النفحة المسكية فى الرحلة المكية

السُّوَيْدي

المؤلف وكتابه

المؤلف وكتابه الفصل الأول سيرته أسرته: منذ عهود غابرة لا يعلم مبتدأها، نشأت على كهف ذي صخور وحجارة في ضفة دجلة اليسرى، قرية صغيرة عرفت بالدور، وسرعان ما زهت هذه القرية وازدهرت بمن سكنها من قبائل العرب، حتى عرفت بدور عربايي، أو دور العرب، تمييزا لها عن قرى أخرى كانت تحمل اسم الدور أيضا. «1» وشهدت البلدة ذروة عزها في الحقبة التي انتقلت فيها الخلافة العباسية إلى سرّ من رأى، حيث لم تبعد هذه الحاضرة الفخمة عنها غير ثلاثين كيلومترا أو أقل، وبنمو سرّ من رأى واتساعها الهائل، أضحت (الدور) معدودة ضمن ضواحيها، وكثيرا ما ورد اسمها، في أخبار القرن الثالث الهجري (9 م) بوصفها جزءا من معالم الحاضرة نفسها «2» وعرفت يومذاك ب (دور سرّ من رأى) . ونبغ فيها، في القرون التالية، عدد من أهل العلم والحديث، الذين لقوا من أهلها العناية والرعاية، واسترعى وجود هذه الحركة العلمية فيها اهتمام بعض أمراء الدولة، فأنشأ أحدهم مدرسة علمية فخمة ومسجدا عند ضريح الإمام محمد الدوري، الذي يظن أنه محمد بن موسى بن جعفر «وكان شيخا ظريفا يتعاهد الصوفية وأصحاب الحديث» وتوفي بعد سنة 300 بقليل. «3» وما تزال بقايا هذه المدرسة العلمية موجودة حتى اليوم، تذكّر الناس بما كان

للبلدة من شأن علمي خطير في تلك العهود. «1» ولم تعدم البلدة، حتى في عهود التأخر التي رانت على البلاد، تميزها برعاية الحركة العلمية، فوردت إشارات مهمة إلى وجود «جوامع قديمة» و «معاهد علمية» «2» فيها، حتى عرفها بعضهم «بقرية العلماء» . «3» إلّا أن ظروفا متنوعة قاسية أدّت إلى أن تفقد البلدة رونقها وعزّها، فأخذ بعض أسرها بالنزوح عنها إلى بغداد. ويذكر عبد الرحمن حلمي، وهو مؤرخ بغدادي دوري الأصل، إن من تلك الظروف «تحول النهر عنها، وبقاء أراضيهم لا يصعدها الماء غير صالحة للزرع والحراثة» . كما يذكر أنّ ما دعا أهلها إلى هجرها «ما لحقها أيضا من مظالم الحكام» فضلا عن غارات العشائر عليها وعلى ما يليها، إلى حد أنه «لم تبق حرفة لمحترف» «4» ، ولا يحدّد هذا المؤرخ، الذي وضع تاريخه في أواخر القرن الثالث عشر الهجري (19 م) زمن حدوث تلك الهجرة، ومن الراجح عندنا أنها بدأت بالحدوث منذ أوائل القرن التاسع الهجري (15 م) واستمرت حتى القرن الثاني عشر (18 م) . ويفهم مما ذكره الرحّالة الفرنسي تافرنييه الذي مرّ بالبلدة في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، أنها لم تكن في أيامه إلا «مزارا» يؤمه الناس لزيارة ضريح دفينها الإمام محمد الدوري من أجل الدعاء والنذور» . «5»

وفي بغداد اختار الدوريون النازحون إليها الإقامة في أقصى جانبها الغربي، بين علاوي الحلة وسوق العجمي «1» مؤلفين هناك محلة صغيرة نسبت إليهم «2» وتدريجيا، أمست هذه المحلة موئلا لكلّ أسرة دورية آثرت أن تقيم في بغداد على مدى القرون الثلاثة الأخيرة. وكانت من الأسر العريقة في بلدة الدور، أسرة نبيلة تنتمي إلى السلالة العباسية، ولذا فقد اشتهرت بآل الخليفة «3» ثم عرفت بآل مدلل، نسبة إلى جد لها يدعى محمد بن الحسين، ويعرف بالمدلل، وهو لقب يدل على ما كانت عليه الأسرة في أيامه من عزّ وتقدير. وعلى الرغم من عدم معرفتنا بتاريخ الأسرة في هذه الحقبة إلا أنّنا نرجح أن يكون محمد المدلّل هذا قد عاش في أواخر القرن الثامن الهجري (14 م) ، ولا نعلم ما إذا كان هو أول من أقام في (الدور) أم أن أسرته كانت موجودة فيها منذ عهد سابق وأن تلقب الأسرة كلها- فيما بعد- بلقبه (المدلّل) وربما رجح الرأي الأول، والله أعلم. وعلى أية حال، فقد أنجب محمد ولدا سماه أحمد أو حمد. وأنجب الأخير ولدا دعاه علي، على اسم أبي جده، وكان لعلي ولد سماه حسينا، على اسم أبي جده أيضا، ويظهر أنه عاش في النصف الأول من القرن العاشر الهجري (6 م) ، وولد لحسين ولد دعاه بناصر الدين، «4» ولأمر ما، ربما اتصل بما ذكرناه من تدني الأحوال المعيشية والزمنية في (الدور) ، غادر ناصر الدين هذا موطن آبائه وأجداده في أواخر القرن المذكور، ميمما شطر مدينة

السلام بغداد. وكان أول ما فعله فيها، أن وثّق لدى نقيب أشرافها نسب أسرته، فكان على النحو الآتي: ناصر الدين بن الحسين بن علي بن حمد بن محمد المدلل بن الحسين بن علي بن عبد الله ابن الحسين بن علي أبي بكر بن الفضل بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن اسحاق ابن جعفر بن أحمد بن الموفق طلحة بن جعفر بن محمد بن الرشيد بن محمد بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي. «1» وقد صادق النقيب والقاضي والمفتي وسائر العلماء على صحة هذا النسب ووضعوا تواقيعهم عليه، وبذلك أيضا وضعوا بداية مرحلة جديدة لتاريخ هذه الأسرة. أقام ناصر الدين هذا في الكرخ ببغداد، مما دل على وجود محلة الدوريين في هذا الجانب منذ ذلك الحين على الأقل، وولد له فيها ولد ذكر سماه مرعي، فولد لهذا بدوره حسين، وقد عرف الأخير ب (الملا) مما دل على أنه كان يعمل بمهنة تعليمية دينية، ويظهر أنه حاز، وراثة أو اكتسابا، ثروة لا بأس بها، لكنه أنفقها كلها على مستلزمات مركزه الاجتماعي بوصفه رئيس عشيرته ومقدمها. يقول عبد الله السويدي «أما أبي حسين فكان من الأخيار الأجواد، ذا عقل رصين وشجاعة وبراعة، كبير قومه وعشيرته، يرجع أمرهم إليه.. وكان ذا مال غزير صرفه كله على الفقراء والضيوف والضعاف حتى افتقر آخر عمره، فكان يبيع من متاع البيت ويصرفه على الفقراء والضعاف حتى مات مدينا» . «2»

طفولته وصباه:

وتزوج حسين من امرأة من أسرة علمية أيضا، كانت تتولى المشيخة والخدمة في جامع الشيخ معروف الكرخي، القريب من محلة الدوريين، وقد اشتهر منهم الملّا أحمد بن سويد أخو زوجته المذكورة، الذي كان يتولى أوقاف جامع الشيخ معروف الكرخي. طفولته وصباه: وفي إحدى ليالي سنة 1104 هـ/ 1692 م، ولد للملّا حسين طفل ذكر سموه مرتضى، وكانت تسميته هذه بسبب وفاة وليد سابق عليه، وما لبث شبح الموت أن داهم مرتضى أيضا، فمرض وهو ما زال رضيعا بعد، واشتد مرضه حتى بات «عظاما في جراب» ، «1» وصادف أن رأته إحدى نساء الجيران وهو على تلك الحال، فشبهته ببعض من تعرفه من مجاوريهم، وكان نحيفا في غاية النحافة، يدعى (عبد الله) فلم يكن إلا أن ذاع هذا التشبيه، ولأمر اختاره الله، عرف الطفل بهذا الاسم، ونسي اسمه السابق مرتضى، وسرعان ما اقتنعت الأسرة بمزايا الاسم الجديد «وذلك لأن الله تعالى خاطب نبيه (صلى الله عليه وسلم) في أشرف المقامات بالعبد فقال في مقام الوحي، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ... . «2» ولم يلبث الطفل أن رزيء- وهو ما يزال في الخامسة من عمره- بوفاة أبيه، تاركا وراءه أطفاله الصغار، عبد الله ومرعي وموسى، وحليمة، وديونا لم يكن قد وفّاها لأصحابها، فاضطرت الأم إلى أن تعيل أسرتها وحدها، متحملة من المشاق أشدها، وكانت تنفق عليهم من بيع ما تقوم بغزله من قطن، ولم يكن ما تحصل عليه بكاف لسد حاجات الصغار الذي باتوا- على ما يذكر السويدي- «لحما على وضم، لا حال ولا مال» . وشاء سوء حظ الأسرة، أن يكون الخال أحمد بن سويد الصوفي، غائبا آنذاك في رحلة له إلى

متاعب الدرس:

القسطنطنية، فقضت- من ثم- أياما عصيبة- وربما شهورا- حتى عاد الخال من رحلته، ليجد أولاد أخته وهم «على آخر رمق» «1» فكفلهم وربّاهم وتعهدهم برعايته. ولأنه كان مثقفا بحسب ثقافة ذلك العصر، ويعمل في إدارة أحد المرافق الدينية المهمة في المدينة، ويكسب رزقه من أوقافه، فإنّه أدرك ألا سبيل لأن يفوز من يرعاهم بتقدير المجتمع، وأن يضمنوا- بذلك- مستقبلهم، إلا بالاتجاه إلى طلب العلم، ومن هنا فقد أرسلهم إلى الكتّاب، حيث تلقوا- وعبد الله بينهم- مبادئ العلوم الدينية على يد الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمود من أهل ما وراء النهر، فختموا عنده القرآن الكريم، وتلقوا عليه رسالة في التجويد، وتعلموا الكتابة. ويتضح لنا مدى الأثر الذي تركه هذا الشيخ على الطفل عبد الله، مما أغدقه عليه من صفات، وما استنزله عليه من رحمات، إذ قال «شيخنا الصالح الناسك الورع التقي العالم.. رحمه الله رحمة واسعة في الدين والدنيا» . وبعد الفراغ من تلقي مبادئ المعرفة، انتقلوا- وعبد الله بينهم- إلى المرحلة التالية، فشرعوا بتعلم الخط، على قواعده، وأصوله وفنونه، وثابر عبد الله على إتقان ضروبه، والتمهر فيه، على الرغم من ضيق وأحوال أسرته المادية آنذاك، يقول «إلى أن بقيت أسوّد مشقي على ضوء القمر» وما ذاك إلا لأنه عدم ضوء المصباح، ولعدم قدرته على دفع ثمن وقوده، ويظهر أن الظروف المعيشية للأسرة، هي التي دفعتها، في هذه المرحلة، إلى الاكتفاء بما نهله أبناؤها من أسباب المعرفة، فاشتغلوا بأعمال تزيد من دخل الأسرة وتخفف عن كاهل الأم وأخيها مؤونة الحياة وأعباءها. متاعب الدرس: بيد أن رغبة عبد الله في مواضلة التعليم لم تكن اعتيادية، فقد ذاق حلاوة المعرفة،

وأعجب بما تضفيه على رجالها من هيبة وسكينة، وتاقت نفسه إلى الاستزادة من علومهم، ولكن رغبته هذه لم تكن تلقى آذانا صاغية من أمه، التي كانت ترجو أن يتولى- بوصفه أكبر أبنائها- دوره في إعالة الأسرة. ويظهر أن أكثر من مشادة قد حدثت بين الابن الطموح والأم المحدودة الأفق حول جدوى العلم والتعلم، وقد سجل هو لنا بعض ما كان يدور بينهما فقال «وكانت والدتي- رحمها الله تعالى- بلهاء، وكان نساء المحلة يضحكن عليها، يقلن لها: ايش ينفعك العلم وأنت امرأة أرملة وابنك الكبير لا يساعدك في شيء فكانت رحمها الله تقول: يا ولدي نحن فقراء وأنتم أيتام، هب أن عمّك يطعمك فمن يكسوك؟ وأنا لا أصغي لها حتى ألّحت عليّ في ذلك وقطعت كسوتها عني، كل هذا نشأ عن بلهها، وإغواء نساء الجيران إياها، وإلا فهي في حد ذاتها مباركة رحمة الله عليها» . «1» وهكذا تحولت أيام الطلب إلى أيام معاناة وألم وصبر، بحيث لم يجد ما يشتري به شمعا أو شيرجا لمطالعة دروسه، فكان يطالعها على ضوء القمر، أو على سرج السوق، وبقي- كما يقول- مدة مديدة ما أكل فيها لحما، وكان يلبس الثوب فلا يخلعه حتى يتمزق لعدم حصوله على الصابون، ويطول شعر رأسه فلا يجد ما يحلقه به، يقول ملخّصا تلك المدة العصيبة من حياته «والحاصل أني وجدت أيام الطلب من المشاق والجوع والسهر والعري والإفلاس ما لا طاقة به لولا إسعاف الله ولطفه، وكنت مع هذه المشاق أجد للطلب لذة عظيمة» . ووجد عبد الله في خاله ما يعوضه عن موقف أمه غير المتفهم، فقد شجعه هذا على المضي في سبيل العلم، ومواصلة الأخذ عن الشيوخ، فبعد أن أنهى دراسته في كتّاب الشيخ عبد الرحمن، وأتقن الخط، أرسله خاله إلى عالم الكرخ يومذاك «الشيخ العالم النحرير والجهبذ الشهير، تذكرة السلف، وعمدة الخلف، زين الملة والدين، الشيخ حسين نوح الحديثي الحنفي «2» » وكان هذا العالم يتولى التدريس في المدرسة العمرية التي أنشأها له

خصيصا والي بغداد عمر باشا 1090 هـ/ 1679 م، وتقع على كتف دجلة في الجانب الغربي شرقي جامع القمرية ملاصقة له، «1» فانتظم الشاب عبد الله في سلك طلبة المدرسة، وربما استعان ببعض مخصصاتها على مواصلة التفرغ للعلم، وساعده ذلك التفرغ، مع ما أوتي من مواهب، على النبوغ في دراسته والتفوق على الأقران، وامتثالا لتعليمات شيخه، فقد حفظ الأجر ومية متنا مع إعراب أمثلتها وأتقنها غاية الإتقان، وبات موضع اعتزاز شيخه وثنائه، وشجّعه ما حصل عليه من تقدير على الانتقال إلى شيوخ آخرين، يأخذ عنهم ويستفيد منهم، فتنقل بين مدارس بغداد الشهيرة يومذاك، ويبدو أنه ترك، في هذه المرحلة من حياته، الإقامة في بيت أمه نهائيا، وأمسى يبيت في المدرسة المرجانية في الجانب الشرقي من بغداد، وهي أكبر مدارس بغداد وأكثرها أهمية، ثم ما لبث أن انتقل للإقامة والدرس في المدرسة الأحسائية على شاطىء دجلة في الجانب الشرقي أيضا، وكانت هذه المدرسة تحتوي على غرف بعضها مطل على النهر، وبعضها في الجهة الشمالية، وهي تعد مجمع الزّهاد والمتقشفين. «2» تاقت نفس عبد الله الكبيرة إلى الاستزادة من علوم عصره، ومواصلة رحلة الدرس والبحث، ويبدو أنه أدرك أن لا مزيد هناك إن هو أقام في بغداد وحدها، فما فيها من شيخ

استقراره الاجتماعي:

وعالم إلّا والتقى به وأخذ عنه، فضلا عن أن ثمة علوما لم يجد بين البغداديين في أيامه، من تخصص بها أصلا، وهكذا فقد استجمع أمره على الرحلة إلى الموصل لمواصلة دراسته على علمائها، كان عمره إذ ذاك قد تجاوز الثالثة والعشرين. وفي سنة 1127 هـ/ 1716 م سافر عبد الله إلى مدينة الموصل بهدف «تحصيل علم الحكمة والهيئة» ، ولكنه، ما إن وصلها، والتقى بشيوخها، حتى أخذ بإكمال سائر ما درسه من علوم أخرى وهو في بغداد، مثل النحو وعلوم العربية، والعلوم الشرعية والعقلية، كما درس الهيئة (الفلك) وتلقى الحديث الشريف على المشايخ، وقراءة القرآن وتجويده. ولم تكن أحوال الشيخ في الموصل بأفضل مما كانت عليه في بغداد، فقد داهمه الجوع والبرد، وألفه الفقر، ولم يكن له في الموصل من معين، والظاهر لنا أنه كان يتقوت من مخصصات بعض المدارس هناك، وربما أقام فيها، يقول واصفا تلك المرحلة من حياته «والحاصل أني نلت في طلب العلم نهاية التعب وغاية النصب مع عدم المساعدة والمعين والناصر والظهير حتى حصلت على أكثر الفنون من سائر العلوم» «1» وقد استغرقت إقامته في الموصل ثلاثة عشر شهرا، فتكون عودته إلى بغداد بين عامي 1128 و 1129 هـ/ 1717- 1718 م. استقراره الاجتماعي: عاد عبد الله إلى بغداد وقد حصل من العلم ما لم ينله غيره من معاصريه، فطار صيته، واشتهر أمره، ونال في هذه المرحلة من حياته لقبه الشهير (السويدي) الذي سيعرف به، وأولاده من بعده، أجيالا عديدة. وسبب تلقبه به، هو أن زميلا له في الدرس، يدعى الشيخ حسين بن عمر الراوي سافر ذات مرة إلى (راوة) بقصد زيارة أهله، فأخذ يراسل عبد الله من هناك على العنوان الآتي «يصل الكتاب إلى الملا عبد الله ابن أخت الملا أحمد بن سويد» ، ثم اختصر ذلك، في ما بعد، إلى (السويدي) فعرف به. وكانت أسرته تعرف قبلها بأولاد

مرعي نسبة إلى جده، كما عرف هو- في أثناء إقامته في الموصل- بالبغدادي، على أن هذه الألقاب لم تشتهر شهرته بالسويدي. ويبدو أن شيئا من التحسن أصاب أحواله المادية، فقد استطاع أن يتزوج من امرأة صالحة، تدعى فاطمة، شجعته على المضي في طلب العلم. ومنّ الله عليه منها بأولاد نابهين، ولد أولهم عبد الرحمن سنة 1134 هـ/ 1721 م، وولد ثانيهم محمد سعيد سنة 1141 هـ/ 1728 م، وولد ثالثهم إبراهيم سنة 1146 هـ/ 1733 م، وولد رابعهم أحمد في سنة 1153 هـ/ 1740 م وبابنتين هما سارة، ولدت سنة 1150 هـ/ 1737 م، وصفية، وقد ولدت سنة 1155 هـ/ 1742 م. وانتقل عبد الله من مسكنه القديم في محلة الدوريين، إلى دار أخرى- يظهر أنها كانت أحسن حالا من سابقتها- في محلة خضر إلياس من محال الكرخ القديمة من بغداد، وكانت الدار قريبة من دجلة، مطلّة عليه، ومشرفة على الفضاء الواسع الذي يحيط بالكرخ آنذاك، والذي كان محط القبائل العربية النازلة للاكتيال، وكان هذا الحي يمتاز- على نحو واضح- بصبغته العربية الخاصة، حيث كان موطنا للأسر العربية الكبيرة النازحة إلى المدينة من البادية، أو من أطرافها، مثل آل الشاوي زعماء قبيلة العبيد القحطانية وكانت دورهم مجاورة تقريبا لدار أسرته، والآلوسيين الحسينيين الذين كانوا قد نزحوا من بلدتهم آلوس على الفرات منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، «1» والعشاريين القحطانيين القادمين من نواحي الفرات الأعلى قبل ذلك، «2» وغير هؤلاء. وكانت إقامة تلك الأسر النازحة في حي واحد، وتعرضها إلى ظروف متشابهة، يساعد على خلق روح جماعية

دوره في الحياة العامة:

مترابطة، «1» وهي روح أثرت إلى حد عميق في شخصية السويدي، وابنه المؤرخ الأديب عبد الرحمن، إلى الحد الذي رشح الأول إلى تمثيل أهل بغداد في مؤتمر النجف سنة 1156 هـ/ 1743 م ودفع الثاني إلى تزعم أهل حيّه في عدد من المناسبات والظروف، وخاصة ما اتصل منها بفتنة عجم محمد سنة 1190 هـ/ 1776. «2» دوره في الحياة العامة: وتزامن ذيوع شهرة عبد الله السويدي في بغداد، مع تولي أحمد باشا بن حسن باشا (1136- 1160 هـ/ 1723- 1747 م) الحكم. وسرعان ما اتصل نجمه بنجم أحمد باشا الصاعد، وكان الأخير يرغب في تقريب العلماء والأدباء إليه، رغبة منه في خلق مجتمع بغدادي مثقف، يسانده في مشاريعه وخططه، كما رأى فيه هؤلاء نموذجا جديدا لحاكم عراقي طموح لم تشهد البلاد مثله منذ أمد بعيد، فنشأت بين الباشا والشيخ صداقة وثيقة، كان من آثارها عدد من القصائد الطوال التي مدح بها الأخير واليه، وأرّخ فيها الأحداث العامة المهمة التي جرت في عهده «3» وجاء اندلاع الحرب العثمانية- الإيرانية سنة 1135 هـ/ 1732 م لتؤجج مشاعر العراقيين وتذكيها، فقد اندفعت قوات عراقية كبيرة، بقيادة والي بغداد حسن باشا، إلى داخل إيران مفتتحة كرمنشاه ومدنا إيرانية أخرى، منهية بذلك عهدا كاملا مليئا بأنواع الاعتداءات الإيرانية على أرض العراق، وكان تولي أحمد

باشا، ولده، قيادة القوات المحاربة سنة 1136 هـ/ 1723 م ونجاحه في فتح همذان عاصمة الصفويين آنذاك، مدعاة لفخر العراقيين الذين أسهموا، بصيغ مختلفة، في تحقيق هذا النصر الباهر. وقد أبدى السويدي إعجابه بقابليات الوالي الشاب القيادية وتابع أخباره باهتمام شديد، وكانت له آراؤه فيما جرى يومذاك من أحداث، وقد نقل ابنه عبد الرحمن عنه آراء سديدة في تفسير ما تعرّض له الجيش العثماني من نكسات. «1» وحينما حاصر نادر شاه بغداد صيف سنة 1145 هـ/ 1732 م لم يتخل السويدي وأسرته، عن دوره في الدفاع عنها، فقد كانت خطة المهاجمين تعتمد على إحداث حركة تطويق على الجانب الغربي من بغداد، وهو أمر أدى إلى قيام أهل هذا الجانب بتحصين جانبهم على عجل. ولما كانت دار السويدي تطل على الفضاء القريب، خارج السور، فقد خرج هو ورجال عشيرته لصد المهاجمين وإفشال تعرضهم على تلك الناحية، وشارك الجميع، بحماسة منقطعة النظير، في معركة دفاع باسلة، وصفها ابنه عبد الرحمن- فيما بعد- وكان شاهد عيان لها بقوله «كنت على علية في دارنا مشرفة على محل الوقعة، فانظر إلى الخيل تعثر في الرجال وإلى السيوف تخطف رؤوس الأبطال حتى صار العدو أضعافهم، وكثر فناؤهم فأبصرت خيل عسكرنا (يريد: العسكر العثماني النظامي) ولت على أدبارها، وجدّت في جريها لفرارها، وأبصرت رجالنا ثبتوا ثبات الرجال، وقارعت الأبطال منهم الأبطال، وقاتلوا قتال من لا يريد الحياة، وكثر الرهج من جميع الجهات» «2» فكانت تلك الملحمة مبعث ذكريات وطنية مشتركة ظلت تتردد في أفواه الناس أجيالا متعاقبة. ومن ناحية أخرى فإن فشل نادر شاه في اقتحام المدينة الصامدة، واضطراره إلى الانسحاب منها، كان بشير تحسن في أحوال السويدي نفسه، وإيذانا بتبدل أوضاعه المعيشية والاجتماعية، فقد لفتت شهرة الشيخ العلمية، وكفاءته الشخصية، انتباه أحمد

باشا، صحيح أن السويدي سبق له أن اتصل به مهديا إياه بعض قصائده، إلا أن الأمر لم يزد يومذاك عما يدخل في نطاق صلات الأدباء بولاتهم، أما الآن، فإن نظرة الوالي إليه أخذت طابعا أكثر تقديرا وجدية. وما أن مضت مدة قصيرة، حتى أمر بتعيينه مفتيا في قصبتي النجف وكربلا، وهو منصب رفيع، ومهم، يومذاك، فغادر الشيخ وأسرته بغداد ليستقر- فيما ظهر- في قصبة كربلا، وليمضي هناك مدة ثلاثة شهور هانئة «مسرورين بقرب أولئك الأكابر، مغبوطين بأولي الشرف الظاهر» . «1» على أن الأيام لم تمض هانئة سعيدة، إذ سرعان ما تواردت الأنباء بتعرض إيراني جديد على العراق، واضطر السويدي إلى مغادرة كربلا، مع متوليها، على عجل، صحبة القوات الخاصة بمدينة الحلة، وسلك طريق شفاثة الصحراوي، ليصل، بعد حين، إلى الموصل التي كانت تتمتع بظرف أكثر أمنا، بعد أن استطاعت قواها العسكرية المحلية سنة 1145 هـ/ 1732 م أن تلحق هزيمة منكرة بقوة إيرانية أرادت احتلالها. «2» وبانتهاء الحركات العسكرية، وتقهقر الجيوش الإيرانية، عاد عبد الله السويدي إلى كربلاء ليتولى وظيفة فيها، ولكنه لم يلبث أن انتقل بأسرته إلى بغداد، ليستقر فيها بصفة نهائية. وشهدت المدة التالية من حياته نشاطا كبيرا في مجال العلم والتعليم، بل في توجيه الحركة الفكرية في بغداد يومذاك، فقد تقلّد أرفع المناصب العلمية، إذ تولى التدريس في مدرسة جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، «3» فكان ثاني من درّس فيها بعد إعادة افتتاحها في منتصف القرن الثاني عشر الهجري (18 م) ، «4» كما تولى التدريس أيضا في المدرسة

المرجانية، «1» التي سبق أن تلقى العلم فيها أيام الطلب، وكان التدريس فيها معقودا «لأعلم أهل بغداد» . «2» ثم أنه تولى سنة 1155 هـ/ 1742 م التدريس في مدرسة جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني، بعد تجديدها، في المدة نفسها «3» «فانتفعت به الطلبة علما وعملا» . «4» وجاء عدوان نادر شاه الجديد على العراق سنة 1156 هـ/ 1743 م ليلقي على كاهل السويدي، وقد بلغ الخمسين من العمر، مسئولية كبرى ومهمة صعبة، ففي ذلك العام قدم نادر شاه إلى العراق «بجحافل متواترة وجنود متوافرة عدد الرمل والحصى، وبث سراياه وعساكره في تلك الأراضي، فأبقى لحصار بغداد نحو سبعين ألفا «5» . وفي ظل ظروف حصار قاس طويل، وتحركات معادية مستمرة، انتدب السويدي للسفر- في مهمة شاقة وخطيرة- إلى معسكر نادر شاه، ممثلا للجانب العثماني، في المؤتمر المعقود هناك تحت ذريعة التوفيق بين المذاهب الإسلامية. وقد سجّل لنا السويدي نفسه، يوميات ذلك المؤتمر وما جرى فيه من جدال وحوار، وما انتهى إليه هو من نجاح في المهمة التي انتدب من أجلها. «6» ولا نشك في أن اختيار أحمد باشا للسويدي دون غيره من علماء بغداد المعاصرين كان دليلا على الشهرة العريضة التي حققها الأخير، والإجماع الذي انعقد عليه بوصفه أعلم أهل بغداد وأكثرهم كفاءة ومقدرة على رد الخصوم.

شهرته العلمية:

ويبدو أن شعورا غامرا من الرضا عمّ نفس السويدي- بعد فراغه من مهمته الخطيرة- ممتزجا بالحمد والامتنان لله الذي وفقه فيما فعل، فعزم على حج بيت الله الحرام. وما إن رفع الحصار عن بغداد في أواخر سنة 1156 هـ/ 1743 م حتى كتب- وفق التقليد السائد- طلبا إلى والي بغداد يستأذن فيه للسفر «لأن العادة في بغداد إذا كان لأحد جهة تدريس أو خطابة أو إمامه لا بد له أن يستأذن من والي بغداد» وقد افتتح طلبه بقصيدة دالية وصف فيها شوقه إلى بيت الله الحرام وإلى «تلك الأماكن الشريفة، والبقاع السامية المنيفة» . «1» وبعد صدور الموافقة المرجوة، أوكل الشيخ عبد الله في تدريس مدرسة الشيخ عبد القادر الكيلاني ابنه الشاب النابه عبد الرحمن. وغادر بغداد في رحلة طويلة- بحسب مراحل طرق ذلك العصر- إلى مكة المكرمة زار خلالها العديد من المدن والقرى، والتقى في أثناء ذلك بالكثير من العلماء والأدباء والمشايخ، وهي التي جمع أخبارها في كتابه الذي عنونه (النفحة المسكية في الرحلة المكية) وهو الذي بين يدي القارئ الكريم. عاد السويدي إلى مدينته بغداد، ليقضي فيها ما تبقى له من العمر، دون أن يغادرها إلى أي بلد فيما نعلم. ولسنا نعلم طبيعة المناصب العلمية التي تولاها بعد استقراره نهائيا في بغداد، وأغلب الظن أنه انصرف، خلال هذه السنين، إلى التدريس وكتابة بعض الرسائل وربما نظم الشعر أيضا. شهرته العلمية: طارت شهرة السويدي وانتشر صيته بما حققه من مجد علمي، وما صنفه من مؤلفات تلقفتها أيدي الطلبة، وما رنّت بصوته المنابر وحلقات الدرس، فضلا عما حصل عليه من إجازات العلماء خارج العراق، واقترن باسمه من توفيق في المهمة التي كلفه بها والي بغداد سنة 1156 هـ/ 1743 م، فقصده الطلاب من كل حدب وصوب، آخذين عنه العلم،

مستجيزين منه الإجازة، على وفق تقاليد ذلك العصر وأعرافه، ولم يكن مجلسه يخلو من أمثال أولئك الطالبين في كل حين. وفي هذا يقول واصفا منزلته الاجتماعية «وصرت- والحمد لله- بحيث يشار إلىّ بالبنان، ويوقّرني العامة والأعيان، وترفع محلي الولاة، وتتمنى رؤيتي القضاة، مسموع الكلمة، نافذ الأمر ... وكل هذا، أيها الواقف على هذه الرحلة- من بركات العلم» . «1» نال السويدي تقدير معاصريه، فوصفه الأديب عصام الدين عثمان بن علي العمري الموصلي (ت 1184 هـ/ 1770 م) بأنه «ممن يجلّه الدهر، ويعظّمه العصر، ويقدمه الفخر.. صاحب الأمثال السائرة، والبديهة الغريبة النادرة، وهو النبيه النبيل، الذي ما للوصول إلى كماله سبيل. رجل العراق، وواحد الأدب على الإطلاق، شمس سماء ذلك البلد، الذي لا يدانيه في فضله أحد ... فهو من حسنات الزمان، وثمار الأمن والأمان.. الخ» «2» وتساءل الأديب محمد بن مصطفى الغلامي (ت 1186 هـ/ 1772 م) : «ماذا أقول في حقه وقد طارت أجنحة الأخبار بفضله في البلاد كما ملأت الدروب؟» «3» ووصفه المؤرخ محمد خليل المرادي الدمشقي (ت 1206 هـ/ 1791 م) بأنه «الشيخ الإمام العالم العلامة، الحبر المدقق الأديب الشاعر المفنن» . «4» ومنهم من قصد بغداد خصيصا للأخذ عنه، والاستفادة من علمه، ذكر الشيخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري المدني (ت 1195 هـ/ 1781 م) في مقامة أدبية أنشأها على غرار مقامة الأمثال السائرة للسويدي، «5» أنه طرق سمعه- وهو في بلده- من يشدو

«قصائد رائقة، ومدائح فائقة، دلائل الإعجاز تلوح من تراكيبها، ومخايل الإيجاز تضوع من أساليبها، أسرار البلاغة في تلخيص مبانيها، ومفتاح الفصاحة في إيضاح معانيها ... » فاعتقد أن صاحبها «من الفضلاء المتقدمين» . ولما حدثه بعض الثقات «ممن جاب البلاد» أن بغداد «مشحونة بالجهابذة النحارير، والفضلاء المشاهير» استنكر هذا القول، لأنه سبق أن أقام بها، وكان العلم فيها «اسما بلا مسمى» فقيل له إنّه «نبغ فيها جناب العالم النحرير، عديم المثيل والنظير، إن ذكر العلماء فله القدح المعلّى، أو عد الفضلاء كان التاج المحلّى، عضد الملة المحمدية، وناصر الشريعة الأحمدية، آراؤه صائبة، وأفكاره ثاقبة» يعني بذلك عبد الله السويدي، وقال إنه فرح حين تحقق صحة رواية من أخبره، وانطلق «قاصدا بذلك كعبة الآمال، يقطع الروابي والوهاد، والأغوار والأنجاد» حتى وصل مدينة السلام، ليأخذ على عالمها وليدرس على يديه، فإذا به «فوق ما يصفه الواصفون بكثير» . وبعد عمر ناهز السبعين سنة قمرية، توفي الشيخ الجليل عبد الله السويدي في ضحوة يوم السبت الحادي عشر من شوال سنة 1174 هـ (17 مايس- مايو 1760 م) ، فدفن بإجلال يليق بحياته الثرة، وعطائه الجم، ومنزلته الرفيعة، في جوار مسجد الشيخ الزاهد، العارف بالله، معروف الكرخي، في مقبرته الكائنة بالجانب الغربي من بغداد. وقد ترك وراءه أربعة من كرام البنين، أحسن تربيتهم وتعليمهم، فضلا عما أورثهم من ذكاء فطري ونباهة، فبرز جميعهم في مجالات العلم والمعرفة، ولم تكن شهرة بعضهم بأقل من شهرة أبيهم، فعبد الرحمن، أبو الخير (المتوفّى سنة 1200 هـ/ 1786 م) كان مؤرخا فذا وفقيها وأديبا وشاعرا بارزا، بلغت مؤلفاته نحو اثنين وعشرين كتابا ورسالة، «1» ومحمد سعيد، أبو السعود (المتوفّى سنة 1223 هـ/ 1808 م) كان فقيها شاعرا أديبا، له مؤلفات ومحاورات شعرية، ونال إحدى إجازاته من العالم اللغوي البارع، الشيخ محمد مرتضى بن محمد

الحسيني الواسطي الزبيدي مؤلف معجم (تاج العروس في شرح جواهر القاموس) ، «1» وإبراهيم، أبو الفتوح (المتوفّى في الهند، ولم يعرف تاريخ وفاته) . وكان محدثا أديبا له تصانيف، وأحمد أبو المحامد (المتوفّى سنة 1210 هـ/ 1795 م) وهو الشاعر المؤلف في الأدب والتصوف وغير هما، «2» فكلهم كان مشهودا له بالفضل والأدب، معروفا بسعة العلم، وإليهم انتهت إجازات العديد من علماء العراق التالين، وعلى أيديهم تتلمذ كثير من الطلبة والدارسين، ووصفت أسرته بأنها «واحدة من تلك الأسر العربية الفاضلة التي حفظت لنا تقاليد العلوم الإسلامية القديمة في هذه العصور المظلمة بالنسبة للأدب العربي ومهّدت الطريق لنهضة ذلك الأدب في القرن التاسع عشر» . «3»

الفصل الثاني دوره في الحياة الفكرية

الفصل الثاني دوره في الحياة الفكرية شيوخه وإجازاته العلمية: أخذ السويدي العلم عن عدد كبير من العلماء والشيوخ من الذين التقى بهم في بغداد والموصل ومدن بلاد الشام والحرمين الشريفين، ونال منهم إجازات عديدة بمروياتهم ومعارفهم، كما أجاز- هو- عددا كبيرا آخر من تلامذته. فأعاد بذلك الحياة إلى كثير من العلوم والمعارف التي كادت أن تندرس في العراق نتيجة ما توالى عليه من كوارث ومحن. ووصل تلامذته في العراق بأهم أسانيد الرواية المتسلسلة لدى العلماء الآخرين من المعاصرين في خارجه، بعد أن كانت هذه الأسانيد تنقطع عند بلوغها حدا معينا من الرواة فلا تتجاوزه لقلة العلماء في العراق في القرون التي سبقت القرن الحادي عشر للهجرة (17 م) وتبعثر جهودهم العلمية. ومن ناحية أخرى، فإنه أسهم- إسهاما جادا- في تجديد الحياة الثقافية في العراق وفي توجيهها عن طريق إثارة اهتمام طلبته- وهم كثر- بالمصنفات المهمة، التي وضعها علماء الأمة في عصور خلت، ثم عزّت نسخها، أو فقدت في عصور الفوضى التالية. ولا نشك في أن لرحلته الطويلة وإقامته، خلالها، في مدن عربية عديدة، وأخذه من علمائها، وروايته عنهم الكتب والرسائل، أثرا كبيرا في نقله مصنفات مهمة، ما كانت لتعرف في بغداد لولا جهوده تلك، ولا أدل على ذلك من أنه كان أول بغدادي في عصره أحيا علمين كانا قد أوشكا على الاندثار بين علماء مدينته، وهما الحكمة، ويعني بها الكيمياء غالبا، والهيئة، أي الفلك. وقد درسهما في الموصل على بعض من تبقى هناك من

مؤلفاته:

علمائها. وفي هذا يقول العزاوي بأنه «من أفاضل علماء بغداد، ومن أكبر الموجهين للحركة الثقافية» . «1» وتكشف قائمة شيوخه وأساتيذه ومن أخذ عنهم، عن سعة معارفه وتنوع مآخذه، وغزارة ما نقله عن شيوخ زمانه إلى تلامذته من علوم وقد نوّه بأسماء العديد من هؤلاء الشيوخ والأساتيذ في ثنايا هذه الرحلة التي نقوم بتحقيقها، كما أشار إلى عنوانات الكتب والرسائل التي قرأها عليهم وأسانيد هم، فلم تبق ضرورة لإدراج هذه المعلومات في هذه الدراسة. مؤلفاته: وضع السويدي عددا من الكتب والرسائل في المجالات العلمية التي عني بها، وتشمل علم القراءات والتفسير والحديث واللغة والنحو والأدب والشعر وغيرها. ولقد أشار مترجموه إلى «إن له مؤلفات عديدة» «2» ولكن أحدا منهم لم يحط بكل عنواناتها، لأننا وقفنا على آثار له لم تشر إليها مصادر ترجمته، وبالمقابل، فإن تلك المصادر نوهت بمؤلفات له فقدت، ولم نعلم ما آل إليه مصيرها، على أهمية موضوعاتها. وفيما يأتي بيان بآثاره العلمية: أولا- في علوم القرآن: 1- تعليقات على شرح المقدمة الجزرية في علم تجويد القرآن الكريم للشيخ محمد بن محمد الجزري المتوفّى سنة 833 هـ. أولها «قوله افتتح فيه براعة استهلال كما لا يخفى، قوله أجزل أي كثّر وعظّم» . علق فيها على الشرح المذكور تعليقات نافعة أبانت عن علمه بدقائق هذا الفن، وهو

ثانيا: في الحديث الشريف:

متوسط في التفصيل، ناقش فيه المؤلف وردّه أحيانا، وانتقد (أرباب التصريف) في بعض أقوالهم، وربما ردّهم أيضا. وتتسم التعليقات- بوجه عام- بالتركيز، والوضوح، والبعد عن الإطناب. منها نسخة خطية ضمن مجموع في مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد برقم (22811) كتبها محمد أمين بن عبد الرحمن بن محمد محسن الدوري [السهروردي] سنة 1275 هـ/ 1858 م. «1» ثانيا: في الحديث الشريف: 2- شرح صحيح البخاري، نوّه به محمود شكري الآلوسي ووصفه بأنه «شرح جليل» . «2» ثالثا: في علم الكلام (العقائد) : 3- شروح أو حواش في علم الكلام، أشار إليها الآلوسي. رابعا: في الأذكار والأخلاق الدينية: 4- أنفع الوسائل في شرح الدلائل. شرح فيه كتاب «دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار «للشيخ محمد بن سليمان الجزولي المتوفّى سنة 854 هـ/ 1450 م. أوله «الحمد لله الذي جعل الصلاة على نبيه رحمة للعالمين» نوّه به المرادي «3» والبغدادي، «4» ووقفنا على نقول منه في مجموعة خطية في مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد برقم 3797 وموضوعها التشبيه الوارد في الصلاة عليه- عليه الصلاة والسلام- الوارد في التشهد» .

خامسا: في الردود:

خامسا: في الردود: 6- رسائل تتناول عددا من المسائل العقائدية والفقهية، استند فيها على الكتب المردودة وناقشها، وقد رتبها على مباحث، أفرد كلا منها لموضوع محدد. وفي مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد نسخة منها، ضمن مجموع رقمه (13785) ، وقد سقط شيء من أولها، وبدأ الموجود بقوله «ومن هفواتهم العظيمة، وزلاتهم الجسيمة قولهم» . 7- رسالة أخرى في الردود، ناقش فيها أحد المؤلفين، على طريقة (قال) و (أقول) ، واعتمد، في ذلك، على مصادر عديدة، وفي مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد نسخة منها، في المجموع المذكور آنفا، وهي ناقصة من أولها، وليس عليها اسم المؤلف، سوى تعليقات على الهامش تشير إلى أن الرسالة من تأليفه، ويظهر أن الناسخ قد اختصر بعض مباحثه، بينما أبقى البعض الآخر بحروفه. سادسا: في اللغة: 8- رشف الضرب «1» في شرح لامية العرب، شرح فيه القصيدة اللامية للشنفرى شرحا دقيقا ذكيا، تناول فيه ما تتضمنه القصيدة من غريب اللفظ، وأعرب أبياتها، وبين المفنن. أوله «الحمد لله الذي فتق بالفصاحة ألسنة العرب» . وقد أوضح المؤلف، في خطبة كتابه، منهجه في الشرح، وطريقته في التأليف، فقال «لما كانت اللامية الموسومة بلامية العرب للشنفرى ثابت بن جابر الأزدي من غرر القصائد.. وكانت مبانيها مرتجة الأبواب، ومعانيها لا يهتدى فيها إلى الصواب، محتاجة إلى شرح يرفع عن وجوه مخدراتها نقابها، ويكشف عن خرائدها جلبابها. التمس مني من تضلع في اللغة العربية وتدرب.. أن أضع عليها شرحا يبين الغامض المشكل، ويوضّح الخافي المعضل، فأجبته إلى طلبه، مبادرا في إنجاز بغيته، فشرحتها شرحا، الاختصار إهابه، والاقتصار

سابعا - في النحو:

جلبابه، مجردا عن الإطناب والتطويل والإسهاب، وجعلته مشتملا على ثلاث تراجم، الأولى في تفسير اللغة الخفية، والثانية في إعرابه على أصح الأعاريب النحوية، والثالثة في حل معناه وكشف مغزاه، وذيلت هذه التراجم في الغالب، برابعة رائعة المطالب. ونفعها غير قليل، ولذا وسمتها بالتكميل، أتكلم فيها على دفع انتقاد، وتوضيح مراد، وفك مبنى، وسبك معنى، وغير ذلك من المطالب المفيدة، والمقاصد السديدة، فصارت كالشرح الثاني لما أعاني» . ووصف المرحوم عباس العزاوي هذا الكتاب بأنه «يعد من الشروح المعتبرة» وإنه من الكتب المهمة في شرح اللغة وغريبها، ومراجعة بعض ألفاظها، وهو على اختصاره مفيد» . «1» منه نسخة في كتب العزاوي أشار إليها، وذكر أنها بخط المؤلف، مع أنه ورد في آخرها «تم على يد الملّا علي بن عبد الله في آخر شهر المحرم ليلة الأربعاء عام 1164 للهجرة» فهي قد كتبت في حياة المؤلف لا بقلمه. ونسخة أخرى ذكر العزاوي أنها في مكتبة المرحوم ناجي القشطيني مقابلة من المؤلف على أصل مسوّدته، وذكر أيضا أن منه نسخة ثالثة في مكتبة المتحف العراقي، وليس في فهارس المكتبة المنشورة إشارة إليها» . «2» وفي مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد نسخة أخرى، بخط جيد، لكن ليس عليها اسم ناسخها، وهي برقم (85) وتقع في 66 ورقة. سابعا- في النحو: 9- إتحاف الحبيب على شرح مغني اللبيب: وهو حاشية ناقش فيها «شراح مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» تأليف جمال الدين عبد الله بن هشام الأنصاري المتوفّى سنة

761 هـ/ 1359 م، وهم: أ- بدر الدين الدماميني (توفاه الله سنة 827 هـ/ 1424 م) في كتابه «تحف الغريب بشرح مغني اللبيب» . ب- أحمد بن محمد الشمنّي (المتوفّى سنة 872 هـ/ 1467 م) في كتابه «المنصف من الكلام على مغني ابن هشام» . ج- أحمد بن محمد المعروف بابن الملّا (المتوفّى سنة 1002 هـ/ 1594 م) في كتابه «منتهى أمل الأديب من الكلام على مغني اللبيب» . د- ابن هشام نفسه، في شرحه المتن. أوله «الحمد لله الذي أمر بالعدل والإنصاف ونهى عن الزيغ والانحراف» «1» ولم نقف على أثر لهذا الكتاب فيما راجعناه من خزائن المخطوطات وفهارسها، وكان الأستاذ عز الدين علم الدين سبقنا في البحث عن نسخة منه، وانتهى إلى القول بأنه «لا يعرف اليوم مستقر هذه الحاشية المخطوطة التي تصبو- ولا ريب- إليها قلوب النحاة لما تنطوي عليه المحاكمة من النقد والتمحيص» . «2» 10- كتاب في إعراب آي الذكر الحكيم، لم يشر إليه مترجموه، لكن توجد منه فائدة منقولة، مذيلة باسمه، ضمن مجموعة فيها فوائد في إعراب القرآن وتفسيره، محفوظة في مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد برقم (3797) . 11- فوائد متنوعة وأجوبة لمسائل في إعراب أحاديث شريفة وأبيات مختلفة، سأله الإجابة عنها علماء معاصرون له، موجودة في المجموعة المذكورة آنفا.

ثامنا - في الأدب:

ثامنا- في الأدب: 12- مقامة الأمثال السائرة المتضمنة للأحوال الموصلة للمقامات الآخرة. وهي مقامة في (90) صفحة، ضمنّها مجموعة من الأمثال العربية، استخرج معظمها من الكتب الأدبية التي اطّلع عليها، وأورد فيها بعض الأمثال المتداولة على ألسنة معاصريه. أولها «الحمد لله الذي رفع منار الأدب، وأعلى مقاماته، ونصب موائد فضائل العرب لمن رام ذلك في أسفاره ومقاماته.. وبعد، فيقول العبد الفقير إلى ألطاف مولاه الغني عبد الله ابن حسين بن مرعي بن ناصر الدين العباسي الشافعي الشهير بالسويدي: هذه مقامة الأمثال الناصعة السائرة في غابر الأزمان والمولدة المشهورة الدائرة بين أبناء هذا العصر والأوان» . وقد جعل المقامة تدور على لسان شخصية ابتدعها، هي الحسن بن سهل، يروي فيها أخبار من يدعى السري العذري وضمنها شيئا من شعره. منها نسخة في المكتبة العباسية في البصرة، وأخرى في مكتبة الدكتور محمود الجليلي في الموصل، وثالثة في مجموعة عيسى صفاء الدين البندنيجي وبخطه، وقد أشار إليها العزاوي، بوصفها من كتب خزانته.» طبعت في مطبعة النيل بمصر، مصدّرة بترجمة المؤلف، ومذيلة بمقامة قصيرة للشيخ عبد الرحمن الأنصاري في مدح السويدي والثناء عليه. مقامة أدبية. 13- أنشأها على لسان من سماه (قيس الشجون) يروي فيها أخبار (أبي الوله الغرام) . أولها «حدثنا قيس الشجون، ونحن بثغر المجون، قال أنبأنا أبو الوله الغرام» . أدرجها في آخر كتابه (النفحة المسكية) وبيّن أسباب إنشائه إياها. ومنها نسخة مستقلة في مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد برقم (4/13785) وتقع في خمس أوراق.

تاسعا - في البلاغة:

تاسعا- في البلاغة: 14- الجمانات في الاستعارات، نوّه به المرادي «1» وقال «ألّف متنا في الاستعارات جمع فيه فأوعى» . 15- شرح الجمانات في الاستعارات. قال المرادي «وشرحه شرحا حافلا» والواقع أنّه لم يشرح منه غير المقصد الأول، ثم كلف ابنه عبد الرحمن سنة 1168 هـ/ 1754 م بإتمام ما بدأ به، فأتمه الأخير وسماه (التبيان بشرح الجمان) . «2» عاشرا- في التاريخ: 15- فضائل أهل بدر رضوان الله عليهم. أوله «الحمد لله الذي أمدّ أهل بدر بجنود الفتح» . منه نسخة في مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد، كتبت سنة 1162 هـ/ 1748 م، تحت العدد (3/4834) . «3» وأخرى في مكتبة أوقاف الموصل، كتبها عبد الهادي رؤوف بعدد (19) . «4» نشرها إسماعيل الجيلاني البغدادي وطبعت في مطبعة بولاق سنة 1278 هـ/ 1298 م وصححها عبد الباقي الآلوسي. «5» حادي عشر- في الرحلات: 14- النفحة المسكية في الرحلة المكية. وهي هذا الكتاب.

ثاني عشر - في الشعر:

ثاني عشر- في الشعر: 15- ديوان، نوّه به مترجموه، وكان يظن أنه من كتبه الضائعة ثم عثرنا على نسخة منه لدى بعض الفضلاء السويديين، أحفاد المؤلف. وفي خزانتنا نسخة مصورة منه. أوله «الحمد لله الذي نصب مآدب الأدب، وشرّف بالبلاغة من الصنف الإنساني صنف العرب، فخصهم بمزايا البيان، وفضلهم بفصاحة اللسان ... وبعد فيقول العبد الفقير إلى الله الغني عبد الله بن الحسين بن مرعي بن ناصر الدين الدوري الشافعي المعروف بالسويدي البغدادي: كنت في إبان عصر الشبية. وعنفوان الأوقات المستعذبة الرطيبة أتولع بالنظام، وآتي منه على حسب المرام ... وكان من شنشنتي المستمرة، وهجيراي المستقرة، أني لا أقيده بمجموع أو ديوان.. فذهب أدراج الرياح.. وذلك لاشتغالي بفنون العلم وأنواعها، وشغفي بالتقاط فرائد الفوائد واستجماعها، وهذا هو الأحرى والأولى، والأفخر الأنفس الأغلى لكن ناداني لسان الحال، وأفصح وقال: ما لا يدرك كله لا يترك كله، وإن الإتيان بالمستطاع أمر ترتاح له الطباع، فشرعت في التقاط ما تبدد، وقيد أوابد ما [ت] شرد، وهو بالنسبة إلى ما ضاع كقطرة في بحر..» . والنسخة بخط الشيخ أحمد أبي المحامد، وهو ابن الناظم، وقد أضاف إليها قصائد عدة لأبيه لم ترد في أصل الديوان. ثالث عشر- في موضوعات أخرى: 16- رسالة فكاهية، جمع فيها بين كتابين زعم أنهما من الجن ألقى الواحد تلو الآخر في دار السيدة صفية بنت حسن باشا وجوابه عنها، ومدار ذلك النيل من القاضي والمفتي، وتاريخ الكتابة سنة 1163 هـ/ 1749 م، وتقع في 11 صفحة. «1» شخصيته العلمية: لا تكمن أهمية ما قام به السويدي من شروح وحواش في أنه يسّر متونا تعليمية أساسية

لطلبته، أو للطلبة في عهده عامة، فأعمال كهذه لم تكن بعيدة عن أيدي الدارسين يومذاك، وإنما تكمن أهميتها في أنها احتوت، فيما احتوت، على روح نقدية جديدة لم نكن نلحظها لدى سابقيه، من مواطنيه في الأقل، وبشّرت بولادة اتجاه قوي له (موقف) مما في الكتب الموروثة التي اكتسبت قدسية خاصة لكثرة ما اعتمدها الشيوخ أولا، ثم مما كان يبرز في واقعهم نفسه من ظواهر اجتماعية مختلفة. ولنبدأ هنا بتوضيح المسألة الأولى، فعلى رغم أن السويدي قرّض شرح صحيح البخاري للشيخ إسماعيل العجلوني، وكان عالم دمشق ومحدثها، بناء على طلب مؤلفه، فإنه انتقده بقوة مستهدفا منهجه، إذ وصفه بأنه «مجرد نقول لا محاكمة فيه ولا تحرير معنى ولا ضبط مبنى، بل إنه ينقل عبارة بعض الشروح ثم يعقبها بعبارة شرح آخر، ويكون بين العبارتين مخالفة فما يرجّح أحد القولين على الآخر ولا يجمع بينهما، وتارة تكون العبارتان متفقتين فينقلهما فتؤول إلى التطويل من غير فائدة» وانتقد منهجه في تدريس الشرح بأنه يجري «من غير تقرير ولا تحرير ولا حل إشكال ولا فك تركيب» «1» فما انتقده هنا لم يكن كتابا بقدر ما كان منهجا بأكمله، ولم يكن العجلوني وحده الذي اختصّ بالتأليف وفق هذا المنهج، وإنما كان نهج العديد من المؤلفين قبله أيضا، فعبارة السويدي إذن كانت تحدد موقفا جديدا من مناهج معاصريه ومتقدميه من علماء القرون المتأخرة التي سبقته، وهم الذين عمدوا إلى شرح المتون والتحشية عليها دون أن يكون لهم (موقف) مما يكتبون. ولا شك في أن السويدي تلافى ما رآه نقصا منهجيا حين وضع شرحه على صحيح البخاري، ولكن من المؤسف أن هذا الشرح ضاع فيما ضاع من آثاره، وعلى أية حال فإن في وسعنا تتبع موقفه الفكري هذا في جميع أعماله المتبقية الأخرى، وها هو في شرحه للامية العرب للشنفرى يصرح بأنه تكلم فيها «على دفع انتقاد، وتوضيح مراد، وفك مبنى، وسبك معنى» وإن هذا العمل جاء مهما

في نظره لأنه صار «كالشرح الثاني» بعد أن قام بشرح مفردات القصيدة وإعرابها، وهو ما يقوم به الشارحون عادة. ونحن نلمح في هذا الشرح روحا نقدية عالية، أتى فيها بكلام السابقين، وعقد موازنات بين آرائهم، وانتقد بعضها، وأوضح أسباب ذلك، وأيد البعض الآخر، وبين بواعث تأييده لها، ولم يتردد في الرد على مشاهير العلماء إذا ما ظهر له بطلان ما يستندون إليه من أدلة، وضعف ما توصلوا إليه من نتائج. وهو في حاشيته على مغني اللبيب، لم يجعل النقد جزءا من منهجه، وإنما منهجه كله، فقد ناقش فيه، مرّة واحدة، أربعة من شارحيه السابقين، بضمنهم مؤلف المتن نفسه، فجعله- كما وصفه المرادي- «محاكمة بين شارحيه» وهذا اللفظ، أعني «المحاكمة» وهو ما نقد كتاب العجلوني عليه لخلوه منه كما رأينا قبل قليل، وهو ما دفعه أيضا إلى تأليف عدة رسائل في الردود، ناقش في بعضها كتبا محددة على طريقة (قال) و (أقول) وهي طريقة تمنح المؤلف قدرا واسعا من الحرية في مناقشة النصوص. إن هذه الروح الجديدة في تناول النص ومناقشة صاحبه مهما كانت منزلته، هي- في تقديرنا- أهم ما أورثه السويدي لتلامذته العديدين، وهو بهذا يمكن أن يكون رائدا لمدرسة نقدية حقيقية في وسع الباحث أن يتتبع مسارها إبان أواخر القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر للهجرة (18 و 19 للميلاد) . وهذا بدوره يجرنا للكلام عن المسألة الثانية وهي أثر الاتجاه الذي بشّر به، وبدأه السويدي من خلال كتبه وتلامذته، على الفكر الاجتماعي في ذلك العهد والعهد الذي تلا، فإن ما بدأه السويدي من صياغة (موقف حر) في نقد العلماء (والأدباء من ضمنهم) من خلال نصوصهم، جرّ إلى موقف مشابه من نقد المجتمع من خلال واقعه نفسه. ورغم أن كتابا للسويدي لم يصلنا بهذا المعنى، إلا أن لنا أن نلمح ذلك في ثنايا مقامة أدبية وضعها لينتقد بها شخصيتين اجتماعيتين بارزتين، هما القاضي والمفتي، وربما نجد شيئا أكثر أهمية في نقده الجاد للحياة العلمية والمستوى الفكري في عهده، من خلال هجومه على ما

وصلت إليه المدارس التقليدية من ترد فادح، ومن خلال تعريضه بفئات واسعة النفوذ من العلماء والمشايخ والصوفية ومتولي الأوقاف، بل إنه مضى في ذلك ليشمل في نقده فئات اجتماعية لا صلة لها بالعلم، كالانكشارية ومن يدور في فلكهم، كما أنه انتقد أيضا ما سماه (قانون الأتراك) ويعني به ما كان متّبعا، في عهده، من شراء للمناصب العلمية والتدريسية في المدارس ذات الأوقاف الكثيرة. إن هذا الموقف من المجتمع، والذي لمحنا بعض بداياته لدى السويدي، استمر، بوضوح أكثر، لدى تلامذته، وبخاصة لدى أبنائه من العلماء، من ذلك أن حفيدا له، هو علي بن محمد سعيد (المتوفّى سنة 1214 هـ/ 1799 م) ألف، بعد نصف قرن من وفاة السويدي، كتابا مهما سماه «العقد الثمين في بيان مسائل الدين» حمل فيه بجرأة مشهودة على مظاهر وعادات وتقاليد اجتماعية سكت العلماء المعاصرون عن معالجتها، ودعا فيه صراحة إلى العودة إلى المنابع الأولى للدين، وهجر كثير مما كان سائدا، أو مألوفا، في عهده، من مزاولة للسحر بضروبه، وسكنى المقابر وتقديسها، والاغتسال بالآبار المباركة، وغير ذلك من أمور، كان التعرض إلى أيّ منها كافيا، لإثارة حفيظة فئات اجتماعية واسعة، وليس صعبا أن نلمح أوجه شبه عديدة، وأساسية، بين أفكار كهذه، وما تضمنته كتب السويدي الجد من طروحات وملاحظات. وعلى أية حال، فإن تيارا نقديا كهذا لم يكن ليتوقف، فقد وجد كتاب (العقد الثمين) انتشارا واسعا بين معاصريه، وجاء محمد أمين ابن مؤلفه علي السويدي ليبلور أفكاره، وينضج مواقفه، في شرحه له، الذي عنونه (التوضيح والتبيين لمسائل العقد الثمين) والذي عد نموذجا لفكر إصلاحي أخذت رياحه تعصف بكثير من التقاليد الموروثة في مجال الحياة الفكرية- الاجتماعية في القرن الثالث عشر الهجري (19 م) حتى وصف بأنه كتاب «تشد إليه الرواحل وتقطع دونه المنازل» . «1»

شعره:

وفي وسع الباحث أن يتتبع هذا الفكر، وهو يقوى ويشتد، في مؤلفات علماء عراقيين آخرين، أمثال أبي الثناء محمود الآلوسي (المتوفّى سنة 1270 هـ/ 1854 م) ونعمان خير الدين الآلوسي (المتوفّى سنة 1317 هـ/ 1899 م) ومحمود شكري الآلوسي (المتوفّى سنة 1343 هـ/ 1924 م) وفي مواقفهم الاجتماعية والسياسية أيضا. شعره: للسويدي شعر كثير ضاع معظمه كما صرح هو في مقدمة ديوانه، وقد أشاد مترجموه بجزالة هذا الشعر وجودته، فقال عثمان العمري الموصلي (توفي سن 1184 هـ/ 1770 م) «له نظم أحلى من الضرب، ونثر يريك في اتساقه العجب، ولكن لم يحضرني منه إلّا القليل، وهو على كل حال على الكثير دليل» «1» وأورد له منه نماذج جيدة. وأشاد محمد الغلامي (توفي سنة 1186 هـ. 1772 م) بشعره وأدبه، وساق نماذج أخرى منه. «2» وقال الشيخ كاظم الدجيلي «قلّ من العلماء من يبرع في العلم والشعر فيكون عالما فاضلا وشاعرا ماهرا، وشيخنا المترجم قد حاز قصب السبق في كليهما، فقد بلغ في الأدب شأوا بعيدا ونال فيه منزلة ترفعه بين الأدباء، وله نظم يزري بالمنظوم.. وله في الغزل والنسيب شعر يدخل الأذن بغير إذن» . «3» وفضلا عما احتجنه ديوانه من شعره الذي نظمه في مناسبات شتى، فقد أورد مترجموه نماذج عدة من شعره تدليلا على شاعريته، مثلما فعل العمري والغلامي، وشيء منه انتشر في مقاماته (الأمثال السائرة) وأثبت ابنه المؤرّخ عبد الرحمن في كتابه (حديقة الزوراء) قصائد مهمة له قالها في مناسبات وطنية وعامة مختلفة.

فمن شعره الذي ضمنه مقامته، وهو في الوعظ الرقيق، قوله: إلى م تطلب الجد ... وتبغي الحظ والجد وتعني الكبر والجد ... بذكر الأب والجد تجنب جانب الزهو ... وخل عنك ذا السهو إلام أنت في لهو ... ولا كسب ولا كد غدا تكون كالأمس ... إذا حللت في الرمس ولا جهر ولا همس ... ولا جزر ولا مد توقّ الخطب والهول ... وراع الصدق في القول إذا مت فلا عول ... ولا فرض ولا رد إلى كم أنت تعمل ... وكل الشر تفعل فعن ذا الفعل تسأل ... فما الجواب والرد تجنب قول من ذم ... وإن خص وإن عم ولا تصغ لمن نم ... ولو جاءك بالحمد إذا حل بك الموت ... أجبت داعي الفوت ولا حس ولا صوت ... وهذا آخر العهد غداة تظهر الحال ... ولا قيل ولا قال فأين العم والخال ... وأين الأب والولد أتعهد قول يا ليت ... ولا كيت ولا ذيت ولا دار ولا بيت ... سوى أن ضمك اللحد هناك تخشى الأهوال ... وليس تجدي الآمال ولا أهل ولا مال ... ولا عرض ولا نقد

وقوله شابا، وهو في الموصل، متغزلا: «1» جزم الحبيب بأن قلبي قد سلا ... ودّا تحكم في الحشاشة أولا لا والذي جعل الفؤاد أسيره ... ما حال قلبي عن هواك وبدلا أأحول يا سكني وحبك ساكن ... قلبا من الهجران ظل مبلبلا وأحيد عمدا عن هواك وأنثني ... عن سالف العهد القديم محولا فوحق صدق مودتي وتولهي ... لم يخطر السلوان في قلبي ولا أتظن أني في هواك معذب ... وأبين حبك للأنام تعللا ما كل ما جمع المحامد صالحا ... للحب أو أضحى لحب مولها فو حق طيب رضاك وهو اليتي ... إن لم تدع هجري هجرت الموصلا فاعطف على صب تصب دموعه ... حتى غدت من ودق سحب أهطلا وارحم فديتك مغرما عبثت به ... أيدي الصبابة فاستبيد مجدلا وانعم بوصل فالوصال زكاة من ... قد كان في فن المحاسن أجملا واسأل نجوم الليل عن سهري وعن ... عين تراعي النجم أول أولا بل لا تسل عما حوته جوانحي ... من زفرة فيها الجوانح تصطلى أيليق في دين الغرام وشرعه ... أني من الهجران أبقى مهملا فإلام أبقى في هواك مبلبلا ... وإلام أبقى من قلاك محوقلا إن كان في تلفي تروم عبادة ... بادر به يا ذا الصباح معجلا حتى يكون على الدوام مجاهدا ... جازاك ربي بعد ذاك تقبلا أو كان يرضيك التذلل خاضعا ... وافيت دارك في الظلام مهرولا مستغفرا من سوء ذنب جئته ... مستعفيا مستصفحا متنصلا فكأن حظي في النحوس وطالعي ... إن لم أجد بدري تخير منزلا

وقوله في مطلع قصيدة يمدح بها أحمد باشا والي بغداد: «1» دهتني خطوب والزمان معاندي ... ودهر طوى كشحا بقدري والع ترامت بي الأقطار من كل جانب ... فما أنا عن مغنى الأماجد شاسع وكم أزمة مرت عليّ ولم يكن ... لها كاشف بين البرية رافع

الفصل الثالث رحلته

الفصل الثالث رحلته زمن تأليف النفحة المسكية سجّل السويدي وقائع رحلته إلى الحج سنة 1157 هـ/ 1744 م في كتاب عنونه «النفحة المسكية في الرحلة المكية» ، يحتوي على وصف عدد كبير من المدن والقرى والمحطات التي كانت تقع على الطريق العام المؤدي من بغداد إلى الموصل فحلب ودمشق وصولا إلى الحرمين الشريفين، وهي على التوالي: بغداد، تل كوش، نهر الحسيني، نهر مزارع حمارات، الفرحاتية، المحادر، مهيجر، العاشق، مدينة المنصور، تكريت، وادي الفرس، قزل خان، الغرابي، البلاليق، الخانوقة، القيارة، المصايد، حمام علي، الموصل، بادوش، أسكي الموصل، تل موس، عين زال، صفية، الرميلة المتفلتة، ازناوور، نصيبين، قرده دره، دنيسر، مشقوق، دده قرخين، تل العطشان، أصلام جايي، مرج ريحان، الرها، سروج، الجيجلي، الببرة، الكرموش، ساجور، الباب، حلب، خان تومان، سرمين، معرة النعمان، كتف العاصي، المحروقة، حماة، حمص، شمسين، النبك، بريج، قارة، دمشق، دلة، المزيريب، الزرقاء، خان الزبيب، البلقاء، القطراني، الأحساء، معان، عنزه، العقبة، جغيمان، ذات حج، تبوك، المغرة، الأخيضر، الدار الحمراء، ديار ثمود، العلى، آبار غنم، البئر الجديدة، هدية، الفحلتين، العقبة السوداء، وادي القرى، المدينة المنورة، ذو الحليفة، الجديدة، بدر، الحمراء، القاع، رابغ، خليص، قديد، عسفان، مكة المكرمة.

منهجه:

وذكر المرادي «1» أن السويدي وضع مؤلفاته بعد عودته إلى بغداد، من رحلته الشهيرة التي دوّن أخبارها في «النفحة المسكية» وعليه يكون تدوينه هذه الرحلة هو أول كتبه، أي أنه بدأ بالتأليف وقد تجاوز الخمسين من عمره، ولا ندري مصدر المرادي في هذه الرواية، لأننا لاحظنا أن السويدي قد صرح في إجازته العلمية إلى الشيخ عبد الرحمن الصناديقي المؤرخة في 8 رمضان سنة 1157، والتي دوّن نصها في رحلته نفسها، أنه أجازه بجميع مؤلفاته «وهي الآن أكثر من عشرة» فتكون (النفحة المسكية) من أواخر أعماله لا أولها، وهو ما يفسر ما تبدو عليه من قوة الأسلوب، وجزالة في اللفظ، وبعد عن التكلف، ودقة في الوصف، ونضج في الاستنتاج والتعليل. «2» ولقد نالت هذه الرحلة اهتمام معاصري السويدي، كما عني بها العلماء التالون، فتعددت نسخها الخطية، واختصرها بعضهم، واجتزأ منها آخرون قطعا لتبدو رسائل مستقلة بذاتها. منهجه: 1- ضبطه لأسماء الأعلام الجغرافية: أولى السويدي اهتماما واسعا لتسميات الأعلام الجغرافية، من مواضع، وجبال، وأنهار، وعيون، مما مر به في أثناء رحلته، فجاءت هذه الرحلة أكثر فائدة- من هذا الجانب في الأقل- من كثير من كتب الرحلات الأجنبية إلى المنطقة في الحقبة نفسها، ففي حين كان الرحالة

2 - بحثه في أسباب تسمية الأعلام الجغرافية:

الوافد، وهو أوروبي غالبا، يسجل الأسماء كما تلتقطها أذنه من أفواه معاصريه، وربما سمعها بشكل مشوه أو محرف فسجلها على ذلك الشكل أيضا، وجدنا السويدي، بما أوتي من باع طويل في اللغة والبحث، يضبط كل اسم ضبطا محكما دقيقا، فهو حينما يمر بمهيجير يذكر أنها «بضم الميم وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية وجيم مكسورة بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة وآخر الحروف راء مهملة» وكذا حين يمر بالخانوقة، يقول: إنها «بالخاء المعجمة، فألف، فنون مضمومة، فواو ساكنة، فقاف مفتوحة، آخرها هاء التأنيث» وفي ضبطه لخان شيخون، بأنها «بشين معجمة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فخاء معجمة مضمومة فواو ساكنة فنون آخر الحروف» وهكذا نجده يفعل في المئات من أسماء الأعلام الجغرافية التي مر بها، ولذا فقد جاءت هذه الأسماء بمنجى عن أي تحريف أو تصحيف قد تتعرض له عند النقل أو النسخ. ولم يكتف السويدي بهذا فحسب، بل عمد إلى تثبيت طريقة التلفظ بالاسم نفسه، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، فقال عن نصيبين أنها «على صيغة جمع المذكر السالم لنصيب» وعن العاشق أنه «بوزن اسم الفاعل» وقال عن موضع اسمه صفيّة أنه «كسمية مصغرا» وعن موضع آخر يدعى المعظم أنه «على صيغة اسم المفعول من التعظيم،» وعن المتفلتة أنه «اسم فاعل من تفلت، في آخره هاء التأنيث» وعن زيزى أنها «كضيزى» فضبطت بذلك طريقة تلفظ الاسم فضلا عن ضبطه حروفه. وفرّق السويدي في هذا المجال بين التسمية الجارية على ألسن معاصريه من العامة، والتسمية الفصيحة التي أوردتها الكتب والمعاجم، فقال عن البلاليق إن «العامة تبدّل القاف كافا» وعن مرحلة تدعى ذات حج: إنها «بكسر الحاء المهملة، كذا سمعتهم ينطقون به» وقال في تعليل تسمية مرحلة الأخيضر: إنه «يحتمل أنه الوادي الذي بين المدينة والشام كما في القاموس ويحتمل أنه الحضير والعامة تصرفت فيه» . 2- بحثه في أسباب تسمية الأعلام الجغرافية: بحث السويدي في سبب اكتساب كل موضع مر به تقريبا للتسمية التي عرف بها، وقد

استفاد في ذلك من روايات مرافقيه من أهل تلك الديار والنواحي، أو من النصوص التي أوردتها المعاجم اللغوية والبلدانية وكتب التاريخ، والتي أظهر أنه كان مطلعا عليها بشكل واسع، أو من ملاحظاته الشخصية حول علاقة الموضع بما يكتنفه من مظاهر بيئية مختلفة. وعند تحليل النصوص التي أوردها حول هذا الموضوع، يظهر للباحث أن السويدي يعزو هذه التسميات إلى عاملين رئيسيين لا ثالث لهما، أولهما عامل تاريخي يتصل بما مر على المكان من أحداث أو ما مر به من أشخاص، وثانيهما عامل جغرافي يتعلق بما يحيط بالمكان من تضاريس مختلفة، أو ظواهر جيولوجية أو مناخية أو غير ذلك. ويتجلّى العامل الأول في بحثه عن الأعلام التاريخية التي نسبت إليها المدن والقصبات والمواضع التي مر بها، فقال عن تل كوش «لعل نسبته إلى كوش بن كنعان» وعن تكريت أنها «سميت بتكريت بنت وائل» وأن خان تومان منسوب إلى امرأة اسمها تومان بنته» ، وأن معرّة النعمان منسوبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وقوله في موضع اسمه عنزة» الظاهر أنها سميت بعنزة بن أسد بن ربيعة، وبه سميت القبيلة المشهورة لأن تلك الأرض مسكنهم قديما وتفسيره لاسم مرحلة تدعى جخيمان أنها «سميت كما قيل باسم شيخ من شيوخ الأعراب كان يأخذ الصرّ عندها» وقوله عن بئر تسمى بالبئر الجديدة: إنها «سميت بذلك لأن البئر حفرها ليس قديما، أو أنه مغير عن جدّ وهو البئر الكثيرة الماء أو قليله ضد» . هذا بينما يتجلى العامل الثاني، أعني الجغرافي، في ملاحظات السويدي الذكية للصلات التي تربط المكان ببيئته الجغرافية، وتفسير إطلاق تسمية الموضع بحسب معطيات تلك البيئة وظواهرها المختلفة، فهو يذكر أن موضعا سمي المحادر لما فيه «من الانحدار والهبوط» ، وأن عينا تسمى الغرابي «لكون الماء في مقره أسود يشبه الغراب» ، وأن البلاليق «سميت بذلك لأن الأماكن التي حواليها بلق بيض، وجبلها لا شجر فيه فهو أبلق» ، وأن المصايد، وهو موضع على دجلة، أنها سميت بذلك «لأن ماء دجلة يتعوج فيها لما فيها من الانحراف، فكأنها تصيد الكلك» ، وأن عينا تسمّى صفية» سميت بذلك أما لصفاء مائها، أو لكونها تجري على صفاة» ، وأن البلقاء «سميت بذلك لأنّ حجارتها متلونة بالسواد

3 - عنايته بالجغرافية الطبيعية:

والبياض أو لأن أرضها خالية عن النبت والشجر» وأن موضعا سمي القطراني «نسبة إلى القطران عصارة الأبهل، سميت بذلك لكون حجارتها سوداء» وأن المنزلة المسماة المغر هي جمع مغرة، وتعني الطين الأحمر، والممغر: المصبوغ بها. ومثل ذلك الموضع المعروف بالدار الحمراء «سميت بذلك لكون رملها أحمر وكذا جبالها، والبدو يسمونها الهضب لأن حواليها هضابا كثيرة وأهل الشام يسمونها مفارز الأرز لأن فيها حصى بيضا صغارا يشبه الأرز الأبيض» ، وأن مرحلة العلى «سميت بذلك لكون الجبلين اللذين يكتنفانها عاليين مرتفعين» . وغير ذلك من الملاحظات الجغرافية التي توزعت الرحلة، وحاول من خلالها التوصل إلى حقيقة كثير من المسميات التي شاهدها بنفسه. 3- عنايته بالجغرافية الطبيعية: قدم السويدي وصفا مفصلا وبالغ الدقة لكثير من الأماكن التي مر بها، مما يدخل ضمن ما نسميه بالجغرافية الطبيعية، فقد تكلم على: أ- الجبال والتلال: أهتم السويدي بوصف الأوضاع الطبيعية لتلك الأماكن ذات التكوين الطبيعي المعقد، من جبال وتلال ووديان، وقد جاءت عباراته، في هذا المجال، معبرة عن الصورة التضاريسية للمكان، شاملة لأبعاده، فحين نزل تلّ كوش، وهو تل أثري قديم، وصفه بأنه «تل صغير مستطيل الشكل» ووصف تل مهيجر، قرب سامراء بأنه «تل صغير مدوّر قريب دجلة» وتل موس بأنه «تل عال مدور» . ووصف الطبيعة المعقدة عند عين الزرقاء، في طريقه من دمشق إلى المدينة المنورة، وصفا شاملا إذ قال إنها «أراض وعرة وعقبات ذوات انحراف واعوجاج وصعود وهبوط ووديان منخفضة» ومثل ذلك كلامه على منطقة الأحساء بأنها «واد بين جبلين وفي طريقها عقبات وأوعار واعوجاج وصعود وهبوط» ، ووصفه لأرض معان بأنها «ثغر فيه وعر وعقبة صعبة المسلك لما فيها من الجنادل والانحدار والارتفاع مع ضيق المسلك» . ولم يكتف بذكر الجبال، وإنما تكلم عن وديانها، فوصف مرحلة العقبة بأنها تقع «في واد تحيط به الجبال من جوانبه الأربع (كذا) » ، ووصف مرحلة المغرة بأنها «منزلة بين

ب - السهول:

جبلين حجارتها حمراء كالمغرة» . كما وصف قلعة الأخيضر، على طريق تبوك، بأنها «في عقبة تحيط بها الجبال، وفي طرفها مما يلي الشام عقبة ضيقة وعرة ذات جنادل كبار» ، وتكلم على ما يحيط ببلدة المعلى من جبال «عالية» مرتفعة» . ب- السهول: ومثلما اهتم السويدي بوصف ظواهر السطح المعقدة، فإنه اهتم أيضا بوصف الأراضي المنبسطة، سعتها، وشكلها، وطبوغرافيتها، من ذلك وصفه منطقة الفرحاتية، من أعمال دجيل، بأنها بر أفيح (أي واسع) ذو حصى دقاق، ووصفه للمناطق التي تحيط بالبلاليق بأنها «بلق بيض» ، والبلقاء بأنها «أرضها خاليه عن النبت والشجر» وأن «حجارتها متلونة بالسواد والبياض» وإشاراته إلى «الجنادل السود» في أرض «مشقوق» وفي «تل عطشان» من نواحي الجزيرة. ووصفه لمجاري الانحسار إن كانت صخرية أو رملية، وقوله عن الكثبان الرملية في جنوبي الأردن إن «الرمل كثير متراكم تسوخ فيه الأقدام، وهذا الرمل يبدو بلون أحمر، ولذا فإن منظر الحصى الأبيض الصغار على الأرض الحمراء يشبه الأرز الأبيض» وملاحظته أن أرض هدية على طريق الحجاز «كثيرة الرمل» ومثل هذه الإشارات يدل على قوة ملاحظة، واهتمام يجعله أقرب إلى اهتمامات عالم الصخور Petrologist منه إلى مجرد عالم ذي ثقافة دينية تقليدية ماض في طريقه إلى الحج. ج- الأنهار ومصادر المياه: وجه السويدي عنايته إلى وصف مصادر المياه المختلفة في المدن والقرى والنواحي التي مر بها، حتى إنه يندر أن دخل مدينة أو قرية إلا وتطرق إلى مصادر مياهها، من أنهار وبرك وعيون، ولم ينزل موضعا على الطريق إلا وأتى على ذكر ما يتوفر فيه من ماء وكميته ومذاقه أيضا، وربما أراد من تفصيله في هذا الأمر أن يكون كتاب رحلته دليل سفر للذين سيسلكون الطريق نفسه من بعد، فضلا عن اتساق ذلك مع اهتماماته العامة في رصد الظواهر الطبيعية والطبوغرافية فيما يمر به من بلاد، من ذلك إشارته إلى نهر الحسيني «وهو جدول يخرج من دجيل» ، وإلى نهر الفرحاتية» من أعمال دجيل أيضا، ووصف نهر قويق

بأنه «نهر صاف عذب لأهل تلك الديار» وأنه «يمد قناة حلب» وأن منبعه من عين إبراهيم عليه السلام «وهي من جيلان قرية شمالي حلب» وأنه «نهر ذو فوائد كثيرة ومنافع غزيرة» . ونوه بما يسقيه من بساتين، وقد أثارت دهشته سعة ما يرويه منها مع صغر مجراه «بحيث لو أراد أدنى الناس قطعه لقطعه، وهو يزيد على كفاية حلب مع [ما] فيها من كثرة البساتين والقساطل والحمامات والخانات والبرك والأحواض، بحيث لو شاهد أحد ذلك لاعتقد أن دجلة تعجز عنه» . واسترعت انتباهه تسمية نهر العاصي، وبعد أن عرض أقوال بعض متقدميه حول هذا الأمر، أعلن أنه لا يرى سببا لتلك التسمية إلا لأن «منبعه نحو الغرب إنما يرى في بعض الأماكن جريانه من الشرق إلى الغرب لتعرج مجاريه في بعض الأراضي فيظن الرائي أنه كذلك من منبعه يجري على خلاف جريان الأنهار» . كما اهتم أيضا بالمياه الجوفية، من عيون وآبار، وذكرها في مناسبات كثيرة، ونوه بمذاق بعضها، بل عمد إلى المقارنة أحيانا بين عين وأخرى، فقال عن عين زال (عين زالة) مثلا إنها «عيون كثيرة على وجه الأرض، وماؤها عذب إلا أنه دون عين موسى عذوبة وصفاء» ، وقال واصفا عين صفية بعدها» هي عين ماؤها في غاية الصفاء، يجري أولا على أحجار كالصفا.. وماؤها عذب يشبه ماء دجلة» ووصف ماء عين الرميلة بأنه «عذب خفيف، قيل إنه أخف المياه» ، وماء عين حسية بأنه عذب صاف، ولكن ماء عين النبك «أعذب من الأولى» . وبالمقابل فإنه وصف ماء نصيبين بالرداءة، ومثله ماء قرية العلى. ولاحظ وفرة المياه تحت الكثبان الرملية في جنوب الأردن، فقال «وهذه الأرض إذا حفر فيها نحو ذراع خرج الماء لأنه كامن تحت الرمل، إلّا أنه رديء مسهل لما فيه من ملوحة» ، وحين أخبر بأن ثمّة موضعا يعرف بالغرابي نسبة إلى لون مائه الأسود، لاحظ أن هذا الماء يأخذ لونه من لون مجراه، وإلّا فلا لون له. وتطرق إلي الآبار الارتوازية، ونوه بالمشاق التي كان يكابدها بعض أهل تلك النواحي في الوصول إلى مياه الشرب، بسبب انخفاضها عن مستوى سطح الأرض. قال مثلا واصفا مورد

د - المناخ:

قرية سرمين إن «أهلها يشربون ماء المطر، يحفظونه في الآبار وآبارهم لا ينبع منها ماء لبعد غوره جدا» . ووصف أيضا البرك والصهاريج، فعند الأبهل بركة عظيمة مشرفة على الخراب، تمتلىء من ماء المطر، «وعند الأحساء سهل من الأرض يجتمع فيه الماء أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر كلما نزحت دلوا جمعت أخرى» . ونوه بسعة بركة المعظم فإنها «تزيد على ثلاثين ذراعا في ثلاثين، وعمقها نحو خمسة عشر ذراعا يجتمع فيها ماء المطر، وله مسيلات ينحدر فيها» . د- المناخ: أورد السويدي إشارات عديدة، ودقيقة، عن الأحوال المناخية للمناطق التي مر بها، ولم يفته، حين يصف مدينة أو صقعا ما، أن يتطرق إلى ما تختص به من مناخ، فنصيبين مثلا «وخمة، هواؤها رديء» يشير بذلك إلى ارتفاع نسبة الرطوبة في جوها، ودنيسر «هواؤها معتدل» ، ومعان «طيبة الهواء» بينما تعد العلى «رديئة» . ولاحظ أن ثمة مناطق شديدة الحرارة، رغم أن الفصل كان شتاء، قال واصفا مناخ خيبر «وصدفنا في هذه المنزلة حر شديد يزيد على حر تموز في العراق حتى تجردنا عن غالب الثياب، ونحن نسبح بالعرق وكان قد مضى من كانون الأول اثنا عشر يوما» . 4- عنايته بالجغرافية الاقتصادية: ا- وصفه للنبات: ولم يغفل السويدي عن أن يسجل لنا وصفا دقيقا لبعض ما لفت نظره من غرائب بيئته من نبات، فكانت تلك الكتابات قريبة إلى ما كتبه بعض الرحالين الأوربيين الذين جابوا المنطقة في عصره، «1» وفي الحقيقة فإننا لسنا نعلم رحّالة محليا، في ذلك العصر، قد سجّل أوصاف النبات بتلك الدقة العلمية التي تميز بها السويدي في رحلته، انظر إلى قوله يصف

نوعا من الشجيرات رآه عند نزوله بعض قرى دجيل إلى الشمال من بغداد» وكان نزولنا عند شجيرات جذوعها كجذوع السّدر وأوراقها وأغصانها كالرمان، ولها ورد أصفر كصورة الجلنار، «1» إلّا أنه يخالفه في اللون، وفي أسفل كل وردة نقطة تشبه العسل لونا وطعما، ولها دبق كدبق العسل، ولقد ذقتها فوجدت طعم العسل فيها، إلا أن النقطة إذا قرب جفافها يصير فيها شائبة مرارة، وأهل تلك الأرض يسمونها بشجيرات العسل على صيغة التصغير» . ووصفه شجرة الغزوح وما تتركه من أثر مخدر لدى آكليها، وهي «قضبان دقاق خضر لها ورد أصفر صغير أشبه شيء بالشيح» . ونحن نجد السويدي شديد الاهتمام بما مر من نبات وزرع لا يفتأ أن يسجّل لقرائه أخبار ذلك، فسرمين، وهي قرية قريبة من حلب «يحيط بجوانبها أشجار الزيتون» والطريق إليها مزدان بأشجار السنديان والبطم، بل يصل به اهتمامه إلى حد إحصاء عدد النخيل فيما يمر به من نواح، فيذكر أن ناحية العلى، من نواحي وادي القرى «فيها حدائق من النخيل نحو عشرة آلاف نخلة، وتمرها جيد، وفيها الليمون الحلو الكبار» ، وتثير اهتمامه العلمي كثرة المزروعات في بساتين حلب مع قلة مصادر المياه فيها، فيقول «ورأيت كرومها وأشجار التين والزيتون والفستق واللوز تعيش بلا ماء، وكذلك البطيخ الأخضر والأصفر، ورأيتهم يبذرون في ترابها وهو جاف غاية الجفاف فينبت وما ذاك إلا لطيب تربتها» . وبالمقابل، فإنه لم يفته أن يسجل ما كان عليه كثير من المناطق التي مر بها من جدب أو قلة زرع، فالبلاليق «جبلها لا شجر فيه» ، والبلقاء «أرضها خالية عن النبت والشجر» ، والقاع «عبارة عن بر أفيح لا ماء فيه» ، وهكذا فإنه قدّم من الملاحظات الكثير مما يفيد الباحث في دراسة جانب من الحياة الاقتصادية للمدن والقرى العربية في القرن الثاني عشر الهجري (18 م) .

ب - وصفه لطرق المواصلات:

ب- وصفه لطرق المواصلات: تعد طرق المواصلات من مقومات الجغرافية الاقتصادية، وقد أولاها السويدي جانبا من عنايته، فسمى، على نحو دقيق، جميع مراحل الطريق المؤدي من بغداد إلى الموصل فحلب ثم دمشق فالحرمين الشريفين، وضبط المسافة، بالفراسخ، بين كل مرحلة وأخرى، وقد ظل هذا الطريق مسلوكا، ومفضلا بوجه عام، عند الحجاج العراقيين على الطريق القصير المباشر الذي يجتاز بوادي نجد وقفارها. وطريق الحج هذا، كما وصفه السويدي، يتألف من 75 مرحلة ويمر بأكثر من ثمانين مدينة وقرية ومحطة، ويتراوح طول المرحلة الواحدة بين ثلاثة فراسخ وعشرين فرسخا، أي بين تسعة كيلومترات وستين كيلومترا تقريبا (الفرسخ- 6 كم) ويستغرق قطع الفرسخ الواحد نحو ساعة أو أكثر بحسب استواء الطريق أو وعورته. وعلى الرغم من استخدام السويدي الفرسخ وحدة رئيسة لقياس المسافات، فإنه استخدم أيضا الميل، ويبلغ ثلث الفرسخ، أي زهاء الكيلومترين، والبريد، ويساوي أربعة فراسخ، أي نحو 24 كيلو مترا. أشار السويدي إلى أهم ما يعنى به المسافر في طرق ذلك العهد، فقد ثبّت مواضع الخانات ووصفها تفصيلا، وحدّد أماكن برك المياه وسعتها ونوع مياهها، كما لم يغفل عن الإشارة إلى الآبار الارتوازية والعيون المتدفقة، ومن ناحية أخرى فإنه سجّل ملاحظاته حول الحالة الأمنية للطرق يومذاك، وأشار إلى النواحي التي يكثر فيها خروج قطاع الطرق ومداهمتهم قوافل التجار والمسافرين، كما أشار أيضا إلى القلاع المنشأة لغرض حماية الطرق، ومن يقيم فيها من الجند، والمدد التي يقضونها في تلك القلاع قبل إبدالهم بغيرهم، وما يتصل بذلك من شؤون تهم المسافر في ذلك العهد، لأغراض عملية مباشرة، وتهم الباحث في يومنا هذا، بوصفها تلقي ضوءا على مرفق مهم من المرافق الاقتصادية يومذاك.

5 - عنايته بجغرافية المدن:

5- عنايته بجغرافية المدن: ا- معاييره في تصنيف المدن: قدّم السويدي، من خلال رحلته، معلومات قيمة عن أحوال المدن والقرى العربية في عصره، وقد كان دقيقا في تصنيفه المستوطنات البشرية التي مرّ بها، إذ نراه يفرّق بين المدينة والبلدة الكبيرة، والبلدة الكبيرة والقرية والقلعة ومحطة الطريق، أو المرحلة، ففي حين عدّ الموصل وحلب وحمص وحماة ودمشق والمدينة المنورة مدنا، وصف كلا من تكريت وأسكي موصل بأنها بلدة كبيرة، وعد كلا من الخانوقة ودنيسر والرّها ومعرّة النعمان والبلقاء بأنها بلد أو بلدة، والبيرة بأنها بليدة، هذا بينما وصف الباب والنبك وسرمين بأنها قرى كبيرة، في حين وصف قرى أخرى مثل تل موس وعين زال ونصيبين وقره دره وخان شيخون وقاره والعلى بأنها مجرد قرى، وعد نواحي أخرى مثل: بريج، الزرقاء، المزيريب، القطران، عنزة، المدورة، ذات حج، تبوك، الأخيضر، المعظم، آبار غنم، هدية، قلاعا، وإن وجد حول بعضها عدد من البيوت. وليس من العسير تحديد معاييره في هذا التصنيف، إذا ما حللنا طبيعة المعلومات التي أوردها عن كل صنف من أصناف المستوطنات هذه، فالمدينة هي التي تتميز بوجود دار للحكم (سلطة سياسية وإدارية) وأسواق متنوعة، وخانات للتجار والمسافرين (نشاطات اقتصادية) وجوامع كبيرة، ومدارس، ووفرة في العلماء (نشاطات ثقافية وروحية) فضلا عن الأسوار والحصون وبعض المظاهر الأخرى. أما البلدة، فالأوصاف التي أوردها عن بلدة كمعرة النعمان، تشير إلى أنها تلك التي تتميز بوجود أسواق، وجامع كبير، وحمام، وليست البلدان الكبيرة- على ما نفهم من وصفه لتكريت وأسكى موصل- إلا مدنا قديمة، أدى خرابها إلى فقدانها صفتها (كمدن) ولكنها لم تبلغ حد أن تتساوى مع (بلدات) ناشئة ليس لها تراثها أو شهرتها. وعلى هذا الأساس نفسه عد مدنا لها مكانتها السالفة كنصيبين مجرد قرى لأنها «مشرفة على الخراب لا جمعة فيها ولا جماعة» . وتتميز القرى، بحسب وصف السويدي، بوجود بساتين قريبة، مما يدل على غلبة النشاط الزراعي على أهلها، ومع ذلك فإنه وصف قرية حسية الصغيرة بأنها «لها خان كبير

ب - وصفه للمدن القديمة:

لأبناء السبيل فيه جامع يخطب فيه، وفيه بركة ماء كبيرة، وخارج القرية بركة أكثر من عشر في عشر» ، ووصف قرية النبك بأن في «ظاهرها خانا لأبناء السبيل، وفي داخله خانات للشتاء وفيه جامع خطبة» ، وذكر أن لقرية قارة «جامع خطبة» وأنّ لقرية قطيفة خانا كبيرا واسعا» مما دل على النمو الذي أصابته بعض القرى في ذلك العصر، بسبب موقعها من الطرق التجارية، بل إن كثيرا من القلاع التي رآها، ووصفها، كانت مهمتها حماية تلك الطرق والإشراف على حركة النقل، فيها، وقد بدأت بالتحول إلى قرى يسكنها المعنيون بتقديم الخدمات إلى القوافل في عهده نفسه، فقد لاحظ هو أن بعض القلاع قد نمت بقربها بيوت. ب- وصفه للمدن القديمة: اهتم السويدي، فيما اهتم به في رحلته، بوصف الآثار الشاخصة أو الدارسة من العصور التالدة، من تلال أثرية، وبقايا قصور وقلاع ومدن دائرة. وفي الواقع فإن مجرد أن تسترعي هذه الآثار اهتمامه يدل على تحسسه البارع لتاريخية المواضع التي كان يجوس خلالها في أثناء رحلته تلك، وهو ما يجعله يقف ضمن أوائل المثقفين العراقيين الذين نالت آثار بلادهم المادية جانبا من اهتماماتهم العلمية، في عصر انحصرت فيه معظم تلك الاهتمامات، لدى علماء آخرين، بالترجمة للأحياء وتسجيل ما أخذوه عنهم من إجازات، وما رووه عنهم من روايات وأخبار. قال واصفا تل كوش الأثري، إلى الشمال من بغداد بأنه «تل صغير مستطيل أحمر على كتف دجلة الغربي» وحاول، في أثناء مروره ببقايا قصر العاشق الأثري، في ضواحي سامراء القديمة، أن يقدّم تفسيرا لوجود تسميتين مختلفتين لهذا القصر في عهده، إحداهما العاشق والأخرى المعشوق، وكان الناس، في أيامه، قد نسجوا قصصا متنوعة حول هاتين التسميتين، فقال هو ناقلا من القاموس المحيط: إن المعشوق قصر بسر من رأى، ولكنه استدرك بقوله: فلعله غيره، لأن العاشق في الجانب الغربي من دجلة، وسر من رأى في الجانب الشرقي، فلعل هذا البناء يسمى بالعاشق، والقصر الذي يسمى بالمعشوق.. والعاشق هذا بناء قديم لم يبق منه إلا أثر الجدران مبني

ج - وصفه المدن القائمة:

بالآجر والجص. ولاحظ، وهو يمر بالخانوقة، في طريقه إلى الموصل، أن هذا الموضع يتألف من «تلال عظام من تراب مستديرة، بعضها إلى جانب بعض كهيئة القلعة والسور» . ووصف آثار مدينة ثمود الأثرية، في طريقه إلى وادي القرى، ولاحظ عدم صحة ما كان يتداوله الناس حول كونها قد قلبت بسبب غضب الله عليها، فقال «ديار ثمود وتسميها العامة ديار صالح.. وهي أرض موحشة.. وفيها بيوت ذوات أبواب، على سطح كل باب هيئة الدرجين المعكوسين، تظن العامة أنها مقلوبة وليس كذلك كما هو ظاهر لمن تأمل البناء وعقد الأبواب والأواوين، وأكثر البيوت علا عليها الرمل» . وإشارته إلى «تأمل البناء وعقد الأبواب والأواوين» لافتة للنظر حقا، لأنها تدل على أن مروره بتلك الآثار الشاخصة، لم يكن مرور عابر سبيل اعتيادي، وإنما كان مشاهدة، ودرسا، واهتماما. ج- وصفه المدن القائمة: شغف السويدي بوصف عمارة المنشآت المهمة في المدن التي أقام بها أو زارها، ولم يكن وصفه لها مجرد إشارات عابر سبيل، أو تنويه بوجودها فحسب، وإنما وصف تأمل وتدبر، فيه من دقة الملاحظة وحسن التصوير ما هو جدير بالالتفات، ولذا فقد حفلت رحلته بفقرات مسهبة عن عدد من تلك المنشآت، كالمساجد والمدارس والخانات والقلاع. ونحن نراه حين يعمد إلى وصف عمارة منشأة ما، يحيط بالعناصر الرئيسية المكونة لها، على نحو متوازن لا خلل فيه؛ ففي حديثه عن المساجد لا يغفل عن وصف عناصر المسجد الرئيسية: القبة والمحراب والمصلى والصحن والمئذنة، وربما قارن بعض هذه العناصر بغيره مما سبق أن شاهده في مساجد أخرى، واستفاد من النصوص والكتابات الأثرية على المسجد نفسه في التعرّف على تاريخ إنشائه أو تجديده. قال في وصفه لجامع دنيسر «لها جامع كبير واسع قديم من محاسن الدنيا بناء وعمارة، إلا أن نصف قبته ساقطة والباقي متداع.. وله محراب في غاية الجودة عليه كتابة عربية وكوفية مكتوب عليها بعض آيات قرآنية، وعليه اسم من

عمّره وهو السلطان خالد تحيط به جدران عالية شامخة، تكتنفها منارتان رفيعتان في غاية الجودة والحسن تشبهان منارة الجامع الكبير في حلب، إلّا أن هاتين أحسن وأحكم بناء، وللمصلى الداخل باب عن يمينها وعن شمالها آخر، ويكتنفها أربعة شبابيك يمينا وشمالا» . وكلامه عن جامع حمص يكشف عن دقة ملحوظة في تتبع تاريخ البناء وما مر عليه من تطورات، وفي تسجيل الكتابات الأثرية التي فيه، وفي إحصائه لأساطين الجامع وأحجامها، وما إلى ذلك من أمور، يقول «جامع كبير في صحنه بركة وعواميد سمّاقية ملقاة ومطروحة على الأرض، وأعلى المصلى مسقف بالخشب وظاهر البناء يدل على أنه كان عقدا، فأخبرت أن تيمور الخبيث هدمه. وعلى باب الجامع المذكور من خارج كتابة فيها اسم الباني وهو السلطان المالك الملك المجاهد المرابط المؤيد المنصور أسد الدنيا والدين ملك المسلمين أبو الفتح شير كوه بن محمد بن شير كوه ناصر أمير المؤمنين في شهر رجب سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.. وفي داخل المصلى عواميد من الرخام في غاية الغلظ والطول، وهي سبعة عشر عمودا طول الواحد نحو أربعين شبرا، ودوره قدر ما يحضن الإنسان مادا يديه بمرة ونصف» . ووصف جامع معرة النعمان ومئذنته بأنه «جامع كبير في أحسن ما يكون من العمارة، وله منارة رفيعة حسنة البناء مربعة» كما وصف الجامع الأموي في دمشق مجملا فقال «وهذا الجامع كبير واسع في غاية الحسن من العمارة والنقش والاسطوانات والرواقات بحيث يعلق في كل ليلة من رمضان نحو اثني عشر ألف قنديل كما قيل» ، وجاء وصفه لعمارة جامع السليمانية بدمشق ومدرسته دقيقا، تطرق فيه إلى ما كان يحفل به من برك وفوارات وحجر ومآذن، قال «هو جامع جليل تحيط به البساتين من جوانبه الأربعة، في وسط صحنه بركة ماء واسعة فيها خمس فوارات، وفيه مطبخ يطبخ فيه الطعام، وله حجر متعددة، سقوفها قباب مطلية بالرصاص، وكذا قبة الجامع، وله منارتان حسنتان، والحاصل أنه جامع من عجائب الدنيا إلّا أن مصلاه صغير.. ويتصل به مدرسة السليمانية، وهي ذات حجر كثيرة في صحنها بركة ماء عشر في عشر ذات فوّرارات خمس، وموضع التدريس قبة واسعة

6 - عنايته بالجغرافية البشرية:

عظيمة تفتح شبابيكها على البساتين من الجوانب الأربع، وجميع قباب الحجر وسطوحها مصفحة بصفائح الرصاص» . واستأثرت الخانات (فنادق المسافرين) بجانب من عناية السويدي، فخصّ عددا منها بوصف شامل لمرافقها في ذلك العصر، ويظهر مما ذكره أن هذه المنشآت كانت تمر بمرحلة من الازدهار نتيجة لتطور أحوال التجارة ونموها وبخاصة تجارة النقل في المشرق العربي في أواسط القرن الثامن عشر، وازدياد اهتمام السلطات المحلية بها بوصفها مراكز لحماية التجار، مصدر تمويل تلك السلطات آنذاك. قال واصفا أحد الخانات عند مدخل مدينة حمص «هو خان كبير مشتمل على خانات، فإذا دخلت بابه رأيت صحنا كبيرا واسعا في أطرافه حجر لأبناء السبيل وعن يمين الصحن باب كبير فيه خان فيه أواوين وحجر واصطبل، ومقابل الوجه باب كبير أيضا فيه أواوين وحجر أيضا وجدول ماء صغير متشعب من العاصي، وعن يساره صحن طويل يشقه جدول من العاصي وعليه ناعورة صغيرة» . كما أشار إلى خانات أخرى في المدن والطرق التي مر بها، منها قزل خان وخان الأغوات (في الموصل) ، وخان تومان، وخان حماة وخان القطيفة وخان الزبيب، وغيرها. ومن ناحية أخرى فإن رحلته حافلة بإشارات مهمة إلى عدد من قلاع المدن، والقلاع التي على الطريق، مثل قلاع شمسين، وبريج، والقطيفة، والمزيريب، والزرقاء، والقطران، وعنزة، والمدورة، وذات حج، وتبوك، والأخيضر، والمعظم وغيرها. ولم يغفل أن ينوه أحيانا بالقرى الكبيرة التي ليس لها سور يحميها. ونظرا لاهتماماته الدينية والتاريخية فقد سجّل لنا ما كانت تحفل به مدن تلك العهود من قبور الصحابة، والأولياء، فضلا عن المقامات المنسوبة للأنبياء، وما هو مشيد عليها- أحيانا- من قباب ومبان. 6- عنايته بالجغرافية البشرية: عني السويدي بتقديم ملاحظات علمية ذكية عن المجتمعات البشرية التي مر بها، مما يدخل ضمن نطاق ما يعرف بالجغرافية البشرية، فقد تكلم عن الصفات الموروثة لبعض

الجماعات. قال واصفا أهل ناحية قزل خان «ولهم نسل في بغداد في مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يقال لهم القزلخانية، والغالب عليهم الشقرة» ، وتطرّق أحيانا إلى تحديد العروق التي ينتمي إليها سكان بعض النواحي، فقال عن سروج إن «حولها ضيعة تركمان» ، وأفاض في مواضع عديدة في وصف الأخلاق العامة لبعض المجتمعات، فوصف سكان بعض القرى بأن «أهلها ليس لهم ملاءمة مع الغرباء، وهم من الوحشة التي يستوحشها الغريب على جانب عظيم» . وقال عن سكان مدينة حلب «أهلها في غاية الرقة واللطف ونهاية الشفقة والعطف» ، وعن قرية سرمين إن «أهلها ليسوا من أهل الأنس» ومثل هذه الأوصاف، على إيجازها، تدل على إحساس قوي لدى رحالتنا ب (مجتمعات) تلك المدن والقرى التي صادفها، وليس بأفراد منها، يأخذ عنهم الإجازات العلمية أو ينقل عنهم أخبارهم الأدبية، كما كانت تنحصر مهمة الرحالين المحليين السابقين. ولم يقف السويدي عند تسجيل السمات الظاهرة لبعض ما صادفه من مجتمعات زمانه، وإنما حاول سبر مكنونات هذه المجتمعات، بالنظر إلى ما تضمنه من فئات وشرائح مختلفة، والملاحظات التي ساقها بشأن مجتمع دمشق تقف دليلا على عمق نظرته العامة، ووعي ظاهر بالقوى الاجتماعية السائدة يومذاك، فلقد لاحظ أن هذا المجتمع يتألف من ثلاث «مراتب» أو «طبقات» اجتماعية، أعلاها ما يسميه ب «الطبقة العليا من أكابر وعلماء ومشايخ طريق» وأدناها «المرتبة السفلى من الينكجرية (الأنكشارية) ومن كان على طريقتهم من الأرذال الأنذال» أما المرتبة الوسطى فهم «أهل الحرف كالعطارين والبزازين والبقالين وبعض العلماء ومن ينحو نحوهم» وهو حينما يوجّه إلى الطبقة العليا انتقاداته القاسية «فراعنة كذابون مراؤون لا علم ولا عمل» فإنه يعلم أنه إنما ينتقد الطبقة التي طالما وقفت على قمة الهرم الاجتماعي للمدينة العربية، والتي تتألف غالبا من القوى الإقطاعية التقليدية (أكابر) وحلفائها من العلماء الكبار وزعماء الطرق الصوفية (علماء، مشايخ) ، ولكنه يحس الآن بأن هذه الطبقة أخذت تفقد مبررات احتفاظها بتلك المرتبة، نتيجة للتطورات الاقتصادية والاجتماعية الآخذة بالظهور في عهده (القرن 12 هـ/ 18 م)

والمتمثلة بصعود الطبقة الوسطى المنتجة بالدرجة الأساس، وبما أن الطبقة العليا لا تعمل، إذ إنّها تستمد ثرواتها من ملكياتها الواسعة للأرض الزراعية خارج المدن ذاتها، فإنها تفرز قيما وممارسات سلبية (التسلط، الكذب، المراءاة) . أما المرتبة أو الطبقة الوسطى، وإليهم ينتمي السويدي فعلا، فواضح أنها تضم جميع الفئات المنتجة في المجتمع (أهل الحرف) ومن هنا فإنها تفرز قيما إيجابية تحفظ للمجتمع تماسكه «فلهم رقة وديانة وصلاح وأمانة وإكرام للغرباء وحسن ظن بالصلحاء، يوادّون الغريب، ويكرمونه ويبجلونه» . ولنا أن نلاحظ هنا أن موقف السويدي من فئة العلماء- وهو نفسه معدود منهم- كان موقفا مركبا، فهو لم ينظر لهم (ككتلة اجتماعية) واحدة، ومن ثمّ فإنه لم يلحقهم، بهذه الصفة، بإحدى الطبقتين العليا، والوسطى، وإنما نظر إليهم من داخلهم، فرأى أن بعضهم قد تحالف مع الطبقة الأولى حفاظا على مصالح مادية بحتة إذ كان «لهم طريق إلى جلب الدنيا» وهم يحاولون تعزيز مواقعهم بتأكيد دورهم الروحي والثقافي لدى الفئات الأخرى «يودون أن كل أحد يقبّل أيديهم ويأخذ عنهم الطريق ولا يبالون بأحد، يظهرون للعوام أنهم الهداة المرشدون.. لهم حالة يجلبون بها قلوب العوام ويموّهون عليه ويراؤونهم» ، وليس لهؤلاء من همّ سوى جمع الثروات ولو بوسائل غير شرعية، إذ «لهم مظالم، ويتعاطون الربويات، ولهم بيوت صرفوا عليها ما لا يعد ولا يحصى، شاهقة نحو السماء بحيث لو تباهى فرعون لأنكر عليه» . أما الطبقة الأخيرة، وهي التي يسميها «المرتبة السفلى» فلا يمكن فهم موقف السويدي منها إلا عند دراسة مكوناتها، إذ من الملاحظ أنه عد «الينكجرية» على رأس هذه الطبقة، بينما نعلم أن هؤلاء هم ضباط وجنود فرق الانكشارية العسكرية المكلفة رسميا بحماية النظام والمدينة، وليس ذلك بغريب إذا ما علمنا بتحول هؤلاء- منذ قرن سابق- إلى مجرد مرادف دقيق لكلمة (رعاع) فقد انقطعت صلاتهم بالدولة المركزية، إلّا نادرا، ومن ثم تلاشت مظاهر ضبطهم العسكري، بل انخرطت في سلكهم فئات عديدة، طلبا للحماية أو

7 - اهتمامه بالجوانب الثقافية:

- في الأكثر- دفعا لضررهم، وتمثلت فرقهم جميع ما هو قائم بين تلك الفئات من علاقات وخصومات، فكثر رهجهم وزادت مشاكلهم «فهم أجلاف جفاة لا دين ولا مروءة» ، ومن الطبيعي أن يلحق بالطبقة الوسطى، (وجلّها من أهل الأسواق والحرف) ، أكبر نصيب من آثار الفوضى التي يلحقها الانكشاريون وأتباعهم بأمن المدينة وسكانها. ويبقى لنا أخيرا أن نقول: إنّ السويدي هو أول مثقف عربي- فيما نعلم- حلّل مجتمع المدينة العربية في القرون الأخيرة إلى (طبقات) اجتماعية، متميزة، لكل منها أخلاقها المستمدة من طبيعة ما تقوم به من دور، وهو بالتأكيد أول من أعطى تعبير (الطبقة) بعدا اجتماعيا اقتصاديا ثقافيا واضحا على النحو الذي شرحناه. وفي الرحلة، بعد هذا، فوائد جمّة عن بعض مظاهر الحياة الاجتماعية، فقد تطرق- مثلا- عند حديثه عن عادات أهل دمشق، إلى الكلام على زي العلماء الفاخر من «الفرى السمورية والسنجابية والقاقمية وغيرها بحيث يساوي مالا جزيلا» . ووصف عمائمهم، وعمائم من يقلدهم من الناس، ونوّه، وهو في بعض قرى جنوبي الأردن، بأكلات فاخرة، ووصف مكوناتها» من أنواع الحلويات السكرية والكاهي والخروف المحشو والمصارين المحشوة والأكارع والرءوس المطبوخة أحسن طبخ وعليها ماء الليمون والبلاو المزعفر وعليه قطع اللحم السمينة والحريرة المطبوخة مع ماء الليمون، والمخلل المعمول من الزيتون والقرع وغير ذلك» . كما أشار أيضا إلى عادات اجتماعية، وتقاليد مرعية، وأعراف شائعة، انتقد بعضها، وأقر البعض الآخر، وهي- على أية حال- تفيد الباحث في رصد الحياة الاجتماعية في المدينة العربية إبان ذلك العهد. 7- اهتمامه بالجوانب الثقافية: يمكننا أن نعد رحلة السويدي إحدى الوثائق النادرة، عالية القيمة، التي رصدت الحياة الثقافية في المشرق العربي إبان القرن الثامن عشر، وأوضحت عمق الصلات الثقافية بين العلماء والأدباء في المدن العربية آنذاك، فقد سجّل فيها أسماء العلماء الذين التقى بهم،

وصف النسخ المعتمدة.

وترجم لبعضهم، ونوه بعلومهم ومعارفهم، ودوّن عنوانات مؤلفاتهم، وثبّت شيئا مما جرى بينه وبينهم من محاورات ومناقشات علمية، وما أخذه عنهم من إجازات، وما أخذوه هم عنه، وتبرز أهمية تلك الإجازات في أنها احتوت قوائم دقيقة بالعلماء الذين أخذ عنهم صاحب الإجازة، فبيّنت من ثمّ طرق تسلسل العلم، وأخذ الرواية. كما أنه سجل نماذج من نصوص بعض الرسائل الأدبية المتبادلة بينه وبين معاصريه من العلماء والأدباء، وفيها فوائد جمّة تعبّر عن روح العصر وذوقه السائد. ولم يقصر رحالتنا اهتمامه على العلماء الذين التقى بهم، وإنما تطرق أيضا إلى وصف حالة المدارس الكبيرة التي زارها، بيد أنه انتقد تدنّي المستوى العلمي فيها، وتدهور أحوال التدريس في بعضها، فالمدرسة السليمانية بدمشق «لا عيب فيها سوى أن أصوات العلم فيها خامدة، ولا يصرف عشر العشر من أوقافها وإنما يأكله الجهلة» ، ومدرسة سليمان باشا بدمشق أيضا «العلم فيها معدوم» ، أما المدرسة العمرية فهي «عامرة ذات أوقاف كثيرة لا عيب فيها إلّا أن العلم والتدريس مفقود بها» ، ويقول «أخبرني غير واحد أن في الصالحية مدارس عدد أيام السنة إلّا أن أكثرها اندرس وأوقافها يأكلها ذوو الرتب من أهل الجهل» ، والمدرسة العادلية من أحسن المدارس إلا أنها خربة» ، بل شمل نقده جانبا، من النظام التعليمي كله، إذ ذكر أنه سمع أن في دمشق «نحو ألف مدرسة أكثرها اندرس والباقي صار منازل للناس وأوقافها يأكلها هؤلاء الجهلة. ومما اعتادوه أنهم يذهبون إلى الدولة العلية ويشتري له مرتبة تدريس على قانون علماء الأتراك فيكتسب بذلك الكبر والظلم..» . وهكذا فإنه أدرك أن جزءا من الخلل في العلمية التعليمية يكمن في قيام بعض من لا يستحق بدفع الرشاوى كي يتولى مناصب علمية، لا بسبب رغبته في ممارسة التعليم فعلا، وإنما للاستفادة مما هو موقوف على المؤسسات التعليمية من أموال. وصف النسخ المعتمدة. خلت فهارس المكتبات العامة والخاصة التي راجعناها من إشارة إلى النسخة الأصل التي كتبها السويدي بخطه، ولذا فقد اعتمدنا في تحقيقنا للنفحة على نسختين منقولتين عن

نسخة المؤلف مباشرة، هما: 1- نسخة بخط علي بن ملّا طالب البغدادي، فرغ منها في 8 صفر سنة 1159 هـ/ 1 آذار 1746، أي بعد الفراغ من الرحلة نفسها بنحو سنة واحدة، وتقع في 221 ورقة، في كل منها 17 سطرا، وهي بخط النسخ الجيد، مشكولة، واضحة، إلّا أن رطوبة أصابتها فطمست معالم كلمات، وفقرات، ومواضع عديدة منها. وهي محفوظة في مكتبة المتحف البريطاني تحت العدد.Add.23385 وفي خزانتنا نسخة مصورة عنها. 2- نسخة كتبها محمد سعيد لأستاذه ملّا عبد الرحمن أفندي درّي زاده [العباسي الدوري السّهروردي] على نسخة المؤلف، في الحجرة الفوقية التي على المصلى من الجانب الشمال في المدرسة المرجانية ببغداد بتاريخ 5 ش (شوال) سنة 1245 هـ/ 29 آذار 1830 م. وفي أوله تمليك باسم محمد عبد المحسن [السهروردي] وآخر باسم السيد محمد سعيد مدرس [مدرسة جامع] المرادية، وتقع في 114 ورقة، في كل منها 22 سطرا، وهي بخط نسخ عادي، واضح. وهي محفوظة في مكتبة المتحف العراقي تحت العدد 6335 وفي خزانتنا نسخة مصورة عنها. ولما كانت هاتان النسختان قد نقلتا من أصل المؤلف مباشرة، وهما واضحتان تماما، باستثناء ما أصاب النسخة الأولى من رطوبة، ومتطابقتان إلّا نادرا، فإنّنا لم نجد ثمة ضرورة إلى اعتماد نسخ أخرى وردت إشارات إليها في بعض خزائن المخطوطات، لأن ذلك لن يعود على الكتاب بنفع، بل يؤدي إلى أن تتضخم الحاشية بالإشارة إلى الأخطاء التي لا بد أن يقع فيه النساخ حين ينسخون الكتاب. وهذه النسخ هي: 1- نسخة بخط حديث، في مكتبة المتحف العراقي برقم 12496. 2- نسخة بخط المرحوم إبراهيم الدروبي انتقلت إلى مكتبة مدرسة يحيى باشا الجليلي في الموصل. 3- نسخة في مكتبة المتحف البريطاني أيضا برقم.Add.7337 4- نسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق برقم 5580.

منهجنا في التحقيق:

5- نسخة في مكتبة كتبخانه ملي ملك في طهران منقولة عن نسخة محمد سعيد ابن المؤلف. 6- نسخة في المدينة المنورة، برقم 259. وثمة مختصرات للرحلة، وقطع منها، في مكتبات عدة، منها: 1- قطعة من الرحلة ضمن مجموعة في مكتبة الدراسات العليا بكلية الآداب ببغداد برقم 44. 2- رسالة منتخبة من النفحة المسكية في الرحلة المكية، في مكتبة جامعة برنستن في الولايات المتحدة، ضمن مجموعة رقمها 210/13. 3- قطعة مختصرة من الأصل. في مكتبة الأوقاف المركزية ببغداد برقم 1/13797. 4- مختصر في مكتبة المتحف العراقي برقم 11506. 5- مختصر في المكتبة نفسها برقم 11669. منهجنا في التحقيق: 1- اعتمدنا نسخة المتحف البريطاني، التي رمزنا لها بنسخة أأصلا، وقابلناها على نسخة المتحف العراقي، التي رمزنا إليها بنسخة ب، فأكملنا، أو استوضحنا ما طمس منها، وأثبتنا ذلك وسائر الاختلافات في الحواشي. 2- تابعنا المؤلف في خط سير رحلته، فعرّفنا بالمعالم الجغرافية التي مر بها، من مدن وقرى ومحطات وأنهار وغيرها، كما عرفنا بمعظم العلماء والأدباء الذين التقى بهم، وبالمتون والشروح والحواشي التي وردت الإشارة إليها في الرحلة. وضبطنا أسماء الأعلام ونسبتهم بالرجوع إلى مصادر ترجمتهم. 3- شرحنا الغامض من اللفظ، وبخاصة المصطلحات الحضارية التي كانت شائعة في عهده، بما يوضح مبهمه. 4- خرّجنا الآي الكريم والأحاديث الشريفة وأثبتنا ذلك في مواضعه. 5- قابلنا مقتبساته من الأصول المختلفة على تلك الأصول ما استطعنا إلى ذلك سبيلا،

وأثبتنا ذلك في مواضعه أيضا. 6- لم نشأ أن نثقل الحواشي بإثبات اختلافات النساخ المألوفة، والأخطاء الإملائية الشائعة كجعل الممدود مقصورا أحيانا، أو جعل المقصور ممدودا، فأصلحنا ذلك كله دون إشارة في الحاشية. 7- حولنا التواريخ الهجرية إلى ما يقابلها بالتقويم الميلادي وأثبتنا ذلك في الحواشي. 8- وضعنا عنوانات جانبية لكل مرحلة من مراحل الرحلة، وحصرناها بين عضادتين. وبعد، فهذا هو كتاب النفحة المسكية في الرحلة المكية نقدمه للمهتمين بأدب الرحلات، والمعنيين بتاريخنا الثقافي والاجتماعي والجغرافي إبان القرون الإسلامية المتأخرة، والله تعالى نسأل أن ينفع به، إنه نعم المولى ونعم النصير. الدكتور عماد عبد السلام رؤوف بغداد 1421 هـ/ 2000 م

النفحة المسكية في الرحلة المكّيّة النص- التحقيق

النص - التحقيق

[المقدمه] بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك اللهم يا من سهّلت لمن أمّ بيتك صعوبة المسالك، «1» ومنحته- فضلا منك- بأن وفقته لمعاطاة جميع المناسك، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل من لبّى بالعمرة والحج، وأمثل من أتى بنسك العج والثج، «2» وأنبل من سلك لعبادتك كل فج، وأشرف الساعين لما هنالك، وعلى آله وأصحابه الكرام البررة الخيرة العظام، الذين رووا عنه شعائر الإسلام، حتى انتشرت معالم النّسك في جميع الممالك ما طاف بالبيت طائف، وما التجأ إلى الحرم خائف، وما قصدته الرواحل في المشاتي والمصائف، في الليال البيض، والدياجبر الحوالك. [أما بعد] فيقول العبد المفتقر إلى لطف مولاه الأبدي، الراجي سبب عفوه المديد السرمدي، أبو البركات خادم الحديث الشريف عبد الله (اب) المعروف بالسويدي: إنه لما تعلقت الإرادة الأزلية بأن يعفّر هذا الجاني محيّاه، بصعيد مهابط الوحي في تيك البقاع العلية، حركت سلاسل عزمه، وشدّت حيازيم «3» حزمه، فجزمت نيته، وصفت طويته، فبادر بالإجابة حين حيعل «4» داعي الغيب، واستسهل المهالك بلا شك ولا ريب. ولما كانت شنشنة «5» السلف، وهجيرى «6» الخلف، أن يحرّروا ما وقع لهم في أسفارهم، ويودعوه بطون أسفارهم، اقتفيت آثارهم الحميدة. واقتديت بآدابهم السديدة، فجمعت مما وقع لي في السفر، وذكرت منازل مرتبة على الأثر، وسميته (بالنفحة المسكية في الرحلة المكية) ، وأحببت أن أقدّم قبل الشروع في المقصود فصلين، وإن لم يكونا عن ذلك

في الترجمة

أجنبيين، أحدهما في ترجمتي اقتداء بعلماء الحديث، كالجلال الحافظ عبد الرحمن السيوطي رحمه الله، ولما سمعته من لفظ شيخنا العالم النحرير، والجهبذ الشهير تذكرة السلف، وعمدة الخلف، زين الملة والدين، الشيخ حسين نوح الحديثي الحنفي «1» تغمّده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته. ونوح هذا عمّه فنسب إليه، وكفله ورباه فعرف به. وكان نوح المذكور من العلماء العاملين، والنساك الصالحين، (2 أ) إنه قال ما معناه: إن الحج وأعماله كناية عن الموت وما بعده، فتأهّبه وإيصاؤه كناية عن احتضاره، وخروجه من بيته كناية عن موته، وخروج أحبابه لوداعه كناية عن تشييع جنازته، وغسله للإحرام كناية عن تغسيله بعد موته، ولبسه الإزار كناية عن تكفينه، ووقوفه بعرفة كناية عن موقفه للحساب، ونفره من عرفة كناية عن انقضاء حسابه، إلى آخر ما ذكره، تغمده الله تعالى برحمته. «2» وثانيهما في السبب الظاهري الذي أوجب هذه الرحلة، ودعا إلى هذه النقلة. في الترجمة وذلك لأن الحج- كما تقدم- كناية عن الموت، وهو الرحلة الحقيقية، فناسب ذكر ترجمتنا وما وقع لنا في هذه الدار الفانية مما يليق أن يذكر على وجه مختصر قريب من المجمل، لأنه يتعذر الإحاطة بالمفصل. فأقول وأنا الفقير الجاني، أبو البركات عبد الله بن حسين بن مرعي بن ناصر الدين السويدي: عرفت بالسويدي، أما تسميتي بعبد الله فهي وقعت ثانيا في الغرض، لما حدثتني به أمي- رحمها الله تعالى- أنها قالت: سمّاك أبوك يحيى باسم عمّ لك توفّي قبيل ولادتك، وكنت أكره أن تسمّى بذلك تطيرا وتشاؤما، حيث إن صاحب هذا الاسم، وهو عمك، لم يعش مدة طويلة، (2 ب) فسميت بمرتضى، ثم عرض لك مرض شديد بحيث ضعفت وصرت عظاما في جراب، وأنت طفل رضيع،

فدخلت بعض نساء الجيران فرأتك على ذلك الضعف، فقالت: كأنه عبد الله، تريد بعض مجاورينا، وكان نحيفا في غاية النحافة، فغلب عليك هذا الاسم ولزمك، قلت: والحمد لله على ذلك لأن عبد الله أشرف الأسماء على الإطلاق، وذلك لأن الله تعالى خاطب نبيه- صلى الله عليه وسلم- في أشرف المقامات بالعبد، فقال في مقام الوحي فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ، «1» وقال في مقام الدعوة لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ، «2» وقال في مقام إنزال الكتاب الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ، وقال في مقام الاسراء «3» سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ «4» الآية، فلو كان له- صلى الله عليه وسلم- اسم أشرف من هذا الاسم لخاطبه به في هذه المقامات الجلية. قال الشاعر: لا تدعني إلا بيا عبد ... فإنه أشرف أسمائي ويلي عبد الله في الشرف عبد الرحمن، فمحمد فأحمد فإبراهيم. وأما كنيتي بأبي البركات فقد كناني بها أخي الشيخ الفاضل الشيخ محمد بن الصالح الناسك الشيخ حسين المعروف بابن الغلامي الموصلي، «5» وذلك (عندما) كنا نقرأ شرح هداية الحكمة للقاضي حسين على حاشية اللاري، «6» فجاء (3 أ) في تلك الحاشية:

واعترض عليهم الشيخ أبو البركات البغدادي، (وكنت أدعى في الموصل بالبغدادي) «1» فكناني الشيخ محمد المذكور بذلك. وأما نسبتي إلى السويدي فهي نسبة إلى سويد أبي عمي من الأم، وسببها أن صاحبنا العالم الفاضل، والمحقق الكامل، الشيخ حسين بن عمر الراوي، «2» نسبة إلى راوة «3» قرية من أعمال عانة، «4» لما سافر إلى عانة بقصد زيارة أهله، كان يراسلني، فيكتب في عنوان الكتاب: عبد الله بن أخي أحمد بن سويد، «5» فاستطال ذلك فكتب مرة بدل ذلك كله: عبد الله السويدي، فغلبت هذه النسبة عليّ، وإلا فنحن ندعى بأولاد مرعي جدنا. وأما أبي حسين فكان من الأخيار الأجواد، ذا عقل رصين وشجاعة وبراعة، كبير قومه وعشيرته، يرجع أمرهم إليه، يستنيرون برأيه، ويهتدون بعقله. وكان ذا مال غزير صرفه كله على الفقراء والضيوف حتى افتقر آخر عمره، فكان يبيع من متاع البيت ويصرفه على

الفقراء والضيفان حتى مات مدينا. وكان له معرفة تامة بأحوال الخيل العتاق، فكان إذا شهد بفرس أنه عتيق، أو أنه هجين، أمضيت شهادته لدى أرباب الخيل، فلم يستطع أحد أن يقول بخلافه. وأما الدوري (3 ب) ، فهي نسبة إلى الدور (قرية) «1» شرقي دجلة، على شاطئها، فوق سر من رأى، وبها مشهد عظيم يزار ويتبرك به، وله أوقاف وجامع خطبة يقال: إنه مشهد الشيخ محمد الدوري، وقد خرج من هذه القرية علماء وصلحاء لا يحصون، وهي عن مدينة السلام بغداد أربع مراحل، لكن مسقط رأسي بغداد في الجانب الغربي في محلة الكرخ. وولدت ليلا قبيل الفجر عام أربع ومائة وألف، يجمعه حروف غدق. «2» ومات أبي وأنا ابن خمس سنين تخمينا، وخلّف من الأولاد غيري، شقيقي مرعي وموسى، «3» وشقيقتي حليمة، وأخي لأبي محمد، وشقيقته آمنة. (و) مات موسى عام اثنين وثلاثين ومائة وألف «4» في طاعون بغداد، «5» وكذا أمي ماتت بهذا التاريخ بعلة الطاعون رحمهم الله تعالى. وماتت شقيقته آمنة بعد موت أبيها بقليل. والحاصل أنه بعد وفاة أبينا بقينا لحما على وضم، «6» لا حال ولا مال، ولا لبد «7» ولا سند، ولا تالد ولا طريف، ولا ناطق ولا صامت، أيتاما لا كافل لنا ولا مربي، ولا ينظر إلينا أحد ممن كان مغمورا بإحسان أبينا، (4 أ) فبقينا بعد ذلك برهة من الزمن تغزل أمنّا القطن وتنفق علينا منه. وكان عمنا أخو

أبينا لأمه الشيخ العارف العامل، والعالم الكامل، المتلقي سائر الفنون، ولا سيما التصوف، عن مشايخ عظام وعلماء، سيدي الشيخ أحمد ابن سويد الصوفي، «1» غائبا عن البلد في القسطنطنية، فلما سمع بموت أبينا أخيه، شدّ الرحل على الفور، وتوجه إلى مدينة السلام بغداد، فجاءنا ونحن على آخر رمق، فكفلنا وربانا وأحسن تربيتنا، إلّا أن كسوتنا غالبها على أمّنا على طريقتها السابقة، فبعد مجيئه بثلاثة، «2» أرسلنا إلى الكتاب، والشيخ فيه إذ ذاك شيخنا الصالح الناسك الورع التقي العالم العامل الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمود، من أهل ما وراء النهر، «3» فختمنا عنده القرآن، وأقرأنا رسالة في التجويد، وتعلمنا عنده الكتابة، رحمه الله رحمة واسعة في الدين والدنيا «4» والآخرة. ثم أن عمّنا ضمنا إليه ليعلمنا حسن الخط، وكان له خط في غاية الجودة ثلثا ونسخا على قواعده المعلومة عند الكتّاب، فأخذ يعلمنا قواعد الكتابة إلى أن مهرنا بها غاية المهارة، لأنه- رحمه الله تعالى- كان (4 ب) يحرضنا عليها ويحثنا على تعلمها إلى أن بقيت أسود مشقي على ضوء القمر. ثم إنه- رحمه الله- أرسلنا إلى الشيخ حسين نوح المتقدم ذكره لتعلم العلم. وكان شيخنا هذا يدرس بالمدرسة العمرية، نسبة إلى والي بغداد إذ ذاك عمر باشا «5» - رحمه الله تعالى- وهو قد بناها لأجل شيخنا المذكور، فهو أول من درّس بها

التدريس العام. وهذه المدرسة على كتف دجلة في الجانب الغربي، «1» شرقي جامع القمرية، بفتح القاف والميم ملاصقة له، فأمرني الشيخ- رحمه الله- بحفظ الأجرومية متنا وإعراب أمثلتها، فحفظتها وأتقنتها غاية الإتقان، فكان إذا وقف أحد من الطلبة في إعراب بيت أو مثال، يقول: سلوا الأسد، يعنيني، رحمه الله. هذا وفي أوان اشتغالي كان إخوتي يتعاطون أمور الدنيا، وكانت والدتي- رحمها الله- بلهاء، وكان نساء المحلة يضحكن عليها، يقلن لها: أيش ينفعك العلم، وأنت امرأة أرملة، وابنك الكبير لا يساعدك في شيء؟ فكانت- رحمها الله- تقول: يا ولدي! نحن فقراء، وأنتم أيتام. هب أن عمّك يطعمك فمن يكسوك، وأنا لا أصغي لها، حتى ألحت (5 أ) علي في ذلك وقطعت كسوتها عني، كل هذا نشأ من بلهها وإغراء نساء الجيران إيّاها، وإلّا فهي في حد ذاتها مباركة، رحمة الله عليها. فبقيت أيام الطلب في غاية الاحتياج بحيث إني لا أجد ما أشتري به شمعا أو شيرجا لمطالعة دروسي، وكنت أطالع على ضوء القمر وعلى سرج السوق أيام مبيتي في المدرسة المرجانية «2» وبقيت مدة مديدة ما أكلت لحما، لأني وقت العصر آخذ من بيت

عمي رغيفا من الخبز وأذهب إلى المرجانية إلى ثاني يوم أفعل مثل الأوّل، وكان العشاء «1» عادة يؤكل بعد المغرب، فلذلك ما أكلت لحما هذه المدة. وكان [في] هذا الرغيف بركة كثيرة، فكنت أنا والشيخ حسين الراوي والشيخ محمد العاني «2» والشيخ أحمد الآلوسي «3» نأكل منه وتبقى منه لقيمات. وكذلك أيام كنت بالمدرسة الأصفهانية المسماة اليوم بالمدرسة الأحسائية، «4» وهي على شاطىء دجلة الشرقي، على يسار محكمة القاضي، «5»

[و] وكنت أنا، والشيخ محمد بن عبد الرحمن الأحسائي، والحاج إبراهيم الصديقي، «1» نأكل من هذا الرغيف وتبقى منه لقيمات حتى تجمع عندي لقم كثيرة في الأسبوع. وكنت إذا لبست (5 ب) الثوب لا أخلعه حتى يتمزق لعدم الصابون. وكان يطول شعري كثيرا فلا أجد ما أحلقه به، وكان إذا أصابني الاحتلام أغتسل بالماء البارد أيام الشتاء البارد بالماء البارد البائت، وكنت إذا نمت أيام الشتاء أنام بلا غطاء خشية أن أستغرق في النوم فتفوتني المطالعة. والحاصل وجدت أيام الطلب من المشاق والجوع والسهر والعري والإفلاس ما لا طاقة [لي] به لولا إسعاف الله ولطفه. وكنت مع هذه المشاق أجد للطلب لذة عظيمة، «2» حتى إني- والله- إذا رأيت أبناء الملوك وأهل الرفاهية أقول في نفسي: هؤلاء لا لذة لهم في حياتهم. وبقيت على هذا الجد والاجتهاد حتى فقت أقراني، ومن كان في الطلب قبلي بسنين، بل ولقد فقت «3» أكثر مشايخي حتى إن بعضهم شرع في القراءة عليّ. ثم إني سافرت إلى الموصل عام سبع وعشرين ومائة وألف، «4» لتحصيل علم الحكمة والهيئة، فبقيت في الموصل ثلاثة عشر شهرا حتى أكملت جميع الفنون. ومن منن الله تعالى عليّ أيام كنت بالموصل أنّه لما جاء الخريف، وكان الوقت باردا، ولم يكن عندي ما أتغطى به سوى عباءة، وكان لي عادة (6 أ) أني (ما) «5» أنام في ثيابي بل أخلعها وألبس غيرها، ولم يكن عندي غيرها إلا قباء «6» عتيق، فكنت ألبسه وأتغطى بالعباءة، فخطر في بالي ليلة من الليالي كيف يكون حالي إذا دخل كانون وشباط؟ ثم إنّ الله ألهمني أن قلت:

يا عبد الله! أما قرأت العقائد حيث ذكروا أن الشبع والدفء يخلقهما الله عند الأكل واللبس لأنهما يدفعان الجوع والبرد، يمكن أن يشبع الإنسان بلا أكل، ويدفأ بلا لبس، لأن الله هو الفاعل لذلك. فنمت على هذه العقيدة، فرأيت كأن قائلا يقول لي: اقرأ ما على طوقك، فنظرت إلى طوقي فلم أستطع ذلك، فقلت: إني لم أستطع ذلك، فاقرأ أنت ذلك، فقال: مكتوب على طوقك هذه براءة من العزيز الجبار لعبد الله من البرد والحر والنار! فانتبهت وأنا غرقان من شدة الحر. ومن فضله تعالى ما وجدت بردا ولا حرّا مع شدة البرد والحر في تلك السنة، وأنا أرجو من الله أن لا أجد ألما يوم القيامة. ومما وقع لي أيام الطلب في الابتداء أني ما حفظت الأوجه الخمسة في «لا حول ولا قوة» ، فنمت فرأيت رجلا يلقنني إياها، (6 ب) فانتبهت وأنا أحفظها على الإتقان، وكنت إذ ذاك أقرأ الأجرومية «1» وشرحها. ومما وقع لي أيام حفظي لألفية ابن مالك المسماة بالخلاصة، «2» أني وظفت على نفسي كل يوم «3» حفظ خمسة أبيات، فكنت قبيل المغرب أنظر في الكتاب مرّة واحدة وأطبقه وما في حفظي من وظيفتي شطر بيت، فإذا أصبحت وجدتني أحفظ الأبيات الخمسة. والحاصل أني نلت في الطلب نهاية التعب، وغاية النصب، مع عدم المساعد والمعين والناصر والظهير، حتى حصلت على أكثر الفنون من سائر العلوم، شرعية وعقلية، أصولية وفقهية، ولا سيما العلوم العربية. وبرحلتي إلى الموصل كمّلت جميع الفنون سوى الرّمل والزيج «4» والسحر.

ثم أنه تعالى منّ عليّ بزوجة صالحة موافقة، فصبرت على فقري، وكانت تحرضني على الاشتغال بالعلم، فجاءني- والحمد لله- منها أولاد نجباء صلحاء علماء، يبرون بي، فلا يصدر عنهم عقوق، ولا يقصرون معي في حق من الحقوق، أجلهم وأسنهم أبو الخير عبد الرحمن الشعراني نسبة يكون «1» ، وذلك أني كنت أطالع المنن «2» لسيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني، وذلك بعد أن بنيت بزوجتي (7 أ) بأسبوع أو أقل من ذلك أو أكثر، فرأيت فيها قول الشيخ: وممّا منّ الله به عليّ أن ولدي عبد الرحمن من زوجتي فاطمة لا يخالفني ولا يعقني. هذا معنى ما ذكره الشيخ، واتفق أن اسم زوجتي فاطمة أيضا، فقلت لها: يا فاطمة! انظري إلى ما قال الشيخ، فإن منّ الله علينا بابن لأسمينّه عبد الرحمن، تبركا باسم ابن الشيخ، لأنه عبد الرحمن بن فاطمة، وهذا عبد الرحمن ابن فاطمة، ولأجعلن نسبته الشعراني، نسبة إلى الشيخ الشعراني. ولد عبد الرحمن هذا في ليلة عشر ذي القعدة، بعد نصف الأربعاء بقليل، عام أربع وثلاثين «3» ومائة وألف، «4» وهو- ولله الحمد- «5» في هذا العصر من أهل الفضل في أكثر الفنون، شرعية وعقلية وعربية، وله مؤلفات في بعض الفنون وحواش متفرقة، وله ديوان شعر، ونظمه في غاية الجودة، وفّقه الله لطاعاته، وأدرّ عليه غيوث مبراته، ورضي عنه رضاء لا ينقطع عدده، ولا ينتهي مدده. ثم يليه في السّن البنت العفيفة المصونة الساكنة الصالحة العالمة العالمة أم الخير رقية،

والحاصل على تسميتي لها برقية أنّي لما وصلت في شرحي (7 ب) لدلائل الخيرات «1» إلى عدّ أولاده- صلى الله عليه وسلم- فنمت فرأيت كأني جالس، مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وبضعته الطاهرة سيدتي رقية مضطجعة كأنها نائمة، والنبي- صلى الله عليه وسلم- يداعبها [و] يقول: من فات مات، مراده- صلى الله عليه وسلم- بذلك إيقاظها كي تجلس، فانتبهت وحمدت الله على أن جعلني محرما مع أهل بيته- صلى الله عليه وسلم- فنذرت إن جاءتني أنثى لأسمّينّها برقية تبركا باسم بضعة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وكانت بنتي رقية إذ ذاك حملا، والحمد لله أن بركة السيدة رقية ظاهرة عليها فإنها قرأت القرآن أربعين «2» وحفظت رسائل التجويد كالمقدمة الجزرية. «3» وقرأت شمائل الترمذي «4» والبخاري والشفاء للقاضي عياض «5» ولها إجازات في سائر كتب الحديث، وحفظت الأوراد والأحزاب، وقرأت شرح بانت سعاد، وقرأت الفقه الشافعي، والفقه الحنفي، وحفظت طرفا من الأجرومية. وهي إلى الآن في جد في طلب العلم، وفقها الله لطاعاته، ورضي عنها رضاء يستدر جميع خيراته، وقد أجزتها جميع ما يجوز لي وعني روايته، (8 أ) ونساء عصرها ممّن هن من أهل الفضل يستجزن منها الحديث. ولدت رابع عشر شوال، ضحى يوم الاثنين من سنة سبع وثلاثين ومائة وألف. «6» ويليها في السن أبو السعود محمد، وكان سبب تسميته بذلك أني كنت وقت حمله أطالع فضل التسمية بمحمد، فنذرت إن جاء هذا الحمل ذكرا لأسمّينّه محمدا، فجاء- والحمد لله- فسميته محمدا، وكنيته بأبي السعود. والحمد لله- هو اليوم من أهل

الفضل في قراءة القرآن مع تجويده، وفي قراءة النحو والتصريف والفقه والمنطق والاستعارات والعروض ماهر محقّق. وله شعر رائق، ونثر فائق، وصلاح تام، واشتغال عام، وهو إلى الآن في طلب العلوم، وفقه الله لصالح الأعمال، ورضي عنه على مرّ الليالي والأيام، آمين، ولد ضحى رابع عشر محرم الحرام يوم الجمعة من سنة إحدى وأربعين ومائة وألف. «1» ويليه في السن أبو الفتوح إبراهيم، كنّي بذلك لأنه عام ولادته دفع الله نادر شاه عن بغداد، «2» وإبراهيم هذا صغير الآن، لم يبلغ الحلم، لكنه قرأ القرآن، وشرع بحفظ متن الأجرومية. ولد في ذي القعدة عام 1146. «3» ويليه في السن سارة، وهي الآن صغيرة، ولدت ضحى يوم (8 ب) الخميس العاشر من محرم سنة. «4» 1150. ويليها شهاب الدين أحمد، وهو الآن صغير ابن أربع سنين، ولد يوم الأحد، السابع والعشرين من جمادى الآخر سنة «5» 1153 وصفية، وهي الآن رضيعة، ولدت ليلة الجمعة 28 من رجب سنة «6» 1155 ومات لي ابنان عبد الوهاب وحسين، وبنتان زينب وحفصة. والحمد لله: إنه صار لي جهات «7» ووجه معيشة، ونصبت مدرسا في آستانة «8» قطب العارفين سيدي أبي صالح محيي الدين عبد القادر الجيلي، قدّس سرّه، وصرت- والحمد لله- بحيث يشار إلىّ بالبنان، يوقّرني العامة والأعيان، ويرفع محلي الولاة، وتتمنى رؤيتي القضاة، مسموع الكلمة، نافذ الأمر. سبحانك! لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت

على نفسك. وكل هذا أيها الواقف على هذه الرحلة من بركات العلم وخدمته، فالحمد لله الذي جعلنا «1» بمنه وأكرمنا بإكرامه. وقد عنّ لي أن أذكر مشايخي وما رويت عنهم وقرأته عليهم، نفعنا الله بهم، فأقول: أخذت متن الحديث من جماعات أعلام، وأئمة كرام، منهم المحدث الكبير، والعالم الشهير، رحلة «2» المحدثين، وعمدة المحققين، ذو (9 أ) النسب الأعلى، والحسب الأبهى، الزاهد الورع، سيدي أبو الطيب أحمد بن أبي القاسم بن محمد المحمدي المغربي ثم المدني، «3» المنسوب إلى حمزة بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن إبراهيم «4» بن محمد [ذي] النفس الزكية بن عبد الله المحض «5» بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ومنهم سيدي وعمي بركة العباد، وعلم الرشاد، مشكاة المعارف الربانية، ومهبط التنزلات الرحمانية، الجامع بين الحقيقة والشريعة، والحائز من الكمالات كل روضة ريعة، «6» سيدي ووالدي الشيخ أحمد بن سويد الصوفي، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته، آمين. ومنهم سيدي خاتمة المحققين، وسلطان المدققين، الجامع بين المعقول والمنقول، ومخرج الفروع والأصول، البارع في الفنون العربية المقصود في حل الغوامض الأبية، سيدي جمال

الملة والدين الشيخ سلطان بن ناصر الخابوري الجبوري الشافعي، «1» رحمه الله رحمة تدفقت حياضها، وتأنقت رياضها. ومنهم سيدي السالك مسالك الرشاد، والمتمسك بجميع أحواله بعروة السداد، المتبحر في المعارف الإلهية، والمشار إليه بأنه ذو الرتبة العلية، الصالح الناسك الورع (9 ب) الصوفي، الشيخ محمد بن عقيلة المكي الحنفي. «2» ومنهم سيدنا الفقيه الصالح، والعالم الناجح، ذو الأخلاق الرضية، والأحوال السنية، سيدي الشيخ علي الأنصاري من بني النجار الأحسائي الشافعي. «3» وممن أجازنا السيد السند عبد القادر المكي الحارثي. «4» وممّن أجازنا بالأثبات والسندات، صاحباي العلمان المتبحران الصالحان الناسكان اللذان أخذا من التحقيق أوفر نصيب، وحازا جميع الفنون بالفرض والتعصيب، سيدي ذو التصانيف العديدة، والتحارير المفيدة، الملقب بالسيوطي الصغير، الشيخ أبو بكر جمال الشريعة ابن شيخنا محمد بن عبد الرحمن المفتي ببغداد «5» على المذهب الشافعي، رحمهم

الله. وأبو بكر هذا أخذ عن الفقير، فصار حديثنا مديحا. وسيدي ذو التحقيق الباهر، والفهم الذي يتوقد توقد النيران في الدياجر، والمحدث الأصولي، أبو محمد الشيخ حسين بن عمر الراوي، الملتجئ إلى الحرم المكي، رحمه الله رحمة واسعة في الدنيا والآخرة، آمين. وهذا الشيخ حسين قد قرأ عليّ فصرنا معه كالشيخ أبي بكر المتقدم. وممن أجازنا بالأثبات والسندات جماعة كثيرون من أهل العصر، غفر الله لنا ولهم آمين. ولبست الخرقة، وكانت عرقية، «1» عن شيخنا (10 أ) الشيخ محمد بن عقيلة، أيام إقامته في بغداد عام 1145، وأخذت عنه تلقين الذكر وجميع مسلسلاته التي جمعها في تآليف له، وهي خمسة وأربعون مسلسلا. وأخذت حديث المصافحة عن العارف بالله، والدّال عليه، الشيخ المرشد، المسلك، مربي المريدين، ومرشد السالكين، سيدي السيد مصطفى البكري الصديقي، «2» سبط الحسنين الأحسنين. وحديث المصافحة هذا هو قوله، صلى الله عليه وسلم: من صافحني أو صافح من صافحني بست أو سبع دخل الجنة. وفي رواية: من صافحني أو صافح من صافحني إلى يوم القيامة دخل الجنة. لا حديث المصافحة المشهور المروي عن أنس، رضي الله عنه، حيث قال: صافحت بكفي هذه كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما مسّت خزّا ولا حريرا ألين من كفه صلى الله عليه وسلم، إلى آخره. «3» والحاصل أني أروي جميع ما تضمنه ثبت

الشيخ أحمد النخلي «1» المتصل إليّ عنه بواسطة الشيخ حسين الراوي، وبواسطة الشيخ عبد الكريم الشراباتي الحلبي. «2» وبواسطة الشيخ محمد بن رفة، «3» وبواسطة الشيخ العالم الكبير، والفاضل (10 ب) الشهير، سيدي السيد محمد الطرابلسي، «4» وبواسطة سيدي الشيخ علي الدباغ. الحلبي. «5» وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الله بن سالم المكي المشهور بالبصري، «6» المتصل إليّ عنه بواسطة هؤلاء المذكورين. وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ محمد بن سليمان

المغربي «1» المشتمل على كتب كثيرة وطرق ومسلسلات، المتصل إليّ عنه بواسطة الشيخ البصير الشيخ عبد الكريم الشراباتي، عن والده الشيخ أحمد الشراباتي. وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ محمد بن عبد الله المغربي «2» المتصل إليّ عنه بواسطة الشيخ حسين الراوي، والشيخ محمد الطرابلسي، والشيخ عبد الكريم الشراباتي. وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني «3» بواسطة الشيخ عبد الكريم عن أبيه عن الشيخ إبراهيم المذكور. وبواسطة الشيخ مصطفى «4» عن شيخ العراق على الإطلاق، شيخنا الشيخ خليل الخطيب البغدادي «5» عن الشيخ إبراهيم. وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ أبي بكر أفندي رئيس الكتاب في الدولة العثمانية «6» المرسل إليه من المدينة المنورة، المتصل إليّ بواسطة الشيخ أحمد بن سويد. وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الغني النابلسي «7» المتصل إليّ بواسطة

الشيخ عبد الكريم الشراباتي. وجميع «1» (13 أ) ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الله الكنكسي «2» المتصل إليّ بواسطة السيد محمد الطرابلسي عن الشيخ أحمد الملوي. وجميع ما تضمنه ثبت الشيخ علي العقدي، «3» وثبت الشيخ منصور المنوفي «4» وثبت الشيخ عبد الرزاق البشيشي «5» المتصلات إليّ بواسطة الشيخ محمد الطرابلسي عن مؤلفيها، وجميع ما تضمنه كتاب مسلسلات الشيخ محمد بن عقيلة عنه. واعلم أن السيد محمد الطرابلسي، والشيخ عبد الكريم الشراباتي، والشيخ علي الدباغ، والشيخ محمد الزمار، «6» وهؤلاء كلهم استجازوا مني، واستجزت منهم، فأحاديثنا ورواية بعضنا عن بعض من قبيل حديث المديح. وقرأت مصطلح الحديث شرح ألفية العراقي له «7» على شيخنا نادرة الدهر، وغرّة جبهة العصر، ذي التآليف التي دلّت على طول الباع، وأنه الذي انعقد عليه الإجماع، سيدي حسين أفندي نظمي زاده. «8» ومن شرح النخبة «9» وبعض شرح ألفية المصطلح للشيخ زكريا

الأنصاري، «1» بقراءة أخينا الشيخ سليمان بن الشيخ أحمد الواعظ ابن تاج العارفين، على شيخنا الشيخ سلطان «2» رحمه الله. وأخذت الفقه (13 ب) وأصوله والفرائض عن شيخنا الذي عقمت النساء أن يلدن مثله، وانعقد الإجماع على أنه لا أحد يداني فضله، الملقب بالشافعي الصغير، وابن حجر الكبير، سيدنا شيخ الإسلام والمسلمين، وزين الملّة والدين، الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرحبي «3» المفتي على المذهب الشافعي ببغداد، رحمه الله رحمه واسعة انتشر عطرها وفاح، وأينعت رياضها في الغدو والرواح، آمين. قرأت عليه شرح المنهج لشيخ الإسلام. «4» وشرح جمع الجوامع للجلال المحلي، «5» مع مراجعة حاشية شيخ الإسلام «6» وحاشية الشيخ ابن قاسم العبادي «7» المسماة بالآيات البينات. وقرأت عليه شرح المنظومة الرحبية للخطيب الشنشوري. «8» وسمعت عليه طرفا من ابن حجر.

وأخذت علم التفسير عن شيخنا الشيخ حسين أفندي نظمي زاده، قرأت عليه تفسير جزء عم للقاضي البيضاوي. «1» وقرأت على ذلك درسا حاشية المولى عصام الدين «2» مع ما كتب عليها. وحضرت بعض دروس شيخنا الشيخ سلطان في تفسير البيضاوي مع حواشي عصام. وأخذت علم التجويد والقراءات على عمّي الشيخ أحمد بن سويد، وعلى الإمامين الهمامين، تذكرة الكسائي وأبي عمرو، «3» الحائزين الفنون الجمة، والموجودين رحمة لطلاب الأمة، سيدي السيد درويش (11 أ) العشاقي، «4» وسيدي الشيخ محمد بن محمد المصري، رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار، وأسكنهم فسيح جنته دار القرار، أمين. وقرأت علم الكلام على شيخنا ذي الفنون العديدة، والتصانيف المفيدة، الفتح الموصلي «5» . وقرأت عليه شرح مختصر المنتهى للقاضي عضد الملة والدين «6» . وقرأت عليه أيضا حواشي السيد الشريف «7» على الشرح المذكور. وسمعت طرفا من علم الكلام على شيخنا الشيخ سلطان، وقرأت عليه شرح الورقات «8» ، وقرأت عليه حاشية القليوبي «9»

عليه «1» ، وحواشيه هو على الحاشية. وأخذت النحو عن شيخنا الشيخ حسين نوح. قرأت عليه الأجرومية، ثم شرحها للشيخ خالد الأزهري «2» ، وبعضا من شرح الأزهرية «3» . وقرأت عليه بعد مدة شرح ألفية ابن مالك للجلال السيوطي بالنهجة المرضية، مع مراجعة حواشيها لشيخ مشايخنا أحمد محمد الأحسائي «4» . وقرأت عليه مغني اللبيب لابن هشام «5» ، وحواشيه للشمني «6» . وعن شيخنا، سيبويه زمانه، الشيخ سلطان، أتممت عليه شرح الازهرية. وقرأت عليه شرح القطر للمصنف «7» ، وسمعت عليه شرح قواعد ابن هشام للشيخ خالد «8» بقراءة بعض الإخوان. وأخذت علم الصرف عن شيخنا الشيخ حسين «9» المذكور، وعن شيخنا الشيخ سلطان سمع (11 ب) عليه شافية ابن الحاجب «10» وشرحها للنيسابوري «11» بقراءة أخينا الشيخ احمد العاني. وأخذت المعاني والبيان والبديع على شيخنا حسين أفندي نظمي زاده، قرأت عليه الشرح

المختصر على التلخيص مع مراجعة الشرح المطول «1» وسمعت حصّة منه على شيخنا الشيخ سلطان بقراءة أخينا الشيخ عبد الله الشطيحي «2» . وعلى الشيخ سلطان ألفية المعاني والبيان نظم الجلال السيوطي «3» ، بقراءة أخينا الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأحسائي الحنبلي. وسمعت عليه حصة كبيرة من شرح مقدمة الاستعارات للملا عصام «4» مع قراءة حواشيها للزيباري «5» ، ومراجعة حواشي حفيده «6» بقراءة بعض الإخوان، وقراءة رسائل المنطق، كشروح إيساغوجي «7» لحسام كاتي «8» ، وللفناري «9» مع حاشية قول أحمد «10» ، وشرح الشمسية «11» مع حاشية السيد، وشرح التهذيب للجلال الدواني. «12»

مع حاشية مير أبي الفتح «1» بعضها، على الشيخ العلامة، والحبر الفهامة، جامع المعقول والمنقول، حائز الفروع والأصول، سيدي الشيخ مصطفى أفندي الغلامي «2» ، وبعضها على الشيخ الفتح الموصلي، وبعضها على المحقق المدقق سيدي يوسف أفندي الموصلي «3» . وأخذت علم الوضع على الشيخ سلطان، وعلى يوسف أفندي وعلى غيرهما. وأخذت علم آداب البحث عن الشيخ (12 أ) يوسف وغيره. وأخذت علم الهيئة ورسائل الاسطرلاب وربع المجيّب وذات الكرسي عن البحر الجامع، والغيث الهامع، سيدي سليم أفندي الموصلي «4» . وأخذت الحساب عن أخينا الشيخ حسين، قرأت عليه بعض شرح الزمزمية، وعن الشيخ سلطان، قرأت عليه وعلى غيره خلاصة الحساب للبهائي «5» . وأخذت الهندسة عن بعض العصريين. وأخذت أصول الفقه الحنفي عن يوسف أفندي،

سمعت عليه التلويح «1» . وبهذا نختم لما قرأناه ليكون الختام مسكا مع الترجيح. وقد قدّمنا أن تاريخ الولادة (غدق) ، والتاريخ في هذا الوقت سبع وخمسون ومئة وألف، فقد بلغت الآن من العمر ثلاثة وخمسين عاما، وعلى الله إتمام باقي العمر بالخير. نسأل حسن الخاتمة والعفو والعافية في الدين والآخرة، آمين. وقد بلغت مؤلفاتي الآن عشرة مؤلفات، وإن منّ الله عليّ بطول العمر خدمت صحيح البخاري بتعليق شرح عليه، وأكملت محاكمتي بين الدماميني والشّمّني «2» الواقعين على مغني اللبيب «3» .

[الرحلة]

[الرحلة] (34 أ) وأشرع في المقصود فأقول: كان استئذاننا لأجل الحج من الوزير المحترم، والدستور المكرّم، حضرة أحمد باشا «1» - أدام الله نصره- يوم السبت الثامن عشر من ربيع الأول عام سبع وخمسين ومئة وألف من الهجرة «2» . وإنما احتجت إلى الاستئذان لأن العادة في بغداد إذا كان لأحد جهة تدريس أو خطابة أو إمامة لا بد من أن يستأذن من والي بغداد، وقدّمت في صدر الاستئذان قصيدة داليّة «3» : كم للهوى من رياق فوق أجياد ... شوقا إلى ساكني أكناف أجياد وللجفون انهمال لا يشابهه «4» ... من السواري هتون رائح غادي صب يبيت على فرش الضنّا وله ... قلب ثوى بين أعواد وعوّاد يهيم وجدا إذا سار الحجيج ضحى ... وتستحث قواه نغمة الحادي تزيده شجنا «5» ورقاء إن صدحت ... وذكرت «6» نغمات الشادن الشادي إذا تذكرت والذكرى تهيج جوى ... مهابط الوحي شبّت نار إنكادي (34 ب) من لي بكو ماء مرسال تبلّغني ... أرض الحجاز لتطفي نار أكبادي

موافيا مكة الغراء ذا جذل ... بشراي إذ ذاك في عرس وأعياد متى أراني للأكوار ممتطيا ... أفري فيافي أغوار وأنجاد وكلما نهضت آمال مكتئب ... فالعجز يقعدها قهرا بأقياد وكيف يبرد قلبا بات مضطرما ... وجذوة في حشاه ذات إيقاد وكيف يهدأ طرف ظلّ منسجما ... والقلب ظمآن وجد شيّق صادي (35 أ) يئست لولا رجائي بالذي سطعت ... به مآثر آباء وأجداد هو الوزير الذي عمّت مواهبه ... داني الحواضر والقاصي من البادي هو الغياث إذا ما أزمة فدحت ... وهو المرام لقصاد ووراد كهف العفاة ملاذ المستجير به ... غوث الصريخ به غيث لمرتاد مجندل الشّوس والهيجاء في سعر ... مردي الكماة ببتّار ومدّاد يدبّر «1» الأمر والأخطار معضلة ... جدّا فيلبسها أثواب إرشاد بحر ولكنما عذب مذاقته ... يولي الورى عرفه من قبل ميعاد ذلّت لسطوته صمّ العتاة وقد ... كان الجميع أبيا غير منقاد له التدابير أغنت عن مضاعفة ... من العساكر قد مدّت بأجناد «2» (35 ب) لا سيما ثالث الوقعات حين أتى ... ديارنا الشاه يبغي ضبط بغداد «3» في محفل كالحصى والرمل عدّته ... تكلّ عن جمعه أرقام أعداد توهّم الشاه أن الجند كثرتها ... تروّع أحمد أو تقضي بأنكاد

ظن القنابر والأطواب تفزعه ... أو من صواعقها يخشى وإرعاد فمال للسلم إذعانا وذا نادر «1» ... لما رآه ثبوتا طود أطواد واختار من بعد رفض رفض مذهبهم ... فصار في الحال سنيّا بأشهاد وشدد النهى عن سبّ الصّحابة بل ... قد شاب هذا بتهديد وإبعاد ورتّب الخلفاء الراشدين على ... عقائد السنّة الأولى بإرشاد فكم خلاف «2» وكم كفر وكم بدع ... أزال وهو على كل بمرصاد (36 أ) وحتّم الأمر أن يدعو خطيبهم ... على المنابر للخنكار «3» في النادي وقد علمنا يقينا إنما فعل ... الذي ذكرنا حذار الضيغم العادي والله والله أيمانا مغلظة ... لولا أبو عدلة والمفخر البادي «4» لكان أطفالنا أسرى الأعاجم بل ... كنا رهائن أجداث وألحاد فالله يكلؤه والسعد يخدمه ... والنصر يقدمه فوزا بإسعاد فيا أبا عدلة لا زلت ذا ظفر ... إذنا ومنا بإحسان وإرفاد والاستئذان الذي كانت هذه القصيدة في صدره هو هذا: اللهم يا ذا المن الذي لا ينفذ إمكانه، والإحسان الذي لا يحد إحسانه، إنا نتوسل إليك بجلال ذاتك، وكمال صفاتك، أن تديم على الأنام، ولا سيما سكان مدينة السلام، ظل الوزير

الذي ألبسته الهيبة والجلالة، (36 ب) ومنطقته السؤود والعدالة، وقصمت بسطوته ظهور القساة المتمردين، وأحييت برأفته العفاة المقلين، ونشرت بأوامره أعلام العدل والأمان، وطويت بزواجره كل بغي وعدوان، آمين. فالمعروض على السدة التي سمت على السماكين «1» قدرا ونمت على النيرين رفعة وفخرا، لا زالت لجباه الأمراء الأفاخم مساجد، ولا برحت مقبلة بشفاه الأعاظم الأماجد. بقيت بقاء الدهر يأكهف أهله ... وهذا دعاء للبرية شامل هو أنه من الأمور المقررة، والأحكام المحررة، مما هو معلوم لديكم، وغير خفي عليكم، أن النطف أجابت من كل فج سيدنا إبراهيم حين أذن بالحج، فصممت نفس هذا الداعي على أن تتبع القول بالعمل، وتجمع بين جوابي الأرواح والأشباح، ليطابق الحال في الأزل، فنزعت نزوع الطفل بعد فطامه إلى الرضاع، إلى أن تعفر محياها مهابط الوحي من تيك البقاع، لترمي من أشواقها جمرات، وترضع من ثدي زمزم رضعات، وتقف على عرفات الغفران، وتسعى بحط الأوزار (37 أ) باستلام الأركان، وتطوف حول حمى الملك الغفار، قائلة: هذا مقام العائذ بك من النار، ولما تيقنت أن العمر قد ذهب أطيبه، وغبر أعذبه، وأن الجسم قد وهى ورقّ، والعظم قد وهن ودق، والبدن كشن «2» بالية وعما يصلحها عارية خالية، وتذكرت حديثا سمعته من الثقات الجهابذة الأثبات، أنه صلى الله عليه وسلم قال، أو كما قال: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك) الحديث سارعت بالاستئذان مستدرة عوائد الإحسان: وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب ولله عليّ إذا شاهدت تلك المشاهد، وتعهدت هاتيك المعاهد، أن تكون هجيراي المستمرة، وشنشنتي الدائمة المستقرة، خير الدعاء لكم في تلك الأماكن الشريفة، والبقاع السامية المنيفة، فلا زلت مغمورا بالنعم، مدفوعا عنك النقم، آمين.

[تل كوش]

فخرج الإذن ذلك اليوم، ووكلت على تدريسي في آستانة قطب العارفين، وسلطان الموحدين، سيدي أبي صالح محيي الدين عبد القادر الجيلي- قدس سره العزيز- ولدي النجيب (37 ب) العالم الفاضل، أبا الخير عبد الرحمن، لا زال سعيدا ما كرّ الجديدان، آمين. ثم خرجنا من بغداد دار السلام قبيل الظهر، الاثنين، الثامن والعشرين من ربيع الأول من العام المذكور «1» ، فخرج الأولاد والمحبّون لوداعنا، فجرت منّا العبرات، وتلظت منا الزفرات، وفاضت دموع العيون، وتراكمت على الفؤاد الشجون. وبما جرى في موقف التوديع من ... ألم النوى شاهدت هول الموقف [تل كوش] ونزلنا تل كوش، على أربعة فراسخ من بغداد، وهو تلّ صغير مستطيل أحمر، على كتف دجلة الغربي. ولعلّ نسبته إلى كوش بن كنعان. وأقمنا فيه يوم الثلاثاء، ومنه كتبت للولد القلبي النجيب الأمجد، حسين بك ابن الأكرم كتخدا «2» محمد باشا. «3» وصورة الكتاب: سلام كروض حين باكره الحيا ... فأضحى نضيرا ذا رواء وذا نشر سلام كأنفاس النسيم تعله ... يمشط قضبان الرياحين والزهر سلام كريا الرّند جادت به الصبا ... على مستهام عام في لجّة الفكر

(38 أ) سلام كأمثال العبير تضوعت ... به بقع الأكوان في كل ما قطر سلام يفوق الدر حسنا وبهجة ... فلله ما أبهاه في النظم والنثر سلام كوصل من حبيب مهاجر ... تمادى على الإعراض والصد والهجر على الكامل الأسنى الحسين الذي سما ... على تربه في المجد والفضل والفخر فشوقي إليه لا يزال مجددا ... ولست بساليه ولو صرت في قبري كيف أقول الشوق ينقضي وهو في كل لحظة بازدياد، وإني أقول الصبر يسعفني وهو قد فرّ قبل البعاد: فهذا ولما يمض للبين ليلة ... فكيف إذا جد المطي بنا عشرا قد وهى جلدي حين خانني صبري، واشتغل لدى كمدي ذهني وفكري، شوقا إلى طلعة المحيّا الزاهر، ذي الحسب الأسمى والكمال الباهر، جامع المحاسن الوافرة، حائز المفاخر (38 ب) الباهرة الزاهرة، صاحب الشمائل التي ما حواها إلّا النزر من أفذاذ الدهر، والمناقب التي ماحواها إلّا القليل من أفراد العصر، فاق أقرانه منذ هو يافع، وسما على أترابه بما تشنف به المسامع، النجيب الذي هجيراه اقتناص شوارد العلوم وقصاراه افتضاض أبكار المنطوق والمفهوم، قرّة عيني، وحشاشة مهجتي، وهو دون ما سواه مرامي، وبغيتي، عين الإنسان، وإنسان العين، فرع دوحة الأكارم والأعلين، ولدي الأعز أبي المحاسن حسين بك، لا زال راقيا أوج المعارف إلى نهاية لا تجارى، ولا برح ممتطيا صهوات الكمالات إلى غاية لا تمارى، آمين. ثم الدعاء الذي رفع على أجنحة القبول، وبسطت له راحات المنى والسول، للنجيب الذي تربي بمهود السعود، وترعرع في المجد الذي تسلسل إليه من أكارم الجدود، ولدي العزيز ذي الفخر الجلي، والقدر الرفيع العلي، أبي المفاخر سيدي علا- إن شاء الله- على مراتب الإجلال، وقارن به السعد والإقبال، آمين.

[نهر الحسيني]

[نهر الحسيني] وتلي المرحلة الأولى مرحلة نهر الحسيني، وهو جدول يخرج من دجيل، والمسافة أربعة فراسخ. [حمارات] وتليها مرحلة (39 أ) نزلنا فيها على نهر من مزارع حمارات «1» ، وهي قرية من قرى دجيل، وكان نزولنا عند شجرات جذوعها كجذوع السدر، وأوراقها وأغصانها كالرمان، ولها ورد أصفر كصورة الجلنار إلّا أنه يخالفه في اللون، [و] في أسفل كل وردة نقطة تشبه العسل لونا وطعما، ولها دبق كدبق العسل، ولقد ذقتها فوجدت طعم العسل فيها إلّا أن النقطة إذا قرب جفافها يصير فيها شائبة مرارة، وأهل تلك الأرض يسمونها بشجيرات العسل على صيغة التصغير، ويزعمون أن الإمام عليّ بن أبي طالب دقّ وتدا وربط فيه دابّته فتفرّع منه تلك الشجرات، والمسافة أربعة فراسخ أو أكثر بقليل. [الفرحاتية] وتليها مرحلة نزلنا فيها على نهر يسمى بالفرحاتية، بفتح اللام وسكون الرّاء وبحاء مهملة بعدها ألف وبتاء وياء مشددة للنسبة، في آخرها هاء تأنيث. وهي من أعمال دجيل أيضا، وكان نزولنا في برّ أفيح ذي «2» حصى دقاق، والمسافة ستة أميال ونصف تقريبا. [المحادر] وتليها مرحلة تسمى بالمحادر، لا عمارة فيها، وسميت بالمحادر لما فيها من الانحدار والهبوط، وهو قبالة سرّ من رأى، وقرأنا الفاتحة ودعونا لنا ولأحبابنا متوسلين (39 ب) بالسّيّدين الطّاهرين، والكوكبين الزاهرين، سلالتي النبي الهادي سيدينا الحسن العسكري

[مهيجير]

وعلي الهادي رضي الله عنهما، والمسافة ستة فراسخ. [مهيجير] وتليها مرحلة مهيجير، بضم الميم وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية وجيم مكسورة بعدها ياء مثناة تحتية ساكنة وآخر الحروف راء مهملة. وهو تل صغير مدور قريب دجلة. «1» [العاشق] ومررنا في هذه المرحلة على العاشق بوزن اسم الفاعل، كذا هو المشهور، ورأيته في مسامرة ابن العربي «2» بهذه الصيغة، لكن قال في القاموس: والمعشوق قصر بسرّمن رأى. «3» فلعلّه غيره لأن العاشق بالجانب الغربي من دجلة وسرّ من رأى في الجانب الشرقي، فلعل هذا البناء يسمى بالعاشق، والقصر الذي يسمى بالمعشوق. «4» (وللعوام قصة مشهورة ينقلونها عن) «5» العاشق والمعشوق تقتضي أنهما بناءان متقابلان يسمى أحدهما باسم العاشق والآخر بالمعشوق. والعاشق هذا بناء قديم ولم يبق منه إلا أثر الجدران، مبني بالآجر والجص.

[مدينة المنصور]

[مدينة المنصور] وحاذينا في طريقنا مدينة المنصور «1» في الجانب الشرقي، قرب سر من رأى والمسافة ستة فراسخ. [تكريت] وتليها مرحلة تكريت بفتح التاء، سميت بتكريت بنت وائل، وهي بلدة قديمة كبيرة لم يبق منها الآن إلا القليل، وأكثرها خراب، رسومه «2» ظاهرة، (40 أ) والمسافة ستة فراسخ، ومنها كتبت للولد القلبي حسين بك كتابا صورته: من محب سالمه سهاده، وحاربه رقاده، وخانه جلده، ووفى له كمده. ترامت به البلدان والأقطار، وتقاذفت به الفلوات فأقصته عن الديار: يوما بحزوى ويوما بالعقيق ... وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء تأجّجت زفراته، واضطرمت لوعاته، وهاضت «3» أشواقه حين أساء عليه فراقه، جل عن أن تصفه الأقلام، وعظم أن تحيط به الأرقام: والشوق أعظم أن يحيط بوصفه ... قلم وأن يطوى عليه كتاب والله ما أنا منصف إن كان لي ... عيش يطيب وجيرتي غياب وأيم الله لا يرد على سروري، ولا يعيد عليّ حبوري، ولا يرد جيش همومي، ولا يزيح تراكم غمومي، إلا التملي بمحيا الأمجد الذي علا حسبه وسما نسبه وشرفت أخلاقه، وزكت أصوله وأعراقه، وعذبت موارده ومصادره، وسمت مكارمه ومفاخره، ذي المعارف التي جلّت عن التعريف، والعوارف التي لا يحيط بها التوصيف، فالواصف وإن أطرى

وأطنب، (40 ب) وأطال وأسهب، لا يدرك معشار المعشار من أوصافه، ولا يجمع بعض البعض من سنيّ ألطافه، صاحب التحصيل للكمالات السنية، والحائز للمفاخر السنية السمية، نور عيني وجلاها، وحياة روحي ومناها، كريم الأصلين، ولدي أبي المحاسن حسين، لا زال السعد يقدمه، والإقبال يخدمه، آمين. أيّها الولد! علم الله وكفى به عليما: إني على الدعاء لم أزل مقيما، لم أنس تلك الطلعة الزاهرة، ولم أسل هاتيك الأوقات الناضرة، قد قرّح الدمع أجفاني، وأحرق القلب أشجاني، أتذكر تلك الليالي فتهيج زفراتي، وتضطرم لوعاتي، وكلما خيّلت ربعكم المعمور بالمسرات، وبادرتني العبرات والحسرات: لم أنس معهدنا والأنس مجتمع ... والعيش غض وربع الأنس معطار فها أنا بعد بعد عنه في قلق ... وقد نبت بي أرجاء وأقطار تمضي الليالي وأشواقي مجددة ... وما انقضت لي من الأحباب أوطار (141 أ) - أسأل الله- وعليه المعوّل- أن يجمعنا قبل انخرام الأجل، أيها الولد! دخلنا تكريت يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الثاني، ولما وقع مني عليها النظر، زادت وساوسي والفكر، وقلت بديها، وأنا فيها «1» : قد أضرم الوجد في الاحشاء كبريتا ... لما حللت مغاني القوم تكريتا وكلّما شاهدت عيناي مرتعا ... توهمته من الأكدار سبريتا «2» بعدت عن أهل ودي والجوى جلل ... أدير شوقا إلى مغناهم ليتا جمعت جمع فنون الوجد في كبر ... حتى دعيت خبيرا فيه خريتا «3» كوى فؤادي النوى والعين ساجمة ... حكيت في لوعتي الحرّى مقاليتا «4»

[وادي الفرس]

والهم أنحلني والصبر فارقني ... أضحت همومي «1» على ضعفي عفاريتا [وادي الفرس] وتليها مرحلة وادي الفرس بفتح الفاء والرّاء، ولعلّه الموضع الذي كان لهذيل، «2» والمسافة ستة فراسخ. [قزل خان] وتليها (41 ب) مرحلة قزل خان بكسر القاف والزاي وسكون اللام، لغة تركية معناها الخان الأحمر. وهو خان قديم متسع سمي بالأحمر لأن آجره كله أحمر، رحل منه أهله لفساد الأعراب وعتوّهم، ولهم نسل في بغداد في مشهد الإمام أبي حنيفة- رضي الله عنه- يقال له القزلخانية والغالب عليهم الشقرة، والمسافة سبعة أميال تقريبا. [الغرابي] وتليها مرحلة الغرابي بضم الغين المعجمة نسبة إلى غراب، وهو عين ماؤها عذب، والظاهر أنه موضع كما في القاموس «3» سمي بذلك لأن الماء في مقره أسود يشبه الغراب فإذا أخرج منه صار لونه كسائر المياه يتلوّن بلون إنائه، ولعل المقر أسود فيتلون بلونه، بل هو الظاهر. والمسافة ستة فراسخ ونصف تقريبا. [البلاليق] وتليها مرحلة البلاليق، والعامة تبدل القاف كافا، «4» وهي عيون كثيرة عذبة المياه في

[الخانوقة]

وسط جبل صغير سميت بذلك لأن الأماكن التي حواليها بلق بيض، وجبلها لا شجر فيه فهو أبلق، والمسافة ستة فراسخ تقريبا. [الخانوقة] وتليها مرحلة الخانوقة، بالخاء المعجمة فألف فنون مضمومة فواو ساكنة فقاف مفتوحة آخرها هاء التأنيث، وهي على شاطىء دجلة. قال في القاموس: والخانوقة بلد (42 أ) على الفرات. فتبين أن هذه غيرها، وهي فويق قلعة التراب، وهذه القلعة تلال عظام من تراب مستديرة بعضها إلى جانب بعض كهيئة القلعة والسور «1» ، والمسافة تقريبا ستة فراسخ ونصف. [القيّارة] وتليها مرحلة القيارة «2» بفتح القاف وتشديد المثناة التحتية فألف فراء مهملة وآخر الحروف هاء تأنيث. وهي عيون من قير على حافة دجلة، والمسافة تقريبا ستة فراسخ ونصف. [المصايد] وتليها المصايد بوزن مقاعد، فسألت عن سبب تسميتها بذلك فقيل إن ماء دجلة

[حمام علي]

يتعوج فيها لما فيها من الانحراف فكأنها تصيد الكلك بفتحتين، وهو الطوف، والمسافة سبعة أميال. [حمّام علي] وتليها مرحلة عين حمّام علي، وهي على شاطىء دجلة، ماؤها حار جدا إذا كان علا القير على وجه الماء، فإذا رفع طاب بحيث يتحمله بدن الإنسان، يزعم أهل الموصل أنها تنفع من الجذام «1» ، وقد اتفق لي أني اغتسلت فيها ذلك اليوم مرتين، والمسافة ثمانية فراسخ. [الموصل] وتليها مرحلة الموصل بوزن موئل، والمسافة تقريبا أربعة «2» فراسخ، فدخلنا الموصل يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر ربيع الثاني «3» فكان عدة مراحلنا من بغداد إليها غير يوم الإقامة بتل كوش ستة عشرة مرحلة. فنزلت الخان المعروف (42 ب) بخان الأغوات «4» فما مكثت فيه ساعة حتى جاء الأمجد

بلا التباس عثمان آغا بن درباس وهو من ذوي أرحامنا فأخذني إلى بيته فجعلت أبات في داره المعمورة، وفي النهار أخلى لي حجرة من حجر الخان الذي هو تحت إجارته، وفرشها وعين لي من يخدمني فيها. وهذا الخان على يسار الجسر «1» مشرف عليه، والحجرة فوقانية لها شباك يطل على الجسر وعلى نينوى قرية سيدنا يونس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترى قبته الشريفة «2» وكذا البر الشرقي، فبقيت ضيفا عنده مدة إقامتي يزيد في إكرامي كل يوم جزاه الله عني خيرا. واجتمعت بواليها الوزير المكرم، والدستور المفخم، مولانا حسين باشا عبد الجليل زاده «3» - وفقه الله بالحسنى وزاده- فأكرمني وأعزني وبقيت معه من العصر إلى المغرب، ونقلت له قصة مباحثتي مع العجم، ونقل لي هو قصة حصار نادر شاه للمحروسة الموصل. «4» ورأيت

في دار الحكم تلا عظيما كله قلل «1» القنابر والأطواب التي رماهم بها، «2» فالحمد لله الذي ردّ كيده في نحره، ومنح الإسلام منحة نصره. واجتمعت في مجلسه بعلي أفندي «3» مفتي الشافعية- قلّل الله في المسلمين (43 أ) أمثالهم- ما أجهله وما أسخفه! ظنّ المسكين أن العلم والرياسة في التجنب عن أهل الفضل، ولكنه معذور يخشى على نفسه الفضيحة، فربما تعرض عويصة فيظهر جهله. فبقيت، مدة إقامتي في دار عثمان آغا، وهو وجاره بيت بيت «4» فلم يأت لزيارتي، ولا راعى قولهم القادم يزار. ومثله في الجهل مفتي الحنفية، «5» عصمنا الله تعالى عن الخصال الدنية، واجتمعت بمجلسه أيضا بمفتي الحنفية السابق محمد أفندي، وهو ليس ببعيد منهما. وممن زارني من علمائها الكرام، وفضلائها الفخام، شيخنا المحقق الجليل، والمدقق الذي

ليس له مثيل، ذو الخلق السليم، مولانا سليم أفندي، «1» زارني مرتين، لا زال سعيد الدارين. والشيخ النحوي، والعلامة الشهير ذو الفضل الجليّ والقدر العلي، الحاج محمد العبدلي، «2» أمدّ الله في حياته وأفاض عليه بحور هباته. والشيخ الفاضل الكامل، والعالم والنحرير الفاضل، ذو الإفادة والاستفادة، سيدي الحاج محمد بن الشيخ حسين غلامي زاده «3» ، زارني مرّات عديدة، والشيخ العالم الفقيه الصالح الناسك سيدي زين الملة والدين، الشيخ عبد العزيز، فقد خدمني مدة إقامتي ثمة، نفعني الله بصالح دعواته، ومنّ عليّ بإمداد بركاته. والشيخ (43 ب) الفقيه المحبوب، سيدي الشيخ يعقوب، حفظ الله الجميع آمين. ومما منّ الله تعالى به عليّ أن عفرت خدّي بصعيد الدر المكنون والسرّ المصون سيدي نبيّ الله ذي النون، صلى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، فدعوت واستشفعت به لي ولأحبابي، وأنا واقف قبالة وجهه المكرم، صلى الله على نبينا وعليه وسائر الأنبياء والمرسلين. ومما منّ الله تعالى عليّ، زيارة الجوهر النفيس، سيدي نبيّ الله جرجيس «4» ، على نبينا

وعليه وعلى سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه، فدعونا لنا ولأحبائنا، وسألنا الشفاعة لنا ولهم. وكتبت منها كتابا للعالم النحرير عبد الرحيم أفندي المارديني «1» ، وقد راسلني بكتاب وأنا ببغداد، وصورة الكتاب الذي أرسلته إليه، وكان على سبيل العجلة: سلام مثلما فاحت رياض ... وقد مرت بها ريح الشمال سلام كالصبا هبت سحيرا ... على مضنى أسيف ذي اعتلال سلام نظمه يسمو افتخارا ... على نظم الجمانة واللآلي (44 أ) سلام عطّر الأكوان طيبا ... سلام مثل لذات الوصال على عبد الرحيم أبي المعالي ... سليل المجد، مفقود المثال أني بضبط القلم أوصافه، وقد عجزت عنه أقلام الكتاب، وأن تجمع الألفاظ نعوته وقد قصرت دونه أرقام الحساب: وإن قميصا حيك من نسج تسعة ... وعشرين حرفا في علاه قصير كيف وهو العالم المتفرد بين أفذاذ الدهر وأفراده، الجهبذ المتوحد الذي أذعن له نحارير أقرانه وأنداده، وأقرّت بفضله أعاديه، وسلمت بأن التحقيق مقصور على ناديه، وإنه لا نظير له تحت أديم الخضراء، ولا شبيه له فوق بساط الغبراء، والفضل ما شهدت به الأعداء. ذو التحقيقات التي لا تجاري، والتدقيقات التي لا تمارى، إن عدّت الفنون كان له منها القدح المعلى، وإن ذكرت الفضائل كان ذا التاج المحلّى، علامة العلماء، واللج الذي لا ينتهي، ولكل لج ساحل، سيدي الذي به افتخرت ماردين على سائر الأقاليم، (44 ب) الحبر البحر أبو المعالي عبد الرحيم، لا زالت قضايا قياسات تحقيقاته منتجة الإفادة، ولا برحت كليات تدقيقاته موجبة خاصة الحسنى وزيادة

آمين آمين لا أرضى بثالثة ... حتى أضيف ألف آمينا أما بعد، فإن نفحت العطف من ذلك الخاطر العاطر، أو تموج بالسؤال عباب ذلك البحر الزاخر، عن أحوال داعيه، وحافظ وده ومراعيه، فهو- والحمد لله- في نعم وافرة، وآلاء جمة متكاثرة، غير أن الاشتياق أجج الزفرات، وأضرم اللوعات، ولا يخفى أن من الأمور المقررة، والقضايا المحررة، الصادرة عن صدق خاتم فص الرسالة وينبوع السيادة والجلالة والبسالة، أن النفوس إذا تعارفت في عالم الأرواح لا بدّ وأن تتآلف في عالم الأجساد والأشباح، فلهذه الحكم الربانية، والمصالح الصمدانية، تحركت نفس مولانا الزكية، وقصدت تطابق العالمين في هذه (القضية، فشرّف) «1» أدنى خدمة بكتاب تسطع الفصاحة من خلال مبانيه، وتشرق البلاغة في مجاري أفلاك معانيه، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (45 أ) كاد يبلغ حدّ الإعجاز حيث اشتمل من البلاغة على أقصاها، فكان الحري بأن أنشد فيه وأتمثل بقول السلف الأول: أتاني كتاب لو يمر نسيمه ... بقبر لأحيا نشره صاحب القبر وأذكرني شوقا وما كنت ناسيا ... ولكنه تجديد ذكر على ذكر وهذا الداعي لما تحقق أنه لا يستطاع الإتيان بمثله، ولا يدخل تحت قواه مقابلة بعضه، فضلا عن كله، أضرب عن المقابلة صفحا، ورأى السكوت فائدة وربحا، واستوت سفينة عجزه في اليم، وجنح إلى السّلم، والسّلم أسلم، لعلمه أنّ هذه مضائق لا يسلك فيها إلّا خريت، وأن هذه الطرق وعرة سبريت «2» ، لكن لما اعتقد أن شيم المولى الإغضاء عن العوراء، والصفح عن الزلة الشنعاء، تجرأ هذا الداعي على المكاتبة، وأقدم بعد أن كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، في ولوج عباب هذا اليم، فالمأمول من شيم مولانا الرضية، ومكارمه الشاملة السنية، مسامحته عن مثل هذه الترهات، وأن يدفع السيئات بالحسنات، فإن الجالب قليل

البضاعة، (45 ب) وهذا الكتاب ابن ربع ساعة. ومن منن الله العميمة، وألطافه القويمة، أن أوقع في قلب هذا الداعي حج البيت الحرام، فعسى أن يكون ذلك ذريعة للتملّي بمحيّا الحبر الإمام. نسأل الله القريب الودود أن يبرز ذلك للوجود، آمين. ومنها أيضا كتبت كتابا للأكرم ذي الفضل المبين، محمد أمين ويودة «1» ماردين، (وصورته) «2» : دعاء بسطت له راحات الآمال، ورفعت لأجله أكف التضرع والابتهال، راجية عوائد القبول، مؤملة فرائد بلوغ المنى والسول، لجناب من سما على السماكين فخره، وعلا على النيرين قدره: من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع ذي المجد الراسخ، والحسب الشامخ، والنسب الباذخ، والآراء الصائبة، والأفكار الثاقبة، والشجاعة التي بهرت كل شجاع، والبراعة التي أفحمت كل مصقاع، والكرم الذي عمّ وطم، وطوى ذكر حاتم طي وغم، فما هو في سخائه، وغثرة «3» ، وما ابن مامة في شمائله، وما ابن سعدى في فضائله، إلا غيض من فيض، وإلا قلّ «4» (46 أ) من كل الأكرم، الأنبل الأمثل، والأمجد الأحمد، الأفضل جامع المكارم على اليقين، سيدي محمد أفندي أمير ماردين، لا زال السعد ثاويا ببابه، ولا برح مقيما على أعتابه. والمعروض إلى الحضرة العلية، لا زالت مصونة عن كل بلية، هو إن هذا المخلص في وداده، الصادق في تصافيه واتحاده، لم

يزل مقيما على الدعاء، ولم يبرح مديما للثناء، متذكرا تلك الأوقات التي أزرت «1» بالأعياد المجردة العارية عن الأكدار والأنكاد، ملتاحا إلى التملي بطلعتكم البهية، مشتاقا إلى التلذذ بمسامرتكم الشهية، فلم أزل إذا هاج وجدي وغرامي، أنشد قول الحائك اللّامي: لم أنس أياما مضت ولياليا ... سلفت وعيشا بالصريم تصرما «2» إذ نحن لا نخشى الرقيب ولم نخف ... صرف الزمان ولا نطيع اللوّما والعيش غض والحواسد نوّم ... عنا وعين البين قد كحلت عمى فالله أسأل؟؟؟، وعليه المعول، أن يمنّ بعد ويجمع «3» أشتات شتاته، ويعيد علينا السرور في أسعد أوقاته، (46 ب) فنقتص من النوى والبعاد، ونفوز بنيل المنى وبلوغ المراد، آمين. (ومنها) «4» أيضا كتبت للولد القلبي حسين بك «5» (كتابا صورته) «6» : أن أبهى ما تقلدته «7» الحور في النحور، وأشهى من مسامرة الغواني في ليالي السرور، وألذّ من الوصال بعد الهجران، وأحلى من التلاقي بعد نبو الأوطان، تحيّات أشعرت بخلوص الوداد، ودلت على صدق الاتحاد، وتسليمات بهرت القمرين، ونافت على درر البحرين، على من شب في الكمالات الفائقة، وترعرع في المعارف الرائقة، ربيب المجد العالي، سليل الحسب المتلالي، قرة عين الزمان، وواسطة عقد العصر والأوان، ذي الأدب الباهر، والعقل الآمر الناهر، أبي المحاسن حسين ذي العرق الطاهر، لا زال راقيا في أوج السعادة، ممتطيا صهوات المجد والسيادة، آمين. غب الدعاء وعقيب الثناء، إني إليك أشوق من الصادّي إلى الزلال، وأتوق

من المهجور إلى لذيذ الوصال، فهل يعود جمع الشمل بديار الأنس والأفراح، وهل نفوز بالتلاقي فتزول عنا الأكدار والأتراح، وأيم الله لا أنسى تلك المغاني، ولا أسلو ديارا (47 أ) هي المنى والأماني، ولم أزل أتمثل بقول السلف الأول: يا ديار السرور لا زال يبكي ... فيك إذ تضحك الرياض غمام رب عيش صحبته فيك غض ... وعيون الفراق عنا نيام وفي ليال كأنهن أمان ... في زمان كأنه أحلام وكأن الأوقات فيه كؤوس ... دائرات وأنسهن مدام زمن مسعد وإلف وصول ... ومنى تستلذها الأوهام فعسى المولى الرحمن ينعم بالجمع في تيك الأوطان، فنبدد شمل الفراق، إذ طالما طل دمي وأراق. وكتبت أيضا منها إليه كتابا صورته: ما مسامرة الغواني ربات الحجال، وما منادمة الكواعب ذوات الغنج والدلال، بألذّ من تسليمات نوافجها تزري بالعبهر «1» والجادي «2» ، ويضوع رياها في كل واد وكل نادي، نشأت من ودود سلم من داء الملق وده، وتخلّص من عضال الهزل جده، ذي أشواق تتلظى زفراتها، وتتوقد في الأحشاء جمراتها، وتجري بها من الجفون عبراتها، وتتصاعد من الأفئدة (47 ب 9 حسراتها، شوقا إلى ذي الطلعة الميمونة، والحضرة المأنوسة المصونة، البارع في آدابه، السامي على أترابه، جدّ في تحصيل الكمالات فانقادت إليه، ودأب في اقتناص الشاردات فانحازت لديه، سما مجده على السمّاك، وهو الحري بذلك، فرع شجرة المفاخر، ينبوع عيون المآثر، يعجز عن وصفه كل واصف، ويقف دون ساحل معارفه كل عارف، الولد الأنجب الأسعد الأكمل أبي المحاسن حسين الأنبل الأمثل، لا زالت شموس سعده في أفلاك الدوام جارية، وأقمار مجده في بروج السيادة

سارية، آمين. أيها الولد! وأيم الله، قد نفد صبري، وتحيرت في أمري، فأنا أسير بعد وأشواق، وطريح وجد وفراق، تبت يدا البعاد «1» كأنه أبو لهب، فلقد لقيت منه ما يقضي على العجب: تبت يدا من عن الأحباب ألوانا «2» ... أضحى يجر عنا للحتف ألوانا (تبت يداه لقد أضحى أبا لهب) «3» ... يذيب أفئدة منا وأبدانا أما الدموع فهي دماء، وأما نوحي فنواح «4» الخنساء، وأما (48 أ) شوقي فالسعير بالنسبة إليه زمهرير، وأما نومي فمشرد ليس له إلى الأجفان عود ومصير، لا تألف جنوبي المضاجع، ولا يغسل دم أجفاني سح المدامع، بل الدمع أنفدته ساعة الوداع، وخلفه الدم فصار الدمع دمّاع «5» ، فإيم الله إن امتدّ البعاد فلا الدم يفي ولو كان البحر له مداد «6» . ولما هاض شوقي، وضاق عنه طوقي، نظمت هذه الأبيات، وإن كانت غير جيدات، لكنها نفثة مصدور، وأنة مهجور، وحسرة مأسور، وتعلة مقهور، فقلت «7» : دمع يفيض على الخدود مسلسلا ... وجوى تضرم في الجوانح مشعلا وإذا تهب من الأحبة شمأل ... زادت بي البلوى فبت مبلبلا غادرت قلبا بالعراق مضيعا ... والجسم في ذا الوقت «8» حل الموصلا

أواه ما فعل البعاد بمغرم ... ألف التلاف وذاق كأسا حنضلا «1» أواه من حر النوى وحريقه ... فلقد أراني الموت أحلى منهلا (48 ب) أواه من وصب الفراق وجوره ... فقد وجدت الصعب فيه أسهلا أواه قد جار الزمان بغدره ... فقضى ببعدي عن مناي وأسجلا أواه شوقي قد تلظت ناره ... أيلام صب أن ينوح «2» ويعولا ويلي على جفن تقرح داميا ... فغدت دماه من السحايب أهطلا ويلي على عين تمكن سهدها ... فنفى الرقاد ورام جفني منزلا ويلي على قلب تقطع بالنوى ... أنى يرى من بعد ذاك توصلا ويلي على نفس تذوب صبابة ... أضحى تمنيها التلاق تعللا ويلي على جسم تضاعف ضعفه ... أضناه بعد للديار وأنحلا آه على ذاك الزمان وطيبه ... ما كان أحلاه عليّ وأجملا آه على عيش تصرّم وانقضى ... ما كان أهناه عليّ وأفضلا آه على تلك الأحبة سادة ... ما حال قلبي عنهم أو بدّلا (49 أ) آه على سكن ألفت وداده ... (لم ينس قلبي وده ولا سلا) «3» آه على دار السلام مغاني ... القوم الكرام ذوي السيادة والعلا فالله أسأل أن يمن بفضله ... ويردني نحو الديار تفضّلا وكان مدّة إقامتنا في الموصل اثني عشر يوما، وخرجنا منها يوم الاثنين، السابع والعشرين

[بادوش]

من ربيع الثاني. «1» [بادوش] وكان مرحلتنا بادوش، بتحتية موحدة، فألف فدال مضمومة فواو ساكنة فشين معجمة آخر الحروف، وهو خان قديم على كتف دجلة حواليه بيوت قليلة، والمسافة نحو بريد. «2» [الموصل القديمة أو أسكي موصل] وتليها مرحلة الموصل القديمة والترك يقولون أسكي موصل، وهو المشهور المتداول على ألسنة العامة. وهي بلدة كبيرة خراب، رسوم سورها وأسواقها وأبوابها ظاهرة، وهي أيضا على دجلة، والظاهر أن لها اسما غير هذا فنسي، «3» إذ لم أظفر في شيء من كتب التواريخ بأن الموصل بلدتان قديمة وحديثة. والمسافة خمسة فراسخ. [تل موس] بفتح التاء وتشديد اللام وضم الميم وسكون الواو بعدها سين مهملة آخر الحروف. و (هو) «4» تل عال مدور (49 ب) وحوله عين ماء عذب صاف حار يخرج من تحت الجبل،

[عين زال]

وحوله قرية صغيرة قديمة هي الآن خراب «1» والمسافة نحو بريد. [عين زال] وتليها مرحلة عين زال بزاي معجمة فألف فلام آخر الحروف «2» ، وهي عيون كثيرة على وجه الأرض، وماؤها عذب إلّا أنه دون عين تل موس عذوبة وصفاء، وحولها قرية صغيرة خراب، والمسافة سبعة أميال. وفي هذه المرحلة أخذ جمالنا نوع من الجنون فنفرت وألقت أحمالها وأقتابها «3» ، فبعد تعب شديد، ومشقة عظيمة، حتى ضبطت، ومات واحد منها في الحال وواحد نفر فلم يقدر على رده فضاع ولم يعلم خبره. والحاصل أن الجمال الباقية بقيت سكرى إلى آخر اليوم، فسألت عن سبب ذلك فقيل: إنها أكلت شجرة الغزوح «4» ، وكل حيوان حتى بنو آدم إذا أكلوا منها اعتراهم شبه الجنون، حتى أن بعض الناس يضعها في التتن «5» فإن شربها الإنسان أخذته خفة وطرب وجنون، يتخيل له أشياء لا وجود لها، فتارة يضحك، وتارة يبكي، وتارة يخيل له أنه في بحر مغرق، وتارة يخيل له أنه على ظهور الخيل، (وتارة يغني وغير ذلك من الأمور غير المنتظمة. وقد رأيت هذه الشجرة) «6» فإذا هي قضبان (50 أ) دقاق خضر لها ورد أصفر

[صفية]

صغير أشبه شيء بالشيح. [صفيّة] وتليها مرحلة صفيّة كسمية مصغرا، وهي عين ماؤها في غاية الصفاء، يجري أولا على أحجار كالصفي، سميت بذلك إما لصفاء مائها أو لكونها تجري على صفاة «1» ، وماؤها عذب يشبه ماء دجلة، والمسافة كالتي قبلها ستة فراسخ. [الرميلة] وتليها مرحلة الرميلة بالتصغير، وهي عين ماؤها عذب خفيف، قيل: إنه أخف المياه، سميت بذلك لأن مقرها ومجراها رمل، والمسافة ستة فراسخ «2» . وعند هذه العين خرج علينا ونحن نزول قطّاع طريق من نحو جبل سنجار فاستاقوا من جمال القافلة، وهي في المرعى، سبعة وتسعين جملا فأدركهم الطلب فلم يردوا جملا منها. وأخذت عشر أفراس منا، وقتلت فرس، وجرح اثنان أحدهما مشرف على الهلاك. [المتفلتة] وتليها مرحلة المتفلتة، اسم فاعل من تفلت، في آخره هاء التأنيث، وهي عين ماء عذب، سميت بذلك لتفلت مائها وقت السيل، والمسافة أربعة فراسخ ونصف. [أزناوور] وتليها مرحلة أزناوور، بهمزة مفتوحة فزاي ساكنة فنون فألف فواو مضمومة فواو ساكنة فراء مهملة «3» . وهو نهر يخرج من عين أو اسم العين، أو اسم لتل عظيم ثمة مشرف على النهر، (50 ب) والمسافة نحو خمسة فراسخ ونصف.

[نصيبين]

[نصيبين] وتليها مرحلة نصيبين على صيغة جمع المذكر السالم لنصيب. وهي قرية وخمة، وهواؤها ردىء وخم، وماؤها أردأ، وجوه أهلها صفر من كثرة الحمى التي فيها، وهي مشرفة على الخراب «1» ، لا جمعة فيها ولا جماعة، وأهلها مجردون عارون من الفضائل والكمالات، بل وعن جميع الطبائع الإنسانية. واجتمعنا فيها مع صاحبنا محمد أفندي حاكم ماردين، وأعطانا بغلة شهباء. دخلناها يوم الأربعاء السادس من جمادى الأولى «2» ، وأقمنا فيها ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج. وخرجنا منها يوم الأحد العاشر من الشهر المذكور، فالحمد لله على أن نجانا منها، وفيها أقول: عرّج ركابك لا تنزل نصيبينا ... واربح جمالك بل دنياك والدنيا أرض تصيد بها الحمّى على عجل ... طير الفلاة وإن سامى السماكينا أرض بها الدين والإسلام مفتقد ... والخير عنها بعيد نازح حينا أرض بها الشر لم يبرح ببقعتها ... مستوطنا دهره حتما وتمكينا والمسافة خمسة فراسخ ونصف. ومنها كتبت للولد القلبي حسين كتابا ولم أودعه في الرحلة لضيق الوقت.

[قره دره]

[قره دره] وتليها مرحلة قره دره، وهي لغة تركية معناها الوادي الأسود. نزلنا على ماء عذب جار، هي فوق دارا بنصف فرسخ، وسميت بذلك باسم قرية عند منبع هذا الماء، كذا قيل. والمسافة خمسة فراسخ. [دنيسر] وتليها مرحلة دنيسر بضم الدال فنون مفتوحة فياء للتصغير ساكنة فسين مهملة مفتوحة فراء مهملة آخر الحروف، والترك يسمونها بقوج حصار، معناه حصار واسع كبير «1» . وهي بلدة قديمة تدل آثارها أنها كانت عظيمة ولم يبق فيها الآن إلّا بيوت قليلة، وليس فيها جمعة ولا جماعة إلّا أن هواءها معتدل، وماؤها عذب خفيف، وتربتها طيبة، لها جامع كبير واسع قديم من محاسن الدنيا بناء وعمارة إلا أن نصف قبته ساقط والباقي متداع، فدخلته واعتكفت فيه نصف ساعة، وله محراب في غاية الجودة عليه كتابة عربية وكوفية، مكتوب عليه بعض آيات قرآنية «2» ، وعليه اسم السلطان خالد بن أيوب «3» . وللجامع صحن واسع تحيط به جدران عاليه (51 ب) شامخة، تكتنفه منارتان رفيعتان في غاية الجودة والحسن، تشبهان منارة الجامع الكبير في حلب، إلا أن هاتين أحسن وأحكم بناء، وللمصلى الداخلي باب، عن يمنيه محراب وعن شماله آخر، ويكتنفه أربعة شبابيك يمينا

[مشقوق]

وشمالا. وفي وسط البلدة منارة قديمة إلا أن جامعها مندرس وفي موضعه بيوت للسكنى، وفي خارجها في سفح التل العظيم المطل عليها منارة أرفع من تينك وأحسن، حواليها ضيعة نصارى. والمسافة تسعة فراسخ، وأقمنا فيها يومين غير يومي الدخول والخروج، وخرجنا منها يوم الخميس الخامس عشر من الشهر المذكور. [مشقوق] وتليها مرحلة مشقوق على صيغة مفعول، وهي جبال صغار، وذات جنادل سود، سمي بذلك لكون جبالها متشققة يحقن فيها ماء المطر ويبقى إلى العام القابل، والمواضع المجوفة التي يحقن فيها الماء تزيد على مائتي موضع، والمسافة أربعة فراسخ. [دده قرخين] وتليها مرحلة دده قرخين، بوزن غسلين، وهو مشهد ولي من أولياء الله تعالى، على قبره قبة صغيرة، وبجانبه واد كثير الأشجار طيب الهواء والماء، يكتنفه جبلان وهو بينهما، على حافتيه (52 أ) أشجار السدر، وماؤه من الأمطار، وعليه قنطرة لها ثمانية طاقات وذلك لأن الوادي المذكور يمتلئ ماء أيام المطر فيمنع الناس، فبنى المرحوم المبرور الحاج عمر الموصلي هذه القنطرة، جزاه الله تعالى خيرا، والمسافة تقريبا أربعة فراسخ ونصف. [العطشان الطويل] وتليها مرحلة العطشان الطويل، وهو تل عظيم ذو جنادل سود «1» ، ولقد رقيت عليه فوجدت على ظهره قبورا ظاهرها أنها ليست قبور المسلمين. وعنده قليبان «2» ماؤهما عذب ترد القوافل منهما، والمسافة نحو ما قبلها. [أصلان جايي] وتليها مرحلة أصلان جايي، وهو عبارة عن واد يحقن فيه ماء المطر، يكتنفه كهف

[مرج ريحان]

عظيم من حجر، والمسافة عشرة أميال تقريبا. [مرج ريحان] وتليها مرحلة مرج ريحان بفتح الميم وسكون الراء فجيم. وريحان هو النبت المعروف، وفيه عين ماؤها في غاية العذوبة. والمسافة اثنا عشر فرسخا ونصف وأقمنا في هذه المرحلة يوما لتستريح الدواب. [الرها] ويليها مرحلة الرها، بضم الراء. وهي بلدة «1» طيبة التربة معتدلة الهواء عذبة الماء، ذات بساتين وأشجار كثيرة الفواكه والثمار. أهلها ذوو أخلاق رضية، ومكارم سمية، بها (52 ب) الدين ظاهر، والعلم زاهر، والصلاح ذائع، والخير شائع، عمر ها الله بالخيرات، وحفظها بأنواع المسرات. دخلناها يوم الأربعاء العشرين من جمادى الأولى «2» ، وخيمنا في ميدان الجريد «3» في ظاهرها، وكان فيها بقية طاعون فانقطعت ونحن هناك والحمد لله تعالى. دخلنا يوم الخميس داخل البلد، وتفرجنا على أسواقها وخاناتها وحماماتها وبيوتها، فإذا هي أحسن

بلاد الإسلام مساكن وساكنا، ودخلنا مدرسة الوزير واليها أحمد باشا حمّال أو غلي «1» ، وفيها جامع حسن البناء وبستان زاهية زاهرة، [و] ما في المدرسة عيب سوى مدرسها. وشاهدنا العين المسماة بعين خليل الرحمن، فإذا هي بحيرة ماء فيها سمك كثير، يزعم أهل تلك الناحية أن هذه العين نبعت حين ألقي سيدنا إبراهيم الخليل في النار «2» . ورأيت تمثالين يزعمون أنهما على صورة المنجنيق الذي ألقي فيه (سيدنا) «3» إبراهيم- على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام- والذي ذكره القاضي البيضاوي في التفسير «4» وغيره: أن المكان الذي ألقي فيه سيدنا إبراهيم (53 أ) كوثا بلدة في إقليم بابل والله تعالى أعلم. وصلينا الجمعة في جامع المدرسة المذكورة، واجتمعنا بخطيبه العالم الصالح الناسك محمد أفندي، فأكرمنا غاية الإكرام، واحترمنا نهاية الاحترام، وجلس معنا متأدبا أدب التلميذ مع شيخه، وسألنا الدعاء، وفّقه الله لصالح الأعمال، وسلك به أحسن الأحوال آمين. وجاء إلى زيارتنا ونحن في المخيم عالم الرها وفريدها وفاضلها ووحيدها، العلامة بالإجماع، والفهامة بلا دفاع، سيدي حسن أفندي المنصوري المعروف بحليم زاده، المدرس بمدرسة كاتب العربية، فجلس معنا متأدبا متواضعا، والتمس منا أن ننقل له مذاكراتنا مع علماء العجم فنقلناها، وهو مصغ متأدب غاية الأدب، وسألنا الدعاء، حفظه الله من كل بلاء. وثاني يوم زيارته لنا قصدنا زيارته في مدرسته فأكرمنا وأعزنا، وجرت بيننا عبارة

القاضي البيضاوي الواقعة على قوله تعالى وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ «1» حيث قال «2» : والتغليب للإيجاز انتهى. وكنت أنا (53 ب) السائل فأخرج حواشي شيخي «3» زاده وغيرها فتكلموا عليها، فأوردت على ذلك إيرادات سلمها، وهذا الموضع تكلم عليه جميع محشّي البيضاوي، فمنهم من تمحل له جوابا، ومنهم من استشكله حتى إن سنان باشا في حواشيه «4» وسعدي أفندي «5» والشهاب الخفاجي «6» قالوا: إن هذه العبارة من مشكل هذا الكتاب. قلت: وهذا هو الواقع، فقد رأيت لعلماء العجم نحو أربعة عشر جوابا كلها منظور فيها، ولعلماء الروم نحو سبعة أجوبة منظور فيها، والله تعالى أعلم وسيأتي الكلام عليه أيضا. ثم سألته عن عبارة الملا عصام «7» في حواشي البيضاوي على قول البيضاوي في قوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ «8» حيث قال البيضاوي «9» : أكد

[سروج]

تهديده من عدة وجوه «1» فقال عصام: قد عد المحقق التفتازاني وجوه المبالغة من عشرة أوجه، فعدها، إلى أن قال: ولو جعل كنت بمعنى صرت لكان أعلى كعبا، إلى آخر عبارته. فقلت له: ليس لفظ كنت في الآية ولا في عبارة البيضاوي، فتأمل كثيرا واستشكل الأمر فذكرت له الجواب، فطار به فرحا، واستحسنه كثيرا، (54 أ) وكان في حجرته تلامذته وكلهم ذوو استعداد في المعقول والمنقول، فقبلوا يدي وسألوني الدعاء، لطف الله بنا وبهم آمين. وفي هذا اليوم دعانا، ومعنا حسن أفندي، النجيب السعيد عبد الله بك ابن أحمد باشا والي الرها، فأضافنا ضيافة عظيمة، وأكرمنا إكراما جزيلا، وكذا أضافنا مرة ثانية، وخدمني بنفسه، وفّقه الله للخير. وصار لهذا الفقير في الرها شهرة حسنة بحيث يشار لي بالأصابع، فما أحسنها من بلدة وما أحسن أهاليها، عمّرها الله تعالى وصانها عن الآفات آمين. وأقمنا فيها سبعة أيام غير يوم الدخول والخروج. وخرجنا منها يوم الخميس الثامن والعشرين من جمادى الأولى «2» . [سروج] وكان مرحلتنا بر سروج «3» في واد على بئر عذب، حولها ضيعة تركمان، والمسافة تقريبا ستة فراسخ. [الجبجيلي] وتليها مرحلة الجبجيلي، بالجيم التركية «4» ، على بئر عذب، والمسافة كالتي قبلها.

[البيرة]

[البيرة] وتليها البيرة، مؤنث بير، وتسمى بيرة الفرات «1» ، وهي بليدة على كتف الفرات لها سور قديم وعمارة جيدة، ولا سيما التي تلي شاطىء الفرات، وسميت [كذلك] «2» لكونها في وهدة عميقة كالبئر. (54 ب) وأهلها ليس لهم ملاءمة مع الغرباء، وهم من الوحشة التي يستوحشها الغريب على جانب عظيم، لا عقل ولا فكر ولا كرم ولا مروءة، قلّل الله في المسلمين أنسالهم. [الكرموش] وخرجنا منها ثاني يوم، وهو يوم الأحد الثاني من جمادى الآخر، ونزلنا على نهر يسمّى الكرموش، بكاف عجمية مفتوحة، ثم راء مهملة مفتوحة، فميم مضمومة، فواو ساكنة، فشين معجمة آخر الحروف. والمسافة خمسة فراسخ ونصف. [ساجور] وتليها مرحلة ساجور، بالسين المهملة، فألف فجيم مضمومة، فواو ساكنة، فراء مهملة آخر الحروف، وهو نهر ماؤه كثير شديد الجريان، عذب في جودة العذوبة، والمسافة تقريبا أربعة فراسخ. [الباب] وتليها مرحلة الباب، بموحدتين تحتيتين بينهما ألف، وهي قرية حسنة ذات أشجار كثيرة. ونزلنا في ظاهرها على نهر عذب يسمى عين الذهب لعذوبته وصفائه، وكثرة منافعه، وقد مدحه الأديب مصطفى أفندي البابي «3» في موشح، وسأذكره عند ذكر ضيافة

[حلب]

الشيخ السيد (محمد) «1» الطرابلسي «2» في بستان طه زاده، والمسافة ثمانية فراسخ. [حلب] (وتليها مرحلة حلب وهي جنة) «3» الدنيا وخزائن الإسلام، (55 أ) رفيعة البناء، حسنة الأسواق والخانات والحمامات، فيها العلم ظاهر نبراسه «4» ، ومحكم أساسه، رفيعة أعلامه، منيعة حصونه وآكامه، فيها العمل الصالح مشهور، والخير عنها مأثور، أهلها «5» في غاية الرقة واللطف، (ونهاية الشفقة والعطف) «6» ، لهم جد في تحصيل العلوم، وكثرة اشتغال في معرفة المنطوق والمفهوم، ومواظبة على الجمعة والجماعات، ومداومة على تعاطي المبرات، ما دخل حلب (غريب) «7» من العلماء إلّا ونال من إحسانهم، وتمنى أن يكون وطنه «8» من جملة أوطانهم، فلله درهم فلهم أخلاق مسكية، وشمائل ذكية، ولين الجانب، وخفض الجناح للأجانب، لهم حسن ظن واعتقاد، مزايلون الإنكار «9» والانتقاد فو الله إن أولادها الذين هم أطفال أينما رأوني يقبلون يدي، ويقولون: يا سيدي أدع لنا! فو الله إن عمر أحدهم ما يصل ست سنين وهذه حالتهم، فما بالك بشبانها وكهولها ومشايخها.

وفيها من العلماء أساطين، ومن الفضلاء سلاطين، وفيها حفاظ لكتاب الله ومجودوه، وفيها مدرسون (مقيمون لصرح العلم ومشيدوه) «1» (55 ب) والغالب عليهم من الفنون فن الحديث والفقه الشافعي والتفسير والمعاني والبيان والنحو. ورغبتهم في العلوم العقلية قليلة إلّا أنهم يقرءونها «2» تحصيلا للكمالات. ولأهلها قدرة على الكلام، وفطنة وقادة لا غباوة فيهم في معاملاتهم ومحاوراتهم، رضي الله عنهم وأرضاهم وحصن محلهم ومأواهم، فلقد رأيت منهم من الإكرام ما لا أستطيع ضبط بعضه فضلا عن كله. دخلت حلب المحروسة يوم الأربعاء السادس من جمادى الآخرة «3» ، والمسافة كالتي قبلها، ودخلنا من باب الفرج «4» تفاؤلا بالفرج، واستضفنا عند أخينا الحاج محمد بن الحاج هاشم البغدادي، فإنه كان جارا لنا في بغداد ثم ارتحل إلى حلب واستوطنها، فاستكرمنا وأحلّنا داره، وخدمنا هو وأولاده خليل ومصطفى وأبدال ومحمود، وفقهم الله تعالى بكل خلق ووصف محمود، ولم يزل كرمه يتضاعف ويتزايد، ونحن ضيفه، مدة إقامتنا في حلب، وصنع لي كسوة للشتاء وما أحتاج إليه في طريق الحج من لحاف وإبريق ومطارة وغير ذلك، ومع هذا كله أمدّني بنقود غير قليلة، جزاه الله عنا خير جزائه، وأسبل عليه ستره (الجميل، وصانه من بلائه، وأسبغ) «5» عليه نعمه، ودفع عنه نقمه آمين (156 أ) . وثاني يوم الدخول دعاني الكرماء الأمجاد، والنجباء الأسياد، ذوو الشهامة السامية، والفخامة الشامخة النامية، نجوم فلك السيادة، وأقطار السعادة، حضرات علي آغا وخليل أفندي وصالح آغا وعمر آغا وسعيد آغا وإبراهيم آغا أولاد المرحوم المبرور الحاج حسين

عجيمي زاده «1» ، بلغه الله منازل السعادة آمين، فأكرموني غاية الإكرام، وعظموني نهاية الإعظام، فأضافوني في ديار هم المعمورة مرّات عديدة، وفي بستانهم الفريدة كرّات مديدة، وبتنا ليالي في بستانهم الذي زهت أشجاره، وترنمت أطياره، وتسلسلت أنهاره، ونضجت أثمارها، فنسيت الأهل والوطن، وكانت تلك الليالي من غرر الزمن: فلا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ... تلام بنسيان الأحبّة والوطن فلعمري إنها ليال تعد من نفائس الأعمار، آمنة من شوائب الأنكاد والأكدار: ذكرت بها عهد الصبا فكأنما ... قدحت بنار الشوق بين الحيازم ليالي لا ألوي على رشد ناصح ... عناني ولا أثنيه عن غي لائمي (56 ب) اللهم يا ذا الطول المديد، إمنحه مد الدهر بعيش رغيد. وقد وصلني منه كسوة تامة فاخرة في صحبتها، دراهم غير قليلة، جزاهم الله خيرا، ودفع عنهم مكروها وضيرا. وممن أكرمنا السيد السند الذي طاب نجاره، وشمخ فخاره، ذو الأخلاق دونها العطر المسكي، ولا يقاربها العنبر الذكي، صاحب العلم والعمل الصالح جامع الشريعة والحقيقة، فأكرم به من ناجح فالح، كم أعان عانيا من الخطب الفادح، وكم أنقذ هالكا من أنياب الدهر الكاشح، سلالة البضعة الهاشمية، وفرع الدوحة الفاطمية سيدي الأمجد الأكرم، والأنبل الأفخم، السيد يونس بن ولي الله السيد إبراهيم المعروف بابن أدهم «2» ، فلقد

أكرمني هذا السيد الجليل، وأمدني بنقد كثير غير قليل، ووقف في أشغالي، وبلغني آمالي، وصار لي مداحا بين الناس، لا يفتر من مدحي عدد الأنفاس، وأضافني مرات، وأنعم عليّ غير ما تقدم كرات، وفّقه الله بطاعته، وأسبغ عليه مبراته وخيراته، آمين. وممن أكرمنا من أعيان حلب الأمجد الذي عز عن المثيل في عصره، وجل عن النظير في أوانه ودهره، الأكرم الجليل سيدي إسماعيل آغا المعروف بابن ميرو «1» ، فلقد أضافني في داره، وجمع لأجلي علماء البلد، كالشيخ (57 أ) الطرابلسي، والشيخ طه الجبريني «2» ، والشيخ قاسم البكرجي «3» ، والشيخ علي الدباغ، والسيد عبد السلام الحريري «4» وغيرهم، فما وجدت في حلب طعاما ألذ وأهنأ وامرأ وأنفس من طعامه، ووصلني بنفقة من الدراهم. وكتب لي كتابا لأمير الحج وغيره، جزاه الله عني كل خير. وممّن أكرمنا من أعيان حلب السيد الرفيع، ذي المجد المنيع، والفكر الثاقب، والرأي الصائب، فريدة عقد المكارم،

[بستان حسين باشا القازوقجي]

واسطة قلادة الأماثل الأفاخم الذي حصل الكمالات، فدعي بالمحصل، واصل المكرمات، فهو المؤسس والمؤصل، الأكرم الأفخم حمزة آغا محصل حلب ابن طعمة البغدادي، لا زالت من الله تهطل عليه الأيادي، وأضافني بكسوة من الفرق إلى القدم، وأمدّني بنفقة من النقود كثيرة. وممن زارنا وصاحبنا من علماء حلب، العالم الفريد في قطره، والفذ في عصره ودهره، ذو التحقيقات الباهرة، والتدقيقات الفاخرة، من محاسن حلب وافتخارها، بل هو فريد الدنيا في أرجائها وأقطارها، جامع المنقول والمعقول، وحائز الفروع والأصول، سيدي السيد محمد الطرابلسي نزيل حلب، لا زال أعلام إفادته منشورة على كراهل الطالبين، ولا برحت أظلة تقريراته وارفة، محيطة بالمستفيدين آمين، فقد رأيته بحرا لا ينزف، ووفاء لا يوصف، حوى 57. ب) نهاية الرقة واللطافة، وغاية المحاسن والطرافة، وله كرم يزري بالبحر الزخار، والغيث الهاطل المدرار، وقد أضافني- حفظه الله- في بستان الوزير حسين باشا القازوقجي «1» ، ومعنا في الضيافة السيد الحسيب النسيب السيد يونس الأدهمي، والأكرم الأمجد خليل أفندي عجيمي زاده ومولانا الحاج محمد بن هاشم. وتكلف بأطعمة شتى مع الإكرام والإجلال، ولا سيما ما انضمّ من ذلك من حسن أدبه، بحيث يتلمذ لي. ومن عذوبة منادمته وسرعة بديهته، والله إنه لأذكى من إياس، وله مزاج حسن، ومداعبة لطيفة، بحيث تخلب الألباب، وتذهب بالعقول. [بستان حسين باشا القازوقجي] واما البستان المذكورة فهي جنة من جنان الدنيا، ماؤها رقراق، ونهرها دفاق، تصدح فيها الحمائم والبلابل، وتغرّد فيها الشحارير والعنادل، رق نسيمها حتى عاد كالعليل، وطاب

ظلها وهو ظل ظليل، ذات أشجار مختلفة الثمار، تطل على نهر قويق «1» ، وعلى بساتين مد البصر، رفيعة المباني والعمران، مزخرفة بسائر الألوان، فانبسطنا ودام لنا السرور، وحصلنا على الأفراح والحبور. وكان حفظه الله ما بين يوم ويوم يأتي لزيارتي وتحصل بيننا مذاكرات ومحاورات من سائر العلوم من منثور (58 أ) ومنظوم، فالغالب يكون الصواب معي، وهو حفظه الله وافر الإنصاف، مجانب الاعتساف، حتى إنه اتفق لي معه مذاكرة في إنّ العام إذا خصص بغير إلّا هل تكون دلالته ظنية أم قطعية؟ وما الذي رجحه علماء الأصول؟ فامتد البحث بيننا ثلاثة أيام، ووافقه على دعواه الشيخ طه الجبريني مع إقامة الدلائل من الطرفين، والمعارضة من الجانبين، حتى كثر الصخب، وارتفعت الأصوات، مع مراعاة قوانين المناظرة، فاجتمعت به خلال اليوم الثالث، فأول ما وقع نظره عليّ قال لي: يا سيدي إن الصواب معك ونحن مخطئون! وما كفاه هذا إلّا أنه أينما جلس عند الأكابر والأعيان يقول: جرت بيننا وبين الشيخ البغدادي مباحثة والصواب معه ونحن كنا مخطئين، ولم يزل ينوه بذكري، ويقول إنه شيخنا ونحن تلامذته، فلله دره من عالم ما أكثر إنصافه وما أجزل ألطافه وإسعافه مع مداعبته وملاءمته وتفرده في حلب علما وجاها. وأضافني مرة ثانية في بيته ومعنا رفيقنا الشيخ عبد الوهّاب الموصلي الإمام بالحضرة الجرجيسية، والشيخ طه الجبريني، والشيخ عبد الكريم الشراباتي، والشيخ السيد حسين الديري «2» ، وغيرهم. وجرت في ذلك المجلس (58 ب) محاورات ومذاكرات أكثرها عبارات الشيخ ابن حجر «3» في شرح المنهاج عارضني

فيها الشيخ طه الجبريني، وكان الحق معي آخرا. وكان معنا السيد محمد قزيزان «1» ، وهو رجل حسن الصوت، حسن النغمة، معرفته بالألحان الموسيقية تامة، وما سمعته يلحن في إنشاده ولو بحركة. ومن عادته أنه لا ينشد إلا الرقيق من الأشعار، فمما أنشدنا في ذلك المجلس ميمية الشريف الرضي «2» : يا ليلة السفح هلا عدت ثانية ... سقى زمانك هطال من الديم ماض من العيش لو يفدى بذلت له ... كرائم المال من خيل ومن نعم لم أقض منك لبانات ظفرت بها ... فهل لي اليوم إلا زفرة الندم فليت عهدك إذ لم يبق لي أبدا ... لم يبق عندي عقابيلا من السقم «3» تعجبوا من تمني القلب مؤلمه ... وما دروا أنه خلو من الألم (59 أ) ردوا عليّ لياليّ التي سلفت ... لم أنسهن وما بالعهد من قدم أقول للائم المهدى ملامته ... ذق الهوى وإن اسطعت الملام لم وظبية من ظباء الأنس عاطلة ... تستوقف العين بين الخمص والهضم «4» لو أنها بفناء البيت سانحة ... لصدتها وابتدعت الصيد في الحرم قدرت منها بلا رقبى ولا حذر ... على الذي نام عن ليلي ولم أنم بتنا ضجيعين في ثوبي تقى وهوى ... يلفنا الشوق من فرع إلى قدم وأمست الريح كالغيري «5» تجاذبنا ... على الكثيب فضول الرّيط واللمم

يشي بنا الطيب أحيانا وآونة ... يضيئنا البرق مجتازا على إضم «1» وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم وبيننا عفة بايعتها بيدي ... على الوفاء لها والرعي للذمم يولع الطل بردينا وقد «2» نسمت ... رويحة الفجر بين الضال والسلم «3» (59 ب) وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ... حتى ترنم «4» عصفور على علم فقمت أنفض بردا ما تعبقه «5» ... غير العفاف وراء الغيب والكرم وألمستني وقد جد الوداع بنا ... كفا تشير بقضبان من العنم «6» وألثمتني ثغرا ما عدلت به ... أري الجنى ببنات الوابل الرزم دين عليك فإن تقضيه أحي به ... وإن أبيت تقاضينا إلى حكم عجبت من باخل عني بريقته ... وقد بذلت له دون الأنام دمي ما ساعفتني الليالي بعد بينهم ... إلا بكيت ليالينا بذي سلم «7» لا تطلبن لي الأبدال بعدهم ... فإن قلبي لا يرضى بغيرهم ومما أنشدنا ثمة تائية ابن الفارض «8» من قوله

[بستان آغا زاده]

متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت «1» ... وإن أقسمت لا تبرىء السقم برت وسرد منها عشرين بيتا. [بستان آغا زاده] وأضافني ثالثة في بستان آغا زاده، ومعنا في الضيافة الشيخ طه الجبريني، والشيخ عبد الكريم الشراباتي، والشيخ عبد السلام الحريري، (60 أ) والشيخ الناسك السيد علي العطار، والشيخ السيد حسين الديري، والشيخ محمود الكردي المدرس بالشعبانية «2» ، والشيخ عبد الوهاب الموصلي الإمام بحضرة نبي الله جرجيس، والشيخ محمود الكردي الغريب، والسيد محمد «3» نائب المحكمة الصلاحية «4» ، وغيرهم ممّن كان يحضر تدريسه في البيضاوي «5» ، فدخلنا البستان فإذا هي ملتفة بالأشجار، مزينة بالأوراد والأزهار، فيها البلابل تترنم طربا، والنسيم يشق له من خلالها سربا، يشقها النهر المسمى بقويق نصفين، وهو نهر صاف عذب لأهل تلك الديار فيه أشعار كثيرة، منها قول القائل: هو الماء أن يوصف بكنه صفاته ... فللماء إغضاء لديه وإطراق

ففي اللون بلور وفي اللمع لؤلؤ ... وفي الطيب قنديل وفي النفع درياق إذا عبثت أيدي النسيم بوجهه ... وقد لاح [منه] أبيض الوجه براق (60 ب) فطورا عليه منه زرق «1» حقيقة ... وطورا عليه جوشن منه رقراق وهي طويلة، وفيما ذكرنا كفاية. ويمد هذا النهر قناة حلب، قيل: إن هذه القناة هي عين إبراهيم عليه السلام، وهي من حيلان قرية شمالي حلب «2» . رجع «3» ، فانبسطنا يومنا كله، وقضيناه ما بين مذاكرة ومداعبة وإنشاد شعر، وكان منشدنا السيد محمد قزيزان، فمما أنشدنا ذلك اليوم موشح الأديب مصطفى أفندي البابي في وصف نهر عين الذهب، وهو نهر ذو فوائد كثيرة، ومنافع غزيرة، ينبئك عما فيه من العجب تسميته بعين الذهب، وقد نزلنا عليه في مرحلة الباب، وأشرنا ثمة إلى بعض ذلك، والموشح هو هذا: بأبي وأيأبي وبي جرعة من ماء عين الذهب يا رعاه الله من واد وسيم ... رقّ فيه الماء واعتل النسيم تعرف النّضرة فيه والنعيم عيشنا فيه رخي اللبب ... غفلت عنه عيون النوب حيثما يممت روض وغدير ... وإلى جانبه ظبي غرير

(61 أ) وفراش متقن الوشي وثير كملت فيه دواعي الطرب ... يؤخذ الصيد به عن كثب في نديم شب في حجر الدلال لو عصرت الظرف من عطفيه سال ... وإذا ساجلته بالأدب قمر ينظر من عيني غزال ... يملأ الدلو لعقد الكرب قم بنا ننشق أرواح السحر قبل أن تصدى بأنفاس البشر ... هذه الورق تغنّت في الشجر وتناجت في رؤوس القضب ... كل من ضيع ذا الوقت غبي دأبنا شم ورود وخدود وعناق من غصون وقدود ... والهوى لف خصورا بزنود لذة ما شانها من أشب «1» ... خلصت من موبقات الريب نفح روح الراح في جسم الزجاج إنما يسمر عن غيظ المزاج ... أيها الساقي فبادر بالعلاج رصع الشمس لنا بالشهب ... واسكب الفضة فوق الذهب (61 ب) وممّن وصفه، كما في التاريخ، أبو نصر المنازي «2» حين تفيأ في واديه وقال «3» :

وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الوبل «1» العميم نزلنا دوحة حنّت علينا ... حنوّ المرضعات على الفطيم وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذّ من المدامة للنديم يصد «2» الشمس أنّى قابلتنا «3» ... فيحجبها ويأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم وهذا البيت الأخير مما يخلب بالألباب، ويذهب بالعقول. قال ابن الشحنة في تاريخه «4» : يعني أن العذراء التي في عنقها عقد إذا وقفت عليه ونظرت خيال عقدها في مائة تظنّ أن عقدها قد انفصم ووقع فيه فتلمسه، وقد يكون المعنى أنها تشبه الحصى الذي في النهر بعقدها. قلت: وقد نزلنا على هذا النهر، ويحق للناظم ذلك، لأنه لم ير الفرات ولا دجلة، فإن أدنى نهر من أنهارها ألطف وأرق وأعذب وأسلس مما ذكر ولا أحد يذكره في بيت أو شعر أو مثل. ومما أنشدنا ذالية ظافر الحداد «5» ، وهي: لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ما شح وابل دمعه ورذاذه ما زال جيش الحب يغزو قلبه ... حتى وهى وتقطعت أفلاذه لم يبق فيه من الغرام بقية ... إلا رسيس يحتويه جذاذه

من كان يرغب في السلامة فليكن ... أبدا من الحدق المراض عياذة لا تخدعنّك بالفتور فإنه ... نظر يضر بقلبك استلذاذه يا أيها الرشا الذي من طرفه ... سهم إلى حب القلوب نفاذه در يلوح بفيك من نظّامه ... خمر يجول عليه من نباذه وقناة ذاك القد كيف تقومت ... وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه رفقا بجسمك لا يذوب فإنني ... أخشى بأن يجفو عليه لاذه هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن يرى «1» أستاذه تا لله ما علقت محاسنه «2» امرءا ... إلا وعزّ على الورى استنقاذه مالي أتيت الحب «3» من أبوابه ... جهدي فدام نفاره ولواذه إياك من طمع المنى فعزيزه ... كذليله وغنيه شحاذه (62 ب) ومما أنشدته ثمة قول سيف الدولة ابن حمدان، وقيل لابن المعتز «4» وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منفض علينا ومنقض وقد لبست أيدي الجنوب مطارفا ... على الجو ركبا والحواشي على الأرض يطرزها قوس السحاب بأحمر ... على أصفر من أخضر إثر مبيض كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض ومما أنشدنا أيضا ثمة يائية ابن الفارض، من قوله:

يا أصيحابي تمادى بيننا ... ولبعد بيننا لم يقض طي «1» [إلى قوله] «2» غير ما أوليت من عقدي ولا ... عترة المبعوث حقا من قصي «3» وإنما لم أكتب الأبيات التي أنشدها من تائية ويائية سيدي عمر ابن الفارض لشهرتها بين الناس بشهرة ديوانه. وحضرنا مرّات عديدة درسه في البيضاوي، [فهو] يدرس في الأسبوع يوم الأحد في بيته، ويحضر في حلقة درسه غالب أجلاء حلب، منهم سيدنا الشيخ طه الجبريني، وسيدنا الشيخ (63 أ) عبد الكريم الشراباتي، وسيدنا السيد علي العطار وهو المملي للتفسير، وسيدنا الشيخ فتيان، والسيد محمد نائب الصلاحية التفتنازي «4» ، وسيدنا الشيخ محمود وغيرهم. وهؤلاء كلهم محققون فضلاء مدققون، لهم تآليف كثيرة، وتصانيف شهيرة، ويحضر في الدرس من الحواشي حاشية شيخي زاده، (وحاشية شيخ الإسلام زكريا الأنصاري) «5» ، وحاشية سعدي أفندي «6» ، وحاشية عصام، وحاشية سنان باشا و (حاشية) «7» الشهاب الخفاجي «8» . ويورد في الدرس كل ما في ذلك «9» من إشكال وغموض غير ما تستنبطه الأذهان في ذلك الآن. وهو- حفظه الله- كالبحر إذا زخر،

والليث إذا زأر، والجمل إذا (هدر) «1» ، والسيل إذا انهمر. كيف لا! وقد مكث في الجامع الأزهر أربعة عشر عاما يطلب فيها العلم، وقرأ أيضا على علماء الحرمين وغيرهم، حتى حصل جميع الفنون. حدثني أنه أخذ التفسير عن الشيخ (أحمد) «2» الملوي، وهو أخذه عن الشيخ عبد الله الكنكسي وثبته مشهور، وأخذ الحديث عن الشيخ أحمد النخلي وثبته المشهور، وعن محمد (63 ب) بن عبد الله المغربي وثبته مشهور، وله إجازة بثبت الشيخ علي العقدي عنه، وبثبت الشيخ منصور المنوفي عنه، وبثبت الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي عنه، وبثبت الشيخ عبدو الديوي عنه، وأخذ المعاني والبيان والنحو والصرف وسائر العربية والأصولين والمنطق عن الشيخين الشيخ منصور والشيخ أحمد الملوي. وأخذ الفقه الحنفي عن الشيخ علي العقدي «3» ، وهو عن عمه عيسى عن الحمودي، شارح الأشباه «4» . وأخذه عن الشيخ حسن الشرنبلالي «5» ، وهو عن أبيه مؤلف الحاشية «6» . وأخذ علم الكلام عن الشيخين الشيخ أحمد الملوي، والشيخ محمد بن عبد الله المغربي، وأخذ الحديث أيضا عن الشيخ محمد الميت ضد الحي «7» .

والتمس مني أن أؤلف ثبتا باسم (ولده) «1» السيد مصطفى، وأذكر فيه سنداتي إذا وصلت إلى وطني بغداد، وأرسله إليه فأجبته والله الموفق. وقد طلب مني- حفظه الله- أن أجيزه، وولده النجيب السعيد السيد مصطفى، بجميع ما يجوز لي وعني روايته، فأجزته وولده بجميع ما لي فيه رواية البديري الدمياطي «2» وطلبت منه الإجازة لي ولولدي (القلبي أبي المحاسن) «3» حسين وأمه أم الفضل خديجة (64 أ) وأخيه علي، ولأولادي الصلبيين أبي الخير عبد الرحمن، وأبي السعود محمد، وأبي الفتوح إبراهيم، وشهاب الملة أبي المحامد أحمد، وأم الخير رقية، وأم العفاف سارة، وأم السعد صفية، فأجازني وإياهم بجميع ما رواه عن مشايخه المتقدمين، وكانت الإجازتان، إجازتي وإجازته ضحى يوم السبت الثامن عشر من شعبان عام «4» 1157 هـ. عودا على بدء. وإن عادة هذا الشيخ في تقريره على التفسير لا يستعجل بل يقرر بتوءدة وتأنّ، من غير همهمة ولا هذرمة والاعتراضات عليه كرشق النبال، فيجيب من غير إمهال. ومما منّ الله به عليّ أنه ما جرى بحث في التفسير أو الحواشي إلّا كنت المصيب، والحاضرون لهم إنصاف عظيم، وتسليم للحق القويم، لا عناد ولا خلاف، ولا خبط ولا اعتساف، ولا نزاع ولا شقاق، ولا خداع ولا نفاق، بل إنّهم- كثر الله في الإسلام أمثالهم- يتبعون الحق، ويأخذون العلم ولو عن أدنى منهم، فكان الشيخ الطرابلسي يجلسني في مكانه ويجلس هو مع سائر الطلبة، فالداخل يظن أني أنا المدرس، وكلما قرّر هذا الشيخ ينظر إلى كالمستفهم، ويقول: يا سيدي أليس كذا؟ وهذا كله من محاسن (64 ب) أخلاقه حفظه الله تعالى. وكانت العادة عند تمام درسه يسرع السيد محمد قزيزان بإنشاد قصيدة، وبفراغه

من الإنشاد ينفض مجلس الدرس. فمما أنشد (عقب الدرس) «1» قول (ابن الخياط الدمشقي) «2» : خذا من «3» صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هبّ كان الوجد أيسر خطبه خليلي لو أحييتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه «4» تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه وفي الركب مطوي الضلوع على أسى ... متى يدعه داعي الغرام يلبّه إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبه ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه أغار إذا أنّت وفي الحي أنة ... حذارا وخوفا أن تكون لجبه «5» ومما أنشدنا عقب درس الطرابلسي من همزية البوصيري «6» (65 أ)

من قوله: فتنزّه في ذاته ومعانيه ... استماعا ما عزّ منها اجتلاء «1» إلى قوله: شق عن صدره.. البيت «2» وكان من جملة ما أنشده من هذه، قوله «3» : فإذا ما ضحا محا نوره الظل ... وقد أثبت الظلال الضحاء فكأن الغمامة استودعته ... من أظلت من ظله الدففاء «4» فقلت في المجلس: كيف تفهمون هذا البيت؟، فإن الشيخ الجوجري «5» قال: لم يظهر لي معناه، والشيخ ابن حجر شرحه» إلا أنه لم يظهر لي المراد منه، فما معنى عبارة ابن حجر؟ فتوقفوا في البيت، وفي شرح ابن حجر، وراجعوا، فوجدوا الشيخ حسن البوريني «7» كتب عليه بعد ما ذكر (ما) «8» للشارحين فيه من الكلام الذي حاصله يرجع إلى ان الدففاء بفائين،

وأظلت فيه بالظاء المشالة، إلى أن قال: والذي فيه عندي أنه تحرف عليهم أجمعين، وإنما هو كذا، فكأن الغمامة استودعته مذ أظلت من ظله الدقعاء «1» ، فاستودعته وأظلت «2» مبنيان للمفعول، ومذ بميم مضمومة، وذال معجمة، والدقعاء «3» بدال مفتوحة وقاف «4» وعين مهملة، ثم مد، بمعنى الأرض، (64 ب) والمعني أن الغمام إنما أظلّه لئلا يمس ظلّه الأرض، فلهذا أخذه «5» وديعة عنده ليصونه عن مس التراب، وهذا معنى بديع يعرفه من ذاق حلاوة الشعر وعرف مغزاه. وفي قوله: مذ أظلت. انتهى. معنيان أحدهما مذ مس ظله التراب، والآخر مذ صارت الأرض كلها في حمايته لأنه ظل الله. وفي معناه رباعية لي: ما جر لذيل أحمد أذيال ... في الأرض كرامة كذا قالوا هذا عجب وكم له من عجب ... والناس بظله جميعا قالوا وفي التائية المنسوبة للإمام السبكي الذي نظم فيها معجزات النبي صلى الله عليه وسلم «6» ، وشرحها بعض المتأخرين: لقد نزه الرحمن ظلك أن يرى ... على الأرض ملقى فانطوى لمزية وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ... يؤثر برمل فوق بطحاء مكة قال شارحها: قيل إنّه عليه الصلاة والسلام كان لا يقع ظله على الأرض لأنه نور

روحاني: مالطه رأى البرية ظلا ... هو روح وليس للروح ظل (66 أ) والنور لا ظل له، إلى آخر كلامه، وهو كلام حسن لو كانت الرواية مثلما ذكر، وأحسن ما رأيت في شرح هذا البيت ما ذكره بعض الشارحين حيث قال: ودفيف الطائر مدة فوق الأرض، والدفيف الدبيب وهو السير اللين، فدففاء على فعلاء جمع داف، كعالم وعلماء، وهو خبر كان. وجملة استودعته حال من الغمامة على إضمار قد، والهاء في استودعته تعود على الظل الممحو بنوره عليه الصلاة والسلام. والمعنى كأن الغمامة الدففاء، والحال أنها قد أودعت الظل (من النبي) «1» عليه الصلاة والسلام التي أظلته من ظله: ما قال إلا ظلته غمامة ... هي في الحقيقة تحت ظل القائل (انتهى) «2» . ومما أنشدنا في ضيافة الطرابلسي في بستان طه زاده قول الشيخ عبد الرحمن الموصلي «3» : إلى علياك تعنو الأنبياء ... ومن نجواك يقتبس الضياء وكيف وأنت يا باهي المحيّا ... عليك أتى من الله الثناء وزادتك الشفاعة يوم حشر ... كذاك الحوض فخرا واللواء «4» (66 ب) براك الله من نور نبيا ... ولا أرض هناك ولا سماء فكنت وآدم في ظهر غيب ... ولا طين هناك وليس ماء

فبدء الكون أنت بغير شك ... وسر الكائنات ولا مراء وأحسن منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرءا من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء وأنشدنا قصائد كثيرة بعد دروس البيضاوي، وفي بعض الضيافات ما كتبتها لضيق الوقت، وقد سألته- حفظه الله تعالى- عن قول عصام «1» : ولو جعل كنت، بمعنى صرت، لكان أعلى كعبا الواقعة على قول البيضاوي في تفسير قوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ «2» أكد تهديده، وبالغ فيه من عدة وجوه، انتهى. وهذه العبارة ما رأيت أحدا أجاب عنها، بل غالبهم يقول: إنها سهو، ولما فتح الله لي بحلها سجدت لله شكرا وأنا في بغداد. وأما هذا الشيخ فثاني يوم [بعد] السؤال قال: المراد من كنت في قول (67 أ) عصام هي: كنت التي تقدمت في آيات كثيرة في قوله تعالى وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ «3» الآية، وهو عين الجواب الذي أجبت (به) «4» . وقد كتبت على كونه أعلى كعبا كلاما حسنا على هوامش الحاشية العصامية، والله «5» الموفق. ومما وقع السؤال عنه عبارة القهستاني في شرحه لصدر الشريعة «6» عند قول الماتن:

ويغسل يديه إلى رسغيه ثلاثا للمستيقظ، حيث قال بفتح القاف، وإن اشتهر كسره، لموافقه الحديث، ولأن هذا التصريح بعد الكتابة لا يخلو عن شيء، انتهى. فلم يجب أحد منهم سوى الشيخ الطرابلسي فإنه كتب عليه، وهو غير ما كنت أفهمه «1» أولا. وصورة ما كتب: المراد من الحديث الموافق: إذا استيقظ أحدكم من منامه، الحديث. ووجه موافقة المستيقظ بفتح القاف (له) «2» أنه يكون حينئذ مصدرا ميميا واللام فيه للوقت، فيفيدان سنية غسل اليدين وقت الاستيقاظ من النوم كإفادة الحديث لذلك. وقوله: ولأن الخبر علة ثانية لمخالفة المشهور. ووجه التعليل إن التصريح أي الإتيان (67 ب) بالاسم الصريح الظاهر بعد الضمير المسمى بالكناية «3» ، الواقع في يديه ورسغيه لا يخلو عن شيء، أي عن نكتة حاملة له على العدول عن الإضمار إلى الإظهار، وتلك النكتة هي إفادة الموافقة، وإنها لا تكون على زعمه إلّا بفتح القاف المخالف للمشهور، هذا ما وصل إليه الفهم الموصوف بالفتور. وفي كل من الوجهين نظر، إذ الموافقة للحديث حاصلة مع الموافقة للمشهور، أما بجعل اللام في المستيقظ للعهد، والمعهود هو الأحد المذكور في الحديث، وأما بأن المراد أول أزمان الاتصاف بهذه الصفة، وما ذكره علة للعدول يجري فيما ذكرناه من غير نكول، انتهى. ومما وقع مني السؤال أيضا في التفسير المذكور، في قوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «4» فقد ذكر في [تفسير سورة] «5» هود أن الفعل تعلق [بخلق] «6» ، وفي سورة الملك نفى التعليق «7» ، والآية في الموضعين واحدة، وهو تبع صاحب الكشاف في

الموضعين «1» ، فجرى البحث فيها كثيرا من جواب ورد، ثم انتقل الكلام إلى ما ذكر المحشون، فذكر سعدي أفندي، وشيخه شيخ الاسلام زكريا الأنصاري، تلفيقا وتوفيقا بين المحلين، إلا أنه (68 أ) تلفيق وتوفيق إقناعي لا يجدي نفعا فليراجع. ثم وذكر سنان باشا في حواشيه كلاما طويلا، ثم قال: وبالجملة إن هذا من مشكل هذا الكتاب، ولقد أنصف. ثم نشأ من عبارة الكشاف التي هي صريحة في أنّ المعلق لا يكون إلّا قبل الجزءين، فلو تقدم على المفعول الثاني فقط دون الأول لا يكون تعليقا «2» ، وتبعه البيضاوي في جميع ذلك. سؤال، وهو أنه هل أحد قال بتعليق المفعول الثاني فقط؟ فقلت: نعم، كما في قولنا علمت زيدا (أبو من) هو «3» ، ونقله الجلال السيوطي في شرح الألفية عن الناظم في الكافية. ثم رأيت شيخ الإسلام قال في هذا الحل أنه مذهب الأكثر. ومما وقع مني أيضا السؤال عن عبارة البيضاوي، عند قوله (تعالى) «4» في سورة (ص) : مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ «5» وسمّي به العطاء، إلى أن قال: وفرقوا بين الفعلين، فقالوا: صفده إذا قيده وأصفده إذا أعطاه عكس وعدو، أو عدو، (وهي) «6» في ذلك نكتة، فوقع البحث في تعيين النكتة، فأتوا بالحواشي كحاشية سعدي «7» أفندي، وحاشية شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وحاشية شيخي زاده، فاختلفت الحواشي (68 ب) في تعيين النكتة، ولم يقرب إلى الصواب إلا شيخ الإسلام وجوابه في الحواشي مسطور، ولكن للنظر فيه مجال لا يخفى على فحول الرجال.

ومما وقع السؤال عنه في التفسير المذكور: كثير، لكنه ليس من البحث المشهور، وذلك كمعلق جار ومجرور، وإرجاع ضمير، ووصل وفصل وإعراب. ومما وقع السؤال عنه عبارة الملّا عصام عن قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً «1» الآية. فإنه هناك نقل كلام المحقق التفتازاني معترضا، ويفهم من عبارته الجواب عن الاعتراض المذكور وهو غير ما اعترض به التفتازاني فلينظر هناك، وقد أجبت عنه بجواب استحسنه الجميع، ولم تحضرني عبارة عصام هذا الوقت، وإلا لكنت ذكرت الجواب بعد تشخيص الإشكال. وممن زارنا وصاحبنا وامتزج معنا امتزاج الروح بالجسد سيدنا ومولانا العالم الذي لا يجارى، والفاضل الذي لا يمارى، ذو التحقيقات التي تشهد بأنه البحر الزخار، والتدقيقات التي تخبر بأنه الشمس، الشيخ طه الجبريني بن مهنا، نسبة (69 أ) إلى جبرين، قرية من قرى حلب، فجرت بيننا وبينه أنهار المذاكرة، ودارت علينا كؤوس المباحثة والمناظرة، وهو- حفظه الله- أول من زارنا من علماء حلب، فلم يزل يوقع المسائل في غضون كلامه، ومطاوي صحبته، يوردها بالمناسبة، فطال ما بيني وبينه من المذاكرات في سائر الفنون، فإذا هو عالم علامة، وفاضل فهامة، مع ما اشتمل عليه من النسك والعبادة والصلاح- وفقه الله لطاعته آمين- فقد حصلت لي معه مباحثات شتى، حتى إنه كل يوم يعرض عليّ عبارات (الشرح) «2» المطول «3» وسواداته، وسبب ذلك أنه كان يقرأ المطول إذ ذاك ويعرض عليّ عبارات البيضاوي، لأنه من جملة من يحضر درس الطرابلسي في التفسير، ويعرض عليّ أحاديث البخاري وعبارات شروحه، لأنه كان يقرأ البخاري في الجامع الكبير عند المحراب

الأصفر «1» في مصلّى الشافعية. وأما المسائل المتعلقة بتحفة ابن حجر وبالنحو والصرف وسائر الفنون فهي أكثر من أن تحصى، وكان- حفظه الله- بحاثا بحيث كان يتعبني في المباحثة إلّا أن الغالب عليه عدم إظهار التسليم (69 ب) إلّا أن يلزم إلزاما لا مناص له منه. وممّا منّ الله عليّ أني ما بحثت مع أحد منهم إلّا وكان الصواب معي، فعظمت في أعينهم بحيث يعاملونني معاملتهم لمشايخهم. وكنت كل يوم أجتمع معه في الجامع الكبير، ويضيفني فيها، وتأدب معي غاية التأدب، والأبحاث بيننا غير منقطعه. ومما وقع البحث فيه، قول الشاعر: منينني بالوصل حتى ... إن مللت من التمني عرضن لي بالوصل حتى ... قلت قد أعرضن عني فقلت: فيكف يكون إعراضهن غاية لتعريضهن بالوصل، فتكلف في الجواب، ولم يقع على الصواب. والجواب إن (قد) هنا اسم فعل بمعنى كفى [و] ليست قد الحرفية. ومما وقع البحث عنه قوله- صلى الله عليه وسلم- إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة. فسألته: ما معنى هذا الحديث؟ فتوقّف. والجواب، كما نقله الشيخ أحمد المقري «2» في تاريخ المغرب «3» عن أبي مدين، أن معناه أعطي نصف جنة. قال: عوض عن الإضافة، كما هو مذهب الكوفيين، أو إنها للعهد كما هو مذهب البصريين، فلم يسلم لهذا الجواب ظاهرا. فاتفق أني صليت العصر في الجامع الكبير، وهو في درس البخاري، فسمعته، وهو لم يرني، يقرر هذا الحديث ويفسره بعين ما ذكرته له.

ومما وقع السؤال عنه قوله صلى الله عليه وسلم: ما أسلم من عواصي قريش إلا المطيع بن سالم «1» ، فتحير في الجواب، وجوابه كما ذكره ابن الأثير في النهاية «2» : إن المعنى ما أسلم ممن تسمّى بالعاص إلّا مطيع، ومطيع هذا كان اسمه أولا العاصي فغيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمه، فسمّاه المطيع، فالعواصي جمع العاصي علما لا صفة. ومما وقع السؤال عنه، على طريقة المداعبة، أني قلت له: إن بعض الناس يقول: إن أبا هريرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الجملة تمّ الحديث، وأفاد معنى حكما شرعيا، فأين مقول القول الذي يتوقف عليه المعنى؟ فتوقف. والجواب: إن قال الثاني من القيلولة لا من القول. ومما جرى بيني وبينه أنّا حضرنا عقد نكاح، فرأيتهم يحرصون على حضور العدول، فقلت: ولم هذا؟ فقال: حتى يصبح العقد على مذهب الإمام الشافعي. فقلت: لا يصح في هذا المجلس، لأن الولي وأكثر (92 ب) الحاضرين لابسون حريرا، ولبس الحرير من الكبائر التي يفسق بها الولي والشهود، بل يفسق من كان جالسا معهم وله قدرة على دفع المنكر، أو يقدر على مفارقتهم، فأنكر أن يكون لبس الحرير من الكبائر، فأخرجت له الزواجر لأبن حجر «3» ، فذكر أن لبس الحرير من الكبائر. وذكر في موضع آخر: أن الاجتماع معهم، مع القدرة على جفاوتهم كبيرة، فلما رأى ذلك قال: لا أسلم ذلك! إنما أريد كتابا في الفقه ذكر ذلك، فنظرنا عبارة التحفة «4» ، فأحال الكبائر ومعرفتها على الزواجر. وعرضت عليه عبارة الذهبي فإنه صرح بأن ذلك كبيرة، وعبارة الشبراملسي فإنه قال: وهو من الكبائر، فتوقف حتى إني غضبت عليه، فقلت: لم هذا العناد مع تصريح الشيخ ابن حجر وأنت أولا

تفتي الناس بصحة نكاحاتهم ووقوع طلاقهم وتستند إلى قول ابن حجر فلم لم تقبله إذا كان عليك؟ فسكت ولم يردّ علي. ومما وقع السؤال عنه، عبارة الشيخ ابن حجر عند قول النووي في المنهاج، وقد أكثر أصحابنا- رحمهم الله- من التصنيف من المبسوطات والمختصرات، حيث قال: قيل والإيجاز لكونه (71 أ) حذف طول الكلام، وهو الإطناب، غير الاختصار، لأنه حذف تكريره مع اتحاد المعنى ويشهد له فذو دعاء عريض وفيه تحكم واستدلال بما لا يدل، إذ ليس في الآية حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته، فالحق ترادفهما كما في الصحاح، فسألته عن معنى هذه العبارة، فقرر خلاف المراد، ثم ذكرت له المعنى المراد من العبارة، فمنع منعا مجردا وأصرّ على ذلك. فاتفق ثاني يوم البحث، فرأيت بين أوراقه ورقة كتب فيها المعنى الذي ذكرته له ولم يخبرني بأنه رجع عما قال فيه إلى ما قلته، وأنا كذلك ما ذكرت له أني اطلعت على ورقتك، وإن فيها كذا وكذا. ولنرجع إلى عبارة الشيخ ابن حجر فنقول: معناها إجمالا إن صاحب هذا القيل ادعى أن الإيجاز غير الاختصار، لأن الإيجاز حذف طول الكلام، والمسمى بالإطناب، والاختصار حذف تكريره الذي هو عرضه «1» ، واستشهد على الفرق بقوله: فذو دعاء عريض، فرده الشيخ بأن في هذا الفرق تحكّما أي دعوى بلا دليل، وإن فيه أيضا استدلالا بما لا يدل، فإنه استدل بالآية وليس فيها حذف ذلك العرض المسمى بالتكرير فضلا عن تسميته اختصارا، بل الذي في الآية لفظ دال على التكرير، (71 ب) لا أنه تكرير وحذف، فانظر يا أخي إلى أحوال الشيخ طه! فإنه- والله- عالم فاضل، محقق مدقق، له نظر في العبارة وقوة حافظة في ضبط القواعد من سائر العلوم، مع أدبه وتواضعه، فلا عيب فيه سوى أنه لا يسلم ظاهرا في غالب أحواله، ويستفيد من الخصم مع إنكاره ظاهرا، فسبحان من لا عيب فيه، غفر الله لنا وله.

وممّا وقع فيه السؤال، عبارة الشيخ ابن حجر في قول النووي: وكذا الباب المردود والشباك في الأصح حيث قال ثمة: وبما تقرر علم صحة صلاة الواقف على أبي قبيس بمن في المسجد، وهو ما نص عليه، ونصه على عدم الصحة محمول على العبد، وعلى إذا ما حدثت أبنية بحيث لا يصل إلى بناء الإمام لو توجه إليه من جهة إمامه إلا بازورار وانعطاف، بأن يكون بحيث لو ذهب إلى الإمام من مصلاه فلا يلتفت إلى جهة القبلة، بحيث يبقى ظهره إليها. فقلت: إن لا في قوله لا يلتفت زائدة من قلم الناسخ لأنه في صدد بيان الازورار والانعطاف، وهما يقتضيان الالتفات عن جهة القبلة لا عدمه، فكابر وعاند، وادعى أن قوله بأن يكون بحيث انتهى بيان لعدم الازورار. فقلت: عدم الازورار غير مذكور (72 أ) حتى يكون هذا بيانا، فقال هو مفهوم بطريق المخالفة وأصر على ذلك. ومما وقع السؤال عنه، عبارة الشيخ ابن حجر، ونصها: وبحث الأسنوي «1» أن هذا في غير شباك بجدار مسجد، وإلّا كالمدارس التي بجدر المساجد الثلاثة صحة صلاة الواقف فيها لأن جدار المسجد منه، والحيلولة فيه لا تضر، ورده جمع وإن انتصر له آخرون بأن شرط الأبنية في المساجد تنافذ أبوابها على ما مر، فغاية جدار المسجد أن يكون كبناء فيه، فالصواب أنه لابد من وجود باب أو خوخة «2» فيه يستطرق منه إليه من غير أن يزور كما مر في غير المسجد، فقلت: صريح عبارة ابن حجر أن الازورار في المسجد يضر، وإن ذهب غيره إلى خلافه، كالحلبي وغيره. فقال الشيخ طه: لا تقتضي العبارة ذلك، وتمحل لها تمحلات بعيدة وتكلفات واهية غير سديدة تماما. ثم إنّا توافقنا أن نجعل الشيخ الطرابلسي حكما في المسألتين، وقلنا: إنه رجل حنفي ولا يعرف حكم المسألة عند الشافعية إلا من مدلول اللفظ، فنعرض عليه العبارتين ونسأله تقريرهما، فإن وافق تقرير أحدنا ينبغي للآخر أن يسلم.

فعرضنا عليه العبارتين (72 ب) فقرر طبق ما قررت- والحمد لله- فإن النزاع طال وامتد إلى سبعة أيام. ويوم اجتمع بي، وجرت بيني وبينه المذاكرات، أنشدني متمثلا: لم تزل منا شدة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن علي أطيب الخبر فلما التقينا فلا والله ما سمعت «1» ... أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري أخذ الشيخ طه المذكور الحديث والفقه والأصول والنحو والمعاني والبيان وغير ذلك عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري ثم المكي، وعن الشيخ عيد البرلسي المصري، وعن الشيخ تاج الدين القلعي المفتي بمكة المكرمة، وعن الشيخ عبد القادر المفتي بها أيضا، وعن الشيخ يونس المصري، وعن الشيخ أبي الحسن السندي. وأخذ الفقه والنحو أيضا عن الشيخ مصطفى الحفسر جاوي ثم الحلبي، وعن الشيخ أحمد الشراباتي الحلبي. وأخذ الحساب والنحو عن الشيخ حسن التفتنازي ثم الحلبي. والمنطق عن الشيخ محمد شلبي البرلسي المصري [وأخذ] هداية الحكمة عن الشيخ عبد الله الصادق بلاقي الكردي وغيرهم. والتمست منه أن يجيز أولادي الصلبيين والقلبيين، وهم (73 أ) أبو المحاسن وأمه أم الفضل خديجة، وأبو المفاخر علي، وأبو الخير الشيخ عبد الرحمن الشعراني، وأبو السعود محمد، وأبو الفتوح إبراهيم، وأبو المحامد شهاب الدين (أحمد) «2» ، وأم الخير رقية، وأم العفاف سارة، وأم السعد صفية، فأجازهم بثبت الشيخ عبد الله بن سالم، وجميع ما يجوز له وعنه روايته، وذلك في واحد والعشرين من رجب الأصب من العام المذكور «3» ، منحه الله أعظم الأجور، آمين. وممّن زارنا وصاحبنا الصحبة الأكيدة، وواددنا المودّة المديدة، سيدنا

ومولانا العالم المحدث الثقة الثبت، تذكرة ابن الصلاح رواية، وخليفة ابن الأثير دراية، وجامع الفنون العديدة، وحائز العلوم المفيدة، الشيخ عبد الكريم ابن الشيخ أحمد الشراباتي الحلبي البصير، عمي- فيما أظن- عام سبعة وثلاثين ومائة وألف، له فكرة وقادة، وفطنة نقادة واشتغال تام، لا يفتر عن الإفادة والاستفادة يوما من الأيام أمين على العلم بحيث إذا ظهر خطؤه ولو بعد شدة النزاع رجع وأذعن وأقر بأنه كان مخطئا، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا تعتريه فيما إذا أخطأ ندامة نادم، لين (73 ب) العريكة، صافي السريرة والطوية، مخلص العزم في أعماله، حسن النية. عاشرني معاشرة ارتفعت فيما بيننا الحشمة «1» ، ومكنني من جميع كتبه، بل من جميع ما في بيته. وأول ما وقع عليه نظري وصافحني قال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وأنا قلت حين المصافحة: اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم، اللهم اغفر لي ولأخي هذا، وذلك لأنه المأمور به وقت المصافحة كما جاء في ذلك أحاديث كثيرة، وأخبار معروفة شهيرة، وكأنه استشعر مني الإنكار عليه، فقال: روينا عن الأذكار النووية «2» أنه، صلى الله عليه وسلم، ما أخذ بيد رجل وفارقه إلا قال: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكان- حفظه الله تعالى- لا يخاطبني إلا بيا شيخنا. وكان يقول: والله علمنا الشيخ البغدادي كيفية البحث والمناظرة، واستفدنا منه شيئا كثيرا. وكان سخي النفس جدا، دعاني مرارا عديدة، وأول ما وقع نظري عليه أحبه قلبي محبة كثيرة، فقلت له (74 أ) : يا شيخ عبد الكريم! إني أحبك لله، فقال: أحبك الذي أحببتني لأجله. نقل مرة مسألة عن كتاب فلم توجد فيه وإنما الموجود عكس ما قال، فقال: إني أحفظها

من غير هذا الكتاب، فقلت: يا شيخ إن العلم أمانة، وإنك ادّعيت أنك لا تحفظها إلّا من هذا الكتاب، فسكت طويلا ثم قال: جزاك الله خيرا، وعيناه تدمعان. قال صلى الله عليه وسلم: العلماء أمناء الله فانظروا عمّن تأخذون دينكم، أو كما قال. وأنا والله لا أحفظها إلّا من هذا الكتاب، لكن الأمر التبس عليّ فأنا مخطئ في حفظي! فبقي مدة كلما جرت مسألة يقول: جزاك الله خيرا، العلم أمانة، ثم يتكلّم بالمسألة. حضرت درسه في المشكاة في الجامع الكبير «1» ، قبالة ضريح السيد زكريا «2» ، على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، فبقي أينما جلس يقول: حضر درسنا الشيخ البغدادي، فانقطع نفسي، وتلجلج لساني من هيبته، أو كما قال، ولم يزل- حفظه الله- يسألني عمّا أشكل عليه طالبا الاستفادة. وبالجملة هو عالم عامل، والتمس مني أولا أن أجيزه بصلاة الشيخ عبد السلام بن بشيش «3» (74 ب) فأجزته بها، واستجزت بها أيضا فأجازني، وسنده أعلى من سندي بواحد، والتمس مني ثانيا أن أجيزه بجميع مروياتي فأجزته بما يجوز لي وعني روايته، واستجزته أيضا لأولادي الصلبيين والقلبيين فأجازنا بجميع مروياته، منها ما تضمنه ثبت الشيخ أحمد النخلي، وثبت الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وبما رواه عن جميع مشايخه. وأجازني بمثال نعل المصطفى- صلى الله عليه

وسلم- (عن شيخه والده) «1» عن الشيخ محمد الكاملي «2» عن الشيخ أحمد بن شاهين عن مؤلف فتح المتعال في أحوال النعال الشيخ «3» ، وهذا السند أعلى من أسانيدي المتصلة إلى الشيخ أحمد المقري. أخذ الشيخ المذكور التفسير عن والده العالم الكبير، والفاضل الشهير، أحمد الشراباتي وعن الشيخ عبد الله بن سالم البصري، والحديث عن جم غفير، أشهرهم والده الشيخ أحمد، والشيخ أحمد النخلي، والشيخ عبد الله بن سالم، والشيخ أبو المواهب الحنبلي الدمشقي «4» ، والشيخ (محمد) «5» الكاملي الدمشقي، والشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي، والشيخ أحمد الغزي مفتي الشافعية بدمشق «6» ، (75 أ) والشيخ الملا إلياس الكردي الكوراني «7» والشيخ عبد الرحمن المجلّد الدمشقي «8» ، والشيخ عبد القادر المجلد التغلبي «9» مفتي الحنابلة في دمشق، والشيخ عبد الرحيم الأزبكي الكابلي «10» . وأخذ

الأصول عن والده المرحوم، و (عن) «1» الشيخ مصطفى الحفسرجي. وأخذ المعاني والبيان عن الشيخ مصطفى المذكور، وعن الشيخ سليمان النحوي «2» . وأخذ النحو عن والده، وعن الشيخ سليمان المذكور، وعن الشيخ مصطفى الحفسرجي. وأخذ المنطق والاستعارات عن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ حيدر الكردي الصفوي «3» . وأخذ علم الكلام عن الملّا محمد أفندي الخشاني وأخذ الفقه عن الشيخ الحفسرجي، وعن الشيخ إبراهيم ابن الشيخ محمد اليخشي «4» . وأخذ سائر الفنون عن الشيخ أبي السعود الكواكبي «5» المفتي بحلب وغيرهم. ولم تزل أولاده، الشيخ محمد، والشيخ مصطفى، وعبد الرحمن، في خدمتي، جزاه الله خيرا. ويوم وادعني أوقفني معه مستقبلي القبلة، ودعا لي وهو يبكي، ثم أنشد: يا من يريد الرحيل عنا ... أسعدك الله في ارتحالك كان لك الله خير واق ... سددك الله في المسالك

(75 ب) وآب إلينا بكل خير ... برغم من لا يريد ذلك ثم قال: وجدت في تأليف السفيري «1» شارح البخاري أن هذه الأبيات ما أنشدت وودع بها مسافر إلّا رجع سالما مسرورا، والحمد لله على ذلك. وممّن زارنا مرارا عديدة، وصاحبنا صحبة أكيدة، سيدنا السيد الأجل، والعالم الأكمل، المتضلع من سائر الفنون ولا سيما الفقه الشريف، السيد حسين ابن السيد محمد ابن السيد هاشم الحسني الحسيني الديري الشافعي، له سخاء وافر مع فقره، وتواضع ظاهر مع شرفه وفخره، أحببناه محبة خاللت الخلد، ورسخت في الفؤاد رسوخا مؤكدا «2» ، أضافنا ثلاث مرات، مرتين في داره، ومرة في البستان على حافة قويق، وصحبتنا من الكتب المقامات الحريرية، وشرح الحكم للنفزّي، وشرح درة الغواص للشهاب الخفاجي، ومغني اللبيب لابن هشام، فقضينا نهارنا بانبساط وانشراح وسرور وأفراح ومذاكرة ومحاورة. وكان معنا السيد محمد قزيزان فأنشدنا ذلك اليوم قول الأرّجاني «3» : كأنّك بالأحباب قد جدّدوا العهدا ... وأنجزت الأيام من وصلهم وعدا وعادوا لما كانوا عليه من الوفا «4» ... وقد أنعمت نعم وقد أسعدت سعدى أماني لا تدني نوى غير أنها ... تعلل منا أنفسا ملئت وجدا

وجمرة شوق كلما لام لائم ... وردّد من أنفاسه زادها وقدا أحن إلى ليلى على قرب دارها ... حنين الذي يشكو لألافه بعدا ولي سلك جسم ماؤه در أدمع ... فلولا العدا أمسيت في جيدها عقدا أكتم جهدي حبها وهو قاتلي ... وكامن نار الزند لا يحرق الزندا هلالية قوما وبعد منازل ... فهل من سنا منها إلى مقلة يهدى (76 ب) غزالية للناظرين إذا بدت ... إن انتقبت عينا وإن أسفرت خدّا إذا رمتها «1» جر الرماح فوارس ... لتقصيدها ممن يروم لها فقدا «2» وحالوا بأطراف القنا دون ثغرها ... كما ثاريحمي النحل بالأبر الشهدا وآخر عهدي يوم جرعاء مالك ... بمنعرج الوادي وأظعانهم تحدى ولما دنت والستر مرخى ودونها ... غيارى غدت تغلي صدورهم حقدا تقدمت أبغي أن أبيع بنظرة ... إلى جفنها «3» روحي لقد رخصت جدا أسفت على ماضي عهود أحبتي ... وهل يمكن المحزون للفائت الردا أبوا أن يبيت الصب إلا معذبا ... إذا بعدوا شوقا وإن قربوا صدّا فلما ابتدأ في مطلع القصيدة تذكرت الأحباب، ففاضت (77 أ) بالدموع عيوني، وثارت صبابتي وتضاعفت شجوني، وتكدر عيشي بعد ما كان صافيا، وفر عني الصبر بعد أن كان وافيا. وقد طلب السيد المذكور الإجازة مني فأجزته بجميع رواياتي، وأجزت ولده السيد عبد القادر بالمثال، مثال نعل المصطفى، وكذا أجزت أخاه السيد بكري، وحذوت في المثالين لكل واحد مثال.

أخذ السيد المذكور التفسير عن قطب الزمان السيد محمد أفندي «1» مفتي حلب، وعنه أيضا المعاني والبيان. وقرأ المطوّل والحديث عليه، وعلى يوسف أفندي «2» المفتي بحلب، وعن أبي السعود أفندي الكواكبي المفتي «3» . وأخذ الفقه الشافعي عن والده السيد محمد، قرأ عليه شرح المنهج، وربع العبادات من تحفة ابن حجر المكي «4» ، وشرح التحرير، وعلم الفرائض. وأخذ النحو عن علامة الزمان الشيخ سليمان النحوي، وعن الشيخ إبراهيم النجشي «5» ، وعن السيد عبد السلام الحريري، وكذا المنطق وعلم الآداب. وممن زارنا وزرناه، وأضافنا في بيته العالم الكبير، الفاضل الشهير، ذو الأخلاق الرضية، والتحقيقات المرضية والسخاء الوافر، والصلاح (77 ب) الباهر، عمدة في تحقيق العلوم، وعدة علماء الرسوم، علي أفندي الطرابلسي مفتي الحنفية بحلب، فلقد أكرمني «6» غاية الإكرام وتأدب معي غاية التأدب. وهو شيخ معمر، لين العريكة، عليه أثر الصلاح ظاهر، واتفق يوم زارني هو وأخوه الشيخ عثمان، والشيخ يوسف، [أن] «7» أنشد المفتي بالمناسبة قول الشاعر: على حاله لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم

فرفع حاتما، فما تجرأت أن أراد عليه، فأعدت البيت، وجررت حاتما، فرد أخوه الشيخ عثمان عليّ وقال: هو بالرفع فاعل لضن، فقلت: إنه مجرور بدل من الضمير في جوده، كما استشهد به النحاة على ذلك، ولولا أن القافية مجرورة لصح الرفع، إلا أن فيه حيث «1» إقامة الظاهر مقام المضمر والأمر فيه سهل، فراجعوا شواهد العين فرأوا الأمر كما ذكرت والحمد لله. وكان في المجلس ممّن زارني ذلك اليوم السيد محمد الطرابلسي، والشيخ طه الجبريني، والشيخ عبد الكريم الشراباتي، ومحمد أفندي الملقب بشكر أفندي. وممن أضافني في بيته الشيخ السيد الصالح «2» ذو الحسب (78 أ) الباهر، والنسب الزاهر، سيدنا الشيخ أبو المواهب مفتي الحنفية «3» بحلب المحمية، فلقد زاد في إكرامي، جزاه الله عني خيرا. وممّن زارني مرّات عديدة الشيخ الفاضل، والناسك الكامل، الفقيه الفرضي سيدي الشيخ عبد القادر الديري «4» ، وأضافني في بيته، ومعنا (في الضيافة) «5» السيد حسين الديري، والشيخ طه الجبريني، والسيد عبد الكافي، والشيخ المعمر الشيخ محمد الزمار، فأكرمني- حفظه الله- وقد تواتر في حلب أن الشيخ عبد القادر المذكور افقه فقهاء (حلب) «6» الشافعية، وأفرضهم.

وممّن خدمنا كثيرا، وأضافنا السيد العالم العامل، والحبر الفاضل، حافظ كتاب الله المجيد البالغ في الصلاح ما لا عليه مزيد، خليلنا المصافي، السيد عبد الكافي إمام الشافعية في المحراب الأصفر، له- حفظه الله- لين عريكة «1» ، وصغر نفس، وسخاء وافر، وفّقه الله لمرضاته، وأدرّ عليه سحائب خيراته، آمين. وممن زارنا الشيخ المعمر، والعالم الذي أزرى بالبحور وبهر، ذي العلوم الفائقة، والتقريرات الرائقة، الغيث المدرار، والبحر الزخار، سيدنا الشيخ (78 ب) محمد الزمار «2» قيل إنه درس ستين عاما إلى هذا التاريخ، وهو رجل لا يتردد إلى أحد، ولا يلبس كسوة العلماء، فالذي يراه يظنه من العوام، له علم وافر، وصلاح ظاهر، طلب مني الإجازة فأجزته بجميع مروياتي، واستجزت منه لي ولأولادي المتقدمين، فأجازني وأجازهم، أمد الله في عمره، وقواه وأصلح فاسد أمره آمين. أخذ الحديث والفقه والمعاني والبيان وجميع الفنون عن الشيخ أحمد الشراباتي، والشيخ مصطفى الحفسرجي الأزهري، وإجازة عن الملا إلياس «3» ، وعن الشيخ عبد الله البصري، وعن الشيخ محمد البديري الشهير بابن الميت «4» ، وقرأ المطول على الشيخ سليمان النحوي. وأخذ علم العربية عن الشيخ عبد الرحمن العارف «5» الرحاوي «6» . وممن زارنا العالم الذكي، والفاضل الألمعي ذو الحافظة المستقيمة، والطباع الخالصة السليمة، العالم الذي لا طريق إلى

التفضل عليه ولا مساغ، سيدنا الشيخ علي الدباغ» الموقّت في الجامع الكبير، له فنون غير قليلة، واطّلاعات جزيلة، ما رأيت أقوى «2» حافظة منه ولا سعة اطّلاع. طلب حفظه (79 أ) الله مني الإجازة فأجزته، واستجزت منه لي ولأولادي المتقدمين، فأجازني وأجازهم، وله- حفظه الله- تآليف تنوف على خمسين «3» مؤلفا، أطال الله بقاءه، وأسبغ عليه آلاءه آمين. وممّن أضافنا في بيته الشيخ العالم الصوفي، والحبر البحر الوفي، سيدنا الشيخ محمد بن العالم الصالح الصوفي الشيخ صالح المواهبي «4» ، له- حفظه الله- في العلوم باع طويل، وفي التصوف ذهن غير كليل، هو الآن شيخ الحلوية «5» يصنع فيها ذكرا بعد صلاة الجمعة، وله وعظ في الجامع الكبير، يأتي بالمواعظ التي تخلب القلوب، وتكشف أستار الغيوب، بألفاظ فصيحة وتقريرات رجيحة. وله تدريس في الحديث في الجامع الكبير، يدرس في الجامع الصغير «6» بتأنّ وتؤدة وإمهال من غير هذرمة ولا دمدمة ولا استعجال، نفعنا الله بصالح دعواته، وأفاض علينا وافر بركاته آمين. وقرأ علي الشيخ محمد العقاد شرح الوضعية، وشرح رسالة آداب البحث، وأضافني في بيته ومعنا الشيخ طه الجبريني، والسيد يونس الأدهمي، وأتانا بقصاص قص لنا من بعض سيرة الظاهر بيبرس، فما رأيت (79 ب) أحفظ من هذا القصاص، [فإنه] «7» أدرج في أثناء

القصة مقامة من مقامات الحريري، وأبيات ابن هاني المغربي الأندلسي «1» التي أولها «2» : فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر حتى أتى إلى آخرها. وأنشد معلقة زهير بن أبي سلمى مع صحة الألفاظ والإعراب، وهذا من أغرب ما سمعت، والشيخ محمد العقاد فاضل ماهر لولا صغر سنه لتعين في حلب، له في الفقه والعربية والأصول والقراءات باع طويل. وممن زارنا السيد محمد (السرميني) «3» المعروف بالخاص، ومدحني بقصيدة، وإن كانت غير جزلة ولا فصيحة لكني أثبتها تبركا بأنفاسه وهي «4» : يا ابن ودّي مر بي فديتك مني ... لاح بدر قد فاق بدر السماء «5» مذ رأينا نور المهابة قلنا ... ذا ضباه أنار بالشهباء طيب النفس جهبذ ذو كاء ... وسناه يزهو كشمس ضحاء سيّد ساد بالأصالة فرعا ... ورقى سؤددا على الفضلاء وسما رفعة لأوج وقار ... وغدا عمدة لدى العلماء (80 أ) جاءنا زائرا بنية سعد ... قاصدا بالتقى لخير الأنبياء «6» لولا هذا لما حظينا بفضل ... مذ هدينا بوجهه اللألاء وجنينا ثماره وسمعنا ... نظمه الرايق الشهي بوفاء

لم يزل يرتقي مكانة عز ... ذروة المجد حالة السراء زاده الله في الأنام وقارا ... وارتقاء فوق العلا والسماء ردّه الله للبلاد سليما ... مغمرا بالعطاء من ذي سخاء ووقاه الإله كيد حسود ... سالما في الدنا من البلواء وتهنّا عبد الإله ببكر ... حلة المجد صغتها من ثناء واعذر الآن محمد الخاص إني ... ما مرامي سوى قبول دعائي وهذا السيد محمد الخاص في عقله خلل كأنه مجذوب ومسلوب، نفعنا الله به وبأسلافه. ومما أنشدنا السيد محمد قزيزان بعد درس البيضاوي في بيت الطرابلسي (80 ب) (قصيدة) «1» : وكم حزن أهدى سرورا لربه ... كما الدوح يعلو شامخا أن يعلم «2» أرى زهرة الدنيا وريحان غيها ... إذا ذبلا في دمنة الحي ترتمي ومن يك فرعا للمكارم مثمرا ... رفيعا بأحجار الملامة يرجم «3» ومن يك في ماء الشباب معوجا ... فليس له غير اللظى من مقوم ومن ينظر الدنيا بأجفان عبرة ... على ما مضى أن فات لم يتندم فليس به شيء يسر ويرتجى ... وتحمد عقباه فسل عنه تعلم سوى أنّها مثوى لأشرف مرسل ... على فترة من بعد عيسي بن مريم فمذ قبّلت أقدامه الأرض أصبحت ... لنا معبدا رحبا وطهر تيمم نبي أتى الذكر الحكيم بمدحه ... بمعجز آي رائق النظم محكم حكيم مزاج الدين صحّ بطبّه ... وكم من مريض الذنب للخوف يحتمي

(81 أ) فإن نبضت أعراق شرك بنبضه ... يعالجها ممّا يريق من الدم حليم فلا يسطو على الحلم غيظه ... وليس حليم الخيم كالمتحلّم نبي أتى الأنصار في أرض طيبة ... فحل محل البرء في رأس مسلم وأضحت بيمنى رجله حرما فلا ... بها مرض يخشى ولا أمّ ملدم يقول أنا الأمي في اللوح ناظر «1» ... وفي مكتب الأرواح ربي معلمي ودر ثمين لم يهذبه كافل ... وآدابه ليست إلى الناس تنتمي إذا لاح في موضونة السر خلته ... خضمّا تردى بالغدير المسنّم أيا ابن الذبيحين الذي ذبح العدى ... لتطبخ في نار الجحيم المحطّم فديتك يا روحي فداء مؤكدا ... بنفس وعين لا بعين ودرهم (81 ب) عليك صلاة الله في كل فينة ... وصحبك ثم الآل مورد من ظمي ومما أنشدنا في حجرة الشيخ طه «2» فائية ابن هاني الأندلسي (رحمه الله رحمة واسعة) «3» التي مطلعها: أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا ... وقدّت لنا الظلماء من جلدها الحفا «4» وبات لنا ساق يصول «5» على الدجى ... بشمعة نجم لا تقط ولا تطفى (حتى أتى إلى آخرها) «6»

ومما أنشدنا في بيت السيد حسين (الديري) «1» قول ابن الخيّاط «2» : هو الرّسم لو أغنى الوقوف على الرّسم ... هو الحزم لولا طول عهدك بالحزم تجاهلت عرفاني به غير جاهل ... وللشّوق آيات تدلّ على علمي عشيّة جنّ القلب فيها جنونه ... ونازعني شوقي منازعة الخصم وقفت أداري الوجد خوف مدامع ... تبيح من السر الممنّع ما أحمي (104 أ) أغالط بالشك اليقين صبابة ... وأدفع في صدر الحقيقة بالوهم فلما أبى إلا البكاء لي الأسى ... بكيت فما أبقيت للرسم من رسم وما مستفيض من غروب تنازعت ... عراها السّواني فهي سجم على سجم بأغزر من عيني حين تمثّلت ... على الظّن أعلام وبانت على الرّجم كأني بإجراع الثنيّة مسلم ... إلى ثائر لا يعرف الصفح عن جرم لقد وجدت وجدي الدّيار بأهلها ... ولو لم تجد وجدي لما سقمت سقمي عليهن وسم للفراق وإنها ... على به ما ليس للنار من وسم وكم قسّم البين الصبا بين منزل ... وبيني ولكنّ الهوى جائر القسم منازل أدراس شجاني نحو لها ... فهلا شجاها ناحل القلب والجسم سقاها الحيا قبلي فلما سقيتها ... بدمعي رأت فضل الوليّ على الوسم ولو أنني أنصفتها ما عذلتها ... عن الكرم الفيّاض والنائل الجمّ وممن التمس مني إجازة الحديث الشيخ الصالح الناسك الشيخ مصطفى الغريب المقدسي، فكتبت في الإجازة: الحمد لله الذي أوصل بصحيح النية من انقطع إليه، وقوى

الضعيف الذي أطاعه بالحسن من الأعمال لما توكل (82 أ) عليه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المرسل من أشرف قبيل، وعلى آله وأصحابه أكرم جيل. وبعد، فيقول العبد الفقير إلى الله الغني، خادم الحديث، أبو البركات عبد الله السويدي: قد التمس مني الشيخ الصالح الناسك سيدي الشيخ مصطفى الغريب المقدسي نزيل حلب أن أجيزه بمروياتي فأجزته- بعد الاستخارة- بجميع ما يجوز لي، وعني، روايته من منطوق ومفهوم ومنثور ومنظور، ولا سيما كتب التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام والنحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق والحكمة والهيئة والتصوف وجميع الأحزاب والأوراد وسلسلة الطريق وغير ذلك، بحسب روايتي لذلك من مشايخي. وأجزته بجميع مؤلفاتي من منثور ومنظوم، بشرط أن لا ينساني، ومشايخي وأصولي وفروعي ومحبّىّ من دعائه، وكتبه الفقير خادم الحديث أبو البركات عبد الله السويدي المدرس بآستانة «1» الشيخ عبد القادر الجيلي، قدّس سرّه العزيز. ومما وقع السؤال عنه عبارة القاضي البيضاوي «2» على قوله تعالى فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ «3» حيث قال: (83 أ) : والتغليب للإيجاز والتعليل والمبالغة «4» . فكثر الكلام فيها، وطال النزاع، وجيىء بالحواشي المتعلقة بالبيضاوي، لم يشف أحدهم الغليل، لكن رأيت في بعض المجاميع عبارة منسوبة إلى زين العابدين، والظاهر أنه البكري الصديقي هي أحسن مما رأيت من الأجوبة وهي: أقول: لا منج «5» إما أن يكون الدعاء بالسحق واقعا في الدنيا، وفي قول الأفواج في

الآخرة، أو يقدر وقوع أحدهم في وقت وقوع الآخر على ما يشعر به قوله فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وعلى الأول «1» ، أما جعل التغليب مجازا فيما يشبه التغليب من تغيير النظم، كما يجعل لفظ التضمين في واضع من كلام المصنف مجازا فيما يشبهه، وإنما جعله تغليبا للكفرة على فسّاق الموحدين على سبيل التهديد كما صرّح به المفسرون في الدعاء في الغضب واللعن الواقع على سبيل الإيقاع كما توهّم، فيكون من تغليب الأكثر من الجنس في وصف اتصف به على الأقل منه «2» الخالي من ذلك الوصف كما اتفق عليه علماء البلاغة، فعدم إطلاق أصحاب على الفساق لا ينافي ذلك كما لا ينافي كون باب التغليب من المجاز كما لا يخفى على المتدرب، أو المراد تغليب الواقع على وجه على الواقع على وجه (83 ب) آخر، فإن باب التغليب باب واسع على ما قرر في محله، فيفيد الإيجاز من حيث أن ظاهر السوق أن يقال فسحقا لهم ولسائر من يدخل السعير، ويفيد التعليل من حيث استحقاقهم للدعاء عليهم إنما حصل بسبب جعلهم أنفسهم الفسق، وأوجه في استحقاق مشاركة الاسم والرسم مع الكفرة بذلك إلى الأبد إنما نشأ من شؤم كفرهم، وحقيقته كلمة العذاب وصحبة السعير عليهم على قاعدة ترتب الحكم على المشتق، وأيضا يفيد المبالغة من حيث إنه فيه دعاء عليهم بالسحق، وإطلاقا لوصف صحبة النار وملازمتها عليهم على الوجه الأعم المتجاوز عنهم، مع جعل الفساق الملحقين بهم بحسب الضم «3» متساوين معهم في ذلك تهديدا، وعلى الثاني (وهو تقديرا وقوع أحدهما في وقت وقوع الآخر، فيكون تغليبا لأصحاب السعير بالفعل على الملقين في جهنم المغايرين لهم على ما يستفاد من قولهم ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ » أي واقفين) «5» فيهم بعداد جملتهم دون أن

يقولوا: ما كنا أصحاب «1» السعير. وإن كان أمر الكل راجعا إلى صحبة السعير، وتوضيحه أن القائل في قوله: قالوا، وقوله: ما كنا، (84 أ) إن كان مجموع الأفواج فالمراد تغليب الشياطين الذين صحبوا السعير بالفعل قبل على ما دل عليه قوله تعالى وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ «2» كما صرح به المولى أبو السعود «3» لما فيه من الإشعار بتقدم وقوع صحبتهم عليهم ولا ينافي إطلاق أصحاب السعير على غيرهم، ولا التصريح بكون السعير معتدة لهم أيضا في آيات أخر كما توهم، وإن كان كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر من النظم الجليل، فالمراد تغليب من عداهم من الشياطين فقط أو مع الكفرة الذين وصلوا إلى صحبة السعير بالفعل قبل الفوج القائل وهو على التقديرين من تغليب ما وجد على ما لم يوجد، كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «4» مع كون المنزل بالفعل حينئذ بعض القرآن لا كله المراد في المقام واستعمال الأصحاب في المركب من الذين صحبوا بالفعل والذين لم يصحبوا استعمال في غير ما وضع له كما هو قانون التغليب، وفيه إيجاز باعتبار أن ظاهر السّوق: فسحقا لهم ولأصحاب السعير، وفيه تعليل لاستحقاق السحق يكون الكل أصحاب السعير، وأيضا فيه مبالغة باعتبار اشتراك الفريقين في الحكم الواقع بالفعل على السوية، (84 ب) والإيماء إلى أنه لا فرق بين صحبتهم لهم وصحبة الأصحاب بالفعل إلا بمقدار من التقدم والتأخّر يقع مثله بين المشاركين في الاسم الواحد والوصف المعين، وأما ما قاله المولى الخلخالي «5» من أن التغليب إما هو بالفعل الماضي المقدر للفوج

الذين سحقوا بالإلقاء في جهنم على الذين يسحقون بذلك، وإنه من تغليب الموجود على المترقب، وإطلاق اسم الجزء على الكل، فمع «1» بنائه على إخراج الجملة عن الدعاء سخيف من وجوه منها أن الحذف ينافي التغليب، ومنها أن السحق هو الإبعاد عن الرحمة، وهو لا يتوقف على الإلقاء في جهنّم، فلا فرق في ذلك بين الأفواج، ومنها أنه على تسليم كونه ماضيا صرفا مربوطا بالإلقاء في جهنم يكون من قبيل فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ «2» والأفواج كلها في عدم وقوع ذلك قبل يوم القيامة، وكذا في القول بأن متحقق الوقوع كالواقع على السوية، ومنها على أن لا يحصل للتعليل على ما له وجه ظاهر إلى غير ذلك، هكذا ينبغي أن يقرأ هذا المحل، انتهت عبارة زين العابدين. وقال اللاقاني «3» : بيانه أي قوله البيضاوي أن أصحاب السعير هم (85 أ) الشياطين «4» بدليل قوله وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ «5» وأن أصحاب جهنم هم الذين كفروا بربهم بدليل قوله تعالى وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «6» وسمى أحد الفريقين «7» أصحاب جهنم بخلودهم فيها، وصاحب لغة الملازم المستمر، وقوله تعالى بعد ذكر الفريقين وتسميتهما بما ذكر فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أراد به الفريقين معا فأطلق عليهما معا ما حقه أن يطلق حقيقة على الشياطين خاصة إطلاقا على سبيل تغليب الشياطين على الذين كفروا دون العكس، لأن الشياطين هم بالأصل في الهوى والضلال، والذين كفروا تبع لهم 3

في ذلك. وفوائد هذا التغليب ثلاث: الأولى الإيجاز إذ أصحاب السعير فيه إيجاز بالنسبة إلى الشياطين والذين كفروا، والثانية المبالغة في وصف الذين كفروا للإفراط في الكفر والضلال حتى كأنهم صاروا نفس الشياطين الذين هم أصحاب السعير حقيقة. الثالثة التعليل وذلك لأن قوله تعالى سحقا، معناه فبعدا لهم عن رحمته، أي عن جنته التي هي دار لرحمته، أي ثوابه وإنعامه، وقد علق بقوله تعالى لأصحاب السعير، والحكم إذا علق بوصف أشعر بعلية الوصف المعلق عليه للحكم المعلق كما هو (85 ب) مقرر في محله كقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا «1» وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا «2» وللخفاء في أن كونهم أصحاب السعير الملازمين لها الخالدين علة لبعدهم عن الجنة التي هي دار رحمته، انتهى. قلت: وفي العبارتين محل «3» تأمل. ومما وقع السؤال عنه، قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ «4» سألت الشيخ الجبريني «5» : لم أكّد الموت باللام مع كونه أمرا معلوما لا ينكره أحد، ولم يؤكد البعث بها مع كون المنكرين له كثيرين؟ فلم يستطع الجواب وجوابه- والله أعلم- أن المخاطبين لما كانوا منهمكين في الدنيا مقبلين على شهواتها ولذاتها مغترين بزهرتها ونضارتها، غير مكترنين بالأمور الأخروية، بل إنهم معرضون عنها بالكلية نزلوا منزلة من اشتد إنكاره للموت فألقى إليهم الخبر مؤكدا باللام، وأما البعث فإنه لمّا قامت عليه الدلائل الساطعة والبراهين القاطعة فكأنه محسوس مشاهد، نزلوا منزلة من لم يشتد إنكاره

فألقى إليهم الخبر مجردا عن اللام، وهذا أحسن من جواب الإمام الرازي «1» حيث قال: إن الواو العاطفة تشرك ما بعدها في الحكم (86 أ) لما قبلها فكأن المعطوف مؤكّد باللام وهذا معنى كلامه، وللنظر فيه مجال. وممن زارنا السيد الحسيب النسيب السيد محمد النائب في المحكمة الصلاحية ابن العالم الفاضل سيدنا السيد حسن أفندي التفتنازي، نسبة إلى تفتناز قرية من قرى حلب. ذكر لي ولده السيد محمد أن والده كان من الفضلاء المحققين، وأن له من المؤلفات نظم السراجية وشرحه، وله ثلاثة مؤلفات في الفقه الحنفي، وله رسالة في علم المعاني والبيان ورسالة في شرح حديثين، أحدهما حديث (إن الله يبعث على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها) «2» وثانيهما حديث (استعينوا بضعفائكم) «3» . توفي في مكة المكرمة سنة «4» 1139. وممن زارنا الشيخ الفقيه الصالح الحافظ لكلام الله الشيخ عبد الرحمن الحنبلي الدمشقي «5» نزيل حلب، له محاضرة حسنة ونظم ليس بالعالي، وله مؤلفات في الفقه الحنبلي وفي الفرائض وفي النحو. طلب مني قراءة صحيح البخاري والإجازة فلم يتيسر ذلك، وعسى أن يكون خيرا.

واجتمعت مع الشيخ المجذوب المسلوب الشيخ علي شاتيله، وقبلت يده. يزعم أهل حلب أن له كرامات (86 ب) ظاهرة، نفعنا الله تعالى به. واجتمعت أيضا بالأمير محمد الداراني «1» ، وهو أيضا من المجاذيب إلّا أنه يصلي ويصوم ويقرأ العلم. قرأ عليّ وأنا في الموصل شرح تعليم المتعلم «2» عام سبع وعشرين ومائة وألف «3» ، وكان إذ ذاك يلقب بالأخ العزيز لكثرة ما تجري هذه الكلمة على لسانه يقولها لكل من خاطبه، وكان إذ ذاك فيه نوع جذب، وأهل الموصل يعتقدونه، واليوم له في حلب نحو الستة عشر عاما، وأهلها يحسنون الظن به، نفعنا الله تعالى به، آمين. وممن دعانا للضيافة في بيته سيدنا العالم الفاضل السيد عبد الرحيم بن السيد أبي بكر الفنصاوي «4» [و] هو ووالده من ذوي الرتب في حلب. وممن دعانا إلى الضيافة في داره حسين آغا بن الحاج محمد المعروف بالجتجي البغدادي «5» أضافنا ضيافة حسنة في الغاية [والنهاية] «6» .

وفي خامس رجب الأصب «1» جاءني، وأنا في حلب، كتاب من ولدي الشيخ أبو الخير عبد الرحمن- حفظه الله من مكائد الشيطان وطوارق الحدثان- وصورته: العبد المملوك الذي أسره غرامه، وتيّمه هيامه، ذو الشوق (87 أ) المتكاثر، المفصح عنه قول الشاعر: والشوق أعظم أن يحيط بوصفه ... نظم أو يطوى عليه كتاب يقبل الأرض التي تشرفت بقدومك إليها، وتزخرفت بوطئك عليها، ويهدي سلاما أبهى من النيرين، بل أسمى من الفرقدين، سلام لو تمثل كان درا وياقوتا يقلّب باليدين، سلام صادر من محله إلى أهله، بالغ بلوغ الهدى إلى محله، وتحيات صافيات، ودعوات ضافيات بأن يديم الله مولانا الذي شيد به ركن الدين، لما به رحمة للناس في هذا الحين، العالم العامل، والفاضل الفاصل بين الحق والباطل، أدام الله ظله، ولا أعدم مثله، ولا زال السعد له أليفا، والأمان لحياته وركابه حليفا، فأنا إليك أشوق، وبقول القائل أليق: يا من له بين الضلوع مرابع ... أناشيق أناشيق أناشيق نسأل الله تعالى أن يجمعنا بعد قضاء الأوطار، ويزيل (87 ب) عنا الكرب والأكدار، إنّه الفاعل المختار. سألتم عنا، فالحمد لله إنا نتقلب بالنعم بطنا وظهرا، ونسير في وديان الثروة نجدا وغورا، والأهل والأولاد والمحبون إليكم متشوقون، ولكم بالخير داعون. وممن زارنا الشيخ الصالح الناسك الشيخ أحمد بن العالم الفاضل الشيخ محمد الحافظ الحلبي. والتمس مني رواية حديث الرحمة المسلسل بالأولية، فرويته له، ثم التمس أن أكتب له سندي فيه، فكتبت ما صورته: الحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على سيد السادات، ذو النعوت السامية الجلية، والمجد المسلسل بالأولية، سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) «2» المرفوع ذكره، المرسل عن التقييد فخره، وعلى آله وأصحابه

وجنده وأحزابه «1» . وبعد، فلما كان الإسناد من الدين، ووصلة إلى سيد المرسلين، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط المحدث خبط عشواء، التمس الشيخ العالم الصالح الناسك الشيخ أحمد بن العالم المحدث الشيخ محمد الحافظ الحلبي أن أروي له حديث الرحمة المسلسل بالأولية، وأبيّن له رجاله (88 أ) ذوي المناقب العالية، فأقول: أروي حديث الرحمة بطرق مختلفة، وأسانيد متنوعة، مسلسلا وغير مسلسل، (أشهرها ما رويته مسلسلا) «2» عن شيخنا علامة الزمان، وفريد العصر والأوان، السيد الحسيب النسيب السيد أبو الطيب ابن أبي القاسم (محمد) «3» المحمدي المغربي المالكي حين إقامته ببغداد، في بيته الذي هو قرب مرقد الشيخ عبد الكريم الجيلي «4» في محلة العوينة «5» في الجانب الشرقي من بغداد، وهو أول حديث سمعته منه، قال (حدثني به الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالنخلي، وهو أول حديث سمعته منه قال) «6» : حدثنا في مكة المشرفة الشيخ يحيى الشاوي «7» لما

حج في سنة خمس وثمانين وألف «1» بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، وهو أول حديث سمعناه منه، قال: أخبرنا به الشيخ سعيد الجزائري الشهير بقدورة «2» ، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا به الشيخ المحقق سعيد بن محمد المقري، قال، هو أول حديث سمعته عن الولي الكامل أحمد حجي الوهراني، وهو أول حديث سمعته منه، عن شيخ الإسلام العارف بالله تعالى سيدي إبراهيم التازي، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: قرأت على المحدث الرباني أبي الفتح محمد بن أبي بكر بن الحسين المراغي، قال، وهو أول حديث قرأته عليه، قال: سمعت من لفظ شيخنا زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم البكري الميدومي، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا النجيب أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني «3» ، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي «4» ، قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن أبي صالح النيسابوري «5» ، قال، وهو أول حديث سمعه منه، قال:

أخبرنا والدي أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن «1» قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي «2» قال، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى البزاز «3» قال، وهو أول حديث سمعته منه، عن عمرو بن دينار «4» عن أبي قابوس «5» مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو «6» - رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) «7» . قال شيخنا أبو الطيب: إن السلسلة انقطعت من سفيان «8» ، وقال بعض مشايخنا ممن روينا عنهم حديث الرحمة: إن الرواية بالجزم في يرحمكم، روى هذا الحديث الترمذي، وقال: حسن صحيح، وجمع طرقه جماعة وهو أصح المسلسلات. وقد نظم هذا

الحديث جماعة من العلماء منهم الحافظ ابن عساكر «1» - رحمه الله تعالى- قال: بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنما ... ولا تكن عن قليل الخير منحرما واشكر لمولاك ما أولاك من نعم ... فالشكر يستوجب الأفضال والكرما وارحم بقلبك خلق الله وارعهم ... فإنما يرحم الرحمن من رحما وللحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى (رحمة واسعة) «2» إن من يرحم في الأرض قد ... جاءنا يرحمه من في السما (89 ب) فارحم الخلق جميعا إنما ... يرحم الرحمن منا الرّحما وللحافظ العراقي رحمه الله تعالى: إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما ... ولا الفقير إذا يشكو لك العدما فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... فإنما يرحم الرحمن من رحما وللشيخ رضوان بن حمد العقبي رحمه الله تعالى: الحب فيك مسلسل بالأول ... فارحم ولا تسمع كلام العذل وارحم عباد الله يا من قد علا ... من يرحم السفلي يرحمه العلي ولشيخ الإسلام القاضي زكريا رحمه الله تعالى: من يرحم أهل السّفل يرحمه العلي: فارحم جميع الخلق يرحمك الولي وللشهاب المنصوري رحمه الله تعالى:

أخلق بمن يظلم أن يظلما ... وبالذي يرحم أن يرحما من لم يكن يرحم بالقلب من ... في الأرض لم يرحمه من في السما وأرسلت من حلب، يوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، إلى الرها كتابا لسيدي العالم الفاضل حسن أفندي الرهاوي (90 أ) المنصوري المعروف بحليم زاده، وصورته: إن أمثل ما نسجته اليراعة، من حبر البراعة، وأفضل ما نظمته من درر البلاغة في سلك خير صناعة، تسليمات لاحت بروق الوداد من آفاق مبانيها، وبزغت شموس الاتحاد من أفلاك معانيها، سمت على النيرين قدرا، ونمت على السماكين، فخرا على العالم الذي كشف الغموض عن وجوه المشكلات، ورفع حجاب الخفاء عن محيّا المعضلات ولا بدع إذ هو المتفرد في دهره، والمتوحّد بين أبناء عصره، ولا غرو! فإن ليلة القدر من جملة الليال، وإن المسلك بعض دم الغزال. سيدنا الذي أخذ من كلّ فنّ أوفر نصيب، وجاز من كل علم على المعلى والرقيب، باهت به على جميع الأقطار الترها، ولولاه لما اتّبع علم بها وزها، سيدنا الأمثل النبيل، الحري بأن أنشد فيه: علامة الأزمان والدهور ... فهّامة الأديان والعصور فهو الذي يسمو إلى أوج العلى ... بفضله المنشور والمشهور مولاي ذو الفضل الذي لا يرتقي ... شمس المعالي حسن المنصوري (90 ب) لا زالت ألوية إفاداته منشورة على كواهل الطالبين، ولا برحت أظلة تحقيقاته وريفة، محيطة بالمستفيدين، آمين. أما بعد فيا أيها الحبر البحر الكامل، والجهبذ النحرير الفاضل، أن تموّج عباب خاطر كم الزاخر، بالسؤال عن أحوال هذا الداعي في الباطن والظاهر، فهو قد أناخ ركابه في أفنية حلب الشهباء، لا زالت محط رحال المحققين الفضلاء، عمرها الله بالمسرات، وغمرها بالنعم والمبرات، واجتمع هذا الفقير بفضلاء يشار إليهم بالبنان، ولم يدان فضلهم أحد من هذا الزمان، فجرت بيننا بعض المذاكرات، ودارت علينا كؤوس المحاورات، وأخذنا بأطراف الفنون، وهصرنا عذبات البحث والحديث شجون،

فكلهم ألقى عصي التسليم وسلم، واستوت سفينة إذعانه على شاطىء اليم، فلله درّهم من فضلاء قد جبلوا على الإنصاف، وزايلوا وعار الخبط والاعتساف، كثر الله أمثالهم ونصب على الحسنى أحوالهم آمين. هذا فإن الأشواق إلى ذلك الجناب جلّت أن تدخل تحت أعداد الحساب، ولم أزل أتذكر محاسن أخلاقكم الحميدة، (91 أ) وشمائلكم السامية السديدة، فنرجوا الدعاء في خلواتكم وجلواتكم، وعقب الدرس الذي هو أنفس أوقاتكم، لا زلتم معدن الإفادة، ولا برحتم في بحبوبة السعادة آمين، والمأمول من الجناب الرفيع تبليغ الدعاء الأتم، والثناء الأعم، إلى من طاب محتده ونجاره، وسما على الجوزاء فخاره، ولدنا العديم الأشباه بلا اشتباه، النجيب السيد عبد الله ابن المفخم والدستور المكرم أحمد باشا، والي الرها لا زال لاقيا من الكمالات ما يسمو على السهى. وأرسلت منها إلى بغداد كتابا لولدي القلبي حسين بك، وصورته: الحمد لله الذي أنعم على من أمّه وحجّ إليه، وأكرم من طاف حول حماه وسعى إليه، وأجزل ثواب من أحرم بإخلاص النية، وعظم من لبى دعوته بسلامة الطوية، ورمى شيطان خلافه بجمرات الأعمال، والصلاة والسلام على كعبة القصاد، ومرام الوفاد، ومنبع الرشاد، وينبوع السداد، وختام الرسالة، ورئيس الجلالة، وواسطة عقد البسالة، ومركز دائرة العدالة، محمد المبعوث من أشرف قبيل، إلى أكرم جيل، وعلى آله الذين (91 ب) طهروا من دنس الأرجاس، وأصحابه الذين هم نجوم هدى لجميع الناس. أما بعد، فتحيات انتظمت بالبلاغة عقودها، وربطت بالبراعة مناطقها وبنودها، تزف إلى من جد في المعارف منذ فطامه، واجتهد في العوارف قبل إبّان احتلامه، ذي النسب الذي دونه مناط العيوق «1» ، والحسب الذي هو أعز من بيض الأنوق «2» ، والمجد الذي قصر عنه رضوى وثهلان «3» ، وتقاعد دونه الخورنق وغمدان «4» ، فرع شجرة

المجد الأثيل، وغصن دوحة الكرم العريض الطويل، قرة العين، وزين كل زين، أبي المحاسن حسين، لا زالت مراتبه رفيعة العماد، ومآثره شامخة الأعلام والأطواد آمين، فيا من حل من العين سواد سوادها، ونفى عنها الكرى بإقامة سهادها، من أين لي صبر وهو قد فر ساعة الوداع؟ كنت أظن أن تفي معي الدموع، والآن لم يبق سوى نفس يتردد، لا نوم ولا رقاد، ولا شراب ولا زاد، ومما. أنشدت بعض النظام: يا جيرة بالنوى صبري لقد سلبوا ... فليتهم وهبوا بعض الذي نهبوا (92 أ) أستودع الله في بغداد لي سكنا ... لم أقض بعض الذي من حقه يجب أبا المحاسن مولاي الحسين له ... فوق السماكين مجد زانه حسب ودعته ودموع العين جارية ... وفي الحشاشة من توديعه لهب واستوثق القلب في بغداد مرتهنا ... والجسم مني قد أودت به حلب فليت شعري وما الآمال نافعة ... متى تزول عن العاني بهم كرب وهل تعود ليال بالحمى سلفت ... كيما تعود لنا الأفراح والطرب وهل أراني بذاك الحي ذا جذل ... حينا وأني لنشر العلم منتصب أقري حسينا فنونا جل موقعها ... سعادة الدين منها صاح تكتسب وهل ترى مقلتي أهلا أسر بهم ... لا سيما الولد إذ في بعدهم عطب ففي فؤادي لهيب من فراقهم ... والعين مدمعها كالغيث منسكب (91 ب) وهل تقربهم عيناي منشرحا ... وتنجلي عني الأسواء والنوب وهل أراني والتدريس شنشنتي ... أفيد علما لمن في العلم قد رغبوا وهل بدجلة يروي القلب من ظمأ ... فتنتفي علة الصادي وتستلب

وهل على الجسر تسعى ساعة قدمي ... وماء دجلة من تحتي له سرب وهل أسرح طرفي في النخيل ضحى ... وإن فاكهتي من حملها الرطب فالله أسأله قرب الديار فما ... من غيره تطلب الآمال والأرب ثم فصلت له جميع الحوادث والوقائع، وتركت كتابتها لأنها ليست بلازمة في الواقع. وأرسلت إليه أيضا كتابا صورته: ما أنة مهجور تعوّد الوصال، وما حسرة مأسور، ضاقت عليه الأغلال، وما حزن مقلاة «1» فقد وحيدها، وما ضيعة أطفال عدم كافلها ورشيدها بأعظم من أشواق زفرة في الجوانح، وتسعرت في أحشاء (92 أ) الصب الغريب النازح، لم تزل في الأفئدة شاعلة، وللأفكار والأذهان شاغلة، لم تطفها الدموع الهواطل، ولو مدت بكل هتان وابل، يحن حنين من فارق أليفه، وزايل مربعه ومشتاه ومصيفه، قد أنحل جسمه البعاد، حتى خفي على الزوار والعواد، لا يستطيع أن يبث ما لقي من النحول، ولا حول ولا قوة له على الوصول. كيف الوصول إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف لم يزل ديدنه الحنين إلى الديار، وهجيراه ادكار ما سلف فيها من الأوطار: ولنا بهاتيك الديار مواسم ... كانت تقام لطيبها الأسواق فأباننا عنها الزمان بسرعة ... وغدت تعللنا بها الأشواق يتشوق إلى العراق تشوق الصادي إلى الزلال، ويرتاح لذكره ارتياح من أنعم بالوصال، كلما هب النسيم تنفس الصعداء، وكلما أومض برق ناح (92 ب) كما الخنساء شوقا إلى ذي الجناب الذي سمت مكانته، وشيدت بالمفاخر رصانته، ألا وهو الذي شب على الأخلاق الرفيعة، وتربى بحصون الكمالات المنيعة، ولدي الذي سما فخره على النيرين، وناف سموه على الفرقدين، الأنجب الأسعد الأمد أبي المحاسن حسين لا زال في سعادة أبدية، وسيادة دائمة سرمدية. أيها الولد! إني- والحمد لله- بنعمة وافية، وصحة وعافية، غير عافية. الله نسأل أن يمنّ باللقاء، ويدفع عنا بلطفه خطوب اللأواء آمين.

وممن زارنا الشيخ العالم المتضلع من سائر العلوم، البليغ في سبك المنثور وسكب المنظوم، سيدي الشيخ قاسم البكره جي «1» ، له بديعية بديعة شرحها بشرح نحو خمس عشرة كراسة، وذكر في آخر كل شرح سبع بديعيات، الأولى بديعية الصفي الحلي «2» ، والثانية للعز الموصلي، والثالثة لابن حجة الحموي، والرابعة لعائشة الباعونية «3» ، والخامسة لأبي الوفا العرضي الحلبي «4» ، والسادسة والسابعة للشيخ عبد الغني النابلسي فإن له بديعيتين، بديعية ذكر فيها ألقاب البديع لكنه «5» لم يشرحها. وللشيخ قاسم شرح الخزرجية «6» في العروض لكنه شرح مختصر، وله نظم العلل وألقاب العروض (94 أ) وشرحها، وله نظم كثير من تغزّل ومديح وألغاز وأحاجي. ثم إنه- رحمه الله تعالى- التمس مني أن أقرّض على شرح بديعيته، فأجببته إلى ذلك، وصورة ما كتبته: نحمدك اللهم على ما أطلعتنا من بديع هذه الفرائد التي عزّ لها مراعاة النظير، وأوقفتنا على افتنان تفريع هذه الفوائد التي حسن فيها نوادر تدبيج للتصريف «7» والتصدير، ونصلي ونسلم على من اتسم بالاشتقاق من مصدر أشرف العرب، ووسم بأنه المبعوث إلى كافة الخلق بالقول الموجب، وطلع من حسن مطلع فكانت البراعة فيه حين الاستهلال، وسبق الفصحاء في المذهب الكلامي وإن جدوا في الاستطراد والإيغال، سيدنا محمد الذي نزاهته أحرى

بإرسال المثل، وذاته أجدر بالتأديب والتهذيب في القول والعمل، وعلى آله وأصحابه الذين قوّى للتشريع بهم الاحتباك «1» ، وانتظموا في سلك حسن الاتباع بلا استثناء ولا استدراك. أما بعد، فإني وقفت على هذه البديعية وشرحها وقوف ذي انتقاد، ثم التفتّ إليها التفات مستدر نقّاد، وكررت إليها المراجعة وثنّيت عنان التوجيه بلا موادعة، وطابقتها مع أمثالها مطابقة (94 ب) القذة بالقذّة «2» على الترتيب، وقايستها مع نظائرها، مقايسة تحديد لا تقريب، فألفيتها في حسن الانسجام جلّت عن المقابلة، وفي سلامة الاختراع عظمت عن المزاوجة والمشاكلة، قد جانس مبناها المعنى فكان الجناس التام، وأعجزت من بعدها فكانت لعقد رسائل البلاغة ختام. ولعمري- ولا مبالغة في ذلك ولا غلو ولا إغراق- أنها في تلخيص البيان وإيضاح المعاني من بنات الحقاق «3» ، أقامت مبانيها دلائل الإعجاز، وفضّت معانيها بأسرار البلاغة من غير مجاز، فإذا كان الواجب على ما تقرر، أن أنشد فيها من الارتجال ما حضر «4» : عقود من لجين أم نضار ... ودر ما رأينا أم دراري نعم! ذي درة الغواص باهت ... على كيوان تسمو بالفخار قضت أن لا يدانيها نظام ... وأن لا يزدهيها «5» من مبار أرتني من بديع النظم وشيا ... فأنّى للبديع بأن يجارى شذاها يخلب الألباب طيبا ... فأزرى بالحميا والعقار (95 أ) لقد رقّت مبانيها وراقت ... معانيها وجلّت عن عوار تنادي من يناديها بنصح ... حذار اليوم من فتكي حذار

كيف وهي نسيج من هو نسج وحده، فريد عصره وفريد عقده، البليغ الذي سحب ذيله على سحبان بن وائل، وألحق بإبداع بديعته البديعة الأواخر بالأوائل، فصحّ قول الأديب الشاعر: كم ترك الأول للأواخر نعم! لو رآها جرير لجر ذيول الخجل، أو سمعها بليغ تغلب «1» لغلب وصمت أذناه ودعي بالأخطل، أو قرعت أذن الحلي «2» لحل بنود حلّته وحل في زوايا حلّته، وصرّح بأن الرفض مذهبه، وأن التقية منهله ومشربه، أو شهدها ابن حجة «3» لسجل على نفسه بالعجز عن الحجة، وقال: وهت ودحضت حججي بأبي المعالي القاسم البكرة جي، لا زال فمه ينثر الدرر، ولا برح قلمه يوشي الحبر، آمين. أيّها الناظر في هذا التقريض لا يذهب عليك أني جمعت فيه غالب أنواع البديع، فتأمل وتدبر!. ثم إنه- حفظه الله تعالى- أرسل لي ورقة صورتها: سيدي ومولاي، علم التحقيق والتدقيق، وإنسان عين أهل التحرير والتوفيق، من جمع كل العلوم والتقوى (95 ب) وله القول الراجح وعليه الفتوى، فارس المنثور والمنظوم، ومالك أزمة المنطوق والمعلوم: فلا تعجبوا من فضله وذكائه ... فكم في ضمير الغيب سر يحجب من إذا نظم فلا ينكر النظام «4» أنه الجوهر الفرد، وإذا نثر قضى له القاضي «5» أنه مالك

الحل والعقد، لا زالت أغصان روضة فضائله يانعة، وكواكب سماء كمالاته نيرة طالعة، إلى الله أبسط أكف الابتهال بأن يمن عليكم بانشراح البال، ولا يزال أهل الفضل والأدب تطفل على موائدك، وتلتقط درر المعاني من فرائدك، ولا برح لسان المجد ينطق ببراعتك ورياض الفضل تغدق ببراعتك وصلت الفقير الفريدة والعقود النضيدة فجنيت بأنامل الفكر جني ثمراتها، واجتليت بإنسان التأمل محاسن مخدراتها، فإذا هي روضة فارقة وريحانة عبقة، ويتيمة مجد، ومطالع بدور كمال، ومشارق شموس إقبال من نثر مفتّق الفكر «1» ، ونظم متسق الدرر، فلم أدر أقطع جمان أم وشي حبر أم قلائد غوان، أم حدائق زهر (96 أ) ، كلا! بل هو سحر حلال يؤثر، بروق يمان أم بيان تألقت «2» شوق صدور، أم سطور تألفت، فحنوت على فرائد جواهرها لكونها يتامى، وترشفت من كؤوس ألفاظها مداما، ومذ ملأت محاجر مسامعي درّا قلت: سبحان الله! إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا، فأقول: بدور أسفرت تلك القوافي ... بليل الوصل أم خل موافي أهاتيك الفواصل وصل حب ... أتانا زائرا والليل صافي أتت تختال من تيه وعجب ... أرتنا كيف تنتظم القوافي فحيّت ثم أحيتنا وقالت ... حذار حذار من قول منافي وكيف وقد أتت من عند ندب ... همام بالفضائل غير خافي أبي البركات عبد الله من جا ... لداء النظم بالإتقان شافي فريد العصر مولانا السويدي ... كريم الخيم ذي ود مصافي زكي ألمعي لو ذعي ... طويل الباع من غير اختلاف

(96 ب) إليك أبا الفضائل بنت فكر ... شتيت ذي عبارات ضعاف وعذرا أيها المولى وصفحا ... عن العبد المقصر ذي اعتساف لأني قد تركت النظم شغلا ... بما أبغيه من أمر العفاف إذا أنا كنت «1» في سري وجهري ... أقول الله حسبي وهو كافي وأرسل لي بعض أبيات من نظمه أحب أن أودعها في الرحلة، فمنها قوله متغزلا: قف بالمعاهد يا معنّى ... وانشد هناك فؤاد مضني قلب به حرق الأسى ... لمّا رأى كمدا وحزنا تلك المعاهد جادها ... صوب الدموع حيا ومزنا وغدوت أنشد عندها ... من كل مغنى رق معنى (97 أ) يا ظبية سفكت دمي ... بالبيض من سود فتنا ورمت حبال سوالف ... شركا تصيد القلب منا رفقا بمن سلب الهوى ... منه القوى وكساه وهنا أضناه حب شويدن ... ملأ الورى هيفا وحسنا لا زال أسمر قده ... العسال يعمل فيّ طعنا وعيونه النجل المراض ... بفعلها الماضي فتكنا أمعذّبي كم ذا الدلال ... بنار خديك احترقنا يا مالكا رقي أما ... يكفيك تعذيب المعنّى أضرمت نار الحب في ... كبدي إذا ما الليل جنا

وله مشطرا: هاك عهدي فلا أخونك عهدا ... يا حبيبا لديه أمسيت عبدا لا- وحق الهوى- سلوتك يوما ... وكفى بالهوى ذماما وعقدا (97 ب) إن قلبي يضيق إن يسع الصبر ... لأني فنيت عظما وجلدا وفؤادي لا يعتريه هوى الغير ... لأني ملأته فيك وجدا يا مهاة الصريم عينا وجيدا «1» ... وأخا الورد في الطراوة خدا وشقيق الخنساء في الناس قلبا ... وقضيب الأراك لينا وقدا كيفما كنت ليس لي عنك بد ... فأبحني ودا وإن شئت صدا قد ملكت الفؤاد منّي كلا ... فافعلن ما أردت هزلا وجدا يا ليالي الوصال كم لك عندي ... خلوات مع الغزال المفدّى كم جنينا ثمارك وهي عندي ... من يد كان شكرها لا يؤدّى (98 أ) فسقتك الدموع من وابل ... الغيث المديد البحار جزرا ومدا وبكتك دما عيوني من دمعي ... بديلا فهن أغزر وردا هل لماضيك عودة فلقد آن ... جمال الحبيب أن يتبدا كنت قدما أعرتك اللهو وقد حق ... لذاك المعار أن يستردا «2» وقال مضمنا: وشادن من بني الأتراك ذي هيف ... في ضيق مقلته النجلاء تخييل يختال تيها على عشاقه وغدا ... من عجبه كثرت فيه الأقاويل له محيا كبدر لاح في غسق ... وخط عارضه للحسن تكميل

فيروزج الخال في ياقوت وجنته ... كأنه أثر أبقاه تقبيل وله مخمسا: (98 ب) كوامن داء الحب حل بقلبنا ... وإن الذي نهواه ضن بطبنا فعدنا نداوي ما بنا مع أننا ... بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد تدانيت منها كي أفوز بشافع ... إلى وصلها من كل ضد ومانع فنادى منادي الحي في كل شارع ... ألا إن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ وله معمّى في كامل: قال من كان في المحبة مثلي ... مذ رآني في ذي المحاسن مغرم أيّ بدر تهواه؟ قلت مجيبا ... كلّ بدر قد حاز قدّا ومبسم وله معمى في اسم محمد: يا عاذلي دع الملام واتئد ... واتبع طريقتي ولازم معها فوجه محبوبي وجيده النقي ... قد أجريا من مقلتي مدمعها (99 أ) وله معمى في اسم صادق: وصاحب كان عديل مهجتي ... ومنحه الوداد كان دأبي صار بلا عاقبة فالجة «1» ... إذ رام قطع وده عن قلبي وله معنى في اسم طالب: وذي دلال «2» وعجب ... يجرّ أذيال فخر

قوامه غصن بان ... وقلبه قلب صخر وله معمى في اسم علي: أيا جيرة قد صيّروا القلب والها ... أما للفتى من هجركم سبب يدرى فرقّوا لحال المستهام ترحما ... فمن هجركم قد صار في تعب شهرا وله محاجيا باسم سلامة: أيا من غدا مغرم ... بكشف خفاء ذي الأحرف أفدني مثل ما قال ... المحاجي اطلبا أكفف وله محاجيا باسم مريم: يا فاضلا من ذكاه ... بين الملا حاز فخرا ما مثل قول المحاجي ... لذي الحجا جاز بحرا (99 ب) وبقي من الأبيات التي أرسلها شيء كثير تركته خوف الإطالة. ولما جاءت ورقته، وفي صدرها نثر، ونظم يتضمن الثناء عليّ شطرت النظم وأرجعت مدح الكل إليه، وذكرت نثرا يضاهي نثره وإن لم يفضل عليه: سيدي ومولاي العالم الذي بلغ في العلم أطوريه، ومارس المعضلات فانقادت إليه، جرّ على مجرى المجرة أذيال فضله، ونصب على هام السماكين فساطيط نبله، ذو التحقيقات التي هي أعز من بيض الأنوق، والتدقيقات التي دونها مناط العيوق، علامة العلماء، واللج الذي لا ينهى، ولكل لج ساحل، كيف وهو النحرير الذي إذا باحث أفحم، وإذا ناظر ألز، وإذا قرر أفهم، وإذا ألف أحكم، والبليغ الذي نثره يزري بالدر المنثور، وشعره يسمو على الشعرى العبور، أقرت له بذلك أقرانه، وأذعنت له أخدانه، وأترابه، وشهدت بتفرده أضداده، وحكمت بأنه العلم المفرد (100 أ) أنداده، والفضل ما شهدت به الأعداء، ولا بدع في مزيته على أبناء نوعه، ولا غرابة في إذعان كل بطوعه، فإن المسك بعض دم الغزال،

وليلة القدر من جملة الليال: لا غرو إن فاق الأنام بفضله ... ومن الحجارة أثمد في الأعين فالمطري «1» وإن أطنب وأطال وأسهب لم يبلغ عشر عشر العشر من ذاك، فالعجز عن إدراك الإدراك إدراك. من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع سيدي جاءت إليّ الخريدة، واليتيمة الفريدة، التي لم ينسج ناسج على منوالها ولم تستطع البلغاء أن تأتي بمثلها، جلّت عن أن تجارى، وكبرت عن أن تمارى، بعبارات هي السحر الحلال، حرية بأن تضرب لها نواقيس الأمثال، جمعت فتناثرت فرائده، وحوت نغما يود العقيان أن تحلى به قلائده، فكيف بالمعارضة ومبانيها، وأني بالمقابلة ومعانيها سدت ثغور المجاز، فاستوت سفينة (100 ب) هذا الغبي الباقل «2» في اليم، ورأى أن التسليم لسحبان البلاغة أسلم، وترك المعارضة أجدى وأحرى بعد أن كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، لما أن العاقل يستر بالسكون جهله، حين لم يكن للفضل محله وأهله، لكن الذي جرأه على ما هناك، وسلكه مضايق هاتيك المسالك، علمه بأن مولاه يغضي عن ترهاته، ويبدل بسيئاته حسنات، فاختار التعجيز والتشطير ليكون دخيلا في نظم الشيخ الكبير، مستجيرا به من وصمة الإنكار، مستغيثا به من صولة الأخطار، فرد مدح الأصل والفرع إلى أستاذ النثر والنظام، لأن مدح أمثالي بما هو فوق ما فيه حرام، فالمؤمل أن تبردوا لوعته، وتؤمنوا روعته، فالمنسوب- كما قيل- محسوب، والمستجير يجب عنه دفع الخطوب، فقال: بدور أسفرت تلك القوافي ... بأفق النظم أم زهر قوافي أم البرق اللموع له وميض ... بليل الوصل أم خلّ موافي أهاتيك الفواصل وصل حب ... تمادى بالقطيعة والتجافي

فأحيا ميت الأحياء لما ... أتانا زائرا والليل صافي (101 أ) أتت تختال في تيه وعجب ... فألفينا التلاف من التلافي وإذ في النظم تقفوها اللآلي ... أرتنا كيف ننظم للقوافي فحيتنا وأحيت ثم قالت ... أما نظمي حوى رشف السلاف فلا تحسوا عقارا غير هذا ... حذار حذار من قول منافي وكيف وقد أتت من عند ندب ... فأني تحتوي عيب الزحاف ففاقت حيث جاءت من إمام ... همام بالفضائل غير خافي سليل الأكرمين أبي المعالي ... أثيل المجد حقا غير عافي أخص البكرجي لقد أتانا ... لداء النظم والإتقان شافي فريد العصر للتقوى جناح ... به تقوى القدامى والخوافي غزير الفضل في علم وحلم ... كريم الجود ذو ود مصافي عريض «1» باتفاق ... طويل الباع من غير اختلاف إليك أبا الفضائل بنت فكر ... تعثر بالخجالة في المطاف وقد جاءت تلفع في نظام ... شتيت ذي عبارات ضعاف (101 ب) وعذرا أيها المولى وصفحا ... فاسبل ستر عفوك فهو ضافي فعفوا أيها المصقاع عفوا ... عن العبد المقصر باعتساف لأني قد تركت النظم شغلا ... بما قد دكّه عصف السوافي وإني قد ولعت وذاك حق ... بما أبغيه من أمر العفاف إذا ما كنت في سري وجهري ... مقرا صرت مأمون الخلاف

فإن تعذر فذا لطف وإلا ... أقول الله حسبي وهو كافي ومما وقع السؤال عنه عبارة سعدي أفندي «1» الواقعة على عبارة البيضاوي في قوله تعالى الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «2» حيث قال البيضاوي «3» : خلقه موفرا عليه ما يستعده ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة، وخلقه بدل (من كل بدل) «4» الاشتمال، وقيل علم كيف قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته وخلقه مفعول ثان، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف، فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل، وعلى الثاني بمتصل، انتهى. قال سعدي أفندي: قوله فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل، يعني العقل، وفيه (102 أ) بحث فإنه صرح في أوائل [سورة] البقرة أن الشيء في أمثاله بمعنى المفعول فلا يحتاج إلى التخصيص، فإن قيل: لو سلّم [ب] ذلك فالله هو موجد الصفات الجليلة في ذاته المقدسة، بل هو موجود ذاته أيضا على ما زعم أكثر المتكلمين فما وجه الاحتياج إلى التخصيص؟ وما المانع عن الإبقاء على عمومه؟ قلنا: لفظ الخلق، فإنه الإخراج من العدم إلى الوجود لا الإيجاد مطلقا، ولهذا كفّروا من قال بخلق القرآن، وكذا صيغة أحسن تدل على الاختيار على ما حققه الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة، انتهى. قال العبد الفقير: لما وقفت على هذه العبارة وقف شعري، واقشعر بشري، حيث سلم أن الله موجد لذاته ولا يقول هذا من له أدنى مسكة في الإسلام- عافانا الله من ذلك، وسلك بنا أحسن المسالك- فإنه لا فرق بين الخلق والإيجاد كا هو معلوم من كتب (اللغة) «5» المعتبرة. ثم

وقفت على عبارة الشيخ الكواكبي «1» فلقد أحسن- رحمه الله- كل الإحسان، ونصها: أقول الشيء في الأصل وإن كان مصدرا أو يكون بمعنى المشيء «2» لكن إطلاقه لغة على ما يصح أن يخبر عنه فيعم الواجب والممكن والممتنع، فالتخصيص بناء. ثم قال سعدي أفندي (102 ب) هنا ما نصه: ولو سلم ذلك إلى قوله موجد ذاته، أقول لا يخفى ما فيه من البشاعة والشناعة فالإيجاد إحداث الوجود كما أن الإعدام إحداث العدم، ولذا قالوا: إنه لا يتعلق بالوجود الممكن لما فيه من تحصيل حاصل فضلا عن أن يتعلق بالواجب القديم الذي لا ينفك الوجود عنه. والذي عليه المتكلمون أن وجوده سبحانه مقتضى ذاته من غير احتياج إلى الغير، وأن صفاته واجبة به تعالى، وهذا لا يقتضي صحة أن يقال في حقه- سبحانه وتعالى- أنه موجود ذاته أو صفاته، كيف والإيجاد إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. وأما الخلق فهو الإيجاد على قدر وتسوية كما ذكره القاضي «3» وغيره، فهو أخص من هذا الوجه لا من الوجه الذي ذكره المحشي ويشتركان في إحداث الوجود، فلو عبر في الآية الكريمة بالإيجاد بدل الخلق لاحتيج إلى التخصيص أيضا، فالإيجاد جعل الشيء موجودا «4» بعد أن لم يكن، أي لا يتعلق بالقديم «5» أيضا، انتهى. وهو كلام حسن بل هو الصواب والله أعلم.

وكتبت منها إلى الموصل، لقريبنا عثمان آغا ابن درباس الدوري ثم الموصلي «1» كتابا (103 أ) صورته: إن أبهى ما حاكته اليراعة من الوشي المحبر، وأشهى من مواصلة الحبيب بعد ما صد وهجر، تحيات صدرت من صدر عرى عن داء الملق، وسلم من عضال النفاق وبحسن الوفاق تخلق، واتخذ المودة ديدنه وشنشنته، وغرس المحبة في فؤاده فصارت خلقه وسجيته، تزف إلى من جر على مجرى المجرة ذيل مجده، وسما على كيوان فلك إقباله وسعده، تضوعت شمائله وأخلاقه، وزكت أصوله وأعراقه، وتخلص من الدنس محتده ونجاره، وعلا الجوزاء شرفه وفخاره، ذي الأخلاق التي يحاكيها المسك لولا فارته «2» ، والسمات التي يشبهها الورد لولا مرارته، والجهم «3» الذي لا تقرع صفاته، والندس «4» الذي لا تناط صفاته، عزت نظائر أمثاله، وضن الدهر بأن يأتي بمثاله، ولدنا الأكرم المطهر من وصمة الأدناس، السالم نسبه من قذر الأرجاس، عثمان آغا بن درباس، لا زالت ألوية سعده تخفق على كواهل الدوام، ولا برحت أعلام مجده منشورات على أعواد السمو بين الأنام. وبعد، فإن منّ مولانا بالسؤال عن حال ودوده (103 ب) ، فهو مقيم على ما تعهد من عهود، إلا أن شوقه الشديد نغّص عليه عيشه الرغيد، يتذكر تلك الشمائل التي أزرت بالعنبر الأشهب، والأخلاق التي بزّت المسك فكيف الرند «5» والزرنب «6» ، لم يزل يذكر تلك الليالي التي كلها أعياد، والأوقات التي تجردت عن الأكدار والأنكاد: أحن إذا خلوت إلى زمان ... تقضّى لي بأفنية الربوع

وأذكر طيب أيام تولت ... لنا فتفيض من أسف دموعي نسأل الله أن يمنحنا رؤية محياكم، ويمنّ علينا بفضله بلقياكم، آمين. وكتبت إليه أيضا: تسليمات زهت أزهارها، وتفتحت أنوارها، وترنمت عنادلها وأطيارها، وتسلسلت جداولها وأنهارها، على من ارتقى أفلاك السيادة، وامتطى متون السعادة، وربح في تجارة المفاخر، ونجح في بضاعة المآثر، فريد العصر والأوان، قرة عين الزمان، ووحيد الأتراب والأقران، ولدنا الأكرم الأمجد عثمان، لا زال سعده ثابتا بثبوت ثهلان، ولا برح إقباله باقيا ما بقي الفرقدان، أما بعد، فإن هذا (104 أ) الداعي مغمور بنعم الله الوفية، معمور الجوانب في آلائه الهنية، إلا أن الشوق تأججت زفراته، وتضرمت لوعاته، لم أنس أخلاقكم الحميدة، ولم أسل مكارمكم العديدة، عسى الله أن يمن باجتماعنا بعد البعاد، لنقضي «1» بالتملي بمحياكم غاية المراد، آمين. وكتبت منها إلى الموصل، لسيدي الفقيه العالم الصالح الشيخ عبد العزيز كتابا صورته: من العبد المفتقر إلى عفو مولاه الغني أبي البركات عبد الله بن الحسين المعروف بالسويدي «2» إلى العالم الذي عمل بما علم، وتجرد من علائق الدنيا، فسلم وسلم، الناسك الذي شد حبازيم الهمة لطاعة مولاه، وشمّر عن ساق الخدمة في عبادته ورضاه، ورأى حطام هذه الفانية عرضا غير دائم، فطوى دونه كشحا ولم يرعو لعذل عاذل ولوم لائم، اتخذ الليل جملا، وقطع عن هواه أملا، فأصلح لله عملا، ولم يبغ «3» عن امتثاله حولا، سيدي الشيخ عبد العزيز، طرز الله أحواله أنفس تطريز، ونفعنا بدعواته الصالحة، وجعل أحوالنا ببركة أنفاسه مستقيمة راجحة ناجحة. (أما) «4» بعد، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو

وأصلي وأسلم على نبيه وحبيبه وصفيه سيدنا (104 ب) محمد المبعوث من أشرف جرثومة، وأكرم أرومة، فهدى الأمة، وكشف الغمة، فكان كما أخبر الله للعالمين رحمة «1» ، اللهم فصلّ عليه صلاة تحيط بجنابه الأعظم العالي صلاة دائمة ما دامت الأيام والليالي، وعلى آله وأصحابه نجوم الاقتداء، وشموس الاهتداء. السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأني إلى ذلك المحيا «2» الزاهر لشائق، وإلى ذلك الجناب الرفيع لتائق، نرجو الإمداد بدعائكم وهو إن شاء الله لا يرد، ونأمل أن تدخلونا في حصن نظركم، وهو نعم المعقل والمستند «3» . ثم فصلت له أحوالي، وما وقع لي في حلب الشهباء، صانها الله عن كل (خطب) «4» وبلاء، آمين. وممن خدمنا وأكرمنا الشاب الصالح طه ابن الحاج عبد الله الزنيني «5» ، فلقد حوى ذكاء ولطفا ورفة وظرفا وكرما وسخاء ومعرفة وحياء، وقد طلب دعاء يدعو به فأجزته بالدعاء المأثور عنه، صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر دعائه: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. بسم الله على نفسي ومالي وديني، اللهم رضني بقضائك، وبارك فيما قدر لي حتى لا أحب تعجيل (105 أ) ما أخرت ولا تأخير ما عجلت، وأذنت له بأن يقرأه بعد كل فريضة ثلاث مرات. واستجاز مني أيضا الشيخ الصالح المعمّر سيدي الشيخ بكري بن محرم الحلبي الأمشاطي دعاء يجعله وردا له، فأجزته بما هو مأثور عنه، صلى الله عليه وسلم، وهو: اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمرى، وتلم بها شعثي وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي

وتعصمني بها من كل سوء. فأجزته بقراءة ذلك بعد صلاة الصبح مرّة وبعد العصر مرة وبعد العشاء مرة. وطلب مني الشيخ الصالح محمد أمين الخطيب ابن الشيخ خليل الإمام أن أجيزه بورد يتلوه، فأجزته بحزب سيدي السيد عبد الله بن علوي باحداد «1» ، بأن يتلوه خلف المكتوبات مرة وهو: يا الله، يا لطيف، يا رزاق يا قوي، يا عزيز! أسألك تألها إليك، واستغراقا فيك، وفناء عمن سواك، ولطفا شاملا جليا وخفيا، ورزقا طيبا هنيا ومريا، وقوة في الإيمان واليقين، وصلابة في الحق والدين، وعفوا بك (105 ب) يدوم ويخلد، وشرفا يبقى ويتأبد، لا يخالطه تكبر ولا عتو، ولا إرادة «2» فساد (ولا علو) «3» ، إنك سميع قريب، وسندي فيه عن شيخنا (السيد) «4» أبي الطيب المغربي، عن الشيخ أحمد النخلي، عن السيد عبد الرحمن باعلوي، تلميذ سيدنا السيد عبد الله الحداد، وزوج بنته عبد الله بن علوي الحداد باعلوي، مؤلف الحزب المذكور. وطلب مني الشيخان الشيخ محمد ابن الشيخ عبد الكريم الشراباتي والشيخ سليم مولى الحاج نعسان الحلبي أن أجيزهما بالدور الأعلى لسيدي شيخ المحققين وأستاذ العارفين الشيخ محيي الدين ابن العربي نفعنا الله تعالى به آمين، فأجزتها، وصورة ما كتبته في الإجازة: الحمد لله الذي نصر حزبه الأنبياء في جميع أدوار القرون، وختمهم بسيدنا محمد المبعوث في الدور الأعلى من أشرف البطون، وعلى آله وأصحابه وجنده وأحزابه. وبعد، فقد التمس مني الشيخان العالمان الفاضلان الصالحان الناسكان سيدي الشيخ أبو

الخير محمد ابن الشيخ عبد الكريم الشراباتي، وسيدي أبو الفضل الشيخ سليم مولى الحاج نعسان الحلبي، أن أجيزهما بالحزب المسمى بالدور (106 أ) الأعلى المنسوب إلى الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن العربي، فأجزتهما بذلك بشرط التأمل والفهم لكلام الشيخ- قدس سره- وبشرط الخشوع واستقبال القبلة، وأن يكونا على طهارة كاملة، وبشرط أن يدعوا لي ولمشايخي وأصولي وفروعي، وقد أجزتهما بقراءته أي وقت أرادا، لكن إذا اشتدت أزمة، أو قدحت نائبة، فليلازما قراءته ملازمة أكيدة، والله خليفتي عليهما، وفقني الله وإياهما لصالح الأعمال، وأحسن إلي وإليهما في جميع الأحوال آمين، وسندي فيه في عموم تآليف الشيخ محي الدين بن العربي عن الشيخين العالمين الشيخ محمد والشيخ حسين عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري ثم المكي، وعن الإمام زين العابدين الطبري «1» ، عن والده الإمام عبد القادر الطبري «2» ، عن جده يحيى بن مكرم الطبري، عن الحافظ عبد العزيز بن الحافظ عمر بن فهد المكي «3» ، عن والده النجم عمر بن فهد المكي «4» ، عن

الجمال محمد بن إبراهيم المرشدي المكي، عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن محمد بن محمد بن (سليمان) «1» النشاوري المكي، عن الإمام أبي أحمد رضي الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي «2» عن الشيخ الإمام محي الدين محمد بن علي بن العربي الحاتمي (106 ب) الطائي الأندلسي ثم المكي ثم الدمشقي.

فصل

فصل ومن محاسن حلب ومزاراتها جامعها الكبير «1» ، وفيه مرقد سيدنا زكريا «2» - على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام- وقد زرته واستشفعت به لي ولسائر محبي. وعلى ضريحه جلالة ومهابة، قال أبو ذر في تأريخه «3» : سيدنا زكريا نبي الله- صلى الله عليه وسلم- نشر بالمناشير، وبعض أهل حلب يقول: إن نشره كان مكان العامود الأسود في صحن الجامع الكبير، ولا أعرف صحته. وقطعة من رأسه الشريف بجانبها في الحائط القبلي بالقرب من المحراب الكبير، وعليه ستر وعليه جلالة، وقد شوهد النور عدة مرات يخرج من ذلك المحراب. أخبرني من شاهد ذلك، وفي بعض السنين ختم صحيح البخاري في الجامع، فخرج النور فشاهده الحاضرون، وضج الناس بالتسبيح والتهليل. وقد أخبرنا صاحبنا الشيخ طه الجبريني قال: كنت أقرأ البخاري عند المحراب الأصفر في مصلى الشافعية عن يسار المستقبل، فخرج نور من جهة قبره- صلى الله عليه وسلم- ولا زال يرى حتى وقف على المحراب المذكور ربع ساعة، والمستمعون يشاهدونه (107 أ) عيانا. قال الشيخ طه: إلّا أني لم أشاهده لكوني مستدبر القبلة ومستقبل الجماعة، وذلك عام خمس

وخمسين ومائة وألف «1» ، انتهى. وفي تاريخ ابن الشحنة «2» إنّه قال: ولأبي بكر الصنوبري قصيدة مدح فيها حلب «3» ، وذكر فيها المسجد: حلب بدر دجى ... أنجمها الزهر تراها حبذا المسجد الجا «4» ... مع للنفس تقاها موطن يرسي ذوو ... البر بمرساه جباها قبلة كرمها الله ... بنور وحباها ورآها ذهبا في ... لازورد من رآها ومراقي منبر أعظم ... شيء مرتقاها شرفات أنقا ... ت مدّ للطّرف مداها «5» وذرى مئذنة طا ... لت ذرى النجم ذراها ولفوارته «6» ما لم ... تراه لسواها أبدا تستقبل السحب ... بحب من غشاها «7» فهي تسقى الغيث إن لم ... يسقها أو إن سقاها

كنفتها قبة ... يضحك منها «1» كفناها قبة أبدع بانيها ... بناء «2» مذ بناها ضاهت الوشي نقوشا ... فحكته وحكاها لو رآها مبتني قبة ... كسرى ما ابتناها فبذا الجامع سور ... يتناهى من تناهى «3» حييا السارية الخضراء ... منه حيياها قبلة المستشرف «4» ... الأعلى إذا قابلتماها حيث يأتي حلقة إلا ... داب منا من أتاها من رجالات حبى لم ... يحلل الجهل حباها من رآهم من سفيه ... باع بالجهل «5» السفاها وهي طويلة: ثم قال: وهذه السارية الخضراء كان يجتمع إليها المشتغلون بالأدب ومن قراء النحو واللغة، وقد ذهبت في الحريق. انتهى. سميت البلدة بحلب باسم بانيها، وهو حلب من بني عمليق. وقيل إنما سميت حلب بفعل سيدنا إبراهيم الخليل، عليه السلام وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام، وذلك لما كان يرعى غنما له حول تل كان بها وهو الآن قلعتها، وكان له وقت يحلب فيه الغنم وتأتي الناس إليه في ذلك الوقت فيقولون حلب إبراهيم، وسميت لذلك. وتلقب قلعتها والبلدة بالشهباء والبيضاء وذلك لبياض أرضها وأحجارها، لأن غالب أبنيتها كانت من الحجارة

الحوارة «1» ، وفي ثمارها ومائها وسائر أقواتها من البركة مما لا يخفى على الفطن. قلت: فو الله إني رأيت نهرها وهو صغير جدا بحيث لو أراد أدنى الناس قطعة لقطعه، وهو يزيد على كفاية حلب مع ما فيها من كثرة البساتين والقساطل والخانات والبرك والأحواض، بحيث لو شاهد أحد ذلك لاعتقد أن دجلة تعجز عنه. ورأيت كرومها وأشجار التين والزيتون والفستق واللوز تعيش بلا ماء، كذلك البطيخ الأخضر والأصفر. ورأيتهم يبذرون في ترابها وهو جاف غاية الجفاف فينبت، وما ذلك إلّا لطيب تربتها، الناشىء جميع ذلك من دعوة سيدنا إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- قال ابن العديم «2» في تاريخ حلب: كان فيها مقام إبراهيم الخليل واستوطنها، وكانت له، ثم أمر بالمهاجرة إلى الأرض المقدسة، فخرج عنها، فلما بعد عنها ميلا نزل وصلى هناك، وهو إلى الآن يعرف ذلك المكان بمقام (108 ب) إبراهيم الخليل، قبل حلب، فلما أراد الرحيل التفت إلى مكان استيطانه كالحزين الباكي لفراقها، ثم رفع يديه وقال: اللهم طيب ثراها وهواءها وحببها لأبنائها، فاستجاب الله دعاءه فيها، فصار كل من أقام في بقعة حلب ولو مدة يسيرة أحبها، وإذا فارقها التفت وبكى، انتهى. قلت: ومن نعم الله تعالي أني أحببتها حبا يوازي حب وطني، ولما فارقتها تأسفت عليها وحزنت، ولما بعدت عنها نحو ميل التفت إليها متباكيا اقتداء بالسيد إبراهيم الخليل. أما قلعتها فهي على تل عال، وهو الذي (كان) «3» يسكن فيه إبراهيم الخليل، وله فيها مقامان، أعلى بالمسجد الجامع، وهو الموضع الذي كان يحلب فيه الغنم، وموضع أسفل. وفي الجامع أيضا رأس يحيى بن زكريا موضوع في جرن. وقد زرت جميع ذلك

[مسجد الخضر]

وتبركت به، ودعوت لي ولأحبابي، وأخذني عند ذلك خشوع من قشعريرة، وذلك يوم الجمعة، السابع والعشرين من رجب الأصب. وفي هذا اليوم زرت قبر سيدي غوث، وهو في مسجد. ذكر ابن الشحنة أن الدعاء يستجاب فيه. ونقل عن ابن العديم (109 أ) أن به حجرا عليها كتابة «1» ، زعموا أنه خط علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وقيل إن غوثا هذا منسوب إلى غوث بن سليمان بن زياد قاضي مصر، وكان قد قدم مع صالح بن علي بن عبد الله بن العباس «2» إلى حلب. انتهى «3» . قال الفقير: شاهدت الحجر والكتابة عليها، وتبركت بها، ودعوت لي ولسائر محبي وأخذني خشوع مع قشعريرة. [مسجد الخضر] ومما منّ الله بن علي، أني زرت مسجدا يقال له مسجد الخضر، وهو في داخل القلعة عند بابها. قال ابن الشحنة في تاريخه «4» : ومن المساجد التي بالقلعة مسجد الخضر عليه السلام «5» . ذكر جماعة من سكان القلعة أنهم رأوا الخضر يصلي فيه. انتهى.

[جامع القلعة]

[جامع القلعة] ومما منّ الله به علي أني صليت الجمعة في جامع القلعة، وجامع القلعة- كما قال المؤرخ- كان في الأصل كنيسة «1» ، وقبلها كان مذبحا للخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان به صخرة يجلس عليها لحلب المواشي، ثم صار مسجدا جامعا في أيام ابن مرداس «2» ، وكان يعرف بمقام إبراهيم الأعلى «3» وبه تقام الخبة، وهو موضع مبارك يزار «4» .

وذكر ابن العظيمي «1» في تاريخه: سنة «2» 435 ظهر ببعلبك في حجر (109 ب) منقور رأس يحيى بن زكريا- عليهما الصلاة والسلام- فنقل إلى حمص، ثم منها إلى مدينة حلب في هذه السنة. وفي هذا المقام المذكور، في جرن من الرخام مدفون رأسه، ووضع في خزانة إلى جانب المحراب وأغلقت ووضع عليها ستر يصونها «3» . ووقع في سنة «4» 609 نار في أيام الملك غازي «5» فاحترق جميع ما في ذلك المكان من الخيم والسلاح وآلات الحرب

[مقام إبراهيم الأسفل]

شيء كبير، ودفع الله- سبحانه وتعالى- النار، انتهى «1» . قلت: وقد زرت جميع ما ذكر المؤرخ. وصلينا الجمعة في الجامع المذكور، وكان خطيبنا السيد حسين الديري، الذي هو الخطيب الراتب «2» . [مقام إبراهيم الأسفل] ومما هو ظاهر في المقام الأسفل حجر يقال إن إبراهيم الخليل كان يحلب غنمه عليها «3» ، وإن لها رائحة أزكى من المسك بحيث يخشى الإنسان على نفسه من شدة الرائحة، وقد تبركت بها، وأخذت من ترابها ومسحت به وجهي ولحيتي وسائر بدني، والحمد لله على ذلك. [جبانة الصالحين] ومما منّ الله تعالى به عليّ، أني خرجت مع الشيخ طه (110 أ) الجبريني، والشيخ السيد عبد الكافي، في يوم السبت الثامن والعشرين من رجب الأصب «4» إلى زيارة مقام سيدي إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- في الجبانة المسماة بجبانة الصالحين «5» ، فزرناه وصلينا ركعتين ودعونا لنا ولإخوتنا ومن أحبنا وأوصانا بالدعاء. وقد ذكر ابن الشحنة في

[قرنبيا]

تاريخه هذا المزار فقال ناقلا عن ابن الخطيب: وفي محراب هذا المقام حجر قيل إن الخليل كان يجلس عليه، وفي الرواق القبلي الذي بباب الصحن حجر يقال إنه كان يحلب غنمه فيها. وقيل مقبرة فيها جماعة من العلماء الصالحين، انتهى قلت: وقد مرغت وجهي بالحجرين المذكورين مع التضرّع والخشوع والابتهال. وزرت المقبرة المذكورة فوجدت من الأنس ما يزيد على البساتين الزاهرة، بحيث لا يشك من له أدنى فهم أن أهل القبور مغفور لهم، رحمهم الله رحمة واسعة، آمين. وفي تلك المقبرة قبرا أبي الوفا «1» ، والشيخ عمر «2» العرضيين. وفي طريقنا هذا مررنا (110 ب) على قبر سيدي الشيخ محمد السفيري الحلبي «3» شارح البخاري. [قرنبيا] وشاهدنا عن شمالنا ونحن ذاهبون إلى المقام قرية قرنبيا. قال في التاريخ المذكور «4» : أصلها قرية الأنبياء إلا أن العامة حرفتها «5» . وحدثني الشيخ طه: أن المشهور عند أهالي هذه

[باب الأربعين]

الديار أن هذه اللفظة معناها: يا أسود أقبل، باللغة الفارسية، وهي من قول سيدنا إبراهيم الخليل حين دعا الطيور التي قال الله تعالى ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً «1» والله أعلم. [باب الأربعين] وكان خروجنا إلى زيارة هذا المقام من باب الأربعين المسمى بباب المقام لأنه يخرج إلى مقام سيدنا إبراهيم، وقد عد ابن الشحنة باب الأربعين «2» من أبواب حلب، وقال إنه خرج منه أربعون ألفا فلم يعودوا فسمي بذلك. ونقل عن ابن الخطيب أنه لم يعد إليه سوى رجل واحد، فرأته امرأته من طاق وهو داخل، فقالت له: دبيران جئت؟ فقال: دبيران من «3» لم يجيء. وقيل: إنه كان في المسجد الذي هو داخله «4» أربعون من العباد، وقيل: أربعون محدثا، وقيل: كان به أربعون شريفا، وإلى جانب أعلى المسجد (111 أ) للأشراف مقبرة، انتهى. قلت: وقد وقفت على هذا المسجد ناويا للاعتكاف زمنا قليلا. واعلم- أيها الواقف على هذه الرحلة- أني كتبت وقائع حلب وأنا بدمشق الشام ولا لي نية بالعود إلى حلب، فكل ما سطرته في مدح أهاليها فهو والله الذي ظهر لي منهم ببادي الرأي، والغريب- كما قيل- أعمى ولو كان بصيرا، ثم لما من الله بالعود إليها رأيت الأمر انعكس عكسا كليا، ولولا الخشية مما قيل: من مدح أو ذم كذب مرتين لأطلقت عنان القلم في ما ظهر لي. وقد أخبرني بعض من أختبرهم من أهالي حلب حيث قال يا شيخ لا تغتر «5» بأهل حلب! فإن هذه لهم عادة قديمة، إنهم «6» يكرمون الغريب ويوقرونه ما دام جديدا، فإذا استمر عندهم مدة ولو قليلة قلوه وملوه لغير سبب، وقد صح عندي هذا بعد

رجعتي إلى حلب، فيا ليت أني لم أعد إليها لأبقى سالم الصدر، فإنا لله وإنا إليه راجعون- من ذا الذي ما ساء قط، من ذا الذي ترضى سجاياه كلها- على أني اختبرت أهل حلب بأن العالم متى ما تكبر عليهم ولم يسلم لهم استمروا على توقيره وتعظيمه (111 ب) . ومتى ما سلك معهم المسالك المحمودة، وسلم لهم، أو استعمل لين الجانب ومكارم الأخلاق، وأخذ معهم بهدي السلف العلماء قلوه وملوه وقاطعوه وهجروه، فهم عكس أهل دمشق الشام، نعوذ بالله من ردي الأحوال في الأخلاق والأعمال، آمين. وخرجنا من حلب يوم السبت الثالث عشر من شعبان «1» بين الصلاتين. وممن خرج لوداعنا من أهل حلب سيدي الشيخ محمد الطرابلسي، وسيدي الشيخ طه الجبريني، وسيدي حسين الديري، وسيدي الشيخ عبد القادر الديري، وسيدي عبد الكافي، والشيخ محمد العقاد، والسيد محمد الخاص السرميني، والشيخ حسن، والشيخ سليم. وأما الشيخ عبد الكريم الشراباتي والشيخ عبد الغني المقدسي فقد وادعانا في دار الحاج محمد. واستجاز الشيخ عبد الغني رواية الحديث فأجزته. وممن وادعنا من أكابرها الحاج إسماعيل آغا ميرو زاده «2» وابن أخيه عبد الله آغا، وسيدي الحاج محمد وأولاده، وسيدي الكبير السيد طالب البصري الرفاعي «3» ، والسيد محمد الطرابلسي خرجوا لوداعنا مقدار فرسخ ونصف على ظهور الخيل. ولما فارقنا حلب المحروسة أذّن خلفنا السيد عبد الكافي.

[خان تومان]

[خان تومان] وكانت مرحلتنا خان تومان، على ثلاثة فراسخ من حلب. وهو خان محكم رفيع. قيل: إن امرأة اسمها تومان بنته، وحوله ضيعة عامرة، وهو على كتف نهر حلب المسمى بقويق، نزلنا قبل المغرب. ومن رفقائنا الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ حسين الموصلي الإمام بالجامع الجرجيسي. وكان إسماعيل آغا «1» - حفظه الله- أوصى بتعهدنا وإكرامنا في الطريق سيدي الحاج مصطفى ابن المرحوم بكداش الحلبي ثم الدمشقي. [سرمين] وتليها مرحلة سرمين، بوزن غسلين، وهي قرية كبيرة غير مسورة «2» ، يحيط بجوانبها أشجار الزيتون، وهو كثير في الغابة. وفيها يعمل الصابون، وفيها جامعان، دخلت أحد هما واعتكفت فيه نحو ساعة، وجمعت فيه بين الظهر والعصر جمع تقديم. وفيها منارة أخرى خارج القرية قدر غلوة سهم تدل على أن هناك جامعا لكنه خرب واندرس. وأهلها يشربون ماء المطر يحفظونه «3» (112 ب) في الآبار، وآبارهم لا ينبع منها ماء لبعد غوره جدا، حتى إني سمعت من يقول إنهم حفروا وأمعنوا في التعميق فلم يجدوا ماء. ومن مبالغتهم أن أهل سرمين أمعنوا في التعميق إلى قرن ثور الأرض، فنودوا: ما في هذه ماء فاتركوا الحفر! «4» . وهي قرية ليست «5» مأنوسة ولا أهلها أهل أنس، والمسافة تسعة فراسخ. ورحلنا منها بعيد

[معرة النعمان]

الفجر، ولم نزل نمشي بين أشجار الزيتون نتفيأ ظلاله، ونحن ذاهبون خلاله مقدار خمس ساعات. ثم مشينا بين أشجار السنديان والبطم أربع ساعات فكأننا في بستان إلا أنا منذ فارقنا شجر الزيتون وقعنا في طريق وعر ضيق كثير الجنادل، لكنا لم نجد نصبا لاشتغالنا برؤية الأشجار والتفرج فيها. [معرّة النعمان] فدخلنا يوم الخامس عشر من الشهر معرّة النعمان «1» ، وهي بلدة غير مسوّرة، فيها أسواق، وحمّام، وجامع كبير في أحسن ما يكون من العمارة، وله منارة رفيعة عجيبة حسنة البناء مربعة، أضيفت إلى النعمان بن بشير الأنصاري «2» - رضي الله تعالى عنه «3» - فإنه تديرها فنسبت إليه صليت «4» فيه العصر، واعتكفت «113 أ» فيه نحو ساعة. ويتّصل بالبلد المذكور خان من أحسن الخانات «5» رفيع البناء، محكمة سطوحه، مغشيّة بصفائح الرصاص، وفي وسطه قسطل ماء لأبناء السبيل، وفي وسطه مسجد ذو قبّة شاهقة مطلّية أيضا بالرصاص، وله طاقات ورواقات في جميع دوره لأبناء السبيل، وله باب رفيعة «6» ملبّسة بالحديد، مكتوب على طاقها في الحجر:

[كتف العاصي]

هذا ما بنى حامي الدفاتر الديوانية «1» السلطانية مراد جلبي وهذه «2» البلدة وحشة كأهلها، وكان نزولنا عند قبر أبي العلاء المعرّي الشاعر المشهور. [كتف العاصي] وتليها مرحلة كتف العاصي، وهو نهر عذب الماء في غاية الصّفاء، نزلنا شرقيه في مكان يسمّى بالمحروقة، لأنه يحرق الجص ثمّة. وقربنا رحى تدور على العاصي وناعورة خربة، وسمّي بالعاصي لأنه يجري على عكس الأنهار ولأنها «3» كلها تجري من الغرب نحو الشرق، وهو بالعكس، فكأنه عصاها ولم يوافقها، هذا هو المشهور في وجه التسمية، وأحسن من ذلك ما ذكره لي صاحبنا الحاج مصطفى بكداش أنه سمّي بالعاصي لأنه لا يفيض على وجه الأرض «113 ب» وإنما يخرج ماؤه بالتكلف ونصب آلة كالنواعير مثلا، فكأنه عصى فلم يخرج على وجه الأرض، قلت: ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: نهران مؤمنان، ونهران كافران، أما المؤمنان فالنيل والفرات، وأما الكافران فدجلة وجيحون «4» . قال الشّراح: شبّه النهران الأولان بالمؤمن لنفعهما كالمؤمن، والأخيران «5» بالكافر لعدم نفعهما، وإنما يخرج ماؤهما «6» بآلة كدالية وناعورة «7» ، ثم رأيت العاصي في مرحلة الرستن يجري من الغرب إلى الشرق، فتحقق أن منبعه نحو الغرب، وإنما يرى في بعض الأماكن جريانه من الشرق نحو الغرب لتعوّج مجاريه في بعض الأراضي، فيظن الرائي له أنه كذلك من منبعه

[خان شيخون]

يجري على خلاف جريان الأنهار. [خان شيخون] وفي وسط هذه المرحلة مررنا على خان شيخون، بشين معجمة مكسورة، فمثنّاه تحتية ساكنة، فخاء معجمة مضمومة، فواو ساكنة، فنون آخر الحروف، فدخلناه بعد طلوع الشمس بساعة ونصف. وحول الخان قرية صغيرة «1» فأكرمنا كبيرها السيد يوسف ابن السيد علي، وصنع لنا مقلاة بيض «114 أ» ومعها بطيخ أخضر وأصفر وعنب، فأكلنا، وبعد أن شربنا قهوة البن رحلنا منه إلى المحروقة المذكورة، والمسافة من المعرّة إليها تسعة فراسخ. وتليها مرحلة حماه، ففي مسيرنا إليها كان العاصي وعليه النواعير، لها رغاء [ك] رغاء النوق المطافيل «2» يثير صوتها الأشجان ويحرك الأحزان ويذكّر الأهل والأوطان، تغرف من ماء العاصي فتمتلىء العلب المربوطة في قوس الناعورة، وتصب في السّواقي، لكن يخر من العلب ماء يقع في العاصي شبيهة بالدموع، ولقد أحسن من قال موريا في المقال: وإني على نفسي لأجدر بالبكا وقلت مضمّنا موريا: ناحت على العاصي نواعير عدت ... تبكي عليه لحزنه وبلائه سحّت عليه بدمعها أسفا ولا ... منّا عليه لأنه من مائه فدخلنا حماة اليوم السادس عشر من الشهر المذكور «3» ، فإذا «114 ب» هي من أعدل

بلاد الإسلام وألطفها، كأنها جنة مزخرفة، يشقّها العاصي نصفين، ولها عليه أربع قناطر، كل قنطرة على سبعة أواوين «1» . ونزلنا في الجانب الغربي، ودرت في أسواقه، وله سوق طويل جدا نحو ميل، وفيها أربعة عشر جامعا يخطب فيها، دخلت خمسة منها بنية الاعتكاف، وفي الجانب الغربي خان كبير وقفه الوزير أسعد باشا ابن إسماعيل باشا «2» والي دمشق الشام «3» المعروف بابن العظم لأبناء «4» السبيل مكتوب في بابه: نور هذا الخان قد أشرق من ... نور ربي ليس تطفيه العدا دام وجه الحق من إنشائه ... للورى مأوى فوفّى المقصدا وبشرى سعده قد أرخوا ... أسعد خان بمجد شيدا «5» وفي هذا الخان ماء للسبيل مكتوب على طاقه: خليلي قف جنب السبيل فقد ندا ... واشرب بماء السلسبيل مبرّدا وادع لمن أنشأه دعوة صالح ... بدوام ملك لا يزال مؤبدا

[الرستن]

«115 أ» بالسعد والأفراح قد أرّخته ... فالأجر يبقى والثواب الأسعدا «1» ولها قلعة كبيرة لم يبق منها إلا تلّها «2» ، وهو عال يقرب من تل قلعة حلب، والمسافة خمسة فراسخ. [الرّستن] وتليها مرحلة الرّستن، بوزن جعفر، ونزلنا في خان قريب منها، على كتف العاصي، وهو خان قديم في وسط جامع له قبة. وهذه المرحلة ستة فراسخ. وفي هذه المرحلة شرعت في كتابة أسماء أهل بدر، فقد اشتهر في حلب والشام، وكذا الحرمين، أن حمل أسمائهم موجب للحفظ من العدو، وألّف بعض العصريين، وهو السيد خليل «3» الشيخ عبد اللطيف المكتبي الشامي ثم المكي، رسالة فيهم «4» ، وإن منّ الله عليّ بالعود إلى الوطن «5» ، أؤلف فيهم رسالة أبين فيها المهاجري والأنصاري والأوسي من الخزرجي «6» ، ومن استشهد ممن لم يستشهد ... ولحمل أسمائهم فائدة جليلة للحفظ من الأعداء، ذكر بعضهم أن من الأولياء من قد أعطوا الولاية ببركة أسمائهم، وأن كثيرا من المرضى سألوا «115 ب» الله بهم في شفاء أسقامهم فشفوا من ذلك، وقال بعض العارفين: ما جعلت يدي على رأس مريض وتلوت أسماءهم بنية خالصة إلا شفاه الله تعالى، وإن يكن قد حضر أجله خفّف الله عنه،

وقال بعضهم: جرّبت أسماءهم في الأمور المهمة، تلاوة وكتابة، فما رأيت أسرع منها إجابة. وروي عن جعفر بن عبد الله «1» أنه قال: أوصاني والدي بحب أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، والتوسل بأهل بدر في جميع المهمات، وقال: إن الدعاء عند ذكرهم يستجاب، وإن الرحمة والبركة والغفران والرضى والرضوان «2» تحيط بالعبد إذا ذكرهم، وقال عند الدعاء بأسمائهم، وإن ذكرهم كل يوم وسأل الله تعالى حاجة قضيت له، لكن ينبغي في قضاء مهم أن يترضى على كل واحد عند ذكر اسمه، ويقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا إلى آخرهم، فإنه أنجح للإجابة. وذكر عن «116 أ» زيد بن عقيل- رحمه الله- قال: قد انقطعت طريق في أرض المغرب في بعض السنين من سباع ضارية، وانقطعت طريق أخرى من لصوص، فما كان أحد يخطر من تلك الطرق إلا هلك ولو كان في عدد عديد، وقد ضاعت في تلك الطرق أموال وأنفس كثيرة. وإذا ورد علينا أحد من تلك الطرق ومعه تجارة عظيمة وليس معه أحد غير عبده، وهو يحرك شفتيه كالذي يتلو بعض الأسماء، فاستغربنا ذلك وتلقيناه، وقلنا: إن لهذا الرجل شأنا عظيما، ونظرنا خلفه فلم نر معه سوى عبده، فقال له والدي: سبحان الله! كيف سلمت بتجارتك وأنت وحدك وهذه الطريق مقطوعة منذ سنين من اللصوص والسباع؟ فقال: أما يكفيك أني دخلت هذه الطريق بجيش دخل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولقي به أعداءه ونصره الله، وقال له والدي: وأي جيش أدركته من أصحاب

رسول الله تعالى فقال: أدركت أصحاب بدر، وأدخلتهم معي في هذه الطريق المخوفة «1» فما أخاف لصا ولا سبعا «116 ب» ، فقال له والدي: سألتك بالله أن تكشف لي عن قضيتك، فقال: اعلم- يرحمك الله- أني كنت أمير قوم لصوص نقطع الطرق ولا تمر بنا قافلة إلا نهبناها، ولا تجارة إلا أخذناها، فبينما نحن في ليلة من الليالي إذ جاءت إلينا جواسيسنا وأخبرونا أن فلانا التاجر خرج بتجارة عظيمة وليس معه إلا خمسة عشر رجلا، فلما سمعنا ذلك حملنا عليهم، فقتلنا من أتباعه عشرة رجال، ثم أقبل علينا التاجر وقال: يا هؤلاء! ما حاجتكم، وما تريدون؟ فقلنا: نريد أن نأخذ هذه التجارة فانج بمن بقي من أصحابك قبل أن يحل بكم ما حل بأصحابكم، فقال: وكيف تقدرون على ذلك ومعي أهل بدر؟ فقلنا: إنا لا نعرف بدرا ولا أصحابه، فقال: الله أكبر! ثم أخذ يتلو في أسماء لا نعرفها، فأخذنا الرعب عند تلاوتها، وانهزمنا، وخرجت علينا ريح شديدة، وسمعنا دكدكة وقعقعة سلاح واشتباك رماح، وقائلا يقول: استقبلوا أهل بدر بصبر جميل، فنظرت رجالا وأي رجال، كالعقبان على خيول تسبق الريح فأحاطوا «117 أ» بنا، فحين عاينت ذلك بادرت إلى صاحب التجارة وقلت: أنا مستجير بالله وبك، فقال: تب إلى الله من هذه الفعال، فتبت على يديه، وقد قتل من أصحابي بعدة ما قتل من أصحابه، ثم أني لما أردت الانصراف سألته، فعلمني أسماء أهل بدر، ومنذ عرفتها لم أحتج إلى غفارة «2» أحد من الخلق، لا في البر ولا في البحر، وبها جئت من هذه الطريق كما رأيتني، فكل من رآني من لص أو سبع حاد عن طريقي ولله الحمد، فهذا سبب خروجي وحدي، وحكى بعضهم أنه خرج يريد الحج إلى بيت الله الحرام فكتب أسماء أهل بدر في قرطاس وجعلها

في أسكف «1» الباب، وكان صاحب مال، فلما سافر جاءت اللصوص إلى داره ليأخذوا ما فيها، فلما صعدوا السطح سمعوا حديثا وقعقعة سلاح فرجعوا، ثم أتوا الليلة الثانية فسمعوا مثل ذلك، ثم مرة أخرى فسمعوا كذلك، فتعجبوا وانكفأوا حتى جاء الرجل من الحج فجاءه رأس اللصوص وقال له: سألتك بالله أن تخبرني ما صنعت في بيتك من التحفظات؟ قال: ما صنعت شيئا غير أني كتبت قوله تعالى وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ «2» . وكتبت أسماء أهل «117 ب» بدر بأسرهم، فهذا ما جعلت في داري، فقال ذلك اللص: كفاني ذلك فائدة. وأخبر بعض من ركب البحر مسافرا إلى مدينة سبتة في سفينة كبيرة وكان فيها خلق كثير، قال: هاج بنا البحر، واشتدت الريح، وعظمت الأمواج، حتى أشرفنا على الغرق، فكنا بين داع وباك ومتضرع، فقال بعض أصحابي: إن في السفينة رجلا مجذوبا فهل لك أن تذهب إليه وتسأله الدعاء؟ فذهبت إليه فاذا هو نائم، فقلت في نفسي: إلى هذا أرسلوني! لو كان لهذا المسكين عقل ما نام ونحن في هذه الحالة، فوكزته برجلي فأفاق وهو يدعو ويقول: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، فقلت له: يا عبد الله أما ترى ما نحن فيه! فسكت ولم يجبني، فكلمته ثانية، فقال: هاك خذ القرطاس فاجعله في مقدم السفينة وشوّفه إلى الريح من حيث تأتي، فأخذته وجعلته كما أمرني، فكشف عن بصري، فإذا برجال قد أخذوا بطرف السفينة وجروها إلى البر وركزوها في الرمل، وقد انكسر في تلك الليلة سفن كثيرة، فلما كان من الغد جاءتنا «118 أ» ريح طيبة فأخرجنا السفينة من الرمل وسرنا، والذي كان مكتوبا في تلك الورقة اسماء أهل بدر، فصرنا نتلو في أسمائهم (حتى وصلنا مقصدنا) «3» سالمين

رضوان الله عليهم أجمعين، وذكر لي بعضهم قال: كان لي ولد من أحب الخلق إلي، وكان ذا ديانة وتفقه، فقتله ابن الوزير ظلما وعدوانا، فلم يأخذ أحد بيدي، فجعلت أسأل الله تعالى بأسماء أهل بدر صباحا ومساء، وأستنجد بهم في أخذ ثأره حتى ضاق صدري وآيست من أخذ الثأر. فبينما أنا نائم ليلة من الليالي رأيت في النوم رجالا في هيئة سنية وحالة مرضية، وقائل يقول: هلّوا أهل بدر! فقدموا يتلو بعضهم إثر بعض، فقلت في نفسي: سبحان الله! هؤلاء أهل بدر الذين استنجدتهم في أخذ ثأر ولدي، والله لأتبعنهم، فجعلت أسير خلفهم إلى أن انتهوا إلى مكان مرتفع وجلس كل واحد منهم على كرسي من نور، ورأيت أقواما يدخلون عليهم ويشكون إليهم أحوالهم، فقلت في نفسي: مالي لا أشكو إليهم من قتل ولدي؟ فقدمت إليهم وأخبرتهم بقصتي «1» وأنه لم يأخذ أحد بيدي في ثأر ولدي، فقال واحد منهم: لا حول «118 ب» ولا قوة إلا بالله! ثم التفت إلى من كان معه وقال: أيكم يأتيني بخصم هذا المسكين؟ فذهب واحد منهم فلم يكن غير هنيهة وإذا به قد أقبل والغريم معه، فقال له: أنت الذي قتلت ابن هذا الرجل؟ قال: نعم! فقال له: وما حملك على قتله؟ قال: ظلما وعدوانا! فقال: اجلس إلى الارض، فجلس، ثم أعطاني خنجرا وقال: هذا غريمك اقتله كما قتل ولدك، فأخذته وذبحته، ثم انتبهت من نومي، فلما أصبح النهار سمعت صيحة عظيمة والناس يقولون: قد أصبح ابن الوزير ذبيحا في فراشه ولم يعرف قاتله، وذكر العسقلاني قال: أسر ابن عم لي في بلاد المشركين، فطلب الروم في فدائه مالا عظيما، فلم يطق إعطاءه، فأرسلت إليه بأسماء أهل بدر في قرطاس، وأوصيته بحفظهم والتوسل بهم، قال: فأطلقه الله تعالى من غير فداء فلما قدم إلينا سألناه عن ذلك، قال: لما وصلت إليّ تلك الورقة التي فيها الأسماء ففعلت كما أمرتني، فاستشأموني فجعلوا يتبايعونني، وكان كل من يشتريني تصيبه مصيبة، فنقصت في الثمن حتى باعوني بسبعة دنانير، فما مضى على من اشتراني غير ثلاثة أيام حتى أصيب بأعظم مصيبة، فأخذ يعذبني

بأنواع العذاب، ويقول لي: أنا لا أبيعك، بل اتقرب بقتلك للصليب، فما لبث إلا قليلا حتى (119 أ) رمحته «1» دابته فهشمت وجهه ومات من حينه، فأخذ ابنه يعذبني بأنواع العذاب، واشتهر خبري بين الناس، فجاءوا إليه وقالوا: أخرج هذا الأسير من بلدتنا، فأبى إلا قتلي بالعذاب، فما شعروا إلا وجاءهم الخبر بأن سفينة الملك قد غرقت، وكان فيها ابن الملك وأموال كثيرة، فلما بلغ ذلك إلى الروم أتوا إلى الملك وأخبروه بسائر ما كان من أمري، وقالوا له: إن مكث هذا المسلم في أرضنا هلكنا ونحن لا نشك أنه من أولاد الأنبياء، فأرسل إلي الملك فأطلقني وأعطاني مائة دينار وجهزني إلى بلادي، فهذا سبب فكاكي من الأسر والحمد لله على ذلك، وفضائلهم كثيرة، ومناقبهم شهيرة، نفعنا الله بحبهم وحشرنا معهم تحت لواء سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسماؤهم على الصحيح ثلاثمائة وعشرة، لكن أنهاها ابن سيد الناس «2» إلى ثلاثة وستين وثلاثمائة، وهذا على سبيل الاحتياط فنحن أيضا نعدها كذلك فإن من ذكره زائد هو على الصحابة «3» نفعنا (119 ب) الله تعالى «4» بهم آمين «5» . وهذه أسماؤهم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. حرف الألف 10

أبي بن كعب. الأخنس الأسلمي. الأرقم بن أبي الأرقم، سعيد بن زيد، أنيس بن قتادة، أنس مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أوس بن ثابت، أوس بن خولى، إياس بن أوس. إياس بن البكير. حرف الباء 7 البراءة بن معرور بجير بن [أبي] بجير. بحاث بن ثعلبة. بسبسة بن عمرو. بشر بن البراء. بشير بن سعد. بلال بن رباح. حرف التاء 2 تميم مولى غنم بن السلم. تميم مولى خراش [بن الصمّة] حرف الثاء 10 ثابت بن أقرم «1» . ثابت بن ثعلبة. ثابت بن خالد. ثابت بن عمرو. ثابت بن هزل [بن عمرو] ثعلبة بن صخر. ثعلبة بن حاطب «2» ، ثعلبة بن عمرو. ثعلبة بن صخر. ثقف بن عمرو. حرف الجيم 5 جابر بن عبد الله بن رئاب «3» . جابر بن عبد الله بن عمرو. جبر بن عتيك، جبار بن صخر. جبر بن إياس. حرف الحاء 23 (120 أ) الحارث بن أنس [بن رافع بن امرئ القيس] الحارث بن أويس «4» بن رافع. الحارث

بن أوس بن معاذ [بن النعمان] . الحارث بن حاطب، الحارث بن خزمة الخزرجي. الحارث بن خزمة الأوسي. الحارث بن [أوس] أبي خزمة. الحارث بن الصمّة. الحارث بن عرفجة. الحارث بن قيس الأوسي. الحارث بن قيس الخزرجي. حارثة بن النعمان [الانصاري] . الحارث بن النعمان [بن أمية] . حاطب بن أبي بلتعة. الحارث بن حاطب بن عمرو. حبيب ابن الأسود. حرث بن زيد. الحصين بن الحارث. حمزة بن عبد المطلب. حمزة بن الحميّر. حرف الخاء خارجة بن زيد. خالد بن البكير. خالد بن قيس. خباب بن الأرت. خباب مولى عتبة. خبيب بن أساف. خراش بن قتادة. خراش بن الصّمة [بن عمرو] . خريم بن فاتك. خلاد بن رافع. خلاد بن سويد خلاد بن عمرو وخلاد بن قيس (120 ب) . خليد بن قيس. خليفة ابن عدي، خنيس بن حذافة. خوّات بن جبير. خولي بن أبي خولي. حرف الذال 2 ذكوان بن أبي عبيد. ذو الشمالين [عمير بن عبد عمرو] حرف الراء 14 راشد بن المعلى. رافع بن المعلى. رافع بن الحارث. رافع بن عنجدة. رافع بن مالك. رافع ابن يزيد. ربعي بن رافع. الربيع بن إياس. ربيعة بن أكثم. ربيعة بن ثعلبة. رفاعة بن الحارث. رفاعة بن رافع. رفاعة بن عمرو. رفاعة بن عبد الله. حرف الزاي 10 الزبير بن العوام. زياد بن السكن. زياد بن عمرو. زياد بن لبيد. زيد بن أسلم. زيد بن حارثة. زيد بن الخطاب. زيد بن المزين. زيد بن وديعة. زيد بن المعلى. حرف السين 20 سالم بن عمير. سالم مولى أبي حذيفة. السائب بن عثمان. سبرة بن فاتك. سراقة بن

عمرو. سراقة بن كعب. سعد بن أبي وقاص. سعد بن خولة. سعد بن خيثمة. سعد بن زيد. سعيد بن زيد. سعد بن الربيع. سعد بن سعد [الساعدي] (121 أ) . سعد بن سهل. سعد بن عبادة. سعد بن عبيد. سعد بن عثمان. سعد بن معاذ. سعد بن حاطب. سفيان بن بشير. سلمة بن أسلم. سلمة بن ثابت. سلمة بن سلامة. سليط بن قيس. سليم بن الحارث. سليم بن عمرو. سليم بن قيس. سليم بن ملحان. سماك بن سعد. سنان ابن صيفي. سنان بن أبي سنان. سهيل بن حنيف. سهل بن رافع. سهل بن عتيك. سهل ابن قيس. سهيل بن وهب. سهيل بن رافع. سواد بن رزن. سواد بن غزية. سويبط بن [سعد] بن حرملة. حرف الشين 3 شجاع بن وهب. شريك بن أنس. شماس بن عثمان. حرف الصاد 4 صبيح مولى العاص. صفوان بن وهب. صيفى بن سواد. صهيب بن سنان. حرف الضاد 3 الضحّاك بن حارثة. الضّحاك بن عبد عمرو. ضمرة بن عمرو. حرف الطاء 5 الطّفيل بين الحارث. الطفيل بن مالك. الطفيل بن النعمان، طلحة بن عبد الله. طليب ابن عمير. حرف العين 93 عاصم بن ثابت. عاصم بن عدي. عاصم بن العكير. عاصم بن قيس. عاقل بن البكير. عامر بن ربيعة. عامر بن أمية. عامر بن البكير. عامر بن سعد. عامر بن سلمة. عامر بن فهير. عامر بن مخلد. عامر بن السكن. عباد بن بشر. عباد بن قيس. عبادة بن الصلت.

عبد الله بن ثعلبة. عبد الله بن جبير. عبد الله بن جحش. عبد الله بن الجد. عبد الله بن الحمير. عبد الله بن الربيع. عبد الله بن داود. عبد الله بن زيد. عبد الله بن سراقة. عبد الله ابن سلمة. عبد الله بن سهل. عبد الله بن سهيل. عبد الله بن شريك. عبد الله بن طارق. عبد الله بن عاص. عبد الله بن عبد مناف. عبد الله بن عرفطة. عبد الله بن عمرو. عبد الله ابن عمير. عبد الله بن قيس بن خلدة. عبد الله بن قيس بين صيفى. عبد الله بن كعب. عبد الله بن مخرمة. عبد الله بن مسعود. عبد الله بن مظعون. عبد الله بن النعمان. عبد الرحمن بن جبير. عبد الرحمن بن عوف. عبد ربه بن حق. عبدة بن الحسحاس. عبس ابن عامر. عائد بن ماعص. عبيد الله بن أوس. عبيد بن التيهان. عبيد بن زيد. عبيد بن أبي عبيد. عبيدة بن الحارث. عتبان بن مالك (122 أ) عتبة بن ربيعة. عتبة بن عبد الله. عتبة بن غزوان. عثمان بن عفان. عثمان بن مظعون، العجلان بن النعمان. عدي بن أبي الزغباء. عصمة بن الحصين، عصمة الأشجعي. عطية بن نويرة. عقبة بن عامر. عقبة بن عثمان. عقبة بن وهب الانصاري. عقبة بن وهب المهاجر. عكاشة بن محصن، علي بن أبي طالب. عمار بن ياسر. عمارة بن حزم. عمارة بن زياد. عمر بن الخطاب. عمرو بن إياس. عمرو بن الجموح. عمر بن الحارث المهاجر. عمرو بن الحارث الأنصاري. عمرو بن سراقة. عمرو بن أبي سرح. عمرو بن طلق. عمرو بين قيس. عمير بن معبد. عمرو بن معاذ. عمرو ابن ثعلبة. عمير بين حرام. عمير بن الحمام. عمير بن عامر. عمير بن عوف. عمير بن أبي وقاص. عوف بن الحارث. عويم بن ساعد. عياض بن زهير. حرف الفاء 3 الفاكه بن بشر. فروة بن عمرو «1»

حرف القاف 6 قتادة بن النعمان. قدامة بن مظعون. قطبة بن عامر (122 ب) . قيس بن عمرو. قيس بن محضر. قيس بن مخلد. حرف الكاف «1» 2 كعب بن جمّاز. كعب بن زيد. حرف اللام 1 لبدة بن قيس. حرف الميم 45 مالك بن أبي خولي. مالك بن الدخشم. مالك بن ربيعة. مالك بن رفاعة. مالك بن عمرو. مالك بن قدامة. مالك بن مسعود. مالك بن نميلة «2» مبشر بن عبد المنذر. المجذر بين ذياد. محرز بن عامر. محرز بن نضلة. محمد بن مسلمة. مدلاج بن عمرو. مرثد بن أبي مرثد. مسطح بن أثاثة. مسعود بن أوس. مسعود بن خلدة. مسعود بن ربيعة. مسعود بن زيد. مسعود بن سعد [بن عامر] . مسعود بن سعد [بن قيس] . مصعب بين عمير. معاذ ابن جبل. معاذ بن الحارث. معاذ بن الصمّة. معاذ بن عمرو. معاذ بن ماعص. معبد بن عباد. معبد بن قيس. معتب بن عبيد. معتب بن عوف. معتب بن قشير. معقل بن المنذر. معمر بن الحارث. معن بن زيد. معن بن عدي. معوذ بن الحارث. معوذ بن عمرو (123 أ) . المقداد بن الأسود. مليل بن وبرة. المنذر بن عمرو. المنذر بن قدامة. المنذر بن محمد. مهجع بن صالح.

الكنى 32

حرف النون 10 نضر بن الحارث. النعمان بن الأعرج. النعمان بن سنان. النعمان بن عمرو. النعمان بن عبد عمرو. النعمان بن خرملة. النعمان بن عصر. النعمان بن مالك. نعيمان بن عمرو. نوفل بن عبد الله. حرف الهاء 3 هانىء بن نبار. هبيل بن وبرة. هلال بن المعلى. حرف الواو 5 وافد بن عبد الله. وديعة بن عمرو. ورقة بن إياس. وهب بن أبي سرح. وهب بن سعد. حرف الياء 6 يزيد بن الأخنس. يزيد بن الحارث. يزيد بن حرام. يزيد بن رقيش. يزيد بن السكن. يزيد بن المنذر. الكنى 32 أبو أيوب الأنصاري. أبو الأعور. أبو بكر الصديق. أبو حنة. أبو حبيب. أبو حذيفة. أبو حسن الأنصاري. أبو خارجة. أبو خلاد. أبو خزيمة. أبو داود. أبو دجانة. أبو سبرة. أبو سليط. أبو سلمة. أبو سنان (123 ب) أبو شيخ. أبو صرمة. أبو ضياح. أبو طلحة. أبو عبيدة بن الجراح. أبو عقيل. أبو قتادة. أبو كبشة. أبو لبابة. أبو مخشن. أبو مرثد. أبو مسعود. أبو مليل. أبو الهيثم. أبو اليسر. رضوان الله عليهم أجمعين. [حمص] وتليها مرحلة حمص، وقبل وصولها مقدار حد الفوت. عدلنا عن يسارنا إلى زيارة سيف الله وأسده البطل الصنديد، سيدنا خالد بن الوليد «1» صاحب رسول الله صلى الله

عليه وسلم، فقرأنا ما تيسر من القرآن، ودعونا لنا ولمحبينا. ثم دخلنا حمص ضحى يوم الجمعة، الثامن عشر من الشهر المذكور، ونزلنا في الخان الذي عند بابها «1» ، وهو خان كبير مشتمل على خانات، فاذا دخلت بابه رأيت صحنا كبيرا واسعا في أطرافه حجر لأبناء السبيل، وعن يمين الصحن باب كبير فيه خان فيه أواوين وحجر واصطبل، ومقابل الوجه باب كبير أيضا فيه أواوين وحجر أيضا، وجدول ماء صغير متشعب من العاصي، وعن يساره صحن طويل يشقه جدول من العاصي (124 أ) ، وعليه ناعورة صغيرة، وفيه مزار يقال إنه قبر مبارك بن عوف، وقيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما «2» . وصلينا الجمعة في جامعها الكبير، وهو جامع كبير في صحنه بركة، وعواميد سمّاقيّة «3» ملقاة مطروحة على الأرض، وأعلى المصلى مسقف بالخشب، وظاهر البناء يدل على أنه كان عقدا، فأخبرت أن تيمور الخبيث هدمه «4» . وعلى باب الجامع المذكور، من خارج كتابة فيها اسم الباني، وهو السلطان المالك الملك، المجاهد، المرابط، المؤيد، المنصور، أسد الدنيا والدين، ملك المسلمين أبو الفتح شير كوه بن محمد بن شير كوه «5» ناصر أمير المؤمنين، في

[حسية]

شهر رجب سنة ثمان وتسعين وخمسمائة «1» . وصليت في هذا الجامع صلاة العصر بجماعة، ونويت الاعتكاف فيه أيضا. وفي داخل المصلى عواميد من الرخام في غاية الغلظ والطول، وهي سبعة عشر عامودا، طول الواحد نحو أربعين شبرا، ودوره قدر ما يحضن الإنسان مادّا يديه بمرة ونصف. ودخلت جامعا آخر، ونويت فيه الاعتكاف قدر ما يصح (124 ب) الاعتكاف. ومما منّ الله به عليّ أن زرت سيدنا أبا موسى الأشعري «2» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزرت قبر عمرو بن أمية الضمري «3» ، [الذي] «4» يزعم أهل حمص أنه الصحابي المشهور، وأنه كان ساعيا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم أعرف صحة ذلك ولعله غير صحيح. نعم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى النجاشي «5» فلعل مرادهم بكونه ساعيا ذلك، وسمعت كثيرا أن أهل حمص أكرم وأود وألطف من غيرهم. [حسية] وتليها مرحلة حسية، بحاء مهملة مفتوحة، ثم سين مهملة ساكنة، ثم مثناة تحتية

[شمسين]

مفتوحة، وآخر الحروف هاء تأنيث، وهي قرية صغيرة لها خان كبير لأبناء السبيل «1» ، فيه جامع يخطب فيه، وفيه بركة ماء كبيرة، وخارج القرية بركة أكثر من عشر في عشر. وشرب أهل القرية من عين عذبة صافية، وحول القرية بساتين من سائر الأشجار، والمسافة تسعة فراسخ. [شمسين] ومررنا في طريقنا على شمسين، بوزن نسرين، وهي قلعة صغيرة «2» . [النبك] وتليها مرحلة النبك «3» ، بفتح النون وسكون الموحدة التحتية، (125 أ) [و] في آخر الحروف كاف كقاف العرب، وهي قرية كبيرة، شربها من عين أعذب من الأولى، وحواليها بساتين كثيرة، وبظاهرها خان كبير لأبناء السبيل، وفي داخله خانان للشتاء، وفيه جامع خطبة. اعتكفت فيه نحو نصف ساعة، وجمعت بين الظهر والعصر فيه، والمسافة اثنا عشر فرسخا.

[بريج]

[بريج] ومررنا في طريقنا على بريج «1» ، تصغير برج. وهو قلعة صغيرة. [قارّة] وعلى قاره، بخفيف الراء «2» وهي قرية فيها جامع خطبة. [القطيّفه] «3» وتليها مرحلة القطيّفه، بتشديد الياء المكسورة، تصغير قطيفه. نزلنا في الخان «4» ، هو

[دمشق]

كبير واسع، وفي باطنه خان آخر فيه بركة ماء أكثر من عشر في عشر، وفيه أيضا خان آخر للشتاء، وفيه مراحيض يجري الماء إليها بسواق فيسوق النجاسات، وفي صحن المراحيض بركتا ماء جار، وفي الخان جامع كبير. يخطب فيه، وله والجوامع المتقدمة منارات، صليت فيه، وجمعت بين الظهر والعصر جمع تقديم، ونويت الاعتكاف فيه. وفي هذا الخان قلعة صغيرة وخانقاه يصنع فيها طعام للمسافرين، واليوم إنما يطعمون الظلمة، وللمتولي (125 ب) بيت فوقاني ذو شبابيك تطل على البر والبساتين، مفرح في غاية حسن الموقع «1» ، وقف جميع ذلك سنان باشا «2» رحمه الله تعالى. [دمشق] وتليها مرحلة دمشق. دخلناها ضحى يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شعبان «3» ، والمسافة تسعة فراسخ. ونزلنا في دار سيدنا ورفيقنا في الطريق الحاج مصطفى بكداش الحلبي ثم الدمشقي، وهو الذي أوصاه فينا في حلب إسماعيل آغا ميرو زاده «4» فأكرمنا في الطريق غاية الإكرام، وأعزّنا فوق ما يرام منذ خرجنا من حلب إلى دمشق، فما أحوجنا إلى أكل وشرب في الطريق، بل إنه يطعمنا الأطمعة الفاخرة، وكلما وجد من المأكولات في المراحل اشتراه لنا، وأطعمنا إياه، وخدمنا بنفسه وولديه النجيبين السعيدين الأمجدين سيدي ذي المفاخر محمد شاكر، وسيدي ذي الطبع الباهر الأعز عبد القادر، وبأخيه الأنجب الأكرم السعيد

سيدي محمد سعيد، فو الله الذي لا إله إلا هو، عالم السر وأخفى، أنهم خدمونا وأكرمونا، وأعزونا بحيث لو كانوا «1» أولادي لما حصل لي منهم ما حصل، بأخلاق (126 أ) رضية، وطباع سنية، ورقة ولين جانب، مع البشر وطلاقة الوجه، حتى إن الحاج مصطفى بكداش مع- جلالة قدره- بنفسه يركبني الدابة، وينزلني منها، وبنفسه يسقيني الماء وقهوة البن، وكل وقت وساعة يسألني عن حالي ويمتن، حيث وفقه الله لخدمتي، ولم نزل نحن ضيوفه منذ دخلنا الشام إلى أن توجه الحاج، كل ليلة يعشينا في بيته، وإذا خرجنا من داره، يشيعنا إلى آخر الزقاق، وهو يحمد الله على أن وفقه لأكرامنا، ويحث علينا، ويؤكد بالعود الليلة الآتية كل ليلة، هذا دأبه فما والله نسي هذه العادة، ولا ذهل عنها، حتى إنا انقطعنا ليلة من الليالي فتألم كثيرا، وعاتبنا معاتبة كثيرة، وقال: والله الدار دار كم ونحن خدامكم، وو الله إنا نتأنس بكم، ونتشرف بقدومكم. فإذا رأى منا البطء، عيّن ولديه النجيبين وأخاه السعيد يفتشون علينا، فو الله إني لا أستطيع حصر أوصافه، ولا ضبط مكارمه وألطافه، جعله الله وولديه وأخاه من سعداء الدارين بمحمد المصطفى سيد الكونين (126 ب) والثقلين والفريقين، وجعل داره معمورة بالمسرات، مغمورة بالنعم والمبرات، وجزاه عنا خير الجزاء، وأسبغ عليه النعم والآلاء. وأما صاحبنا صالح أفندي دقوز زاده الموصلي «2» فإنا، منذ دخلنا دمشق إلى أن توجه الحاج، نبيت في داره، وفي بعض الأوقات نتعشى عنده، وكل ليلة من ليالي رمضان ندخل داره المعمورة بعد صلاة التراويح، ولم يزل يعللنا «3» ويسامرنا وينادمنا، ويذكر لنا أحوال الغربة، ويسلينا وينصحنا إلى أن يأتي وقت السحور، فيخرج لنا الألوان من الأطعمة الفاخرة، ونكرر فناجين قهوة البن إلى أن يقرب زمن نومنا، فيدخل إلى حرمه، وكل ليلة بل كل ساعة يقول: والله إن هذه السنة مباركة علينا، ولم يحصل لي

سرور، [في] عمري قط، مثلما يحصل لي سرور بمحبتكم، وكل ليلة يعيّن لنا قريبة الشاب الصالح العابد الناسك الأواه «1» ، سيدي الشيخ عبد الله، فيأتي نحو باب الجامع، ويؤكد علينا بالمجيء إلى الدار، حتى إنا إذا أبطأنا يتألم كثيرا ويعاتبنا، ويقول: والله، ثم والله! إني إذا لم أركم تنقبض نفسي، وتضيق (127 أ) بي الدنيا، ولكم إذا جئتم عليّ منة عظيمة، حيث إن الله وفقني لخدمتكم، وهو- حفظه الله- تغرب كثيرا، وجاب البلاد، فكل ليلة يسامرنا وينقل لنا الوقائع الغريبة، والحوادث العجيبة، حتى يمضي من الليل ثماني ساعات، ولم يزل هذا دأبنا ودأبه إلى أن خرج الحاج، حتى والله إني أعد بيته أحسن من بيتي، وإكرامه أحسن من إكرام أولادي، فلم يزل يشهينا بالأطعمة الفاخرة حتى تأنست في بيته، بحيث إنا ننام بعد أن نصلي الفجر إلى أذان الظهر، كأننا في بيوتنا، متقيد علينا بكل ما نحتاجه حتى غسل ثيابنا، ويخدمنا بنفسه ما عدا خدمة ولده السعيد النجيب سيدي محمد آغا، أنشأه الله على الأخلاق الحميدة، والنعوت الجليلة السديدة، وجعله سعيدا ذا إقبال وافر، وسعد ظاهر زاهر، وأمد الله في حياة الجميع، وحصنهم بحصنه الحصين المنيع، فوالله لو انفقت عمري ما أستطيع مكافأته، بل ولا العشر منها، فالله تعالى يكافئه ويجازيه «2» ويعافيه، وكذلك أخو زوجته الشاب الصالح سيدي الشيخ عبد الله حفظه الله وأبقاه، فإنه- والله- خدمنا خدمة ما خدمني بها أولادي (127 ب) ، مع مودة ومحبة ولين جانب ورقة طبع، جعله الله من السعداء، ومنحه النعم الوافرة، وسوابغ الآلاء، آمين، وكتبت منها «3» عدة كتب، كتابين لولدي وأهلي، وكتابا لحسين بك، وكتابا إلى الحاج محمد هاشم، وكتابا للسيد يونس الأدهمي، وكتابا لعبد الله آغا ميرو زاده، وكتابا لأولاد عجمي

زاده، لكني ما قيدتها في المسودة لضيق الوقت، مع أن غالبها مشحون بالسجع البليغ، والنظم الحسن. وكتبت كتابا إلى حلب لسيدى الشيخ محمد الطرابلسي، وصورته: تحيات دلت بالمطابقة على الاتحاد، وتضمنت وجوب مراعاة الوداد، تلازمها أشواق كلية الإيجاب، سالبة الذهول عن ادّكار «1» الأحباب، لا يقاس عليها إذ لم يقارنها في المحاكاة قياس اقتراني، ولا يشذ فذ عنها لشمولها، فأين القياس الاستثنائي، تقدم بين يدي مصدر «2» الأفعال الصحيحة السالمة عن الإعلال، المجردة عن نقص الجهل، فهو المرفوع على منصة التميز في كل حال، نصب نفسه للإفادة، فانخفضت بالإضافة إليه وقائع (128 أ) الأحوال، العالم الذي جمع علماء العصر تحت لوائه، والفاضل الذي اهتدت الفضلاء بنور تحقيقه وضيائه، فلو أدرك عصر التفتازاني، والشريف السيد الجرجاني، لما شاع ذكرهما في الأقطار، بل كان هو الحري دونهما بالاشتهار، ينشدنا لسان حاله وهو الصادق، وإن كان لسان مقاله ليس بناطق: علامة الدنيا على الإطلاق، وفهامة ما تحت الخضراء بالاتفاق، علامة العلماء، واللج الذي لا ينتهي، ولكل لج ساحل، شيخنا العلم المفرد، والجهبذ الأوحد، الشيخ الجليل السيد محمد، لا زالت أظلة رفادته على الطالبين، وريفة، وأعلام تقريراته شامخة سامية منيفة، أما بعد فيا أيها العالم الذي لا يجارى، والحبر الذي لا يناوى ولا يمارى، إن الأشواق زفيرها، تأجج، وسعيرها تضرم وتوهج، لم تألف جنوبي المضاجع، منذ (127 ب) نفدت من عيوني المدامع، شوقا إلى تلك الربوع الزاهرة، ونزوعا إلى تلك المغاني التي هي بالمسرات والافراح مغمورة عامرة. فلله درها من بلدة لا عيب فيها سوى أن الغريب ينسى أوطانه، ولا وصم فيها سوى أن

الحزين يسلو أحزانه وأشجانه. طالما جررت بها ذيول الأفراح، وطردت بنزهتها جيش» الأتراح، وكانت عين الزمان عنا عمياء، فلم نخش رقيبا، وكان العيش غضا صافيا، ودهرنا مطيعا مجيبا، فبددت شملنا غدرات الزمان، وأبانتنا عنها خطوب الحدثان «2» ، فاليوم لا نشاهدها إلّا بعيون الخيال، ونسوّف بالعود إليها، (128 أ) وهو محال. فأباننا عنها الزمان بسرعة ... وغدت تعللنا بها [الأيام] «3» إلى الله أشكو من دهر إذا أساء أصر على إساءته، وإذا أنعم ندم عليه من ساعته. ولما غلب الوجد عليّ، أنشدت ما حضر لديّ، لكن لضيق المقام، لم يبلغ التمام. دار بها الدين والإسلام مشتهر ... والعلم فسطاطه في ربعها نصبا فيا له جامعا «4» تمحى الذنوب به ... فضلا ويعفى عن الإنسان ما اكتسبا والمأمول من الشيخ الجليل تبليغ الأدعية المستجابة، والأثنية المستطابة، حضرات مشايخنا الكرام، وأساتيذنا الفخام، أفراد الدهر، وأفذاذ العصر «5» ، ذوي التحقيق، والنظر الدقيق، العلماء العاملين، والنسّاك العارفين، بحور الفنون الزاخرة، (129 أ) وشموس العلوم الزاهرة، شيخنا الشيخ علي أفندي المفتي، وأخويه الشيخ عثمان والشيخ يوسف، والشيخ طه الجبريني، والشيخ عبد الكريم الشراباتي وأولاده، والشيخ السيد حسين الديري، وأخيه وابنه، والشيخ محمد الزّمار، والشيخ السيد عبد الكافي، والشيخ السيد عبد السلام الحريري، والشيخ عبد القادر الديري، والشيخ قاسم البكرجي، والشيخ «6» السيد علي

العطّار، والشيخ الصالح الشيخ محمد المواهبي القادري، والشيخ عبد الغني المقدسي، والشيخ فتيان، والسيد محمد قزيزان، والشيخ محمود الكردي، وسيدنا النجيب السعيد مخدومنا ولد كم السيد مصطفى، بلغه الله منازل أجداده الشرفا. ثم إني ذكرت نبذة مما حدث في دمشق، وجاءني من حلب، من السيد محمد الطرابلسي كتاب صورته: أربت قضايا تحيات، موجبة لدوام المحبة، غير منحرفة عن قانون الصداقة والصحبة، أحكمت دلائلها فلا يعتريها نقص ولا إبطال، ولا يحوم حول حماها قلب دليل ولا نقص إعلال، أسوار إخلاصها «129 ب» موجبات «1» كلية، وإشكال اختصاصها مبرهنة بالدلالة العقلية، أحاط بها محدد الاتحاد بميله المستدير على شكل «2» الوداد، المركب من الهيولى القلبية، والصور الجسمية والنوعية، المتحركة دواعيها بالحركة الكمية، زيادة لا ذبولا، الآخذة بمجامع القلب مكانا طبيعيا، فزاد الجسم نحولا، أدارت دواعيها بالميل الطبيعي على الدوام، فلا يعتريها خلل ولا انخرام، مبرهن على ذلك بأقيسة اقترانية، مقدماتها صدق المقال وإخلاص الطوية، غير أنه على إحكام أشواقها لا يقاس، لأنها مخصوصة تحاشت عما به الالتباس، فلذا حق لها أن ترفعها يد الابتداء إلى منصات «3» نصبتها يد الحال للتمييز والاهتداء، كي تجر منها بإضافة الرد إلى فاضل ليس له ند، مخصوص بكنه علم لا يحد، ومزايا نكات لا تعد، تعجز الكاتب أوصافه، ويناديه بالعجز إنصافه. لا يدرك الواصف المطري خصائصه. فعند ذلك يرفع راحة الآمال، إلى الله الملك المتعال، (130 أ) بأن يبقيه ماجدا يثبت المسائل بالدلائل، ويكبح المعترض ويجيب السائل، ويسفر عن وجوه الإعجاز بيد تحريره، ويوشّح صفائح البيان ببنان تقريره، مكالمته، تغني اللبيب عن المغني «4» ، وإعلالاته تكيد

المكودي «1» ، وتلطش «2» ابن جني «3» لو سمع تقريره سيبويه «4» لعض بالنواجذ عليه، ولو عاصره السعد «5» والجرجاني «6» لكان الأول وأحدهما الثاني، فلله دره كم نثر في الشهباء درا، ونظم عقود علوم صارت له ذخرا، وأنعم الأذان فضلا، وأزال بقدومه عن أهلها جهلا، وبين أن في الزوايا خبايا، وأظهر أن الفضل من أعظم العطايا امد الله ظلال حياته، وأمدنا بوافر بركاته، كما أنه أنعم بذلك البرد «7» المحبر، بل العقد المجوهر، الذي سمطه «8» سحر البيان، ودره على غاية الإتقان، فحق له أن يقلد به الأعناق، ويقع على تفرده الاتفاق، فعرض به العبد في المواكب، وهز من طرب به المناكب، وبلغ كل ندب «9» منه سلامه، واستحسن كل أديب نظامه، وكل واحد منهم على انفراده يخص المولى بأنواع التحية البهية، وأجناس الأدعية المرضية، خصوصا الفاضل الكامل، زين (130 ب) الدروس والمحافل، جناب أخينا المكرم الشيخ طه، فإنه مقيم على وده، حالتي قربه وبعده، غير أني فهمت منه نوع عتاب، بعدم تخصيصه بكتاب، وهو واصل إليكم فاعتذر بالذي تراه عذرا،

[زيارة المراقد]

وإن لم تكف هذه الفتنة منا نعقبها بأخرى، وقد حضر تسطيره فخر الأماجد، حاوي المحامد، الجناب المكرم، والأعز المحترم، حضرة حمزة آغا «1» محصل حلب، يبلغكم جزيل السلام، وكذا حضره فخر الأماثل علي آغا، وأخواه المحترمان المكرمان حضرة أحمد آغا المكرّم وخليل أفندي المحترم، يبلغونكم أنواع التحية، وكذلك السيد محمد آغا الصادقي، يعرض لديكم أنواع السلام، وجناب زين الأفاضل محمد آغا زاده، يخصكم بجميل الدعاء وجزيل السلام. وممّن زارنا الشيخ العالم الصالح الشيخ حيدر بن محمد الكردي الصوراني «2» . وممّن زارنا الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد القادر المعروف بابن قزّازة الحلبي ثم الدمشقي. [زيارة المراقد] وزرت سيدي نبي الله يحيى بن سيدنا زكريا «3» ، على نبينا وعليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام. وزرت أيضا أم المؤمنين أم حبيبة رضوان الله عنها «4» (131 أ) وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها «5» ، وسيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما «6» ، وسيدنا

بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» ، وسيدنا محمد بن محمد البارزمي، وسيدنا عبد الله بن زين العابدين «2» ، وسيدنا أويس بن أويس الصحابي «3» ، وسيدتنا أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما «4» ، وسيدنا الملك العادل نور الدين الشهيد «5» ، وسيدنا عبد الملك بن زيد التغلبي الدولعي «6» . وممن صاحبنا وأكرمنا وأعزنا السيد السند الحسيب النسيب، ذو النسب الشامخ، والحسب الباذخ، فرع الشجرة الهاشمية، وغصن الدوحة الفاطمية، السيد أحمد العطار ابن

السيد مصطفى المعروف بابن نقطة «1» ، المتصل نسبه إلى إدريس الأصغر المغربي ابن إدريس الأكبر، فهو- حفظه الله- رقيق الحاشية، لين الجانب، أخلاقه عنبرية، وألفاظه درية، ما دمنا في دمشق نجلس في دكّانه، فيفيدنا من إحسانه، له ظرافة ولطافة وعفة نفس وشمائل رضية «2» ، وسمات سمية، وله مزاح ومداعبة ومباسطة ومطايبة، جعله الله سعيدا في الدنيا والآخرة. وممّن دعانا في رمضان إلى (131 ب) الضيافة في بيته السيد الجليل السيد محمد ابن السيد محمد ابن السيد يحيى ابن نقطة عم السيد أحمد العطار، فصنع لنا ضيافة حسنة ذات ألوان من الأطعمة، جزاه الله خيرا. وممن دعانا في رمضان إلى الضيافة في بيته الحاج عثمان الكرجي «3» مولى الحاج يونس اللاز الموصلي ثم البغدادي جزاه الله خيرا. وممن دعانا في رمضان إلى بيته الشيخ محمود الدركزيني «4» جزاه الله خيرا. وممّن دعانا في رمضان إلى بيته الشيخ محمد إبراهيم ابن شيخ مشايخنا الشيخ عبد الله العجلوني العمري «5» ، جزاه الله خيرا. واجتمعنا في مسيرنا من حلب بالعالم الفاضل الملا أحمد اللزك الداغستاني قاضي اللزك «6» ، وطلب مني أن أقره في شرح هداية الحكمة للقاضي حسين، فاعتذرت بضيق

الوقت وتشوش «1» البال. واجتمعت مرارا بخليل المجذوب، وهو مسلوب العقل، فتارة يضحك، وتارة يغني، وتارة يشتم، وتارة يمدح، غير مضبوط الحال، وسألناه الدعاء، ولأهل دمشق فيه اعتقاد كثير. وممن اجتمعنا به في دمشق الشام مرارا عديدة في دار صالح أفندي الموصلي (132 أ) سيدنا تاج الدين ابن العالم الفاضل أبي الغيث الشيخ عبد الرحمن المؤقت والمدرس والخطيب في المسجد النبوي، أخذ الحديث عن الشيخ أبي الحسن السندي، والعربية والمعقول عن الشيخ سليمان المغربي المالكي، وعن الشيخ محمد بن عبد الله المغربي المالكي، وعن الملا شريف البرزنجي وغيرهم. وكتبت منها إلى حلب كتابا لإسماعيل آغا ميرو زاده، وصورته: دعاء تضمنت مبانيه الاستطابة، واحتوت معانيه على الاستجابة، بسطت له راحات التضرع والابتهال، إلى اللطيف ذي العظمة والجلال، بأن يديم حضرة الأمجد الذي لا تقرع صفاته ولا تضبط، وإن أسهب الواصف صفاته. ذا المجد المؤثل، والحسب المعنعن المسلسل، عين إنسان هذا الدهر، وإنسان عين أعيان العصر، حائز المفاخر والمآثر، وارث المكارم كابرا عن كابر، ولا بدع في اتصافه بمحاسن الأخلاق، ولا غرابة في اتسامه بما ملأ الآفاق، وضاق عنه النطاق، وتحلت به الأوراق، لأنه من قوم امتطوا غارب المجد وسنامه، وعلوا هضاب الفضل وآكامه، (131 ب) طابوا محتدا، وزكوا مولدا، فلا أحد في هذا العصر يدانيهم، ولا في المفاخر يناويهم، ولذا نظمت فيهم، وإن لم أبلغ معشار ظاهرهم وخافيهم. ألا وإن عقدهم الفريد، وعين قلادة الدر النفيس، السيد الجليل، والأمجد النبيل، أبا المعالي ابن ميرو إسماعيل، لا زال الإقبال ثاويا ببابه، ولا برح السعد مقيما في رحابه، أما بعد، فالمفروض، غب الدعاء المفروض، (133 أ) أن هذا الداعي لم يزل لسانه رطبا بذكر كم، يستنشق من الأرواح إذا هبت طيب نشركم، يلهج بالأدعية لذلك الجناب المستطاب، متشوقا إلى أن يعفّر محياه بصعيد هاتيك

[طبقات أهل دمشق]

الرحاب، فالله أسأل، وعليه المعول، أن يديم ظلكم الوريف، ويشيد ركنكم الحصين المنيف، ويسبغ عليكم الآلاء والنعم، ويدفع عنكم اللأواء والنقم آمين، ثم ذكرت له بعض الأحوال التي حدثت. [طبقات أهل دمشق] وأما أهل دمشق الشام فهم على ثلاث مراتب، أما المرتبة السفلى فهم أجلاف جفاة لا دين ولا مروءة، وهم الينكجرية «1» ، ومن كان على طريقهم من الأراذل الأنذال، وأما الطبقة العليا من أكابر وعلماء ومشايخ طريق فهم فراعنة كذابون مراءون، لا علم ولا عمل، أما المتصوفة فلهم طريق إلى جلب الدنيا، يودّون أن كل أحد يقبّل أيديهم ويأخذ عنهم الطريق، ولا يبالون بأحد، يظهرون للعوام أنهم الهداة المرشدون، حتى لو قدر في الشاهد أن أويس القرني «2» ، أو حبيب العجمي «3» ، جاء إلى بلادهم، لمدوا أيديهم لتقبل ولا يعتنون بهما، وهذا من تلبيس إبليس عليهم، حسّن لهم كل شيء تنكره (133 ب) العوام وان كان فيه طاعة الله ورضاه، أنهم «4» يتركونه. الحاصل لهم حالة يجلبون بها قلوب العوام، ويموهون عليهم ويراؤنهم، فالذي تستحسنه العوام فعلوه، والذي ينكرونه تركوه، لا يثبتون لغيرهم صلاحا ولا فلاحا، ظاهر حالهم تنبىء على أنهم أفضل من الشيخ عبد القادر «5» ومحيي الدين ابن العربي، بل لو جاء إليهما «6» لمدوا أيديهم لتقبيلها، فمنهم من

إذا خرج إلى الصلاة يضع على عاتقه سجادة، ولا ترضى نفسه بأن يصلي على حصر المسجد، ومنهم من يلازم بيته لتزوره العوام وأهل الدنيا، وإذا وقع بأيديهم شىء ولو من مال المكس والظلم أخذوه وبلعوه. وأكثرهم جمع من الدنيا ما لا يوصف، أعاذنا الله من أفعالهم، وجانبنا ردىء أحوالهم آمين. وأما علماؤهم «1» ، فهم لا تحقيق عندهم ولا إتقان، حضرت درس الشيخ إسماعيل العجلوني «2» ، مرات، وحوله جماعة من طلبته، كل واحد على رأسه عمّة كالفلك الأطلس، وهو يقرئ البخاري، وبيده شرحه الذي جمعه من عدة شروح، مجرد نقول لا محاكمة فيه ولا تحرير معنى، ولا (134 أ) ضبط مبنى، بل إنّه ينقل عبارة بعض الشروح ثم يعقبها بعبارة شرح آخر، ويكون بين العبارتين مخالفة، فما يرجح أحد القولين على الآخر، ولا يجمع بينهما، وتارة تكون العبارتان متفقتين فينقلهما فتؤول إلى التطويل من غير فائدة. ورأيت المملي يقرأ حديث البخاري قراءة خفيفة بهمهمة ودمدمة بحيث لا يسمع إلا نفسه، فيشرع الشيخ بقراءة الشرح من غير تقرير ولا تحرير، ولا حل إشكال ولا فلّ تركيب. وكنت اسمع عن أهل دمشق مدحه كثيرا بحيث إنهم يبالغون فيه غاية المبالغة، وهذه عادتهم مع علمائهم وصلحائهم يبالغون فيهم عكس بلادنا، فو الله إن أدنى طالب في بلادنا أفضل منهم، لكن هذا الشيخ أفضلهم على الإطلاق، وأصلحهم وأكملهم، له علم وتحقيق

في الجملة، إلا أن شهرته أكثر من علمه، وله إنصاف وافر. يستفيد ولو ممن هو أدنى منه. وبالجملة هو عالم فاضل ناسك كامل، يسلك مسالك العلماء السلف، لا دعوى ولا أنانية، إلا أنه لما كان أهل دمشق يبالغون فيه إلى حد الإغراق، يرى علمه أقل مما ذكروا، نعم لولا مبالغتهم لرآه الرائي عالما فاضلا نحريرا (134 ب) . ورأيت درس الشيخ (أحمد) «1» المنيني «2» ، فرأيته كالأول، بيده كراس القسطلاني «3» ويمليه من غير تقرير ولا تحرير، لكنه ملك من الدنيا شيئا كثيرا، مدخوله كل يوم ألف عثماني، وكذا الشيخ الأول، له دنيا واسعة ومال كثير، ولا أحد من الطلبة أو من الغرباء رأى بيوتهم، أو أكل منهم، ولو أتتهم الصدقات والزكوات أخذوها، ولهم طريقة يحافظون على أنفسهم لئلا يظهر جهلهم، وهي أنهم لا يؤالفون الغرباء ولا يخالطونهم ولا يلائمونهم، غلاظ شداد جفاة أجلاف، لا يسلمون لأحد، حتى هو يسلم لهم جميع الفضائل، فيسلّمون له بعضها، لكن هؤلاء الطبقة العليا منهم. وأما الوسطى فهم أهل تحقيق وتدقيق وملاءمة وسخاء وحسن أخلاق ورقة جانب، يطلبون الفائدة ويوقرون العالم ويحترمونه ويأخذون عنه، لكن لما غلب شهرة هؤلاء يرى الرائي بادي الرأي أنهم كلهم كذلك، فوا أسفا على علمائنا وصلحائنا! فو الله إن جهالنا أفضل منهم، وفسّاقنا أصلح من مشايخهم، ولهم هذه الثروة وهذا المال، وعلماؤنا مع تحقيقهم وفضلهم وصلاحهم (135 أ) لا يستطيعون ادخار درهم.

ومن أعجب ما رأيت فيها أن رجلا من عوامنا، ممن كان من أعوان الظلمة، في بغداد لا علم له ولا حال، إلا أنا كلنا نسمع أنه يتعلم الرمل والجفر، ولا يعرف شيئا منها، جاء إلى دمشق، وادعى المشيخة في الطريق، واتخذ شبكة وقلل الخروج من بيته، [و] كان يسمى أولا بحسن، والآن عندهم يسمى الشيخ حسن، فو الله إنه ما سأل عن حالي ولا زارني مع إلفتي معه في بغداد، ومعرفته بي غاية المعرفة. وما فعل هذا الجاهل لئلا يسقط قدره عند القوم ويقولون الشيخ حسن زار فلانا فالظاهر أنه أفضل منه، هذا الذي انطوت عليه نفسه الخبيثة، وكذا سائر من هو من أمثاله مثله، وقد سمعت من غير واحد أن لكل عالم منهم ولدا يتعشقه ولا يقرئ إلا إذا أحضر ذلك الولد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. والظاهر أن جميع علمائهم لا علم لهم لأني رأيت هذين الشيخين ومدحهما في دمشق الشام منشور، فكيف بمن لا ذكر له بل هو من تلامذتهم؟ فالظاهر أنه دونهم فإنا لله وإنا إليه (135 ب) راجعون. وأما المرتبة الوسطى فلهم رقة وديانة وصلاح وأمان وإكرام للغرباء وحسن ظن بالصلحاء، يواددون الغريب ويكرمونه ويجلونه، وهؤلاء أهل الحرف كالعطارين والبزازين والبقالين وبعض العلماء ومن ينحو نحوهم. ومن أغرب ما رأيت في دمشق الشام أن الزواني يدرن في الأسواق جهرا، ويخالطونهن السفهاء، ويأكلن في رمضان على ملأ من الناس، ومكانهن عند باب الجامع المسمى بجامع السّباهية «1» ولا أحد ينهاهن أو يزجرهن أو يزجر من يقبّلهن جهرا في الأسواق فإنا لله وإنا إليه راجعون «2» .

ومن عجيب ما رأيت فيها أن غالبهم، حتى الأولاد الذين [هم] أبناء ست سنوات، على رؤوسهم عمائم، كل عمامة أكبر من حجر القنبرة والمنجنيق، حتى رأيت بعض العوام عمائمهم كذلك. ولعلمائهم لباس نفيس من الفرى السمورية والسنجابية والقاقمية «1» وغيرها، بحيث يساوي مالا جزيلا. وأكثرهم لا يحسن [قراءة] «2» الفاتحة، وأكثر مصروفهم من الأوقاف، حتى إني سمعت أن في دمشق نحو ألف مدرسة أكثرها اندرس والباقي صار منازل للناس وأوقافها يأكلها هؤلاء الجهلة. ومما اعتادوه (136 أ) أنهم يذهبون إلى الدولة العلية، ويشتري [أحدهم] «3» له مرتبة تدريس على قانون علماء الأتراك، فيكتسب بذلك الكبر والظلم، ويتخذ له المماليك الحسان، وهو أجهل من حمار، فوا أسفي على علمائنا، فما أفقرهم وما أحوجهم وما أعلمهم وما أصلحهم، فو الله إن أدنى علماء دمشق يملك أكثر مما يملكه والي بغداد مع سعة إيرادها. وأما مشايخ الطريقة فأولاد الشيخ عبد القادر، الذين هم في الشام لهم مظالم ويتعاطون الربويات، ولهم بيوت صرفوا عليها ما لا يعد ولا يحصى، شاهقة نحو السماء، بحيث لو بناها فرعون لأنكر عليه، فوا أسفي على أولاد الشيخ الذين هم سدنة قبره وخدام ضريحه، فما أفقرهم وما أحوجهم وما ألينهم وما أودعهم وما أكرمهم رضي الله عنهم، وأما أولئك فهم أبخل من مادر «4» ، وأفجر من فرعون، لهم كبر وأنانية أعظم من نمرود، أعاذنا الله

[معالم دمشق]

من غضبه وعقابه. وأما المشايخ الذين هم غيرهم، فهم مراءون كذابون دجالون، يأكلون بدينهم، اللهم إلا أن يكون الصالح منهم مقبورا، ولهم أذكار في الجامع الأموي ما يشك أحد إذا رآهم أنها سخرية (136 ب) وملعبة، بل لا يفهم أحد ما يقولونه. ومن عجيب أمرهم أن النساء يختلطن بالرجال سحر رمضان، وكذا وقت التراويح، ومرة صليت التراويح في [الجامع] الأموي فرأيت الناس جلوسا بين الصفوف يتحدثون، والأولاد لهم صياح وعياط ولعب بحيث يشوشون على المصلين، فتركت الصلاة فيه من حينئذ. وهذا الجامع كبير واسع، في غاية الحسن من العمارة والنقش والأسطوانات والرواقات، بحيث يعلق في كل ليلة من رمضان نحو اثني عشر قنديلا كما قيل، وشهرته تغني عن تعريفه. [معالم دمشق] وأما أرض دمشق فإنها طيبة كثيرة المياه والأشجار، حتى إن المراحيض تجري فيها سواقي الماء فيذهب بالنجاسة ويستنجى به، وهي أرض مقدسة [فيها] مهاجر الأنبياء ومدافنهم، جنة من جنات الدنيا، إلا أن غالب سكانها البقر. ويوم عيد الفطر أخذنا صالح أفندي الموصلي إلى الصالحية «1» ، وبقينا في القصر العمادي من الضحى إلى العصر، وصلينا الجمعة في جامع سيدنا الشيخ محيي الدين بن العربي، ثم زرنا قبره الشريف، ودعونا لنا ولأحبابنا، وزرت قبر سيدي الشيخ عبد الغني (137 أ) النابلسي فصعدت على قصره، فرأيت الأشجار مد البصر من الجوانب الأربعة، حتى إن دمشق ترى كالشامة بين الأشجار.

وأما القصر العمادي فهو تجاه قبة النصر التي هي على ظهر جبل قاسيون، بناها الملك العادل «1» ، ناصر الدين «2» الذي دعا له الشيخ ابن العربي في مسامراته «3» . ودخلنا المدرسة التي بناها مقابل جامعه، فإذا هي من أحسن المدارس إلا أنها خربة «4» . وجبل قاسيون هذا فيه أنس ظاهر ونورانية، يقال إن فيه دفن أنبياء كثيرون وأولياء غير قليلين، ودخلنا المدرسة العمرية «5» ، وفيها ثلاثمائة وست وستون حجرة. وهي مدرسة عامرة ذات أوقاف كثيرة لا عيب فيها إلا أن العلم والتدريس مفقود بها. وأخبرني غير واحد أن في الصالحية مدارس عدد أيام السنة إلا أن أكثرها اندرس، وأوقافها يأكلها ذوو الرتب من أهل الجهل. وزرنا ثمة في سطح الجبل المغارة الجوعية نسبة إلى الجوع، قيل: إنه مات فيها أنبياء من الجوع، والحاصل أن الصالحية جنة من جنان الدنيا.

ورجعنا من الصالحية على طريق شجر الآس «1» ، فمشينا نحو (137 ب) فرسخ بين البساتين، فيا لله ما ألطف تلك البقاع، وما أوفر أشجارها إلا أنها وقعت لأناس أكثرهم من نوع البقر، وسبب ذلك- على ما قيل- أنهم مبتلون بالحلف بالطلاق كذبا، فتأتي أولادهم على هذه الصفة المذكورة، لأنهم ليسوا أولاد نكاح صحيح- أعاذنا الله من سوء العاقبة- وكل ما سمعت عني في ذم أهل دمشق فهو محمول على الغالب، وإلا ففيهم أناس أهل عفاف وإنصاف وديانة وأمانة وصيانة ورفقة ولين جانب وكرم وغير ذلك. وممن زارني الشيخ إسماعيل العجلوني شارح البخاري، جاء وأنا إذ ذاك مستقر في مدرسة سليمان باشا «2» ، فرآني نائما، فما استحسن إيقاظي، وجلس عند باب الحجرة ثم ذهب وقرضت على شرحه للبخاري المسمى بالفيض الجاري ما صورته: الحمد لله الباري على إنعامه الفيض الجاري، قوّى الضعيف المنقطع الغريب فأصبح عزيزا موصولا، وأهله بصحيح النية للعمل الحسن فكان بتواتر إحسانه المرسل مشهورا مأهولا، وشفى جرح اضطرابه بتعديل اعتقاده فلم ير بعد مضطربا معلولا، وأفاض (138 أ) عليه مسلسل رفده الذي ناف على الغوادي والسواري، والصلاة والسلام على المرفوع ذكره، المسند شرفه وفخره، المعنعن بطهارة الأصلاب نجره «3» ، المديح من الطرفين نسبه، السامي على الدراري، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء من غير تلبيس، وأعلام الاقتداء الموقوف عليهم الهدي النفيس، وحافظي الشريعة عن الشاذ المشهور المنكر، فلا إيهام ولا تدليس، فتابعوه صلى الله عليه وسلم متابعة شواهدها ظاهرة على الشموس في ذروة المجاري، وعلى من اقتفى آثارهم

في إيضاح المشكل، وتبيين الموضوع الغامض المعضل، ومحق المدبر عن الدين ونصر المقبل، ما دام يروي مسلم صحيح البخاري. وبعد، فقد وقفت على شرح البخاري المسمى بالفيض الجاري فألفيته قد جمع فأوعى، وحيصل «1» على الإيضاح واستدعى، تأبط جميع شرح الأول، وزاد في كشف المشكل وإيضاح المجمل، فإذا هو الجامع الكبير في الترجيح، ومشكاة المصابيح في الجامع الصحيح، أومضت بروق تمييز الروايات من خلال المباني فهي لوامع بوارق، وسطعت (138 ب) الداريات من آفاق المعاني فهي لها مشارق، فلعمري إنه الفيض الجاري، ولا غرو لأنه فتح الباري، وطئت مقاصده فكان الموطأ، ولا يشك مسلم بأنه كشف عن البخاري المغطى، فيحق لي أن أنشد فيه بعض ما فيه: كيف ومؤلفه الذي نظم تعبيراته في سمط التحقيق، وحبّر في تحريراته حبر «2» التدقيق والتنميق، شيخ البسيطة على الإطلاق، وزين الشريعة بالاجماع والاتفاق، (139 أ) ثالث الشيخين على اصطلاح الفريقين، حكم كتابه بأنه ألحق الأوائل بالأواخر، وقضى بأنه كم ترك الأول للآخر، علامة المعقول والمنقول، فهامة الفروع والأصول، جمع الفنون العديدة فانحازت إليه، وحرر التصانيف المفيدة فكان معول الجمهور عليه، فإذا الواجب على ما تحرر أن أنشد فيه بعض ما حضر: زفّ الحسان من البخاري جهرة ... كم مسلم في حسنها [منبهر] «3» ألا وهو الذي وضح الغوامض أتم إيضاح، وأفصح (139 ب) عنها أظهر إفصاح، الشيخ إسماعيل العجلوني ابن محمد جراح، وفقه الله للإفادة، ومنحه السعادة والسيادة آمين. اعلم أيها الناظر في هذا التقريض، أن الشيخ حري بذلك إلا أنه لما كان يبالغ فيه، يراه الإنسان دون ذلك بكثير، وإلا ففي نفس الأمر له فضل باهر، وصلاح ظاهر، نفعنا الله به،

آمين. وجاءني يوم السبت ثاني شوّال من ولدي كتاب، صورته: ما روضة تدفقت أنهارها، وأينعت «1» أزهارها، وكساها الحيا سندسي الأثواب، ونسج عليها الصبا أحسن جلباب، وفككت منها الجنوب أزرار الورود، فهتكت منه أستار الكبود، بل ما صدح العنادل «2» فوق الخمائل، وتغريد البلابل لدى الأسحار والأصايل، بأحثّ من سلام يهدى من محله إلى أهله، ويبلغ بلوغ الهدى الواجب إلى محله، ناف على النيرين إضاءة وبهرا، وسما على الفرقدين مكانة وقدرا: سلام لو تمثّل كان درا ... وياقوتا يقلب باليدين «140 أ» على من عنده روحي وعقلي ومسكنه سواد المقلتين سلام مزفوف بالتحيات، محفوف بالدعوات، بأن يديم الله سيدنا المقتدى بآثاره، المهتدى بأنواره، إمام محراب العلوم، مالك أزمة المنثور والمنظوم، أعلم من قضى وأفتى، وأفضل من تفرد في جميع العلوم، فدعا ابن الأثير «3» دونه في الأثر، وانفرد بصحة الرواية فمسلم «4» له صحة الخبر، وجنى ثمار البلاغة فسدّ على ابن الجوزي «5» طرق المجاز، وقطف أزهار البراعة ففتح على ابن معين باب

العواز «1» ، واعترف له ابن كثير «2» بقلة الجمع، وقال الفخر «3» لمعقوله: ما أنت وأدلة السمع، واكتسب عنه ابن مالك «4» الملكة العربية، وأقر ابن عصفور «5» بأنه ليست له حوصلة على هذه الفنون الأدبية، وأضحى مذهب الشافعية منصورا، وأمسى خبر مذهب النعمان عليه مقصورا، من أذعن لكثرة بحثه النادر شاه العجم، فظل طرفه ساهيا ولسانه قد انعجم، فسعى بالصلح بين الدولتين فحاز الفخار، (140 ب) والنجح في النشأتين، وحمل الشيعة على الإقرار بخلافة الصديق، وأنه الأفضل الأحق على التحقيق، نسأل الله أن يبقيه على رؤسنا تاجا، ويديمه لنفوسنا طريقا إلى الخير ومنهاجا. أعيذك بالمعوذتين أنّي ... أخاف عليك من نظر الحسود وبعد، فالمملوك يقبّل أرضا ترافعت على الفرقدين والسماك، أرضا تقاعست دونها الأفلاك، أرضا أضحت حلبة الأدب، ألا وهي أرض المحروسة حلب، أرضا تقبلها شفاه الأفاضل، ويقصد سوحها كل فاضل، أرضا تناخ بها يعملات «6» الرجا، وتحط بها رحال من

قصد وجاء، وكيف ينكر لها هذا الفضل، أو يكفر لها الشرف في مثل هذا الفصل، وقد أضحت مأوى للمولى القمقام «1» ، ومنزلا للنحرير الهمام، لا زال السعد له قرينا، ولطف الله له ناصرا ومعينا، آمين، أطال الله بقاء مولاي، إنه قد ورد علينا من جنابكم كتاب كريم حقيق بالإجلال والتكريم، نافت معاقله على الحصن الحصين، وفاقت جواهره على الدر، «141 أ» عذبت مناهله، وبهرت فضائله، إذا فاضل كان ذا القدح المعلى، وإذا ساجل كان ذا التاج المحلى، ذو النسب الذي امتطى كيوان «2» ، والحسب الذي دونه العيوق والسماكان «3» ، وزان «4» المعارف فاتسم منها بأجل صفة، ولا بدع! إذ منه عرف الوزن والمعرفة، إن البيت قد كتبت عليه نحو ما أمرتم، وأرسلته إليكم حسب ما أشرتم، فأقول: قليل خبر ثالث لقوله، هو في البيت قبله، وتعدد الخبر جائز على الراجح، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف على طريقة الاستئناف البياني، فكأن سائلا يقول: كيف حال هذا الرجل الجواب الملازم للأسفار في الفلوات والقفار، وأنه أشعث أغبر إذا ارتفعت الشمس حيال رأسه برز لها ليدفأ، وإذا جاء العشي آلمه البرد، فقال: هو قليل. انتهى. وظله فاعل للوصف لاعتماده على مخبر عنه، ويجوز على مذهب الأخفش والكوفيين أن يكون الوصف مبتدأ وظله فاعلا، أعني عن الخبر، وذلك لعدم اشتراطهم اعتماد الوصف على نفي أو استفهام. على ظهر المطية متعلق «141 ب» بالوصف فالظرف لغو، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من ظله قدّم عليه، فالظرف مستفر، واختلاف المعنيين على اختلاف المتعلقين لا يخفى على ذي عينين، سوى أداة استثناء، وما موصول حر في صلته نفى عنه الرداء، أو المفعول محذوف، أي نفى الرداء الشمس، والضمير المجرور، بمن عائد إلى رجلا في البيت الأول، والمستثنى منه أعم الأوقات والأحوال والمعنى أن هذا الرجل الجوّاب الملازم للأسفار، الذي

تقاذفت به الفلوات وترامت به الأقطار، هو أشعث أغبر لعدم استقراره في الحضر، وأنه من تراكم المشاق ضعف جسمه، ودق عظمه، وصغر هيكله بحيث صار لا يحجب الشمس إلا قليلا، المستلزم ذلك قلة ظله إذ كثرة الظل وقلته باعتبار كثرة الحاجب وقلته، فيكون ظله على ظهر المطية قليلا في كل وقت وحال سوى وقت وحال تنحية الرداء عنه للشمس، أي وقت لبسه الرداء، فيكثر الظل حينئذ لكثرة الحاجب، ولا يخفى أن هذا المعنى من المعاني التي تخبر عنها الشعراء من المقدمات الشعرية والقضايا «142 أ» الخطابية، فيبرزون الموهوم بصورة المحسوس تخيلات تقبلها النفوس، وتارة يحكمون بخفاء المحسوس المعلوم ويعدونه أقسام الموهوم، فمن ذلك مما يناسب ما نحن فيه قول سيدي شرف الدين عمر بن الفارض: خفيت ضنى حتى لقد ضلّ عائدي ... وكيف ترى العواد من لا له ظل «1» وقوله: «2» قد تركت الصّب فيكم شبحا ... ماله مما يراه الشوق فيّ وقول المتنبي: «3» كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي اياك لم ترني وقوله: «4» ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... من السقم ما غيّرت من خطّ كاتب وقولي من أبيات مقامتي التي سماها سيدنا الحسيب النسيب السيد مصطفى البكري الصديقي- حفظه الله تعالى- بالجامعة للأمثال العزيزة «5» الأمثال: صار يحكي شبحا ما له ظل، وفي غاب عن عواده مذ غدا ليس بشيء، أن يكون ما في البيت معرفة ناقصة أو نكرة

ناقصة، والجملة «142 ب» الفعلية أما صلة أو صفة، والضمير المجرور بمن عائد إلى ما، والمستثنى منه أما، الظهر مرادا به الأجزاء، أي أن ظله قليل على جميع أجزاء ظهر المطية، سوى الجزء الذي نحّى عنه الرداء، لأن الرداء يتجافى فيتسع الظل لكثرة حجب ضوء الشمس، فحينئذ يكثر الظل على الجزء الذي نحّى الرداء عنه ضوء الشمس لكثرة منع الرداء حينئذ ضوءها، الظل بناء على أن الإضافة استغراقية، والمعنى حينئذ أنه جميع افراد الظل على ظهر المطية قليل إلا الظل الذي نحّى عنه الرداء ضوء الشمس لكثرة منع الرداء حينئذ ضوءها المستلزم ذلك كثرة الظل، وذلك لما قدمنا من أن كثرة الظل وقلته باعتبار كثرة الحاجب وقلته، والمعنيان متلازمان، ويحتمل أن يراد بالظل نفس الشخص، والمعنى أن هذا الجواب الملازم للأسفار قد رق جلده ودق عظمه بحيث إن شخصه يرى على ظهر المطية قليلا أي صغيرا، إلا ما نحى عنه الرداء الفضاء فيرى في رأى الغير كثيرا كبيرا، وإطلاق القليل على الصغير والكثير على الكبير جائز بالاعتبار، والمستثنى منه يحتمل الأوجه السابقة كلها، وكذا لفظ ما يحتمل الاسمية والحرفية، وتشخيص المعاني على جميع التقادير (143 أ) لا يخفى على الناقد البصير. ثم أني وقفت على ما كتبه المنيني «1» فإذا هو بمراحل عن المعنى المراد والله تعالى أعلم. ودعانا إلى بيته مرة ثانية، فقضينا تلك الليلة بلذيذ المسامرة، من إنشاد شعر، وضرب مثل، وإيراد مسألة، فما رأيت أحفظ منه للغة ولأبيات العرب، كأن اللغة أوحت إليه بحفظ ديوان المتنبي وديوان أبي تمام وديوان الأرّجاني، ما عدا القصائد والأبيات الخارجة عن ذلك، وهي كثيرة بحيث لو جمعت لبلغت دواوين. وله- حفظه الله- نظم بليغ رائق قل أن رأيت مثله، فمن نظمه: أيها المعرض الذي قد جفاني ... ففؤادي في قبضة الوجد عاني صار دمعي يسابق اللفظ بالش ... كوى ويحكيه رقة في البيان كم عتاب أبديه حتى إلى الكا ... س واعذبه الذي قد عناني

بلسان من الدموع فصيح ... أرسلته عينان نضاختان يحمل الراح رقة فلهذا ... تتوارى بحلة الأرجوان قد براني جور الهوى وزماني ... ليس يرى فما اراه يراني «143 ب» أفلا رحمة لصب يقاسي ... من صروف الهوى وصنوف الهوان ليت شعري ومن تمنّى تعنّى ... ومحال لا شك بعض [الأماني] «1» فأرى ساعة من العيش تصفو ... لكريم من عربدات [الزمان] «2» ومن نظمه: عتا يعتو عتوّا فهو عات ... عسى يعسو فهو عاس «144 أ» مضاعف جهله باد وأدهى ... لنا المطوي تحت الاحتراس مضى في الصرف نقد العمر منه ... وما عرف الرصاص من النحاس ثقيل قاصر الادراك قاس ... غدا كالقوس من تحت القياس كأن كلامه في كل فن ... سهام في القلوب وفي الأناسي قريب غائب يقظان ساه ... متى يحفظ يحرف فهو ناس إذا ما قال قال أبو فراس ... حسبت الموت قبل الافتراس وكم عين أعلّ وضم لكن ... غدت منه البصيرة في انطماس مزيد في المجالس لا لمعنى ... ولكن للتثاؤب والنعاس فيلزم صرفه منها وجوبا ... يهز رأسه من غير باس ولا تدري لسوء اللحن منه ... أيشتم ام يشمّت للعطاس

وقال نظمت في التجنيس بيتا ... فقلت بيت عسل للجناس ولا والله ما هذا هجاء ... ولكن كان قولا بالتماس «144 ب» وذاك يكون إن عنيت شخصا ... بقصد أو عنيت بلا التباس وله غير ذلك أشعار رائقة ناصعة، ونثر فقراته فائقة رائعة، لكنها لطولها وضيق الوقت منع في كتابتها. ونزلنا في مدرسة سليمان باشا «1» ، وهي مدرسة في صحنها بركة ماء ولها حجر فوقية وتحتية، ولها طعام وخبز للطلبة وعلوفة في كل شهر، إلا أن العلم فيها معدوم، ومتوليها ومدرسها الشيخ المعمر الشيخ محمد التدمري، جلسنا فيها مدة، كل يوم مقدار ساعة أو ساعتين أو أكثر، ولم نبت بها إلا ليلتين، رحم الله الواقف على ما كان منه. وممن دعانا السيد هاشم الآلوسي، ودعا شيخه الشيخ عبد الرحمن الصناديقي «2» فاجتمعنا به، وإذا هو عالم فاضل محقق ناسك صالح ناجح راجح طلب العلم في الجامع الأزهر، ثم إنه طلب مني أن أكتب له إجازة الحديث وغيره، فكتبت له ما صورته: الحمد لله الذي قوى الضعيف بصحيح مستنده إليه، وأوصل المنقطع باعتماده الحسن عليه، والصلاة والسلام على المرفوع الذّكر بنص الذّكر، المشهور فضله، (145 أ) المتواتر نبله، والمسلسل فخره، والمعنعن بالطهارة بحرمة النبي المرسل من أشرف قبيل إلى أكرم جيل، وعلى آله وأصحابه الذين رووا عنه جميع الأحكام، وتابعوه متابعة شواهدها واضحة على مر الأيام، ما دار في القديم والحديث صيغة حدثنا في إسناد الحديث، أما بعد، فقد التمس بلا

أمر- وأمره واجب الامتثال- سيدنا الذي عزت به النظائر والأمثال، البارع الذي برع في سائر العلوم، الجامع الذي أحاط بمكنونات المنطوق والمفهوم، ذو التحقيقات التي دلت على طول باعه، والتدقيقات [التي] شهدت بافتضاضه أبكار المسائل، وافتراعه الذي اتفق الجمهور على أن عمله توفيقي، وفضله الباهر تحقيقي، زين الملة والدين، الشيخ عبد الرحمن الصناديقي، لا زالت أعلام إفادته منشورة، وتحرير عباراته بالإيضاح مشهورة، بأن أجيزه بما يجوز لي وعني روايته من كتب الحديث المشتملة على الجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء والمشيخات وغيرها، ومن كتب التفسير والفقه وأصوله وعلم الكلام والمصطلح (145 ب) والنحو والصرف والمعاني والبيان والعروض والمنطق والحكمة والهيئة والهندسة، وغير ذلك من منطوق ومفهوم، ومنثور ومنظوم، فأجزته بجميع ذلك بحسب ما اتصل عن مشايخي العظام وأساتذتي الفخام، بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، وإن هذا العبد الفقير لا يمكنه في هذا الوقت تفاصيل مسموعاته، ولا يسعه تشخيص جزيئات مروياته، اذ لا كتاب يعول «1» عليه، ولا مجموع يستند إليه، فإنه لقي من الغربة عرق القربة، فالواجب إذا الإتيان بما في وسع الاستطاعة، والانفاق على قدر البضاعة، فعن لي أن أجيزه بالأبيات المشهورة، والسندات المنشورة فقلت: أجزت المنوه بذكره بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني نزيل المدينة المنورة، المتصل إليّ بواسطة بعض الشيوخ، عن شيخنا الحبر الهمام، والفاضل القمقام، محدث العراقين، تذكرة إمام الحرمين، الملقب عند الحاضر والبادي، في كل نادي، بالخطيب البغدادي، شيخنا الشيخ خليل الخطيب «2» بجامع قطب العارفين، وسلطان الموحدين، الشيخ محيي الدين عبد القادر (146 أ) الجيلي- نفعنا الله ببركاته آمين- وأجزته بجميع ما تضمنه الثبت «3» المنسوب إلى الشيخ محمد بن سليمان

المغربي المالكي، المتصل إليّ عن المشايخ الكرام والأسانيد الفخام، سيدي أبي محمد الشيخ حسين، وسيدي الشيخ المحقق، نادرة العصر والأوان، وفريدة عقد هذا الزمان، سيبويه زمانه، وحافظ عصره وأوانه، الشيخ المشهور بكل مكان، شيخنا الشيخ سلطان بن ناصر الجبوري الخابوري، تغمده الله برحمته، وسيدي الشيخ المحدث الجامع، كاشف الأستار عن وجوه الغوامض ورافع البراقع، سيدنا الحري بالتكريم، أبي المواهب الشيخ عبد الكريم، وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ محمد بن عبد الله المغربي المالكي عن الشيخين عبد الكريم وحسين المتقدمين، وعن الشيخ العالم النحرير، والحبر الشهير، ذي الفنون الكثيرة، والتحقيقات الغزيرة، المحفوف باللطف القدسي، السيد السند الشيخ محمد الطرابلسي، فسّح الله في مدته، وأعاد على المسلمين عوائد بركته، آمين. وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ أحمد النخلي، المتصل إليّ عن جماعة، أشهرهم الشيخ «146 ب» الذي سارت بذكره الركبان والرواحل، وتحدثت بفضله في جميع الأقطار القوافل، إمام الدنيا على الإطلاق، وعلامتها بالإجماع والاتفاق، سيدي السيد الحسيب النسيب، السيد أحمد أبو الطيب، ابن أبي القاسم بن محمد المحمدي المغربي المالكي، المنسوب الى حمزة بن إدريس الأصغر- رحمه الله رحمة واسعة آمين- وصاحبنا ذو التآليف العديدة، والتصانيف المفيدة، الملقب بلا نكير بالسيوطي الصغير، زين الملة والدين، أبو بكر ابن شيخنا الشيخ الهمام والعالم العلام، مرشد الطالبين، وشيخ الإسلام والمسلمين، المشهور عند القاصي والداني، بأنه ابن حجر الثاني، الشيخ محمد بن عبد الرحمن الرحبي المفتي على المذهب الشافعي ببغداد دار السلام، لا زالت بأمن وسلام، وصاحبنا الذكي اللوذعي، والفاضل الألمعي، الفقيه الأصولي، الشيخ أبو محمد الحسين بن عمر الراوي، الملتجئ إلى الحرم المكي- رحمه الله رحمة واسعة آمين- وغيرهم، وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الله بن سالم، المتصل إليّ عن هؤلاء وعن (146 أ) الشيخين الإمامين، والحبرين البحرين، سيدي أبي عبد الله السيد محمد الطرابلسي، وأبي المواهب الشيخ عبد الكريم

الشراباتي- أمد الله في حياتهما آمين- وأجزته بجميع ما تضمنه ثبت الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، وثبت الشيخ منصور المنوفي، والشيخ عبد الله الكنكسي المصريين، المتصل جميع ذلك إليّ عن السيد أبي عبد الله محمد المذكور، وأجزته بجميع ما تضمنه الثبت المنسوب بالمراسلة إلى العالم الفاضل أبي بكر أفندي الشرواني «1» ، المتصل إليّ عن عمي العارف الصوفي، الملقب الشيخ المعروفي «2» الشيخ أحمد ابن سويد- رحمه الله رحمة تدفقت أنهارها، وتفتحت بالرضوان أزهارها، وأجزته بجميع ما أخذته عن الناسك الصالح الفقيه، العالم العامل النبيه، ذي النسب العالي، والحسب المتلالي، الشيخ علي الأنصاري، من بني النجار أنصار رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأجزته بجميع ما أخذته عن شيخي العالم الرباني، المعروف بأنه أبو يوسف الثاني، الشيخ حسين نوح الحديثي الحنفي- رحمه الله رحمة عامة آمين- وأجزته بجميع ما أخذته عن السيد السند الشريف، صاحب الفضل الوافر المنيف، السيد درويش (146 ب) العشاقي- عليه رحمة الله الباقي آمين- وأجزته بجميع ما أخذته عن سيدنا الجليل، والفاضل النبيه النبيل، السيد ذي المفاخر، الشيخ عبد القادر المكي الحارثي، وأجزته بجميع ما أخذته عن الصوفي العارف، والإمام الذي لا يستطيع حصر أوصافه واصف، ذي النعوت الجزيلة، والأخلاق الجميلة، الشيخ محمد عقيلة المكي الحنفي، ولا سيما مسلسلاته التي جمعها، وهي خمسة وأربعون مسلسلا- رحمه الله تعالى- وأجزته بجميع ما أخذته عن الشيخ المقري تذكرة أبي عمرو والكسائي، الشيخ محمد بن محمد المصري الشافعي، عن شيخه العلامة الشيخ إسماعيل البقري- رحمهما الله تعالى رحمة واسعة في الدين والدنيا والآخرة- وأجزته بجميع ما

أخذته عن ذي الفنون العديدة، والتصانيف المفيدة، الشيخ الفتح الموصلي، وأجزته بجميع ما أخذته عن البارع المحقق، والجامع المدقق، أبي الحسن يوسف الموصلي، وأجزته بجميع [ما أخذته] «1» عن مشايخي المتقدمين، مفرقا مما هو مقروء ومسموع، ومجاز ومرفوع، «147 أ» وهي الآن أكثر من عشرة. وأوصيه، ونفسي، بتقوى الله وطاعاته، في خلواته وجلواته وحركاته وسكناته، وأن يقول الحق ولو على نفسه، لا تأخذه فيه لومة لائم، وأوصيه إذا قرأ الحديث وسائر العلوم الشرعية أن يستقبل القبلة ولا يستدبرها كما يفعل جهلة المدرسين، وأن يجتنب، هو ومن حضر درسه، رفع الأصوات وكثرة اللغط، ولا سيما عند قراءة الحديث، بل يلاحظ في سره وعلنه كأنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأوصيه أن يستعمل الأدب «2» مع من يباحثه، وأن يسأل في الحادثة إذا أشكلت عليه ولو ممن هو أدنى منه، وأوصيه أن لا يماري السفهاء، وأن يكون جل قصده إظهار الصواب، وأسأله أن لا ينساني ومشايخي وأصولي وفروعي ومحبي من دعائه الصالح، وفقني الله وإياه لصالح العمل، وجانبنا الخطأ والخطل، آمين، وكتبه أبو البركات عبد الله بن الحسين بن ناصر الدين الدوري الشافعي المعروف بالسويدي، خادم السنة الغراء لدى ضريح قطب العارفين، ومركز دائرة الموحدين، سيدي محيي الدين الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره العزيز، ثامن (148 ب) رمضان عام سبع وخمسين ومائة وألف «3» . وزرنا الحافظ ابن عساكر «4» مرتين والحمد لله، وزرنا القبور السبعة، وهم فقهاء الشام، توفوا فيما بين الستمائة والسبعمائة. ومن عجائب دمشق السليمانية، وهو جامع بناه المرحوم السلطان سليمان «5» ، وهو جامع

جليل تحيط به البساتين من جوانبه الأربعة «1» ، في وسط صحنه بركة ماء واسعة فيها خمس فوارات، وفيه مطبخ يطبخ فيه الطعام، وله حجر متعددة، سقوفها قباب مطلية بالرصاص، وكذا قبة الجامع، وله منارتان حسنتان، والحاصل أنه جامع من عجائب الدنيا إلا أن مصلاه صغير، صلينا فيه الجمعة سادس عشر رمضان، ويتصل به مدرسة السليمانية، وهي ذات حجر كثيرة، في صحنها بركة ماء عشر في عشر، ذات فوّارات خمس، وموضع التدريس قبة واسعة تفتح شبابيكها على البساتين من الجوانب الأربعة «2» وجميع قباب الحجر وسطوحها مصفحة بصفائح الرصاص، بحيث إن الرصاص الذي فيها يقاوم «3» مالا عظيما لا يحصى، وسمعت ممن جاب البلاد أنه قال: ما في مملكة آل عثمان مثل هذه المدرسة، ولا عيب فيها سوى أن أصوات العلم فيها خامدة، ولا يصرف عشر العشر من أوقافها، وإنما يأكله (149 أ) الجهلة، نعوذ بالله من ذلك. وممن زارنا، ونحن في مدرسة سليمان باشا، الشيخ المعمر الفاضل، الناسك الكامل، ذو التحقيقات الباهرة، والتدقيقات الزاهرة، سيدي الشيخ عبد الغني الصيدوي مفتي الحنفية بصيدا ابن الشيخ العالم الشيخ رضوان- عليه الرحمة والرضوان- المفتي بها قبل ولده، واجتمعنا به أيضا في دعوة أخينا السيد الشيخ عبد الرحمن الطرابلسي الإمام بالدرويشية «4» للجماعة الحنفية، وحصلت بيننا وبين الشيخ عبد الغني المذكور مذاكرات في علم الفقه والمنطق والبيان، فإذا هو رجل فاضل، وعالم عامل، حتى قيل إنه مظنة الكرامة، حصل غالب علمه في الجامع الأزهر [حيث] مكث فيه إحدى عشرة سنة، أخذ الفقه

الحنفي عن الشيخ علي العقدي، والحديث والأصول والعربية والمنطق والكلام عن الشيخ منصور، والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، والشيخ أحمد الملّوي. واستجزت لأولادي المذكورين غير مرة، فأجازهم بجميع مروياته، ثم إني استجزته فأبى إلا أن أجيزه، فأجزته ثم أجازني، وروى لنا حديث الرحمة «1» ، وهو أول حديث سمعته منه. وروى لنا (يرحمكم) مرفوعا ومجزوما، وقال لي: فيه روايتان، (149 ب) الرفع والجزم «2» . وروى لنا حديث (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار) ، وقال: إنه من ثلاثيات البخاري «3» ورواية شيخنا الشيخ منصور (في النار) في الظرفية، ورواية ابن سالم (بمن) . وسألته الدعاء فدعا لي- حفظه الله- وسبب قدومه إلى دمشق أنه أراد السفر إلى الحج فلم بتيسر له وابتلى- عافاه الله- بالصمم فلا يسمع إلا الصوت العالي، وأكثر المخاطبة يفهمها بالقرينة والإشارة، جعله الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وممن لازمنا ملازمة التلميذ ووالفنا موالفة الولد لوالده الشيخ محمد ابن الشيخ مصطفى ابن الشيخ محمد العجلوني، فلم يزل ملازما لي ويسألني عن ما أشكل عليه من دروسه حتى كتبت على عبارة الفاكهي في شرح القطر «4» حيث قال: والفعل ما دل على معنى في نفسه واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة وضعا. وبيّنت فساد هذا التعريف من وجوه، ولم يزل يقول: والله إنه ليصعب عليّ مفارقتك، وإذا خطرت ببالي

يعتريني البكاء [و] وددت أني لا أفارقكم ففراقكم أشد علي من فراق روحي، وأتمنى أن تكون لي شيخا لأن هذا التقرير ما وجدته عند (150 أ) غيرك. وأضافني في بيته وكتب ورقة يودعني فيها وقال: لتكن عندك فإذا رأيتها تذكرني. وهذا أبو الحسن عمره أربع عشرة سنة له محيا زاهر، وجمال باهر، ما وقع نظري على أحسن منه، وهو فريد الجمال في دمشق مع أن حسن تلك الأقطار مشهور اشتهار الشمس في رابعة النهار. ولما خرجت ودعني إلى الخيام وعيناه تذرفان بالدموع ويقول: ليتني لم أعرفك، وفقه الله لصالح العمل آمين. وزرت قبر سيدي معاوية الأصغر «1» وقبر ابن الجوزي «2» ، وقبر بهلول المجذوب «3» ، وقبر الصابوني «4» . ولما دعاني السيد أحمد بن نقطة إلى بيته حدثني أن في دارهم الشهداء الشرفاء الثلاثة، وأنه لما عمروا الدار كشفوا عنهم فإذا هم لابسوا دروعهم وواحد منهم على نحره خنجر من خناجر المشركين رضي الله عنهم.

وزرت ذا النون المصري «1» والشيخ حسن الجباوي «2» والقطب الغوث الشيخ بهاء الدين «3» ، وقرأت الفاتحة لسيدي أويس القرني [الذي] قيل إنه مدفون في تلك المحلة «4» . وجاءني وأنا في دمشق كتاب من ولدي الشيخ عبد الرحمن صورته: والله ما أنا منصف لو أن لي عيشا يطيب وجيرتي غيّاب كيف والشوق أوهى جلدي، وفت هذا البعد «5» كبدي، وازداد منه وجدي وكمدي، كذلك القلب لا يصغي إلى أحد، شوق أجرى كبدي من عيوني، وأضنى جسدي وأكثر شجوني، أيم الله ما مر ذكر كم إلا وتنفست الصعداء، وما خطر بالبال رسمكم إلا وفاضت العبرات ممزوجة بالدماء، وما رأيت ذاتكم طيفا إلا قبّلت مضجعي ألفا، كرامة لمن زار على بعد المزار، ولا سيما يوم كتابتي لهذا الكتاب، والله شاهد، نائبا عمن غاب، أتشوق إليكم تشوق الصادي إلى الماء، وأتشوف أخباركم تشوف محب به برحاء «6» يا من هو السبب في إيجادي، وغاية مقصدي ونهاية مرادي، إن سألت عنا فالحمد لله، ولكن بغداد في قحط عظيم «7» ، وعام جدبه

عميم، أزال عن الناس تخم السنين الماضيات، حيث تروضوا على أكل اللقيمات، لا سيما وهذا رمضان قد أقبل، وذهب شعبان وقارب أن يأفل: رمضان أقبل والأنام أرامل ... قبلا فكل شهورهم رمضان إلى آخر كتابه (152 أ) . وجاءني كتاب من حلب، من الأكرام الأمجد إسماعيل آغا ميرو زاده «1» ، صورته: نحمد الله سبحانه الكريم المتعال، ونتوسل بأفضل رسول وأشرف آل، وأكرم أصحاب ذوي أفضال، أن ينفح تلك الذات العلية نفحة من نفحاته القدسية، ويحرسها بعينه التي لا تنام، من تقلبات الليالي والأيام، ويضاعف علوها وتفردها، ويزيد كمالها وسؤددها، ويخلد عليها صنوف النعم، ويجدد لديها ثمرات السؤدد والكرم. أما بعد إهداء تسليمات هن رياحين أفئدة المحبين، فالمعروض كثرة الشوق، والقلق والتوق، إلى مولانا العلامة الأوحد، والفهامة الأمجد، حلّال المشكلات بألطف تحريرات، واحد الدهر، وطراز حلّة المجد والفخر، فسح الله تعالى في مدة حياته، وبلغه الوطن مصحوبا بالسلامة، منعما بكامل مسراته آمين. وقد ورد كتابكم الكريم المرغوب، ووقع موقع قميص يوسف من أجفان يعقوب، فجدد أنسا وسرورا، وأصبحت به شاكرا مشكورا، والآن بسبب توجه ابن الأخ وباقي الأحباب والسادات والأصحاب إلى تلك الديار الشهية، ومشاهدتهم تلك (152 ب) الطلعة السعيدة البهية، حررت للجناب كتابي لينوب منابي، فإن المراسلة نصف المواصلة، وما بنا من ألم الأشواق، التي لا تطاق، يشهدها قلبكم الكريم، المعمور السليم، ونرجو عدم إخراجنا من فيض الخواطر الشريفة، وعدم إبعادنا من الصدور النيرة اللطيفة، وأن لا تنسونا من صالح دعائكم الصالح بتلك الأماكن المشرفة كما هو المأمول، وعلى الله القبول، والسلام عليكم ورحمته وبركاته. وجاءني من ولدي الشيخ عبد الرحمن نظم في ورقة منفردة، ومعها كتاب، وصورة

النظم «1» : الشوق لم تحصه الأوراق والكتب ... إلى الذي فاق من أفتوا ومن كتبوا مولاي ذي المجد يا من عزّه فخرت «2» ... به المكارم فاختالت به حلب تأبى المفاخر إلا أن تكون به ... مخصوصة وتراه ربها الرتب سامي الفخار مليك الجود أجمعه ... زاكي النجار إلى العلياء ينتسب «153 أ» علامة العصر بحر لا يناظره ... من الأنام فتى إلا وينغلب صبحا بصحن نظام الفضل منتصب ... يفيد علما لمن للعلم قد طلبوا «3» نجم رحى العلم والتوقيع تعرفه ... ودائرات القوافي أنه القطب إمام سنتنا الغرا وقدوتنا ... بحر طويل لإيجادي هو السبب بيت يحجّه أهل العلم قبلتنا ... إليه وجهت وجهي إن تكن إرب سابي الدقائق من علم ومن أدب ... به العويصات عنها ترفع النقب كثير بحث عليم في محاورة ... منه المسائل تستجنى وتكتسب ما ناظرته نحارير بمسألة ... إلا وأفحمهم في الحال فاكتأبوا لسانه شهد يشفى العليل به ... لكن على رائم «4» أبحاثه عطب (153 ب) يا والدي شمس أيام لنا سلفت ... عسى تعود فعنّا تنجلي كرب يا والدي هل أرى بغداد تجمعنا ... في دار عز بها الأفراح والطرب

فإن بحر اشتياقي صار منسرحا ... مني إليك ولكن موجه وصب وسفن صبري قد سارت على عجل ... ومهجتي وحشاشاتي بها ركبوا يا والدي بعدك الزوراء في ظمأ ... من العلوم فدع تروى بكم حلب يا والدي على هذا الدهر يجمعنا ... خير اجتماع به نال العدى غضب وعل يوما «1» ظلال» النخل مجلسنا ... في كرخنا وعلينا يسقط الرطب وأنت فينا كبدر لاح من شغف ... وإننا لك هالات ولا عجب تجنى ثمار علوم في التخاطب في ... أيدي التفكر والأذهان تنسكب من للمطول والتلخيص بعدك من ... أليفه كتب المعقول والأدب «3» (154 أ) يا والدي دم بذي الشهباء منشرحا ... بغداد في القبض إذ قد مسها سغب بسادة لخصال الجود قد جلبوا ... كرام أصل لثدي الفضل قد حلبوا قوم لقد شرف الله الوجود بهم ... أبناء مجد لهم خيم لهم حسب فوق السّماكين معقود منصتهم ... النجم يخدمهم والسبعة الشهب نهر المجرة أمسى موردا لهم ... وفاكهات السّما أكلا إذا سغبوا جبال علم على نفع الورى جبلوا ... شم الأنوف لأخلاق الندى جلبوا غر الوجوه لأصناف التقى طلبوا ... فأدركوها فيالله ما طلبوا لدى المحاريب تلقاهم نجوم هدى ... وفي الحروب إذا قامت هم الشهب

هم الكرام فلا الطائي يشبههم ... للضيف أنفسهم «1» إن رامها وهبوا تفردوا بخصال الفضل فاجتمعوا ... على التقى وإلى العلياء قد نسبوا بكأسها من عيون الجمع قد كرعوا ... وعين فرق بهم قد نالها نضب هم الملائك إلا أنهم بشر ... وجملة الصّيد إلا أنهم عرب وصورة الكتاب: ما شوق غريب بعد وطنه، ووجد أديب فارقه سكنه، بل ما شوق أعرابية بانت دارها، فبعد عنها هجوعها وقرارها، فحنت إلى بان الحجاز ورنده، وأخنت عليها المنية بسيف البعاد، وحد إفرنده بأكثر من شوقي إليكم الدائم، ووجدي عليكم الملازم. أتقلب في الطول والعرض، داعيا مبدل الأرض (155 أ) غير الأرض، بأن يعيد علينا ما منحنا قبلا، ويذهب الهم عنا كرما وفضلا، بالتمتع بجناب مولانا الأكرم، المستجار والملتزم، لا زال مرفوع الجناب مخفوض الأعداء، مجزوما باحتشامه من رب السماء، آمين، وبعد، فإن سألتم عنا فالحمد لله المتعال، كثير الجود والنوال: في عيشة تعشو القلوب لضوئها ... ومسرة الأوقات والأيام والحمد لله على ذلك، إلى آخر كتابه. وجاءني من ولدي الأصغر أبو السعود محمد، كتاب صورته: ما روضة جرت من تحتها الأنهار، وأينعت فيها الأثمار، وأزهرت فيها الرياحين، وصنوف الورود، وأضحت مأوى للعاشقين، ودار الخلود، وغنت فيها الأطيار أرق غناء، وأعلن البلبل بنيل الأوطار، وزوال العناء، وكساها الربيع جلبابا من حرير وإستبرق، وأشجى القمري أحبابا فرق الغصون والورق، وما رائحة المسك الأذفر، وما شم الطيب والعنبر، بأطيب من سلام يهدى من محله إلى أهله، ويبلغ بلوغ الهدي الواجب إلى محله، سلام لا تدرك «155 ب» وصفه الوصاف والكتاب، ولا يحاول نهايته الوصاف ولا كتاب، سلام سطعت من آفاق الوداد أنواره،

ونفحت في رياض الاشتياق أزهاره. سلام فاق الدرر «1» نظما ونثرا، وسما على الفراقد مكانة وقدرا: إلى من عنده روحي وعقلي «2» ... ومسكنه سواد المقلتين إلى العالم الذي عجز عن وصفه الواصفون ولم يحاولوا غايته، والفاضل الذي غاص في بحره الفاضلون ولم يدركوا نهايته، علامة العلماء واللج الذي لا ينتهي، ولكل لج ساحل، المتصدر للتدريس والإفتاء، والفائق على من كتب وأفتى، عالم زمانه، ووحيد أوانه، العالم العلامة، والحبر الفهامة، رئيس المدققين، وخاتمة المحققين، الجامع للمعقول والمنقول، والمستنبط للفروع من الأصول: (156 أ) . اللهم يا من زين «3» السماء بزينة الكواكب، وأطلع في دنياه شموس علم وأنجما ثواقب، بجاه رسولك إليك، وبتقربه لديك، أن تديم والدنا لتحقيق كل عويصة ودقيقة، وتعلي درجات الفضل وتقوّم به طريقه، ووجّه وجهته أينما توجّه، وسهّل له من سبل الخير واديه وفجه، فإنك كريم قد وعدت بالإجابة من رفع أكف دعائه، وبشرت بالقبول من ابتهل إليك في صباحه ومسائه، آمين. وبعد ذلك، فالعبد اكتفى عن تقبيل الأقدام بالأثر، ورضي عن تلذذ المشاهد بسماع الخبر، وإن الشوق ما برح تزايده، وما انفك كثيره وزائده: شوقي إلى والدي الأفخم، والملاذ الأعظم، والمستجار والملتزم، أدامه الله لرؤوسنا تاجا، وأبقاه للمسلمين شرعة ومنهاجا، آمين. ورد إلينا كتابكم [الذي] أنبأنا عن صحة (156 ب) الحال، والحمد لله على السلامة والعافية والاعتدال، فأضحى بيننا كهلال شوال، وحق في وصفه قول من قال: وأضحى ينقل من يد إلى يد إلى أن أتى إلى يد الضعيف، قبّله ألف مرة وقرأه مائة كرة، إلى آخر كتابه.

وجاءني «1» من ولدي الكبير الشيخ عبد الرحمن كتاب: ثم يهدي سلاما صدر من قلب لض «2» بالنوى، وتحيات نطق بها لسان الشوق لا عن الهوى، إلى مولاي ووالدي النحرير، والهمام الإمام الكبير، رب الفضل وأهله، ورئيس النبل قد عز أمثال مثله، حفظه الله من طوارق الزمان، وبوائق الحدثان «3» ، آمين «4» أما بعد، فإنا نحمد إليك الله، ولا نشكر إلا إياه، لم يمسنا سغب ولا نصب، بل أكلنا النعيم الناعم، وأكثر فاكهتنا القثاء مع الرطب، هذا مع القحط الذي لا يوصف، والجدب الذي لم يكن (157 أ) قبل يعرف، والحمد لله كيلنا زائد كثير، وبرنا وافر غزير، والحمد لله على ذلك، إلى آخر كتابه «5» . وجاءني كتاب من ولدي الأصغر أبو السعود محمد صورته: إن أشرف ما تتوج به المفارق والرءوس، وأبهى ما تبتهج به المهارق والطروس «6» ، وأبهى ما ينظم في سلوك السطور، من الدرر الباهرة لدرر النحور «7» وأبهى ما يرقم في صكوك الصدور، من الغرر المضاهية للآلىء البحور، تحيات نظمت لإخلاص عقودها، وتسليمات رقمت بطرز اختصاص برودها، تشققها «8» الأدعية على ألسن المقربين تتلى، وتشيعها الأثنية التي في مناص «9» الكروبيين «10» تجلى، مرفوعة في الموقف الأعظم، متلوة في المستجار والملتزم، بأن

يديم الله للعلم وأهله، ويبقى الفرع «1» وأصله «2» ، بقاء مولانا الأستاذ الأعظم، والملاذ الأعصم «3» ، والجهبذ النقاد، والكوكب النفاد «4» ، عالم الإسلام على الحقيقة، الجامع للشريعة والطريقة، الأمجد المحترم، والدنا المكرم، لا زال منتصبا للتدريس والتأليف، وكل فن له صاحب وأليف، آمين، من عبد اكتفى عن المشاهدة بالخبر، وبالإنابة عن الأيدي بتقبيل الأثر (157 ب) لا يوصف شوقه، ولا يبرد حرقه، لكم من الداعين في سائر الأوقات، ودبر الصلوات، فالمرجو الدعاء ببيت الله الحرام، ولدى زيارة النبي عليه الصلاة والسلام. وجاءني منه كتابان آخران ضيق الوقت منع من كتابتهما. وجاء من ولدي الشيخ عبد الرحمن كتاب يثني فيه على علماء حلب، إلا أنه لم يصل إليهم، لأنه ورد عليّ وأنا في دمشق الشام، وصورته «5» : الأذن تعشق قبل العين بعض الأحيان، والمستوصف مستغن بالخبر عن العيان: فالمملوك مشتاق لم تساعده الأقدار، ولم يقض الله برؤيتكم وكل شيء عنده بمقدار، فالله أسأل أن يطوي من البين شقة البين، ويكحل ما يمتد الاجتماع منا العين، بسادة ترافعت حضراتهم على السماك، وتقاعست دونها الأفلاك، من تفردوا في جمع العلوم، وتوحدوا بمعرفة المنطوق والمفهوم، فلله درهم من رجال جديرون بأن تشد إليهم الرحال، اقتطفوا أزهار البلاغة ببنان (158 أ) الأفكار، وكرعوا من أنهار البراعة بكاسات «6» الابتكار، فلو أبصرهم المتنبي لترك سفاسف قرآنه، وأخذ بمدحهم واعتد بشانه، ولساعده

على ذلك قس ابن ساعده «1» ، ولم ينكر في هذا الشأن من شأنه الإنكار ولا المساعدة، ولو رآهم ابن العميد «2» لعمد إلى ترك ما ادعاه، ولصير سيف بلاغته غميدا «3» بعد ما انتضاه، ولو سمع بهم سحبان «4» لسحب أذيال الخجل وندم على دعواه الفصاحة وعدل، فليست فضيلتهم استعارة مبناها التشبيه، إذ لا مثل لهم ولا شبيه، بل حقيقية مصرحة، ومكنية مرشحة، مجردة عن ترك الأينه، الفاعلون الجود، وكل فاعل مرفوع والمنصبون لإكرام الوفود، من رفيع وموضوع، فباهت بهم الشهباء، وأمنت بتركهم من اللأواء «5» : وكيف لا تباهي، وقد حوت الشرف الغير المتناهي «6» ، بل يحق أن تفخر على الزوراء، لتفردها بالرتبة العلياء، حوت رجالا هم الجبال، وسادة متسمين بمحاسن الأفعال: أبناء مجد كرام قبل ما فطموا ... على «7» الرضاع لأخلاق الندى جلبوا قوم إذا ذكروا الرحمن من وجل ... لانوا وإن شهدوا يوم الوغى صعبوا لا يسكن «8» الحقّ إلّا حيثما سكنوا ... وليس يذهب إلّا حيثما ذهبوا إذا تنشقت ريّاهم عرفتهم ... بأنهم من جناب القدس قد قربوا أطال الله بقاء الموالي، أصحاب الشرف الباذخ العالي، ومتع المسلمين بمدة حياتهم، وأعاد علينا وعليهم عوائد دعواتهم، آمين.

المملوك يتمنّى له تقبيل أرض حوت أولئك الأكابر، وارثي الفضل كابرا عن كابر، ثم يهدي سلاما عبق الكون نشره، وشاع في الآفاق ذكره وفخره. سلام سليم عن الرياء والنفاق، محفوف بالدعاء والأشواق، إلى الفضلاء الأنجاب، والسادة الأتراب، معادن الشرف الأثيل، الجديرين بالتكريم والتبجيل، لا زال العلم بهم مشهورا، والدين بوجودهم محبورا منصورا، آمين وبعد، فقد ورد إلينا من الوالد (159 أ) كتاب كريم، فيه الثناء العميم، مدحكم فيه بما تلتذ به الأسماع، وتميل إليه الطباع، وذكر فيه فضلكم على التفصيل، من غير إطناب ولا تطويل، وما جرى بينكم له من المحاورات، والمباحثات والمناظرات، وذكر أنكم مكرموه غاية الإكرام، ومحترموه نهاية الاحترام، فسرّ المملوك لذلك غاية السرور، ولم يزل منذ سمع ذلك بانشراح وحبور، فجزاكم [الله] عنا جزاء الأخيار، وآمنكم من الأنكاد والأكدار: إلى آخر كتابه. وجاءني في كتاب من الأكرم الأمجد، حمزة آغا محصل حلب، إنشاء الشيخ محمد الطرابلسي فيه عتاب، حيث إني لم أخصه بكتاب، وصورته: أيد الله كعبة الأفاضل، ومسعى كل مباحث ومناضل، الرامي جماره بدرّ المسائل، الساعي مساعي التحقيق، الواقف مواقف التدقيق، الأخ الأعز الأكرم، الشيخ عبد الله حفظه الله وسلم، وبعد إهدائه أنواع التحية البهية، وأصناف الأدعية المرضية (159 ب) الزكية، فالذي نعرضه أن المحبة بيننا رفيعة الذرى، وثيقة العرى، ومنذ رحلتم ونحن في طيب ذكراكم، وبث محاسنكم. وفي خلال ذلك تنمو دواعي المحبة، وتتحرك لواعج الصحبة، فتظن النفس بأنه يرد علينا منكم كتاب كريم، يشتمل على در نظيم، يكون به تسلية عن مشاهدة الوجوه «1» النضير، وإيقان بسلامة ذلك الجناب الخطير، وبينما نحن في الوارد، إذ وردت كتبكم على الأخ الأعز،

فأخذ كل كتابه بيمينه، وأثبت ظن وده بيقينه، غير أننا لم نر لنا سطرا، وكان الأخ الأعز خلع الذمة العراقية، وتردى بالصفات الشامية، ورقة طبعه تشهد لذلك، وإلا فود العراق، مما وقع عليه الاتفاق، وحفظ الصداقة شاد عليهم نطاقه، أو أنه قد اقترف منا ذنبا يقتضي الهجران، وأنسج علينا عناكب النسيان، فالرجا عدم الإخراج من الخاطر، خصوصا عند مشاهدتكم الروضة النبوية، على ساكنها أزكى سلام وأعطر تحية، بدعاء مقبول، وتوسل بأكرم رسول، كذا في كل موطن إجابة، نرجو بذل الدعاء لنا ولولدنا محمد آغا، وكذا كاتب الأحرف. السيد محمد يبلغكم السلام، ويرجو ما نرجو والدعاء. وكتب الشيخ علي الدباغ مشايخه (160 أ) وأرسل ما كتبه إليّ وأنا في دمشق الشام «1» ، وسبب ذلك أني لما استجزته لأولادي، طلب مني أن أجيزه فأجزته، ثم سألته الإجازة لي، فأجازني. والتمست أن يكتب لي مشايخه الذين أخذ عنهم، فلم يتهيأ له الكتابة وأنا في حلب، وصورة ما كتب: الحمد لله المجيب لمن دعاه، المقبل على من ناداه، الذي خص أهل الحديث بالرحمة والنضرة، وجعلهم من بين زمر العلماء خير زمرة، واستجاب فيهم دعوة نبيهم المختار، وحباهم برقة القلب وطول الأعمار، وحفظ بهم على الأمة أمر الدنيا والدين، وما يقرب في الدارين، من المنزلة العليا، وجعلهم أقرب الخلق في القيامة إليه، لكثرة صلواتهم وسلامهم عليه، على تلك الذات العلية، التي هي لظهور الموجودات العلّة الفانية» أبو الأرواح، وممدها بالفلاح والهداية، القائل: (بلغوا عني ولو آية) «3» ، والمأثور في المسانيد عنه: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) «4» ، وعلى آله شموس الاقتداء، وأصحابه بدور الاهتداء، الذين سنوا الرّحلة في الحديث، وسعوا في طلب العلو السعي

الحثيث، آمين أما بعد، فإن طلب الإسناد من الدين، وفي قربه قرب ربّ العالمين، ولولاه لقال ما شاء (160 ب) وأراد، واختلق ما اختار وسلم من النقاد، طالما افتضح به الكذابون، ورقى به أوج السعادة الصادقون، ولنعم العلم هو إذا اقترن به مع الرواية الدراية، ولعمري لقد أحرز معها من هذا المضمار الغاية، لا كمن يقتصر على الفرق بين الخباط والخناط «1» ، وقصاراه أن يعرف من يكنّى بأبي محمد الهلالي أو يلقب بسناط، وإذا نشرت له مسألة علمية تراه قد طوى من تحتها البساط، وقد قيّض الله في كل عصر أقواما لهذا المطلب العالي، فبذلوا الوسع في سماع النازل والعالي، وصرفوا نقد أعمارهم على تحصيل هذا العلق النفيس الغالي، فلله در هاتيك العصابة، التي فوقت «2» لهذا الغرض سهام الإصابة، وارتحلت للبلاد الشاسعة والأقطار، وركبت البحار وجابت القفار، ولقيت الأخطار، حتى توضحت لهم المهمات، وتميزت لديهم الضعفاء من الثقات، وقد اطلع الله سبحانه وتعالى منهم بأفق شهبائنا واسطة عقدهم، ودرة تاج مجدهم، واحدهم الذي لا يقاوم ولا يقاول، وأوحدهم الذي لا يشابه ولا يماثل، علامة قطر العراق، ومن ثبت له الفضل بالاستحقاق، وصار تفرده وتفوقه كلمة اتفاق، وسارت (161 أ) بمعارفه الركبان، وتناقلتها الرواة في البلدان، واعترف بها الخاص والعام، وقصرت عن استيفائها أفواه الدوى «3» وألسنة الأقلام، وألفاظ المنشئين وأفكار النظام، جناب سيدنا ومولانا الشيخ عبد الله أفندي السويدي، الذي ساد أهل السواد، وألزم العجم ولمذهب أهل السنة أشاد، وأفحم بمباحثاته أهل الغواية، وأني رفعوا راية علم نقلي أو عقلي كان على آية تلك الراية، أدامه الله لفضل ينشره بين أهله، ويسوقه كالهدي إلى محله، فنشر من فضائله ما نشر، إلى أن صغر الخبر «4» الخبر، ورأيناه كزيد

الخير «1» أو جعفر بن فلاح «2» ، أو ابن الشجري «3» حين اجتمع بالزمخشري «4» ، وبصحبته اغتبط وارتاح، ومن فرط كماله والكمال «5» يقبل الكمال، إن رآه على بقايا المسندين من الرجال، ولم يقنع باللقى والسماع، بل سأل عموم الإجازة له ولأولاده المعممين وذوات القناع، بناء على قولهم لا يكمل الرجل حتى يأخذ عمن فوقه، وعن مساويه وعمن دونه، وإلا فهو ممن تشد إليه الرحال في هذا الغرض ولا يعدونه، ثم حمله شره الاستكثار على طلب ذلك حتى من الصغار، فطلب ذلك مرارا «6» من العبد (161 ب) الفقير، الذي لا يعد بين أهل هذا الشأن في العير ولا في النفير، رغبة منه في رواية الأكابر عن الأصاغر، وقصدا إلى الاتصال بأسانيد شيوخي الجامعين للكمالات والمفاخر، فامتنعت لقصوري عن هذا المقام، فراسلني بذلك من الشام، ونظر إليّ بعين الرضا، ولم ينظر إلى أن عليّا لم تتصل بيائه ميم، ومع الرياض النضرة لا يرعى الهشيم، فأجبت سؤاله حينئذ متمثلا، وأقول مجيبا ومجيزا خجلا: ولم أشرط سوى دعوات خير ... لأن الشّرط منهم ذو رسوخ وأبحت لهم رواية مسموعاتي ومقروءاتي، وإجازاتي ومناولاتي، من تفسير، وحديث لقديم وحديث، وفقه وعقائد وضوابط وقواعد ومنقول ومعقول، وفروع وأصول، ومنثور ومنظوم، في أنواع العلوم، وأخبرهم، أدام الله سموهم، ويسر لهم تفردهم في هذا (162 أ)

الشأن وعلوهم، أني سمعت بعدة بلاد، منها حلب الشهباء وإدلب «1» ومعرة النعمان وحماه وحمص ودمشق والمدينة المنورة ومكة ومنى والجديدة وظهر عقبة أيلة ومصر والقاهرة والآثار الشريفة وبولاق ودمياط وصيدا وطرابلس واللاذقية والشغر ونابلس وبيت المقدس والخليل، وغيرها من أئمة تشرفت بذكرهم المسانيد والجوامع، وإذا كانت شيوخ الرجل آباءه في الدين، فأولئك آبائي الذين بهم أفتخر إذا جمعتنا المجامع، فممن سمعت منه، وأخذت عنه، من أهل حلب، الشيخ إبراهيم النخشبي، والشيخ زين الدين الجلوي، والشيخ عبد الرحمن العمادي، والمحدث الكبير الشيخ أحمد الشراباتي، والمحقق الشيخ الشعيفي، والمسند الشيخ حسن السكري، والشيخ المعمر أبو هريرة الهريري «2» ، تلميذ الشيخ وفا العرضي، والشيخ عبد القادر الإمام بأموي حلب «3» ، والسيد أبو السعود الكواكبي مفتي السادة الحنفية، والشيخ سليمان النحوي، والشيخ حسن السرميني، والسيد يوسف الشامي، والشيخ طه اليوسفي، والشيخ يس الفرضي، والشيخ أحمد المداري. ومن أهل دمشق العارف بالله تعالى (162 ب) الشيخ عبد الغني النابلسي، ومفتي الحنابلة الشيخ أبو المواهب، أجاز لي ولم ألقه، والمحدث الكبير الشيخ محمد الكاملي، وولده الشيخ عبد السلام، والولي المجمع على فضله وجلالته الشيخ عبد القادر التغلبي الحنبلي، والشيخ المعمر البركة الشيخ عبد الرحمن المجلد، والسيد عبد الباقي بن مغيزل، والمحقق الشيخ عبد الرحيم الكابلي، والشيخ محمد العجلوني، وزاهد عصره الشيخ الملا إلياس الكوراني، ومفتي السادة الشافعية الشيخ أحمد الغزي، وابن عمه الشيخ محمد الغزي، والشيخ محمد الدكدكجي «4» ، والشيخ حسن المصري المقرئ، والسيد أسعد بن

المنير المقرئ «1» ، والشيخ محمد الحبال. ومن أهل المدينة والمتوطنين بها: الشيخ عبد الكريم الخليفتي «2» ، والشيخ طاهر ابن الشيخ إبراهيم الكوراني، والشيخ أبو الحسن السندي «3» صاحب الحواشي على الكتب الستة، والشيخ طيب السندي، والسيد عبد الرحمن السقاف «4» ، والشيخ محمد المغربي المعروف بالمشرفي، تلميذ الفاسي «5» شارح دلائل الخيرات، والشيخ موسى البصري. وأجاز لي منهم الشيخ محمد حياة السندي، وهو بعد في الأحياء. ومن أهل مكة والمتوطنين بها: محدث العصر الشيخ عبد الله بن سالم البصري، والشيخ تاج الدين الدهان، والعارف بالله (163 أ) الشيخ محمد الوليدي، وسيدي الشيخ محمد عقيلة صاحب المصنفات الجليلة، والشيخ يونس المصري، والشيخ عيد المصري، ومحمد بن عبد الله المغربي، ومصطفى فتح الله النحاس المصري «6» ، معارض المقامات

الحريرية، ودخلت في عموم إجازة الحسن العجيمي لمن أدرك حياته، كما شاهدت ذلك بخطه في فهرسته. ومن أهل مصر والمتوطنين بها: الشيخ منصور المنوفي، والشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، والشيخ إبراهيم الفيومي، والشيخ مصطفى العزيزي، والشيخ أحمد الدقدوسي، والشيخ محمد المنفلوطي «1» ، والسيد علي البصير السيواسي، والشيخ أحمد الملوي، والشيخ عبد الوهاب أبو النصر، والشيخ أحمد الأحمدي، والشيخ محمد عبد العزيز، والشيخ يوسف الملوي، والشيخ شلبي المالكي، والشيخ علي الطبلوني، والشيخ أحمد البرماوي «2» ، والشيخ أحمد الريزلي، والشيخ محمد المغربي المالكي، وكان ورده في كل يوم دلائل الخيرات أربعين مرة، والشيخ أحمد البقري «3» ، والشيخ خليل الزورقي، وغيرهم. ومن أهل دمياط: مسندها الشيخ محمد ابن الميتة، والشيخ مستحفظان، والشيخ فرحات، والشيخ إبراهيم الشبيتي، والشيخ محمد بن لقيمة «4» صاحب الحاشية (163 ب) على تفسير البيضاوي، والشيخ أحمد الأسقاطي «5» محشى الأشموني «6» .

ومن أهل نابلس: الشيخ عبد الغني «1» مفتيها. ومن أهل بيت المقدس: الشيخ محمد الخليلي «2» . ومن أهل طرابلس: الشيخ عبد الجليل بن سنين، والشيخ عبد الله الخليلي. ومن أهل إدلب: السيد أحمد الكاملي. ومن الأكراد: الشيخ حسن المهاجري، والشيخ حسن الأعرج، والشيخ علي الحريري، والملا علي السوري، وعبد الله بن رسول الذكي، والملا محمود نزيل دمشق. ومن أهل بغداد: الشيخ تاج العارفين البغدادي. ومن داغستان «3» : المحقق الشيخ رمضان، والملا علي. ومن أهل مرعش «4» : الشيخ محمد السجقلي «5» . ومن أهل قسطمون «6» : الشيخ محمد القسطموني «7» .

ومن أهل الغرب: الشيخ محمد التفلالي. هذا ما حضرني من أسماء هؤلاء الأعيان، وأما من سمعت منهم أشعارهم، وقيدت نظامهم ونثارهم، وطارحتهم وراسلوني، وساجلتهم وساجلوني، فجمع غفير، وعدد كثير، نجمعهم إن شاء الله، ونفصّل المسموع والمقروء. فهرست مروياتي: وأما مصنفاتي التي حقها أن لا تذكر، ومن شأنها أن تستر وتقبر، فمنها (الدر المصنوع في الخبر الموضوع) ، لخصت فيه مؤلفات السيوطي وغيره في هذا المعني، ورسائله في الكلام على حديث (كيفما تكونوا يولّى عليكم) ، (164 أ) وشرح على (دلائل الخيرات) فيه مناقشات مع الشارح، و (خبار الأنام في أخبار جرجيس عليه السلام) و (نظم العضدية في الآداب) و (رسالة في العقيقة) و (نظم علل الأعاريض) ولي في تلخيص كثير من كتب التواريخ والأدب بمجاميع لطاف هي من بعدي، كما قال العماد الكاتب «1» ، أما مزاود «2» للعقاقير وأما بطائن للخفاف، وأما نظمي ونثري فكنت أقدر أن لا أسأل عنه بكونه من الترهات، ولو جمعت متفرقاته لجاءت في مجلدات، فمنه عقد حديث الرحمة. أول ما أسمعنا أهل الأثر ... مسلسل الرّحمة من خير البشر للراحمين يرحم الرحمن ار ... حموا لمن في الأرض تحظوا بالظفر إن الجزا يرحمكم من في السّما ... وحسبنا رحمتكم من افتقر ولولا ضيق الوقت لأتيت بما تمله الأسماع، وتأنف منه الطباع، والمسؤول من فضل سيدي ومولاي أن لا ينساني من صالح دعواته في خلواته وجلواته، قال ذلك وكتب أبو الفتوح

[خان ذي النون]

علي بن مصطفى البغدادي الموقت بأموي حلب، بعد صلاة الجمعة، ثامن شوال من شهور سنة 1157 «1» مصليا (164 ب) ومسلما. وقد التمس مني الشيخ الصالح الحافظ لكتاب الله الشيخ إبراهيم الدمشقي الإمام بمدرسة سليمان باشا أن أسمعه حديث الرحمة مسلسلا، فاسمعته إياه على حسب ما طلب، وأجزته به وبسائر مروياتي، وفقنا الله وإياه صالح العمل. وممن جاء لوداعنا إلى المرجة «2» السيد أحمد بن نقطة، وولدنا الشاب الصالح، ذو الوجه الصبيح والسعد الراجح، الشيخ علي الكرجي الأصل. [خان ذي النون] وكان خروجنا من دمشق الشام متوجهين إلى بيت الله الحرام ضحى يوم الأربعاء العشرين من شوال «3» ، فنزلنا خان ذي النون، وبعضهم يقول: خان يونس. وهو خان عنده نهر جار عذب، والمسافة أربعة فراسخ، وكان عديلنا في شق المحمل رجل من أكراد بدليس اسمه حسن بن بابير، وجميع الذين كانوا في الخيمة التي كنت فيها أكراد، ومن طبعي أني أبغض الأكراد لأنهم غلاظ شداد جفاة لا عقل ولا كمال «4» ، فسلمت أمري إلى الله، وتيقنت أن

هذا لأمر خير لي في معادي لما اتحمل من جفوتهم وغلظتهم فيضاعف أجري ويمحى وزري، لما بلغني عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أفضل الأعمال أحمزها) «1» ، اي أشقها وأصعبها على النفس، فصبرت تحصيلا لكثرة (165 أ) الأجر، وتحملت قدر استطاعتي، وكان جمّالنا الرجل الصالح الدين اللين الحاج علي بدور الحلبي، وهذه الصفة لا توجد في أحد من الجمالة التي يكرون الحجاج سواه، لأنهم كلهم لا دين ولا مروءة ولا رحم ولا ديانة ولا أمانة، بل إنهم يؤذون الحجاج، ويسعون في أخذ أموالهم إما سرقة وإما استقراضا ولا يؤدونه، لكن الجمالة الحلبية أهون وأسهل من الجمالة الشامية. وممن كان في ركب الحاج من عوارفنا سيدنا السيد الحسيب النسيب السيد طالب الرفاعي البصري من أولاد سيدي الشيخ أحمد الرفاعي- قدس سره- والشيخ رفيقنا السيد عبد الوهاب الموصلي الإمام بجامع نبي الله جرجيس- على نبينا وعليه الصلاة والسلام- والسيد الحسيب السيد يونس ابن الشيخ إبراهيم الأدهمي، وصاحبنا الحاج محمد بن هاشم الحديثي ثم البغدادي نزيل حلب، والسيد أبو المواهب مفتي الشافعية بحلب، والشيخ طه الجبريني الحلبي، والشيخ إسماعيل العجلوني الدمشقي شارح البخاري، والسيد يحيى مفتي الموصل «2» ، والحاج محمد بن قاسم البصري، والحاج يوسف مولى الحاج نعسان الحلبي، والسيد علي ابن السيد مراد الدمشقي، والشيخ سليمان الدمشقي شيخ الأحباء في المحيا «3» ، والسيد أحمد جابي (165 ب) الوقف السناني «4» ، وولده النجيب المجد المحصل

[خان دله]

السيد عيسى. وكان أمير الحاج الوزير أسعد باشا «1» ابن إسماعيل باشا «2» عظم زاده وهذا الوزير شافعي المذهب كأبيه وعمه سليمان باشا «3» لين العريكة، مبارك، لانفس ولا أنانية، ولا يثبت لنفسه شيئا وإنما يفوض الأمور إلى الله تعالى، إلا أن بطانته وأرباب دولته بطانة سوء وأرباب ظلم وغشم. ولله الحمد، ذهب الحاج ورجع سالما آمنا، لا تعب ولا نصب ولا عطش ولا سغب «4» ، كأن ركب الحج في أيام أعراس وليالي أعياد، حتى إني سمعت من غير واحد ممن سافر في طريق الحج نحو خمسين عاما يقول ما اتفق لركب الحج رفاهية وراحة مثل هذه السنة، والحمد لله على ذلك. [خان دله] وتليها مرحلة دله بكسر الدال والإمالة، وحولها خان والمسافة اثنا عشر فرسخا. [المزيريب]

وتليها مرحلة المزيريب «1» ، بفتح الميم، جمع مزراب، اسم مكان للزرب، وهو في لغة الشام السّيل يقولون: زرب الماء إذا سال، وفي القاموس زرب كسمع سال «2» سميت بذلك لأن قلعتها حول عين منخفض واديها تجري فيه السيول، وتلك العين اسمها بجّة، بفتح الباء وتشديد الجيم وبعضهم يميل الجيم. وماؤها عذب إلا أن فيه نوع ثخانة، (166 أ) وبعض الناس يقول مزيريب تصغير مزراب، ولعل جميع ذلك محرف ميزاب أو ميازيب. وأقمنا فيها ستة أيام غير يومي الدخول والخروج، لأن عادة أمير الحاج [أن] يعطي الموظف لعنزة «3» في هذه المرحلة، ويسمونه بالصر «4» لما أنه يأتي مصرورا بصرة في الأصل، ولأن عادة الجمالة يباشرون أكثر حوائجهم منها من شراء جمال وعلف وغير ذلك. وفي هذه المرحلة أخذ السارق من على ظهري اللحاف وأنا نائم، فأحسست به فانهزم، وفيها ضاع مشطي، وفي هذه المرحلة تكثر السراق بزيادة على غيرها، إذ لا تخلو مرحلة منهم، قاتلهم الله تعالى.

ومن هذه المرحلة أخذت ترابا وضعته في خرقة لأجل التيمم في المواضع التي لا تراب فيها وإن كان معنا ماء، لأن الوضوء حرام إذا كان في القافلة من يظن، أو يتوهم، أنه محتاج إلى شرب الماء لعطش، ولو كان دابة أو كلبا محرما «1» حالا أو مالا إلى الوصول إلى عين أو غيرها، ومما من الله به عليّ أني كنت أتيمم مع وجود الماء عندي، لأن القافلة لا تخلو عن عطشان مع كثرة المشاة الذين لا زاد لهم ولا ماء. وممن تابعني على ذلك سيدي (166 ب) السيد طالب البصري فكان- حفظه الله- يتيمم ويأمر به، وأكثر الفقهاء الجهلة يتوضؤون بالماء مع الإسباغ، والتثليث مراعاة السنن ظنا منهم أن ذلك عبادة مع كثرة العطشى، وقد قال الإمام النووي في (الإيضاح) «2» : إن هذا الوضوء حرام، ثم قال: وينبغي إشاعة ذلك في ركب الحاج، وتبعه على ذلك الشيخ ابن حجر في مختصر الإيضاح، وشنع «3» أيضا الإمام النووي على من يفعل ذلك، ونسبه إلى الجهل، أعاذنا الله من ذلك. فلم أزل على هذه الحالة وآمر بها الشافعية فأنكر عليّ مفتي الموصل، وقال: كيف تتيمم ومعك ماء؟ فأجبته بأن الإمام النووي حرّم الوضوء في مثل هذه الحالة وأخرجت له الإيضاح، وهو مصر على إنكاره، فقلت له: يا شيخ أنت حنفي إنما تعرف مذهبك ونحن أعرف منك بمذهبنا، وهذا مجدد مذهب الشافعي الإمام النووي صرح بذلك وتبعه العلامة المحقق الشهاب ابن حجر، فلم يلتفت إلى ما قلت، فأغضبني، فقلت: يا شيخ! في ذكري أن الحصكفي «4» شارح (التنوير) «5» في فقه الحنفية [فإنه] صرح بعين ما ذكره النووي فالمسألة وفاقية، فأصرّ على

عناده لجهله، فالتمست في ركب الحج (167 أ) شرح التنوير وأخرجت المحل وأرسلته إليه. والذي ذكره أنه يجوز التيمم لعطش ولو من كلبة، إلى أن قال: أو رفيق القافلة، وذكر أيضا أنه يجوز للعطشان مقاتلة صاحب الماء إذا امتنع، فإن قتل ربّ الماء فدمه هدر، أو العطشان فيقتص من رب الماء. ولم يزل هذا الرجل يغتابني إلى أن دخلنا حلب فذكر لي بعض الناس أنه ينقم عليّ من خصوص التيمم، وكنا في مجلس عقد نكاح، وفيه غالب أجلة علماء حلب حنفية وشافعية، فناديت بأعلى صوتي: أنشدكم معاشر الفقهاء كيف حكم التيمم مع وجود عطش رفيق القافلة؟ فقال الحنفيون: يجوز، وقال الشافعيون: يجب. ومما وقع السؤال عنه في الطريق حكم المنطقة من فضة، فأجبت بالجواز والحل، وخالفني بعض الفقهاء، واحتجنا إلى مراجعة كتب الفقه فظهر الحكم كما ذكرت، فسلموا إلا الشيخ الجبريني بقي على إصراره كما هو عادته. ومما وقع السؤال عنه قوله- صلى الله عليه وسلم- في دعاء الاستخارة: اللهم إن كنت تعلم. وصورة السؤال أن إن للشك، والله تعالى عالم جزما، فكيف صح التعبير بإن؟ وجوابه (167 ب) [إن الشك] «1» راجع إلى المستخير لأنه لا يقين عنده في أن علمه تعالى هل تعلق بكذا أو كذا، والمشكوك فيه إنما هو تعلق علم الله لا علمه، فالله تعالى عالم بلا ريب ولا شك، وإنما الشك في التعلق وهو مغيب عنا، والله اعلم. ومما وقع السؤال عنه في الطريق أيضا قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ «2» الآية. وصورة السؤال كيف يعقل اشتراء الله الأنفس وهو مالكها؟ وجوابه: إن ذلك من باب المجاز المرسل من أطلاق المقيد على المطلق، والمعنى إن الله طلب من المؤمنين بأن يبذلوا أنفسهم في قتال أعدائه فأطلق الاشتراء على مطلق الطلب مجازا لا أنه اشتراء حقيقي أو إن

ذلك استعارة تبعية بأن شبه الطلب بالاشتراء لعلاقة أن كلا منهما بعوض وبدل، ثم اشتق من الاشتراء اشترى، والله اعلم. ومما وقع السؤال عنه في الطريق، قوله تعالى وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» وصورة السؤال أن من لا تطلق إلا على العقلاء، وهي هنا شاملة لجميع الحيوانات عاقلة وغيرها. وجوابه: أن ذلك إما خاص بالعقلاء، وغيرهم مقيس عليهم، أو أنه غلب العاقل على غيره، أو نزل غير العاقل «2» منزلة العاقل (168 أ) ، كما في قول الشاعر: أسراب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير ثم استطرد في الكلام إلى أن وقع السؤال عن ما وإنها لغير العاقل، فكيف أطلقت على النساء في قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » الآية؟ فما الجواب عن من يقول بأن ما مختصة بغير العاقل؟ وجوابه: إن النساء لما كنّ تحت طاعة الأزواج أشبهن الملك فأطلق عليهن ما تنزيلهن منزلة ما لا يعقل. ومما وقع السؤال عنه في الطريق، كيف التوفيق بين قول ملك الرحم الموكل به: يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد؟ فما الرزق وما الأجل، وبين قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «4» الآية، فظاهر حديث الملك إنه يعلم كونه ذكرا أو أنثى، والآية تدل على أن هذه الخمس لا يعلمهن إلا الله كما صرح في الحديث، فإن قلتم: إنّ الملك يعلم ذلك بتعليم الله تعالى، قلنا: إذا لا فرق بين هذه الخمس وبين غيرها. والجواب: نعم لا فرق بين هذه الخمس وبين غيرها من المغيبات [في] أنها تعلم بتعليم الله تعالى، لكن إنما خصت ردا على الملوك السالفة فإنهم كانوا يكثرون من السؤال عن هذه الخمس (168 ب) زاعمين أن أحبارهم يعلمون ذلك فردّ الله عليهم، بأن هذه الخمس لا يعلمها إلا الله، ومن علمها فإنما هو بتعليمه.

[المفرق]

ومما وقع السؤال عنه في حديث الرحمة: هل جزم يَرْحَمَكُمْ من حيث المعنى أو لا أم رفعه كما هو في رواية «1» ؟ والجواب: إنه من حيث الترغيب الجزم أو لا، لأن من علم أنه إذا رحم رحم حثه ذلك على الإحسان والشفقة، ومن حيث الملاحظة إلى رحمة الله الرفع أولى لأنه حينئذ تكون رحمة الله تعالى مطلقة غير مرتبة على شيء، وهو الفاعل المختار، ويرحم البر والفاجر والطائع والعاصي، مالك أزمة الأمور، يعطي ويمنع لا لغرض. ثم وقع السؤال على رواية الرفع، هل الجملة مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا؟ والجواب: إنها مستأنفة استئنافا نحويا لأنها ليست جوابا عن سؤال مقدر وإنما أتي بها للدعاء ابتداء، فالكلام انقطع عند قوله «ارحموا من في الأرض» ثم استأنف ودعا لهم بالرحمة، أي يا من أمره وسلطانه في السماء رحمهم. وبعض الحاضرين تصدى لأن يجعل ذلك استئنافا بيانيا ولم يأت بطائل، وسيأتي الكلام على مسائل الإحرام إن شاء الله تعالى. وهذه المرحلة مسافتها ستة فراسخ. [المفرق] وتليها مرحلة المفرق، بفتح الميم (169 أ) وسكون الفاء وفتح الراء وآخر الحروف قاف، وهو بر لا عمارة فيه ولا ماء «2» ، سمي بذلك لما قيل أنه فارق بين العمارات وغيرها، ويحتمل أنه اسم مكان للفرق بفتحتين، وهو الخوف، وذلك لانقطاع العمارات عنده، فيتوهم الخوف من عدو وقلة زاد وماء وعطب دابة «3» ، والمسافة ثلاثة [عشر] «4» فرسخا.

[الزرقاء]

[الزرقاء] وتليها مرحلة الزرقاء، قال في القاموس: اسم موضع في الشام «1» والآن يطلقونها على عين هناك، وهذه العين جارية عذبة، على حافة مجراها قصب كثير الالتفاف فينعكس لونه في الماء فيرى أزرق لصفائه فلذلك سميت بالزرقاء «2» . وحول هذه العين من جهة الفوق قلعة صغيرة تسمى بقصر شبيب «3» ، وفيها حراس يتعاقبون كل عام. وعلى شرقي النهر الجاري منها بركة قديمة خراب، وحولها عمارة، وأثر بناء قديم، والكل خراب، وقبيل هذه العين وبعيدها أراض وعرة وعقبات ذوات انحراف واعوجاج وصعود وهبوط ووديان منخفضة، والمسافة تسعة فراسخ، وأقام الركب بها يوما. [البلقاء] وتليها مرحلة البلقاء، مؤنث أبلق، وهي اسم بلد بالشام «4» والآن هي خراب، لا ماء فيها، سميت بذلك لما أن حجارتها (169 ب) متلونة بالسواد والبياض، أو لأن أرضها خالية عن النبت والشجر «5» .

[خان الزبيب]

[خان الزبيب] ومررنا في طريقنا على خان الزبيب «1» ، ولعله كان يوضع فيه الزبيب. [زيزي] وعلى زيزي، كضيزي، موضع بالشام كما في القاموس «2» . والمسافة اربعة عشر فرسخا. [القطراني] وتليها مرحلة القطراني نسبة إلى القطران عصارة الأبهل «3» سميت بذلك لكون حجارتها سوداء، وفيها قلعة صغيرة، فيها حراس «4» ، وعادة الحجاج يضعون أمتعتهم من زاد وغيره فيها ليأخذوها إذا رجعوا، وحول القلعة بركة عظيمة مشرفة على الخراب تمتلىء من ماء المطر، والمسافة أربعة عشر فرسخا. [الأحسا] وتليها مرحلة الأحسا «5» ، وهي في الأصل جمع حسى بفتح الحاء وكسرها، أو حسى

[معان]

كما قال في القاموس «1» . سهل من الأرض يستجمع فيه الماء، أو غلظ «2» فوقه رمل يجمع ماء المطر، كلما نزحت دلو جمعت أخرى، نزلنا عنها بنحو نصف فرسخ في عين عمارة وماء «3» إلا أن في رجوعنا نزلنا فيها والماء فيها كثير، في واد بين جبلين، وفي طريقها عقبات وأوعار واعوجاج وصعود وهبوط، والمسافة أحد عشر فرسخا، لكنا قطعناها بثماني عشرة ساعة لصعوبة الطريق. [معّان] وتليها مرحلة معّان، وظاهر صنيع القاموس (170 ب) إنه بفتح الميم، وقال: هو موضع بطريق حاج الشام «4» . وقبل الوصول إليه ثغر «5» فيه وعر وعقبة صعبة المسلك لما فيها من الجنادل والانحدار والارتفاع، مع ضيق المسلك. [عنزه] ومررنا في طريقنا على عنزه بفتح العين والنون والزاي المعجمة وآخر الحروف هاء تأنيث «6» . وهي أيضا قلعة ينزلها الحاج الشامي، وفيها حراس وبركة تمتلىء من المطر «7»

[معان أيضا]

وعادة الحجاج [أنهم] يودعون بعض أمتعتهم فيها ليأخذوها إذا رجعوا. والظاهر أنها سميت بعنزه بن أسد بن ربيعة، وبه سميت القبيلة المشهورة، لأن تلك الأرض مسكنهم قديما. [معّان أيضا] ومعّان هذه طيبة الهواء، عذبة الماء، يودعون «1» (الحجاج) فيها أمتعتهم ليأخذوها إذا رجعوا «2» ويتزود الحجاج منها ما يحتاجون من قوت وعلف دواب. أقمنا فيها يوما في أكل نفيس مع انشراح وانبساط، والمسافة عشرون فرسخا قطعناها بأربع وعشرين ساعة. وعادة الحاج كان ينزل في عنزه ثم معّان لكنا جعلنا المرحلتين مرحلة واحدة لضيق الوقت. [العقبة] وتليها مرحلة العقبة «3» ، نزلنا في واد تحيط به الجبال من جوانبه الأربعة، ولا ماء ثم، والمسافة ثمانية عشر فرسخا لكنا قطعناها (170 ب) بعشرين ساعة. [جغيمان] وتليها مرحلة جغيمان بضم الجيم وفتح الغين المعجمة فياء ساكنة فميم مفتوحة فألف وآخر الحروف نون. سميت- كما قيل- باسم شيخ من شيوخ الأعراب، كان يأخذ الصر عندها، وبعضهم يقول جغينمان، يزيد نونا بين الياء والميم. [المدورة] وتسمى هذه المرحلة أيضا بالمدورة لأن قربها جبل صغير مدور، وفي تلك الأرض قلعة

[ذات حج]

بناها في عصرنا المرحوم عبد الله باشا الآيديني يوم كان أمير الحاج «1» . ويكتنفا «2» القلعة بركتان، كبيرة، وفيها العين، وصغيرة تستمد من الكبيرة، ووسط القلعة بئر معين، وعادة الحجاج أيضا [أنهم] يودعون أمتعتهم فيها، جزى الله عبد الله باشا [ف] هو الذي باشر عمارة القلعة والبرك. وكان قبل ذلك- كما أخبرت- فيها ماء قليل جدا بحيث يتقاتل الحجاج على الماء «3» ، حتى قيل كل قربة ماء بقربة دم والمسافة اثنا عشر فرسخا، ونحمد الله أنه لم يقع علينا مطر منذ خرجنا من دمشق إلى مكة المكرمة، ولم نجد بردا، مع أنهم كانوا يحذروننا من برد المزيريب وعنزه ومعان، ولا مسنا نصب ولا تعب، مع أن الفصل إذ ذاك كانون الأول. [ذات حج] وتليها مرحلة ذات حج، بكسر الحاء المهملة، كذا سمعتهم ينطقون (171 أ) به، ولم أدر ما وجه التسمية. وفيها قلعة صغيرة حواليها أشجار ونخيل قليلة، وفي داخل القلعة عين ماء عذب، وحولها بركتان كبيرة وصغيرة «4» ، والمسافة اثنا عشر فرسخا.

[تبوك]

[تبوك] وتليها مرحلة تبوك، وهي التي كانت الغزوة المشهورة واقعة فيها، المعروفة بين أهل السير بغزوة تبوك. وفيها الآن قلعة صغيرة «1» حواليها أشجار التين والنخل إلا أن النخل صغار. وفي القلعة حراس، وعادة الحجاج [أنهم] يضعون أمتعتهم فيها أيضا، ولا سيما ما يتعلق بالأكل، والمسافة عشرون فرسخا إلا أنا قطعناها بأربع وعشرين ساعة. وعادة الحجاج يجعلون هذه المسافة مرحلتين، الأولى مرحلة القاع «2» وهي عبارة عن بر أفيج» لا ماء فيه، وأقمنا في تبوك يوما، وزارنا يوم النزول محدّث الأقطار الشامية الشيخ إسماعيل العجلوني فلم يجدني في الخيمة، فجاءنا ثانيا يوم الإقامة هو والشيخ سليمان شيخ المحيا، فتحادثنا معهما مقدار ساعة، واعتذر الشيخ من تقصيره في دمشق حيث لم يكرر الزيارة. [المغر] وتليها مرحلة المغر جمع مغرة، بفتح الميم وسكون الغين وتحرّك أيضا. [و] هي في الأصل طين أحمر والممغر كمعظم: المصبوغ بها، وبسر «4» ممغر كمحدث: لونه كلونها، والأمغر جمل على لونها والمغر محركة، والمغرة بالضم (171 ب) لون ليس بناصع الحمرة، أو شقرة بكدرة، والأمغر الأحمر الشعر والجلد، والذي في وجهه حمرة في بياض صاف، ولبن مغير

[الأخيضر]

كأمير أحمر يخالطه دم، وأمغرت احمرّ لبنها وهي ممغر، فإن كان معتادها فممغار ونخلة ممغار حمراء التمر، انتهى كلام القاموس، وهي منزلة بين جبلين حجارتهما حمراء كالمغرة، ولعل هذا وجه التسمية، ويحتمل أن يكون الأصل المغرة فجمعها العوام. والمغرة- كما في القاموس- موضع بالشام، لبنى كلب، وأوس بن مغراء السعدي من شعراء مضر «1» . ومن عادة جهال الحجاج أنهم يتلقطون منها أحجارا بقدر الأنملة، يزعمون أنه من دود سيدنا أيوب النبي- على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلوات والسلام- ويزعمون أنه إذا دق ينفع للجراحات ذرورا. والمسافة اثنا عشر فرسخا. [الأخيضر] وتليها مرحلة الأخيضر بالتصغير، ويقال الأخضر أيضا، سميت بذلك لأن في القلعة التي هناك مقام سيدنا الخضر عليه السلام، والناس يتبركون بذلك المقام، وقد زرته والحمد لله، ويحتمل أنه الوادي الذي بين المدينة والشام كما في القاموس «2» ، ويحتمل أنه الخضير والعامة تصرفت فيه والخضير «3» - كما في القاموس- مجسد بين تبوك والمدينة، ولعله (172 أ) الذي يقال فيه إن مقام الخضر. وهذه القلعة في عقبة «4» تحيط بها الجبال، وفي طرفها مما يلي الشام، عقبة ضيقة وعرة ذات جنادل كبار. وحول القلعة خمس برك مملوءة ماء، أنشأ واحدة منها المرحوم عبد الله باشا الآيديني، وواحدة المرحوم سليمان باشا ابن العظم، والبواقي قديمات من آثار سلاطين آل عثمان «5» . وحول البرك بناء عال فيه أربعة «6» حراس يحرسون الماء من الأعراب الأشقياء والمسافة أربعة فراسخ.

[المعظم]

[المعظم] وتليها مرحلة المعظم «1» على صيغة اسم المفعول من التعظيم، سميت بذلك- والله أعلم- لعظم بركتها فإنها «2» تزيد «3» على ثلاثين ذراعا في ثلاثين، وعمقها نحو خمسة عشر ذراعا، يجتمع فيها ماء المطر، وله مسيلات ينحدر فيها إلى البركة. ومنذ رحلنا من الأخيضر إلى نحو أربعة فراسخ نسير بين جبلين، والرمل كثير بتراكم «4» تسوخ فيه الأقدام، وثار منه غبار كثير بحيث لا يكاد يبصر الإنسان رفيقه، والمسافة ثمانية عشر فرسخا. [الدار الحمرا] وتليها مرحلة الدار الحمراء «5» ، سميت بذلك لكون رملها أحمر وكذا جبالها، والبدو يسمونها الهضب لأن حواليها هضاب كثيرة، أهل الشام يسمونها مفارش الأرز، لأن فيها حصى أبيض صغارا (171 ب) يشبه الأرز الأبيض، فالذي يراه يتخيله أرزا مفروشا على الأرض الحمراء، وتسمى أيضا خدود الأرز لذلك. وهذه المرحلة لا عمارة فيها ولا ماء. والمسافة ثمانية عشر فرسخا ونصف لكنا قطعناها في إحدى وعشرين ساعة. وفي مسيرنا منها نظمت بيتين للسيد الحسيب النسيب السيد عيسى الدمشقي ابن السيد أحمد الجاني

[العلى]

وقف سنان باشا «1» ، وذلك أنه أهدى لي علبة حلوى سكرية، والبيتان «2» : أهدى لنا حلوى حلاوتها زكت ... فكأنما عجن الدقيق بريقه وهذا السيد عيسى من طلبة العلم له حسن باهر، ومحيا زاهر، لتسلسل عذاره المسكي، وقيد القلوب بسلاسله وقال: هذا فتكي!. [العلى] وتليها مرحلة العلى بضم العين مقصورا، وهو بلد بناحية وادي القرى «3» سميت بذلك لكون الجبلين اللذين يكتنفانها عاليين مرتفعين «4» ، والآن هي قرية صغيرة وقلعة «5» ، وفيها حدائق من النخيل نحو عشرة الاف نخلة، وتمرها جيد، وفيها الليمون الحلو الكبار. وفيها عينا ماء تسقى منها (173 أ) الحدائق وسائر الأشجار، إلا أن ماءها وهواءها رديّان. وفيها أيضا آبار يخرج ماؤها بالسواقي فيسقي الزروع، والمسافة ثمانية عشر فرسخا ونصف إلا أنا قطعناها بنحو عشرين ساعة. [الحجر: ديار ثمود] ومررنا بطريقنا ليلا على الحجر ديار ثمود «6» وتسميها العامة ديار صالح، لكن في الإياب مررنا عليها نهارا، وهي أرض موحشة غضب الله ظاهر عليها، وفيها بيوت ذوات

أبواب، على سطح كل باب هيئة الدرجين المعكوسين، تظن العامة أنها مقلوبة، وليس كذلك كما هو ظاهر لمن تأمل البناء «1» وعقد الأبواب والأواوين وأكثر البيوت علا عليها الرمل، نعوذ بالله من غضبه وعقابه. ومررنا على الجبل الذي غاب فيه سيدنا صالح النبي، وتسميه العامة مبرك الناقة، تزعم بأن الجمال إذا سمعت رغاء الفصيل تبرك فلا تثور، وهذا إذا وصلوا إلى ثغر الجبل أكثروا من الصياح ورفع الأصوات وضرب البنادق لكي لا تسمع الجمال رغاء الفصيل فتبرك، وهذا أمر مشهود فيما بينهم، والظاهر أنه لا أصل له، وإنما أصله القديم أنه لما كان رمل ذلك الموضع كثيرا متراكما، والغالب يكون الفيء والظل عليه، فإذا وطئت (173 ب) الجمال ذلك الرمل تبرك كما هو عادتها في غيره، احتالوا لها بذلك والله أعلم. وأقمنا في هذه المرحلة يوما، ودعانا يوم الإقامة الحاج عبود كبير جمالة حلب، وقدم لنا أطعمة فاخرة من أنواع الحلويات السكرية والكاهي «2» والخروف المحشو والمصارين المحشوة والأكارع والرءوس المطبوخة أحسن طبخ وعليها ماء الليمون، والبلاو «3» المزعفر وعليه قطع اللحم السمينة، والحريرة المطبوخة مع ماء الليمون، والمخلل المعمول من الزيتون والقرع وغير ذلك، ثم شربنا قهوة البن التي كأنها جناح الطاووس، ورش علينا ماء الورد الذي تفوق رائحته «4» المسك وتبخّرنا بالعود الطيب، جزاه الله عنا خيرا، وكان معنا في هذه الدعوة

[آبار الغنم]

السيد العالم الناسك جلبي أفندي المفتي بحلب على مذهب الحنفية سابقا «1» ، والسيد أبو المواهب مفتي الشافعية بحلب، والسيد طالب الرفاعي البصري، والسيد يونس الأدهمي، والحاج محمد بن هاشم البغدادي، والحاج محمد بن قاسم البصري، فانبسطنا وحمدنا الله الذي أطعمنا مثل هذه الأطعمة التي هي عزيزة في الحضر. وأهل العلى صورهم قبيحة لا دمّ في وجوههم، أكثرهم عور، وقد شاع عند الحجاج انهم يتجرأون على قتل الإنسان ونهب أمواله، وليس بصحيح، بل الذي يفعل ذلك عرب عنزة «2» ، يستخفون (174 أ) بين النخيل والأشجار، فإذا مر بهم الحاج المنفرد قتلوه وسلبوه، وأما أهل العلى فلا يخرجون من بيوتهم إلى خارج القرية إلا القليل، خوفا على أنفسهم من عسكر الحاج، فتبقى الحدائق خالية من الناس، فتأتي الأعراب فيكمنون فيها ويفعلون القبائح، فيظنهم الذي لا علم له ولا خبرة أنهم أهل العلى، حاشا لله، فهم قوم مسلمون يقيمون الجمعة والجماعات، ويؤوون من انقطع من الحجاج، ويقومون بأودهم كما شاهدته عيانا. [آبار الغنم] وخرجنا بعيد الظهر، ونزلنا آبار الغنم، وهي أرض إلا أن فيها آبارا كثيرة، ماؤها عذب إلا أنه ردىء، سميت بذلك لكثرة ما حول الآبار من بعر الغنم لأن الأعراب ينزلون فيها، ويوردون أغنامهم منها، فتبعر الأغنام حوالي الآبار، ولقد شاهدت البعر حواليها كثيرا جدا، وبعضهم يقول آبار غنم بدون ال، ولعل ذلك منسوب إلى غنم بفتحتين، بن تغلب بن وائل «3» أبو حي، والله أعلم. وفيها قلعة عمّرها في عصرنا المرحوم سليمان باشا ابن العظم، وفيها حراس من الجند كل سنة يبدلون ويأتي غيرهم كسائر القلاع والمسافة خمسة [فراسخ] ونصف فرسخ «4» .

[البئر الجديد]

[البئر الجديد] وتليها مرحلة البئر الجديد، وهي بئر واحدة يستقي منها الحاج، وماؤها أعذب مما قبلها، وليس فيها عمارة، والمسافة ثمانية عشر فرسخا «1» ، لكنا قطعناها (197 ب) بنحو عشرين ساعة، سميت بذلك إما لأن البئر حفرها ليس قديما، أو أنه مغيّر عن جدّة، وهو البئر الكثيرة الماء أو قليلة ضد. [هديّة] وتليها مرحلة هدية بفتح الهاء فكسر الدال فتشديد المثناة التحتية وآخر الحروف هاء تأنيث، وفيها قلعة بناها في عصرنا المرحوم سليمان باشا ابن العظم «2» ، وهذه الأرض إذا حفر فيها نحو ذراع خرج الماء لأنه كامن تحت الرمل، إلا أنه رديء مسهل لما فيه من ملوحة ما. ويشرف على القلعة جبل أسود، وأرضها كثيرة الرمل. ويحيط بالمنزلة التي خيمنا فيها جبال سود، والمسافة سبعة عشر فرسخا، وعن شمالها خيبر غير بعيدة، وصادفنا في هذه المنزلة حر شديد يزيد على حر تموز في العراق، حتى تجردنا عن غالب الثياب ونحن نسبح بالعرق، وكان قد مضى من كانون الأول اثنا عشر يوما. ويوم نزولنا دعانا للضيافة أمير الحاج الوزير أسعد باشا، فأضافنا ضيافة حسنة مشتملة على أنواع شتى من الطعام، من جملته الباذنجان المحشو والقرع المحشو في غير أوانه، وحين حضرت صلاة المغرب صليت إماما بالقوم، وكان معنا في تلك الدعوة العالم الفاضل السيد جلبي أفندي المفتي السابق بحلب على المذهب الحنفي، والشيخ أبو المواهب مفتي الشافعية بحلب (174 أ) المحمية، والسيد الجليل السيد طالب البصري من أولاد سيدي

[الفحلتين]

الشيخ أحمد الرفاعي- قدّس سرّه- والسيد السند السيد يونس الأدهمي، ومفتي الموصل يحيى أفندي. وأقمنا في هدية يوما، وسبب تسميتها بذلك أن العوام يعتقدون أنه- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من خيبر قلّ عليهم الماء، فأهدى الله له الماء في ذلك الموضع، فسمي الموضع هدية تسمية للمحل باسم الحال، ولا يصح شيء من ذلك، نعم، لو قيل إنّها هدية من الله أي نعمة أنعمها الله على الحاج لما كان بعيدا. [الفحلتين] وتليها مرحلة الفحلتين، بفتح الفاء فسكون الحاء ففتح اللام فتاء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة وآخر الحروف نون على صيغة التثنية. قال في القاموس: والفحلتان موضع «1» ، ولعل وجه التسمية انفرادها عن العمارات، واعتزالها عنها كالفحل، فإنه إذا قرع الإبل اعتزلها، وفيها آبار عذبة حلوة غير مطوية ولا محفورة، وإنما يحفرها الحجاج قدر قامة فيخرج الماء من تحت الرمل، ولعله ماء مطر كامن تحت الرمل «2» . والبدو تسميها شجوى من الشجو، هو الحزن، ويحق لها ذلك حيث إنها لم تكن موطئ أقدامه- صلى الله عليه وسلم- ولا دار سكناه مع قربها من طابة. ومما وقع لي أني لما وصلت إلى تبوك أخذني الحزن والقلق والخوف والرعب والاضطراب. مع كثرة البكاء والنحيب والعويل، ولم يزل هذا الحال يعتريني كل ساعة، لا تهدأ عيني من البكاء ولا يبرد قلبي من حر الفراق والخوف، إلى أن خرجت من طابة الطيبة، وما كان ذلك إلا خوفا من أن «3» أكون مردودا مطرودا محروما خائبا مأيوسا، غير مقبول ولا مرضي، وخوفا

[العقبة السوداء، الشربة، العلم السعدي]

من أن» أكون مقصرا في تعظيمه وتوقيره والتأدب معه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كل ساعة ألوم وأقول: بأي وجه أواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ذو جرم كبير كثير التقصير، منهمك في اللذات، غارق في بحار الغفلات، غير مكترث بالطاعات، ولا مجد على العبادات، ولم يزل هذا الوارد معي لا يفارقني، فالله أسأل أن يجعلني من المقبولين المرضيين غير المطرودين المحرومين، وأن ينفعني بزيارته صلى الله عليه وسلم، ويحشرني تحت لوائه، آمين. [العقبة السوداء، الشربة، العلم السعدي] ومررنا في طريقنا على العقبة السوداء، وعلى الشربة، والعلم السعدي، ديار بني عبس، هكذا قيل والظاهر أنه لا يصح. وهذه المرحلة لا قلعة فيها، وماؤها من أعذب المياه، والمسافة ثمانية عشر فرسخا لكنا قطعناها بعشرين ساعة. [وادي القرى] وتليها مرحلة وادي القرى «2» ، وهي بين جبلين، ذات رمل، وفيها بئر ماء عذب، والجملة (176 أ) تقول بئر القرى، والأعراب تسميها بئر جبر، والمسافة خمسة عشر فرسخا بقي منها إلى المدينة المنورة مرحلة واحدة، ولما سمعتهم يقولون غدا ننزل المدينة زاد خوفي وقلقي واضطرابي وعويلي، حتى كأني مطالب بثأر، أو مقدم لقصاص، فتمثلت بقول القائل: قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم وكلّ من كان مطيعا لهم ... أصبح مسرورا بلقياهم قلت فلي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه اتلقاهم قالوا أليس العفو من شأنهم ... لا سيما ممن ترجّاهم وقد خمست هذه الأبيات منذ مدة والوجل الأول ازداد وتضاعف حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوفا من أن أطرد وأرد، أعوذ بالله من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا

[المدينة المنورة]

بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، على الله توكلت. [المدينة المنورة] وتليها مرحلة طابة الطيبة المنورة، دخلتها يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام «1» ، وقبل رؤيتي معالمها ازداد اضطرابي، وتضاعف خوفي ورعبي، وعيناي (176 ب) تهملان بالدموع، وفؤادي محترق بالولوع. ولما وقع نظري على معالمها نزلت عن الجمل ومشيت راجلا إلى أن دخلتها فتمثلت بقول القائل: ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الدّيار ولا لبّا نزلنا عن الأكوار «2» نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا وكيف التذاذي بالأصائل والضحى ... إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبّا فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى ... ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما اصبى وحين دخلتها اغتسلت، وقصدت المسجد النبوي، (اتخلل الطرف) «3» ، منكس الرأس، هامل العين، خائفا وجلا، فدخلت من باب سيدنا جبرائيل لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان يدخل منه، فازداد خوفي وبكائي وتضاعف خجلي وحيائي خشية أني قصرت في إقامة شريعته وإحياء سننه، فلا سنة أحييتها ولا بدعة أمتها، لا نشرت أحكامه بين أمته، ولا أتعبت نفسي في تشييد ملته، وأكثر خوفي ورعبي أني إذا قلت: السلام عليك يا رسول الله، (177 أ) أخشى أن يكون جوابي منه: لا سلام عليك ولا حياك ولا بياك! فوقفت تجاه وجهه الشريف في غمرات الناس، وأنا خائف وجل، كأني سارق أطالب بحد، أو قاتل أقيد لقود، أو فاعل فعلة شنيعة، أو مرتكب جريرة قبيحة فظيعة، خافض الطرف، منكس الرأس، ذاهل عن جميع الحواس، ناظر إلى أسفل الجدار، ودموعي كالوبل المدرار، وأعضائي ترعد

فرقا مما رأيت من الجلالة والمهابة، فكدت أتمزق ذعرا، واعترتني الحيرة والدهشة حتى أني ذهلت عن نفسي، فلم أشعر أني في أرض أو سماء، فتلوت الزيارة المشهورة سرا، والعين يتحادر «1» دمعها قطرا. فبينما أنا في تلك الحالة الصعبة فإذا وارد الغيب يقول: يا مسكين! أتدري ما هذه الرائحة الزكية التي عطر الكون شذاها وأعبق الوجود رياها؟ يا مسكين، أتعرف هذه الأنوار التي أشرق بها الخافقان، وممن هذا الأنس الذي دونه فراديس الجنان؟ يا مسكين، أتدري عظم موقفك الذي وقفت فيه، أو شعرت «2» - ولا أظنك- بظواهره وخوافيه؟. يا مسكين، هذا ستار حسرت دونه السماوات، وخفضت، بالإضافة إليه، جميع المقامات. (177 ب) يا مسكين، لو اشتري هذا المقام بالأرواح لكان المشتري رابحا أجل الأرباح، وهيهات يناله من بذل روحه في الوصول إليه، وكم من نفوس قطعت أسى وحزنا عليه، يا مسكين، أتدري ما أمامك، وجلالة ما قدامك، يا مسكين، تجاهك بقعة لا يعدل طيب ترابها المسك الزكي، ولا يداني شرفها السماوات والأرض، بل والعرش والكرسي! يا مسكين، هذا المقام تود أن تطوف فيه الأنبياء، وتتمنى أن تخدمه ملائكة السماء. يا مسكين، أتدري من حل هذه الروضة النضرة والبقعة الطيبة العطرة التي دونها الفراديس والنعيم، وتتقاعس دونها جنة الخلد والتكريم. يا مسكين هذا حبيب الله، هذا خليل الله، هذا صفي الله، هذا رحمة الله، هذا حجة الله، هذا صفوة الله، هذا نعمة الله، هذا خيرة الله، هذا اشرف خلق الله واكرمهم على الله، هذا سيد المرسلين، هذا خاتم النبيين، هذا رحمة للعالمين، هذا قائد الغر المحجلين، هذا نبي الأنبياء، هذا سند الأصفياء، هذا صاحب الحوض المورود، هذا صاحب المقام المحمود، هذا صاحب الشفاعة، (178 أ) هذا صاحب الضراعة، هذا شفيع الأنام، هنا المظلل من حر الهجير بالغمام، هذا البشير النذير، هذا السراج المنير، هذا هو العروة الوثقى، هذا ذو الرتبة التي لا ترقى، هذا نور الأنوار، هذا المصطفى المختار، هذا الفجر الساطع، هذا المشفع الشافع، هذا الذي لولاه لما برز العالم إلى

الوجود، هذا أكرم الناس من الآباء والجدود، هذا الذي تتشفع به الأنبياء الكرام، هذا صاحب الشفاعة العظمى إذا اشتد الزحام، هذا صاحب الوسيلة، هذا صاحب الفضيلة، هذا صاحب الدرجة الرفيعة، هذا صاحب الرتبة المنيعة، يا مسكين حسبك ما سردته وأنهيته إليك، وإلّا فلو صرفت الأعمار وفنيت الأعصار لما استقصي العشر من صفاته، ولا البعض من شمائله وكمالاته، ويلك يا مسكين! إن طردت وأبعدت فقد خسرت وخبت، فتبا لك تبا، وبعدا لك وسحقا وسبا. ما نالك يا مسكين من هذه الأسفار إلا تكلف المشاق، وركوب الأخطار، وخسرت تجارتك، وكسدت بضاعتك، فربحك الكد والتعب، ومحصولك المشقة والنصب «178 ب» ، وإن كنت مقبولا مرضيا فقد رقيت مقاما عليّا، فلك الهناء والسعادة، وبلوغ المنى والسيادة، وعلوت أوج المعالي، وزهرت أيامك والليالي، ورجعت بحظ وافر وسعد دائم ضافي. هذا ما أملاه وارد الغيب على خاطري، وانتقش في صحيفة سرائري، وعيناي بالدموع تهملان، وأنا باهت ذاهل حيران، أذهبت نسمات اللطف من حضرة العطف فسعد جدي بعد تعكيسه، ورفعت رأسي بعد تنكيسه، وقلت بلسان قؤول، وقلب عقول، وجنان قوي، ويقين سوي: يا رسول الله، صلى الله عليك وسلم، والله الذي أرسلك بالحق نبيا لتشفعن لي ولتشفعن بي يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، قد حدثني الثقات عنك إنك قلت: ربّ أشعث «1» (مدفوع بالأبواب) «2» لو أقسم على الله لأبّره «3» ، وها أنا ذلك الأشعث الأغبر، يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، قد بلغني عنك أنك قلت، وأنت الصادق المصدوق لا تنطق عن الهوى، وإنما أنت وحي يوحى: من زار قبري وجبت له شفاعتي «4» . وها أنا قد زرت الكرم، وأنت أجل من يرعى

الذمم، يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، إني قرأت فيما أنزله الله عليك (179 أ) : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً «1» فها أنا من ظلم نفسه وجاءك تائبا مستغفرا من ذنبه مستشفعا بك وأنت أجل شافع إلى ربه فلا بد أن تستشفع بمقتضى وعدك الصادق حيث قلت: من زار قبري، الحديث السابق، وقد علق الله توبته ورحمته على مجيئنا إليك واستغفارنا واستغفارك لنا، فها نحن قد جئنا واستغفرنا واستغفرت لنا، فقد وجد المعلق عليه فلا بد أن يقع المعلق، والله لا يخلف الميعاد يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، حاشاك أن تطرد من وقف ببابك ومرغ محياه بأعتابك واستجار بك من ذنوبه، ورجاك لدفع ملماته وخطوبه، وأنت ملاذ العاصين، ومعقل الخائفين، وملاذ المستصرخين، وكهف المستغيثين، وثمال «2» السائلين، ورحمة للعالمين، أيضيق بي جاهك العريض أم يعجز قلبك، وأنت طبيب القلوب، عن داء هذا المريض، يا رسول الله صلى الله عليك وسلم إن آحاد الأعراب إذا التجأ بهم الخائف أمنوه، أو استنجد بهم الصريخ (179 ب) أغاثوه ونصروه، وأنت أجل الورى جاها وقدرا، وأعظمهم غيرة ومروءة وفخرا. يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، قد رويت عنك أن الله تبارك وتعالى قال لك: اشفع تشفع، وسل تعط، والله لا يخلف الميعاد، يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، إني أرجو أن صفات القيامة وأحوالها وعقباتها، ولا سيما الموقف والصراط والميزان، يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، مالي وسيلة من الأعمال أقدمها بين يدي إلا حبك، وقد بلغني عنك أنك قلت: المرء مع من أحب، يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، قد هجرت لزيارتك الأهل والوطن والولد والسكن، وتحملت المشاق و (تجرعت غصص) «3» الفراق، وقطعت الروابي والوهاد والأغوار والأنجاد من الأماكن الشاسعة

القاصية والأقطار البعيدة النائية، كل هذا لمحبتي فيك. أيليق وحاشاك أن تردني محروما مطرودا مأيوسا مبعودا، ثم أنشدت وأنا واقف: حثثنا إليك العيس والأينق النجبا ... فأسرعن يطوين الحزونة والهضبا قصدنا حماك الرّحب نستعذب السّرى ... وثفنا «1» إلى مغناك نستسهل الصّعبا هجرنا الكرى كيما نرى طابة التي ... بسكناك طابت أو نلمّ بها ركبا وإن نفحت من نحو حيّك نفحة ... تعطّرت من ذاك النّسيم الذي هبا وعمرك إني نحو مغناك شائق ... وما زلت ذا وجد بكم مغرما صبا «2» ولو لاك ما سار الحجيج ولا سعى ... ولا طاف في البيت الحرام ولا [لبى] (180 ب) وإن لم تجدّ السّير غير كليلة ... وأنت لها قصد فتبّا لها [تبا] فيا حجّة الله الكريم على الورى ... وخيرة من ساد الأعاجم والعربا رجوناك والرّاجيك غير مخيّب ... بأن يقبل الرحمن من عبده توبا إليك رسول الله وجّهت وجهتي ... وما خاف من يأوي إليك إذن خطبا وليس لعبد الله غيرك ملجأ ... إذا خاف من هول الزحام ذوو القربى نبيّ الهدى غوثا لمن جاء ضارعا ... لبابك ملهوفا قد اقترف الذّنبا لقد قيدته عن مناه ذنوبه ... فضاق بها ذرعا وزاد بها كربا أطاع هواه عامدا غير جاهل ... وجر ذيول اللهو في غيّه عجبا (181 أ) تمادى على العصيان مذ زمن الصبا ... إلى أن غدا فوداه مشتعلا شيبا ولم يكترث يوما بإيعاد آية ... ولا خاف تهديدا ولكن قسا قلبا

ينادي أبا الزهراء مالي موئل ... سواك ولا لي من ألوذ به ندبا فجئت إليكم مستجيرا بظلكم ... وحاشاك أن تقصي الدخيل ولو كلبا فكن لي شفيعا يوم لا ثم شافع ... بمغن عن الجاني إذا استيقن الرعبا تعطف وجد وامنح شفاعتك التي ... تعم شيوخي والأقارب والصحبا سلام من الرحمن ما هبت الصبا «1» ... وما حركت في سيرها الغصن والقصبا وأثنى إلى روح الضجيعين رحمة ... تصب على قبريهما مزنها صبا فزال عني ما كنت أجده من الرعب، وحصلت على الطمأنينة، وصرت معه- صلى الله عليه وسلم- صلى (181 ب) الله عليك وسلم- أرجو شفاعتك فلان. ولم يزل هذا دأبي إلى أن عددت خلقا كثيرا، وأكثر ما دعوت لرجلين وامرأة لأنهم كما بلغني من كتاب ولدي أحسنوا إلى عيالي ووفوا معي، وأردت أن أشكو إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلين اقرأتهما العلم وتعبت في تعليمهما بحيث كنت أحرص عليهما أكثر من أولادي، وأفرغ لهما النصيحة في قالب الرفق والشفقة حتى مهرا في غالب الفنون، فاتخذاني عدوا، ولم أسلم من لسانهما إلى أن أخذا يتكلمان بالزور والبهتان، وينسباني إلى أمور مفتراة، وسعيا في تنقيصي وإضراري، فامتعضت من ذلك وفوضت أمرهما إلى الله تعالى، عاملهما الله بما يليق بهما. ومما من الله به عليّ أنه ثلج في صدري، وقر في قلبي أني ما أسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا إلا أجابني ومنحني، وهو- صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق على الإطلاق، فلا بد أن يتفضل على هذا العبد الجاني الواقف ببابه، المتشبث بجنابه، ولم يزل شعاري، مدة مكثي في طابة، البكاء والنحيب، لكنه لا لخوف (182 أ) وإنما كان تأسفا على مفارقتي له- صلى الله عليه وسلم- ولهذا كان ديدني التمثل بما قاله سيدي

الشبلي «1» رحمه الله تعالى «2» : فردت لوعتي، وأمنت روعتي، ورجوت القبول وبلوغ المنى والسّول، إلا أن تخيل فراقي أضرم أشواقي، وأسال عبراتي وأجّج زفراتي. وفيما منّ الله به عليّ زيارة ضجيعي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- وعمر الفاروق- رضي الله عنه- وكلما زرتهما سألتهما الشفاعة لي عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن يكونا لي واسطة ووسيلة عنده، عليه الصلاة والسلام. ومما منّ الله به علي أني أقرئت أوائل صحيح البخاري في الروضة المطهرة، عند نبيه- صلى الله عليه وسلم- من غير قصد مني، وذلك أنه طلب مني الشيخ الشاب سليمان بن عبد الهادي العجلوني ابن أخي الشيخ إسماعيل العجلوني أن أجيزه بما يجوز لي وعنى روايته، فأجزته، فالتمس، ونحن جلوس وقت العشاء الأخيرة ليلة الجمعة السابعة (182 ب) والعشرين من ذي القعدة الحرام أن يقرأ أوائل الصحيح وأقرر له ما تيسر، ففعلت، والحمد لله على ذلك، ومما اتفق أن الشيخ إسماعيل العجلوني شارح البخاري التمس مني مرارا أن أحضر في درسه في البخاري في الروضة تلك الليلة المتقدمة، فحضرت، فشرع في القراءة بعد أن صليت العشاء الأخيرة، وقرأ حديث (إنّما الأعمال بالنيات) ، فأخذنا معه في المحاورات، ولم يزل يسألني وأجيبه، لكن الشيخ مع جلالته ارتج عليه، وسد عليه طريق التقرير بما يتعلق بالحديث المذكور، فأخذ يتكلم على الأمور الخارجية وأنا أمهد له طرق التقرير (الذي يقتضيه علمه) «3» وإنما قرر أشياء تعتني بها صغار

الطلبة، كالكلام على البسملة وتقديم الرحمن على الرحيم وما أشبه ذلك، فلم أعرف أن الشيخ دهش، أو أن نيته غير سليمة. ولما شاهد الدمشقيون أن شيخهم يشاورني ويستفهم مني في ذلك الدرس، عظمت في أعينهم، فمنذ ذلك شرعوا في توقيري وتعظيمي، واعتذروا مني حيث لم يوفوا بحقي من الإكرام في بلادهم، والحمد لله على ذلك. (183 أ) ومما وقع أني استجزته لي ولأولادي الصلبيين والقلبيين فأبى إلا أن أجيزه فأجاز كل منا الآخر، وأجاز أولادي صلبا وقلبا، وطلب مني أن أكتب لهم الإجازة فلم تتهيأ في المدينة المنورة. واجتمعنا بالشيخ محمد حياة السندي، وطلبنا منه إسماع حديث الرحمة فأسمعنيه، وهو أول حديث سمعته منه، واستجزته لي ولأولادي المذكورين، فاجازنا، لكني ندمت على ذلك لأني كنت أسمع من بعض من حج مدحه والثناء عليه علما وعملا، فلما اجتمعت به رأيته رجلا يحب الدنيا كثيرا، يأكل بدينه ولا يسأل من أين أتاه المال، فلا يتورع في شيء ولو من مال المكس كما شاهدت ذلك. وله طريقة يصيد بها الدنيا فإنه يتزيا بزي الزاهدين ويلين الكلام، والحجاج يأتونه بالهدايا وأكثرها نقود، فيأخذ ولو من مال المكس، ويكرم الناس قدر ما يهدونه إليه، ويجلس في أخريات المسجد في مكان خال من الازدحام، حتى إنه يعرف ويهدى له، وله جماعة يثنون عليه ويقبلون يديه إذا رأوا أحدا عنده، ولهم حصة فيما يأخذه. والحاصل ما أعجبني طريقه، ولا سمته، عافانا الله من سوء الأخلاق «183 ب» ومن النفاق والرياء. وكذلك رأيت علماء مكة فإنهم يحبون الدنيا كثيرا ولا يبالون من أي كان، حتى الزمزمي والشيبي فلقد رأيتهم يقصدون زيارة أهل الثروة والغنى ولا يسألون عن عالم ولا صالح، وكذلك أكثر أهل دمشق الشام، عافانا الله من ذلك بفضله وإحسانه. وزرنا المشاهد «1» التي في البقيع: مشهد سيدنا عثمان، وسيدنا إبراهيم ابن النبي- صلى الله عليه وسلم- وعثمان ابن مظعون، وفاطمة الزهراء، وأزواج

النبي، وسيدنا الحسن، وجعفر الصادق، وزين العابدين، وعمات النبي- صلى الله عليه وسلم- ومرضعة النبي صلى الله عليه وسلم. وأقمنا في المدينة المنورة غير يومي الدخول والخروج: الخميس والجمعة، وخرجنا منها طلوع شمس يوم السبت الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام «1» . ولما ركبت المحمل بقيت متلفتا إلى قبة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- باكيا محوقلا إلى أن غابت عن ناظري، وإذا وارد الغيب يقول: يا مسكين! هذا النبي- صلى الله عليه وسلم- اعتذرت منه، وقد وكل أمرك إلى الله تعالى فما اعتذارك عند عالم الخفيات والسرائر والنيات؟ كيف بك إذا قلت: لبيك، فقال لك: (184 أ) لا لبيك ولا سعديك! ولم يزل هذا الوارد في الإلحاح وأنا أبكي، وتكدر عيشي، وتضاعف خوفي، وكثر قلقي ورعبي، حتى كدت أتمزق، وتتفطر مرارتي، فأتاني بشير الإلهام، وقال: يا مسكين! هب أنك أتيت بقراب الأرض ذنوبا، أيضيق جاه رسول الله بك وقد وعدك بالشفاعة، وهو الصادق المصدوق، ووعده الله تعالى بقبول شفاعته كما قررت أولا، فما أعجل ما نسيت وما بالعهد من قدم، فسرى عني ما كنت أجده وطفيت لوعتي وقوي حسن ظني ورجائي، ثم أني ودعته بهذه الهمزية، وهي: الوداع الوداع خير رسول ... وشفيع العصاة يوم الجزاء الوداع الوداع يا صاحب الجا ... هـ العريض وسيد الشفعاء الوداع الوداع يا رحمة عمت ... لأهل الأرض وأهل السماء الوداع الوداع يا خيرة الله ... من المرسلين والأنبياء الوداع الوداع يا حجة الله ... ويا صاحب الهدى واللواء الوداع الوداع يا صفوة الله ... ويا ذا الشريعة الغراء الوداع الوداع إن فؤادي ... يوم فارقت حيكم في عناء

[ذو الحليفة]

«184 ب» كيف أسلو ومهجتي باشتعال ... ودموعي شيبت بلون الدماء ما وفى لي تصبري قط ... بل وفت زفرتي وفرط بكائي ما أمر الفراق بعد تدان ... واحيلا التلاق بعد تناء فنواحي يعيد تلك النواحي ... فاق نوح الحزينة الخنساء هل يعود الزمان في جمع شمل ... وأرى العيش في ظلال الهناء أو أر في عيني تلثم ترابا ... من مغان حوت جميل الثناء أو أراني اشم «1» طيب ثراها ... وأقول يا بشراى هذا منائي اسأل الله لا يكن ذا آخر الع ... هد ولي بالاله حسن رجائي فعلى قبرك النيّر صلاة ... وسلام ما لاح نجم السماء وعلى آله والصحاب جميعا ... ما أنار البدور حندس «2» الظلماء [ذو الحليفة] وتليها ذو الحليفة، بضم الحاء فلام مفتوحة فياء ساكنة ففاء مفتوحة وآخر الحروف هاء تأنيث، تصغير حلفاء، وهو لبني جشم «3» وتسميها الناس بآبار علي، ويزعمون أنه قاتل الجن فيها. وأحرمنا معاشر الشافعية منها، ونويت الحج مفردا لأنه الأفضل عندنا، وأحرم معنا بعض الصالحين من الحنفية خروجا من الخلاف، وبتنا بها، وصادفنا برد شديد تلك «4» الليلة ما عهدنا مثله، ومن فضل الله أني بقيت محرما إلى يوم النحر، وهو الثالث عشر من إحرامي، وبفضل الله ما نالني برد ولا ألم ولا سقم مع أن الوقت وسط الشتاء لأنه قد مضى من كانون

الأول تسعة عشر يوما، ومن عادتي قديما أني إذا نزعت عمامتي وكشفت رأسي أقل من ساعة تعتريني آلام وأسقام. ومن فضل الله أن خيمتي، وكذا في الطريق شق المحمل، محيطة بهما الناس لكثرة ما يسألوني «1» من أحكام الإحرام، حتى أهل الشام، مع كثرة الفقهاء في الركب، فحمدت الله على هذه النعمة الجليلة حيث إني كنت المشار إليه في تلك المسائل، حتى مفتي الشافعية في حلب كان يسألني عن جزئيات الإحرام والتمس مني (185 أ) أن أكتب له محظورات الإحرام ومنهياته وواجباته ومندوباته وكذا جميع ما يتعلق بالمناسك كالوقوف والطواف والسعي وغير ذلك، فاعتذرت بضيق الوقت، والتمس مني السيد يونس أن أكتب له جميع الأدعية المتعلقة بسفر الحج من الخروج إلى آخر الرجوع، فكتبت له رسالة صغيرة مشتملة على الأدعية المأثورة وغيرها. والحاصل كان غالب الحاج يسألني عن دقائق المحظورات والواجبات وغيرها، ومما وقع السؤال عنه أن الإنسان المحرم لو لبس ثيابا كثيرة فهل يلزمه دم واحد أم أكثر؟ (والجواب: يلزمه) «2» دم واحد إذا اتحد المكان والزمان، سواء كان اللبس قطعة واحدة أم لا، ووقع أيضا السؤال عن اللابس المذكور إذا نزع بعض ثيابه ثم لبسها، هل يلزمه دم أم لا؟ والجواب: إذا كان المنزوع لم يستر شيئا لم يستره الأول فلا دم عليه وإلا فعليه دم، صرح بذلك الشيخ ابن حجر في حاشية الإيضاح، وحمل عبارة الإيضاح على ما ذكرنا. ومما وقع السؤال عنه أن المحرم لو نزع عمامته لمسح رأسه أو خفيه لانقضاء مدة المسح أو ثيابه هل يلزمه دم إذا لبس أم لا؟ (186 أ) وجوابه: لا يلزمه دم لأن الإكراه الشرعي كالحسي كما صرح الشيخ ابن حجر وذلك في الحاشية المذكورة، ومما وقع السؤال عنه: أن الإنسان المحرم لو آلمه رأسه من الكشف فهل يحرم عليه لبس جميع ثيابه أو يقتصر على ستر رأسه؟ وجوابه: يحرم عليه لبس الجميع لأن الضرورة تتقدر بقدرها، فلو لبس شيئا في غير الرأس لزمته الفدية والحرمة، وفي الرأس تلزمه الفدية ولا حرمة، وأكثر هذه المسائل أنكرها الفقهاء فأخرجت لهم عبارة الشيخ في الحاشية، وصار ذلك رخصة عم نفعها حتى إنّ المحرمين دعوا إلى كثيرا.

[بين جبلين]

وذو الحليفة عن المدينة ستة أميال على ما قال النووي في الإيضاح، وثلاثة على ما قال ابن حجر في مختصره، و (هذا الخلاف) «1» مبني على مسافة الميل ما هي، والله تعالى أعلم. [بين جبلين] وتليها مرحلة بين جبلين، وهي ما بين الشهداء وبئر ذات العلم، وسألت عن الشهداء من هم: فقيل: هكذا نسمعهم يقولون، وهي قبور وسط الطريق الذي بين الجبلين، وأما بئر ذات العلم فهي عميقة جدا، والمسافة ثمانية عشر فرسخا ولا ماء. [الجديدة] ثم تليها مرحلة الجديدة تصغير جديدة، وهي (188 ب) قرية في حضيض الجبل «2» ذات نخل كثير، وفيها تمر جيد يشبه تمر كربلاء المسمى بالمفتعل، وفيها البطيخ الأخضر، والفصل- كما علمت- كانون الأول، ومنها تجلب الحناء إلى المدينة، وفيها قبر سيدي الشيخ عبد الرحيم البرعي «3» ، وعليه قبة، يزار ويتبرك بها، نفعنا الله تعالى به، آمين. والمسافة ستة فراسخ، وفيها عين ماء عذبة. [بدر] وتليها مرحلة بدر، وبها كانت الغزوة المشهورة التي أعز الله الإسلام فيها، والمسافة اثنا عشر فرسخا. [الحمراء] ومررنا في طريقنا على الحمراء سميت بذلك لأن حجارة الجبل المطل حمراء «4» . [الصفراء] وعلى الصفراء، وهي التي قتل فيها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه دريد بن

[القاع]

الصمة بأمر من النبي- صلى الله عليه وسلم- في منصرفه من بدر» ، سميت بذلك لأن حجارة جبلها المطل عليها صفراء «2» ، وعلى الخرما والعالية والفارعة، وهذه كلها متصلة، وفي كل منها نخل كثير، وبدر إما اسم العين، أو الجبل على الخلاف المشهور، وأهلها الآن شيعة. وكان عادة الركب الارتحال منها ثلث الليل الأخير، فأخذ الطلق زوجة السيد طالب الرفاعي نسبا وطريقة، فالتمس من أمير (189 أ) الحاج أن يتمهل إلى طلوع الفجر، فأجابه لذلك، ففرج الله عنها قبل الفجر وأتت بذكر فسمي ببدر الدين، وهذه الامرأة من الأنصار من بني النجار. وهبت علينا وقت الارتحال ريح شديدة عاصفة باردة، فلبس أكثر المحرمين. [القاع] وبينهما مرحلة القاع، وهي عبارة عن بر أفيح واسع لا باب فيه والمسافة عشرة فراسخ. [رابغ] وتليها مرحلة رابغ بألف فباء موحدة مكسورة وآخر الحروف غين معجمة، وهو واد بين الحرمين قرب البحر، ويرى منه ماء البحر كما شاهدته، وفيه قرية صغيرة ذات نخيل «3» ، وأكلنا فيها البطيخ الأخضر والفصل كانون الأول. ورابغ هذه هي الآن ميقات أهل الشام عند الحنفية سواء مروا على المدينة أم لا، بخلاف الشافعية فإنها ميقات للشامي إذا لم يمر بالمدينة وإلا فميقاته ذو الحليفة. وليس رابغ هو الميقات الأصلي بل الميقات الأصلي الجحفة بضم الجيم، وهي قرية كانت

[المستورة]

جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة، وكانت تسمى مهيعة فنزل بها بنو عبيد وهم إخوة عاد، وكان أخرجهم العماليق من يثرب، فجاءهم سيل جحاف «1» فاحتّفّهم فسميت الجحفة (189 ب) ، انتهى كلام الفيروزآبادي «2» . وخربت أيضا من الحمي، حتى قيل: إن الطير إذا مر عليها يحم فارتحل أهلها، وليست الحمى فيها أصلية وإنما كانت في المدينة أولا فخرجت منها بصورة جارية سوداء وسكنت الجحفة بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم برفعها «3» ، فسميت المدينة من حينئذ طابة على بعض الأقوال في وجه تسميتها، ولما كانت الجحفة خرابا اتخذوا رابغا ميقاتا لأنه محاذ لها، والمسافة أربعة وعشرون فرسخا، وصادفنا فيها وقت الصبح ريح باردة، ومن فضل الله ما ضرني. [المستورة] ومررنا في طريقنا، قبيل طلوع الشمس على قبة تسميها الجمالة المستورة «4» يزعمون أن فيها قبر بنت عنترة بن شداد العبسي، والصحيح ما أخبرني بعض الثقات أنه قبر ولي من أولياء الله تعالى يقال له المهدلي. [خليص] وتليها مرحلة خليص، كزبير. وهو حصن بين قديد وعسفان «5» فيه عين ماء «6» وعليها

[الأميال السبعة]

قبة كبيرة وبجنبها قبة أصغر منها فيها قبر المرحوم علي باشا ابن المقتول، كان أمير الحج في عصرنا، فمات هناك حين قفوله من مكة، ودفن وأخفي موته عن الأعراب الأشقياء. [الأميال السبعة] ومررنا في طريقنا على سبعة أميال مبنية بالحجر والجص، كل واحد (190 أ) قدر قامة ونصف [و] بين كل ميل مسافة ميل، بناها إسماعيل بك ابن عيواز أحد أمراء الحاج المصري، وذلك لأن تلك الأرض رملها كثير فيحصل من تراكمه تلال عظام فيتيه ركب الحاج فبناها لتكون علامة ونصبا على الطريق. ومررنا أيضا وقت السحر على عقبة على كل طرف منها علم، والعلمان متقابلان، تزعم الجمالة أن في أحدهما مكتوبا: خرا ابن خرا من يحج بمره وعلى الآخر: خرا ابن خرا من لم يحج بمره! والظاهر لا أصل لذلك. [قديد] ومررنا أيضا- وقد مضى نصف الليل- على قديد، وأنخنا بها نحو ساعة ونصف، والمسافة وأحد وعشرون فرسخا. [عسفان] وتليها مرحلة بين عسفان «1» ووادي فاطمة، نزلنا في بر أفيح لا ماء فيه. ومررنا على عسفان، وفيه ثغر وعرذ وجنادل كبار وشعوب من السيل ولذلك سمي الموضع بعسفان لعسف السيول، وفيه صلى النبي- صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف، والمسافة خمسة عشر فرسخا. [مكة المكرمة] وتليها مرحلة مكة المكرمة، دخلناها ضحى يوم الاثنين السابع من ذي الحجة الحرام «2» ومنذ جاوزنا التنعيم وهو أدنى الحل، ومحل العمرة الآن، مشينا إليها حفاة من طريق كداء،

بفتح الكاف والمد، (190 ب) وبقيت بقية ذلك اليوم حافيا، وطفت طواف القدوم، ودخلت البيت من باب بني شيبة، فلما شاهدت البيت أخذتني دهشة وحيرة، حتى إني نسيت أن أرمل، وبعد الطواف أتيت الملتزم، وألصقت صدري به، وألححت بالدعاء لي ولأصولي وفروعي وحواشي ومحبي حتى إني دعوت لأناس كثيرة بخصوص أسمائهم، لكن خصصت من أحسن إلي بزيادة. وأتيت المقام وصليت فيه ركعتي الطواف، ودعوت كالأول وتضلعت ماء زمزم، وسألت الله عدة أشياء، منها المغفرة ودفع عطش يوم القيامة، ومهما خطر ببالي من الناس أحد شربت من ماء زمزم لمغفرته وإصلاح حاله ولو كان عدوا، وكذا عند الملتزم ومقام سيدنا إبراهيم والحجر وعرفة والمشعر الحرام (والمدّعى، حتى) «1» أني أضع كوز ماء زمزم بين يدي وأتذكر الناس، وكل من خطر ببالي أخذت الكوز وشربت منه على نية مغفرة ولو كان عدوا أو حسودا سوى (رجلين فلم ادع لهما ولا عليهما، حتى ترجّاهما) «2» السيد يونس الأدهمي في طواف الوداع، فدعوت الله أن يصلحهما، أكثر دعائي لرجلين وامرأة لأنهم أحنوا (191 أ) بعدي على أهل بيتي، وأكثر الكل كان دعائي لتلك الامرأة فإني والله ما نسيتها من الدعاء كل وقت لأنها غمرتني بإحسانها، فإنها جهزتني من داري إلى مكة، فكلما كان عندي فهو من إحسانها، ودعوت لها، وكلما رأيت أثرا من إحسانها دعوت لها، حتى إني كلما صادفت صالحا أو عالما سألته الدعاء لها ولأولادها وزوجها وأقاربها، فو الله لكنت أدعو لأقاربها كرامة لها مع أنه لم يصلني من إحسانهم شيء ولا لي معرفة بهم، وأخذت لها من العلماء الأساطين، والصوفية السلاطين، دعائم الإسلام، ورحمة الأنام إجازات في جميع العلوم وطرق الصوفية، أحياها الله وولديها وزوجها ومن تحبه الحياة الطيبة الهنية، ورزقها وإياهم السعادة الأبدية السنية. ومما وقع لي في الحرم أن قلت: إلهي

وسيدي! قد قلت في كتابك- وأنت أصدق القائلين- إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» فقد وتيت «2» إلهي إلا من دخوله ولم تذكر متعلق الأمن، فدل ذلك بمقتضى بلاغة كلامك أنه (191 ب) عام فيشمل الأمن من كل شيء، ومن أفراد الشيء الذنوب، فها أنا عبدك الجاني الآبق دخلت بيتك خائفا من ذنوبي مستجيرا بك من النار وإنك لا تخلف الميعاد، إلهي! أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، مقيل العثرات، وكاشف البليات، سبقت رحمتك عذابك فحاشا لك أن تطرد من لازم بابك. إلهي حلمك جرّأني على معاصيك، وأوقعني في ذلك حسن الظن فيك، وقد بلغني عن رسولك المصطفى فيما يرويه عنك أنك قلت (أنا عند ظن عبدي بي) إلهي! هذا البيت بيتك، والحرم حرمك، والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار، الهي لا تضرك معصيتي، ولا تنقصك إساءتي، فأسألك العفو عما لا يضرك ولا ينفعك، إلهي! أدنى عبد إذا استجير به أجار، فها أنا عبدك الآبق، أستجير بك من النار، وأنت الأكرم، وأنت الأرحم. إلهي! واسطتي إليك ووسيلتي حبيبك الأعظم، وخليلك المقرب المقدم الذي اصطفيته على جميع خلقك واخترته رحمة لعبادك، ورفعت ذكره، ونثرت فخره، وأقسمت بعمره عبدك ورسولك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (192 أ) فأتوسّل به إليك أن تجيرني من عذابك وغضبك وعقابك. وأردت أن أنظم استغاثة أول كل بيت [فيها] إلهي، فلم يتهيأ ذلك. ويوم الثلاثاء، الثامن من الشهر المذكور، رحلنا من مخيمنا وكان في وادي المنحنى «3» ، بعيد الظهر، وسار الحجيج إلى عرفات، وبتنا فيها ليلة التاسع من الشهر، كما هو عادة الحجاج قديما وإن كان المشروع خلافه، ووقفنا بعيد ظهر عرفة على الصخرات التي وقف

عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وشرعت بالدعاء مستقبل القبلة، واجتمع خلفي خلق كثير وجمع غفير، يؤمنون ويبكون بشهيق وعويل، وأنا أدعو جهرا، فلما رأى السيد طالب الرفاعي كثرة الخلق وازدحامهم عليّ أشار إلى بأن أختم الدعاء، ولو بقيت على تلك الحالة لما بقي مع الخطيب أحد لأني رأيت الناس ينثالون من كل فج وواد نحوي، والحمد لله تعالى. ودخلنا من عرفة بعيد مغرب ذلك اليوم، وبتنا مزدلفة، ولم يدعني الناس تلك الليلة أن أستريح من كثرة ما يلتقطون حصى الجمار ويعرضونه علي، وذلك أنهم سمعوا مني أنه لا يجوز الرمي بالمدر، فكل من لقط حصى عرضه عليّ، فأنقي له منه ما يجوز فيه الرمى (192 ب) وما يسن، حتى إن السيد طالب قال: والله إني لأعجب من حلمك وصبرك على الناس!. ورحلنا من الفجر، وأصبحنا بمنى، وبقينا فيها إلى ثاني أيام التشريق، ونفر الحاج النفر الأول بعد ظهر ذلك اليوم والحمد لله على أن تم حجنا من وقوف وطواف وسعي ورمي وغير ذلك. واعتمرت من التنعيم يوم الاثنين الرابع عشر من الشهر المذكور «1» ، وصليت ركعتي الإحرام في مسجد عائشة رضي الله عنها- واعتكفت مقدار ما صليت ودعوت لي ولأحبائي، واجتمعت بالحرم الشريف بسيدنا السيد الحسيب الشيخ عبد الله المزهر اليماني وسألته الدعاء، وهو رجل صالح معتقد أهل الحرمين. وزارنا مرارا صاحبنا العالم العامل المتفرد في الأقطار الحرمية السيد عمر ابن السيد السقاف باعلوي «2» حفيد شيخ مشايخنا عبد الله بن سالم البصري «3» . وزارنا أيضا الشيخ سالم ابن الشيخ عبد الله المزبور، وهو رجل مقعد يحمل على أكتاف

الرجال. وكان منزلنا في الشبيكة «1» مع السيد يونس الأدهمي. وسمعت على السيد عمر المذكور أوائل الكتب الستة، وسألته الإجازة لي ولأولادي الصلبيين والقلبيين فأجازنا، وكتب لنا ما صورته: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول (193 أ) الله، وبعد، فقد سمع مني العالم العلامة، والفاضل الفهامة، ذو التحقيقات الدائمة والتدقيقات الفائقة، الأخ الأعز الأمجد، والأفضل الامثل الأوحد، الملا عبد الله السويدي- حفظه الله المعيد المبدي، سمع مني أوائل الكتب الستة التي هي دواوين الإسلام: صحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي المجتبى وابن ماجة، وقد أجزته بذلك وبجميع الكتب المذكورة وغيرها من كتب الحديث وغيره، كما هو مذكور في سند جدنا الآتي ذكره، وأن يجيز من شاء بذلك بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، سائلا منه أن لا ينساني من دعواته في خلواته. وقد رويت ذلك عن جملة من الشيوخ، من أجلّهم شيخنا وأستاذنا وجدنا من طرف الأم، المرحوم المبرور شيخ المحققين، ورئيس المحدثين ببلد الله الأمين، بل وسائر بلاد المسلمين، مولانا الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وهو يروي ذلك عن جملة من الشيوخ ذوي الأقدام الثابتة الرسوخ مذكورين في ثبته، وأجزته أيضا بالصلاة المشهورة التي هي مفتاح كل خير لمن واظب عليها، خصوصا بين المغرب والعشاء، (193 ب) الواصلة إلينا من طريق العلامة الشيخ عليّ الشبر املسي، وهي: اللهم صلّ (على سيدنا محمد وآله كما لا نهاية لكمالك ويقرأ الأربعة السور) «2» المذكورة، وهي اقْرَأْ «3» وإِنَّا أَنْزَلْناهُ «4» وإِذا زُلْزِلَتِ «5» ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ «6»

بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الصبح، وقد أجزت «1» بجميع ذلك كلا من عبد الرحمن ومحمد وإبراهيم وأحمد ورقية وسارة وصفية أبناء الملا عبد الله السويدي جعل الله تعالى (الجميع) «2» قرة عين، ورزقه الله تعالى خيرهم وبرهم. وقد أجزت أيضا بجميع ذلك الشاب النجيب اللوذعي، الولد الأعز قرة العين، حسين الأكرم بن كتخدا محمد باشا «3» ، ووالدته الخيرة «4» الطاهرة والدرة الفاخرة، من لها في العلم أوفر نصيب، المصونة خديجة، بلغها الله تعالى وابنها حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الحبيب عليه الصلاة والسلام. قاله بفمه، فقير ربّه وأسير ذنبه، عمر بن أحمد بن عقيل السقاف باعلوي المدرس بالحرم الشريف، والمسجد المعظم المنيف، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وخرج الحاج الشامي ظهر يوم (194 أ) الأحد العشرين من ذي الحجة «5» ، وخيّم قرب الشيخ محمود ونيته [أن] «6» يرحل [في] نصف الليلة الآتية، فأرسل يطلبني الشريف مسعود ابن الشريف سعيد «7» والي مكة، فامتنعت من الذهاب إليه وقلت لرسوله: إن الحاج ذهب. فقال: إن الشريف يريد الاجتماع بك هذه الليلة بعد العشاء وإلا فضحى ثاني يوم قلت: لا أستطيع ذلك والحاج يبعد عني، فقال: يرسلك الشريف مع ركب إلى عسفان فيما «8» بعد،

فامتنعت واعتذرت بأني لا أستطيع التخلف، وكان السيد يونس الأدهمي حاضرا فقال: امتثل أمر الشريف وأنا أبقى معك ولو إلى عشرة أيام، فأجبت. ولم يتهيأ الاجتماع معه تلك الليلة فبتنا في مكة إلى ضحى يوم الاثنين، فأرسل خلفي واجتمعت به وأكرمني غاية الإكرام، فرأيته رجلا عاقلا صالحا لا دعوى ولا أنانية، وهو حنفي المذهب متعصب على الشيعة. ثم إنه أمر خدامه ومن كان حاضرا بالانصراف وإخلاء المكان، فبقيت أنا وهو لا غير، فقال: ألك علم بقضية الخبيث السيد نصر الله الكربلائي؟ «1» فقلت: لا. قال: جاءنا هذا الرجل ومعه كتب من نادر شاه، واحد لي، وواحد لقاضي مكة، وواحد لمفتيها، وواحد لعلماء مكة، وواحد لشيخ (194 ب) الحرم المدني، مضمونها [أن] السيد نصر الله يصلي بالشيعة إماما في مقام إبراهيم. (ومذ دخل هذا السيد [وهو] يرغب ويرهب، فناديته وقلت له: ما) «2» الذي جرأك على أن تأتي ديارنا وتدعو الناس إلى مبايعة شاه العجم؟ كأنك ظننت أن الشرفاء روافض وأنك إذا أرغبتهم مالوا إلى مقابلتك، والله الذي لا إله إلا هو لو جاء سلطان آل عثمان الذي أنا تحت طاعته وبيعته وقاتلني من الشبيكة فلا أطيعه في ذلك ولا أجيبه، وأقاتله إلى أن أقتل أو أفر إلى أحد أقطار ثلاثة [هي] قطر اليمن أو قطر

الهند أو قطر الحبشة، وما دمت هنا فلا أمكن أحدا من ذلك، كيف وهذا أمر من لدن سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما صدر ولا جرى، أيجري في زماني؟ كلا والله لا يكون ذلك أبدا، فأما أن أقاتل حتى أقتل، وان لم اجد لي ناصرا أهاجر إلى أحد «1» الأقطار المذكورة، وللبيت رب يحميه، أو ظننت أن الشرفاء ملقون يحبون الدنيا فأردت أن ترغبهم بالأموال؟ والله لو جرى من نحو العجم نهر من الذهب لأمرت العرب أن تسده بالأحجار وقتل «2» من يصل إلى الحجاز أيها (195 أ) الرجل، إنما كان طاعتنا لآل عثمان لكونهم غزاة مجاهدين، يمدون الحرمين ومذهبهم مذهبنا فلأجل هذه الأمور دخلنا تحت طاعتهم، فكيف أطيع العجم ولا سبق لأحد من أسلافي الإطاعة والانقياد لهم، فقل لي ما الذي جرأك وحملك على هذا وبأي وسيلة توسلت بها وأي مستند استندت إليه حتى تجرأت على ما ذكرت؟ فذكر لي أعذارا باردة واهية مفتراة محض كذب، فكذبته وأقمت الدليل على كذبه، ثم إني عرضت جميع أحواله على الدولة العثمانية، فجاء المرسوم الشريف بالقبض عليه وعلى المنلا حمزة الأفغاني وعلى ميرزا «3» أبي الفضل، أما الملا حمزة فقد حج العام الأول وذهب ولم ينطق بشيء، وأما ميرزا أبو الفضل فقد تمرض في بعض قرى نجد وهو في هذه المدة محبوس عندي وحملته لأمير الحاج أسعد باشا، لأن في المرسوم أنه يحبس في قلعة دمشق. ثم إن الشريف خلع علي خلعة فاخرة من الأصواف الأنقروية، وأنا أيضا كذبت نصر الله فيما اعتذر به، وقلت: يا ابن رسول الله! ورب هذا البيت إن هذا لكاذب فيما قال «4» وإنما مراده ذلك ليخلص نفسه. ثم إن الشريف اثنى على الوزير (195 ب) أحمد باشا ودعا له كثيرا، وكتب له كتابا أثنى به عليه، وقال: والله إني أحبه لما أسمع من مكارم أخلاقه

وجعله الله منصورا على أعدائه، ثم إنا وادعنا الشريف وطفنا طواف الوداع ولحقنا بالحاج في وادي فاطمة. وهذا السيد نصر الله أتى به إلى دمشق وحبس بالقلعة، ثم طلب من الدولة، فأرسله أسعد باشا ولم أدر ما يفعل به، عامله الله بما يليق به. وقد طلب مني الشيخ سليمان ابن أخي الشيخ إسماعيل العجلوني كتابة صورة الإجازة له ولعمه، فكتبت لهما ذلك الليلة الثامنة عشرة من ذي الحجة في مكة المكرمة، وتكاسلت عن نقلها هنا لأني مللت من طول الأسفار وبعد الشقة. وقد جاءني يوم عرفة بعرفة كتاب من الأكرم والأمجد كتخدا باشا محمد أرسله من مدينة السلام بغداد، وصورته: سلام لا تحصيه الأرقام، ولا تحويه ألسنة الأنام، سلام لا تضاهيه الحميا إذا أدار أكوابها جميل المحيا، سلام محفوف الأشواق الباهرة مزفوف بالوجوه المتكاثرة، وتحيات صافيات وتسليمات ضافيات تبلغ بلوغ الهدي الواجب (196 أ) إلى أهله، وترد ورود المفارق إلى أهله، إلى العالم الفاضل، والجهبذ الفاصل بين الحق والباطل، أحد العلماء الأعلام، وسند النحارير العظام علامة العلماء، واللج الذي لا ينتهي، ولكل لج ساحل وبعد، فلك السؤدد والافتخار بوفودك على هاتيك الديار، فتهنّ بزيارة قبر «1» ، ومجاورة سيد ساد الأنبياء بالتشريف القدسي: فاق النبيين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم «2» ولك البشارة أيضا بزيارتك بيتا عتقت عنده الرقاب من النار، ورؤيتك مقاما غلقت لدى بابه أموال الأخيار، والحمد لله على وصولكم بالسلامة بلا نصب ولا سآمة، وقد أتتنا منكم كتب عديدة وأسانيد مفيدة، فاسترينا غاية السرور، وحصل عندنا جملة الحبور، كيف وقد تضمنت من سلامتك ما يدهش الخاطر، ويؤنس الحاضر، والحمد لله نحن في

عافية غير عافية «1» ونعمة من الله صافية، نسألك الدعاء في تلك الأماكن، وتبليغ السلام إلى سيد القاطن، وأشرف الظاعن، مولانا الشفيع، (196 ب) ومحرزنا المنيع- عليه الصلاة والسلام، وعلى آله وصبحه الأعلام- إلى آخر كتابه. وجاءني من بغداد، من ولدي القلبي حسين بك ابن كتخدا محمد باشا، وصورته: والشوق أعظم أن يحيط بوصفه ... قلم وأن يطوى عليه كتاب والله ما أنا منصف إن كان لي ... عيش يطيب وجيرتي غياب كتابي هذا أطال الله بقاء سيدي الكبير، والفاضل النحرير، محرر أصول الدين، ومبين الفروع للمسلمين، الجامع بين المعقول والمنقول، والمؤلف بين الفروع والأصول، من اكتسب منه ابن مالك تلك الملكة العربية، وأقر له ابن عصفور على أن ليست له حوصلة على جمع أبرز الفنون الأدبية، الداعي ابن الأثير دونه في الأثر، والممارس الخبير فمسلم مسلّم له صحة الخبر، المعترف له ابن كثير «2» بقلة الجمع، والفخر حينئذ قال لمعقوله: ما أنت وأدلة الجمع؟ فصح لو رآه المتنبي لترك سفاسف قرآنه، وعدل عن مدعاه واعتد بشأنه، ولو رآه سحبان «3» لسحب أذيال الخجل ومال عن دعواه الفصاحة وعدل. (197 أ) أما بعد، فالأشواق إليكم تتزايد، والزفرات مد الأوقات تتصاعد، على أن الشيء يذكر بمثله، والفضل لا يخشى عند ذكر فضله، وكلما رأيت المتسمين بالعلم وإن لم يكونوا قطرة في بحرك، ولو يأتوا بسبجة «4» فضلا عن درة من درك هاجت أشجاني، وزادت أحزاني، نسأل الله أن يطوي شقة البين، ويكحل بأثمد الاجتماع منا العين، إنه بذلك قمين، وعليه

معين. وقد وردت علينا مكاتيبكم السديدة ورقاعكم المفيدة، فحصل لنا السرور، وزال عنا ما نلقاه إذ في المثل المشهور: الكتب ثلثا الملاقاة، فضممتها إلى صدري، وجعلتها أمانا من خطوب دهري، فكلما تشوقت نظرت منظومها ومنثورها، وإذا زاد بي الوجد تصفحت سطورها «1» إلى آخر كتابه، حفظه الله تعالى. وجاءني من ولدي الصّلبي أبو الخير الشيخ عبد الرحمن كتاب صورته: أطال الله بقاء والدي الذي سطعت به أماكن الشام، وأمدنا بحياة سيدي الذي به عرف الحلال والحرام، ركن الأعلام، بل علم الأعلام، كل مجيد إليه استناده، (197 ب) ذي الذهن الوقاد، والفكر النقاد، صاحب الرأي الصائب، النجم الثاقب قطب تدور عليه رحى العلم، وقمر يستضيء به أولو الفهم، صاحب الفصاحة العربية وشمس الشريعة المضيئة، زين الدين، صاحب الخيرات، إمام المسلمين، سيدي أبي البركات، لا زال في نعمة تغبطه عليها الأقارب، رفعة يدرك بها الشهب الثواقب، أدامه الله لنا ظلا مد الزمان، وحفظه من بوائق الحدثان آمين. وبعد، فالمملوك يقبل أرضا ترافعت على السماك، وتقاعست دونها الأفلاك، أرضا تؤمها الأفاضل، ويحل بسوحها كل ماجد وفاضل، أرضا تساق إليها يعملات الرجاء، وتناخ بها مطي من قصد وجاء، نسأل الله بحرمة مولانا أن يرزقنا رؤيتها عيانا آمين. ثم المملوك يبث شوقا شق الأحشاء، وتمزقت لبرحائه الأمعاء شوقا أنشدنا: قفا نبك من ذكرى حبيب. وبه جرى دمعنا الغزير الصبيب شوقا لم نزل نتلظى بنيرانه، حيث لم نعدم تراكم أشجانه شوقا عم الأهل والولد، فأعدم من الكل القوى والجلد، وأضنى من الجميع الجسد، ولا سيما الفقير العاني، (198 أ) الذي أضحى لهذه الخطوب يعاني، والله شاهد على ما في القلوب وما هو مسطور مكتوب.. إلى آخر كتابه فإنه طويل اختصرته لما فيه من الملل. وكتبت من مكة كتابا للأكرام الأمجد كتخدا باشا محمد، وكتابا لأهلي، تركت كتابتهما هنا من الملل الذي اعتراني من الغربة والكربة.

[الفحلتين]

ورجعنا على تلك المراحل عودا على بدء، ودخلنا المدينة المنورة ضحى يوم الجمعة الثاني من محرم الحرام عام ثمانية وخمسين ومائة «1» وألف فجددنا العهود بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقمنا بها غير يومي الدخول يومين، فوادعنا المصطفى وفي القلوب زفرات ولوعات، وللعيون انسجام وعبرات. وخرجنا ضحى يوم الاثنين الخامس من الشهر المذكور. ومما دفع الله عنا بفضله أن عيدا شيخ بني حرب السابق جمع لقتالنا جميع عشيرة حرب وحلفائها، ووقف في بدر ينتظرنا، وذلك أنه يطلب أن يكون شيخا على العشيرة منذ ثلاث سنوات، وكل سنة يوعده «2» أمير الحج ويخلف لعدم رضا شريف مكة على عيد، ولا يريد المشيخة إلا لمنصور، وهذا منصور أكثر العرب لا تطيعه ولا تهابه. فقبل وصولنا إلى بدر حصلت بين عيد وهزاع أحد مفسدي حرب منافرة (198 ب) ومشاجرة فأمال الأعراب عنه إلى منصور وبقي عيد وحده فهرب إلى الفرع وسلمنا الله (من كيده وكفى الله المؤمنين شر القتال) «3» . [الفحلتين] ولما وصلنا إلى مرحلة الفحلتين جاء الخبر إلى أمير الحاج بأن عشيرة بني صخر والشارة وغيرهم حاصروا الجردة في تبوك ومنعوها من المسير، فحصل غمّ عظيم واضطراب، وتيقنوا الهلاك، واضطربت الآراء والأفكار، فسلموا أمرهم إلى الله وفوضوه إليه إلى أن جئنا إلى بيار الغنم، فجاء البشير بأن الجردة صباح غد توافي الحاج في العلى، فحصل السرور والأفراح، وزالت الهموم والأتراح، وسبب خلاص الجردة أن أولئك الأشقياء حاصروها عشرة أيام، فدفع أمير الجردة الوزير كوسي علي باشا والي صيدا دراهم كثيرة ليخلوا لهم الطريق، فلم يقبلوا، فنفد زادهم وقلت ذخيرتهم، فطلبوا من الأمير ما دفعه أولا فلم يقبل، وتفرقوا.

[العلى]

[العلى] وسار أمير الجردة إلى أن وافانا في العلي، وعادة أهل الشام يرسلون مع الجردة هدايا لأصدقائهم وأهاليهم، فأهدى لنا- ممن جاءت له هدية- الشيخ إسماعيل العجلوني علبتي حلوى سكرية، وأهدى لنا (199 أ) الشيخ سليمان شيخ المحيا ثلاث علب من الحلوى السكرية، وأهدى السيد إبراهيم علبتي حلوى، وأهدى لنا السيد علي مراد زاده علبتين، وأهدى لنا الشاب الجميل السيد عيسى علبة، وكلها في مرحلة تبوك إلا علبتي السيد إبراهيم فإنها كانت بعنزه. [دمشق] ودخلنا دمشق الشام ضحى يوم الثلاثاء الخامس من صفر الخير «1» ، واستأجرنا دارا في آخر سوق العطارين، ومعي في البيت عديلي في المحمل الحاج يوسف مولى نعسان الحلبي. وكان صاحبنا السيد يونس ذكر، من غير علمي، لحضرة الباشا أمير الحاج أن الشيخ عبد الله كثيرا ما يثني عليكم ولا سيما من جهة محافظتكم لركب الحج، وأنه نوى أن ينظم قصيدة يثني عليكم بها. فجاءني السيد يونس وقال: جرت بيني وبين الباشا مذاكرتكم، وذكرت عنك كيت وكيت، فينبغي أن تنظم قصيدة وتمدح بها الباشا لئلا أكون كاذبا عنده، فقلت: وما الذي حملك على ذلك ونحن على إثر طاعة الله تعالى ولا يحسن منا مدح الولاة لأن غالبه كذب أو مبالغة، فقال: هكذا الأمر! وقع. ولي في ذلك غرض فالتزمت بذلك، وذكرت ما وقع في طريق الحج. والقصيدة هذه وفيها تاريخ، وقد حذفت بعضا منها لأمر ما «2» . تسامت بنو العظم العظام إلى العلى «3» ... فأحكمت ما شادوا وما كان شيدوا وقد ظن قوم أن عسر مسيرهم «4» ... إلى الحج بعد الماجدين مؤبد

فذلك إسماعيل والدك الذي ... بأعلي فراديس الجنان مخلد وعمك ذو الحسنى سليمان عصره ... نما فيه تدبير ورأي مسدد وما علم الأقوام أنك فذهم ... رفيع المعالي بالسعود مؤيد فسيرت ركب الحج غير مروع ... وأنت له الحصن الحصين المشيد سلكت بنا أصل الطريقين جانحا ... عن الفرع يحمينا الحسام المهند وكنا كأنا والمشبه صادق ... على فرش الأوطان في الأمن نرقد «199 ب» وأرغمت أنف البدو والكل صاغر «1» ... إذا سمعوا ذكراك بالذعر ترعد وقد جنحت للسلم حرب وأذعنت ... ولانت بنو صخر وبان التجلد وأرهبهم منك الوعيد وعيدهم ... وبال عليهم وهو ذو النحس أنكد وما كان منصورا على فرط ضعفه ... بغيرك منصورا يرجى ويقصد وقيدت بالأغلال منهم رهائنا ... وما علمت حرب بقيد تقيد وألبست جلباب الصغار عنيزة ... فصارت كعنز وهي جرباء تبرد وجردت سيف العزم تنصر جردة ... على أجرد كالبرق لا يتبلد وواصلت ما بين النهار وليله ... وخالفت ما قال الجبان المفنّد وسرت بنا حتى بلغت إلى العلى ... أتاك بشير بالسلامة يشهد «200 أ» (وأطفأت في عام مضى نار فتية ... بطيبة قد شبّت وزاد التوقد فجئت «2» إليها وهي محصورة وقد ... عتا في نواحيها البغاة وأفسدوا) «3»

بلاد رسول الله صنت حريمها ... فطاب لها بعد المرارة مورد وقامت بها الأفراح من كل جانب ... ومن لذة الفتح اعتراها تأود لك المفخر الأعلى على كل فاخر ... وعند رسول الله صارت لكم يد يباهى «1» بك القطر الحجازي إيليا «2» ... فأين إذا شام ومصر وثهمد فذي طاعة ترضي الإله لأجلها ... ملائكة الرحمن للشكر تسجد وترتاح في كل التواريخ مكّة ... وحجك مبرور وإنك أسعد سنة 1157 «3» (201 أ) وبقي بعض الأبيات تركتها لأمر ما. وحرب وبنو صخر وعنزة أعراب في طريق الحاج، وعيد شيخ حرب السابق ومنصور شيخها الآن، وقد كان منذ سنين يذهب ركب الحج من طريق الفرع، وهو طريق وعر صعب، ماؤه قليل ومسافته بعيدة، ويحصل في سلوكه للحجاج مشقة عظيمة، وذلك لأن الأعراب الأشقياء قطعوا الطريق الأصلي المسمى بالطريق السلطاني، فيخشى أمير الحج إن ذهب منه ينتهب الحجاج لكثرة ما فيه من الأشقياء، فبالضرورة يذهب من طريق الفرع. وأما الركب في هذا العام قد ذهب من الطريق السلطاني وهو طريق سهل فيه قرى كثيرة كبدر والصفراء والحمراء وغيرها، وماؤه كثير، وفيه القلاع المهيأة لذخيرة الحاج وحراسة الماء. وكان مراد الأمير أن يذهب من طريق الفرع فأشار إليه شيوخ حرب بالسلوك من

[الطريق] «1» السلطاني، فقال: لا آمنكم على الركب، فاتفقوا أن تجعلوا منه أناسا رهائن في المدينة المنصورة، فإن ذهب الحاج سالما أطلقهم، وإلا قتلهم، فذهب (201 ب) الركب آمنا سالما والحمد لله على ذلك. ولما دخلنا الشام أحب أسعد باشا أن يسمع القصيدة من لفظي، فقرأتها عليه، وألبسني خلعة وأمدني بدراهم هي بالنسبة إليه قليلة، وكتب القصيدة أهل دمشق وغيرهم. ودعانا ليلة دخولنا «2» صاحبنا الحاج مصطفى بكداش، ودعانا صاحبنا الحاج أفندي اليوسفي، ودعانا الشيخ المحقق عبد الرحمن الصناديقي، ودعانا صاحبنا عالم الأقطار الشامية الشيخ الكبير إسماعيل «3» شارح البخاري، وأمر ولدي أخويه الشيخ موسى بن عبد الهادي والشيخ أحمد بن يحيى أن يستجيزا مني فأجزتهما. وأضافنا العالم الفاضل السيد سعيد بن السيد محمد في المدرسة الأشرفية المسماة بدار الحديث «4» التي كان النووي يدرس بها ثم درس ابن السبكي، وأول ما جلس أنشد: لمدرسة الحديث لطيف معنى ... أطوف في جوانبها وآوي لعلّي إن أنال بحر وجهي ... مكانا مسّه قدم النواوي وبعضهم نقله إلى غار حراء فقال: لغار حراء لطف ومعنى ... تحنّ إلى هوائه عظامي (202 أ) لعلّي أن أنال بحر وجهي ... مكانا مسّه قدم التهامي

والآن هذه المدرسة مسكن يسكنها الناس، لا علم فيها ولا قراءة، وكم مثلها مدارس صارت مساكن، واللواتي بقيت على حالها لا تدريس ولا قراءة ولا مذاكرة بل مجرّد الاسم. وقد أضافنا السيدان الجليلان الشيخ سليمان وأخوه الشيخ عبد الوهاب ولدا السيد شيخ الأحياء في المحيّا، وبتنا تلك الليلة عندهما- جزاهما الله عني خيرا- واستجازا مني الحديث وغيره فأجزتهما، وطلب كتابة الإجازة في ورقات فلم يتهيأ لما بي من الملل، وعسى أن يكون خيرا، وطلب مني الإجازة السيد أحمد بن نقطة فأجزته، وكتبت له صورة الإجازة في ورقات، وتركت كتابتها هنا للملل. واستجاز مني الشاب الصالح، والزند القادح، ذو الحسن الباهر والمحيا الزاهر، المنلا علي كرجي الأصل، فكتبت له ما صورته: الحمد لله الذي خص أهل الحديث بنضارة الوجوه وطول الأعمار، وجعل السند من خصائص هذه الأمة فزادت فضلا على المقدار، والصلاة والسلام على المشهور فضله، المتواتر المرفوع قدره، المسند فخره سيدنا محمد المرسل من أشرف الجراثيم، وعلى آله وصحبه ومحدثي سائر الإقليم، طلب الشاب الصالح الناسك الناجح المجد في طلب العلوم، من منثور ومظلوم، المنلا علي أن أجيزه بما لي من الرواية، وما عندي من الدراية، علما منه انه لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وأن السند، كما اشتهر عند الأفاضل، كالسيف القاتل، وأن شيوخ الإنسان آباؤه في الدين، وأن السند وصلة بينه وبين سيد المرسلين، فأجزت المنوه بذكره بما يجوز لي وعني روايته مما سمعته أو قرأته. واستجزته عن مشايخي العظام، وأساتذتي الفخام، وكتبت له البخاري ومسلم والفقه الحنفي، وللمثال مثال نعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكني تركت كتابة ذلك لما تقدم. وأجزت الشيخ عبد القادر الدمشقي دلائل الخيرات. وممن دعانا إلى بيته الشيخ الصالح الشيخ محمد ابن الشيخ إبراهيم ابن شيخ شيخنا عبد الله العمري العجلوني. وممن دعانا إلى بيته السيد الحسيب النسيب السيد إبراهيم، دعانا مرتين وأهدى لنا بطريق الحج علبتين (203 أ) هذا والمنلا علي المذكور آنفا صارت له

معي علاقة تامة وخدمني كثيرا، وبت عنده ليالي، ولما أحس بسفري أخذته الدهشة والحيرة والبكاء، جعله الله سعيدا ووفقه لما يحبه ويرضاه آمين، فهو أوفى من الشيخ أبي الحسن العجلوني المذكور سابقا. وأضافنا في بيته الشيخ العالم النحرير الحبر البحر الغزير، الشيخ الجنيني، وهو أفقه الحنفية في دمشق، وبتنا في بيته، وأعزنا كثيرا، وانبسطنا وانشرحنا- جزاه الله خيرا- وأجزت ولديه النجيبين الشيخ عبد العزيز والشيخ سليمان ووعدتهما بكتابة صورة لإجازة، هذا وقد حصل لي إكرام كثير وتوقير عظيم في دمشق حتى ليشار إليّ بالبنان، وأسمع بعضهم يحدث الآخر، يقول: هذا أعلم علماء الدنيا! فتأنست بهم وطاب لي المقام، ومن عادتهم حسن الظن، ومهما تكلم الإنسان أو أدعى «1» فضلا أو كرامة صدقوه ولا يعرفون الإنكار ولا يخطر في بالهم، فغالب من يؤلمه رأسه أو عضو من أعضائه يقول: يا شيخ كبسني، أي ضع يدك على المحل المؤلم. وقد انفردت دمشق الشام بأشياء، منها الجامع الأموي، ومنه (203 ب) كثرة المياه، ومنها كثرة البساتين، ومنها كثرة الملاح [ف] ألوانهم صافية، ووجوههم حسنة، وطباعهم لينة، وقلوبهم صافية، يمدحون علماءهم ويوقرونهم، وقد تمنى كثير من طلبة العلم بقائي، وأكثروا التأسف علي لما رأوا من تقريري وحلي لما أشكل عليهم، يقولون: يا ليت تبقى هنا ولو شهرا حتى نستفيد. وهذه هي الطبقة الوسطى التي ذكرتها أولا، كثر الله في المسلمين أمثالهم. وقد صار لهذا الفقير شهرة في دمشق الشام عند الصغير والكبير، والعالم والجاهل، أكثر من شهرتي في بلادي، يعتقدون أني أعلم علمائهم وأصلح صلحائهم، وهذا من حسن ظنهم، وإلا فلست بذاك «2» .

ولما خرجت من دمشق صعب علي مفارقتها، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لاتخذتها دار سكناي: ولست براجع ما فات مني ... بليت ولا لعلّ ولا لو انّي حسبي الله ونعم الوكيل، كان ذلك في الكتاب مسطورا، وغالب ما يقع عندهم من المسائل من علم النحو، فممّا وقع السؤال عنه قول الشاعر: (204 أ) قد سالم الحيّات منه القدما ... (فالأفعوان والشجاع) «1» الشجعا انسجما وصورة السؤال: أنه روي بنصب الحيات فأين فاعل سالم، وروي برفعها، فأفعوان كيف يصح أن يبدل من الحيات المرفوع المنصوب، وجوابه: أما على رواية النصب فالفاعل القدما إذ أصله القدمان حذفت نونه للضرورة، وأما على لغة من ينصب الفاعل المفعول، ذكر ذلك ابن هشام في مغنيه وغيره، وأما على رواية الرفع فالأفعوان يدل على الحيات باعتبار أنه مفعول لأنه «2» فاعل يقتضي اسمين، أحدهما فاعل صريح معقول ضمنا، وثانيهما مفعول صريح فاعل ضمنا، فالحيات وإن كان فاعلا صريحا فهو مفعول ضمنا، فالأفعوان بدل منه على هذا الاعتبار الضمني. ومما وقع منه قول الشاعر: أكلت ديكا وديكا ... وليس لي غير ديك والجواب: إن وديكا الثاني صفة ديكا «3» الأول، بمعنى سمينا. قالوا: أصلية من الكلمة لا عاطفة. ومما وقع السؤال عنه قولهم: أكل زيد ضرب عمرو، والضرب هو (204 ب) العسل

الأبيض الغليظ، والمعنى أكل زيد عسل عمرو. ومما وقع السؤال عنه: زيد كريم بالجر، وجوابه: إن الكاف للتشبيه [وهي] ليست من أصل الكلمة، والريم هو الغزال الذي فيه بياض. ومما وقع السؤال عنه: إن ابن مالك قال: واسم وفعل ثم حرف الكلم فيقتضي أن الكلم عبارة عن هذه الثلاثة، وهو مناف لقول شراح الألفية: عبارة عن تركب من ثلاث كلمات سواء كان من نوع واحد أو نوعين أو ثلاثة، فكيف التوفيق؟ وجوابه: إن الكلم له إطلاقان «1» أحدهما بمعنى الكلمات التي يتركب منها الكلام، وهو مراد ابن مالك، وثانيهما ما ذكره الشراح فلا ينافي. ومما وقع السؤال عنه غلام زيد، فليس بكلمة لكونه كلمتين، ولا كلام لعدم الفائدة، ولا كلم لعدم الثلاث، فيقتضي أن يكون واسطة، وابن مالك لا يقول بها فما الجواب على مذهبه؟ الجواب: أنه كلم لأن المضاف إليه عنده مجرور بالحرف المقدر، فأصله غلام لزيد. ومما وقع السؤال عنه أن ابن هشام حد الكلمة بالقول المفرد، فالكلمة لغة ما هي؟ والجواب: هي اللفظ المفرد، واللفظ يشمل المهمل والمستعمل بخلاف القول (205 أ) فانه مختص بالثاني، فالمعنى اللغوي أعم مطلقا من الاصطلاحي. (ومما وقع السؤال عنه عباره ابن هشام في متن القطر، عند كلامه على علامات الاسم، حيث قال: ويعرف بالحديث عنه، وصورة السؤال أن الضمير منه راجع إلى الاسم) «2» ، فيؤول الكلام إلى أن الاسم يعرف بالحديث عن الاسم، وفيه دور ظاهر، وجوابه: أن الضمير المجرور عائد على الاسم بمعنى الكلمة أو اللفظ فلا إشكال.

ومما وقع السؤال عنه قول الشاعر إن عليّ والله أن نبايعا ... (تؤخذ كرها أو تجيىء طائعا) «1» وصورة السؤال: أن نصب الاسم الكريم على ماذا، وما محل أن تبايعا، والجواب: نصب الاسم الكريم بنزع الخافض وهو حرف القسم وإن تبايعا في مصدر منصوب على أنه اسم أنّ وخبرها الجار والمجرور المتقدم، والتقدير إن علي والله مبايعتك. ومما وقع السؤال عنه ما تشابه من بعض الحكايات، وهي أن بعض العلماء وكان من عادته أن أحدا إذا طلب منه الإجازة يقول: إن عرفت ما وزن الإجازة وما إعلالها أجزتك والا فلا، والسؤال: فما وزن إجازة؟ والجواب إنما له «2» إذا أصل إجازة (205 ب) إجوازا من باب الأفعال، نقلت حركة الواو إلى جيم قبلها قلبت ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها فالتقى ساكنان، فحذفت عين الفعل لأنها بعض كلمة ولا تدل على معنى بخلاف ألف الأفعال فإنها كلمة تدل معنى، وحذف البعض غير الدال أولى من حذف الكل الدال، ثم أتى بالتاء عوضا عن العين، وقد تقرر في كتب الصرف أنه إذا حذف في الموزون شيىء حذف من الميزان ما يقابله في الميزان. ومما وقع السؤال عنه إنهم قالوا: إذا كانت التاء والفاء في جمع المؤنث السالم زائدتين جر بالكسرة نيابة عن الفتحة، وإذا كانت التاء أصلية جر بالفتحة على الأصل، ومثلوا ذلك بأبيات، ولما ورد عليهم بنات، إذ هو جمع بنت، فالتاء موجودة في المفرد مع أنهم نصبوا جمعه بالكسرة، أجابوا بأن التاء التي في المفرد حذفت وهذه التي في الجمع الذي هو بنات أتي بها للدلالة على الجمعية، فلم لم يقولوا في بيت وأبيات مثل ما قالوه في بنت وبنات، والجواب أن تاء بيت أصلية من نفس الكلام فلا يحسن (206 أ) حذفها بخلاف تاء بنت زائدة للتأنيث، وللعوض عن فاء الكلمة.

[حلب]

ومما وقع السؤال عنه قول الشيخ خالد في الأزهرية، حيث فرق بين اللفظ بمعنى الملفوظ، والخلق بمعنى المخلوق، بأن الأول حقيقة عرفية، والثاني مجاز لغوي، وصورة السؤال: ما علاقة هذا المجاز؟ والجواب: التعلق. وما وقع السؤال عنه إعراب قوله تعالى ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ «1» ، وإن بنعمة بم يتعلق، والجواب يتعلق بما لما فيها من الفعل، والمعنى لتنفي بنعمة ربك عنك الجنون. ومما وقع السؤال عنه قول الشاعر: دنا نيرنا من قرن ثور ولم تكن ... من الذهب المضروب عند القساطل فما إعرابه وما معناه؟ فالجواب: دنا فعل ماض، بمعنى قرب، ونيرنا فاعل، والنير ما يوضع على رقبة الثور عند الحرث، والمعني قرب نيرنا من قرن الثور. [حلب] وخرجنا من دمشق يوم السبت الثاني والعشرين من صفر الخير «2» ، ودخلنا حلب ضحى يوم الثلاثاء الخامس من شهر ربيع الأول «3» ، ونزلنا أول قدومنا عند أولاد الحاج نعسان، فأكرمونا كثيرا وبتنا عندهم تلك الليلة. ثم نزلنا في المدرسة الحلوائية «4» (206 ب) في الحجرة التي عن يمين الداخل للصحن يقال إنه نزل في تلك الحجرة محيي الدين ابن العربي الصوفي، والكمال ابن العديم، وملا جامي. وفرش الحجرة مع الوسائد واللحاف من سيدنا السيد محمد الطرابلسي، جزاه الله عني خيرا، وأضافني في بيته يوم أن جلست في الحجرة. وأما بيتي وعشائي كل ليلة فهو عند الأكرم الأمجد النجيب السعيد علي أغا

[معان]

عجيمي زاده، منحه الله الخير والسعادة، فقد ألح علي أن أكون ضيفه مدة إقامتي في حلب، ومع ذلك تشفع بالسيد محمد الطرابلسي بأن أكون كل ليلة عنده وأتعشى عنده فرضيت، لكن كل يوم وقت العصر يرسل خلفي خادمه، وكل وقت يوصي خدامه بإكرامي حتى إنهم ليضعون تحتي فرشا فاخرة كثيرة، وفوقي لحافين يخدمني أتباعه أكثر من خدمة أولادي. واحتجت إلى قرض نقود فأقرضني بطيب نفس من غير أن أذكر له، بل إنه سمع مني الاحتياج فألح عليّ بالإقراض جزاه الله عني خيرا. [معان] ولما وصلنا إلى معان انخزل «1» عنا جماعة من الحاج لزيارة بيت المقدس، ومنهم ولدنا القلبي الشيخ عبد الوهاب الموصلي، فأوصيته بأن يستجيز لي ولأولاي الصلبيين والقلبيين (207 أ) طريقة التصوف من شيخنا الولي المرشد المسلك السيد مصطفى الصديقي، فجاء الشيخ عبد الوهاب إلى دمشق ليلة خروجنا منها ومعه كتاب من الشيخ، نفعنا الله به، وصورته: سبحان الله الأوّلي الأبدي ... مانح الأوّاه كل سر سرمدي عواطف إحسان بها القلب يهتدي ... خواطب عرفان لها اللب قد هدي فواتح تقريب فوائح جذبة ... لواعج تهذيب سوائح مبتدي تحقق عبد الله لا عبد درهم ... بأسرار أهل الله إذ سار يقتدي وترشقه الأقدار كأسا مروّقا ... عتيقا عبيقا منعشا كل مسعد وتطرقه الأنوار كأسا مطوقا ... قلائد عز في منار تجرد «2» ويكشف عن أطوار أخبار خبرة ... فيعرف بالأخبار أخبار سؤدد ويدرك سر السير بالبر للهدى ... وسقيا لبان الخير بيت ام معبد

وأسرار غار الاختلاء عن الملا ... وأوطار آثار اختلاء التفرد ويلحظ ما نال المصدق بالوفا ... ويلمح ما قد طال إلى التودد «208 أ» بواسطة الأصلين لمع معية ... وهمع جنى التبريك في عقب ندي هنا بالعطا من بعد ما كشف الغطا ... يهنى من يريد الصيد في اليوم والغد وفي مربع يبدى مريع تفضل ... يحط مراسيه بحب مؤبد ويرتع في روض الأماني مهيما ... بحوض ارتواء من شراب محمدي ومن بعد ذا يعطى المرامات كلها ... ومنشور إذن للمقر المخلد ويمنح فتح الباب في قاب قربه ... وينفح ألقاب قاب التقلد ومنذ قام عبد الله في خان مخدع ... تضاءلت الأفهام عن درك مقصد وأذعن للقدر الرفيع غوالي ... وعاد عمود الصبح للحكم يبتدي (فخر أمة) «1» حاز المنى حالة اللقا ... و (جافى) «2» الهنا إن أم دوح الممهد «208 أ» فقل للذي يرجو عياذا من الردى ... بأبوابه لم ترق أرفع مشهد هنيئا مريئا يا محب أحبة ... تملوا بأبصار الجمال الممجد ويا ربنا صلّ وسلم على الذي ... لقد ساد فيه كل هاد ومهتد وآل واصحاب كرام أئمة ... وأتباعهم ما فاح عرق تشهّد وما مصطفي البكري يشدو ضحية ... عواطف إحسان بها القلب يهتدي حمدا لمن جاد بجليل جمال أو حدي ... وشكرا لمن أفاد جميل مالي أسعدي وصلاة وسلاما على سيدنا محمد، ما اقتفى آثاره عبده ليهتدي، وعلى آله وأصحابه

وأتباعه وأحزابه والراوين أحاديثه ليقتدي بهم كل مقتدي، وعلى التابعين لهم بإحسان ما فاح عبير تقرير منجدي، وبعد، فهذه تحيات شذاها ندى، وتسليمات سليمات (هداها كم قيّد، كل صب معبد) «1» مشاهد مشهدي، للأخ في الله، والمحب في ذات نعتها صمدي، أعني به العالم العامل، (208 ب) المنتهى في علوم تسكن حركة الزائغين ويهدي، الصديق الرفيق جناب الشيخ عبد الله الشهير بالسويدي أمده بمدده الباقي السرمدي، المعيد المبدي، آمين. هذا قد وصل إلينا الأخ مرتديا برداء الحب «2» ، المقتدي بالبان القرب المقدسي المسجدي، السيد عبد الوهاب حاوي آداب قد بها بهندي «3» ، فذكر الجناب وذكرنا بعهد قديم لم ينس لتمكنه في خلدي، وأطرب الأسماع بأخبار يشتاقها الملتاع لأنها للنفع تجدي، فسرنا هذا الارتقاء والاستقاء من المدد الأحمدي، أنا وحدي، وطلبنا بكم الزيادة لتعم بكم الإفادة، ولأبلغ بكم أملي ومقصدي، وعرفنا أن الجناب المحبّي الأشرفي الأرشدي كلفه بأن يطلب من الحقير إجازة له ولأولاده ومن بهديه يقتدي، فأعلمناه أن هذا الطلب منشؤه التواضع وكمال الأدب الذي مصاحبه بالروح فدي، ولما رأينا الإجابة محتمة لسابق ود ولاحق إنابة نشرها ندي «4» ، أجبنا الطلبة مع اعتراف بالرتبة، وألحقنا بهم من ينتمي لجنابكم من أجلها عزة محتد ونسأل منكم ومنهم الدعوات في الخلوات والجلوات، سيما عند الوصول لأعتاب أهل الحصول من كل مرشد أصفه بسندي وسيدي، وجميع من عندنا من أولاد وعيال وأحباب وأنساب في الأطلال يرجون الدعوات العوال كما أعلى حالكم منا ولكم هدي، ويهدي سائر أولادكم وأحبابكم ومن يلوذ برفيع أبوابكم أزكى سلام تام عام أبدي سرمدي، كتبه الفقير إليه تعالى سبط الحسنين مصطفى الصديقي الحنفي.

وجاءني وأنا في حلب من دمشق كتاب من سيدي العالم النحرير، والفاضل الشهير، سيدي الأخ الحميم والخل الصافي المستقيم الشيخ صالح الجنيني بن الشيخ إبراهيم، وهو: الحمد لله، غب سلام ونت بروقه، وهطلت عذوقه، وأزهرت كمائه، وأنورت حانه، (209 ب) تخص بذلك حضرة من اختصه الله بأحسن الخصائص، وصانه من الزلل والنقائص، أعني به المشار إليه، أسبغ الله جزيل إنعامه عليه إلى آخر كتابه، وفقه الله لصالح الأعمال، وأحسن منه جميع الأحوال. وجاءني كتاب من دمشق من السيد أحمد بن نقطة تركت كتابته لما تقدم. وأيام كنا في دمشق التمس مني أن أعمل مقامة مضمونها أن السيد محمد بن شيخ الحرم ينبغي أن تجعله سلطانا على جميع ملاح دمشق، وذلك لأنه يتعشقه، وله مداعبات مع من يتعشق غيره، فهو يقول: إنه سلطان وغيره يقول: فلان هو السلطان لمن يتعشقه ذلك الغير، ولم تزل المخاصمة والمنازعة بين العشاق، فكل منهم يقول: معشوقي هو السلطان، ولا يخفى عليك أن أهالي دمشق مشهورون بالخلاعة والتعشق، حتى علماؤهم الكبار، وهذا النزاع ما شاع وذاع. ولم يزل هذا السيد أحمد يزيد في الإلحاح، ويجد في الاقتراح، وأنا أدافعه بالاعتذار، وإن هذا لا يليق مني فيجيبني بأن الحافظ السيوطي له في مثل ذلك مقامات كثيرة، وكذلك أمير المؤمنين في الحديث الحافظ ابن حجر العسقلاني له نظم رائق، (210 أ) ونثر فائق أكثره يتعلق بمثل ما نحن فيه، وغيرهما من علماء وأساطين «1» وفضلاء وسلاطين، لهم مقامات مشهورة، وحكايات منثورة مذكورة، ولم تزل المدافعة مني والإلحاح منه إلى أن خرجت من دمشق، فراسلني بكتاب، وفيه: أقسم عليك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما عملت المقامة وأرسلتها، والله إنها عندي تساوي جميع أمور الدنيا، فكتبت ما حضرني، وأسندت رواية المقامة إليه، وقصرت أحكامها عليه، إلا أني ما صرحت باسمه، وإنما لوحت برسمه، لأنه كان يقول: إذا عملتها لا تصرح بأنه السبب فيها، ولا بأس

في التلويح المغني عن التصريح، هذا والسيد محمد خدمني كثيرا، وقرأ ما تيسر من علم النحو علي، له آداب حسنة، وأخلاق مستحسنة، وعذوبة منطق، وحلاوة منادمة، فسبحان (210 ب) الذي فطره وصوره فأحسن صوره. وكان السيد ذكر لي أن يكون البدر الأتم سلطانا على ملاح دمشق، وهم السيد الذي بحسنه الفائق كل عارف يفتي، السيد حسن الحرستي، والظبي النافر، الذي يقول القمر شقيقي، وجمالي لدى التدقيق تحقيقي، محمد بن علي بك البكري الصديقي، والقمر الذي عن القبح عري، ومن النقائص بري شاكر بن سعدي أفندي العمري، والبدر الذي قال: يغني عن السرج جبيني، عبد الرحمن بن الشيخ أحمد المنيني، والغصن الذي قال جميع المحاسن عندي إن كنت لا أصرح ولا أبدي، السيد يوسف بن السيد محمد آغا الجندي، والكواكب الذي أشرق من تحت السحاب، والمقصود لدواء كل مصاب، مراد بن ركاب، والعلم المفرد في الملاحة، والمجمع عليه في الرجاحة ذو العيون التي يقول كل عاشق: إنما قسيمي البدر المنير، عبد الرحمن بن العلمي، والبدر الذي قام عليه الإجماع، السيد مصطفى بن أحمد الطباع، والمليح الذي قال الملاحة مقصورة عليّ دون غيري، قضيب البان عبد الرحمن الديري وغيرهم ممن اتسم بالجمال، ووسم بالكمال (211 أ) فكتبت للسيد أحمد المذكور كتابا وفيه المقامة: سلام أشهى من منادمة الحبيب بعد نفوره وصدوده، وألذ من معانقته وشم ورد خفر خدوده، وأحلى من عتابه بعد تماديه في الإعراض، وأخلب للألباب من غمز ألحاظه المراض، على المغرم الذي تلظى بنيران الصبابة، وغرق في بحار الأشجان والكآبة، وعرض قلبه لنبال «1» المقل عرضا، وعرض جسمه لأن يجري عللا مرضا، الصب الذي توله بحب الامرد الجميل، واستعذب مقاساة الليل الطويل، حتى رأى العذاب عذبا، والموت سهلا وإن كان صعبا، فصار طعين قدود، وقتيل صدود، لا تألف جنوبه المضاجع، ولا تزايل جفونه المدامع، لا

يرعوي لعنف ولا لائم، ولا يلوي إلى ناصح مسالم، بل إنه لم يزل يناوح «1» الحمائم، وهو حيران ذاهل هائم، حالف السهاد على الملازمة، وخالف الرقاد في الملاءمة، فتأججت زفراته، وتضرّمت لوعاته، السيد الذي دعي سيد الطائفتين، والشيخ الذي رسم بأنه (211 ب) شيخ الطريقتين، السيد أحمد، وبابن نقطة عرف، وبالعطار اشتهر ووصف، لا زال قلبه غرضا لسهام المحبة، ولا زالت أشواقه محرقة قلبه، أما بعد، فأشواقنا إليكم غير خفية، وذكرانا لك وافية وفية، وقد أجبتك إلى ما طلبت، ومنحتك بما به كتبت، فعملت مقامة صدرت من غير فكر ولا روية ودثرت في ملابس الاستعجال فكانت غير مرضية، وجعلت نسبتها لمن هو خفي عليك، وفي الحقيقة جميع أسانيدها تنتهي إليك، وهي: حدثني قيس الشجون، ونحن بثغر المجون، قال: أنبأنا أبو الوله الغرام، ونحن على شاطىء الانسجام. وحدثنا كثير الأشواق، على مصطبة العشاق، قال: أخبرنا أبو الفناء باهر الهيام، ونحن في مدرسة الغرام، حديثا يخلب القلوب والألباب ويزري بطنين العود والرباب، إنه قال: كان من عادتي المعتادة وشنشنتي «2» المستجادة، التوله بأرباب الجمال، والتيه والدلال حتى دعيت في هذا الفن بأبي عذرته «3» ، (211 أ) وبجديله المحكك «4» وابن بجدته «5» ، فكنت أقضي الرواحل (والمطيّ، والمتملي بالمحيا البهي، فحدثني رواة القوافل، وثقات الركبان في الرواحل، من جاب البلاد) «6» والقفار، وراد الأنجاد والأغوار، وتوله بحب الملاح، واستهون في الوصال بذل الأرواح، بأن دمشق لأولئك الأقمار مطالع، ولتلك الجآذر مرابع

ومراتع، فجزمت بالنية، وامتطيت المطية، فقطعت الروابي والوهاد، وسلكت كل فج وواد، حتى لقيت من الغربة عرق القربة «1» فتنورت معالم تيك الأقطار، ودخلت المدينة والشمس في رابعة النهار، فرأيت الناس ينشالون وهم من كل حدب ينسلون، فقفوت أثرهم، لأتحقق أمرهم، فدخلوا حديقة نهرها مسلسل، ونسيمها معلعل، طيرها صادح غريد، وشحرورها يترنم بأنواع التغاريد، واكتست بالسندس أشجارها، وتنورت من أردان «2» الأكمام أزهارها، وإذا فيها جم غفير، وجمع كثير، من المرد الملاح، ذوي الوجوه الصباح، من سبى بحسنه القمر، وفتك (212 ب) بلحظه وأسر، وأحرق بلظى خده، وطعن بسمهري قده، (وقتل بسيوف أجفانه المراض، وقال له الحسن: الأمر لك فاقض ما أنت قاض، وهم محدقون بخطيب يصدع القلوب بوعظه، ويسلب الألباب بسحر لفظه، له طلعة زهراء، وعليه) «3» عمة «4» خضراء، فقلت: ما الخبر! وما هذا الخطيب على المنبر؟ فقال: هذا فرع بني هاشم ذوي المفاخر والمكارم، يصل نسبه النفيس إلى السيد إدريس، وجده الأدنى نقطة دائرة الحسن. قد شبّ هذا السيد في القبابة «5» ، وترعرع في سوح الغرام والكآبة، صريع حسان، وقتيل أجفان، كم تلظّى فؤاده بهجير الهجر، وكم غاص ذهنه في بحار الفكر، يعشق المليح المائس الأعطاف، ويهوى الجميل المعروف بالعفاف، إلا أن هذا السيد هجيراه العفة والصيانة، وديدنه الديانة والأمانة، لا مطمع له إلا في النظر، ولا تعدي له سوى الحسن بالبصر، فصار مرجعا في هذا الفن، (213 أ) ومعتقدا يجب فيه تحسين الظن. فقلت: ما اسمه وما نعته ورسمه؟ فقال: لا أستطيع التصريح، وإنما أفيدك بالتلويح، فهو مركب في

الظاهر من أربعة عناصر، أولها زمام الأدب، ومفتاح الأرب، وثانيها رأس الحلال والحرام، وخاتمة الفلاح على الدوام، أول منازل الحوت منزلته، وأقوى درجات الصلاح درجته، وثالثها إليه ينتهي العلم وبه يكمل الحلم، ويتم بالإسلام ويختم به الكلام، عين الحمد، وفاتحة المجد، وقلب العمل، وعين الأمل، ورابعها ينتهي إليه العباد، ويتم به السداد، فافهم ما عنيت، وتأمل ما كنيت، فعرفت ما أراد وما قصد، وفهمت الذي عليه استند، وكان من جملة ما طن على مسامعي من وعظه، وقرع أذنيّ من كلامه ولفظه، أن قال: أيها المغرمون بالجمال، المتولهون بأرباب الدلال، والعاشقون للملاح، المستهدفون بسهام العيون الصحاح، أوصيكم وصية من عرف الأمور (213 ب) وجربها، وأنصحكم نصيحة من اختبر الأحوال الغرامية وهذبها، عليكم بمحبة المليح الفائق، والوداد القويم الصادق، وتمسكوا من كملت محاسنه، وعفته، وصحّت بين أهل الهوى مودته وأخوته، يعرف مواقع الهجر والوصال، ويعطي كلا منهما على طبق ما يقتضيه الحال، وأحذركم من الغلظة والجفاء، ومن الغدر ومزايلة الوفاء، وتحملوا من الحبيب مشاق إعراضه وهجره، وامتثلوا مناهيه واتباع أمره، وعليكم بالعفة والديانة، والكمال والأمانة، وتجنبوا الخيانة فبئست البطانة. ثم التفت الخطيب إلى يمينه، وحملق بعينه، وقال: معاشر الحسان، وطائفة المردان! عليكم بمن عفّ وكتم، فلا يخالطنكم في مخالطته لوم وندم، وتجنبوا من غدر وفسق وهجر واخال «1» فكر، وإتباع فقر، فقر، وتمسكوا بمن انطوت على العفاف طويّته، وتنزهت عن الخلاف عزيمته ونيته، وطابت سريرته، وازدانت سيرته، إن قرب تقرب، وإن أبعد (214 أ) تهذب وإن منح بوصال عف، وإن قدر على فجور كف، وأعطوا كل عاشق ما يستحق من الإسعاف، وامنحوه على قدر حاله من الألطاف، وقربوه حسب ديانته وعفافه وأمانته، وإياكم من التمادي في الهجران والإسراف في الوصال والإحسان، بل اسلكوا طريقة بين طريقتين، وحقيقة بين حقيقتين. وإني أراكم أيها الملاح قد تعودتم العادات القباح، تصلون

من فجر وفسق، وتقطعون من بالعفاف تخلق، تضعون الوصل في غير مواضعه، وتوقعون الهجر في غير مواقعه، وليست هذه طريقة السلف، ولا هجيري الخلف، وإنما هي بدعة حدثت وضلالة ليست عمّن قبلكم ورثت، فهل تجدون في أساطير الغرام، أو تروون عن أحاديث الهيام، مثل هذه الحالة التي أنتم عليها، والخصلة التي تخلقتم بها، ور كنتم إليها، فالذي أنهيه إليكم من الواجب المحتم عليكم أن تختاروا أحسنكم جمالا، وأصرفكم «1» وأظرفكم دلالا، فتولوه (214 ب) سلطانا، وتكونوا له أعوانا، إن أمركم امتثلتم ما أمر، وإن زجركم جانبتم ما عنه زجر، هذا والمردان مطرقون، ولا هم ينطقون، وإنما كان إدارة ألحاظهم تنوب مناب ألفاظهم، فقال: إيه فما هذا السكوت والوقت ضاق، وما هذا التواني عن عقد النطاق، فتقدم أحدهم، وهو يميس دلالا، تقول أعطافه هكذا هكذا، وإلا فلا لا! بقد يزري بغصون البان، وجيد جيّد يفضح ريم الغزلان، قد تقوّست حاجباه، ورشقت من أهدابهما عيناه، وتضرجت خداه، واسودّت «2» عيناه، وشزرهم بألحاظه وأسكرهم بحميا ألفاظه، فقال: أنا الأحق بالخلافة، لما حويت من الرقة واللطافة، وقوامي شاهد عدل، ولحظي قاض بيده الفضل، كم سبى جيدي من جآذر، وكم تعد جفني من عضب باتر، إن مست بأعطافي فمن يتجاسر على خلافي، فلي الخلافة على التحقيق، ولا بدع لأني ابن أبي بكر الصديق، فمن جهل نسبي وفخري فأنا محمد بن علي البكري. ثم تلاه آخر بجبين وضاح، ومبسم كالأقاح، ومحيا كالبدر الأتم، (215 أ) وجيد يخجل الريم الأرثم «3» ، بقد يعبث بالرماح الردينية «4» ، ولحاظ أمضى من الصوارم السريجية، وقال: أنا ذو المحيا الزاهي الزاهر، والجبين الأبلج الباهي الباهر، والقد المياس، والحكم على جميع الناس، فرع الدوحة

الهاشمية، وغصن الشجرة العلوية الفاطمية، فأي عالم بخلافتي لا يفتي، وأنا أبو الجمال، حسن الحرستي ثم اقتفاه آخر بعيون مراض تشق القلوب أهدابها، ويصدع الأفئدة وعيدها وإرهابها، وحواجب مقوسة مقرونة بها جميع الناس، حزمة «1» مفتونة. وقال: أنا ذو الجفن الكاسر، والناهي الآمر، إذا غضبت سلبت الألباب، وإن لحظت أذهلت الحازم عن الصواب، تصيب حاجباي بلا وتر، وتقتل عيناي بلا وزر، فأنا الملقب بسلطان الهند، وليّ الأمر من قبل ومن بعد، فأنا الأحق بالخلافة على الصواب، كيف وجدّي أنا عمر بن الخطاب، فأنا الحامد الشاكر، وتم بأبي سعدي فأكرم بذي المفاخر، ثم عقبه يميس بقدر طيب، وردف ثقيل قضيب، بعيون نعسانة، (215 ب) وجفون فتانة، وأعطاف تكاد تنفصل من اللين، وثغر حوى الدر الثمين، وقال: أنا سلطان الملاح، وأنا الحاكم عليهم ولا جناح، فمن في هذا الميدان يجاريني، وأنا الغصن الميّال عبد الرحمن المنيني، فبينما هم في ميادين المجادلة وعكاظ المساجلة والمناضلة، إذ أبصرتهم يتطلعون، وأبصرتهم يستريحون، فأفرجوا فرجة في البين، واصطفوا في الحال صفين، [و] لزموا الأدب مطرقين، ونكسوا أعناقهم خاضعين، وإذا بقائل يقول: يا جميل الستر سترك، تعس من كفر بالله وأشرك، والخطيب ختم خطبته الفاخرة بقوله: لبيك، إن العيش عيش الآخرة، سبحانك ما خلقت هذا عبثا باطلا، ما هذا بشر، إن هذا إلا ملك كريم ليس عن حكمة عاطلا، والتفتّ فإذا بظبي غرير، وبدر منير، وغصن ميال يهتز اهتزاز العسال «2» ، يصيد بلحظه الأسود، ويحرق العشاق بجمرات الخدود، بوجنة تدميها خطرات النسيم، وجفن بموسى لحظه كل قلب كليم، وجبين (216 أ) أبلج، وثغر أفلج، ومبسم حوى الدرر، وخدّ زهر فيه ورد الخفر، وهو يتمايل تمايل القضيب، ويترنح ترنح البان فوق كثيب. وقال: الحمد لله الذي زين الثغور، بالدرر، وحسّن الخدود بجلنار الخفر، وجمّل العين بالكحل، وأصمى القلوب بسهام المقل، وأطلع

شمس الحسن في آفاق المحيا، وأودع في الرضاب قوة الإسكار فلا يحاكيه الحميا، ونصب القلوب أغراضا لأهداف العيون «1» ، وأغمد البيض البواتر في لحاظ الجفون، والصلاة والسلام على أحسن الخلق وأجملهم «2» وأفضلهم وأكملهم، ذي المحاسن التي ما حواها مخلوق، والشمائل التي ما اتصف بها سابق ولا مسبوق، سيد الملاح على الإطلاق، وجامع أنواع الجمال بالاتفاق، جدّي الأكبر بالمعنيين، محمد المصطفى من خير الفريقين، وعلى آله وأصحابه وجنده وأحزابه، أما بعد. فيا أيها المفتئتون على ادعاء الخلافة، والزاعمون أنكم جمعتم أصناف الرقة واللطافة، أتظنون أن أمر الخلافة سدى، وأن (216 ب) الضلالة تقهر الهدى كلا! فإن للخلافة شروطا مشروطة، وأركانا بها منوطة مربوطة، فأي منكم ترشح لها وتأهل، وأي عليه مدار أعبائها إذا الأمر أعضل، فأنا «3» المعين دون أحد، وأنا السلطان والعلم المفرد، طالما فتكت بألحاظي، وأثملت بألفاظي، فكم أسد قبضت، وكم بطل أسرت، وكم لي من قتيل وصريع وجديل، إن تبخترت كان البان في خجل، وإن لحظت كان الغزال في وجل، وإن أسفرت أزريت بالنيرين، وإن أسبلت غديرتي كان الليل في تيك (التقدرين) «4» يهتدي، يجليني إذا أشرق، ويضل بطرفي كالليل، إذا غسق، يفوق ابتسامي البرق بالشنب، ويقضي تعبيسي بالهلاك والعطب، إذا أمرت امتثلت أوامري، وإن نهيت اجتنبت زواجري، وحسبي في تعييني الخلافة، أن شاكرا أو عبد الرحمن، سلما لي بالظرافة: فكانا من أتباعي وأنصاري وأشياعي، كيف وقد حكم لي بها العالم الذي سار فضله في كل نادي، (217 أ) وترنم بتحقيقه الحق كل حادي، وشاعت فضائله في كل سهل ووادي، الشيخ الجليل أبو البركات البغدادي، حيث قال:

حسان دمشق الشام فاق جمالهم ... سناهم ينير البدر وسط سمائه وسلطان أرباب الجمال محمد ... جميع ملاح الشّام تحت لوائه فأنا ذو المجد المفرد، والحسن الأوحد، ذو الأخلاق والشيم، أبو الأنوار الشيخ محمد بن شيخ الحرم، وقد نسبني إلى ذلك الشيخ المذكور في نظم يزري بالدر المنثور، فقال: قلبي غدا ذا ألم، ومهجتي في ضرم، والعين تجري بدم، علي بن شيخ الحرم سلطان أرباب النهى، يسبي الجآذر والمها، كم تاه أرباب النّهى، على ابن شيخ الحرم كم من طعين قده، ومصطلى بصده، وميت في لحده، على ابن شيخ الحرم بثغره المفلج، وخده المضرج، يهيم مفتون شج، على ابن شيخ الحرم بلحظه الفتاك، وجفنه السفاك، (217 ب) جميع صب شاكي، (على ابن شيخ الحرم جبينه الوضاح، وثغره الأقاح «1» ، تعتمد الملاح، على ابن شيخ الحرم حوى جميع المفخر، بجده المنيري، والله لست مفتري، على ابن شيخ الحرم خليفة المحاسن، ودمية المساكن، فكل وجد ساكن، على ابن شيخ الحرم) «2» . (فلما وعى الخطيب مقالته، قرر سلطنته، وقال: الحق أحق بالاتباع فهو الحري بالاتفاق والاجتماع، فبايعه من في) «3» ذلك المحفل المنيف حتى الخطيب السيد الشريف، لكنهم قالوا: هو سلطان علينا ما دام النجاشي لم يتسلط على مملكته، وإلا فهو معزول بحكم شرع الهوى وملته، استغفر الله من التجوز في المقال، واستعيذ به من سيىء الأحوال، آمين، كتب هذه المقامة سيدنا الشيخ مصطفى اللقيمي ثم الدمياطي، وهذا الشيخ عالم فاضل بحر كامل (218 أ) اسمه مصطفى ولقبه أسعد بن الشيخ العالم أحمد، واللقيمي (نسبة إلى لقيم بلدة في الطائف، ويتصل نسبه من أمه إلى خاتمة العصر علي غانم المقدسي المتصل نسبه إلى سعد بن عبادة الصحابي رضي الله عنه. أخذ الشيخ المنوّه باسمه الحديث عن

الشيخ عبد الله بن سالم البصري، وعن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله المغربي، وعن الشيخ تاج الدين القلعي) «1» مفتي مكة، وعن الشيخ عبد القادر المفتي بها أيضا، وأخذ الفقه الشافعي عن الشيخ عبد الرؤوف البشبشي «2» ، وعن الشيخ أحمد الملوي، وأخذ العربية والأصول عن الشيخ محمد الديري صاحب الحاشية على ابن عقيل، وعن الشيخ عبد الوهاب الملوي، وعن الشيخ علي السروجي، وله نظم رائق ونثر فائق، فمن نظمه قوله: ولمّا التقينا والحبيب بحاجر ... وقد عبقت بالطيب منه نسائمه تبسم عجبا من حديث مدامعي ... فما برقه الساري به وغمائمه وحين تثنّى وانثنيت مرغّما ... تعلّم منّا بانه وحمائمه (218 ب) غيره: يا حسن قرط فوق صفحة خدّه ... يحكيه في الإبداع والإشراق أبدا تراه بالحقوق مولعا ... يروي حديث فؤادي الخفّاق وله مضمنا البيت الأخير: في طي منشور الزمّان حوادث ... من نشرها عمر النّسور قد انطوى أضنى فؤاد الصّب شقّ سهامها ... وبوقعها سلب التّجلّد والقوى ولكم يصابر والتّصبر خانه ... واللبّ في لجج التّحير قد هوى قسما بحرّ مصابها في مهجتي ... حرّ يرى من دونه نار الهوى لا عيش يصفو لي ولا دار اللّوى ... تدنو ولا قلبي يقرّ من الجوى وله نظم كله غرر اجتمعت به مرارا كثيرة في حلب الشهباء، منحه الله النّعم والآلاء.

وكتبت من حلب إلى دمشق الشّام «1» (219 أ) ستّة كتب، إحداها للشيخ شارح البخاري، إسماعيل العجلوني، وثانيها للشيخ أفقه زمانه، وأعلم أوانه، الشيخ صالح الجنيني، وثالثها للسيد أحمد بن نقطة، وفيه المقامة المذكورة، ورابعها للأكرم صالح أفندي، وخامسها لسيدنا مصطفى بن بكداش، وسادسها للملا علي، تركت كتابة الكل هنا للملل، لكني صدرت كتاب المنلا علي بهذه القصيدة: غادرت قلبا في مرابع حلق ... يا ليت جسمي في مرابعها بقي غادرته حيران عنّي نازحا ... عجبا لجسمي كيف لم يتمزق ويلاه قد أودى البعاد بمهجتي ... تبت يداه فقد قضى بتفرق أخفى غرامي والدموع تبينه ... للعاذلين وإنني لم أنطق ما كان في ذهني يقينا بعدهم ... بل كنت بين مكذب ومصدق «219 ب» قد خانني عند الوداع تصبري ... بالله يا صبري الخؤون ترفق والله ما أربى دمشق وإنما ... شغفى بكل ممنطق ومقرطق من سادة يرعى الفؤاد وليدهم ... مع رقة لطفت وحسن مفرق تالله ما أنسى ليالي وصلهم ... والعيش غض والهنا في فيلق ما حلت عن مسكني على لحظة ... ما عشت لم يبرح إليه تشوقي فعليه ما عاش السلام مضوّعا ... بشذا عبيره في هواي معبق وممن أضافنا رفيقنا في المحمل الحاج يوسف النعساني صنع لنا طعاما فاخرا، وأكرمنا إكراما باهرا، وممن أضافنا الحاج عبد الرحيم بن الشيخ خليل، جزاه الثواب الجزيل. وممن أضافنا الحاج حسن التكريتي، جزاه الله خيرا. وممن أضافنا مرارا عديدة، وبت في بيته، (220 أ) ولدي القلبي الشيخ الفاضل النّحرير

المتضلع من كل فن شهير، تاج الدين بلا انتقاد، الشيخ محمد بن الشيخ طه العقاد، أذاقه الله حلاوة التحقيق وسلكه أقوم طريق، [ف] لقد خدمني خدمة حسنة، بشفقة، ورأفة، ما دمت في حلب، بلغه الله ما أراد وما طلب. وقرأ على هذا العبد الغريب شرح رسالة الوضع لعصام الدين، وكان قبل ذهابي إلى مكة قد قرأ علي شرحها للمنلا علي السمرقندي، وقرأ شرح الآداب للمنلا حنفي، فلله درّه ما أغزر علمه وما أدق فهمه، ما أقرأت أحدا أذكى وأضبط وأجمع منه، وفقه الله للعلم والعمل، وصانه عن الخطأ والخطل، آمين. وممن أضافنا مرات، ولدنا معروف بن الحاج فهد العبدلي ولم يكن من سكان حلب وإنما كان على طريق المسافرة، وكذا ولدنا «1» حمزة بن الحاج شاهين، وولدنا درويش بن رمضان، وولدنا طويسان بن غيث العبدليون، وكلهم كانوا على طريقة المسافرة، وممن أضافنا مرات، وبتنا في بيته كرات، ولدنا النجيب بن الحاج محمد الأطرش، في باب النيرب. (220 ب) . وممن أضافنا الضيافة الحسنة، ودعانا الدعوة المستحسنة، السيد الحسيب النسيب السيد أحمد الشراباتي، فلقد أضافنا في بستان الكتّاب التي هي اليوم ملك الوزير حسين باشا القازوقجي، فانبسطنا ذلك اليوم، لا كدر ولا لوم، وكان معنا عمّه الشيخ عبد الكريم الشراباتي، وسيدنا الشيخ محمد الطرابلسي، والشيخ طه الجبريني، والشيخ محمد الكتبي، والشيخ عبد الغني المقدسي، وكان منشدنا الشيخ علي الحلبي ف [له] نغمة تخلب الألباب، وتزري بالعود والرباب، مع صحة الالفاظ واستقامة الإعراب، [ف] تركت [ب] ما أنشده في ذلك المكان الملل الذي اعتراني في هذا الزمان. وممن أضافنا في بستان الريماوي، النجيب السعيد الحاج سليمان مولى الحاج إبراهيم بن هيكل، فبقينا ذلك اليوم بانشراح وأفراح. وممن أضافنا الصالح الناسك الحاج محمد الصباغ الموصلي، أضافنا في بيته، ودعانا مرة أخرى

في بستان الريماوي، إلا أن هذه الدعوة الثانية (221 أ) ليست مختصة بي، وإنما هي لغيري. واستجاز مني السيد الحسيب السيد أحمد الشراباتي بعض صلوات يقرأها كل يوم، فأجزته بهذه الصلاة: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون لك رضاء، ولحقّه أداء، وأعطه الوسيلة والمقام الذي وعدته، وأجزه عنا ما هو أهله، واجزه عنّا أفضل ما جازيت نبيا عن أمته، وصلّ على إخوانه من النبيين والصالحين، يا أرحم الراحمين، أجزت بهذه الصلاة السيد الحسيب النسيب الأمجد السيد أحمد الشراباتي، وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه، وأمرته أن يديم قراءتها كل يوم وليلة على حسب الإمكان، لكنه يخص ليلة الجمعة ويومها بمزيد، كتبه، الفقير أبو البركات عبد الله السويدي عفي عنه آمين. وإلى هنا أحببنا ختم الرحلة، إذ لم يبق إلى بغداد إلا طريق البر، ولا فيه قرية (221 ب) ولا أرض مشهورة موصوفة، نسأل الله أن يختم بالطاعات أعمالنا، ويبلغنا آمالنا، ويحسن بفضله أحوالنا، ويعفو عن سيئاتنا، ويؤمن روعاتنا، ويستر عوراتنا بفضله وأمنه ومنّه، آمين، وصلى الله أشرف صلاته، وأنمى، تحياته، وأزكى بركاته على خيرته من خلقه وصفوته من عباده، سيدنا وحبيبنا أبي القاسم محمد المختار من أشرف قبيل إلى أكرم جيل، وعلى آله وأصحابه البررة الأنجاب الخيرة، وعلى من اقتفى بآثارهم وتزيّا بشعارهم، والحمد لله أولا وآخرا، وباطنا وظاهرا «1» . «2»

المحتويات

§1/1