمادة المتعلقة بشوسر، ولا يحتاج إلا ملاحق دورية لما يجد من مادة. وأما كتابها " شكسبير في يدي كيتس " Keats " Shakespeare الذي نشر سنة 1928 فإنه خطط؟ فيما يظهر؟ ليكون دراسة تخصصية خالصة مثل كتابها عن شوسر. ولكن هذا الكتاب في الحقيقة يزيد على الدراسة التخصصية قدراً محسوساً. وقصة الكتاب أن الآنسة سبيرجن علمت أن لدى المستر جوزف آرمور في برنستون، نسخة سفرن Severn من شكسبير، وهي النسخة التي كان كيتس يقرأها في رومة، وترك على هوامشها بعض التأشيرات والتعليقات. فلما أذن لها في معاينتها، استكشفت أنها هي نسخة كيتس نفسه من مسرحيات شكسبير، وأنه قرأها، وأعاد قراءتها، طوال آخر ثلاث سنوات ونصف من حياته، وأن عليها قدراً شاملاً من العلامات والملاحظ والحواشي وأن الدارسين المتخصصين يجهلون وجودها إطلاقاً. وأضافت إلى هذه المجلدات مجلدين من شكسبير، كان كيتس قد علق عليهما، وهما من محتويات مجموعة ديلك Dilke في هامستد (هذان هما الطبعة الثانية من فولير 1623 ونسخة من القصائد) فاجتمع لديها سبع مجلدات كونت سجلاً بالغ القيمة يصور الاستجابة الدقيقة من كيتس نحو الشاعر الأعظم الذي أثر فيه كثيراً. وجعلت العنوان الفرعي للكتاب، " دراسة وصفية مبنية على مادة جديدة "، وحللت فيه هذا الكشف العظيم، وهو كتاب جميل الشكل، موضح بكثير من الصفحات المصورة

عن النسخ الأصلية، ويتضمن أخيراً ملاحظ كيتس وشروحاً لها. وقد رتبت الآنسة سبيرجن كتابها في ثلاثة أقسام: القسم الأول عن ملاحظ كيتس ومضموناتها، والثاني عبارات من " العاصفة " و " حلم منتصف ليلة صيف " مع عبارات توازيها من " إنديميون " Endymion لتوضح شبهاً في العبارة أو في الفكرة. والثالث طبع لكل التعليقات والإشارات في المسرحيات الخمس التي نالت أوفر نصيب من " تأشيرات " كيتس وهي " العاصفة " و " حلم منتصف ليلة صيف " و " واحدة بواحدة " و " أنطوني وكليوباترة " و " ترويلوس وكريسيدا ". فخمسة أسباع الكتاب مخصصة لطبع المسرحيات والتعليقات والباقي وقدره حوالي خمسين صفحة، لتعليقات الآنسة سيبرجن، غير أنها في هذا المجال الضيق قد أثارت عدداً من النقاط التي تتمتع بشموا الإدراك. ومن أوائل الأمور التي حققتها، فكرة بسيطة إلى حد أن لا تخطر لكثير من الدارسين أبداً، وهي: أن تحسب أي المسرحيات أكثر كيتس من قراءتها، لا من كثرة غشارته فحسب بل من آثار التلويث وبلى الورق؛ فوجدت " العاصفة " أحبها إليه، لأنها قرئت وأعيدت قراءتها كثيراً، ووجدت " ترويلوس وكريسيدا " أقلها حظاً، لأنها قرئت وعلق عليها في الطبعة الثانية من الفوليو ثم لم تقرأ؟ فيما يظهر؟ في مجموعة برنستون أبداً. ولما كانت مادتها تعلق بتحويل ما يقرأه الشاعر في صورة ما يكتبه، فإنها؟ دون خيار؟ انتحلت طريقة جون لفنغستون لويس التي استعملها بتوفيق عظيم في دراسته للمشكلة نفسها عند كولردج، في كتابه " الطريق إلى شندو " (1) The Road to xanadu. وبعد أن وصفت الآنسة سبيرجن دراس لويس بأنها " دراسة خلابة " في كتابه العظيم "، مضت

_ (1) هذا هو اللفظ الأصلي للكلمة وقد آثر على " زندو " وهو اللفظ الإنجليزي لها.

تستغل طريقته، بصراحة، حتى لقد استعملت نظرياته في التداعي الخيالي. مثال ذلك أنها لحظت صورة عند شكسبير أشر عليها كيتس ثم لم يستعملها، فقد رت أنها حلقة الربط في فكره بين عبارتين: إحداهما من شكسبير والأخرى من دريتون، وأن ذكراهما تسربت معاً في عبارة واحدة. وأكبر قصور في كتابها " شكسبير في يدي كيتس " هو روحها المحافظة في الدراسة، فهي؟ مثلاً؟ تأبى أن تدخل في مشكلات حياة كيتس والتعرف إليه من خلال شكسبير، ومن ثم لا تقف، إلا قليلاً، أو لا تقف أبداً، عند انفعال كيتس الواضح في تعليقاته حين كان يقرأ ما كتبه الدكتور جونسون وستيفنسون من نقد على شكسبير. فقد ضرب فوقها بالعلامات والتعريجات، وكتب مثل هذه التعليقات " تبصروا! عاد إلى حمقه " أو " أتظل وغداً شتاماً عياباً " (أخطأ كيتس في كتابة الكلمة الأخيرة فعلقت الآنسة سبيرجن على ذلك الخطأ يشير إلى جزعه الساخر، واحتقاره لنقد الدكتور جونسون للمسرحيات؟ وهو نقد حاسم تحقيقي -) غير أنها تعجز عن أن تلحظ أن كثيراً من علامات كيتس على " العاصفة " قد تركز على بروسبرو، وأنه صورة لشكسبير، أي هو كاتب مسرحي ساحر، وهي نظرية من نظريات عصرنا، لكنها غير مستبعدة على كيتس، إذا نحن اعتبرنا كيف كان يعتقد أن هاملت تعبير عن شكسبير نفسه. ولم تتخذ في كتابها هيكلاً نقدياً لتميز به بيتاً من شكسبير يصفه كيتس بأنه نوع عظيم من الشعر وآخر " علم " عليه لأسباب ذاتية أو تافهة أو حتى لأسباب سديدة محكمة (والحق أنه أشر على عدد من الأمثال والحكم القديمة) فطريقتها لا تفرق بين هذين النوعين من العلامات، فكلها علامات وحسب. وأخيراً فإن كثيراً من الأشياء التي وجدتها في " إنديميون " تذكر بشكسبير أو تشابه ما عنده، إنما هي؟ بأوجز قول

مثار للشك إلى حد كبير. ويتضح أكبر نقص في كتابها إذا نحن قارناه بكتاب لمدلتون مري عنوانه " كيتس وشكسبير؟ دراسة لحياة كيتس الشعرية من 1816؟ 1820 "، وقد نشر عام 1925 قبل أن تستكشف الآنسة سبيرجن كتب شكسبير التي كانت لدى كيتس. وهي تعترف بفضله " الكبير " عليها، لما عنده من " سرد ممتع مقنع " ولكنها لا تستفيد إلا قليلاً، بل لا تستفيد أبداً، من استطلاعاته الهامة التي هدته إلى أن كيتس لم يكن واقعاً تحت تأثير عبقرية شكسبير عاطفياً فحسب، ولم يكن أوثق صلة روحيةً به من أي شاعر آخر واقعٍ بينهما، فحسب أيضاً، بل إنه كان يدرس شكسبير دراسة واعية بالعين اللماحة لكاتب مسرحي يرجى له مستقبل كبير، وأن كل قصائده بعد انديميون ليست في الحقيقة إلا إعدادات واضحة للمسرحيات التي يعش ليكتبها. غير أن كتاب مري، من الناحية الأخرى، غائم بالتصوف والتدين المتافيزيقي (" معرفة الأثر الأدبي معناها أن نتعرف إلى نفس الإنسان الذي خلقه ") وبالفهم خلال " معرفة النفس " وهو شيء يفوق الفهم الذي نبلغه عن طريق " العقل المنطقي ". ويبلغ كتابه ذروته في هذه الفكرة الغريبة وهي: بما أن الشعر الخالص وحي من الله، وبما أن كيتس وجد وحيه خلال شكسبير، إذن فإن شكسبير؟ حرفياً؟ هو تجسد الله على الأرض. ومع ذلك فلو أن كتب شكسبير التي كان يمتلكها كيتس، كانت ميسورة عند مري حين ألف كتابه، لأفاد منها؟ فيما يحتمل؟ أكثر مما أفادت منها الآنسة سبيرجن، لأن اندفاعه نفسه كان يهديه أحياناً إلى حقائق متأبدة. ولو تجسدت المقدرتان بخير ما فيهما في شخص واحد لكان منهما ناقد له خيال مري دون شطحاته المغربة، ولديه دراسة الآنسة سبيرجن، دون جبنها، ولم يوجد بعد مثل هذا الناقد الكامل الذي يحط بهذه المشكلة النقدية الخلابة، مشكلة العلاقة

بين كيتس وشكسبير. أما عملها الأخير أي دراسة الصور عند شكسبير فيمثل الانطلاق من إسار الدراسة المتخصصة، والاندفاع وراء حدودها الضيقة، مع أنه أعماقه لم يبلغ مرحلة النقد بلوغاً تاماً. وليس كتاب " الصور عند شكسبير " إلا جزءاً صغيراً من هذا العمل، ذلك أنها منذ 1927؟ على الأقل؟ انهمكت في التصنيف والدراسة لسبعة آلاف صورة في مسرحيات شكسبير (وتعني بالصور الاستعارات والتشبيهات لا الصور البسيطة المرئية) مع صور أخرى من عدد كبير من المسرحيات التي كتبها معاصروه. وفي سنة 1930 كشفت للناس بعض عملها في محاضرة ألقتها أمام جمعية شكسبير عن " الدوافع الموجهة في التصوير في مآسي شكسبير " وفي سنة 1931 ألقت المحاضرة السنوية عن شكسبير أمام الأكاديمية البريطانية، وموضوعها " الصور المكرورة عند شكسبير "، وكلتا المحاضرتين، ظهرتا بعد شيء من المراجعة، فصلين من فصول الكتاب. وكانت خطتها أن تنشر ثلاثة كتب مبنية على دراستها للصور الأول: " الصور عند شكسبير " ويتعلق بشخصية شكسبير والصور التي تتصل بمادة المسرحيات. والثاني: يعالج مسائل التأليف، بمحاكمتها على ضوء الشهادات الجديدة التي جمعتها، والثالث يبحث في المجالات التي تأثر بها فكر شكسبير والمصادر التجريبية لصوره. وكانت ترجو أن تتمكن في النهاية من نشر جداولها لكي يفحصها أو يزيد فيها دارسون آخرون، غير أن وفاتها حالت دون صدور هذه الكتب، إلا الأول منها. وأي حكم على نواحي القصور في فكرها ومنهجها، بالنظر إلى هذا المجلد الوحيد الذي عاشت لتتمه، إنما هو بالضرورة حكم عابر إن لم يكن جوراً صراحاً. 2 - ومع ذلك فمن الضروري أن تمعن النظر في ما حققه وما قصر دونه

كتابها " الصور عند شكسبير وما الذي تنبئنا به "، فإنه في الحقيقة ينبئنا عن عدد من الأشياء القيمة، أولها ما يتعلق بطريقته؛ فقد أدعت الآنسة سبيرجن، ولعلها محقة فيما ادعته، أن دراسة الأديب بتصنيف صوره وتحليلها، بعد تمييزها من إشاراته الحرفية، طريقة جديدة ابتكرتها، " ولم يجربها أحد من قبل ". وبينت أن لدى أي قارئ معرفةً ببعض الصور الرمزية التي تتردد عند شكسبير، ولكن لا يكشف عن مدى النماذج الصورية، إلا تقسيمات مفصلة وحصر دقيق. " كل ناقد درس شكسبير من قبل قد أثار ملاحظ عارضة عن الصور عنده، فلحظ دريدن كثرة الصورة المنتزعة من الطبيعة، ولحظ هازلت أن " روميو وجولييت " ترتكز؟ فيما يبدو؟ على صور الجمال الربيعي، وقد صنع برادلي جداول للصور المتصلة بالموضوعات (1) في عدة من الروايات، وتحدث جورج رايلاندز وولسون نايت عن عدد من الصور المترابطة، ودرس ادمند ابلندن الصور في مسرحية الملك لير. بل إن بعض صور شكسبير المترابطة المتداعية مثير إلى حد أن لحظه المحققون القدامى. واشهر " عنقود " من الصور الخاصة بشكسبير أعني صورة " الكلب المتبصبص والقند المذاب " قد استكشفه ولتر وايتر منذ سنة 1794 في مقاله: " مثال في " تداعي الأفكار " الذي وصفه في " مقال في الفهم الإنساني "، بقوله: ثمة أفكار، لا قرابة بينها في ذاتها، تصبح متحدة في عقول بعض الناس، إلى حد أن يصبح فصلها عسيراً جداً؛ فتظل دائماً مترافقة وما تكاد إحداها تظهر في أي وقت حتى

_ (1) Thematic Images ومعناها الصور التي تدور في مسرحيات كثيرة وترمز إلى موضوع واحد، كتشبيه الملك بالشمس مثلاً، فدوران هذه الصورة في غير مسرحية واحدة قد يدلنا على فكرة شكسبير عن الملكية نفسه، وهكذا.

تبرز رفيقتها إلى جانبها، وإذا كانت الأفكار المترابطة أكثر من اثنتين وجدت كل العصابة متحدةً تظهر جميعها معاً. ويميز لوك هذه الأفكار التي تبدو غير مترابطة مما يسميه " قافلة " الأفكار المترابطة طبيعةً، ويتناول وايتر هذه المبادئ في كتابه ويطبقها على شيكسبير، فيقول: لذلك أحد قوة هذا التداعي وتسلطها على عبقرية الشاعر بأنها القوة التي تزوده بالكلمات والأفكار، التي أوحى بها للعقل. مبدأ وحدة لم يلحظه الشاعر نفسه، وهو مبدأ مستقل عن الموضوع الذي تتعلق به تلك الكلمات والأفكار. وفيما بعد يشير وايتر إلى " المركبات الدقيقة بل المضحكة التي تقع على عقل الشاعر وهي قادرة على أن تخدع وتتحكم في أحد أنواع الفهم وأقواها ". ويلحظ التداعي القديم بين " الحب " و " الكتب " وأمثلة أخرى. ولكن أكبر نجاح حققه هو تعليقه على الأسطر الآتية من رواية " أنطوني وكليوباترة " الفصل الرابع المنظر الثاني عشر (كما أصلحها هانمر سنة 1744) إن القلوب التي كانت تبصبص خلف عقبي ماعت كالقند، وغلفت بحلواها قيصر الناشئ. ففي ملاحظه إرهاص مدهش بطريقة الآنسة سبيرجن (وطريقة لويس أيضاً) حتى إنها لتستحق الاقتباس، إذ يقول: " هذه العبارة وما يتلوها من اقتباسات تستحق من القارئ اهتماماً.

" لا دع اللسان المغلف بالقند " يلعق " العظمة الجوفاء وتنحي مفاصل الركبة المثقلة حيث يكون التبصبص علة في الثراء " (هاملت 3؟ 2: 55) " أتحسب هذه الأشجار النخرة التي طال عليها الأبد فجاوزت عمر لبد تصبح الأسيف التبيع خلف عقبك أو تثب لإيماءتك قائلة لبيك وهذا الجدول الشبم، " المغلف " بالثلج، أيكون دواء ناجعاً في الصباح يشفيك من خمار الأمس " (تيمون الأثيني 4؟ 3: 223) " حقاً، أي قدر من الحفاوة " القندية " (المعسولة) أسبغه علي ذلك " الكلب " " المتبصبص ". (القسم الأول من هنري الرابع 1؟ 3: 251) فكل هذه عبارات فريدة يلحظ فيها القارئ المستطلع أن " الخضوع المتبصبص " المتملق عند حيوان أو تابع، يتصل دائماً بكلمة " قند " وأنا عاجز عن استكشاف السر في هذا الترابط الغريب. على أن القارئ إن حسب أن هذه الأمور ارتبطت في العبارات الأربع بمحض المصادفة فإنه لا يعرف إلا شيئاً قليلاً عن العقل الإنساني، وعقل شكسبير، بل عن مبدأ المصادفات العادي. فإذا وجد القارئ في نفسه اقتناعاً بحقيقة هذه الملاحظة، فإن حب الاستطلاع لديه ليجد الرضى بهذه الأسطر المقتبسة

من مسرحية " العاصفة "، وسيلحق فيها أن ذلك التداعي ما يزال يشغل عقل الشاعر، وإن لم يكن فيه إلا كلمة واحدة ترتبط بجزء من المجاز السابق: سباستيان: ولكن ماذا عن ضميرك؟ أنطونيو: نعم يا سيدي أين يكمن ذاك؟ إنه لو كان ثؤلولاً في عقبي لاضطرني إلى أن ألبس تاسومة. غير أني لا أحس بهذا الرب قابعاً في صدري، حتى ولو كان عشرين ضميراً تقف بيني وبين ميلانو " مغلفة بالقند "، تذوب قبل أن تمسها يد. (العاصفة: 2؟ 1؟ 275) ولا ريب في أن القارئ لن يشك في أن إيراد كلمة " ثؤلول " يرد إلى التعبيرين السابقين " التبيع خلف عقبيك " و " يبصيص خلف عقبي " مع أنها قد استعملت في مجاز مغاير. ولأضف إلى ما تقدم أن غرابة الصورة ربما ترمز إلى بعد الأصل الذي انحدرت منه. " (1) ولم تصرح الآنسة سبيرجن بفضل وايتر، ولا ذكرت أحداً من الذين ساروا على هداه، وإنما اكتفت بأن تقول إن هذا التداعي أمر " لحظه آخرون ". ولم تستطع أن تزيد أي تحسينات في هذه الإرهاصات التي سبق إليها وايتر، سوى أنه استخرجت أمثلة أخرى من مسرحية " يوليوس قيصر " كان قد استخرجها آخرون، وإلا أنها قدمت تفسيراً لهذا التداعي (وهو أيضاً غير أصيل) عجز عن أن يوضح شيئاً، إذ قالت: " إن شكسبير " الذي كان شاذاً في تنوقه وعيفانه "، كان يمقت عادة الناس في عصر اليزابث، في إلقاء الحلوى للكلاب وهم يأكلون، ثم ربط ذلك بشيء آخر كان يتقزز منه، وهو تبصبص الأصدقاء غير المخلصين بأذنابهم "

_ (1) نهاية الاقتباس من وايتر.

وعلى الرغم من سطحية هذا التفسير الذي يبدو أنه قد يتخذ حجة ضدها لا لها، فإنها مدينة أكبر الدين في كتابها؟ وهو دين تكاد تكون غير واعية به، ولو أنها أدركته فربما كان صدمة لها؟ إلى نظريات سيجموند فرويد، إذ تصف فرضها الأساسي عن الكشف الذاتي في الأدب بقولها: وفي حال الشاعر أرى أنه من خلال صوره، على الأكثر، يبوح بمكنونات نفسه، وهذا العمل يحدث لا شعورياً إلى حد ما. فقد يكون على محض الموضوعية في تصوير أشخاص مسرحياته ونظراتهم وآرائهم؟ وقد كان شكسبير كذلك فعلاً؟ ولكن الشاعر، كالرجل الذي تثقله العاطفة فيتجلد لها حتى إن أي عملائها لا تظهر في عين أو قسمات ثم إذا بها تنكشف في توتر عضلي؟ فالشاعر يعري، دون أن يفطن إلى ما يفعل، دخائله من حب وبغض، ونزعات فكره ومعتقده، في الصور ومن خلالها، وهي الصور الكلامية التي يرسمها ليوضح أشياء مختلفة، ترد في كلام شخصياته وأفكارها. فالصور التي يستعملها بوحي الغزيرة، هي على هذا نوع من الكشف، لا شعوري في الأغلب، صادر في لحظة من المد الشعوري عما يعتلج في فكره، وما يجري في مسارب أفكاره، وعن صفات الأشياء والمحسوسات والأحداث التي لم يلحظها أو يتذكرها وربما كان هذا أبينها جميعاً وأهمها.

ومع أن الآنسة سبيرجن، فيما يبدو تألف التعبير " دون أن يفطن " بدلاً من " دون أن يعي " (1) ، وتستعمله الاستعمال الشائع، إلا أن رأيها هذا صدر بعد رأي فرويد. وفي رأيها؟ ضمناً؟ نظرية كالتي قال بها فرويد عن وجود مجالات عقلية تحت المستوى الواعي الذي تخزن فيه هذه المادة أي مثابة للكبت أو الرقابة، تحاول أن تحتفظ به حيث هو، وطاقة دينامية تريد أن تطلقه مقنعاً مشوهاً، ليتدمس في الآثار الفنية والأحلام وما أشبه. غير إن إحدى نواحي القصور حقاً عند الآنسة سيبرجن، هي أنها لم تكن فرويدية عن وعي، إلى حد كافٍ، ولذلك عجزت عن أن تتعرف إلى الصراعه بين الكبت والانطلاق الكامن في أساس الصور التي درستها، ولو كانت كذلك لتقدمت دراستها خطوات. ولعل كتابها الثالث كان كفيلاً بذلك وإن يكن أقرب إلى الاحتمال أن هذه المشكلة؟ إلى الحد الذي أدركته عنده؟ هي إحدى المشكلات التي تركتها " للآخرين " الذين سيفيدون من كتابها ويضيفون إليه. ويحقق كتابها عدة أشياء جيدة ذات قيمة. أحدهما أنه يوضح، وفي شكل متطور أيضاً، عدداص من الروابط العميقة. وقد قامت بهذا التوضيح في سلسلة من سبع لوحات قيمة على ورق الرسم البياني في آخر الكتاب، أظهرت فيها، على التوالي: الصور في خمس من مسرحيات شكسبير من حيث مجالها وموضوعها. صور مارلو من حيث مجالها وموضوعها. صور بيكون من حيث مجالها وموضوعها. صور " الحياة اليومية " عند شكسبير وخمسة مسرحيين معاصرين له. جميع صور شكسبير من حيث مجالها وموضوعها.

_ (1) " دون أن يفطن " تعبير عادي أما " دون أن يعي فإنه يحمل شكل المصطلح النفسي لاتصاله بفكرة الوعي واللاوعي.

الصور الغالبة في مسرحيتي " الملك جون " و " هنري الثامن ". الصور الغالبة في " هاملت " و " ترويلس وكريسيدا ". وتوضح اللوحات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة؟ بنجاح؟ تفرد صور شكسبير وتبين مدى مفارقتها لصور معاصريه. أما اللوحتان الثالثة والخامسة فقد تنجحان حقاً في إنهاء الجدل حول ما يسمى " النظرية البيكونية " فإنهما تدلان دلالة حسية واضحة على أنه لا يعقل أبداً أن يكتب امرؤ واحد آثار بيكون المنشورة ومجموعة المسرحيات والقصائد التي نقول إنها من تأليف شكسبير. وترسم اللوحتان الأخيرتان رسماً بيانياً لكل المسرحيات، فالأولى منهما للتمثيل والتشخيص، حيث تتميز المسرحيات التاريخية تميزاص ساطعاص وبخاصة مسرحية " الملك جون " ومسرحية " هنري الثامن "، والثانية لصور الطعام والشراب والطبخ وصور المرض والداء والدواء. وتتميز في المجموعة الأولى من الصور مسرحية " ترويلوس وكريسيدا " كما تتميز مسرحيتنا " هاملت " و " كوريولانس " في المجموعة الثانية. ويحل الكتاب أو يقترح حلاً لكثير من المجادلات الدائرة حول شكسبير في مجال المشكلات الدراسية المتخصصة. فأما اللوحات فإنها قد قشعت شبح بيكون من الميدان، وإضافة إلى ذلك نحت المؤلفة بيكون، في غمار كتابها، عن أن يظل نداً منازعاً لشكسبير، ومنحته ما يستحقه من تقدير حين عدته كاتباً خلافاً عظيماً. وقارنت بينه وبين شكسبير في صورتين: صورة " تسلطت " على بيكون، وهي عظمة النور، وصور " تسلطت " على شكسبير، وهي صورة الطبيعة، وإذا شكسبير قليل الاحتفال بأمر النور في صوره، وبخاصة حين يكون النور رمزاً للعظمة، زد إلى ذلك أنها استطاعت أن تلمع إلى حلول لعددٍ من المشكلات المحددة في التأليف، وإلى هذه المشكلات ينتمي بعض الروايات أو أجزاء منها في القائمة.

(وإن كان هذا كان مجالاً للتوسعة والإسهاب في المجلد التالي على وجه اليقين) . فمثلاً تتخذ من اتساع صور الحديقة عند شكسبير أساساً تبني عليه أن شكسبير، ولابد، كان له نصيب أساسي في تأليف مسرحية " هنري السادس "، في القسم الأول والثاني والثالث منها، ثم تعلق قائلة: " إن مسرحية " بركليس " وحدها بين المسرحيات الرومانسية، هي التي ليس فيها أي أثر " لدافع " يجري في الصور، أو لاستمرار في التصوير، أو لفكرة في الصور، وهي حقيقة تكفي في ذاتها لتلقي ريبة كثيفة على تأليف هذه المسرحية ". وقد استطاعت أن تقترح عدداً من التخمينات المعقولة المتعلقة بالسيرة عن طريق الصور نفسها؛ من ذلك أن تجربة ذاتية في طاعون 1600 قد غيرت في استجابة شكسبير له تغييراً حاداً، فقلبت نظرته من حال استخفاف غير عابئ به، قبل حلوله، إلى حال من الرعب والاشمئزاز بعده. ومن ذلك أنه، وإن كان المعلقون قد استنتجوا من كثرة إشارات شكسبير إلى الصيد أنه شغوف به (حتى وصفه ج. دوفر ولسون " بأنه صياد حاذق ") فإن صور الصيد في مسرحياته تكشف عن نفوره منه، وكراهيته لما فيه من قسوة وسفك دم. بل هي قادرة على أن تؤيد بعض التواريخ من خلال الصور (ولو قدر لها أن تكتب كتابها الثاني لصححت التواريخ ولم تكتف بالتوثيق والتأييد) فهي تلحظ مثلاً أن التشابه الدقيق بين الصور في كل من " هاملت " و " ترويلوس وكريسيدا " سيمكننا من القول، دون تردد، بأنهما ألفتا في فترتين متقاربتين، ولو لم نكن نعرف هذه الحقيقة. وإلى جانب هذه المشكلات في الدراسة التخصصية الخالصة يسهم كتاب " الصور عند شكسبير " إسهامات متعددة في مجال الفهم والتذوق النقدي. أما الجزء الأول من الكتاب المسمى " الكشف عن شكسبير الإنسان " فإنه من هذا القبيل تماماً؛ أعني متابعة لفكر شكسبير وشخصيته

من خلال الصور، مميزة عن الدقائق الموضوعية في حياته. وأشد الأجزاء إثارة ذلك الفصل الخاص " بتداعي الأفكار " (1) الذي يقوي المجموعة التي استخرجها وايتر؟ " مجموعة الكلب والتبصبص والقند "؟ ويضيف إليها غيرها. واشد هذه المجموعات خلابة وسحراً لأنها تتعمق نفس شكسبير بأكثر مما يقدر للدراسة التقليدية أن تبلغه، هي ذلك التداعي المعقد بين الموت والمدفع وبؤبؤ العين، وحجاجها في الجمجمة والدموع والسرداب والفم (والأسنان أحياناً) والرحم، ثم الموت أيضاً. فهذه الصورة تتردد في المسرحيات جميعاً، وهي مهيمنة مستحكمة، وإذا وردت واحدة من هذه الألفاظ استدعت أي لفظة من الأخريات مهما يكن الربط معزباً مفتعلاً، أو نابت واحدة من الألفاظ مناب الأخرى. ولا تحاول الآنسة سبيرجن أن توضح هذا التداعي بين الرحم والموت أو تربط بينه وبين حديث لها سابق عن هيمنة الموت على شكسبير في صورة محبوبة أو عروس، ولكن ذلك كله واضح من كشوفها بحيث يستطيع القارئ نفسه أن يحدث هذا الربط في يسر. وأما النصف الثاني من الكتاب وعنوانه " وظيفة الصور من حيث هي متكأ ونغم خفي في فن شكسبير ". فإنه يضطلع بتطوير هذه الحقيقة الهامة وإرساء قواعدها: وهي أن كل مسرحية من مسرحيات شكسبير مبنية؟ تقريباً؟ حول سلسلة من الصور المتكررة، تؤلف لها موضوعها؟ الخاص بها؟ فترتكز مسرحية " الحب الضائع " Love " s Labour " s Lost على الحرب والسلاح، وترتكز " هاملت " على المرض والداء والفساد، أما الملك لير فترتكز على الجسم الإنساني وهو يتلوى في العذاب. وتوضح الآنسة سبيرجن أن هذه الصور ليست المعالم السطحية للمسرحيات، وإنما

_ (1) هو الفصل العاشر ص 186 - 200.

هي شيء أعمق من ذلك بكثير. فمثلاً: ليس في مسرحية " تيمون الأثيني " التي تتحدث جزافاً عن الذهب (فيها مائتا إشارة للذهب) إلا صورة واحدة منتزعة من الذهب، في الحقيقة، أما الصورة التي تهيمن على المسرحية، فهي صورة الكلب المتبصبص الذي يعلق القند المذاب، أي المجموعة التي اهتدى إليها وايتر. وتعتقد الآنسة سبيرجن، كما لابد أن يعتقد أي واحد وجد لديه هذه الشواهد، أن هذه الصور المسيطرة في المسرحيات كانت، فيما يحتمل، لا شعورية عند شكسبير. وتستثني من ذلك، وحق لها، موضوع الجسد الإنساني في " كوريولانس " وتعده " أنموذجاً متعمداً " لأنه يقع على سطح المسرحية، وهو أيضاً الموضوع والمجاز الدائر حول " جسم الدولة " في المصدر الذي استقى منه شكسبير فكرة مسرحيته، أعني " حياة كوريولانس " لفلوطارخس (1) . ولا تحاول الآنسة سبيرجن أن تبحث عن العوامل التي نجد تعبيرها في هذه الدوافع الموجهة؟ أن تبحث عنها في ذات شكسبير نفسه، ولكن مرة أخرى أقول: ربما كان هذا مما أرجأته لتتحدث عنه في جزء آخر. وهي تدرك في الوقت عينه أن الصور قد تمنح إحدى الشخصيات استحساناً أو استهجاناً، لا نعثر على أحدهما في ظاهر النص، وبذلك تعكس الاتجاه الظاهري فيه (إن عظمة ماكبث تتردج في السموق عن طريق الإشارات والتلويحات ولكنها تتضاءل في الصور) . وكذلك تدرك أن الصور قد تبعث أثراً متزايداً من العاطفة أو التوتر، وأنها تستطيع أن تصرح عن طبع الشخص الذي يستعملها وشخصيته، حين يعجز شيء سواها عن أن يفعل ذلك. ومن ثم تكون هذه الصور ابتداعاً لا شعورياً، ليعبر عن

_ (1) يعني أن تشبيه الدولة بالجسم، وكل عضو يقوم بوظيفته فيه، وقصة الأعضاء التي اشتكت تحكم المعدة واستبدادها، قصة مستقاة من فلوطارخس وقد وردت في مسرحية " كوريلانس "، ولكن الآنسة سبيرجن تراها صورة على سطح المسرحية.

أعمق النزعات عند شكسبير وابتداعاً واعياً شعورياً من التفنن الرفيع ليعمق التأثيرات ويغيرها أو ليوحي بها. وبين الحين والحين تحلل الآنسة سبيرجن هذين المظرهين في هذه الازدواجية في صوره، ولكن وضع خط حاسم بينهما في المسرحيات كلها جمعاء، أو في أي صورة مفردة، قد يحتاج جهداً أعمق من جهدها. ويحتوي كتاب " الصور عند شكسبير " عدداً من الأخطاء والنقائض الواضحة، وأكبر غلطة في منطقها، تتردد صفحة إثر صفحة في كتابها، أنها تستهين بتقدير العلاقة بين الصور وطبيعة الكاتب المسرحي أو تجربته، وتتناولها ببساطة متناهية، فإن كان لدى شكسبير من صور الركوب أكثر مما بدى مارلو، وكان لدى دكر Dakker من صور صيد السمك أكثر مما لدى ماسنغر Massinger استنتجت الآنسة سبيرجن أن شكسبير ودكر كانا من النوع الذي يكثر التجوال ويبارح البيت، ولم يكن كذلك مارلو وماسنغر. ولا يخطر لها أبداً أن صورة صيد السمك أو ركوب الخيل، ربما لم تنشأ عن الحب المتحكم للتريض، وإنما تنشأ عما قد يرمز له صيد السمك أو ركوب الخيل، كل بدوره. ولما كان شكسبير يبتهج بصور حركة الجسم السريع الرشيق، إذن كان؟ في رأيها؟ ولابد " إنساناً نشيط الجسم مثلما كان نشيط الفكر " (مع أننا لو لحظنا صور رينوار Renoir (1) العارية المعافاة الريا، وما كان مصاباً به من النقرس؛ فقد نجد ما يحدونا إلى الاستنتاج بأن شكسبير كان كسيحاً لا يرجى شفاؤه.) وبما أنه يكثر استعمال صور عن تغير الألوان الدالة في الوجه، لا تملك الآنسة سبيرجن

_ (1) رسام فرنسي انطباعي عاش في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وتمتلئ صوره وتماثيله بالحيوية والطاقة، والضخامة أحياناً، وهو يرسم النساء عبلات كبيرات افخاذ، بارزات القوة، وبخاصة تمثاله عن " الغسالة "، ومع ذلك فإن رينوار كان منقرساً. فالقول بان شكسبير كان رشيقاً لأنه يتحد عن رشاقة الاجسام وخفتها استنتاج مضحك.

إلا " أن تستنتج أنه هو نفسه كان مثل رتشارد الثاني أشقر يحمر خجلاً بسرعة " " ولا أحد يستطيع إن لم يكن هو نفسه ذا إحساس مرهف بنغمة الصوت الإنساني ورنته، أن يرسم هذه الشخصيات الكثيرة التي تشترك في هذه الخاصية، بمثل ما استطاعه شكسبير ". ولابد من أنه كانت لديه حديقة حتى إنه تمكن من أن يرسم صوراً كثيرة للتطعيم ولآثار الصقيع القاتلة، وهلم جرا. فالافتراضات العامة في كتابها، إذن، هي أن شكسبير عمل؟ ولابد؟ ما تتحدث الصور عنه، وأحسن ما أحسنت الشخصيات أداءه بل أدار في رأسه نفس الأفكار التي خطرت لها (حتى إنها، على الرغم من أنها حذرت من نسبة أفكار أبطال المسرحيات إلى شكسبير نفسه، انزلقت في غير حذر ورأت أن مسرحية " هاملت " تمثل شكسبير المتناهب بين المثالية والشكية) وهذه الافتراضات تسخر من نفسها بهذا التقرير " ولما حل عام 1599، أي حين بلغ شكسبير الخامسة والثلاثين، فإنه ربما عانى الحمزة (الحرقان) لكثرة الحموضة في معدته ". وهذه الافتراضات تسخر من نفسها أيضاً، بهذه الصورة الوهمية السخيفة لشكسبير الإنسان التي استخلصتها الآنسة سبيرجن من الصور حين قالت: إن الشخص شكسبير الذي يطل علينا من هذه الصور لهو رجل ملزز الخلق مدمج البنية؟ ولعله أميل إلى القضافة، على حظ عجيب من التناسب والتناسق، لدن العود رشيق الحركة، خاطف النظرة صائبها، تبهجه الحركة الجسمانية السريعة. ولعله كان؟ فيما اقترحه؟ أشقر ناضر اللون، وكان لونه في شبابه يتخطف ويعود بسرعة، فينم على مشاعره وعواطفه، أما حواسه فإنها كانت شاذة في حدتها، وبخاصة، على وجه الاحتمال، حاستا السمع والذوق.

لقد كان معافى في بدنه وعقله على السواء، نظيفا في عاداته، شديد التقزز من القذارة والروائح الكريهة، وهذه الحقائق لا تؤيدها الشواهد الاستدلالية في مسرحياته فحسب بل إنه ليس ثمة إنسان يستطيع أن يورد كل صورة عن المرض والبشم والبطنة والقذارة والداء، دون أن يكون لديه، بطبعه، شعور قوي بالحياة الصحية، وحب الهواء النقي و " الماء الطهور " ودون أن يكون نفسه نظيفا معتدلا معافى في بدنه. وتمضي على هذا النحو في ست صفحات، لا تكاد تصدق، عن هدوئه وحبه للريف، ومتعته في الأعمال المنزلية " وحساسيته، واتزانه وشجاعته ودعابته ونقاء صحته " " كأنه المسيح، أي لطيف وديع شريف شجاع صادق " وباختصار، هو قائد فريق الكشافة في بلدة ستراتفورد. وثمة عدد من الأخطاء في كتاب الآنسة سيبرجن يبدو كأنه وليد إهمال عارض أو حذف عامد. فمثلا تشير إلى أن بن جونسن كان " تحت التمرين " مع والده بالتبني، في بناء الطوب، ولكنها لا تلحظ ولا تفسر، كيف أن لوحتها عن صوره تدل على أنه، هو وتشابمان، الروائيان الوحيدان اللذان ليس لديهما صور منتزعة من أعمال البناء. وتلحظ أيضاً أن شيكسبير ليس لديه تقريبا صور مستمدة من حياة المدينة ومناظرها، ولكنها لا تحاول أن تفسر كيف يكون ذلك عند كاتب مسرحي قضى أكثر شبابه في لندن، وهلم جرا. وهناك أخطاء أخرى تبدو وليدة ضعف في منهجها، ومنها هذه الغلطة الواضحة، وهي طريقة تصنيفها للصور فإنها ذاتية محض، ولذلك كانت تحكمية متغيرة؛ ففي الصفحة السادسة والعشرين عدت " الساعد المرمري " صورة مستمدة من مظهر المادة " لا من ملمسها "

وفي الصفحة الثانية والثمانين عدت وصف بشر ديمونة بأنه " ناعم كالمرمر المنصوب "، صورة مستمدة من طريق اللمس. وهناك اعتراض على طريقتها أعمق من هذا وأعلق بالأصول، أثاره إ. أ. رتشاردز (دون أن يذكر اسمها) وآخرون غيره؛ وهو أن " المجازات قد صنفت بالنظر إلى شق واحد من " الأفكار " المزدوجة التي يقدمها لنا كل مجاز، في أبسط أحواله، أي أنها لم تضع في جداولها أبدا الأوجه الممكنة الخفية التي قد تنطوي في صور شيكسبير. فمثلا: تعليقها على " قلة " الصور المسرحية تعليق سخيف، لأن تلك الصور وفيرة، وذلك ما بينه السير إ. ك. تشيمبرز في " لقطات من شيكسبير " Shakespearean Gleanings وتسلم الآنسة سيبرجن بنواحي القصور والمشكلات التي تعتور طريقتها في ملحق بكتابها عنوانه " صعوبات تتصل بعد الصور وتصنيفها " (1) ، فتوضح التعقيدات التي واجهتها في وضع جداول الصور وفي تصنيفها وفي توزيعها في الخانات الثانوية. وقد يفيد هذا في توضيح أخطاء محددة ولكنه ليس ردا كافيا على التهمة التي أثارها الدارسون والنقاد، كما أثارها تشيمبرز ورتشاردز، وهي أن خطتها منذ البدء أدركها وهن خطير، لأنها ضيقت في مفهومها لطبيعة المجاز. وأعظم قصور في طريقتها غير ناشئ عن الطريقة نفسها أبدا، بل يرجع إلى عجز في هيكل افتراضها عن أن تضع يدها على المضمونات

_ (1) هو الملحق الأول ص 359 وما بعدها ومما تقوله في هذا الملحق: وربما لم يتفق اثنان اتفاقا تاما على عدد من الصور التي يجدانها في إحدى المسرحيات. فأما أولا فلا بد من أن يقرر المرء إن كان ما لديه صورة أولا، وثانيا أهي صورة واحدة أو اثنتان أو ثلاث، وثالثا أهي صورة ذات فكرة ثانوية وإن كانت كذلك فأين تصنف؟. وتوضح الآنسة سيبرجن أنها كانت تدخل الصورة الواحدة في " خانتين " خانة تسميها رئيسية وأخرى ثانوية وتسمى الأخرى Cross reference.

النفسية، فحين يكون شيكسبير مشغول الذهن بنهر في عدد من القرائن ذات الشأن، فذلك يعني عند يونج أنموذجا أسطوريا، وعند فرويد ربما كان يرمز إلى نهر الولادة أو نهر الجنس أو كان مسرب تفريغ؛ أما عند الآنسة سيبرجن فإنه فحسب " ذكريات الطفولة عن نهر آفون الذي تقع عليه ستراتفورد ". وعندما تشير إلى أن المجاز المنسرب في المسرحيات التاريخية الأولى هو " القطع المتهور للأشجار الجميلة أو تشذيبها، في غير أوان القطع والتشذيب " فإن أي متمرس بالعلوم النفسية سيلحظ الترابط بين هذه الصورة وبين أشخاص الملوك ويفسرها بتحطيم السلطة، أو بأنها رمز الأب، إن لم ير فيها، على التحديد، معنى الخصاء، أما الآنسة سيبرجن فترى فيها اهتمام بالبساتين. حقا إن العلوم النفسية لم تنكر عليها ما تقوله عن نهر آفون أو الاهتمام بالبساتين ولكنها؟ أي تلك العلوم؟ تبدأ من هذه النقطة، لا أنها تنتهي إليها. أما الفرويدي فقد يفسر المظهر المسيطر في كل مسرحية بأنه رمز تجريبي يفتح مغالق شيكسبير، وأما اليونجي فقد يقرأ فيه أنموذجا أعلى، والجشطالتي يراه تكاملا كليا أساسيا للتجربة، وهكذا، غير أن الآنسة سيبرجن لا تستطيع أن تراه إلا موضوعا اتفق أن دار فكر شيكسبير حوله، بعض الوقت. وقد استفادت كل الكتابات النقدية عن شيكسبير منذ سنة 1935 من مباحث الآنسة سيبرجن، على وجه التقريب، ولكن قل منها ما استخدم كتابها في البناء الخالق الإيجابي الذي يتطلبه، إلى أن نشر ادورد أ. آرمسترونغ كتابه " خيال شيكسبير " Shakespeare " s Imagination بإنجلترة سنة 1946. وهذا الكتيب المدهش، وعنوانه الفرعي " سيكولوجية التداعي والإلهام " ليس توسيعا في مباحث الآنسة سيبرجن بمقدار ما هو توسعة لطريقتها نفسها، مع استخدام التقنيات التي استخدما نايت ولويس (والاعتماد الكثير على إ. م. و. تليارد وكتابه " صورة عالمية اليزابيثية " Elizabethan World Picture)

من أجل أن ينمي آرمسترونغ ما يمكن أن يسمى " نقد عناقيد الصور " بما فيه من أصالة وقيمة بالغة، ثم يطبقه على شيكسبير. ومن الواضح أن آرمسترونغ عالم بالطيور منتسب لكيمبردج (فقد سبق أن كتب ثلاثة كتب هي " طيور غري وند " Birds of the Gray Wind و " الطريقة التي تعيش بها الطيور " The Way Birds Live و " معرض الطير أو مقدمة لدراسة سيكولوجية الطيور " Bird Display: An Introduction to the Study of Bird Psychology) . كما أنه عالم بالحشرات، سيكولوجي عارف بالفولكلور، دارس متخصص في شيكسبير ناقد أدبي بارع. وتتبلور في هذا الكتاب براعته في هذه الميادين جميعا؛ فيبدأ آرمسترونج دراسته بصور الطيور الحشرات عند شيكسبير، ويتتبع عناقيد التداعي المتصل بها خلال المسرحيات، ويكشف عن المبادئ والاستقطابات وعادات الفكر التي تكمن تحت تداعي الصور عند شيكسبير، أثناء رصده للتطور في هذه الصور المتداعية، وينتهي إلى النتائج الآتية (1) تقنية جديدة لحل المشكلات القائمة في الدراسات الشيكسبيرية (2) نظرية عن كيفية عمل الخلق عامة (3) سبر لعقل شيكسبير وآثاره، ويعتبر من أشد ما كتب حتى اليوم إثارة وإمتاعا. وهو مدين كثيرا للآنسة سيبرجن، لاعتماده على مبادئها الأساسية في " الصور " و " عناقيدها " وكشوفها المحددة لعدد من الروابط والتداعيات والعناقيد، وكثير من جداولها ونتائجها. غير أنه يكاد في كل حال يتعدى حدود ما بلغته، مفندا تقسيماتها وتفريعاتها المغرقة في البساطة، مفسرا ما عجزت هي عن تفسيره (مثل مجموعة صور الموت والعين والحجاج والفم والسرداب والرحم ... الخ فإنه يفسرها تفسيرا مقنعا بأنها سلسلة من رموز " مجوفة " واقعة بين الولادة والموت) مصححا ما شوهته، موسعا في توضيحاتها وأمثلتها، مضيفا إلى ما تسميه هي " الصور المهيمنة أو المنسربة أو المتكررة " صورا " موضوعية "، ناقدا قصور نظام التصنيف بمصطلح مشابه لانتقادات رتشاردز (ولم تخذله قوة نقده إلا مرة واحد

- وكان خذلانا بارزا؟ حين قال في تفسيره لمجموعة الصور التي اهتدى إليها وايتر " لعل الدكتورة كارولاين سيبرجن كانت مصيبة في تفسيرها ") . وأثناء تصحيحه لأخطاء الآنسة سيبرجن أو تجاوزه الحدود التي بلغتها، أدى عددا من الأمور القيمة، فهو يستعمل قسطا كبيرا من السيكولوجيا الشكلية، ابتداء من فرويد ويونج (مع أنه غير موفق هنا بعض الشيء) حتى النتائج التي استقيت من عملية جراحية يجرونها على مقدم الدماغ. وهو يصر على المبدأ السيكولوجي الحديث الذي يقول: إن العقل نظام عضوي يعمل بطريقة دينامية. وهو على وعي بالأصول الشعائرية في المسرحيات، وبأهمية مباحث جين هاريسون وجماعتها في الدراسات عن شيكسبير. وهو يعالج الإمكانيات المهمة، والصراع العاطفي الخفي في الصور وضروب التداعي، ويتشبث بأن صور شيكسبير تنحو إلى أن تستمد من توافق الأصوات ومن الرمزية الموروثة أو الشخصية، أكثر من أنها تستمد من المشاهدة و " التجربة " الحقيقية. وهو بارع في تطبيق " نقد عناقيد الصور " على المشكلات الدراسية (مقتفيا خطى الآنسة سيبرجن في هذا) ، مثبتا أن شيكسبير جعل هاملت يقول handsaw لا hernshaw أو أي طائر آخر، مبرهنا على صحة الخاتمة المتنازع في أمرها، في مسرحية " ترويلس وكريسيدا "، مقترحا أن بذل جهد آخر في منهجه، قد يضبط تواريخ المسرحيات. وبما أنه يفترض أساسا " أنه لا يتفق شاعران في استعمال عناقيد واحدة من الصور " إذن فلا بد على هذا من أن تكون المسرحيات من تأليف رجل واحد، فينفي كل المتنازعين على المسرحيات، خلا شيكسبير، ويقرر أمر نسبة بعض العبارات محط التنازع في المسرحيات. وأخيرا تبدو جداوله الأربعة المسهبة التي جعلها مفاتيح لعناقيد الصور، وهي طائرة الورق والخنفساء، ثم اليعسوب وابن عرس معا، والإوزة، أكثر إثارة وفائدة من الرسوم البيانية عند الآنسة سيبرجن.

وهذه النتائج الجوهرية ترجح كثيرا بنقائص الكتاب. أما من حيث الأسلوب فإن النقائص تشمل نظرته المتخازرة المتخابثة إلى الخيال (" الجنية الخفية " " العفريت المتفنن المتسامي " وتباهيه العلمي لمزعج، المضحك في أغلب الأحيان (" استعملت كلمة هوام " لتشمل المخلوقات المتنوعة التي تلدغ وتعض ذلك لأن لفظة " حشرات " لا تشمل قراد الغنم ") . وأحيانا يخفق آرمسترونغ في الالتزام بالمبادئ التي وضعها، فيجرب أن يستعمل مجموعات [عناقيد] الصور للإجابة على أسئلة عن الملاحظة الخاصة عند شيكسبير، وتجربته وحياته وشخصيته (أأثر في عقله منظر احتضار، أكان يكره الكلاب، أسرق أبدا غزالا أو بنفسجا، وأيها كان أشد عليه البراغيث أو القمل، أكانت السيدة السوداء تتبرج كثيرا، أأصيب مرة بالجدري؟) ولكنه لا يلبث أن يصحو لنفسه، ويقرر آسفا أننا لا نستطيع معرفة ذلك، وأن البحث عن الأمور الذاتية خلال عناقيد الصور " محفوف بالخطر " في خير أحواله، وأن الذين يريدون شواهد عن " حب الشاعر " أو عن خصائص خليلته " عليهم أن يبحثوا في مكان آخر ". وأخيرا فإن النصف الثاني من الكتاب وهو دراسة تعميمية " لسيكولوجية الخيال " على أساس الكشوف السابقة في صور شيكسبير، أدنى مستوى من النصف الأول، والعلة الكبرى في ذلك أن السيكولوجيا التي يستعملها ليست كفاء بذلك. فإنه ينفق كثيرا من وقته في مشاجرة مع فرويد، غير ذات موضوع، ويبدو أنه من ناحية إيجابية لا يعرف الفرع النفسي الوحيد الذي يناسب صورة العقل التي توحي بها شواهده (أعني على التعيين المذهب الجشطالتي) ومن ثم فإنه مضطر إلى أن يعتمد على شذرات متفرقة من نتائج مكردي وف. ك. بارتلت ومكدوغل ورفرز وغيرهم. ولم يحاول أحد سوى آرمسترونغ أن يضيف إلى كتاب الآنسة سيبرجن ما يستحقه من توسيع مسهب، ولكن يكاد كل النقاد العظماء الذين استخدموه

خلال العشر السنوات الماضية، أن يكونوا قد حاولوا الزيادة فيه أو تخطوا نواحي القصور فيه على نحو ما. فتحدث كنث بيرك في كتابه " نزعات نحو التاريخ " Attitudes Towards History (1937) تحت عنوان " العناقيد " عن الإمكانيات التي أثارتها الآنسة سبيرجن، لعمل لوحات لعناقيد الصور عند أي مؤلف " لنمسك طرف الخيط الذي يوصلنا إلى العناصر الهامة المنضوية تحت لجج رمزية ". وكتب تحت عنوان " الصور " (بعد أن أثنى على الكتاب بأنه " ملائم " وتحدث بشيء من الإسهاب عن إمكانياته الموحية) فحاول معتمدا على الشواهد التي جمعتها، أن يرسم " المنحنى " في كتابات شيكسبير، في علاقتها بمنحنى التاريخ في أيامه. ثم إن بيرك في كتابه " فلسفة الشكل الأدبي " (1941) قد أطرى كتاب " الصور عند شيكسبير " بأنه أحد " كتب ثلاثة هي أخصب المؤلفات في الأدب منذ صدر " الغابة المقدسة " (أما الآخران فأحدهما لرتشاردز والآخر لإمبسون) ثم اقترح، في الوقت نفسه، حدا آخر تحتاجه طريقتها، وهو إضافة المعيار النوعي المعتمد على فحوى الصور، إلى مقياسها الكمي المحض، أي أن تمنح وزنا خاصا للصور التي تظهر في مواطن حساسة من الكتاب كالفاتحة أو الخاتمة أو نقطة التحول. وفي سنة 1942 استغل ثيودور سبنسر في كتابه " شيكسبير وطبيعة الإنسان " نتائج الآنسة سبيرجن كثيرا واقترح نوعا آخر من التوسيع، أي معالجة دينامية لا ساكنة فلا تكتفي بأن تلحظ؟ كما لحظت؟ أن مسرحية هاملت تحوي من صور الداء أكثر من أي مسرحية أخرى بل أن ترى في تراكم الصور حتى يصبح لها ذروة أمرا ذا مغزى، على وجه الخصوص، وأن 85% منها ترد بعد منتصف المسرحية (1) . واقترح وليم تروي سنة

_ (1) انظر ص 114 من كتاب ثيودور سبنسر " Shakespeare and the Nature of Man " وبخاصة التعليق رقم (14) .

1943 - في مقاله " مذبح هنري جيمس " الذي نشر في مجلة " الجمهورية الجديدة " استعمال طريقتها في مجال آخر، وهو قصص هنري جيمس الأخيرة، واعترف رايس كاربنتر بفضل طريقتها في " الحكايات الشعبية والقصص الخيالية والبطولية في اللاحم الهومرية " (1946) واقترح تطبيقها على الملحمة الإغريقية. أما كنث موير فإنه في مقال له عنوانه: " تيمون الاثيني والتفسير الاقتصادي " نشر في Modern Quarterly Miscellany العدد الأول، عام 1947، استعمل بعض مادتها في " تيمون " واقترح توسيع فكرتها عن " الصورة " بحيث تحوي الرمزية اللامجازية مثل " الذهب في المسرحية ". وأخيرا تناول كلينث بروكس في كتابه " الزهرية المحكمة الصنع " (1947) كشفها وجداولها عن الصورة المسيطرة في مسرحية ماكبث وهي صورة " الرداء الذي لا يناسب مرتديه " واتخذها نقطة بدء في تحليله للمبنى الرمزي في المسرحية، فجاء بما هو أعمق عمقا وأبرع براعة من كل شيء في نظام الآنسة سيبرجن. غير أنه لا يفتأ يعترف بكشوفها وبالمادة " التي جمعتها لنا الآنسة سيبرجن " بينا هو في الوقت نفسه يخلفها بعيدا وراءه، وفي إشارته إليها تكمن مشاعر متصارعة يوضحها مثل قوله " ولا بد من أن يلحظ المرء أن الآنسة سيبرجن ما اكتشفت كل المشتملات فيما اكتشفته " و " ولقد استبان لها جزء واحد فقط من الإمكانيات " " وإذا نفضنا عنا طريقة الآنسة سيبرجن في التصنيف، وهي طريقة آلية نوعا " " ومع أن الآنسة سيبرجن لا تضمن العبارة في الأمثال التي أوردتها " " ومع أن الآنسة سيبرجن لم تلحظها ". وبما أن الخطة التي تحكمت في كتابها لا تسمح لها أن تراها إلا بشق النفس " وهكذا. وفي جميع هذه الزيادات والتعديلات على كتابها، نستطيع أن نرى نواحي القصور والأهمية عند كارولاين سيبرجن، فهي نفسها لم تذهب في

مغامرتها بعيدا، ولم تقطع المسافة التي قطعتها بقوة وعزم. غير أن بعض النقد اللبيق الهام في عصرنا، قد استطاع، وستزداد قدرته، على ان يغامر بعيدا، بسبب كتابها، مزودا بفكرة أوسع عن طبيعة المجاز ولرمزية، ونظام من التصنيف المكثر خير من الذي قدر لها، وفهم نفسي أعمق لأعمال العقل، وشهادة أكمل وأدق، وأبعاد نوعية ودينامية، ومؤلفات جديدة لتستكشف وتدرس، وقوة متخيلة أنفذ وأعظم. 3 - إن الموروث من الدراسة التخصصية في حقل الأدب، وهو ما عملت فيه الآنسة سيبرجن، لهو موروث رحيب المجال، غير منضو كثيرا تحت أهداف هذا الكتاب، فتفريعاته لا تنتهي إلى حد، وتحت كل فريع من فرع يستطيع الدارس المتخصص أن يقضي حياته في محتوى خصب مثمر. فمن قبيل ما يعمله أن ينشئ نصا صحيحا باستنقاذه من حمأة التحريفات والتصحيحات، وما تتعذر قراءته في المخطوطات، بل وما هو بياض بالأصل؛ وأن يشرح نصاً برده إلى أصوله، وتوضيح معانيه الغامضة، وإجراء المقارنات فيه، وعرضه على المراجع التاريخية التي يمكن الحصول عليها، والإفادة من كل المقاييس التي تبدو مهمة؛ وأن يزود القارئ بالسيرة الصحيحة للأديب، وبتاريخ الأدب الذي يرتبط فيه كتابه ببعض السياق أو القرائين، وبالدراسة المقارنة بغيره من الكتب والمتون؛ وأن يعد أخيراً أجهزة لا نهاية لها من الإطلاع وفهارس المصادر والتواريخ وفهارس الألفاظ وعدد الكلمات والدراسات أو الرسائل التي وتضح مسائل مفردة، والطبعات الجديدة والترجمات والمجاميع، وهل تحوي الطبعات قراءات متنوعة لدراسين متعددين أو تحوي نصوصاً متعددة. والكتب: أهي مخضرة أو مجموعة مختارات أم متون للدرس وغير ذلك من أمور.

وأبرز الدراسات المتخصصة وأرحبها إما استلت، لأسباب لا تخفى، من أهم الآثار الأدبية، أي على وجه التحديد من التوراة وهوميرس وسيكسبير. أما فيما يختص بمعجزات الدراسة في حقل التوراة والدراسات السامية، وبخاثة ما يسمى " النقد العالي "، الذي نجح كثيراً في حل معميات الوثاق والمراجعات والتحقيقات التي لا تحصى، والتي كان منها كيان الكتب المقدسة، وأما فيما يتعلق أيضاً بالأعمال الأقل إعجازاً منها، أعني دراسة هوميرس والإغريق، التي قامت بعمل مماثل في التعرف على خليط من الشذرات والنتف والقشور التي نعرفها باسم هوميرس، فلن نقف عندها في هذا الكتاب وحسبنا أن نلقي نظرة خاطفة على بعض مظاهر في الدراسات الشيكسبيرية، وهو الموروث الذي عملت فيه الآنسة سيبرجن، فذلك يستق وخطة هذا الفصل. نشأت المشكلات الخاصة في الدرسات المتعلقة بشيكسبير من أن هذا الأديب لم يخلف مخطوطات، أو نصوصاً يعتمد عليها، لأنه أجرى فيها تصحيحات بنفسه. فقد طبعت المسرحيات واحدة إثر أخرى طبعات متنوعة في قطع الربع وبعضها " مسروق أو مزور "، وبعضها طبع عدة مرات من عدة مصادر قبل أن تجمع رسمياً المسرحيات التي يظن أنه لشيكسبير، في الفوليو الأول سنة 1623. حتى إنه في عدد من الأحوال، وبخاصة في حال " هاملت "، نجد ثلاثة نصوص مستقلاً بعضها عن بعض صورياً؟ اثنتان بحجم الربع ونسخة الفوليو؟ وكل القراءات الثلاث في أي موطن تناولها أحجام الربع؟ ثلاثة بحجم الفوليو في السنوات 1632، 1664، 1685 وكل واحد منها يصحح شيئاً من الأخطاء السابقة. ثم إن الحققين العظماء لنصوص شيكسبير في القرن الثامن عشر، ومنهم راو وبوب

وتبلت (1) وهانمر ووربرتون والدكتور جونسون أصدروا طبعات منقحة، بلغت أقصى التحقيق ي النصوص الباهرة المحققة التي أصدرها جورج ستيفنز وادوارد مالون. وقد أخذ هؤلاء الحققون على عاتقهم تصحيح ما اعتقدوا أنه أخطاء مطبعية في النصوص السابقة، (وكثيراً ما كانوا يغيرون الأخطاء القديمة إلى أخطاء جديدة) ودافعوا ن تصحيحاتهم ضد من يقاومهم، وفسروا وعلقوا على العبارات الغامضة أو المشكلة. وصدرت أول طبعة تحوي قراءات متنوعة لغير حجة واحدة في الموضوع سنة 1773. وفي القرن التالي، ظلت الطبعات التي تحوي قراءات متنوعة تصدر، لأن العلماء فقدوا اقتناعهم بان مشكلات شيكسبير قد يكن حلها أبداً، وأنه قد يكون منها في النهاية نص موثق حتماً. وتستطيع أن تجد ذروة الدراسة الشيكسبيرية في عصرنا، كما تجد تاريخاً لها، في الطبعات الحديثة ذات القراءات المتعددة، وقد ظلت هذه تصدر بأميركة طوال عدة سنوات، وكأنها تكاد تكون احتكاراً خاصاً لهوراس هوارد فيرنس الأب والابن. ومن المناسب أن ننظر في محتويات مسرحية واحدة صدرت ي هذه الطبعة. ولنخر مسرحية " انطوني وكليوباترة " في الطبعة ذات القراءات المتعددة فإنها نموذجية في هذا المقام، وإن تكن في جوهرها أقصر من هاملت والمقطوعات، (لأن هاملت والمقطوعات استنزفا قسطاً وافراً من التعليقات) . فقد حققها فيرنس الأب سنة 1907 وجعل لها فاتحة تقديمية تدور حول المسرحية، أما النص نفسه، كما ظهر في الفوليو الأول، فيشغل 375 صفحة، في كل صفحة بضعة أسطر، وتحت النص في كل صفحة كتبت جميع القراءات المتأخرة، وتحت هذه أيضاً أدرجت توضيحات أصحابها وحججهم

_ (1) كذا يلفظ هذا الأسم في هذا الوطن أما فيما عدا اسم تبلت المحقق فانه يلفظ ثيوبولد - كما يكتب -.

في الدفع عن قراءاتهم، مع تفسيرات للعبارات. أما الملحق، ويشغل ما يزيد على مائتي صفحة أخرى، فيحوي جمعاً ومناقشة لكل الآراء الهامة حول تاريخ تأليف المسرحية، وحديثاً عن الفترة التي تستغرقها في التمثيل، واقتباساً لكل عبارة عند فلوطرخس استوحاها شيكسبير، مشفوعة بالسطر الذي يقابلها في المسرحية، ثم نص مسرحية " كله من أجل الحب " All For Love لدريدن، وهي مسرحية متأخرة في الموضوع نفسه، مع حشد من التعليقات والملاحظ عنها، ثم ثلاثين صفحة من النقد المختار حجول مسرحية شيكسبير وشخصياتها، مما كتبه معلقون إنجليز أو ألمان أو فرنسيون، ثم خمساً وسبعين صفحة مخصصة للتلخيص والاقتباس الكثير من مسرحيات أخرى تدور حول القصة نفسها. يتلو ذلك حديث عن نسخ التمثيل المتنوعة، والممثلين والمرات التي مثلت فيها مسرحية شيكسبير، ثم خبر عن الأزياء والأعدادات التي تتعلق بها، وقائمة بكل التصحيحات للفوليو الذي اختير في طبعة كيمبردج، وهي طبعة فاصلة نسبياً، وقائمة بأسماء الكتب التي جرت الإشارة إليها، ثم فهرست شامل. ويتضح بجلاء أن أي تلميذ دارس لمسرحية شيكسبير، مزود بطبعة حديثة ذات قراءات متنوعة، وفهارس للألفاظ، لهو خير زاداً من الدارسين المتخصصين في شيكسبير قبل قرنين من الزمان. إن الطبعة ذات القراءات المتنوعة من مسحرية " انظوني وكليوباترة " لتصور خير ملامح الدراسة الشيكسبيرية مثلما تصور أسوأها. في خير أحوالها هي التماعة باهرة من نفاذ البصر الحاسم الذي قطع كل اعتراض منذ عهدئذٍ حتى اليوم، ومن أمثلة ذلك فيها تصحيح هانمر سنة 1744 لكلمة Pannelled، ووضعه Spaniel " d في مكانها في هذه العبارة The hearts that panneled me at heeles. (وهي قراءة جميلة كذلك التصحيح العظيم الذي أجراه تبلت في وصف موت فولستاف

في مسرحية هنري الخامس حين غير هذه العبارة التي لا معنى لها " لأن أنفه كان حادثاً كالريشة، وصحصحاً من الحقول الخضراء ". وجعلها: " لأن أنفه كان حاداً كالريشة، مثرثراً بذكر الحقول الخضراء ") أما في أسوأ أحوالها فتتمثل في هيث، وهو يشرح هذه الأسطر الغريبة " وكثير من الحوريات رعينها في العيون وانحنين لها يزينها " ويقول " إن الفتيات اللواتي يشبهن الحور، كن يعملن ي تسوية حواجب كليوباترة، كلما تشعثت حواجبها والغلمان يروحونها بالمراوح أو لسبب آخر ". وأما حيث تكون فارغة من المعنى فإنها تتمثل في تصحيح تبلت ومن جاء بعده من الحققين، حين غيروا " إذ أن سخاءه لا شتاء فيه. إنه سخاء انطوني " إلى " إنه كان خريفاً " مع أن لفظة " انطوني " مقعة إلى حد كبير، يسندها قول كليوباترة من قبل " لقد أصبح أنطونياً " وهي أقوى تعبراً من ناحية شعرية. وهذا المثل الأخير يطلعنا على أخطر اتهام يوجه ضد دارسي شيكسبير، وهو أهم في أغلب أحوالهم ليسوا من ذوي الإحساس الشعري المرهف. وقد أبرز وليم مبسون هذه التهمة في كتابه " سبع نماذج من الغموض " حين خرج بهذه النظرية الفذة اللامعة وهي: أن محققي شيكسبير ينزعون إلى " حل " المسرحية مرجعين غموض شيكسبير إلى الكلمة ذات المعنى الواحد التي بدأ بها ثم أغناها من بعد. ويقدم عدداً من الأمثل، ومنها هذا المثل النموذجي: " طريق حياتي انحدرت نحو الخريف، كأنها ورقة صفراء " فأصلحها جونسون (هو (1) رجل ذو حس شعري مرهف

_ (1) My Way of Life جعلها الدكتور جونسون May of Life، والتعبير الأول ليس غريباً على شيكسبير ولكن الدكتور جونسون كان مأخوذاً بذكر الخريف واصفرار الورقة في نهاية العبارة فخلق تطابقاً فيها حين جعلها " ربيع حياتي " وقد وفق من الناحية الصناعية في هذا التغيير فتهكم به امبسون لأنه رأى في طريقته تفسيراً لكيفية صياغة المبني الشعري في زمنه أي رسم قالب من المجاز تصب فيه الفكرة.

ولكنه عاش في عصر ثري) إلى " ربيع حياتي ". ويقول إمبسون في هذا التصحيح متهكماً " يبدو لي (أن تصحيح جونسون) . قطعة قيمة من التحليل المتعلق بالماضي، لأنه يدل على كيفية بناء الشعر حينئذ. أما أولاً فيوضع هيكل منظم من المجاز ثم يحشد في هذا الهيكل الفكرة التي ظلت لاصقة بهذا الهيكل اللفظي وأوحى بها بسهولة تشابه الأصوات ". وهكذا المضللة. ويحدد و. و. غريغ طبيعة مشكلة تصحيح النصوص الشيكسبيرية، والقواعد التي تفرضها، ويجعل ذلك كله يبدو دهشاً خلاباً ملائماً في جوهره لقواعد الشطرنج، وذلك في بحثه اللامع " وقواعد التصحيح في شيكسبير "، محاصرته عن شيكسبير في الأكاديمية البريطانية لعام 1928. ويدعو إلى محافظة أشد في تحقيق شيكسبير، مستعملاً في أمثلته التهمة التي أثارها دودن ضد هانمر بأنه في تصحيحه قولة بولونيوس " سأخرس نفسي حتى في هذا لمقام " إلى " سأترس لنفسي في هذا المقام " حين اختبأ وراء ستارة، قد حرم شيكسبير من إحدى سخرياته المسرحية العظية أعني محاولته أن يصور عدز بولونيوس عن أن يصمت في أي حال إلا حال الموت الذي جره عليه جزه عن الصمت. هذا وإن محاضرة غريغ وهي خير تقرير مفهوم موجز أعرفه عن كل مشكلة النصوص الشيكسبيرية لشاهدة على أن محققي النصوص الشيكسبيرية في عصرنا، قد يكونون بسبيل العودة إلى رأي إمبسون، وهي شاهدة تقابل بالترحاب. فبعد ثلاثة قرون تحولت فيها كلمة Armegaunt Steede إلى Armgirt؟ termagant؟ arrogant؟ merchant؟ ardent؟ arme - g " raunt؟ barbed؟ armzoned ربما وجد لدينا جمهور من المحققين الذين لا يرون بأساً في أن تظل Arm - gaunt كما كانت في الأصل. وقد كرس دارسو شيكسبير همهم، مع عنايتهم بالتاريخ والدراسة

النصية والتفسير وجمع المصادر وغيرها من واد تتضمنها الطبعات ذات القراءات المتنوعة، لجمع فهارس الألفاظ والتواريخ، وفحص الخط الاليزابيثي والأوراق القانونية، وكتابة لشيكسبير نفسه (كلها حدسي علة وجه التقريب) . وبتأثير من كشوف السير ادمند تشيمبرز وآخرين نشأ لديهم في الأيام الأخيرة توجه نحو تحليل شيكسبير تحت ضوء المسرح ومشكلات الاتهاج بين الحين والحين (1) . ومعظم الدراسات الشيكسبيرية قد تجلت في التفسير النقدي للمسرحيات والشخصيات (وتفسير الشخصيات كان ألهية كبرى في القرن التاسع عشر) وفي وضع النظريات حول آرائه وأفكاره وإشاراته الموضوية وغيرها. وقد تمخضت هذه الدراسات في خير أحوالها عن مثل العمل التحليلي الباهر الذي قام به ناس منهم ادورد دودن وأ. ك. برادلي، وفي أسوأ أحوالها أنبتت النظريات المختلفة حول هاملت ومنها: نظرية مركيدة بأن المسرحية فلسفة رمزية للتاريخ يمثل هاملت فيها الروح الباحثة عن الحقيقة وتمثل اوفيليا الكنيسة. ونظرية ليليان ونستانلي بأنها تدور حول الوراثة الاسكتلندية للعرش، ونظرية جون دوفر ولسون بأنها حول مؤامرة إسكس Essex ونظريات أخرى مثل أن هاملت كان امرأة وقعت في حب هوراتيو أو أنه كان شاباً شريراً زيف أمر الطيف وهكذا مما لا يقف عن حد. ويمثل دوفر ولسون قضية نموذجية فهو ناقد للنص ذكي محافظ، وأحد محققي نسخة كيمبردج الجديدة القيمة (المستهجنة أحياناً) وأحد من قاموا بدراسة شاملة للخط في عصر اليزابث أساساً، لإعادة بناء مخطوطات شيكسبير من خلال أخطاء صفافي الحروف، ولكنه إذا اقترب من التفسير

_ (1) هناك قائمة حاسمة لستة وعشرين قسماً كبيراً من الدراسات الشيكسبيرية لمن قد يثير رغبته هذا الخبر السطحي، موجودة على الصفحة الأولى من تلك المقالة الممتعة التي كتبها ج. ايزاك في الموضوع، في كتابه " المرشد إلى الدراسات الشيكسبيرية ".

النقدي ركب وجه الشطط، ولم يعتمد على أي شاهد اكثر موضوعية من الهواجس التي تخايله وهو يدخن غليونه. فيضع نظريات حدسية كقوله في " شيكسبير الأساسي " The Essential Shakespeare إن القصائد العظيمة الأخيرة التي نظمها شيكسبير بلا ريب بعد عزلته قد أعدمها صهره البيورتاني، ومثل قوله في " ماذا يجري في مسرحية هاملت " What Happens in Hamlet إن شيكسبير اختار الدنمارك مسرحاً لمسرحيته لأنها كانت تدين بمذهب لوثر، حتى إن غريغ يبدو مدهش الاعتدال حين يقول في وصف نظريات لسون " إنها انطلاقات بالون، لم يحسن تثبيته بالخيوط، في ريح عاتية ". 4 - وهناك عدد من الدارسين المعاصرين، عدا كارولاين سبيرجن، قد أسدوا يداً طولى للنقد ولعل أهمهم جميعاً رجل تأثرت الآنسة سيبرجن بطريقته، وذلك هو الأستاذ جون لفنغستون لويس بجامعة هارفارد. فإنه من ذلك النوع النادر في عالم الدراسة الذي يجمع بين العلم الواسع والخيال السديد. وكل نقده استغلال للاطلاع الواسع، على نحو قد يبدو مستهجناً في بعض الأحايين، فهو قادر على أن يجعل ديدنه عد الاغماءات في الترجمات الفرنسية للملاحم الكلاسيكية، في القرون الوسطى (ثلاثون إغماءة من الأبطال والبطلات في " قصة طروادة " Roman de Troie واثنتان وعشرون في " طيبة " Thebes " وأربع مرات أو خمس يصبح فيها الخط غير مقروء في موقف مؤلم واحد ") أو عد القوافي المتكلفة المقيدة عند الشعراء، ملاحظاً كيف أن بوب اتقد ورود قافية Breeze مع Trees ثم وقع فيها هو نفسه في أربعة مواطن أو خمسة وأن القافية Alps في قصيدة " تشايلد هارولد " استدعت حتماً Scalps لأن معجم ووكر Walker " s Lexicon

نفسه لا يوحي بأي بديل آخر وهكذا. وأعظم أثر دراسي نقدي ألفه لويس هو كتابه " الطريق إلى سندو " وعنوانه الفرعي " دراسة في طرق الخيال "، ويحيو ستمائة صفحة يتتبع فيها مصادر قصيدتي كولردج العظيمتين: " الملامح القديم " و " قبلاي خان ". فهو تشييد؟ من جديد؟ لمدى اطلاع الشاعر وحال عقله بدقة بعد مائة وخمسة وعشرين عاماً، تشييد خلاب كله، ويكاد يكون معجزاً، حين نذكر أنه يمثل جهد امرئ واحد. وقد اعتمد لويس على عادة تملكت كولردج وهي تقييد الملاحظ، وعادة أخرى غريبة وهي أن يمضي من أي كتاب قرأه إلى كل الكتب التي أشار إليها الكتاب الأول، وبذلك تتبع كولردج خلال قراءته. ومما نجم عن عناده هذا الذي لا يكاد يصدق (قرأ " بصريات " Opticks بريستلي ذات الثمانمائة والسبع صفحات من حجم الربع، كأنما ألقي في روعه أنه سيجد شيئاً، فوجد في الصفحة 807 ما كان يبحث عنه، برهاناً على أن كولردج قد قرأ الكتاب واستعمله) أنه استطاع أن يتتبع المصدر الواعي واللاواعي لكل صورة تقريباً في القصيدتين وفي إحدى أدوار القصيدة تتبع حقاً كل كلمة إلى مصدرها. وإذا الشيء الذي بدأ تتبعاً بسيطاً ذات الطابع الدراسي، توالد على يدي لويس فأصبح دراسة عظمى في عمليات الخيال الشعري. وقد اضطرته طبيعة المادة ليجازف بالدخول في طبيعة الذاكرة والخيال. ومع أنه على التحديد لا يزعم لنفسه اهتماماً سيكولوجياً أعمق، ويقول " أحب أن أقرر توكيداً بأنني أعالج في هذه الدراسة ما يسميه المحللون النفسيون المحتوى المادي للحلم وأنني أقصر معالجتي على ذلك وحده، فلا شأن لي بما يسمى المحتوى الكامن أي رمزها لتحقق الرغبات أو الصراع أو غير ذلك؟ مع ذلك ينتهي بصورة معقولة جداً للعقل الباطن عند كولردج، وإن

وجده ممثلاً في المصطلح السيكولوجي الميكانيكي الغريب الذي كان يستعمله كولردج مثل " خطاطيف الذاكرة وعيونها " ومصطلح بوانكاريه " الذرات المعقفة ". والكتاب في الحق دراسة " لقوة الروح المشكلة من حيث قدرتها على التمثل والتجسيد ". أو دراسة لما يسميه بودلير " العمل الذي يصبح به الحلم أثراً فنياً ". إن كتاب " الطريق إلى شندو " لا يستنفد كل ما أسداه لويس، فدراساته في الشعر الحديث كانت تتمشى جنباص إلى جنب مع ميدان تخصصه، وهو شوسر، وقد ركز دراسة امتدت ربع قرن عن شوسر في كتاب يعد من أحسن الكتب القريبة من أذهان الجمهور، وهو " جيوفري شوسر وتطور عبقريته " Geoffrey Chaucer and Development of His Genius فجاء هذا الكتاب حلقة في الموروث العظيم الذي خلقه سكيت وفرنفال وكتردج. وقد درس فيه شوسر الإنسان، لا دراسة نص ميت، ليتمززه الدارسون، بل من حيث هو شاعر من الطراز الأول عاش في عصر خلاب. ثم إنه بالإضافة إلى ذلك عثر على كشوف جانبيه، أثناء دراسته لكولردج، في المصادر اللاواعية لشعراء مثل ملتون وكيتس، وهذا يوحي بأن كتاب " الطريق إلى شندو " قد يستطيع أن ينمي مدرسة قادرة على أن تحول الزحف الدراسي البليد في عالم المصادر إلى نشاط نقدي. وأكثر الحقائق وضوحاً عن " الطريق إلى شندو " وعن " الصور عند شكسبير " كذلك هي ما في كل منهما من إمكانيات هائلة للتوسعة والإضافة، وبخاصة في اتجاه التحليل النفسي الذي يبرأ لويس من عهدته فيه عمداً. هذا وإن لويس محق في احتقاره للدراسة الملتبسة بالتحليل النفسي التي أجراها روبرت غريفز على قصيدة " قبلاي خان " في كتابه " معنى الأحلام "، متعقباً ما في تلك الدراسة من جهل وشطط، ومجاوزة للدقة في مواطن معينة، وبلادة عامة. غير أنه لا يستطيع أن ينكر إمكانية دراسة القصيدة على وجه

متزن ذكي، ومثل هذه الدراسة سيعتمد كثيراً على كتابه، بتناول أعمق نتائجه، وتعميقها أيضاً (1) . أما من الناحية الأخرى فإن الدارسين، ورفيقهم الذي هو كواو عمروٍ فيهم، أعني مارك فان دورن. قد لاموا لويس لأنه عدا طوره وتوغل بعيداً في مغامرته. فمثلاً تذمر فان دورن عندما راجع الكتاب بمجلة " الشعب " من أن لويس لم يلزم نفسه في حدود ما يلتزم به الدارس من تقرير حقائق قابلة للتوضيح، ومن طبع نص توضح فيه القصيدة على صفحة وتجعل مصادرها على الصفحة المقابلة " دون أن يقول شيئاً من عنده في أكثر المواقف " لا أن يجرؤ على الكلام عن عمليات الخيال وطرقه. وقد وجه الأستاذ لين كوبر من كورنل لكتاب " الطريق إلى شندو " أمضى نقد متصل بالدراسة في مجموعة " منشورات جمعية اللغة الحديثة " سنة 1928، وأعيد نشره في مجموعة لكوبر عنوانها " أوراق أرسطوطاليسية " عام 1939. ويمثل كوبر الذي يسمي نفسه ناقداً " ارسطوطاليسياً " وهو صانع فهارس للألفاظ أحب قليلاً من الأدب بعد وردزورث، نقيضاً مدهشاً للويس مثيراً للعبرة. فقد نشر سنة 1910 بحثاً يدل على بصيرة متميزة عن " قوة الباصرة عند كولردج "، فأبرز كثيراً من مختلف مظاهر البصر السديد المغناطيسي في قصيدة " الملاح القديم "، في تناوله الأشخاص والشمس والحيات وما أشبه. ويبدو أنه كان مستاءً لأنه وجد شيئاً هاماً في شاعر يكرهه، فأنفق معظم المقال وهو يعتذر. فلما ظهر كتاب لويس، راجعه كوبر، وكانت مراجعته من أحط أنواع الهجوم الذي ينتحل اسم

_ (1) قام بهذا إلى حد روبرت بن ورن في الملحق الطويل على قصيدة " الملاح القديم " " قصيدة ذات خيال خالص " سنة 1946 ولا ريب في أن ورن يعمق دراسة لويس بخاصة من خلال استعماله النماذج العليا التي جاءت بها الآنسة بودكين. ولكن قسطاً كبيراً من جهده مبدد سدى لا في البدء من حيث انتهى لويس بل بمناقشته عجز عنه لويس، ولنواح من القصور عنده عامة.

لدراسة وأشدها غروراً وأدناها نفساً. وهنالك صرح قائلاً " وكان من الطبيعي أن حاولت لأرى إلى أي مدى استغل دراستي " (قد استغل لويس دراسته واعترف بذلك) وأظهر أنه ينتقد استخدام لويس لها، وأنه ساخط لأن لويس قد وجد من الضروري أن يزيد عليها شيئاً. واقترح أن كتاب لويس يحتوي قليلاً من الأصالة، أو لا يحتوي أبداً، ولكنه مع ذلك ينكر عليه شططه، ويلمح إلى أن هذا نوع من المتاجرة بعرض الدراسة من أجل كسب الصيت والسمعة. وهاجم قصيدة " قبلاي خان " لما فيها من " وصمات " أخلاقية، ووافق وردزورث في نقده " الارسطوطاليس " لقصيدة " الملاح القديم " ووصفه لها بأنها ليست جيدة كثيراً، واقترح أن وردزورث كتب ذلك الشيء القليل القيم الذي يسمى باسم كولردج، وأثار ضد لويس مماحكات صغيرة لا حصر لها، وانتفخ زهواً حين وجد في كتاب ولويس صيغة نحوية مضطربة العلاقة، وعد عليه تكريراته. وتكاد مقالة كوبر أن تكون مجموعة من أردأ أخطاء الدراسة المتخصصة، فيما يعتري الدارسين المتخصصين من عيوب ذاتية، وفي جدب الطريقة وانعدام الخيال. حتى إن لويس وكوبر نموذجان للدارس، يرسمان مفارقة ممتعة، ويقفان على طرفي نقيض. غير أن الدراسة المتخصصة على يد دارس واحد على الأقل، في حقل فلسفي، قد أسهمت إسهاماً بالفعل في حركة النقد الأدبي، وهي أيضاً أكثر ثمرة بالقوة. أما ذلك الحقل فهو تاريخ الأفكار وهو حقل فلسفي ابتكره واستولى عليه؟ في الأكثر؟ الأستاذ آرثر أ. لفجوي من جامعة جونز هوبكنز. وتاريخ الأفكار هو تتبع أفكار موحدة من الفلسفات خلال التاريخ الفكري، وكما أنه يجد أكثر الأنوار الهادية في التعبير الأدبي فكذلك يستطيع النقد الأدبي أن يستمد منه في معالجة المتكأ الفلسفي للأدب. وأهم كتب لفجوي، كتاب " السلسلة العظمى للحدوث " The Great Chain of Being

وفيه يتتبع فكرة " الحدوث " المؤلفة من ثلاثة مبادئ مترابطة وهي الكمال والاستمرار والتدرج، منذ أصولها عند أفلاطون وأرسطوطاليس ثم انتقالها في القرن الثامن عشر؟ انتقالاً مؤقتاً؟ إلى السلسلة العظمى للصيرورة حتى تفتحت أزاهيرها عند شلنج والرومانتيكية. وفي سياق الكتاب يرسم لفجوي حقاً تاريخياً للفكر الرومانتيكي مستمداً شواهده لا من الفلسفة والأدب فحسب بل من علم اللاهوت وفقه اللغة والسمانتيات والعلم والسياسة والبستنة. وقد كانت مادة هذا الكتاب الذي ألقي باسم محاضرات وليم جيمس في هارفارد، بعيدة الأثر في الكتابات النقدية التي صدرت عن عدد من أساتذة هارفارد ومن بينهم ف. أ. ماثيسون وثيودور سبنسر ولكن يبدو أن ليس هناك عدد كثير من النقاد باستثناء جماعة هارفاد وجونز هوبكنز (وكنث بيرك كما هي العادة) يعرف لفجوي وكتابه مع أن الدارسين المتخصصين قد تأثروا به تأثراً شاملاً. وقد كانت معرفته حقيقة بأن تكون كبيرة القيمة في تلك الكشوف عن الرومانتيكية مثل كتاب " روسو والرومانتيكية " لبابت، وكتاب طالنشوة الرومانتيكية " The Romantic Agony لماريو براتز، وكتاب " انحطاط المثال الرومانتيكي وسقوطه " The Decline and Fall of the Romantic Ideal للوكاس (والاثنان الأولان صدرا قبل ظهور كتاب لفجوي) . إن أعظم فائدة يحبوها تاريخ الأفكار للنقد الأدبي هي منحه القدرة على أن يعيد بناء " هيكل المراجع " أي الجو الفكري الذي يكمن تحت الآثار الكبرى في الماضي. وقد استكشف لفجوي أفكاراً أخرى في كتابه " ثورة ضد الثنائية " The Revolt against Dualism وفي كتاب " البدائية والأفكار المرتبطة بها في الأزمان القديمة " Primitivism and Related Ideas in Antiquity وهو تاريخ من وثائق جمعها بالاشتراك مع جورج بوس. ولديه هو وتلامذته مجلة اسمها " مجلة تاريخ الأفكار " مخصصة لمثل هذه الكشوف، ولكن لا شيء من آثاره كلها

يطاول " السلسلة العظمى للحدوث " أهمية، حسبما ترقي إليه معرفتي. ويستحق أ. ك. برادلي بعض الحديث هنا من حيث أنه يمثل نموذجاً من الدراسة المتخصصة التي لا تعتمد على طريقة خاصة سوى القراءة الدقيقة والمقارنة (كذلك فإن كتاب ستول " دراسات شكسبير " مثل آخر على هذا النوع) . وإذا استثنينا بضع دراسات خاصة متحيزة، مثل دراسة امبسون ونايت وارنست جونز والآنسة سبيرجن وآرمسترونغ، حكمنا بأن برادلي كتب أعمق نقد شكسبيري وأشمله إدراكاً ف عصرنا. أما فيما يتعلق بمسرحية هاملت فإن برادلي بلغ مشارف النتائج التي بلغها جونز دونما عون إلا العناية الدقيقة وإعمال الفكر. وليس ينقصه إلا معدات التحليل النفسي التي كان بإمكانها أن تمضي به إلى الأمام خطوات، فقد أدرك أن النظريات الكبرى بإمكانها فائلة وأن حال هاملت تتصل اتصالاً وثيقاً بشيء يتعلق بأمه لا بعمه، وفي الحق إن اصطلاح " الشلل السوداوي " الذي عنى به عجز هاملت عن العمل إنما هو إرهاص فذ باصطلاح جونز ذي المسحة العلمية وهو " فقدان قوة الانتباه "، وهو في الوقت نفسه كأنما ينبئ بظهر الغيب عن الآنسة سبيرجن ونايت وامبسون. ففي إرهاصه بما ستحققه الآنسة سبيرجن نجده يعمل جدولاً باستعمال اياجو للصور البحرية ويلحظ وفرة صور الحيوان في " تيمون " و " ولير " ويكتب جريدة بصور الظلام والنور والدم واعنف في " ماكبث " وهكذا. وفي إرهاصه بما سيحققه نايت نجده يجمع التلويحات للموسيقى عند شيكسبير ويلحظ أن الموسيقى هي فيما يبدو الرمز الصميم للسلام والسعادة عنده ولكنه يسهو عن أن يتقدم خطوة أخرى ليرى كيف أن العاصفة هي الرمز المضاد لها. ويقترب برادلي من نظرية امبسون التي قال فيها إن مصححي النصوص الشيكسبيرية " يحلونها " ويوضح فكرته بواحد من التصحيحات التي بنى امبسون عليها رأيه أعني تصحيح جونسون لعبارة " طريق حياتي "

Way of Life وجعلها " ربيع حياتي " May of Life. إن استفاضة دراسة برادلي غير جلية في متن كتابه الرئيسي " التراجيديا الشكسبيرية " Shakespearian Tragedy وهو دارسة مطولة لهاملت وعطيل ولير وماكبث، إذ يخصص فصلين لكل مسرحية، أولهما مناقشة دقيقة للمبنى؟ في معظمه؟ والثاني دراسة للشخصيات على أنها أناس حقيقيون. ولكن الدراسة المتخصصة الكامنة وراء الاستبصارات النقدية في الكتاب، إنما تتجلى بقوة في اثنتين وثلاثين ملحوظة مذيل بها على المتن، وتتناول التصحيحات النصية، والمقارنات بين متن طبعة قطع الربع ومتن الفوليو، وجداول لاستعمال الكلمات، واقتراحات عن الأعمال المسرحية، وضبط التواريخ من خلال عددٍ من الاختبارات الفنية. وكثير من هذه الدراسة المتخصصة ينتهي إلى لا شيء؟ فقد يستوي عنده أن تنتهي الملحوظة باستنتاج يقول فيه إن المسألة ليست إلا مجرد تقلب عند شيكسبير، أو أن في المسألة قولين وليس أحدهما بأقوى احتمالاً من الآخر؟ ولكن هذه الملاحظ هي أساس الإدراك النقدي الذلق في كل الكتاب. ولم يوفق برادلي مثل هذا التوفيق في فروع أخرى من الأدب، عدا شيكسبير، فإن أحاديثه عن الشعر الرومانتيكي الإنجليزي في كتابه " محاضرات أكسفورد في الشعر " Oxford Lectures on Petry وفي " تعليقه على قصيدة " الذكرى " لتنيسون " تنزع إلى أن تلتبس بمجادلات فارغة ومتحجرة بعض الشيء عن " الرفعة " وهل هذا الشاعر " أرفع " من ذاك. وخير ما في كتاب " محاضرات أكسفورد " هو المادة المتعلقة بشيكسبير أي عن فولستاف ومسرحية " انطوني وكليوباترة " والمسرح والجمهور في عصر اليزابث. أما اهتمامه الرئيسي بشخصيات شيكسبير، وفي هذا يعد الوارث المنطقي لكولردج وهازلت وبراندز (حركة أدبية سحر منها سخرية جميلة ل. ك. نايت في مقاله " كم ولداً رزقت السيدة ماكبث ") فإنه يؤدي إلى الهوة التقليدية التي

يهوي فيها القائمون بالأبحاث في هذا المجال، أعني تلك التخمينات البليدة عن شخص شيكسبير نفسه، فهو يحتقب كل أوزار التطرف التي تحتقبها الآنسة سبيرجن، إذ يخبرنا أن أحب زهرة إلى شيكسبير هي البنفسجة، وطائره المفضل هو القبرة، وأنه كان يكره الكلب الصغير الطويل الشعر والأذنين، وأن هذه العبارة أو تلك " ذات نغمة ذاتية " فيما يبدو، أو أنها " صدرت من القلب " أو " أن شيكسبير نفسه هو الذي يتكلم هنا ". إلا أن ذوقاً معتدلاً قاراً في الجبلة، يقي برادلي في أكثر الأحوال شر التفاهة ويسدد أحكامه. نعم إنه ليستطيع أن يركز جهده في الدقائق التافهة كأن يعد الأسطر في المشاهد المتوترة، والمواقف التي ينتقل فيها شيكسبير من النثر إلى الشعر، وعدد المبارزات، والمناسبات التي تضرب فيها الموسيقى العسركية في القسم الأول من " هنري السادس "، غير أنه مع هذا لا يوحل في حمأة هذه التوافه، بل يستغلها دائماً ليبلغ فكرة سديدة. وأكبر نقص لديه، ضآلة معرفته بالدراما الكلاسيكية والنقد الكلاسيكي، ولو كان محصوله من ذلك وفيراً، لأعانه في ميدان تخصصه. ومع أنه يقيم مقارنات متعددة بين شيكسبير والروائيين الإغريق ويتكئ على أرسطوطاليس بشدة إلا أنه في نصه وتوكيده أن " الشخصية " جوهر المسرحية، يبتعد عن أرسطوطاليس. ثم إن عدم فهمه أساساً لطبيعة الدراما الإغريقية، يؤدي به إلى أن يرى في ماكبث بطلاً لم تكتمل بطولته، كذلك وصفه لسياق المسرحية بأنه يجري في ثلاث مراحل " العرض والصراع والكارثة " يغفل فيه العنصر الجوهري في الدراما الإغريقية وكل دراما عظيمة بعدها أعني " القبول " النهائي (قارن بهذا مثلاً الحلقة المفرغة عند فرانسس فرغسون المكونة من " الغاية، والعاطفة، والإدراك ") . ولم يلحظ أحد نواحي القصور والعيوب في الدراسة المتخصصة مثلما لحظها برادلي فهو يتحدث باحتقار عن نوع من الدارسين يضيء نفسه بالرد

على آراء منافسيه، ويكب على استقصاء الدقائق التافهة حتى يفقد " الانطباعات الواسعة العميقة، التي تخلفها القراءة الحيوية في النفس "، ويقول: البحث سهل وإن كان متعباً. والاستنظار التخيلي صعب وإن كان ممتعاً، وقد نؤثر الأول مأخوذين بسهولته. أو قد نلحظ أن شيكسبير قد استعمل في عبارة ما، ما عثر عليه في أحد المصادر، فنتهرب من أن نسأل أنفسنا لم استعمله وماذا صنع؟ أو قد نرى أنه أدى شيئاً قد يرضي جمهوره فنمر به عابرين، لاعتقادنا أنه أمر نعرف تعليله، ناسين أنه كان يرضيه أيضاً، وأن علينا أن نجد العلة في ذلك. أو ترينا معرفتنا لمسرحه التلاءم بين المشهد المسرح لإخراجه، كأنما علة الشيء لابد أن تكون مفردة بسيطة. فمثل هذه الأخطاء تثير المرء الذي يقرأ شيكسبير بروح شعرية، وتجعله يكفر بمعرفتنا. ولكن علينا ألا نقع في هذه الأخطاء، كما أننا لا نستطيع أن نرفض أي معرفة تعيننا على فهم عقل شيكسبير من أجل ما تجلبه من أخطار. وقد كان برادلي نفسه بمنأى عن هذا النوع من الدارس الذي يشير إليه، كان في الحقيقة ازدواجاً موقفاً من الدارس نفسه ومن " المرء الذي يقرأ شيكسبير بروح شعرية " وخير ما يوصف به عمله ما قاله هو في الإشارة إلى مقال فذ لموريس مورغان عنوانه " مقال في الشخصية المسرحية: شخصية السير جون فولستاف " فقد وصفه بأنه يفسر عملية الخيال عند شيكسبير " من الداخل ". نستطيع بعد هذا أن نلخص في إيجاز ما أسداه للنقد بضعة نفر فقط من الدارسين، فنقول: يستطيع الدارس أحياناً بوساطة طبعة محققة كاملة أقبل عليها بنفس، أن يستنقذ شاعراص من يد الإغفال والنسيان ويمهد الطريق

لانتعاشة نقدية، مثلما صنع القسيس الموقر الكسندر دايس في تحقيقه الرائع لآثار سكلتون سنة 1843، فهذا الكتاب معلم على اللوذعية وحسن التذوق، ولم يحتج إلا تصحيحاً يسيراً من بعد. وقام الأستاذ تشايلد بمهمة مماثلة، أو لعلها اشمل، في تنظيم الأغاني الشعبية الإنجليزية والاسكتلندية حتى إنه كل دراسة ونقد يبدءان؟ حتى اليوم؟ من هذه الطبعة المحققة. (إن الأعمال النقدية التي قام بها دارسون آخرون في حقل الأدب الشعبي والمصادر الشعبية للأدب الشكلي، بما في ذلك العمل المتميز الذي أداه جلبرت مري وجماعة كمبردج، قد جرى الحديث عنها في فصل سابق) . وأحيانا يبعث الدارس قوة في تقنية تقليدية، من جديد، مثلما صنع ج. لسلي هوتسون بذلك البحث المألوف الجاف كالغبار في السجلات القانونية، فأخرج كتابين بالغي القيمة أحدهما " موت كرستوفر مارلو " The Death of Christopher وهو خبر عمن قتل مارلو في الحقيقة وأسباب مقتله؛ والثاني " شيكسبير ضد شالو " Shakespeare Versus Shallow برهان على أن الشخص الحقيقي الذي يمثله القاضي شالو في مسرحية " نساء وندرسو المرحات " لم يكن السير توماس لوسي، ولكنه كان عدو شيكسبير القديم القاضي وليم غاردنر. وكلا الكتابين يشبهان في المتعة قصصا بوليسية من الطراز الأول. وأحيانا ينمي الدارس، من الوجهة الأخرى، تقنية جديدة أو يضيف شيئا إلى واحدة قديمة، مثلما فعلت الآنسة سبيرجن وآرمسترونغ ونايت ولوليس. فدراسة جورج رايلاند للفظ عند شيكسبير في " الألفاظ والشعر " Wards and Potery وكشوف ل. ك. نايت للجو الاجتماعي والاقتصادي المحيط بأدب القرن السابع عشر (وسنتحدث عنها فيما يلي) مثلان آخران على هذه التقنيات الجديدة التي تبشر بالخير. وهناك مشروع دراسي أخير يستحق أن يذكر، فمنذ 1935 دأب تشارلس د. أبوت مدير مكتبة لوكوود التذكارية، بجامعة بفلو

على جمع مسودات الشعراء المعاصرين، رجاء أن يعرض عملية المراجعة الشعرية عرضا موضوعيا. وقد حصل ثلاثة آلاف منها، وأحيانا يبلغع أن يكون لديه ثمانون نسخة من قصيدة واحدة. وأول دراسة تجريبية لبعض هذه المادة، نشرت حديثا في مجلد عنوانه " الشعراء حين ينظمون " Potes at Work ويضم مقالات كتبها و. هـ؟؟. أودن وكارل شابير ورودلفق آرنهايم ودونالد. أ. ستوفر، ومقدمة كتبها أبوت يوضح بها مشروعه، وبعض صور للمخطوطات. ولا تعدو أي واحدة من هذه المقالات، بطبيعة الحال، ملامسة سطح المادة (ومقالة أودن فيما يبدو لا تسمها أبدا) ولكن يرجى أن تكون هذه المقالات بشيرا بدراسة واسعة منظمة، على نفس الخطوط التي بدأت في هذه المجموعة فيما أرجح (المشاركون في هذه المقالات: اثنان منهم شاعران وواحد سيكولوجي والرابع مدرس للأدب) . وليست هذه فكرة جديدة في ميدان الدراسة فإن لويس مثلا في كتابه " الاتباعية والثورية في الشعر " Convention and Revolt in Potery قد فحص التنقيحات الشعرية عند تنيسون وكولردج وكيتس ووردزورث وشيكسبير أيضاً (ولما لم تكن هناك مخطوطات من شيكسبير جعل شاهده من مسرحية هاملت طبعة حجم الربع وهي فيما يظن تمثل تنقيح شيكسبير للنص) . أما أداء هذه المهمة على نحو منظم كامل لا على وجه جزئي عارض، فربما تمخض عن نتائج متميزة، كما فعلت دراسة الآنسة سبيرجن للصور، وكما فعل بحث لويس عن المنابع والمصادر وتتبع لفجوي لتاريخ الفكرة الواحدة. 5 - بقي مظهر واحد آخر في آثار الآنسة سبيرجن يحتاج منا تقديرا، ذلك هو رغبتها في التصوف؛ فكتابها " التصوف في الأدب الإنجليزي " يطلعنا على أنها مهتمة كثيرا بالفكر الصوفي والكشف الصوفي إلى حد أن تكون داعية للتصوف، متأثرة كثيرا بمتصوفة المذهب البوصي الكراريسي المعاصر

مثل ايفلين أندرهل. وقد استمر تعلقها بالتصوف في أثناء كتابها " الصور عند شيكسبير " وربما كان هو العنصر الذي استثار هذه الدراسة، لإيمان الآنسة سبيرجن بأن الصور ذات مغزى صوفي. فقد كتبت تقول: إن المجاز في المقام الأول موضوع ذو مضمون عميق يستدعي قلما أقدر من قلمي على الخوض فيه بكفاءة، لأنني أميل إلى الاعتقاد بأن قياس التمثيل أعني المشابهة بين الأشياء غير المتشابهة؟ وهي الحقيقة الكامنة في صلب المجاز وإمكانيته؟ تتضمن في ذاتها سر الكون عينه. إن الحقيقة المجردة التي أتمثلها في البذرة والورقة الساقطة، وإنها في الواقع تعبير آخر عما نشاهده يجري على الإنسان من حياة وموت، لتهزني كما تهز الآخرين وتملأ نفسي ونفوسهم بأننا في هذه الأرض في حضرة سر عظيم، لو استطعنا أن نفهمه، لقدرنا على أن نفسر الحياة والموت نفسه. إن الصورة التي يستخلصها الإنسان لعقل شيكسبير من الفصلين المعنونين: " شواهد من الصور عن فكر شيكسبير " لأعرق في التصوف مما قد توحي به المسرحيات نفسها، لأنها تؤكد العناصر اللامادية والبرغسونية، وتنتهي بهذا الحكم الذي تصدره الآنسة سبيرجن دونما شاهد معين: " مرة واحدة فقط يحدثنا شيكسبير بلسان نفسه؟ فيما يبدو؟ حديثاً مباشراً عن ما يراه في مشكلة الموت " وذلك في المقطوعة رقم 146 حيث تميت النفس الموت نفسه. وينتهي بها بحثها في فلسفته في فصل " شيكسبير الإنسان " إلى أن شيكسبير كان من أصحاب النزعة الإنسانية المتصوفين، مثل شخصية الدوق في مسرحية " واحدة بواحدة " Measure For Measure الذي يعتقد أننا " موجودون ما دمنا نلمس أصحابنا، ونتلقى منهم الدفء أو النور الذي أطلقناه إليهم ".

ومع ذلك فإن موضوعيتها الدراسية لم تنتقض حيويتها بهذا الانهماك في التصوف، وقد يقال في هذا الميل إنه نزوة من النزوات التي ينزع النقاد إلى أن يعكفوا عليها كغيرهم من بني الإنسان؛ ولكثير من النقاد نزوات تجري في آثارهم، دون أن يؤذيها مثل ثورة بيرك على التقنولوجيا، دون أن يؤثر في طابعها تأثيراً أساسياً. وآخرون مثل ت. س. اليوت ينحرف عملهم انحرافاً كاملاً على هوى ما ينهمكون فيه ولكن ذلك لا يحطم قيمته أو سداده. وبعضهم مثل مود بودكين وجون مدلتون مري يتخلون عن منهجهم النقدي الذي منحهم التميز لينغمسوا في نزواتهم، وآخرون تخلوا عن النقد إطلاقاً ليرعوا الدواء الشافي كما فعل رتشاردز في " الإنجليزية الأساسية " Basic English. وأكثر الحالات تطرفاً وإثارة للعبرة، في ناقد ركب هواه، وكان هوىً غريباً، هي حال ج. ولسن نايت: كانت آثار نايت معماة بالتصوف منذ البدء، فأول كتبه كراسة عنوانها " الأسطورة والمعجزة " Myth and Miracle يستكشف " الصفة الروحية " في مسرحيات شيكسبير الأخيرة. أما كتبه التالية فقد نشرت تباعاً في مجلات مثل The Occult Review وthe Quest، وبعد ذلك انهمك في تواليفه " بالأخلاق المسيحية " و " طبيعية " برغسون و " تقدس " الجنرال سمطس و " حيوية " د. هـ؟. لورنس وأضافها جميعاً إلى الخميرة الأصلية. والتقت صوفيته أثر الحرب فانتجا في كتابين له صدرا أيام الحرب أغرب نوع من النقد؟ أو من اللانقد؟ يخطه قلم أبداً. أما الأول الذي صدر عام 1942 بعنوان " مركب الغضب: رسالة جون ملتن إلى الديموقراطية المحاربة " Chariot of Wrath فيمثل ملتن ملكياً محافظاً طوال عمره، عدواً لدوداً لكرمول الطاغية (أي صورة هتلر امعاصر) مدافعاً عن الملكية الدستورية في القرن العشرين، متنبئاً تكهن برجال الطابور الخامس حين صور دليلة، وبالحرب الجوية في المعركة بين الملائكة

وبكل من غورنغ وغوبلر في حزب الشيطان، وبالدبابة والقاذفة في مركبة المسيح بل تكهن بكل جزء من أجزاء الحرب الثانية كاملة حتى حين تكوين الأمم المتحدة. ويرى نايت أن مبدأ ملتن هو أن الإمبراطورية البريطانية تهدف إلى تحقيق الخير عن طريق القوة أي إلى تحقيق مملكة المسيح أي إلى " الخدمة المثالية " مناقضة في ذلك أهداف أوروبة المكيافللية. ويوافق نايت على أن ملتن تنبأ بأن الطريق الوحيد الذي تستطيع به بريطانية أن تحقق هذا النظام العالمي المثالي هو أن تسود العالم، أي أن تنبع مبدأ نايت الذي يسميه الاستعمار المسيحي. وأما الكتاب الاني الذي صدر عام 1944 بعنوان " الزيتونة والسيف: دراسة لانجلتره أيام شيكسبير " The Olive and the Sword فإنه توسعة للكراسة التي نشرها نايت سنة 1940 عن رسالة شيكسبير القومية بعنوان " هذه الجزيرة ذات الصولجان " This Sceptred Isle. ويقول نايت إن شيكسبير كان نبياً قومياً معنياً بروح انجلترة، معارضاً لسياسة الترضية، ولهتلر في صورة رتشارد وماكبث وزوجه، مكرساً إنتاجه للدعوة إلى دور بريطانية الاستعماري المسيحي، ولدى شيكسبير تنبؤات حربية مشبهة للتي عند ملتن فهناك تنبؤ بالصراع الجوي في يوليوس قيصر وهكذا. وهناك أيضاً سلسلة من المتقابلات المتوازية بين عصر شيكسبير والعصر الحاضر في الأحداث (فليس رتشارد صورة من هتلر فحسب بل أن بكنجهام هو رويم Rohm وهاملت هو انجلترة ولايرتس وفورتنبراس هما ألمانية وإيطالية، وهو يعيد النص على أن الأدب هو " الإيمان الخالق " ويقول: " ليس هذا انحرافاً بالشعر العظيم خدمةً للدعاية المعاصرة ". ويبدو أن وجهة نظرته انحازت إلى الاتزان؟ إلى حد ما؟ في فترة بين الكتابين حتى أصبحت دعوته إلى سيادة بريطانية للعالم في الكتاب الثاني تتفق والقيادة الخلقية أكثر من أن تعني الحكم العسكري، هذا إلى عناصر اشتراكية كبرى مزجها بالمسيحية والاستعمار. غير أن

هذا التفسير ما يزال من أغرب التفسيرات التي صدرت عن ناقد جاد، وفي نصه على أن رسالة شيكسبير تكشف عن أن انجلترة ذات دور أعظم وأشمل من دور ألمانية الهتلرية، ما يجعل هذا التفسير من أكثر التفسيرات انظاءً على مضمون خطر. هاهنا موقفان محزنان: موقف نايت في تنكره لأي دعوى تتصل بالنقد (وفي كل كتبه انطمست طريقته الموحية اللامعة وما تركت في مكانها إلا معاني نثرية سطحية ونسيجاً سخيفاً من المقتبسات يتوقع لها أن تكون معاصرة) وموقف جون مدلتون مري في خبله المشابه بعد تحوله المذهبي سنة 1925. وفي كلا الموقفين أخذت الآنسة سبيرجن بثأرها فإن صفات الخيال التي يتمتع بها نايت ومري، والتي مكنتها من أن يبلغا بمادتها أبعد مما بلغت، هي نفس الصفات التي أنتجت ذينك الأثرين المضحكين اللذين كتبهما نايت في النقد كما أنتجت ما وراء البيولوجيا الأدبية عند مري. ولم تكن الآنسة سبيرجن قادرة على الأول ولكنها لم تكن أيضاً لترضى أن تنتج الثاني. فلتخلد الآنسة سبيرجن مثلاً للدراسة المتخصصة في خير أحوالها، خلاقة إلى حد أن تكشف عن منجم من الثراء للنقد، ولكنها ليست خلاقة إلى حد أن تشق عنه الأرض بنفسها. وإذا ما قورنت بلين كوبر في طرف ونايت ومري في الطرف الآخر فلتذكر دائماً على أنها نذير للدارسين والنقاد، فانهم صنعاً لو أبقوا على الأرض قدماً واحدة، فلم يرتفعوا بهما معاً، ولم يقعوا بهما معاً. هذا التفسير ما يزال من أغرب التفسيرات التي صدرت عن ناقد جاد، وفي نصه على أن رسالة شيكسبير تكشف عن أن انجلترة ذات دور أعظم وأشمل من دور ألمانية الهتلرية، ما يجعل هذا التفسير من أكثر التفسيرات انظاءً على مضمون خطر. هاهنا موقفان محزنان: موقف نايت في تنكره لأي دعوى تتصل بالنقد (وفي كل كتبه انطمست طريقته الموحية اللامعة وما تركت في مكانها إلا معاني نثرية سطحية ونسيجاً سخيفاً من المقتبسات يتوقع لها أن تكون معاصرة) وموقف جون مدلتون مري في خبله المشابه بعد تحوله المذهبي سنة 1925. وفي كلا الموقفين أخذت الآنسة سبيرجن بثأرها فإن صفات الخيال التي يتمتع بها نايت ومري، والتي مكنتها من أن يبلغا بمادتها أبعد مما بلغت، هي نفس الصفات التي أنتجت ذينك الأثرين المضحكين اللذين كتبهما نايت في النقد كما أنتجت ما وراء البيولوجيا الأدبية عند مري. ولم تكن الآنسة سبيرجن قادرة على الأول ولكنها لم تكن أيضاً لترضى أن تنتج الثاني. فلتخلد الآنسة سبيرجن مثلاً للدراسة المتخصصة في خير أحوالها، خلاقة إلى حد أن تكشف عن منجم من الثراء للنقد، ولكنها ليست خلاقة إلى حد أن تشق عنه الأرض بنفسها. وإذا ما قورنت بلين كوبر في طرف ونايت ومري في الطرف الآخر فلتذكر دائماً على أنها نذير للدارسين والنقاد، فانهم صنعاً لو أبقوا على الأرض قدماً واحدة، فلم يرتفعوا بهما معاً، ولم يقعوا بهما معاً.

تصدير عندما أصدرنا القسم الأول من هذا الكتاب القيم قبل عام وبعض العام، لم نكن نتوقع له هذا الترحاب الذي قوبل به. إذ أوشكت طبعته الأولى على النفاد بعد أن أصبح عمدة النقاد وأساتذة الأدب والطلاب في معظم الأقطار العربية. وها نحن اليوم نقدم القسم الثاني والأخير منه، راجين أن يسد ثغرة في المكتبة العربية، بعد أن لمسنا حاجة الدارسين إلى الكتب النقدية الجادة. لقد أخذ علينا بعض الزملاء غموض العبارة في بعض المواضع، وليتهم قبل أن يحاسبونا على ذلك، أن يرجعوا إلى الأصل ليشهدوا بأنفسهم ما فيه من تركيز وحشد، غير مألوفين في الكتب العربية. ولا عجب في ذلك فالمؤلف يكتب لفئة خاصة من القراء، يفترض أنها على مستوى عال من الثقافة الأدبية والإنسانية. أما قراؤنا، فالقلة منهم هي التي تمتلك ناحية هذه الثقافة أو بعضها، والكثرة ما تزال تعيش على أوليات الدراسات النقدية. ولم تكن هذه الحقيقة لتصرفنا عن الإقدام على ترجمة هذا الكتاب، فنحن نعيش اليوم في مرحلة بناء اجتماعي، الأدب ركن هام من أركانها، وعلينا أن نسهم فيها، كل بما توفر له من إمكانات. أن الكتابة النقدية صعبة عسيرة في ذاتها. وطريقة المؤلف في هذا الكتاب تمتاز عن غيرها من طرائق المؤلفين بالتركيز والشمول والإسراف

في التحليل. ولذا كانت الترجمة عملية شاقة مضنية، تجشمناها لأننا كنا دائماً نضع نصب أعيننا الهدف الذي نعمل له فيما نؤلف وفيما نترجم، ألا وهو تيسير الدراسة النقدية الجادة، لهذا الجيل المتطلع إلى الثقافة الأصيلة العميقة. ولذا ترانا نعمد إلى الشرح والتعليق في مواضع أخرى، ونوجز هنا ونبسط هناك لكي لا تفوتنا الغاية التي من أجلها أقدمنا على ترجمة هذا الكتاب. ونحن بعد لا ندعي أننا وضعنا الكتاب في الصورة المثلى التي نرتجيها له، إذ الترجمة مجال للاجتهاد شأنها شأن غيرها من أنواع النشاط الإنساني. وقد يظهر بين القراء والمختصين، من يستطيع أن يترجم عبارة هنا أو فقرة هناك، ترجمة خيراً من هذه الترجمة. ولن يؤرقنا هذا، ولن يصرفنا عن الهدف وبحسبنا أننا فتحنا بهذا الجهد نافذة جديدة على الأدب الغربي، نرجو أن يستشرف منها قراؤنا آفاقاً خصبة غنية، تمدهم بالعون والتسديد في هذه المرحلة الحضارية التي نمر بها. المترجمان

المسهمون في إخراج هذا الكتاب المؤلف: ستانلي أدغار هايمن: ولد سنة 1919 في بروكلين (نيويورك) . وتخرج سنة 1940 من جامعة سيراكوز. ومنذ ذلك التاريخ وهو يعمل محرراً في مجلة النيويوركي The NewYorker، ويسهم في تحرير المجلات الأخرى بأبحاثه ومقالاته. وقد أصدر سنة 1956 كتابه الثاني " العملية النقدية " The Critical Performance وهو يدرس الأدب، والأدب الشعبي في كلية بننجتون. المترجمان: الدكتور إحسان عباس: من مواليد فلسطين سنة 1920. تخرج من الكلية العربية في القدس، ودرس الأدب في بعض المدارس الثانوية في فلسطين، ثم التحق بالجامعة المصرية، وتخرج منها بشهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية سنة 1954. وقد أصدر عدداً من الكتب، منها: " كتاب الشعر " لأرسطو (ترجمة) و " خريدة القصر وجريدة العصر " للعماد الأصفهاني (تحقيق بالاشتراك مع المرحوم الأستاذ أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف) و " رسائل أبن حزم " (تحقيق) ، و " الحسن البصري " و " فن الشعر "، و " فن السيرة " " وأبو حيان التوحيدي " و " الشعر العربي في المهجر " (بالاشتراك مع الدكتور محمد يوسف نجم) و " الشريف الرضي "، و " التقريب لحد المنطق والمدخل إليه " (تحقيق) ، و " دراسات في الأدب العربي " (بالاشتراك) و " العرب في صقلية ". وهو الآن أحد أساتذة الأدب العربي بجامعة الخرطوم.

الدكتور محمد يوسف نجم: ولد في فلسطين سنة 1925. تخرج من الكلية العربية في القدس. ودرس الأدب العربي في الجامعة الأميركية ببيروت (حتى سنة 1948) . والتحق بالجامعة المصرية سنة 1949، وتخرج منها بشهادة الدكتوراه من قسم اللغة العربية سنة 1954. وقد أصدر بعض الكتب، منها: " القصة في الأدب العربي الحديث "، و " والمسرحية في الأدب العربي الحديث " و " ديوان الزهاوي " (نشر وتحقيق) و " فن القصة "، و " فن المقالة "، و " الشعر العربي في المهجر " (بالاشتراك مع الدكتور إحسان عباس) و " ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات " (تحقيق وشرح) و " ديوان أوس بن حجر " (تحقيق وشرح) ، و " شعراء عباسيون " (إعادة تحقيق وترجمة) ، و " دراسات في الأدب العربي " (بالاشتراك) ، و " رسائل الشريف الرضي والصابئ " (نشر وتحقيق) . وهو الآن أستاذ مشارك للأدب العربي بجامعة بيروت الأميركية.

الفصل الثامن

الفصل الثامن رتشارد ب بلاكمور وثمن الجهد المبذول في النقد بلاكمور ناقد ينزع إلى أن يسلط على كل أثر أدبي ما يتطلبه من وسائل نقدية خاصة، حتى كاد أن يستغل، في الحين بعد الحين، كل ما وصفناه من مناهج نقدية في هذا الكتاب، ولذلك كان من العسير علينا ان نخصص له " نهجاً " مفرداً يتميز به دون سواه. على انه وان لم يتميز بأسلوب نقدي متفرد، فأن لديه مسلكاً عقلياً متفرداً، اعني قدرته على البحث المضني الذي لابد منه للنقد المعاصر، وقد نعد هذا الاكباب الجاهد في التقصي أكبر إسهام يشارك به بلاكمور في ذلك الميدان. ولقد قال مرة في فصل من كتابه " مزدوجات " The Double Agent: إن من يقرأ شعر بوند فلابد له من ان يعرف " الإشارات الكلاسيكية والتاريخية "، ولابد لمن يقرأ اليوت من التعرف إلى " الأفكار والمعتقدات ونظم المشاعر " التي إليها يلمح ويمي، أما من شاء أن يقرأ ولاس ستيفنز " فانه محتاج إلى المعجم فحسب ". وإذا أخذت هذا القول على وجهه الحرفي وطبقته على بلاكمور وجدته يتعلم التاريخ ليفهم شعر بوند

ويدرس اللاهوت ليقرأ اليوت، ويلازم المعجم وهو يقرأ ستيفنز. وللكلمات عند بلاكمور أهمية خاصة، فهو الناقد الوحيد من بين النقاد الأحياء الذي لا يتردد في أن يسمي القاموس " صرح الكشوف الوثابة " وهو في الوقت نفسه الناقد الوحيد بين النقاد الأحياء الذي لا يتردد في أن يقول ما قاله عن منزلة الكلمات في الفصل الذي كتبه عن ملفل في كتابه " ثمن العظمة " The Expense of Greatness؛ هنالك قال بلاكمور: " لابد من أن تكون الكلمات وطرق ترتيبها وتواشجها هي المصدر الأكبر المباشر لكل ما تضمنه الفنون المكتوبة أو المحكية من تأثير؛ فالكلمات هي التي تلد المعاني، والمعاني محمولة فيها قبل أن تبدأ آلام المخاض. واستعمال الكلمات عند الفنان يمثل مغامرة في سبيل الكشف؛ والخيال وثاب وهو يجوس بين الكلمات التي يمارسها؟ غير أن المغامرة في حقيقة الكلمات تسعفنا على شيء ابعد من حقيقتها بمعنى إننا نستطيع من خلالها أن نميز صور حقيقتها الموقفة من صورها الأخرى المخفقة، ونستطيع أن نقيس أنواع الحقيقة التي حاولناها ومدى قوتها، بل نستطيع أن نحدس، على وجه ما، أحوال العرف والمعتقد الضروريين لإيجادها وانبثاقها. وملفل مثل بارع على مثل هذه التجربة. إذ ليس علينا عند قراءته إلا ان نصل بين حقيقة اللغة التي أشرنا إليها وبين القول المفترض المقدر - أن نصل بينهما وصل مبدأ بفكرة - لنرى من أين جاءت القوة للثاني. وليس علينا إلا أن نصل بين مبدأ اللغة وبين قرائن العرف التي قد تعدل منها بزيادة أو نقص لنفهم كيف وفق ملفل حيث وفق، أو لنعتذر عن تقصيره وقفزاته في محاولاته ليقبض على ناصية الحقيقة العظيمة

المستديمة التي تقدمها الكلمات العظيمة، وما ذلك إلا لأن ملفل قد تعود أن يستعمل الكلمات على نحو عظيم ". ومن نتيجة هذا الانتحاء الشديد نحو الكلمات أصبح قسط كبير من بحث بلاكمور لفظياً. حتى انه لما أخذ يدرس كمنجز، مثلا، أعلن أن غايته إنما هي دراسة لغة كمنجز ليتخذ منها هادياً يهديه إلى " نوع المعنى الذي يؤديه استعماله للكلمات "، ومضى في هذا السبيل فجمع قائمة بالكلمات التي يكثر ترددها عند كمجنز، ولحظ أن كلمة " زهرة " من بينها أحبها إلى نفسه، وعد المواطن التي وردت فيها هذه الكلمة، ونبه إلى تعدد القرائن التي تستعمل فيها، واستنتج أن كلمة (زهرة " هي الكلمة المسيطرة على نفس كمنجز وخياله. ومن هذا التحليل اللغوي وغيره حدد طبيعة شعر كمنجز وأسهب في تبيان شأنه وقيمته. أما تحليله لشعر ولاس ستيفنز في كتابه " مزدوجات " فإنه يبدؤه بعد الكلمات النادرة أو " الثمينة " الغالية التي يكثر منها، ثم يذهب إلى المعجم فيستخرج منه معانيها (مثلا: أسيان: معناها حزين أو مبتئس وهي مشتقة من أسي وهكذا) . ثم يقرأ الكلمات حسب وقوعها في قرائنها، ويخرج من كل ذلك بتفسير للقصيدة وبنظرية عن طبيعة فن ستيفنز. وفي الكتاب نفسه يحاول أن يفسر جملة معترضة غامضة لهارت كرين، وفي الكتاب نفسه يحاول أن يفسر جملة معترضة غامضة لهارت كرين، فيفزع إلى القاموس، ويعجز عن أن يجد لها معنى مقنعاً، ويقرر أن الشاعر لو استعمل العكس لأصاب، ومع ذلك فإنه ينتهي من ذلك إلى نظرية عن النقص في تركيب الجمل وعن الكلمات الطائشة غير المحددة التي تسبب إخفاق كرين، وإخفاقه هو في فهمه. ويمضي بلاكمور في هذا الاستقصاء اللفظي في كتابه " ثمن العظمة " حتى أنه حين يتحدث هنالك عن إملي ديكنسون يعلن أن عبقريتها تتجلى " في الكلمات التي تستعملها وفي الطريقة التي تضع فيها الكلمات "

ويستمر قائلا بعد أن يقتبس إحدى عباراتها " دعنا نتساءل باحثين: ما الذي في الكلمات يصنع شعراً من مجموعها " ثم يذهب في تحليلات لغوية مستفيضة، فيعد المرات التي استعملت فيها لفظة " فسفور " وقرائنها، ويتتبع المصادر التي استمدت منها ألفاظها، ومن تلك المصادر أساطير الفروسية وشيكسبير وسكوت والتوراة والأناشيد الدينية وغيرها، ويحلل موارد التشبيهات والاستعارات في فقرة فذة (ومنها خياطة الملابس والقانون، والأحجار الكريمة والحرب الأهلية والتجارة البحرية والجغرافيا واللاهوت التجريدي؟ الخ) وأخيراً يتتبع مختلف الاستعمالات التي ترد فيها اثنتان من أحب الكلمات إليها وهما: " قطيفة " و " أرجوان " (وفي تحليله اللفظة الثانية كشف عن جهله بأن الرومان كانوا يستعملون كلمة " أرجوان " للدلالة على النبل والشرف) . ولما راجع شعر لورا رايدنغ لحظ كيف تسيطر عليها الكلمات المنفية المسلوبة (غير محب، غير ناعم، لا حياة؟) حتى أن بعض الصفحات لتحوي خمس عشرة صورة من صور السلب، وإذن فأن " الآنسة رايدنغ هي ربة النفي التي تضع في قبضتها: ليس ولا وغير ولم ولن؟ ". وقد يقول من يسمع هذه الأمثلة: كل ناقد يقوم يبحث مشبه لهذا، فينقب في المعجم عن معاني الكلمات الغريبة، ويحسب تردد الكلمات والقرائن، وإن بلاكمور لم يزد على أن صرح بهذا العمل وأعلنه في نقده على نحو مفضوح بينما غيره يخفيه ولا يعلنه. وهذا حق إلى حد قليل جداً. بل إذا نظرنا إلى ما حققه بلاكمور قلنا أن هذا القول ليس حقاً أبداً، ولو كان حقاً لكان ذلك خيراً للنقد وأبقى. ذلك لأن بلاكمور متفرد بين النقاد في اعتقاده أن الشاعر لا يلقي للقارئ الجاد - أو للناقد - إلا ما هو معقول وأنه غير مشتط أبداً مهما كلفه في البحث عن المعاني التي يضمنها شعره فإذا كان الناقد لا يعرف فليذهب إلى حيث يجد المعرفة

وليحاول دائماً أن يتعلم. كل شيء تستطيع أن تفهمه بعون من الأضواء الخارجية، وقلما تجد شيئاً لا تستطيع أن تسلط عليه تلك الأضواء، ولذلك يكثر بلاكمور من لفظتي " مسئولية " و " ثمن " (ثمن الاستشهاد، ثمن العظمة) مؤكداً ما يجب أن يبذله المرء من جهد وما يدفعه من ثمن. ولقد حدد في إحدى مقالاته كيف يكفل الكاتب لما يكتبه أقصى حدود المسئولية، وحدد جهد النقد مستعيراً تشبيهات من أحوال الكد البدني، فقال في ذلك المقال الذي أختار له هذا العنوان الساخر: " مضجع دمث للنقاد "؟ قال: " على الكاتب أن يقدر أنه يؤدي أشد الأعمال النقدية مشقة وعسراً، مما يقع في حيز استطاعته، فكأنه يحاول أن يبقي نفسه في موقف المنذعر، كأنه يقف موقف من ستستطيره الشياطين؛ كأنه لن يتعود أبداً على تصريف قواه التخيلية وموارده الشعورية، ولا يحب في الوقت نفسه أن يهبط من قيمتها، ومع ذلك فعليه وهو في هذه الحال من التوقف المعلق أن يحكم ويحسم في حقيقة المهمة الموكولة إليه. بهذا المعنى يكون إنشاء قصيدة عظيمة عملا من النقد الصارم، وقراءتها عملا آخر مقارباً لذلك، وبهذا المعنى أيضاً يسمى العمل النقدي عملا خلاقاً، ويكون توسيعاً لمدى المشاركة سواء أقام به الشاعر أو الناقد أو القارئ الجاد، وعندئذ يكون جهد النقد هو ثمن العظمة، ويكون الربح في معنى الاضطلاع الذي قام به الفرد في كل أدوار هذا الجهد ". وأكثر النقاد في أيامنا هذه يعتقدون أن حسهم النقدي ومعرفتهم أمران متساويان، فهم يقرأون القصيدة قراءة مجهدة ولكنهم لا يعتقدون أن القصيدة تتطلب منهم أن يقرأوا ما عداها، فإذا شئنا أن نقدر قيمة ما يضطلع به بلاكمور ومدى تفرده فيه فما علينا إلا أن نقارن بين جهده في نقد بعض الآثار الأدبية التي تتطلب المعرفة الواسعة وبين جهود الناقدين

الآخرين. وحينئذ نجد أنه لا يدانيه أحد في التحليل اللغوي، ولقد كتبت - مثلا، مقالات لا تحصى عن كمنجز ولكن أحداً ولكن أحداً سواه لم يعن نفسه أمر حصر معجمه. ودع هذا وقارن ما كتبه بلاكمور عن عزرا بوند في كتابه " مزدوجات " بما كتبه ألان تيت في " مقالات محافظة في الشعر والأفكار " Reactionary Essays on Poetry and Ideas وكلا المقالين كان مراجعتين لأناشيد بوند، نشر الأول منهما في " الكلب والنقير " ونشر الثاني في " الأمة " Nation. ويبدأ تيت مقاله بالحديث عن الجهل وقفة الاكتراث، ثم قال في أول جملة له بعد الاقتباس: " المرء لا يعرف من هو هذا المسمى سير لورنتيوس، ولا يقطع بأن معرفته به أو جهله له سيان. غير أن المرء يرتاح إلى ما يتميز به علم بوند الغريب الغامض من سعة وأنفساح، وهو علم لا يكاد ينهض به رجل واحد. وإذا قرأ الواحد منا آثاره ظل غير واثق من المسافة والزمن والتاريخ ". ويمضي بعد ذلك تيت ليكشف عن " سر الشكل الشعري " لدى بوند فيبدو له أنه ليس إلا " محادثة " وأن الأناشيد ليست إلا حديثاً طائشاً مشتتاً، وهذا هو ما تدور عليه تلك القصائد. حتى إذا أفضى تيت بهذه الجامعة من جوامع كلمه، ذهب يحلل النشيد الأول، وحين مر به قول بوند " المكان الذي سبق أن ذكرته كركه الساحرة " علق عليه بقوله: " أي مكان كان " وأخيراً أدى ما لا يعد دراسة بحال، وأصدر بياناً يعلن فيه إلى الحاجة إلى الدراسة فقال: " ولا ريب في أن الأناشيد الثلاثين تكفي لتشغل وقت المرء في دراسة جميلة لا تنقطع - فإذا عينا سنة لكل نشيد فمعنى ذلك أن يستغرق المرء في دراستها ثلاثين عاماً، وأن يقرأ الثلاثين كلها في بضعة أسابيع من أجل نغمتها ". وفي هذا بلغ النقد منتهى التخاذل.

أما بلاكمور فإن مراجعته للأناشيد كانت على النقيض من هذا تماماً. فقد قرر أولا أن الشعر في الأناشيد ليس إلا حجاباً يسميه بوند: " Persona "، فهو يذهب إلى جذور هذه الكلمة اللاتينية، ثم ينفق اثنتي عشرة صفحة في دراسة أثرين كاملين من آثار بوند هما " هيو سلوين موبرلي " و " مراسيم الطاعة لسكستوس بروبرتيوس " ويتخذ منهما مفتاحين للأناشيد، ويحلل القصيدة الأولى بشيء من الاسهاب، ويترجم بيتاً اقتبسه بوند عن الإغريقية، ويفسر ما فيه من إشارات إلى كابانيوس الملحد الذي رماه جوبتر بالصاعقة، ويحشد العبارات التي أخذها بوند من الشاعر اللاتيني بروبرتيوس (19 ق. م) وأدرجها في القصيدة الثانية، ويقارن بين النص اللاتيني وترجمة بوند، وبين ترجمة بوند وترجمة بتلر الحرفية التي نشرتها مكتبة لوب، مقارنة مسهبة بعض الشيء. ثم ينفق اثنتي عشرة صفحة أخرى في تلخيص الموضوعات الكبرى التي احتوتها الأناشيد، ويقول في أثناء ذلك: " إما أن يكتفي القارئ بقراءة الأناشيد نفسها، كأنها شيء مسترسل يوضح نفسه بنفسه، وإما أن يفتش عن المادة التي استغلها بوند نفسه أو عما يستطيع استكشافه منها؟ غير أن الفكر الحي النشيط لا يقف دائماً عند حدود الظن، مهما يكن الظن مقنعاً، أن كان في مقدوره ان يحصل على اليقين ". ويعني هذا أن بلاكمور حين فسر الإشارات الواردة في الأناشيد عن عائلة مالاتستا، اطلع على أربعة كتب عن تلك العائلة وقرأها، وكانت ثلاثة منها بالإيطالية، والرابع منها لم ينشر بعد. وأخيراً يأخذ في تفسير القصائد وتقويمها بعد هذا التحليل الشامل المستوفي. وهذا خير مثل على ما يتمتع به منهج بلاكمور من قوة إذا قارناه بجهل أكثر النقاد المعاصرين وضحالتهم وتراخيهم وتكاسلهم، وإذا كان

تيت مظلوماً في هذه المقارنة، فما ذلك إلا لأننا أفردناه بالذكر دون سائر الناقدين، ولكن تيت ليس بدعاً بينهم بل من الممكن ان تنسحي هذه المقارنة على كثيرين سواه. ولقد يستطيع المرء أن يقارن الفصل الذي كتبه بلاكمور عن الشاعر ييتس في كتابه " ثمن العظمة " بما كتبه بورا عن الشاعر نفسه - بتذوق وإدراك - في كتابه " ميراث الرمزية "، The Heritage. كلا الناقدين حلل " العودة الثانية " غلا أن دراسة بلاكمور للمبنى الصوفي القائم وراء تلك القصيدة، بالاعتماد على كتاب " الرؤيا " ليتس وعلى غيره من الكتب، لتمنح دراسة بلاكمور متسعاً من الفهم والإدراك يفتقر إليه بورا الذي كان يجهل ذلك المبنى الصوفي ولا يكترث بالبحث عنه. أو قد نقارن بين ما كتبه بلاكمور عن ت. إ. لورنس في كتابه " ثمن العظمة " وبين المراجعات التي نشرها مارك فان دورن في مجلة " الامة " ثم ضمنها كتابه " القارئ لنفسه ". وهذه مقارنة عادلة لان فان دورن يلح على ان لا يعرف الناقد شيئاً وأن يكتفي بقول اقل القليل. وكل ما قاله فان دورن عن لورنس انه " معقد إلى درجة المستحيل، وإلى حد لا يطاق " وانه قد يفسر ذات يوم. أما بلاكمور فأنه جلس في هدوء يحاول أن يفسره، فدرس في أثناء ذلك رسائله بعناية وذهب إلى مكتبة الكونغرس في واشنطن ليقرأ النسخة الوحيدة من كتاب آخر للورنس عنوانه: " دار الضرب " The Mint، وهو الكتاب الثاني المسموح به في أمريكة وعندما استعمل هذا الكتاب ورسائل لورنس أدى المهمة التي أحجم عنها فأن دورن وهي كشف معنى ما (أن لم نقل كشف المعنى) في " أعمدة الحكمة السبعة) . بل أننا أحياناً لا تحتاج إلى استجلاب هذه المقارنة بين بلاكمور وغيره من النقاد، لأنه هو نفسه أحياناً يثيرها. فمثلا: عندما تحدث عن قصيدة " أربعاء الرماد " لاليوت في كتابه " مزدوجات " عنف ناقداً

ذكياً مثل ادموند ولسن (ومن مواطن الضعف في بلاكمور شدة مجاملته لزملائه) لأنه نقد القصيدة وهو يجهل مدلوها المسيحي، فاخطأ في قراءتها حين رأى فيها مثاراً للضعف لا للقوة. ولذلك فسر بلاكمور المعنى لالديني لذلك اليوم المسمى " أربعاء الرماد " ومبدأ نكران الذات والاتضاع في المسيحية، والتعاليم المسيحية في العبارة التي اقتبسها اليوت من دانتي، وهلم جرا؛ وكلها أمور لا غنى عنها لفهم القصيدة. فإما إن بلاكمور كان يعرف هذه الأشياء وإما انه كان يجهلها فبحث عنها حتى عرفها؛ أما ولسن فلم يكن يعرفها، ولم يكلف نفسه البحث عنها. ووجد بلاكمور لقاء الجهد المبذول، وجد قراءة دقيقة رصينة ركينة، وجد لقاء ما اضطلع به وهو يؤدي واجبه، وبذلك تجنب الخطأ الجاهل الذي اختاره ولسن. وهذا هو ما يحرزه بلاكمور غالباً فيما يبذله من جهد، وهو كفاء بالكلف التي يقدمها. ولقد يفيد النقاد أمثال تيت وبورا (بورا في هذا الموقف فحسب) وفان دورن وولسن إذا هم تفكروا ليلا في أسطورة النملة والجندب. 2 - إن بلاكمور، مثل اليوت، لم يؤلف كتباً في النقد وإنما نشر عدداً من المقالات والمراجعات، ثم ضم اثنتي عشرة منها في كتابه " مزدوجات " 1935، وجمع ثلاث عشرة أخرى في " ثمن العظمة " 1940، ومنذ ذلك الحين نشر من المقالات والمراجعات ما لا يقل عن اثنتي عشرة أيضاً، ولذلك فقد يسعفنا الحظ بكتاب ثالث له. وقد قضى بلاكمور عدداً من السنوات وهو يعمل في إنجاز سيرة نقدية عن هنري آدمز، ومنها نتف ظهرت في المجلات؛ وأعلن مرة أنه يعد دراسة عن هنري جيمس، وليس له سوى ما تقدم إلا ثلاثة دواوين شعرية

وعديد من " الكراسات " الصغيرة ذات القيمة المؤقتة العارضة. وحتى يصدر كتابه عن آدمز وكتابه عن جيمس ومجموعة ثالثة من مقالاته يظل كتاب " مزدوجات " خير مثل يستحق منا القول المفصل. ومفتاح هذا الكتاب في عنوانه الفرعي: " مقالات في البيان والتبيان " ولعل بلاكمور ان يكون أدق قارئ متفرد في النقد الأمريكي وإذا علق على قصيدة فلا يبذه في ذلك إلا وليم امبسون بانجلترة، ولذلك فان أكثر كتابه شرح وتوضيح للنصوص. وقد أشرنا من قبل إلى دراسته للغة كمنجز وأناشيد بوند، وشعر ستيفنز، وهارت كرين، وفي هذه جميعاً خير طراز من الشرح لعدد من القصائد الصعبة، وكذلك هي دراسته لماريان مور والآخرين. ولعل خير مثل مركز من هذه الدراسة هو القسم الثاني من مقالته " أعتاب جديدة، وتشريحات جديدة " وعنوانه الفرعي " ملاحظ على نص من هارت كرين ". وهذا القسم كله شرح مستفيض لا مدخل فيه لغموض، لمقطوعة ذات أبيات أربعة عنوانها: " حانة " ولسبعة أبيات من قصيدة " دموع المسيح ". ومن الأمثلة النموذجية في ذلك الشرح ما كتبه بلاكمور حول بيت من القصيدة الثانية جاء فيه: " الناصري والعينان اللتان كأنهما الحراق (1) ". ومن الوسائل التي يعتمد عليها بلاكمور في الشرح والتفسير أن يضيف

_ (1) الحراق Tinder مادة صوفية ناعمة تستعمل في إيراء النار بالقدح وهي تذكر بالكلمة tender فكأن الشاعر - حسبما يرى بلاكمور - قد اختارها عمداً للدلالة على ما يجاورها من ناحية صوتية، والحراق يستعل بسرعة فالصورة ملائمة لحال العينين، ويقول كرين أيضاً في القصيدة " أن القمر يرسل البنزين النقي "، والبنزين سائل محلل مطهر، وقد رمز به إلى ضوء القمر فناسب المقام، كما أن صوت الكلمة مناسب لنغمة Nazarine (الناصري) - هذا ما قاله بلاكمور وقد أشرنا إليه هنا لان ترجمته بدقة تعد متعذرة.

المادة المركبة أو قل أن يفهرسها، ثم يصبح لهذا التصنيف قيمة ذاتية مستقلة. وهذا يصدق على عرضه للموضوعات الكبرى - موجزة - في أناشيد بوند، وهو يصدق كثيراً على مقال له في " مزدوجات " كتبه عن فواتح جيمس ونشره في " الكلب والنفير " وجعله مقدمة لفواتح جيمس عندما نشرت بعنوان " فن القصة " The Art of the Novel. وهنا يضع بلاكمور ما يسميه " فهرستاً انتقائياً أو ثبتاً مؤقتاً " يدرج فيه المسائل الكبرى والموضوعات الهامة التي يتحدث عنها وبدل على مواضعها ثم يفعل ذلك نفسه في الموضوعات الصغرى. ومن ذلك كله ينتهي إلى فهرست نقدي مكون من عشرين صفحة لكل الأمور المتعلقة بفن القصة عند جيمس، وهي بالغة القيمة للمبتدئ الذي يريد أن يقرأ فواتح جيمس، وللمختص الذي يحاول أن يستمد شيئاً من الفواتح في بحثه، كما أن فارس بلاكمور هي في ذاتها عمل نقدي أيضاً. وبما أن بلاكمور شاعر فانه ينفق كثيراً من جهده في نقد الشعر، ولذلك جاء ما يقارب ثلثي كتاب " مزدوجات " في نقد هذا الفن؛ وليس من الغريب إذن أن يتحول إلى الحديث عن أمور عامة في الشعر حين لا يجد أثراً شعرياً معيناً لينقده. ومما تجدر ملاحظته انه قلما يحلل النثر أو يكتب في مسائل النثر وفنيته، وإذا راجعت ما كتبه في النثر وجدته يتعلق بمشكلات متصلة بالمتفنن نفسه كدراسته عن ت. إ. لورنس وملفل، أو بالأفكار وبخاصة الأخلاقية منها كدراسته عن دستويفسكي وآدمز. غير انه أيضاً لم يكتب شيئاً في النظرية الشعرية، وإنما ينشا حديثه عن فنية الشعر من مسائل ومشكلات محددة باعيانها، فهو يتحدث عن القافية حين يعرض لشعر ماريان مور وطريقة استعمالها للتقفية، وهو يتحدث عن الصور والاستعارات حين يقارن بين ستيفنز وبوند واليوت في مقاله عن الأول منهم ويتحدث عن الشكل الشعري عرضاً إذ يتصدى

للحديث عن لورنس، ويشير عابراً إلى أمور الإيقاع والأوزان، ولم يكرس كثيراً من انتباهه للعروض لأنه يعده حشواً في فنية الشعر. وإذا قارن بين استعارا ستيفنز واستعارات غيره من الشعراء ابرز وسيلة أخرى من الوسائل الكبرى التي يستغلها في " مزدوجات " وهي المقارنة بين القصائد وبين الشعراء. فمثلا يتوصل بلاكمور إلى رأيه في طبيعة ترجمة بوند لأشعار بروبرتيوس بمقارنة الترجمة بالأصل اللاتيني خطوة خطوة، لا بالحديث عنها تجريداً. ويقارن بين بوند واليوت وستيفنز، فيجد أن خيال ستيفنز غير معتمد على البصر مثل بوند ولا هو درامي مثل خيال اليوت ولكنه خيال خطابي؛ وهذا التصنيف هو الأساس الذي نقوم عليه مقالته. ويوضح في مقاله عن لورنس ما يسميه " هستيريا " لورنس وذلك بمقارنة موقفه بموقف اليوت الذي تدل عباراته على " هستيريا منضبطية ". ويثبت نقص الإحساس لدى كرين بان يحشد حوله مقتبسات من دانتي وشيكسبير وبودلير وييتس وستيفنز؛ ولكن بلاكمور لم يوغل في المقارنة إيغال اليوت الذي ينقلها أحياناً إلى شيء بعيد عما ينتقده، ويظل يبعد بها في استحضار أمثلة متشعبة حتى تتلاشى صلتها بالشيء المنقود، ويقتصد بلاكمور في المقارنات، وقد يسهب في تبيانها ولكنها في كل حال تخدم غاياته خدمة جلى. وليس في كتاب " مزدوجات " استمداد علني من اكبر منبعين يستمد منهما النقد المعاصر اعني علم التحليل النفسي والماركسية، وأن كان فيه تأثير خفي لهما. وينتج هذا من إحدى فرضيات منهج بلاكمور وهي فرضية استمدها من اليوت في دور مبكر ووضحها في دراسة له عن اليوت نشرها عام 1928 في " الكلب والنفير "؛ ومؤدى هذه الفرضية أن النقد يجب أن يتناول الأدب من حيث هو أدب، لا من حيث يمثل أي شيء آخر. حتى حين يستمد بلاكمور علناً من علم النفس، كأن يتحدث

عن المرض الهستيري عند لورنس، تجده يستخدم سيكولوجيا أدبية في طابعها، فهو يصر على أنه لا يشخص مرض لورنس ولكنه يرى ان " الحقيقة في شعره وفي نثره الأخير؟ ذات طابع هستيري ". أما النقد الاجتماعي فابرز موطن استخدامه فيه بلاكمور هو حديثه عن " عودة المنفي " لمالكوم كولي 1934 وعن كتاب اليوت " بحثاًً عن آلهة غريبة " وفيه يقول: " أراني من وجهة سياسية اتفق مع كولي " ثم يقول: إذا اخترت اتجاهاً سياسياً ووجهت فكرك لتصل من ذلك الاختيار إلى نتيجة أصيلة فليس يستتبع هذا أن اتجاهك السياسي سيؤثر تأثيراً مباشراً فيما تكتبه إن كنت كاتباً. وليس مما يستتبع هذا أنك قد كشفت عن ضرورة سياسية واتخذتها شعاراً لك، عن كنت ناقداً. أن الكاتب أو الفنان، في أي ميدان، هو مرآة مستقلة لمجريات الحياة التي تستغرقه، ما دامت له إرادة في أي شان من الشئون، وهو يخلق عن طريق الإبداء والتمثيل والنقل، وليس يتغير من أسلحته إلا السخرية التي يتمتع بها ذكاؤه، والتي يسلطها على الحقير والبليد؟ وقد ينفق أن تكون معتقدات الكاتب السياسية أساسية في فنه، حين تظهر فيه بقوة ضمنية لا جهرية، كقوة الدم على العودة في العروق، وربما لم يتفق لها أن تكون كذلك. ويجب على الفنان أن يحتفظ لنفسه بحقه في أن يعرض ما يراه وما يحس به من المشكلات الإنسانية، والشيء الوحيد الذي قد نتطلبه منه هو أن لا يعرض ما لا يراه ولا يحس به بل ما يعتقده لأسباب سياسية أو غير سياسية. وينتهي بلاكمور من هذا إلى أن كولي واليوت قد اريانا طرقاً " تحسن منزلتنا كمواطنين " غير أن الغاية القصوى هي أن يضيفا " إلى

منزلة استقلالنا كفنانين ". وقد تنبه بلاكمور إلى أنه جار على النقد الاجتماعي حين تنكر له باسم " النقد السياسي " أي حين ابصر منه أسوأ احواله؛ ولذلك تجده يلح على ان هذه المعايير الاجتماعية تظل صحيحة ركينة ما دام يحددها برصانة ناس مثل كولي، أما أمثال غرانفل هكس وهوراس غرغوري فأنهم دائماً يسيئون استغلالها وتمثيلها. (ومن سقطات بلاكمور في هذا المقام أن يقول: " عن كانت بيرز بلاومان Piers Plowman تعالج الصراع الطبقي، فان حكايات كانتربري لم تعالج شيئاً من ذلك ". ولا مرية في أن حكايات كانتربري أدل على الصراع الطبقي من غالبية الآثار الأدبية لأنها تصور في افتتاحها انهيار الإقطاع بين الفارس وتابعه، وتتطرق إلى الفوارق الطبقية الحادة في أكثر الحكايات. ما أكثر الأمثلة التي قد يختارها بلاكمور، وكم كان من الأسلم له لو انه اختار قصيدة " قبلاي خان " أو ما أشبهها) . ولنقل شيئاً في السخرية عند بلاكمور فان استعماله لها في كتاب " مزدوجات " غزير واسع. وتصبح لديه في أحد طرفيها نوعاً من الفكاهة (كان يقول: هذه تهمة حادة لكنها لا تجرح) وهي في الطرف الثاني تحفظ شكي حذر مترامي الأطراف. وفي الفصل الأخير من كتابه يسوي بينها وبين الفكر الحر فيقول: توجد، لحسن الحظ، نماذج من التفكير الطليق البارئ من التقعيد؛ دعنا نتجه بأفكارنا كالمتأملين لنكحل أنظارنا بأنوار أفلاطون - في مرحلته الأولى - وبأنوار مونتين - في كل مراحل حياته -. أليس الحافز الحي والخصب في حواريات أفلاطون ومقالات مونتين إنما مردهما إلى عدم التقعيد و " الترسيم "؟ أليس أن أفلاطون - في عهده الأول - يمسك بالأفكار المتصارعة في توازن متبادل، ويقدمها لنا في

عراك وتطور ولا يحكم بالنصر لأحدها غلا في النهاية؟ أليس أن مونتين يفسح المجال دائماً لفكرة أخرى، ويهيئ دائماً مكانا ثالثا لسخرية مؤقتة تفصل في النزاع بين الفكرتين؟ أليست الأشكال التي ينشئها كل من الرجلين قائمة على السخرية لأنها دائما تفضح الازدواج في كل فكرة، في أعمق اعماقها، فهي تدل عليها كأنها تعرضها للاتهام الذاتي، وتبرزها في معمعان الحياة لا محصورة في البحث الحيوي، يصبح حين نستعيره ونزاوج بينه وبين حاجاتنا هو المسلك العقلي الوحيد لتكثير المبادئ وضروب " التقنيات " المتغطرسة التي تملأ أوعية التفكير النقدي لدينا. أما إن كان المفكرون والفنانون اقل شاناً من أفلاطون ومونتين، أو كانوا مثلهما عظمة لكن آثارهم أدنى منزلة، فها هنا يضيف بلاكمور قائلا: " علينا أثناء القراءة والنقد ان نضيف الشك والسخرية من لدنا ". وقد يضيف بلاكمور نفسه هذه السخرية في كتاب " مزدوجات " على نحو حذر من التجريب؛ وإليك هذه الأمثلة: " ليس من العسير أن نطبق هذه القسمة على كرين إذا قمنا بها تجريبا دون أن نتطلب منها أن تكون مثمرة، أو أن تكون هي القول الفصل ". " يجب ألا نوغل في استقواء النظير لان قيمته غنما تكمن في عدم انطباقه انطباقاً كاملاً ". " أن هذه العبارات التي نريد بها تمييز هذا من ذاك إنما هي خاضعة للتصحيح والتسديد ". ومثل هذا المسلك الحذر التجريبي غير الحاسم يجذب إليه القارئ

بأكثر مما يستطيعه النقد في العادة، ولا ريب في أن بلاكمور يحسب دائماً حساب قرائه. وهو يتوقع ان يكون القارئ ذا فكر مدرب على تقبل الشعر أو انه " سينظر ويقرأ كأنما هو ذو فكر مدرب "، وهو يقر أن غاية النقد هي التذوق ولكنه يضيف إلى ذلك قوله في عبارة مونقة تشبه في حوكها أسلوب جيمس: " إلا أن التذوق نفسه يستطيع أن يكون ذا معايير يقيس بها صحته ورصانته، ولابد له، لكي يكون مكتملاً، من أن يدل على فهم " دائم " لغاية هي النتيجة الضرورية، بل هي الثمرة الصحيحة، لما فيه من صحة ورصانة ". وللنقد مهمتان - أولاهما - حسبما يحددها بلاكمور - هي " توسيع الافلة للخصائص الذاتية " والثانية هي الحكم على منسوب الأداء، أي بعبارة أخرى: مهمة النقد أن يحلل وان يقوم. وفي الأول يلح بلاكمور على أن يقود النقد القارئ دائماً إلى الأثر الفني؛ وهو يكتب ويقتبس دائماً اعتقاداً منه أن تحليله سيحول نظر القارئ إلى جزئيات القصيدة، لا انه يكتب للقارئ شيئاً مفهوماً يقوم مقامها ويغنيه عنها. وفي الثانية تجده يلح على أن يقرأ القارئ بفكره لا بعينه، وان يجرب الشكل والمحتوى، وان يحب الشعر من حيث هو شعر، وان يتقدم من القصيدة أما بزاد من المعرفة الواسعة أو بقدرة على بذل الجهد والصبر المصني. أي أن القارئ الذي يتصوره بلاكمور قريب الشبه من القارئ المثالي للشعر، وهو شاعر آخر أو ناقد مثل بلاكمور نفسه. ولا ريب في أن بلاكمور يدرك ندرة مثل هذا القارئ بين القراء الذين يمثلون جمهوره القلي، ولكنه مع ذلك قد يرفض ان يتنازل عن موقفه من اجل الكثرة الغالبة. ولا يدرك وحدة كتاب " مزدوجات " إلا قارئ يحسن ترتيب المقدمات، هذا على الرغم من أن الكتاب مجموعة من المقالات العارضة والمراجعات. وهو يحوي قطعاً كبرى مثل دراسته لكمنجز وبوند وستيفنز

وكرين ود. هـ. لورنس وماريان مور وكتابات اليوت بعد أن تحول كاثوليكياً، وفواتح جيمس، والنقد الأدبي المعاصر، وإلى جانب هذه قطع صغيرة ثلاث. هي مراجعة لكولي واليوت معاً، ومراجعة لكتاب " الموروث العظيم " من تأليف غرانفل هكس، ومراجعة لبعض كتب كتبت عن صموئيل يتلر، وكل هذه الثلاث نشرت في " الكلب والنفير ". فإذا كانت القطع الكبرى توضح الواحدة في كتاب بلاكمور إيجاباً فالقطع الصغيرة توضحها سلباً، لأنها تدل على ما لا يرتضيه في حيز تلك الوحدة، فهو لا يرتضي المعايير المسيحية التي يستغلها اليوت والراديكالية التي يستعملها كولي والتشويه المتحيز لدى هكس والتور والتعنت لدى بتلر، وكلها معايير خارجة عن مجال المقاييس الأدبية. أما الوحدة الإيجابية فإنها كامنة في غموض العنوان " مزدوجات " لان بلاكمور لم يفصح بتلك المزدوجات في كتابه، ولكنها تتبلج لفكر القارئ تدريجاً. فالشعر مزدوج اثنيني لأنه يتكون من شكل ومحتوى، ومن عادة محسوسة وقوة تخيلية؛ والنقد مزدوج لأنه يتضمن التحليل والتذوق، وألفة الخصائص الذاتية وتقويم الأداء؛ والشعر والنقد معاً مزدوجان لأنهما يعينان " البيان والتبيان " وكل اثنتين من مصطلحات النقد مزدوجان: الشكل والمحتوى، المبنى والنسيج، الكاتب والقارئ، الثابت والمتحرك، الموروث والثورة، التعبير والنقل، ومن تواشيح هذه جميعاً ينشا شيء ثالث هو القصيدة أو المقالة أو هو في هذا الحال كاتب بلاكمور. ومن غموض العنوان يختبئ وراء القسمة الازدواجية فيه مصطلح ثالث واجهه بلاكمور من بعد علناً فتحولت مزدوجاته الثنائية إلى ثلاثيات. 3 - ليس لبلاكمور منهج محدد مرسوم وغنما لديه مزاج من الخصائص والتقريرات ولذلك لا يمكن أن نورد لطريقته تاريخاً ونسباً بعيداً، وإنما

نستطيع أن نذكر نسبها القريب، أعني أن نذكر الأشخاص الذين يستعد منهم ويستوحي بعض آرائهم. لكن هذه مسألة معقدة لأنه إذا استثنينا ولسن ثابت كان بلاكمور اشد النقاد الأحياء استمداداً وانتقاء. أما ثابت فقد استمد واعترف بأنه يستمد من كل ناقد إنجليزي معاصر على وجه التقريب ابتداء من مري وريد حتى الآنستين سبيرجن وبودكين. وعلى النحو نفسه نرى بلاكمور قد استغل كل ناقد حديث مشهور في كل من إنجلترة وأميركة وان باين نايت في مقدار الرفض والغربلة والتعديل لما يستمده. وإذا ذكرنا الاستمداد في حال بلاكمور بدأنا بذكر اليوت، لان بلاكمور نشأ في أول عهده على تبجيله وتقدير نقده وقد كتب عنه أولى مقالاته النقدية في " الكلب والنفير " فأثنى عليه هنالك لأنه - أي اليوت - " يلتزم بالحقائق فيما ينقده من حيث صلتها بالأدب، وبه وحده " ومن ثم فأنه " نسيج وحده لا في الحاضر فحسب بل في الماضي؛ ففيه شيء من آرنولد وبعض من كولردج وقليل من دريدن وبين الحين والحين شيء من الدكتور جونسون، إلا أن اهتمامه بدريدن من بينهم هو الاهتمام المخلص الجامع ". وهذا غير صحيح طبعاً، ولكن من الممتع أن نرى بلاكمور يضع هذه القائمة من الاسماء، وهو في سن الثالثة والعشرين، يوم كان يعتقد انه يستمد نقده من مذهب اليوت في النقد. ثم استكشف بلاكمور أهمية هنري جيمس وفواتحه النقدية، يوم كتب عنه بين 1928، 1930 فقال أنه " اعظم أرباب الأقلام الأمريكيين وأكثرهم تنظيماً ولعلي اعتقد انه أشدهم إنسانية ". وقد أشبعت مقالات جيمس رغبته في النقد الفني، ولما درس الفواتح قال فيها: " إنها أكفأ نقد أدبي بل اعتقد إنها افصح وأصل قطعة من النقد الأدبي وجدت أبداً "، ولا يدانيها إلا مقالات أخرى لجيمس. ولعل نقد جيمس كان العامل الأكبر في تحديد

نقد بلاكمور وتشكيله، في الاتجاه المجازي وتطبيق الإحساس والإلحاح على القيمة الرفيعة للفن بل في الأسلوب نفسه (انظر فيما تقدم جملة وصفت بأنها تشبه إنشاء جيمس، وغيرها كثير يستخرجه القارئ عفواً دون تعمد أو بحث) . ولم يفارق بلاكمور أستاذه مفارقة واضحة غلا في الموضوع، لأنه سلط تحليله على الشعر لا على النثر، ونقد آثار غيره لا آثاره نفسه، حتى لنقول: أن نقد بلاكمور هو نقد جيمس نفسه مطبقاً في مجالات أخرى. ولا ننس تأثيرات أخرى عدا تأثير جيمس. وفي أولها وربما كان أهمها تأثير اليوت في الفكرة والأسلوب: فمثلا يفرق بلاكمور بين العاطفة في الشاعر والعاطفة في القصيدة وهي تفرقة مستمدة من اليوت. وفي بعض جمله تلمح أسلوب اليوت أيضاً وهو أسلوب جيمس نفسه، مع تكثير من المعترضات والتردد وتبسيط للتراكيب، حتى أن هذا الأسلوب ليوحي إليك (ويضلل بما يوحيه أحياناً) بان التعبير الموجز المبسط يحتوي أفكاراً معقدة دقيقة. وقد استغل بلاكمون كثيراً مما يتميز به اليوت وما يردده من مبادئ وتأثر بأسلوبه، فوضع نفسه في صف الآخذين من نقده بل انه في السنوات الأخيرة تحول مثل اليوت إلى النص على النواحي الأخلاقية. وقد شغلت باله عبارة اليوت: " الضجر والرعب والمجد " الكامنة وراء الجمال والقبح، فاقتبسها - على الأقل - أربع مرات حسبما أحصيت. ولقد بدأ بلاكمور بالثناء على اليوت سنة 1928 حين وصفه في " الكلب والنفير " " بخصوة مشذبة الحواشي في أفكاره ". وفي سنة 1944 نشر مقالا عنه بمجلة Partisan فأعلن أنه يوافقه في كثير من معتقده الذي تحدث عنه في " ملاحظ نحو تعريف الحضارة "، ويخالفه مخالفة حادة فيما جمجمت به آراؤه هنالك دون تصريح. ولذلك يمكن أن نقول أن موقف بلاكمور من اليوت كان ثابتاً لا تردد فيه، ومجمل هذا

الموقف أنه يعترف بما يوافقه فيه وما يخالفه، وأنه يفيد من الآراء التي يتقبلها ويرفض ما عدا ذلك. وهنالك تأثير آخر تمثله بلاكمور وخالفه أساساً، وذلك هو تأثير الأستاذ يرفنج بابت. فقد بدأ بلاكمور بمقال عنيف عن النزعة الإنسانية (1930) هاجم فيه بابت وأصحاب تلك النزعة بحدة حادة ووصفهم " بالعجرفية والعمى والجهل الجائر " ولم يجد لديهم شيئاً يستحق الثناء. ثم كتب مقالا أخر عن " النزعة الإنسانية والخيال الرمزي أو تعليقات على قراءة بابت من جديد " نشره في خريف 1941 بمجلة الجنوب، فعزا فيه قصور بابت إلى انه يمر " بالنموذجي " في الحياة عابراً، ولا يعير " القوى الخفية الأرضية " اهتماماً، وهذا كله من صور " التحلل في الخيال المسيحي ". ثم يتحول بلاكمور عن مجرد الرفض لمبادئ بابت إلى قبولها مع توسيع لها وتعدليل فيها فيقول: " علينا أن نهتم بالبناء لا بالهدم "، علينا أن نعيد الاهتمام بالقوى الأرضية وان نعيد الخيال المسيحي، ولكن بلاكمور يسمي هذا الخيال باسم دينوي هو " الخيال الرمزي "، وكأن بلاكمور عاد يؤمن بالنزعة الإنسانية مضيفاً إليها هذا الذي يسميه " الخيال الرمزي "، ولذلك استمد المصطلح الخلقي عند بابت مثل: نظام - تناسب - اعتدال، وجعل من هذه الاصطلاحات معياراً جمالياً يعيش به الشكل الشعري وأضاف إليها اصطلاح " الأرضي ". ولقد كان اتصال بلاكمور بهارفرد، وإن لم يدرسوا فيها، ذا أثر فيه، وكان بابي ذا يد في هذا الأثر، ومن بين النقاد اللذين تلقوا تأثير بابت نجد اثنين لا يقبلانه محض قبول ولا يرفضانه محض رفض وإنما يستمدان منه ما يلائم حاجاتهما، وهما بلاكمور وفرنسيس فرغسون. أن تأثير بلاكمور بكل من جيمس وأليوت وبابت وسانتيانا أيضاً في

فكرته عن " الجوهر " قد أصاب النزعة النقدية لديه وطريقته في ممارسة النقد. أما من الناحية " التقنية) فإنه تأثر بصف آخر من النقاد المعاصرين فيهم رتشاردز وأليسون وكنث بيرك. وقد أستمد بلاكمور الشيء الكثير من رتشاردز (حتى كتب عنه يقول: ليس ينجو ناقد أدبي من تأثيره) . ويبدو أنه يجله غاية الإجلال ولكنه يبدي تحفظات حادة إزاء الميل العلمي في نقد رتشاردز. ولما كتب في " مزدوجات " فصلاً عن ماريان مور، تعرض لذكر رتشاردز، وكان تقبله لتأثيره حينئذ على أشده، فقال فيه أنه خير ناقد معد للحكم والحسم، وقال في موضع آخر: إن كتاب " آراء منكيوس في العقل " خلاب جذاب لكنه غرار، أما " معنى المعنى " فإنه صورة لبضع مئات من الكلمات الفقيرة وقد جعلها المؤلف منبعاً للعلم الشفوي. ثم قال فيه: " إنه ناقد معجب " " لا ينازعه أحد في حبه للشعر ومعرفته به "، ثم لامه لأنه جعل نفسه ضحية للمشكلات الأدبية العملية التي تمتد وتمتد ولا تقف عند حد، ولأنه على وجه الجملة يحاول أن يحول النقد الأدبي إلى علم اللغويات ويسلم بلاكمور بان مثل هذا العمل شيء هام، ثم يضيف إلى ذلك قوله: ولكني أريد لهذا النقد أن يواجه دائماً - وهو مستغرق في مهمته - أمثلة من الشعر، وإنما أريده كذلك، من أجل أن يساعد عملياً في تذوق اللغة في ذلك الشعر - في تذوق استعمالاتها ومعانيها وقيمتها. وأريد منه أن يساعدني في أن يحقق لي ما يساعد السيد رتشاردز في تحقيقه، وهو يقرا الشعر من أجل الشعر ذاته؛ مهما يكن ذلك الشيء الذي أتطلبه منه. ولب الخصومة بين بلاكمور ورتشاردز يتمثل في قوله: " الشعر هو

معنى المعنى " وذلك ما قاله في مقال له بعنوان " اللغة من حيث هي إشارات " نشر بمجلة Accent في صيف 1943. أما ما بينه وبين أمبسون تلميذ رتشاردز فإنه محض وفاق، لان امبسون يؤدي في النقد ما يتطلبه بلاكمور بدقة، اعني انه يسلط نظريات رتشاردز على النصوص الشعرية. ويبدو ان بلاكمور لم يتأثر بالكتاب الثاني الذي كتبه امبسون عن " الرعوي " أما كتاب " سبعة نماذج من الغموض " فكان ذا أثر كبير فيه. حتى أن ما كتبه في " مزدوجات " عن ستيفنز وكرين ليس إلا كشوفاً امبسونية في الغموض، أي تفريعات لا تنتهي من مضمونات الصور والألفاظ الشعرية. ويبدو أنه يشارك امبسون الإيمان بان الغموض في الشعر سر تأثيره، على شريطة ان يكون غموضاً منضبطاً محدداً. ومما يصور تأثره بامبسون قوله في مقال " اللغة من حيث هي إشارات ": " عن كلمة من كلمات شيكسبير تهجى على نحو ما في إحدى النسخ ثم على نحو آخر في موضع آخر ثم على نحو ثالث في موضع ثالث لتحمل في ذاتها المعاني التي توحي بها التهجئات الثلاث وتزيد إليها معنى رابعاً أي انه مثل امبسون يضرب بقراءات العلماء لنصوص شيكسبير عرض الحائط. وفي مقال له عن ييتس يتبع أيضاً هذه الطريقة الامبسونية فيستغرق في تحليل معاني كلمة Profane حسبما يستعملها ييتس في إحدى قصائده. وإذا تجاوزنا النقاد المعاصرين وجدنا تأثر بلاكمور بالناقد كولردج ضئيلاً، ولكنه يدخر اكبر إجلال لأقرب المعاصرين شبهاً بكولردج اعني الناقد كنث بيرك، وكثيراً ما أعلن انضواءه تحت راية هذا الناقد، وقد اقتبس منه عدة مرات في " مزدوجات " أثناء تحدثه عن ماريان مور، مستملحاً آراءه وأن لم يبرأ من مقاومته لها. ثم هو يضعه في صف مع بيرس لاشتراكهما في " النشاط والتميز الواضح في التأملات "

ويضيف قوله: " كلاهما يبعث الحيوية والنشاط في المرء وأن لم يكن يؤمن بالصدق فيما يقولان "، ويشكو بلاكمور من كنث بيرك كواه من رتشاردز: يستغل رتشاردز الأدب محطاً لفلسفة القيم ويستغل بيرك الأدب لفلسفة الإمكان الخلقي، ويقول: إن موطن الضعف في طريقة بيرك أنها قد تستغل على السواء في دراسة شيكسبير وداشيل هامت أو ماري كورلي، وتؤتي نفس الثمرات في كل آن (أهذا ذم للطريقة أو مدح لها؟ أليس هذا دليلا على قوتها؟ لقد أقر بيرك بهذه التهمة منذ عهدئذ) . وحكمه النهائي على طريقة بيرك إنها لا تستغرق كل الأدب - وذلك عيب طريقة رتشاردز أيضاً - ولكن إذا استعملها ناس حذرون مقتصدون مثل بيرك جعلوا منها طريقة مثمرة سديدة. وفي " ثمن العظمة " يستمر بلاكمور في الاقتراب من بيرك مستغلا مبادئه ومناهجه مثل فكرته عن الشكل الضمني، ومصطلحاته الخاصة مثل " التحول الدنيوي " بل مستمداً منه مقتبسات من تعليقاته وملاحظه. وفي خريف 1939 نشر بلاكمور مقالة عن آدمز في مجلة الجنوب، فحشد لبيرك أقصى ما لديه من ثناء وجعله صنواً لمونتين في السخرية فقال: أضف الصراحة والحذلقة إلى الخيال، فإذا كان المزيج الذي تصنعه متناسباً نتج لك خيال حر، رجراج وثاب يستطيع أن ينعكس انعكاساً دائماً مباشراً على المجتمع المتحرك دون ان تعيقه عن ذلك سرعة الحركة أو الطاقة والاتجاه. ووجود صاحب هذا الخيال أمر نادر، ولكنه أن وجد كان متقدماً على عصره بل هو في الحق متقدم على كل عصر وإن وجدت أمثلته من الماضي السحيق. مونتين في بعض أحواله كذلك. وقد يصبح أندريه جيد واحداً من هذا الفريق. أما في بلدنا

فلعل بيرك هو ذلك الرجل إلا حين تستولي عليه " الحمية والعصبية ". ولما كتب بلاكمور مقاله " اللغة من حيث هي إشارات " أعتمد على آراء بيرك وأقتبس منه كثيراً، وفي ذلك المقال حاول أن يحدد العلاقة بين نقده ونقد بيرك فقال: عن طريق الخيال أوجدت مقدمةً كتلك التي اهتدى إليها بيرك من الزاوية العقلية، أعني أن لغة الشعر قد تعتبر عملا رمزياً. وهذا هو الفرق بيني وبين السيد بيرك: إنه هو معني بإقامة المناهج لتحليل الأعمال التي يعبر عنها الرمز أما أنا فأوثر أن أهتم بالرمز المختلق. وهو يستكشف أحجية اللغة حين تتحول رمزية وأنا أحاول من خلال الأمثلة المتنوعة المتدرجة أن أرى كيف يمنح الرمز للأعمال في اللغة حقيقة شعرية. فالسيد بيرك يشرع وأنا أقضي، أما الذي يتولى التنفيذ فهو في مرحلة واقعة بيننا. وقد استمد بلاكمور علناً من عدد آخر من النقاد فيهم أيفور ونترز وجون كرو رانسوم. وأثنى بلاكمور على ونترز في مجلة شعر، (تشرين الثاني: 1940) وأدرج ما كتبه عنه في كتابه " ثمن العظمة " فاستحسن هنالك نفاذ بصره في النواحي الخلقية " وألفته للمادة والشكل في الشعر والنثر الفني " وغير ذلك من فضائله. وقد استمد منه " بدعة الشكل المعبر "، أي ان الفكرة حسن تتحول إلى كلمات فقد انتحلت خير شكل مناسب لها، وان خير ما يعبر عن التفكك سياق شكلي مفكك وهكذا، وقد استغل بلاكمور هذه النظرية في كتابيه، ومن حولها ركز نقده لشعر د. هـ. لورنس، واستغلها أيضاً ليحطم أدباء مثل توماس وولف وكارك

ساندبرغ، ومن هم أعلى شاناً من هذين. ولم يستعر من رانسوم إلا اصطلاح " المبنى - النسيج " واستعمله على نحو تجريبي. وفي الوقت نفسه تأثر رانسوم، بل كل مدرسة الجنوب وبخاصة ألان تيت وكلينث بروكس بآراء بلاكمور، وكلهم يقتبس منه ويعترف له بالمقدرة بل أن رانسوم يقدم اسمه في كتابه " النقد الجديد " ويعتبره النموذج الكامل للناقد الجديد، لأنه انتقائي أصيل معاً. وهو يسبغ عليه في مراجعاته ومقالاته صنوف الإطراء. والحق أن بلاكمور، بموقفه الانتقائي قد اثر في كل النقاد المعاصرين على وجه التقريب وبخاصة النقاد الشبان، حتى بيرك نفسه أثر فيه وتأثر به. - 4 - ما دام بذل الجهد الجاهد هو ما يميز طريقة بلاكمور في النقد فلنتقدم من اتجاهات نقدية أخرى تعتمد على الكد والجهد، من اجل المقارنة. ولنقرر بادئ ذي بدء أن اغلبها أدنى حظأً من طريقته جهداً وكداً حتى تكاد لا توازيها ابداً، وأكثرها يقع في باب الدراسة المختصة، وما كان من هذا الباب فقد عالجناه في فصل سابق (1) ، غير أن بعضها يستحق أن يذكر في هذا المقام لأنه فردي الطابع غريب الصبغة. وإذا ذكرنا كلمة " غريب الصبغة " ذهب الظن سريعاً إلى عزرا بوند وطريقته في النقد. أما فكرة بوند في النقد فإنها جد متواضعة، فالنقد لديه هو ان يقف المرء عند رف كتبه ويدل صديقه أي شيء يقرؤه، ولكن بوند في وقفته عند رف الكتب يلقي جهداً عظيماً وهو يبدي رأيه لصديقه وقد حدد خمسة أنواع من النقد في " اجعلوه جديدا ": Make It New، وهي:

_ (1) انظر الفصل السابع من هذا الكتاب.

1 - النقد عن طريق المساجلة والمحادثة فهو يبدأ من محض الثرثرة والسفسطة المنطقية والتشغيب ووصف النزعات ويتدرج إلى تسجيل محدد واضح للاتجاهات وإلى محاولة لتقرير المبادئ العامة. 2 - النقد بالترجمة. 3 - النقد بالتدريب على محاكاة أسلوب عصر ما. 4 - النقد عن طريق الموسيقى؟ وهذا معناه على التحديد ترتيب كلمات الشاعر في وضع جديد؟ وهو أكثر أنواع النقد حدة باستثناء النوع الخامس. 5 - النقد في صورة خلق أدبي جديد، فمثلا نقد سنيكا في " آغون " لاليوت أشد حيوية وأقوى من مقالة اليوت عن سنيكا نفسه. وليس في الأنواع الخمسة ما يسمى نقداً، من حيث المتعارف، إلا النوع الأول، أما سائرها، وكلها مما حاوله بوند، فليست تقوم مقام النقد الناشئ عن المساجلة والحديث أو تتفوق عليه وإنما هي تكملة له تتطلب جهداً. وقد صدر بوند أول كتبه " روح الرومانس " قبل الأخذ في التفسير والتحليل التذوقي بمقدمة حدث فيها ترجمات جديدة لقدر صالح من المادة ابتداء من دانتي حتى السيد. وفي هذا الكتاب نفسه استغل النوع الأثير لديه من النقد وهي المحاكاة الساخرة، فحاكى فيها تنفج وتمان وانتفاخه ليبرز في ذلك أخطاءه. وقال بوند في كتابه " أبجدية القراءة " ABC of Reading إنه عجز عن أن يترجم كاتولس وفيون ولذلك وضع شعرهما وضعاً موسيقياً جديداً. ومن أنواع النقد التي يؤثرها بوند " المختارات الشعرية " ولذلك كرس نصف كتابه " أبجدية القراءة " للاختيار الصحيح

من الشعر، ويسمي بوند نفسه: " آلة شديدة الإرهاف " ولكنه في الواقع دارس فاشل حتى أن النقد الذي يقوم به أحياناً يشبه الدراسة الأدبية التقليدية؛ ومن أمثلة ذلك مقالة له عن " كفلكنتي " في كتابه " اجعلوه جديداًً " وهي تحتوي على دراسة مطولة مستفيضة لنص قصيدة واحدة، وتتبع لمصادرها ومآتيها، وعلى ترجمات عديدة وتصحيحات في النص وغير ذلك فإذا أضفت إليها محاكاته الساخرة وتعديله لموسيقى الشاعر فإنها تمثل كل طريقته النقدية القائمة على الكد وبذل الاجهد كما أنها تدل أيضاً على مدى ما يعانيه النقد المعاصر من هنأت وسقطات وعلى مدى ما تحققه الدراسة الجاهدة المزودة بالمعرفة والنصب. (لا مجال هنا للتساؤل: اكان بوند مخطئاً في أحكامه على كفلكنتي، فليست ثمة طريقة تكفل الصواب الخالص) . وراندولف بورن ناقد آخر من فريق العاملين الجاهدين. حتى أنه كان يعتقد أن مراجعة كتاب ما يجب أن تقوم " على بحث مستقل وفكرة مركزية " لا أن تكون حديثاً خفيفاً عن الكتاب؛ وكذلك هي المراجعات التي كتبها بورن؛ كمراجعته لكتاب " وادي الديمقراطية " لمردث نيكلسون، فقد اتخذنا لتصوير فكر الغرب الأوسط وحال أمريكة كما أن حديثه عن الكاردينال نيومان كان تفسيراً لمعتقداته آرائه الدينية. وهكذا هو في كل مراجعاته، يتخذها مجالاً لدراسة الآراء والنظريات المتصلة بأشخاص من يراجع مؤلفاتهم. وللتمثيل على مبدأه نقول: من شاء أن يراجع كتاباً عن حياة نابوليون فعليه أن يدرس بنفسه هذه الحياة ويستخلص أحكامه الذاتية ثم يواجهها بما توصل إليه المؤلف، وهذه ويستخلص أحكامه الذاتية ثم يواجهها بما توصل إليه المؤلف، وهذه خطة ليست دائماً عملية ولكنك إن عارضتها بالمراجعات الخفيفة المستعجلة وجدتها بالغة القيمة. كتب دلمور شفارتز مقالا بمجلة شعر، تشرين الثاني 1938 عن طريقة

بلاكمور في النقد، قال فيه: قد يقدر المرء، تقديراً فحسب، أن بلاكمور، سواء درس في هارفارد أو لم يدرس، قد أثرت فيه دراسات أساتذتها الفيلولوجية وتحقيقاتهم للنصوص في شعر شوسر وغيره من قدامى الشعراء، وعلى أي حال فإن منهجه أصيل في الحدود التي يمتد إليها ومن الدلالة بمكان أن يحلل الناقد ولاس ستيفنز كأنما هو شوسري اسكتلندي من أبناء القرن الخامس عشر. وإذا استبعد أن يكون بلاكمور قد احتذى دراسات هارفارد في نقده ولكن سواء فعل ذلك أو لم يفعل فان هذه الطريقة الهارفاردية قد انتحلها عدد من أساتذة الأدب الشبان بهارفارد نفسها ومنهم: ماثيسون وثيودور سبنسر وهاري ليفن. أما سبنسر وليفن فقد أفادا من وجود مخطوطة من كتاب جويس " صورة الفنان في شبابه " بمكتبة الكلية بهارفارد (حققها سبنسر ونشرها باسم " ستيفن بطلا ") فقارنا بينها وبين صورة مخطوطة أخرى من الكتاب نفسه، مقارنة تفصيلية ونشرا نتائج بحثها، فنشر الأول بحثه في مجلة الجنوب، واستغل الثاني بحثه في دراسته الأكاديمية الغريبة عن جيمس جويس. وقد انتفع ماثيسون أيضاً بمصادر مكتبة هارفارد، فقد قدم أحد أقرباء هنري جيمس إلى تلك الجامعة مذكرات هنري جيمس وملاحظه التي لم تنشر وتبلغ ما يزيد على 150 ألف كلمة، فكانت تلك المقيدات مصدراً هاماً استغله ماثيسون في كتابه: " هنري جيمس: المظهر الأعظم " (كما أنه حقق تلك المقيدات ونشرها بالاشتراك مع كنث ك. مردوك) . كذلك استغل جهوده وجهود تلامذته في دراسة مقارنة لنسختين من رواية " صورة سيدة ". وراجع جيمس ثلاثة من قصصه الأولى فعدل فيها

وغير منها حين دفعها لتطبع في نيويورك، فتفحصها النقاد عاجلين، ولكن ماثيسون تناولها منظماً وطبق عليها خير نقد دراسي مؤيد بقوة الخيال، ومن العسير ان نجد مثل خيراً من هذا المثل على ما يستطيع أن يفيده النقد من الجهد والداب المستقصي. ومن النقاد الآخذين بالكد ج. ولسون نايت دون أن يوشح نقده بالتخصص الدراسي لأنه يقوم به على نحو عفوي غير عامد. وقد قام نقد نايت لشيكسبي على بحث استقصائي لم يمارسه ناقد آخر، ذلك انه جعل كل ما انتجه شيكسبير يدور على محورين: واحد يمكن ان نسميه " عاصفة " والآخر يمكن أن ندعوه " موسيقى ". فكل ما يتصل بالشتاء عاصفة وكل ما يتصل بالصيف موسيقى، وكل وحوش البحر (مثل كالبيان) عاصفة وكل الأشياء المجنحة (مثل آربل) موسيقى، والأوغاد قوى عاصفية والأبطال قوى موسيقية، والألفاظ التي هي مثل " وقر في السمع " و " صرخات " من باب العاصفة والشخصيات مثل هاملت واوفيليا موسيقى شذت نغمتها؛ بل أن الحيوانات فريقان أيضاً فمنها حيوانات موسيقية ومنها حيوانات عاصفية. وتبلغ هذه الدراسة ذروتها في " العاصفة الشيكسبيرية " حي جد نايت أن هذه القسمة موجودة في الخرافة والأسطورة وعند الأدباء ابتداء من ملفل حتى اليوت، وقد تبدو الفكرة سمجة في هذا المجمل ولكنها ناجحة من الناحية النقدية، وإذا تناول القارئ كتب نايت وهو يدير هذه الفكرة، فكرة التعارض بين العاصفة والموسيقى، فإنه يحصل على عدد كبير من صور البصيرة النافذة الأصيلة. وحين كان هـ. ل. منكن يعمل في النقد، كان يوغل مستقصياً في بحثه ليقيم فكرة أو يثبت نقطة، وقد بلغ من جهده أن ذكر أن الطبعات الأولى من قصص كونراد كات تدر على صاحبها دخلا كبيراً أثناء حياته، وذيل على هذا القول بحاشية جمع فيها أسعار ستة عشر كتاباً من فهارس

باعة الكتب على مدى ثلاث سنوات مختلفة. وكان يقرأ بعض كتب لأدباء متخلفين ويتفحص أساليبهم كلمة كلمة، عارضاً تفاهاتهم واحدة بعد أخرى. ومالكولم كولي أيضاً مغرم بهذا النوع الشاذ من التدقيق، فقد يكتب في إحدى مراجعاته قائمة بالوظائف التي كان يشغلها الشعراء أثناء الحرب أو قد يقطع سياق مراجعته لكتاب عن احتلا الألمان لفرنسة ليقص كيف مات سنت بول رو أو إذا راجع كتاباً من تأليف كويستلر توقف ليقص حكايات ساخرة عن اللاجئين. ولا يعرف أحد من أين يستمد كولي مادته ولكنها صحيحة موثقة لا تبدو نابية في نقده. وقد كتب أيضاً في تاريخ الحضارة، ولكن كثيراً من مقالاته التي كتبها للصحف أخباري في طابعه مثل: " كيف كان الأدباء الأميركيون يكسبون رزقهم بين 1940 - 1946 " ومثل " الأدب الأمريكي أثناء الحرب وغيرها " وقد اعجله الجمع عن استغلا هذه المقالات نقدياً. وقد نستطيع أن نضيف إلى القائمة أسماء وجهوداً أخرى، فتفسيرات ادموند ولسن محوطة بالجهد، ممهدة للنقد، وكذلك أيضاً هي الشروح والتوضيحات التي ألف منها ستيوارت جلبرت كتابه عن قصة " عولس " لجيمس جويس. ومن هذه البابة أيضاً ما أداه رتشاردز في كتابه " النقد التطبيقي " (انظر الفصل المخصص لدراسة رتشاردز) . وفي هذا الحقل من النقد طرفان يقف عند أحدهما رجل مثل بلاكمور ينفق جهداً مضنياً في استقصاء لفظة " زهرة " في شعر منجز ثم يستنج ما يريد استنتاجه من ذلك، وعلى الطرف الثاني شخص مثل كارولاين سبيرجن، يحشد مادة ضخمة قيمة ثم يعجز عن أن يستخلص منها استنتاجات نقدية. ونحن نعجب بالفريق الأول ونغرى بعمل الفريق الثاني لأنه يقدم لنا مادة صالحة للاستنتاج والحكم.

5 - خصائص بلاكمور الذاتية وهذا الذي يؤديه في النقد أمران متلائمان متسقان. ولا أدري ما الذي حال بينه وبين الانتساب إلى كلية ولكني اقدر انه وجد فرص التعلم في خارج المعاهد العلمية العالية خيراً له (مثل كنث بيرك فإنه لم ينه دراسته الجامعية) وعلى أي حال فهو عالم مطلع، تشمل معرفته الفن المعماري والنحت والرسم والرقص والتمثيل والموسيقى ويستطيع أن يفيد من هذه المعرفة في النقد مثلما تدل مقالته " اللغة من حيث هي إشارات " فهناك يسهب في الحديث عن تنوع الإشارات في هذه الفنون. وقد أقر أنه لا يعرف الألمانية ولكنه، فيما يظهر، يعرف الإغريقية واللاتينية والإيطالية والفرنسية بشيء من الطلاقة. وهو يستعمل المجازات العلمية في نقده، ولابد انه درس الطبيعيات وأحرز فيها معرفة مفيدة له حين شاء أن يدرس هنري آدمز لا ليستطيع متابعة هنري آدمز في أفكاره الفيزيائية بل ليقول: لو أن آدمز درس الطبيعيات الجديدية لما اهتم أن يستعمل العلم ليرمز إلى الوحدة والقانون ومن اجل أن يفقه آراء آدمز درس التاريخ أيضاً والسياسة والاقتصاد وفي إحدى محاضراته عن بروكس آدمز سنة 1946 اقتبس من كثير من المؤرخين من ثوسيديد وفيكو حتى اكتون وتويني. وفي السنوات القليلة الماضية كان بلاكمور يقيم في برنستون أولا عضواً في معهد الدراسات العليا ثم محاضراً في برنامج الفنون الإبداعية تحت رئاسة ألان تيت. وهو الآن ملتحق مقيم بقسم الكتابة الإبداعية. ويظهر أن عدم انتسابه إلى كلية جعله يهتم جدياً بالتعليم الحر، وقد أتيح لي أن اقرأ له تقديراً عن هذا الموضوع رفعه إلى جامعة برنستون فبدا لي أنه من ألمع الأمثلة التي قرأتها في النظرة التربوية ومن أشدها اقناعاً، وفي هذا التقرير يعالج أمر التعليم الحر كأنه يعالج قضية نقدية ويسلط عليها ما يمكن أن

يدعوه " الخيال الرمزي " وغير ذلك من فنون المعارف. وهو إلى جانب النقد شاعر له ثلاثة دواوين وهي: أ - من مسرات جوردان 1937 From Jordan " s Delight. ب - العالم الثاني 1942The Second World. ج - الأوروبي الطيب 1947 The Good European. وليس مما يتفق وحدود هذا الفصل أن نتحدث في شعره إلا أن نلحظ، ما دمنا نتحدث عن نقده، ان شعره ينزع إلى أن يكون مخلصاً أخلاقياً ساخراً متافيزيقياً بعض الشيء، تقليدياً في الشكل، انتقائياً نوعاً ما، أعنى انه وإن كان أصيلا في أسلوبه ففيه تستبين مؤثرات مستمدة من بيتس واليوت وتيت. وهو شاعر مقل حتى ان ديوانه الثاني لا يحتوي غلا تسع قصائد نظمت في مدى خمس سنوات، وقد لا يدل هذا على فقر في الهام أو ضحالة في المقدرة، وإنما قد يكون دليلا على التحرز وحب الكمال والتثبت، وهذا هو شانه في الدراسة والنقد، فقد أعلن أن بسبيل تأليف كتاب عن هنري أدمز؛ ومضت حقبة كاملة من الزمن دون أن يصدر الكتاب. وبعد ان صدر بلاكمور كتابه " ثمن العظمة " 1940 نشر اثنتي عشرة مقالة كبرى وعدداً من المراجعات وهي تكفي لكتاب ثالث وتزيد، ومن الحق أن يسمى هذا الكتاب المرتقب " الخيال الرمزي " ومن تلك المقالات ثلاث تدور حول هنري آدمز وهي قطع من الكتاب المزمع إنجازه أو إضافات منبثقة عنه. ومنها ثماني قطع تلتزم بدراسة النصوص على وجه محدد وهي تشبه نقداته السابقة للنصوص وهذه هي: (1) بين الأسطورة والفلسفة - قطع من ييتس، نشرت بمجلة الجنوب العدد الخاص بييتس، شتاء 1942 دراسة دقيقة لبضع من قصائد ييتس.

(2) النبع المقدس - وهي تقسير لأحد كتب جيمس، أساء الناس فهمه، في مجلة كينيون خريف 1942 تفسير له على أساس من قصص جيمس المتعلقة بالأشباح. (3) ثورة الطيبة - الأبله عند دستويفسكي بمجلة Accent خريف 1942 دراسة اشتقاقية لكلمة ابله، ودراسة للتخطيطات الثمانية التي رسمها دستويفسكي للكتاب. (4) الجريمة والعقاب - دراسة في قصة دستويفسكي، بمجلة Chimera شتاء 1943 كشف أخلاقي. (5) انجذاب صاف - مراجعة لكتابين من تأليف ولاس ستيفنز بمجلة Partisam، أيار - حزيران 1943 تتبع للمعاني المجازية عند ستيفنز. (6) In the Country of the Blue دراسة تبين كيف يعالج جيمس أمر العلاقة بين الفنان والمجتمع؛ في العدد الخاص بجيمس من مجلة كينيون خريف 1943 مقارنة بين معالجة جيمس لهذا الموضوع وبين ما يفعله جويس وجيد مثله. (7) ملحوظة عن عزرا بوند، إعادة نظر في شعر بوند؛ بمجلة شعر، أيلول 1946 تبين صلة شعر بوند بشعر بروبرتيوس والموسيقى. (8) اليهودي يبحث عن ابنه: دراسة لعولس في Virginia Quarterly Review شتاء 1948 دراسة لكتاب على أساس من الرمز الديني. أما سائر مقالاته الكبرى وهي خمس فقد كانت كلها جديدة في منحاها فهي تدور حول مشكلات أدبية عامة لم يباشر القول فيها في كتبه السابقة أو لم يطنب في استيفائها، وهذه هي:

1 - " عادت الفوضى "، بمجلة الجنوب، ربيع 1941. 2 - " النزعة الإنسانية والخيال الرمزي - ملاحظ في قراءة أيرفنج بابت من جديد "؛ بمجلة الجنوب، خريف 1941. 3 - " اللغة من حيث هي إشارات "، بمجلة Accent، صيف 1943. 4 - " اقتصاديات الكاتب الأمريكي - ملاحظ أولية "؛ بمجلة سيواني، ربيع 1945. 5 - " ملاحظ في أربع مقولات نقدية "؛ بمجلة سيواني، خريف 1946. وسأتحدث فيما بعد عن المبادئ النقدية الجمالية الجديدة التي تتضمنها هذه المقالات، حين أجمل القول في آراء بلاكمور، أما في هذا المقام فيكفي أن أقول إنها على تنوع موضوعاتها تتناول موضوعاً واحداً هو: " قيمة الفن ". فالأولى منها حديث عن مجموعة سخيفة من المقالات في الحضارة والثقافة الأمريكية قدمتها الجمعية الفلسفية الأمريكية، والثانية عن بابت، والثالثة محاضرة في برنستون، والرابعة عرض يستغل فيه الإحصائيات عن تجارة التأليف بأمريكة، والخامسة محاولة لتصنيف الوسائل الأدبية. وهناك مراجعات صغيرة مقنعة تحمل طابع المقالات الكبيرة بعضها يتناول الشعر وفي إحداها يخفق بلاكمور في إدراك ما لشعر روبرت لوول من قيمة، وبعضها محاولات في تقويم بعض الجهود النقدية وتوضيحها، وهي تفضح ضعف بلاكمور في نقد زملائه النقاد، ففيها مجاملة لبعضهم وتطارح على إرضاء آخرين. وقد يبدو من هذا العرض إن جهود بلاكمور مبددة في نواحي متباعدة، ولكن برغم هذا المظهر فإنها ذاهبة في سياق لأنها كلها تحوم حول مبدأين حافظ عليهما من أول عهده بالنقد حتى النهاية وهما: النقد ببذل الجهد، والقيمة العالية للفن. على إن المناسبات هي التي كانت تستثير جهود بلاكمور وتحفزه إلى

العمل، فإذا طلب إليه أن يكتب مقالة استجاب إلى ذلك، ومقالتاه عن هاردي وييتس كتبتا للعددين المخصصين من مجلة الجنوب لهذين الأديبين، كما إن مقالته عن جيمس أعدت لتنشر في العدد الخاص بجيمس من مجلة كينيون، ومقالته الأولى عن النزعة الإنسانية كتبت لتنشر في العدد الخاص بجيمس من مجلة كينيون، ومقالته الأولى عن النزعة الإنسانية كتبت لتنشر في مجموعة خاصة بدراسة عيوب هذا المذهب. وهناك عدد آخر من المقالات كتبت استجابة لبعض المناسبات أو بطلب من القائمين على تحرير الصحف. واستجوبته صحيفة Partisan في مرتين، أجاب في الأولى عن سبعة أسئلة في الأدب الأمريكي 1939 وعلق على مقال لأليوت في الثانية، 1944. وانتهز الفرصة في المرة الأولى ليرسم مخططاً لمبادئه النقدية، وانتهز الفرصة في المرة الثانية ليكشف عن المضمونات الاجتماعية واللاهوتية في تلك المبادئ كأنما كان يتم استجواباته الأولى رغم مضي خمس سنوات عليها. أما حين طلب إليه أن يكتب في النزعة الإنسانية فقد أنتهز الفرصة ليحطم أصحاب تلك النزعة بالنص على مبدأيه الكبيرين وهما: إن اتساع المعرفة في أي موضوع أمر ضروري، وإن كل فن ونقد صحيح فلا بد من أن يتوفر لهما نفاذ البصيرة وقوة الخيال والنظام. ولم يتورط بلاكمور في المجادلات العنيفة إلا قليلا، ولم يكن في هذا القليل يهاجم الأشخاص، ولكنه كان دائماً يوجه هجومه إلى الأفكار والمبادئ. ويبدو أنه ينفر من غمز الأشخاص أو من التباري في الهراش والنطاح مما يسميه الناس مجادلات أدبية. ومرة راجع بلاكمور بمجلة " الأمة " 1936 روبرت فروست، فانبرى برنارد دي فوتو للرد عليه لأنه من أتباع فروست ورماه بالحمق، فلم يرد عليه بلاكمور، فيما أعرف. وقد هاجمه هوارد ممفورد جونز سنة 1941 هجوماً ألطف فلم يرد عليه أيضاً فيما أعلم. واندفع إلى مهاجمته مشتطاً متحانقاً كل من الفرد كازين وهاري ليفين فما أعلم أنه رد عليهما. وصف غرانفل هكس نقده بأنه

" يشبه مراوغات اللاعبين الماهرين " فراجع بلامكور كتابه " الموروث العظيم " بمجلة " الكلب والنفير " (وأدرج المراجعة من بعد في كتابه " مزدوجات ") وتوصل في تلك المراجعة إلى تحطيم جميل كامل حين بين الفكرة الأساسية في الماركسية ومدى إصابة هكس في تطبيقها، وأقتبس في آخر المراجعة جملة هكس التي قالها فيه بسخرية بارعة ودون تعليق. ولقد بين بلاكمور أن ناقداً ديالكتياً آخر لو تناول الماركسية معتمداً على الاستقصاء في جمع مواده العلمية لوجد فيها نظاماً اقتصاديا رصيناً، ولكن هكس فقير في إطلاعه على الأدب الأمريكي. وفي أثناء المراجعة نقد مواطن الضعف في النقد الماركسي بحدة، وكما هي عادته أكد القيم التي لا يفتأ يعمل على أساسها وهي التكثير والشك والفهم التخيلي لموقف الإنسان. ولو أردنا أن نستعير تشبيهاً نوضح به نقد بلاكمور لقلنا: إنه يشبه صورة الساحر على المسرح وهو يقطع امرأة نصفين. ويخيل للمشاهد أثناء ذلك إنها قطعت حقاً، ثم إذا بها تنهض بعد قليل كاملة سليمة لم يصبها أذى وهي تنحني للرد على تحية الجماهير. يقول بلاكمور: " أن التحليل في هذه المواطن لا يعمق الحز والقطع بل إنه لا يقطع أبداً؛ إنه يجيز الخصائص والجزئيات فحسب، ولابد من أن ترى الخصائص والجزيئات مرة أخرى في أماكنها الطبيعية قبل أن يؤتي الجهد ثمراته ". ثم يبين التشبيه على نحو أوضح في موضع آخر فيقول: " أي شيء هو هذا (النقد) إلا أنه تجزئة، لا لكي تحنط هذه البقايا المجزأة، بل لكي نفهم عقلياً حركة الأجزاء والعلاقة فيما بينها في الجسم الحي الذي نحبه. فمثل هذه التجزئة إذن خيالية، تدركها العين والفكر وحدهما، ولكنها تجلي معرفتنا دوم أن تحدث في ذلك الجسم

خدشاً واحداً ". وهو يؤكد أن النقد وإن كان كحد الموسى فإنه على التحقيق لا يمس الشعر نفسه بسوء، ومن الطريف أن نجد هذا التشبيه نفسه - أعني التجزئة التي لا تفصل في الحقيقة جزءاً من جزء - موجوداً عند برادلي في مقدمته على كتاب " المأساة الشيكسبيرية ". وبما أن بلاكمور يعتقد أن التقطيع خيالي لا حسي مادي فإنه يستمد تصوراته عن النقد من النور لا من عملية القطع. فالنقد عنده " تنوير ". ويقول: دعنا نكحل أبصارنا بأنوار أفلاطون؟ الخ. أو يقول: وبذا يصبح الموضوع الشعري " متجلياً " أو هذه الكلمة " تجلو " أو هذه العبارة " تنير " وهلم جرا. ولبلاكمور مقالة واحدة في " عمل الناقد " مدرجة في كتابه " مزدوجات "، غير أنه تحدث عن النقد في مواضع كثيرة من كتاباته. وإذا جمعت أقواله معاً وجدتها ترتكز حول مبدأ نقدي واحد، محوره تشبيه التجزئة الخيالية، وتشبيه النور، والنص على الثمن والمسئولية والسخرية والخيال والصناعة الفنية. وقال في تعريف النقد: " أنه حديث رسمي يقوله أحد " الهواة " وأكد " إن كل مباشرة عقلية فإنها صالحة للأدب ومن الممكن أن نسميها نقداً إذا هي تركزت حول أي نقطة من الأثر الأدبي نفسه ". غير أنه أضاف منبهاً: " أن نقد النقاد يذهب بنا في شعاب كثيرة وينتهي كل منا حيث بدأ، إلى تقبيل بقرتنا المحبوبة دونما أدنى شهوة لذلك " ويزيد إلى ذلك قوله: بعض النقاد يخلقون عملا فنياً جديداً، وبعضهم علماء نفسيون وبعضهم متصوفة وآخرون سياسيون ومصلحون وثمة قليل من الفلاسفة ومن النقاد الأدبيين. ومن الممكن للمرء أن يكتب عن الفن من جميع هذه الزوايا ولكن لا نسمي ما يكتب نقداً إلا أن صدر عن آخر فريقين - الفلاسفة ونقاد

الأدب -؟ وليس بين أنواع النقد الدخيلة والأدب إلا علاقة إحصائية أو مورفولوجية، كالعلاقة بين صنعة العاج ولعبة الشطرنج. وأحياناً يكون بلاكمور شديد التواضع في نظرته إلى مهمة النقد كأن يقول: " نستطيع أن نفصل جانباً بعض الأفكار التي نسميها أساسية وإن كنا نعني أن فصلها وتنحيها أمر ممكن فحسب ". أو يقول: بقي ما يحتاجه النقد الأدبي من جهد أعني جمع الحقائق المتصلة بالآثار الأدبية والتعليق على ما في تلك الآثار من تدبير وصنعة فنية وتقنيات، وهذا هو الجهد الذي يستحق أن يبذل ما دام يدخل القارئ إلى حومة تلك الآثار. وعلى الرغم من هذا التواضع فإن قواعده عن " الناقد الجيد " لا تزال تدلنا على الصعوبة والندرة في إجادة التطبيق وعلى مقدار ما يعتقده في تلك القواعد من قيمة وأهمية أصيلة في تطبيقها على الفنون حتى على أعظمها؛ ولذلك يقول: الناقد الجيد يجنب نقده أن يصبح متحيزاً أو نابعاً من غرائزه، كما أن جهد فهمه دائماً محدد لا طائش، محدد ذو نوعية كالفن الذي يحاول فحصه وتفهمه؟ وهو يلحظ الحقائق ويبتهج لإدراك الفروق وتمييزها، ويجب أن يبقى ما يتفحصه تحت أضواء موضحة، سهلا لمن يحب أن يباشره من بعده، لكن دون تغيير في حقيقته وذاته. ولقد كان بلاكمور يلح دائماً على عظم قيمة الفن ولكنه في إنتاجه الأخير قد أوغل في هذا الموضوع حتى كأنه أصبح يتخذ الفن ديناً دنيوياً مثل جيمس أو جويس. ولو سمعت أحداً يقول: " في الفن كل القيم "

لما كان ذلك إلا جيمس أو بلاكمور، وتكون القيم في الفن - حسب رأيهما - على ضربين: في أن الفن يعبر عن القيم وفي أن الفن هو نفسه تلك القيم. وجاءت مع هذا التقديس للفن نزعة جديدة نحو الفن تكاد تكون صوفية، أعني أن كل ما يقوله كتاب من الكتب الأدبية يصبح لدى بلاكمور حرفياً، حدث كل ما فيه من أحداث، فالتقى فيه فلان بفلان على التحقيق، أي تصبح للكتاب حياة مستقلة وإرادة ذاتية، وهو يتحدث عن هذا الكتاب أو عن تلك القصيدة كأنما يتحدث عن شيء دبت فيه الحياة وأصبح له كيان ووجود. وصاحب هذا الإيمان إيمان آخر بالثلاثيات بعد المزدوجات الثنائية؛ كان بلاكمور من قبل يكثر من ذكر الثنائيات كأن يقول: " رأيي في هذا الأثر الفني مزدوج ثنائي؛ (0فائدة هذا النوع من الإقبال على الدراسة مزدوجة " فلما كتب عن دستويفسكي تحولت المزدوجات إلى ثلاثيات: ففي الصفحة الأولى من مقاله عن " الأبله " تجده يقول: " في هذا الكتاب الكامل إذن مسرحية ثنائية لا بل ثلاثية، ثم يختم مقاله بالحديث عن الكتاب في مناسيب ثلاثة: العقلي والسردي والتخيلي. وفي الفقرة الأولى من مقاله عن " الجريمة والعقاب " يعلن أن للقصة " ثلاثة أنواع من المغزى " ولابد للقارئ من أن يعيد بناء الثلاثة من طريق التحليل. ثم هو يلمح في مراجعته عن ولاس ستيفنز أن لدى ستيفنز ثالوثاً يتمثل في اتخاذ ثلاث مراحل، وفي احتواء كل دورة من شعره على ثلاثة أبيات ولذلك يقول: الثالوث هو الشكل الوحيد المقبول من الوحدة. وأنا اعتقد أن ضروب المهارة في الخيال، التي بها تدخل الأفكار والأستبصارات والأعمال في نطاق الشعر، فإنها تؤتي خير ثمراتها إذا اختارت موضوعاً أو فكرة مثلثة. ذلك لأن التثنية

غير كافية إلا إذا تمخضت عن ثالث. فالحرب والسلام يحتاجان مظهراً ثالثاً مثلما يحتاج السائل والثلج بخاراً، مثلما تحتاج الجنة والنار مكاناً ثالثاً يسمى " الأعراف ". من الازدواج يجيء التولد، وهذه هي طبيعة العقل الخلاق. أما المصطلح الذي أخذ يكثر من استعماله في تلك المرحلة، فإنه يضم كفتي " الخيال " و " الخيال الرمزي "؛ أما " العقل " فقد أحتل منزلة دنيا. فمثلا يقول: الوحدة عند بيتس وحدة " تخيلية " نتجت عن " قوة تخيلية عظيمة قادرة على التعميم " أو: الخيال وأعني به خيال الفنان يعلو على المخاوف والمغريات " أو: " الخيال لا العقل حسنة من حسنات الفهم " العقل يأثم والخيال يكفر الآثام؛ " حركات العقل عارضة متقطعة " أما الخيال " فهو مستمر وهو إرادة الأشياء "؛ والفنان يخلق قيماً أخلاقية " من الواقعي بعون من الخيال ". و " الخيال في النهاية هو المقنع الوحيد " وهلم جراً؛ وهذه أمثلة منتزعة من مقالات عديدة مختلفة. ويتصل بفكرته عن الخيال، نقده لبابت وأصحاب النزعة الإنسانية؛ فأخطاؤهم في رأيه تنشأ من " انحلال الخيال المسيحي، ومن خلو الخيال الرمزي الديني من أي وصف " وإن ذلك لا علاج له إلا باتخاذ " الخيال الرمزي " فهو يمثل " النعمة الكبرى " وإذا شئنا استبقاء النزعة الإنسانية وجب أن نمزج بين عناصرها وهذا الخيال الرمزي. بل أن بلاكمور يقترح في المناهج التي تقرر في برنستون أن تكون قادرة على أن توجد في الطلبة " تكاملا تخيلياً ". وقال في محاضرة له عن بروكس آدمز: إن بروكس قد نضج لأنه تحول من القانون التاريخي المطلق وصرامته إلى قوة تخيلية مدركة للتاريخ إدراكاً عاماً كلياً. وفي مقاله " ملاحظ في أربع مقولات في النقد " تجده جعل رابعة المقولات وأسماها، هي " الخيال الرمزي "، وإن " الرمز " هو الذي يستشف من " الواقعي " فهو

" الحقيقي " بلا جدال. وفي ذلك يقول: الكتابة التي تستمد كيانها وتظل أبداً وتقف عند ذلك الحد يمكن أن تسمى تجربة في نطاق الواقع. اما الكتابة التي تخلق أي توجد شيئاً وراء الحد الذي بلغته الكتابة الأولى فقد تسمى رمزاً. هي رمز لا بنسبة ما قيل وما قرر، وإنما بنسبة ما لم يقل وما لم يمكن قوله، أو بنسبة ما وراء الحدود التي بلغتها الكتابة الأولى من كون ذي استقلال وكيان ذاتي. فالرمز هو أدق معنى ممكن. إذا نظرنا إلى العامل الذي حرك الكلمات وما أحدثته هذه الكلمات حينما تحركت. والرمز لا يرمز لشيء معروف من قبل ولكن لشيء يوجده الكشف ويكاد ينكشف. وإذا رمز الرمز إلى شيء سوى استمراره الذاتي فهو يرمز إلى ما في دخيلة القارئ لكي يمكنه من أن يميزه ويجلي به تجربته، مثلما أن المعنى الذي يشير إليه الرمز يجلي المسارب في إحساس القارئ بنفسه، في تلك اللحظة نفسها. هذا هو إذن بلاكمور: يقدر الفن والخيال الرمزي تقديراً رفيعاً حتى يكاد يكون صوفياً في موقفه، وبوحي من مضمونات هذا الموقف نستطيع أن نلخص ما أداه بلاكمور في النقد وأن نقدره فنقول: إن نقده في إحدى ناحيتيه غال ثمين، تعاظمي، لا مساس له بالحياة، أي هو بعبارة أخرى: " نقد هواة " ومن السهل علينا أن نجد الشواهد على تهمة " الهواية " في هذا النقد. أما تعاظمه المتعالي فيتبدى لنا من قوله مثلاً: إن حضارتنا الشعبية قد نجحت في أن تنتج أدباً بلا مقاييس وأن أمريكة تعاني لأنه " ليس فيها طبقة مسيطرة في المجتمع تستطيع أن تضع للفهم الجمالي والتعبير عن الحياة الإنسانية قيمة رفيعة " وأن " سير الجماهير

نحو الديموقراطية إذا أستمر مريره على هذا المنوال فإنه سيجعل رغبة الفنان وأهتمامه أمراً غير محتمل أو غير شامل أو بعيداً لا وصول إليه ". بل أن ميله إلى مجرد التجربة وتردد المرتاب الحذر ليجعل نقده مبرماً مضجراً كأن يقول مثلا: " تحاول هذه المقالة أن تقترب من هرمان ملفل بحذر وتتأتى إلى ذلك متسللة من وراء موقفه المتثبت الواثق - أي شيء كان ذلك الموقف - في الأدب الأمريكي - أي شيء كان ذلك المسمى أدباً أمريكياً ". ودقته تبلغ حد التعسف المرهق حين لا يتحدث مثلا عن أفلاطون بل عن أفلاطون في " مرحلته الأولى " ولا عن فواتح هنري جيمس بل عن " فواتحه النقدية " ولا عن قصائد توماس هاردي بل عن " مقطعاته وقصائده القصيرة " ولا عن شعر ييتس بل عن " آخر ما أنتجه من شعر ". ويقول في فاتحة كلامه عن آخر ما أنتجه ييتس من شعر: " آخر ما أنتجه ييتس شعر عظيم حقاً في نوعه، متنوع كثيراً في نوعه أيضاً، فهو يستحق دراسة خاصة ولكنها لن تكون الدراسة الوحيدة، وكذلك لن تكون هي الدراسة الكاملة ". وإعجابه بالمرهف يصده أحياناً عن أن يتذوق ما لم يكن نصيبه من الإرهاف بالغاً، كعجزه عن أن يتذوق بعض النواحي في ملفل، فهو يجتاز تلك النواحي بقوله: إنه يفضل جيمس، وكعجزه عن أن يستسيغ شعر وليم كارلوس وليمز. وإذا حاكى هو جيمس في إسلوبه لم يستطع أن ينتحل قوة أسلوب جيمس وحذاقته بل يحاكي جمله المتقطعة المترددة فيتعب القارئ بالمعترضات وكثرة الفواصل. وهو يعيد أحياناً كتابة ما ينقده من شعر بدلا من أن يحلله. وآخر مظهر من مظاهر " الهواية " عنده إنه لم يؤلف كتاباً في النقد، واكتفى بكتابة المراجعات والمقالات التي تثيرها المناسبات. ولكن عيوب بلاكمور تقابلها حسنات ترجح بها - وتلك هي الناحية

الثانية - فما يرجح بالتعاظم المتعالي إصراره على المسؤولية الاجتماعية لدى الفنان والمهمة الاجتماعية التي يؤديها كل من الفن والنقد. ويقابل " غلاء " نقده ذلك التواضع العاري الذي عبر عنه أجلى تعبير في قوله: " أعتقد إن قلة جمهوري إنما ترجع إلى نقائصي في الأسلوب والإحساس والأفق، ولست أجد من حقي أن أشكو أو أتذمر من هذا الوضع ". وهو يقول في موضع آخر: علينا أن نغامر بحذر في استعمال أي مبدأ قد يبدو مناسباً أو مسعفاً في تجاوز الفجوات، ولست أنص على الحذر إلا في الاستعمال فإنه يجب أن يكون مؤقتاً تأملياً درامياً. وإن ثمرة التواضع لا تأتي إلا بعد سلسلة طويلة من اعتياده؛ والدعوة إلى التواضع معناها عدم النفور من الإقرار بالجهل. ولا يوازي هذا التردد وعدم الحسم إلا ثقته الحاسمة في القيمة المطلقة للفن والخيال الإنساني، ولذلك تسمعه يقول في نفس المقال الذي اقتبسنا منه العبارة السابقة: إن الفنون تخدم غايات تقع وراء تلك الفنون، وهي غايات الأشياء التي تحكيها أو تعبر عنها حين تحكيها أو تعبر عنها بمعزل عن التيار الكبير الذي يمنح تلك الفنون نظامها ومعناها وقيمتها. فإذا أنكر منكر تلك الغايات فكأنما أنكر أن المنشار مجعول لقطع الخشب، وإنه يجب ن يظل معلقاً لئلا ينقص النشر من قدره. ويمتاز بلاكمور وأمبسون بأنهما أكثر قراء الشعر تدقيقاً، وإنهما قد تخصصا في هذه الناحية تخصصاً خرج إلى الغلو وجاوز طوره (وهذا قد يرجح بالهواية عند بلاكمور) وإن أستاذيهما - بيرك ورتشاردز - قد

شغلا نفسيهما بالتفريعات الناجمة عن نظرياتهما حتى عجزا عن أن يوليا النصوص الشعرية قسطاً صالحاً من وقتهما. أما شغف بلاكمور بالمرهف فإنه يوازيه ميل متزايد عنده إلى قبول ما هو غير مرهف كاستساغته التدني عند دستويفسكي والخشونة لدي ييتس وهذان يعدلان الذوق المرهف لدى كل من جيمس وآدمز. بل من صور الابتعاد عن المرهف تحول السخرية عند بلاكمور إلى نوع من الفكاهة في أحدث ما أنتجه. قابل بين هذه الدعابة الأكاديمية المجتلبة: " ها هنا لا يصرخ السيد منسون قائلا مهابهاراتا ولا حتى مهابراكادبرا؛ أنه يكبح نفسه عن ذلك ويلتزم بصرخات أقل رنيناً لأنه يتحدث عن النقاد فيقول بابت! آرنولد آرنولد!.. " (1930) . وبين قوله وهو هزل عميق: " إلا أن السيد كيدر يسير في وجهة مخالفة، فهو يسقط الفلسفة من حسابه إهمالا ليس إلا، لأنه لم يمارسها. وانك لتشعر وأنت تقرؤه أن لو ذكره بها أحد في دور مبكر، يوم كان يستجمع معارفه وثقافته، لملأ بها أوراقه وصحفه ". أو قوله في نقد الصور المرفقة بطبعة " الملاح القديم ": " إنك لا ترى إلا رؤوسها كأنها مثل غطاء الرادياتور الممثل بالنحت في عام 1934 أو صور المنفيين العائدين. أما طائر البطروس فهو مستعجل ليتحول إلى بطة جالسة وقد افلح في ذلك. " هذا وان نظم الشعر قد جعل بلاكمور يحاول أن يعيد كتابة القصيدة بدلاً من أن ينقدها، ولكنه أفاده أيضاً إذ منحه ذوقاً لا يكاد يخطئ (باستثناء هنات قليلة) ولذلك تجده حينما راجع تسعة شعراء سنة 1937

استخرج من بينهم بذوقه الثاقب كلاً من أيكن وستيفنز ونفى هسمان وماسترز وساندبرغ وبروكوش وغيرهم، ثم عمد إلى الاثنين اللذين فضلهما واستخرج من شعرهما أفضله وأجوده. كذلك فأن الشعر منحه القدرة أو قل الشجاعة على أن يميز في الأدباء العظام أمثال ييتس ودستويفسكي " ما يملأون به الفراغ "، أي يتركون القلم يكتب رجاء أن ينبثق شيء حسن. أما اتهامه بأنه لم يكتب كتباً فالرد عليه ان يقال: ان كتابيه اللذين أصدرهما منظمان يلتفتان حول وحدة ملموسة في الفكرة والتطبيق وهما متكاملان كأي كتاب تعده عظيماً في النقد. ثم نستطيع ان نقول في الجملة أن " الهواية " لم تتلبس به، وانه ابتعد عنها قدر ما يبتعد عنها اخلص المتخصصين ولقد قال في مقاله عن " عمل الناقد ": إن طريقتي إن صح أن أدعوها كذلك لا تلم بكل شيء بل تترك القارئ وفي يده القصيدة وأمامه عمل يؤديه بنفسه، وكل ما صنعته أني حاولت أن اقدم إليه القصيدة من حيث صلتها بهذه الطريقة التي رسمتها والتي اقتصدت فيها ومنحتها شيئاً من التعويض. وأنني لأتوقع أن ترد طريقتي هذه لمن يستعملها ما اقصده وتعوض عليه ما فقده. وهذا مقياس لطريقته النقدية جيد متواضع يجعلنا نقول في الحكم عليه، على أساس من هذا المقياس: انه ألم بكل ما يمكن أن يلم به، وحقق كل ما يمكن ان يحققه ناقد يجمع العلم الواسع والكد المضني والألمعية التخيلية والشرف المتواضع. وأننا في قولنا هذا كله لا ندعي إننا نكافئه تعويضاً، او أنه كان يجب علينا أن نقتصد في الثناء.

الفصل التاسع

الفصل التاسع وليم إمبسون والنقد النوعي أن أبسط طريقة يعرف بها التدرج الذي جرى فيه نقد إمبسون هي أن يقال فيه: أنه انتقل من عناية أولية بما يسميه جون كرو رانسوم " نسيج " إلى عناية أولية بما يسميه رانسوم نفسه " بناء ". ووضع القضية بهذا الشكل قد لا يوافق رانسوم الذي كان اتهامه الرئيسي لإمبسون عندما عالج آثاره في كتابه " النقد الجديد " هو إن إمبسون مغرق في عنايته بالنسيج، غير إن رانسوم لم يتحدث إلا عن كتاب واحد لإمبسون هو " سبعة نماذج من الغموض " بينما تم انتقال إمبسون الذي نشير إليه في كتابه الثاني " بعض صور من الأدب الرعوي "، وبهذا الكتاب الجديد انتقل إمبسون إلى حومة " البناء " وتغلغل في مشتملات مصطلح " رعوي ". ومع إن هذا الكتاب أقل راوء وإسهاباً في نواحي الغموض وتفرعات المعاني من كتابه الأول، فإني أود أن أفرده، على الأقل للغاية التي يعقد لأجلها هذا الفصل، وأعتبره أكبر إسهام قدمه في النقد الحديث. إن ظهور كتاب " سبعة نماذج من الغموض " عام 1930 لشاب في

عقده الثالث لم يسمع به أحد، كان حدثاً نقدياً كبيراً، برغم قلة النسخ التي طبعت منه. فقد تجرأ الكتاب على معالجة ما كان دائماً يعد نقيصة في الشعر، أي عدم الدقة في المعنى، وعده فضيلة الشعر الكبرى، وأعلن إن الغموض قد يقع في سبعة أصناف، ومضى يصنفها (مع إن عنوانه يشمل صنفاً ثامناً ساخراً، وطريقة تصنيفه توحي بأنواع أخرى لا حصر لها) . وأنكى من ذلك كله إنه درس الشعر بطريقة لم ينتهجها شخص من قبل. حقاً إن إمبسون حينما افترض إن الغموض هو لب الشعر لم يكن يقرر مبدأ جديداً. فمنذ القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد كتب ديمتريوس الذي لا نعرف عنه شيئاً يقول في كتابه " في الأسلوب " On Style: " مثلما تجمع الوحوش أطرافها حين تريد أن تنقض، فعلى اللغة كذلك أن تستجمع نفسها، كما لو كانت حضباً منطوياً، لتذخر في ذاتها قوة ". وليست هناك مسافة بعيدة بين " اللغة المستجمعة " في رأي ديمتريوس وبين قول إمبسون " أي ارتباط بين العلة والنتيجة، مهما يكن ضئيلاً، يضفي ظلاً على التعبير المباشر "، ويعود ما بين القولين من فرق إلى تصميم إمبسون على أن يستكشف أنواع هذا " الاستجماع " الملتف وضروبه، فهو يقول: إذن فقد يكون للكلمة الواحدة عديد من المعاني المتمايزة، وعديد من المعاني المرتبط أحدهما بالآخر، وعديد من المعاني التي يحتاج واحدها إلى الآخر ليكمله، أو عديد من المعاني تتحد معاً حتى إن الكلمة تعني علاقة واحدة أو سياقاً واحداً؛ وهذا مساق يستمر مطرداً. " فالغموض " معناه إنك لا تحسم حسماً فيما تعنيه، أو تقصد إلى أن تعني أشياء عديدة، وفيه احتمال إنك تعني واحداً أو آخر من شيئين، أو تعني كليهما معاً وإن الحقيقة الواحدة ذات معاني عدة.

فالغموض عند إمبسون نوع من " السخرية المسرحية " يحيط في أحد طرفيه بكل ما في المأساة من كمال، ويدل في الطرف الثاني على نقص الصنعة الروائية الرديئة. وهو يقر بأن " هذه الأساليب قد تستعمل لاتهام الشاعر بأنه يحمل آراء مختلطة، لا لمدح التركيب في نظام فكره " ثم يعلن عن المعيار الذي يصلح للتمييز بين أنواع الغموض الجيدة والرديئة فيقول: يكون الغموض محترماً ما دام يسند تعقيد الفكر أو لطافته أو اكتنازه، أو ما دام ندحة يستغلها الأديب ليقول بسرعة ما قد فهمه القارئ. ثم هو لا يستحق الاحترام إن كان وليد ضعف أو ضحالة في الفكر ويبهم الأمر دون داع؟ أو عندما لا تتوقف قيمة العبارة على ذلك الغموض بل يكون مجرد وسيلة لتوجيه المادة وتصريفها وذلك إن كان القارئ لا يفهم الأفكار التي اختلطت، وأنطبع لديه شيء من عدم الاتساق. وعلى رغم ذلك يرى إمبسون إن الغموض يحتشد على وجه التدقيق في مراكز أعظم التأثير الشعري، ويولد صفة يسميها هو " التوتر " وقد نسميها الهزة الشعرية نفسها، يقول: أكثر أنواع الغموض التي وقفت عندها هنا تبدو لي جميلة. وأعتقد إني بالكشف عن طبيعة الغموض قد كشفت بالأمثلة المضروبة عن طبيعة القوى التي هي كفاء بأن تربط جوانبه وتضم عناصره، وأحب أن أقول هنا - من ثم - إن مثل هذه القوى المتصورة تصوراً مبهماً ضرورية لقيام الكيان الكلي للقصيدة، وإنها لا يمكن أن تفسر عند الحديث عن الغموض بأنها مكملة له. غير أن الحديث عن الغموض

قد يوضح شيئاً كثيراً عنها، وأقول بخاصة أنه إن كان هناك تضاد فإنه يستتبع توتراً وكلما زاد التضاد كبر التوتر، فإن لم يكن ثمة تضاد فلا بد من طريقة أخرى تنقل التوتر وتكفل وجوده. فليس الغموض، إذن - مرضياً بذاته، ولا هو تفنناً يطلب لذاته، بل لابد له من أن ينشأ في كل حال من وقائع الأحوال الخاصة، وأن يجد ما يبرر وجوده من تلك الوقائع أيضاً. فهو على هذا شيء قد يبرر وجوده أهم المواقف وأكثرها إمتاعاً. أما " النماذج السبعة " نفسها فإنها - على تفاوتها - تحكمية محض. يقول إمبسون: " إن هذه النماذج السبعة التي اقترحها، لا تعد في نظري هيكلاً مناسباً فحسب، بل إني أهدف بها إلى أن أصور مراحل من الفوضى الراقية المنطقية ". غير أنها لم تتجه فحسب من البساطة إلى التركيب بل من خصب شعري قليل إلى خصب وافر - وهذا شيء لم يعلق عليه إمبسون أبداً -. وتلك النماذج لا معنى لها حين تقف بمعزل عن القرينة، ولا يدرجها إمبسون في ثبت واحد ولكني في سبيل أن أعطي فكرة عن السياق، سأحاول أن أنتزعها من قرائنها، وأورد تعريفات إمبسون وحدها " هنالك سرد لها مختلف بعض الشيء عما هو هنا، موجود في كتاب " النقد الجديد ": 119، 120 لكرو رانسوم "، وهذه هي النماذج السبعة: 1 - حين تكون الكلمة أو التركيب أو المبنى النحوي مؤثراً من عدة أوجه دفعة واحدة مع أنه لا يعطيه إلا حقيقة واحدة. 2 - حين يجمع معنيان أو أكثر إلى المعنى الواحد الذي عناه المؤلف. 3 - حين يستطاع تقديم فكرتين في كلمة واحدة وفي وقت

معاً ولا يربط بين الفكرتين إلا كونهما متناسبتين في النص. 4 - حين لا يتفق معنيان أو أكثر لعبارة واحدة ولكنهما يجتمعان ليكونا حالة عقلية أكثر تعقيداً عند المؤلف. 5 - حين يستكشف المؤلف فكرته أثناء الكتابة أو لا يستطيع أن يحيط بها في فكره دفعة واحدة، حتى أنه قد يكون هناك - مثلاً - تشبيه لا ينطبق على شيء ما تمام الانطباق، ولكنه يقع في موقف وسط بين شيئين عندما ينتقل المؤلف من أحد الشيئين إلى الآخر. 6 - حين لا تفيد العبارة شيئاً أما للتكرار أو للتضاد أو لعدم تناسب العبارات، فيضطر القارئ أن يخترع عبارات من عنده وهي قابلة أيضاً للتضارب فيما بينها. 7 - حين يكون معنيا للكلمة، أي قيمتا الغموض، وهما المعنيين المتضادين اللذين تحددهما القرينة فتكون النتيجة الكلية هي أن يكشف عن انقسام أساسي في عقل الكاتب. وإمبسون مدين لرتشاردز أستاذه في كامبردج بفرضين أساسيين يقومان من وراء كتابه " سبعة نماذج من الغموض ". وأولهما أن الشعر في أساسه - أن لم يكن فيه كلياً - معان تنقل، والثاني أن معانيه معرضة للتحليل، شأنها في ذلك شأن أي مظهر آخر من مظاهر التجربة الإنسانية أو كما يقول إمبسون: " أن الأسباب التي تجعل بيت الشعر يعطي متعة فيما أعتقد، هي نفس الأسباب القائمة في أي شيء آخر، وأن المرء ليستطيع تقليب تلك الأسباب وإعمال فكره فيها ". (وهذا بالطبع في جوهره تعبير عن مبدأ دنيوي في " الاستمرار ") . وإذا كان رتشاردز يقف وراء الفرضين الكبيرين في ذلك الكتاب، فإن التطبيق كله فيه يتجه إلى شيكسبير، ذلك لأن هذا الأديب أعلى من تمرس بالغموض، لا لأن

أفكاره مضطربة ونصوص رواياته مختلطة - كما يعتقد بعض الدارسين - بل لأن فكره وفنه يتميزان بالقوة والتركيب، فيقرأ إمبسون سطراً لشيكسبير قراءة حرفية تماماً بعرضه على كل مستند ممكن قائم وراء كل سطر آخر خطه، ملاحظاً " كمية العمل الذي قد يؤديه قارئ شيكسبير من أجله، وكيف إن سائر آثاره قد تعين القارئ على أن يستخرج أفانين من أي جزء فيها ". وهو أيضاً في الوقت نفسه يقرأ السطر مستعيناً بمجموعة ضخمة من الإشارات الأدبية والأخبار التاريخية والبيوغرافية المختزنة في عقله. وهذا مثل نموذجي يكثر اقتباسه يفسر نوع المجاز في بيت من سوناتة جاء فيه: " مرابع الترتيل العارية المهدمة، حيث كانت تغني العصافير العذبة حتى وقت متأخر " فيقول امبسون في تعليقه: أن المقارنة رصينة صحيحة، لان أمكنة الترتيل المهدمة في الدير هي الأمكنة المخصصة للغناء، لأنها تحوي مقاعد يجلس فيها المرتلون صفوفاً ولأنها مصنوعة من خشب، وهي محفورة في عقد متداخلة وما أشبه، وقد كانت تحاط بمبنى ساتر مشكل في شكل غابة، ويلون بزجاج ملون، ورسوم كالازاهير والأوراق، ثم هي الآن قد هجرها الجميع، إلا الجدران الداكنة الملونة بلون الجو الشتائي، ثم لأن السحر الفاتر النرجسي الذي يوحي به الغلمان المرتلون يتناسب وشعور شيكسبير نحو الموضوعات التي تتناولها اغانيه، زد على ذلك أسباباً اجتماعية وتاريخية (" أواه لقد نسي الحصان، لعبتنا المفضلة " وقطع البيورتانيون الأعمدة المكللة بالزهور التي تنصب في أول أيار) ؛ من الصعب أن نتتبعها اليوم، ونتحقق من مقاديرها. فهذه الاسباب، وأسابا أخرى تربط هذا التشبيه بموضعه من السوناتة، لابد لها من ان تتضافر

لتمنح البيت جماله. وهناك نوع من الغموض فيه، لانا لا نعرف أي هذه الأسباب يجب ان يعلق بالذهن قبل غيره. لقد وقفنا من قبل عند العلاقة بين طريقة إمبسون والدراسة الشيكسبيرية التقليدية (في الفصل الخاص بكارولاين سبيرجن) ولكن تجليتها في هذا المقام تتسق وهذا الفصل: ففي شرحه للنوع الثاني من الغموض أي وجود معنيين يقصدهما المؤلف (أي ما يسمى التورية المقصودة) يعترف فجأة انه استمد أكثر قراءته المعتقدة - الامبسونية على وجه الخصوص - لنصوص شيكسبير، في ذلك الفصل، من نسخة آردن، فهي القراءات التقليدية التي قال بها الدارسون، وقد استخرجها بطريقة غريبة فحيث يقول الدارس " إما هذا؟ أو " محاولا أن يضع أخرى لدارس آخر إلى جنب قراءته، يجيء امبسون فيقول " كلا هذين؟ و " أي يجد كلا المعنيين أو كل المعاني المتجادل حولها مشمولة بحق في النص. أما الكلمات الشيكسبيرية الغريبة التي قال الدارسون إنها تحريفات مطبعية لا بد لها من تصويب، فإن لامبسون حولها ثلاثة فروض، الأول: أن شيكسبير صحح مخطوطاته وراجعها (على رغم انف كل من همنج وكوندل) فانبهمت قراءتها على الطابع؛ والثاني: انه عمداً كتب كلمة لا معنى لها تقع بين كلمات عديدة لها معانيها، مثلما يفعل جويس في " يقظة فينيغان " ليبعث القارئ على التفكير في الكلمات جميعاً. والثالث: أنه أبداً لم يمح ولم يرمج على شيء كتبه، فكان يضع الكلمة المقاربة بدلا من ان يتوقف فيتبدد فكره، مؤملا أن يعثر على الكلمة الملائمة ذات يوم. ويزعم امبسون أن دراسي شيكسبير، على خلاف هذه الفروض وعلى خلاف لأي " فكرة عن كيف كان يكون ذلك العقل الفذ أثناء العمل " يرفضون كل ما ليس بواضح، ويدعون انه خطأ مطبعي. ومن ثم يحيلون كثرة المعنى عنده والغموض فيه، إلى معنى واحد بسيط

ويتضاءل بذلك شيكسبير. أو يعتمد الدارسون نسخة شيكسبير الأصيلة " المسودة الأولى " حيث كتب على الورق أو زور في ذهنه كلاماً ويصفونه بأنه بسيط واضح جداً، أو يتجه الدارس منهم إلى " أن يستمد من ذلك المنبع قصيدة صغيرة يدبجها بنفسه ". أي أن امبسون يعتقد أن المشكلات المحيرة في شعر شكسبير إنما هي - بوجه أو بآخر - توريات مقصودة وأنواع من الغموض، وان الدارسين قد انهمكوا - بوجه أو بآخر - في إلغائها والقضاء عليها (1) . (أن الاقتراح الوحيد الذي أستطيع تقديمه لأي قارئ يرى هذه الأفكار مجتلبة من بعيد أو تافهة هو أن يقرأ جدل امبسون مع التحليل المسهب المشفوع بست من الصور المقنعة) . ولعل التحليل المتعلق بشيكسبير هو أكثر شيء ألقاً في الكتاب ولكن ربما كان أقيم ما فيه، في النهاية، ملحظ واحد ينبئ عن الطريقة " النوعية "

_ (1) هنالك تعبير نموذجي عن الحيرة المتبرمة التي يواجه بها الدارس الغموض الشعري المتعمد، موجود في تعليقات روبرت بردجز على الطبعة التي حققها من شعر صديقه هوبكنز. يقول بردجز: ها هنا إذن مصدر آخر للإبهام عند الشاعر وهو انه حين يهدف إلى التركيز يغفل الحاجة إلى العناية بكيفية وضع الكلمات الغامضة من حيث العلاقات النحوية. فاللغة الإنجليزية تكتظ بكلمات لا يتغير شكلها عن كانت اسماً أو صفة أو فعلا، ومثل هذه الكلمة يجب إلا توضع أبدا وضعاً يؤدي إلى الشك في أي نوع هي من الكلام، لأن مثل هذا الغموض أو هذا الشك الموقت يحطم قوة الجملة. أما شاعرنا هذا فإنه لا يغفل فحسب أمر هذه الصحة الضرورية بل يبدو انه يرحب بها ويبحث عن التأثير الفني في الفوضى الناجمة عن ذلك، وأحيانا يرتب الألفاظ ترتيباً يجعل القارئ، وهو يبحث عن الفعل، يجد أن لديه اثنتين أو ثلاثاً من الكلمات الغامضة ذات المقطع الواحد وان عليه أن يختار إحداها فيقع في شك حول أيها هي الأصح لتعطيه المعنى الذي يفضله، ثم بعد أن يقع اختياره على إحداها يظل لديه كلمات ذات مقطع واحد لا يديري في أي مكان من الجملة يضعها. وشاعرنا أيضا لا يحس بالإيحاءات المتنافرة التي تسببها الكلمات العديدة ذات الأصوات المتشابهة فيثير أنواعا أخرى من الغموض والإبهام وذلك بضغطه على معاني هذه الكلمات التعسة.

التي انتهجها امبسون أخيرا. فانه في تحليله سداسية (1) مزدوجة لسدني، يلحظ ان القوافي الست التي قد أعيدت كل واحدة منها ثلاث عشرة مرة في القصيدة هي " لب لباب الموقف الشعري ". " وعند هذه الكلمات فحسب توقف كل من كلايوس وستريفون في صيحاتهما، فان هذه الكلمات تحيط عالمهما ". والذي يعنيه امبسون هو أن شكل " السداسية " نفسه، بدلا من أن يكون شكلا صعباً ثابتاً يفصل الشاعر المحتوى على قدره كما هي الحال في نقد رانسوم، هو لب المحتوى على التحقيق، وان الشكل هو النزوع نحو الموت في صورة تعبير. " فهذا الشكل لا اتجاه له ولا زخم، وإنما هو يدق أبدا على نفس الأبواب دونما جدوى بعويل ونغمة ذات وتيرة واحدة، واقفة لا تتحرك، مهما يكن التنويع في موسيقاه خصباً ". ولو تقدم امبسون خطوة واحدة لاقترح أن يطلق اسم " سداسية " على أي قصيدة مكتوبة في أي شكل، وتعالج المأساة برضى رواقي أو بنواح غير محتوم. (أي هو نواح على نقيض ما في المرثاة لأنه هنالك محتوم) وهذا هو، على التدقيق، ما كان لكتابه الثاني أن يحققه في الشعر " الرعوي ". وفي كتاب " سبعة نماذج من الغموض " عدد من أمور أخرى قيمة. وأوضحها انه، صفحة اثر صفحة، يحتوي بحق أدق تمرس بالشعر

_ (1) السداسية: قصيدة من ست دورات أو مقطوعات في كل واحدة ستة اسطر، وهي غالباً غير مقفاة وإنما تعاد فيها الكلمات التي وردت في أواخر أبيات المقطوعة الأولى على النحو التالي: 1 - أب ج د هـ و2 - وأ هـ ب د ج 3 - ج ود أب هـ 4 - هـ ج ب وأ د 5 - د هـ أج وب 6 - ب د وهـ ج أ

وبقراءته، وأشده إمعانا وإسهابا فيما خطته يد إنسان، أي يحتوي على نثل جذاب عجيب لا يكاد ينتهي للمشتملات والإمكانات اللغوية، وليس لدينا مجال كاف لاقتباسه طويلة طولا يكشف عن الميزة الصحيحة للكتاب ولكن الفقرة التي تقدمت عن " مرابع الرتتيل العارية المهدمة " توحي بنسبة الإسهاب في التحليل لبيت كامل أو مقطوعة أو قصيدة. وهذه القراءات لا تعتمد، فحسب، تناول تهمة " الغموض " ونشرها راية ينضوي تحتها كل ما يحتاج قراءة دقيقة، واتخاذها موضوعاً يستحق الثناء بل تعتمد أيضاً على قبول كل ما رفضه الآخرون في البيت كله. وإذا كان هناك من سر خاص بإمبسون فذلك هو تحويله السالب إلى موجب كأنما يقول عند كل موقف: " طيب، لا بأس. هكذا هي؟ وهذا أحسن ". فإمبسون يضم إلى صدره خباثة شيكسبير الخاصة أي التورية أو المواربة اللفظية، ويعتبرها مركزاً للمعنى لا تبدداً فيه، ويعشق الخطأ المطبعي، فهو في نظره ذكي دال، لأنه يوحي بمعان خبيثة مدفونة، وهو يرضى أن يقبل تهمة الشذوذ الجنسي التي رمي بها شيكسبير ويقفز منها تواً إلى إنشاء علاقة بينها وبين ميله للتورية: " لذة مؤنثة في الانقياد إلى سحر اللغة المنيم ". وهو يواجه، بصراحة، التصوير الحسي المروع في الشعر الديني الميتافيزيقي - مثل الذي قاله كراشو عن طهارة القديسة تريزا في تلك الصورة الدفينة عن الجماع أو صورته التي قال فيها أم جرح المسيح حلمة دامية " لابد للأم العذراء أن ترضع - عندها - الابن "، ودراسته لهذا التصوير مثل جميل على النوع السابع من الغموض. ويتقل إمبسون، لأغراض سقراطية المنزع، جميع التهم التي يمكن أن توجه إلى طريقته، فيقول في موضع من كتابه: " إن عادة البحث عن الغموض تقود بسرعة إلى الهلاس، مثلما تمرن نفسك على أن تسمع دائماً

ساعة تدق "، ويقول في موضع آخر: " أن الأحجية الأدبية متعبة، وهذه المعاني لا تستحق أن تنقب عنها إلا أن كانت مبثوثة ذائبة في تضاعيف القصيدة؛ وقد يقول كثير من الناس أنها لا يمكن أن تذوب، وأن السوناتة اللطيفة الرشيقة يجب أن لا تقتضينا هذا القدر من الشرح، مهما يكن حظها من الإشارات والمشاعر التي قد يكون شيكسبير - أن صح هذا كله - أودعها فيها، دون أن يستطيع توضيح ما في ذهنه بدقة ". (وجوابه على هذا النقد النظري الذكي العاقل هو أن يقول " وقد يعترض المرء،؟ وقد يعتذر المرء؟ وقد يقال بقوة وجرأة؟ ". أما الاتهام الكبير الآخر وهو أن التحليل يشوه الجمال (أنظر موقف بلاكمور في مواجهة مجاز يصور امرأة تنشر نصفين، فإنه مواجهة للشيء نفسه) فإن إمبسون يقره بغلظة وجفاء حين يقول: أن النقاد، وهم في هذه المسألة " كالكلاب العاوية "، نوعان: فريق يفتأون ما في أنفسهم يتشمم زهرة الجمال، وفريق أكثر نهماً من الأولين وهم الذين يجرحونها بكثرة التقليب. ولا بد لي من أن أعترف بأنني أطمح إلى أن أعد في الفريق الثاني، فإن الجمال المصمت الذي لا يجد تفسيراً وتعليلا يثير أعصابي ويدفعني إلى تجريحه وتخديشه بالتقليب، وقد يصح القول بأن جذور الجمال يجب أن لا تدنس، ولكني أرى أنه لمن العجرفية أن يظن الناقد المتذوق أنه يستطيع ذلك، بقليل من التجميش، إن شاء ذلك ". وقد باين إمبسون بصراحة طريق الناقد " المتذوق " وتميز نقداً " تحليلياً "، وأحياناً يكتب كأنما يعتبر نفسه، على الحقيقة، النوع الثاني من الكلاب، أعمى عن التذوق، وعن اللامحدود في الشعر، ومن ذلك أنه يفتخر في أحد المواضع بأنه استطاع أن يحول شيئاً " سحرياً " بالتحليل

إلى شيء " محسوس ". وعلى رغم هذا كله فإن إمبسون قد حدد فرضيات طريقته بأوضح مما فعل أي ناقد آخر - على وجه الإجمال - وهذه الفرضيات تهدف في النهاية إلى التذوق، غير أنه تذوق يتم من خلال الفهم، كتب يقول: حين أنحل التحليل كل هذه الخصائص أبدو وكأنما سلكت نفسي في الدائرة " العلمية " من دوائر النقد الأدبي وبالتفسيرات " السيكولوجية " لكل شيء، وبالأعمدة التي تتحدث عن معامل الحساسية عند القراء. وبين النقاد نوع من النظام الحزبي آخذ بالتكون. وسيقال في النقاد الذين لا يعتقدون مبدأ الصدق وحده ولا مبدأ الجمال وحده أنهم متقلبون متنقلون، أما الخير، فذلك العضو الثالث في تلك " الثلاثية " المتماسكة، فإنه لم يعد يقرن إلا بالصدق، حتى أنه لم يتوقع من الجماليين أن يظهروا قلة اكتراث بالمبادئ التي يؤسسون عليها في الحقيقة (أو هذا ما يجب أن يفترضه المرء) حياتهم. وفي الوقت نفسه نجده صريحاً واضحاً حول المدى التجريبي وحول المحدودية النهائية، التي تشتمل عليها طريقته، يقول: حين يرغب الناقد في تطبيق التحليل الكلامي على الشعر فإن موقفه يشبه موقف العالم الذي يرغب في أن يطبق مبدأ الحتمية على الكون، فقد لا يكون مبدؤه منطبقاً في كل ناحية، ثم هب أنه أنطبق تماماً فإنه لا يفسر كل شيء، ولكنه لابد له من افتراض صحة انطباقه، حيث يعمل، ما دام يريد أن يؤدي عملا، وأن يفسر به ما يحاول أن يفسره. ولا يدرك إلى أي مدى يبدو المبدأ صواباً - منطبقاً تماماً - وإلى أي مدى يساعد في التفسير، إلا قارئ كتاب " سبعة نماذج من الغموض ". أما الكتاب الثاني " بعض صور من الأدب الرعوي " (وقد نشر في

هذا البلد سنة 1938 بعنوان " الشعر الإنجليزي الرعوي ") فقد ظهر بإنجلترة عام 1935، ولما كنا سنتحدث عنه بشيء من الإسهاب فيما يلي، فأنا لا نحتاج هنا إلا أن نلحظ أنه استمرار لجميع مظاهر " النماذج السبعة " وأنه مضى طلقاً بعده في القراءة الدقيقة لنواحي الغموض وزاد عدداً من التحسينات والتوثيقات. وقد تركز هذا الكتاب الثاني على " النوع " أي على نوع من الشعر سماه إمبسون " الرعوي "، واستخلصه من مظاهره الاسلوبية، وجعله شكلا وحوله إلى منحى شعري موجود في أنواع من الأدب شديدة التباين فيما بينها وحسبك بهذا موقفاً ساخراً معقداً. وبذلك حطم إمبسون الضدين النقديين الباليين، وهما " الشكل " و " المضمون " حتى في شكلهما المصطنع التقليدي من أجل غايات تحليلية، وانتحى في مكانهما نحواً نقدياً ينكر أن الاثنين كيانان منفصلان، وعالج ما اعتاد الناس تسميته " شكلا " على انه محتوىي، والعكس بالعكس. وقد كان منهاجه جشطالتياً، دون أن يقرر ذلك، في نظرته إلى كل القصيدة، أما المصطلح " رعوي " فقد استعمله مبدأ عضوياً دينامياً، ومد في مفهوم " الغموض " ووسعه حتى أصبح آلية نقدية يعالج بها الأثر الفني كله، لا مواطن الالتواء فيه. ومنذ أن كتب إمبسون " بعض صور من الأدب الرعوي " انشغل بما لا أحده، فلم يظهر له أو عنه شيء من عندئذ، على الأقل في أميركة (1) .

_ (1) حوالي عام 1936 نشر إمبسون وجورج غاريت كراسة تباع بشلن عنوانها " جولة حول شيكسبير " Shakespeare Survey ولم أستطع أن أرى نسخة منها إلا بعد أن طبع هذا الفصل على الآلة الكاتبة، وكل ما أستطيع إثباته هنا هو أن الكراسة تحوي مقالين لامعين لإمبسون وهما " خير سياسة " دراسة لعطيل من خلال نواحي الغموض المبثوثة هنا وهناك في كلمة " شريف " والثاني " كلب تيمون " وهو كشف عن الصور المتصلة بالكلب في رواية " تيمون الأثيني " وهو نقد للتبسيطات المغرقة التي اعتمدتها الآنسة سبيرجن. ومعهما فذلكة متحذلقة - وربما تعيسة - لغاريت، عنوانها " بروسبيرو ذلك المقامر النصاب " تبين أن بروسبيرو هو وغد رواية " العاصفة ".

وفي سنة 1937 كتب مراجعات في مجلة " كريتريون "، من بينها مراجعة عن رتشاردز وانهمك في جدل أدبي مرير على صفحات مجلة " شعر " (شيكاغو) مع جيوفري جرجسون محرر مجلة " الشعر الجديد " - كتب جرجسون " رسالة لندنية " ينقد فيها موت النشاط الأدبي الإنجليزي حينئذ فكتب إمبسون " رسالة لندنية " يجيبه، وينقد موت أدراك الأدب عند جرجسون، فرد عليه هذا بسيل من السب والقدح وأنهى إمبسون الجدل بتحقير عام صبه على جرجسون، ولم يكن في ذلك الجدل ما يسهم بشيء من النقد. ثم سافر إمبسون بعد ذلك في وقت ما من عام 1937 إلى الصين ليدرس هنالك (وكان في اليابان سنة 1933) وبقي في الشرق سنتين فلما نشبت الحرب عام 1939 رجع إلى إنجلترة وتلبث قليلا في الولايات المتحدة. وكان إمبسون طوال كل هذا الوقت يجرب أن يبرز في شعره الامتداد الساخر للأنواع الشكلية، شبيهاً لما صنعه في النوع " الرعوي ". وأول مجلد شعري له كان يحتوي استعمالين " جادين " لشكل القصيدة الريفية (1) Villanelle يتفاوتان في نجاحهما. وفي مجلة كريتريون، عدد أيار (مايو) 1937 نشر قصيدة ريفية ناجحة تماماً عنونها فيما بعد بأسم " تواريخ مفقودة " وفيها اختلط الشكل الوتيري الجافي - كما هي الحال في " سداسية " سدني - بالفكرة الفلسفية التي يراد التعبير عنها. وفي أميركة استمر إمبسون على منحاه نفسه في النقد. فحاول في مراجعة كتبها عن كتاب " الشعر الحديث والاتباعية " لكلينث بروكس ونشرها في مجلة " شعر " عدد كانون الأول (ديسمبر) 1939 أن يحول أشد المصطلحات ابتذالا مثل: شعر الدعاوة - الشعر العاطفي - الشعر السامي، إلى أنواع

_ (1) هذا النوع من القصائد الريفية يحوي تسعة عشر بيتاً في قافيتين وينقسم في خمس مقطوعات كل مقطوعة من ثلاثة أبيات ثم قفل من أربعة.

متمايزة ركينة مقترحاً مظاهر للبناء، محدداً نوع الوظيفة التي تلحق بكل نوع. وفي كانون الثاني (يناير) 1940 ألقى إمبسون محاضرة في ييل عن " فوائد الإنجليزية الأساسية للنقد " (1) فطور بذلك مظهراً جديداً لطريقة ريشاردز في النقد، ثم وسع فكرته هذه في حديث أذاعه، وجعل عنوانه " الإنجليزية الأساسية وودرزورث " وطبعه في مجلة " كينيون "، عدد الخريف عام 1940، وفي هذا المقال اقترح أن تتخذ " الإنجليزية الأساسية " التي كان يعمل فيها مع اوغدن ورتشاردز (قام بوضع ترجمات أساسية للسلسلة أوغدن) وسيلة لنقد الشعر. وقد سلم بان الشعر لا يمكن ان يكتب بالإنجليزية الأساسية لان واحداً من متطلبات الشعر ان تكون الأفعال مركبة، واقترح عوضاً عن ذلك ان يقرا الشعر بعون من الإنجليزية الأساسية. (قدم رتشاردز من قبل اقتراحاً مماثلاً لقراءة النثر في " التفسير في التعليم ") . فالقارئ يترجم القصيدة إلى اللغة الأساسية وبلك يحطمها وهو ينثرها، وفي سياق هذه المحاولة لترجمة الكلمات المعقدة في معنى واحد واضح، يزيح القارئ " الغطاء "، ويرى لم جاء " الوجه الأساسي خطأ " ويستكشف المجموعة المركبة من الأفكار الكامنة وراء ما يبدو انه مشاعر بسيطة. ويوضح إمبسون هذه الخطة بمثل من وردزورث مثلما كتبه هذا الشاعر أولا ثم كيف أعاد كتابته وذلك بنثره إلى لغة أساسية وتحليله. أما التحليل فإنه غاية في الخمول وعدم والتمييز، ومثله يستقل من إمبسون، فالنقاط فيه ساذجة ويبدو انه يقترح أن يستعمل اللغة الأساسية كأسلوب ميكانيكي لتؤدي ما يعمله عقل الناقد أوتوماتيكياً بالقراءة، دون أساليب ميكانيكية. ولا ينجح

_ (1) سيأتي الحديث عن الإنجليزية الأساسية في الفصل التالي الخاص برتشاردز.

إمبسون في الكشف عن أية حاجة أخرى إلى اللغة الأساسية في نقد الشعر أكثر من حاجة هذا النقد إلى الآرامية والقطلانية، لان ترجمة قصيدة ما في إحدى هاتين اللغتين، أو في أية لغة أخرى، قد يؤدي المهمة نفسها بقدر مشابه من الإتقان. وفي سنوات الحرب كان إمبسون يعمل في القسم الصيني من محطة الإذاعة البريطانية، واختفى تماماً من عالم الطباعة، على الأقل في أميركة. ثم ظهرت له مراجعات عدة خلال عامي 1946، 1947 في مجلة " الشعب) ، وقد صنعها قبل ان يعود ليدرس في الصين. وأول مراجعة تناولت " كريستوفر مارلو " Christopher Marlowe لبول هـ. كوتشر، وليس فيها من شيء إلا مقاومة رأي كوتشر، وهو رأي طريف، في مارلو صدع فيه بالحقيقة القائلة: ان مارلو هو " الرجل الذي عسا على الفاشية " (تعبير لرادك قاله في سيلين وكان إمبسون مغرماً به دائماً) ، وقال فيه أن " الحقيقة الأساسية المتعلقة بآثار مارلو " هي أن نلحظ أن مناظر الرعب، وهي الذرى في رواياته، إنما هي عقوبات مسرحية لإثمي مارلو نفسه، يعني الكفر بالله والشذوذ الجنسي. وكانت مراجعته الثانية للطبعة الأميركية من قصة " المسخ " Metamorphosis لكافكا أكثر ضحالة وما زاد فيها على ان كال السباب للمقدمة وللتوضيحات وسماها " متعنتة " وصرح بان القصة " لكمة على الفك " (الأميركي قد يقول " في الفك ") وعد فيها تذبذبات كافكا وأخطاءه السخيفة. أما المراجعة الثالثة عن " كتابات مختارة " لديلان توماس فقد تحدث فيها عن شعر توماس بمصطلح غامض، وبعد جهد كشف عن المعاني الكامنة في سطر واحد، وأما الرابعة فأنها فقرة واحدة لحظ فيها أن شعر روبرت غريفرس قوي الأسر خفيف معاً. وتؤيد مراجعاته في مجلة " الشعب " ظناً يحيك في صدر كل من يقرا كتبه، وهو أن المراجعة

القصيرة ليست المجال الصالح لإمبسون الذي يبدو انه يريد دائماً متسعاً يجول فيه ويصول (1) . 2 - أن خير عبارة نفتتح بها تحليل كتاب " بعض صور من الأدب الروي " لهي تصريح إمبسون المدهش في الفصل الأول بأن كتابه هذا

_ (1) في تاريخ متأخر من عام 1947 ظهرت الطبعة المنقحة التي طال انتظارها من كتاب " سبعة نماذج من الغموض " وإذا بها لسوء الحظ مخيبة للآمال بعض الشيء. لقد أضيفت إليها حقاً أشياء قيمة وخاصة مقدمة للطبعة الجديدة تفسر الغايات التي من اجلها كتب الكتاب وترد عنه بإسهاب ما تلقاه من نقد، وأسقطت منه " نتف قليلة من التحليل " اعتبرت تافهة او نابية، مثل " النوادر التي تبدو لي الآن مملة "؛ وذيلت الهوامش بإشرات إلى مصادر المقتبسات، وربطت القرائن معاً، وأضيفت ملخصات للفصول وفهرست للكتاب وصححت الأخطاء وزيديت تعليقات في الهوامش تفسر الرأي أو توسع من نطاقه. ويرجح بكل هذه التغييرات جميعاً تلك التعديلات التي تشمل تعليقات هامشية ينحي فيها باللائمة على نفسه متمسكاً بما قد كان يجب ان يقوله في الكتاب أو موضحاً فكرة له ماثلة إلى المحافظة مثل: " كان من غبائي أن؟ " " وهذا حمق صدر عني " " ويبدو إنني أخطأت وجه الرأي " " وسبب القبح " " وأنا الآن اعتقد أن هذا المثل تكشف عن سراب خادع "، وما أشبه ذلك. ويعلق إمبسون: " دهشت عندما تبين لي ان ما أؤثر تغييره قليل "، والحق ان التغييرات الهامة في موقفه لم تجر إلا في تضييق مفهوم " غموض " فبعد ان كان هذا المصطلح يعني " ما يضيف ظلالا للتعبير النثري المباشر " أصبح يعني " ما يفسح مجالا لأصداء متناوبة تثيرها القطعة الواحدة "، ثم أستقوى عنده الميل إلى القول بان غموض النصوص الشيكسبيرية قد يكون في الحق خطا مطبعياً. وأشد ما يزعج في هذه الطبعة الثانية هو النغمة الجديدة التي تعكس روح المحافظة الوقور وهي اعتذارات مؤلف تجاوز عهد طيشه وخفته بحقبة مقدارها سبعة عشر عاماً (يقتبس إمبسون في المقدمة تعليقة لماكس بيربوم راجع فيها واحداً من كتبه الأولى وكيف انه " حاول أن يتذكر كم يكون مبلغ غضبه حين كتبها لو أن شيخاً متقعراً هو الذي أجرى عليها التصحيحات وكم يكون مبلغ ثقته في أن ذلك المرء نفسه مخطئ "، ولكن النادرة كانت من الحدة بحيث تبتعد على أن تكون مضحكة) ، وان الطبعة المنقحة من كتاب " سبعة نماذج من الغموض " لتعد من بعض وجوهها تحسيناً فعلياً إذا قيست بالطبعة الأولى فقد تحسن فيها الأسلوب كثيراً وأصبحت أكثر وضوحاً (وربما كان هذا من تمرس إمبسون بالإنجليزية الأساسية) والاطلاع فيها أوسع والحوار الجدلي فيها أقوى وقد تكون أرصن من وجه عام ولكن لا ريب في أن هناك شيئاً هاماً قد ضاع منها.

محسوب في علم الاجتماع. ويقول في تحديد هدفه: " لعل القضايا التي أثيرها هي المدهشة لا العادية، وإذا علقت بمثل من الأمثلة تتبعته استطراداً دونما اهتمام بوحدة الكتاب، حقاً انه ليس كتاباً خالصاً لعلم الإجتماع، وهذه حقيقة لا تسمح لكثير من المشاعر الاجتماعية الهامة ان تجد طريقها إلى الأدب ". والتعبير الهام هنا هو " المشاعر الاجتماعية " لان الكتاب وقف على التبصر في النزعات من وجهة نظر تاريخية نسبية، وكيف تجد التعبير عنها في أنواع من ذلك البناء التركيبي الذي يسميه " رعوي " في جانبي شكله ومضمونه. وهو بحث عن " الأشكال الثابتة التي تكمن وراء المظاهر التاريخية المتغيرة " كما يقول كلينث بروكس. وهذا الشكل الثابت أي الرعوي هو فلسفة ونزعة اجتماعية أو شعور وغموض ساخر وموضوع للدعاوى وخطة أسلوبية كل هذه جميعاً في وقت معاً؛ والحق أنه لابد ان يكون ممثلا لكل هذه الأمور مجتمعة أو يصبح شيئاً كلا شيء؛ والكلمة التي تنفك تلتحم بكلمة رعوي فهي لفظة " بسيط " إذا يعرف إمبسون الرعوي في أحد المواطن: " بأنه ناس بسطاء يعبرون عن مشاعر قوية في لغة محررة موشاة " وفي موطن آخر يقول أنه " ثناء على البساطة " وفي ثالث يقول " هو إحالة المركب إلى بسيط ". ويعرف الجوهر المتضاد في الرعوي بقوله " أن يحكم على الشيء المرهف بالأساسي وان تستقاد القوة من الضعف، ويلحظ الميل الاجتماعي في الوحدة، وتتعلم خير الأخلاق من الحياة البسيطة " ويقول في موضع آخر: " إذا اخترت فرداً هاماً من طبقة ما فالنتيجة ملحمية بطولية. وإذا اخترت فرداً عادياً فالنتيجة رعوية ". وهذا النوع الرعوي الذي اهتدى إليه إمبسون هو في الأساس هو مذهب البساطة أي هو شيء في الأدب يشبه ماري أنطوانيت ووصيفاتها وهن يتواثبن على المروج الخضر لابسات ثياب الراعيات، ولابد أنه اهتدى

إلى هذه الفكرة من خلال عملية تجريدية، إذا لحظ إن الجو الريفي والغنم والمروج الخضر في الشعر الذي يسمونه - تقليدياً - رعوياً، ما هي إلا زخارف سطحية وأن ما تشترك فيه الأشكال المتنوعة من هذا الشعر إنما هو في أساسه نزعة اجتماعية فحسب. ولم يتبق عليه من موقفه هذا إلا خطوة واحدة يلحظ منها أن الأمثلة الأدبية الأخرى البعيدة عن الأمثلة الرعوية إنما هي طرق للتعبير عن هذه النزعة نفسها أيضاً فيضيفها بذلك إلى الأشكال الرعوية وبعض هذه الأشكال الأخرى تميز العصور الأخرى بما في ذلك عصرنا. فالقصيدة الرعوية ليست إذن قصيدة عن الرعاة ولكنها قصيدة تحاكي الأناشيد الرعوية القديمة التي كانت تدور حول الرعاة. وليست الفصول السبعة في الكتاب (أي غرام هذا الذي يحمله امبسون لهذا العدد الباطني؟) (1) إلا سبع صور من الشعر الرعوي وأولها، وهو أكثرها إثارة للقارئ الذي امتلأت بالأفكار التقليدية، يتحدث عن الأدب البروليتاري. ولدى امبسون فكرة غير متناسبة نسجها من ذهنه عن البروليتاري فاستعملها في هذا الفصل ليجعل منها صورة الراعي الممجد ليحدد السخرية الكامنة في طبيعة هذا النوع من الشعر الرعوي. أما الصور الست الأخرى من الشعر الرعوي فإنها أقل بقليل استثارة لدهشة القارئ وتتحدث عن الحبكة الثانوية في المسرحية ذات الحبكة المزدوجة وعن " سوناتة " لشيكسبير تدور حول الأرستقراطية وعن قصيدة لمارفل عنوانها " الحديقة " وعن " الفردوس المفقود " و " اوبرا الشحاذ " و " أليس في أرض العجائب " (الطفل في صورة راع) . وبعد الفصل الأول يري الكتاب، وهو يتغلغل تاريخياً خلال الأدب الإنكليزي في إنطلاقات متفاوتة،

_ (1) أي العدد سبعة، وهو داخل في مقدسات الأمم، بشكل لافت للنظر.

التغييرات التي انطبعت على الفكرة الرعوية خلال القرون فشملت أولا ترديداً للقصة الملحمية في الدراما على مستوى غير عال، وسمحت بدخول المتناقضات الساخرة في السوناتة الشيكسبيرية، واستعملها مارفل ليقرر التضاد، وتحولت عند ملتن إلى صورة لاهوتية " طهارة الإنسان والطبيعة " ومسحها غاي بمسحة مدنية، واستعملها لويس كارول أناء لتسريب المشاعر الجنسية الشاغلة. وهذا كله طبعاً يشير إلى تدرج اجتماعي؛ ويتكئ إمبسون بشدة على علم الاجتماع وخاصة النظريات الماركسية ليوضح الأصول الاجتماعية ووظيفة كل نظرية منها. وأهم ممارسة في هذا التحليل هي الفصل الذي كتبه عن " الأدب البروليتاري " وهو فصل ينكر في الوقت نفسه كثيراً مما يسمى أدباً بروليتارياً رآه امبسون، ويضع مبادئ صلبة لأدب بروليتاري مستمداً من النظريات الفعالة في الحضارة الرأسمالية وأخرى قد تزدهر في الحضارة الاشتراكية. ثم يصنف في الوقت نفسه المظاهر البارزة لعدد من الآثار الأدبية حسب النظرة الطبقية فيسمي الانيادة نفخة سياسية من اجل أغسطس (مقتبساً ذلك عن بوب) ويرى أن مرثاة غراي (ههنا فقرة مدهشة) تحتوي على " أيديولوجية " برجوازية ويستمر في تبيان القاعدة الطبقية للقصص الخرافية وأغاني الحدود وآثار لويس فردنند سيلين. والحق أن امبسون يستعمل التحليل الطبقي خلال الكتاب كله ملاحظاً أن الفكاهة الساخرة وسيلة يستدرج بها المرء لكي يتقبل أن يكون محكوماً وان الرواية تحتوي حبكة بطولية وحبكة رعوية ثانوية لكي تدل " على علاقة صحيحة جميلة بين الأغنياء والفقراء "؛ وان المعارضات الساخرة تقوم بدور التسريب الاجتماعي، وتخلص الجماهير من الدوافع التي تدفعها إلى المقاومة الشديدة. (فهي إذن وسيلة لتجريد النقد من قوته سواء ما كان منه اجتماعياً أو فنياً وليست وسيلة للنقد) وهلم جراً.

ولم يذكر ماركس إلا مرة واحدة في الكتاب وذلك عند ذكر الإشارات إلى المال في " أوبرا الشحاذ " وان تلك الإشارات إنما هي احتقار للمال كتلك التي وردت في " تيمون " وقد حلل هذه الثانية " بلذة فائقة ". ومع هذا فإن الكتاب ضمناً ماركسي في مجموعه وهو شيء لم يلحظه إلا كنث بيرك فيما يبدو إذ تنبه إلى ان " الاتكاء على الماركسية قد منح كتابه أفقاً جديداً " وقال في تقديره له " وقد يطول نظر المرء في كتابات اشد النقاد الماركسيين اعتداداً بأنفسهم قبل أن يجد مثل هذا التحليل الماركسي العميق للأدب " (من الممتع أن نلحظ أن إليك وست وهو الناقد الماركسي الوحيد الذي يبدو انه وجه عناية لمؤلف امبسون يقتبس باستحسان عوامل التغيير الاجتماعي التي يجدها كامنة وراء " مرابع الترتيل العارية المهدمة " ويهمل كل ما عداها من العوامل) . كذلك فإن كتاب " بعض صور من الأدب الرعوي " يتوغل في استغلال فرويد والتحليل النفسي أكثر من كتاب " سبعة نماذج من الغموض " ومركز الدائرة في هذا الاتجاه هو الفصل الذي كتبه عن " أليس في بلاد العجائب " ولعله انجح تحليل فرويدي مختصر للأدب خط فلم كاتب حتى اليوم. ويشير امبسون إلى أن النقاد فيما يبدو قد تجنبوا الجاد " لأليس " خوفاً من ان يقودهم ذلك حتماً إلى التورط في شعاب التحليل النفسي وان النتائج بعد ذلك ستكون محرجة. إلا أن دودجسون (1) نفسه كان فيما يظهر على وعي بمعاني الكتاب لأنه قال لممثلة كانت تؤدي دور (ملكة القلوب " بان دورها رمز " للشهوة الحيوانية الجامحة " كما تراها عينا طفلة لا تبص فيهما الرغبة الجنسية. ويقول امبسون: " أن الكتب تدور بصراحة حول النمو حتى انه ليس كشفاً ضخماً أن نترجمها بالمصطلح

_ (1) هو مؤلف القصص عن " أليس) ، وأسمه المستعار هو " لويس كارول ".

الفرويدي؛ ولعل هذه الترجمة هي الوسيلة المثلى لتفسير الكاتب الكلاسيكي حتى حين تكون صدمة للمؤلف؟ وسأستعمل التحليل النفسي حيث يبدو مناسباً ". ثم يمضي في تحليله مظهراً أن الكاتب تمثل تنوعاً من الأنموذج الرعوي حين يكون خفيفاً موصلا بالطفولة عصبياً. أما ذلك الأنموذج فهو " الطفل يصبح قاضياً " أو الطفل المحسود لأنه عادم الرغبة الجنسية (إذ أن دودجسون عادل بين تطور الجنس والموت) وإليك نموذجين صغيرين من تحليل أمبسون المطول يدلان على طريقته: إذا أراد المرء أن يجعل قصة الحلم الذي تشققت منه " بلاد العجائب " يبدو فرويدياً فما عليه إلا أن يقصه. سقطة، خلال شق عميق، في أسرار الأرض - الام الكبرى - تنتج نفساً جديدية محصورة تعجب من هي وماذا سيكون موقفها في العالم، وكيف تستطيع أن تخرج من مأزقها. أما المكان الذي وجدت نفسها فيه، فهو بهو طويل داني السقف، وهو جزء من قصر " ملكة القلوب " (وهذه لمسة لبيقة) ، لا تستطيع أن تبرحه إلى الهواء الطلق والينابيع، إلا من خلال ثقب مخيف من شدة ضيقه. وتحدث لها في ذلك المكان تغييرات غريبة من جراء الطريقة التي تغتذي بها، ولكنها حين تكبر تعجز عن الخروج، فإذا صغرت لم يؤذن لها بذلك، لسبب واحد: وهو إنها لا تملك مفتاحاً لأنها بنت صغيرة. أن الموضوع الكابوسي عن آلام الولادة أي حين تنمو، وتكبر عن مدى الغرفة، وتكاد فيها تتحطم وتختنق، لا يستعمل فحسب في هذا الموضوع من القصة، بل يكرر بصورة أشد إيلاماً بعد أن يبدو لنا إنها خرجت، غذ يرسلها الأرنب بفظاظة إلى بيته، ثم يقدم لها نوع من الطعام يجعلها تنمو ثانية. وحين

يرسمها دودجسون وقد تشنجت عضلاتها في الغرفة وإحدى قدميها مرتفعة فوق المدخنة، وهي تركل بها الشيء البغيض الذي يحاول النزول (تأخذ قلمه حين يكون أحد المحلفين) (1) فإنها تمثل وضع الجنين بأوضح مما يمثله الرسم الذي صنعه لها تنيل (2) ؟ أن الكمال الرمزي في تجربة " أليس " هام فيما اعتقده لأنها تمر بجميع المراحل فهي أب في نزولها الشق، جنين في قاعه، ولا تستطيع ان تولد إلا حين تصبح أما وتفرز غرسها (3) وسواء أكان ذهنه على وعي بترجمة هذه المراحل في القصة أم لم يكن فأن لديه المشاعر التي تناسبها وتتجاوب معها فان رغبته في ان يحشر كل الشؤون الجنسية في الطفلة وهي أقل المخلوقات الإنسانية حظاً من الجنس، ويجعل الجنس منها في الموطن الأمين - أن رغبته تلك كانت جزءاً هاماً من سحر هذه المراحل في نفسه، فهو يتخيل نفسه هذه الطفلة (مع هذه الخصائص المريحة فيها) بعض الشيء، ويتخيل نفسه أباها من وجه آخر (هذه الخصائص معاً تجعلها أباً) وكذلك يتخيل نفسه من ناحية ثالثة حبيبها - ليمكنها ان تكون أماً - ولكنها بالطبع ماهرة منعزلة إلى درجة تمكنها من ان تعمل كل شيء لأجل نفسها. والنظرات النفسية التحليلية موزعة في جميع الكتاب، بالإضافة إلى هذا الفصل، فيتناول امبسون القراءة النفسية التي أجراها إرنست جونز على هاملت ويوضح إنها تشير إلى وجود حبكة مزدوجة، ويستعير اصطلاح

_ (1) هذا شيء يتصل بقصة أليس إذ أن الشيء الغريب الممقوت في بعض أجزاء القصة يبدو لها واحداً من المحلفين. (2) هو الرسام الذي صنع رسوماً موضحة لقصة " أليس ". (3) أي ما يسمونه في حال الولادة " ماء الرأس ".

جونز " تجزئة " - أي تجزئة الشخصية الواحدة في عدة شخصيات وكل واحدة تمثل مظهراً واحداً من الشخصية المجزاة - ويتخذه مبدأ أدبياً عاماً منفصلا عن عقدة أوديب. ويحلل صورة الشكس والشذوذ الجنسي المرتبطين معاً عند شيكسبير ومارلو، وإيحاءات اللواط والزنا بالمحرمات التي يلون بها دريدن الحب الطبيعي في رواياته، وهكذا. وقد كشف أمبسون في كتاب " سبعة نماذج من الغموض " عن معرفة واسعة بفرويد ولكنه لم يزد على أن يدور حول مصطلحات مثل " النقل " و " الخلط " ليصنف العمليات الأدبية. وليس في " بعض صور من الأدب الرعوي " إلا إشارتان مباشرتان لفرويد إحداهما في بحث نظريته عن عقل الجماعة والأخرى تتصل بالعلاقة بين الموت والجنس في التورية التي تكمن في كلمة " يموت " die حسبما يستعملها كتاب عصر اليزابث. ولكن الكتاب أكثر من سابقه اطلاعاً على النظرات الفرويدية. وكلا الاتجاه الفرويدي والاستطلاعات الماركسية في الكتاب لم يعترف بها النقاد المحافظون فمثلا لم يذكر امبسون أبداً في كتاب هوفمان (الفرويدية والفكر الأدبي " " Freudianism and the Literary Mind " وهو بمثابة فهرست شامل للأدب الذي استغل آراء فرويد. وبالإضافة إلى ماركس وفرويد يفيد إمبسون من اثنين آخرين من عظماء القرن التاسع عشر وجهها العقل الحديث وهما دارون وفريزر، فلديه تحليل فذ للدارونية التي تتضمنها " أليس "، إذ وجد أن الكتاب " يمسرح " المبدأ القائل بان علم تطور الفرد يجمل علم تاريخ الجنس وانه أيضاً يعلق تعليقات منحرفة على المشتملات الخلقية والسياسية الموجودة في مبدأ بقاء الأصلح. أما " الغصن الذهبي " فانه ذو أثر واضح خلال الكتاب كالذي قلناه عن أثر فرويد، فان إمبسون يعتبر العامل في الأدب البروليتاري شخصية مذهبية أسطورية أي يعتبر بطل القرابين ألهاً محتضراً

ويقارن بينه وبين الأنموذج الاضحوي المشرقي عند فريزر، وهو يلائم الاشتراكية أكثر، أعني الإنسان الذي يشارك الطبيعة في الطهر والبراءة. ويبدو أيضاً أن " بعض صور من الأدب الرعوي " متأثرا كثيراً بمدرسة كمبردج أي بجماعة المشتغلين بالانثروبولوجيا من دراسي الكلاسيكيات (تأثير معقول في رجل كان يوماً منتسباً إلى كمبردج) مع أن الكتاب الوحيد الذي يتحدث عنه امبسون على التعيين من كتبهم هو " من الدين إلى الفلسفة " لكورنفورد. يضاف إلى هذه القاعدة المنظمة لنقده - وهي تشتمل علم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا واللغويات - استمداده من رصيد هائل من معارف عويصة نسبياً وتمتد من ميدان الطبيعيات الذرية إلى الفلسفة واللاهوت من اجل المجازات والأمثلة. ولا يرتكز هذا الكتاب حول شيكسبير كما هو واضح في حال الكتاب السابق، ولكن شيكسبير يظل خير مجال تنجح فيه طريقة إمبسون؛ فهو يلحظ أنواع الغموض، ويقترح أن شيكسبير أبي أن يحسم بين المعاني الممكنة عامداً، ويستكشف الحبكة المزدوجة في رواية " ترويلوس وكريسيدا "، وفي القسم الأول من " هنري الرابع "، ويحلل بتطويل كثير سوناتة لشيكسبير، وأخيراً يسلط الروايات والسوناتات بعضها على بعض ليفيد من أضوائها الموضحة بالتبادل. ولعل واسطة عقد الكتاب هي تحليله للسوناتة رقم 94 " أولئك الذين لديهم القدرة على الأذى ثم لا يفعلون " وهي خير عرض للقراءة الدقيقة التي يؤثرها إمبسون، سطراً سطراً. ويعلن في الفقرة الأولى من هذا التحليل، ساخراً، أن السوناتة تهيء " 4096 حركة من حركات الفكر مع إمكانات أخرى " وإنه فحسب يستطيع ان ينظر في عدد قليل من المعاني الممكنة التي تبدو هامة. ثم يتقدم لقراءة القصيدة قراءة جد مسهبة لم تنلها قبلها قصيدة غنائية، فيما أقدره، ناثراً لما فيها من نزعات، مستكشفاً صلتها بأفكار بالغة

التباين، كالمسيحية والميكافلية مخمناً المركز الاجتماعي ل و. هـ (1) . مترجماً الإمكانات في جميع الكلمات الرئيسية، مختتما خيراً بحل نثري مدهش لما فيها من سخرية مركبة، إذ يقول: أنا اطري لك المحقرات التي تعجب بها؛ يا ذا المكايد الصغير، فهذه هي الطريقة التي يحاول الآخرون أن يخدعوك بها متملقين، غير أن الذي يخدعك حقاً هو سماحتك الصغيرة وإن كانت لا تبدو إلا في ثوب الفسوق. ومن الحكمة أن تكون فائزاً أما أولا فلأن تلهبك يجاوز الحد، وأما ثانياً فلأن غلظة كبدك جرعتني القذى، غير إنني أستطيع أن أعفو كلما تذكرت الحديث الذي جرى في خلوتنا. ولا بد لي من أن أطري لك أخطاءك عينها، وأنانيتك على التعيين لأنك الآن فحسب تستطيع أن تربها حتى تنمو وبذلك تعيش مطمئناً. غير إن هذه الضرورة أشد أخواتها خطراً، فالناس طماحون بأبصارهم إلى سقطتك وانتكاستك شأنهم في ذلك مع كل عظيم. والحق أنه لا يستطيع أحد أن يعلو على مستوى الحياة المبتذلة، مثلما علوت وتوقلت الذرى، دون أن ينحط بنفس النسبة ويقع تحت مستواها. لقد جعلت هذه النصيحة حقيقة لدى نفسي، لأني لا أستطيع أن أنبذها احتقاراً، من أجلك، وما أنا واثق من شيء إلا من أنك علق نفيس يحفه الخطر. وطبيعي إن هذا الشيء لا يرضي دارسي شيكسبير مثلما لا يرضيهم تقييمه لأعمالهم في كتاب " سبعة نماذج ". وليست علاقات إمبسون بالدراسة

_ (1) لا يعرف اسمه على التحقيق وهو الذي كتب شيكسبير أغانيه من اجله.

والدارسين من العلاقات الطيبة. فإن الطبعة الجديدة ذات القراءات المتعددة من سوناتات شيكسبير ترى تعليقاته انحرافات غريبة، وذكر كلينث بروكس في دراسته لنقد إمبسون بمجلة أكسنت، صيف 1944، وهو بمعرض التعليق على إحدى أخطائه الساطعة - ذكر أن جيوفري تلوتسون قد لفت الانتباه إلى عديد من زلاته الدراسية ورداءة اقتباسه. ولحظ ليفز كذلك أنه يسيء الاقتباس والترميم. ويستطيع أي واحد أن يعثر على ثغرة عند إمبسون - أما الثغرة التي أراها أنا فهي جهله الصريح بأن المسرحية في عهد إليزابث كانت تقرأ على المسرح بأسرع مما نقرؤها اليوم لا بأبطأ - ولكن كل الثغرات تافهة لا يؤبه بها. وقد يخطئ إمبسون وهو مسرع غير إن عمله - بمعنى شامل - دراسة عارية عن الخطأ - من ناحيتي النص والتاريخ - ومن طراز رفيع. ومن الغريب أنه يمنح النصوص الدراسية احترامه الفائق ولكنه يرى فيها نوعاً من شعر رفيع غير صائب ولعل هذا أشد إساءة للدارسين من الرفض الصريح لما يعملونه. ومن ألمع الفصول وأحفلها بالذكاء في كتاب " بعض صور من الأدب الرعوي " فصل عنوانه " ملتن وبنتلي " يتناول فيه " الفردوس المفقود " من خلال التصحيحات النصية، والقراءات الواردة في طبعات بنتلي وخصمه زخاري بيرس، وهو يضرب بقراءاتهما مثلا على تركيز الأهمية، دون أن يفهماها، وهذا بعينه هو الطريقة التي يقدم بها هنري جيمس في قصصه معنى جيداً، بسرده شخص غير فاهم لما يقول. وهناك جانب كبير من الكتاب لم يزد على أن يكون استمراراً لتتبع تفريعات الغموض، مع إن إمبسون يحاول أن يتجنب استعمال هذه الكلمة، ومن وقفاته النموذجية في هذا الكتاب عثوره على تعليقة في طبعة إكسفورد من ديوان مارفل، تبرز " معنى مزدوجاً متعارضاً "، ورد في دوبيت من قصيدة " الحديقة " ثم يعلق على ذلك بأن هذا الغموض نفسه (الذي

يسميه " المعنى المزدوج " أو " وقفة الترجيح ") يتخلل كل عبارة أخرى في القصيدة. وأحياناً تتجاوز ضروب الغموض مدى القصيدة وناظمها، وإذا بها تصيب سواد قلب التعبير الاجتماعي بالكلمات، كالتعليق الذي كتبه إمبسون على المصطلح الفكتوري " رهيف " delicate إذ قال: " إن العبارتين العميقتين المشمولتين في هذه اللفظة بما احتشد فيها من معاني هما: (أ) " لا تستطيع أن تجعل امرأة ما مرهفة إلا إذا أمرضتها، وأغمض من ذلك ". (ب) إنها تشتهي لأنها كالجثة ". وكثيراً ما يحصل إمبسون على دقائق المعاني، كما يفعل بلاكمور، نتيجة للجهد الكبير، لا بخفقة من خفقات الإلهام، من ذلك أنه يستخرج كلمة " الخضر " من شعر مارفل، ويدرس كيف استعملت، ويعين قرينة الأفكار المتداعية المترابطة، قبل أن يمضي للكشف عن نواحي الغموض في الخضرة، وأحياناً أخرى يقدم لنا عنقوداً من المعاني، دون أن يذكر مصادرها، وقلما يعرف القارئ على وجه الدقة كم من المعاني التي أوردها إمبسون كان مقبولا عهدئذ على نحو موضوعي، وكم هي المعاني التي كانت من ابتكاره، وفي خير الأحوال يختلط هذان الصنفان، فتكشف بصيرة إمبسون عن معنى قديم منسي، أو تكون مقنعة إلى حد أن تجعل المرء يعتقد أن الرأي الذاتي الذي عرضه هو حتماً المعنى الصالح موضوعياً لكل زمان. وتفسيره لعادة استحضار الحمقى في الأعراس، في عصر إليزابث مثل نموذجي على هذا، حين يقول: إن الفصل الهزلي الذي يتخلل الحفلة التنكرية في الأعراس العظيمة وهو يعتبر في مستوى أدنى من المستوى الإنساني، كان يقوم مقام الحمق الذي ينتج عن الفوضى، ليظهر إن الزواج شيء ضروري، فبدلا من أن يسخر الجمهور بالعروسين، يسخر منهما الممثلون في هذا الفصل فيؤدي وظيفة الجمهور

لكي يهدئ من شغف الحاضرين بالسخرية، وليدل على أ، الزواج أقوى من أن تضر به السخرية (كانت السخرية تدور على أن العروسين غير مخلصين أو بريئين؟ الخ) . وهذا في أسطر هو ملخص طريقة إمبسون في كتابه " صور من الأدب الرعوي ": المعرفة والاستطلاع الاجتماعي والسيكولوجي؛ التأكيد الأنثروبولوجي على أن الشعائر هي المحور، الوقوف بين بين إزاء الدراسة فلا قبولها تماماً ولا رفضها بتاتاً، حضور معنى الغموض والتركيب، ووجود المعاني المختلفة في مستويات مختلفة ومشتملات لا حصر لها؛ الاتهام الفكري بالوضوح في كل شيء، القراءة الدقيقة والداب الكثير، تجميع المادة المدروسة؛ الميل دائما للتعميم من المنهج الشكلي إلى نوع يضم الشكل والمحتوى؛ المعية الاستبصار وصوابه في النهاية. فلعل الرجل العروس في عصر اليزابث لم يكن يستطيع أن يفسر لم كانت حفلة عرسه تضم ناساً حمقى ولكنه المرء يشعر حتماً أنه قد يوافق على تفسير إمبسون لو سمعه (أما خصم هذه الطريقة فقد يقول في جوابه: هذا صحيح ولكن الشخص الوحيد الذي يملك أن يفضي إليه بهذه الحقيقة هو أحد أولئك الحمقى) . 3 - استمد امبسون كتابه الثاني من موروث في النقد النوعي، غير أنه ليس موروثاً قديم الأصول، بل ينبع، في قليل أو كثير، من أدب القرن الثامن عشر الإنجليزي (وان كانت بواكير منه اقدم من ذلك تعود إلى بن جونسون وإلى فكرة دريدن عن المسرحية " الملحمية " وإلى غير هذين) وقد لحظ غمبسون أصوله المتصلة بالنوع " الرعوي "، وربما كانت هي التي أوحت إليه بالكتاب، وذلك حين قال في الفصل الذي كتبه عن " أوبرا الشحاذ " أن سويفت ألمح إلى غاي بأنه يستطيع أن

يكتب أدباً رعوياً يصور به نيوغيت (1) . غير أن إشارة غمبسون هذه غامضة قد توحي لسامعها بان غاي ربما كان يظن انه حقق ذلك؛ لكن القصة الحقيقية كما رواها بوب في " أحداث سبنس " Spence " s Anecdotes تدل على خلاف ذلك، قال بوب: " كان الدكتور سويفت قد اقترح ذات مرة على المستر غاي ان قطعة رعوية عن نيوغيت قد تكون شيئاً مستطرفاً، ومال غاي إلى أن يجرب ذلك بض الوقت، ولكنه فيما بعد أن من الخير لو انه كتب رواية هزلية حسب الخطة نفسها، وهذا هو الذي أوجد " أوبرا الشحاذ " فبدأ بها؛ ولما ذكرها لسويفت، لم يرتح الدكتور كثيراً لهذا المشروع ". إذن كان اسويفت هو أول من خطا خطوة في تجريد الموضوع حين رأى أن المنظر الرعوي الأدبي قد يتخذ مجاله في نيوغيت، ولكن غاي قام بالخطوة الثانية، وربما لا شعورياً، من الاقتراح الذي سمعه، فكتب هزلية عن نيوغيت، رعوية في أساسها، بينا برهن لسويفت أنه عاجز عن متابعته. غير أن الخطوة الأخيرة وهي التحدث عن نوع " رعوي " يعبر عن نزعة رعوية لم تتحقق إلا حين كتب هازلت " محاضرات في الشعراء الإنجليز " (1918) Lecturts on the Eng. Poets حيث قال: " الرعويات الجيدة التي في لغتنا قليلة فعاداتنا ليست أركادية (2) ، ومناخ بلادنا ليس ربيعاً، وعصرنا ليس ذهبياً، وليس لدينا أدباء رعويون يساوون ثيوقريطس، ولا مناظر جميلة كمناظر كلود لورين، وخير ما في " يومية الراعي " التي كتبها سبنسر أسطورتان هما: قصة الأم هبرد وقصة لسنديانة والعليقة، وثانيتهما قطعة فذة من الخطابة كالخطب

_ (1) حي من أحياء لندن. (2) نسبة إلى أركاديا في بلاد اليونان وبها يتغنى الشعراء الرعويون.

الفصيحة التي تلقى في مجلس الشيوخ. وقد خلف كل من براون، الذي تلا سبنسر، ووذرز قصائد رمزية ممتعة من هذا النوع؛ أما قصائد بوب فإنها مليئة بزخرف غث وتصنع رث حتى كأنما هي صورة أمير من أمراء المملكة كان يجلس لرسام يرسمه، وبيده محجن وعلى رأسه قبعة منتصبة، وهو يبتسم في هيئة تافهة جوفاء آخذة بحظها من الطبيعة والزيف. وأما اركاديا التي كتبها السير فيليب سدني فإنها اثر خالد للقدرة المنحرفة، لا تظهر فيها صورة فذة في جمالها، كصورة " الغلام الراعي، الذي يسترسل في تنغيم شبابته وكأنه لا يريد ان يكبر " غلا مرة في كل مائة صفحة من صفحات الفوليو، فهي مغمورة تحت أكوام من السفسطة الملتوية والأناقة المدرسية، وليست هي أبداً مشبهة لصورة نيكولاس بوسين التي يصور فيها بعض الرعاة يتجولون صبح يوم من أيام الربيع، ويبلغون قبراً نصب عليه هذا الشاهد " أنا أيضاً كنت اركادياً ". ولعل خير اثر رعوي في لغتنا هو القصيدة النثرية " الصياد الكامل " لوالتون، فذلك الأثر المشهور ذو جمال ومتعة رومانتيكية، يساويان ما فيه من بساطة، وينجمان عنها. ففي وصف الكاتب للشص تحس بتقواه وإنسانية تفكيره؟ فهو يمنحك الشعور بالهواء الطلق ونحن نمشي معه على طول الطريق المغبر، أو نستريح عند ضفة النهر تحت الشجرة الظليلة، وحين نراقب الصيد ذا الزعانف نستشعر بجمال ما يسميه هو: " صبر الصيادين الشرفاء الفقراء وبساطتهم ". هذا شيء قريب الشبه من استعمال إمبسون لمصطلح " رعوي "، وقد انتقل فيه الشكل تجريداً، واصبح نزعة من النزعات، وبقي لجورج براندز حين كتب " التيارات الرئيسية في أدب القرن التاسع عشر " Main Currents of Nineteenth Literature في الدنيمارك سنة 1870 وما بعدها ان يخطو الخطوة النهائية الموصلة إلى الاستعمال الذي

أوجده امبسون، وأن يرى في البروليتاريين النبلاء عند جورج صاند أفكاراً وآراء رعوية (دون ان يستعمل هذا المصطلح استعمالا مباشراً) . وهناك مصطلح لنوع من الأدب أشيع استعمالا من رعوي وهو " قوطي "، بدا أيضاً في القرن الثامن عشر، عند اسكندر بوب، فقد كتب يقول في شيكسبير: " على الرغم من كل أخطائه وعلى الرغم من كل ما في مسرحياته من شذوذ، فقد ينظر المرء إلى آثاره بمقارنتها مع آثار أكثر منها نظاماً وصقلا كما ينظر إلى قطعة قديمة عظيمة من الفن القوطي إزاء مبنى نظيف جديد " وقد استمر الأسقف هيرد ووربرتون يستعملان هذا المصطلح النوعي " قوطي ". ووسع الدكتور جونسون في درجة مدلوله حتى شمل شيكسبير، فتحدث مثلا عن " أساطيره القوطية الغيبية ". وقد استعمل لفظ (قوطي " كمصطلح أدبي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر منتقلا بالتدريج في ثلاث مراحل: وصف تحقير ووصف استحسان، وبينهما مرحلة حيادية لا إلى هذا ولا إلى ذاك. وخلال النصف القرن الأخير أكثر منه الدارسون والنقاد الألمان ومن أشباهه إكثاراً غريباً. وفي آخر القرن الماضي بدأ مؤرخ الفن ألويس ريل البندقي هذه الحركة (التي نظمنها اليوم اشبنجلرية) بتسمية كل شيء يشبه في الأسلوب الفن الروماني المتأخر: " روماني متأخر " أو " رومانسك " مهما يكن شكله أو زمنه. وفي أول عقد من هذا القرن أتم فلهلهم فورنجر أفكار ريل وأن كان اختيار ان يتخصص في النوع المسمى " قوطي " ومنذ ذلك الحين وسع علماء آخرون مثل كارلنجر وفايسباخ وفلفلين في الأنواع حتى شملت أيضاً الكلاسيكي ووليد النهضة والباروقي والروكوكو (1) ووجد النقد الألماني الحديث صوراً من الباروقي في شعراء الإنجليز في القرن السابع عشر على تفاوت فيما بينهم مثل

_ (1) إذا ذكر الروكوكو في الشعر عنى به ما أنشئ منه في بلاط السلطة المطلقة، ومن يحاكيها من البرجوازيين، وهو غزلي شهوي يعني بالمسائل الأخلاقية من الزاوية الجمالية فحسب.

دن وملتن ودريدن، كما وجدوا صوراً من الروكوكو عند الشعراء الإنجليز أبناء القرن الثامن عشر؟ الخ. وهناك نقد الماني أرصن في استعمال الأنواع وهو أقرب وشيجة بطريقة إمبسون، أشار إليه ولتر باتر في كتابه " استساغة " Appreciation فقد لحظ ان " روميو وجوليت " تضم ثلاثة أشكال أدبية - وهي السوناتة والأغنية الغجرية واغنية العرس - تحت شكل أكبر هو الرواية نفسها " والوقوع على هذه الفكرة من أيادي النقد الألماني ". ومهما يكن هذا النقد الألماني الذي يشير إليه باتر، فان هذا النقد قد حقق مهمة إمبسونية كاملة، غذ انه جرد الطبيعة الأساسية والنزعة في كل من السوناتة والأغنية الغجرية واغنية العرس من خصائصها الشكلية السطحية واستعملها بنوعيتها طرقاً أو عوامل في المسرحية. ولعل أكثر أشكال النقد النوعي طموحاً هو ما قام به فردنند برونتيير الناقد الفرنسي والمؤرخ الأدبي. فمنذ كتابه " تطور الأنواع الأدبية " (1890) حتى دراسته لبزاك (1906) ، على الأقل، كان كل عله وقفاً على جهد عملاقي واحد ان لم نقل وحشي: وهو ان يكتب شيئاً في الأدب مساوياً " لأصل الأنواع " الذي كتبه دارون تتطور فيه الأشكال الأدبية من البساطة إلى التركيب، فتتولد وتتفرع وتتحول ثم تصل كمال النضج وتموت بينا الأشكال الناشئة الجافية، إذا أحسن تكييفها، تبقى بعدها وتخلفها. وعلى يديه يصبح الشكل الأدبي عضوانياً يتطور بغرابة بمعزل عن صاحبه بل يتحكم، حقيقة، في مصير نفسه إذ تعتمد قيمة الأديب حينئذ على حسن جده في أن يدرك زماناً يتيسر له فيه نضج شكل ولغة ويصبحان في متناول يده. ولو أن الذي قام بهذه الدارونية الأدبية رجل اقل كفاءة لتمخضت عن بلاهة، ولكنها أنتجت نقداً جيداً لا يخطئه التقدير، وما ذلك إلا

لأنها لطفت بإطلاع بروتنيير الواسع، وإحساسه المرهف، وذوقه السليم، وإدراكه ان تعميماته، في الجملة، مجازية لا علمية. وحين يعرف برونتيير " الكلاسيكي " مثلا بأنه ذلك النوع من الأدب الذي يتم وجوده حين تنضج في وقت معاً لغة شعب وشكل أدبه واستقلاله الأدبي وحين يؤكد أن النثر الأدبي قد يكون " كلاسيكياً " ومع ذلك يظل هزيلاً غير أصيل - حينئذ يكون برونتيير منهمكاً في نقد نوعي مضاد لنقد امبسون. فبينا يخلق إمبسون " نوعاً " بانتزاعه نزعة ثابتة أصيلة من أشكال قد كيفها التاريخ، يعرف برونتيير " النوع " بأنه شكل نهائي لا يتطور إلا تحت شروط تاريخية ثابتة أصيلة. وكلا الرأيين تاريخيان دينامييان ولكن رأى برونتيير يتميز بأنه لاحق بنظرية التطور الغائية وليدة القرن التاسع عشر وأنه يرى في النوع عضوانية مصمتة تغير من شكلها كلما طورت حولها مستتبعات قوية. أما رأي إمبسون فانه وليد القرن العشرين وقد غابت عنه الغائية واصبح النوع يتغير فيه بتغير الشكل، ولا غاية فيه وراء ذلك. وإمبسون لا يستطيع ان يرضي تماماً إلا الفكر الحديث ولكنا من صميم أفئدتنا نستحسن " جنات " برونتيير المحبوبة المنظمة بينا نحن ننكرها عليه ولا نرضى بها. فإذا تجاوزنا إمبسون والأثر الصغير المستمد من كتابيه وجدنا ان كل النقد النوعي المعاصر - تقريباً - استعمل النوع ليتحاشى التحليل، أي هو نوع من إلقاء الشيء في زاوية الإهمال. وهذا النقد النوعي في أردأ أحواله يشمل المراجعات السهلة، والاستعمال الآلي الأجوف لكلمات مثل " رومانتيكي " و " كلاسيكي " و " واقعي " و " رمزي " وهو في خير أحواله أو، على الأقل، في وضعه المحترم، موروث غريب فيما كان لولاه تاريخاً أدبياً قيماً يمكن ان نسميه " العناوين الرفيعة " ويبدو أن هذا قد ابتدأه براندز بكتابه " التيارات الرئيسية في أدب القرن

التاسع عشر " فقد لجا براندز إلى هذا النقد النوعي في الفصل الخامس أي في الجزء الذي يدور حول الجماعة يعجز براندز عن دراستها، أعني الأدباء الإنجليز في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وتخلق عناوين فصوله تمييزات نوعية تحكمية مثل " الطبيعة " و " الإنسانية الجمهورية " و " والطبيعي الراديكالية " و " الواقعية الكوميدية والتراجيدية " وهكذا، وتحاول الفصول هذه ان تلصق تحت العناوين مضمامين، فلا تصيب إلا نجاحاً ضئيلاً. والتقط بارنغتون هذا العيب ومزجه بمظاهر مفيدة أستمدها من براندز فإذا كتابه " التيارات الرئيسية في الفكر الأميركي " وإذا بعض عناوين فصوله مثل " الحر الداعي إلى قسمة الأرض " و " الحر الذي يدعو لحرية الأرقاء " و " الحر البيورتاني " و " النقد المثالي " و " الاقتصادي المثالي " و " الحاكم المثالي " - إذا بها جميعاً تنساق في تحكم مشابه بهذه القسمة النوعية. وأكبر وارث لهذه التركة في الأيام الأخيرة هو هاري سلوخور، فقد وضع في كتابه الأول " ثلاثة من أساليب الإنسان الحديث " Three Ways of Modern Man ثلاثة أنواع هي: الاشتراكية الإقطاعية والحرية البرجوازية والنزعة الإنسانية الاشتراكية. أما في آخر كتبه " لا صوت يضيع بالكلية " No Voice is Wholly Lost فقد تشعب هذا الميل عنده وتولد عنه عناوين نوعية جوفاء مثل الحرية البوهيمية والنفي العالمي والصلب الدنيوي والاستنقاذ الجمالي والاستعلاء الأرستقراطي والاستعلاء الديموقراطي والفاشية الفاوستية واليهودية الروحية والذاتية البوهيمية. وأخيراً تبقى طريقة إمبسون كما عالجتها الأيدي الأخرى فقبل أن يقرأ كنث بيرك " بعض صور من الأدب الرعوي " - فيما يظهر - وضع تخطيط كتابه " نزعات نحو التاريخ " Attitudes Towards History وهو توسيع مشابه للأنواع الشعرية ومنها - الملحمة والمأساة والملهاة والفكاهة

والمرثاة والهجائية والمعارضة المجونية والشعر التعليمي - ويقول في كتابه أن " الشعر الرعوي " الذي أفرده إمبسون يقع، فيما يبدو " في منطقة بين الفكاهة والمرثاة ومعه عناصر هامة من الشعر الملحمي ". وفي هذه الفقرة نفسها يكتب تعليقة في الحاشية ذات إيحاء باهر ورد فيها إن قصيدة " ليسداس " (1) ليست تدور حول أدورد كنج بل حول ملتن، في سنتي 1638، 1639. وفي خلال العشرين السنة التالية كرس ملتن كل جهوده للنثر الجدلي، باستثناء سوناتة عارضة. فهذه التواريخ، إذا شفعنا بها مضمون القصيدة، قد تبرر اعتقادنا أن " ليسداس " كانت رمز موت لنفسه الشاعرة وقد تلتها فترة انتقال (أي فترة " التطرح في الأسفار ") ثم ركز نفسه على الكتابة بالنثر، وفي خلال فترة النثر أخفى " الملكة التي كان إخفاؤها أخا الموت " باستثناء تلك السوناتة التي كانت وليدة مناسبة. ومنذ أيام الدراسة كان ملتن قد رسم لنفسه أن يكتب قصيدة واسعة المجال وتشبثت به هذه الفكرة فلم تغادره أبداً، وفي حدة اشتغاله بإصدار النشرات السياسية ظل يتلمس الموضوع المناسب (وفي إحدى الساعات صمم أن يكتب عن هبوط آدم) ؛ وفي " ليسداس " يعترف إنه يحمل نفسه الميتة معلقة وأنه لابد أن ينبعث حياً ذات يوم. وبعد مراسيم الخشوع الجنائزية التي يبثها فيما يستنفره من مواكب الأزهار يضيف هذا القفل الشعري: " كفكفوا غرب الدموع، أيها الرعاة المحزونون، كفكفوا غرب الدموع لأن لسيداس، مبعث أساكم، لم يمت،

_ (1) أسم ورد عند ثيوقريطس شاعر الرعاة، وأتخذه ملتن كناية عن صديقه أدورد كنج الذي مات غرقاً.

وإن كان الثبج المائي قد احتضنه؛ كذلك تغرق ذكاء في قرارة الماء ثم تنتفض ويذر قرنها المتدلي وتصفف ذوائب نورها، وتتوهج ببريق ذهبها الجديد على صفحة أفق الصباح وكذلك ليسداس؟ " وبقي الشاعر حيا على الرغم منازعة الموت له، وعند عودة الملكية بعد زوالها في أيام كرومول ينتعش حياً، ويفي بعهده على نفسه بكتابة " الفردوس المفقود " وإن عاد إلى رحم الشعر كواحد من ذوي " الأفواه الخرس " التي تحدث عنها في قصيدة " ليسداس ". ترى أتقبل هذه اللفتة من بيرك الأستاذ ليونارد براون بجامعة سرقوسة أو سبقه إليها أو أوحى بها إلى الناقد الاميركي؟ مهما يكن وجه المسالة، فان براون صرف في العقد الرابع من هذا القرن بعض الوقت وهو يدرس ليسداس وثلاثاً أخر من المرائي الإنجليزية الرعوية الكبرى وهي أدونيس لشللي، والذكرة لتنيسون، وترسيس لآرنولد، ولكنه لم ينشر تلك الدراسة. وقد وقع على الكشف الفذ حين أعلن أن المرثاة في كل حالة تتحدث عن الموت الرمزي للشاعر، متمصاً صديقه، وهو في تمنيه الحياة لصديقه كان يعلن عن الولادة الفنية الجديدة لنفسه، في صعيد آخر. وقد انتزع براون " المرثاة " وجعلها عاملا مشتركاً - كما انتزع إمبسون " الشعر الرعوي " (1) - أي جعلها نوعاً أدبياً جوهره الموت

_ (1) إن " المرثاة كما يراها براون، شعيرة للموت والولادة الجديدة اقرب إلى الأصل وإلى جوهر الشيء الذي صدرت عنه كلتاهما أي الرعوية البابلية الرثائية (كما يمثلها النواح على تموز) من اصطلاح " رعوي " عند إمبسون فإنه يظل على تركيبه ممثلا لنزعة، ويقلل من القدرة التطهيرية للشعيرة المتضمنة فيه.

الرمزي والولادة الجديدة اللاحقة للموت في مرحلة انتقالية عند الشاعر حتى أننا لنستطيع أن نطبق هذه الفكرة على آثار متباينة الأشكال مثل " الجبل السحري " Magic Mountain لتوماس مان و " العاصفة " لشيكسبير ومن المؤسف أن الأستاذ براون لم يشأ نشر دراسته هذه عن المرثاة وهي خير دراسة مسهبة في باب النقد النوعي يمكن أن تنافس ما حققه إمبسون في " الشعر الرعوي " - فيما أعلم - وقد كانت أذن تكون طليعة وحافزاً لعدد من الدراسات الإمبسونية المشابهة عند النقاد؛ وإذن كانت تصقل وتفيد في بحثها عن القيمة والجوهر أنواعاً أدبياً أدركها البلى مثل ملحمة وأغنية، وأغنية عرس. 4 - إحدى المشكلات التي تثيرها هذه الطرافة الظاهرة في نقد إمبسون هي علاقته بسائر النقد والنقاد. وتقوم اقرب الصلات طبعاً بين نقده ونقد رتشاردز الذي كان أستاذه بكلية ماجدالن بكمبردج والذي أوحى غليه بكتاب " سبعة نماذج من الغموض " عن لم يكن مصدر وحيه في كل أثاره. كتب رانسوم يقول: " التلميذ اللامع شهادة حدسية لأستاذ لامع، ولقد كانت شهرة رتشاردز تتأثل لو انه لم يصنع شيئاً إلا بأن كان مصدر وحي لامبسون ". وقد خط إمبسون اعترافه بدينه لأستاذه، مرتين على الأقل مرة في " سبعة نماذج من الغموض " فكتب في كلمة التصدير يقول: " ان المستر إ. أ. رتشاردز وكان حينئذ الأستاذ المشرف على القسم الأول من امتحان الشهادة الإنجليزية، قد طلب إلي ان أكتب هذه المقالة وأخبرني عن أمور كثيرة أدرجها فيها فديني له كبير بمقدار ما يكبر الناس هذا العمل "؛ ومرة في " بعض صور من الأدب الرعوي " حيث كتب في فاتحة الفصل عن " حديثة مارفل ": " تهيأت

لدارسة هذه القصيدة حين استمعت إلى حديث جديد للدكتور رتشاردز عن جدل فلسفي في آراء منكيوس ". وفي كلا الكتابين تجده يقتبس اقتباساً كثيراً من آثار رتشاردز. وكل كتاباته، بمعنى أوسع، قد أوحى بها رتشاردز على التعيين من حيث أن كل ما كتبه إنما هو تطبيق لنظريات رتشاردز عن طبيعة المعنى والتفسير الشعري، كما أن المبدأين الأساسين لكتابيه " الغموض " و " الأدب الرعوي) متضمنان جميعاً في كتاب " معنى المعنى " وقد اعتمد في دراسته. أساساً مبدا الاستمرار الذي تقدم الحديث عنه، مستمداً له من رتشاردز، اعني أن التجربة الشعرية تجربة إنسانية كأي تجربة أخرى ويمكن دراستها بمقارنتها إلى غيرها، واستمد غمبسون من رتشاردز أيضاً العقلانية التي تجعله يؤمن ان أي شيء في النهاية يمكن إخضاعه للتحليل، والطبيعة التي تجعله يفضل شيئاً " محسوساً " على شيء " سحري ". زد إلى ذلك انه مدين لرتشاردز بالاتجاه الفيزيولوجي الذي يقوده ليبحث النثر وإيقاع الشعر بنسبة دقات القلب في " سبعة نماذج "؛ مدين له أيضاً بالاهتمام بإجراء الاستقبالي من عملية الإيصال والنقل التي تتمخض لديه عن اختتامه حديثه في " أوبرا الشحاذ " بعدد من ردود الفعل لدى الجمهور، وهي ردود فعل مركبة نظرية ساخرة. كذلك فهو مدين له بعنايته بالإنجليزية الأساسية وبرغبته في الشرق (وربما أوحى بهذا دراسات رتشاردز الشرقية والتعليم في الصين وكتاب عن منكيوس) بل مدين له بالنغمة التعليمية وبعقيدته في الكلمات ذات المقطع الواحد وهو يتردى فيهما بين الحين والحين (" إن الفكرة، التي ترى أن دس حقائق إضافية حول وجهة نظر ما تجعل الأسطر أبعث على الإمتاع، لهي مجرد خطأ ") . ومع هذا فأن إمبسون ليس دائماً في موقف المتلقي لتأثير أستاذه بل

له هو تأثر كبير فيه. يقول رتشارد ابرهارت الذي زامل إمبسون في دراسته على رتشاردز بكمبردج، في مقال نشره بمجلة اكسنت، صيف 1944، عنوانه " شعر إمبسون ": ألهب تلميذ رتشاردز خيال أستاذه وفهم الأستاذ قيمة تلميذه، على التو. ومع أن الدين في ارتباط هذين المجدالنيين منذ سنة 1927 هو دين إمبسون لأستاذه؟ فإن الأستاذ استغل الإرهاف في عقل التلميذ، وكان من الحكمة بحيث رأى في بوادر نقد إمبسون ملحقاً طيباً لنقده، وأن اختلفت غايتاهما. وكتب رتشاردز تعليقة عن إمبسون نشرت في ربيع سنة 1940 من مجلة فوريوزو Furioso يفسر بها منهج محاضرة إمبسون في ييل عن كيفية تكون " سبعة نماذج "، وإذا حسبنا حساب تواضع رتشاردز نفسه في هذه الكلمة، بقي فيها ما شهد بان خطة إمبسون في تأليف كتابه كانت أكثر استقلالا مما صورته كلمة التصدير. يقول رتشاردز: كسب وليم إمبسون شهرته أول الأمر بكتابه سبعة نماذج من الغموض، وهو كتاب ظهر للوجود على النحو الآتي تقريباً: كان مؤلفه يدرس الرياضيات بكمبردج ثم تحول في عامه الأخير لدراسة الإنجليزية، ولما كان منتسباً لمجدالن فقد قيض لي ذلك أن أكون أستاذاً مشرفاً على دراساته. ويبدو انه قرا من الأدب الإنجليزي أكثر مما قرأت، وأنه قرأ ما قراه حديثاً وخيراً مني، فكاد الأمر ينعكس بيني وبينه، ويصبح هو المشرف على دراساتي لا أنا. وفي زيارته الثالثة لي، احضر معه " لعبة " التفسير التي كانت لورا رايدنغ وروبرت غريفز يلعبانها بذلك الشكل غير المرقم من سوناتة

مطلعها " ان تبديد الروح في حماة العار " فاخذ إمبسون تلك القطعة كما يأخذ الحاوي قبعته، واستخرج منها حشداً لا يحصى عدده من الأرانب الحية، وحين انتهى من ذلك قال: " إنك تستطيع ان تصنع الشيء نفسه بأي شعر، أليس كذلك؟ ". وكان هذا مبعوث العناية الإلهية لأستاذ مشرف على الدراسات، فقلت له " خير لك ان تقوم بذلك أنت. الكاتبة على الورق. وهل أحاسب لو استمر في ذلك؟ أبداً وفي الأسبوع التالي مثل أمامي يتأبط إضبارة سميكة من الورق المطبوع على الآلة الكاتبة بخط لا يكاد يقرأ - أي 30 ألف كلمة أو نحوها من الكتاب، وهي لب موضوعه. لست أذكر أي نقد أدبي آخر كتب من يومئذ، وكان ذا أثر نافذ متميز كهذا النقد. عن قرأت منه كثيراً على دفعة واحدة ظننت انك شرعت تلتقط زكاماً حاداً فاقرأ قليلا بعناية، وقد تتغير عادتك في القراءة - إلى احسن، فيما اعتقده. أما بقية تعليقة رتشاردز فتتحدث عن شعر إمبسون، وتحده بأنه: " حديث حافل، مصبوب بأعجوبة في أكثر القوالب الشكلية ثباتاً " و " ميتافيزيقي في جذوره " ويقر بان ذلك الشعر في بعض الفترات " انماث في الاستعارات الواهمة المحشودة المرصوفة حتى اصبح لغزاً ". أما اليوم فأنه فيما يقول " عاد - كما يبدو مرة أخرى إلى أول الشوط ليبدأ سيره على الجادة ". ويقدم لنا رتشاردز، كي يقرر لدينا التنبه إلى المعنى الباطني العميق في شعر إمبسون، خبراً آخر بالغ القيمه ذلك هو تذكره قولة إمبسون " ان في " أليس " أشياء تلقي الرعب في روع فرويد "، والشيء الغريب ان تشاردز فيما يبدو يهتم بشعر إمبسون

حقاً، اكثر من اهتمامه بنقده، وهذا الملحظ يجب ألا يوحي بان شعره لا يكفل تقديراً بالغ الرفعة. ويخبرنا ابرهارت ان رتشاردز، " الذي قد يغتفر له محاباة أستاذ عالم نحو تلميذ عالم " يظن أن إمبسون خير شاعر بين جميع معاصريه، ومما يؤكد هذا أن رتشاردز في كتبه لا يزيد على أن يشير إلى نقد إمبسون أو يقتبس منه باختصار - فيما أعلم - ولكنه في مرات عديدة يستطرد إلى مدح شعره في إطراء بالغ. ففي كتابه " رأي كولردج في الخيال " يضعه في مكانين مع ييتس وأودن واليوت وهوبكنز ولورنس؛ وفي " كيف نقرأ صفحة " How to Read a Page يقتبس رباعية من قصيدة إمبسون " الشجاعة تعني الهرب " من ديوان " العاصفة المحتشدة " The Gathering Storm ويعلق عليها بقوله: " شاعر حديث - لديه ما يقوله أكثر مما لدى الآخرين، وهو يكونه مؤلف " سبعة نماذج من الغموض " على معرفة - أكثر من سواه - بما يقوله وبكيفية ما يقول - يعبر عن مشكلة كل أديب بصراحة نادرة محببة في هذه الأبيات "، ثم يزود هذا بصفحتين من التعليق في الحاشية. ومن الغريب أن هيو ر. والبول نفسه، وهو أحد تلامذة رتشاردز، يشير إلى إمبسون في كتابه " سمانتيات " Semantics لا على إنه ناقد بل يضعه في قائمة الشعراء المحدثين الذين يعدهم " شخصيات عذبة خصبة " (مع إنه يستعمل عبارة من " سبعة نماذج " في الملحق للتمرين على القراءة) . وقد ألمح رتشاردز في تعليقته عن تكون " سبعة نماذج " إلى المصدر الثاني الذي يعد إمبسون مديناً له في طريقته ذلك هو لورا رايدنغ وروبرت رتشاردز: " وأنا استمد هذه الطريقة التي أستعملها من تحليل الآنسة لورا رايدنغ والمستر روبرت غريفز لسوناتة شيكسبير ومطلعها: أن تبديد الروح في حماة العار.

في كتابيهما " جولة حول التجديديه الحديثة في الشعر " A Survey of Modernist Poetry والإشارة هنا تنصرف إلى الحديث المسهب عن السوناتة رقم 129 عند الحديث عن قصيدة لكمنجز، وقد بين كل من الآنسة رايدنغ وغريفز أن تهجئة شيكسبير وترقيمه في نسخة " الربع " إنما صدرت عن وعي وإنها مليئة بالمعنى مثل تهجئة كمنجز وترقيمه، وأن الناشرين الذين نقلوا نص السوناتة إلى التهجئة الحديثة وأعادوا ترقيمها قد بسطوا كل ما فيها من غموض او معان " متشابكة " الحبك وجعلوا كل إمكاناتها واحدة لا مكثرة. ولا ريب في أن تحليلهما للقصيدة عمل جميل، أهل لان يدفع بإمبسون قدماً، أما بقية الكتاب فليست بذاك، وليست كفاء بمستوى النقد الجيد حتى في نظر القراء حينئذ (1927) . وبهدف المؤلفان فيه إلى التمجيد والدفاع عن اليوت وكمنجز والآنسة سيتول والآنسة شتاين باعتبارهم منائر " للنزعة التجديدية " ويوغلان كثيراً في إبراز فكرتهما حتى إنهما يقومان بأعمال هرقلية بطولية، كأن يعيدا كتابة شعر كمنجز على نحو تقليدي ويعرفان الطريقة اللغوية عند الآنسة شتاين بمصطلح فلسفي. وذوقاهما تحكميان قلقان فهما يحتقران ستيفنز والدكتور وليمز ويعدانهما " تجديديين " زائفين ويثنيان على ماريان مور، ولكنهما يضعان آثارها في صف " الحقائق النثرية المألوفة ". ويسيئان قراءة اليوت إساءة صارخة، فيتخذان تحليل الطلبة الجامعيين المعروف، بنثر قصيدة " اليباب " شاهداً عليها، ويعتبرانه صورة للحقارة الحديثة في مقابل الرومانسية في عصر اليزابث ويخطئان فهم السر في كثير من الإشارات والحبكات الساخرة التي تقدم لنا " برنانك مع بايدكر " و " بلايشتاين وفي فمه سيجار " (وأن أهل البندقية في ربان مجدهم كانوا ذوي حضارة تجارية كاليهود تماماً) وعلى العموم يبين المؤلفان إنهما لا يعبآن بان يعرفا ما يجهلانه، وهو وفير

(هاهنا أيضاً نترك هذه الأصول لنقاد يعتزون بالكشف عن هذه الإشارات أكثر منا " " أهذا هو؟ أو.. " " أننا نعترف بأننا لا نعني.. الخ ") . وواضح ان إمبسون استخلص زبدة ما لديهما. وقد زعم كلينث بروكس في دراسته لنقد إمبسون أننا قد " نرجع بالطريقة [الإمبسونية] خطوات أخرى إلى الوراء "، فنراها في تحليل ييتس ذي الطابع " الامبسوني " لقول بيرنز " القمر الشاحب يغرب " ونراها في قراءة كولردج لمقطوعة من " فينوس وأدونيس ". وهذا نوعاً ما مغالاة في تقدير تعليقة ييتس، وهي أقرب إلى تأكيد استحالة التحلي، لا النص على التحلي - سواء كان هذا إمبسونياً أو غير ذلك. قال ييتس في " رمزية الشعر " 1900: ليست هناك أبيات ذات جمال حزين كهذين البيتين لبيرنز: القمر الشاحب يغرب خلف الموجه البيضاء والزمان يغرب بي والهفتاه! فهذان البيتان رمزيان تماماً. انتزع منهما شحوب القمر وبياض الموجة - وعلاقة هذين بغروب الزمان دقيقة يعز على الفكر إدراكها - فإذا بك تنزع منهما جمالها؛ ولكن إذا اجتمعت هذه العناصر كلها معاً: القمر والموجة والشحوب والبياض وغروب الزمان والصيحة الحزينة الأخيرة " والهفتاه " فإنها تثير عاطفة يعجز عن أن يثيرها أي نظام آخر من الألوان والأصوات والأشكال. أما تحليل كولردج فإنه إمبسوني حقاً وقد يعد سلفاً لطريقته فيتناول كولردج المقطوعة الآتية: بلطف لطيف أخذت يده بيدها: زنبقة مزمومة في سجن من الجليد

أو عاج في طوق من المرمر فيا لصديق أبيض يطوق مثل هذا العدو الأبيض. ويتخذها مثالا " للوهم " ويقارنها بالمثنوية الآتية من القصيدة: تأمل! كغيم لامع ينقض من السماء. كذلك هو ينساب في الليل إمام عيني فينوس. ويحللها مثالا على " الخيال ". وفي كلا النصين يحاول كولردج ان يعرف بعضاً من المعاني والإمكانات الكثيرة التي تجعل هذين الأنموذجين من الصورة أمراً لا ينسى (قراءته لهما يمكن الحصول عليها في " بقايا أدبية " وهي موسعة مدروسة في كتاب " رأى كولردج في الخيال " لرتشاردز) . ومما يستحق أن ننوه به علاقة إمبسون بعديد من النقاد الأميركيين، وأغرب العلاقات هي التي تربطه بكنث بيرك؛ فإني فيما أعرفه من آثاره لم أجده أبداً ذكر بيرك أو واحداً من كتبه ومع ذلك، فأما أنه قرأ بيرك وتشرب أثره دون أن يذكره، أو أن توارد خاطريهما أمر فذ، فالفكرة الأساسية في " بعض صور من الشعر الرعوي) تكاد تكون كلها تمريناً على تطبيق نظرة من أشد نظرات بيرك تفرداً وذكاء أي " رؤية التناسب في اللامتناسب "، وما يزال إمبسون يعبث بمثل هذه التورية التي جعلها بيرك من اختراعاته الخاصة (التورية foil - soil في فصل عن " الحبكة المزدوجة " أوضح أمثلتها) . ولنقد إمبسون، بوجه عام، طابع " بيركي " لا يستطاع تعيينه عند نقطة معينة. أما بيرك فانه من ناحيته يشير كثيراً إلى إمبسون باستحسان. وفي كتابه " نزعات نحو التاريخ " يضع " بعض صور من الأدب الرعوي " في صف مع كتاب رتشاردز " مبادئ النقد الأدبي " وكتاب الآنسة سبيرجن " الصور عند شيكسبير " ويعدها جميعاً " أهم إسهامات للنقد الأدبي في إنجلترة المعاصرة " ويتحدث عن فكرته وقيمته في عدة صفحات.

وفي الملحق على كتابه " فلسفة الشكل الأدبي " أدرج مراجعتيه الحافلتين بالتقدير لكتاب " بعض صور؟ " وكان قد نشر أولاهما عن الطبعة الإنجليزية بمجلة " شعر " والثانية بمجلة " الجمهورية الجديدة " عند ظهور الطبعة الأميركية. وكلتاهما ثناء جهير على الكتاب وهما تعرفان نواحي القصور فيه على إنها مقصودة للإيحاء لا وليدة المنهج المرسوم، وتزيدان إلى تعليقات هوامشه لا إلى عرضه الموثق، وتنتهيان إلى أن يسلك بيرك نفسه فيمن يوافقون إمبسون في صور التشابه الأدبي الأساسي لا في صور الاختلاف. وأخيراً يفيد بيرك في كتابه " نحو الدوافع " إفادة خاطفة من فكرتي إمبسون في " الأدب الرعوي " و " الغموض "، ويعترف بذلك في الحالين. وخلاصة ما هنالك في تصوير هذه العلاقة ان يقال: غمبسون مدين لبيرك أو يتوارد خاطراهما، وبيرك يتقبل أفكار إمبسون باستحسان ويفيد منها شيئاً. أما أكبر تأثير لامبسون فيظهر عند ناقدين أميركيين آخرين وهما جون كرو رانسوم وكلينث بروكس. فقد كتب رانسوم عنه بإسهاب اكثر مما كتب أي ناقد آخر، وخصص له الجزء الأخير، ومقداره ثلاثون صفحة من فصله عن رتشاردز في كتاب " النقد الجديد ". وكتابته عنه. " أنني لاعتقد انه احفل الدراسات التي طبعت خيالا، وأن إمبسون أدق قارئ أحرزه الشعر، وأغزره مادة ". ويقول في موضع آخر: " أظن أن كتابات كهذه، مضاء وصبراً وتسلسلاً، ولا يقيد رانسوم هذا الثناء إلا بقوله: إن إمبسون يصرف همته في المقام الأول إلى " المحتوى العرفاني " لا إلى الشاعر في الشعر حتى إننا لنخشى أن تكون قراءاته مجاوزة لطورها قليلا، وأن لديه خيالا زاخراً (ويقول رانسوم أن ذلك خير من الخيال الفقير) وأن نقده حتى اليوم يحوم حول القصيدة، أي

أنه يتجه نحو إبراز " النسيج " أكثر من " البناء ". ومع هذا فإن رانسوم يختتم كل هذا بقوله: يبدو أنه ليس من المستحيل علينا أن نحصل على قراءات دقيقة من علاقات النسيج والبناء التي وجدها الشعراء حقاً تحقق الغرض في الماضي، وخير ناقد موهوب في العالم لأداء هذه المهمة أداء جيداً هو، فيما اعتقد، المستر وليم إمبسون، دارس أنواع الغموض. فقد كانت دراساته، حتى اليوم، ممارسة جانبية قيمة، محايدة قليلا لمشكلات النقد الكبرى غير أنه ربما كانت لديه عبقرية بعيدة الشأو لتقييم ذلك الشيء الذي لا تدركه الحواس ونسميه " الموقف " الشعري. نعم لدينا نقاد آخرون لا ننقصهم أقدارهم، غير أن دراساتهم ليست كدراساته نفاسة وقيمة. ويمكن فهم هذه الاستشكالات التي يثيرها رانسوم، بل يمكن التقليل من شانها، فيما أعتقد إذا نحن تذكرنا أن ما كتبه عن إمبسون في كتابه - وإن كان قد نشره سنة 1941 - لا يتناول إلا " سبعة نماذج من الغموض " وأنه، ولابد، كتب قبل ظهور " بعض صور من الأدب الرعوي " وفي هذا الثاني تحول إمبسون، على التعيين، (عن كان فهمي للمصطلحات صحيحاً) إلى المشكلات التي يسميها رانسوم " البناء، وعلاقات البناء والنسيج، كما أتجه إلى قراءات أقل انطلاقاً من سابقتها، بعض الشيء. وفي الوقت نفسه يشير رانسوم في حديثه عن إمبسون إلى أن هذا الناقد " لم ينته من موضوع " الغموض، وأنه يثير القارئ إلى أن يصنع لنفسه تصنيفاً لأنواع الغموض. وفي خلال القطعة كلها يندفع رانسوم ليعمل بدقة تصنيفه الخاص، فيستخلص: النوع: " المقيد أو الخبري "

والنوع " المعلق أو المؤقت " و " الغموض النظري المحض في استعمال المجاز " أي النماذج المزيدة: 8، 9، 10 (وأقول على سبيل التعليق الساخر على هذا الموقف بان الإشارة الوحيدة التي أشار إمبسون بها إلى رانسوم، فيما أعلمه، هي نوع من الحديث الهازئ المستخف، في قطعة له عن كلينث بروكس، تناول به قصيدة لرانسوم تدور حول طفلة ماتت دجاجتها المدللة) . أما العلاقة بين إمبسون وكلينث بروكس فقد كانت، على الاقل، متبادلة لا من جانب واحد. فان الكتاب المقرر " كيف نفهم الشعر " تأليف بروكس وورن يشير إشارات كثيرة إلى إمبسون. ويعترف بروكس في مقدمة أول كتاب نقدي له " الشعر الحديث والاتباعية " المنشور سنة 1939 انه " يستعير " من إمبسون (ومن اليوت وتيت ويبتس ورانسوم وبلاكمور ورتشاردز وغيرهم) كما إنه في المتن يقتبس من فكرته " اللامعة " عن الحبكة الثانوية في روايات عصر اليزابث وعن " أوبرا الشحاذ " ويذكر ما كتبه عن " الفردوس المفقود ". فلما ظهر هذا الكتاب راجعه إمبسون في مجلة " شعر "، كانون الأول (ديسمبر) 1939، ومع أنه رد التحية بمثلها فوصف الكتاب بأنه " لامع "، إلا أنه أنفق أكثر وقته في إعلان مخالفاته للمؤلف: فهو على خلاف بروكس لا ينفي الدعاية من الأدب، ولا ينفي العلم، وأنه قد يعلن الحرب أيضاً على أكثر الموقف العام في الكتاب، كما يعلنها على كثير من الأحكام فيه بأعيانها. ولما كتب بروكس، سنة 1944، دراسة في مجلة " اكسنت " لنقد إمبسون، تحمس فيها كثيراً، وأن كانت تمس بلطف زلات إمبسون العلمية وعقلانية و " نزعته الذاتية " (وسنتحدث عن هذه الثالثة فيما يلي) حتى أنه ختمها بهذا المديح: في هذا الوقت الذي تنذر فيه دراسة الأدب بالانحراف نحو علم الاجتماع، ويتنبأ فيه العارفون علناً بموت الدراسات

الكلاسيكية، من المستحيل علينا أن نغالي في تقدير أهمية هذا النوع من النقد الذي يظل إمبسون ألمع القائمين بشأنه. فليس هو حقاً الأديب القديم الطراز الذي يسحرنا فيجعلنا نؤمن على دراسته المريحة باقتباسه من لام وبعد ذلك يلقي علينا عند الانتهاء اقتباسه من هازلت. ومن ناحية ثانية ليس هو حقاً مجرد شاب لامع يحمل كيساً مليئاً بالأدوات السيكولوجية. إنما هو ناقد من أقدر نقادنا وأرصنهم، ودراساته حافلة بنتائج ثورية إذا هي طبقت في تعليم كل الأدب، ثورية إذا اعتبرنا مستقبل التاريخ الأدبي. ومنذ السنوات الأخيرة من العقد الرابع من هذا القرن أخذ بروكس يستغل مبادئ إمبسون في مراجعاته (في إحدى المرات تحدث عن " أشعار مجموعة " لروبرت فروست، مثلا على " الشعر الرعوي ") . وفي احدث كتبه " الزهرية المحكمة الصنع " أستمد من إمبسون خلال هذا الكتاب، مركزاً نظرته الجديدية في " التناقض " على فكرة " الغموض "، معلناً الحرب، في الوقت نفسه، على قراءة إمبسون الاجتماعية للجواهر والأزهار التي تتورد غير منظورة في " مرثاة " غراي، متهماً له بأنه يقتسر من القرينة تفسيراً سياسياً (وهو اعتراض ألمع غليه منذ سنة 1938 في " كيف نفهم الشعر " حيث طبع قراءة إمبسون للمقطوعة وشفعها بهذا الواجب الثقيل المطلوب من التلاميذ تحقيقه: " انقد تحليل إمبسون من حيث علاقته بالقصيدة كلها ") ثم راجع إمبسون هذا الكتاب في مجلة " سيواني " عدد الخريف 1947 وأعلن عن مخالفاته له، ودافع عن موقفه من كيتس " قصيدة في زهرية إغريقية " ورد عليه بروكس في العدد نفسه. ولا يستطيع أحد أن يتكهن إلى أين ينتهي هذا الجدل في النهاية.

وقد أشرنا من قبل إلى أثر إمبسون في بلاكمور وإلى اقتباس مود بودكين عنه، وسنتحدث عن علاقته بجماعة مجلة Scrutiny، أما فيما عدا ذلك فنقول أن إمبسون كان واسع الأثر ولكنه لم ينقد إلا نقداً ضئيلا فأثنى هربرت ريد على " تحليله اللامع " للغموض، وأشار إليه آلان تيت باقتضاب، وكذلك فعل روبرت بن ورن. واستمد آرثر ميزنر من استطلاعات إمبسون لمدة عشر سنوات، على الأقل، دون ان يفهمها جيداً، أو هكذا تدل مراجعته للشعر الرعوي الإنجليزي في مجلة " بارتزان " عدد كانون الأول (ديسمبر) 1937 حيث أثنى على إمبسون بأعلى ألفاظ المديح وأعلن ان كل شيء تقريباً ابتداء من " الجبل السحري " حتى " مالي وما ليس لي " To Have and To Have Not إنما هو أدب رعوي بالمعنى الذي يقول به المستر إمبسون. وقد أدى راندل جرل تحليلا إمبسونياً لامعاً عنوانه " نصوص من هيمان " Texts From Housman في مجلة " كينيون " عدد الصيف 1939، ولكنه لم يتحدث عن آثار إمبسون فيما اعلم. وأثنى لوول على إمبسون، وعده أحد خير خمسة من شعراء الإنجليز الأحياء، (والآخرون هم توماس واودن ومكنيس وغريفز) . وقدم له توماس نفسه مديحاً ساخراً كشاعر، نصف قصيدته الريفية " رجاء إلى ليدا " وعنوانها الفرعي " برسم الولاء لوليم إمبسون " أما وليم يورك تندال فقد أثنى على شعر إمبسون في كتابه " القوى في الأدب الإنجليزي الحديث " وليس لديه ما يقوله في نقده إلا أنه يبلغ درجة الطريقة القديمة من " تفسير النصوص "، وانه كتب بطريقة غير جذابة، كما كتب نقد رتشاردز. وأدرج اسمه هربرت مللر في كتابه " العلم والنقد " Science and Criticism بين جماعة من النقاد المحدثين لا يبارون في " التحليل الحاد اللبيق " ويشير إليه إشارة أو اثنتين، ولكنه لا يتحدث عن نقده. وقد تقدم القول

بأن دارسي شيكسبير ونقاده قد أجمعوا على مؤامرة من الصمت ليخملوا انتاجه، مثلما فعل أيضاً، على نحو أقل، الذين كتبوا في الشعر الميتافيزيقي، وهو مجال أدى فيه إمبسون بعضاً من أكثر أستقصاءاته المعية (1) . وأشد هجومين حادين على إنتاجه فيما أعلم ورد أولهما، وذلك شيء يلفت النظر حقاً، في كتاب هنري بير " الآباء ونقادهم ". حيث وصفه، في أحد المواضع هو ورشاردز بأنهما يستخرجان " فئراناً " متناهية في صغرها " وفي موضع آخر بأنهما " يغريان المراهقين وقتياً "، وورد ثاني الهجومين في كتاب " على أصول وطنية " On Native Grounds لالفرد كازين، الناقد الأثير عند بير، فتحدث هنالك عن إمبسون بتحقير، وقرنه ببلاكمور وبيرك، وقال عنه أنه " مساح للمجازات " يكتب " ألغازاً تثير دهشته الذاتية " (مما يلفت الانتباه أن بير وكازين اللذين يتمتعان بإدراك متعثر فاشل في العادة، قد أصابا حين جمعا خير نقاد معاصرين في صعيد واحد، لكي يخصاهم بالهجوم) . أما ما قاله جيوفري جرجسون في إمبسون حين تجادلا على صفحات مجلة " شعر ": أن امبسون " نموذج لذي نظريات جامد وشاعر يلفق شعره بالسرقة من غيره " يكتب " مادة متضائلة تافهة لا تقرأ، حتى أنها لا تستأهل الإهانة أو الهجوم " - أما هذا فقد يعزى إلى ما يسوق إليه الجدل من جدة وضيق في الخلق، ولا يمثل بالضرورة رأياً موزوناً في تقدير نقده. وأخيراً فأن اقتراح فيليب ويلرايت ان يوضع المصطلح السمانتي " كثرة الدلالات " Plurisignation مكان كلمة " غموض " - ذكر ذلك في مقال له عنوانه " في سمانتيات الشعر " بمجلة " كينيون " سيف 1940 - وكذلك استعمال مارغريت شلوش " غموض إمبسون " تمريناً

_ (1) لا تزال صلة إمبسون بالشعر الميتافيزيقي قائمة وقد كتب بحثاً مسهباً عن دن في مجلة " كينيون " عدد الصيف 1957.

لفصل من الفصول في ملحق بكتابها " هبة الألسن " The Gift of Tongues فأن هذين يمثلان بدء انسجام الدارسين مع إمبسون، انسجاماً قد يمتد فيشمل المعتنين بالقراءات المتعددة لنصوص شيكسبير. 5 - بقيت مشكلة واحدة عامة تتعلق بنقد إمبسون وتحتاج معالجة: وهي مشكلة طبيعة القراءة الدقيقة ومشتملاتها. أما من ناحية تقليدية، فقد كانت القراءة الدقيقة حقاً للكاتب الذي يدرس صنعة أدبية، أو الأستاذ الذي يعلمها. وقد كانت الدراسة المسهبة حقيقة في الحالة الأولى نادرة، وقد تكون نتيجة لاستقصاء الكاتب لصنعته نفسها، كما فعل هنري جيمس في المقدمات (وكما فعل هارت كرين وتيت في الأيام الأخيرة بالكتابة عن شعرهما) ، وقد تكون نتيجة لبحث صديق، مثل دراسة بلزاك المشهورة وعنوانها " دراسة للمسيو بيل " (وفيها انساق إلى النقد الفني وأقترح تحسينات على The Charterhouse of Parma بعد تلخيص متأن متدرج للحبكة في خمس وخمسين صفحة، أو قد تكون وليدة عقل موغل في التحليل، كالشيء الذي نراه في دراسات كولردج لشيكسبير. أما القراءة الدقيقة التي يؤديها أستاذ، فلدينا منها نماذج تتراوح بين أرفع أنواع الدراسة، وبين آثار جوزف ورن بيش، في مثل كتابه " النظرة إلى النثر الأميركي " The Outlook for American Prose خاصة، إذ يدرس فيه الأدب المعاصر بعين النحوي الضيقة، ويعيد " مصححاً " كتابة عبارات لأدباء مثل جون ديوي، كأنها موضوعات إنشائية يكتبها طلبة. (كان خيراً لبيش لو أنه انفق الوقت في مراجعة كتبه، وتصحيح أسلوبه، واستبعاد عبارات مثل: " Equine Excrementa " و " in a family way " وتغيير " Lester Jeeter " إلى " Jeeter Lester " حيثما وقعت) .

ومهما يكن من شيء فإن إحدى مظاهر النقد الحديث، على وجه الدقة هي هذه القراءة الفنية الدقيقة، لا من حيث إنها مظهر للعلم أو لحرفة التعليم، بل من حيث إنها طريقة عامة من التحليل النقدي. فقد أدخلها رتشاردز في النقد الحديث، مثلما أدخل أشياء كثيرة. ولكن بما أنه شغل نفسه بأمور أخرى فإن ما أنتجه من القراءة المسهبة حقاً لا يعدو أمثلة قليلة. ويصدق الشيء نفسه، مع اختلاف في نوع الاهتمامات الصارفة، على كنث بيرك، وظل من نصيب إمبسون وبلاكمور إنشاء مقدار من الدراسة الدقيقة المسهبة على أساس مبادئهما. وقد كتبت جماعة الجنوب التي تلتف حول رانسوم عدداً لا يحصى من البيانات، تلح فيه لا على إن القراءة الدقيقة الفنية للنصوص عمل هام للنقد، فحسب، بل على إنها العمل الوحيد المشروع له. على أن رانسوم وتبت قد حققا منه نسبياً شيئاً ضئيلا لأنهما، على شاكلة رتشاردز وبيرك، مشغولان بالمشكلات النقدية العامة، وأحدهما بعيد عن ميدان الأدب، أما كلينث بروكس وروبرت بن ورن، فقد بدءا إنتاج مقدار من الدراسات المسهبة، اعتماداً على مبادئ الجماعة، ولكن بعض ما أنتجاه ليس مسهباً، على التحقيق، وهذا قد يفسر إعجاب جماعة الجنوب بكل من إمبسون وبلاكمور فإنهما دون أن يكتبا بيانات قد أخذا أهبتهما للعمل وأنتجا ما أنتجاه. وهناك مدرسة من النقاد موفقة في تخصصها بالقراءة الدقيقة للنصوص، وهي جماعة كمبردج القائمة حول مجلة " Scrutiny " بإنجلترة ولا تعرف بأميركة إلا قليلا وقد أنضم إليها إمبسون بعض الوقت (فصله عن حديقة مارفل في كتاب " بعض الصور " نشر أولا فيها) . وقد صدر عن هذه الجماعة أمضى قراءة دقيقة في عصرنا ممزوجة بمقررات اجتماعية ذات قيمة حقيقية وشمل ذلك ما كتب في المجلة نفسها (وما كتب في سابقتها

" حولية الآداب الحديثة " The Calendar of Modern Letters التي استمرا من 1925 - 1927 ومنها استخرج ليفز مختارات سماها نحو مقاييس نقدية Toward Standard of Criticism) كما شمل مؤلفات ف. ر. ليفز ومؤلفات ك. د. ليفز ول. ك. نايتس ومجموعة مختارة عنوانها " Determinations " وكان ف. ر. ليفز أحد محرري المجلة وزعيم الجماعة. وقد أخرج للناس قسطاً وافراً من النقد الجليل الفائدة، نقداً في خير أحواله حين يكون فنياً أو تفسيرياً، وبخاصة إذا تناول المحدثين في كتابه " اتجاهات جديدة في الشعر الإنجليزي " New Bearings in English Poetry وأحياناً أخرى يفسد بالعيوب التي تصحب النقد الاجتماعي أي الميل إلى وسم هذا الأديب أو ذاك بمصطلحات مثل " هرب " و " أنصرافية " أو أتباع طريقة بروكس في بتر الأدباء الذين لا يرضونه اجتماعياً، مثل ييتس وهنري جيمس، أو الأخذ بعقلانية القرن الثامن عشر التي تستعمل مصطلح " شعائري " بنوع خاص للتحقير، أو استعمال أسلوب تعليمي مغرق يدعو الناس إلى اعتناق الشعر. وقد وضع ف. ر. ليفز نصب عينه في كتابه " نظرة جديدة في القيم " Revaluation - وهو كتاب ظهر تباعاً في المجلة على شكل سلسلة من إعادة النظر والتقدير للأدب - أن يراجع تاريخ الشعر الإنجليزي، ليبرز بوضوح " قوة اللمح الساخر " الميافيزيقية (أو ما يسميه بيرك " رؤية التناسب في اللامتناسب ") جاعلا منها الموروث الصحيح وهي محاولة سبقه إليها اليوت بطريقة غير رسمية (مع انه ناقض اليوت الذي أعلى من درين، وخفض من شان بوب، فعكس ليفز ذلك) . وتبعه فيها كلينث بروكس (وحل المشكلة بان أقصى كلا من بوب ودريدن من الموروث) . أما ك. د. ليفز المختصة بباب القصص في المجلة فقد كتبت في " القصص وجمهور القراء " Fiction and the Reading Public دراسة أدبية اجتماعية

بالغة القيمة عن انحدار الذوق العام في انجلترة منذ 1600 مستعملة طريقة تصفها بما تستحقه حين تسميها " انثروبولوجية ". وقد قامت هي وليفز الآنف الذكر بهجمات حادة على الماركسية في العشر السنوات الأخيرة مع إنهما مدينتان لها بطريقة تناولهما للأمور الاجتماعية. أما ل. ك. نايتس (1) وهو أحد محرري المجلة فربما كان ألمع محلل للنصوص بين الجماعة وقد حاول أن يطبق - تصريحاً لا ضمناً - الأفكار الماركسية على الأدب في كتابه: " الدراما والمجتمع في عصر جونسون " Drama and Society in the Age of Jonson والكتاب فيما يستوعبه فكرة لامعة، ويشعرك بأنه من النوع الذي لو عاش كودول لكتبه، ففيه بحث " في العلاقة بين النشاط الاقتصادي والثقافة العامة " بالكشف عن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في إنجلترة أيام إليزابث واليعاقبة بإسهاب، ثم دراسة الدراما بعرضها على نماذج من تلك الأحوال. أما في التطبيق، فإن الكتاب مخفق لعدة أسباب أولها: إن نايتس لا يطبق نظريات ماركسية، على التحقيق، (وإن كان كتابه يقتبس من كل ماركسي ابتداء من ماركس وإنجلز حتى ت. أز جاكسون ورالف فوكس) وإنما يطبق حتمية تاوني الاقتصادية الأكثر بساطة من الماركسية. وثانيها إن كتابه لا صلب له، وينقسم بحدة في الوسط إلى كتابين أحدهما: خلاصة اقتصادية اجتماعية جيدة والثاني: مجموعة من النقد الأدبي التحليلي الممتاز، دون أن تقوم بين الاثنين أدنى صلة. وثالثها، ولعل هذا هو العامل الأساسي الكامن وراء الأخطاء الاخرى، إن نايتس، على أنه يقتبس باستحسان مبدأ ماركس " إن الكيان الاجتماعي للناس هو الذي يتحكم في وعيهم "، فإنه يعجز عن أن يفهم ما عناه ماركس، ويخطئ في إدراك سر هذه العملية، وإذا إدراكه له يجيء على هذا النوع من التبسيط المضحك: الكيان

_ (1) ورد هذا الاسم خطأ في الجزء الأول على الشكل التالي: نايت.

الاجتماعي للناس الذي يتحكم في آرائهم ونزعاتهم. فلا تجده يعالج الانعكاسات العميقة للمجتمع في المبنى الروائي وأنواع الصراع في المسرحيات، بل يعتم بما تقوله الشخصيات عن المجتمع والمال والتملك، أي يهتم بالصفحة الاجتماعية من تعليقاتهم لا بطبائعهم. وينهي نايتس كتابه بمختارات من الخطب " تضم فكرة العصر ورأيه " وتعكس " مظاهر هامة من الموقف الاجتماعي " أو تقدم " توضيحاً لحياة هذه الفترة ". أما كتابه الثاني " كشوف " Explorations وهو مجموعة من المقالات " عن أدب القرن السابع عشر من الدرجة الأولى " فإنه عملية رصينة من التكامل الاجتماعي - الأدبي. وفيه يقوم بعمل قيم بالإلحاح على أن الإدراك الجشطالتي للاستجابة العاطفية المركبة، كلها عند القارئ يجب أن تكون نقطة البدء في النقد، لا تلك التجريدات النقدية التقليدية من مثل " شخصية " و " حبكة ". وهو ينص على أهمية العمل الأدبي من حيث هو وحدة يراد استقصاء نواحيها وعلى ضرورة ابتداء كل بحث من الزاوية الفنية، وعلى قلة جدوى الكشف عن العلاقة بين الفنان والمجتمع (وما يزال يعتبرها موضوعاً أساسياً في النقد) من أي زاوية سوى أسلوبه الفني وإحساسه. وعلى الرغم من روعة هذه المبادئ النقدية يجيء الكتاب أحياناً مخيباً الآمال، ذلك لأن نايتس يرث عن ف. ر. ليفز فكرة " الهرب " (فيخبرنا إن هاملت تراجعي هارب وما يجد هاملت استجابة في نفوسنا إلا لأننا انهزاميون أيضاً) وورث عنه عجزه عن أن يتذوق تماماً أدباء مثل ييتس وجيمس، وأضاف إلى هذا الذي ورثه قصوراً من ذاته، وبخاصة إحجامه عن أن يسير بأي نقطة من البحث إلى نهايتها البعيدة لئلا تشوه كلية العمل نفسه. ومع كل هذا فإنه في خير أحواله - أي حين يتمخض التحليل الاجتماعي الأصيل عن دراسة نصية مسهبة لإحساس شعري معين، كما في مقاله عن

جورج هربرت - ينتج نقداً لا ينزل عن مستوى أجمل ما لدينا من نقد، إلا قليلا. وتستمد جماعة مجلة Scrutiny أخيراً من رتشاردز كما تستمد من اليوت، وهي مدينة على طول الدرب كثيراً لإمبسون. فقد تابع ف. ر. ليف أنواع الغموض بإصرار، واعترف بفضل إمبسون واقترح أن كتابه " يجب أن يقابل باحترام "، وفي ختامه كتاب " اتجاهات جديدة في الشعر الإنكليزي "، وجد أن قصائد إمبسون " الفذة " وقصائد رونالد بوترال هي " الاتجاهات الجديدة " الوحيدة التي تستحق البحث منذ اليوت وبوند. وقد أفاد نايتس أيضاً من إمبسون وبخاصة في كتابه هربرت وتصيد أنواع الغموض (يفضل أن يتجافى عن هذه اللفظة، ويستعمل بدلها " التراكيب الجانحة " أو " تذكر شيئين في وقت معاً ") وأفاد، على وجه العموم، كثيراً من طريقه إمبسون في القراءة. وفي الوقت نفسه تراه قد نقد طريقة إمبسون بشدة من زاويته الجشطالتية زاعما إن إمبسون يحصل على معانيه الغزيرة بالتركيز على جزء من القصيدة واعتبار إمكانات ذلك الجزء بمعزل عما عداها، ناسياً أن القصيدة كل قد ألغيت فيه بالضرورة اكثر تلك الإمكانات. وهذه تهمة رصينة قوية من وجه ولكنها تبدو، على الجملة، استعمالاً لمبدأ " العضوانية " للحد من المعاني، لا لتظهر التنظيم والروابط المتبادلة ذات العمق العظيم والتركيب في المعنى. (قد وجه ليفز هذه التهمة نفسها ضد كل من إمبسون ورتشاردز في " التعليم والجامعة " Education The University) . ونشأت في الوقت نفسه مدرسة نقدية معاصرة، تجعل مذهبها الرئيسي رفض القراءة بتاتاً، وكان البيان الناطق باسم هذه الجماعة هو " العقل الأدبي " 1931 لماكس إيستمان، فقد هاجم فيه كل الأدب بأنه " كلام لا ضابط له " (" الآراء الغامضة القلقة المتناقضة في هذه الآداب

الإنسانية ") . وتبجح معتزاً بأنه اخفق كقارئ (تهاتف قائلا: انفق جويس اشهراً على استخراج أسماء خمسمائة نهر في جزء Anna Livia Plurablelle من كتاب " يقظة فينيغان " أما ماكس ايستمان فلم يستطع أن يجد إلا ثلاثة انهر ونصف ". وقد وضح الكتاب، بعامة، أن مشكلة ايستمان الوحيدة هي مقته للشعر، وعجزه أو إباؤه من أن يقرأه بذكاء، وانه رفع هذه المشكلة إلى مستوى طريقة نقدية. وهناك كتب أخرى تنهج هذا المنهاج، منها بإنجلترة كتاب " الإحساس والشعر " Sense Poetry لجون سبارو وكتاب " تدهور المثال الرومانتيكي وسقوطه " The Decline and Fall of the Romantic Ideal للوكاس (ف. ل.) وكلاهما يشققان فنوناً من القول معناها ان الشعر الذي لا يفهمه كل من سبارو ولوكاس لا يمكن أن يعني شيئاً في الحقيقة. ومنها بأميركة " القارئ لنفسه " تأليف مارك فان دورن وهو بيان يدعو إلى القراءة سطحياً، جهد المستطاع، فهو بهذا يمثل " القارئ لنفسه " وكتاب ج. دونالد آدمز " شكل الكتب التي ستظهر " وهو انتصار كامل للعجز النقدي حتى إنه يجعل ماكس أيستمان يبدو أديباً إذا قارناه به. غير إن هذه الجماعة تكاد لا تستحق هذا الحديث. وشعر إمبسون هو أحد العوامل التي تؤثر في نقده وقد نشر منه " قصائد " Poems 1935 " والعاصفة المحتشدة " 1940، وهو شعر رصين هام، حتى ولو لم يقدره المرء تقدير رتشاردز له، كما إنه شبيه بنقده: ساخر وكثيراً ما يكون عريض الفكاهة متعلقاً بالشكل، وهو ميتافيزيقي بكل معاني الكلمة، من معنى " جذر " كما يستعمله رتشاردز إلى المضمونات العامة التي تدل علها لفظة " Quirky " [أي المراوغة والتهرب والتلاعب] . وهو ذو ارتباط بنقده لأنه يستعمل شكلا نوعياً كالأشعار الريفية التي سبقت الإشارة إليها، ولأنه يعتمد في مبناه على

البيت الواحد، ولأنه يتلمس التورية وأنواع الغموض. وليس هذا كله فحسب بل هو وثيق الصلة بنقده، خاصة في تلك الملاحظة النثرية التي يكمله بها، قائلا في " تعليقة على التعليقات " في " العاصفة المحتشدة ": " كثير من الناس (مثلي) يفضلون قراءة الشعر ممزوجاً بالنثر فلذلك ما يعينك على المضي ذلك لأن الرسوم الشعرية قد تجافت عن الحياة العادية، فإذا كان لديك جسر من النثر فإنه يجعل الوصول إلى قراءة الشعر أمراً طبيعياً ". وهذه التعليقات نقد إمبسوني زاخر، وتفسيرات للقصائد من ناحية، وتوسيع في مداها من ناحية أخرى، وتجيء مساوية لها من ناحية ثالثة. ويتحدث إمبسون بتواضع عن " قلة كفاءته في الكتابة " ويبين أن في القصائد " نوعاً من متعة الألغاز " وإن الملاحظات نغمة " كالأجوبة على لغز الكلمات المتقاطعة " ولكنه في الحقيقة ينسب لشعره من الغموض أكثر مما فيه. وبخاصة المجلد الثاني الذي يضم عدداً من القصائد السياسية في موضوعات صينية وترجمات يبدو إنها من اليابانية، ومعرضة ساخرة لاودن جائرة، وقصائد بعناوين مثل " انطباعات من أنيتا لوس " فكل هذا الجزء تقريباً ليس في الصعوبة مثل كثير من الشعر الحديث، دونه في الجودة. وهناك تهمة غريبة توجه أحياناً إلى إمبسون وعلينا أن نواجهها حين نحاول كلمة إجمالية عن فضله في النقد، وتلك هي إنه انطباعي في نقده أي إنه يستجيب للقصيدة بكتابة قصيدة جديدة عنها، ليس لها بالقصيدة الأولى من علاقة إلا علاقة الدافع الذي هو استجابة. والمظهر المضحك في هذه التهمة هو إن إمبسون في كتابه " بعض صور من الأدب الرعوي " يقتبس قول ناقد مراجع، كتب عن مؤلفه السابق وأتهمه حينئذ بالموضوعية، أي " بمعالجة القصائد على إنها ظواهر طبيعية لا أمور يحكم عليها العقل " بينما يتهمه كلينث بروكس في دراسته لنقده

بأنه " ذاتي "، مؤكداً أن " نظام التصنيف لأنواع الغموض سيكولوجي، لأن الأنواع تزحل عن مواضعها كلما غيرنا القارئ أو كلما تحسن القارئ نفسه، فإنها لا تصف خصائص ثابتة في القصيدة (أي في القصيدة التي يقرأها القارئ المثالي قراءة " صحيحة ") " ومن الواضح إن التهمة التي يوجهها المراجع الأول المجهول، صحيحة من حيث إمبسون يعالج قصائد حقاً على إنها ظواهر طبيعية، لها وجودها المستقل عن حكم العقل (أي إنه مادي فلسفي) واتهام بروكس له أيضاً صحيح فإن المعايير التي يستعملها إمبسون نسبية ذاتية من حيث إنه يعالج القصيدة من زاويتين، زاوية امرئ يكتب وآخر يقرأ، أي يصنع ما يصنعه الناس الواقعيون في هذا العالم، لا تجريدات بروكس الأفلاطونية اللامحدودة الهامدة التي يسميها " الخصائص الثابتة " " القراءة الصحيحة " و " القارئ المثالي " فإمبسون، بعبارة أخرى، موضوعي أو ظواهري في الفلسفة، ذاتي أو نسبي في النقد، يتخذ الإنسان مقياساً في كلا الحالين. وهذا لا يجعله انطباعياً إلا من حيث إن المادية لا تقبل مبدأ لينين في الحقيقة الموضوعية المطلقة، وإن القصيدة عنده هي ما يمكن أن يحصل عليه، وليس هو انطباعياً لأنه يريد أن يهرب من وجه القصيدة ويأوي إلى شخصيته الشاعرة، وذلك المعنى للنقد الانطباعي الشكلي الذي يمارسه أناتول فرانس وجول ليميتر. وهذا يؤدي بنا مباشرة إلى المشكلة الأساسية حول طريقة إمبسون: أي عامل معوق يحول بينها وبين التفرع إلى ما لا نهاية حتى تصبح كل ثقافة المرء، بالتالي تفسيراً لسطر أو كلمة؟ إن إمبسون أحياناً ذو ميل إلى أن يبعد في تقديره، ويعثر على أنواع من الغموض في كل مكان، وأن يوسع تعريف " رعوي " حتى يصبح كل أثر فني " رعوياً " وأن يكوم المعاني حتى تكاد تحطم صلب القصيدة. فإين يضع الحدود وعلى أي

أساس؟ يقترح بروكس، بلباقة، أن يكون المعيار ما يسميه كولردج " الذوق السليم " وهذا ما يفسره ويدافع عنه رتشاردز في فصل بهذا الاسم من كتابه " رأي كولردج في الخيال "، ويقول: كلمة " الذوق السليم " ذات صوت مشئوم أحياناً إذ يظن إنها لفظة السر في النقد. إنها راية ينضوي تحتها كل نوع من البلادة ويقاتل من أجلها كل نوع من التحيز. حتى كولردج الذي يكون غالباً أسوة في الذوق السليم في النقد، ليس بعاجز، في بعض الساعات القليلة، عن ان يستعمل ألوانها ليتقدم باعتراضات واعتذارات مؤسسة على قراءة ذاهلة ليس فيها عناية ولا قدرة على الاستجابة ولا على الإمداد. ومع هذا، يضيف رتشاردز، إنها المعيار الوحيد لدينا لتطبيق النظرية: " في أي نظرية لا يوجد مقياس فارق للخير، وعلينا ان نستعملها كما نستعمل المجهر لا كما نستعمل آلة الفرز أو المنخل. فإنها لا تستطيع ان تنوب عنا في الاختيار ولكنا لا نستطيع أن نختار دونها، وحياتنا بعينها اختيار ". وعلى الجملة: كل طريقة أو فكرة نقدية بما في ذلك فكرتا إمبسون " الغموض " و " الرعوي " إنما هي امتداد للإنسان أي أداة لا غير، وعلى الإنسان أن يستعملها ويوجهها، وعلى حسب هذا المحك نجد الرجل الواقف من خلف مبدأي إمبسون، أي إمبسون نفسه رصيناً كأي ناقد آخر، وإذا استثنينا بعض الشذوذ. حكمنا أن استعماله لمبدأ خصب تر لامع إلى أقصى حد، وأنه في الوقت نفسه مغلوب النفس بالاهتمام العميق بالقصيدة نفسها و " بالذوق السليم " أساساً. ومن الصعب أن نتكهن بما سيعلمه من بعد، وان المرء ليرجو أن يكف عن تطبيق الإنجليزية الأساسية ولا يشغل كل وقته بها فأنها عامل معوق من نوع آخر أقل قيمة

بالنسبة له إذ أنها تتمخض عن تنظيم لقلة الإنتاج في النقد أكثر من ان تكون تنظيماً لإنتاج وافر غزير. ويرى بروكس أن كتاب " بعض صور من الأدب الرعوي " " يوحي ضمناً بان أثني عشر كتاباً على الأقل ستصدر بعده ". وليس من حقنا أن نتطلب أن تكون هذه الكتب المنتظرة احسن من كتابه الثاني، بمقدار ما تفوق الثاني على الأول، أو كما تفوق الأول على كثير مما نتسامح فنعده نقداً. ومع إقرارنا بأنه لا حق لنا في أن نتطلب ذلك، فلدينا من الأسباب ما يجعلنا نتوقع ذلك. إن الغموض المحير لدى إمبسون هو أن إنتاجه يصبح لدينا بالتدريج أقل غموضاً، ومن علائم النصر في طريقته النوعية انه يتجنب بتوفيق كل نوع نضعه نحن في طريقه.

الفصل العاشر

الفصل العاشر ايفور ارمسترونغ رتشاردز والنقد بالتفسير لا يكاد المرء يقترب من ايفور آرمترونغ رتشاردز إلا وهو يحس برهبة عظمى، فان اطلاعه في كل مجال من مجالات المعرفة واسع مترامي الأطراف، وتميزه في ستة ميادين، بجانب ميدان النقد، فذ ساطع، والألمعية والحذاقة في كتبه الأولى - على الأقل - رائعة، حتى ان دراسة سريعة له في بضعة آلاف من الكلمات لمحتوم عليها أن تكون سطحية مضحكة، وأن " معنى المعنى " وحده بما فيه من مشكلات الخدع " الصوتية " و " والثنوية " (1) ؛ وان ما يحويه من

_ (1) يعني المؤلفان بهذه الخدع العناصر التي تجعل المعاني في الكلمات غير محدودة كتعدد الإيحاءات الصوتية للكلمة الواحدة، أما الخدع العناصرية فهي التي تحملها المصطلحات العامة مثل الفضيلة، الحرية، الديمقراطية، السلم، المجد. وأما النوع الثالث فهو المصطلح الذي يحمل دلالتين معاً مثل " معرفة " فإنها تشير إلى ما هو معروف كما قد تشير إلى عملية التعرف به " وجمال " قد تعني خصائص الشيء الجميل كما تعني التأثيرات العاطفية الناجمة عن تلك الخصائص انظر " معنى المعنى " 1330 134.

" مثيرات " و " متخلفات " و " متطفلات " و " متبديات " (1) لابد وأن يصرف المعلق الارتجالي عنه. غير إنه من المستحيل أن يعالج النقد الحديث دون التحدث عن رتشاردز لأنه هو قالقه، بالمعنى الحرفي. فإن ما نسميه نقداً حديثاً بدأ عام 1924 عندما نشر كتاب " مبادئ النقد الأدبي " حيث يقول رتشاردز عن التجارب الجمالية: سأجهد الجهد كله لأدل على أنها جد مشبهة لكثير من التجارب الأخرى وأنها تختلف، في المقام الاول، بالعلاقات القائمة بين محتوياتها، وأنها ليست إلا تطوراً للتجارب العادية وأنها من ثم تصبح أدق منها وارهف تنظيما، إلا أنها ليست بحال تجارب جديدة مغايرة للتجارب العادية. وحين ننظر إلى صورة، أو نقرأ قصيدة، أو نصغي إلى الموسيقى، لا نفعل شيئاً مبايناً تماماً لما نفعله ونحن ذاهبون إلى بهو التصاوير، أو لما فعلناه حين لبسنا ملابسنا صباحاً؛ نعم أن الطريقة التي تأدت بها التجربة إلى أنفسنا مختلفة، كما أن التجربة نفسها أكثر تعقيداً، وإذا وفقنا فيها فأنها تكون أكثر وحدة، غير أن فعاليتنا ليست في أساسها من نوع مخالف أبداً. وإذ يخصص الكلام في الشعر، تجده يقول: ليس لعالم الشعر، بأي معنى، واقع مخالف لسائر ما في العالم، وليست له قوانينه الخاصة، ولا خصائص مستمدة

_ (1) كل هذه المصطلحات تشير إلى أنواع من الكلمات: فالمثيرات هي الكلمات التي تثير عواطف محيرة والمتخلفات لكثرة الإشارات المترابطة، والمتطفلات هي الكلمات التي يطلقها المتكلم حول موضوع لم يسيطر عليه تماماً، والمتبديات كلمات تشبه الرطانة أو الأصوات الفارغة في حقيقة دلالاتها (انظر معنى المعنى ص: 136 وما بعدها) .

من دنيا أخرى غير هذه، فانه مصنوع من تجارب هي من نفس أنواع التجارب التي تتأدى إلينا بطرق أخرى. وكل قصيدة، على وجه التحديد، قطعة محدودة من التجربة، قطعة يدركها الوهن، بشدة أو بخفة، إذا تطفلت عليها عناصر غريبة، لأنها منظمة تنظيماً أعلى وأشد إرهافاً من التجارب العادية التي تتأدى إلينا من الشوارع أو البطاح، فهي تجربة هشة ناعمة ولكنها اكثر التجارب قبولا للنقل والإيصال. وبهذين المصطلحين اعني " التجربة " و " النقل الإيصال "، تحول رتشاردز بالنقد الادبي، وبهما كتب تعريفه المشهور للقصيدة في كتابه، وهو التعريف الوحيد الذي يبقى متماسكاً إذا أنت سمته تطبيقاً، فيما أعلم (1) . هذه هي الطريقة الوحيدة العملية، في الحقيقة، لتعريف قصيدة، وأن بدت غريبة معقدة: وذلك أن نقول أن القصيدة مجموعة من التجارب التي لا تختلف في أي من خصائصها إلا بمقدار معلوم، يتفاوت تبعاً لكل من هذه الخصائص، عن تجربة معينة نتخذها معياراً لسائر التجارب. وقد نجد هذا المعيار في تجربة الشاعر عندما يأخذ بتأمل ما أكمل خلقه وأبدعه. وقد كرس رتشاردز كل إنتاجه للكشف عن كيفية توصيل هذه التجارب للقارئ، أي أنه على التحديد خصص جهده للكشف عما يحصل عليه القارئ، أي لتوضيح العلاقة بين الجمهور والقصيدة لا العلاقة بين الشاعر والقصيدة. وقد سمى هذا الميدان ذات يوم " تفسير الدلالات " وأخيراً سماه " ريطوريقا " واليوم عاد إلى تسميته " تفسيراً ". وكل

_ (1) انظر كتاب مبادئ النقد الأدبي: 226 - 227 ويقر رتشاردز هنا بأن هناك صعوبات أيضاً مثل ذلك أن لا يكون الشاعر نفسه راضياً عما أبدعه.

كتاب من كتبه قد جال مجاله في ميدان من ميادين دراسة التفسير باستمرار ثابت باهر، وتتخلل كتبه غاية مزدوجة هي تفهمنا كيف تتم عملية النقل الفني، وكيف نجعلها تتم على وجه احسن. وأول كتب رتشاردز هو " أسس علم الجمال " The Foundation of Aesthetics وقد نشره عام 1922 بالاشتراك مع اوغدن العالم النفسي، وجيمس دود وهو حجة في الفنون. ويستعرض المؤلفون في ما يقل عن مائة صفحة كل ما ورد في النظريات الجمالية بحثاً عن طبيعة " الجمال " وبعد أن يتأملوا كل التعريفات الرئيسية يطلعون بتعريفهم الخاص الذي يقول: إن الجمال تجربة أو حال في الجمهور وانه ليس " شيئاً " غامضاًً كاملا في العمل الفني نفسه كان يقدم للناس فكرة أصبحت مدار اهتمامه في كل مؤلفاته. وحين تتبع هذه الفكرة من طريق المقارنات للحدود الكثيرة والتحليلات للمصطلحات، كان يتقدم بما اتخذه منهجه الرئيسي من بعد. وفي السنة التالية نشر رتشاردز وأوغدن مؤلفهما العظيم " معنى المعنى " وكما تتبعا في " أسس علم الجمال " فكرة " الجمال " خلال التعريفات الكثيرة تتبعا في " معنى المعنى " فكرة " المعنى " نفسها، وكانا يحاولان ان يقيما شيئاً شبيهاً بالنظرية عن طبيعة الرموز وتفسيرها وعلماً لطريقة الإيصال اللغوي يمكن تطبيقه من بعد على الفن. وكانت أداتهما الكبرى في هذا العمل هي السيكولوجيا الانتقالية مستمدين من كل مدرسة نفسية حديثة تقريباً. أما " التقنية " الكبرى التي استغلاها فهي التعريفات الكثيرة ثم انتهيا إلى ما سمياه علم الرمزية التي اصبح سواهما يسميها من بعد: السمانتيات الحديثة. وقد طور المؤلفان مصطلحاً لبحث الرموز وطريقة تفسيرها مستعملين اصطلاحي " راموزات " و " مرموزات " وبحثا العلاقة بين العمليات الفكرية والتفسير، وحددا قوانين التفكير، وكشفا عن طبيعة

" الحد " و " المعنى " واختبرا مدى نجاح هذه الطريقة في الأفكار الجمالية عن الجمال (معيدين شيئاً مما قالاه من قبل) وفي أمثلة من الأفكار الفلسفية، وأخيراً سلطا كل ذلك على الشعر. وقد استدعى هذا العمل التفرقة بين المعنى " الرمزي " للعلم (أو ما كان يسمى من قبل نثراً) وبين المعنى " الباعثي " أو " الإثاري " للشعر (وهذا امتداد لما سماه مل " الدال " و " الضمني ") . لقد اتخذ أوغدن ورتشاردز من " معنى المعنى " قنطرة للفكر في أي مجال، وجعلا كل كتبهما من بعده وكأنها ملاحق عليه أو توسعات له، ووضحا في مقدمات الطبعات التالية من هذا الكتاب معقد العلاقة بينه وبين كتبهما الأخرى. أما كتاب رتشاردز " مبادئ النقد الأدبي " (1924) فانه " يحاول أن يتخذ نفس الأساس النقدي الذي حاول أن يقيمه في " معنى المعنى " أساساً في قدرة اللغة على الإثارة " وأما " العلم والشعر " (1926) Science and Poetry فأنه يبحث " مكانة الأدب ومستقبله في حضارتنا " (أي انه يحقق إيجاد العلاقة بين الوظائف الرمزية والاثارية للغة) ويجيء " النقد التطبيق " (1929) " تطبيقاً تعليمياً للفصل العاشر " وهو الفصل الذي يبحث في المواقف الرمزية بما في ذلك العجز عن التفسير ومواطن الاضطراب فيه. ويعالج كتاب " آراء منشيوس في العقل " (1932) " الصعوبات التي تعثر بها المترجم ويكشف عن وسائل التعريف المتعدد " وهذا ما يوضحه كتاب " القواعد الأساسية في التفكير " (1933) . أما كتاب " رأي كولردج في الخيال " (1935) فانه " يقدم تقديراً جديداً لنظرية كولردج في ضوء تقييم مناسب للغة الاثارية " ويستطيع القارئ على هذا النحو ان يضع كتب رتشاردز في مواضعها فيرى في " فلسفة البلاغة " The Philosophy of Rhetoric ما يوضح " سوء الفهم وطرق علاجه " وهذا شيء يحققه أيضاً كتاب " الأساسي في التعليم بين

الشرق والغرب ". Basic in Teaching: East and Weat (1935) ويحقق كذلك كتابه " الأمم والسلام " Nations and Peace (1947) ولكن في مجال آخر. أما " التفسير في التعليم " (1938) فأنه " كالنقد التطبيقي " " تطبيق تعليمي للفصل العاشر " يجري في هذه المرة " كالنقد التطبيقي " " تطبيق تعليمي للفصل العاشر " يجري في هذه المرة على النثر. ويكشف كل من " كيف نقرأ صفحة " وطبعة رتشاردز من " جمهورية أفلاطون " (كلاهما نشر سنة 1942) عن التعريف المتعدد في اللغة الأساسية بمعالجة نص من أفلاطون، وهلم جراً. وتترتب كتب أوغدن على هذا النحو نفسه فيقدم لنا كتاب " معنى السيكولوجيا " (1926) الذي أعيد طبعه سنة 1929 بعنوان " أبجدية السيكولوجيا " " مقدمة عامة للمشاكل السيكولوجية في دراسة اللغة " وأما " الإنجليزية الأساسية " (1930) فانه " تلمس للمبادئ العامة في الدلالات ولأثرها في قضية إيجاد لغة علمية عالمية، ومجهود تحليلي لاكتشاف قواعد للغة يمكن بها ضبط الترجمة من نظام رمزي إلى نظام رمزي آخر " كما أن طبعة اوغدن لكتاب " نظرية بنثام عن أنواع الأدب التخيلي " Bentham " s Theory of Fictions (1932) " قد ركز فيها الانتباه على مساهمة مهملة في هذا الموضوع " (أي موضوع الدلالات وتفسيرها) وهذا هو الموضوع الذي عالجه أيضاً في " جرمي بنثام " Jeremy Bentham (أيضاً) . وما كتاب " مقاومة " Opposition (1932) إلا " تحليل لمظهر من مظاهر التعريف، ذي أهمية خاصة في التبسيط اللغوي " وعلى هذا النحو، فيما أعتقد، يمكن أن نعتبر كتب أوغدن المبكرة كشوفاً ابتدائية لهذه المشكلة أما تلك الكتب فهي: (أ) " مشكلة مذهب الاستمرار " The Problem of The Continuation School (1914) كتبه بالاشتراك مع ر. هـ. بست (ب) " بين خصب الإنتاج والحضارة " Fecudity Versus Civilization (1916) بالاشتراك مع أدلين مور

(ج) " انسجام الألوان " Colour Harmony (1926) بالاشتراك مع جيمس وود. وفي الوقت نفسه لم تقف كتب رتشاردز عند توضيح مظاهر من نظرية تفسير الدلالات بل إنها أدت خدمات جلى فيما يتعلق بالبحث الأدبي على وجه الحديد؛ فأول كتاب ألفه مستقلا وهو " مبادئ النقد الأدبي " أوجد النقد الأدبي الحديث كما تقدم القول، وما يزال بعد عقدين من الزمان نصاً نقدياً هاماً مستمر التأثير. ولما تحدث عنه دافيد ديشز في كتابه " الكتب التي غيرت عقولنا " Books That Changed Our Minds وصفه بأنه طليعة الكتب في تطبيق علم النفس على الشكل، واسبغ عليه كنث بيرك حمده وإطراءه لهذا السبب نفسه، وهو يعتبر بعامة أهم كتاب ألفه رتشاردز وأكثر كتبه تعلقاً بالأصول من حيث ما حواه من مصطلح نظري وفلسفي (أما بحسب مفهوماتنا في هذا البحث فأنه يتضاءل إزاء " النقد التطبيق ") . وقد حاول رتشاردز في هذا الكتاب، بالإضافة إلى أنه عرف الشعر تجريبياً ونص على قابليته للبحث من أساسه، أن يجعل من النقد " علماً تطبيقياً " ذا وظيفة مزدوجة هي: تحليل كل من التجارب التفسيرية والتقييمية وفي الوقت نفسه اضطلع بمهمة تجاوز فيها حد العلم، تلك هي إنشاء معايير تقيمية، مصرحاً أن " من ينصب نفسه ناقداً فكأنما ينصب نفسه حكماً على القيم " محدداً خصائص الناقد " الجيد " في ثلاث: أن يكون حاذقاً جرب حالة الفكر المرتبطة بالعمل الفني أثناء حكمه دون ان تشط به نزواته الذاتية. ثانياً لابد له من ان يكون قادراً على تمييز تجربة من أخرى من حيث مظاهرها الأقل سطحية. ثالثاً لابد من أن يكون حكماً رصيناً على القيم.

كل هذه المعايير تشير نحو موضوعية علمية، ولكنها أيضاً تشير، بنفس القوة، إلى خصائص ذاتية خالصة، أي إلى تلك الثقة الذاتية الغريبة التي ندعوها " الذوق ". ولما شاء رتشاردز أن يجلو خصائصه الذاتية، كما يوضح طريقته الموضوعية، ارفق بكتابه ملحقاً درس فيه بإيجاز عدداً من قصائد اليوت. وهذا الملحق وان كان سطحياً، فأنه مع ذلك ثاقب دقيق مشمول بسعة الاطلاع (مثلا يستخرج فيه رتشاردز إشارات من قصيدة بيربانك وبلايشتاين أكثر مما استطاع النقاد أن يلحظوه فيها بعد عقدين من الزمان) . ومع ذلك فان في كتاب " مبادئ النقد الأدبي " عدداً من العيوب. فمن أقيم الأشياء في الكتاب - مثلا - تأكيده أن (الدوافع لا يمكن تلقيها إلا أن كانت تخدم حاجة عضوانية " (وهذا عندما يطبق على الأدب معناه أن الأديب لا يشير إلى شيء ولا يقتبس شيئاً إلا أن يكون ذلك معبراً عنه) . غير أن رتشاردز يتقدم لتحطيم مبدأه هذا بحماقة، مقرراً أن النقد القائم على التحليل النفسي لا يستطيع ان يدرك ميزة قصيدة " قبلاي خان " لأن " باعثها الحقيقي " هو " الفردوس المفقود " وقراءات أخرى ثقفها كولردج - وهذا مثال من فرض يتخذ برهاناً، وهو في حاجة إلى إثبات، غير أن مثله ليس كثيراً عند رتشاردز. وفي الوقت نفسه يسيء رتشاردز قراءة قصيدة أخرى لكوردج وهي " الملاح القديم " واجداً أن " خلقيتها " " أمر دخيل "، مع إنها لب شعائر التكفير في القصيدة (1) . وأخيراً فان اللوحة المدهشة التي تشير إلى الجهاز العصبي على الصفحة 116 وتصور الطريق التي يمارس بها العقل الصور في بيت من الشعر تخلق آثاراً مضحكة مباينة تماماً لأهداف

_ (1) يشير هنا إلى الموضوع قصيدة " الملاح القديم " وكيف أن الربان قتل طائراً كان يتبع السفينة فهدأت الريح، وحل النحس، وكان " التكفير " فيها هو شعور الربان نفسه بشبح الذنب يلاحقه أنى اتجه، ثم موت البحارة واحداً بعد آخر.

رتشاردز وفيها جور على جديته عامة وكان من الخير لو أسقطها. أما كتاب رتشاردز التالي " العلم والشعر " فانه مجموعة من سبع مقالات قصيرة وهو استمرار للبحث في هذه المشكلات جميعاً وفيه يطور رتشاردز فكرة " السؤال الكاذب " و " التقرير الكاذب " من اجل البوح الباعثي في الشعر. ويقدم فكرة اقرب إلى أن تكون طفولية وهي " وسائل الهرب " المهيأة للشاعر أي طرق " التملص من المصاعب " وهي الفكرة التي أمعن النقد الماركسي في استغلالها دون ملل. ويستمر رتشاردز في الوقت نفسه في بحوثه المحددة عن الشعر مخصصاً الفصل الأخير لنقد هادي ودي لأمير وييتس ولورنس، وهذه البحوث - كما جرت العادة - مرهفة مشمولة بسعة الإدراك رغم ما فيها من تهوين كثير لشأن ييتس، الأمر الذي اعتذر عنه رتشاردز بحاشية في الطيعة الثانية سنة 1935. (وألغى أيضاً قوله السابق بان اليوت " قد فصل كلياً بين شعره وكل المعتقدات " وأضاف ملحقاً وضح فيه ما يعنيه بكلمة معتقدات) . وكان الهدف من كتاب " النقد التطبيقي " أن يكون " كشافا " إلى " مبادئ النقد الأدبي " ليظهر نقائص التفسير التي حاول كتاب المبادئ أن يصححها. وسنتحدث عنه بإسهاب فيما يلي: ثم كان الكاتبان النقديان التاليان " آراء منشيوس في العقل " و " رأي كولردج في الخيال " تطويراً وتوسيعاً لمشكلات معينة. فأما الأول وعنوانه الفرعي " تجارب في التعريف المتعدد " فانه يكشف عن آراء منشيوس السيكاوجية وعن طرق المعنى عند الصينيين، وعن اللغة الصينية ومشكلة الترجمة منها إلى الإنجليزية، جاعلا من هذه كلها سلسلة من المشكلات المترابطة في التفسير المكثر. ويبدأ رتشاردز كتابه على الصفحة الأولى باثنتي عشرة قراءة متناوبة لسطرين من منشيوس، ثم يتقدم للكشف عن طبيعة القراءات المكثرة وعن خصائص اللغة الصينية بعامة مميزاً

ما كان منها نتيجة للثقافة، ويختبر نظرياته على عبارة لهربرت ريد ثم ينتهي إلى منطوق في التعرف المتعدد، ويوضحه بجداول مصنفة في القراءات المكثرة للأمور الآتية: " الجمال " و " المعرفة " و " الصدق " و " النظام ". أما في كتاب " رأي كولردج في الخيال " فانه يحاول كشفا آخر في التعريف المتعدد وذلك بالغوص هذه المرة في معاني كلمة " خيال " المنتزعة من فكرة كولردج، ويحدد هدفه بأنه غربلة لتأملات كولردج واستخلاص فرضيات يمكن الاستفادة منها، وانه يرجو أن " يطور هذه الفرضيات إلى وسائل متضافرة في البحث يحق لها أن تدعي علما " وان طريقته بعامة هي التحليل والتجريب لا التقييم (وذلك ما أصبح لديه " إقناعا " أو " شعيرة " من شعائر المشاركة) . أما الخصيصة المميزة لنقد القرن العشرين كما يراها رتشاردز في الكتاب فهي العجز عن القراءة. فالعودة إلى كولردج في هذا الأمر، على الأقل، شيء يستحق الترحيب. وفي الوقت نفسه يمضي في الكشف عن مصادر الخطأ في القراءة بردها إلى الإرجاع المخزونة وإلى حسبان الملفوظات الاثارية ملفوظات رمزية وهكذا، غير انه تخلى عن اصطلاحات انحدت دلالتها المعنوية ضمنا إلى ما هو أسوأ مثل " التقرير الكاذب ". كان " رأي كولردج " خامس خمسة من كتب رتشاردز النقدية العظيمة وآخرها استحقاقاً لصفة العظمة لان ما بعده وهو " فلسفة البلاغة " المنشور عام 1936 مخيب للآمال كثيراً، إذ ليس هو غلا سلسلة من المحاضرات ألقيت بكلية برنمور على طريقة من التبسيط والتقريب. فقد أصبح رتشاردز يسمي ميدانه " بلاغة " أي " دراسة سوء الفهم وطرق علاجه " او " كيف تؤدي الكلمات عملها " ويقترح في هذا الكتاب نظرية في النسبية اللفظية لو انه دفع بها خطوة أخرى لجعل كل النقد مستحيلا ثم ينقض على نفسه كل دراساته السيكولوجية الأولى المتعلقة بالأجهزة

العصبية. وأكبر إسهام في الكتاب، عن لم يكن الإسهام الوحيد فيه، هو البحث في المجاز وهو تحليل شامل يطور اصطلاحين جديدين هما " المحمول " و " الحامل ". والكتاب في مجمله هو الدلالة العامة الأولى على تحول اهتمام رتشاردز من النقل في مناسيبه العليا الممكنة، أي في نقد الشعر، إلى النقل في مناسبيه الجماهيرية الدنيا، أي في الإنجليزية الأساسية. (صدر هذا الكتاب بعد كتابين في سلسلة Psyche - Miniatures عن الإنجليزية الأساسية) . وبعد سنتين صدر " التفسير في التعليم " فكان شاهداً على أن الإنجليزية الأساسية لم تستطع أن تسلب رتشاردز كل اهتمامه النقدية، ولكنها كانت الهبة الأخيرة التي نشأت عن دروسه في النقد التطبيقي بكمبردج واتخذها ملحقاً لكتابه السابق. وتقول مقدمة رتشاردز ان الكتاب تطوير أكمل لكتاب " فلسفة البلاغة " من حيث أنه يحاول أن ينعش ويصقل الثالوث القديم: ثالوث البلاغة والنحو والمنطق؛ وكثير من هذا الكتاب مكتوب بالنغمة اللاعقلانية الجديدة: " علينا أن نتقبل الحقائق الأساسية دون أن نتطلب لها توضيحاً ". أما الثالثوث فيجب أن نعتبره " فنونا لا علوماً " وأما القراءة فأنها مليئة " بأمور لا يمكن قياسها ولا تقنينها " ومهما يكن من شيء فأن الكتاب ما يزال يجري على الأصول السابقة مع إلحاح مستمر على " التجريب " وقد حصل رتشاردز على معلوماته لهذا الكتاب باستعمال الطريقة التجريبية " العرفية " في أحد الفصول، وهي الطريقة التي أجراها في " النقد التطبيقي "؛ غلا أنه في هذه المرة كان يجري التطبيق على النثر التفسيري؛ وهو يلحظ تصليحات وتحسينات في الطريقة استوحاها تجريبياً، ويتحدث عن بعض المضامين والإمكانات والأخطار الكبرى في الطريقة، ومما لم يكن لديه المعلومات عنه ليتحدث عنه في كتبه السابقة. ثم أن رتشاردز يدرك لأول مرة انه إن شاء أن يعالج جوانب

الضعف في التفسير معالجة كاملة فعليه ان ينحرف نحو دراسة " علم الخصائص " فينفق في ذلك فصلا مقدراً قدر الفروق الإنسانية الحقة التي تنجم عن أسباب اجتماعية مضفياً تلك الخصائص الإنسانية على قرائه الذين كانوا من قبل وليدي الفروض العارضة أو المتوهمة. أما الضعف الوحيد الكبير في الكتاب فهو إيمانه الجديد في التعليم أيمانا يشبه الاعتقاد في الإكسير، وأن التعليم خير طريقة لحل المشكلات الكبرى، وتبدو اقتراحاته في الكتاب غير متناسبة كالاقتراح الأدلري الذي سخر منه كريستوفر كودول دون شفقة (اقترح لتصفية المشكلات العالمية إنشاء كرسي للبيداغوجيا العلاجية "، وبعد ان تحدث رتشاردز عن عجز عام في القراءة والتفسير يسود مجتمعنا قال: " حبذا لو أن الصحف خصصت بعض انهرها - وجعلتها تحت إشراف خاص - لرسائل تردها في هذا الموضوع من المدرسين وشجعت في أعمدة أخبارها على دراستها دراسة نقدية ". وفي أثناء ذلك كان اهتمامه بالإنجليزية الأساسية يتزايد خلال العقد الرابع من هذا القرن؛ غير أن فكرة الإنجليزية الأساسية أقدم من ذلك إذ ألمع إليها كل من أوغدن ورتشاردز نتيجة لبحوثهما في " معنى المعنى " حين اكتشفا أن هنالك كلمات سياسية معينة تتردد في تعريفاتهما، الفنية بعد الفنية، وتحقق لديهما أن عدداً قليلا من الكلمات الأساسية قد يكفي للتعبير عن أي فكرة. وقد عمل اوغدن عشر سنوات في تطوير هذه الفكرة. وفي سنة 1929 نشر أول جريدة أساسية من الكلمات في سلسلة Psyche وتلا ذلك كتب أخرى تحدد اللغة ووسائلها. وفي سنة 1933 كتب رتشاردز: " القواعد الأساسية في التفكير " بالإنجليزية الأساسية، ليبين قدرة اللغة على أن توضح مسالة معقدة، وهي المنطق في هذا المقام. ثم نشر في سنة 1935 كتيباً اكثر طموحاً هو " الأساسي في التعليم

بين الشرق والغرب " وصرح فيه بأن هناك أزمة ثقافية معاصرة وعجز عاماً في النقل الفني وضمنه تجربة رتشاردز نفسه لهذا العجز بشكله المتطرف في الصين ثم خصص سائر الكتاب لمناقشة استعمال الإنجليزية الأساسية علاجاً للغة ودفاعاً عنها ضد من يهاجمونها. وخير ما يمكن قوله في هذا الكتاب هو أن المشكلة التي يضعها رتشاردز، اعني ما يشبه أن يكون تدهوراً في حضارتنا، ليست كالمكلة التي يحلها، اعني كيف نحسن القراءة في المدارس. ومنذ عام 1938 وقف كل مؤلفاته على الإنجليزية الاساسية، في المقام الأول، وعمل في أميركة منذ 1939 حيث الحاجة إلى ذلك أمس. ثم نشر سنة 1942 طبعة موجزة من " جمهورية أفلاطون " باللغة الأساسية وجعل " كيف نقرا صفحة " تعليقات على حواشيها. أما هذا الكتاب الثاني وهو في ظاهره عمل نقدي، فانه في الحقيقة يعتمد الإنجليزية الأساسية حلا للمشكلة التعليمية كما أن كتابة " مائة كلمة عظيمة " رد على مشروع " مائة كتاب عظيم " الذي تضطلع به شركة مورتمر أدلر وسكوت بوخانان. أما من حيث الأسلوب فانه يعتمد التبسيط شأنه في ذلك شأن " فلسفة البلاغة " غير أنه يحرص على أن يكون غامضاً بشكل مرهق، وذلك لأن رتشاردز يستعمل فيه سبعة أنواع من علامات الاقتباس على الكلمات؛ وقد وضع مشكلات التعريف المتعدد أو الترجمة في اللغة الأساسية موحيا بجعلها الترياق الشافي مثلما فعل في كتابيه " القواعد الأساسية في التفكير " و " الأساسي في التعليم " وفي النهاية أي عندما تحول الكتاب إلى فلسفة أفلاطونية مبسطة، أنهاه رتشاردز برجاء أخير من اجل التعليم واللغة الأساسية والفكر ونشر في سنة 1943 كتابا اقل طموحا وأكثر " دغرية " في التبشير بمذهبه، وذلك هو كتاب " الإنكليزية الأساسية وفوائدها " ومنذ عندئذ، مضى في حملته فنشر " كتاب الجيب في الإنجليزية الأساسية " ويتألف كله من رموز تعليمية

منظورة ثم نر مقدمة لكتاب " ذخيرة الجيب " لروجيه. ولما نشر سنة 1947 كتابه " الأمم والسلام " كان قد بلغ نوعا من الاوج وكل هذا الكتاب تقريباً بالإنجليزية الأساسية (فيه 365 كلمة مأخوذة من جريدة الكلمات الأساسية و 25 مما سواها) موضح بالصور البسيطة، وهو دعوة إلى استئصال الحرب بطريقتين: الحكومة العالمية والإنجليزية الأساسية متضافرتين. وقد كتب رتشاردز بضع مقالات لكنها كانت دائماً تتجه اتجاه كتبه، أما مقاله عن قصيدة هوبكنز " العقاب " الذي نشره في Dial أيلول (سبتمبر) 1926 والذي وصفه ف. ر. ليفز بأنه " أول نقد نابه كتب عن هوبكنز " فانه استمرار لبحثه في النصوص الشعرية المعينة في كتابه " العلم والشعر "، وفي هذا المقال وصف هوبكنز بأنه " اغمض ناظمي الشعر في الإنجليزي " وحلل القصيدة بشيء من الإسهاب مع إشارة إلى قصائد غنائية أخرى اصعب منها، من شعر هوبكنز نفسه، ليوضح طريقته التي يطبقها لتفسير الشعر الغامض المعقد خاصة. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1927 نشر بمجلة Forum مقالا عنوانه " كيف نفهم فورستر " وهو بحث في نصوص نثرية سلط فيه رتشاردز تحليله على العلاقة المعقدة بين نظرات فورستر وموضوعاته وإقبال الناس عليه، وبين وسائله القصصية. أما مقال " خمسة عشر بيتاً من لاندور " بمجلة كريتريون، نيسان (أبريل) 1933 فأنه تجربة أخرى في النقد التطبيقي إلا أنه يوجه المشكلة نحو نقائص التعليم وبذلك يكون جسراً يصل بين كتاب " النقد التطبيقي " وكتاب " التفسير في التعليم ". وأما " تفاعل الألفاظ " فأنه محاضرة ألقيت في برنستون عام 1941 ونشرت في " لغة الشعر " الذي نشره ألان تيت سنة 1942، وهو آخر مقال، فيما اعلم، تناول فيه رتشاردز نقد الشعر على وجه الخصوص

وهو في الدرجة الأولى قراءة مقارنة مسهبة لمرثاة كتبها دريدن وأخرى كتبها دن فأظهرت عوار الأولى، وقد كشف رتشاردز عن كل سحره القديم، وهو يستعرض، باسهاب، مواطن الضعف في قصيدة دريدين بمقارنتها بما في قصيدة دن من خدع وإبهام، ولا يقلل من هذا السحر أن كان استنتاجه الأخير أن علينا جميعاً ان نكون " ارسطوطاليسيين افلاطونيين ". وابتعد عن نصوص الشعر في رسالتين حديثتين نشرتا بمجلة بارتزان: أولاهما (في عدد تموز - آب 1943) تعليق على الجدل الذي ثار حول " الهبوط العصبي "، والثانية (صيف 1944) عن مقال لاليوت في الثقافة؛ أما الأولى فتترجح، بعون من مجاز قسري موسع، بين دين غيبي وعلم طبيعي، وأما الثانية فأنها إسهام في أمور التعليم، وتقول إن التعليم " محاولة إدراك النظام الخلقي والفكري " وهو بهذا يهيئ لنا الخلاص الأبدي. بعد استعراض هذا الإنتاج المحير الذي استمر ربع قرن من الزمان قد يكون من الممتع ان نتساءل ما هي حرفة رتشاردز أو ما هو ميدانه؟ لقد نصب نفسه في " أسس علم الجمال " جماليا، وفي " معنى المعنى " فيلسوفاً للمعرفة و " عالماً في الرموز " أو " سمانيتاً " - وهما الاصطلاحان اللذان يستعملهما بالتناوب؛ وكان في كل ما كتبه نفسانياً، يسمي نفسه " حيادياً " فيستمد بحماسة ودون تحيز من السيكلوجيا الفيزيولوجية والعصبية والسلوكية وسيكلوجية بافلوف في الإرجاع المنضبطة ومن التحليل النفسي ومذهب الجشطالت، ويهتدم ويتلقف من كل عالم سيكولوجي آخر ذي نظرية أو تجربة، كما يعتمد ملاحظه التجريبية الخاصة. وفي السنوات الأخيرة هاجم السيكولوجيا التربوية (وربما السيكولوجيا عامة) بأنها " رطانة " وأنها " مرض الغرام بالتجريد " وإذا اتخذنا " كيف نقرأ صفحة " شاهداً، وجدنا انه ربما كان مستعداً ليعيد سيكولوجيته - كفرع

من الفروع - إلى جذع الفلسفة المحطم، حيث انتزعها وليم جيمس في الأصل. زد إلى هذا أن رتشاردز كان دائماً معلماً وشيئاً من عالم بالصينيات ومنطقياً وذا نظريات تربوية ولغوياً، وكان منذ عقد مضى اعظم ناقد محترف، واهم من يطبق النقد عملياً، ولعله أول شخص، بعد بيكون، يتخذ كل المعرفة مجالا، ويجعل ميدانه كل العقل الإنساني. 2 - أن ما حققه " النقد التطبيقي " في منحاه لبالغ القيمة حتى انه تكاد لا تبطل العمل به أية نقائص تنشأ من بعد، فقد كان فاتحة نقد موضوعي وأول محاولة منظمة لإيقاف نسج النظريات حول ما يتلقاه الناس أو ما يجدونه حين يقرأون قصيدة ما. ولم تكن غايته النهائية شيئاً أدنى من التحسين العام للقراءة، وبالتالي التحسين العام للتذوق الأدبي. يقول رتشاردز (1) : قد يبدو محض مبالغة أن يقال أن الغاية الأولى والوحيدة في كل المحاولات النقدية، أي في كل التفسير والاستساغة والنصح والمدح والقدح، هي التحسين في النقل والإيصال لكن الأمر كذلك عملياً. إذ الحقيقة أن الجهاز الكلي في القواعد والمبادئ النقدية إنما هو وسلية لبلوغ نقل اجمل وأدق وأحكم؛ نعم أن للنقد جانباً تقيمياً، فبعد أن نحل تماماً مشكلة النقل، وعندما نصل تماماً إلى التجربة، أي إلى الحال العقلية المرتبطة بالقصيدة، يتبقى علينا أن نحكم عليها، أي أن نقرر قيمتها، ولكن المسالة تسوى نفسها دائماً على وجه التقريب، أو قل

_ (1) راجع كتاب " النقد التطبيقي ": 11.

أن طبيعتنا الداخلية وطبيعة العالم الذي نعيش فيه هي التي تقرر لنا ذلك، وأذن تكون محاولتنا الكبرى هي ان نصل الحالة العقلية المرتبطة بالقصيدة ثم نرصد ما يحدث: أما الأهداف المحدودة في الكتاب كما يصوغها رتشاردز في الفقرة الأولى من مقدمته فإنها ثلاثة: أولا أن يقدم نوعاً جديداً من الاستدلال لأولئك المهتمين بحال الثقافة المعاصرة سواء أكانوا نقاداً أو فلاسفة أو معلمين أو سيكولوجيين أو أي رجال يحدوهم إلى ذلك حب الاستطلاع. ثانياً: أن يهيئ وسيلة جديدة لأولئك الذين يرغبون في أن يكشفوا لانفسهم عما يفكرون فيه وما يحسون به نحو الشعر (والأمور المشابهة) ولم يحبونه أو يكرهونه. ثالثاً: أن يعد الطريق لمناهج تربوية اكفأ من التي نستعملها لتطوير الأحكام والقدرة على فهم ما نسمع ونقرأ. أما الغرض الأول ففيه طبعاً مشمولات واسعة الذيوع حول الشعر والنقد وأما عن الهدف الثاني فقد قال رتشاردز (1) : أن هدفي الثاني أشد طموحاً ويحتاج مزيداً من تفسير فهو يمثل جزءا من محاولة عامة لتعديل طرقنا في أشكال معينة من البحث، فهناك موضوعات يمكن البحث فيها بمصطلح من الحقائق الثابتة والفروض الدقيقة، ومن أمثلة هذا النوع: الرياضيات والطبيعيات والعلوم الوصفية. وهناك موضوعات أخرى يمكن معالجتها بالقواعد المجربة وبالعرف المألوف عامة: كالأشياء الحسية في التجارة والقانون والتنظيم وأعمال الشرطة.

_ (1) كتاب " النقد التطبيقي " صك 5 وما بعدها.

وبين هؤلاء وهؤلاء يقع " قدر " هائل " من المشكلات والفروض والرموز والأخيلة والميول والمعتقدات، وهنا مجال الآراء العارضة والتخمينات المتفائلة؛ هنا باختصار يقع كل عالم الرأي المجرد والنزاع حول مسائل الشعور. وينضوي في هذا العالم كل شيء يهتم به الإنسان المتحضر، أكثر اهتمام؛ ولا أريد ان اخطر بالذهن إلا فلسفة الأخلاق والميتافيزيقا والآداب والدين وعلم الجمال والجدل الذي يدور حول الحرية والقومية والعدالة والحب والحق والايمان، وان نعرف كيف نوضح هذه الأمور ونبسطها. ويقف الشعر في هذا العالم، كمادة للبحث، " دخيلا " مرموقاً يتركز حوله الاهتمام، وهو كذلك بطبيعته وبأنموذج البحث الذي جرى العرف على ربطه به. ومن ثم فانه صالح بوجه بارز، كي يكون " طعماً " لكل من شاء أن يتصيد الآراء الراهنة والاستجابات في هذا الميدان المتوسط، من أجل فحصها ومقارنتها، ومن أجل دفع معرفتنا قدماً فيما يسمى التاريخ الطبيعي للآراء والمشاعر الإنسانية. أن الذي كان يستشرفه رتشاردز، بعبارة أخرى، ليس شيئاً اقل من توسيع منطقة العلم، بما فيها من معلومات موضوعية جمعت تجريبياً، حتى يتخلل ميدان الشعر، وما يضارعه من مناطق الجدل. وقد كان رتشاردز يرجو " بحمل هذه الناحية العلمية إلى مجال أيدلوجية مقارنة " ان يقترح وسائل بداغوجية محسنة تساعد على تحقيق هدفه الثالث. زد إلى هذا أن رتشاردز وجد أن عمله ينطوي على مشمولات تتجه وجهة رابعة، اعني تطوير نقد يتناول ما يجد قبولا في النفوس، وقد أشار إلى هذا بسخرية، بالرغم مما فيه أساساً، من مشتملات جادة، حين

كتب يقول: " وعرضاً أقول أن هناك ضوءاً غريباً يلقي على منابع ارتياح النفوس لتلقي الشعر. والحق أني لست بارئاً من خشية أن تكون مجهوداتي ذات عون للشعراء الشباب (وغيرهم) حين يشاءون أن يزيدوا في مقدار ما يبيعونه من مؤلفاتهم. فأن وضع قواعد " لهذا القبول العام " يبدو شيئاً ممكناً تحقيقه ". أما ما حققه رتشاردز نفسه مما كان يستشرفه فشيء بسيط واه في ذاته. ففي خلال حقبة من الزمان طبع قصائد، اغفل ذكر ناظميها، وحاول بعض المحاولة أن يخفي العصور التي قبلت فيها، وذلك بكتابتها حسب التهجئة الحديثة، عن تلامذته في كمبردج، وقد تسلسلت القصائد من شيكسبير حتى إلا ويلر ويلكوكس، ووزعت في مجموعات رباعية مختلطة، وطلب إلى الطلاب، وأكثرهم جامعيون يقرأون الإنجليزية لنيل درجة الشرف، أن يقراوا القصائد في أوقات الفراغ بعناية عدد ما يشاؤون من مرات، وأن يعلقوا عليها. وقد عرف رتشاردز القراءة الواحدة بأنها أي عدد من النظر والتصفح في جلسة واحدة، وطلب إلى الطلاب أن يسجلوا عدد القراءات مع تعليقاتهم، وبما أن بعض الطلاب قراوا اثنتي عشرة مرة أو اكثر، ولا تكاد تجد واحداً قرا قصيدة اقل من أربع مرات، فانه من الواضح أن القصائد قرئت كثيراً وبإمعان. وعند نهاية أسبوع جمع رتشاردز تعليقاتهم التي يسميها " بروتوكولات " أو مسودات، وتحدث عنها القصائد في حجرة الدراسة " ولم يكن إرجاع المسودات إجبارياً، ولذلك يمكن أن يقال عن ال 60./. الذين فعلوا ذلك إنما كانت تحدوهم رغبة حقيقة " (1) ، وقد اتخذت الحيطة لابقاء القصائد مجهولة النسبة، وحذر رتشاردز في ملاحظاته من أن

_ (1) ذلك ما قاله رتشاردز نفسه في مقدمته، انظر ص5 من الكتاب المذكور.

يحاول التأثير في المجموعة لصالح القصيدة أو ضدها أو أن يلمح بشيء إلا أن القصائد أميل إلى أن تكون خليطاً. ويمثل " النقد التطبيقي " وعنوانه الفرعي " دراسة في الحكم الأدبي " شيئاً من هذه المادة بعد أن فرزت ونظمت. أما القسم الأول من الكتاب فانه تمهيدي، يفسر التجربة ويتحدث عن مشكلاتها المتعددة والثاني وهو الأطول يقدم نماذج من المسودات لثلاث عشرة قصيدة، ومعها القصائد، ولكل قصيدة فصل خاص مقسم حسب الاستجابة التي نجمت عن المسودات. ويتألف الرابع من خلاصة وإرشادات تحبيذية، وأربعة فهارس أضيفت: أحدها ملاحظ إضافية والثاني يجمع جدولاً للقبول النسبي الذي لاقته القصائد، والثالث يذكر أسماء أصحابها (حتى أن القارئ الذي كان يختبر نفسه على هذا النحو نفسه، يجد السر في النهاية منكشفاً) والرابع تترتب فيه القصائد على الطريقة التي قدمت بها في الأصل للطلبة. أما القصائد الثلاث عشرة المدروسة فإنها تتراوح بين عدد يمكن ان تعتبر " طيباً " مثل " السوناتة السابعة المقدسة " لدن (هبي على أركان الارضين المتخيلة) وقصيدة هوبكنز " الربيع والخريف: إلى طفل صغير " وبين قصائد لفيليب جيمس بيلي وج. د. بليو وولفرد رولاند تشايلد ورجل يسمى " وودباين ولي ". وطريقة رتشاردز في كتابه هي أن يطبع القصيدة ثم يطبع أنواع الاستجابة لها ثم يشتق الأحكام العامة. وتجيء قراءاته اللامعة للقصائد خلال الإيحاءات وبطريقة عارضة. ولإيجاد تمييز أساسي في " مسودات " القراء يستعمل كلمة " تقرير " للملفوظات التي تكمن أهميتها فيما تعكسه من العمليات العقلية عند الأدباء. ويؤكد رتشاردز للقارئ أن المسودات التي يعرضها لم تجر فيها يد التلاعب حتى عن التهجئة والترقيم تركا دون تغيير حيث بدا ذلك

هاماً (عن الخط كما يقول رتشاردز له أهميته ولكنه لا يملك طريقة لعرضه) وانه ليس ضمن التعليقات والتفسيرات التي ينقلها شيء مختلق (شك قد يثور حقاً نظراً لأن بعض التعليقات تكاد لا تحظى بالتصديق) . وهو يؤكد أنه اختار مادة المسودات بموضوعية وإنصاف، ما أمكنه ذلك، إلا أنه هون بعض الشيء من نسبة المادة التي لا تستند إلى رأي. ومهما يكن من شيء، فان ما تكشفه المسودات، لعله أن يكون أكبر صورة مروعة، وثقت بالشواهد العديدة، وقدمت أبداً لتصور القراءة العامة للشعر. ولعل أكبر شيء مخيف حصل عليه رتشاردز هو الشهادة على أن تلامذته (وربما أنطبق هذا على كل القراء والشعراء إلا قلة ممتازة منهم) يعتمدون إطلاقاً على ما يوحي به اسم الأديب وعلى إحساسهم بموضع ذلك الاسم في سجل الخالدين، ويتخذونه عكازاً لاحكامهم وقد كادوا في كل حالة أن يكونوا عاجزين عن الحدس بالمؤلف دون ان يعرفوا باسمه، وإذا حزروا اخطاوا التخمين ثم مضوا في تقييم ذاتي مؤسس على ذلك التخمين الخاطئ. وقد ظهر إنهم جميعاً يعكسون كل الأحكام المقبولة في مجال القيم الشعرية بآرائهم المخلصة مع أنهم لا يعرفون اسم صاحب القصيدة.. وخوفاً من أن تصبح هذه الحقيقة محطاً للتهوين من شأن الأحكام المقبولة فأن بلاهة ملاحظهم وعجزهم الصريح عن أن يقرأوا أو يلحظوا أبسط الحقائق المادية وأشدها وضوحاً تبينان أن الخطأ هو خطأهم. ويلخص رتشاردز الصعوبات الكبرى التي تكشف عنها المسودات، ولعل خير طريقة تؤدي معنى لمادته أن ننثر تلخيصه هذا ثم أن نعرض بعض المسودات النموذجية التي تظهر بعض الأخطاء. وقد وجد الصعوبات الكبرى عشراً: أ - العجز عن فهم المعنى الواضح للشعر أو تفسير معناه

النثري القابل للحل. ب - الصعوبات في الفهم الحسي للشكل. ج - الصعوبات المتصلة بالصور المنظورة. د - أمور غير متناسبة في الذاكرة وخاصة ذكريات ذاتية أو خواطر مرتبطة على نحو خاطئ. هـ - إرجاع مخزونة استدعتها القصيدة وحركتها. و العاطفية (أو الضعف العاطفي) . ز - الكبت، وهو معكوس العنصر السابق. ح - اللياذ بالمبادئ. ط - الفروض " المسبقة " ذات الصبغة الفنية. ي - الأفكار " المسبقة " العامة النقدية. ولنعرض أولا بضع نماذج من المسودات والشذرات عن سوناتة دن، فلعلها ابرز قصيدة في كل هذه " الطبخة "، فيسميها أحد القراء مقطوعة عاجزاً عن أي يتبين إنها سوناتة، ويرى ثان، مأخوذاً برجع مخزون نحو مادتها، أن لها وزن الترانيم ويقول فيها: لقم من الالفاظ، لا تجد أي قبول. ترنيمة جيدة - في الحقيقة، وهذا ما يدل عليه وزنها. روحها الدينية مرهقة لامرئ لا يؤمن بالتوبة على هذا النحو. وثمة قارئ لم يستطع أن يصنع فيها شيئاً: أعترف تواً بأنني لا أستطيع أن اعرف عم يدور كل هذا الصخب فإن القصيدة محيرة تماماً، وما فيها من ضمائر عديدة وأحوال، تبهم الفكرة إن كانت فيها فكرة محدودة. ويرى قارئ آخر أن في " أركان الأرضين المتخيلة " " إيهاماً جميلاً ". ويكتب آخر مدافعاً:

من الصعب على المرء أن يشرك الشاعر نزعته، إذ مع أن إخلاصه أمر واضح، فان وسائله الفنية رديئة، غير أن الأبيات على الرغم من ذلك تعبر عن إيمان بسيط في نفس رجل ساذج جداً. وينساق تلميذ في قطعة من ترجمة ذاتية فيقول: بعد أن أخفقت في أن أكتب سوناتة اصبح لدي إعجاب شاذ بمن يكتبون هذا اللون من الشعر، ولو لم يكن الأمر كذلك لحسبتني في النهاية أقول إن هذه السوناتة رديئة. ويقول آخر " القوافي غير مستوية "، وآخر يقول: " إنها تبطئ وتتعثر عندما تقترب من نهاياتها ". وثالث يقول: " أحسست أن الكاتب قد صوب سهمه نحو هدف عال فقصر دون بلوغه ". ويعلق شخص متحمس لتقطيع الأوزان بقوله: تبدو لي القصيدة سوناتة متعفنة مكتوبة على البحر الأيامبي الخماسي، المناسب لمزاج الشاعر؛ ولم أستطيع أن أجد التفاعيل الخمس المعتادة في كل بيت على رغم من إلحاحي ودقي للطاولة بأصابعي، فان التفعيلات كثيراً ما تكون غير أيامبية، وفي البيت الواحد أحياناً أربعة مقاطع منبورة، وأحياناً ستة، أما في التركيب فأن القصيدة تشبه أن تكون قرزمة طالب في أول عهده بالشعر، وأسوأ ما فيها الأبيات 5 و 6و 7. أما الفكرة فتبدو وجيهة حقاً. ويناقض قارئ آخر هذا الرأي بقوله: " أنا لا آبه بالمعنى فأني تكفيني موسيقي القصيدة ". وينقدها أحد الطلبة بقوله: " ليس فيها صور ". وينفيها طالب إطلاقاً بقوله: " إن أول نقطة في هذه السوناتة وهي فيما تبدو أوضح فيها، إنها كان من الممكن أن تكتب نثراً ويكون تأثيرها مساوياً للشعر أن لم يزد عليه ".

وقد أصابت قصيدة دن 30 مسودة مشايعة لها و42 مضادة و 28 ليس فيها آراء. وللمقارنة ننظر في القصيدة التي أحرزت اكثر عدد من المشايعين (54) وأقل عدد من المنكرين (31) (أما الخمسة عشر الباقية فإنها عارية عن الآراء) وهي قصيدة " الهيكل " لبليو (1) من مجموعة: " Parentalia and Other Poems " ومطلعها: بين الأشجار السامقة الخاشعة سأخر على ركبتي فلن أجد هذا اليوم مكاناً كهذا ملائماً للتعبد وتستمر القصيدة في خمس مقطوعات على هذه الشاكلة. وقد اغفل بعض القراء القصيدة وتعلقو بالجدل الديني، وهذا مثال على ذلك: " لا أحب أن اسمع الناس يتمجدون بتعبدهم؛ لقد كان ألفرد دي فيني يرى ان الصلاة جبن، ومع أني لا أتطرف تطرفه فأني اعتقد ان من الجفاء أن نحشر التواجد الديني في حلق هذا العصر الشكي وهو لا يسيغه ". وأبان ناقد آخر عن مثل جميل من الأمور غير المتناسبة في الذاكرة، فقال: " حين قرأت البيت الثالث عنت على بالي صورة حيوية، صورة اللاعب وقد انفرد بالكرة، من خط دفاع واه، ثم مضى قدماً نحو الخط لا يثنيه شيء) . وقد أحب اكثر القراء هذه القصيدة، وهذه تعليقات نموذجية تقدم بعض الأسباب المميزة التي حكمت لها بالأفضلية: 1 - أن الأفكار الكامنة في هذه الأبيات لتشارف الكمال فالتعبير عن العاطفة حاد لذ كالعواطف نفسها؟ وأرى إنها تعبر عن أفكاري.

_ (1) هي القصيدة السابعة حسب ترتيب رتشاردز، أنظر ص 92 من كتاب " النقد التطبيقي ".

2 - أظن إنها قصيدة جميلة جداً في الحقيقة، فأنا أحب الوزن، وأحب جو كل شيء هنالك، وهي تعطينا صورة فخمة للغابة، وللمشاعر المتدينة التي تشربها الشاعر حين رأى ما يصوره؛ إنها نقل جميل لشعور جميل. 3 - أن الإيقاع ليبدو مناسباً لتدرج الفكرة تماماً. 4 - جو من السلام والخشوع العميق، ينقل القارئ إلى عالم آخر، أنقى وانصع من هذا العالم. 5 - لقد نجح الشاعر في جعل رغبته في العبادة مشاعاً بين الناس؟ إنها لقصيدة لطيفة. 6 - إنها لواسطة العقد بين القصائد الأربع، فهي تخلق لنا جواً مهيباً هادئاً خاشعاً من غابة الصنوبر، فنتذكر كم ثارت فينا أفكار مشابهة بعثتها رؤية الهدوء الخاشع في الأشجار، حين نقف أمامها مأخوذين بعظمتها مشدوهين بابهتها، وهي قصيدة هادئة، جميلة بما في موسيقاها من رخامة وعذوبة. إن الشيء المرعب حقيقة في " النقد التطبيقي " يتجلى لنا حين ندرك أن كتاب المسودات ليسوا قارئين نموذجيين للشعر ولكنهم بخاصة قراء ممتازون فمنهم أساتذة مرجوون للغد، وأدباء، بل شعراء يقرأون تحت ظروف تكاد تكون مثالية (مع الإقرار ببعض نواحي القصور إذ ليس لديهم مرجع يعتمدونه ولا نبراس يشع عليهم من إنتاج كامل، ولا لديهم أي تلميح عما يسميه رتشاردز " اصل " القصيدة) . ويقول رتشاردز مبدياً اسفه: من مقارنات استطعت أن أجريها بين هذه المسودات ومسودات أخرى حصلت عليها من نماذج أخرى من القراء، أرى انه ليس ثمة ما يدعو للظن بان مقياساً عالياً من الفراسة النقدية قد يكون من

السهل إيجاده في ظل ظروفنا الثقافية الراهنة. لا ريب أننا لو استطعنا جمع الجمعية الملكية للأدب أو الأكاديمية من أجل تجارب كهذه فقد نتوقع انسجاماً أكثر في التعليقات، أو على الأقل في الأسلوب، ومحاكمة اكثر حذراً فيما يتصل بأخطار الاختبار، أما في الأمور الأساسية، فقد تحدث مفاجآت لم نكن نتوقعها. ويقول في الخلاصة عند نهاية الكتاب حاكياً عن كتاب المسودات: هؤلاء هم ثمرة أكثر أنواع التعليم كلفاً ونفقة، باستثناء القليل منهم، واحب أن أقول مرة أخرى، مؤكداً، أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الظن بان هناك أية مجموعة مشابهة لهم، في أي مكان في العالم، تستطيع أن تظهر مقدرة أعلى من مقدرتهم في قراءة الشعر. أن أبناء الجامعات الأخرى وبناتها الذين قد يظنون غير ذلك، مدعوون للقيام بمثل هذه الشواهد التجريبية التي يجمعونها تحت ظروف مشابهة، إلا أن المدرس المجرب أي مدرس تحاشى من أن يحول كل تلميذ لديه إلى حاك يردد آراءه. ولنسأل بصراحة: كم واحداً فينا مقتنع بأنه قد كان ينتج ما هو احسن مما أنتجوه، تحت تلك الظروف نفسها؟ ونقر بان تجربة رتشاردز في " النقد التطبيقي " كانت تحسساً أولا نحو وسائل المختبر وأنها غير متكاملة ومن السهل تسليط النقد عليها، وهو نفسه قد لحظ في الكتاب نفسه عدداً من الأمور أغفلها وكان يمكنه غلا يفعل ذلك: ومنها مشروعات مثل أن يدرس تنوع الأحكام عند القراء (أو ما يسميه " علم الخصائص ") وأن يتتبع الارتباطات بين قبول نوع من القصائد والصد عن نوع آخر. وهو يلحظ أن بعض التنوع قد

يكون ناشئاً عن التعب ويرى أن أسبوعاً واحداً قد لا يكفي لقراءة أربع قصائد قصيرة " مع أن هذا الرأي قد يبدو سخيفاً عند السادة المتصدرين في دنيا المناهج التعليمية، الذين يظنون أن كل الأدب الإنجليزي يمكن أن يطالع بإمعان، مع الفائدة المحققة، في عالم واحد! ". ويقترح رتشاردز في (التفسير في التعليم " توسعات أخرى لهذه الطريقة تشمل مواجهات لكتاب المسودات، ودراسة ما يسطبونه في مسوداتهم لكي نصل إلى عمليات التفكير عندهم، وهلم جراً. ويحضر في الذهن عدد من الإمكانات الأخرى لتصحيح الطريقة وتوسيعها فمنها في باب " علم الخصائص "، تبيان الروابط التي تربط القارئ بمدى محصوله الثقافي وتعليمه الأول، وبتجربة له سابقة في قراءة الشعر، وبطول المسودة، وبالمزايا الشخصية العامة؛ وفي باب التجريب العلمي: بالتدريجات العددية وبالمقارنة بين مسودات هؤلاء القراء ومسودات قراء اخبروا بأسماء الشعراء، وهنالك كتابتها من أجل الحصول على نتائج مختلفة أو أن نكتبها حسب تهجئة قديمة أو حسب تهجئة حديثة إلى غير ذلك من إمكانات تجريبية لا حصر لها. وأخيراً كان من الممكن الحصول على نتائج مخالفة لو أننا طلبنا إلى الطلاب أن يكتبوا فقط عن قصائد يحبونها. ولعل اخطر تقص في الكتاب نقيصة أدركها رتشاردز وحاول أن يدافع عنها وهي الضحالة السيكولوجية، كتب يقول: أنا تواق لان أواجه الاعتراض الذي قد يتقدم به بعض السيكولوجيين، أو خيرهم - حيثما وقع - وهو أن المسودات ليست تعطينا شهادة وافية بحيث نتمكن من أن نستخلص دوافع الكتاب وان البحث كله من ثم سطحي. إلا أن أولية كل بحث لابد من أن تكون سطحية، وإيجاد شيء صالح للبحث

بعد أن كان بعيداً والتوصل غليه من الصعوبات الكبرى في علم النفس. وأنا اعتقد أن الحسنة الكبرى لهذه التجربة هي أنها تحقق هذا الأمر. ولو إنني شئت أن اسبر أعماق اللاشعور عند هؤلاء الكتاب حيث أنا مؤمن بأنني أستطيع أن أجد الدوافع الحقيقية لما يحبونه ويكرهونه، إذن لخططت شيئاً يشبه أن يكون فرعاً من الوسائل التي تستعمل في علم التحليل النفسي لتحقيق هذا الغرض. ولكن كان من الواضح أن تقدماً قليلا قد يحقق لو إننا تعمقنا كثيراً ومهما يكن من شيء فحتى هذا الاختبار على حالة هذه قد أثار مادة غريبة كافية. وحتى حين نسلم بعدالة هذا التفسير الذي يقوله رتشاردز نرى انه من المؤسف أن التعمق لم يكن ممكناً بحال لأنه كان خليقاً أن يبدد التفاؤل السهل، من اقتراحاته التي وضعها في سبيل إصلاح التعليم. والشيء الوحيد الذي قد يسمح لقارئ هذا الكتاب بان يحتفظ برشده وببعض الأمل في مستقبل الشعر هو النغمة المرافقة الثابتة التي نتلمسها في قراءات رتشاردز الدقيقة اللامعة. وهو لا يواجهنا بهذه القراءات مباشرة ولكنه يجعلها بعامة، متضمنة، خلال الإشارة إلى تقريرات تجعل القارئ يحس عند النهاية بان مبنى الكتاب قائم على نوع من العملية الجدلية الحوارية. ورتشاردز على وعي تام بهذا المبنى الروائي لكتابه إذ يقول: " سأتقدم قصيدة اثر قصيدة، سامحاً للرأي المخالف الكامن عند اصطدام الآراء، وللذوق والاعتدال، بان توجه هذا العمل ". وفي حالات قليلة نجده يتقدم بنماذج من قراءاته ليوضح نقاطاً لم يستطع معالجتها كتاب المسودات، وتجيء قراءاته كوشائع النور خلال الضباب الكثيف. ومن الأمثلة النادرة تعليقه على بيت من إحدى القصائد:

" يا أنسجة فولاذية سخيفة [نسجتها] الشمس ": " O، frail steel tissues of the Sun " إذ يقول: Tissue - ولنبدأ بالاسم - كلمة ذات معنيين أولهما " ثوب من الفولاذ " قياساً على " ثوب من الذهب " أو " ثوب من الفضة " والصفة الفاترة المعدنية اللاعضوية في النسيج هي التي ربما كانت هامة. وثانيهما " رقيق ناعم شبيه بالشفاف " مثل الورق الرقيق. Steel: مجاز من النوع الحسي، وهو النوع الثاني عند ارسطوطاليس أي عند الانتقال من الفصل إلى النوع، فالفولاذ نوع خاص من معدن قوي يستعمل للدلالة على أية مادة قوية تستطيع أن تمسك وتجمع أجسام السحائي الممتدة. أما الإيحاء المستمد من لون " الفولاذ " فانه مناسب للمقام. Frail: ترديد يصور مبلغ رقة " النسيج " والشفافية وما يوشك ان يتمزق أيضاً لوهبه. Of The Sun: توازي قولك " الذي نسجته دودة القز " أي نسيج من [لعاب] الشمس. ان القيمة الهائلة في كتاب " النقد التطبيقي " لهي كلياً في المعلومات التي صورت لنا كيف يقرأ الشعر ناس تظن فيهم الكفاءة لذلك، ثم كيف يضع رتشاردز قراءاته الخاصة في وجه قراءاتهم بعد أن يوسعها ويعممها. وهو، من وجه أو آخر، يقر بقلة جدوى الاستحسانات في آخر كتابه، وقلة جدوى كل نوع من التقريظ والاستحسان. ويقترح الكتاب تحسيناً من خلال التعليم، أي بزيارة التجريب في الجامعة. ويجعل التفسير موضوعا يدرس، وبخلق " كرسي لصور الدلالات " شبيه بكرسي أدلر في " البيداغوجيا العلاجية ". ولكن المثل اللاتيني يقول: " من ذا

الذي يحمي الحماة؟ " - وأقول: من ذا الذي يعلم المعلمين. فان رتشاردز يدرك أن كتاب المسودات هؤلاء هم حتماً الذين سيعلمون الشعر في الجبل التالي، ومن غير المحتمل أن يتغيروا أساساً بهذا الاختبار، أو بالكتاب نفسه، أو بكل كتبه مجتمعة. أن الحياة لتثبت، باستمرار ووضوح، أن العجز العام لاختبار الآثار الفنية، بذكاء ونقد، يمتد فيشمل المحترفين في ميدانهم نفسه كما يشمل آخرين نفترض فيهم الكفاية. أما في مسالة الاعتماد على سمعة الشاعر ودرجته في الحكم فان هنري بير في كتابه " الأدباء ونقادهم " يقدم لنا بعض القصص الممتعة، فيسرد قصة نموذجية عن حفلة موسيقية بباريس أقامها ليزت سنة 1837 وفيها ثلاثية لبيتهوفن وواحدة لبكسيس، وتبادل اسما الموسيقيين في البرنامج، سهواً فصفق الجمهور، وأكثره من المثقفين والعارفين بالموسيقى، تصفيقاً صاخباً لقطع بكسيس واستمع إلى قطعة بيتهوفن بقلة اكتراث، أو بما هو أسوأ من ذلك، وعلق ليزت على ذلك بقوله: " عندما عزفت ثلاثية بيتهوفن في الموضع الذي كان مخصصا في الأصل لبكسيس، وجدت عارية من الإلهام عادية مملة، حتى ان كثيراً من المستمعين غادر القاعة معلنا أن جرأة المسيو بكسيس في تقديم موسيقاه غلة جمهور كان يستمع قبل لحظات إلى إحدى روائع بيتهوفن إنما هي وقاحة صرف ". وأضاف ليزت يقول ان قطعة بكسيس لم تكن، فحسب، عادية. بل كانت تختلف في أسلوبها اختلافاً بيناً عن موسيقى بيتهوفن. ومجمل القول أن كل ما يستطيع أن يفعله كتاب مثل " النقد التطبيقي " في طريق علاج الموقف الذي يعرضه هو انه يبرز موضع القراءة اللبيقة الدقيقة، في غابة متكاثفة من القصور وقلة الكفاية العامة. أما العزاء الأكبر فهو في أن هذه القراءة نتاج جهد الجماعة، لا الفرد، إلى حد ما، وإنها تشبه حقيقة ولدت من اجتماع عدة اخطاء، ونستطيع أن نفترض

بأن قراءات رتشاردز لا تجيء، فحسب من خلال هذه المسودات ولكنها أيضاً مستوحاة مسهبة موجهة بهذه المسودات نفسها، إلى حد ما، وأنها لا تفترق عن وسائله في مؤلفاته الأخرى من حيث أنها وليدة التكاثر والانتقاء. وواضح انه ليست هناك قراءة " صحيحة " لقصيدة. وغنما هناك قراءات جيدة وأخرى رديئة، وأن الجيدة تنشا من بين قراءات رديئة كثيرة. وهنا يتضح أن الفضل العظيم لكتاب " النقد التطبيقي "، ولكل مؤلفات رتشاردز بعامة، في النقد الأدبي الحديث، هو في الدرجة الأولى فضل في الطريقة وعلم المناهج أكثر منه في المبادئ أو في اقتراح الإصلاح. ذلك انه بإيجاده اقتراباً من الظروف التجريبية يحقق لأول مرة وصفاً موضوعياً لكيفية قراءة الشعر على الحقيقة، ويركز جهد النقد على ميدان قل خوضه فيه، اعني ميدان النقل أو التفسير الشعري أو علاقة القارئ بالقصيدة. وحين يوجد اقتراباً ما من الظروف الجماعية فأنه يحقق إيجاد وسيلة صالحة لتحسين القراءة وتحسين تلك العلاقة. 3 - لطالما عني النقد الأدبي، على شكل متقطع أو مستمد من الحدس، شأنه في ذلك شأن الوسائل الحديثة الأخرى، بدور القارئ أو الجمهور في عملية النقل الفني. فقد وضع كل من أفلاطون وأرسطوطاليس القواعد العامة، عن رد الفعل عند الجمهور، في مبدأيهما النفسيين الاجتماعيين المتعارضين، فقال الأول أن الفن مثير ضار للعواطف، وقال الثاني أنه عامل يساعد في تطهير العواطف؛ ولكن لم يحاول واحد منهما أن يدرس جمهوراً ورد الفعل عنده، نحو آثار فنية معينة. وقد طور لونجينوس بوضوح في كتابه " في الرائع " بالاستعمال اللغوي تلك التفرقة التي سماها مل من بعد " الدال " و " الضمني " حيث كتب لونجينوس (ترجمة

ريس روبرتس) يقول: " ثم أنك ولا بد على وعي بان الصورة تخدم غرضاً عند الخطباء، وغرضاً آخر عند الشعراء، وأن سبيل الصورة الشعرية أن تأسر، وسبيل الخطابية الوصف الحي ". وهذه تفرقة أساسية لكل دراسة تتناول التجربة الفنية عند الجمهور، ولكن لونجينوس وقف بها عند هذا الحد ولم يتجاوزه. نعم إنه يقترح من بعد في الكتاب نفسه عدداً من الوسائل التي تنتج تأثيراً في الجمهور؛ وحديثه بخاصة عن " الالتفات " في مخاطبة الجمهور نموذجي حقاً. وبعد أن يقتبس سطراً من هيرودوتس، يتحدث فيه عن أعمال البطل في ضمير المخاطب لا الغائب، يقول: أتبصر، يا صديقي، كيف يقودك في الخيال خلال ذلك العالم ويجعلك ترى ما تسمع. وكل هذه الأحوال من الخطاب المباشر تضع السامع في قلب المشهد، وهكذا هو الحال حين يبدو انك تتحدث لا إلى الجماء الغفير، بل إلى فرد واحد. " ولكنك يا تيديدس - ما كنت تعرفه، ذلك الذي قاتل البطل في سبيله " (الإلياذة 5: 85) أنك ستجعل سامعك أكثر استثارة وتنبهاً، مفعماً بالمشاركة الحيوية، إذا أبقيته مستيقظاً بكلمات تخاطبه بها. ولعل أول اعتراف رسمي بالحاجة إلى دراسة الجمهور دراسة نفسية إنما كانت في القرن الثامن عشر، وبلغت ذروتها في مقال إدمند بيرك " في الرائع والجميل "؛ يقول جون مورلي: كان ذلك توسيعاً قوياً للمبدأ الذي وضحه أديسون، قبل زمن غير بعيد، في تردد واستحياء، وهو أن نقاد الفن يفتشون عن المبادئ الفنية في غير موضعها الصحيح، ما داموا يقصرون تفتيشهم على القصائد والصور والحفر والتماثيل والمباني

بدلا من أن ينظموا أولا العواطف والقابليات الإنسانية، التي يلوذ بها الفن. وكانت معالجة أديسون عابرة أدبية صرفاً، أما بيرك فانه عالج موضوعه بجسارة على أساس من السيكولوجيا العلمية التي كانت في متناوله حينئذ. وأن الاقتراب من هذا المبدأ من الناحية السيكولوجية معناه أحداث تقدم واضح فذ في طريقة البحث الذي أضطلع به. أن بيرك حين أخذ يستقري الفن في مجال الجمهور كان يطبق عملياً نظرة نمت خلال القرن الثامن عشر وهي أن النقد يفيد إذا قلل الفروض وأكثر من المعلومات. ولقد كتب جونسون في " الجواب " يقول: " أن من مهمة النقد أن يقيم مبادئ، لكي ينقل الرأي إلى دائرة المعرفة ". وفي القرن التالي أضاف كولردج مظهراً علمياً آخر وهو " التجريب "، وكأنما كان في " السيرة الأدبية " يردد صدى جونسون (حين قال أن غاية النقد أن يقيم " مبادئ الكتابة ") . وقد لحظ كولردج نقطة أسهب رتشاردز من بعد في إبرازها في " النقد التطبيقي " وهي التباين الواسع وعدم الثبات أساساً في استجابة الجمهور للشعر (هي عند كولردج الاستجابة للأناشيد الغنائية Lyrical Ballads من نظم وردزورث) ، فكتب يقول: أنا مغرى بأن اعتقد أن هذا التقرير لا يشذ كثيراً عن الصواب اعتماداً على الحقيقة الملحوظة التالية التي أستطيع أن أقررها حسب معرفتي وهي أن مثل هذا الحكم العام قد قال به أشخاص متباينون كل على قصيدة غير الأخرى. ومن بين هؤلاء الذين اغلي من تقدير صراحتهم وحكمهم أتذكر بوضوح ستة، عبرت اعتراضاتهم عن هذا المغزى نفسه، مقرين في الوقت نفسه أن كثيراً من القصائد قد منحهم متعة

عظيمة. ومن الطريف، وأن بدا غريباً حقاً، أن ما عده أحدهم ممقوتاً عده الآخر أبياته المفضلة. وأنا حقاً مقتنع بيني وبين نفسي إنه لو أمكن أن تطبق هذه التجربة على هذه المجلدات مثلما تم في القصة المشهورة عن الصورة، لكانت النتيجة مماثلة، وإذن لرؤيت الأجزاء التي نثرت عليها البقع السود أمس، بيضاء ناصعة في اليوم التالي. وحين كان كولردج يضع القاعدة النظرية التي قد تتطور إلى التجريب الموضوعي على القارئ، أنتج دي كونسي عدداً من الدراسات المتميزة بقوة الاستبطان والاستبصار، عن رد الفعل عند القارئ، وخير أمثلتها المعروفة مقال له عنوانه " في قرع الباب في ما كبث " وهو ما سينمو من بعد ليكون أبحاثاً نفسية تحليلية في الميدان نفسه. وفي هذا المقال بدأ دي كونسي بمشكلة عدم التناسب الذي لا يجد له تفسيراً في الاستجابات التي كان يثيرها دق الباب في نفسه (وهي بالدقة نفس المشكلة التي ابتدأ منها آرنست جونز بحوثه في هاملت بعد قرن من الزمان) . يقول دي كونسي: منذ أيام طفولتي أحست دائما بحيرة عظيمة إزاء إحدى النقاط في ما كبث، وهي أن قرع الذي يتلو مقتل دنكان يثير أثراً في مشاعري لا أستطيع الإفصاح عنه. وكانت النتيجة أن ألقى هذا على حادث القتل رهبة خاصة وعمقا في الخشوع. ومع ذلك فمهما حاولت بإصرار أن يحيط فهمي هذا الأمر، فإني لم أستطع أن أرى لم يحدث لدي مثل هذا الأثر. وبعد أن يجري متتبعا البحث الاستبطاني، يخرج بجواب (أما القول بأنه ليس الجواب الصحيح وأن أجوبة أخرى مرضية قد وجدت منذ

عهدئذ فلا يقلل من رجاحة ما توصل إليه دي كونسي من طريق منهجه في البحث) . وخلال القرن التاسع عشر تطور الموروث المنحدر عن كولردج إلى اختبارات تجريبية عامة في مجالات كانت تعد من قبل حرما مقدسا للظن والتخمين. ومن نماذج ذلك اختبار جالتون لتأثير الصلاة، وأن كان هذا مثلا مضحكا (لقد أشار إليه رتشاردز مراراً باستحسان) ، فقد قرر جالتون، وهو محق فيما قرره، أن الصلوات التي تقام من أجل حياة الحكام وأطفال القسس أكثر من التي تقام لغيرهم، وفحص الإحصاءات عن مدى أعمارهم (فوجد أنها قد تكون في متوسطها اقصر من غيرها، ولكن ذلك لا يؤيد الظن بأن الصلاة ضارة) . أما الآراء التي تعرف في القارة الأوربية باسم " علم الجمال الإنجليزية " وهي الجماليات الفيزيولوجية عند كل من هربرت سبنسر وغرانت ألن والتي تؤسس التجربة الجمالية فيها على رد فعل جسماني، فقد تطورت في ألمانيا أساسا إلى مدرسة علماء الجمال التجريبيين، ومؤسسها غوستاف فخنر، بدأ بالاختبار التجريبي على فرضية ادولف زايسنغ القائلة بان أقسام " القطاع الذهبي " (وفيها أن نسبة الوحدة الصغرى إلى الكبرى كنسبة الكبرى إلى الكل) تمتع إلى حد الإملال. أما تجاربه المؤيدة لهذه الفرضية والتي تحدث عنها في كتابه " علم الجمال التجريبي " Experimental Aesthetics فأنها قدمت للناس الطريقة التجريبية، بما فيها من نص على الكم، وخلقت بعامة معالجة عن طريق المختبر لدراسة رد الفعل عند الجمهور. ثم أن فون هلمهولتز في كتابه " احساسات النغم " Sensations of Tone أقسام علم جمال الموسيقى على أساس قوي من الطبيعيات والفيزيولوجيا. غير إن محاولات بعض الباحثين أمثال إ. ف. بريك وإيوالد هرنغ ثم من بعدهم ممن أجروا نفس التجارب على التأثيرات الممتعة للألوان ومجموعاتها لم

يحرزوا مثل ذلك النجاح. (مع إننا يمكن أن نفترض إننا في النهاية سيكون لدينا حتماً طبيعيات انسجام الألوان مقنعة كافية في معالجة الصور الكبرى، كفاية طبيعيات الصوت الموسيقي في مجال المؤلفات الموسيقية الكبرى) . وقد رسم فلهلم فندت تلميذ فخنر في كتابه " علم النفس الفيزيولوجي " Physiological Psychology الخطوط الكبرى للتطور المقبل في علم الجمال التجريبي، وقد تعترض أن هذا الاتجاه (مثلما يحاوله الجشطالتيون فيما يحتمل) يكمن الأمل الذي نحمله في أنفسنا للحصول على مجموعة من المعلومات العلمية عن ردود العقل عند الجمهور، ولعله علم الجمال الموضوعي الوحيد الأصيل الذي قد نبلغه ذات يوم، هذا على الرغم من ضروب من الإهمال في المعالجة كالحديث الدارج عن ردود فعل " أحشائية " نحو الصور وجنون " عرض الذات ". ومثل هذه الحركة تطور في فرنسا على مدى أضيق. ففي 1888 نشر أميل هنكن " النقد العلمي " La Critique Scientifique فأسس به علم " السيكولوجيا الجمالية "، وعرف الأدب بأنه " مجموعة رموز مكتوبة يقصد منها أن تنتج عواطف غير فعالة "، ثم طور جهازاً مدهشاً من المصطلحات ونظم التصنيف، استمده من العلوم الطبيعية، من أجل أن يعالج الأثر الفني، على أنه أولا تعبير عن مؤلفه، وثانياً من حيث أثره في القارئ، وقد كانت أهدافه وأساليبه رصينة إلا أنها، نوعاً ما، نشأت قبل أوانها، غير أن النتائج التي حصلها في تطبيق المبنى على الأدب في مجلدين بعنوان " دراسات في النقد العلمي " Etudes de Critique Scientifique في السنتين التاليتين لم تكن ناجحة تماماً. وواضح إن كثيرا مما أداه هنكن يعد سلفاً لما أداه رتشاردز، وكان له اثر عظيم في نقاد يذهبون مذهب التحليل النفسي مثل شارل بودوان. بل يبدو انه أثر في أناس لم يكن تأثير النقد العلمي ليبلغهم مثل ريميه دي غورمونت فهذا الناقد على الرغم

من الاتجاه الجمالي الخالص في نظرياته، قد استمد كثيراً من كل من الطبيعيات والفيزيولوجيا، وكان على وشك أن يكتب ذات يوم كتاباً اسمه " عالم الكلمات " The World of Words " ليجزم أن كان للكلمات معنى - أي قيمة ثابتة) وهذا ما يوحي كأنه ذو علاقة " بمعنى المعنى " في القصد، على أقل تقدير. وتناول عدد من النقاد المعاصرين - إلى جانب رتشاردز - واحداً أو آخر من مظاهر هذا الموروث، أما محاولين أشكالا من تجاريب المختبر في ميدان النقد، أو دارسين لعملية النقل وردود الفعل عند القراء، بعون من وسائل فنية أخرى. وقد تقدم البحث (انظر الفصل عن مود بودكين) في تجارب مود بودكين في الاستبطان عند القارئ وحديثها عن الاستجابات الاستبطانية عند نفسها، وفي تجارب الدكتور ورتام عن استبطان الأديب. ولعل أكثر تجربة على طريقة تجارب المختبر، مدهشة في عالم الأدب، قام بها سيكولوجي من جامعة كولومبيا اسمه فردريك ليمان ويلز وكتبت في " محفوظات السيكولوجيا " Archives of Psychology آب (أغسطس) 1907 بعنوان " دراسة إحصائية في الجدارة الأدبية " فقد جمع الأستاذ ويلز عشرة من الطلبة الخريجين في الأدب الإنجليزي بكولومبيا وسألهم أن يرتبوا عشرة أدباء أميركيين حسب جدارتهم - وهم: بريانت وكوبر وإمرسون وهوثورن وهولمز وآيرفنج ولونجفلو ولوول وبو وثورو - على أساس عشر صفات وهي: السحر والوضوح والرخامة والصق والقوة والخيال والأصالة والتناسب والتعاطف والسلامة، وعلى حسب ترتيبهم قدر المنازل الأدبي الأميركية، فكان الترتيب: هوثورن في المنزلة الأولى ويليه بالترتيب: بو وإمرسون ولوول ولونجفلو وآيرفنغ وبربانت وثورو وهولمز وكوبر. وقد مضت كلية المعلمين بكولومبيا قدماً بموروث التجريب والقياس

الأدبي، دون أن تساوي ويلز في تفرده وشذوذه؛ ونذكر هنا بضعة أمثلة من الكتب الكثيرة التي الفت في هذا المضمار ومنها مونوغراف أصدرها الآن ابوت وم. ر. ترابو سنة 1922 قبل صدور " النقد التطبيقي " بعنوان " مقياس القدرة في الحكم على الشعر " A Measure of Ability to Judge Poetry؛ وتتألف تجربتهما - وهي متفردة في براعتها - من إعطاء كل واحد من المختبرين، قصيدة مع ثلاث صور نثرية على النحو الآتي: واحدة مشمولة بالعاطفية، وواحدة مطبوعة بطابع نثري بعيد عن الشعر، وثالثة تعمد ناثرها أن يضع فيها أخطاء، ثم عمل جداول من المفاضلة التي اجروها، وجاءت هذه قائمة إلى حد ما. وقد قام مورتمر أدلر في أطروحته للدكتوراه بتجربة شبيهة بهذه مستعملا موسيقى كان قد هجنها في عينيه، بطرق لبيقة، موسيقي محترف. ونشرت هيلين هارتلي سنة 1930 سجلا عن تجربة أخرى على هذه الخطوط نفسها في مونوغراف عنوانه: " تجارب في القراءة التفسيرية للشعر من أجل مدرسي الإنجليزية ". وفي سنة 1931 ظهر بالألمانية كتاب " بناء علم اجتماع للذوق الأدبي " The Sociology of Literary Taste للفن ل. شكلنغ ونشر بالإنجليزية سنة 1944 وهو محاولة في نوع آخر من المعالجة العلمية. وهذا الكتاب موجز جداً وهو أكثر بقليل من تاريخ أدبي مختصر يعمم القول في تغير الدرجة الاجتماعية للفنان ومعايير الفن والذوق في العصور الحديثة. وقد يوحي ببعض خطوط البحث التي تجعل من الممكن حقاً إيجاد علم اجتماع للذوق الأدبي لأن فيه دراسة تفصيلية للتغيرات في الجرائد والمجلات، " وبحثاً في آراء جماعات خاصة ومهن خاصة " واختباراً للإحصاءات عن بيع الكتب بما في ذلك أرقام عن إعادة الطبع لنماذج الأدب القديم، واستطلاع لشؤون الإعارة في المكتبات ونوادي الكتب والجماعات القارئة. وقد هيأ شكلنغ مثل هذه الدراسة أو السلسلة من الدراسات في خياله، على نحو

غير علمي، ثم أعلن عما " تدل عليه " والحق أن كتابه ليس أكثر من مخطط لعلم مقترح، وهو مفيد وأن كان نزراً يسيراً؛ وبعض استبصاراته وحدسياته فذة إطلاقاً، غير أن شكلنغ لا يملك مجموعات من المعلومات، ولا سجلات تجريبية تسنده في عمله، فان كان قد صدر مؤلف في هذا المجال منذ عهدئذ فلا علم لي به (دون أحتقاب زخارف علم الاجتماع قامت السيدة ليفز بدراسة للذوق الأدبي أعلى شأناً، معتمدة كثيراً على رتشاردز، في كتابها " القصص والجمهور القارئ ".) وهناك محاولة معاصرة أخرى لدراسة مظاهر النقل في الأدب علمياً وميدانها هو حقل السمانتيات الواسع (علم أسسه في شكله الحديث رتشاردز وأوغدن) ، وتظهر على شكل خاص في الجهود الطامحة عند أصحاب المنطق الوضعي، وهي جماعة يصر رانسوم وتيت وويلرايت على أنها تحمل أفكار رتشاردز الأولى حتى تبلغ بها نتائجها المتضمنة، وان لم يكن ذلك عن رضى رتشاردز. ويتزعم هؤلاء المناطقة الوضعيين كل من رودلف كرمب وشارلس و. موريس وهم بسبيل خلق " موسوعة أممية في العلم الموحد " متسلسلة (أي يحاولون كما يقول رتشاردز ان " يحوروا بالمنطق إلى القواعد الأساسية للغة كاملة ") وقد طوروا " سمانتيات " في ميدان " لغات الدلالات والرموز " الأرحب، أي العلم الشامل للدلالات وتفسير الدلالات. وطبيعة هذا العلم ومشتملاته بعامة خارجة عن حدود أهدافنا في هذا الكتاب، وعلى أية حال أكاد لا أجدني كفؤاً لشرحها، ولكني أقول أن مؤلفي هذه الموسوعات الجديدة، في سياق محاولتهم أن يستغرقوا ويشكلوا المعرفة الإنسانية من جديد، قد وقفوا حتماً ضد الشعر وقد ألمع آرثر ميزنر، بظرف لا يخلو من جور، إلى أن مشتملات بحث موريس في " الدلالة الجمالية " في كتابه " أسس نظرية الدلالات " Foundations of the Theory of Sign إنما هي معالجة للشعر على انه

" نوع لطيف من الجنون " ثم حاول موريس في مقالين آخرين متأخرين وهما: " علم الجمال ونظرية الدلالات " المنشور في مجلة " العلم الموحد " Journal of Unified Science العدد الثامن 1 - 3 و " العلم والفن والتقنولوجيا " المنشور بمجلة كينيون خريف 1939 - حاول موريس فيهما ان يوجد زاوية يمكن للشعر أن يأوي إليها شرعاً. ويذهب موريس إلى أن المقال الجمالي هو شكل أولي من المقال، وأنه يتضمن، في المقام الأول، الوظيفية التركيبية للغة، وإنه مخصص أولا وقبل كل شيء " لإبراز القيم بشكل حيوي " ثم " ما دام الأثر الفني إيقونة [صورة] لا تقرياً، فالمقال الجمالي غير قاصر على الدلالات التي يمكن التأكد من صدقها ". أي انه لا يدرس إلا من طريق الثبات الداخلي لا من طريق الدلالة. ويبدو أن هذا الموقف لا يتغير في كتابه الأخير " الدلالات واللغة والسلوك " Signs، Language an Behaviour ويبدو أن كرنب أيضاً لم يراجع موقفه الذي اتخذه عام 1934، في كتابه " الفلسفة والتركيب المنطقي " Philosophy and Logical Syntax، وذهب فيه إلى ان الشعر الغنائي مضارع للضحك، أي أنه شكل من التعبير العاطفي. ولما كان المناطقة الوضعيون حتى اليوم قد تركوا أمثلة معينة في المقال الجمالي دون أن يدرسوها، فليس لنا إلا ان ننتظر بصبر، لنرى المشتملات النقدية في هذه النظرة الممتعة. أما السمانتيون الذين يدرسون المسائل العامة تحت توجيه كورزبسكي فيبدو انهم، من الناحية الأخرى، قد اسقطوا الشعر عموماً من كيان دراستهم، مع أن كورزبسكي يلحظ في أحد المواضع في كتابه " العلم والرشد " Science and Sanity أن الشعر قد " ينقل من القيم الخالدة اكثر مما يستطيعه مجلد كامل من التحليل العلمي ". فإذا مضينا في عرض الشعر موضوعياً توصلنا إلى الآلية بمفهومها الحرفي، وهي أيضا موجودة، فقد أشار عدد من النقاد، ومن بينهم

عزرا بوند، إشارات غريبة إلى آلة اخترعها الحبر روسيلو لقياس فترات الأصوات المنطوقة. وسواء أكانت هذه الآلة هي " الكيموغراف "، وهي آلة للغاية نفسها تستعمل في مختبر الصوتيات بالكلية الجامعية بلندن، او لم تكن، فأمر لا أدريه. وعلى أية حال لا معرفة لي بأي مؤلف منشور، مؤسس على آلة روسيلو ولكني اعلم أن إ. أ. زوتنشاين وهو أستاذ كلاسيكيات نشر " ما الإيقاع؟ " What is Rhythm سنة 1925 على أساس النتائج التي استنبطها من الكيموغراف، وتشمل فهرستا يعطي نتائج كمية توصل إليها في قياس تجريبي للمقاطع، وكان يعمل بالاشتراك مع علماء في الأصوات محترفين. ونظريات الأستاذ روزنشاين مشتقة تجريبياً من هذه النتائج وهو يقدم التعريف التالي أساساً لعلم موضوعي في الأوزان إذ يقول " الإيقاع هو خاصية التتابع لأحداث، في زمان، تنتج في عقل المشاهد انطباعاً عن التناسب بين فترات الأحداث الكثيرة أو مجموعات الأحداث، التي تتألف منها المتوالية المتسلسلة ". وقد نقد رتشاردز هذا التعريف نقداً معقولا في ملحق على " النقد التطبيق " من حيث أن زوتنشاين قد عالج هذه العناصر وكأنها أمور في النظم نفسه لا أنها أعمال في الإنسان الذي يقرأ النظم أو الذي يلقيه أمام الكيموغراف، ومن حيث أنه أدرك انه ظواهر سيكولوجية لا طبيعية ثم لم يعالجها المعالجة الكافية لشيء سيكولوجي، فيوضح كيف إنها مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له، المعنى الشعري. وعلى الرغم من هذا الميل الميسر لمعالجة كل شيء مسجل على الآلة، وكأنه في النتيجة موضوعي، وقيامه ممكن تماماً، فان كفاءة الكيموغراف وما شابهه من آلات لدراسة الأوزان كما هي في حالي الشعر والنثر، تبدو أساسية جداً (1) .

_ (1) في مجال آخر نجد المضياع طليعة في القياسات الآلية لرد الفعل عند الجمهور بمبتدعات مثل الأوريميتر أو آلة قياس الصوت Gag Meter، Program Analyzer، Reactocasterومن كان من القراء ذا صبر على تعلم هذه لتسجيل وإحصاء وتقييم الاستجابات الدقيقة عند المستمعين لتجاربهم الجمالية فانه يحال إلى مقال بقلم توماس وايدسايد في الموضوع منشور بمجلة " الجمهورية الجدية " أيار (مايو) 1947.

بقيت وسيلة أخيرة لدراسة رد الفعل عند القراء تستحق الذكر لأنها على الطرف الثاني من الكيموغراف وهي حدس جورج اورول اللبيق الذاتي عن الثقافة الشعبية، في مقالين نشرهما في " ديكنز ودالي وغيرهما " Dickens، Dali Others وهما " أسبوعيات الأولاد " و " فن دونالد مكجل ". ويطور أورول وسيلة من الحدس الصرف لدراسة الآثار الاجتماعية لكل من المجلات التافهة المخصصة للمراهقين والبطائق الهزلية. وطريقته تكاد تكون عكساً مباشراً لطريقة رتشاردز؛ كلا الرجلين مهتم بآثار العمل الفني في القارئ، ولكن رتشاردز يتجه بالتالي نحو القارئ، ويتجه أورول إلى الأثر الفني. ويبدأ أورول في " أسبوعيات الأولاد " بالحديث عن محتويات الدكان الصغير الذي يملكه بائع الصحف في أي مدينة إنجليزية كبرى ويلحظ أن " محتويات هذه الدكاكين لعلها خير شيء قريب المتناول لبيان ما يشعر به جمهور الشعب الإنجليزي وما يفكرون فيه " ثم يركز الحديث على " أسبوعيات " الأولاد التي تباع ببنسين و " المصورات المفزعة " ذات البنس ويؤرخ لها ويتحدث عن توزيعها وآثرها وعن محتوياتها بإسهاب، ويطلق يده في الاقتباس. ثم يصنع تخمينات بارعة عن القراء وحياتهم وعقولهم، وما تصنعه المجلات من أجلهم، وما الدوافع والحاجات التي ترضيها لديهم، لكي تكفل لنفسها انتشاراً وقبولاً، كل ذلك بدراسة متأنية لأعمدة المراسلات والإعلانات والمحتويات الأصيلة للمجلات. ويجد عالماً كاملاً من الأوهام ويستكشف مضموناتها الاجتماعية والسياسية بتفصيل، والقطعة حقاً مؤيدة بالوثائق بعناية واسعة الاطلاع، وهي دراسة جد قيمة سيكولوجية اجتماعية لنموذج من الأدب التجاري كما ينظر إليه من زاوية القارئ.

وتشبهها في هذا مقالته " فن دونالد مكجل " وان كانت دراسة - اقل طموحاً - للبطائق الهزلية؛ ويصنع فيها أورول جداول بموضوعات البطاقات ثم يدرس النزعات الاجتماعية وانعكاسات الواقع الاجتماعي وراءها. ومن الصعب أن نقول اعتماداً على هاتين القطعتين الممتازتين أن كان هذا المنحى النقدي يمكن أن يطبق على الأدب الرفيع والفن ولكن لا ريب في أنه قيم في هذا المجال الأدنى الذي اختاره اورول. 4 - يبدو أن رتشاردز قد وجه التفاتاً ضئيلا إلى من سبقه في الموروث التجريب ودراسة الجمهور، ويبدو أن بحوثه، حتى حين تعيد في أساسها دراسات سابقة، لا تكترث بالسوابق وإنما هي تولدت عن منطق التطور في تأليفه. إذن فان دينه المعين الذي استمده واعياً عامداً، يعود إلى عدد قليل من المفكرين السابقين، وأكثرهم نسبياً فلاسفة متفردون في آرائهم أو أدباء متفلسفون، وأهم هؤلاء صمويل تيلور كولردج، فتأثيره في رتشاردز مثل ساطع على لقاء فكرين عبر قرن من الزمان وعلاقتهما شاملة معقدة، دقيقة أحياناً إلى حد أن تغرينا هنا بالمرور بها عابرين، ولكن على أية حال هنالك كتاب ممتاز يوضحها، أعني كتاب رتشاردز " رأي كولردج في الخيال "؛ وتطور كتب رتشاردز من حيث علاقته بكولردج يشبه أن يكون سجلا لقصة حب، ففي أول كتابه " أسس علم الجمال " لا يذكر كولردج إلا باقتباس رأي له " صوفي " في الجمال، بشيء من الاحتقار، وفي " معنى المعنى " لا يبدو كولردج غلا صاحب تقرير، بعيد التحليق، عن الفن. أما في " المبادئ " فبعد عدد من المرات يذكر فيها شعر كولردج يروع القارئ فجأة حين يجد إشارة إلى " الفصل الرابع عشر " في " السيرة الأدبية ": " تلك الحجرة المفعمة بحكمة مهملة والتي تحتوي الماعات نحو نظرية شعرية

أكثر من سائر ما كتب في ذلك الموضوع "؛ وخلال باقي الكتاب يلتقط رتشاردز " لمحات لا تقدر بثمن " " لمحات مضوئة " وما أشبه من " السيرة الذاتية " وبخاصة فكرة كولردج عن الخيال وهي " اعظم يد لكولردج في النظرية النقدية " و " من الصعب أن نضيف إليها شيئاً ". وفي الوقت نفسه يؤكد رتشاردز أخذه بأسباب الحيطة فيقول: أن لام وكولردج - كناقدين - بعيدان جداً عن أن يعدا عاديين؛ ومع ذلك فهما ذوا خصب شاذ في كثرة ما يوحيان به؛ واستجابتهما كثيراً ما تكون خاطئة، حتى حين تكون ذات طابع الهامي؛ وفي مثل هذه الأحوال لا نتخذهما مقاييس نسعى لبلوغها، ولا نحاول أن نرى باعينهما، بل نتخذهما بدلا من ذلك وسيلة تؤدي بنا إلى طرق مباينة في معالجة الآثار الفنية التي تميزا واغربا معاً في معالجتها. ثم تطور في كتب رتشاردز اللاحقة احترام متزايد لكولردج (بلغ حداً ما جاء في الاقتباسة السابقة) مع استغلال متزايد لآرائه. فيبدأ كتاب " القواعد الأساسية في التفكير " وينتهي باقتباسات من كولردج. حتى إذا كان كتاب " رأي كولردج في الخيال " وهو دراسته المطولة عن هذا الناقد، كان تقدير رتشاردز قد ارتفع إلى حد أن يرى في كولردج مؤسس " علم تطور معاني الكلمات " وعبقرية شاسعة الأبعاد حتى لو أن أفكاره في الشعر والتفسير واللغة والعقل، " استخلصت " ووسعت وترجمت إلى مصطلح حديث ولو انه " أعيد تفسير " آرائه الميتافيزيقية إذن لهان قسم كبير من مصاعب رتشاردز ومصاعبنا. وفي الكتب التالية اصبح يقتبس من كولردج وكأنه " المعلم الأول " نفسه. وقد زعم رانسوم في كتابه " النقد الجديد " أن كولردج " الناصح الأمين " لرتشاردز قد " تمثل " رتشاردز " مثلما يقال عن الصينيين انهم يتمثلون

الفاتحين " لا العكس، فحوله من المنطق الوضعي إلى إيمان بالوظيفة العرفانية للشعر، وهكذا. وربما كان الاصوب أن يقال أن رتشاردز حين ابتعد عن فلسفته الوضعية الصارمة الأولى وجد أن كولردج عن لسانه ينطق. ولعل المصدر العظيم الوحيد بعد كولردج لأفكار رتشاردز هو جرمي بنثام وقد يكون هذا من اثر ارغدن الذي كتب كتاباً واحداً عاماً عن بنثام وحقق نظريته في الأدب التخيلي ولكن لعل الاشبه برتشاردز انه انجذب شخصيا إلى بانثام لامرين أولا لكون بنثام رائداً في التحليل اللغوي وثانياً لان الفلسفة النفعية قريبة الشبه من نظرية رتشاردز السيكولوجية في القيم، كما يوضح ذلك رتشاردز نفسه في " المبادئ ". ويسمي رتشاردز نفسه في " رأي كولردج في الخيال "، " بنثامي " الاتجاه ويقوم بمحاولة بارعة، متتبعاً مقال جون ستيوارت مل " مقال عن كولردج " ليوفق بين الفلسفتين، ويعيد تفسير مثالية كولردج من زاوية مادية بنثام محاولا ان يجد كما المح مل " حاجة طبيعي أو شيئاً تحتاجه الطبيعة الانسانية، بحيث يكون هذا المبدأ، الذي هو محط البحث، مناسباً لإشباعه ". وينقل رتشاردز عن مل قوله: من استطاع أن يحكم مبادئ الاثنين ويجمع بين أساليبهما تملك ناصية الفلسفة الإنجليزية كلها في عصره. كان كولردج يقول ان كل شخص فأما أن يولد أفلاطونيا أو أرسطوطاليسياً؛ وقد نؤكد القول، على طريق المشابهة، بأن كل إنجليزي في العصر الحاضر هو في حقيقته، إما أن يكون بنثامياً أو كولردجياً، وانه يؤمن بآراء في الأحداث الإنسانية لا تثبت صحتها بالبرهان غلا على أساس من مبادئ بنثام أو كولردج.

ثم يضيف قوله: إن ما قاله مل لا يزال صائباً وإن كنا نستطيع أن نغير التسمية فنقول " إما أن يولد مادياً أو مثالياً " وقد تجد من يقول أن هذين النموذجين لنظرتين تبدوان متعارضتين، يكمل أحدهما الآخر، أي أنهما في تاريخ الفكر كان أحدهما يعتمد على الآخر، حتى أن موت أحدهما كان يؤدي إلى موت الثاني لعجزه عن التمثل وحده. وأنه مثلما أن الزفير ليس إلا وجهاً واحداً من شقي عملية النفس، فكذلك هاتان الفلسفتان في عدائهما الأزلي هما عملية من النقد الذاتي ضرورية بشقيها. ولكن بما أن التخلي عنهما معاً معناه العقم عن تأدية أية نظرة أو فكرة فان التعارض يستدعي اختياراً موقتاً فيما بينهما. فأنا اكتب كمادي يحاول أن يفسر لكم منطوقات مثالي متطرف، أما انتم، فمهما يكن مذهبكم، بالفطرة أو اكتساباً، ارسطوطاليسيين كنتم أو افلاطونيين، بنثاميين أوكولردجيين، ماديين أو مثاليين، فعليكم أن تعيدوا تفسير ملاحظي بدوركم مرة أخرى. وهناك مفكران آخران طبعاً أثرهما أساساً على رتشاردز وان لم يشر إليهما إلا قليلا منذ " معنى المعنى " وهما الفيلسوف الأميركي المهمل شارلس ساندرز بيرس والأنثروبولوجي برونسلاف مالينووسكي. ففي " معنى المعنى " يلحظ المؤلفان انه كان في مقدور بيرس أن يحل قبلهما مشكلة المعنى لو لم يصده " الفقر " عن ذلك، ويلخصان في الملحق ما استغنى رتشاردز عن مصطلحات بيرس في تصنيفه للدلالات، ولكنه استفاد كثيراً من التفكير الكامن وراءها (كما فعل بعض أصحاب المنطق

الوضعي أيضاً، الذين استعاروا مع هذا شيئاً من المصطلحات) ، وعرف بيرس في " القواعد الأساسية في التفكير " بأنه " حجة عظيم جداً ". وأقتبس المؤلفان في " معنى المعنى " أيضاً من مؤلف مالينووسكي عن السحر الكلامي بين قبائل التروبرياند وجعلا ذيلا لكتابهما مقالة لمالينوسكي في " مشكلة المعنى في اللغات البدائية " وكتبا عنها هذا التوضيح (1) . المؤلفان مدينان للدكتور مالينووسكي ديناً جد خاص، فعودته إلى إنجلترة بينا كان كتابهما في المطبعة، مكنتهما من أن يستمعا بتأملاته التي قضى فيها السنين الطوال كمشتغل في الاثنولوجيا، في المنطقة الصعبة الواقعة بين اللغويات والسكولوجيا. هذا وأن جمعه المتفرد بين التجربة العملية وتمكنه التام من المبادئ النظرية، يجعل موافقته على كثير من النتائج الثورية التي توصلا إليها مشجعاً بوجه خاص. أما الإسهام الذي جاد به قلمه وأرفق بالكتاب ذير عليه فسوف يكون، حسبما يشعر المؤلفان، قيماً لا للأثنولوجيين، فحسب، بل لكل من لديه اهتمام حي بالكلمات وأوجهها. ومقالة مالينووسكي نفسها وثيقة بعيدة الشان وكان لإحدى الأفكار التي قدمتها أعني " المشاركة الاجتماعية " Phatic Communion (أي ذلك المظهر من اللغة الذي لا يتميز بشيء إلا أنه يشد أواصر العلاقة بين

_ (1) ذكرا ذلك في تصديرهما على كتاب " معنى المعنى " ص:9.

المتكلم والسامع) (1) أثراً بعيد المدى. حتى إن الرأي النقدي الذي عرضه رتشاردز في " رأي كولردج في الخيال " ناظراً إلى أن التقييم النقدي هو في أوسع حدوده " مشاركة اجتماعية " ليس إلا فكرة مالينووسكي في صورة جديدة من السبك. أما العلاقة بين رتشاردز وديوي فأنها تمثل مشكلة واقعية، فهو يقتبس من ديوي - عابراً - مرة اخرى، حسبما يتأدى إليه علمي، في " معنى المعنى " ويذكره باحتقار في " الأساسي في التعليم " ولم يقدم أي اعتراف يدل انه على معرفة بمؤلفات ديوي وآرائه (وإذا كان غير عارف به فذلك شاهد مخزن أخر على ميل عند اكثر المقروئين من النقاد الإنجليز - وكودول مثل آخر - ميل الاستخفاف بالفكر الأميركي المتميز) . أما اوغدن من الناحية الأخرى فقد كان جاداً في الاقتباس من ديوي منذ عهد مبكر يعود إلى عام 1926 في " معنى السيكولوجيا " ومن المشكوك فيه إلى حد بعيد ان يكون رتشاردز قد جانب الاحتكاك بأفكار ديوي، وهو الذي عاش سنوات في اميركة، وله اهتمام خاص بالفلسفة، كما أن ديوي ألقى حينئذ محاضرات جفورد في ادنبره. وعلى أية حال فقد تقدم القول بان اكبر إسهام أساسي لرتشاردز في كتاب " مبادئ النقد "، أي النظرة التي أحدثت ثورة نقدية وبها بدأت الحركة الجديدة، وهي ان التجربة الجمالية مثل أية تجربة إنسانية أخرى - إنما هي إعادة - في قالب جديد - لنظرة تميز بها ديوي في الفكر الحديث. فمنذ سنة 1903

_ (1) يعني مالينووسكي بهذا إن شخصاً ما قد يتحدث إلى آخر في نوع من الثرثرة ويوافق على هذا بداهة ويرفض ذاك ويقضي بآراء خاصة عن حياته وتجاربه والآخر مستمع له ينتظر دوره حتى يقول شيئاً في هذا المضمار، وهذا يرضي المتكلم ويشبع عنده رغبة خاصة، بدائياً كان أم غير بدائي، ففي مثل هذه المواقف يتم الترابط الاجتماعي بين اثنين بمجرد تبادل الكلمات. ولكن أحقا إن الكلمات في هذه المشاركة الاجتماعية ذات معان، ينكر مالينووسكي هذا ويقول: في هذه الحالة تؤدي الكلمات مهمة اجتماعية ولكنها ليست نتيجة تأمل فكري ولا تثير تأملا فكرياً عند السامع.

غزا ديوي بكتابه " دراسات في النظرية المنطقية " Studies in Logical Theory عالم النشاط الفكري، بما ذلك في ميدان الجماليات، بالمبدأ العلمي الأساسي، مبدأ " الاستمرار " إذ قال: هذه النظرة لا تعرف تمييزاً ثابتاً بين القيم التجريبية للحياة غير التأملية، وأشد أعمال العقل العقلاني تجريدية. وهي لا تعرف فجوة ثابتة لتفصل بين أعلى تحليقات النظرية وانضباط جزئيات البناء والسلوك العملي، بل هي تمضي، حسب المناسبة والفرصة التي تهيئها إحدى اللحظات، من نزعة الحب والكفاح والعمل إلى نزعة التفكير والعكس بالعكس. وتغير محتوياتها أو مادتها ما فيها من تقيم ذهاباً وإياباً من حالة صناعية أو نفعية إلى حالة جمالية أو أخلاقية أو عاطفية أما المبدأ الأساسي فيها فهو الاستمرار في التجربة واستمرار التجربة. (ذهب ديوي في كتابه " المنطق - نظرية البحث " المنشور سنة 1938 إلى أن بيرس قد سبقه إلى لفت الانتباه " نحو مبدا استمرار البحث " ولكن أين ذكر بيرس هذا؟ الكشف عن هذا يحتاج إلى مستكشف أجراً مني ليعرف موضعه في كتابات بيرس، ولا يستبعد يكون رتشاردز قد عثر عليه عند بيرس، فقصر مسافة التأثير الصادر عن ديوي) . أما الأثر الرئيس في رتشاردز فهو أثر زميله شارلس كاي ارغدن (مثل هذا الأثر يخلق رابطة معقدة لأنه يصعب علينا بأي حال أن تعرف من أيهما يتجه الأثر) أما أوغدن فأنه سيكولوجي - أو كان ذلك - ذو أثر عظيم واطلاع متنوع قل أن يتحلى به أحد في هذه البلاد، وهو مثل رتشاردز أحد العقول " الموسوعية " الكبرى، وأما مذهبه السيكولوجي

كما يدل عليه " معنى السيكولوجيا " (أو " أبجدية السيكولوجيا ") - فأنه " حيادي " توسطي يقوم على التركيب الانتقائي الكثير من أكثر النظريات والمعلومات الحديثة فائدة وجدوى. وكثير من كتاباته تركيبي تمهيدي على هذه الطريقة وكان رئيس تحرير " للمكتبة الأممية في السيكولوجيا والفلسفة والمنهج العلمي " المشهورة، وهي التي جعلت بعضاً من خير الكتب التي تمثل كل المذاهب في هذه الميادين وغيرها في متناول القراء وتضمنت مؤلفات هامة في النقد الأدبي، ثم أشرف في الوقت نفسه على سلسلة " تاريخ الحضارة " المسماة (النفس - مجلة سنوية للسيكولوجيا العامة والتطبيقية " وعلى منشورات " دار النفس " المبسطة Psyche Mineatures وهي سلسلة رخيصة (تباع الواحدة بشلنين ونصف) قيمة من الكتيبات شبيهة بالكتب الكبرى التي تصدر عن " المكتبة الأممية "، سلسلة اختصت في سنواتها الأولى بالطب وفي سنواتها الأخيرة بالكتب التي تتصل بالإنجليزية الأساسية. ومن هذه الأربعة هيأ أوغدن، بسعة خيال وعدم تحيز، ميدانا لكل نظرة جادة علمية أو مشارفة للعلم. وفي الوقت ذاته كتب أثني عشر كتاباً أما منفرداً أو بالاشتراك، بما في ذلك تاريخ موجز للعالم، بالتعاون مع إ. هـ. كارتر، ونشره في سلسلة " كلاسيكيات نلسون ". وظلت له دائماً رغبته الحية في الأدب، وبخاصة في جيمس جويس (كتب أوغدن مقدمة لقطعة من " يقظة فينيغان " نشرت بعنوان " حكايات تحكى عن سام وساءون "، وترجم Anna Livia Plurabelle إلى الإنجليزية في مجلة " فترة الانتقال " Transition) وهو مؤسس ومحرر مجلة كمبردج Cambridge Magazine التي يسميها رتشاردز " أكثر المجلات الأسبوعية إثارة بإنجلترة، في أيامها " ويخبرنا رتشاردز أيضاً في " الإنجليزية الأساسية وفوائدها " إن أوغدن " رجل أعمال حيوي وله مناحي متعددة ليس هناك أحد يعرفها أكثر منه " وإنه " خبير في نطاق واسع " وإنه " ذو

قريحة مشهور حق الشهرة بحدة خطراته الذهنية ومغالاتها وإحالتها ". فلا عجب إذن من أن هذا العلامة حين سلط علمه ومواهبه المتنوعة على الطبعة الجديدة من " الموسوعة البريطانية " عام 1925 في مراجعة كتبها في Saturday Review of Literature قد استطاع أن يمزقها صفحة إثر صفحة. وبينا كان أوغدن منهمكاً في صور هذا النشاط منذ سنة 1920 فصاعداً، وجه طاقته الرئيسية، في الوقت نفسه، إلى الإنجليزية الأساسية وبين عامي 1920 - 1929 أي منذ أن أدرك هو ورتشاردز إمكانات قاموس إنجليزي محدود أثناء كتابتهما للتعريفات في " معنى المعنى " حتى نشر أوغدن أول جريدة بالكلمات الأساسية في " Psyche " استطاع أن يوجد المبنى النظري للغة، وان يختار ألفاظ معجمه. وفي سنة 1930 نشر في كتاب " الإنجليزية الأساسية " كل هذا الهيكل، مجرباً بضعة تغييرات على جريدة الكلمات الأولى. وحقق خلال العقد الرابع من القرن " المعجم الأساسي "، ونشر من خلال معهده الاورتولوجي بلندن سلسلة من الكلاسيكيات مترجمة في الإنجليزية الأساسية، تشمل، مادة متباينة كالتوراة و " الجمال الأسود " Black Beauty ونشر مؤلفات مختلفة تدعو للإنجليزية الأساسية وتشيعها وتوسعها مثل " الإنجليزية الأساسية الأشد لمعاناً " Brighter Basic و " الإنجليزية الأساسية للأمور العملية " Basic For Business و " الفلك الأساسي " A Basic Astronomy وغيرها. وقد كان رتشاردز زميلا له في أكثر هذه المؤلفات وإن كان رتشاردز يميز أوغدن بأنه وحده في " كيف نقرأ صفحة " وضع المشكلة وقام بالبحوث وأبتكر اللغة. وفي كل ما اشتركا فيه ابتداء من " أسس علم الجمال " حتى آخر مؤلف في الإنجليزية الأساسية، على مدى ربع قرن، ليست ثمة طريقة تنبئنا أي الأفكار والمقررات، أو أي أجزاء من المادة، قد صدرت عن هذا

أو ذاك. وقد نفترض دون شاهد حقيقي أن أوغدن أثر في رتشاردز فوجهه نحو السيكولوجيا وبنثام والإنجليزية الأساسية، وإن رتشاردز أثر في أوغدن فوجهه نحو الأدب وكولردج والإنجليزية الأساسية في التعليم. أما الاستنتاج المحسوس الوحيد الذي قد يبلغه المرء في دراسته لرتشاردز فهو إن إسهام رتشاردز في النقد كان يكون غير ما هو وربما كان أقل لو لم يلتق بأوغدن، وإن كان من المستحيل علينا أن نقول أين كان يختلف وكم كان يقل. أما تأثير رتشاردز في الآخرين فمشكلة اسهل بكثير، إذ انه في ميدان النقد قد أثر في كل واحد وقد تحدثنا قبل عن دوره في خلق النقد الحديث. ومن أول من أولوه عناية وقرأوه قراءة متعاطفة، في هذا اللبد، ووقعوا تحت تأثيره، الشاعر كونراد ايكن الذي قرر نفس التقرير الثوري الوارد في " مبادئ النقد الأدبي "، وذلك في كتابه " شيكات " قبل رتشاردز بخمس سنوات " 1919) وهو ناقد لو قيض له جمهور مماثل وتأثير ووثائق لكان هو الذي ابتدأ حركة النقد الحديث، بلا ريب؛ أما كتابه " شكيات " فعنوانه الفرعي " ملاحظ على الشعر المعاصر " ويتألف من سلسلة من قطع نشرت في المجلات عن شعراء بأعيانهم في الغالب، وفيه يقول ايكن في كتابات فرويد (وكان على معرفة دقيقة مبكرة به، أن الشعر بعد كل هذا نتاج أنساني خالص، وانه من ثم لابد من أن يلعب دوراً محدداً في الحاجات الوظيفية الحيوانية عند الإنسان ". ثم يقول في موضع آخر قولا أكمل مما تقدم " ألن نتعلم أبداً انه ليس حول الشعر شيء غيبي أو فوق الطبيعي، وأنه نتاج طبيعي عضوي ذو وظائف يمكن الكشف عنها وانه محط التحليل؟ وقد يكون من المؤسف أن يترك نقادنا وشعراؤنا هذه المهمة للعلماء بدلا من أن يباشروها

هم أنفسهم ". فلما ظهر " مبادئ " رتشاردز سنة 1924 راجعه ايكن بحماسة، وهو ذو إحساس نادر المثال بأهميته، وقد اثر ذلك في رتشاردز فيما يظهر حتى انه عندما ظهرت الطبعة الثانية سنة 1936 زودت بملحقين، وكان أولهما - " في القيم " - نقاشاً " لمراجع صديق هو المستر كونراد ايكن " وهي الإلتفاتة الوحيدة التي وجهها رتشاردز نحو أي من زملائه النقاد بأميركة. وأما أثر رتشاردز في تلميذه ومريده الأكبر، وليم إمبسون وفي ر. ب. بلاكمور فقد تحدثنا عنه فيما سبق (انظر الفصلين الخاصين بهما) . وكان تأثيره الآخر الكبير في كنث بيرك إذ أثر فيه إلى حد بالغ بمصادره الأساسية اعني بنثام وبيرس وكولردج لكن منذ ظهور " مبادئ النقد " اصبح اكثر التأثير هو انحياز بيرك ليعمل كل ما يخالف فيه رتشاردز ويهاجم بيرك في كتابه " مقولة مضادة " Counter Statement رفض رتشاردز - دون أن يذكر اسمه - للمثل الأفلاطونية، واعتبارها مصطلحاً لفظياً لا يشير إلى حقائق. أما في كتابه التالي " الثبات والتغير " Permanence and Change فيقر بدينه المعين لكتاب " معنى المعنى " ويقتبس من كتاب " آراء منشيوس في العقل " ليعزز نقطة يتحدث عنها ويخطئ بإسهاب فكرة رتشاردز في " التقرير الكاذب " في كتاباه " العلم والشعر " (ويقتبس من كتاب " المبادئ " ما يقوي وجهة نظره) ويستعمل آراء رتشاردز، بعامة، نقطة اندفاع ينطلق منها إلى ملحوظاته الخاصة. وكذلك يهاجم في كتابه " نزعات نحو التاريخ " كتاب رتشاردز " فلسفة البلاغة " من حيث إنه أستخف فيه بقدر " العنصر " والوظيفة الاجتماعية للكلمات، مقتبساً من كتاب آخر لرتشاردز ما يقوي به حجته أيضاً. وفي كتابيه: " فلسفة الشكل الأدبي " و " نحو الدوافع " يقتبس عدداً من استبصارات رتشاردز، وينتقد بحدة كتاب " كيف نقرأ صفحة "

في فصل عنوانه: " الاصطلاحات الخمسة الكبرى " ويتهمه بأنه يفتقر إلى أي نوع من " اللب ". وأما الكتاب الذي أثر في بيرك، في الدرجة الأولى، وهو يقتبس منه باستمرار، وكثيراً ما قال فيه أنه أحد كتابين أو أحد الثلاثة الكتب التي تعد اخصب مؤلفات حديثة كتبت عن الادب، فذلك هو " مبادئ النقد الأدبي "، إذ منه استقى عدداً من أفكاره وخاصة فكرته عن العمل البدائي الملازم للنزعات. وأهم نقد لبيرك على رتشاردز هو، بعامة، ميله للتهوين من شان العناصر " الرمزية " و " الواقعية " في اللغة والفن، وهي الخصائص التي يسميها بيرك " الحلم " و " اللوحة " في ثالوثه المكون من الحلم والصلاة واللوحة بينا هو بخاصة ينص على قيمة " الصلاة " أو عناصر النقل. وموقفه هذا أدى عملياً إلى توزيع للجهد مؤثر، وذلك إن بيرك نفسه نزع بخاصة إلى النص على العناصر الواقعية والرمزية وميز الأخيرة منهما بالاهتمام حتى أن الرجلين اللذين " فيما اعتقده على الأقل) هما اعظم ناقدين أدبيين معاصرين، قد تخصصا على الترتيب في الفن من حيث هو نقل وفي الفن من حيث هو تعبير وتركا ما بينهما خلاء كراحة اليد. وهناك ناقد آخر تأثر رتشاردز يستحق أن نتحدث عنه، وهو مجهول في هذه البلاد؛ ذلك هو جورج هـ. و. رايلاندز وهو مثل إمبسون متخرج في كمبردج، ونشر كتاب " الكلمات والشعر " سنة 1928 توسيعاً لمبحثه الذي قدمه لنيل الشهادة. واثر رتشاردز فيه بارز ملحوظ وان لم يذكر في الكتاب إلا مرة واحدة من حيث انه حرم على كلمة " جميل " أن تدخل حمى النقد، وأذن فأن رايلاندز فيما اقدر تلميذ آخر من تلامذة رتشاردز. وكتابه " الكلمات والشعر " دراسة للعبارة الشعرية كمظهر من مظاهر الأسلوب يكشف القسم الأول منه الطبيعة العامة للعبارة الشعرية

ويدرس الثاني استعمالات شيكسبير بإسهاب. وكل ما فيه من فرضيات عامة فإنما هي " رتشاردية " حتى في قوله انه " يستعمل المجهر " في دراسة الشعر، وان النقد " تمزيق للدمية " وطريقته تنزع إلى أن تكون سبقاً لامبسون باكتشافها المحدود لنواحي الغموض. والكتاب مثير موح بقدر غير بسيط، وقد سبق إلى الكشف عن عدد من الوسائل الفنية التي توسعت من بعده: ومنها فهرسة بلاكمور لاستعمال الكلمة وتتبع سبيرجن للصور واستكشاف بيرك للموسيقية المتناسبة. أما إذا نظرنا إليه نظرتنا إلى عمل تام مصقول فأنا نجده شذرات مخيبة للأمل لا يقارن بمؤلفات إمبسون أو رتشاردز نفسه وهو شاهد قيم، مع ذلك، على أن الغرس النقدي الذي غرسه رتشاردز إذا ركز على النص آتى أكله في أي مجال من البحث اختاره باحث، وانه إذا كان مجاله شيكسبير بخاصة أثمر من المادة دائماً ما عجزت الدراسة التقليدية عن جنيه واستثماره. ويكاد كل ناقد معاصر بإنجلترة أن يكون قد قبس قبسة من أثر رتشاردز، وقد نحتاج أن نشير إلى شيء من هذه المؤثرات بالإضافة إلى ما ذكراناه عن كل من إمبسون ورايلاندز. فهناك ت. س. اليوت وهو يخالف رتشاردز بعامة، ولكنه قد قبل بعض آرائه ومنها نظرته إلى عدم مناسبة " المعتقد " للشعر، وقد علق في حاشية مقاله عن " دانتي " تعليقه طويلة في كتاب " مقالات مختارة "، عبر فيها عن موافقته المعدلة على هذه النظرة كما عبر عن مخالفته المعدلة لفكرة " التقرير الكاذب " في " العلم والشعر ". وخصص في كتابه " فائدة الشعر وفائدة النقد " فصلا عنوانه مقراً أثناء ذلك بقيمته العظيمة لأنه كان في الدرجة الأولى، باحثاً في " سوء الفهم المنظم ". وتقبل هربت ريد، وهو في موقفه الرومانتيكي المباين يحارب القيم التي وجدها رتشاردز في الشعر، كثيراً من أفكاره

واستطلاعاته بأعيانها. وتأثره ف. ر. ليفز كسائر عصبة Scrutiny إلى حد كبير، وأثرت فيه مؤلفاته حتى إنه في كتبه الأولى يقتبس منه، ويستغل آراءه، ويثني عليه دائماً ولا يعبر عن أية مخالفة له. غير إن مراجعته على " رأي كولردج في الخيال " المنشورة في Scrutiny آذار (مارس) 1935 هجمة مريرة على رتشاردز، لهربه الاجتماعي والسياسي في نقده؛ ومنذ ذلك الحين تحرر ليفز من سحر رتشاردز إلى حد ما (1) . أما ل. ك. نايتس وهو من عصبة Scrutiny أيضاً فلم يبعد في تسلقه هذا الغصن بل أحس إنه لا حاجة له أن يتسلقه واستمر يقطف من ثمراته، أعني يقتبس من رتشاردز، ويستغل آراءه بهدوء، دون أن يرتهن أساساً يقيمه. ويعترف ستيفن سبند في المقدمة عن كتابه " العنصر الهدام " The Destructive Element إنه استوحاه (واقتبس عنوانه) من تعليقه لرتشاردز على إليوت، وفي البحث الذي هو لب الكتاب في العلاقة بين الشعر والمعتقد، يعود بين الحين والحين إلى اهتصار نتف من آراء رتشاردز. وتقر إلزي إليزابث فير التي بدأت كتابها " شعر جرارد مانلي هوبكنز " حين كانت طالبة بكمبردج، " بمساعدة رتشاردز وتشجيعه "، وتقتبس منه ومن إمبسون على نطاق واسع. ولقد انصفه وهاجمه على التوالي اثنان من النقاد الإنجليز الذين يقطنون اميركة اليوم، وهما دافيد ديشز واريك بنتلي وكلاهما مدين كثيراً لمؤلفات رتشاردز الأولى؛ فانصفه ديشز في مقال له حماسي تحدث فيه عن ميزته وأثره في كتابة " الكتب التي غيرت عقولنا " وهاجمه بنتلي هجوماً جائراً

_ (1) كتب ليفز " التعليم والجامعة " ونشره عام 1943 وبعد أن حذر فيه من كتاب إمبسون " المختلط غير المستوي إلى حد بالغ " أي كتاب " سبعة نماذج من الغموض " وصف كتاب رتشاردز بأنه " نص مختلط آخر من النوع المثير المضلل الذي قد يقع حتماً في يد الطالب ومن الفائدة إن يعان على أن ينظر فيه بعيين الناقد ".

جاز حد الاعتدال في " مجلة جبال روكي " شتاء 1944. غير أن أحد هجوم تلقاه رتشاردز، عدا سورة بنتلي، صدر عن الناقد الإنجليزي الماركسي اللامع إليك وست، إذ خصص فصلاً في كتابه " الأزمة والنقد " Crisis and Criticism ليثبت أن كتابات رتشاردز قد أفسدها بمحاولته أن ينتزع الشعر من العمل الاجتماعي وان قراءاته للشعر مكبوحة " بأردأ أنواع الإرجاع المخزونة " يعني روح المحافظة الاجتماعية. (من الممتع ان نلحظ أن النقاد الماركسيين الشياي، مترسمين خطى كودول، يدعون اليوم إلى التقارب بينهم وبين رتشاردز. كتب شاعر شاب اسمه هوبرت نيكلسون إلى مجلة " عصرنا " Our Time أيار (مايو) 1944 يهاجم بلاهة ف. ج. كلينجدر، وقال ان الماركسيين يحسنون صنعاً لو زادوا من التفاتهم إلى آراء رتشاردز عن طبيعة التجربة الفنية وقيمها، ويبدو أن عدداً من المسهمين في مجلة Modern Quarterly قد اخذوا بنصيحته) . ولعل الناقد البريطاني المعاصر الوحيد - من المشهورين - الذي لم يتأثر في الحقيقة بآراء رتشاردز هو ج. ولسون نايت، الناقد الانتقائي المتحمس لمذهبه فانه لم يذكره إلا مرة، عابراً، حسبما أعلم. (قد يفسر هذا الموقف قول رتشاردز مرة في نايت أنه مثل على من يبني نظريات محكمة على أسس خادعة) . وكان تأثيره رتشاردز على النقاد الأميركيين، إلى جانب بيرك وبلاكمور وايكن شاملا. فيعترف ف. أ. ماثيسون في كتابه " ما حققه ت. س. اليوت " بفضل خاص لرتشاردز (ولادموند ولسن!!) " في الإثارة والتحدي خلال السنوات الأخيرة الماضية " وكتابه حافل باستطلاعات رتشاردز مستمدة بخاصة من " النقد التطبيقي " الذي يسميه ماثيسون " أنضج حديث له عن الشعر والمعتقد ". وفي " النهضة الأميركية " American Renaissance يمضي ماثيسون في استغلاله له ولغيره من كتب

رتشاردز وتلقت كل جماعة الجنوب تأثير آراء رتشاردز بقوة، فيعتمدها كلينث بروكس خلال كتابه " الشعر الحديث والاتباعية " ويزيد اعتماده لها في " الزهرية المحكمة صنع " ويستغلها ورن في دراسته عن كولردج وفي غيرها. أما رانسوم وتيت اللذان أكثرا الكتابة عن رتشاردز (كتب عنه رانسوم في مقال له في The World " s Body وفصلا طويلا في " النقد الجديد " وكتب تيت عنه في مقالاين في " العقل في جنون ") فقد اتفقا على مهاجمة انحيازه المبكر إلى المنطق الوضعي، بقوة وعنف، بينا تقبلا بحماسة كثيراً من مناهجه ونتائجه (استعمل تيت في هجومه ألفاظاً مثل " يخدع ") . وما كتاب " القصص الحديث " Modern Fiction لهربرت مللر إلا تطبيقاً ضحلاً لبعض أفكار رتشاردز الواردة في كتابيه " معنى المعنى "، و " المبادئ "؛ إلا أن المؤلف أيضاً مروع من اصطلاح " التقرير الكاذب " (من بين كل النقاد الذين أفادوا من رتشاردز ومن مؤلفاته الأخيرة أيضاً لم يستطع ان يزدرد هذا المصطلح دون غصص إلا كلينث بروكس وف. ر. ليفز) ويكبح مللر من جما الاعتماد على رتشاردز في كتابه " العلم والنقد " وان كان اعتماده ما يزال أساسياً، ويثني على رتشاردز على وجه العموم، بحماسة بينا يتهمه، على التعيين، بضيق شديد في السيكولوجيا وبإغفال القرائن الاجتماعية في الشعر و " بفقدان المضاء والإيحاء " في مؤلفاته المتأخرة. ويفيد ليونل ترلنغ في كتابه " ماثيو آرنولد " من رتشاردز كما يفيد من كل مظهر - تقريباً - من مظاهر النقد الحديث، في حذر بالغ، حتى إننا حين نجده يتحدث عن مصطلح " التقرير الكاذب "، مثلاً، يستحيل علينا أن نقول انه يقبله أو ينكره، ويقتبس في كتابه " إ. م. فورستر " E.M. Forester بعض تقريرات رتشاردز عن فورستر،، دون أي تحديد لموقفه منها.

وقد أفاد مارك شورر إفادة جوهرية مشمولة بالإدراك من رتشاردز وبخاصة في كتبه الثلاثة: " العلم والشعر " و " كولردج " و " وليم بليك ". وقد نضيف إلى هذا الثبت زيادات لا حد لها، ومن النقاد الأميركيين الكبار واحد يشبه نايت في إنجلترة من حيث انه لم يتأثر برتشاردز مطلقاً، ذلك هو أيفور ونترز. أن الصورة العامة التي تبرز من وراء ذلك كله هي صورة رتشاردز مؤثراً في كل ناقد جاد معاصر - على وجه التقريب - ونكاد لا نجد فيهم واحداً، إلا أن يكون مريداً مأخوذاً بسحر أستاذه مثل إمبسون، يرافقه موافقة مطلقة، بل أكثرهم يهاجمه بمرارة من اجل مسائل محددة أو عامة. والناس فريقان في الأنظار إليه فأما الدوائر الشعبية - في أحد الطرفين - فترى فيه امرءاً " صعب المكسر " (يذكر هو في " فلسفة البلاغة " كيف وصله سيل من رسائل الإعجاب من ملتاثين لا شبهة في لوثتهم حول كتابه " معنى المعنى ") وهو في أقصى الطرف الثاني أي في نظر خير نقادنا مصدر كثير من الاستطلاعات العظمى والأخطاء الفذة. ولكن يبدو انه من غير المعقول أن يقول رتشاردز بهذا القدر من الأثمار ثم يكون خاطئاً بالقدر الذي يحسبونه؛ والرجال الذين استغلوا مصطلحاته ورسائله الفنية وهم يعتقدون انهم في الوقت نفسه يستطيعون أن يطرحوا أفكاره عن الأدب جانباً، إنما هم ضحايا مغالطة منطقية، ذلك لان مصطلحاته ووسائله الفنية هي نفسها أفكاره عن الادب، وشجرة التفاح الخاوية لا تستطيع أن تعطي ثمراً صالحاً كهذا الذي اعطته، فيما يبدو. بقيت بضعة مظاهر من إنتاج رتشاردز في حاجة إلى جلاء. وأبعدها عن مجال التكهن اهتمامه الكبير بالشرق، فقد كان أستاذاً زائراً بجامعة شنج هوا في بكين، بالصين خلال سنتي 1929، 1930 يدرس الإنجليزية الأساسية ويدرس الفكر الصيني، ويعمل في إنجاز كتابه عن منشيوس

ثم كان في بكين مرة أخرى عام 1937. وفيما بين هذه التواريخ كان مسؤولا، فيما يبدو، عن إغراء إمبسون بالتعليم في الشرق. وقد اهتم رتشاردز كثيراً بالفكر الصيني، وبخاصة فلسفة كونفوشيوس، منذ البدء. ويسجل اليوت في " فائدة الشعر وفائدة النقد " ان كونفوشيوس نجح في الجمع بين زملاء غير متجانسين ويقول: مما يستحق أن انوه به عابراً أن المستر رتشاردز يشارك في اهتمامه بالفلسفة الصينية كلا من عزرا بوند والمرحوم أيرفنج بايت. هذا وان البحث في محط اهتمام مشترك بين ثلاثة مفكرين، يبدون غير متقاربين، أمر يستحق الجهد فيما اعتقد. وهذا مظهر يشير، على الأقل، إلى محاولة انتزاع النفس من الموروث المسيحي، ويبدو لي أن بين أفكار هؤلاء الرجال الثلاثة تشابها طريفاً. وأول كتاب من كتب رتشاردز " أسس علم الجمال " يفتتح ويختتم باقتباسات من " تشنج يونج " أي مبدأ التوازن والانسجام، وهذه الاقتباسات هي في الحقيقة عظم نظريات المؤلف ومحور الكتاب. واقتبس رتشاردز في كتبه التالية من كونفوشيوس ومنشيوس وتشوانج تزو وغيرهم بانتظام، وعالج في كتابه " آراء منشيوس في العقل " - بطبيعة الحال - الفكر الصيني على نطاق واسع وأرفق بالكتاب ملحقاً من أربع وأربعين صفحة مكتوبة بالحروف الأصلية. لكن إلى أي مدى يبدو لديه الفكر الصيني هاماً؟ يمكن أن نتصور ذلك من إحدى رسالاته إلى مجلة " بارتزان "، وهي في مقدار صفحة ونصف صفحة وقد صدرها بعبارة مقتبسة من تشوانج تزو ولعلها الرسالة الوحيدة التي نشرتها مجلة أميركية مصدرة على هذا النحو. وقد يلحظ المرء عابراً، دون أن يغوص متعمقاً الأسباب في تعلق

رتشاردز بالفكر الصيني، أن اعتدال الفكر الصيني واتزانه قد يكونان سبباً وجيهاً في اجتذاب مفكر وقف جهده على التوفيق بين أرسطوطاليس وأفلاطون، وبنثام وكولردج، والمادية والمثالية، والواقعية والظاهرية، والوضعية واللاوضعية، والطبيعية وما وراء الطبيعية (وهو نفسه قد أقر مرة أثر مرة انه يقوم بهذا العمل) . أن هذا الإخلاص للتوفيق بين المتناقضات الجدلية وللمبدأ المبين في " النقد التطبيقي " حيث تنبثق الحقيقة من بين الأخطاء المتعارضة هو الذي صنع طريقة رتشاردز المتميزة، تلك الطريقة التي يسميها أحياناً كثيرة باسم التعريف المتعدد، والترجمة المتعددة، والتفسير المتعدد (ونسميها نحن " المعنى المكثر ") . وكل كتاب من كتبه يمثل " مائدة) فكرية تجلس إليها كثير من الآراء المتعارضة. فأما " أسس الجمال " فيرتكز على فهرسة مصنفة مفسرة لكل تعريف قيم من تعريفات " الجمال ". وأما " معنى المعنى " فيعيد في أساسه هذا الشكل المفهرس من التصنيف ويقوم بنفس المهمة حول كلمة " معنى " كما يوجد كل مصطلح ضروري عن طريق التعريف المتعدد، في ترجمة من الإنجليزية إلى الإنجليزية. ويعتمد " مبادئ النقد الأدبي " بقوة على جمع تعريفات الآخرين للمسائل التي يبحثها رتشاردز، ومنها يستنبط تعريفه، فثلما فعل في تعريفه المشهور " للقصيدة ". ويورد " آراء منشيوس في العقل " تفسيرات متعددة لعبارات مستمدة من منشيوس حتى هربرت ريد، ويجمع القرارات المتعددة لمصطلحات مثل " جمال " و " معرفة " و " صدق " و " نظام "، ويقوم " رأي كولردج في الخيال " بأداء الشيء نفسه في كلمة " خيال ". وكل كتبه، بما في ذلك مؤلفاته في الإنجليزية الأساسية، ترتكز على التمييزات المتعددة أو التعريفات للكلمات الرئيسية بالإنجليزية الأساسية، فمثلا ليس " التفسير في التعليم " مشبهاً " للنقد التطبيقي " من حيث انه " مائدة "

للمسودات فحسب، بل أن رتشاردز نفسه يملؤه بالترجمات المتعددة لجمل تبدو بسيطة. وقد يلحظ المرء هذه الظاهرة نفسها في شكل أوضح وهو غرام رتشاردز في استعمال المقتبسات التصديرية (هذا المظهر مبالغ فيه بعض الشيء في الرسالة التي كتبها إلى مجلة بارتزان) فكتاب " معنى المعنى " يبتدئ بإحدى عشرة اقتباسه تصديرية على الصفحة المواجهة للصفحة الأولى. وكل فصل يفتتح باقتباستين أخريين أو بثلاث. ويكاد كل فصل في كل كتاب ألفه يكون مفتتحاً باقتباسه جديدة أو اثنتين أو ثلاث وينتج عن هذا كله أن يحوي الكتاب من كتبه مجموعة مختارة من أفكار هذا أو ذاك. وإذا أدرك المرء أن هذا، على وجه الدقة، هو ما عمله أوغدن بانتظام من اجل الفكر الحديث - على الأقل - في السيكولوجيا التركيبية وفي " المكتبة الأممية للسيكولوجيا والفلسفة والمنهج العلمي " وفي سلسلة " تاريخ الحضارة " وفي مجلة " نفس " وفي النشرات النفسية المبسطة Psyche Miniatures وفي مكتبة الإنجليزية الأساسية وفي غير هذه كلها - إذا أدرك المرء ذلك كله أحس بمعنى توحيد الجهود بين الرجلين وأثره في الإكثار من المقتبسات التي تتسرب من خلال " المنفذ الضيق " - نسبياً - في الإنجليزية الأساسية. لقد كان دستور كل من رتشاردز وأوغدن، دائماً هو: من صراع الأفكار المتضاربة تنبثق الحقيقة. وهذا الدستور مقنع أكثر من أن يقال: من صراع الأفكار المتضاربة تنبثق الحقيقة إذا كانت تترجم بسهولة في 850 كلمة عظيمة. وهذا يقودنا إلى مشكلة انشغاله بالإنجليزية الأساسية، وهو ناقد أدبي. ولنقل دون تذرع باللطف: يبدو انه ليس ثمة من وجه للتوفيق بين الاثنين، فإذا استمر يعمل بالإنجليزية الأساسية طرح النقد جانباً، وتنازل عن مكانته، مكانة خير نقادنا الأحياء. ويبدو أن مبدأ الإنجليزية الأساسية في النقد، كما لحظنا في الفصل السبق من إمبسون، سطحي

في خير أحواله؛ وهو خداع في شر أحواله، وهو حتى في يدي رتشاردز وإمبسون عقيم لم ينجب استبصارات نقدية ذات قيمة خاصة. وقد أقر إمبسون - متكرهاً - أن الشعر لا يمكن أن يكتب بالإنجليزية الأساسية لأنه بحاجة إلى أفعال مركبة، وبالمثل يمكننا أن نقول أن النقد بحاجة أيضاً إلى أفعال مركبة. الفن " عمل " جدلي ديالكتيكي كما عرف كل امرئ منذ أرسطوطاليس حتى رتشاردز، والنقد أيضاً " عمل " جدلي ديالكتيكي كما عرف كل امرئ منذ أرسطوطاليس حتى رتشاردز، حتى أن رتشاردز بخاصة قد كرس كل مؤلفاته لتأثيل هذه الحقيقة. و " الأعمال " أفعال وتحتاج أفعالا لتصفها وتخبر عنها، أما الإنجليزية الأساسية من الناحية الأخرى فإنها لغة الأسماء، لغة " الحالات " أو " المواقف " تحمل فيها الأسماء كل المعاني، ويحاول المعبر بها أن يقتر في استعمال الأفعال ما أمكنه (نستطيع أن نرى الآن أن بذور هذا الصراع كانت موجودة منذ ان صدر " أسس علم الجمال " وبعد أن عرف أوغدن ورتشاردز الجمال في مصطلح التجربة كله بأنه توازن عضوي " للأعمال " الضمنية انتهيا إلى انه يؤدي إلى " حال " من التوازن العضوي) ولما تطور هذا الميل الجديد في مرحلة الإنجليزية الأساسية كان مصحوباً بانتقالة من أرسطوطاليس إلى إفلاطون، من العمل الواقعي إلى الحال المثالية ومن ثم أيضاً انتقلا من الأخذ بتقييم أرسطوطاليس للشعر إلى تقييم أفلاطون. هل أدرك رتشاردز أي شيء من هذا، من المستحيل لينا أن نعرف مدى ذلك؛ نعم انه خطا خطوة ملموسة واحدة على الأقل لإنهاء هذا الصراع، وتلك الخطوة هي أنه قضى حقبة من الزمن تخلى فيها عن كتابة أي نقد أدبي، ولم ينحرف عن هذه الخطة إلا مرتين صغيرتين. وتبقى لرتشاردز مهنة التعليم وكانت من قبل غلافاً في إنتاجه فأصبحت

لباً. كان " خلاصنا " من قبل في يد الشعر، فاصبح اليوم في عهدة " التعليم " " اعظم الجهود الإنسانية ". كان " معنى المعنى " يصوب إلى مهنة التعليم نظرة قاصمة، مهيئاً مادة تجعل افراد هذه المهنة " يفكرون " (كان بمعنى من المعاني نكتة " عملية " طالما أحتبسها الأستاذ في صدره حتى طبقها على تلامذته) أما " التفسير في التعليم " فانه إسهام في " مكتبة أصول التدريس " وهناك نوع من الكتابة غير موجودة في تلك المكتبة "؛ يقول رتشاردز: أنه هو ذلك الوصف الذي قد يتناول بصراحة ونزاهة طرق الأساتذة في تصحيح إنشاء طلبتهم ومناقشتهم فيه، ويفصل في التفسير الذي يقدمانه حول تلك التصحيحات؛ ولو انك قارنت المجلات التربوية الفنية بالمجلات التي تتحدث عن طب الأسنان، في هذه الناحية، لوجدت الأولى هزيلة رديئة. ذلك لأنها تزخر بالتفسيرات المكرورة للمبادئ، ولكن أين نستطيع ان نجد تاريخ القضية الذي يفصل العلاج الموصوف لفقرة مضطربة؟ ان طبيب الإنسان قادر على أن يدل زملاءه كيف يعالج سناً متعفنة، أما المدرس فانه فيما يبدو لا يرضى أن يعترف في إسهاب، بكيفية نقده لمقال رديء. ذلك لأنه إن فعل ذلك، أثار من حوله تعليقات قد تكون مربكة، ولكن الرجل المؤمن بمبدأه لا يجفل من ذلك. والمعلومات التي قد تنتج من تنظيم دراسة الاضطرابات الهامة وسوء الفهم - بحيث تصبح مظاهر منظمة في الأدب المحترف، كما ينظم وصف الإجراءات في المجلات المتصلة بطب الأسنان، - أقول أن تلك المعلومات قد تحدث ثورة في التطبيق. وإذا تم هذا، صح لنا حينئذ ان نفيد من أخطاء بعضنا البعض، مثلما كان

أطباء الأسنان - وما زالوا - يفيدون. حقاً عن هذا نوع من الانحدار نزل فيه رتشاردز من ناقد جرئ يريد " أن يبعث في الشعر إنعاشاً عاماً " إلى رجل يقارن، الطرق " الهامة " التي تستعمل في تثبيت سن متعفنة. ثم مضى ينزل في سلمه الجديد، بعد ما تغير ميزانه حتماً، فإذا به ينتهي في النهاية إلى رجل يسهم (1940) في المونوغرافات التربوية عن " القراءة وتطور الطالب " أو ينافس مورتمر أدلر، والتفاهة التي تسمى " مائة كتاب عظيم " و " كيف نقرا كتاباً " How To Read a Book (وقد زينت هذه قراءة كتابه نفسه، مع تحفظ واحد هو انه لم يدلنا " كيف نقرا كتاباً ") فيقدم في الرد على هذه التفاهة، تفاهة جديدة سماها " مائة كلمة عظيمة " و " كيف تقرا صفحة " (وهو يوحي بان " وصفات " عصبة أدلر قد لا تتعمق جذور المشكلة) . أن رتشاردز ذو نصيب من سعة الإطلاع هائل يكاد لا يساويه فيه احد، فليس هو فحسب ملماً بالأثني عشر ميداناً التي أشرنا إليها قبلا، وجعلها ملكاً له، بل انه يكاد أن يكون قد غزا كل مجال آخر من مجالات المعرفة. ولنمثل على ذلك بنقطة صغرى فنقول أنه ليس كفئاً فحسب ليقتبس من الطبيعيات النظرية بثقة نفسية، ولكنه قادر أيضا على أن يقتبس " المادية والنقد التجريبي " بنفس تلك الثقة. غير إن اتساع معرفته قد تمخض، في الوقت نفسه، عن عجز يحول بينه وبين أن يتمسك بوجهة من وجهات النظر في وقت ما، ذلك لأن نسبية الفكرة التي ترى أن كل وجهة نظر فهي صحيحة نوعاً ما، تستتبع حتماً إن أية وجهة نظر لا يمكن أن تكون تماماً صحيحة. وقد كان لدى رتشاردز دائماً نوع من التهاون الغريب الولوع نحو الأفكار (وهو هذا المظهر من التهاون الذي قد يحشي هوامش " معنى

المعنى " " بحكايات احتقارية " عن الذوق المشبوه) وهذا بمعناه الواسع عدم تقدير للمسؤولية الاجتماعية لا تلمسه ولا تلطفه المسؤولية الاجتماعية، بل تكريس الجهود التي نراها في تهيئة الثقافة والحكومة العالمية والسلم للعالم، وذلك بوقف حياته كلها على التعليم والإنجليزية الأساسية. فبهذا المعنى الواسع يصبح " الإكسير " الشافي الذي يصور أقصى المسؤولية لا مسؤولا لأنه في الحقيقة يحتقر هذا العالم الكبير المعقد إذ يفترض يمكن أن يعالج " بدواء " واحد. أما الشعر الذي كان طريق " خلاصنا " فلم يكن ذلك النوع من الإكسير عند رتشاردز، لأنه يتضمن كل تعقيدات العالم ومتناقضاته، وكانت مهمة الناقد، أن يزيد، من خلال الحب والجهد. القدرة العامة على تحقيق التجربة الشعرية في شكلها الكامل لا أن يبسطها أو أن يترجمها ميسراً. وقد ظل رتشاردز حتى في أشد أحواله تعلقاً لالعلم، المثل الأعلى للرجل الذي نجته خصائصه الشخصية من صرامة طريقته نفسها (ظاهرة إنجليزية يمثلها على نحو اقل كل من مود بودكين وكودول) فكانت النتيجة النهائية من كل آلية معنى المعنى "، كما تقدم القول، إعادة الأحوال والظروف " التي يمكن في ظلها إنعاش الشعر " وهدف كتاب " المبادئ " إلى شعر أحسن، وتجربة أحسن، يجعل الشعر " اقدر "، وبتعميق المتعة فيه " في مناسيب كثيرة ". وألح كتاب " العلم والشعر " على " معرفة حارة بالشعر " فتلك هي ما يحتاجه الناقد بالإضافة " إلى قدرته على تحليل سيكولوجي هادئ ". ولما طبعت مجلة فوريوزو (ربيع 1940) رسالة من رتشاردز إلى تلميذه السابق رتشاردز إبرهارت عن قصيدة لإبرهارت عنوانها " تأمل " كانت تلك الرسالة نقداً بانياً فنياً مباشراً، من النوع الذي قد يكتبه شاعر لآخر، وهي مليئة بمعرفة " حارة " في الشعر واهتمام بالغ به. أما الانطباع الذي قد تتركه محاضرة

برنستون " تفاعل الكلمات " في نفس القارئ (وهي آخر نقد نصي لرتشاردز يتناول قصيدة، فيما أعلن) فهو إلى أي درجة كانت " الذكرى السنوية الأولى " للشاعر دن عجيبة مدهشة بالغة القيمة في نفس رتشاردز. أن الذين نقدوا رتشاردز بحدة (إلا القليل النادر منهم) قد كانوا ينهون نقدهم دائماً بتقديرهم بكفاءاته الشخصية ودقة إحساسه بالشعر. فكتب بلاكمور يقول: " ناقد محبوب لا ينافسه أحد في حبه للشعر ومعرفته به ". ويقول تيت: " أما قواه العقلية الكبرى وعلمه واحتفاله بالشعر - وهو احتفال معوق بعض الشيء، وأن كان متميزاً اليوم مثلما كان قبل خمسة عشر عاماً - إنها كلها خصائص من النزاهة الفكرية التي قلما تقع عليها في أي عصر ". وينتهي هربرت مللر إلى هذا القول: " كانت النزعة الكبرى في تفكيره أن يقيم بين الفن والرغبات الكبرى الأخرى علاقة حية، ويحقق بذلك حرية أكثر وكمالا أزيد في الحياة ". أما آرثر ميزنر فانه يقول عنه في سياق هجومه الحاد (المجلة الجنوبية، خريف 1939) : " لقد حاول المستر رتشاردز، كأي امرئ في عصرنا يبذل من الجهد ما وسعه، أن يثير نحو الشعر رغبة واضحة نبيلة ". وينتهي إلى قوله: " أن المستر رتشاردز في خير أحواله عزيز القرين ". ومن ثم ترى ان هناك إطراء عاماً للرجل نفسه، مثلما وجدنا استفادة عامة من نقده وهجوماً عاماً على أفكاره. ومن المجمع عليه أن شخصيته وذكاءه وإحساسه وظرفه، أمور قد خلصت نقده من أي خطر واجهه، وكل ما نرجوه أن تنجيه الآن من آخر الأخطار وأشدها ضرراً، اعني التضحية بالنقد من اجل " الإكسير " الذي يخلص العالم، وإذا عجزت تلك الخصائص، وإذا لم يعد رتشاردز إلى نقد الأدب، فما يزال لدينا في كتبه الأولى إنتاج يضاهي اجمل ما أنتجه عصرنا، وإنتاج آخر يخطف البصر، فائضاً عنه. وهذان الاثنان ليسا في خطر.

الفصل الحادي عشر

الفصل الحادي عشر كنث بيرك والنقد المتصل بالعمل الرمزي 1 - كان كنث بيرك يصر أحياناً على أن الكتاب جملة واحدة امتدت واستطالت، فان صح هذا كانت الطريقة النقدية تهيئة للمادة التي تتناول تلك الجملة. وفي الحق أن لدى بيرك عدداً من الجمل أي لديه عدد من الطرق النقدية في كل كتاب من كتبه ولكنا لو اخترنا جملة واحدة منها نحدد بها طريقته لكانت هي قولة: إن الأدب عمل رمزي: كلمتان اثنتان تطور بينهما فكان في البدء يؤكد " الرمز " وكان في أواخر أيامه يؤكد " العمل " وقد استعان بما قيض له من غنى وخصب على أن يستغل كل " الحيل " النقدية، فأما أن نجعله ممثلا لكل مظهر من مظاهر النقد الحديث وأما أن نحده إعتسافاً باتجاه واحد فنتخذه ممثلا للتعبير الرمزي الذي كان خير ميادينه وفيه بز من عداه من النقاد فلم يدرك أحد منهم شأوه. ولقد كتاب ذات يوم مقالا بعنوان " مشكلة القيمة الذاتية " ثم جعله ملحقاً بكتابه " نحو الدوافع " وفيه يقول دون حيطة أو تهيب: " بدأت الحديث عن

ثلاثة ميادين هي: النحو والبلاغة والرمز وأنا أرى إن النقد الحديث ربما لم يستطع ان يقدم شيئاً جديداً حياً لدارس الأدب إلا في الميدان الثالث ". بيد أن هذا القول غير صحيح - وأن استغل معنى الحيوية في عبارته هذه - ويشهد كتابه على عدم صحته، ولكن مهما يكن من شيء فهو يشير إلى الجدة المدهشة التي تبدت في دراساته للعمل الرمزي حتى أن من يقرؤه لأول مرة يحس إحساس من استكشف أرضاً جديدة لم يكن رآها من قبل خلف منزله. وأول كتاب نقدي أصدره بيرك سنة 1931، عنوانه " مقولة مضادة " Counter Statement وفيه وضع أكثر المبادئ والاتجاهات التي طورها من بعد وسماها " مضادة " لأنها كانت حينئذ (وما تزال) تمثل رأي الأقلية. وهذا الكتاب مجموعة من المقالات: بعضها مما نشره في المجلات ثم أعاد فيه النظر، وهي بعامة تتناول مشكلات أدبية عامة وتشتمل المنهج السياسي المتضمن في مبادئه النقدية، وتدور حول أدباء بأعيانهم وهم فلوبير وباتر ودي غورمونت ومان وجيد. ولا يزال مبدأ " العمل الرمزي " فيها في بدايته إلا أن بيرك دائم التلميح غليه كأن يقول: أن اهتمام جيد بالشذوذ الجنسي جعله من السياسيين الأحرار لأنه درب لديه إحساسه بالمفارقة والتفرد. أما غورمونت فان مجاوزته الحد فيما يكتب غنما نجمت عن عزلته وكونه مصاباً بالجذام. ويقول أيضاً: أن كاتب السيرة يستقطب مشكلاته الذاتية حين يختار أن يكتب عن نابوليون، وهلم جرا. كذلك فان بيرك يلمح إلى بعض الطرق والوسائل التي سيطورها من بعد في دراسة العمل الرمزي ومن أبرز تلك الطريق جمع الصور في قرائنها، كأن يلحظ كيف تعبر كلمة " المستقبل " عند شيكسبير عن نذر الشر - أي توحي بقرائن سيئة - بينا هي توحي بالثقة عند براوننج، وكيف تكون كلمة " العفريت " عند كيتس موحية بالغلبة والسيطرة بينا هي عند

تنيسون مقترنة بالأمان وانعدام الأذى. غير أن اهتمام الكتاب متوفر على البلاغة، واصطلاحاته متوجهة إلى التفرقة بينها وبين النحو: فهناك التفرقة بين " خطابي " و " واقعي "، وبين " سيكولوجية الشكل " و (سيكولوجية الخبر " وهكذا. ولست تجد في الكتاب حديثاً صريحاً عن " الرمز " بل أن بيرك ليقول ان الفن ليس تجربة وإنما هو شيء مضاف إلى التجربة، وحين يقول ذلك يؤكد مبدأ معارضاً لمبدأ العمل الرمزي، لكنه حين يعود فيهاجم العلية القاتصادية، يعود فيضع نواة المبدأ الثاني هذا - مبدأ العمل الرمزي - فيقول: " إن الفن أو الأفكار فيه " تعكس " موقفاً ما لأنها - بمعنى من المعاني - تعالج موقفاً ما. فإذا حل امرؤ مشكلة لم يجز لنا ان نقول إن حله لها " مسبب " عن تلك المشكلة. نعم إن المشكلة نفسها قد تحدد طبيعة حله ذاك، ولكنها تستغلق على الحل إلى الأبد إلا إن " أضاف " شيئاً إلى الحل. ومثل ذلك يقال في طرق المشاعر أو طرق النظر التي يستغلها المفكر أو الفنان في معالجة موقف ما. فان كلا منهما يستغل مجموعة من الألفاظ ويكشفان عن رموز يحاولان من خلالها الإحاطة بالموقف، ويظهران نحو الموقف نزعات تكيف أنواعاً من العمل، وكل هذه الأمور ليست " مسببة " عن الموقف الذي يضطلعان بمعالجته ". ماذا هنا في هذه العبارة سوى الإيمان بان الآثار الفنية " خطط عسكرية " للإحاطة بالمواقف المختلفة - أي أنها عمل رمزي. ولهذا الكتاب الذي نتحدث عنه أهمية أخرى سوى إشادته بدور البلاغة في الفن وتلميحه إلى الرمز، وتلك هي انه يدافع عن الشعر ضد من ينتقصونه على نحو لم يضطلع به سدني وشللي لان خصومهما المتنقصين للشعر كانوا اقل حذاقة ودراية. عشر صفحات كاملات يدبجها بيرك ليميز أخلاقياً بين توماس ومان وأندريه جيد ثم ينتهي من ذلك إلى

تحكيم الحد الفاصل بينهما استهانة بقيمته. ويسود صفحات أخرى يظهر فيها من خلال النغمة الساخرة الغايات التي يراها مرامي للحياة الفاضلة. ذلك هو الكتاب الأول. أما الكتاب الثاني فعنوانه الرئيسي هو " الثبات والتغير " وعنوانه الفرعي: " تشريح للغايات ". وقد ظهر عام 1935، وهو أقل كتبه حظاً من الصبغة الأدبية. ومن العسير أن ننسبه إلى فرع من فروع الأدب والعلم: أتراه سيكولوجيا اجتماعية او تاريخياً اجتماعياً أو فلسفة أو اتجاهاً أخلاقياً أو نزعة دنيوية أو ماذا؟ فهو يدور حول " الغايات " أو " الدوافع " المستكنة خلف " النزعات " أو " الخطط ". وهو مؤلف من أقسام ثلاثة: عنوان القسم الأول منها " في التفسير " ويشمل نقداً لمجالات من الحياة لا من الفن، وعنوان الثاني " منظورات من خلال التباين "، وهو كشف عن الطبيعة المجازية للنزعات والخطط وعن مراتب المعاني. والثالث هو " أسس التبسيط " وهو منهج نقدي وضعه بيرك ليوضح الفوضى التي تعرض لها في القسمين السابقين، ويضع لها حداً. فهو إذن كتاب عن المجتمع والعلائق الاجتماعية ولكن محوره " الإنسان الفنان " ولذلك فهو يعالج المشكلات الاجتماعية بمصطلح نقدي شعري فكان الجملة التي أبتدأ بها حتى امتدت واستطالت هي " كل الأحياء نقاد " وكأن القسم الأخير منه يعود فيقول: " كل الناس شعراء ". وفي القسم الثاني منه تعرض بيرك لكل ما يريد أن يقوله عن العمل الرمزي فنبه إلى أن قطع شجرة سامقة - وهو موضوع من احب الموضوعات إلى نفسه - قد يكون تعبيراً رمزياً عن قتل الأب. وان نوبات الدوار الحادة التي كانت تهاجم دارون - مثلها مثل عمى جويس - قد تكون تعبيراً رمزياً عن العذاب النفسي على ما في كتابه من " زندقة " وأن عمالا مثل تسلق الجبال ومصارعة الثيران وبناء الإمبراطوريات كلها تحتوي عناصر رمزية أساسية، وأن مذهب مكدوغل النفسي القائم على:

التكامل - والانفصام إذا ما قسته إلى طبيعة تكوين الإمبراطورية البريطانية بدا لك تمثيلا لها، ومن ثم فأنه مذهب ناجع في علاج المرضى من البريطانيين. وعلى الرغم من هذه التفسيرات الرمزية في الكتاب تجد أن بيرك لم يفارق بعد القول بان الآثار الفنية " خطط عسكرية " بل أن الكتاب لينحو إلى أن يستعمل لفظة خطة بمعنى " حيلة ". غير أن أهم مبدأ يدور عليه هذا الكتاب هو مبدأ " المنظورات من خلال التباين " وتفسير هذا ان ترى شيئاً ما من خلال شيء آخر ليس هو الأول، وهذا هو المجاز - أو هذه هي العلاقة المجازية - يقول بيرك: ما دامت وثائق العلوم تتراكم على مر الزمن أليس من حقنا ان نرى كل آثار البحث العلمي بل كل المذاهب العلمية ترديداً مثابراً لمجاز خصب غني - مهما تتعدد تشعباته -. ألم نعتبر حيواناً وثالثة لبنة سياسية أو اقتصادية ثم قلنا انه آلة، وهكذا اتخذنا مثل هذا المجاز بل اتخذنا مئات المجازات رمزاً لصف لا ينتهي من المعلومات والتعميمات. ويقول بيرك انه لحظ نقل هذه العلاقات المجازية أولا عند نيتشه ثم عند تلميذه اشببنجلر إذ وجدهما يحوران مصطلحاً من قرينته الطبيعية إلى قرينة أخرى، فيتضح مفهومه ولكنه يكون مع ذلك تحويراً جريئاً، كالحديث عما يسمى " التقشف والتبرر العربي " أو ما يسميه اليوت " الروح الرياضية المنحلة " أو ما يسميه فبلن " العجز المدرب ". ويمط بيرك من هذا المصطلح في كتابه أثناء التطبيق حتى ليشمل لديه مبادئ مثل " الولادة الجديدة " وهي العمل الرمزي الأكبر في كتبه الأخيرة، فيقول: " حين نقيم مجموعة من المعاني الجديدة نرى في الفن نوعاً آخر من

التقاعس والتراجع، ذلك أن الفنان يعود فجأة فيراجع ذكريات شبابه لان هذه الذكريات تجمع في ذاتها عنصري الألفة والغرابة، وربما كانت لحظات هذه الولادة موجودة عند كل إنسان، فهي زاوية جديدة من الرؤى ينجلي لديه فيها ما كان منسياً ويصبح مفيداً ملائماً ومن ثم يعود فيحيا في ذاكرته. ومن ثم ارى أن الولادة الجديدة والنظر من خلال التباين أمران مترادفان لأنهما يمثلان عملية من التحول أو الانبعاث ". وفي كتاب " الثبات والتغير " أيضاً قسط واف من البحث الأدبي العام أما الإشارات الأدبية الخاصة فإنها تكاد تكون عارضة، لا ترد إلا للتمثيل أو المقايسة، ولا يدور حولها بحث مستفيض. فمثلا يشير بيرك إشارة عارضة إلى رمز الجبل عند نيتشه في " الجبل السحري "، ويلمع إلماعاً إلى بعض ما يستخدمه شيكسبير من وسائل أسلوبية، وإلى أن همنغواي يعمد عمداً إلى وصف العرف بأسلوب جين أوستن الرقيق المرهف ويشير أيضاً إلى عدم جدوى التعاويذ والرقى التي يطلقها كل من سويفت ونيتشه ليطردا " العفاريت " التي تسيطر على نفسيهما، ويلمح إلى موضوع " الهوة الفاغرة " الذي يتردد عند كل من اليوت وملتن وهارت كرين وينبه إلى سعي لورنس لإقامة " البناء الكوني الأخلاقي ". ولا يقتبس بيرك شيئاً من نثر أو شعر اللهم إلا اقتباساً من قصة عنوانها " الأصحاب " من تأليف أدوين سيفر ومن عجب انه يقف عند هذه القصة الاجتماعية ويناقشها في شيء من الإسهاب. وحسبنا هذا التعريف بالكتاب الثاني. أما الكتاب الثالث فعنوانه " نزعات نحو التاريخ " Attitudes Towards History - وقد نشر عام 1937 وهو احفل كتبه بمصطلح العمل الرمزي وسنتحدث عنه فيما يلي بشيء من الإسهاب. ويليه من حيث الزمن كتاب رابع عنوانه " فلسفة الشكل الأدبي " The Philosophy of Literary Form وقد ظهر في عام

1941 - وعنوانه الفرعي " دراسات في العمل الرمزي " وقد نعده ملحقاً للكتاب الثالث يوضح مبادئه النظرية ويضعها في مجال التطبيق العملي. وإذا استثنينا منه المقال الذي يحمل عنوان الكتاب نفسه، فانه لا يعدو ان يكون مجموعة من المقالات والمراجعات التي نشرها صاحبها في حقبة سابقة. أما الوشيجة التي تربط بين تلك المقالات فهي دورانها جميعاً " حول العمل اللغوي أو الرمزي أو الأدبي ومحاولتها إيجاد طرق أدق لتحديد مثل ذلك العمل " وبعبارة أعم " تحديد العمل الأدبي المفرد بعون من نظرية تفسر العمل الأدبي العام ". ولا تزال همة بيرك معلقة بما يسميه " الخطط) أو " النزعات ". إلا أن هناك تطوراً في طبيعة المجاز الذي يستعمله فقد كان يقول في الكتاب الأول أن " الإنسان خطابي " وقال في الثاني: (الإنسان فنان " وفي الثالث " الإنسان ذو رموز " في الرابع: " الإنسان محارب ". وأول صفحة في كتابه الرابع هذا تحاول أن تفرق بين ما يسمى " خططاً " وما يسمى " مواقف " وقد جاء فيها: " أريد بادئ ذي بدء لا فرق بين " الخطط " و " المواقف " لأني أرى الشعر (والشعر هنا كل اتجاه تخيلي أو نقدي) اتخاذا لمختلف الخطط من اجل الإطاحة بشتى المواقف. وتلك الخطط هي التي تعين قيمة المواقف وتسمي بناءها وتعدد عناصرها البارزة. وهي حين تسميها أو تعددها تنطوي على نزعة ما نحوها. وهذه النظرة لا تلمنا بأي وجه إلى الذاتية الشخصية أو التاريخية، ذلك لأن المواقف أمور واقعية والخطط التي تعالجها تتضمن محتوى عاماً، ومهما تتداخل المواقف بين فرد وفرد وبين حقبة تاريخية وأخرى فذلك لا يؤثر على طبيعة الخطط نفسها لأنها تتمتع بعمومية تجعلها صالحة لكل فرد وكل زمان ".

وفي ذلك الكتاب مقال عنوانه " الأدب حين يكون عدة للعيش "، وهو يتضمن محاولة لتحديد النقد الاجتماعي - أي النقد المعتمد على علم الاجتماع - وفيه يقترح بيرك أن يصنف الآثار الفنية حسب مصطلح الخطط الأساسية التي يجدها في الأمثال: فهي " خطط لاختيار الأعداء والأصدقاء، والتجنب العين - عين الحسود - وللتطهر والتكفير وللتقديس وللتبصر والانتقام وللوعظ والإنذار ولهذا أو ذاك من التعليمات والأوامر ". وهذه الخطط وغيرها هي الأعمال الرمزية الأساسية في الفن، ويعرف بيرك العمل الرمزي بأنه " رقص النزعات والميول " ويحاول أن يميز بعناية بين هذا العمل الرمزي وما هو عمل " واقعي "، فيقول: ثمة فرق - فرق جوهري - بين بناء بيت وكتابة قصيدة عن بناء بيت، ثمة فرق بين كتابة قصيدة عن إنجاب الأطفال، وإنجاب الأطفال، فهناك أعمال عملية واقعية وهناك أعمال رمزية، (وفي هذين الطرفين المتباعدين يتضح الفرق بينها دون عناء، ولكنا يجب ألا نغفل عن هذا الفرق في المنطقة المتوسطة حيث تتخذ بعض الأمور العملية لنفسها عنصراً رمزياً كأن يشتري شخص شيئاً لا ليستعمله فحسب بل ليكون ما اشتراه شاهداً على انتسابه إلى طبقة اجتماعية معينة) . ويصنف بيرك العمل الرمزي في ثلاث مراتب: المرتبة الأولى هي الجسدية أو البيولوجية وتشمل نطاقاً واسعاً يمتد من الأرق إلى التجربة الحسية الكاملة التي يمارسها المرء نحو قصيدة ما كالإحساس بالظمأ عند قراءة قصيدة " الملاح القديم "؛ والمرتبة الثانية هي الشخصية أو العائلية وتتضمن العلاقات بالأبوين وغيرهما من الأشخاص الأقرباء؛ والمرتبة الثالثة هي مرتبة المجرد كالانضواء القائم حول رمز الولادة الجديدة. غير إن مصطلح " رمز " هذا موشح بالغموض ولذلك يقترح بيرك أن يضع

بدله لفظة " تعدادي " أو إحصائي بمعنى إن النظرة الإحصائية لعدد من الصور أو لعدد من الآثار تكشف عما فيها من قيمة رمزية بينما يكون الأثر الواحد أو الصورة الواحدة شيئاً " عملياً " لا رمزياً. فإذا درسنا مجموعة من الصور المتداعية أو المتكاتفة، تبينا من ورائها مبنى الدوافع وهي فعالة فيها. وفي آخر هذا المقال نفسه يعدد بيرك الوسائل السريعة التي تعين على دراسة الخطط الشعرية التي يستعملها في كتابه كله. وتشمل هذه الوسائل فيما تشمل " أفراد الخطة الدرامية " والحصول على " المعادلات " المكملة لها في الأثر الفني؛ والتنبه " للنقاط الحساسة " أو " اللحظات الفاصلة " وبخاصة البدء والختام والحل والتعسر وضعف الدوافع والقوة في التنظيم الدرامي؛ وإدراك صور " المخاض " أو الولادة الجديدة، وأخيراً إيجاد " الميزة الفارقة " التي تسم كل عمل رمزي في الأدب بسماته المتفردة. ويستحدث بيرك في كتابه " فلسفة الشكل الأدبي " مصطلحات جديدة أهمها ما يدور حول مبدأ " القوة " حيث يربط بين كل أنواع القوى في مختلف الميادين حتى ليستطيع كل مصطلح منها أن يقدم للآخر خدمة رمزية. ومن أهمها أيضاً تسمية العناصر الثلاثة في الفن، وهذه العناصر هي: الحلم الذي يمثل العوامل الرمزية؛ والصلاة التي تمثل العوامل الخطابية؛ والمخطط أو عوامل التقويم الواقعي (وربما كان هذا العنصر موافقاً لما يسميه العنصر النحوي) . ومن خلال المصطلح الذي يدور حول " القدوة " استطاع بيرك أن يتنقل من الميدان الأدبي إلى الميدان غير الأدبي مستغلا العمل الرمزي حتى إن المرء - حسب تعبيره ليستطيع: " أن يتزوج أو يغتصب بفن السياسة، ويعلن الحرب بالجدال، ويتفوق عقلياً على غيره إذا استطاع الحصول على مميزات اجتماعية، ويحل ويربط بالمعرفة، ويبرز عضلاته بدخله الاقتصادي؟ الخ "، أما في تلوث الحلم والصلاة والمصور

فإنه يستطيع أن يقيم التوازن بين الرمزي والخطابي والنحوي حين يعالج أي أثر فني. ثم يغفل بيرك كيف يكون الأثر الفني مؤثراً في القارئ أو كيف يكون معبراً عن منشئه ويكتفي بالنظر إليه في ذاته، في ماهيته، في كيفية تكونه، أي يتجه إلى استغلال وسائل التحليل النحوي دون ما عداها. ومن أمثلة هذا النوع دراسة له عنوانها " في موسيقية الشعر " وفيها كشف حاذق للآثار الصوتية في الشعر، كشف لا يتنبه له الناس ولا يلحظونه ويتضمن أشياء مثل الإشباع والتصغير والتفريغ النوعي وما أشبه. وأكمل قطعة يوردها بيرك مثلا على تحليل كتاب مفرد هي القطعة التي حلل فيها كتابه " كفاحي " Mein Kampf لهتلر وبنى تحليله هذا على ثالوث: المخطط والحلم والصلاة، وقد أبان هنالك بمصطلح نحوي خالص إلى أي حد كان ذلك الكتاب يعكس وقائع الحال في ألمانية وفي الموقف الدولي، ووضع بمصطلح رمزي إلى أي حد كان هذا الكتاب هو قصيدة هتلر الشريرة الكبرى، ووضح بمصطلح بلاغي إلى أي مدى وبأي أسلوب خلب هذا الكتاب الشعب الألماني حتى إنه تحول بالعمل الرمزي الذي كان يخيل لهتلر إنه سيسيطر على العالم إلى شيء كاد أن يكون واقعياً. ويكشف بيرك عن العلاقات بين هذه المصطلحات وبين كيف إن العامل الرمزي عند هتلر - مثل اتخاذه اليهود كبش الفداء - دخل في صميم هذا الأثر ومن ثم أحدث عند القارئ عملاً رمزياً وإنه خلبه حتى استطاع أن " يتحول " به إلى هذا المعتقد. ويمضي بيرك الفاهم لطبيعة هتلر في هذا حتى يعود المشكلة من صعيدها الرمزي إلى صعيدها الواقعي. وهذا الذي تقدم مثل من تطبيقه الذي يتمرس بأدب غير صالح، غير إن أكثر دراساته الأخرى تعالج أدباً خالصاً، وليست دراساته الأدبية هنا عارضة وإنما هي من صميم غاياته. فهو يحلل أدب كولردج

مسهباً، بوجه خاص، في تحليل قصيدة " الملاح القديم " متخذاً منها شعيرة درامية ذات أهمية كبرى، ويحلل " ربات الغضب " لأسخيلوس بتفصيل ليصور نوع المعنى الشعري الذي يناقض به المعنى " السمانتي "؛ وهو يدرس بلاغة أياجو متمثلا فيها صورة كاريكاتورية للفن الروائي مثلما يتمثل في بلاغة أنطونيو انتصاراً بارعا لهذا الفن. ثم يعالج قصتين معاصرتين إحداهما " الراكب المدلج " Night Rider من تأليف روبرت بن ورن والثانية " عناقيد الغضب " The Grapes of Wrath لجون شتاينبك ليمثل بهما على الوسائل التحليلية السريعة التي يسميها هو " البصمات "؛ ثم هو يحلل الأدباء ابتداء من هوميرس ولكريتس حتى فلوبير ولويس كارول في سبيل الكشف عن مشكلات نقدية أخرى ثم يجعل للكاتب ملحقاً يضمنه مراجعات ليوضح بعض تطبيقه النقدي في مجال القصص والشعر والرواية، بل والرسوم، في هذا العصر. وآخر كتبه هو " نحو الدوافع) ، صدر عام 1945 وهو أول ثلاثة كتب تتناول العلاقات الإنسانية ويسمى الثاني منها " بلاغة الدوافع " كما يسمى الثالث " رمزية الدوافع " وغاية هذه المجموعة هي الكشف الشامل عن الدوافع الإنسانية وعن أشكال الفكر والتعبير التي تقوم من حول تلك الدوافع وعن غاياتها القصوى التي تتلخص في تخليص العالم من الحرب أي الوصول من طريق الفهم والتفاهم إلى إقصاء كل أنواع الصراع. ومفتاح هذه الدراسة هو " الدراما " أو " النزعة الدرامية "، والمصطلح الذي يستعمله في التحليل هو مصطلح الدراما ويشمل الأركان الروائية الخمسة أي: الفصل والمشهد والممثل والمكان والغاية. أما " النحو " الذي يشمل في المقدمة بضع مئات من الكلمات، تزايدت من بعد حتى بلغت مائتي ألف كلمة - أما ذلك النحو فانه وقوف عند العلاقات الداخلية القائمة بين هذه الاصطلاحات الخمسة و " إمكان تحولها وتنقلها، والمدى الذي

تستطيع فيه أن تتبادل فيما بينها أو تتجمع مترابطة "، حسبما تتمثل فيما يقال عن الدوافع الإنسانية وبخاصة في مجالات المبادئ " اللاهوتية والميتافيزيقية والتشريعية ". أما البلاغي الخطابي فيعالج أثر القول في الجمهور ويستمد مادته من المقامات البرلمانية والسياسية ومنافسات المحررين وأساليب البيع والمزايدة وأحداث " المناوشات الاجتماعية "، أما الرمزية فيتناول مظاهر التعبير النفسي ويستمد مادته من " أشكال الفن وأساليبه ". وليس من أهداف هذا الموضوع بل ليس في طوقي أنا أن اعرض معالجة بيرك لكبريات النظريات الفلسفية التي استحدثها الإنسان، وحسبي أن أقول هنا أن غايته لم تكن استخلاصاً لخير ما في تلك النظرات أو دفاعاً عنها بل كانت تشيخصاً لها أو " وضعاً " لها في مواضعها، ليستمد من كل فلسفة مفتاحها. كتب يقول: " ليست غايتي في هذا العصر أن ألخص الفلسفات القديمة أو أتحدث عنها ولكني أحاول أن أجد مصطلحات تعد مفاتيح لها جميعاً ". وكانت محاولته في أن يضعها جديداً تتطلب منه أن يبحث عن المجاز الذي يفتح أمامه سر كل نوع من أنواع الفلسفة فافتتح كتابه بالمجاز الذي يفضي إلى مسالة الخلق " الله خالق) ، وانتهى إلى الدساتير السياسية (الإنسان مشرع) بينا كان عظم الكتاب يدور حول الدراما باعتبارها مفتاحاً (أي الإنسان ممثل، وهذا خير من المجاز القديم الذي كان يقول فيه: الإنسان محارب) . وباتخاذه الدراما مفتاحاً فلسفياً استطاع بيرك أن يدرس الأحوال الإنسانية من أتفه صورها حتى يبلغ أقصاها في دراما الخلق والتكوين. ولم يتهيب بيرك اتساع الفكر الفلسفي بل ذهب يستمد مادته التحليلية من جميع المصادر حتى انه لم يتورع ان يستشهد بذكريات من سلوكه الفردي فهو يذكر مثلا كيف قرأ سانتيانا ورأى في المنام انه سائح يلبس الملابس البيض على شاطئ المتوسطة، ولم يستكبر ان ينقل ظنونه والخطرات اللاشعورية التي كانت تعتريه، وأن يقتبس ملاحظ وأسئلة

وأحلاماً مما كان يطالعه به أطفاله ليوضح مشكلات الفلاسفة. وكثيراً ما كان يوضح اللفظة بالنظر في أصلها القديم وجذرها. وبالرغم من أن كتابه هذا مخصص " لوضع " الفلسفات في مواضعها فانه ضمنه قدراً مدهشاً من الحديث عن الأدب وبدأه وختمه بالحديث عن إبسن، فتناول في أوله مسرحية " عدو الشعب " لإبسن وحلل في آخره " بير غنت ". وفي سياق الكتاب اقتبس أمثلة من شعر بوب ووردزوث، وأدب كودول وهمنجوي ورتشارد رايت، ودرس حوار " الفيدروس " ليصور قيمة الديالكتيك. وبعد أن صدر كتاب " فلسفة الشكل الأدبي " أنتقده رانسوم وأبدى ارتيابه في أن تكون الطريقة المسرحية صالحة لتناول الشعر الغنائي. وتلقى بيرك هذا التحدي فحلل قصيدة شللي " أغنية إلى الريح الغربية " وقصيدة وردزورث " على جسر وستمنستر " وألحق بالكتاب ثلاث ملاحق ليصور كيف يمكن تطبيق الطريقة المسرحية على الشكل الغنائي فكان الملحق الأول " مشكلة القيمة الذاتية " وفيه حديث عام على استغلال الطريقة المسرحية في تحليل القصائد الغنائية، والملحق الثاني هو " الدوافع والموضوعات في شعر ماريان مور " وقد طبق فيه مبادئ تلك الطريقة على مجموعة معينة من القصائد الغنائية. أما الملحق الثالث فعنوانه العمل الرمزي في قصيدة لكيتس وفيه عرض لتطور العمل في قصيدة عنوانها " قصيدة في زهرية إغريقية " وهي خير تطبيق مسهب لطريقة بيرك ". وفي كتاب " نحو الدوافع " بعض القراءات البلاغية والرمزية، فمن أمثلة القراءات البلاغية الخطابية قولهم أن المشرعين يختارون خطة التردد - كتردد هاملت - فيبحثون ويبحثون لكي يتهربوا من الوصول إلى أحكام حاسمة. وإن المنصات السياسية قد تحلل خير تحليل على الصعيد الخطابي لأنها لا تعبأ كثيراً بالنحو. أما الإشارات إلى النواحي الرمزية فمنها قوله:

إن نظريات فلسفة القوة قد تستوحى من " مشكلات الفرد نفسه حين يحس بالفحولة ". وإن رواية " قتل في الكاتدرائية " شعيرة من شعائر التطهير؛ وإن قصيدة سهراب ورستم التي نظمها آرنولد تعكس الوضع المألوف فتجعل الابن يموت بسيف أبه (لأسباب لا تخفى موجودة في ابن توماس آرنولد نفسه) . وأن تساؤل هيوم حول مسألة " النسب " وهو يهاجم مبدأ العلية وإن العقم في ما يستعمله بنثام من ألفاظ إنما يدلان على نظريات " عازبين "؛ وإن فلسفة الذرائعية وما شابهها من فلسفات تتضمن عقدة الميل إلى الأم. أما الفلسفات الغائية فتمثل المرأة الشهوية الناضجة. وإن الانتقال من الشعر إلى النثر في كتاب ما قد يمثل الانتقال من الدور الأمومي إلى الدور العائلي وهكذا. وقد نشر بيرك بعض المقالات ولم يكن يشد فيها عن مقاله في كتبه. وفي المقالات التي كتبها قبل 1941 يعيد بعض ما قاله في أمكنة أخرى. إلى مقالة واحدة عن السريانية. وهنالك مراجعات لم يجمعها وهي تتناول النقاد على اختلاف طبقاتهم ومن أهمها مراجعة دراستين صدرتا عن كولردج 1939 وفيها استغل بيرك قراءاته الرمزية لكي يظهر التفاهة في تينك الدراستين، وقد هاجم شذوذ كل من كافكا وكيركجرد ورأى إنهما يمثلان " مرحلة المراهقة التي تعيش على جلد عميرة " و " الثورة على الأب " وقال إن هذا شيء تافه إذا قارناه بما لدى كولردج من عمل رمزي. وله مقالات وقطع أخرى نشرت بعد ذلك منها " طبيعة ثقافتنا " وقد نشرنا في ربيع 1941 بمجلة Southern Review ومقالة أخرى 1942 في المجلة نفسها بعنوان " فعالية الدوافع عند ييتس " وفيها تحليل للشعر الغنائي بطريقة درامية. أما أحدث مراجعاته فإنها تدور حول النقد المعاصر فهو يراجع كتب رانسوم وتيت وورن وغيرهم مع بعض الالتفات إلى المؤلفات التاريخية واللغوية والفلسفية.

2 - قد يتوهم من يسمع عنوان " نزعات نحو التاريخ " (937) أن موضوعه الأساسي هو التاريخ، ولكن الأمر ليس كذلك، بل الأدب هو محور ما فيه، إذ هو دراسة للنزعات الأدبية من حيث هي عمل رمزي أو شعائري. أما كلمة " التاريخ " في العنوان فلا تشير إلا إلى موضع الأدب في المجتمع ولا تدل إلا على تداخل العلاقات في نزعات الأدب نحو " تحول التاريخ " والسياسية والاقتصاد. وتنقسم تلك النزعات في فئتين: نزعات القبول ونزعات الرفض، ومنها ينبثق شيء ثالث يجمع بين خير ما في كليهما، وهذا ما يسميه بيرك: " الهزلي) ، فأما فئة القبول فإنها " سنية المنزع " وتضم كل الفلسفات التي على شاكلة فلسفة وليم جيمس ووتمان وامرسون، والأشكال الأدبية مثل الملحمة والمأساة والمهزلة والشعر الغنائي والأشكال الشعائرية التي يرتكز حول مبدأ " الخوف من الزنا بالمحرمات " والخصاء الرمزي. وأما فئة الرفض فإنها " إلحادية المنزع " وتضم فلسفات مثل فلسفة ميكافللي وماركس ونيتشه، والأشكال الأدبية مثل المرثية والنقد التهكمي والمحاكاة الساخرة والتهجين الساخر والأشكال الشعائرية التي ترتكز حول عقدة " الثورة على الأب ". وأما الفئة التي هي بين بين - أي فئة " الهزلي " فإنها تتضمن تشابك العواطف المتناقضة المتصارعة، وهذه لا تكون خالصة للفئة الأولى ولا تكون خالصة للفئة الثانية. يقول بيرك: " إن الشكل " الهزلي " ليتجنب كل هذه الصعوبات ويرينا كيف ان كل عمل تزدوج فيه المادة والتجريدية والخيال والمحسوسات المجسدة والتضحية والأثرة، وهو أيضاً يهف إحساسنا حي يصبح بعض هذه العناصر متمدداً متضخماً على حساب بعضها الآخر الذي يذهب منكمشاً متقلصاً. ولا ريب في انه حين يتوازن اثر البيئة يتوازن جانباً هذه العناصر المتضاربة ".

غير إن إطلاق كلمة " الهزلي " على ازدواج ذينك النوعين من النزعات - أو اتحاد القبول والرفض - قد ضلل كثيراً من القراء لان كلمة هزلي تلتبس لديهم بالرواية " الهزلية ". وإنما أوحى إلى بيرك باستعمال هذا المصطلح انه موقف هزلي حقاً حين تجتمع عناصر القبول والرفض في عالم مقسوم إلى فئتين: إحداهما مجموعة مخلوبة بقول: نعم، والأخرى محمومة مخلوبة بقول: لا، وقد كان في مقدور بيرك أن يتنازل عن هذا المصطلح ويتخذ مصطلحاً غيره ولكنه آثره لجرسه، فيما يقول. وأياً كان مصدر هذا المصطلح فانه يمثل القيم التي يؤمن بها بيرك، ويبدو انه لا يشمل فحسب ما هو تهكمي أو إنساني النزعة أو شكي وإنما يشمل أيضاً ما يتمخض عنه مخاض الأمور الدرامية والديالكتيكية. وتحت هذا الفئات الثلاث من تلك العناصر، مبدأ واحد هو ما يسميه العمل الرمزي وهو العمل الذي يؤديه الإنسان لان له لذة في أدائه على ذلك النحو. وتتركز تلك الأعمال الرمزية في التبريك وتغيير الهوية والولادة الجديدة والتطهير وما أشبه من طقوس سحرية. ويقول بيرك: " مبدأنا الأساسي هو إصرارنا على أن الرمزية قد تعالج على إنها نوع من التسمية الشعائرية أو تغيير الهوية. أي أن الإنسان بها يكيف نفسه ليتلاءم مع أحداث متلائمة - قائمة فعلا - أو يغير في نفسه ليتكيف مع أحداث جديدة تفرضها عليه الضرورة، دعنا نوضح هذا على نحو آخر فنقول: أن شعائر التغير أو التطهير تتركز حول ثلاثة أنواع من الصور هي: التطهر بالثلج والنار والتحلل. أما الثلج فيرمز إلى الخصاء والعقم، وأما النار فتوحي بالخوف من " الزنا بالمحرمات " وأما التحلل فيدور حول انبثاق البذرة مرة أخرى من العفونة والسباخ؟ وقد نلحظ أيضاً رمزين للمنظور القائم وهما الجبل والهوة (وقد يختلط هذان أحياناً برموز الجسور

والعبور والترحل والطيران) ويتضمن الجبل عناصر من الزنا بالمحرمات لأنه يرمز أحياناً إلى الأم كما يرمز الثلج على الجبل إلى العنة وإنها عقاب ينزل بمن يقترف ذلك الإثم. وكذلك هو رمز الهوة فإنها تجمع بين الرحم والشرج، والثاني يجمع كل عناصر التطهر عن طريق التحلل والتعفن ". إذن فعلى هذا ينزع كل عمل فني إلى أن يكون شعيرة موت أو ولادة جديدة مع تغيير في الهوية، وهو تنظيم على هذا النحو أو ذاك بحسب ما يقلبه الفنان أو يرفضه من رموز التسلط. وبهذا الفهم يحلل بيرك ما لا يحصر من الأعمال الأدبية، ومن أكثرها توضيحاً لمبدأه هذا تحليلاته للرموز في أدب توماس مان (وكان مان من احب الأدباء إلى نفسه في كل مراحل حياته) . مثال ذلك انه يرى في " الجبل السحري " شعيرة ولادة جديدة، ويرى هانز كاستروب مهيئاً للعودة إلى المجتمع في النهاية بعد ان قضى سبع سنوات على جبل الأمومة وكان عقابه على ذلك الخصاء الرمزي والموت والولادة الجديدة، إذ قدر له وجود جديد في منظر الثلج - وهذه هي الشعيرة التي عاش فيها مان نفسه وانتحل وجوداً جديداً فاصبح من مشايعي القضية الألمانية في الحرب العالمية الأولى بعد أن كان مسالماً حر الاتجاه. أما " موت في البندقية " و " ماريو والساحر " فإنهما شعيرتان من شعائر الفداء والتطهر لنفس مان الفنان؛ ففي القصة الأولى كان عقاب الأثم الشهواني الذي يمثله آشنباخ هو الموت وفي الثانية قسم مان وجود الفنان شطرين شطر يمثله سيبولا وهو الفنان الردئ، شهوي ومجرم ورمز فاشي وعقابه الموت، وشطر يمثله سارد القصة وهو الفنان الطيب وقد تخلص من الإجرام بسبب موت سيبولا، ولذلك سحره القاص في النهاية مبرأ من العقاب. وأما القصص التي تتناول " يوسف " فإنها ولادة جديدة في الهوة كما إن " الجبل السحري " كان رمز ولادة جديدة على الجبل. وفي هذه القصص انتقل مان إلى جماعية أرحب من

القومية الألمانية السابقة وتطهر من إجرامية الفنان وتخلص منها فاحتقب إجرامية أوسع وهي ازدواج الجنس عند النبي صاحب الفيض والإمداد، ومن هذه النزعة تخلص أيضاً في النهاية. ويجمل بيرك رأيه في طبيعة الشعائر الأدبية عند الأديب بقوله: إن تغيير الهوية، وهو العمل الذي يجعل من الأديب شخصاً آخر، ويحفظ له ذاته في الوقت نفسه يمنحه تعقيداً كثيراً في الأحداث، أي يجعله يراها كذلك حتى إنه ليرى " الخبايا التي في الزوايا " ويوشحه بشيء من استكناه الغيب ويمنحه قوة البصيرة، ولا يعنينا هنا أن تكون بصيرته هنا على صواب أو خطأ وإنما الذي يعنينا إنها موجودة هنالك. وهذه البصيرة إما أن تجعله أحكم مما هو أو أشد حمقاً ولكنها في الحالتين تمثل القاعدة التي تنبني عليها فروع عمله وتشعباته ولذلك ترى إن يوسف في قصص مان لم يكن مهيأ النفس للنبوة - أي لارتفاع درجة البصيرة والكهانة عنده - إلا بعد أن ولد من جديد في الهوة. والولادة الجديدة تعني التكيف للتواؤم مع المجتمع لأنها شعيرة تمكن الشاعر من أن يقبل الضرورات التي خلقتها في طريقه مشكلات العرب والتشاريع. وفي الولادة الجديدة عنصر من التراجع يسبق الانبثاق، وهذا التراجع يشمل معنى عودة الجنين إلى الرحم، و " الثورة الأولى " التي أحدثها الجنين حين أحس أن كهفه أصبح له سجنا ومن ثم فإنك حين تختبر هذه الشعيرة تجد رموزاً مثل " الهوة " ممثلة للعودة إلى الرحم والعودة من الرحم. وهذا يشمل أيضاً الرهبة والخوف من " الزنا بالمحرمات " لأن الذي كبر في السن يستطيع أن يعود إلى أمه عودة المحب لا عودة طفل لم يخبر بعد النواحي الجنسية؛ وهو أيضاً يشمل الشذوذ الجنسي، رمزياً كان ذلك الشذوذ أو حقيقياً، لأنه يمثل ثورة على " قطبي " العلاقة بين الأب

والأم، ولأن طرح نير الرموز المتعلقة بالتسلط يساوي الذبح الرمزي للأب؛ وكذلك يشمل أيضاً رمزية الخصاء ومشمولات من العنة عقاباً على الأثم الرمزي؛ وقد تشمل العنة أيضاً شيئاً من صور " الخنثوية " لتغير في الهوية أحدثته تلك الشعيرة. والأشكال الأدبية نفسها أعمال رمزية فالتراجيديا شعيرة من شعائر التكفير والفكاهة شعيرة لتخفف من عبء الموقف والهجاء تفريغ لرذائل اللذات على " كبش فداء " ثم التضحية به للتخلص منها. بل إن الأديب ليعبر عن نفسه رمزياً بما يختاره من موضوع فيعبر عن عمق التعاطف في نفسه حين يقتبس من أدباء آخرين ولو كان هو يهاجم، وهو يكتب ما " يسند وجوده ". بل أن أشد المظاهر مسحة عقيلة تتضمن عناصر رمزية كالذي يلحظه بيرك في فلسفة هيوم وبنثام وإنما فلسفة " عازبين " أو قوله إن جهود باستير في التعقيم تتضمن رموزاً من التطهر والخصاء. بل إن أسوأ أي الآثار الأدبية وأتفهها تتضمن مثل تلك العناصر الرمزية فتنبئ عن الحقيقة رغماً عن أنف كاتبيها. ويقول بيرك، كأنما يردد فيما يقوله رأى بليك في ملتن وأن ملتن كان من حزب الشيطان حسبما صوره في الفردوس المفقود - يقول: قد يعلن الكاتب إنه يساند هذا الرأي أو ذاك فإذا قرأت آثاره وجدته يعلي من شأن العاندين المعادين لذلك الرأي يصورهم بأحسن مما يصور معتنقيه. وهنا تمكن حقيقة موقفه في ذاك الرأي. ويقول في موضع آخر: إذا عددنا مجموعات الصور وجمعناها معاً اهتدينا إلى العناصر الهامة المختفية في اللجج الرمزية، وعندئذ استطعنا أن نكشف عن " الموقف الحقيقي " للمؤلف، حيث يفتضح الكذب ولا ينطلي على أحد. فإذا جعل الكاتب شخصياته الفاضلة

بليدة وصور شخصياته الشريرة بقوة فإن فنه قد انحاز إلى جانب الأشرار بالرغم من " موقفه المزور " الذي يعلنه على الناس. وإذا تحدث كاتب عن " المجد " واستخدم في ذلك صور " الدمار " حكمنا إن موضوعه الحق هو " الدمار ". كيف نهتدي إلى الكشف عن العمل الرمزي في آثار هذا الفنان أو ذاك؟ يقول بيرك: نهتدي إلى ذلك بطريقتين: الأولى، أن نختبر النظام الداخلي ونرى السياق فيه، وأي تابع لأي متبوع بذلك نكشف عن محتوى الرمز بكشفنا عن الوظيفة التي يؤديها وذلك يكون بالتحليل المجاري كأن نلحظ طبيعة الصور التي يستعملها الأديب؛ والثانية: أن نفسر المضمون الرمزي في أحد الكتب بمقارنته إلى الرموز المشابهة في كتب أخرى. وأوضح الدلائل الهادية هي مجموعات الصور أو الرموز وبخاصة في التداعي، الذي يقود حتماً من صورة إلى أخرى - وهذا يشبه ما فعلته كارولاين سبيرجن في دراسة شيكسبير وما قام به آرمسترونغ في دراسة في هذا الميدان نفسه - وقد يلج الإنسان إلى ربط الرموز على خط غير مستقيم، وهناك أمور هامة لابد من ممارستها، منها عناوين المؤلف، فقد لحظ بيرك مثلاً أن هويسمان حين انتقل من المذهب الطبيعي إلى الكاثوليكي كانت كل عناوينه أثناء اعتناق المذهب الأول والثاني " أسماء ". أما عناوين كتبه في فترة الانتقال فكانت " حروف جر ". ومن الأمور الهامة أيضاً البدء والختام، وتوقف الاستمرار على نهج واحد كالانتقال من الشعر إلى النثر أو عدم استيفاء المجاز أو عدم استيفاء المادة نفسها بل إن التوريات والعلاقات الصوتية ذات أهمية رمزية [كالذي يجد في كلمة حضرموت إيحاء بمعنى الموت فلا يسافر إليها] . بل يغالي

بيرك في هذا فيرى في ترديد حرف مثل " م " معاني، ويرى في ترديد حرف مثل " ك " معاني أخرى وهكذا سائر الحروف. ثم أن التاريخ نفسه هام في الهداية إلى العمل الرمزي ولذلك يتحدث بيرك عن تنقل شيكسبير من مجموعة صور إلى أخرى ويحاول أن يقرن ذلك إلى نقطة تحول في التاريخ نفسه. وفي آخر الكتاب ثبت بالمصطلحات التي استعملها بيرك وتفسير لها. وقد عمد عمداً إلى وضعها حيث وضعها لأنه يرى أن الترتيب المعجمي معكوس فلابد لك لكي تدرك معاني الكلمات التي تبدأ بالهمز من إدراك معاني الكلمات التي تبدأ بالحروف المتأخرة، ولذلك فهو لا يعرف مصطلحاته إلا بعد ان يجريها في الاستعمال. ويقول في هذا: " لقد رأيت في هذا المقام ان أدع للقارئ ان يلتقط ما استطاع التقاطه من معاني المصطلحات، فأجريتها في الاستعمال لتكشف هي بذاتها عما أردته لها. أي إنني أريد لها أن تشف وتوحي وان تزداد دلالة على المعنى كلما كثرت صفحات الكتاب، ولذلك عمدت إلى وضعها في قرائن مختلفة. ومن ثم أخرى التعريفات حتى النهاية لان كل مصطلح حينئذ قد ينكشف لعيني القارئ من خلا معرفته للمصطلحات كلها على ذلك النحو المتدرج ". وهذا عمل إليه بيرك كثيراً أي أنه يضع معجماً من المصطلحات ويلحقه بكل كتاب من كتبه ليجمل فيه فحوى ذلك الكتاب إذ أنه يعتقد أن آراءه مصطلحات. وقد وضع في كتابه " التغير والثبات " معجماً يضم كل الأفكار والمبادئ التي استحدثها حتى عام 1937 مثل: الهوية. طقوس الولادة الجديدة، الصلاة الدنيوية، التجريد، العناقيد، الجوهر. الصور. حياة الخير. مشكلة الشر. المنظور من خلال التباين. ومن هذا ترى ان بعضها رمزي وبعضها مصطلح نقدي وبعضها يعبر عن نظرات اجتماعية

ومنها ما هو عام لا يحد بصفة واحدة. وليس لدينا من طريقة نعرض بها هذه المصطلحات أو نلخصها وخير ما يستطيعه القارئ ان يرجع إليها مصحوبة بقرائنها في كتبه. ولنمثل على مصطلح واحد منها هو مصطلح " الطائفة ": يقول بيرك: " أن من يهديهم خطر التعقب والإحراج والمطاردة يردون على هذا الخطر بتكوين تجمع جديد، ويمدهم تعاونهم بقاعدة جديدة يتمركزون فيها، ومنها يهجمون على أعدائهم ليسرقوا منهم رموز السلطة المقررة. والطائفة مهددة دائماً بالتقسيم السلبي ما دامت تعيش على عناصر الرفض. وقد وضح ترولتش الدور الذي لعبه تعلم القراءة والكتابة في الطائفية لان الطائفية تفكير " عصبة محدودة " ولا يتم لها التعبير الكامل عن ذاتها إلا حين تنضم إليها مثيلاتها. أما انتشار القراءة والكتابة فأنه خلق عصبة جديدة ذات تفكير جديد لان المرء يجمع " عصبة " من خلال القراءة ولو كان أفرادها موزعين في كل أرجاء المعمورة وفي كل فترات التاريخ. وقد كان القرن التاسع عشر زاخراً بعصب الطائفية من فئتي الماديين والروحانيين وكانت هنالك أيضاً عصائب النظم العلمية، وكان الرجل يكيف ذاته بالانتساب إلى عصبة أو أخرى من تلك العصائب المتعاونة على أهداف غامضة غير محددة ". وبين المصطلحات والأمثلة عند بيرك فرق واضح. فمصطلحاته تذهب في التجريد إلى حد بعيد حتى إنها تعجز عن أن تطيف بالسلوك الأدبي أو الاجتماعي، أما أمثلته فإنها دائماً أدبية، وهي مستمدة من القديم والحديث على السواء. وكتاب " نزعات نحو التاريخ " مهتم كثيراً بتصنيف النزعات ووضع مصطلحات - أو معجم - للدوافع، أي انه مهتم بالمادة الأدبية والبلاغية الجدلية ويعتمد في المادة البلاغية الجدلية على بنثام وماركس وبيرس وفبلن

ومالينووسكي. وقد وضح بيرك في الوقت نفسه انه ليس هناك أي تقرير عن الدوافع إلا وهو نفسه عمل رمزي، ولذلك مضى في الكتاب يتحدث كيف ان نظرياته ومصطلحاته تعبر عنه أيضاً بطريقة رمزية فقال إن شغفه بالحديث عن البيروقراطية إنما يصدر عنه لان فيه ترديداً لاسمه - بيرك -. وعد ألفاظاً كثيرة يؤثرها لأنها تبدأ بحرف P -[الشعر] متكأه للرفض بل يراه مرادفاً لمبدأ الرفض. وينبه إلى شغفه بكلمة " تحول " وأنها تعبير رمزي عن معاني التغير والأثم والموت والشهوة. وهو يؤمن أن اتخاذه تعبير " المنظور من خلال التباين " يرمز إلى الخصاء الرمزي بل يرى بيرك أيضاً معاني رمزية في الألقاب التي اسبغها على أطفاله، ويقول: حقاً أن مثل هذه الأمور ترسل إشعاعاتها في اتجاهات عدة؟ فنحن نستطيع أن نعتبر المبادئ النقدية رموزاً؟ وقد استغل بيرك دوافعه وتجاربه الماضية واعمل فيها النظر الممعن فلحظ في " الثبات والتغير " كيف غضب وهو طفل حين سمع أن الأسود من فصيلة القطط لأنه كان يظنها أنقى واكبر نوعاً من الكلاب، واتخذ في (فلسفة الشكل الأدبي " اسماً لإحدى شخصيات قصصه وكان ذلك الاسم يذكر بكلمة نابية. وهذه حيلة بل خدعة نقدية استعملها بيرك، اعني انه بالكشف عن المعاني الدقيقة في آثاره وكتاباته يستطيع أن يزاول هذا نفسه في آثار غيره دون ان يتهم بمجاوزة الحد، بل يجد عمله ما يبرره ويقويه. ولا ريب في أن بيرك لا يبرهن على شيء جازماً فهو يوحي ولا يقرر، ومع الزمن تصبح كشوفه قيمة لأنها استبصار ونفاذ في آثار هذا أو ذاك من الشعراء والنقاد ولكنها لا تصلح أن تتخذ مقياساً عاماً. ويقول بيرك في الحديث عما وراء دوافعه الذاتية هو من عوامل وتيارات:

" كأنما نحن نبيح الناس أن يسلطوا العيون على المكنونات ليثيروها من مكامنها؟ ونحن نؤمن أن آثار كل امرئ يمكن جلاء مخبآتها أن اشتملت إخلاصاً في التنظيم؟ بل أنا لنرضى ان نكشف عن ما فيها إذا تقدم إلينا صاحبها وقال لنا أتحداكم لأن كتاباتي ليست غلا محض هراء ببغاوي. وأقول: ان كل شخص يستطيع أن ينتحل الزيف والدعوى في الظاهر. أما في أعماق صدره فليس ثمة مسرب للكذب لأن الفيلسوف أو الأديب الغارق في حومة الموضوع لابد له من تنظيم تعبيره عنه، ولا بد لتعبيره ذاك من أن يحتقب هذه العمليات النفسية، ذلك حتم لا مفر منه إلا أن كان للأديب جسم من نوع آخر يخالف أجسام الناس الآخرين فان شاء فيلسوف أو ناقد مستنير أن يتحدانا وزعم ان ما ينشئه لا يتموج من تحته تيار، قلنا له رضينا ان ندلك عليه وأخذنا في تتبع المعالم والدلالات ". وما أظن أحداً تحدى بيرك في هذه الناحية ولذلك فنحن قد خسرنا البرهان الذي يقنع المتشكك، وحصلنا على البرهان السلبي الذي يقدمه إحجام المحجمين عن التحدي. 3 - في أساليب بيرك إثارة وطرافة ولكن لا يحسبن أحد أن دراسة الأدب من طريق العمل الرمزي حديثة خالصة، فهي ذات أصول قديمة. فمثلا موقف أفلاطون من الشعر وانه يحدث أثراً سيئاً في الجمهور، يعتمد في معظمه على العمل الرمزي في ذلك الجمهور. ويقول أفلاطون في الجمهورية على لسان سقراط: " في المصائب نشعر بجوع طبيعي ونرغب في أن نتخلص من أحزاننا بالبكاء والنواح، وهذا الشعور الذي قد نضبطه عند المصائب يغذيه الشعراء ويثيرونه ". أما أرسطوطاليس فانه مفترع هذا

اللون من النقد أيضاً فقد أكد قيمة العمل في المسرحية ونص في كتاب الشعر على ان " السعادة والشقاء ليسا حالين موجودين معنا وإنما هما شكلان من أشكال الفعالية وأن كون المرء خيراً يتمثل في أنه يعمل خيراً " وبذلك جلنا أرسطوطاليس نرى في الشفقة والخوف عملين رمزيين في الجمهور لا حالتين من حالاته، يستثيرهما العمل الرمزي في المسرحية. وقد شارف كولردج حدود هذا الاتجاه أيضاً حتى ان قصيدته " الملاح القديم " و " قبلاي خان " عملان رمزيان كاملان، ولم يتعد كولردج وقفته عند الحد وربما كان ذلك ناجماً عن بعض كبحه لنفسه عن الإيغال فيه إلا انه في الحق قد وضع القاعدة النظرية لهذا المذهب حين تحدث عن المجالات العقلية اللاشعورية. وقد لحظ في " محاضرات عن شيكسبير " أن العناوين والمشاهد الأولى في روايات شيكسبير ذات أهمية متميزة، ولكنه يعزو أهميتها إلى التفنن الواعي لا إلى عمليات اللاشعور. وقد مضى رسكن في هذا الاتجاه شوطاً آخر حين حلل المعاني المستكنة في أسماء الشخصيات عند شيكسبير على نحو مشبه لطريقة بيرك، وهو يقول في هذه الناحية: أما عن الأسماء التي يستعملها فإني سأتحدث من بعد حديثاً مسهباً. ولكني اقرر هنا أنها مزيج من عدة لغات، وقد سبق أن استبانت معاني ثلاثة منها؛ فمثلا: دزديمونه اسم يعني في الأصل " الحظ التعس " وعطيل يعني " الحريص " فيما اعتقد وكل ما في الرواية من نكبات ومآس ناجم من تعنته الحريص، وأوفيليا، معناه " التفاني في الخدمة "؟ أما هاملت فربما اقترن اسمه بكلمة Homely الدالة لى الحياة البيتية، إذ تقوم فكرة المسرحية على الإخلال بواجبات الحياة البيتية وعلاقات الأسرة؛ وأما تاتيانا فأنها مشتقة من لفظة تعني " الكلمة "؛ والاسمان بنديك وباتريس مأخوذان من

لفظتين تعنيان " مبارك وبركة " واياجو ربما كانت مأخوذة من يعقوب [ياجوب] أي الذي يخلف ويعقب. وهناك ملاحظ منثورة عن العمل الرمزي تنبه لها دارسو الطبيعة الإنسانية في الماضي ولنذكر بعضها على سبيل التمثيل العابر: لحظ غوته؟ حسبما يقول اكرمان - أن مواهب النساء تخمد بعد الزواج وإنجاب الأطفال وهذا مما قد يحمل على الظن بأن آثارهن الفنية غنما هي نوع من تسامي الدوافع الجنسية أو دوافع الأمومة (أي عمل رمزي) . وفي مطلع هذا القرن أصر برونتير في مقال عنوانه " فلسفة موليير " على أن طرطوف يمثل روح الصراع والتحدي، كما انه يرمز إلى العداء المستعلن (أي انه عمل ورمز معاً) . ولحظ برنارد شو في " جوهر الابسنية " أن اقتباس الكاتب من الكتاب المقدس يشير إلى عدم ارتياحه لهذه الأمور الموشحة بالتوثيق (فهو عمل رفض من خلا المغالاة في القبول والتوثيق) . ومنذ أن ظهر فرويد أصبحت هذه الملاحظ أموراً عادية مألوفة وأخذ المحللون يعنون دائماً بمشكلات العمل الرمزي. فمثلا ذهب اريك فروم إلى ان المبادئ الدينية والسياسية تعبيرات رمزية عن مبنى الشخصية عند من يعتنقونها. وقد سبق أن اهتدى كثير من الكتاب إلى بعض الأفكار والمبادئ التي يقول بها بيرك. فمثلا اهتدى تولستوي في كتابه " ما الفن " إلى ما سماه " نزع الملكية سيكولوجياً " وهذا ما سماه بيرك: " تحويل الملكية " يقول تولستوي: (أما في الدين فأن الطبقات العليا في العصور الوسطى وجدت نفسها في موقف كالذي كان عليه المثقفون الرومانيون قبل ان تظهر المسيحية أي أنهم لم يعودوا يؤمنون بدين الجماهير ولكنهم لم يكن لديهم معتقدات الكنيسة البالية التي كانت قد فقدت

معناها في نفوسهم ". ولدى بيرك ما يسميه " الإحراج والمضايقة " وشبيه بهذه الفكرة قول تولستوي: ان مبدأ الكنيسة نظام متكامل حتى إنك لا تستطيع تغييره أو تصحيحه إلا وتحطمه جملة ". وايرفنج بابت سبق بيرك في كتاب " روسو والرومانتيكية " إلى أن " تحويل الملكية نفسياً " يؤدي إلى حركات من السلبية والشيطانية والبريونية. وتوصل رتشاردز إلى الكشف عن جانب من العمل الرمزي في بعض الدوافع مع ان اهتمامه موجه إلى قدرة بالغة على النقل والتوصيل لا على التعبير؛ يقول رتشاردز في كتابه " رأي كولردج في الخيال ". أن الأساطير العظيمة ليست أوهاماً بل هي منطوق النفس الإنسانية كلها وهي من ثم لا يحيط بها التأمل ولا نأتي على كل ما فيها وهي ليست متعة أو معاذاً للهرب حتى يتطلبها من يتطلبها للراحة والفرار من حقائق الحياة القاسية ولكنها هي تلك الحقائق القاسية نفسها معروضة ممثلة، هي الإدراك الرمزي لتلك الحقائق ومحاولة لخلق الانسجام فيما بينها وتقبلها بالرضى. ومن خلال تلك الأساطير تستجمع إرادتنا وتتوحد قوانا وينضبط نمونا ومن خلالها أيضاً يتزن كياننا المضطرب ويلتئم وجودنا المشعث. وبهذه الأساطير يطمئن التناقض وينسجم النشاز في الأشياء ومن خلالها حصلنا على التكامل الذي يجعل منا أناساً " متمدنين ". وأخيراً أشير إلى قولة لورنس " أن المرء ليسكب أدواءه في الكتب " وهي عبارة تشير إلى ما يسمى العمل الرمزي في آثار الفنانين على مر العصور. أم بيرك لا يعتمد في مذهبه الذي اختاره على من سبقه في حقل

العمل الرمزي باستثناء كولردج وغنما يعتمد في ذلك على مجموعة من الفلاسفة والمتفلسفين يشبهونه شبهاً غريباً في منحاهم الشاذ المتفرد: وهؤلاء هم أهم من يستمد منهم: 1 - جرمي بنثام الذي ذكره هازلت في كتابه " روح العصر " وإذا قرأت ما كتبه هازلت عنه وجدته ينطبق على بيرك نفسه - إذا شئت أن تهاجمه لا ان تترفق في الحكم عليه - حتى لتقول إنهما في المصطلح الفلسفي الشاذ الذي يشتمل على حدة وعلى معنى بعيد يتمنى المرء لو استطاع أن يفقهه. وقد رأينا كيف أن بنثام حاز إعجاب رتشاردز ايضاً، مثلما حاز إعجاب بيرك الذي يعده مؤسساً للدراسة اللغوية الجادة، ويضعه في كتابه " الثبات والغير " على مستوى دارون ويقول أن كلا منهما قد تقسم في " آلاف من الذوات والنفوس ". غير انه لا يؤمن بمذهب بنثام الذي يرمي إلى تجريد اللغة من المجاز للتخلص من الشعر والخطابة ويرى في هذا المذهب رمزاً عن الخصاء. إما المذهب النفعي اللاديني الذي قال به بنثام فأن بيرك يعده مذهباً دينياً دنيوياً أو نوعاً آخر من نظرية " القاعدة الذهبية ". ويعد تحليلات بنثام للكلام وتصنيف أنواعه كشفا بالغ القيمة مفيداً إن أنت حذفت منه فكرة التخلص من المجاز. ويصرخ في كتاب " النزعات " بان " خير ما في بنثام وماركس وفبلن هو الهزلية الرفيعة " ويعزو إلى بنثام الفضل في تجريد الأمور من الحواشي والمبالغات، حتى عن كثيراً من المتطفلين لم يصنعوا شيئاً سوى التحلق حول مائدته العبقرية. ويستغل بيرك آراء بنثام في كتابه " نحو الدوافع " عدة مرات، غير أنه في الكتاب ذاته ينصب لتجريد نفسه بعض آرائه التي يجرد فيها آراء الناس من الحواشي والتافه والمغرق ويصف آراء بنثام بأنها " رمز خصاء لرجل عازب " ويفسر تلك الآراء تفسيراً رمزياً مستمداً من بنثام نفسه، ويقول ان تلك الآراء منبثقة من طفولة بنثام الذي يخاف الأشباح خوفاً شاذاً فلما كبر أصبح يخاف " عملية التخيل " في اللغة. 2 - كولردج: وبينه وبين بيرك شبه قوي جداً ولا يستطيع أحد

أن يقرأ كتابات كولردج وبخاصة " السيرة الأدبية " دون أن يفطن إلى هذه المشابه في الأفكار والأساليب وفي الشذوذات أيضاً. وقد أعجب بيرك بكولردج وكتاباته من حيث هما دراسة للعمل الرمزي ولذلك فان نواة مقالته " فلسفة الشكل الأدبي) غنما هي تحليل لقصيدة " الملاح القديم " كما أن إحساس كولردج بدقائق الجرس جعله يقتبسه كثيراً لإثبات فكرته عن موسيقية الشعر، كما ان اهتمام كولردج بالنواحي اللغوية جعل بيرك يكثر من اقتباس آرائه. وقد عده بيرك بين " اعظم النقاد في أدب العالم ". وهو في نظره يقف على النقيض من بنثام، لأنه لا يحط من قيم الأمور او يعمد إلى إظهار ما فيها من زيف وإنما يتجه إلى الرفع من شانها، ويرى في المصالح المادية خطوة أولية نحو المصالح العلوية. وقد ذكر بيرك في إحدى مقالاته بأنه يعد كلمة عن طريقة كولردج ولكن تلك الكلمة لم تر النور، فيما يبدو، أو لعلها دخلت في غمار المحاضرات التي ألقاها عن كولردج في صيف 1938 بجامعة شيكاغو. وقد نبه في تلك المحاضرات إلى ما في موضوعه من مشكلات وإلى ما يمكن أن يجنبه من يتمرس به من ثمرات، فقال: أحاول في هذه الآونة ان أقوم بتحليل لكتابات كولردج لأبرز فيها العمل الرمزي ولكن فكره المعقد يجعل عملية الفرز والتصنيف عسرة؟ غير أن هذه المحاولة تستاهل ما يبذل فيها من جهد لان من يحاولها يستطيع أن يستعمل أمرين هامين: الأول: أن كولردج كان كثير التقييد فخلف لنا سجلا كاملا يعين على دراسته وكان يستعمل نفس الصور في قصائده ونقده الأدبي ورسائله السياسية والدينية ورسائله الاخوانية ومحاضراته وتقييداته التاملية. ومن ثم كانت لدينا جسور ننتقل عليها من مجال إلى آخر لأن الصورة لديه تمكنا من أن

ندرك نفسيته عن طريق موضوعي أو تشريحي. وأما الثاني: فان لديه مع ذلك الفكر المعقد تيسيراً يسهل الدراسة، وأنا أشير بهذا إلى إدمانه المكيفات. ولم يكن الحديث عن كولردج احب الموضوعات إلى بريك فحسب، بل كان هو الراية التي ينضوي تحتها. ولذلك اعتبر كولردج خالقاً موجداً للسريالية، في مقال كتبه عن هذا المذهب، وذهب إلى أن قصيدة " قبلاي خان " ابرز أثر سريالي، وإلى أن تفرقة كولردج بين الخيال والوهم هي أساس ذلك المذهب، وأكد أن بدعة كيركجرد وكافكا يجب أن تسمى بدعة كولردج. وفي مقاله " مشكلة القيمة الذاتية " تناول التهمة التي يرددها الأرسطوطاليسيون المحدثون من النقاد ضد خصومهم حين يصفونهم بأنهم كولردجيون أي أفلاطونيون أي ينظرون إلى الشعر بطريقة استنتاجية لا استقرائية - تناول بيرك هذا الاتهام فوقف في صفه وقال إن الأرسطوطاليسيين المحدثين في أحسن أحوالهم النقدية وأقيم دراساتهم، كولردجيون في حقيقتهم. 3 - ثورشتين فبلن الأميركي الوحيد بين هؤلاء الثلاثة. ويستقل بيرك عن رتشاردز في الاعتماد على هذا المفكر. إلا إن أثر فبلن فيما يبدو آخذ بالتلاشي، إذ يعتمد بيرك في " الثبات والتغير " على مبدأ فبلن: (العجز المدرب " اعتماداً قوياً ويتخذه المجاز الذي يفهم الأشياء من خلاله ويمط فيه حتى يجعل منه ظاهرة اجتماعية وسيكولوجية وأدبية كالذي يسميه الجشطالتيون " الجشطالت الردئ ". ولفبلن نظرية اقتصادية عبر عنها بكتابه " نظرية الطبقة الفارغة " وهي نظرية جعلته موضع التقدير الكثير إلا من الاقتصاديين أنفسهم، ويقف بيرك أيضاً من هذا الكتاب في صف الاقتصاديين، فلا يقول فيه ما يقوله الآخرون " انه اعظم إسهام في ميدان الفكر ". ويفضل على النظرية السابقة نظرية أخرى لفبلن هي:

" نظرية العمل "، ويرى فيها خير تحليل لفلسفة الرأسمالية. ويفيد بيرك من مبادئ أخرى لفبلن ويستغلها في كتابه " الثبات والتغير " وبخاصة فكرة فبلن التي ترمي إلى رفض الثنوية المانوية ووضع الغرائز المتعارضة في مكانها ثم يقل اعتماد بيرك على فبلن في " نزعات نحو التاريخ " إلا أنه يلحظ ان فبلن يمثل " الهزلية الرفيعة " مثل ماركس وبنثام، ويقتبس مصطلحه " العجز المرتب " ويحوله إلى ما يسميه " التباين المرتب ". ويعود في " فلسفة الشكل الأدبي " فيكثر الاقتباس من فبلن إلا أنه لا يقتبس منه إلا آراء في الميدان الاجتماعي، ولم يعد فبلن في نظر بيرك ناقداً مجازياً لكل حضارتنا، ثم يسكت عنه في " نحو الدوافع " فلا يشير إليه أبداً. 4 - 5 -: وهناك اثنان من المفكرين اعتمد عليهما بيرك بعض اعتماد وهما ستورات مل وبيرس، وبينهما وبين بيرك بعض المشابه، وقد أشار بلاكمور إلى شبه بيرك بالثاني في تفرد التأمل الفكري عند كليهما، لا في المصطلح. وبالجملة: استمد بيرك من كثير من المفكرين. وهو من تلك القلة التي أدت في النقد من كتاب لفجوي " السلسلة العظمى للحدوث "، كما انه أفاد جيمس وديوي وبرغسون ومن عدد غيرهم من المحدثين. ولا تتجاوز استفادته من أحدهم - أحياناً - اخذ فكرة أو اثنتين يجمع بينهما بيرك مهاجماً أو متناقصاً، وأخيراً كان أرسطوطاليس في آخر كتبه هو المؤثر الأكبر في فكره، فهو أستاذه الذي اعترف له بتلك الأستاذية ولم يعترف بها لأحد قبله. أولئك هم الذين اثروا في بيرك فمن هم الذين تأثروا به في النقد المعاصر؟ تستطيع القول انه مثل رتشاردز ذو اثر شامل - على الأقل

في اميركة - أما الرجال الذين يعملون متأثرين به من الأميركيين فهم بلاكمور ومالكولم كولي وفرنسيسي فرغسون وهاري سلوشور. وقد تحدثنا من قبل عن علاقة الأول به. أما كولي فانه لم ينشر كتاباً في النقد ولكنه يزمع اصدرا كتاب عن الأدب الأميركي من مجموعة من المقالات ظهرت في المجلات ويبدو أن الكتاب سيكون هاماً ضخماً. أما القطع التي نشرها في المجلات خلال الحقبتين الماضيتين فقد أفاد فيها كثيراً من مبادئ واصطلاحاته واستطلاعاته، وحولها إلى ما يفيده في غاياته وبسطها بعض التبسيط وطبقها على أدباء لم يعن بهم بيرك. كما أن الدراسات التمهيدية التي قام بها عن همنجوي وفولكنر لإحدى دور النشر تعد دراسات من الطراز الأول في مجال العمل الرمزي، وهما أول فحص جاد يطبق على كل من الأديبين المذكورين. وأما فرغسون فهو أيضاً مثل كولي، مشغول في هذه الأيام بكتابة أول كتاب له في النقد بعد سنوات كثيرة قضاها وهو ينشر في المجلات غير أنه تأثر بآراء بيرك أخيراً وتحول بهذه الآراء لخدمة غاياته. فمثلا تناول مصطلح (ناقد مسرحي " وحط منه حتى اصبح يعني مراجعاً شبه متعلم يراجع الروايات ويكتب عنها للجرائد إلا أن فرغسون أمضى حقبتين وهو ناقد مسرحي أصيل، ناقد للأدب المسرحي وللتمثيل، وهو خير ناقد لهذين في أميركة. ولنقده ثلاثة اتجاهات الأول: مبدأ جمالي أخلاقي يرى الفن غاية فهو - أي الفن - لا يهتم بالعلاقات الخارجية وهو شيء يستساغ ويقاس وينظم وهذا المبدأ مستمد من الكلاسيكيين المحدثين وذوي النزعة الإنسانية المحدثة ومن نقاد اتباعيين مثل ماريتان وبندا وفرناندز وبابت واليوت ومن كلاسيكيين قدماء مثل دانتي. وبهذا المبدأ كشف فرغسون عن زيف الزائفين وفجاجة غير الناضجين من يوجين أونيل حتى سلدن ردمان، (يرى فرغسون ان المحدثين يمسخون الروح ويحطون

الخلق ولكن هذه النظرة التحقيرية لم تحل بينه وبين تقدير أدباء غير كلاسيكيين مثل لورنس) . الثاني: اتجاه مستمد من الدراما الإغريقية الشعائرية كما فسرها أرسطوطاليس، وبلغ بها سوفوكليس درجة الكمال في " أوديب الملك "، وهو يطبق هذا الاتجاه على الدراما الحديثة الرصينة من ابسن وتشيخوف حتى لوركا وكوكتو. الثالث: تطبيق الاتجاه الثاني الدرامي على الأدب غير الدرامي وهذا اتجاه قد عبر عنه بمجلة " الكلب والنفير " عدد تموز - أيلول 1933 عندما راجع كتاباً لبولسلافسكي عنوانه " التمثيل: اول دروس ستة " فاقترح اتخاذ المقاييس الدرامية لدراسة الشعر الغنائي. ثم طبق هذا المبدأ في عدد آخر من تلك المجلة خاص بدراسة جيمس، حين تناول دراسة العناصر المسرحية في قصيدة " القعب الذهبي ". وهذا الاتجاه هو الذي ربط بين فرغسون وبيرك، وبما أن بيرك انتهى في مذهبه إلى تحكيم النقد المسرحي وإلى العناصر المسرحية الخمسة فقد استمد فرغسون كثيراً من مبادئه مثل فكرة الثالوث المكون من " الغاية والعاطفة والإدراك " وهي المراحل الثلاث الكبرى في الدراما الشعائرية، وجعلها فرغسون حجر الزاوية في نقده. وراجع فرغسون أيضاً كتاب " نحو الدوافع " وكانت خير مراجعة له، وفيها أعلن من خلال الثناء عن اتفاقهما في كثير من الأمور واختلافهما في مجالات محدودة. ومما خالفه فيه موقفه من الواقعية في روايات القرون الوسطى، فقد استخف بيرك بهذه الواقعية برحي من نظرته العقلانية الخالصة. ويزمع فرغسون إصدار كتاب في النقد، أتيح لي قراءة بعض فصوله المخطوطة ومنها فصل ظهر بمجلة كينيون ربيع 1947 ويشمل الكتاب دراسة للمسرحية بعد شيكسبير من حيث هي تطور جزئي لمبدأ " الغاية " أو " العاطفة " أو " الإدراك " لا من حيث هي شعائرية كما كانت في حال سوفوكليس، وتشهد هذه الدراسة على أنه سيكون للكتاب شأن أدبي هام.

وأكثر من ذكرتهم تأثراً ببيرك واستمداداً لآرائه هو هاري سلوخور، فقد جمع هذا الناقد بين آراء ماركس وفرويد والجشطالتية مثلما جمع بيرك بين التكامل الاجتماعي النفساني، غلا أن سلوخور يتكئ أكثر من بيرك على الماركسية والموروث الفلسفي الألماني. وقبل ان يدر بالإنجليزية كتابه الأول بعنوان: " ثلاث طرق أمام الإنسان الحديث " Three Ways of Modern Man سنة 1937 (اصدر بالألمانية أول كتاب له بعنوان رتشاردز ديهمل ولكني لم أقرأه) كان قد اطلع على مصطلح بيرك ووجد فيه معواناً على التعبير عن أفكاره. وقد ظهر الكتاب مصدراً بكلمة من بيرك وهو ينم عن كثير من مصطلحات بيرك ومبادئه واستطلاعاته ومقتبسات منه. إلا أن سلوخور يتجه فيه إلى إبراز دور القصة الطويلة في التعبير عن " أيديولوجيات " فلسفية، وهذا يخالف اتجاه بيرك إلى إبراز العمل الرمزي الفردي. ويعتمد سلوخور على ثالوث مكون من الشيوعية الإقطاعية والحرية البرجوازية والنزعة الإنسانية الاجتماعية ثم يسمي هذا ثالوث: الوحدانية والثنوية والجدلية بل يسميه أحياناً الأب والابن والروح والقدس. أما الكتاب الثاني الذي أصدره سلوخور فعنوانه " قصة يوسف لتوماس مان " (1938) وهو يشبه مؤلفات بيرك في انه تحليل مطول لأثر فني مفرد معقد وتحليله على غير صعيد واحد وترجمته إلى معجمات متعددة، غير ان سلوخور لا يفارق فيه النص على الأيديولوجية الجماعية، وأكثر كتبه طموحاً هو ثالثها وعنوانه " لا صوت يضيع بالكلية " No Voice is Wholly Lost (1945) وهو محاولة للنظر في كل الأدب المعاصر بدلا من دراسة بضعة نصوص تفصيلاً. وفي الكتاب بصر نافذ ولكن استطلاعات المؤلف غير متكاملة لان الميدان الذي يجوبه رحب مترامي الأطراف كما أن معالجته للأميركيين المعاصرين ضعيفة فهو يضع البراذين من أمثال شتاينبك إلى جانب مارلو ومان والثقلاء المجوفين مثل ولف

إلى جانب كافكا وريلكه وربما نزع إلى التهوين من شأن أدباء كبار أمثال همنجوي وفولكنر، ومن ثم كان كتابه في جملته مخيباً للآمال. غير أن توسيعه وتطبيقه لاصطلاحات بيرك، في مجال نغاير، يدل على سداد وتوفيق وهو على وجه العموم مطلع جيد الإدراك ذو أسلوب ومنهج مرسوم، ولديه من العدة ما يعينه على أن يبلغ شأواً طيباً إذا هو تخلى عن النظرة العامة العابرة وذهب يعمق نظرته في الأغوار. وهناك شخص لعله آخر من يقدر فيه التأثر بآراء بيرك، وهو أيفور ونترز الذي كان من اقدم من استمدوا من آراء بيرك وطبقوها، وقد أشار ونترز إلى هذا في كتابه الأول " البدائية والانحطاط " الذي ظهر عام 1937، فقال في فاتحة الكتاب بنغمته الفذة المميزة: استعملت مصطلح بيرك حيث وجدت إلى ذلك سبيلا واعترفت بذلك لكي أتجنب تكثير المصطلحات. وقد بدأت تحليلات الأمور البلاغية في نفس التاريخ الذي بدأ فيه بيرك غير أني تخليت عن هذا الاتجاه، واستمر هو فيه، لأني لم أكن أراه اتجاهاً مثمراً. ثم عدت إلى هذا النهج حين استكشفت سر القيمة البلاغية وإمكان خلق مبادئ جمالية تقوم على مثل هذا التحليل. والفرق بيني وبين بيرك غني نجحت في هذا السبيل واخفق هو، وسيجد القارئ في كتابي هذا صورة النزاع القائم بيننا. ومضى ونترز في هذا الكتاب يفيد من مصطلح بيرك الموجود في كتابه " مقولة مضادة " وكان اشد المصطلحات اجتذاباً له هو " التقدم الكيفي " المستعمل للدلالة على نوع من المبنى الشعري ولكن اقتباس المصطلح وطرح الأفكار التي يعبر عنها محاولة مقضي عليها بالإخفاق، ولذلك كف عنها ونترز وخلق لنفسه معجماً آخر.

ولقد أقر ونترز بدينه لبيرك وهو ينازعه وهو ينازعه ويخاصمه ومع ذلك فانه أكرم خلقاً من بعض النقاد الآخرين - أمثال أدموند ولسن وفيليب راو - الذين استمدوا مبادئ بيرك ولم يعترفوا له بالفضل. وهناك كثيرون من الشعراء والنقاد بانجلترة منهم فرنسيسسكارف وكرستوفر هل يعرفون آثار بيرك أو اهتدوا مستقلين إلى كثير من مبادئ العمل الرمزي التي اهتدى إليها. ويكاد كل ناقد في أميركة أن يكون متأثراً به، فاستمد منه رانسوم وتيت وورن وبروكس واثنوا عليه ثناء جزيلا بينما كانوا يخالفونه في الاتجاه كما أن بيرك اعتمد على استطلاعاتهم ومدحهم واشتباك مع رانسوم من بينهم في جدل أدبي مسهب طويل. ولما درس ورن قصيدة " الملاح القديم " استفاد من آراء بيرك في هذه القصيدة ومن المبنى العام لطريقته بينا نازعه بشدة حول آرائه في تناول كولردج للمكيفات ومشكلاته الزوجية. وقد راجع بيرك كتاب ورن هذا في مقال نشره بمجلة شعر في نيسان 1947 فأثنى على دراسة ورن وقال إنها ذات " قيمة فذة " ثم ذهب يقاوم الآراء المخالفة فيها متجهاً الاتجاه " الشخصي " الذي عابه عليه ورن في مقاله ملحاً عليه أكثر من ذي قبل واصلاً به كل كتابات كولردج الأخرى. وهناك راندل جرل وقد كتب دراسة تحليلية واحدة - على الأقل - تحمل طابع بيرك، وعنوانها " التغير في النزعات والبلاغة في شعر أودن " ونشرها في المجلة الجنوبية، خريف 1941 وصرح في فاتحتها قائلا: " لقد استعرت عدة اصطلاحات من كتاب بالغ الجودة اعني كتاب " نزعات نحو التاريخ " لكنث بيرك، وأحب ان اعترف بذلك في هذا المقام ". وقد طبق جرل تلك الاصطلاحات بلباقة في الكشف عن العمل الرمزي والبلاغي في شعر أودن. كما أن دلمور شفارتز وعدداً من الشعراء الشبان أفادوا من بيرك في نقدهم، واستغلت موريل روكيزر مبادئه في شعرها

واعترفت بان قصيدتها " النكباء " استمدت بعض مادتها من تاب " نزعات ". أما هربت مللر فأنه من أشدهم اتكاء على مبادئ بيرك في كتابه " القصص الحديث " وفي كتابه " العلم والنقد " بل يعتمد عليه أكثر من اعتماده على آراء رتشاردز ومبادئه، ويصف بيرك بقوله: " لعل أحد ناقد في اميركة اليوم ". ويستطيع القارئ أن يتمثل مدى تأثير بيرك في اميركة إذا طالع كتب مختلف النقاد ووجد كيف يعترفون بالفضل له، على نحو أو آخر. وفي القائمة عدا من ذكرنا أسماءهم: فيليب ويلرايت ونيوتن آرفن وآرثر ميزنر وليوتل ترلنج ودافيد ديشز وجون سويني وجوزف وارن بيتش ورالف السون ومورتن دوين زابل وكثير غيرهم. أما النقد الذي ووجه به جهد بيرك نفسه فيدل على حقيقة محزنة كما هو الأمر في حال رتشاردز لان كثيراً من الذين أفادوا منه تأثروا به هاجموه بعنف، وقد كان له شرف تلقي الهجوم ممن تخصصوا في الهجوم على خير النقاد المعاصرين - ومن هؤلاء الذين وقفوا همتهم على هذه الناحية هنري بير والفرد كازين ودونالد آدمز ومن لف لفهم. وأشدهم مرارة في هجومه هو سدني هوك في مقال نشره بمجلة بارتزان، فقد وصف بيرك بأنه " يقدم العذر دون أخطاء ستالين وأنه رجل ضعيف ذو موهبة صغيرة ". ورد عليه بيرك في عدد كانون الثاني 1938 من تلك المجلة وقصر همه على اقتباس الفصول التي شوهها هوك فرد عليه هوك في العدد نفسه مشيراً إلى أن التشويه في هذا المقام كان أمراً لازماً. ويناقض هؤلاء دارسون يتعاطفون مع بيرك كتبوا عنه سلسلة من الدراسات الجيدة منهم غورهام منسون واوستن ورن ووضعه هـ. ب باركس في مصاف جيمس وديوي ونيتشه وبرغسون واليوت وقال آخر: من الشاق أن يحيط المرء في مقال صغير بذلك الشمول في كتابات بيرك.

وبين هذين الطرفين نقاد لم يفلح أحد منهم في أن يتجاوز التعليق على مظهر واحد في كتاب من كتب بيرك كأن يكون المراجع سمانتياً أو لغوياً أو نفسياً أو فيلسوفاً أو ناقداً أو عالماً اجتماعياً أو مراجعاً بسيطاً حائراً، فهو يختار المظهر الذي يناسبه في مؤلف بيرك وبيدي فيه رأياً. 4 - كان السر في اختلاف المراجعين والناشرين حول الميدان الذي يعمل فيه بيرك يكمن في أنه لا ميدان له، حتى لقد تسمع في السنوات الأخيرة من يرددون القول بأنه ليس ناقداً أدبياً وإنما هو عالم سمانتي أو نفساني اجتماعي أو فيلسوف وأدق من هذا أن يقال: إنه ليس ناقداً أدبياً فحسب وإنما هو هذا الناقد والسمانتي والنفساني الاجتماعي والفيلسوف وغير ذلك، وقد أبان في بعض مقالاته كيف أن ميداناً واحداً ليس كفاء بمشكلة التركيب العامة التي تتضافر فيها جهود شتى الميادين، إذ يقول: ولو أن امرأ قدم " تركيباً " يؤلف به بين الميادين التي تشملها الأنظمة المتنوعة، فأي الأنظمة تلك كفاء بتقويم ذلك التركيب؟ إن كل تخصص يكتسب قيمته من توجهه نحو التنوع فكيف يمكن لنا أن نحكم تخصصاً واحداً ليعكس لنا " توحداً " بين المتنوعات أو لنضع الأمر وضعاً آخر فنقول: لو أراد امرؤ أن يكتب عن التواشج بين عشرة تخصصات، لكان يكتب عن شيء يقع خارج نطاقها جميعاً. ولقد كانت الغاية القصوى في نقد بيرك هي ذلك التأليف التركيبي لكل نظام أو مجموعة من المعرفة يمكنها أن تلقي ضوءاً على الادب، وجمعها معاً في إطار نقدي متناسب. وقد وقف بيرك يقاوم كل نظرة محافظة أو متدينة تنادي بإقصاء هذه الأداة النقدية أو تلك وتقول إنها " نابية " غير ملائمة، حتى قال: " إن المثل الأعلى من النقد حسب ما

اعتقده هو استغلال كل ما يمكن استغلاله ". وكتب يدافع عن استغلال معلومات من سيرة الشاعر لفهم شعره فقال: " يجب علينا أن نستغل كل معرفة نستطيع الحصول عليها " ومضى يوضح هذا الرأي فقال: النقد لعبة وهي خير ما يمكن أن يشهد حين يقصر المرء نفسه على الوحدة الفنية ويتحدث عنها وعن حركاتها مثلما يتحدث المذيع عن لعبة الكرة أو مشهد المصارعة. وأنا اقر بان هذه الاصطلاحات الخارجية قد تتدخل في اتساق النقد نفسه من حيث هو لعبة بالمعنى المتقدم. غير أن التحليل اللغوي قد هيأ إمكانات جديدة للربط بين النتاج والمنتج، ولهذا كله أثره في أمور الحضارة والسلوك بعامة حتى إننا يجب إلا نسمح للعرف النقدي او للمثل العليا في النقد بان تتدخل في تطورها. ويرى بيرك ان النقد الحديث شيء يشبه العلم الذي كان قبل عهد بيكون حسبما وصفه تين في كتابه " تاريخ الأدب الإنجليزي " إذ يقول: ما دام العلم قد قصر جهوده على إرضاء حب الاستطلاع وفتح آفاق جديدة من التأمل فانه كان في مقدوره في أي لحظة ان يتحول إلى تجريد ميتافيزيقي، وكان يكفيه ان يتجاوز التجربة، فتجاوزها وتعلق بالكلمات الكبرى والماهيات واشتقاق الجزئي من الكلي والعلية الكبرى، فلم يعد بحاجة إلى براهين كاملة بل أصبحت تغنيه أنصاف البراهين ولم يعد في أساسه يهتم بإقامة حقيقة وإنما يهتم بالحصول على رأي. ومضى بيرك يحاول مثل بيكون أن ينشئ تكاملا بين فروع المعرفة الإنسانية ليخلق من ذلك كياناً نقدياً فعالا يمكن الإفادة منه في التطبيق. وفي سياق تلك المحاولة سلط السيكولوجيا على الأدب فاكتشف انه لابد له

من التوفيق بين المدارس السيكولوجية المتصارعة وتركيبها جميعاً في سيكولوجية ثابتة فتبين له أنه لابد من ان يخلق تكاملا بين فروع علم الاجتماع ثم يؤلف بين السيكولوجيا وعلم الاجتماع فيما يسمى السيكولوجيا الاجتماعية، ثم يضيف إلى هذا التركيب اللغويات والسمانتيات ويضيف في النهاية الفلسفات واللاهوتيات وفي النهاية يسلط هذا التركيب الهائل على قصيدة من القصائد. وكانت غايته التي بر عنها في ختام " الثابت والتغير " هي: " ان يدل على علاقة تكاملية قائمة بين المظاهر الحضارية المتنوعة التي يظنها الناس منعزلة بعضها عن بعض ". وكان أظهر جانب في محاولة بيرك، مهمته الضرورية في التوفيق بين ماركس وفرويد أي بين الاقتصاد وعلم النفس. ولذلك قدم لنا " نظرية للعمليات النفسية التي تتساوق والعمليات الاقتصادية " أو أقترح التوفيق بين ماركس وفرويد على أساس مبدأ سماه " رموز التسلط " أو عدد مكيافللي وهوبز وفولتير وبنثام وماركس وفلبن " أعظم مكونين للتحليل النفسي الاقتصادي ". وقد استمد بيرك من الماركسية كثيراً في كتبه بينا كان ينتقد بسائطها الميكانيكية في كتابه " مقولة مضادة " ويتجه كل تحليله في أبعاد اجتماعية إلا قليلا. وهو يرى في ماركس " درامياً عظيماً وشاعراً كبيراً بليغاً استطاع أن يكتب " البيان الشيوعي "، تلك " القطعة الرائعة ". وقد استمد بيرك أيضاً بحماسة من مدارس اجتماعية أخرى فأفاد من فلسفة اشبنجلر التشاؤمية ومن علم النفس الاجتماعي الفلسفي كما يتمثل عند جورج هربرت ميد. أما علم النفس عند بيرك فيتجه إلى الوجهة التكاملية التأملية أي هو من نوع ما يسميه رتشاردز " وسطي "، ومن أهم أعمدته علم التحليل النفسي شرط ان لا يكون فردياً خالصاً بل مما يصطبغ بصبغة اجتماعية لأن أصحاب الاتجاه الفردي يخطئون في طريقة النص على العمل الرمزي.

وقد اخذ بيرك قدراً كبيراً من النظرية الفرويدية والمصطلح الفرويدي منذ أول كتاب أصدره واتخذ المصطلحات الفرويدية مصطلحات ثابتة للمبادئ النقدية مثل " التعويض " و " النقل " و " الضبط " كما انه كتب مقالين طويلين في تبيان قيمة التحليل النفسي أحدهما في " الثبات والتغير " والثاني في " فلسفة الشكل الأدبي ". ويحاول المقال الأول أن " يجعل " من المعالجة النفسية نوعاً من " التحول " بالفرد عن حالته الراهنة؛ ويحاول الثاني ان يطبق النظرية على الأدب أي أنه يبين للقارئ " إلى أي حد يستطيع الناقد الأدبي أن يستفيد من فرويد وما الذي يجب أن يضيفه من مادة ليست موجودة عند فرويد ". وينتهي بيرك في هذا المقال إلى القول بان آليات الحلم من مثل " التركيز " و " النقل المكاني " هي نفس الآليات التي تتم في الشعر، ويتخذ منها مفاتيح في التحليل الشعري، ويقول أن علم التحليل النفسي ذو قيمة بالغة في تحليل " القصيدة " من حيث هي حلم. بل يبعد أكثر من ذلك فيقول: أرى أننا في سبيل تحقيق غايات النقد الأدبي محتاجون إلى ما هو أكثر من البناء الذي أقامه فرويد، أولا: لإقامة التناسب بدلا من الانحياز إلى ناحية وثانياً لإيجاد الرمز الأمومي في مقابل الرمز الأبوي الذي يؤكده فرويد وثالثاً لنرى في القصيدة صلاة ومخططاً وهو شيء زائد بيرك عند حد الإفادة من فرويد بلى يستمد من تلامذته المنشقين عنه مثل يونج وأدلر ومكدوغل ورفرز وشتكل ورانك. ويخالف الاثنين الأخيرين فيفضل التداعي الحر عند فرويد على ما يسميه شتكل تعسفاً " سطور الحلم " ويرفض فكرة رانك عن مبدأ " رغبة الموت " ويفضل عليها فكرة " الموت والولادة الجديدة " في فهمه للفن. وهو في الوقت نفسه يعتقد أن فرويد مثل ماركس

جبار شاعر تراجيدي عظيم يستحق من الإنسانية الاحترام الخالد لعمق خياله ومهارته المنهجية، ولأنه عن طريق خياله ومهارته قد وضعنا وجهاً لوجه أمام التيارات الخفية. كذلك يفيد بيرك من المذهب الجشطالتي، مع إنه يرى في آثار علماء هذا المذهب امتداداً لمذهب السلوكيين أمثال واتسن وبافلوف، لا أنها مفارقة لمذهب السلوكيين وخروج عليه، ومن ثم فهو أقرب إلى التجريبيين من الجشطالتيين مثل كوهلر وكوفكا بعيد من النظريين مثل فرتايمر. وقد كانت محاولاته في خلق التكامل بين فروع السيكولوجيا تنقلا بين معجم السلوكيين والجشطالتيين والفرويديين وترجمة من هذا المذهب إلى ذاك ليوجد بين المصطلحات اتفاقاً. وتستطيع ان تقول أن مذهبه النفسي جشطالتي في هيكله العام مع إضافات كثيرة مستمدة من فرويد. وقد أفاد في الوقت نفسه من شتى فروع السيكولوجيا وأستعان بنظرية يانش في " الصور الأبدية " وتجارب شرنغتون على الحيوانات وتجارب باجت في عالم الأطفال، وقد أطلع على كتاب لهذا الأخير عنوانه " اللغة والفكر عند الطفل " وكان يعده بالغ الأهمية. وكانت روحه النقدية أقوى فيما يستمده من أصحاب النظريات اللغوية وإن نزع أيضاً في هذا الميدان إلى خلق التكامل بين عدة مذاهب. غير إن هناك نظرية لغوية واحدة تقبلها دون نقد. وهي التي تقول إن الإشارات هي اصل الكلام - نظرية نادى بها سير رتشاردز باجت فحولها بيرك إلى القول بان الإشارات هي جوهر الكلام. واستغلها أول مرة في كتاب " نزعات ". وقد هاجمته مارغريت شلوش وبعض فقهاء اللغة لأنه أخذ بنظرية لا تفترق شيئاً عن " المثل الأفلاطونية " ولا تحقق غاية منها فدافع بيرك عن نظرية باجت هذه في " فلسفة الشكل الأدبي " وقال أنها ليست نظرية في فقه اللغة بل النظرية في فن الشعر.

أما السمانتيات الحديثة فان بيرك لم يطف بها إلا لماماً وقد كتب في " فلسفة الشكل الأدبي " مقالا بعنوان " المعنى السمانتي والشعري " فوضح فيه أن ميدان السمانتيات قاحل لا يحتوي على مصطلح " توفيقي ". ويرى بيرك أن مثله الأعلى كالمثل الأعلى عند السمانتيين هو " تطهير الحرب " ولكنه يحقق هذه الغاية بالتفتيش عن " مصطلحات تفصح عن المواقف التي قد ينشأ عندها الغموض " لا بتقصي المصطلحات التي تتجنب الغموض كما يفعلون هم. وقد قال في " نحو الدوافع " - وهو كتاب كتب في سنوات الحرب -: وهكذا قد يتوجه فكر المرء نحو " تطهير الحرب " لا من أجل أن تستأصل الحرب من كل نظام تكمن فيه الدوافع نحو العراك - كما هو حال نظام الإنسان نفسه - بل من أجل أن ترهف الحرب إلى حد أن تصبح سلاماً، هو السلام الحق لا ما نسميه اليوم سلاماً. ويستمد بيرك أيضاً عدداً من المبادئ والاستطلاعات من مدرستين سمانتيتين هما مدرسة كورزبسكي وأتباعه ومدرسة كرناب وموريس وإن لم يسلم لعلماء هاتين المدرستين بكل آرائهم. غير إنه إذا أستمد من أوغدن ورتشاردز أخذ آراءهما بكل تسليم، وعلى النقيض من ذلك موقفه من ثورمان آرنولد وستوارت تشيز فإنه يهاجمهما بعنف ويأبى أن يسلم لهما برأي. اللهم إلا مرة واحدة أثنى فيها على ثورمان لتفرقته بين " الحكومة السياسية " و " حكومة العمل ". وفي الأيام الأخيرة أضاف بيرك إلى هذا " المركب " المؤلف من العلوم الاجتماعية والنفسية واللغوية والسمانتية وبعض العلم الطبيعي والبيولوجي - أضاف شيئاً من الفلسفات واللاهوتيات. وقد كان في البدء بعيداً عن نطاق الفلسفة حتى إنه يستعمل صور " المساومة " في " نحو الدوافع " أثناء

حديثه عن الفلاسفة فيقول: " هذه نقطة تستحق المساومة فيها والمماكسة إن شئت أن تساوم أو تماكس لأنك إن مررت بها عابراً دون أن تثير التساؤل من حولها فإنك تتيح لكانت فرصة كبيرة ". ويبدو إن بيرك " أصفق " في هذه المساومة أخيراً وتنازل عن تأبيه وأخذ يستمد كثيراً من توما الإكويني وأوغسطين ومن عدد آخر من القديسين ومن الفلاسفة ابتداء من أفلاطون وأرسطو حتى ني تشه وبرغسون وسانتيانا وكون لنفسه فلسفة ميتافيزيقية، حددها بمصطلح وضعي كان من قبل ينكره. كما أخذ لنفسه نوعاً من اللاهوت استغل فيه المصطلحات التي تدور حول الألوهية لا حول الآلهة لأن الآلهة في رأيه " أسماء للدوافع أو لمجموعات من الدوافع " يشترك فيها جماعة من الناس ولكل إنسان أن يعبد الله " حسب المجاز الذي يناسبه " وفي الجملة فإن بيرك قد أتخذ آلهته من المجازات والاصطلاحات والكلمات، حتى إنه حين يشير إلى الكتاب لمقدس فإنه يعني " المعجم ". وهناك فكرة واحدة حقق فيها بيرك التكامل التام من بين هذه الاتجاهات جميعاً وتلك هي فكرته في " المسرحة " وهي ناجمة من كل أثر سابق ومن كل الأساليب والطرق التي نشبت فيها من قبل. وقد كتب في " المصطلحات الخمسة الكبرى " يقول إن " المسرحة " اصطلاح ليس من وضعنا وكل ما ندعيه لأنفسنا إننا نظرنا إلى المسألة بشيء من الاستغراب أكثر من ذي قبل حتى طلع التأمل ببعض الثمرات. وبدلا من أن نقول " الحياة رواية مسرحها هذا الكون " ونمضي عن هذا القول عابرين وقفنا عنده نتأمله طويلا، تأملا شاقا مضنياً ". وإن من يقرأ كتب بيرك بالترتيب يجد فكرة " المسرحة " قد تطورت عنده بالتدريج، من مبادئ معينة، إذ بدأ بيرك يرى إن هناك انقساماً دائماً في المبادئ المتناقضة ثم أخذ بالفكرة التي ترى إن النزعات " أعمال "

أولية، ثم إلى القول بالديالكتيك في جميع مراحل التأليف عنده وأحياناً كان بيرك يسوي بين هذه جميعاً ولكنك إن نظرت إليها بالترتيب وجدت فيها تطوراً وتعميقاً ينتهي بالمسرحة. وقد تعد هذه المسرحة - إلى حد ما - الديالكتيك المثالي عند كولردج وهجل، ولكنك إن أبعدت في فهمها وجدتها هي الديالكتيك العقلي عند " سيجموند فرويد ذلك الديالكتيكي المحدث العظيم " (تذكر أن بيرك قال في موضع آخر إن فرويد ليس ديالكتيكياً بالمعنى الصحيح) فإذا جمع بيرك بيم ماركس وفرويد تجاوز حدود الديالكتيك إلى ما يسميه هو المسرحة، وهو يحاول التوحيد بين ماركس وفرويد والجمع بينهما تحت شعار واحد وهو نظرية الدراما لأن فرويد يقدم لنا مادة المسرحية الفردية وماركس يقدم لنا مادة المسرحية القائمة على المشكلة الكبرى والأولى يتمثل فيها الصراع الفردي والثانية يتمثل فيها الصراع الجماعي. وإذا أمعنت النظر كرة أخرى وجدت مسرحة بيرك هي الديالكتيك السقراطي أي شفف سقراط بالتعريفات في محاوراته وذلك هو أيضاً ما ورثه أرسطوطاليس من أستاذه. وإذا نظرنا من الزاوية الفلسفية وجدنا مسرحة بيرك مشتقة كلها من أرسطوطاليس ومن الواقعية الأرسطوطاليسية التي تتجلى عند مفكرين مثل توما الأكويني في نظرياتهم عن " العمل " (1) . أما في المصطلح الأدبي فيبدو إنه متأثر بمقدمات هنري جيمس وقد أطلع عليها بيرك في دور مبكر حتى

_ (1) هناك كاتب فذ متقن البحث من تأليف سكوت بوخاتان عنوانه " الشعر والرياضيات " 1929 ولعل لهذا الكتاب أثراً في توجه بيرك نحو فكرة " المسرحة " وإذا كان بيرك قد أطلع على هذا الكتاب فإنه استوحى منه بعض المجازات من مثل: الإنسان آلة - الإنسان حيوان الخ؟ ذلك لأن الكتاب المذكور معالجة للأدب التخيلي من خلال المجازات الرياضية ومعالجة للرياضيات والعلوم من حيث هي تعبير عصري يشبه الدراما التراجيدية اليونانية في عصرها.

إنه حين نشر مقالا عن جيمس في المجلة الجنوبية شتاء 1942 كتب يقول: " إن ما نقرؤه من مقدمات هنري جيمس هو فكرة مسرحية فهنالك يقدم جيمس لنا تحليلا لدوافع القصص بمصطلحات يستعملها المسرحي ". وفي مقالة " الدوافع والموضوعات في شعر ماريان مور " المنشور بمجلة Accent ربيع 1942 استعمل لأول مرة هذه المصطلحات الثلاثة: " الفعل " و " المشهد " و " الفاعل " وقال فيها: " إنها المصطلحات التي تدور عليها فلسفة المسرحية المشمولة في مقدمات هنري جيمس ". ثم يعود فيشير إلى هنري جيمس في مقال آخر ويقول: إن مقدمات هنري جيمس في جملتها لتصور مدى أوسع من هذا في استعمال المتلائمات " المسرحية " وكثير من ملاحظه يتعلق بأمر العلاقة بين الفاعل والمشهد. وكثير غيرها يتعلق بفكر المؤلف من حيث هو مصدر للعمل أي العلاقة بين الفاعل والفعل وكثير منها يدور حول مجرد العلاقات الداخلية القائمة بين العمل والمشهد والفاعل في أية قصة معطاة غير إنه في المقدمات يعالج القصة بمصطلح مسرحي، عامداً وعلى نحو منظم. وهذا بعينه هو الإلحاح على جعل " الدراما الشعائرية " موثلاً تنضوي تحته كل أفكار بيرك وتتلاءم معه حتى نظرية باجت في أن الكلام إشارات تتلاءم وهذه النظرة الشاملة. ويقول بيرك: " بما أن الأحداث الإنسانية درامية. فالحديث عن الأحداث الإنسانية يصبح نقداً درامياً ". وهذه الدراما الشعائرية ذات مراحل ثلاثة هي الغاية فالعاطفة فالإدراك ويقول بيرك: " من فعل الفاعل تنجم العاطفة ومن معاناة العاطفة تنشأ معرفته للفعل الذي يؤديه وهي معرفة تستعلي إلى حد ما فوق فعله ". وعلى هذا تقوم شعيرة " العمل الرمزي " على أساس من شعيرة

جماعية قديمة. وشعيرة العمل الرمزي هي البديل الذي قدمه المجتمع الحديث في مقام الشعيرة الجماعية. حتى أن اشتداد الناحية الجنسية ليعد بهذا المعنى رقصة شوة فردية تحل محل الراقصة الشهوية القبلية التي تلاشت. ومن ثم اعتمد قسط كبير من مسرحة بيرك على الانثروبولوجيا وعلم أصول السلالات " الانثولوجيا ". وقد كتب رانسوم يصف مذهبه فقال: " يبدأ بيرك بأن يعد الشاعر طبيباً والقصيدة دواء. وهو مرهف الحس على بقايا الشعائر: كالحرام والعناصر الفتيشية، واطلاق الأسماء وما أشبه ". والحق أن بيرك عني كثيراً بسلوك الجماعات البدائية مستمداً على نطاق واسع تعميمات علماء نظريين مثل فريزر وتقريرات علماء تجريبيين مثل مالينووسكي. وقد أعجب بكتاب " الغصن الذهبي " لفريزر وقال إنه " هزلي " وهي أرفع كلمة تقريظ يستعملها وإنما استحق الكتاب ثناءه لأنه " يدلنا على طقوس التطهر السحري عند الشعوب البدائية وبهذا يقدم لنا التلميحات الضرورية التي تعيننا على كشف عمليات مشابهة في أعمال الشعوب المتحضرة التي انقطعت صلتها بالشعائر ". ولا أعرف أن بيرك أشار إشارة مباشرة إلى مدرسة كمبردج أعني إلى أولئك الدارسين الذين طبقوا نظريات فريزر في الكشف عن نماذج الشعائر الدرامية القديمة الكامنة في أساس الفن والفكر الإغريقي أمثال مري وجين هاريسون وكورتفورد وكوك؟ الخ. ويبدو إنه لم يقرأ شيئاً مما كتبوه ولكن كثيراً من آرائه وبخاصة في كتاب " البطل " لراجلان وتحدث عن استحسانه له، وكان لا يرى بأساً في تسمية نقده " النقد الشعبي " وهذا قد يشير " لى معرفته بآراء فلاسفة تلك المدرسة أو يدل على توارد عجيب في التفكير. ويحتاج مصطلح بيرك منا بعض التوقف والتقدير. وهو مكثر من

تفريع المصطلحات مثل بنثام وبيرس وفبلن، وقد عبر بيرس بسخرية عن رأي بيرك ووصفها بالصرامة المتعبة، وقد جاء فيها: من طبيعة العلم أنه لابد له من معجم فني معترف به، مؤلف من كلمات لا تجذب المتهاونين من المفكرين لاستعمالها ومن طبيعته أيضاً إنه بحاجة إلى كلمات جديدة كلما جد فيه مبدأ من المبادئ على أن تصاغ في نهج مسلم به مشروع. ومن الهام الحيوي للعلم أن كل من يضع فكرة جديدة وجب عليه أن يأخذ على عاتقه اختراع سلسلة من الكلمات المنفرة للتعبير عنها، وأني لأرجو أن تفكر بجد في المظهر الأخلاقي لوضع المصطلحات. ولم يكن من مبدأ بيرك أن يخترع كلمات جديدة دائماً كما كان يفعل بيرس بل إنه كان مثل فبلن يبعث الحياة في الكلمات القديمة أو يعيد تحديدها حيث أمكنه ذلك. (يخبرنا رتشاردز إن المشرعين الصينيين يستحسنون أن يعاقب بالموت كل من يخترع مصطلحات جديدة (، وفي استعمال الكلمات القديمة لتعبر عن معنى دقيق جديد خسارة وربح معاً. أما الربح فقد لحظه جوبير الذي كان يلح على استعمال الكلمات الشائعة اليومية حتى في موضوع مثل الميتافيزيقا إذ قال: بذلك يتجلى للناس ما يفكرون فيه بمصطلحاتهم وبذلك يوحي الأديب لهم بأنه يوفق بين الحياة ومصالحها. وأما الخسارة فقد لحظها كولردج الذي صنع كثيراً من الألفاظ إذ قال: " في مثل هذا المجال العلمي ليس أمام المعلم المرشد إلا أحد طريقين: إما أن يستعمل الكلمات القديمة بمعاني جديدة كما يفعل لنايوس وواضعوا المصطلح

الكيميائي. وأنا أفضل الطريقة الثانية لأن الجولة الأولى تستنزف جهداً مضاعفاً من الفكر، في عمل واحد، لأن على القارئ أن يتعلم المعنى الجديد، وأن ينسي نفسه المعنى القديم الذي ألفه وهي عملية عسيرة محيرة، فإذا كره أحد الطريقة الثانية وتجنبها تجنباً للتصافح فإني أرى التفاصح أقل كلفة من الطريقة الأولى ". وقد سلم بيرك بأنه " إن كان في مقدورنا أن نستعيد مصطلحاً غير ملائم قد مات دون أن ينكر لموته أسباب كافية فإن بعثه إلى الحياة يحمل شراً أقل من الشر الذي يصاحب الصياغة المخترعة ". ولذلك فإن بيرك يكسب عدداً من القيم الحقة كلما استعمل الكلمات المألوفة بشيء من التحوير في المعنى أو أعاد لها المعنى الذي مات ولم يكن مألوفاً. أما أن الناس لا يرون في كلمة " هزلي " نفس المعنى الذي يراه ولا يرون في " الصلاة " ذلك المعنى الذي يريده فذلك هو المسؤول عن الاضطراب الذي يقع فيه قراؤه وربما كان هو السبب أيضاً في قلة من يقبل عليه من جمهور. غير إن مصطلح بيرك من الناحية الأخرى كان يتدرج دائماً نحو مزيد من الوضوح وكل مجموعة خالفة فيه تتطور من مجموعة سالفة حتى إن الحماسي المسرحي: الفعل والمشهد والفاعل والأداة والغاية قد يرضي جوبير نفسه لأنه مستمد من الكلام الشائع المألوف. ويقول بيرك: " يجب أن تكون غايتنا دائماً هي أن نسير بمصطلحنا نحو الكمال لأن المصطلح الملائم يتضمن تنبيهات وتحذيرات ملائمة، ومما هو أساسي في المبنى المصطلح حاجته لى التركيب أو المرونة لا أعني التركيب الناشئ من تعدد المصطلحات وإنما أعني تركيباً منذ البدء فيها ". وقد كانت فكرة " المسرحة " وما يدور حولها من مصطلح من المجازات التي ثابر عليها بيرك من البداية إلى النهاية وطورها بالتدريج

ولما كتب " فلسفة الشكل الأدبي " عام 1941 كان قد وضع مصطلحين من خماسي الدراما وهما الفعل والمشهد؛ وفي بعض هوامش ذلك الكتاب شرح المصطلحات الخمسة ونبه إلى أنه سيتناولها من بعد بالتفصيل، وفي الوقت نفسه نشر مقاله " المعنى السمانتي والشعري " وميز فيه المثل الأعلى الشعري وقال إنه تغلغل في الدراما لا دوران حولها، وقال في مقال آخر: " إن العلاقات الإنسانية يجب أن تحلل بالنظر إلى الإرشادات التي استبانت بعد دراسة الدراما ". وهناك مصطلح آخر - مجاز - حافظ عليه بيرك أيضاً في كل كتبه وذلك هو استغلاله اصطلاحات العمل وشئون المال للتعبير عن أمور غير مالية، وهي خطة يشاركه فيها ثورو. وفي هذا المجال استعمل بيرك ألفاظاً مثل: الاستثمار وتعميم الخسائر " والتجيير " والحطيطة وغيرها في أمور الفن والفكر، وقد قال في الدفاع عن هذه الطريقة: " إن المصطلح الرأسمالي فذ لأنه يبسط العمليات الاجتماعية على شرط أن تضيف إليه البند الهزلي ". ويسمى بيرك طريقته هذه " تأملية - مالية " في مقال كتبه بالمجلة الجنوبية ربيع 1941 ويضيف إلى ذلك هذه العبارة التأسفية: " إنني استعمل هذا المصطلح المزدوج المعنى " Speculative " (1) وأنا على وعي بازدواج معناه لأني حين أسمي نفسي " Speculator " أعتقد اعتقاداً تاماً إنني أوضح قيمة اجتماعية تأثرت بهذا الازدواج مع إنني يجب واأسفاه أن أتحدث كأنني شخص ليس له مجال في هذا الموضوع، شخص لا ينال المعرفة فيه إلا حين يشرحها له المختصون أصحاب الشأن، شخص يملك المال في عقله [أي التأمل] لا المال الذي في كيسه ".

_ (1) هذه الكلمة تحمل معنى " التأمل " ومعنى الدخول في المضاربات المالية.

أما المصطلح الخماسي الدرامي الذي أوجده بيرك فهو ثمرة لمجموعات من الثنائيات والثلاثيات التي حاولها قبله كثيرون. وبه أراد أن يوجد مصطلحاً شاملا يطبق على أي مجال. وهو كما وضح بيرك نفسه ذو صلة بالعلل الأربع التي سماها أرسطوطاليس: الصورية والمادية والفاعلة والغائية: وفي مقابلها وضع بيرك - على التوالي - الفعل والمشهد والفاعل والغاية على أن تكون الخامسة وهي " الأداة " داخلة في العلة الغائية. وكذلك سوى بيرك بين خماسيه والعناصر الست التي ذكرها أرسطوطاليس في المأساة وهي: العقدة الفعل، والشخصية الفاعل، والفكرة الغاية، والموسيقى والكلام الأداة، والمنظر المشهد. وقد أوجد بن جونسون بعد ارسطوطاليس ثالوثاً مكوناً من القصيدة والشعر والشاعر وهذه الثلاثة تقابل الأداة والفعل والفاعل عند بيرك. أما ثنائية لسنج في اللاوكون: أي " الأشخاص - والأعمال " فإنها تقابل المشهد والفعل عند بيرك. وأما ثالوث أمرسون المكون من العلة والعمل والنتيجة أو ما يسميه بلغة الشعر جوبتر وبلوتو ونبتون ويسميه باسم الثالوث المسيحي أو ما يسميه: العارف والفاعل والقاتل - هذا الثالوث يقابل الغاية والفعل والمشهد أو الفاعل عند بيرك؛ ولدى آرنست فنولوزا في مقال عنوانه " الكتابة الصيني من حيث هي وسيلة لنقل الشعر " - لديه ثالوث مكون من الفاعل والفعل والغاية وهو مقارب لخماسي بيرك. وهناك مظهر هام عند بيرك لم يقدر حق قدره أعني العلاقة بين القصيدة والجمهور أو ما يسميه بيرك " البلاغي " أو " الخطابي "، وقد خصصه الناس متعسفين برتشاردز وعدوه ميدانه المطلق. غير إن بيرك عني به أيضاً عنايته بالعمل الرمزي بل زادت عنايته به على العمل

الرمزي في كتابيه " مقولة مضادة " و " الثبات والتغير ". وفي " فلسفة الشكل الأدبي " يقترح بيرك علاقة بين الشاعر والقصيدة وبين القصيدة والجمهور - علاقة تمزج العمل البلاغي بالعمل الرمزي في الجمهور فيقول: إن ما يؤديه العمل الفني للفنان نفسه من أمور ليست هي نفس الأشياء التي يؤديها ذلك العمل لنا لأن هناك فرقاً بين القصيدة مكتوبة والقصيدة مسموعة. وبعض هذه الأمور مشترك بيننا وبين الفنان نفسه وبعضها غير مشترك. ولكن هذا هو رأيي: إذا جربنا ن نكشف عما تؤديه القصيدة للشاعر استطعنا أن نكشف مجموعات من التعميمات التي تدلنا على ما تؤديه القصيدة لكل إنسان أيضاً فإذا تذكرنا هذه الأمور أصبحت لدينا دلالات تمكننا من تحليل نوع " الحدث " الذي تحتويه القصيدة وبتحليل هذا النوع المذكور نستطيع أن نكشف عن مبنى العمل الفني نفسه. إذن فإن القصيدة تؤدي شيئاً للشاعر وقرئه وهذا الذي يبثه الشاعر في القراء هو " البلاغي " أو هو " النقل " وإنما يسمى بهذا الاسم تمييزاً له عن " التعبير " ويسميه بيرك " الصلاة " حيث يتحدث عن ثالوثه: الحلم والصلاة والمخطط وأحياناً يسميه " اختيار الإشارة " ليصور نزعة الشاعر وهو يحاول أن " يغري النزعات الأخرى ويجتذبها " فالقصيدة على هذا عمل رمزي من الشاعر ولكنها تتخذ لها مبنى ولذلك تمكننا نحن معشر القراء من أن نعيد وجودها وبذلك تكون القراءة نفسها تمثيلا للشعائر الرمزية. وقد درس بيرك هذا الجانب التأثيري " البلاغي " في مقالين مسهبين، أدرجهما في " فلسفة الشكل الأدبي " أحدهما عنوانه " أنطونيو يدافع عن الرواية " وهو حديث ذاتي (مونولوج) طويل يوجهه أنطونيو إلى الجمهور

ليشرح لهم وسائل شيكسبير كما تتمثل في خطاب التأبين عند مقتل قيصر والثاني عنوانه " ترجمة المحاكمة " من (رواية الليلة الثانية عشرة) وهو تفسير آخر أقل شأناً منه الأول يوجهه الدوق. وقد عد بيرك هاتين الدراستين تفسيراً للعلاقة القائمة بين القارئ والكاتب والأصح أن تعدا دراستين للعلاقة بين القارئ والقصيدة. أما دراسته الأتم فهي " بلاغي معركة هتلر ". وهي حقاً دراسة للعلاقة بين القارئ والكاتب لأنها تتناول تعبير هتلر الرمزي في الكتاب والعمل الرمزي عند الجمهور الذي يقرؤه والعلاقة البلاغية بين الاثنين. وهذه الدراسة توحد بين الخاص والعام وبين الدراسة النفسية الموجهة لتعمق ما تستطيع بلاغة التعبير نقله إلى الجمهور. ويحاول بيرك في " مقولة مضادة " أن يطور فكرة البلاغة أولا بالتمييز بين المعالجة الشخصية والنغمية ثم بين الواقعي والخطابي؟ ثم بالتمييز بين المعالجة الشخصية والنغمية ثم بين الواقعي والخطابي؟ ثم بالتمييز بين سيكولوجية الخبر وسيكولوجية الشكل، أما الشكل فإنه " سيكولوجية الجمهور " أي " هـ إثارة الشهوة إلى الاستماع في فكر المستمع وإشباع تلك الشهوة أو هو إثارة الرغبات وإرضاؤها " - وهذا يساوي ما يسميه " البلاغة " وليس ذلك كله إلا الأدب التأثيري. ويتسع مبدأ " العمل الرمزي " عند بيرك وفكرة " البلاغة " حتى يشمل كل التوافه من كل نوع حتى إن بيرك ليستمد أمثلته من السينما ومن الأحاجي التي تقدمها الإذاعة ومن أخبار تنقلها إحدى الجرائد من الجمعية العامة للصناع عن كل ما هب ودب. وهذه الأمور كلها أنواع من الشعر مليئة بالعناصر الرمزية والبلاغية وإن كان شعراً رديئاً فإنه شعر رديء ذو أهمية حية في حياتنا وحين يغمس بيرك نفسه في هذه " البؤرة " الرخيصة يتبدى لنا كأنما هو ملك يضحي بنفسه من أجل أن تنمو مزروعات القبيلة.

5 - لقد عرضنا فيما تقدم رأي بيرك في المواقف والخطط والنزعات والدوافع والعمل الرمزي والغايات، فلنقل كلمة في الأمور حسبما تنطبق عليه لا على غيره. 1 - ولنبدأ الحديث عن آثاره خارج المجال النقدي الحق، وهذه الآثار نوعان: (أ) القصص: وقد نشر بيرك مجموعتين هما " الثيران البيض " وهي مجموعة من القصص القصيرة، عام 1924 و " نحو حياة أفضل " وهي سلسلة من الرسائل أو الخطب عام 1932 وكلا الكتابين دقيق معقد غامض رصين الأسلوب جزل، والأول يتدرج من قصص واقعية إلى قصص محيرة برموزها وخطابتها وكأنها " مقولة مضادة " تعلي من شأن الأسلوب الخطابي حين كان هذا الأسلوب مشنوءاً محتقراً. وأما الثاني فهو عودة إلى أساليب " ديوانية " في الكتابة ولا يهتم بالحبكة إلا اهتماماً عارضاً ولكنه يهتم كثيراً بما يسميه بيرك " الأقطاب الستة " وهي " الندب والحبور والترجي والتحذير والتقرير والتعزير ". ولم يكسب هذان الكاتبان رواجاً وقل من قرأهما أو أعترف بهما ولكنهما أثرا في بعض الكتاب وأثنى عليهما وليم كارلوس وليمز وهاجمهما أيفور ونترز وقال إنهما " أبلد من قصص تاكري " والثاني منهما يتراءى لي من خير القصص في عصرنا. وهما من حيث صلتهما بنقده يعكسان كثيراً من أفكاره ويطبقان كثيراً من نظرياته ويعملان على " وضع " الدوافع الإنسانية مواضعها من زاوية جديدة. وقد كتبهما مطبقاً فكرته البلاغية ولكنهما من بعد أعاناه كثيراً

في التعريف بالعمل الرمزي والتمثيل عليه. (ب) المراجعات والترجمات والقصائد: تعلم بيرك كثيراً من المراجعة. وكان موضوع المراجعة في هذا العام مثلا يصبح مرجعاً لمراجعة تالية في العام التالي وقد أبعد عن نطاق الأدب التخيلي في مراجعته فوسع من آفاق إنتاجه وكان يستخرج الأفكار النقدية من مشكلات تنشأ من مراجعاته وكثيراً ما أدرج تلك المراجعات في خلال أعماله النقدية، وقد كتب بيرك أيضاً نقداً في الموسيقى ونقداً في التصوير وفي كتابه " مقولة مضادة " إشارات إلى النواحي الموسيقية والتصويرية، كما إنه ترجم كثيراً من الألمانية من ذلك أقاصيص لتوماس مان وكتابات من اشبلنجر واشتتزلر واميل لدفغ وغيرهم ونشر عدداً من القصائد أكثرها طليق من الوزن خطابي الأسلوب ينص على السخرية والنقد الاجتماعي ولكنها لم تجمع في كتاب. 2 - آراؤه الاجتماعية: توجد هذه الآراء في شعره، وعلى نحو أغمض في نقده وكلها معقدة غامضة. وأبرز العناصر فيها مقته للتقنولوجيا والحضارة الآلية ومذهب " الكفاءة " و " المستوى العالي من المعيشة " وما أشبه، ولذلك قاوم هذه الاتجاهات في كتبه منذ البداية حتى النهاية. وقال: " إن المبدأ الجمالي يحاول أن يحط من القيم الموجودة في الاتجاه العملي ويحاول بالذكاء أبالخيال أن يحدث اضطراباً في القانون القائم في العمل التجاري والتنافسي الصناعي وبطولة الحرب الاقتصادية ويعمد إلى أن يزعزع أعمدة الصناعة ". هذا هو ما قاله في البيان الجمالي الذي نشره في " مقولة مضادة " ثم استمر يعتنق هذا في ختام كتابه " الثبات والتغير " وعنف لديه هذا الإيمان في " فلسفة الشكل

الأدبي " فوصف البناء الاقتصادي بأنه مهين يدفعنا إلى عمل أمور مهينة. وجعله تشاؤمه يرى إننا مقبلون على " فصل سياسي عابس مكفهر " وإنه لا ينقذنا منه إلا الدعوة إلى التكامل الذاتي. ثم تخف مرارة هذه النظرة الاجتماعية في كتاب " نحو الدوافع " ويقل فيها التشاؤم ولكنه لا يزال يعادي الاتجاه نحو الآلة والمستوى العالي من العيش (1) ، والمصاعب الهائلة التي يقع الناس تحت وطأتها من أجل الحصول على فوائد تقنولوجية ولا يقول ثمة أن النظام الصناعي والدافع المالي " مهينان " بل يقول إنهما " اليمان قاسيان " ويستشف أملاً ما حين يقول: حين يسيطر على سياسة المجتمع الكذابون والأغبياء والجشعون فإن فلسفات التقشف المادي قد تبعث في نفوسنا بعض العزاء لأنها تذكرنا أن تلك المواد عينها التي تتكون منها مدينتنا أو التي نبتت مدينتنا فيها لن نسمح للكذب والغباء والجشع أن تسيطر على النفوس حين يسيطر بعض الناس أن وجدوا إلى ذلك سبيلا. ويقترح بيرك في النهاية أن يأخذ الناس بشيء من " الزهد الرواقي " لأن الناس لن يقفوا عن تطوير التقنولوجيا سواء أكان ذلك لخيرهم أو لشرهم. وفي هذه النزعة نغمتان افترقتا بعد زمن. الأولى رفض الآلة والتقنولوجيا والتصنيع في كل مجتمع، ويقاوم بيرك هذه الأمور بالتقليل من " شد الأحزمة " والتقليل من الحركة والتكثير من العمل وتكييف الكفاءات مع حال البيئة. وهذا هو أشد آرائه رجعية ويشاركه فيه أمثال

_ (1) نشر بيرك مقالا سنة 1947 بعنوان " الطريقة الأميركية " فوصف الحضارة الأميركية بأنها مشتقة من ذلك المبدأ التعميمي " المستوى العالي من العيش " الذي أنتج مبادئ فلسفية وجمالية تعبيراً عنه أو رد فعل له.

ثورو وأتباع جفرسون وهذا ما دعا هنري بمفورد باركس أن يقول " كم كا يتمنى لو عاش في الصين في أيام كونفوشيوس " وهذه النغمة في أقصى الطرفين تمثل كرهاً للعلم نفسه، وصدق المراجع الذي قال إن بيرك، كالعجائز في مجتمع يكره التشريح، ينزع إلى أن يرى العلماء التجريبيين " ساديين يتلذذون بتعذيب الفيران ". أما الطرف الثاني فإنه قد يجد خيراً في التقنولوجيا بل يدافع عنها ضد عالم آثار اسمه كدر في مقالة له عنوانها " طابع حضارتنا " واجداً أن القيم الحقة فيها - وإن كانت سلبية - تخفف من فساد المحاصيل والأوبئة والكوارث الطبيعية الأخرى وفي الوسط بين الطرفين يعيش هو - جاعلا من حياته مثلا - جامعاً بين البسيط والبطيء والحياة الزراعية والتقنولوجيا اللازمة له من عربة وقطار ونفق لتوصله إلى المكتبة العامة في نيويورك. أما النغمة الأخرى في نزعته الاجتماعية فليست هي اعتراضه على التصنيع في ذاته بل على مظاهر معينة في النظام الرأسمالي. فهو في " الثبات والتغير " يؤمن بالشيوعية ويقترح مادية ديالكتيكية معدلة تسمى " بيولوجيا ديالكتيكية " وحياة " شاعرية " منهجية تتحقق من خلال المجتمع الشيعي ومن وراء فاقه وهو يقول: إن الشيوعية " هي الحركة الوحيدة المنظمة المنسجمة التي تعمد لإخضاع العبقرية التقنولوجية للغايات الانسانية " وهي تستقطب كل الكلمات التي تبدأ بحرف " C " مثل: Co - operation، Communication، Communion، Collectivism، Communicant. ويستكشف في " نزعات نحو التاريخ " أن الجماعية أمر لا معدى عنه ولكنه يقترح الشيوعية الجماعية مضيفاً إليها بعض التحسينات " الهزلية " ثم تبدى في مقال " الحياة الطيبة " أن مثله الاجتماعي الأعلى هو العالم الكونفوشي. وظل يشير من بعد باستحسان إلى المادية الديالكتيكية ولكنه ابتعد عنها كثيراً في كتبه الأخيرة ولم يعد يسمي مثله الاجتماعي الأعلى

- وهو زراعي لا مركزي - باسم شيوعي. 3 - أفكاره في النقد وعلاقتها بآرائه في الحياة: مرتبطان ارتباطاً لا انفصام له. وهو يضعهما على صعيد واحد من التجريد حتى إنهما يتلاحمان. ومفتاح آرائه في النقد: " كل الأحياء نقاد " ويمثل على هذا بسمك السلمون فانه يصبح ناقداً بعد أن ينشرط فكه ويصبح قادراً على التمييز بين العم والطعام. والناقد في رأيه ناقد للحياة مثلما هو عند ماثيو آرنولد ومهمته ان يقدم مؤثرات مضادة ما استطاع إلى ذلك سبيلا وان يوجد التكامل بين النقد التقني والنقد الاجتماعي وأن يختبر الأشياء دون تهيب والشاعر ساحر " منوم " ومهمة النقد هي رفع العقيرة لإيقاظ النائم ومهما يكن من أمر الشعر فالنقد في خير أحواله " هزلي ". وهذه النظرة ليست تحقيراً للشعر لان بيرك يؤمن أن الشعر قريب إلى القيم المركزية في وجودنا إيماناً لم يفارقه أبداً، سواء أكان الشعر غنائياً أو فلسفياً أو منهجاً من منهاج العيش. وهو يرى الشعر عدة للعيش يريحنا ويحمينا ويزودنا بالسلاح. وهو في الوقت نفسه يؤكد الإحساس الشعري أو ما يسميه بلاكمور " الخيال الرمزي " ويراه المظهر النقدي الذي لا مظهر وراءه، ويقول: ينشأ الاعتراض حين يزور فلاسفة العلم وينكرون ان المقدرة العلمية تتطلب صنواً مناقضاً يسمى أحياناً البصيرة أو الخيال أو البداهة أو الإلهام؟ ومع أن المرء يستطيع أن يجزئ العمل الفني في عناصر عدة ويصل بالاختبار إلى تفرقة عادلة حقة بين تلك العناصر فان الطريقة العلمية لتعجز عن ان تواجه هذه العناصر في حال " التركيب " لا في حال التجزئة. وهناك عنصر هام في منهج بيرك هو العنصر الموجود في التهكم أي الفكاهة أو ما يسميه " الهزلي " فهو يقول في تعريف الفكاهة: " إنها

" الصبغة الإنسانية " التي تمكننا من قبول معضلاتنا. ويعرف التهكم بأنه: " الصنعة " التي تنشأ عن إحساس برابطة بيننا وبين العدو. أما " الهزلي " فانه النزعة " الخيرة " السمحة التي تشمل التناقض الناشئ من ازدواج القبول والرفض والأخذ والإعطاء. وهذه الأمور في أساسها مظاهر لشيء واحد وهي معاص تمثل نزعة التشكك والمحافظة " والتخلي عن السير قبل الوصول إلى نهاية الشوط " والمناقضة والخصم. فالحياة الخيرة لا تكون في نظر بيرك خيرة بل هي هزلية تهكمية وربما كانت أيضاً مضحكة - حياة لا توصف بالجلال والعزة. ولقد قال بيرك في إحدى مقالاته الأولى: " العزة النفسية؟ أجل يبدو أن هناك توقاناً في النفوس للعزة النفسية بل هناك إثارة من مظهر هستيري شاذ في هذه الحاجة إلى العزة. ان العزة من صفات المغلوب فالمرء يغادر الغرفة حفاظاً على عزته لان كان مقهوراً أما المنتصر فانه يستطيع ان يمرح ويهارش الآخرين. فالعزة أذن محاولة ذاتية لتصحيح الوضع أما من الناحية الموضوعية فأنها لا تنطوي على شيء من الدماثة، وهي ظاهرة غير بيولوجية فأن العزيز لا يستطيع ان يهرب إذا قابله الأسد غير أن المرء يواجه الحقائق - مواجهة موضوعية - دون عزة ويضحي المرء بسلطته حين يسأل ما هي الحطة التي يريد ان يوقعه فيها هذا الشيء الخارجي. العزة بطليموسية وفقدانها كوبرنيكي. لقد قال أحدهم: أن تطور الإنسان في أوروبا قد افقده عزته النفسية بمقدار ما منحه من السيطرة على الطبيعة ". 4 - أسلوبه الكتابي في النقد: لقد كان الجمهور الذي يقرا بيرك قليلا دائماً وان كان يزداد مع الزمن وقد راج كتابه " نحو الدوافع " رواجاً دل على نجاح واعتراف عام، يناله بعض الفنانين - ومارتا غراهام مثل آخر - الذين يستعصي فهم التكامل في آثارهم - ينالونه في أواخر حياتهم

بعد أن ينزاح من أمامهم جيل رائج الكتب، قصير عمر الشهرة. أما السبب في عدم إقبال القراء عليه أو عزهم عن قراءته فانه يرجع إلى تهمة " الغموض " أو " الرطانة " التي يستعملها. ولقد قال في " مقولة مضادة " دون أن يهدف إلى الدفاع عن نفسه: " هناك أشكال من البراعة كالتعقيد والحذاقة والعمق والصرامة في الأسلوب تحدد من رواج الكتاب حتى يصبح كأنما هو كتاب في الرياضيات العالية ". والحق في كتابة بيرك في ذاتها واضحة مستقيمة غير ملتوية أما الغموض فمرجعه إلى المبادئ والمصطلحات حتى أن كرو رانسوم أقصى ناقديه لم ينكر عليه أبداً جمال الأسلوب الأدبي. أما اتهامه بالرطانة فانه اتهام صائب لأنه منجذب أحياناً إلى الأسلوب الفلسفي الألماني ويدافع عن " تسمياته المحيرة " ويعدها " نوعاً من الشعر " وهو يقترب من رطانة تلك الفلسفة في مصلحات استعملها مثل المبدأ الملثوسي الجديد - المنظورات من خلال التباين، وهكذا. وليبرك أيضاً انتحاءات أسلوبية مزعجة لقرائه منها استعماله الكلمات حسب المعاني التي يريدها، ووضعها بين معقفين " " وتذييل متنه بالشرح والتعليق وقد تكاثرت هذه التعليقات في كتبه على شكل قوس فكانت قليلة في " مقولة مضادة " وكثرت في " الثبات والتغير " وازدادت في " النزعات " وعادت تقل في " فلسفة الشكل الأدبي " وانعدمت في " نحو الدوافع ". وقد بلغت التعليقات بقدر المتن في " النزعات " وتوازت معه توازي الخاص والعام، والعارض والعمد، والإيحائي والساطع. وقد نثر في الحواشي إيحاءات بأشياء لم يسعفه الزمن على مزاولتها مما قد يحتاج " فيلقاً " من النقاد يعملون فيه طوال حياتهم. كذلك فان إدراج مادة في الحاشية مغايرة للمادة التي في المتن تصيب القارئ بالشيزوفرانيا، ولعل هذا الازدواج نفسه يوحي بانفصام في عقل بيرك نفسه لكنه استطاع أن

يتغلب عليه مع الزمن. وأخيراً يبدو أن أسلوب بيرك مبني على التكرار الكثير كان يقرر الشيء نفسه ثلاث مرات مستعملاً وجهاً من المجاز في كل مرة، بدلا من ان يقرر الشيء مرة واحدة وينتهي منه. وهو يمزج بين المجازات بخبث ومكر. ومن المظاهر البارزة في أسلوب بيرك اعتماده الكثير على النادرة والتورية والتلاعب اللفظي غير أن نوادره الموفقة رائعة لأنها تحتوي فكاهة ساخرة لاذعة. وللتورية مكانة أهم في كتاباته، فهو يضع فيها لب ما يريد أن يقوله وتوريات بيرك مثل توريات شيكسبير مجازات خاطفة أو تعقيدات إمبسونية أو منظورات من خلال التباين يقويها بشغفه في الاشتقاق ومعرفته بدلالات اللغة في المقامات المختلفة بما في ذلك دلالتها في المقام السيكولوجي. ومظهر آخر في أسلوب بيرك زاد اهتمامه به في الكتب الأخيرة، وذلك هو عدم تورعه عن استعمال الألفاظ المكشوفة والفحش. فهو يرى ضرورة المهادنة بين " التراب " و " السماد " ويسمي إنتاج فرويد " تفسيراً للبراز " ويسمي الرواقية " استعلاء فوق الغائط " ويقول في رواية إليوت " حادثة قتل في الكاتدرائية " أنها " معبد فوق مرحاض " وفي كتاب " نحو الدوافع " يفسر ما يسميه " الثالوث الشيطاني " أي العلاقة بين المنوي والبولي والبرازي (1) . 5 - ما هي حصيلة إنتاج بيرك؟ يبدو أنه إنتاج مشعث مترام الأطراف لا يدور حول مركز ولكنه خصب شديد الإيحاء واري الزناد والدليل على هذا انك تستطيع أن تحول كلام بيرك إلى أمثال سائرة مثل قوله: أميركة بلد يتمت فيه الموت بسمعة سيئة - انك لم تقارف

_ (1) لقد استطيع ان أجد هنا تفسيراً آخر لاهتمام بيرك بالمواد السينمائية والإذاعية وما ينشر في الصحف - استطيع ان أقول انها مظهر آخر من مظاهر هذا الشغف بالنواحي المفحشة المكشوفة.

الإفساد - لكل إنسان الحق في ان يعبد الله على حسب مجازه - مت مثلما يموت الزنبار المشوه - لقد قدم هذا الرجل خيراً للمظلومين ثم جعلهم ظالمين؛ وهكذا. ومع كل ذلك نستطيع أن نقول أن إنتاج بيرك دقيق التنظيم وأن منهجه النقدي شامل شمولا عجيباً بل هو اشمل منهج تسلطه على قصيدة بمفردها. وكلما سلط بيرك واتباعه هذه الطريقة على قصيدة إثر قصيدة توقعنا أخصب فترة من فترات النقد لا تدانيها فترة أخرى. وكم يتمنى المرء لو أن بيرك تناول بالدراسة المسهبة قصة مثل " موبي ديك " إذن لحصلنا على ثروة لا حد لها في مجال التحليل. وهنا اعتراض قد يثور تواً وهو: هب ان القصيدة تحطمت تحت وطأة هذه " المدفعية " الضخمة من النقد. في مثل هذا الموقف نظل نحسن الظن بميل بيرك إلى التواضع والروح الفكاهية التهكمية التي تكف يده في الوقت المناسب عن الإطاحة والتشفي. وقد هاجم بلاكمور طريقة بيرك واتهمها بأنها قد تطبق؟ على شيكسبير وداشيل هامت وماري كوريللي على السواء وتثمر بنفس المقدار ورد بيرك في " فلسفة الشكل الأدبي " على هذه التهمة فسلم بها أولا ثم قال: " إنك لا تستطيع أن تفصل بين شيكسبير وماري كوريللي الأبعد أن تضعهما أولا جنباً إلى جنب. قرر النوع ثم قرر الفصل. - كلاهما أديب، هذا هو النوع، أما الذي يحدد مجال كل منهما فهو الفصل - أي الخصائص الفارقة ". وهذا هو الذي نستفيده من نقد بيرك - هو الفصل - ومن دراستنا للنماذج التي يعرضها في تطبيق منهجه نستطع ان نطمئن إلى أن هنا نقداً لا يدانيه نقد آخر في القوة والصفاء والعمق وألمعية الإدراك.

خاتمة هل يمكن إيجاد مذهب نقدي متكامل 1 - الناقد المثالي لو كان في مقداورنا، وهذا مجرد افتراض، أن نصنع ناقداً حديثاً مثالياً لما كانت طريقته إلا تركيباً لكل طرق والأساليب العملية التي استغلها رفاقه الأحياء، وإذن لاستعار من جميع تلك الوسائل المتضاربة المتنافسة، وركب منها خلقاً سوياً لا تشويه فيه، فوازن التقصير في جانب بالمغالاة في آخر، وحد من الإغراق بمثله حتى يتم له التعادل، واستبقى العناصر الملائمة لتحقيق غاياته. وإذن لأخذ ادموند ولسن مهمة التفسير او التوضيح لمحتوى الأثر الفني، وأضاف إلى ذلك الاهتمام بالقيم الشعرية والشكلية التي قد يجدها في بعض النقد التفسيري عند عزرا بوند؛ واستعار من إيفور ونترز الاهتمام بالتقويم والحكم المقارن وشجاعة ونترز إزاء الآراء التقليدية في أحكامه لا تلك الأحكام نفسها، واستغل اهتمام اليوت بان يخلق للأدب موروثاً، ونحا في طبيعة الموروث نحو بارنغتون - مثلا - وأفاد من موقف اليوت الذي يجمع بين الشعر والنقد في يده. أما من فان ويك بروكس فان ناقدنا المثالي قد يستمد

الطريقة القائمة على كتابة السيرة والاهتمام بالجو الثقافي العام من حول الأديب، وسيكون من نصيب كونستانس رورك أن تسهم بالنص على الفولكلور المتصل بالأثر الفني وبتأكيدها أن هذا النوع من الموروث متعلق بالشكل لا بالمحتوى وانه تجريدي لا واقعي. وسيدخل في هذا " المركب " طريقة مود بودكين في التحليل النفسي موشحة بنظريات وأساليب جشطالتية وفرويدية وغير ذلك من فروع المعرفة النفسية؛ وسنضاف إليه أيضاً طريقة كودول الماركسية ملطفة بآراء بليخانوف في النسبية التاريخية وسيحشد فيه اهتمام أليك وست بالنصوص المعينة مشفوعاً بكثير من الكشوف المستمدة من سائر العلوم الاجتماعية. وسيختار ناقدنا المثالي التخصص الواعي الذي تميزت به كارولاين سبيرجن، ذاهباً إلى أعماق ذلك ذهاب جون لفنغستون لويس، مكبراً النتائج بحماسة مندفعة تشبه حماسة ج. ولسون نايت، متوفراً على إيجاد عناقيد الصور متخذاً منها وحدة شعرية ذات مغزى شعري هام كما يفعل آرمسترونغ. وسيستمد من بلاكمور أسلوبه الجاد في البحث واهتمامه باللغة والألفاظ وتأكيده أهمية الفن والخيال الرمزي؛ وسيعينه وليم امبسون في الكشف عن أنواع الغموض ويمده بطريقته الفذة الدقيقة في قراءة النصوص وباهتمامه العام بقيمة الأشكال الأدبية. وسيستعير ناقدنا المثالي من رتشاردز الاهتمام بأمر النقل والتوصيل ووسائل التفسير والمذهب التجريبي؛ وسيستمد من كنث بيرك العناية بالعمل الرمزي والشكل الدرامي وطريقة الاستبطان والكشف. وثمة نقاد آخرون قد يضيفون بعض العناصر إلى هذا " المركب " فتضيف إليه جين هاريسون الأنثروبولوجيا الشعائرية، وتمده مارغريت شلوش باللغويات، ويتحفه هربرت ريد بالتنبه الحادب على كل اتجاه فكري جديد وعلى كل فنان ناشيء، وتمده عصبة Scrutiny باهتمامها الموزون بكلية الأثر الفني، ويعطيه ماثيسون شيئاً من تردده بين الناحية

الاجتماعية والجمالية، ويمنحه فرنسيس فرغسون طريقته في النظر إلى الدراما الشعائرية، ويمده تروي باستغلاله للأسطورة الشعائرية. أما جون كرو رانسوم وآلان تيت وكلينث بروكس وروبرت بن ورن فانهم يزودونه بالتركيز على البناء الشعري؛ وسيمده آخرون بأشياء أخر. وبالجملة سيكون هذا الناقد المثالي أرسطوطاليسيياً محدثاً يستقرئ من الآثار الشعرية أحكاماً، وسيكون كولردجياً محدثاً يستنتج ما يريد من الأفكار الفلسفية. فإذا أخذ ناقدنا المثالي كل ذلك، طرح في الوقت نفسه كل تافه محدود غير ملائم من أعمال أولئك النقاد واستصفى النواحي الموضوعية لديهم بعد أن ينزع عنها ما يحيطها من مظاهر ضعفهم ومماحكاتهم وفرديتهم. وإذن فلا شان له بسطحية ولسن واستغلاله لأفكار سبقه إليها غيره وقلة صبره على الشكل الشعري؛ ولا حاجة به إلى خلقية ونترز المتسلطة أو تعسفه في الحكم دون علة واضحة أو سوء طبعه أو كثرة أخطائه. وهو في غنى عما يحيط اتباعية إليوت من تحيز مذهبي وسياسي، وإذا استمد طبيعة التكامل بين النقد والشعر عند إليوت فلا ريب في انه سيحرص على استقلال النقد وتكامله وسيرفض افتراضات بروكس " المسبقة " واحتقاره بالأدب الخالق ولن يستعمل طريقته كما يستعملها صاحبها بمطها أو تقصيرها حسب مقتضيات الحال ولن يتخذ من دراسة الشخص عذراً للهرب من دراسة آثاره أو ليجعلها ملحة شهية وحسب. فإذا انتحل طريقة الآنسة رورك تجافى عن سطحيتها وتزود بعلم أوسع من علمها، وإذا مارس طريقة الآنسة بودكين تجنب نزعتها الدينية الصوفية واطرح ما تجنبته هي من مذهب يونج في شئون التميز العرقي والدموي كما نفى عن نفسه تحيز كودول ضد التحليل النفسي وضد الشعر نفسه ونفى عنه التعلق بالطبقية والحتمية وإيثار التعميمات على دراسة نصوص بأعيانها، واستعمل مبادئ فرويد وماركس بحدة ومضاء كحدتهما ومضائهما لا

بكلال وفتور ككلال اتباعهما وفتورهم. وسيكون ناقدنا المثالي على وعي حاد بنقائص التخصص وأين يقف التخصص من النقد وأين ينماث فيه، فيحايد إحجام الآنسة سبيرجن عن تتبع النتائج واستقصائها ويتجنب صوفيتها الذاتية. غير انه لن يجد كثيراً مما يرفضه في مذهب بلاكمور وإمبسون ورتشاردز وبيرك ولكنه قد يتقدم دون أي أثر عالق به من فجاجة الأول ودون الإغراق المضني لدى الثاني ودون ذلك المسرب المقفل الذي يسميه الثالث " الإنجليزية الأساسية " ودون الوقوف السابق لأوانه في وجه التقدم عند الرابع. أما حين يستمد من النقاد الآخرين فسوف يسير على الخطة نفسها من رفض وطرح ولكنه سيطرح اكثر مما يأخذ في كثير من الأحوال، بل أن كل من ارسطوطاليس وكولردج لن يفيا بحاجاته تمام الوفاء. وهذا التكامل المثالي الذي نريد أن ننشأ منه طريقة نقدية سامية لا يتم بطرح كل العناصر الجيدة في قدر واحدة وخلطها معاً كيفما اتفق ولكنه عمل يشبه البناء على أن يتم حسب خطة منظمة ذات أساس وذات هيكل مرسوم. فما هو ذلك الأساس أو ما هو ذلك الهيكل؟ أشد المبادئ حماسة لإنجاز هذه المهمة هي الماركسية التي يلح المدافعون عنها على القول بأن المادية الديالكتيكية إطار متكامل يستطيع أن يختص ويستغل أحدث ضروب التقدم في كل ميادين المعرفة وهي في الحقيقة لابد أن تفعل ذلك لتستمر في تأدية مهمتها. وهذا بلا ريب كان يصدق على ماركس وإنجلز اللذين كانا يستمدان بحماسة من رصيد غزير من المعرفة في كل علم، وكانا ينتحلان تطورات جديدة بمرونة بالغة، حتى قال إنجلز: " لدى كل كشف بارز هام في ميدان العلم الطبيعي كان على المادية دائماً أن تغير من شكلها "، وهذا إلى حد أيضاً يصدق على كودول الذي يؤكد في مقدمة كتابه " الوهم والحقيقة ": " إن الطبيعيات

والأنثروبولوجيا والتاريخ والبيولوجيا والفلسفة وعلم النفس كلها نتاج الهيئة الاجتماعية، ومن ثم فإن علم الاجتماع الرصين يمكن ناقد الفنون من ن يستعمل معايير مستمدة من كل هذه الحقول والميادين، دون أن يتردد في حومة التخير والانتقاء، أو يخلط بين الفن وعلم النفس والسياسيات ". غير إن الماركسيين المتأخرين باستثناء قلة منهم مثل كودول يفتقرون إلى المرونة والدقة اللتين كان يتمتع بهما كل من ماركس وإنجلز كما يفتقرون إلى مثل علمهما وألمعيتهما، حتى إن الماركسية لا تصلح من الناحية العملية لتكون نظاماً تكاملياً يحتضن كل مظاهر التقدم. ولعل أكثر المفكرين الماركسيين المعاصرين سيقذفون معظم طريقتنا النقدية المثالية هذه من أقرب نافذة لأنها في نظرهم سقط تافه " منحط " من المتاع. وهناك طرق فردية أخرى يمكنها أن تحتضن بعض الأساليب والمذاهب الأخرى ولكنها إن كانت علوماً أو شبيهة بالعلوم كالسيلوجيا والأنثروبولوجيا أو كانت ميادين متميزة محددة كميدان التخصص أو دراسة السير - إن كانت هذه أو تلك فإنها إذا احتضنت غيرها من المذاهب وتجاوزت محيطها الخاص بها فقدت طابعها المميز لها. ومن الواضح إذن إن الأساس للتكامل النقدي المثالي لابد من أن يكون فكرة أدبية أو فلسفية (حتى الماركسية حين تتقدم لتقوم بتحقيق هذا التكامل لا تتقدم من حيث هي نزعة اجتماعية بل من حيث هي نظرة فلسفية) . وقد نلحظ بعض الأسس التي تصلح لذلك التكامل التركيبي دون أن نطمح بأبصارنا إلى حل هذه المشكلة، فأحد تلك الأسس قد يكون هو " مبدأ العضوانية " أي إن الذات الإنسانية وحدة عضوية، وهو مبدأ رتشاردز في " استمرار التجربة " وتحت جناح هذه الفكرة يمكن أن ينضوي جميع هذه الأساليب النقدية وتتوحد لأنها جميعاً تعالج جوانب متصلة من السلوك الإنساني، أي تعالج: الإنسان شاعراً والإنسان قارئاً والإنسان في أسرته

والإنسان في المجتمع والإنسان وهو ينقل مشاعره لإنسان آخر وهكذا وقد نجعل أحد تلك الأسس " الفعالية الاجتماعية " التي تنظم مختلف الأساليب النقدية من حيث هي مظاهر متصل بعضها ببعض في جماعات مختلفة، أو قد نتخذ " درامية " بيرك أساساً فنستغل دعائمها الخمس، ونطبقها على الأساليب المتنوعة مستغلين دعامة دون أخرى حسب المقام، كأنما بينها صراع أو تعاون كصراع الشخصيات وتعاونها في داخل الرواية. أو قد نوسع فكرة " الغموض " عند إمبسون أو نستغل فكرة " الجهد الجاهد " عند بلاكمور ونعادل بينها وبين " استغل كل ما يمكن استغلاله " وهي فكرة بيرك. وناقدنا المثالي هذا لن يكتفي بأن يستغل كل الطرق المثمرة في النقد الحديث ويقيمها على أساس منظم ولكنه سيحتقب كل المقدرة وكل ضروب الكفاءة الكامنة وراء تلك الطرق، فتكون لديه كفاءة ذاتية فذة وعلم واسع كاف في كل هذه الميادين، وقدرة على انتحال الوضع الملائم كلما تغير الموقف، وليس على ناقدنا المثالي أن يؤدي أكثر مما يؤديه الناقد العملي فحسب بل عليه أكثر منه وان يتجاوزه مدى وبعداً وكياناً (وان يكتب خيراً منه بطبيعة الحال) . ولقد كان تصنيف النقاد في هذا الكتاب قائماً على أساس من الطرق النقدية نفسها، فإذا ميزناهم من حيث المجال التخصيصي قلنا: بلاكمور هو المتخصص في الكلمات وسبيرجن في الصور وإمبسون في الأشكال وبيرك في كلية الأثر الفني وهكذا، أما لو ميزناهم من زاوية المعرفة فإننا نقول: اليوت هو الذي يعرف الأدب إذا كان له حظ من القدم، وكودول هو الذي يعرف العلم الحديث، وبروكس هو الذي يعرف الأدباء الصغار في عصره، والآنسة بودكين هي التي تعرف الآداب القديمة وهكذا؛ فلو شئنا ان نصفهم حسب خلائقهم فقلنا: إمبسون قارئ حاذق، وبيرك

صاحب ومضات الذكاء، ورتشاردز معلم صبور، وبلاكمور والآنسة سبيرجن عاملان مجتهدان (كل في ميدانه) . أما المشكلة الأخيرة التي لابد لناقدنا المثالي من أن يواجهها - وهي اشد المشكلات هيمنة - فإنها تتلخص في أن طريقة من الطرق التي طورها النقاد المحدثون لا تزال في مرحلة أولية من الكشف ولابد لمنشئي هذه الطرق من أن يتبينوا ذات يوم انهم لم يفعلوا شيئاً أكثر من خدش السطح الخارجي وأن أعمارهم لن تمكنهم من الذهاب وراء ذلك. غير أن كل طريقة يمكن امتداها إلى ما لا نهاية؛ وليس لناقدنا المثالي الهجام أن يستعمل تلك الطرق فحسب بل عليه أن ينمي كل واحدة منها تنمية بالغة فيحل مشكلات كل طريقة ويسوي بينها وبين نتائجها؛ وعليه أن يقوم بذلك كله وحده أيضا. وكل ناقد حديث من نقادنا يحتاج تلامذة ومدرسة تستمر في تطبيق طريقته وتوسيعها ولكن أن كان الطلبة لامعين خلاقين فالمشكلة انهم حتماً يشتقون لنفسهم طرقاً جديدة، مثلما فعل امبسون تلميذ رتشاردز، ويتطلبون تلامذة لانفسهم (فان لم يكونوا لامعين خلاقين فالمشكلة واضحة) . ونجد أن بلاكمور وفرغسون وسلوخور وكولي يطبقون جميعاً طريقة بيرك على مشكلات ونصوص أدبية أخرى وسيعدون تلامذة أكفاء بمقدار ما يبدونه من أصالة وخلق في ميدان النقد لا بالمقدار اتباعهم لأستاذهم وإذن فان الناس لا يستعملون نفس الطريقة بكل ما لها من أهداف وبكل ما فيها من طاقات غلا في العالم الذي يعيش فيه ناقدنا المثالي. أما في العالم الواقعي للنقد فذلك شيء لا نطيقه ولا نريده. دعنا نجمل ما بسطناه: سيمد ناقدنا المثالي طريقته المتكاملة كلها على مدى ما تبلغه الطرق النقدية الحديثة كل على حدتها، فيؤدي في الأثر الأدبي كل ما يمكن تأديته: فإذا تحدث عن قصيدة غنائية قصيرة كتب

عدة مجلدات، وإذا تناول أثراً طويلا كالقصيدة المطولة أو المسرحية أو القصة انفق عمراً في درسها ولكن ناقدنا المثالي غير محدود العمر فدعنا نستغل صبره لنقيد بعض الأشياء التي يتناولها في القصيدة: سيحدثنا عم هي القصيدة أي يترجم لنا محتواها قدر الإمكان (وإذا قدرنا الإيجاز في العمل الفني عرفنا أن ترجمته إلى لغة النثر أكبر بكثير من العمل نفسه) وسيردها إلى مصادرها ومشابهاتها في آداب قديمة ويوجد لها مكاناً في الموروث الأدبي ويقارن بإسهاب بينها وبين آثار معاصرة وسابقة داخلة في الموروث أو خارجة عنه، ويحللها تحليلا وافياً بنسبة ما يتوفر لديه من أخبار عن صاحبها. فيصل بينها وبين ما يعرف من فكره وحياته وشخصيته وأسرته وما يهواه وما له من علاقات زوجية، وما يهتم به، وطفولته وعلاقاته الاجتماعية ومظهره الجسماني وعاداته. وسيجد مصادرها الشعبية ومثيلاتها ويبحث عن اعتماد صاحبها على الموروث الشعبي وما في نسيج القصيدة من تعابير شعبية وخصائص شعبية، ويكشف عن استقطابها العميق في نماذج من الشعائر البدائية المتأبدة ويفسرها نفسياً من حيث هي تعبير عن اعمق رغبات صاحبها ومخاوفه تحت مصطلح العقدة والكبت والتسامي والتعويض، وسيرى فيها تعبيراً عن " نموذج أعلى " يمثل التجربة الجماعية وتعبيراً عن ظواهر سلوكية أو عصبية أو غددية، وتعبيراً عن شخصية مؤلفها وكيانه الخلقي في سلك الجماعة، وسيصل بينها وبين أنواع من التعبير لدى البدائيين والعصابيين والأطفال والحيوانات وسيكتشف نظامها من خلال عناقيد الصور المتصلة اتصال تداعي الخواطر لا شعورياً ومن خلال مبناها الذي يمثل شعيرة نفسية ومن خلال الكليات الجشطاليتية المتصلة بكليتها ومن علاقاتها بكليات أخرى. وسيفسر القصيدة من حيث إنها مظهر اجتماعي، تنعكس فيه طبقة صاحبها ومنزلته الاجتماعية وحرفته ويحللها بالنظر إلى العلاقات الإنتاجية في

عصره وبيئته وجو الأفكار التي تعيش ثمة، وجو الأفكار التي تتجاوز العلاقات الإنتاجية فتتقدم عنها أو تتأخر وسيتحدث عن النزعات الاجتماعية والسياسية التي تدعو القصيدة لها أو تقررها أو تشمل عليها وسيسلط عليها كل معدات التخصص الكبيرة أو يستغل كل ما أدي في هذا المجال، ويتابع النتائج بشجاعة غير المتخصص وخياله وسيكتشف على أوسع مدى ممكن ألفاظها والغموض في المعاني والعلاقات بين الألفاظ الهامة وصورها ورموزها وكل إيحاءاتها الملائمة وشكلها أو أشكالها ومهمة تلك الأشكال وآثارها، وما فيها من ضروب الجرس والبناء الإيقاعي وغير ذلك من التأثيرات الموسيقية وطبيعة الحركة والتناسق فيها وكل العلاقات الداخلية لكل ما تقدم من مظاهر، وسيدرس كل الأمور الواقعة خارج القصيدة مما يشير غليه القصيدة ويفسرها على ضوء تلك الأمور، وسيكتشف النزعة الموجهة - مفتاح القصيدة - الناشئة عن العلاقات المتداخلة بين الشكل والمحتوى ويلحظ مشتملات ذلك ويتحدث عن القصيدة مجرياً المقارنة بينها وبين تعبيرات أدبية معاصرة وسابقة من نفس نمطها إلا أنها وجدت على نحو آخر. وسيبحث ناقدنا المثالي المشكلة التي تدور حول ماهية الشيء الذي تحاول القصيدة نقله، كيف تنقله ولمن تنقله، مستغلا كل مصدر من الخبر ليجد ما هو ذلك الشيء الذي عمدت القصيدة إلى نقله ويختبر كل وسيلة فنية في الصنعة حتى لو أدى به ذلك إلى اختبارات المعمل ليرى حقاً ما هو الشيء الذي تنقله في واقع الأمر إلى نفوس أفراد مختلفين وإلى جماعات في أزمنة مختلفة، وسيكتشف مشكلة العمل الرمزي في القصيدة، ماذا أدت رمزياً للشاعر وماذا تؤدي رمزياً للقارئ وما العلاقة بين هذين العملين، وكيف تقوم بمهمتها داخل المبنى الرمزي الكبير الذي يمثل تطور كتابة الشاعر، داخل مبنى رمزي أكبر يمثل عصراً أدبياً كاملا. وقد يتحدث عن عديد

من مشكلات أخرى تشملها القصيدة، عديدة حتى إنها لتعز على الحصر وتشمل مسائل فلسفية وأخلاقية كالمعتقدات والأفكار التي تعكسها القصيدة والقيم التي تؤكدها وعلاقتها بالمعتقدات والقيم لدى القارئ وعلاقاتها بالقرائن الحضارية كما تشمل أمورا صعيرة مثل عنوان القصيدة أو بعض ملامح الكتابة والتهجئة والترقيم. وسيضع القصيدة في مكانها من آثار صاحبها من كل زاوية (ولذلك عليه ان يعرف كل ما ألفه صاحبها) ، ويواجه مشكلة الظروف التي ولدت فيها القصيدة ويتحدث عن الملامح المتفردة في أسلوبها وما تعكسه من فكر وشخصية عكساً متفرداً. وفي النهاية يعمد ناقدنا المثالي فيقدر القصيدة من الناحية الذاتية على أساس من كل ما وصفناه، ويقوم أجزاءها من الناحية الجمالية من حيث علاقتها بالغاية والمجال وقوة الغاية نفسها، ودرجة استكمالها لعناصرها، ويضع قيمتها إزاء قيم مثيلاتها مما نظمه صاحبها نفسه أو نظمه غيره، ويقدر ميزتها في الحال وفي الاستقبال ومقدار سيرورتها ويحدد جانب التقريظ وجانب الذم وإذا شاء فان له أن يقدم نصيحة حول القصيدة للقارئ أو للشاعر. وإذا شاء أيضاً فله أن يتحدث عن معلوماته التي جمعها وآرائه التي كونها من حيث علاقتها بالمعلومات والآراء لدى غيره من النقاد مثاليين كانوا أو غير ذلك. وبعد ذلك يحق له أن يمسح العرق عن جبينه ويتنفس الصعداء ويتقدم لمعالجة قصيدة أخرى. 2 - الناقد الواقعي إن صورة ناقدنا المثالي هذه شقشقة لسانية فحسب ولكنها شقشقة مفيدة فيها سمو المثل الأفلاطونية واستحالتها معاً، فلنحطم هذه الصورة ولنعد إلى عالم الحقائق ومجال الإمكانات العملية التي هي في طوق الفرد

من بني الإنسان؛ ونحن إنما نريد طريقة متكاملة فلنقل أن قسطاً صالحاً كبيراً من التكامل ممكن وإنه في طوق إنسان واحد أن يستعمل عدداً من الطرق والمذاهب. خذ مثلاً كنث بيرك، تجد أن هذا النقد قد أدى بين الحين والحين كل " الأدوار " التي يشملها النقد الحديث كما أدى إلى جانبها عدداً من الأشياء الأخرى المتصلة بها، وقد كان نصيب رتشاردز وإمبسون وبلاكمور أقل من ذلك لأنهم لم يكثروا من التركيب بين الطرق النقدية، وجنحوا وبخاصة بلاكمور إلى أداء شيء واحد في وقت واحد حسبما يتطلبه الأثر الذي ينقدونه، وهؤلاء هم خيرة نقادنا، وقد كان التكامل في أعمالهم موفقاً ناجحاً ولكنهم حادوا عن التكامل الكلي النظري الذي يحتاج جهوداً لا حد لها، وكانت قاعدتهم في ذلك: 1) ألا يتابعوا باستقصاء كل وسيلة من وسائلهم إلى آخرها وإنما يتابعونها إلى حد ما يقفون عنده إذ يجدونها توحي بإمكانات جديدة وراء ذلك، 2) وأن يلحوا على تلك الوسائل التي تبدو مثمرة في معالجة أثر معين دون غيرها، ويهملوا أو يقللوا من شأن الوسائل الأخرى - مؤقتاً - لأنها أقل ثمرة ولكنه قد يستغلون ما أهملوه أو قللوا من شأنه في مناسبة أخرى. غير أن خيرة نقادنا هؤلاء لم يستطيعوا حتى في ضمن هذه الحدود أن يجدوا ندحة في الزمان والمكان تمكنه من أن يتعمقوا حسبما يرغبون لأن باعهم في العلم والمعرفة مهما اتسع لا في بما يريدون، وسيغدوا من العسير في المستقبل أن يتقن الناقد كل فرع من فروع المعرفة يفيد في ميدان النقد الأدبي بل انه سيغدو حتماً أمراً مستحيلا، وستنمو العلوم الاجتماعية نمواً كبيراً في عاجل الأيام أو آجلها حتى أن دراسة فرع واحد منها تستنزف العمر كله إذا أريد تسليطها على النقد الأدبي ولن يبقى لدى الناقد إلا وقت قليل للتعرف على الأدب نفسه، ولا ريب في أن الناقد البيكوني الذي يحيط بكل أنواع المعارف هو الأثير المفضل

لدينا، غير أن الناقد البيكوني لا يستطيع أن يعيش في عصر يدق فيه التخصص على مر الأيام. إذن فلنقل أن الناقد المتخصص هو الذي يستطيع أن يستغل طريقة واحدة مطورة موسعة. ولكن نقادنا المعاصرين لا يشأون شأو النقاد البيكونيين، ونحن نحس أن ضيق التخصص لديهم يجعلهم مشوهين للأدب لا سداد في أيديهم. وهم أحد اثنين في الغالب: محدود الآفاق يستطيع أن يؤدي شيئاً واحداً أداء جيداً ويعجز عما عداه مثل أدموند ولسن في التفسير وفان ويك بروكس في كتاب التراجم؛ أو متخصص في ميدان خارج عن ميدان الأدب مثل تخصص مود بودكين في التحليل النفسي وكودول في الماركسية والآنسة رورك في أمور الفولكلور. ومثل هؤلاء النقاد الذين يحسنون طريقة واحدة مطورة يفيدون أشد الإفادة في حالين، أما حين يتخصصون في الأدب الذي تلائمه طريقتهم ومعارفهم كتخصص مدرسة كمبردج في دراسة الأدب الإغريقي، لأن الصلة بين هذا الأدب وبين التفسيرات الشعائرية وثيقة قوية؛ وأما حين يتخصصون في تلك الجوانب من الآداب التي أن سلطوا عليها مبادئهم وأفكارهم وضحتها وجلتها كما يفعل النقاد النفسيون والماركسيون (أو كما يجب أن يفعلوا) . غير أن هذين النوعين من التخصص النقدي في حاجة إلى شيء آخر ليجعلهما مثمرين، وهذا الشيء هو العمل التعاوني في النقد أو سمه النقد الجماعي، وهذا هو الأمل الذي داعب اليوت في عهد مبكر، فعبر عنه في مقال " تجربة في النقد " بمجلة Bookman، تشرين الثاني 1929 إذ قال أنه " تعاون النقاد ذوي الدربة المختلفة ثم قيام أناس لا هم مختصون ولا هواة باستخلاص ما يسهمون به وتكديسه وتصنيفه ". وقد نسمي هذا النقد الجماعي باسم " مأدبة " Symposium وهي لفظة لا تزال تحمل في تركيبها حروف " أد ب " مهما تبتعد إيحاءاتها. ولدينا أمثلة من هذه

" الموائد " النقدية في كتب نشرت بعضها قام به متخصصون وبعضها يتناول موضوعات خاصة ومنها ما يدور حول بلد أو فترة من الفترات ومنها ما يتعلق بشخص واحد في عيد ذكراه، ومنها عدد من أعداد إحدى المجلات يخصص لدراسة أديب واحد أو يخصص لدراسة أثر واحد لأحد الأدباء، وهناك " المآدب " الغنية الحافلة و " المآدب " الفقيرة الخادعة. واكبر خطأ يعتور هذه الأنواع جميعاً وبخاصة الأخيرة منها أنها لا تحفل بالتخصص الكافي ذلك لأن اختيار الناقدين المسهمين في مثل هذه المجموعات إنما يكون عرضاً واتفاقاً فيجيء التداخل في مقالاتهم ولا تتمثل فيها جميع المذاهب ووجهات النظر وفي بعض الحالات تجدهم يحاولون أن يحشدوا في المجموعة كل ما يمكن حشده فلا يلتقي النقاد حول الموضوع نفسه أبداً فتفقد المجموعة قيمتها الحقيقية، إذ ليست قيمتها في اختلاف المادة وغنما في اختلاف أساليب التناول للمادة نفسها. فالمجموعة الناجحة نجاحاً تاماً هي التي تتضافر فيها أقلام المتخصصين، على نحو مخطط منظم، ثم بأن ينشئوا خطوط تخصصهم على أساس من الطريقة لا الموضوع. وفي الوقت نفسه تشجع مثل هذه المجموعة المسهمين فيها على اقتسام العمل وتوزيعه لان كل واحد يلتزم الاتجاه النقدي الذي يسير فيه فيؤدي شيئاً واحداً دون ما عداه. حقاً أنها قد تجعل النقاد المحدثين اشد تحيزاً ومحدودية وتخصصاً وأقل اكتمالا ولكنهم يكسبون في جانب العمق ويعوض أحدهم ما لدى الآخر من نقص فيتوفر لدى المهمة النقدية فضائل المجال الوسيع والاكتمال وهي فضائل لا يقوم بها واحد من النقاد إلا تلبست به السطحية. هل يمكن أن يتحقق هذا عملياً؟ نعم في ناحيتين: أولا: المجلة فإنها قد تخصص بعض أعدادها لدراسة شخص واحد أو موضوع واحد، ولو

سلمنا بان التنظيم والتخطيط شيئان مثاليان فأن نقص المجلات أنها لا تستطيع أن تسيطر على هذا الأمر سيطرة تامة لان بصحابها لا يستطيعون أن يضمنوا اكتتاب كل ناقد، فهم يرضون بما يحصلون عليه وهم لا يستطيعون أن يفرضوا حدوداً صارمة في الموضوع أو الطريقة على النقاد المحترفين الذين قد يخرجون عن تلك الحدود استطراداً، وليس لديهم المال الذي يغرون به الناقد على التزام الحدود، ثم أنهم لا يعرفون على وجه الدقة مَن من النقاد يحسن هذا خيراً من سواه، وهم مقيدون بالقدر الذي يتقبله قراؤهم من النقد وهم أحياناً يملأون الفراغ ليخرجوا بمجموع كامل وإذن فالحاجة ملحة إلى مجلة جديدة تسمي نفسها " الناقد " أو " مأدبة " النقاد تكرس نفسها لدراسة جماعية حول رجل أو كتاب أو قصيدة في كل عدد وتحصل على نقاد مختصين وتدرب بعض النقاد وتفوز بإيجاد نقاد مستقلين يوجهون أعمالهم لخدمة أغراضها، وقراء يحبونها، فمثل هذه المجلة يحل بعض المشكلات ويبقي بعضها الآخر دون حل (1) . وثانياً: هناك الجامعات التي تملك المال والرجال لتحقيق مثل هذا الهدف وهي معتادة لشئون التخصص من كل نوع. أما هل تقبل الجامعات أن تشغل نفسها بنشاط كالنقد على شكل مجلة أو سلسلة من الكتب أو حتى بتنظيم دراسة الأدب فيها على هذا النحو فذلك شيء آخر. ومن الدلالات المشجعة في هذا المجال نشر مطبعة برتسون لعدة سلاسل من البحوث في الأدب والعلوم الإنسانية منها: " غاية الفنان " و " غاية الناقد " و " لغة الشعر " وكل نشرة منها مجموعة طبية تعاون على إخراجها أربعة أو خمسة من الثقات المختصين. ومن المشجعات أيضاً ما

_ (1) خير مثل موجود وأقربه إلى النوع المثالي الذي نتطلبه هنا هو مجلة Scrutiny إذ فيها مجموعة من المواهب المتعاونة. غير أن مجالها محدود وهي تهتم بإصدار أعداد خاصة في المسائل التربوية والثقافية اكثر من اهتمامها بتخصيص أعداد للأدباء والآثار الأدبية.

قام به المعهد الإنجليزي من إنفاق على محاولة في النقد التعاوني الجماعي، ففي خلال أسبوع من أيلول 1941 عقد فصل دراسي بجامعة كولمبية تحت إشراف نورمان هولمز بيرسون الأستاذ في ييل وتحدث فيه أربعة من النقاد إشراف نورمان هولمز يرسون الأستاذ في ييل وتحدث فيه أربعة من النقاد كل لمدة ساعة عن قصيدة واحدة في أربعة أيام متعاقبة وهم هوراس غرغوري وليونل ترلنج وكلينث بروكس وفردريك بوتل (ودعي ناقد خامس هو مورتن داون زابل فلم يستطيع الحضور) وكانت القصيدة هي Ode on Intimations of Immortality لوردزورث وكان الحاضرون مائة أو نحوها ولم أكن أنا شاهد تلك المحاضرات ولكني اقدر أن الإخفاق كان نصيب هذه المحاولة لضيق في مجال الموضوع مستنتجاً ذلك مما كتبه عن هذه المحاضرات دونالد ستوفر في رسالة بعث بها إلى مجلة كينيون، شتاء 1942. ومن المشجعات أيضاً على نطاق أوسع وجود عدد من أساتذة الجامعات الأميركية ومنهم الأستاذ ليونارد براون بجامعة سرقوسة وهو الذي تتلمذ عليه المؤلف) يدرسون طلبة الآداب في المراحل العليا على طريقة " المأدبة " فيعالج كل تلميذ موضوعه مدة طويلة من الزمن من زاوية مختلفة وعلى نهج مخالف ثم ينظم الأستاذ ما صنعه تلامذته ويجمعه. وليس يخطر لي مجال آخر سوى المجلات والجامعات لتحقيق هذه الفكرة. نعم هناك الراديو والأحاديث التي قد تدور فيه حول موضوع معين ولكن الجماهير تميل إلى التبسيط فيخرج أمثال هذه البرامج ضحلة تافهة. ومن الآمال الكبرى التي تعلق على النقد التعاوني الجماعي انه سيعد لمباشرة الآثار المعقدة التي لم يوفق الفرد الناقد في معالجتها وأبرز أمثلتها موبي ديك. وقد قال ماثيسون في مقدمته على كتاب " النهضة الأميركية ": " لم أر عن موبي ديك شيئاً مطبوعاً ذا حظ من النفاذ والإسهاب "، وهذا اقل من الحقيقة بكثير إذ كان من حقه أن يقول انه ليس لدينا عن هذه القصة إلا ما هو سطحي محدود. وبنسبة اقل يصدق هذا الحكم على كل

الآثار الأدبية العظيمة، فكل النقد من حولها متخلف. وكل الأعمال الأدبية العظيمة وكل الروائع في الأثر الأدبي العظيم وكل الأدب الحديث الجاد - كل هذه ذات مستويات متعددة، ولذلك يجب أن يكون لدينا نقد متعدد المستويات ليستطيع معالجتها، وهذا معناه ان الناقد الذي يتمرس بأي اثر منها مستعملاً أي معجم من الألفاظ لابد من أن يعود لنا بمعنى يمكن نثره وبسطه بعون من ذلك المعجم، وقد ازداد إدراك هذه الحقيقة في أيامنا هذه سماها شارل بودوان " التوازي المتكثر " وسماها رتشاردز " التعريف المتكثر " أو " التفسير المتكثر " وهي موضوع كل ما كتبه رتشادرز، وسماها بيرك " العلية المتكثرة "، وقال إنها " مجموعة من الدوائر المنداحة تبدأ من أخص الخصوص وتبلغ حتى المبادئ المطلقة في العلاقات ". ويعمل إرك فورم على هذا المبدأ نفسه وهو يفسر كافكا بمصطلح نفسي واجتماعي وديني مثلما يحاول هاري سلوخور أن يقرأ مان وغيره بمصطلح نفسي واجتماعي وفلسفي، وكذل يحاول تروي الشيء نفسه وهو يقرأ بعض الأدباء قراءات ميثولوجية ونفسية واجتماعية، مثلما يحاول أيضاً أن يستعيد " المستويات الأربعة " للمعنى، وهي مما لدى أهل القرون الوسطى، ومثله في ذلك أيضاً جاك لندسي في قراءاته الماركسية والنفسية والانثروبولوجية، وغير هؤلاء كثيرون يباشرون الأثر الفني على مستويات متعددة ويقرأونه قراءات متكثرة. وسواء أسميت هذا النوع من النقد مجمعاً أو مكثراً أو متعدد المستويات فمن الواضح انه لا يفتأ يزاد قيمة وأهمية. وقد نسميه إذا شئنا " النقد الاستمراري " ونترك مجالاً لكل مستوى ممكن ان ينضوي تحته سواء أكان مستوى فردياً ذاتياً أو اجتماعياً موضوعياً غير ذاتي (وهذان هما الطرفان المتباعدان لمختلف المستويات) ، فإذا أضفنا إلى ذلك اللاوعي

الجماعي الذي يقول به يونج ربطنا بين طرفي هذا الاستمرار ربطاً دائرياً. فمثلا نتخذ رمز اليوت في " اليباب " رمزاً للعمق البعيد والتركيب الشديد. ونقرأ هذه القصيدة على أي مستوى مستغلين أي معجم: ففي المستوى القريب يراها الفرويدي رمزاً للخصاء والعنة، وعلى مستوى أعلى يراها النفسيون بعد فرويد رمزاً للخوف من العقم الفني، وفي المستوى العادي للحياة اليومية يراها من يكتبون التراجم مثل بروكس رمزاً لأليوت نفسه قبل أن يتحول للمذهب الكاثوليكي، وعلى مستوى اجتماعي أعلى يراها ناقد مثل بارنغتون رمزاً لحياة الفنان الخاوية، أو صورة من حيرة الطبقة العليا؛ ويراها اليوت نفسه ممثلة للادينية الطاغية على هذا العصر، أما في المستوى التاريخي الواسع فإن الماركسي يبصر فيها انحطاط الرأسمالية؛ ويراها الآخذ بمصطلحات يونج الرمز الشعائري الأعلى للولادة الجديدة. كذلك هي أيضاً حال رمز مينهير بيبركورن في " الجبل السحري " من تأليف مان فإنه قد يرمز لأشياء كثيرة ابتداء من الأب الأوديبي خلال الشخصية المنافسة القوية إلى رب الزرع. ثم إن فكرة هتلر عن الوحدة الألمانية في " كفاحي " قد ترمز إلى أمور كثيرة أيضاً أدناها الأم الأوديبية وآخرها أحداث تاريخية مثل ابتلاع النمسة وتشيكوسلوفاكية وغير ذلك. ففي الرمز أو الأثر ذي العمق معان كثيرة بعدد ما يستطيع النقاد أن يجدوه من مستويات أو معجمات يعبرون بها. ولهذا النقد المتعدد الجوانب والمستويات فائدة أخرى نوضحها على النحو التالي: إن النقد الإيطالي قد أهمل جانب الملهاة ذات يوم، وإن النقد الذي يتناول عصر اليزابث، قد تغافل عن شيكسبير والدراما الاليزابيثية في وقت من الأوقات، هذان مثلان اثنان فقط وهما نقد يوحيان للناقد أننا أيضاً نهمل بالمثل آثاراً أدبية وأشكالا أدبية كاملة وأن

ما نهمله قد يكون أعظم قيمة مما نعالجه، ويدرك الناقد فزع شديد لهذه الحقيقة ثم ينظر إلى السينما والقصة البوليسية والمذياع والكتاب الهزلي وهي الميادين التي تصلح لهذا الشكل الفني الذي توهم إغفاله، فيخف فزعه ويتسهل جزعه إلا أن لهذا الفزع مغزاه، فإن الذي يزعج طمأنينة الناقد هو اتساع مسؤوليته وضخامتها فهو وحده، ولا عون له إلا معرفته الحارس الوحيد للفن وأبوابه السحرية. فماذا يفعل الناقد التعاوني الجماعي؟ إنه لا ينشئ قراءات ومعاني متعددة فحسب ولكنه أيضاً يكسب لها جميعاً جمهوراً محباً لتلقيها قادراً على محاكمتها، أي أنه يكثر المعاني والقراءات وفي الوقت نفسه يجعلها محطاً للجدل والحوار وتتعاورها الأفكار المتعددة ومن تعدد الأفكار بل من كثرة الأخطاء ينبثق الصدق وهذا شيء قد أدركه العقلاء منذ عهد أفلاطون وحوارياته. فتركيب هذه الطريقة النقدية ليس تكثيراً بسيطاً أو تعدداً في الجوانب أو خلطاً فوضوياً وإنما هو صراع ديالكتيكي أصيل ومن هذا ينبثق الصواب وتتبلج الحقيقة. وقد نحصل على هذا التركيب لدى ناقد واحد أو في جماعة من النقاد ولكن يجب أن نحصل عليه على نحو حال. أما " نحصل " هذه بصيغة الجمع فإنها تعني العالم كله، إذ حيثما كانت الحقيقة ممكنة الظهور فنحن جميعاً نقاد بالضرورة.

§1/1